شعاع من المحراب

سليمان بن حمد العودة

الجزء الأول

شعاع من المحراب الجزء الأول إعداد د. سليمان بن حمد العودة

بسم الله الرحمن الرحيم

شعاع من الحراب

مقدمة الجزء الاول

مقدمة الجزء الاول الحمد لله رب العالمين أعان ويسر، وأسأله القبول والتسديد، والمغفرة عن الخطأ والتقصير، والصلاة والسلام على معلم الإنسانية الخير وسيد البشر محمد بن عبد الله عليه وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والتسليم. وبعد فهذه مجموعة خطب ألقيتها في جامع (سلطانة) ببريدة، في أزمنة متفاوتة، وهي حاوية لموضوعات في العقائد والعبادات وأخرى في الأدب والأخلاق، وثالثة في السير والتراجم، كما تشمل أحاديث عن فرائض وواجبات، وفضائل ومندوبات، ولم تخل من وقفات تاريخية فيها عبرة، أو مواعظ موقظة. وهذه وتلك لم يتم تصنيفها وتبويبها حسب الموضوعات، ولم يوضع في الاعتبار ترتيبها حسب الأولوية والمهمات، وإنما جاء عفويًا تؤكد الأولوية فيه أو الاهتمام ظروف الزمان أو المكان المتحدث فيها، أو حاجة الناس المتحدث إليهم، أو اختيار المتحدث نفسه لأحد الموضوعات. وقد رأيت نشرها رجاء الفائدة منها، ولا أظن الإفادة منها تعني ضعف المستفيد، ولا أفضلية المفيد، ولكن الموضوع الواحد تختلف في تحديد عناصره الأقلام، وتتناول الفكرة الواحدة بأكثر من زاوية الفهوم والأفكار. وسروري عظيم إن ستجد (الواعظ)، أو (المربي)، أو (الداعية) فيها ما يعينه على أداء مهمته، فنشر الخير بغيتنا جميعًا، والتنبيه للمخاطر على مستوى الفرد والجماعة والأمة مسؤوليتنا -كذلك- جميعًا.

ولقد حرصت -قدر المستطاع- تأصيل وتوثيق المعلومات الواردة بإثبات مصادرها، والتأكد من صحة النص الشرعي، وأرى ذلك مهمًا في خطب الجمع أو غيرها لأنه يبصر المطلع بمصدر المعلومة من جهة، ويمكنه من الرجوع إليها لمزيد الفهم أو استكمال ما اختصر -عند الحاجة- من جهة أخرى، وأنصح للخطباء وغيرها أن يعتنوا بمصدر العلامة تدوينًا وتحريًا، إذ قد يحتاج الخطيب نفسه يومًا الرجوع إلى معلومة نقلها وربما أخذت نصيبًا من وقته في سبيل البحث عنها. ولا يفوتني في نهاية هذه المقدمة أن أسأل الله أن يجزل مثوبة من أعان على نشر الخير بماله أو جاهه، أو مجهوده ونصحه. كما لا يفوتني أن أذكر المطلع على هذا الكتاب باغتفار الزلة، وتقديم النصيحة والمشورة، وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون. اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وثبتنا عليه إلى أن نلقاك. وكتبه: سليمان بن حمد العودة القصيم/ بريدة 7/ 7/ 1417 هـ ص. ب. 1193

محنة يوسف عليه السلام القصة والعبر

محنة يوسف عليه السلام القصة والعبر (¬1) الخطبة الأولى: إخوة الإسلام، كلما اغتم المسلمون، وترادفت الفتن، وتسلط الجبارون، ووقع الأذى على المسلمين، كلما كانت حاجتهم أشد لمعرفة سنن الله في الكون، وكان شوقهم أكبر للوقوف على سير الصالحين وفي مقدمتهم الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام. ولئن كان الحديث قد مضى عن طائفة من أنبياء الله ورسله، وما فيها من دروس وعبر، يعقلها العالمون، وينساها الجاهلون، فإن يوسف عليه السلام نموذج للابتلاء، ومثال للصبر، ومؤشر لعاقبة المتقين، وفصول قصته تؤذن بأن الله لا يصلح عمل المفسدين، وأن الله لا يؤيد كيد الخائنين، وأن الله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين، وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين، وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون .. إلى غير ذلك من معان وقيم تبدو للعيان حين يكون الصبر واليقين، وتبرز للناظرين حين يكون الصدق ومجاهدة النفس، والانتصار على الشيطان في معركة الإغواء والإغراء. أجل إخوة الإيمان إن المسافة هائلة بين غيابة الجب وبين علو الشأن في ملك مصر، والفرق كبير في عرف الناس بين يوسف عليه السلام وهو في غياهب السجن، وبين كونه من خلصاء ومستشاري عزيز مصر، وليس أقل منه الفرق بين يوسف عليه السلام وهو بمثابة السلعة تباع وتشترى بأزهد الأثمان، وينتقل في الرق من سيد إلى سيد، وهو لا يملك من أمره شيئًا وبين يوسف عليه السلام وهو على خزائن ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 5/ 8/ 1415 هـ.

الأرض، يتبوأ منها حيث يشاء، يملك الكيل لفئة ويمنعه أخرى، ويمنع الميرة والطعام عن وفد ويهبه لآخرين. ولكن هذه المسافة الهائلة، وتلك الفروق الكبيرة لم تكن في حياة الصديق عليه السلام لولا الصدق والإحسان، والصبر ومراقبة الرحمن، والشكر لله والرضاء بما قسم والتسليم بالعسر واليسر، والدعوة لدين الله الخالص وتوحيده في كل حال، حتى وهو يعيش في ظلمات السجق ووحشته {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}. وهذه العاقبة الحميدة وذلك التمكين العظيم في الأرض لم يتسن ليوسف عليه السلام إلا بعد أن امتحنه ربه وابتلاه، وبعد أن عانى صنوفًا من المحن والابتلاءات قص القرآن علينا محنة كيد الإخوة وما أشقه على النفس. وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على النفس من وقع الحسام المهند ومحنة الجب والخوف والترويع فيه وما صاحبها من أذى وشدة إذ ربطوه بحبل ودلوه فيه، فجعل إذا لجأ إلى واحد منهم لطمه وشتمه، وإذا تشبث بحافات البئر ضربوا على يديه، ثم قطعوا به الحبل من نصف المسافة فسقط في الماء فغمره حتى صعد إلى صخرة في وسطه، ولم يتخل الله عنه في هذه اللحظة، بل أنزل الله عليه اليسر في حال العسر، وطمأنه بما أوحى إليه أن له مخرجًا مما هو فيه، بل وسينصره الله على إخوته ويرفع درجته، وسيخبرهم بصنيعهم وهم لا يشعرون {فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} (¬1) ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 15.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: ستنبئهم بصنيعهم هذا في حقك وهم لا يعرفونك ولا يستشعرون بك (¬1). ومحنة الرق وهو ينتقل كالسلعة من يد إلى يد على غير إرادة منه، ودون تقدير أو معرفة من استرقه به، ولذا باعوه بأزهد الأثمان {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين} (¬2). قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: إن الضمير في قوله «وشروه» عائد على إخوة يوسف، وقال قتادة: بل هو عائد على السيارة، قال ابن كثير: والأول أقوى لأن قوله {وكانوا فيه من الزاهدين} إنما أراد إخوته لا أولئك السيارة، لأن السيارة استبشروا به وأسروه بضاعة، ولو كانوا فيه زاهدين لما اشتروه (¬3). ومحنة كيد امرأة العزيز والنسوة وما صاحبها من إغراء وشهوة وفتنة، وما أشدها وأقساها! ! ويوسف عليه السلام في ريعان الشباب يمتلئ جسمه حيوية وقوة، وهو في حال غربة وعزبة، وأسباب الفاحشة ودواعيها تتهيأ له، فالمرأة هي الداعية، وقد تزينت بكل ما تملك، والدعوة في بيت آمن حيث منزل عزيز مصدر، والأبواب تغلق، ويبقى باب السماء مفتوحًا، فيتذكر يوسف عليه السلام من خلاله عظمة الله، ويتصور رقابته، ويرى برهان ربه، فيلوذ بحماه، وينتصر على الإغراء والشهوة، ويمتنع مقارفة الفاحشة، ويستحق أن يكون من عباد الله المخلصين {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} (¬4). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 4/ 302. (¬2) سورة يوسف، الآية: 20. (¬3) تفسير ابن كثير 4/ 305. (¬4) سورة يوسف، الآية: 24.

قال ابن جرير رحمه الله في تفسير البرهان الذي رآه يوسف- عليه السلام-: والصواب أن يقال: إنه رأى من آيات الله ما زجره عما كان هم به، وجائز أن يكون صورة يعقوب عليه السلام- عاضًا على أصبعه- وجائز أن يكون صورة الملك، وجائز أن يكون ما رآه مكتوبًا من الزجر عن ذلك، ولا صحة قاطعة على تعيين شيء من ذلك، فالصواب بدأ يطلق كما قال الله تعالى (¬1). إخوة الإسلام لم تقف محن يوسف عند هذا الحد، فثمة محنة السجن بعد رغد العيش وطراوته في قصر العزيز مع ما في السجن من غربة وعزلة ووحدة، فآلام السجين تشتد حين يكون السجن ظلمًا وعدوانًا، ومحنة السجين تتضاعف حين يكون الطهر والعفاف جريمة وتهمة يؤاخذ بها الصالحون المخلصون. وتزداد الحيرة والغرابة حين نعلم أن الذين سجنوا يوسف عليه السلام قد تبين لهم من الآيات والبراهين القاطعة ما يبرئ ساحته {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين} فقد القميص من دبر، وشهادة الشاهد، وحز أيدي النساء، وقلة صبرهن عن لقاء يوسف عليه السلام كلها أدلة للبراءة كما قال (¬2). ومع ذلك يسجن يوسف عليه السلام حتى لا تنشر فضيحة امرأة العزيز بمراودتها يوسف عن نفسه عند عامة الناس، وهكذا حين يغيب العدل بين الناس يستهان بحق الأبرياء في سبيل الحفاظ على سمعة الكبراء، ويبقى بعد ذلك أن الذي يدخل السجن متهمًا مظلومًا يخرج منه بعد حين عزيزًا مكرمًا بريئًا {قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عي كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين} (¬3). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 4/ 309. (¬2) القرطبي 9/ 186 في تفسيره. (¬3) سورة يوسف، الآية: 33.

ثم محنة الرخاء والسلطان المطلق، وهو يتحكم في أقوات الناس وفي رقابهم، وفي يديه لقمة العيش التي تقوتهم، وليست محنة السراء بأقل من محنة الضراء فثمة، دواعي الكبر والخيلاء، والشح والبخل، والظلم والعدوان، والغفلة عن ذكر الله والدار الآخرة كلها أدواء تصاحب الغنى واليسر إلا من رحم الله، ويوسف عليه السلام كما كان نموذجًا للصبر والرضا والتسليم بما قدر الله في زمن الشدة والضراء، فقد كان نموذجًا آخر للعدل والأمانة والشكر والذكر لله في زمن الفرج والسراء ومقاليد أمور مصر بيديه، وخزائن الأرض تحت تصرفه .. أجل لقد ضرب الصديق عليه السلام نموذجًا للعفة وحسن السياسة في الرعية، وعرفت الأرض والناس به نموذجًا للحكام الصالحين، الذين تكثر نفقاتهم دون منٍ أو أذى، وتكثر الخيرات من حولهم، بهم تصلح الحياة الدنيا، وبسيرتهم يتذكر الناس الدار الآخرة، فلا جوع أو تسفيه، ولا فتنة ولا تخمة. وتأملوا كيف ترتبط الحياة الدنيا بالآخرة في أذهان العارفين {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني هن تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلمًا وألحقني في بالصالحين} (¬1) ألا إنها أخلاق الأنبياء، نماذج خيرية بالاعتبار والاقتداء. اللهم احشرنا مع البررة الأتقياء، وبلغنا منازلة الشهداء ... أقول ما تسمعون ... ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 101.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وأشكره، وأسأله المزيد من فضله وأستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين وعلى آله وصحابته أجمعين ومن تبعهم إلى يوم الدين. أيها الإخوة المؤمنون .. أيتها الأخوات المؤمنات .. في قصة يوسف عليه السلام مزيد من الدروس والعبر لمن تأملها وتدبرها ففيها تسلية لكل مظلوم، وفيها تسرية لكل مغموم، إذ يتذكر مقام الصالحين، فيستيقن أن الابتلاء على قدر الإيمان واليقين «أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلى على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليك خطيئة» (¬1). ويقول عليه الصلاة والسلام- في حديث صحيح آخر- «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون، لقد كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحويها- أي يقطع وسطها فيلبسها ويبتلى بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم كان أشدّ فرحًا بالبلاء من أحدكم بالعطاء» (¬2). وسورة يوسف كما يقول أهل التفسير: نزلت أول ما نزلت تسرية للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه في وقت كانوا في أشد الحاجة إلى مثلها، فالسورة مكية، ¬

(¬1) ((رواه أحمد والبخاري وغيرهما، صحيح الجامع 1/ 333. (¬2) ((صحيح الجامع 1/ 334.

ويقال: إنها نزلت بعد سورة هود في تلك الفترة الحرجة بين عام الحزن بموت أبي طالب وخديجة رضي الله عنها سندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين العقبة الأولى ثم الثانية التي جعل الله فيهما للإسلام والمسلمين فرجًا ومخرجًا بالهجرة إلى المدينة. وكما أخرج يوسف عليه السلام من حضن أبيه، وغرب عن ديار أهله ليواجه هذه الابتلاءات كلها، ثم لينتهي بعد ذلك إلى النصر والتمكين، كذلك أخرج النبي صلى الله عليه وسلم، وضيق على المسلمين حتى هاجروا من مكة إلى المدينة مكرهين، وكان النصر والتمكين (¬1). وهي باقية كذلك تسرية لكل مسلم تنزل به فتنة أو تمر به ظروف وحالات تشابه حالة الصديق عليه السلام. وما أحوج الدعاة للوقوف مليًّا عند أحداث القصة يستلهمون منها العبر، ويتسلون بها حين الضجر، فتهديهم أن العاقبة للمتقين، وأن النصر في النهاية والتمكين لعباد الله الصالحين، ولكن لابد من الصبر والرضاء واليقين واحتساب الأجر عند رب العالمين. وما أحوج الساسة والأمراء والمسؤولين لسياق القصة تبصرهم بقصر الحياة من جانب، وفداحة الظلم من جانب آخر، وتهديهم إلى أحسن أساليب الحكم والعدل في الرعية من جانب ثالث. وقصة يوسف عليه السلام موقظة للرقابة من الله حين يكون إغراء الشهوة، وحين تتوافر للمرء أسباب الفاحشة والفتنة. وهي تذكر بالاستغفار والتوبة حين تضعف النفس وتقع في الخطيئة، وتعترف ¬

(¬1) ((سيد قطب: الظلال 4/ 1949، 1950 بتصرف.

بالضعف وتلتمس المخرج {قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، قال لا تثريب عليكم اليوم يغفو الله لكم وهو أرحم الراحمين} (¬1). {قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين * قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم} (¬2). وفي القصة عزاء للسجناء الأتقياء، وسلوة للمتهمين الأبرياء. وفيها يجتمع نموذج السراء والشكر ونموذج الضراء والصبر، وهما نموذجان ملازمان للمؤمن (عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكره فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له) (¬3). وفي القصة يبرز الصبر سلاحًا يتكئ عليه المسلم في الشدائد والأزمات، وهو صبر لا تسخط فيه ولا جزع {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} (¬4). {فصبر جميل عسى الله أن يأتني بهم جميعًا إنه هو العليم الحكيم} (¬5). وكذلك يلتقي صبر يعقوب عليه السلام بعد رحلة شاقة من الهم والضيق وجدب الأرض ولوعة الفراق، وصبر يوسف عليه السلام بعد رحلة شاقة بين ظلمات الجبّ، وظلمات السجن وشدة الغربة، وألم التهمة .. يلتقي الصبران الجميلان بإذن الله ليجمع الشمل ويرأب الصدع، ويعود الصفا، وتنتهي في بيت يوسف وملكه ¬

(¬1) ((سورة يوسف، الآيتان: 91، 92. (¬2) ((سورة يوسف، الآية: 97، 98. (¬3) ((رواه أحمد ومسلم عن صهيب، صحيح الجامع 4/ 26. (¬4) سورة يوسف، الآية: 18. (¬5) سورة يوسف، الآية: 83.

حالة الفرقة والشحناء، ويخر الأبوان سجدًا لله شاكرين، ويطلب الأبناء المخطئون العفو والمغفرة، ويتذكر الصديق مع أبيه رؤياه في صغره. ورؤيا الأنبياء عليهم السلام حق- ويقول {هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقًا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم} (¬1) ويذكر يوسف عليه السلام إخوته بعاقبة الصبر وجزاء الصابرين فيقول: {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} (¬2). اللهم ارزقنا الصبر والاحتساب، وادفع عنا وعن إخواننا المسلمين البلاء والمحن، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ... هذا وصلوا .. ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 100. (¬2) سورة يوسف، الآية: 90.

الإمام الشافعي والنيل من العلماء

الإمام الشافعي والنيل من العلماء (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ... أيها الإخوة المؤمنون، أخرج ابن أبي الدنيا من طريق أسامة بن زيد عن أبي معن قال: لقى عبد الله بن سلام كعب الأحبار عند عمر رضي الله عنه فقال يا كعب: من العلماء؟ قال: الذين يعملون بالعلم، قال: فما يذهب العلم من قلوب العلماء؟ قال: الطمع، وشره النفس، وتطلب الحاجات إلى الناس، قال: صدقت (¬2). هذه كلمات جامعة، وصفات عزيزة غالية، ما أحوج الأمة إلى توفر أصحابها، وما أسعد عيش أربابها بهذه النوعية من العلماء يعرف الحق، وبهم وعلى أيديهم يكتب الله الهداية والاستقامة للخلق، يدفعون عن هذا الدين انتحال المبطلين، ويقومون ما اعوج من سلوك أصحاب الشهوات والمترفين، ويبينون للناس ما خفي من أحكام الدين، يعيشون هموم الأمة فيفرحون لعزها ويسعدون بانتصارها، ويحزنون لمصابها ويقلقون لآلامها .. يتجردون من ذواتهم ويعيشون لغيرهم، يفتون السائل، ويعلمون الجاهل، وينصحون الغافل، ويتحملون في ذات الله ما يصيبهم من المصائب والمحن، بهم تحيا السنن، وبجهودهم ونصحهم تقمع البدع، بصدقهم وإخلاصهم يقوى جانب الأمر بالمعروف، ويعتز الآمرون، وبتجردهم وقوتهم ويوهى جانب المنكر ويذل ¬

(¬1) ألقيت هذه المحاضرة يوم الجمعة الموافق 14/ 11/ 1415 هـ. (¬2) الإصابة 8/ 337.

المبطلون، بهم لا يلتبس الحق بالباطل ولا يستوي الأخيار مع الأشرار، ولا تروج بضاعة النفاق ولا يسود المجتمع المنافقون. هم حراس الأمة من المتسللين الأدعياء، وهم صمام الأمان إذا أحدقت بالأمة الخطوب وتناولتها الأخطار، هم النجوم تضيء إذا تاه الدليل، أو تغيرت معالم الطريق، هذه النوعية من العلماء على الرغم من جدها وجهادها فهي مبتلاة في نفسها وأعراضها .. فالسهام موجهة إليها، والحسرة والمغرضون لا يألون جهدًا في التقليل من شأنها، وكيل التهم الفارغة لها .. ولا يزيدها ذلك عند الله إلا علوًا في الشأن، ولا عند الخلق إلا مزيدًا من الرفعة والمحبة والذكر الحسن. وسأسوق لكم نموذجًا لهؤلاء العلماء العاملين الذين لم يسلموا من أسهم الموتورين فكانت سببًا لعلو شأنهم واستمرار ذكرهم عبر القرون. حديث اليوم عن الإمام الشافعي مجدد الدين في القرن الثاني الهجري عالم عصره، وفقيه الملة، وصفه الذهبي بالثقة، الحجة، الحافظ (¬1). قال عن نفسه- رحمه الله- حفظت القرآن وأنا أبن سبع سنين وكنت أقرئ الناس وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، وحفظت الموطأ قبل أن أحتلم (¬2). وقال عنه الإمام أحمد- رحمه الله-: وقد سئل عنه: لقد من الله علينا به، لقد كنا تعلمنا كلام القوم وكتبنا كتبهم حتى قدم علينا، فلما سمعنا كلامه علمنا أنه أعلم من غيره، وقد جالسناه الأيام والليالي فما رأينا منه إلا كل خير (¬3). ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 10/ 48. (¬2) السير 10/ 54. (¬3) السابق 10/ 58.

وكان أحمد إذا سئل عن مسألة لا يعرف فيها خبرًا يقول فيها بقول الشافعي لأنه إمام قرشي (¬1). وقال عبد الله بن الإمام أحمد: قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ قال يا بني: كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للناي فهل لهذين من خلف أو منهما عوض؟ (¬2). ولا غرو أن يدعى لمثل هذا في الصلاة، قال الإمام أحمد رحمه الله: وإني لأدعو للشافعي منذ أربعين سنة في صلاتي (¬3). هذا العالم الجهبذ كان مثالاً للزهد والورع وهو القائل: ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا مرة فأدخلت يدي فتقيأتها وذلك لأن الشبع يثقل البدن ويقسي القلب، ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف عن العبادة (¬4). وهو نموذج يحتذى في العبادة واستثمار الوقت بما ينفع، وقد نقل عنه أنه كان ىجزئ الليل أثلاثًا، فثلثه الأول يكتب، والثاني يصلي، والثالث ينام (¬5). فإذا كان هذا شأنه في الليل فلا تسأل عن عبادته وحديثه في الطلب في النهار. ومع حرصه على العلم وحثه على طلبه حتى قال: طلب العلم أفضل من النافلة (¬6) فكان يزينه التواضع والتجرد في طلب العلم وهو القائل: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط (¬7). ¬

(¬1) نفسه 10/ 82. (¬2) السير 10/ 45. (¬3) السير 10/ 82. (¬4) السابق/ 10/ 36. (¬5) 10/ 35. (¬6) السابق 10/ 35. (¬7) السابق 10/ 35.

وقال رحمه الله: ما كابرني أحد على الحق ودافع إلا سقط من عيني، ولا قبله إلا هبته واعتقدت مودته (¬1). وهو داعية خير وناصح أمين لكل متردد أو شاك متحير، وانظره كيف يجلي الصورة للسائل في وسوسة الإيمان، ويقنعه بالحجة والبرهان، فقد جاء المزني إلى الشافعي وهو يقول: إن كان أحد يخرج ما في ضميري وما تعلق به خاطري من أمر التوحيد فالشافعي، فصرت إليه وهو في مسجد مصر، فلما جثوت بين يديه قلت: هجس في ضميري مسألة في التوحيد فعلمت أن أحدًا لا يعلم علمك فما الذي عندك؟ فغضب ثم قال: أتدري أين أنت؟ قلت: نعم، قال: هذا الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك؟ قلت لا، قال: هل تعلم من الصحابة؟ قلت: لا، قال: تدري كم نجمًا في السماء؟ قلت: لا، قال: فكوكب منها تعرف جنسه، طلوعه أفوله، مم خلق؟ قلت: لا، قال فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه تتكلم في علم خالقه؟ ثم سألني عن مسألة في الوضوء فأخطأت فيها، ففرعها على أربعة أوجه فلم أصب في شيء منه فقال: شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات تدع علمه وتتكلف علم الخالق؟ إذا هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى الله وإلى قوله تعالى {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، إن في خلق السموات والأرض .. } الآية فاستدل بالمخلوق على الخالق ولا تتكلف علم ما لم يبلغه عقلك قال: فتبت (¬2). وكذلك يضيء العلماء الطريق للحيارى، ملأ هذا العالم الدنيا علمًا نافعًا، وذكرًا طيبًا ونشر الله بجهوده الملة، وحفظ به وبأمثاله الفقه والسنة، ولا تزال ¬

(¬1) السابق 10/ 33. (¬2) السير 10/ 31، 32.

مدونات العلم تشهد بفضله وتخلد ذكره .. حتى إذا حانت منه ساعة الرحيل خاف الوعيد ورجا ربه العفو والتسديد، وقد دخل عليه المزني وهو في مرضه الذي مات فيه فقال: يا أبا عبد الله: كيف أصبحت؟ فرفع رأسه وقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقًا، ولسوء عملي ملاقيًا، وعلى الله واردًا، وما أدري روحي تصير إلى جنة فأهنيها أو إلى نار فأعزيها، ثم بكى وأنشأ يقول: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت رجائي دون عفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظماَ فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منةً وتكرماَ فإن تنتقم مني فلست بآيس ... ولو دخلت نفسي بجرمي جهنماَ ولولاك لم يغو بإبليس عابد ... فكيف وقد أغوى صفيك آدماَ وإني لآتي الذنب أعرف قدره ... وأعلم أن الله يعفو ترحماَ (¬1) اللهم عفوك ورحمتك وغفرانك، اللهم اغفر لأئمة المسلمين وألحقنا بركب الصالحين .. أقول ما تسمعون ... ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 10/ 75، 76.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين أحاط بكل شيء علمًا، ووسعت رحمته الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قضى بالرفعة والفضل لأهل العلم والإيمان ولو كره المبطلون، وكتب على كل بشر قدره من الفتنة والبلوى، وعلى قدر الإيمان يكون البلاء، فلأشد الناس بلاءً الأنبياء عليهم السلام ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كما صح بذلك الحديث .. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ناله أصناف الأذى واتهمته قريش بألوان من التهم فأظهره الله عليهم والعاقبة للتقوى اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى سائر المرسلين. إخوة الإيمان .. الإمام الشافعي الذي أطبق في الخافقين ذكره، وانتفع العالم بعلمه لم يسلم من حسد الحاسدين، ولم يكن بمنأى عن تقول المتقولين، وتناوشته سهام المتكلمين، شأنه في ذلك شأن المتقدمين والمتأخرين كما قال الإمام الذهبي رحمه الله وهو يصف هذه الظاهرة ويقول: ونال بعض الناس من الشافعي غضًا، فما زاده ذلك إلا رفعةً وجلالة، ولاح للمنصفين أن كلام أقرانه فيه بهوى، وقل من برز في الإمامة ورد على من خالفه إلا وعودي، نعوذ بالله من الهوى (¬1) ويحدد الذهبي- في موضع آخر- أصناف الذين يتكلمون في أهل العلم ويتهمونهم بغير حق، وأثر ذلك على العالم فيقول: «وما تكلم فيه- يعني الشافعي- إلا حاسد أو جاهل بحاله، فكان ذلك الكلام الباطل منهم موجبًا لارتفاع شأنه وعلو قدره، وتلك سنة الله في عباده {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا ¬

(¬1) السير 10/ 9.

كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهًا يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدًا} (¬1). وقبل الذهبي كشف الإمام أحمد رحمه الله أسباب كثرة الكلام والتهم على العالم من أقرانه ومعاصريه فقال «اعلموا رحمكم الله تعالى أن الرجل من أهل العلم إذا منحه الله شيئًا من العلم وحرمه قرناؤه وأشكاله حسدوه، فرموه بما ليس فيه، وبئست الخصلة في أهل العلم» (¬2). أي وربي صدق الإمام أحمد، وبئست الخصلة في أهل العلم إنها الماحقة للدين، والموغلة بصدور المؤمنين، والميدان الرحب يفرح به المغرضون والمنافقون، وتلك بضاعة الشيطان يصد بها المسلمين عن ذكر الله وشكره وحسن عبادته وهو يصور لهم أن ذلك هو الجهاد الحق وإنه أولى من جهاد الكفار والمنافقين، وأن كشف زيف هؤلاء أولى وخطرهم على الدين أشد وأقضي. وهكذا يزين الشيطان لبعض الناس ويتلاعب بعقولهم حتى تصبح الردود والتهم شغلهم الشاغل بها ينصرفون عن البناء وإكمال مسيرة العلماء، وبها ينسون عيوبهم وسبل إصلاحها ويشتغلون بعيوب الآخرين ويتزيدون فيها .. والمسلم الحق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأربى الربى استطالة المرء في عرض أخيه، كما جاء في الحديث، وفي الرواية الأخرى «أربى الربا شتم الأعراض» (¬3). ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآيتان: 69، 70، سير أعلام النبلاء 10/ 48. (¬2) السير 10/ 58 هامش (1). (¬3) صحيح الجامع 2/ 300.

إخوة الإيمان .. أما كيف تعامل العلماء قديمًا مع هذه الخلافات والنجوى .. وماذا ينبغي أدن يتعامل به الناس حديثًا، فهو طي هذا اللغط وإهمال أصحابه، والحرص على ردم الهوة بين المسلمين، وعدم مجاراة المغرضين فلا يعني السكوت على ترديد الشائعات والتهم الضعف والخور بقدر ما يعني التعقل والثقة والانشغال بالأهم، وسيكفي الله عباده الصالحين شر الأشرار وكيد الفجار، والله تعالى يدافع عن الذين آمنوا، والحق مهما اختلط بغيره فلا بد أن يظهر أصحابه، والباطل مهما تستر أصحابه فلا بد أن يكشفهم الله ويفضحهم في جوف دارهم .. وما ربك بغافل عما يعملون، ولا يظلم ربك أحدًا، والعاقبة للتقوى. حول هذا المنهج قال الإمام الذهبي رحمه الله كلامًا طويلاً أقتبس منه العبارات التالية: «كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية لا يلتفت إليه بل يطوى ولا يروى، ثم تحدث عما شجر من الصحابة وقال: إن أكثره منقطع وضعيف وبعضه كذب .. فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه لتصفو القلوب وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء، إلى أن قال: ثم تكلم خلق من التابعين بعضهم في بعض وتحاربوا وجرت أمور لا يمكن شرحها فلا فائدة في بثها، ووقع في كتب التواريخ وكتب الجرح والتعديل أمور عجيبة، والعاقل خصم نفسه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، ولحوم العلماء مسمومة .. إلى آخر كلامه (¬1). ألا فليتق الله أولئك الذين يروجون الشائعات ويلصقون التهم وىكتبون الكتابات ويتزيدون في التأويلات، ويتدخلون في تفسير المقاصد والنيات .. وتلك لا يعلمها إلا عالم السر والخفيات. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 10/ 92 - 94.

وعلى من اتهم في دينه أو عرضه بغير حق أن يصبر ويحتسب، ويتجرد عن حظوظ النفس والهوى، وأن يقوم بالقسط والعدل كما أمر الله {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (¬1). وينبغي أن يستقر في أذهان المسلمين أن الخلاف في الرأي دون هوى ليس مسوغًا للفرقة والاختلاف وملغيًا لحقوق إخوة الإسلام، وتأملوا هذه اللفتة الطيبة عن الإمام الشافعي: يقول يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة. ثم يعلق الذهبي على ذلك ويقوله: قلت: هذا يدل على كمال عقل هذا في ما- وفقه نفسه، فمازال النظراء يختلفون (¬2). فهل يفقه المسلمون أدب الخلاف، وهل يتقون الله حين الاتفاق أو الاختلاف، وهل يلتفت العقلاء إلى خطط الكافرين وموائد المنافقين، وأطماع اليهود والنصارى والمجوس والمشركين فذلك أولى وأحرى من تصويب السهام في صدور المسلمين، والحط من قدر العلماء والدعاة المجتهدين .. إن في ذلك لذكري لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .. والموفق من وفقه الله والمعصوم من عصمه الله .. اللهم اعصمنا من الزلل وطهر قلوبنا وألسنتنا من الغل والحقد والكذب. ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 8. (¬2) السير 10/ 16، 17.

(1) المسلم بين الخوف والرجاء

(1) المسلم بين الخوف والرجاء (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين أنزل خشيته في قلوب المؤمنين، وجعل خوفه سببًا للمسارعة في الخيرات، فقال تعالى: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون} إلى قوله .. {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} (¬2). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده للشريك له، امتدح أنبياءه عليهم السلام، وأثنى على أوليائه بالخوف: فقال جل من قائل عليمًا: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين} (¬3). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله كان في أعلى مقامات الخوف من ربه، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف .. اللهم صلّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. إخوة الإسلام عليكم بوصية الله للأولين والآخرين {ولله ما في السموات والأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله .. } (¬4). أيها المسلمون والمسلمات لقد أتنى الله على ملائكته لخوفهم منه، فقال: {وهم من خشيته مشفقون (¬5). ¬

(¬1) ألقيت هده الخطبة يوم الجمعة الموافق 16/ 10/ 1415 هـ. (¬2) سورة المؤمنون، الآيات: 57 - 61. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 90. (¬4) سورة النساء، الآية: 131. (¬5) سورة الأنبياء، الآية: 28.

فإذا كان هذا حال الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وتلك صفة الذين يسبحون الله بالليل والنهار لا يفترون .. فكيف ترونه ينبغي أن يكون خوف المقصرين المفرطين؟ إخوة الإيمان وللخوف من الله موجباته وأسبابه ودواعيه، قال الحليمي- رحمه الله- والخوف على وجوه، أحدها: ما يحدث من معرفة العبد بذل نفسه وهوانها وقصورها وعجزها عن الامتناع عن الله إن أراده بسوء، قال الله تعالى {ما لكم لا ترجون لله وقارًا وقد خلقكم أطوارًا} أي لا تخافوا الله عظمةً .. حيث خلقكم من نطفة ثم علقة ثم مضغة. كذلك فسره ابن عباس وغيره (¬1). والثاني: ما يحدث من المحبة وهو أن يكون العبد في عامة الأوقات وجلاً من أن يكله الله إلى نفسه، ويمنعه مواد التوفيق، ويقطع دونه الأسباب، فلا يزال مشفقًا من حرمان محبته، خائفًا من السقوط عنده، قال تعالى: {ربنا لا تزغ قلوبكما بعد إذ هديتنا} وهؤلاء لفرط محبتهم وكثرة دعائهم لخالقهم سماهم الراسخين في العلم. الثالث: ما يحدث من الوعيد، قالي تعالى: {وإياي فاتقون} {وإياي فارهبون} {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد} (¬2) {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} (¬3). ¬

(¬1) ثلاث شعب من الجامع لشعب الإيمان للبيهقي 1/ 58، 59. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 14. (¬3) سورة التحريم، الآية: 6.

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ونقصان الخوف من الله إنما هو لنقصان معرفة العبد به، فأعرف الناس أخشاهم لله، وهو ينشأ من ثلاثة أمور: 1) معرفة الجناية وقبحها. 2) تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها. 3) أن المرء لا يعلم لعله يمنع من التوبة، ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب. فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف، وبحسب قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه (¬1). قال العارفون: ليس للعبد صاحب خير من الهم والخوف، هم فيما مضى من ذنوبه، وخوف فيما لايدرك ما ينزل به، ومن المفاهيم الخاطئة عند بعض الناس أن الخوف ضعف ومنقصة، وهو كذلك إذا كان من هموم الدنيا أو تخوف من البشر مهما كانت منازلهم، لكنه قوة ومنقبة إذا كان لله وفي الله، فالخائفون من الله أزكى قلوبًا وأكبر عقولاً من الغافلين السادرين في غيهم وشهواتهم. والخوف من الله في الدنيا من علامات أهل الجنة، حتى قيل: ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف ألا يكون من أهل الجنة لأنهم قالوا {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن} (¬2)، وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة لأنهم قالوا: {إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين} (¬3). وقال ابن المبارك: من أعظم المصائب للرجل أن يعلم من نفسه تقصيرًا ثم لا ¬

(¬1) طريق الهجرتين ص 283، ص المصدر السابق 1/ 59. (¬2) سورة فاطر، الآية: 34. (¬3) من شعب الإيمان 1/ 215، 217 (الطور 26).

يبالي ولا يحزن عليه (¬1). ولهذا كله روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يحب كل قلب حزين» (¬2). ذلك هو الخوف المحمود، وهو الذي يمنع صاحبه من اقتراف المعاصي، لأن صاحبه مستحضر لرقابة الله، خائف منه على كل حال، قال سهل التستري رحمه الله: لا يبلغ حقيقة الخوف حتى يخاف مواقع علم الله فيه ويحزن على ذلك (¬3). وقال الخليفة هارون الرشيد ما رأت عيناي مثل الفضيل بن عياض، قال لي وقد دخلت عليه: يا أمير المؤمنين فرغ قلبك للحزن والخوف حتى يسكناه فيقطعاك عن معاصي الله تعالى ويباعداك من عذاب النار (¬4). وبشبه العارفون حزن القلب بسكنى الدار، فكلاهما إذا خلا من الساكن خرب، قال مالك بن دينار: إن القلب إذا لم يحزن خرب، كما أن البيت إذا لم يسكن خرب. وخوف المسلم من الله نابع من خشيته سوء العاقبة، فهو مهما عمل لا يدري بما يختم له، فتراه دائما خائفًا وجلاً، وتلك من أشدّ الأشياء على الشيطان، وهي مبعدة لعجب الإنسان بعمله، قال إسحاق بن خلف: ليس شيء أقطع لظهر إبليس من قول ابن آدم: ليت شعري بم يختم لي؟ ! قال: عندها ييأس إبليس منه، ويقول: متى يعجب هذا بعمله (¬5)؟ ! . ¬

(¬1) المصدر السابق 1/ 214. (¬2) رواه البزار والطبراني وقال الهيثمي: إسناده حسن، وضعفه غيره، انظر ثلاث من شعب الإيمان 1/ 213/ 1، 214. (¬3) السابق 1/ 215. (¬4) السابق/ 1/ 211. (¬5) السابق/ 1/ 197.

وفي تغييب الخاتمة عن الإنسان حكمة إلهية بالغة، قال ابن بطال: «في تغييب خاتمة العمل عن العبد حكمة بالغة وتدبير لطيف لأنه لو علم وكان ناجيًا أعجب وكسل، وإن كان هالكًا ازداد عتوًّا فحجب عنه ذلك ليكون بين الخوف والرجاء» (¬1). أيها المسلمون لم لا يخاف المسلم وأعماله مهما بلغت لا تنجي صاحبها إن لم يصحبها خوف من الجليل وطلب الرحمة من الرحمن الرحيم؟ وهذا خير البرية صلى الله عليه وسلم يقول: «ما منكم من أحد ينجيه عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة وفضل» (¬2). ويروى عنه قوله «لو أن رجلاً يخر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرمًا في مرضات الله عز وجل لحقره يوم القيامة» (¬3). وبإسناد موقوف صحيح عن محمد بن أبي عميرة رضي الله عنه قال: لو أن عبدًا خر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرمًا في طاعة الله عز وجل لحقر ذلك اليوم ولود أنه زاد كيما يزاد من الأجر والثواب (¬4). معاشر المسلمين الخوف الشرعي هو الذي يعلق صاحبه بالله تعلقًا مشروعًا، يدفعه إلى عمل الطاعات واجتناب المعاصي وطب المغفرة والرحمة مقرونًا بالرجاء وحسن الظن بالله، وليس بالخوف السلبي الذي يقعد بصاحبه عن العمل، أو يدعوه إلى فعل ما حرمه الله من الأقوال أو الأفعال، كحال جهلة الصوفية وأمثالهم ممن يعبد الله بالأهواء والتخيلات الفارغة. ¬

(¬1) السابق/ 89. (¬2) رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم 1/ 108. (¬3) رواه أحمد وغيره، وقال الهيثمي: إسناده جيد 10/ 225، السابق 1/ 109. (¬4) السابق 1/ 110.

إن حقيقة الخوف من الله مراقبته على الدوام والوقوف عند حدوده في السرّ والجهار ولذا كان أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله. ولا شك أن الخائفين في الدنيا هم الآمنون يوم القيامة، فمن خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، إلا أن سلعة الله الجنة. وقد جاء في الأثر المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: «وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة» (¬1). اللهم اجعل خوفنا لك ووجلنا منك، وبخوفنا في الدنيا آمنا يوم نلقاك .. أقول ما يسمعون ... ¬

(¬1) أخرجه ابن حبان، وابن المبارك، وابن أي الدنيا، وأبو نعيم وغيرهم، واختلف في صحة إسناده أو ضعفه، ثلاث شعب من الجامع لشعب الإيمان 1/ 120.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وأشكره، وأسأله تعالى أن يجعل خوفنا ورجاءنا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونسأله تعالى أن يجعلنا يوم الفزع الأكبر من الآمنين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بين للأمة بسلوكه القولي والفعلي ما به يأمنون وكيف ومم يخافون؟ اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى الآل والأصحاب والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها الإخوة المؤمنون، وكما أن الخوف من الله من صفات المؤمنين فهو من شروط الإيمان كما قال تعالى {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}. وهو سمة من سمات العلماء العارفين {إنما يخشى الله من عباده العلماء} فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف، ولا ينبغي لعاقل أن يغتر بطول غفلة الغافلين، وأمن المفرطين، وقلة خوفهم من رب العالمين، فذلك دليل جهلهم بحقيقة ما هم مقدمون عليه من الأهوال التي يشيب لهولها الولدان، وهو مظهر من مظاهر جهلهم بعظمة خالقهم، ولو قدروا الله حق قدره لخافوه وعظموه وتقربوا إليه. وهذه مواكب الإيمان قديمًا وحديثًا يتسابقون في عمل الصالحات، ويكفون عن المحرمات، ويمتنعون من ظلم أنفسهم أو ظلم الخلق من حولهم، ومع ذلك كله يبلغ بهم الخوف من الله مبلغه، ويظلون يبكون على خطيئتهم، ويتمنى الواحد منهم لو كان جدثًا أو شجرة تعضد قبل يوم القيامة، فهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه أعلم الناس بالحلال والحرام حين حضرته الوفاة جعل يبكي، فقيل له: أتبكي وأنت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه ولمسلم وأنت أنت، فقال: ما أبكي جزعًا من الموت إن حل بي، ولا دينًا تركته بعدي، ولكن إنما

هما القبضتان: قبضة في النار، وقبضة في الجنة، فلا أدري في أي القبضتين أنا» (¬1) وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يقول: «والذي لا إله غيره لوددت أني أنقلب روثة وأني دعيت عبد الله بن روثة وأن الله غفر لي ذنبًا واحدًا» (¬2). بل إن أحد الخيرين عمر رضي الله عنه يروى عنه أنه كان يقول «يا ليتنى كنت كبش أهلي سمنوني ما بدا لهم، حتى إذا كنت كأسمن ما يكون زارهم بعض من يحبون فذبحوني لهم، فجعلوا بعضي شواء وبعضي قديدًا ثم أكلوني، ولم أكن بشرًا» (¬3). وكيف لا يخاف هؤلاء وأمثالهم كثير .. وهذا صفوة الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يضرب المثل في العبادة والتقوى ويضرب المثل في الخوف والبكاء. فعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى- وفي رواية كأزيز المرجل- من البكاء» (¬4). ويقول أبو ذر رضي الله عنه قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية حتى أصبح يرددها، والآية قوله تعالى {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} (¬5). وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} ¬

(¬1) أخرجه أحمد وغيره في سنده انقطاع وله شاهد مرفوع عن عبد الله بن عمرو بن العاص شعب الإيمان 1/ 178، وانظر صحيح الجامع 2/ 292. (¬2) إسناده حسن وأخرج أحمد نحوه في الزهد، السابق 1/ 184. (¬3) أخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 52، والبيهقي في شعب الإيمان 1/ 130. (¬4) أخرجه ابن المبارك والترمذي وغيرهما بإسناد حسن، السابق 1/ 115. (¬5) سورة المائدة، الآية: 118. (أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي 1/ 241، والشعب 1/ 117.

حتى ختمها قال: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدر أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل» (¬1) ثم قال أبي ذر: والله لوددت أني شجرة تعضد» أمة الإسلام يطول الحديث عن الخوف من الله، وتكثر القصص في نماذج الخائفين بحق من الله .. وليس في المقام متسع لأكثر من هذا، والعبرة بالعمل بعد العلم، وعلى قدر إيمان العبد وعلمه وتقواه بخالقه يكون خوفه وكما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: رهبة العبد من الله تعالى على قدر علمه بالله، وزيادته في الدنيا على قدر شوقه إلى الجنة. يا أخا الإيمان إذا أردت أن تعلم من نفسك قدر الله عندك فانظر في نسبة خوفك منه، فعلى قدر عظمة الله عندك يكون خوفك منه، وبرهان خوفك من الله مسارعتك في الطاعات وامتناعك عن المحرمات. ومن عزائم محبة الله محبة ما يحبه الله ومحبة أوليائه، وبغض ما يبغض الله والبراءة من المشركين والمنافقين، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الجوارح (¬2). وحتى لا ييأس العبد من مولاه .. وحتى لا تظلم الدنيا في عينيه، وتتحول حياته إلى خوف دائم يقعد به عن العمل .. فثمة جناح آخر ينبغي أن يطير به الزمن ألا وهو الرجاء ذلك الحبل الممدود بين الأرض والسماء .. وذلك مجال الحديث في خطبة قادمة بإذن الله .. ¬

(¬1) أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما وإسناده حسن، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، الشعب 1/ 126. (¬2) شعب البيهقي 1/ 207.

(2) المسلم بين الخوف والرجاء

(2) المسلم بين الخوف والرجاء (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين ملاذ الخائفين، وأمل الناجين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له يفر الخلق منه إليه وليس أحد يفر منه ويلجأ إليه سواه {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه} (¬2) وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله علم الأمة كيف يكون الخوف منه، وكيف يكون الرجاء فيه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فاتقوا الله عباد الله واحترزوا من كل شيء دون الله، فمن فرّ إلى غيره لم يمتنع به. أيها الإخوة المسلمون قد سبق الحديث عن الخوف من الله حقيقته وفضله وآثاره ونماذج لخوف المؤمنين، فليس يسوغ الحديث عنه مهما كان مختصرًا إلا باستكمال الحديث عن الرجاء، حتى قيل: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص واحد منهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا جميعًا صار الطائر في حدّ الموت، لذلك قيل: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا (¬3). وقبل الحديث عن الرجاء أستكمل نماذج أخرى من خوف السلف، وبعضًا من ثمار الخوف وآثاره في الدنيا، وثماره في الآخرة أعزّ وأغلى، فسفيان ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 23/ 10/ 1415 هـ. (¬2) سورة التوبة، الآية: 118. (¬3) ثلاث شعب من الجامع لشعب الإيمان للبيهقي 1/ 302.

الثوري رحمه الله- كان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم (¬1). وحتى أصابه السقم حُمل مقدار من بوله فعرض على الأطباء فلم يعرفوا ما به، حتى حمل إلى راهب في ناحية الحيرة، فلما نظر إليه قال: ليس بصاحبكم مرض، إنما الذي به لما دخله من الخوف (¬2). وفي رواية: قال الطبيب: هذا ماء رجل قد أحرق الخوف (¬3). ولا غرابة في ذلك، فمع قيام هذا العالم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو يشعر بتقصيره في أداء الواجب، ويقول: «إني لأرى الشيء يجبر علي أن آمر به أو أنهي عنه لا أفعل فأبول دمًا» (¬4). وإذا كان يطيب ذكر الخائفين من علماء وأعلام المسلمين، فالذكر أطيب حين يكون الخوف من الولاة الورعين، ويتمثله أحد أئمة المسلمين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أولئك حقًّا هم النماذج لولاة المسلمين، وعلى قدر خوفهم من خالقهم تهابهم وتجلهم رعيتهم. قالت فاطمة بنت عبد الملك- زوج عمر بن عبد العزيز يرحمه الله- تصف خوف عمر: يا مغيرة إنه قد يكون في الناس من هو أكثر صلاةً وصيامًا من عمر، وما رأيت أحدًا قط أشد فرقًا من ربه من عمر. كان إذا صلى العشاء قعد في المسجد، ثم يرفع يديه فلم يزل يبكي حتى تغلبه عيناه، ثم ينتبه، فلم يزل رافعًا يديه يبكي حتى تغلبه عيناه (¬5). وعمر بن عبد العزيز- يرحمه الله- هو الذي كانت لا تجف له دمعة من هذه ¬

(¬1) الحيلة لأبي نعيم 7/ 23، وسير أعلام النبلاء للذهبي 7/ 242. (¬2) المعرفة والتاريخ للفسوي 1/ 726. (¬3) سير أعلام النبلاء 7/ 270، وشعب الإيمان للبيهقي 1/ 254. (¬4) شعب الإيمان للبيهقي 1/ 252، الحلية 7/ 14، سير أعلام النبلاء 7/ 243. (¬5) أحمد في الزهد/ 363، الفسوي في المعرفة والتاريخ 1/ 571. والبيهقي في الشعب 1/ 267.

الأبيات: ولا خير في عيش امرئ لم يكن له ... من الله في دار القرار نصبب فإن تعجب الدنيا أناسًا فإنها ... متاع قليل والزوال قريب (¬1) إخوة الإسلام لا غرابة أن يحب الخلق من يخاف الله، فمن خاف الله أخاف منه كل شيء، ومن شغل بالله انشغل الخلق بأمره، ومن أحب الله أحبه الخلق. يقول عمر بن عبد العزيز والفضيل بن عياض رحمهما الله: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله خاف من كل شيء (¬2). وقال: يحيى بن معاذ الرازي- يرحمه الله-: على قدر حبك لله يحبك الخلق، وعلى قدر خوفك من الله يهابك الخلق، وعلى قدر شغلت بأمر الله شغل في أمرك الخلق (¬3) وتلك وربي من ثمار الخوف في الدنيا. ولكل شيء حقيقة، ولكل عمل علامة يستدل بها عليه، وقد قال ذو النون: ثلاث من أعلام الخوف: الورع عن الشبهات بملاحظة الوعيد، وحفظ اللسان مراقبةً للعظيم، ودوام الكمد إشفاقًا من غضب الحكيم (¬4) فالخوف شعور قلبي بعظمة الخالق في الباطن، ينشأ عنه سلوك حسن في الظاهر، إذ ليس يكفي مجرد الخوف الظاهري، فقد ينخدع الناس ببكاء شخص في الظاهر، ويشهد الله على فساد طويته في الباطن .. ولهذا لم يكتف العلماء بمجرد بكاء العينين دليلاً على ¬

(¬1) ثلاث شعب من شعب الإيمان للبيهقي 1/ 268، وسير أعلام النبلاء 5/ 138. (¬2) ثلاث شعب من شعب الإيمان 1/ 264، ورجال الإسناد ثقات. (¬3) الحلية لأبي نعيم 8/ 10، ابن الجوزي: صفة الصفوة 4/ 95، البيهقي شعب الإيمان 13/ 66. (¬4) الحلية 9/ 361، شعب البيهقي 1/ 270.

الخوف، بل ربما عدوه في النفاق، قال علي بن عثام: بكى سفيان يومًا ثم قال: بلغني أن العبد أو الرجل إذ كمل نفاقه ملك عينيه فبكى (¬1). أيها الإخوة المؤمنون، الرجاء قرين الخوف، وهو الاستبشار بفضل الله، والثقة بجوده، والارتياح لمطالع كرمه سبحانه وتعالى وهو من شعب الإيمان، وإنما كان الرجاء من شعب الإيمان لأنه من أمارات التصديق. قال الإمام البيهقي رحمه الله: وأفضل الرجاء ما تولد من مجاهدة النفس ومجانبة الهوى، قال الله عز وجل {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم} (¬2). وفرق بين الرجاء والتمني، فالرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل، أما التمني فيكون مع الكسل ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد، ولذا أجمع العلماء على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل (¬3). وإذا استحكم الرجاء وكان على وجهه المشروع حدث عنه من التخشع والتذلل نحو ما يحدث عن الخوف إذا استحكم، لأن الخوف والرجاء متناسبان، إذ الخائف في حال خوفه يرجو خلاف ما يخافه ويدعو الله عز وجل به، والراجي في حال رجائه خائف خلاف ما يرجو ويستعيذ بالله منه، ولا خائف إلا وهو راج، ولا راج إلا وهو خائف، ولأجل تناسب الأمرين قرن الله تعالى ¬

(¬1) ويروى مرفوعًا عن عقبة بن عامر ولا يصح (ثلاث شعب من شعب الإيمان 1/ 253، 254، الزهد لأحمد / 390، الكامل لابن عدي 4/ 468، والعلل المتناهية لأبن الجوزي 2/ 335. (¬2) سورة البقرة، الآية: 218، شعب البيهقي 1/ 290. (¬3) مدارج السالكين لابن القيم 2/ 37، شعب البيهقي 1/ 278.

بينهما في غير آية من كتابه، قال تعالى {وادعوه خوفًا وطمعًا} (¬1) وقال تعالى {ويرجون رحمته ويخافون عذابه} (¬2). وفي الحديث المتفق على صحته يبين النبي صلى الله عليه وسلم لماذا يكون الخوف والرجاء فيقول: «لو يعلم المؤمن بما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط ما جنته أحد» وقد اشتمل الحديث - كما قال الحافظ ابن حجر- على الوعد والوعيد المقتضيين للخوف والرجاء، فمن علم أن من صفات الله تعالى الرحمة لمن أراد أن يرحمه، والانتقام بما أراد أن ينتقم منه، لا يأمن انتقامه من يرجو رحمته، ولا ييأس من رحمته من يخاف انتقامه، وذلك باعث على مجانبة السيئة لو كانت صغيرة، وملازمة الطاعة ولو كانت قليلة» (¬3). دخل المصطفى صلى الله عليه وسلم على شاب وهو في الموت فقال: «كيف تجدك؟ » قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو». إخوة الإيمان إذا كان يحسن الرجاء بالله في كل موطن، وحسن الظن بالله في كل حال، فذلك أجمل وأحرى في لحظات العبد الأخيرة وقرب رحيله من الدنيا، ولهذا كان السلف رحمهم الله يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن ظنه بربه. ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 56. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 57. (¬3) فتح الباري 11/ 302، في الرقاق باب الرجاء مع الخوف.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل موته بثلاث: «لا يموتن أحدكم إلا وهو حسن الظن بالله عز وجل» (¬1). وحين دخل واثلة بن الأسقع رضي الله عنه على يزيد بن الأسود وقد نزل به مرض ذهب عقله منه، ووجه نحو القبلة، فلما سمع يزيد باسم واثلة الصحابي بقي له من عقله ما يطلب به كف واثلة فأخذها ووضعها على صدره مرة وعلى وجهه أخرى وعلى فيه ثالثة- وذلك لموضع يد واثلة من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له واثلة: ألا تخبرني عن شيء أسألك عنه، كيف ظنك بالله؟ قال: اعترتني ذنوب لي أشفيت على هلكة، ولكن أرجو رحمة الله، فكبر واثلة وكبّر أهل البيت بتكبيره، وقال: الله أكبر سمعت رسوله الله صلى الله عليه وسلم يقوله: «يقول الله عز وجل أنا عند ظن عبدي فليظن بي ما شاء» (¬2). فاحرصوا معاشر المسلمين على حسن الظن بربكم مع حسن العمل، واحرصوا على ذلك في وقت شدتكم، وذكِّروا موتاكم في حال نزعهم بضرورة حسن الظن والرجاء بالله، وتأملوا حال السلف من قبلكم، وهذا المعتمر بن سليمان يقول: قال لي أبي حين حضرته الوفاة: يا معتمر حدثني بالرخص لعلي ألقى الله وأنا حسن الظن به (¬3). ¬

(¬1) رواه مسلم وغيره 4/ 2205. (¬2) حديث حسن أخرجه أحمد 3/ 491، وابن المارك والحاكم وصححه ووافقه الذهب وغيرهم، شعب البيهقي 1/ 286. (¬3) سير أعلام النبلاء 6/ 199، شعب البيهقي 1/ 288.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، قال في محكم التنزيل {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم} (¬1) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يضاعف الحسنات ويعفو عن الزلات، وما يزال العبد بخير ما زال يرجو رحمته ويخاف عذابه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، كان من أشد الناس خوفًا من الله، وأكثرهم رجاءً به، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. إخوة الإسلام حضر أحد السلف- عبد الأعلى التيمي- جارًا له قد حضره الموت فقال له: أبا فلان: ليكن جزعك لما بعد الموت أكثر من جزعك من الموت، وأعد لعظيم الأمور حسن الظن بالله عز وجل» (¬2). وهنا يرد السؤال: متى يكون الخوف أفضل، ومتى يكون الرجاء أفضل؟ قال السري بن المغلس: الخوف أفضل من الرجاء ما دام الرجل صحيحًا، فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل من الخوف، فقال له رجل: كيف يا أبا الحسن؟ قال: لأنه إذا كان في صحته محسنًا عظم رجاؤه عند الموت وحسن ظنه بربه، وإذا كان في صحته مسيئًا ساء ظنه عند الموت ولم يعظم رجاؤه. قال البيهقي رحمه الله- معلقًا/ وإنما أراد به خوفًا يمنعه من معصية الله عز وجل، ويحمله على طاعته، حتى إذا حضره الموت عظم رجاؤه في رحمة ربه، وكثر عمله في إحسان الله ثقة منه بوعد الله عز وجل (¬3). ¬

(¬1) سورة الحجر، الآيتان: 49، 50. (¬2) أبو نعيم في الحلية 5/ 87، شعب البيهقي 1/ 289. (¬3) ثلاث شعب من الجامع لشعب الإيمان البيهقي 1/ 289.

ويربط ابن القيم رحمه الله بين حسن الظن وحسن العمل فيقول: ولا ريب أن حسن الظنّ إنما يكون مع الإحسان فإن المحسن حسن الظن بربه أن يجازيه على إحسانه ولا يخلف وعده .. ومن تأمل هذا الموضع حق التأمل علم أن حسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه، فإن العبد إنما يحمله حسن ظنه بربه أن يجازيه على أعماله ويثيبه عليها، فالذي حمله على العمل حسن الظن، فكلما حسن ظنه حسن عمله، وإلا فحسن الظن مع اتباع الهوى عجز (¬1). وهكذا يربط ابن القيم بين حسن الظن وحسن العلم، ويوضح أثر حسن الظن بالله على حسن العمل، وتأملوا هذا الحديث من مشكاة النبوة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حسن الظن من حسن العبادة» (¬2). ومرة أخرى يوضح ابن القيم الفرق بين حسن الظن والغرور فيقول: وقد تبين الفرق بين حسن الظن والغرور، وأن حسن الظن إن حمل على العمل وحث عليه وساعده وساقه إليه فهو صحيح، وإن دعا إلى البطالة والانهماك في المعاصي فهو غرور (¬3) والرجاء بلا عمل- اجتراء على الله عز وجل- كما قيل (¬4). وهذا عبد الله بن خبيق يقسم الناس إلى ثلاثة أصناف، ويقول: الرجال ثلاثة: رجل عمل حسنةً فهو يرجو ثوابها، ورجل عمل سيئة ثم تاب فهو يرجو المغفرة، والثالث: الرجل الكذاب يتمادى في الذنوب ويقول: أرجو المغفرة، ومن عرف نفسه بالإساءة ينبغي أن يكون خوفه غالبًا (¬5). ¬

(¬1) الجواب الكافي ص 26 - 28. (¬2) رواه أحمد، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم وصححه وأقره الذهبي 14/ 241، شعب البيهقي 1/ 298. (¬3) الجواب الكافي ص 46. (¬4) شعب البيهقي 1/ 298. (¬5) السابق 1/ 297.

وأنشد بعضهم: ما بال دينك ترضى أن تدنسه ... وإن ثوبك مغسول من الدنس ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس (¬1) ومن حكم لقمان أنه قاله لابنه، يا بني اُرج الله رجاءً لا يجرئك محلى معصيته، وخف الله خوفًا لا يؤيسك من رحمته. قال ابن القيم رحمه الله: الرجاء حاد يحدو به في سيره إلى الله، فلولا الرجاء لما سار أحد، فإن الخوف وحده لا يحرك العبد، وإنما يحركه الحب، ويزعجه الخوف، ويحدوه الرجاء (¬2). وإذا علم حد الرجاء الشرعي وعلم حسن الظن بالله على مفهومه الصحيح، فقد كان للسلف رحمهم الله أقوال ومأثورات في تطميع الناس بفضل الله وسعة رحمته وعدم الانقطاع عن رجائه والوقوف ببابه، بل كانوا يحذرون من تيئيس الناس وتقنيطهم من رحمة الله. فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين دخل عليها عبيد بن عمير قالت: أعمير بن قتادة؟ قالوا: نعم، قالت: أحدث أنك تجلس ويجلس إليك، قال: بلى يا أم المؤمنين فقالت: «فإياك وإملال الناس وتقنيطهم» (¬3) ومر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على قاص وهو يذكر فقالت: يا مذكر لا تقنط الناس، ثم قرأ {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا} (¬4) وليس الأمر قصرًا على عائشة وابن مسعود في تطميع ¬

(¬1) السابق 1/ 304. (¬2) مدارج السالكين 2/ 52. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه وغيره بإسناد حسن، شعب البيهقى 1/ 324. (¬4) سورة الزمر، الآية: 53 (أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وغيره، شعب البيهقي 1/ 325.

الناس بفضل الله وعدم تقنيتهم، بل كان ديدن الصحابة رضوان الله عليهم عدم التشديد حتى قال عمير بن إسحاق: «كان ممن أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن سبقني، فما رأيت قومًا أهون سيرة ولا أقل تشديدًا منهم» (¬1). وما بالهم لا يكونون كذلك وهذا قدوتهم ومعلم البشرية وهاديها بإذن ربها يقول وقد خرج على رهط من أصحابه وهم يتحدثون، والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، فلما انصرفوا: أوحى الله إليه: يا محمد لم تقنط عبادي، فرجع إليهم فقال: «أبشروا وقاربوا وسددوا» (¬2). قال البيهقي رحمه الله: ففي هذا دلالة على أنه لا ينبغي أدن يكون خوفه بحيث يؤيسه ويقنطه من رحمة الله، كما لا ينبغي أن يكون رجاؤه بحيث يأمن مكر الله أو يجرئه على معصية الله عز وجل (¬3). وينبغي أن تكون هذه وتلك منهجًا لمن يتصدرون لتعليم الناس وتوجيههم. اللهم ارزقنا خوفك ورجاءك ووفقنا لطاعته واسلك بنا سبيل أوليائك يا رب العالمين ... هذا وصلوا ... ¬

(¬1) أخرجه ابن سعد في الطبقات 7/ 220، وابن عدي في الكامل 5/ 1724، والبيهقي في شعبه 1/ 322. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وابن حبان وإسناده صحيح، شعب البيهقي 1/ 328. (¬3) شعب البيهقي 1/ 328.

ومن يتوكل على الله فهو حسبه

ومن يتوكل على الله فهو حسبه (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، بعث الرسل بالتوحيد الخالص، فقال جل من قائل عليمًا {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (¬2). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وصف خليله إبراهيم عليه السلام بصفات غاية في تحقيق التوحيد، فقال تعالى {إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يك من المشركين شاكرًا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم} (¬3). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أمره خالقه بإخلاص العبادة لله وحده وفي كل شأن من شؤونه وهو أمر لأمته بعده، فقال جل ذكره: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (¬4). اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى معلمي الناس الخير من عباد الله الصالحين وأشمل بالصلاة والسلام آل محمد الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين وتأملوا في عقيدتكم فإنها أغلى ما تملكون، وانظروا في سلامة وإخلاص عبوديتكم لله رب العالمين. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 14/ 2/ 1415 هـ. (¬2) سورة النحل، الآية: 36. (¬3) سورة النحل، الآيتان: 120، 121. (¬4) سورة الأنعام، الآيتان: 162، 163.

إخوة الإيمان وفي زحمة الحياة الدنيا وصخبها، وفي ظل زينتها وافتتان الناس بها. ولهوهم وغفلتهم وانشغالهم عن الحياة الأخرى نحتاج إلى تذكير بقضايا العقيدة الكبرى فعليها ينبغي أن تقوِم الحياة، وعليها ينبغي أن يكون الممات، وليس للعبد خيار في صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، كالخوف والرجاء والدعاء والذبح والنذر، والتوكل والإنابة، والاستعانة والاستعاذة .. ونحوها من أمور العبادة الأخرى. لا خيار لنا في صرف شيء منها لغير الله والحق تعالى يقول {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه .. }. وحين يضعف اليقين، أو تغيب عن الناس تعاليم المرسلين يتخبطون في مسيرتهم، ويشركون مع الله غيره في عبادتهم. وتعالوا بنا معاشر المسلمين لنقف مع أنفسنا وقفة مصارحة ومحاسبة في واحدة من هذه العبادات لنرى واقعنا ونبصر حجم أخطائنا ونعود إلى رشدنا. إنها عبادة التوكل على الله التي يدعوني للحديث عنها قلة ما يسمعه الناس عنها، وكثرة الأخطاء فيها، وشيوع الجهل في تحقيق مقصد الشرع منها. واستعجل في ذكر شيء من هذا الأخطاء الواقعة في هذه العبادة في حياة الناس اليوم حتى يعلم مسيس الحاجة للحديث في الموضوع هذا من جانب، ومن جانب آخر حتى تكون معرفة الداء طريقًا لأخذ الدواء. فمن مظاهر عدم التوكل على الله- حق توكله- التخوف الذي يصل إلى درجة الهلع والرعب- ليس من تذكر القيامة ومشاهدها، وإنما لأمر طارئ من أمور الدنيا، والحرص والطمع المؤديان إلى الشح والبخل، وطلب الشفاعة دائمًا من الآخرين فيما قدروا عليه وما لم يقدروا، والاستدواء بالأدوية المحرمة

والذهاب للسحرة والكهان وأهل الشعوذة والدجالين وطلب النصر والحماية من الآخرين، وتعليق الرزق أو الأجل على أسباب لا تنتهي إلى رب العالمين، والشعور الدائم بالقلق، والتفكير السلبي بالمستقبل، والتخوف المستمر على المال والولد والاستجابة لوساوس وأوهام الشياطين، والتذلل المخزي للخلق أيا كانت منازلهم، والسكوت عن قولة الحق لا لمصلحة في الدين وإنما خوف التبعة وإيثارًا للسلامة والعافية حتى وإن كان في ذلك غضب رب العالمين، والتجاوز في طلب الرزق من الحلال إلى الحرام ومرده ضعف اليقين وقلة التوكل على الله في تأمين رزقه ورزق من يعوله من البنات والبنين .. إلى غير ذلكم من المظاهر. إخوة الإيمان إذا علم هذا فينبغي أن يعلم أن التوكل عبادة لا يجوز صرفها لغير الله، وإنها من أعمال القلوب، وهي اعتماد القلب على الله وثقته به، وأنه كافيه، قال الله تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} جاء في المسند وسنن ابن ماجه والدارمي عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأعلم آية في كتاب الله عز وجل لو أخذ الناس بها لكفتهم» {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرًا} (¬1). وينبغي أن يعلم أيضًا أن التوكل قرين الإيمان، فلا إيمان بلا توكل، قال تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} (¬2). قال العلماء: التوكل فريضة يجب إخلاصه لله، وهو من أجمع أنواع العبادة وأعظمها لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة فإنه إذا أعتمد على الله في جميع ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآية: 3. (معارج القبول 1/ 405 - 407) (¬2) سورة المائدة، الآية: 23.

أموره الدينية والدنيوية دون كل من سواه صحّ إخلاصه ومعاملته مع الله، وهو من أعظم منازل {إياك نعبد وإياك نستعين} فلا يحصل كمال التوحيد بأنواعه الثلاثة إلا بكمال التوكل على الله (¬1). وإذا كان التوكيل قرين الإيمان، فهو علامة الإسلام قال الله تعالى {قال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} (¬2). إخوة الإسلام أما الأنبياء والمرسلون عليهم السلام فكانوا قممًا شامخة في التوكل على الله، التزموه في ذوات أنفسهم، ودعوا الناس إليه، وتأملوا في مسيرتهم، واسلكوا طريقتهم، فهم المبلغون عن الله وهم أدرى الناس بطرق الخير والفلاح. فهذا نوح عليه السلام يقول لقومه {يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم .. } (¬3) وقال تعالى عن نبيه هود عليه السلام {إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها}. وقال عن شعيب {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {فتوكل على الله إنك على الحق المبين} وعن توكل الرسل إجمالاً ودعوتهم إليه قال الله عنهم {وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون، وما لنا أن لا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون} (¬4). ¬

(¬1) فتح المجيد/ 412. (¬2) سورة يونس، الآية: 84. (¬3) سورة يونس، الآية: 71. (¬4) انظر: معارج القبول 1/ 504 - 406.

أمة الإسلام أمر التوكل عظيم، وصرف شيء منه لغير الله يؤدي بصاحبه إلى الشرك صغيرًا كان أو كبيرًا، قال أهل العلم: التوكل على الله قسمان: أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من نصر أو حفظ أو رزق أو شفاعة فهذا شرك أكبر. والثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره الله عليه من رزق أو رفع أذى ونحو ذلك فهو نوع شرك أصغر، والوكالة الجائزة: هي توكيل الإنسان في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه، لكن ليست له أن يعتمد عليه في حصول ما وكل فيه، بل يتوكل على الله في تيسير أمره الذي يطلبه بنفسه أو نائبه، وذلك من جملة الأسباب التي يجوز فعلها ولا يعتمد عليها، بل يعتمد على الله الذي أوجد السبب والمسبب (¬1). تأملوا ذلك جيدًا واحرصوا على عقيدتكم، ولا يأتينكم الشيطان من حيث لا تشعرون أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} ... نفعني الله وإياكم .. ¬

(¬1) فتح المجيد/ 413.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين وفق من شاء لسلوك صراطه المستقيم، وأغنى من استغنى به عن الخلق أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بيده الخير كله، وعنده مفاتح الغيبة لا يعلمها إلا هو، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى سائر المرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. إخوة الإسلام إذا علمتم معنى التوكل ومنهج الأنبياء فيه، والمظاهر السلبية لعدم التوكل، والآثار السيئة لعدم التوكل على الله، فمن حقكم أن تعلموا أثر التوكل على الله، ومآثره الجليلة في حياة الإنسان. فالتوكل على الله يكسب صاحبه قوة وشجاعة تهون في سبيلها قوة الخلق ومكائدهم مهما كانت، وكلما قل قدر المرء من التوكل زاد نصيبه من الضعف والخور، ولاحقته الهموم وسيطرت عليه الأوهام ومن يتوكل على الله فهو حسبه ويورث التوكل صاحبه حفظًا وحمايةً له من الله وقت الشدائد والأزمات فهذا الخليل عليه السلام حين ألقي في النار تجلله التقوى ويحميه التوكل على الله من الاحتراق، وزاده في هذه اللحظات الحرجة {حسبنا الله ونعم الوكيل} وهذا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حمراء الأسد يدفع الله عنهم الوهن، ويقذف في قلوب أعدائهم الرعب حين قالوا: {حسبنا الله ونعم الوكيل} {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}. روى البخاري والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {له إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل}.

فالتوكل على الله طريق السعادة فأسعد الناس في هذه الحياة هم المتوكلون على الله حق توكله، إذ ليست السعادة بالأموال الطائلة ولا بالزينة الظاهرة، ولكنها الطمأنينة في القلب وهدوء البال وراحة الضمير، والاستعداد ليوم الرحيل وتلك وربي لا تحصل إلا بالتوكل واليقين، ولعل هذا يفسر لكم سر شقاء القوم الكافرين مهما توفرت لهم ملاذ الحياة وتهيأ لهم من سبل الراحة، ويفسر لكم من جانب آخر كيف نال السعادة أقوام عاشوا بالأكواخ أو شبهها وقامت بنيان بيوتهم على جريد النخل أو نحوها، كانوا يأكلون القديد ويفترشون الحصير حتى أثرت في جنوبهم، ومع ذلك كانت السعادة تغمر حياتهم في الدنيا وهم في الآخرة في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وعلى قدر نقصان مكيال التوكل يقل حجم السعادة كافرًا كان أم فاسقًا. ففي التوكل على الله باب واسع للرزق {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب} ويلهث دون جدوى أولئك الذين يعلقون رزق الله على مجهودهم دون ربطه بحبل التوكل على الله، وفي حياة الناس عبرة فأنت ترى فئامًا من الناس يجهدون أنفسهم وربما واصلوا ليلهم بنهارهم في سبيل البحث عن الدرهم والدينار وقد تراهم من أفقر خلق الله وقد لا يوفرون لأنفسهم لقمة العيش فيضطرون إلى سؤال الناس واستجدائهم في حين ترى خلقًا من خلق الله أضعف حيلاً وأقل تفكيرًا وقد ضمن الله رزقهم وكفاهم من عنده، ويا له من حديث عظيم رواه عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه قال: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا». ولماذا لا يتوكل المسلم على الله ويثق بما عنده وهو يعلم أن الأجل محدود، والرزق مضمون، وقد قدر للمرء نصيبه من هذه الحياة وهو بعد لم ير النور.

ففي التوكل على الله قطع لدابر وساوس الشيطان الذي لا يفتأ يخوف الإنسان عن مخاطر المستقبل الذي سيصير إليه، ويرجف به في طلب المعاش خشية الفقر والعيلة، وما يزال يلقي الأوهام عليه في صحته حتى يمرضه وإن كان سليمًا معافى، ويحاول جاهدًا قطع حبله بالله فيصله بمخلوقين لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا فكيف يرتجى منهم تقديم النفع لغيرهم، أو جلب الفقر لسواهم. أيها المسلمون لا يعني التوكل على الله عدم الأخذ بالأسباب المأمور بها شرعًا، فذلك نوع من التواكل لم يقره الإسلام، وأنتم تعلمون قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له أعقل دابتي أم أتكل على الله؟ فأجابه عليه الصلاة والسلام «اعقلها وتوكل» (¬1). وحين كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن الموكلون، أنزل الله لهم ولغيرهم {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} (¬2). قال العارفون: التوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض، وإن كان مشوبًا بنوع من التوكل، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزًا، ولا عجزه توكلاً، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها- كما ذكر ذلك ابن القيم وغيره (¬3). إخوة الإسلام، قال بعض السلف جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته فقال {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} فلم يقل له ¬

(¬1) حديث حسن رواه الترمذي، صحيح الجامع 1/ 352. (¬2) سورة البقرة، الآية: 197، تفسير ابن كثير 1/ 348. (¬3) فتح المجيد/ 417.

كذا وكذا من الأجر، كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه (¬1) فتوكلوا على الله حق توكله، واستعينوا به وحده يكفكم ما أهمكم، ويوسع لكم في أرزاقكم ويمتعكم متاعًا حسنًا في الدنيا، وتفوزوا بالسعادة يوم لقاه. أختي المسلمة ألتفت إليك بشكل خاص .. وأنت أدرى الناس بنفسك، أدعوك لترك القلق وعدم الاستسلام للأوهام، والاعتصام باليقين والتوكل على الله وستجدين فيه علاجًا لكل مرض وداء من كل سقم. أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة، وأن يهب لنا صدق التوكل عليه وخالص العبادة له. ¬

(¬1) السابق/ 416.

محنة التتر أحداث وعبر

محنة التتر أحداث وعبر (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين واخشوا يوما ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون. إخوة الإيمان من أيام موسى عليه السلام وما حصل له ولبني إسرائيل من الأذى والعذاب على يد فرعون وملأه، إلى غزوة أحد وما وقع فيها من شدة على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على أيدي الكافرين، أنتقل بكم للحديث عن أحوال العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري يوم أن ضعف سلطان المسلمين، وتفرقت كلمتهم، وأثقلتهم خطاياهم، وتنازعوا أمرهم بينهم، حينها خرجت جحافل المغول المتوحشة تسفك الدماء، وتقتل الأبرياء، وتهتك أعراض النساء، وتستولي على الممتلكات والضياع دون رادع أو حياء، في مشاهد بشعة تكاد تنكرها العقول لولا ثبوتها، ولهولها وشدتها ظنت طوائف من المسلمين بالله الظنون، وربما خيل لبعضهم أن شجرة الإسلام قد اجتثت من أصولها، ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق، 10/ 1/ 1416 هـ

وأن بذرة المسلمين قد استؤصلت من جذورها، بل بالغ البعض فظن في تلك الحوادث المؤلمة نهاية العالم، واعتبرها آخرون أشد من فتنة الدجال، أجل لقد بقي المؤرخ ابن الأثير- وهو شاهد عيان لبعض أحداثها- عدة سنين معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها وهو يقول: فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا أو كنت نسيًا منسيًا إلا أني حدثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعًا .. فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم- عليه السلام- وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا (¬1). وبالله لا شك أن من يجيء بعدنا إذا بعد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها، والحق بيده، فمتى استبعد ذلك فينظر أننا سطرنا نحن، وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها، يسر الله للمسلمين والإسلام من يحفظهم ويحوطهم، فلقد دفعوا من العدو إلى عظيم، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه (¬2). هذا الوصف من ابن الأثير وهو بعد لم يشهد الفاجعة العظمى والمصيبة الكبرى لسقوط بغداد ونهاية الخلافة الإسلامية الكبرى على أيدي العباسيين، ويقول ذلك وهو لم يعلم بتجاوز التتر بلاد العراق إلى بلاد الشام وما حصل فيها من المآسي والآثام، تلك الأحداث التي يصفها بجلاء، ويشخص فيها أحوال ¬

(¬1) الكامل 12/ 358. (¬2) الكامل 12/ 375، 376.

الناس، ويصور مشاعرهم ومواقفهم بدقة وخبرة شيخ الإسلام ابن تيميه عليه رحمة الله حين يقول: فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده ودأب الأمم وعاداتهم، لاسيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه، وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمود الكتاب أن يجتث ويخترم، وحبل الإيمان أن ينقطع وينصرم وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار، وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار، وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورًا، وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدًا .. ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران، وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران، وتركت اللبيب لكثرة الوساوس ليس بالنائم ولا اليقظان، وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان، حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان، وميز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق أو ضعف إيمان، ورفع بها أقوامًا إلى الدرجات العالية، كما خفض بها أقوامًا إلى المنازل الهاوية، وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة، وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى (¬1). معاشر المسلمين: هذا جزء من وصف ابن الأثير وابن تيمية رحمهما الله - لهذه الحادثة الكائنة وهو يكشف لكم عن استمرار البلوى والامتحان لأهل الإيمان عبر الزمان والمكان، ويكشف من جانب آخر اختلاف مواقف الناس حين الشدائد والمحن، وكيف يثبت الله المؤمنين، ويفضح المنافقين، ويكشف حقد الكافرين، وكيف يرفع بها أقوام، وتحط من خطاياهم، ويزل بها آخرون ¬

(¬1) الفتاوى 28/ 427، 428.

وتكون فتنة لهم، يقول شيخ الإسلام- في بقية وصفه- من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه لا يلوي على ماله ولا ولده ولا عرضه- بعد أن تحدث عن أصناف الناس في هذه المحنة- «ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح والبر والتقوى، وبليت فيها السرائر وظهرت الخبايا، وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه من المال، وذم سابقه وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيل، كما حمد ربه من صدق ما جاءت به الآثار النبوية .. إلى أن يقول وتحزبت الناس ثلاثة أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين وآخر خاذل له، وآخر خارج عن شريعة الإسلام .. » (¬1). أيها الإخوة المؤمنون فإن قلتم: وهل وقع في هذه المحنة ما يستوجب هذه الوحشة وذلك الفرق والذهول لأهل الإسلام؟ أجبت أن نعم وإليكم نماذج لما حصل. ففي بخاري المسلمة دخل التتر عنوة، وطلب أهلها الأمان، فأظهر لهم «جنكيز خان» العدل وحسن السيرة وهو يروم غير ذلك، إذ أمر بالتوجه إلى قلعتها الحصينة التي احتمى بها طائفة من العسكر لم يتمكنوا من الهروب مع أصحابهم، وطلب من أهل البلد الخروج معه لمحاصرتها ومن تخلف عنه قتل، فكانت تلك بداية الاستخفاف والاستذلال، فخرجوا خوفًا من بطشه، وأمرهم بردم الخندق المحيط بالقلعة ففعلوا، وبلغ من سوء التتر واستهتارهم أن استخدموا كل شيء في ردم هذا الخندق حتى ألقيت المنابر وربعات القرآن في الخندق، وبعد قتال مرير دخلوا القلعة وقتلوا جميع من احتمى بها من المسلمين، ولم تقف المأساة عند هذا الحد، بل عادوا مرة أخرى إلى البلد ¬

(¬1) الفتاوى 28/ 428.

يقتلون ويأسرون ويفسدون، حتى قال ابن الأثير: وكان يومًا عظيمًا من كثرة البكاء من الرجال والنساء والولدان .. ورضي بعض المسلمين بالقتل دون ذلك الفساد لا سيما أهل العلم والفقه والدين (¬1). وفي سمرقند نصب التتر كمينًا لأهلها، فوقع في شراكهم سبعون ألفًا من المسلمين قتلوا في غداة واحدة شهداء (¬2). ثم عادوا إلي البقية من أهلها يقتلون ويأسرون ويفسدون، فهدمت المساجد وفضت الأبكار، وعذبوا الناس بأنواع العذاب. أما في «مرو» فأحصى ما قتلوه في يوم واحد فبلغ سبعمائة ألف إنسان- كما نقل- ابن كثير (¬3). وفي نيسابور ذبح المغول جميع أهلها، وحتى يتأكدوا من هلاكهم جميعًا قطعوا رؤوسهم، وعملوا منها ثلاثة أهرامات، هرمًا لرؤوس الرجال وهرمًا لرؤوس النساء، وثالثًا لرؤوس الأطفال (¬4). إخوة الإيمان هذه المآسي كلها وأمثالها، دون مأساة بغداد- التي تحتاج إلى حديث خاص- خلفت- في بدايتها- جوًّا من الرعب والضعف والمسكنة يصف لنا ابن الأثير بعض مظاهره ويقول: حكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر وقال لنا: حتى يكتف بعضنا بعضًا، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ¬

(¬1) الكامل 12/ 365 - 367. (¬2) الكامل 12/ 38. (¬3) البداية والنهاية 13/ 167. (¬4) العالم الإسلامي في المشرق الإسلامي والغزو المغولي، إسماعيل الخالدي/ 187.

ونهرب؟ ! فقالوا: نخاف، فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذت سكينًا وقتلته وهربنا فنجونا (¬1). ويذكر المؤرخون أن رجلاً من التتر أخذ رجلاً من المسلمين ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح ففعل حتى جاء التتري بسيف وقتله به (¬2). قال ابن الأثير: وبلغني أن امرأة من التتر دخلت دارًا وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلاً، فوضعت السلاح وإذا هي امرأة فقتلها رجل أخذته أسيرًا (¬3). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولم عذاب الحريق} (¬4) نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. ¬

(¬1) الكامل 12/ 501. (¬2) الكامل 12/ 501. (¬3) الكامل 12/ 378. (¬4) سورة البروج، الآية: 10.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالين أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فيا إخوة الإسلام فليس القصد من ذكر هذه الأحداث المؤلمة التلذذ بذكر قصصها، ولا الاستزادة من معرفة أخبارها، فلمثل هذه الأحداث يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان. وإنما القصد الاستفادة من عبرها ودروسها، والوقوف على الأسباب التي أدت إليها، ومعرفة طرق العلاج التي تسلك للخلاص منها. وإليكم بعض الدروس والعبر لمثل هذه الأحداث والخطوب: 1 - إن سنة الله جارية قديمًا وحديثًا، والذين تروعهم الأحداث المؤلمة في البوسنة والهرسك أو فلسطين، أو يعجبون للحرب العقائدية في أرض الشيشان، أو يستغربون تصفيات المسلمين في بورما وتايلند، وكشمير والفلبين وغيرها من بلاد المسلمين- ومن حقهم ذلك- لكن عليهم أن يتذكروا أنها حلقة في صراع الحق مع الباطل، وأنها معركة أطرافها القرآن الحق، حتى وإن ضيعه أهله، ولم يلتزموا بكل ما فيه .. والتوراة والإنجيل وسواهما من الأديان والنحل الباطلة، إذ يراد القضاء على البقية الباقية من هذا الدين، والسحق لهذه الشعوب المسلمة التي بدأت تتلمس طريق الخلاص، وتعود للإسلام وتعتز بالدين. 2 - وغربة الدين وضعف المسلمين لا ينبغي بحال أن يقود إلى الإحباط وخور النفوس، ولا ينبغي أن يكون سلمًا لأن يخامر القلب الشكوك، أو أن

يظن المسلمون بربهم الظنون السيئة، بل يجب أن يكون مادة للصبر والثبات على دين الله والبذل في سبيله حتى يأذن الله بالفرج يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله .. معلقًا على حديث: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء» «وكثير من الناس إذا رأى المنكر وتغير كثير من أحوال الإسلام فزع وكل وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنبه فليصبر إن وعد الله حق، وليستغفر لذنبه، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار» (¬1). 3 - وكما أن المسلم مأمور بالصبر والثبات على دين الله في كل حال ولاسيما في المحن، ومنهي عن سوء الظن بالله، فهو منهي كذلك عن التأفف أو الاعتراض على شيء من أقدار الله، وقد حكى ابن كثير في ترجمة الشيخ عفيف الدين يوسف بن البقال قال: كان صالحًا ورعًا زاهدًا حكى عن نفسه قال: كنت بمصر فبلغني ما وقع من القتل الذريع ببغداد في فتنة التتار، فأنكرت في قلبي وقلت: يا رب كيف هذا وفيهم الأطفال ومن لا ذنب له؟ فرأيت في المنام رجلاً وفي يده كتاب فأخذته فقرأته، فإذا فيه هذه الأبيات فيها الإنكار علي: دع الاعتراض فما الأمر لك ... ولا الحكم في حركات الفلك ولا تسأل الله عن فعله ... فمن خاض لجة البحر هلك إليه تصير أمور العباد ... دع الاعتراض فما أجهلك (¬2) 4 - الدرس الرابع أن يفتش المسلمون في أحوالهم، ويصدقوا مع أنفسهم في ¬

(¬1) الفتاوى 18/ 295. (¬2) البداية والنهاية 13/ 241.

البحث عن أسباب الذلة والهوان .. وسيجدون أن أعظم الأسباب كامن في ذوات أنفسهم، وأن الله لا يسلط عليهم عدوًا من خارج أنفسهم إلا إذا هم خالفوا أمره وعصوا رسوله صلى الله عليه وسلم. يقول الحق تبارك وتعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} (¬1) ويقول تعالى {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (¬2) ويقول جل ذكره: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} (¬3). بل لقد أنزل الله- فيما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم قوله: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} (¬4). وإذا كان هذا مع أهل الإيمان فلا تسأل عن غيرهم من أهل الضلالة والفجور والعصيان؟ وما ربك بغافل عما يعملون. 5 - الدرس الخامس: هذه الأحداث المؤلمة على أهل الإسلام قديمًا وحديثًا كما تؤكد سنة الابتلاء وتمييز الصادقين من الكاذبين، فهي تؤكد كذلك عظمة هذا الدين، وأنه صخرة شماء، غني عنهم، لكنهم هم الفقراء إلى عفو الله ورحمته، فإذا صلحت أحوالهم واستقامت أمورهم على شريعة الله فليبشروا ¬

(¬1) سورة الشورى، الآية: 30. (¬2) سورة الرعد، الآية: 11 (¬3) سورة محمد، الآية: 38. (¬4) سورة المائدة، الآية: 54.

بنصر الله تحقيقًا لوعد الله والله لا يخلف الميعاد {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون} (¬1). 6 - سادسًا- ويبقى بعد ذلك صنفان من الناس لهما أثر كبير في صلاح الناس واستقامتهم ألا وهم العلماء والأمراء، وحيث لا يزال الحديث متصلاً بأحداث التتر منع المسلمين، وللحديث بقية، فسأورد لكم في الخطبة القادمة بإذن الله بأن العلماء والأمراء لهم أثر كبير في استصلاح أوضاع المسلمين، ومن ثم تحقيق النصر المؤزر في وقعة عين جالوت على أعداء الدين. 7 - أيها المسلمون ويبقى سلاح الدعاء سهمًا نافذًا، وعدة ما لها من نفاد يملكها الفقراء كلما يملكها الأغنياء، وتشوي فيها الذكر والأنثى على حد سواء، ولا يعذر بها العامة فضلاً عن العلماء، فألحوا على الله بالدعاء بنصرة هذا الدين والتمكين للمؤمنين واظهروا لله الفاقة والتضرع والخشوع، وادعوه دعاء المضطر، لاسيما في مثل هذا اليوم الذي نصر الله فيه الحق على الباطل (يوم عاشوراء) وهو يوم الجمعة فيه ساعة تستجاب فيها الدعوة كما تعلمون .. وأنتم ومعظمكم لله صائمون وللصائم دعوة لا ترد. ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة .. فهو يجيبه المضطر إذ دعاه ويكشف السوء. ¬

(¬1) سورة الصافات، الآيات: 171 - 173.

عين جالوت بين جهاد الأمراء وإخلاص العلماء

عين جالوت بين جهاد الأمراء وإخلاص العلماء (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين أعز الإسلام بجهود العلماء المخلصين، ونصر الدين بجهاد الأمراء والسلاطين الصادقين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، كتب العزة والغلبة لعباده المتقين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام المتقين، وقائد المجاهدين الصادقين، اللهم صلّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن هذه الدار خلقت لتفنى، وأن الآخرة خير وأبقى. أيها المسلمون واستكمل الحديث عن غزو التتر لبلاد المسلمين، وأعرض لنماذج من مواقف العلماء والأمراء في غابر السنين وفي التاريخ عبرة للمعتبرين. وقبل هذا وذاك أعرض بإجمال لواقع الأمة الإسلامية في منتصف القرن السابع الهجري، وأؤكد أن أدواء الأمة من داخلها أخطر عليها وأشد من كيد أعدائها. فالتنازع والخصام بين المسلمين لأغراض الدنيا، والولاءات والتحالفات مع الخصوم الكفرة من أعظم أسباب الذل والهوان، ولا تنتصر الأمة المسلمة إذا قطعت أوصالها، وأصبح كل حزب بما لديهم فرحون، ولم يكن للمسلمين خليفة واحد يجمع شملهم، ويوحد كلمتهم، ويظهرهم صفًا واحدًا أمام أعدائهم. وقد كان للمسلمين- في هذه الفترة- نصيب من هذا. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 18/ 1/ 1416 هـ.

حتى قال ابن الأثير: فالسيف بين المسلمين مسلول، والفتنة قائمة على ساق (¬1). يقول الحافظ ابن كثير في بيان شيء من ذلك: استهلت سنة ثمان وخمسين وليس للناس خليفة. وملك العراقين وخراسان وغيرها بلاد المشرق لهولاكو خان ملك التتار، وسلطان ديار مصر الملك المظفر وسيف الدين قطز مملوك المعزّ أيبك التركماني، وسلطان دمشق وحلب الملك الناصر بن العزيز بن الظاهر، وبلاد الكرك والشوبك للملك المغيث بن العادل بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وهو حرب مع الناصر صاحب دمشق على المصريين، ومعهما الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، وقد عزموا على قتال المصريين وأخذ مصر منهم، وبينما الناس على تلك الحال دخل جيش التتر- صحبة ملكهم هولاكو- وجازوا الفرات على جسور عملوها، ووصلوا إلى حلب فحاصروها سبعة أيام ثم فتحوها بالأمان لأهلها، ثم غدروا بهم، وقتلوا منهم خلقا لا يعلمه إلا الله عز وجل، ونهبوا الأموال وسبوا النساء والأطفال، وجرى عليهم قريب مما جرى على أهل بغداد، وبقيت حلب كأنها حمار أجرب (¬2). إخوة الإيمان لم يصل التتر بلاد الشام إلا وقد عاثوا في الأرض فسادًا في العراق، ويكفي أن تعلم من مآسيهم في بغداد - حين أسقطوها وقتلوا الخليفة العباسي فيها (أنهم مالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أيامًا لا يظهرون، وكان الجماعة ¬

(¬1) الكامل 12/ 361. (¬2) كذا نقل الحافظ ابن كثير رحمه الله (البداية والنهاية 13/ 207).

من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منها إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطح حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة) (¬1). ولم ينج من هذه المذبحة الرهيبة أحد إلا أهل الذمّة من اليهود والنصارى، ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي- الذي ساهم في دخول التتر وحسن لهم القبيح وجنى على المسلمين السفه، وعلى أصحاب ملته من الرافضة، بل وعلى نفسه حيث راح في النهاية ضحية غدره وفجوره، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، والله المستعان. أيها المسلمون لم تكن المحالفات مع الكفار -مع عظيم أمرها- الداء الوحيد والسبب الأول والأخير لهزيمة المسلمين أمام جحافل التتار، بل انضاف إلى ذلك ضعف همة ملوك الإسلام عن الجهاد، وانشغالهم باللهو واللعب، وغفلتهم عما يراد بأمتهم، حتى قيل: إن التتر حين أحاطوا بدار الخلافة (بغداد) يرشقونها بالنبال من كل جانب، أصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وقد جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وفرع فزعًا شديدًا، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه، فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم) (¬2). وهذا ابن الأثير رحمه الله ينعي على الإسلام وأهله، ويصف أحوال ملوكه قبيل وفاته بسنتين ويقول معلقًا على أحداث سنة 628 هـ (ثمان وعشرين وستمائة ¬

(¬1) البداية والنهاية 13/ 192. (¬2) البداية والنهاية 13/ 190، 191.

هجرية) ما نصه: (فالله تعالى ينصر الإسلام نصرًا من عنده، فما نرى في ملوك الإسلام من له رغبة في الجهاد، ولا في نصرة الدين، بل كل منهم مقبل على لهوه ولعبه وظلم رعيته، وهذا أخوف عندي من العدو، قال تعالى: {واتقوا لمدة لا تصيبن الذي ظلموا منكم خاصة} (¬1). وفي محاولة من المؤرخين لتلمس أسباب نهاية الدولة العباسية يقول ابن كثير: ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد كما كانت بنو أمية إلى أن يقول: حتى لم يبق مع الخليفة العباسي إلا بغداد وبعض بلاد العراق، وذلك لضعف خلافتهم واشتغالهم بالشهوات وجمع الأموال في أكثر الأوقات (¬2). معاشر المسلمين لم تكن آثار هذا الضعف والهوان لتقف عند حدود بغداد أو حلب، بل قصد التتر دمشق بعد إسقاطهم عددًا من المدن قبلها وصاحب دمشق وحلب (الناصر) هو أكثر الأمراء الأيوبيين قوة واقتدارًا (¬3)، ومع ذلك سقطت دمشق دون مقاومة تذكر للتتر، وفي ظل التحالف والتآلف بين التتر والنصارى فقد عاث النصارى فسادًا في بلاد المسلمين، وطافوا ومعهم صليب محمول على رؤوس الناس، وهم ينادون بشعارهم ويقولون: «ظهر الدين الصحيح دين المسيح» ويذمون الإسلام وأهله، بل وفوق ذلك وزيادة في النكاية بالمسلمين كانوا يحصلون أواني الخمر لا يمرون على باب مسجد إلا رشوا عنده خمرًا، ومعهم قماقم ملأى بالخمر يرشون منها على وجوه الناس وثيابهم، ويأمرون كل من يجتازون به في الأزقة والأسواق أن يقوم لصليبهم وغضبًا لدين الله وغيرةً ¬

(¬1) الكامل 12/ 361، 497. (¬2) البداية والنهاية 13/ 195. (¬3) الخالدي، العالم الإسلامي والغزو المغولي ص 95.

على محارمه، ومع شدة التتر وقسوتهم وضعف المسلمين ومسكنتهم اجتمع قضاة المسلمين والشهود والفقهاء فدخلوا القلعة وشكوه إلى متسلمها من قبل التتر (أبل سيان) وكان معظمًا لدين النصارى- وما كان متوقع من هذا وأمثاله خيرًا، وقد كان، فقد طرد هؤلاء وأهانهم- لكنهم أدوا ما عليهم (¬1). وبإزاء هذه الظروف الصعبة، وفي مقابل هذا الهوان والذل المستشري من معظم ملوك الإسلام- في تلك الفترة- ينتصب الملك المظفر قطز يرحمه الله- للمهمة، ويعلن راية الجهاد خفاقة، ويستعين بالله، ويستشير العلماء ويدنيهم، وينصح للأمراء المتخاذلين ويحذرهم، ويحملهم مسؤولية حرمات المسلمين ويقول: (يا أمراء المسلمين لكم زمان وأنتم تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين) (¬2). وقطز هذا موصوف بالفروسية والشجاعة، وحسن السياسة ومتانة الديانة، محببًا للرعية كما يقول الذهبي (سير أعلام النبلاء 23/ 200) ويقول عنه ابن كثير: وكان رجلاً صالحًا كثير الصلاة في الجماعة ولا يتعاطى المسكر ولا شيئًا مما يتعاطاه الملوك (¬3). وقال في موضع آخر: وقد كان قطز شجاعًا بطلًا كثير الخير ناصحًا للإسلام وأهله، وكان الناس يحبونه ويدعون له كثيرًا (¬4). ¬

(¬1) البداية والنهاية 13/ 208، 209. (¬2) الخالدي، العالم الإسلامي والغزو المغولي/ 99. (¬3) البداية 13/ 211. (¬4) المصدر السابق 13/ 214.

نعم إخوة الإسلام بالصلاح والتقى، والنصح للإسلام بالجهر والخفاء والقيام بحقوق الرعية ظاهرًا وباطنًا، تحب الرعية الراعي، ويسود المجتمع الودّ والصفاء، وذلكم خيار الأمراء، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» (¬1). اللهم أصلح رعايا المسلمين ورعاتهم وألف بين قلوبهم، واجمع على الحق كلمتهم، اللهم أبطل كيد الكافرين، واهتك ستار المنافقين، وانصر عبادك الصالحين، أقول هذا وأستغفر الله ... ¬

(¬1) الحديث رواه مسلم في صحيحه، انظر صحيح الجامع الصغير 3/ 118.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ينزل النصر على من يستحق النصر من عباده في ربوبيته وإلاهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى سائر المرسلين، وعلى الآل الطيبين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد إخوة الإسلام ففي العشر الأخير من رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة للهجرة كانت وقعة عين جالوت الشهيرة التي أعز الله بها الإسلام ونصر المسلمين، وكبت اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين، وظهر دين الله وهم كارهون، وكان وراء هذا النصر- بعد توفيق الله وتسديده- همم عالية تمثلها قطز ومن معه من الأجناد الصادقين، ونصح وإخلاص وحض على الجهاد والتضحية من قبل العلماء والمخلصين. أما الأمراء فقدوتهم الملك المظفر قطز الذي بادر التتر قبل أن يبادروه، وحين علم ما صنعوا بالشام المحروسة عزم على غزوهم قبل أن يغزوه، وأشاع في القادة روح الجهاد ونصحهم عن التقاعس وحمّلهم مسؤولية ضياع البلاد وهلاك العباد، ولم يكن مجيدًا للغة الخطاب دون لغة الحسام، ولم يكن من أهل الريب والنفاق بل كانت شجاعته ظاهرة وأهدافه سامية- كذلك نحسبه ويحسبه المؤرخون والله حسيبنا وإياه، ولا نزكي على الله أحدًا. ذكر عنه أنه لما كان يوم المعركة بعين جالوت قتل جواده ولم يجد أحدًا في الساعة الراهنة من الوشاقية الذين معهم النجائب فترجل وبقي واقفًا على الأرض ثابتًا، والقتال عمال في المعركة وهو في موضع السلطان من القلب، فلما رآه بعض الأمراء

ترجل عن فرسه وحلف على السلطان ليركبنها، فامتنع وقال لذلك الأمير: ما كنت لأحرم المسلمين نفعك، ولم يزل كذلك حتى جاءته الوشاقية بالخيل فركب، فلامه بعض الأمراء، وقال: لم لا ركبت فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك وهلك الإسلام بسببك؟ فقال- رحمه الله - أما أنا فكنت أروح إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، قد قتل فلان وفلان وفلان حتى عدّ خلقًا من الملوك، فأقام للإسلام من يحفظه غيرهم، ولم يضع الإسلام (¬1). ويقول الذهبي ويذكر عنه أنه يوم عين جالوت لما رأى انكشافًا في المسلمين رمى عن رأسه الخوذة وحمل، ونزل النصر (¬2). وكان رحمه الله يستنزل النصر من الله وحده، ويتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم في وقت القتال، وينتظر دعاء المسلمين، وقد نقل عنه أنه حين رأى عصائب التتار قال للأمراء والجيوش الذين معه: (لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس وتفيء الظلال، وتهب رياح النصر، ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم) (¬3). وكانت المعركة يوم الجمعة ذلكم توكل على الله حميد، وإدراك واع لقيمة الزمن فريد، وتأس مشروع بخير البشر عليه الصلاة والسلام. وحين صدق المجاهدون وتوفرت أسباب النصر أنزله الله النصر وأقر به أعين المسلمين، وقتل من قتل، وأسر خلق من الروم، وكان قائد التتر ونائب هولاكو على بلاد الشام «كتبغا نوين» وجماعة من أهل بيته في عداد (¬4). وظل قطز متصلاً بربه شاكرًا أنعمه، فهو حين تحقق من قتل (كتبغا) خر لله ¬

(¬1) البداية والنهاية 13/ 214. (¬2) السير 23/ 201. (¬3) البداية والنهاية 13/ 215. (¬4) المصدر السابق 13/ 215.

ساجدًا ثم قال: (أنام طيبًا، كان هذا سعادة التتار وبقتله ذهب سعدهم)، قال ابن كثير: وهكذا كان كما قال، ولم يفلحوا بعده أبدًا (¬1). يا أمة الإسلام إذا كان هذا بعضًا من جهاد وصدق الأمراء، فإليكم نموذجًا من صدق وإخلاص العلماء في محنة التتر- فوق ما سلفه فحين فكر السلطان «قطز» بجمع الأموال من الناس ليصرف منها على الجهاد والمجاهدين طلب رأي العلماء فتحدثوا، وكان من بين هؤلاء العز بن عبد السلام يرحمه الله- وكانت العمدة على ما يقوله العز- كما نقل الحافظ ابن كثير: وكان حاصل كلامه أنه قال: (إذا لم يبق في بيت المال شيء، ثم أنفقتم أموال الحوائض المذهبة وغيرها من الفضة والزينة، وتساويتم أنتم والعامة في الملابس سوى آلات الحرب بحيث لم يبق للجندي سوى فرسه التي يركبها، ساغ للحاكم حينئذ أخذ شيء من أموال الناس في دفع الأعداء عنهم، لأنه إذا دهم العدو البلاد وجب على الناس كافة دفعهم بأموالهم وأنفسهم) (¬2). قال الخالدي: (وقد تقبل السلطان المؤمن هذه النصيحة بقبول حسن، فأمر جميع الأمراء من المماليك بجمع ما لديهم ففعلوا، عند ذلك تسابق المسلمون إلى المشاركة بكل ما يملكون من أموال وأنفس، لأنهم رأوا قيادتهم تضرب لهم المثل الأعلى في البذل والفداء) (¬3). وإذا أفلح هذا السلطان مع هذا العالم في إنقاذ البلاد والعباد حين كان التشاور والتناصح ومصلحة المسلمين رائدهما، فقد كان للعز موقف آخر مع ¬

(¬1) البداية 13/ 210، 216. (¬2) البداية والنهاية (¬3) العالم الإسلامي والغزو المغولي/ الخالدي/ 106، 107.

سلطان آخر ألا وهو الصالح إسماعيل الذي أخرج العز من الشام بسبب إنكاره عليه تسليم (صغد، والثقيف) إلى الفرنج، وأخرج معه كذلك العالم أبا عمر بن الحاجب المالكي، فقصد أبو عمر صاحب الكرك فأكرمه، وقصد العز صاحب مصر فأكرمه، وولاه قضاء مصر وخطابة الجامع العتيق، ثم انتزعهما منه وأقره على تدريس الصالحية (¬1). حتى تولى قطز أمر مصر فصار ما صار مع من استشاره العز في عين جالوت. ألا ما أحوج المسلمين إلى قراءة تاريخهم والاستفادة من أحداثه وعبره، ويوم يُقرأ التاريخ بتجرد فستكون تجارب السابقين رصيدًا يستفيد منه اللاحقون، وسوف تكون أحداث التأريخ ومروياته مادةً يجمع الله بها شمل المسلمين، ويوم أن تصح النوايا، وتصبح الحاكمية المطلقة لشرع الله في الأرض يسود المسلمون وتسلم ديارهم من نهب المعتدين، وتتهاوى بإذن الله مخططات الكافرين والمنافقين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ¬

(¬1) كذلك ساق الخبر ابن كثير في البداية والنهاية 13/ 223.

(1) حصائد الألسن

(1) حصائد الألسن (¬1) الخطبة الأولى إن الله نحمده ونستعينه ونستغفره .. أيها الإخوة المسلمون .. عن حصائد الألسن، وآفاتها الخطيرة، وغوائلها المهلكة حديث من الأهمية بمكان، وهي لكثرتها ربما لا يحس الناس بها أو يقدرون خطر بعضها دون البعض الآخر. أما العارفون فقد عدوا اللسان عشرين آفة، يتعامل الخلق بها كلها لكن ما بين مقل ومستكثر، وما بين محتاط مقتصد فيما يقول، وبين متعد مفرط يرى أنه ما دام بإمكان لسانه أن يتحرك فلا عليه أن يطلقه، حتى ولو كان ذلك الإطلاق على حساب دينه وكرمه ومروءته، وليت هؤلاء بل ليتنا جميعًا نفقه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم «من صمت نجا» (¬2) إذ لا نجاة لمن لا يحسن استخدام اللسان بالمعروف إلا بالصمت، ولا شك أن الصمت يحتاج إلى مجاهدة نفس وطول مران، لكن الكف عن الشرور والآثام طريق موصل إلى الله وجنته، فهذا أعرابي- كما في حديث البراء ابن عازب رضي الله عنهما- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يدخلني الجنة قال: «أطعم الجائع واسق الظمآن، وأمر بالمعروف وأنه عن النكر، فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير» (¬3). إخوة الإسلام .. فهذه الآفات العشرون للسان تختلف في حريتها، وتتفاوت في ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 21/ 5/ 1414 هـ. (¬2) رواه الطبراني بسند جيد (إحياء علوم الدين 5 - 8/ 1537. (¬3) الحديث رواه ابن أبي الدنيا بإسناد جيد (المصدر السابق/ 1541).

عقوباتها، لكن بعضها يجر إلى بعض، وإذا تجاوز اللسان آفة سهل عليه مقارفة الآفة الأخرى، وهكذا يكون للسان نصيب من هذه الآفات لها فيهلكه لسانه. تعالوا بنا معاشر المسلمين نتذكر هذه الآفات مبتدئين بأخفها ومترقين إلى الأغلظ قليلاً، ونؤخر الكلام في الغيبة النميمة والكذب، فإن النظر فيها أطول، والعقاب فيها أشد. وأوصي نفسي والسامعين- ونحن نستمع لهذه الآفات - أن نحاكم واقعنا إليها، وأن نحاسب أنفسنا على ضوئها، فتلك ثمرة المواعظ والخطب، وتلك صفات المؤمنين الذي يستمعون القول فيتبعون أحسنه، الذين قالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير أولئك الذين هدى الله وأولئك هم أولو الألباب. وأول هذه الآفات اللسان: الكلام فيما لا يعني المتكلم إذ هو ضياع للعمر والوقت فيما لا فائدة فيه، وهل هناك أغلى على الإنسان من وقته وعمره، وفوق بين من يزرع بكل كلمة يقولها شجرة له في الجنة وبين من يجني الأشواك على نفسه بسبب كثرة كلام لا فائدة فيه، وربما جره إلى مكروه أو حرم. قال العلماء: وحد الكلام أن تتكلم بكلام لو سكت عنه لم تأثم، ولم تستضر به في حال ولا مال (¬1). فإذا علمت هذا فاعلم أن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. وتأمل هذه النصيحة من حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقد روى عنه مجاهد -رحمه الله- قال: سمعت ابن عباس يقول: خمس لمن أحب إلى من الدهم الموقوفة -وهي العدد الكثير من الإبل أو الخيل-: لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنه ¬

(¬1) المصدر السابق 5 - 8/ 1546.

فضل، ولا آمن عليك الوزر، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعًا، فإنه رب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت، ولا تمار حليمًا ولا سفيهًا فإن الحليم يقلبك والسفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به واعفه مما تحب أن يعفيك منه، وعامل أخاك بما تحب أن يعاملك به، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالإجرام (¬1). الآفة الثانية من آفات اللسان فضول الكلام، ويتناول الخوض فيما لا يعني، والزيادة فيما يعني على قدر الحاجة، فمن أنهى مقصوده بكلمة، فالكلمة الثانية فضول .. فكيف بمن يتحدث الساعات الطوال بكلام فضول؟ والحق تبارك وتعالى يقول {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} (¬2). ولا شك أن فضول الكلام يجر إلى مزالق ومخاطر وكان عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- يقول: إنه ليمنعني من كثير فضول الكلام، وفضول المال (¬3). أيها المؤمنون إذا كان هذا في شأن فضول الكلام وما لا يعني فلا تعجبوا إن رأيتم ثلة من الصالحين يندر حديثهم ويقل خلطتهم للناس إلا بخير وما بهم من علة لكنه الفقه في الدين، والاستحضار الدائم للعرض على رب العالمين، والبكاء على الخطايا ورجاء التكفير، ولهؤلاء وأمثالهم تزف البشرى فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته» (¬4). ¬

(¬1) المصدر السابق/ 1545. (¬2) سورة النساء، الآية: 114 (موعظة المؤمنين 2/ 208). (¬3) الإحياء 5 - 8/ 1549. (¬4) حديث حسن رواه الطبراني في الصغير، وأبو نعيم في الحلية (صحيح الجامع 4/ 14).

الآفة الثالثة: الخوض في الباطل وهو الكلام في المعاصي كحكاية أحوال النساء، ومجالس الخمر، ومقامات الفساق وتكبر الجبابرة ومراسمهم المذمومة. إلى غير ذلك من الخوض في الباطل، والخليق بالمسلم أن يرفع نفسه عن الدنايا، وما يكون سببًا لاقتراف المحرمات أما أهل النار فيعترفون أن خوضهم في الباطل من أسباب دخولهم النار {ما سلككم في سقر؟ قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين} (¬1). الآفة الرابعة: المراء والجدل، وهو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه، إما في اللفظ، وإما في المعنى، وإما في قصد المتكلم. وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض، فكل كلام سمعته فإن كان حقًا فصدق به، وإن كلام باطلاً أو كذبًا ولم يكن متعلقًا بأمور الدين فاسكت عنه (¬2). فإياك أخي المسلم والمراء والجدل فهما مظنة للضغائن والأحقاد، وقساوة القلوب وتنافرها، وحضور الشياطين وانفلات زمام الألسن، وربما تكلم الإنسان في تلك الحال بكلام ندم عليه، لكنه كان يرغب الانتصار به على من يماري ليس إلا. إخوة الإسلام ليس الإحجام عن المراء، أو الصمت حين تتطاول ألسنة الآخرين نوعًا من الضعف والهزيمة كلا .. وإن بدا ذلك لضعاف العقول. بل هو نوع من التعقل والحكمة وضبط للنفس حين تتأزم وقلة هم الرجال الذي يملكون أنفسهم عند الغضب، وليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب - كلما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام. ¬

(¬1) سورة المدثر، الآيات: 42 - 45. (موعظة المؤمنين 2/ 208، 209). (¬2) الإحياء 9 - 12/ 1554.

ويكفي أن يتصور المسلم ما أعده الله لمن ترك المراء وإن كان محقًا من الأجر والمغنم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك الراء وإن كان محقًا، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وأن كان مازحًا، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه» (¬1). الآفة الخامسة: الخصومة بالباطل، وهي وراء الجدل والمراء لأنها مدعاة لأكل أموال الناس بالباطل، أو على الأقل فيها اعتداء على الأعراض وإثارة لمشاعرهم مما يستوجب الحقد والبغضاء بين المسلمين. قال الله تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام} (¬2). وهل علمت أخي المسلم «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (¬3). والألد هو الأعوج، قال تعالى {وتنذر به قومًا لُدًّا} أي عوجًا (¬4). فاحذروا المراء ودعوا الخصومات بالباطل، فإن ذلك أسلم لدينكم وأصلح لدنياكم. الآفة السادسة: التقعر في الكلام، وهو التشدق وتكلف السجع والفصاحة والتصنع فيه، فإنه من التكلف الممقوت إذ ينبغي أن يقتصر في كل شيء على مقصوده، ومقصود الكلام التفهيم، وما زال عنه يقصد إظهار الفصاحة لا ينبغي إلا ما دخل في تحسين ألفاظ التذكير والخطابة لغرض التأثير واختيار الألفاظ الحسنة لدواعي القبول فذلك يختلف عن المنهي عنه. ¬

(¬1) حديث صحيح رواه أبو داود وغيره: رياض الصالحين/ 264، صحيح الجامع 2/ 17. (¬2) سورة البقرة، الآية: 204. (¬3) رواه البخاري انظر تفسير ابن كثير 1/ 360. (¬4) تفسير ابن كثير 1/ 160.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوًا مبينًا} (¬1). ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 53.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين أمر عباده بالحسنى فقال: {وقولوا للناس حسنًا} ونهى عن الفحشاء في الأقوال والأفعال ما ظهر منها وما بطن، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له يحب التوابين ويحب المتطهرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أزكى البشر خلقًا وأعفهم لسانًا. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه المرسلين، وعلى آله وصحابته والتابعين ومن تبعهم وسار على هداهم إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد .. إخوة الإسلام، فإن الآفة السابعة من آفات اللسان: الفحش والسب وبذاءة اللسان، وحد الفحش هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة (¬1). ومن أدب الإسلام ومن كمال مروءة المسلم أن يكني عنها، ويذكرها بعبارات أو رموز تفهم المقصود دون ذكر للفظ المستكره الفاحش، والرسول صلى الله عليه وسلم- وهو قدوة الخلق جاء في صفته- أنه لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا ولا صخابًا في الأسواق (¬2). أما السب فلا ينبغي أن يصدر من المسلم لأي بشر كان، فإن كلام مسلمًا فقد جاء في الحديث أن «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» وإن كان غير ذلك فلا يزيده السب إلا عتوًا وإعراضًا والله تعالى يقول {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (¬3) والمسلم طاهر اللسان عفيف ¬

(¬1) الإحياء/ 1563. (¬2) مختصر شمائل الترمذي/ الألباني/ 182. (¬3) سورة النحل، الآية: 125.

القول بعيد عن البذاءة وإيذاء الخلق باللسان، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسم المنهج في تعامل المسلم مع غيره، ويقول للرجل الذي جاءه يقول: أوصني يا رسول الله: فقال: «عليك بتقوى الله، وإن امرؤ عيرك بشيء يعلمه فيك فلا تعيره بشيء تعلمه فيه، يكن وباله عليه وأجره لك، ولا تسبن شيئًا» قال الرجل: فما سببت شيئًا بعده (¬1). أخي المسلم أختي المسلمة، والآفة الثامنة آفة اللعن وما أسهلها عند بعض الناس، وما أكثرها على ألسنة بعض العوام، سواء كان اللعن لإنسان أو حيوان أو حمار، والمؤمن- كما جاء في الحديث- ليس بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذي (¬2) وهل يرضى أحد لنفسه أن يبعد يوم القيامة عن الشفاعة والشهادة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول «لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة» (¬3) - وحتى تعلموا أثر اللعن للحيوان فضلاً عن الإنسان أسوق لكم هذه الحادثة التي وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي بردة الأسلمي رضي الله عنه قال: بينما جارية على ناقة عليها بعض متاع القوم إذ بصرت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتضايق بهم الجبل، فقالت حَل اللهم العنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تصاحبنا ناقة فيها لعنة» (¬4) فتأملوا معاشر المسلمين في هذه النصوص وكفوا ألسنتكم عن السب والشتم واللعن، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة، وأدبوا أولادكم وأهليكم بأدب الإسلام. ¬

(¬1) الحديث رواه أحمد والطبراني بسند جيد، الإحياء/ 1563. (¬2) حديث صحيح رواه أحمد والترمذي وغيرهما صحيح الجامع 5/ 899، رياض الصالحين/ 501. (¬3) الحديث رواه مسلم (رياض الصالحين/ 501). (¬4) رواه مسلم، رياض الصالحين/ 502.

الآفة التاسعة الغناء والشعر المذموم. وهذا وربي يحتاج إلى كلام طويل نظرًا لافتتان الناس به وكثرة رواجه، سواء بقوله أو الاستماع إليه، ولاسيما رديء الكلام وسواقط العبارات والتشبب بالنساء، ومغازلة الحبيب والبكاء على الحبيبة، وما شابه ذلك من عبارات الحب والغرام التي لا يكاد يخرج عنها غناء اليوم، وهل يستحمل واقع المسلمين اليوم مثل هذه العبارات والمئات منهم يموتون جوعًا، وأفواج أخرى تموت تحت مطارق المجرمين، وفي مكان ثالث تغتصب النساء وتشرد الأطفال، وتهدم البيوت والمساجد، وتخد الأخاديد وتحفر القبور الجماعية للمسلمين أفيسوغ لنا أن نلهو ونعبث ونبكي على الحبيبة والحبيب، وتلك حال إخواننا المسلمين .. حتى ولو كان النصر حليفنا والعزة والتمكين شعارنا فما ينبغي أن نقترف ما حرم الله، وهناك رسائل عدة ألفها العلماء في تحريم الغناء ليس هذا موضع بسطها- ويكفي هنا أن أشير إلى قوله تعالى: {ومن الناس من يتخذ لهو الحديث ليضل عن سبيل الله} (¬1) وكالة بعض الصحابة يقسم ثلاثًا: والله إن لهو الحديث لهو الغناء. ويكفي لذلك أن نذكر بالحديث الصحيح الذي رواه البخاري في حرمة الغناء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يستحل قوم من أمتي الحر والحرير والمعازف» .. الحديث. والنص واضح في حرمتها لكن هناك من يستحلونها .. فتنبهوا لذلك معاشر المسلمين، وتوبوا إلى ربكم توبة نصوحًا وترفعوا عن الدنايا ترشدوا. أيها المسلمون هذه طائفة من حصائد الألسن وآفاتها، وهناك آفات غيرها .. وسيتبع الحديث عنها بإذن الله- والسعيد من استفاد من يومه لغده/ والعاقل من استبرأ لدينه وعرضه، والمؤمن من آمن بما جاء من عند الله، وصدق وامتثل ما ¬

(¬1) سورة لقمان، الآية: 6.

قاله رسول الله، جعلني الله وإياكم من المؤمنين المصدقين .. وسلك بنا طريقه المستقيم، وعصمنا من مضلات الفتن. هذا وصلوا

(2) حصائد الألسن

(2) حصائد الألسن (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ... إخوة الإسلام لست بمستكثر إطالة الحديث عن حصائد الألسن، وذلك لكثرتها في واقع الناس من جانب، وغفلتهم عن آثارها من جانب آخر، ولأن اللسان- غالبًا- ترجمان للجوارح، فمن كان قلبه طاهرًا نقيًا لم يتفوه لسانه إلا بخير، ومن كان قلبه دون ذلك كشفه لسانه وفضحه على رؤوس الأشهاد، مثل فضيحة يوم المعاد، وهكذا الشأن في العينين والأذنين والىدين والرجلين، فهي جوارح متحركة، واللسان معبر عن حركاتها. وحيث سبق الحديث عن أنواع من آفات وحصائد الألسن، فنستكمل اليوم آفات أخر .. ومنها: كثرة المزاح والمداومة عليه، لأنه نوع من الغفلة عن الآخرة وتزجية للوقف بما لا ينفع، فضلاً عن كونه مفضيًا لكثرة الضحك، وكثرة الضحك تميت القلب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا» (¬2). وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه (¬3). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 28/ 5/ 1414 هـ. (¬2) متفق عليه (¬3) الإحياء 9/ 1572.

وليس بغائب عن ذهنك- يا أخا الإسلام- أن قليل المزاح مشروع، بل هو سنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم لكن بقدر وبضوابط الشرع. فالصدق شرط للمزاح، والعفة هي الأخرى قيد في المزاح فمن الناس من يبيح لنفسه- حال المزاح- فعل المحرم إما بقول أو فعل، وكل ذلك لا يجوز شرعًا، ولا يسوِّغه كون صاحبه مازحًا. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يمزح أحيانًا ويداعب الآخرين، لكنه لا يقول ولا يفعل إلا الحق، وربما هدف من مزاحه إلى إدخال السرور على من يمازح، وأحيانًا يهدف من مزاحه إلى الدعوة للإسلام والترغيب في الإيمان، وهاك نموذجًا يؤكد ما أقول: فقد روى الطبراني في الكبير بسند رجاله ثقات: أن خوات بن جبير الأنصاري رضي الله عنه كان جالسًا إلى نسوة من بني كعب بطريق مكة، طلع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا عبد الله مالك مع النسوة؟ فقال: يفتلن ضفيرًا لجما لي شرود، قال فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته، ثم عاد، فقال: يا أبا عبد الله: أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد؟ قال: فسكتُّ واستحييت، وكنت بعد ذلك أتفرر منه كلما رأيته حياءً منه، حتى قدمت المدينة، فرآني يومًا في المسجد أصلي، فجلس إليّ فطولت فقال: لا تطول فإني أنتظرك، فلما سلمت قال: يا أبا عبد الله أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد؟ قال: فسكت واستحييت فقام، وكنت بعد ذلك أتفرر منه حتى لحقني يومًا وهو على حمار- وقد جعل رجليه في شقّ واحد فقال: يا أبا عبد الله أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد؟ فقلت: والذي بعثك بالحق ما شرد منذ أسلمت فقال: الله أكبر الله أكبر، اللهم اهد أبا عبد الله، قال: فحسن إسلامه وهداه الله» (¬1). ¬

(¬1) الإحياء للغزالي 9/ 1576.

وهذا يدلك على كريم خلقه صلى الله عليه وسلم وطيب معشره، وممازحته لأصحابه، وليست ذلك إلا نموذجًا من نماذج مزاحه عليه الصلاة والسلام وهي مشعرة بأن هذا الدين لا تعقيد فيه ولا تعبيس، ولا يراد لأتباعه أن يكونوا متبلدي الإحساس، ثقال النفوس، ولكنها مشعرة في الوقت نفسه بضوابط وحدود المزاح، ومن أعظم ما ينبغي التنبيه عليه في المزاح التفوه بكلمات بذيئة سيئة يريد صاحبها إضحاك القوم بها، فهذه ينبغي الحذر منها، والإنكار على قائلها وتذكيره بقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن العبد يتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يعني يتفكر في أنها خير أم لا- يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب» (¬1). وينبغي كذلك ألا يزيد المزاح عن الحد فينقلب إلى الضد، وألا يتجاوز القول الحق إلى القول المنكر، أو يتجاوز اللسان كثيرًا إلى بقية الجوارح والأركان .. فذلك كله مدعاة للتنافر والبغضاء وجالب للحزازات والقطيعة بين الأخلاء. أيها المؤمنون .. ومن حصائد الألسن السخرية والاستهزاء، وتلك قاصمة الظهر مثيرة الأحقاد، ومدعاة للمخيلة والاحتقار، وما يدريك أيها المستهزئ أن من استهزأت به خير مقامًا منك عند الله وأرفع ذكرًا، وهلا وقفت أيها المستهزئ متأملاً في كتاب الله، ومستمعًا إلى توجيه الله، وهو يقول {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن} (¬2). ¬

(¬1) الحديث متفق عليه، الأذكار للنووي / 285. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 11.

فإن كنت أقل ممن استهزأت به أفلا يكفيك التأمل في عيوب نفسك وإصلاحها قبل انتقاد الآخرين والاستهزاء بهم، وإن كنت خيرًا فما ذاك صنيع الشاكرين، ولست بآمن أن يسلخك الله ما أعطاك، ويمنح غيرك ما كان بك من نعمة، فاشكر الله على النعماء وإياك إياك والسخرية والاستهزاء، وتفطن دائمًا وأبدًا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم « ... المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا- ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» (¬1) قال الإمام النووي: ما أعظم نفع هذا الحديث وأكثر فوائده لمن تدبره (¬2). ولا يفوتك- أخي المسلم- أن الاستهزاء ربما كان بكلمة، أو نظرة، أو محاكاة أو إشارة أو إيماء، والأصل في ذلك كله ما يجول في القلب، فطهر قلبك من احتقار المسلمين والتقليل من شأنهم، وإياك والعجب بنفسك فإن العجب مهلكة، وجاهد نفسك على فعل الخير ودفع الشر ما أمكنك ذلك. إخوة الإسلام ... ومن حصائد الألسن الوعد الكاذب، إذ اللسان سباق إلى الوعد والنفس ربما لا تسمح بالوفاء، فيصير الوعد خلفًا، وذلك من أمارات النفاق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان» (¬3). وما أكثر ما يتسامح بعض الناس بالوعود، ويخلفون الميعاد دون عذر شرعي يخولهم لذلك .. وتلك آفة .. بل مرض خليق بالمسلم أن يعالج نفسه عن الوقوع فيه، وهو مدعاة لضياع الحقوق أحيانًا، ولضياع الأوقات على الآخرين ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) الأذكار/ 301. (¬3) متفق عليه، انظر صحيح الجامع الصغير 3/ 66.

أحيانا أخرى، وموجب للسخط والبغضاء في أحيان ثالثة .. وهل علمت أيها المسلم أن الوفاء بالعقود من صفات المؤمنين، والله تعالى يقول {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} (¬1) وهل علمت أن الوفاء بالوعد كلام ومروءة، وأن الخلف في المواعيد بخل بالجاه أو بالمال أو بالوقت وكلها مذمومة، وهو استخفاف بالآخرين لا مبرر له. وإليك نموذجًا من الوفاء لو لم تستطع الكرماء الوفاء به إلا على فراش الموت لفعلوا، فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حين حضرته الوفاة قال: إنه كان خطب إلي ابنتي رجل من قريش، وقد كان مني إليه شبه الوعد، فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق، أشهدكم أني قد زوجته ابنتي» (¬2). إخوة الإيمان .. وثمة آفة من آفات اللسان ينبغي التنبه لها، ألا وهي كثرة المدح في الوجه، وهي مهلكة للمادح والممدوح خاصة إذا كان الممدوح أقل مما امتدح به، أما المادح فهي تفضي به إلى الكذب، وقد قال خالد بن معدان- رحمه الله- من مدح إمامًا أو أحدًا بما ليس فيه على رؤوس الأشهاد بعثه الله يوم القيامة يتعثر بلسانه (¬3). وقد يفضي به المدح الكاذب إلى الرياء، فإنه بالمدح مظهر للحب وقد لا يكون معتقدًا لكل ما يقوله فيصير بذلك مرائيًا منافقًا، إلا أن يكون لذلك ضرورة أو مقصد شرعي طيب فتلك تقدر بقدرها. والمدح الكاذب له أثره السيء على الممدوح، فقد يؤدي به إلى الكبر والعجب وقد يقعد به عن العمل والتشمير في ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 1. (¬2) الإحياء 9/ 1580. (¬3) الإحياء 9/ 1627.

الجد. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام لرجل مدح رجلاً عنده: «ويحك قطعت عنق صاحبك لو سمعها ها أفلح» (¬1) وفي لفظ: «ويلك قطعت عنق صاحبك، من كان منكم مادحًا أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانًا والله حسيبه، ولا أزكى على الله أحدًا، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه» (¬2). ولما في المدح من آفات، قال أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «المدح هو الذبح، وذلك لأن الممدوح هو الذي يفتر عن العمل، والمدح يوجب الفتور، أو لأن المدح يورث العجب والكبر وهذا مهلكان كالذبح فلذلك شبهه به» (¬3). ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب» (¬4). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { .. وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} (¬5). ¬

(¬1) متفق عليه، الإحياء 9/ 1627. (¬2) متفق عليه، صحيح الجامع الصغير 6/ 114 (¬3) الإحياء 9/ 1629. (¬4) الحديث رواه أحمد ومسلم وغيرهما، صحيح الجامع الصغير 1/ 215. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 152.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد ألا إله إلا الله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه .. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فأصل بكم معشر الإخوة بعد ذكر عدد من آفات وحصائد الألسن إلى آفة عظيمة هي في عداد قبائح الذنوب وفواحش العيوب .. ألا وهي الكذب الذي سرى في هذا الزمان سريان النار في الهشيم، وابتليت به العامة والخاصة إلا من رحم الله، وأصبحت له مؤسسات وأجهزة تنشره وتصبغ الناس بصبغته، وتصيبهم من أثره .. ألا وهي وسائل الإعلام، ووكالات الأنباء .. التي يمتلك الجزء الأكبر منها أمم وشعوب كافرة، لا تصدر للأمم المسلمة من الأخبار إلا ما تريد .. فتتلقفها الوكالات الأخرى غافلة عن مصدرها، ومتأثرة في الغالب بما جاء فيها .. فتختلط الحقائق بالأباطيل، ويروج الكذب، وتذوب القيم، ويمدح الفجار وتعلى مكانتهم، ويشهّر بالأخيار ويوصمون بالنقيصة والتطرف أو غيرها من رديء العبارات وسوء الألقاب .. وما ربك بغافل عما يعملون، حتى لقد سئم الناس هذه العبارات، وربما أدرك بعضهم السر من ورائها، وعلموا أنها وسيلة لإطفاء نور الله، وتعبير عن الحسرة التي قطعت قلوب الكفار والمنافقين، وهم يرون الإسلام ينتفض من جديد، ويرون المسلمين يعودون إلى ربهم في كل صقع من أصقاع المعمورة، وهو نور الله يملأ الوجود، وهل تستطيع قوة أن تطفئ نور الله {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} (¬1) ألا إنها الحماقة والسفه ليس إلا. ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 32.

إخوة الإسلام للكذب آثاره وغوائله السيئة، وقد خطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي هذا عام أول ثم بكى، وقال: «إياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار» (¬1) والكذبة يعذبون في قبورهم قبل يوم القيامة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «رأيت كأن رجلاً جاءني فقال لي: قم. فقمت معه، فإذا أنا برجلين، أحدهما قائم والآخر جالس، بيد القائم كلوب من حديد يلقمه في شدق الجالس فيجذبه حتى يبلغ كاهله، ثم يجذ به فيلقمه الجانب الآخر فيمده فإذا مده رجع الآخر كما كان، فقلت للذي أقامني: ما هذا؟ فقال هذا رجل كذاب، يعذب في قبره إلى يوم القيامة» (¬2). إخوة الإسلام ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر من الكذب حتى جعله طريقًا إلى النار وقال: «إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما زال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا». ولهذا وغيره من آثار الكذب السيئة، لم يكن شيء أشد على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «ما كان من خلق أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع على الرجل من أصحابه على الكذب فما ينجلي من صدره حتى يعلم أنه قد أحدث توبة لله عز وجل منها» (¬3). فاحذروا الكذب معاشر المسلمين واصدقوا التوبة مما بدر منكم يغفر الله لكم، واعلم أخي المسلم أن الصدق أمانة والكذب خيانة، واحذر أن تحدث ¬

(¬1) الحديث رواه ابن ماجه والنسائي وإسناده حسن، الإحياء 9/ 1582. (¬2) بيت طويل رواه البخاري في صحيحه، الإحياء 9/ 1584. (¬3) (رواه أحمد وغيره ورجاله ثقات، الإحياء 9/ 1586.

أخاك المسلم بحديث هو لك به مصدق وأنت به كاذب، فقد جاء في الخبر «كبرت خيانةً أن تحدث أخاك حديثًا هو لك به مصدق وأنت له كاذب» (¬1). ولا تحقرون من الكذب شيئًا، ولا تعودن لسانك حتى على اليسير منه، وهل علمت أنك إذا استدعيت غلامك أو جاريتك، وقلت: تعال أعطك. ولم تعطه شيئًا كتبت عليك كذبة، فهذا عبد الله بن عامر رضي الله عنه يحدث ويقول جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتنا وأنا صبي صغير فذهبت لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله تعال حتى أعطيك، فقال صلى الله عليه وسلم: وما أردت أن تعطيه؟ قالت: تمرًا، فقال: «أما إنك لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة» (¬2). وكلما تعاظم الكذب أو صدر مما لا ينبغي صدوره منه كان الوعيد أشد، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر» (¬3). أيها المسلمون هناك نصوص كثيرة وآثار عظيمة تبين لك آثار الكذب، وتحذر منه، يجدها في مظانها من أراد البحث عنها، وإنما أردت الإشارة إلى بعضها. ويبقى الاستثناء في الكذب الذي أبيح للمسلم أن يفعله، وقد حدده الشرع المطهر كما في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين أو قال بين الناس فيقول خيرًا أو ينمى خيرًا» (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود من حديث سفيان بن أسيد، وضعفه ابن عدي، ورواه أحمد والطبرانى من حديث النواس له سمعان بإسناد جيد، انظر الإحياء 9/ 1582، جامع الأصول 10/ 600. (¬2) رواه أبو داود والحاكم ورجال الحديث ثقات، الإحياء 9/ 1585. (¬3) الحديث رواه مسلم وفيه: والإمام الكذاب، الإحياء 9/ 1585. (¬4) رواه البخاري ومسلم.

وزاد مسلم عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها قالت: «ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: يعي الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل زوجته، وحديث المرأة زوجها» (¬1). قال الإمام النووي رحمه الله- فهذا الحديث صريح في إباحة بعض الكذب للمصلحة، وقد ضبط العلماء ما يباح منه، وأحسن ما رأيته في ضبطه ما ذكره الإمام الغزالي رحمه الله فقد قال: الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعًا فالكذب فيه حرام لعدم الحاجة إليه، وإن أمكن التوصيل إليه بالكذب ولم يمكن بالصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحًا، وواجب إن كان المقصود واجبًا، فإذا اختفي مسلم من ظالم وسأل عنه وجب الكذب بإخفائه .. الخ كلامه وهو كلام نفيس» (¬2). أخي المسلم كما تحذر الكذب بنفسك فاحذر كذلك أن يروج عليك كذب الآخرين، وما أجمل ما قاله حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بأسماعنا، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف، وفي رواية: فأما إذ ركبتم كل صعبة وذلول فهيهات» (¬3). وأراد بالصعبة والذلول: شدائد الأمور وسهلها، والمراد: أنه ترك المبالاة بالأمور والاحتراز في القول والفعل. ¬

(¬1) جامع الأصول 10/ 604. (¬2) الأذكار للنووي/ 325. (¬3) أخرجه مسلم في المقدمة 1/ 3، جامع الأصول 10/ 612.

فإذا كان ذلك في تلك القرون .. فما ظنك أخي المسلم بالناس في هذه الأزمان والعصور .. ألا فاحتاطوا فيما تقولون، وتريثوا وتثبتوا فيما تسمعون، والحق تبارك وتعالى يقول لكم {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} (¬1). اللهم اعصمنا من الكذب، ووفقنا للصدق في القول والفعل .. هذا وصلوا. ¬

(¬1) سورة الحجرات، الآية: 6.

(3) حصائد الألسن

(3) حصائد الألسن (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ... أما بعد إخوة الإسلام فنختم حديثنا- في حصاد الألسن- بالحديث عن خصلتين قبيحتين، وعادتين سيئتين قل من ينجو منهما، يستصغرهما بعض الناس، وشأنهما عظيم عند الله، وطالما تصدرا حديث الناس، وأصبحتا فاكهة المجالس ولا حول ولا قوة إلا بالله. ذلك الداء العضال، والمرض الذي يفتك في الناس فتك الذئاب الجائعة في الأغنام الهائمة. بل أشد هو داء الغيبة والنميمة .. حذر منهما القرآن وزجر ولكن بعض الناس لم يزدجر، وهل بعد زواجر القرآن من مزدجر؟ ، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التلبس بهما وشدد، وهو الناصح الكريم، والمرشد الأمين فافتح قلبك- يا أخا الإسلام- لآي القرآن، وأصغ سمعك لتوجيه المصطفى عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى {ولا يغتب بعضكم بعضًا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه} (¬2) وقال تعالى {ويل لكل همزة لمزة} (¬3) وقال في وصف أحد الكافرين {هماز مشاء بنميم} (¬4) وما أكثر ما وجه الرسول صلى الله عليه وسلم بشأنهما وشدد، ويكفيك أن تعلم أنه عليه الصلاة والسلام جمع بين الاعتداء على الدماء والأموال والأعراض في ¬

(¬1) ألقيت هده الخطبة يوم الجمعة الموافق 6/ 6/ 1414 هـ. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 12. (¬3) سورة الهمزة، الآية: 1. (¬4) سورة القلم، الآية: 11.

حديث واحد فقال في خطبة حجة الوداع «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ » (¬1). وإذا كان شأن الدماء والأموال في حسنا عظيم، فينبغي أن يعلم أن شأن الأعراض عظيم كذلك. وهل علمت- يا من تستعيذ بالله صباح مساء من عذاب القبر أن الغيبة والنميمة من أسباب عذاب القبر، فقد جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس-رضي الله عنهما- أن رسوله الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير»، وفي رواية البخاري «بلى إنه كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله» - وفي رواية لا يستنزه من بوله - الحديث قال العلماء: معنى: وما يعذبان في كبير: أي في كبير في زعمهما، أو في كبير تركه عليهما (¬2). وإذا كانت النميمة وردت في هذا الحديث سببًا في عذاب القبر فقد جاء ذكر (الغيبة) بدلاً منها في حديث أو رواية أخرى رواها الطيالسي، وأحمد والطبراني، وابن أبي الدنيا بسند جيد (¬3). وهو مؤشر إلى أن الغيبة والنميمة سببان موجبان لعذاب القبر وقانا الله وإياكم والمسلمين عذاب القبر وما بعده. أيها المسلمون .. والذين يقعون في أعراض المسلمين ويتتبعون عوراتهم حريون بعقوبة الله العاجلة، وعليهم ألا يأمنوا الفضيحة في عقر دارهم، قال ¬

(¬1) رواه البخاري ومسلم، الأذكار للنووي/ 289. (¬2) النووي، الأذكار/ 289. (¬3) الإحياء 9/ 1598.

البراء بن عازب رضي الله عنه: خطبنا رسولنا الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتهن فقال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته» (¬1). يا أخا الإسلام .. وإذا كنت تستنكف من المشاهد المؤذية، وتشمئز للروائح الخبيثة- وهذا أمر طبيعي فيك- فعليك أن تترفع عن إيذاء إخوانك المسلمين وأكل لحومهم، فشأنك حين تعمل هذا في حق إخوانك المسلمين؟ كشأنك حين تأكل الميتة أو تكره الروائح المنتنة، فضع نفسك في الوضع الذي ترغبه لها، وقد سمعت الحق تبارك وتعالى يقول {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه} (¬2). وخذ نموذجًا عمليًا قرره النبي صلى الله عليه وسلم مع أحد أصحابه، فحين رجم (ماعزًا) في الزنا قال رجل لصاحبه: هذا أقعص كما يقعص الكلب .. فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما معه بجيفة فقال: «انهشا منها»، فقالا: يا رسول الله ننهش جيفة؟ فقال: «ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه» (¬3). أيها المؤمنون الأمر عظيم والخطب جسيم، والبراءة من أعراض المسلمين عزيزة والخطورة تكمن في الجهل أو التجاهل بحقيقة الغيبة، وبعض الناس يظن أنه حين يتحدث في عرض أخيه المسلم بأمر واقعي لكنه مكروه لديه أن ذلك ليس من الغيبة، وإنما الغيبة- في ظن هؤلاء- في الزيادة في الكلام في المتحدث فيه بما ليس فيه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكشف الحقيقة ويبين المسألة ويقول: ¬

(¬1) الإحياء 9/ 1497. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 12. (¬3) الحديث رواه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة بإسناد جيد، الإحياء 9/ 1589، والقعص: أن يضرب الإنسان فيموت مكانه (النهاية 4/ 88).

«أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» (¬1). ومن هنا يتبين لك حرمة الحديث في عرض أخيك المسلم بما يكره حتى ولو كان واقعًا ولمزيد من الإيضاح: قال العلماء: الغيبة ذكرك الإنسان بما فيه مما يكره، سواء كان في بدنه، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خلقه، أو خلقه أو ماله، أو ولده، أو والده، أو زوجه، أو خادمه، أو مملوكه، أو نحو ذلك وسواء ذكرته بلفظك أو كتابك، أو رمزت، أو أشرت إليه بعينيك أو يدك أو رأسك، أو نحو ذلك (¬2). ألا ما أعظم هذا الدين وهو يحفظ الحرمات، ويستر العورات وما أجمل المؤمن وهو يتحلى بحلية الإيمان، ويتخلق بأخلاق الإسلام، وما أنظف المجتمع الذي يحافظ فيه كل فرد على حقوق الآخرين .. ويتداعى البنيان أو ينهار إذا تناوشته السهام من كل مكان، وما أحوجنا إلى البناء ورص الصفوف بعيدًا عن السخرية والاستهزاء، والغيبة والنميمة، تلك الجبهات الداخلية التي أشغلتنا عن الجبهات الخارجية فتسلل العدو إلى أرضنا. أمة الإسلام .. وحتى نقلع عن هذه الظاهرة السيئة، لابد لنا من التعرف على الأسباب الداعية للغيبة، ومحاولة تجاوزها وسد أبوابها. فمن أسباب الغيبة: شفاء الغيظ، فهو إذا هاج غضبه تشفى بذكر مساوئ من أغضبه، وربما تحول الغضب إلى حقد دفين، فصار الحقد والغضب من ¬

(¬1) الحديث رواه مسلم، والترمذي وأبو داود والنسائي، الأذكار/ 289. (¬2) الأذكار/ 288.

البواعث العظيمة على الغيبة .. فجاهد نفسك على ألا تحقد ولا تغضب، واسأل الله في ذلك فهو خير معين. السبب الثاني: موافقة الأقران ومجاملة الأصحاب، فهو يرى أنه لو أنكر عليهم- في تفكههم في الأعراض- استثقلوه ونفروا من صحبته، فيضطر لمجاراتهم، وذلك علامة الضعف في الدين، وإلا فالواجب نصرة المسلم والذب عن عرضه، وفي ذلك عظيم الأجر عند الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم «ما من امرئ يخذل امرءً مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلمًا في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره في موطن يحب فيه نصرته» (¬1). فضعوا هذا الحديث نصب أعينكم حين تختلط الأحاديث في المجالس، وتكون أعراض المسلمين فاكهة لها، واسألوا الله العون على ذلك. الباعث الثالث على الغيبة: أن يستشعر من إنسان أنه سيقصده بالحديث، فيسبقه إلى ذلك ويتقدمه بالغيبة، وفي هذا المقام ينبغي أن يتذكر السلم ما أعده الله للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس فيحفظ لسانه حتى وإن كان الحق له. ولا شك أن تلك منزلة تحتاج إلى صبر وطول مجاهدة للنفس وفقني الله وإياكم لبلوغها. الباعث الرابع: أن ينسب إلى شيء فيريد أن يتبرأ منه فيذكر الذي فعله، وكان من حقه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعل. الباعث الخامس: إرادة التصنع والمباهاة، وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره، ¬

(¬1) الحديث رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن، صحيح الجامع الصغير 5/ 160.

كأن يقول: فلان جاهل، وفهمه ركيك، وكلامه ضعيف، وهو إنما يريد إثبات الفضل لنفسه. الباعث السادس للغيبة: الحسد وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه، فيريد زوال تلك النعمة عنه، فلا يجد سبيلاً إلى ذلك إلا بالقدح فيه لإسقاطه عند الآخرين، وذلك عين الحسد، وهو غير الحقد والغضب الذي يستدعي جناية من المغضوب عليه، أما الحسد فقد يكون مع الصديق المحسن والرفيق الموافق، نسأل الله السلامة من الحسد. الباعث السابع: اللعب والهزل والمطايبة وتزكية الوقت بالضحك، فيذكر عيوب غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة، ومنشؤه التكبر والعجب. الباعث الثامن: السخرية والاستهزاء استحقارًا له، فإن ذلك قد يجري في الحضور، ويجري في الغيبة، ومنشؤه التكبر واستصغار المستهزأ به (¬1). إخوة الإيمان ثمة مدخل خفي للغيبة جدير بالناس عمومًا أن يعلموه، وأهل الدين والصلاح خصوصًا أن يفقهوه .. ذلك هو ما سمي بغيبة القلب أو سوء الظن الذي ينعقد به القلب ويصدقه ثم ينطق به اللسان، لا مجرد الخواطر وحديث النفس، فهذا إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه فمعفو عنه باتفاق العلماء، وقد قال عليه الصلاة والسلام- كما ثبت في الصحيحين: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل» (¬2). أما ما نحن بصدده من غيبة القلب التي ينعقد عليها فقد حرره العلماء وضبطوه، بكلام نفيس، فقالوا: إذا وقع في قلبك ظن السوء فهو من وسوسة ¬

(¬1) انظرها كاملة في الإحياء 9/ 1604 - 1606. (¬2) متفق عليه.

الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه، فإنه أفسق الفساق، وقد قال الله تعالى {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا .. } فلا يجوز تصديق إبليس، فإن كان هناك قرينة تدل على فساد واحتمل خلافه لم تجز إساءة الظن، ومن علامة إساءة الظن أن يتغير قلبك فيه عما كان عليه، فتنفر منه، وتستثقله وتفتر عن مراعاته وإكرامه والاغتمام بسيئته، فإن الشيطان قد يقرب إلى القلب بأدنى خيال مساوئ الناس ويلقي إليه إن هذا من فطنتك وذكائك وسرعة تنبهك، وأن المؤمن ينظر بنور الله، وإنما هو على التحقيق ناطق بغرور الشيطان وظلمته، وإن أخبرك عدل بذلك فلا تصدقه ولا تكذبه، لئلا تسيء الظن بأحدهما، ومهما خطر لك سوء في مسلم فزد في مراعاته وإكرامه، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك، فلا يلقى إليك مثله خيفة من اشتغالك بالدعاء له، ومهما عرفت هفوة مسلم بحجة لا شك فيها فانصحه في السر، ولا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه، وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطلاعك على نقصه، فينظر إليك بعين التعظم وتنظر إليه بالاستصغار، ولكن أقصد تخليصه من الإثم وأنت حزين كما تحزن على نفسك إذا دخلك نقص، وينبغي أن يكون تركه لذلك النقص بغير وعظك أحب إليك من تركه بوعظك .. ) (¬1). هذه كلمات تفيض منها النور والبهاء .. تلك مقامات الأوفياء النجباء جعلنا الله منهم بمنه وكرمه. ¬

(¬1) الأذكار / 196، الإحياء 9/ 1612.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالين أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه اللهم صل وسلم عليه. أما بعد: فاعلموا معاشر المسلمين أنه كما يحرم على المغتاب ذكر الغيبة يحرم على السامع استماعها وإقرارها، فيجب على من سمع إنسانًا يبتدئ بغيبة محرمة أن ينهاه إن لم يخف ضررًا ظاهرًا، فإن خافه وجب عليه الإنكار بقلبه ومفارقة ذلك المجلس إن تمكن من مفارقته، فإن قدر على الإنكار بلسانه أو على قطع الغيبة بكلام آخر لزمه ذلك .. وما قيل في هذا المعنى: وسمعك صن عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن النطق به فإنك عند سماع القبيح ... شريك لقائله فانتبه (¬1) إخوة الإسلام مصيبتنا في المجالس المجاملة الزائدة عن الحدود الشرعية، فقد يتكلم أحد الحاضرين بكلام لا قيمة فيه، بل ربما كان فيه ضرر على الآخرين فلا يجد- أحيانًا- من ينكر عليه، أو يصرف الحديث إلي ما هو أولى وأحرى بعيدًا عن أعراض المسلمين وتجريحهم والتشهير بهم، ويرحم الله عمر وهو القائل: عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء وإياكم وذكر الناس فإنه داء. وتنبهوا- معاشر الصالحين- لمقولة الحسن يرحمه الله: «والله للغيبة أسرع في دين الرجل المؤمن من الأكلة في الجسدي» (¬2). ¬

(¬1) الأذكار للنووي/ 291. (¬2) الإحياء 9/ 1599.

أيها المسلمون كما ورد الاستثناء في الكذب، فقد ورد الاستثناء في الغيبة كذلك، وقال أهل العلم تباح الغيبة إذا كان المسوغ لا غرضًا شرعيًا صحيحًا لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو أحد ستة أسباب: الأول: التظلم، فيجوز للمظلوم أدن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية فيذكر أن فلانًا ظلمه وفعل به كذا وكذا. الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول لمن يرجو قدرته: فلان يعمل كذا فازجره أو نحو ذلك. الثالث: الاستفتاء بأن يقول للمفتي: ظلمني فلان أو أبي أو أخي أو زوجي بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه ورفع ظلمه عني؟ ونحو ذلك، فالتعيين جائز والتعميم أحوط. الرابع: تحذير المسلمين من الشر، وذلك من وجوه منها جرح المجروحين من رواة الحديث وبيان حالهم، ومنها الاستشارة في مصاهرة أو مشاركة أو نحو ذلك من المعاملات، فيباح للمستفتي لهذا الغرض أن يذكر ما يعلمه في الشخص على وجه النصح للمستشير وبيان ما يخفى عليه من أمره. الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس وأخذ المكس وجباية الأموال ظلمًا، وتولي الأمور الباطلة فيجوز- والحالة تلك- ذكره بما يجاهر به. السادس: التعريف فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب كالأعمش والأعرج والأعمى ونحوها جاز تعريفه بذلك بنية التعريف لا على وجه التنقص فإن ذلك حرام، وإن أمكن تعريفه بغيرها فهو أولى (¬1). ¬

(¬1) الأذكار للنووي/ 292، ثلاث رسائل في الغيبة/ 29، 48.

أيها المسلم والمسلمة اتقوا الله فيما تعملون وما تدعون، وراقبوه في حركاتكم وسكناتكم واعلموا أن طريقكم إلى التوبة من الغيبة هو طريقكم في التوبة من بقية المعاصي: الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على عدم العودة، ولكن تزيد الغيبة شرطًا رابعًا، وهو التحلل ممن اغتبته فذلك من حقوق الآدميين التي لابد من إستحلالهم عنها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال، فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له عمل أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه» (¬1). أما صاحب الحق فيستحب له الصفح عن أخيه إذا جاءه معتذرًا فذلك من كرم المؤمن وطيب خلقه، ودخوله في زمرة المحسنين، الذين أثنى الله عليهم بقوله {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} (¬2). والرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على الرجل الذي كان يصفح عن إخوانه المسلمين فقال: «أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبى ضيعم أو أبي ضمضم، كان إذا أصبح، وفي رواية إذا خرج من بيته- قال: اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك- أو على الناس-» (¬3). أيها المسلمون .. وإذا كانت الغيبة هي الغالبة في أحاديث الناس، فإن النميمة لا تقل خطرًا، بل هي أشد إذ هي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على وجه الإفساد (¬4). ¬

(¬1) حديث صحيح رواه أحمد والبخاري، صحيح الجامع 5/ 349. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 134. (¬3) حديث رواه أبو داود في سننه وغيره وصححه الألباني، صحيح سنن أبي داود 3/ 924، انظر النووي في الأذكار/ 298. (¬4) النووي في الأذكار/ 288.

وهي لا تصدر إلا من مرضى القلوب، وضعاف النفوس .. وكم ثارت الحزازات بين قريبين أو صديقين بسبب نمام أشعل فتيل العداوة بينهما، ولا غرو أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حق النمام «لا يدخل الجنة نمام» (¬1) وفي رواية «لا يدخل الجنة قتات» (¬2). ويقال: إن رجلاً ذكر لعمر بن عبد العزيز يرحمه الله رجلاً بشيء فقال عمر: إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} وإن كنت صادقًا فأنت من أهل هذه الآية {هماز مشاء بنميم} وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبدًا (¬3). فترفعوا معاشر المسلمين عن الدنايا وعن كل ما يخدم المكروه أو يسيء إلى المسلمين، واطلبوا معالي الأمور، وانشدوا الإصلاح، وإحسان الظن ففي ذلكم الفلاح والنجاح .. وهو طريق إلى سلامة الصدور وطهارة القلوب .. أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقني وإياكم والمسلمين سلامة الصدر وطهارة القلب، وأن يجنبنا الغلّ والحقد والحسد وسوء الأخلاق ... هذا وصلوا وسلموا على نبي الهدى والرحمة. ¬

(¬1) أخرجاه في الصحيحين، الأذكار/ 289. (¬2) صحيح سنن أبي داود 3/ 922. (¬3) الأذكار/ 299.

معالم في تاريخ اليهود

معالم في تاريخ اليهود (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. إخوة الإسلام قد سبق الحديث عن طرف من معالم المعركة مع اليهود وحديث القرآن الكريم عنهم، ووعدت باستكمال الموضوع لأهميته وحاجة المسلمين لمعرفته. ومن أبرز المعالم التي جاءت في القرآن عن اليهود عداوتهم للإنسانية عامة والمؤمنين خاصة، قال الله تعالى {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا .. } (¬2). وعداوة اليهود هذه مبكرة تشهد بخستها القرون الغابرة، وتؤيدها القرون اللاحقة، فأنبياؤهم فريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون، ولا غرابة أن يتطاولوا على محمد صلى الله عليه وسلم ويحاولوا قتله وهو بعد طفل رضيع، فقد روى ابن سعد (¬3): أن أم النبي صلى الله عليه وسلم لما دفعته إلى حليمة السعدية لترضعه قالت لها: احفظي ابني وأخبرتها بما رأت من المعجزات، فمر بها اليهود فقالت: ألا تحدثوني عن ابني هذا، فإني حملته كذا ووضعته كذا، فقال بعضهم لبعض: اقتلوه، ثم قالوا: أيتيم هو؟ قالت لا، هذا أبوه وأنا أمه .. وكأنها أحست منهم شيئًا .. فقالوا: لو كان يتيمًا لقتلناه. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 22/ 6/ 1415 هـ. (¬2) سورة المائدة، الآية: 82. (¬3) في الطبقات 1/ 113.

ثم تستمر محاولة اليهود في قتله حين ذهب مع عمه أبي طالب إلى الشام وهو بعد في رعيان الشباب، ومقولة بحيرى لعمه إني أخشى عليه من اليهود فارجع به إلى بلده. هذا كله قبل النبوة. ثم تشتد العداوة بعد النبوة، ويحاول اليهود أكثر من مرة قتل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يفلحوا، وسموا الطعام الذي قدموه له، وآذوه وألبّوا الأعداء عليه وتعاونوا مع المنافقين والمشركين لحربه، وأعلنوا العداوة له بكل وقاحة وصراحة، إذ هم يعترفون بنبوته ويعلنون كرهه وعداوته حتى الممات، وهذا حيي بن أخطب زعيم يهود بني النضير يسأله أخوه أبو ياسر: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت) (¬1). وحين أمكن الله من عدو الله حيي وجيء به مجموعةً يداه إلى عنقه بحبل، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم يمكن الله منك يا عدو الله؟ قال: بلى، أبى الله إلا تمكينك منِّي، أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يَخْذِل الله يُخْذل. واستمرت عداوة اليهود للمسلمين وفي أيام الخلفاء الراشدين خرج عبد الله بن سبأ اليهودي ليشعل الفتنة ويبذر الخلاف بين المسلمين وكانت الفتنة وكانت الحروب، ونتجاوز الزمن قليلاً ونقف عند الدولة العثمانية مليًّا إذ كانت محاولات اليهود للعثمانيين للسماح لهم بالهجرة إلى أرض فلسطين والاستيطان فيها، فأصدر السلطان عبد المجيد خان أمرًا بمنع اليهود القادمين لزيارة بيت المقدس من الإقامة في القدس أكثر من ثلاثة أشهر (¬2). ثم يعيدون الكرة مع السلطان عبد الحميد ويعدوه ويمنوه بالهبات والأموال ¬

(¬1) السيرة لابن هشام 2/ 189. (¬2) الأفعى اليهودية عن معالم قرآنية/ 211.

مقابل إنشاء مستعمرة قرب القدس، فيجابههم بالرفض التام والتحقير والتوبيخ كما في الوثيقة الشهيرة. ثم يدرك اليهود أن لا وسيلة لهم لتحقيق أغراضهم إلا القضاء على هذه الدولة بالتآمر مع الدول الكبرى وقد كان، فليهود الدونمة دور كبير في القضاء على الدولة واختيار الزعماء المناسبين لهم. ويستمر العداء، ويؤكد الخلف ما بدأه السلف فليست عداوتهم تاريخًا مضى وانتهى إنما هي عقيدة يلقنها الآباء للأبناء. فهذا «مناحيم بيجن» يقول: (أنتم أيها الإسرائيليون لا يجب أن تشعروا بالشفقة حتى تقضوا على عدوكم، ولا عطف ولا رثاء حتى تنتهوا من إبادة ما يسمى بالحضارة الإسلامية، التي سنبني على أنقاضها حضارتنا) (¬1). وهذا «شامير» يقول في حفل استقبال اليهود السوفيت المهاجرين إلى إسرائيل (إن إسرائيل الكبرى من البحر إلى النهر هي عقيدتي وحلمي شخصيًا، وبدون هذا الكيان لن تكتمل الهجرة ولا الصعود إلى أرض المعاد، ولن يتحقق أمر الإسرائيليين ولا سلامتهم). ويقول ابن غوريون (نحن لا نخش الاشتراكيات ولا الثوريات ولا الديمقراطيات في المنطقة، نحن فقط نخشى الإسلام هذا المارد الذي نام طويلاً وبدأ يتململ) (¬2). هكذا يحدد اليهود أعداءهم، وكذلك تستمر العداوة، ويتحقق إعجاز القرآن {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا .... } (¬3). ¬

(¬1) صراعنا مع اليهود لمحمد إبراهيم ماضي ص 59، عن معا لم قرآنية في الصراع مع اليهود/ 214. (¬2) المصدر السابق صلى الله عليه وعلى آله وسلم 214. (¬3) سورة المائدة، الآية: 82.

أيها المسلمون المعلم الثاني والبارز في تاريخ اليهود هو نقضهم العهود، قال تعالى {الذين عاهدت منهم ثم ينقدون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون} (¬1). وقال تعالى {أو كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون} (¬2). فهذه شهادة القرآن، فما هي شهادة الواقع على هؤلاء الأقوام؟ لقد عاهدهم الرسول صلى الله عليه وسلم وكتب بينه وبينهم كتابًا حين وصل المدينة، فهل التزم اليهود العهد واحترموا الميثاق؟ كلا فقد غدر يهود بني قينقاع بعد غزوة بدر وانتصار المسلمين على المشركين، والمعاهدة لم يمض عليها إلا سنة (¬3). وغدرت يهود بني النضير بعد غزوة أحد وتجرأوا على المسلمين بعد ما أصابهم في غزوة أحد. وغدرت بنو قريظة عهدهم في أشدّ الظروف وأحلكها على المسلمين يوم الأحزاب، فإذا كانت هذه أخلاقهم مع من يعلمون صدقه، ويعتقدون نبوته، فهل يرجى منهم حفظ العهود مع الآخرين، هل يتوقع صدق اليهود في معاهداتهم مع من يرونهم أضعف وأقل شأنًا؟ إن اليهود قوم بهت، كلما قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه الذي كان يهوديًا فأسلم، وهم ينظرون إلى العهود والمواثيق التي يوقعونها مع غيرهم أنها للضرورة ولغرض مرحلي ولمقتضيات مصلحة آنية، فإذا استنفد الغرض المرحلي نقض اليهود الميثاق من غير استشعار بأي اعتبار خلقي أو التزام أدبي (¬4). ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 56. (¬2) سورة البقرة، الآية: 100. (¬3) انظر د. العمري: السيرة النبوية الصحيحة 1/ 276. (¬4) معالم قرآنية/ 177.

فإذا كانت تلك شهادة القرآن، وشهادة الواقع التاريخي على اليهود، فإن من الجهل والبلاهة والحمق الثقة بأيّ معاهدة يبرمها اليهود، وبأي اتفاق يتم مع اليهود. إخوة العقيدة والإيمان يأبى الله إلا أن ينتقم من هذه الطغمة الفاسدة في الحياة الدنيا وقبل أن يقوم الأشهاد، وذلك بتسليط شعوب الأرض وأممها على اليهود، كلما اشتد فسادهم في الأرض، تحقيقًا لقوله {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب .. } (¬1). وذلك معلم ثالث من معالم تاريخهم وذلك راجع- والله أعلم- إلى فسادهم، وإلى علوهم واستكبارهم، وتحريف كتبهم، وحقدهم وعدائهم، فليس لهم صديق دائم، بل المصلحة والمنفعة الذاتية هي التي تخلق لهم الأصدقاء أو تجلب لهم العداوة والبغضاء، ولذلك فما من شعب جاوره اليهود إلا ويبغضهم ويحاول التخلص منهم، وإليكم هذه النماذج من شهادات التاريخ. ففي سنة 1290 للميلاد قضى الإنجليز على اليهود جميعًا بالنفي وتبعهم في ذلك الفرنسيون وفي عامي 1348، 1349 م انتشر الموت الأسود في أوربا، واتهم اليهود بأنهم سمموا الآبار ومجاري المياه، فاشتدت حملة القتل والتنكيل والتشريد بهم، بالرغم من محاولة البابا «كليمنس السادس» الدفاع عنهم ولكن دون جدوى. وفي 1493 م أصدر فرديناند وإيزابيلا بأسبانيا مرسومها الرهيب بالفتك باليهود والمسلمين فهام اليهود على وجوههم، ولم يجدوا ملاذًا آمنًا إلا بلاد المسلمين. ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 167.

وفي سنة 1881 م كانت أعمدة الدخان تتصاعد حول بحر البلطيق إلى البحر الأسود حيث كانت عمليات حرق اليهود وبيوتهم وكتبهم مستمرة وحددت لهم روسيا مناطق لا يخرجون منها وألزمتهم الخدمة العسكرية خمسة عشر عامًا). إخوة الإسلام إذا كان النصارى والعلمانيون، والأوربيون والأمريكان أقرب الشعوب إلى اليهود فاسمعوا وجهة نظرهم فيهم، يقول «باكس» وهو أحد النصارى ( .. وكان في ذاكرة عامة أوربا أن اليهود يمتصون جهود البلاد الاقتصادية، ويمثلون الطرف الخبيث الخطر الذي يسعى أبد الدهر لتحطيم المسيحية). وفي أمريكا ألقى الرئيس الأمريكي الأسبق «بنيامين فرانكلين» أول خطاب في الاجتماع التأسيسي للولايات المتحدة بعد استقلالها عام 1779 م قال فيه: (إن هؤلاء اليهود هم أبالسة الجحيم، وخفافيش الليل، ومصاصو دماء الشعوب. أيها السادة: اطردوا هذه الطغمة الفاجرة من بلادنا قبل فوات الأوان، ضمانًا لمصلحة الأمة وأجيالها القادمة، وإلا فإنكم سترون بعد قرن واحد أنهم أخطر مما تفكرون، وثقوا أنهم لن يرحموا أحفادنا، بل سيجلعونهم عبيدًا في خدمتهم .. إلى أن يقول: أيها السادة: ثقوا أنكم إذا لم تتخذوا هذا القرار فورًا، فإن الأجيال الأمريكية القادمة ستلاحقكم بلعناتها وهي تئن تحت أقدام اليهود .. ) (¬1). إخوة الإيمان، إذا كان هذا حكم القرآن فيهم، وتلك وجهات نظر أقرب الناس إليهم، فكم هو مؤلم ومؤسف أن تختل هذه النظرة عند بعض المنتسبين للإسلام، وينسوا أو يتناسوا هذا التأريخ البعيد والقريب لليهود فيطمعوا في صلح دائم معهم ويثقوا بعهودهم والله المستعان. ¬

(¬1) انظر د. مصطفى مسلم، معالم قرآنية في الصراع مع اليهود/ 205، 221.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين والعاقبة للمتقين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أيها المسلمون، من المعالم القرآنية التي حكم الله بها على اليهود: التفرق والشتات والخلاف ماض فيهم إلى يوم القيامة، يقول تعالى: {وقطعناهم في الأرض أممًا} (¬1) ويقول تعالى: {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} (¬2) ويقول تعالى: {تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} (¬3). فهذه سنة ماضية من سنن الله في اليهود، يعلمها من يقرأ تاريخهم قديمًا وحديثًا، ودعونا نطوي صفحة الماضي حتى لا يظن أننا نتعلق دائمًا بالماضي، ففي عصرنا الحاضر وفي دولة إسرائيل اليوم من التفرقة العنصرية بين اليهود الغربيين الذين دون «الأشكنازيم» وبين اليهود الشرقيين الذين يسمون «السفارديم» من العداوة والبغضاء والكره ما الله به عليم، وليست تلك عداوة عنصرية لاختلاف المواقع، لكنها طبع، وتحقيق لموعود الله فيهم، وإليك هذا النص المؤكد لاستمرار عداوتهم، تقول يهودية روسية ذات ثقافة أكاديمية: «صحيح أننا نكرههم- تقصد اليهود الغربيين- وصحيح أنهم يكرهوننا، إننا إسرائيليون وهم إسرائيليون، يبدو أن سورًا كبيرًا يفصل بيننا، إننا نعيش في مستويات مختلفة ومفاهيم مختلفة، إننا نتحدث بشكل آخر ونفكر بشكل آخر، وينظر الواحد منا إلى الثاني بشكل آخر، إن هذا لأكثر من طائفتين ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 168. (¬2) سورة المائدة، الآية: 64. (¬3) سورة الحشر، الآية: 14.

مختلفتين، هذا بمثابة شعبين مختلفين، صدقني هذه ليست عنصرية، إن ذلك ليس مسألة لون جلد، ولا مسألة البلد الأصلي، إن الذي يحدث ناجم عن الكراهة الثقافية، إنني أكرههم فإنني أتخوف من الانتقال ليلاً في تلك الشوارع التي يتجولون فيها، إنني أكرههم بسبب نظرتهم، بسبب كلماتهم البذيئة التي يطلقونها خلفنا، وبسبب جميع الأعمال الخسيسة التي يحاولون القيام بها ضدنا. إلى آخر مقالها الذي يعبر عن الكره بين طوائف اليهود وصدق الله: {وتحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى} (¬1). إخوة الإيمان فلا تظنوا والحالة تلك أن يهود اليوم صف واحد وبنيان مرصوص، كلا فبنيانهم أوهى من بيت العنكبوت وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت، وما يخيل لبعض المسلمين اليوم من هيبة اليهود وقوة اليهود واجتماع كلمتهم إنما يبرز بسبب واقع المسلمين من الضعف والفرقة والشتات، وسيبصر المسلمون حقيقة الحال ويتأكدون من وصف القرآن إذا صلحت أحوالهم وعادوا إلى كتاب ربهم والتزموا شريعته، هناك يزول السراب الخادع، وتذهب الغشاوة عن العيون، ويأذن الله بنصر المسلمين، ويفر اليهود كما تفر الفئران من أرض المعركة، يحتمون بالقصور والحصون، غير قادرين على مواجهة المسلمين وحينها يعلم السلمون مصداق قوله تعالى {لا يقاتلونكم جميعًا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون}. إخوة الإسلام إن المعالم في تاريخ اليهود كثيرة، وإن آيات القرآن عنهم ¬

(¬1) معالم قرآنية في الصراع مع اليهود ص 243، حاشية 10.

بليغة، وليس هذا حصرًا لها بقدر ما هو إشارة إلى بعض منها، وللمزيد من العلم أنصح بالاطلاع على عدد من الكتب عن اليهود ومنها: أ- جذور البلاء (عبد الله التل) 2 - صراعنا مع اليهود (محمد ماضي) 3 - صراعنا مع اليهود (محمد عثمان شير) 4 - مكائد يهودية عبر التاريخ (عبد الرحمن حبنكة الميداني) 5 - اليهود في القرآن (محمد عزة دروزه) 6 - اليهود وراء كل جريمة (وليم كارل) 7 - اليهود والماسونية (الشيخ عبد الرحمن الدوسري .. رحمه الله) 8 - وأخيرًا صدر كتاب جيد بعنوان: معالم قرآنية في الصراع مع اليهود (الدكتور/ مصطفى مسلم .. ) ولا شك أن العلم والوعي بهذه الحقائق مهم في كل زمان ومكان، وهو في هذا الزمان أهم، وقد قيل إن معرفة المؤمنين بحالهم وحال أعدائهم نصف المعركة (¬1). ويبقى الشقّ الآخر وهو العمل والاستعداد فمجرد العلم وحده لا يكفي، وليست هذه المعرفة خاصة بطبقة دون أخرى، ولا بحاكم دون محكوم، ولا بذكر دون أنثى، فكل عليه كفله من المسؤولية، فليبدأ بإصلاح نفسه وتسديد عيوبه وتنمية معارفه، وليحذر من الخداع والتزوير وليجعل الكتاب والسنة دليله في هذه الحياة. اللهم أصلح أحوال المسلمين وردهم إليك ردًّا جميلاً يا كريم. ¬

(¬1) سيد قطب: الظلال 6/ 3529.

المعركة مع اليهود لماذا وإلى أين؟

المعركة مع اليهود لماذا وإلى أين؟ (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه .. إخوة الإسلام وهناك ظاهرة تلفت النظر في كتاب الله لمن تدبر وتأمل، فعلى الرغم من ذكره للأمم والشعوب البائدة، وحديثه عن الشرائع والرسالات السابقة، فقد كان له تركيز أكثر واهتمام أكبر ببني إسرائيل وأنبيائهم عامة، وبأمة اليهود ونبي الله موسى عليه السلام خاصة. فما من أمة من الأمم تناول القرآن تفصيل نشأتها وتاريخ تكوينها وبيان أحوالها ودقائق مواقفها، ودخائل نفوس أفرادها وخصائص شخصيتها مثل أمة اليهود. فأول ما يبدأ الحديث عن البشر بعد هبوط آدم من الجنة في سورة البقرة يبدأ عن بني إسرائيل {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون} (¬2) ويشمر الحديث عنهم في نيف وثمانين آية، وتتكرر قصصهم في أكثر من ثلث سور القرآن، وفي أول سورة (الفاتحة) والتي يكررها المسلمون يوميًّا في كل فريضة من فرائضهم، ونوافلهم ما شاء الله، «ولا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» في هذه السور يرد البيان الإلهي عن انحراف اليهود والنصارى، ويلتجأ المؤمنون إلى ربهم ألا يسلك بهم سبيلهم {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 15/ 6/ 1416 هـ. (¬2) سورة البقرة، الآية: 40.

وأول سورة بعد الفاتحة تسمى سورة البقرة، وهي بقرة بني إسرائيل، وتسمى السورة الثالثة بآل عمران، وآل عمران أسرة من أسر بني إسرائيل- وإن كانت تختلف عن بني إسرائيل في طاعتها وصدقها وعبادتها، ولذلك اصطفاها الله من بين من اصطفى {إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} (¬1). والسورة الرابعة تسمى سورة المائدة، وهي المائدة التي طلبها بنو إسرائيل، بل وخصصت سورة باسمهم هي سورة الإسراء التي تسمى سورة «بني إسرائيل» أيضا. وليس هناك من نبي ورد التفصيل عنه أكثر من موسى عليه السلام مع اليهود، فما السر وراء هذا التركيز والاهتمام؟ ألكثرتهم؟ فقد كان اليهود ولا يزالوا أقلية في العالم لا يؤبه لعددهم. أم لأن لهم كيانًا معتبرًا ودولة كبيرةً حين نزل القرآن؟ فالحق أنهم ليسوا كذلك كما كان الفرس والروم وسائر الدول الوثنية الأخرى. إذن فما وراء هذا الاهتمام؟ قد يكون لكثرة تعنتهم وشدة صبر أنبيائهم عليهم، فيُنهى المسلمون عن محاكاتهم ويسلي النبي ويصبر على ما يلقى من أذى وعناد قومه .. قد يكون ذلك من أسرار هذا التكرار، وقد يكون السر في ذلك أن كتابهم المنزل (التوراة) فيه من العقائد والأحكام ما ينشئ أمةً ويكون سلطة ودولة، وكانت مواقفهم من هذه التشريعات والأحكام مجالاً لبيان الحق والصواب فيها. وقد يكون وراء ذلك جوارهم لمهبط الوحي، وشدة احتكاكهم بالعرب والمسلمين. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 33.

كل ذلك وغيره وارد أن يكون وراء الاهتمام بهم بهذا القدر، وهناك من خلص إلى سبب آخر فوق ما ذكر واعتبره الأهم، ألا وهو: أن الصراع بين اليهود والمسلمين سيبقى إلى يوم القيامة، وكلما خمدت جذوة الصراع في منطقة أو في عصر من العصور ستتجدد في مكان آخر وفي أزمنة متلاحقة وفي صور شتى فلا غرابة إذن أن يكثر الحديث عنهم، وأن يكشف القرآن أحوالهم (¬1). والمتأمل في آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي الكريم عليه الصلاة والسلام يجد ما يعضد ذلك، فالله تعالى أخبر في كتابه أن إشعالهم للحروب دائمة، وكذلك إفسادهم، ولكن الله تعالى تولى إخماد حربهم، وكره إفسادهم {كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين} (¬2). كما تكفل الله تعالى ببعثها جند من جنده لتقليم أظافر اليهود كلما تطاولت إلى يوم القيامة {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} (¬3). وأخبر الله بني إسرائيل في الكتاب الذي أنزل عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين، وسيسلط عليهم من يجوس ديارهم، ويستبيح بيضتهم {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوًا كبيرًا، فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولاً} (¬4) وسواء كان المسلط عليهم في الأولى جالوت أو بختنصر أو غيرهما، وفي الأخرى محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أو غيرهم. فقد حكم الله عليهم ¬

(¬1) د مصطفى مسلم. معالم قرآنية في الصراع مع اليهود ص 5. (¬2) سورة المائدة، الآية: 64. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 167. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 4، 5.

بالهزيمة في الدنيا متى عادوا للإفساد، مع ما يذكره لهم في الآخرة من العذاب والنكال {عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرًا} (¬1). هذا في القرآن وفي صحيح السنة أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم عن الملاحم التي تكون في آخر الزمان، ومن بينها الحرب مع اليهود (وأن الساعة لا تقوم حتى يقاتل المسلمون اليهود فينادي الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله إن خلفي يهوديًّا فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود) (¬2). وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر- أن اليهود يستمر خبثهم ويمتد كفرهم حتى يكونوا من جند المسيح الدجال في آخر الزمان، يقول عليه الصلاة والسلام «يتبع الدجال من يهود أصفهان سبعون ألفًا عليهم الطيالسة» (¬3). والفرق كبير والمسافة بعيدة بين من يستعيذ من فتنة الدجال كل يوم عدة مرات، وبين من يكون من جنده وأتباعه حتى الممات؟ وإذا انتكست المفاهيم والقيم، وانطمست الحقائق فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا يغير ذلك من الحق شيئًا. إخوة الإسلام إذن هذه أمة هذا شأنها وتلك بعض أخبارها في القرآن والسنة فلا عجب أن يهتم القرآن بذكرها. بل ولعل المطلع في القرآن يعجب حين يلحظ تقدم ذكر اليهود في القرآن، فلم يتأخر حديث القرآن عن اليهود إلى الفترة المدنية حيث جاوروا المسلمين وبدأ الاحتكاك والعداء ينشب بينهم، وإنما تقدم الحديث عنهم في الفترة ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 8. (¬2) الحديث متفق عليه، البخاري كتاب المناقب 4/ 175 ومسلم وكتاب الفتن 8/ 188، والمسند 2/ 67. (¬3) الحديث رواه ومسلم في صحيحه، انظر صحيح الجامع 6/ 317.

المكية، فلماذا كان الحديث عنهم في مكة ولم يكن لهم بها شأن يذكر، وقد شغل المسلمون بأذى كفار قريش وعداوتهم، ومع ذلك جاء الحديث عن معتقداتهم ومواقفهم مع أنبيائهم كما في سورتي الأعراف وطه المكيتين؟ لو كان الأمر متروكًا للاجتهاد البشري لقيل أن الأولى عدم التعرض لليهود في المرحلة المكية، لعدم كثرة اليهود في مكة، وعدم الاحتكاك مع المسلمين، ولا داعي لفتح هذه الجبهة والجبهة قائمة لمجابهة المشركين، خاصة وأن المسلمين كانوا مستضعفين في مكة يخافون أن يتخطفهم الناس من حولهم؟ أما وإن الوحي إلهي، والتخطيط للمعركة وتحديد الجبهات رباني، فلا شك أنها لحكمة عظيمة وغايات كبيرة، ولعل من أبرز هذه الحكم أن تعلم الأجيال الإسلامية اللاحقة من آيات الكتاب الحكيم أن معركة المسلمين مع اليهود معركة مستمرة بغض النظر عن المواقع التي يحتلها كل من الطرفين قوةً وضعفًا. إخوة الإيمان وتأملوا في قوله تعالى {وأعدوا لهم ها استطعتم من قوة}، والآيات قبلها وبعدها ولعله من اللطائف القرآنية الدقيقة أن يأتي الأمر بإعداد القوة لإدخال الرعب والرهبة إلى قلوب الأعداء في سياق الحديث عن المعاهدات ونقض اليهود لها في كل مرة، فإن المعاهدة ليست سوى حبر على ورق لا أثر لها في الواقع إن لم تكن مدعمةً بالقوة التي ترتعد لها فرائص العدو، كلما فكر في نقضها أو إبطال مفعولها، وبعد الأمر بإعداد القوة الرهيبة يأتي الحديث عن السلم لأن السلم إن لم يكن من موطن القوة والعزة فهو تنازل للعدو وخضوع لشروطه فيكون استسلامًا لا سلامًا. اقرأ ذلك كله في قوله تعالى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون وإن جنحوا للسلم

فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم} (¬1). وليستشفوا من خلال الآيات القرآنية أن المعركة معركة المنهج الرباني والصراط المستقيم ضد المناهج البشرية الجاهلية المحرفة لشرع الله ووحيه والساعية للإفساد في أرضه! هذا كله فضلاً عن بناء الشخصية الإسلامية بناءً متميزًا بتوضيح الحق ورسم ملامحه، وفضح الباطل وكشف رموزه، ورغبة في سد الباب على المتقولين أن محمدًا أخذ من اليهود ما احتاج إليه ثم حسدهم وناصبهم العداء بعد الاحتكاك بهم، لو تأخر كشف باطلهم إلى الفترة المدنية. كما أن المؤمن قد أعطى علاجًا وقائيًا لما قد يتعرض له عند الاطلاع على عقائد اليهود، وعند التعامل مع يهود (¬2). إخوة الإسلام هذه وتلك- أعني مزيد اهتمام القرآن باليهود في سوره وآياته، وتقدم الحديث عنهم في السور المكية قبل أن يبدأ الاحتكاك معهم في المدينة. تلك معالم قرآنية في الصراع مع اليهود وهي تستدعي منا وقفة متأنية متأملة، تدعونا إلى العلم بطبيعة هؤلاء اليهود، وتعرفنا بحجم المعركة بيننا وبينهم، ويجب أن تهدينا إلى أخذ الحذر والحيطة والاستعداد لهم بكل ما أوتينا من قوة، ولا يدري إلا الله من ذا الذي سيسلط عليهم في الجولة التالية وما بعدها إلى يوم القيامة .. وليس أصدق من كلام الرحمن {ومن أصدق من الله قيلاً} وليس أهدى من القرآن {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} فهل يعي المسلمون حقائق القرآن، وهل يأخذون بتوجيهاته وأحكامه. ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 60، 61. كذلك قرر صاحب المعالم القرآنية في الصراع مع اليهود ص 183، 184. (¬2) د. مصطفى مسلم: معالم قرآنية في الصراع مع اليهود ص 27 - 29.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين يعز من يشاء ويذل من يشاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركها على محجة بيضاء، لا يزيغ عنها إلا هالك .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المنذرين. أما بعد أيها المسلمون فإذا كانت هذه بعض معالم القرآن عن اليهود، فثمة معالم أخرى تكشف حقيقة وتاريخ اليهود، وتبين من جانب من إعجاز القرآن الكريم، وتحقق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الأقوام. ومن هذه المعالم: نقض العهود والمواثيق من جبلتهم والحرص على الحياة والتخاذل عند اللقاء طبع فيهم، عداوتهم للإنسانية عامة وللمؤمنين خاصة، وتسليط الشعوب والأمم عليهم كلما اشتد فسادهم، والتفرق والشتات والخلاف ماض في اليهود .. إلى غير ذلك من معالم أرجأ الحديث عنها إلى خطبة لاحقة بإذن الله. ويبقى السؤال المهم: متى يتحقق وعد الله الصادق في اليهود؟ وأستعجل الإجابة عليه قبل إكمال حقيقة اليهود، واستيفاء المعالم الأخرى حتى تنشرح الصدور، ويذهب ركام اليأس والإحباط المسيطر على بعض القلوب، وأرجو أن يكون ذلك داعيًا ومهيئًا لاستكمال الحديث عنهم لاحقًا. وأبدأ إجابة السؤال بوقفة إيمانية جميلة لصاحب الظلال وهو يقف عند معنى قوله تعالى {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} .. الآية، حيث قال سيد قطب رحمه الله: ولقد يبدو أحيانًا أن اللعنة قد

توقفت، وأن يهود قد عزّت واستطالت! وإن هي إلا فترة عارضة من فترات التاريخ ولا يدري إلا الله من ذا الذي سيسلط عليهم في الجولة القادمة (¬1). ويقول صاحب كتاب (مكائد يهودية عبر التاريخ): في دوامة الأحداث الجسام التي خطط لها اليهود في العالم، وعملوا على تنفيذها بما عرف عنهم من مكر وخبث ودهاء، وعمل دائب في الظلام بعيدًا عن الأنوار الكاشفة، ومع الظفر الذي حققوه في العالم لقسط كبير من أهدافهم، ومع الأشواط التي قطعوها في مراحل سيرهم لفرض سلطانهم على العالم، وضمن هذه الزوبعة التاريخية التي مشت في صالح اليهودية العالمية وضد المسلمين طوال حقبة من الزمن، نجد الذين لا خبرة لهم بمفاجآت الأحداث التاريخية التي يجريها الله وفق سننه الدائمة، ولا الإيمان عندهم بما يقضيه الله ويقدره كلما احلولك على الإنسانية ليل الفساد المستشري، قد يخيل إليهم أن نجم اليهود سيظل في صعود مطرد حتى يحققوا أحلامهم البعيدة دون أن ينقلب عليهم ظهر المجن، ودون أن تحل بهم نقمة الله، ويبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب، جزاء ما اقترفوه من إثم الإفساد والتضليل في حق جميع الأمم والشعوب. إن هذه التخيلات لا بد أن تتبدد في قلوب المؤمنين، ليحل محلها الثقة بعدل الله، والأمل بنصره المبين لأوليائه على أعدائه، مهما طالت فترة الابتلاء، ومهما امتد أجل العقوبة الربانية للمسلمين الذين تنكبوا طريق الهداية، واستجابوا لدعاة الضلال، وتأثروا بزخرف الحياة الدنيا وزينتها، ومظاهرها الفاتنة، فسلط الله عليهم بذنوبهم أمةً طردها الله من رحمته وغضب عليها، ¬

(¬1) الظلال 3/ 1386.

بسبب ما كان منها من إثم عظيم، وإفساد في الأرض جسيم، تأديبًا لهم وعظة قاسية، حتى يصلحوا نفوسهم، ويصححوا إسلامهم وينظفوا صفوفهم من الدخلاء فيهم. ومتى حقق المسلمون الشروط الربانية التي جعلها الله أساسًا لنيلهم تاج النصر على عدوهم فتح الله لهم مغاليق الأبواب، وهيأ لهم أفضل الوسائل وأكرم الأسباب، وحقق لهم وعد رسوله في قوله صلوات الله عليه «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، وحتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود» (¬1). فلقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه النبوءة المستقبلة قبل نيف وثلاثة عشر قرنًا، حينما لم يكن لليهود قوة تذكر في الأرض، وظل اليهود في الضعف والتشتت منبثين في كل أمة عبر قرون، ومرت هذه القرون، وظل التاريخ صامتًا لا يحدثنا بتحقيق نبوءة رسول الله صلوات الله عليه، حتى دخل القرن الرابع عشر الهجري، الذي بدأت فيه إنذارات المعركة الفاصلة بين المسلمين واليهود تلوح في أفق المستقبل، منذ بدأت تطفو على سطح السياسة العالمية ظواهر المؤامرات والدسائس اليهودية التي تجري في أعماق محيطاتها، وحينما أخذت الأحداث العالمية تهييء لليهود هجرة إلى قلب البلاد الإسلامية، لينشئوا فيها الدولة النواة لدولة يهودية كبيرة ذات علو في الأرض، تطمع حشدًا كبيرًا من اليهود المنبثين في العالم أن يهاجروا إليها، ويتخذوا في أرضها إقامة لهم، مدعمة بالقوى المسلحة التي تمدهم بها أمم ذات قوة كبرى في الأرض. ¬

(¬1) متفق عليه من حديث أبي هريرة.

وقد كان من الأمور المتحتمة لتحقيق النبوءة النبوية أن يتفاقم أمر اليهود على المسلمين، وأن يتحقق لهم بعض الظفر الصوري في عدة معارك، وذلك لأمرين: أحدهما: عقوبة المسلمين على انحرافهم عن صراط الله في عقيدتهم وعملهم وتأديبهم حتى يراجعوا دينهم ويصلحوا أعمالهم ويطهروا صفوفهم من أعدائهم ... ثانيهما: تيسير السبل أمام أكبر قدر من اليهود المقضي عليهم بحلول نقمة الله، وذلك بإغراءات الظفر المؤقت ليهاجروا إلى موطن المعركة القادمة، حتى يلاقوا مصيرهم المنتظر، الذي هو قادم لا محالة بإذن الله تحقيقًا من الله لنبوءة رسوله، ولا بد مع ذلك أن تجري الأحداث وفق سنن الله الدائمة في كونه. ولكن لن يكتب الظفر الموعود به على لسان الرسول صلوات الله عليه ما دامت الأمة الموعودة به تسير في متعرجات مظلمة من الطرق، بعيدة عن صراط الإسلام في مفاهيمها الاعتقادية، وأنظمتها الاجتماعية، وسلوكها المجافي لتعاليم الإسلام، والعدو يعرف هذا فلا يزال همه أن يبعد الشعوب الإسلامية عن عقائد الإسلام وتطبيقاته، ليطيل أمد بقائه. ووعد الرسول بالنصر لم يكن لقوم ضد قوم، ولا لعنصر ضد عنصر، ولا لإلحاد ضد دين محرف مزيف، ولكنه وعد للمسلمين ولن يتحقق هذا الوعد لمن لبسوا صفة أخرى غير صفة الإسلام، ولن يكون هذا الظفر ظفر معركة فحسب، ولكنه ظفر شامل، ينكشف اليهود فيه داخل معظم مخابئهم، حتى تنزل فيهم عقوبة الله على أيدي المسلمين الصادقين، ولن يفلت منهم إلا قليل قليل، تقدر نسبته بنسبة شجر الغرقد إلى سائر الأشجار والمخابئ والحصون.

فمن تكون هذه الفئة التي تتبنى الإسلام بصدق، وتخوض المعركة بإخلاص حتى تنال مجد النصر على العدو الرابض في ديارنا؟ طوبى لمن كان رائد هذه الفئة، طوبى لمن كان قائدًا فيها، طوبى لمن كان جنديًّا من جنودها (¬1). طوبى لمن شرفه الله بالجهاد الحق تحت راية الإسلام الناصعة بعيدًا عن رايات الجاهلية، بعيدًا عن المزايدات السياسية، والخيانات المؤلمة، ودون جعجعة إعلامية مضللة. {كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} (¬2). ¬

(¬1) الميداني: مكائد يهودية عبر التاريخ ص 411 - 413. (¬2) سورة الرعد، الآية: 17.

(1) ثروة الأمة والفاحشة الآثمة

(1) ثروة الأمة والفاحشة الآثمة (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ... إخوة الإسلام حديثي إليكم اليوم من القلب وأرجو أن يكون موقعه القلب منكم أيضًا .. حديثي إليكم عن قرة العيون، وفلذات الأكباد .. إنهم الشباب ثروة الأمة الكبرى في حاضرها، وأملها المرتقب في المستقبل الاهتمام بهذه النوعية علامة وعي الأمة ومؤشر لحضارتها وتقدمها، والالتفات إلى أساليب تربيتهم والنظر في مشكلاتهم يجنب الفرد والمجتمع غوائل الدهر وفاجعات الزمن ويبني جيلاً قادرًا على الإسهام والعطاء. أما نسيانهم أو تناسي مشاكلهم، وعدم تقدير موقعهم فهو علامة الانحطاط والضياع والفوضى، ومنذ بزغت شمس الإسلام وهو يولي عنايته بالشباب، وكان في طليعة أوائل المؤمنين أمثال علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي أحتضنه النبي صلى الله عليه وسلم منذ الصغر ورباه على عينه، وزيد بن حارثة رضي الله عنه الذي رغب الرق على الحرية في سبيل العيش بين يدي محمد صلى الله عليه وسلم وفي كنفه. وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يولي عنايته بالشباب ويعدهم للنائبات ويبعثهم في المهمات، وكانوا نعم المبلغين، وأثبتوا أنهم تربة خصبة للدعوة آتت أكلها وثمارها بعد حين، فهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم معلمًا وموجهًا للأنصار في المدينة قبل هجرته إليها وكان نعم الداعي ونعم المبلغ. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 11/ 1/ 1415 هـ.

وهذا عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الخزرجي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل نجران، وهو ابن سبع عشرة سنة ليفقههم في الدين ويعلمهم القرآن ويأخذ الصدقات (¬1). أما أسامة بن زيد رضي الله عنهما فيؤمره على جيش فيه كبار الصحابة أمثال أبي بكر وعمر رضي الله عنهم. إلى غير ذلكم من أحداث السيرة التي تؤكد اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالشباب. وما كان لهذه النوعية من الشباب أن تتسنم القيادة، وتكون علي مستوى الثقة إلا بالتربية والإعداد والمتابعة والاهتمام، وكذلك ينبغي أن توجه الجهود لتربية الشباب وإعدادهم ورفع هممهم وإشراكهم في المسؤوليات وفرق بين جيل يشكل الشباب فيه ركنًا مهمًا لحمل أعباء الدعوة وتبليغ الرسالة، ويكون الواحد منهم عنصرًا مشعًا لحمل المعرفة وتعليم الجهلة، أو جنديًا صادقًا يذب عن حياض الأمة ويفلق هام الطغاة والمعاندين، ويفتح الأفاق ويقود الجيوش وبين جيل يشكل الشباب فيه عقبة أمام تطلعات الأمة وتحقيق أهدافها .. ويكون هؤلاء الشباب مشكلة بأخلاقهم وسلوكياتهم تأخذ حيزًا من فكر المجتمع وطاقاته لإيجاد الحلول المناسبة لهم وتفادي أضرارهم. إن الأمة التي إذا التفتت إلى الشباب وجدت فيهم ضالتها المنشودة، وسهامها الرامية، وعدتها الحاضرة هي الأمة الجديرة بالبقاء، والمؤهلة لقيادة العالم. وتخطيء الأمة طريق الإصلاح إذا تباهت أنها أخرجت شبابًا عقولها في أقدامها، أو شبابًا لا يتجاوز همها حدود المطعم والمشرب والوظيفة والمرتب؟ وما أسرع تسلل العدو للأمة إذا خدر شبابها، وأهدرت طاقاتها، ونحرت ¬

(¬1) أسد الغاية 3/ 711 (صحائف الصحابة/ 92/ أحمد الصوبان).

على قارعة الطريق جدية الشباب وتطلعاتهم المثمرة، وكفنت أخلاق الشباب ولم تجد من يصلي عليها ويبعث العزاء لأهلهم والمسؤولين عنهم! ! إخوة الإيمان ولا يزال الخير في مجتمعنا، فقد نبتت في أرضنا نابتة خير من الشباب، عرفت طريقها، وآمنت بعقيدتها، وأدركت أهمية الوقت في حياتها، ونسأل الله لهم المزيد والثبات، كما نسأله تعالى أن يجزي كل مسؤول وكل عالم أو مرب أسهم في إصلاح هؤلاء الشباب وعرفهم طريق الخير والفلاح. ولكننا مع ذلك ينبغي أن نلتفت للبقية الباقية من شبابنا، ويجب أن نتحسس دائمًا أحوال أبنائنا وبناتنا، فثمة أمراض خفية أو ظاهرة تحيط بنا، وثمة أخلاق وسلوكيات غير مرضية يتلبس بها بعض شبابنا، وهي لا تليق بهم ولا بنا. واستفحال الدواء قبل استعمال الداء واجب يحتمه علينا ديننا، وتمليه علينا مسؤوليتنا وقوامتنا .. وإذ كان المطلع بعمق على واقع الشباب يمكن أن يرصد أكثر من خطأ، ويمكن أن يشاهد أكثر من عيب، فسأركز الحديث في هذه الخطبة على واحد من هذه السلوكيات المتحركة طالما غفل عنه الخطباء استحياء لذكره، وطالما غفل عنه الآباء جهلاً منهم بواقعه وآثاره. إنه الانحراف الخلقي وممارسة بعض السلوكيات الشاذة نتيجة اتصال الشباب ببعضهم وتغرير بعضهم ببعض. وهذا الانحراف لا يمكن أن يعمم كل كافة الشباب ولكنها فئة قليلة تتلبس به، ولولا مخافة تأثيرها على غيرهما والرغبة في حمايتها هي منه لما كان هذا الحديث. ويبدأ المسلسل الآثم بصداقة غير نزيهة بين شابين يكبر أحدهما الآخر سنًا وتجربة، وما يزال الكبير يغوي الصغير بالخروج معه والركوب في سيارته إن كان ممن وفر له سيارة وهو ليس لها بأهل، وهكذا تترسخ الصداقة وتقوى الصلة، والأهل في غيبة عن هذا كله، والابن لا يسأل عنه إن راح أو غدى، وأين ذهب

ومتى جاء؟ هذا حال البيت، أما المدرسة فقد لا يلفت نظرها هذه الصداقة الجائرة، وقد تغيب عن بعض المربين في المدرسة أن تلك من أولويات مسؤولياتهم، وهكذا يستمرئ المجتمع هذه العلاقات ولا يسأل عن هذه الصلات، فيصبح الأبناء ضحيتها- ولا يفيق الجميع إلا على صوت النذير من بعض الجهات الرسمية الناصحة التي وقفت على المشكلة وحاولت سترها حفاظًا على سمعة الشاب وأسرته .. ولكن قرناء السوء الذين يتخلون عن صاحبهم وقت الأزمات سرعان ما أشاعوا الخبر وأفشوا السر المكنون .. فأين موقعك أيها الأب في تلك الحال، وهلا أعددت لهذا السؤال الجائر من جواب؟ وما هي وسائلك الأولى لوقاية أبنائك من هذه الأمراض الخطيرة؟ . إخوة الإسلام: ويقص علينا القرآن الكريم كيف تشبث قوم لوط عليه السلام بجريمة اللواط، وكيف كانت عقوبتهم، وكيف كانت نهايتهم؟ يقول الحق تبارك وتعالى {ولوطًا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون} إلى قوله: {فأمطرنا عليهم مطرًا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين} (¬1). قال المفسرون إن أهل سدوم- وهم القوم الذي أرسل إليهم لوط- أول أهل الأرض في ممارسة هذه الجريمة البشعة، ولم يكن بنو آدم يعهدونه يألفونه، قال عمرو بن دينار: مانزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط، وقال الوليد بن عبد الملك: لولا أن الله عز وجل قص علينا خبر قوم لوط ما ظننت أن ذكرًا يعلو ذكرًا (¬2). ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 80 - 84. (¬2) تفسير ابن كثير 3/ 441.

ولعظم هذه الفاحشة كانت عقوبة أهلها أن رفع الله قرى قوم لوط إلى عنان السماء حتى سمع أهل السماء أصوات الناس والكلاب، ثم أرسلها إلى الأرض منكوسة، ودمدم بعضها على بعض، فجعل عاليها سافلها، ثم أتبعها حجارة من سجيل، قال تعالى {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد} (¬1). وهكذا كانت القرى اللوطية وأهلها خبرًا بعد عين، وعبرة لكل ذي عقل وعينين، ولا يظلم ربك أحدٌ، ولم ينج منهم أحدًا ومن لم يمت حين سقط للأرض أمطر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة، ومن كان منهم شاذًا في الأرض يتبعهم في القرى، فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر فيقتله فذلك قوله {وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك} أي معلمة مختومة مكتوب عليها أسماء أصحابها (¬2) ومعنى قوله تعالى {وما هي من الظالمين ببعيد} أي وما هذه النقمة ممن تشبه بهم في ظلمهم ببعيد عنه (¬3). نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة من كل فتنة وبلية ... ¬

(¬1) سورة هود، الآية: 82، 83. (¬2) تفسير ابن كثير 4/ 271، 272. (¬3) تفسير ابن كثير 4/ 274.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين فطر الخلق على الحنيفية السمحة لا فساد في المعتقد ولا شذوذ في الأخلاق ولا انحراف في السلوك، فاجتالتهم الشياطين، فحسنت لهم القبيح وزينت لهم المكروه، فوقع في حبائلهم من وقع، ونجا من وساوسهم من أراد الله له الخير والفلاح، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له أمر عباده بالعدل والإحسان والتقى، ونهاهم عن الفحشاء والمنكر والبغي لعلهم يتذكرون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ما فتئ يقص على الأمة من أخبار الماضين ما فيه عظة وعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحابته والتابعين ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. إخوة الإيمان .. إن جريمة اللواط فساد في الفطرة، ونقص في الشهامة والرجولة، وهي خدش لقيمة الحياء، واعتداء صارخ على الفضيلة، كما أن اللواط بداية للضياع والانحراف والعزلة .. إذ يحس صاحب الفاحشة أنه دون مستوى الآخرين في فكره وسلوكه فيجد صعوبة في العيش معهم، ويضطر للانزواء والعيش مع نظرائه وأشباهه، بعكس من تربى منذ صغره على الشهامة والرجولة ورفض كل أنواع الإغراء والفتنة، فهو جاد في دراسته، مطيع لوالديه محترم بين أهله وعشيرته، كاره أشد الكره لمن يسمع عنه أخلاقًا سيئة أو يقترف مثل هذه السلوكيات المشينة. إخوة الإسلام ولما لهذه الجريمة من أضرار وآثار فقد عظم الشرع المطهر حكمها وغلظ في عقوبتها أتدرون ما الحكم الشرعي في هذه الفاحشة المستنكرة؟

لقد ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن اللائط يلقى من شاهق ويتبع الحجارة كما فعل بقوم لوط. وذهب آخرون من العلماء إلى أنه يرجم، سواء كان محصنًا أو غير محصن، وحجتهم في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (¬1). وقد رجح الشوكاني مذهب القائلين بالقتل، وهو الذي عليه الصحابة (¬2). وقال آخرون: هو كالزاني فإن كان محصنًا رجم، وإن لم يكن محصنًا جلد مائة جلدة (¬3). ماذا تدل عليه هذه العقوبات في فاحشة اللواط؟ إنها دليل على عظمه عند الله، وعلى شناعة فاعله، فهو مستحق للرجم أو للقتل أو للجلد في أقل الأحوال، وتغليظ العقوبة دليل على عظم الجريمة وبشاعتها، وقاني الله وإياكم وأبناء المسلمين منها ومن كل فتنة ومكروه سواها. إخوة الإسلام وحتى تعلموا شيئًا من حكم التشريع الإسلامي في محاربة هذه العادة المفسدة للخلق والفطرة والدين والدنيا أسوق لكم بعض ما ذكره العلماء من أضرار طبية واجتماعية للواط فمنها: 1 - التأثير في الأعصاب تأثيرًا خاصًا، أحد نتائجه الإصابة بالانعكاس النفسي في خلق الفرد فيشعر في صميم فؤاده بأنه ما خلق ليكون رجلاً، وينقلب الشعور إلى شذوذ به ينعكس شعور اللائط انعكاسًا غريبًا، ومن هذا تستطيع أن ¬

(¬1) حديث صحيح رواه الإمام أحمد وغيره (زاد المعارج 5/ 40) (صحيح الجامع 5/ 366، 367). (¬2) فقه السنة 2/ 434، 432، (زاد المعارج 5/ 40 - 41). (¬3) تفسير ابن كثير 3/ 442.

تتبين العلة في إسراف بعض الشباب الساقطين في التزين وتقليد النساء في مساحيقهن وصف شعورهن والتمايل في مشيتهن .. وهذه المشاعر كلها تحدث في النهاية أمراضًا عصبية ونفسية لدى مقترفي هذه الجريمة، ومن هذه الأمراض السادية، والماسوشية، والفيتشزم وغيرها. 2 - التأثير على المخ، واللواط بجانب ذلك يسبب اختلالاً كبيرًا في توازن عقل المرء وارتباكًا عامًا في تفكيره، وبلاهة واضحةً في عقله، وضعفًا شديدًا في إرادته، وذلك راجع إلى قلة الإفرازات الداخلية التي تفرزها الغدة الدرقية والغدد فوق الكلى وغيرها مما يتأثر باللواط تأثرًا مباشرًا ويقول المختصون إن هناك علاقة وثيقة بين (النيورستانيا) واللواط، فيصاب اللائط بالبله والعبط وشرود الفكر وضياع العقل والرشاد. 3 - مرض السويداء فاللواط إما أن يكون سببًا في ظهور هذا المرض أو يغدو عاملاً قويًا على ظهوره، وذلك بسبب الشذوذ الوظيفي لهذه الفاحشة المنكرة وسوء تأثيرها على أعصاب الجسم. 4 - ويمكن القول إن اللواط لسبب في انتقال العدوى بحمى التيفود، والدوسنطاريا وغيرها مما ينتقل بطريق التلوث بالمواد البرازية ونحوها المزودة بمختلف الجراثيم، فضلاً عن إمكانية إصابته بأمراض الزنا كالزهري والسيلان. 5 - ويضعف اللواط مراكز الإنزال الرئيسة في الجسم ويعمل على القضاء على الحيوية المنوية، وينتهي الأمر إلى الضعف ثم إلى العقم. 6 - ومن شأن اللواط أن يصرف الرجل عن زوجته بعد حين وقد يبلغ به الأمر إلى العجز عن مباشرتها، وقد تكون زوجة اللوطي ضحية لجريمته الشنعاء، فلا تظفر منه بمودة، ولا يستطيع لها معاشرة، فتنشأ المشاكل أو يكون الفراق هو الخيار.

7 - وفوق ما ذكر فاللواط يصيب مقترفيه بضيق الصدر، ويرزؤهم بخفقان القلب، ويتركهم بحال من الضعف العام، يعرضهم للإصابة بشتى الأمراض، ويجعلهم نهبة لمختلف العلل والأعصاب (¬1). تلك معاشر المسلمين عقوبات معجلة في الدنيا، والعقوبة في الآخرة أشد وأنكى .. وهنا يرد السؤال ما هي أسباب الوقوع في هذه الفاحشة، وما هي أسباب الوقاية منها؟ وما دور الأسرة والمدرسة والمجتمع فيها؟ كل هذه وتلك موضعها في الخطبة القادمة بإذن الله. ¬

(¬1) فقه السنة 2/ 429، 432.

(2) أسباب الفاحشة ومحاورها الرئيسة

(2) أسباب الفاحشة ومحاورها الرئيسة (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .... إخوة الإسلام سبق لنا بعض الحديث عن جريمة اللواط وحري بنا أن نستكمل الحديث عنها، ونعنى بهذه الظاهرة التي تخوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من فعلها أشد التخوف فقال: «إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط» (¬2). وكيف لا نعنى بهذه الظاهرة وندرس أسبابها ونبحث في أنسب الوسائل لعلاجها، ونجنب الناشئة مخاطرها والمصطفى صلى الله عليه وسلم يحشر اللوطي في قائمة الملعونين (المطرودين من رحمة الله) فيقول عليه الصلاة والسلام: «ملعون من سب أباه، ملعون من سب أمه، ملعون من ذبح لغير الله، ملعون من غير تخوم الأرض، ملعون من كمه أعمى عن الطريق، ملعون من وقع على بهيمة، ملعون من عمل بعمل قوم لوط» (¬3). فما هي أهم الأسباب المؤدية إلى الوقوع في هذه الفاحشة، وكيف يقع الشباب ضحية لها؟ وقبل الحديث عن هذه الأسباب أنبه إلى أمرين هامين: 1 - إن هذه الأسباب لا يلزم توفرها كلها في الشاب حتى تقوده إلى هذه الجريمة المنكرة، بل وجود أحدها أو بعضها كفيل بجر الشاب من حيث يشعر ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 30/ 1/ 1415 هـ. (¬2) حديث حسن رواه الترمذي وابن ماجه: صحيح سنن الترمذي 2/ 76. (¬3) حديث صحيح رواه الإمام أحمد وصححه الألباني 5/ 212.

أو لا يشعر إلى هذا المزلق الخطر، وهذا يستدعي الانتباه والاحتياط وسد كل منفذ أو وسيلة تقود للخطر، وعدم التهاون فمعظم النار من مستصغر الشرر. 2 - إن هذا الحديث ليس موجهًا لأحد بعينه، ولا ينبغي لأحد أن يعفي نفسه من مسؤوليته فالوقاية أنسب الوسائل للعلاج، ومقابلة المشكلة بحزم وعزم وجدية وصراحة أولى من تغافلها وإغضاب الطرف عنها، وتجاهل المشكلات لا يعنى عدم وجودها، ولا يسهم بكل حال في حلها. إخوة الإيمان يمكن حصر الأسباب المؤدية للوقوع في اللواط (حمانا الله وإياكم وذرارينا المسلمين) في أربع محاور رئيسة هي كما يلي: أولاً: البيت، ثانيًا: المدرسة، ثالثًا: المجتمع، رابعًا: وسائل التأثير الأخرى. وكل واحدة من هذه وتلك تحتاج إلى بيان وتفصيل. أولاً: أما البيت فهو اللبنة الأساسية والمنطلق الأول لتربية الشاب، وتسهم حالة الغنى المفرط أو الفقر المدقع في انحراف الشاب أحيانًا، أما الغنى- غير المنضبط فيوفر فيه للشاب كل وسائل الراحة واللهو واللعب دون تفريق بين الضار والنافع، فقد يوفر له من وسائل اللهو ما يثير غريزته، ويوفر له من المال ما لا يحسن التحكم فيه، ويوفر له سيارة ليس أهلاً لاستخدامها في أغراضها الصحيحة، فإذا اجتمع إلى الشاب مع ذلك صحة موفورة، وفراغ قاتل، مع حيوية الشباب وقلة تفكيره في العواقب قادته هذه الأمور إلى عمل كل محظور ليس اللواط إلا واحدًا منها. إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة وبعكس ذلك تكون بيوت الفقراء حيث لا يجد فيها الشاب حاجته الأساسية، ولا تتوفر له أموره الضرورية، والمجتمع والجيران في غفلة عن حاجات جيرانهم فيضطر الشاب للخروج بحثًا عما يحتاجه فيجد اللصوص المحترفين

لاصطياده وإطماعه بتوفير كل ما يحتاج إليه فتنشأ العلاقات المشبوهة، ويقع الشاب في جريمة اللواط وغيرها من الفواحش والآثام. ثانيًا: كما تسهم حالة اليتم (لاسيما يتم الأب) في ضياع الشباب وانحرافهم أحيانًا، إذ تعجز الأم عن متابعة بعض الأبناء، ولا تلتفت بقية البيوت لهذه النوعية من بيوت الأيتام: إما لعدم اهتمامهم أو لانشغالهم، فيهيم هؤلاء الشباب على وجوههم، وتكون المقاهي والطرقات وأماكن التجمعات العامة موطنًا لهم، وتتيح لهم هذه وتلك الاختلاط بغيرهم ممن يحسنون لهم القبيح، ويهونون عليهم العسير، فلا يستقيظ الشاب المسكين إلا وهو في شراك المجرمين، وضمن زمرة الفاسدين، وتكون جريمة اللواط واحدة من سلوكياته المنحرفة، وما خفي أعظم وأكبر. ثالثًا: وأشد ضراوة وأثرًا على الشباب يتم العلم والأدب كما قيل: ليس اليتم الذي قد مات والده ... بل اليتم يتم العلم والأدب وإذ كنا نشيد ببعض الأمهات اللائي يربين أبناءهن على الخير ويحرصن على سلوكياتهم من كل عفن، حتى وإن كان الآباء تحت الثرى، ونقدم التحية معطرة لأولئك الآباء الذين يعنون بأبنائهم ويهتمون بتربيتهم. فإننا نرثي لحال أولئك الآباء الأموات وإن كانوا في عداد الأحياء، هذه النوعية من الآباء التي لا تهتم بالأبناء، ولا تعيرهم من الاهتمام ما يستحقون فهم إما مشغولون بتجارتهم أو غارقون في لهوهم، أو على الأقل لا يهتمون كثيرًا بأبنائهم ولا يسألون عن مدخل أبنائهم أو مخرجهم ولا يعرفون من يرافقون ولا فيمن يتصلون، هؤلاء يسرح أبناؤهم ويمرحون كيف شاؤوا، وإذا كان الصنف السابق يمكن أن يعطف عليهم المجتمع ليتمهم، فهؤلاء يتكل الناس على تربية واهتمام آبائهم فلا يعيرونهم كبير اهتمام، فينضمون إلى قائمة الضائعين، ولا يفيق الأب إلا حين

يستدعى للغرامة أو للكفالة أو لأخذ التعهد، أو لإشعاره أن ابنه من نزلاء السجن لا قدر الله. رابعًا: تساهل البيوت بشكل عام في تربية الأبناء وتوجيههم وتعليمهم ما ينفعهم، وتحذيرهم من آثار صحبة الأشرار وعدم تشجيعهم على مصاحبة الأخيار، كل ذلك يجعل الأبناء مرتعًا خصبًا لكل دعوة مهما كان سوءها، ولكل داع مهما كان مساره وخطره. خامسًا: وتسهم الخلافات الحادة بين الزوجين في ضياع الأبناء أحيانًا، إذ ينشغلون في خلافاتهم عن تربية أبنائهم فينشأ الأبناء بعيدًا عن رقابة الوالدين، ويفضلون العيش بعيدًا عن أجواء البيت، وتكون هذه بداية الانحراف- «لا سمح الله. سادسًا: وهناك أسلوبان مختلفان في التربية، وعلى طرفي نقيض، وربما أسهما في ضياع الشباب، الأول أسلوب التعنيف والتقريع والتوبيخ دائمًا وربما الضرب لأدنى سبب، وهذا يخلق شابًا كارهًا للبيت يبحث عن البديل ولو كان سيئًا ويبحث عن الأصدقاء ولو كانوا غير أسوياء، وتبدأ حينها المشكلة. والثاني أسلوب الثقة المفرط الذي يجعل البيت واثقًا بكل تصرفات الابن، محسنًا الظن دائمًا بكل حركاته، حتى وإن كان الشاب في مرحلة المراهقة وإن كان لديه بعض الملاحظات الجديرة بالاهتمام والمتابعة، بل وإن كان الشاب في هذه المرحلة محتاجًا إلى التوجيه والعناية، والكلمة الناصحة. ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفي المرء نبلاً أن تعد معايبه فهذه الثقة الطلقة، وتفسير بعض سلوكيات الأبناء المثيرة على حسن الظن ربما قادت الشاب هي الأخرى إلى الانحراف، والبيت غافل عن هذا في البداية عاجز عن حلها في النهاية.

أيها الإخوة إنما أطلت الحديث عن البيت لأهمية دوره، ولأنه قلعة التحصين الأولى إذا قدر الأبوان موقعهما، ولأن تأثيره في العملية التربوية مهم سلبًا كان أو إيجابًا، وبقدر ما نشكر الله على اهتمام ويقظة البيوت لدورهم في استصلاح أبنائهم، فإنما أردنا بذلك التنبيه على بيوت لا زال أصحابها في غفلتهم سادرين وعن أبنائهم غافلين، نسأل أن يصبح شأننا وأن يهدي ضالنا، وأن يثبت هداتنا.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، أيقظ بصائر المؤمنين لما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وأعمى آخرين، فزين لهم الشيطان سوء أعمالهم، وصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين. أيها المسلمون .. أما المدرسة فهي البيت الثاني للأبناء، يخرجون منها إلى مجتمع جديد، وتنشأ منها علاقات وصداقات، وهي كالبيت مكان للإصلاح والتربية إذا أحس القائمون عليها بواجبهم، وتنشأ المشكلة على حين غفلة من المدرسين والمسؤولين في المدارس إذا فتحت العلاقات دون رقيب بين الصغار والكبار، ولم ترقب سلوكيات الطلاب باستمرار، وأتيحت الفرصة لخروج بعض الطلاب من المدرسة دون حاجة ملحة، أو تسرب إلى المدرسة شباب من خارجها قصدهم الاتصال بشباب المدرسة وعقد صلات معهم، أو وجد في المدرسة نماذج من المدرسين ليسوا على مستوى المسؤولية في أخلاقهم وسلوكياتهم أو فرض على الطلاب في التربية البدنية ملابس تكشف عوراتهم، أو تصف بشكل مثير للفتنة ملامح أجسادهم. وبشكل عام فقلة التوعية في المدارس عن هذه السلوكيات، والغفلة عن متابعة حركات الطلاب في حال تجمعهم أو حال خلوتهم كل ذلك يسهم في خلق سلوكيات غير مهذبة عند الشباب، وقد يكون اللواط واحدًا منها. وكذا الغفلة عن مساءلة ومتابعة من يتأخرون صباحًا للمدرسة فيكونون خارج البيت وليسوا في المدرسة، أو من يتأخرون أو يتأخر عنهم آباؤهم بعد خروجهم من المدرسة فلا يصلون إلى بيوتهم إلا في نحر الظهيرة، فهذه كذلك تتيح لهم

فرصة الاختلاط وتتيح للمتسكعين في الشوارع فرصة اصطيادهم وعلى المدرسة والآباء أن ينتبهوا لهذا جيدًا. أما المجتمع فنعنى به أماكن التجمع الأخرى خارج إطار البيت والمدرسة، فالشارع مثلاً بيت لعدد من الشباب يقضون به كل أوقاتهم بعيدًا عن رقابة الأهل ومتابعتهم، وإني لأعجب من أناس يتركون أبناءهم معظم الوقت يسرحون ويمرحون كيف شاؤوا في الشوارع والمقاهي والمطاعم ولا يسأل الأب أين ذهبوا ولا من خالطوا، وهل تربي الشوارع الأبناء، بل وهل يأمن الأب على ابنه من فتن الأحياء؟ إن هناك صنفًا من الشباب المراهقين الشغال التجول الدائم بسياراتهم داخل الأحياء، فهل ترضى أيها الأب أن يكون ابنك فريسة لهؤلاء؟ - ونوادي الحواري وتجمع الشباب بها لا تسهم في إصلاح الشباب بحال، بل هي موطن للريبة وسوء الخلق والنزاع والمشاجرة في أقل الأحوال فاحذروها معاشر الآباء وامنعوا أبناءكم عن المشاركة فيها. والنوادي الكبرى التي تخلو من المربين المخلصين وتجمع أشتات الشباب الضائعين هم أعظم خطرًا وأولى بالمنع والمراقبة من قبل المسؤولين. ومناسبات الزواج في قصور الأفراح مكان بهجة وفرحة للأسرة الواحدة، ولكن ينبغي الحذر من مجيء شباب خارج إطار الأسرة لأغراض سيئة، وينبغي كذلك التنبه لعدم خلوة الشباب الكبار مع الصغار حتى ولو كانوا من أسرة واحدة، وتلك مواطن ينسى فيها الآباء أبناءهم. وأماكن البيع والشراء للأحداث حري بمراقبة الأولياء والجهات المسؤولة، ويشير العارفون أن سوق الحمام- مثلاً- مكان للاختلاط والاحتكاك بين صغار الشباب وكبارهم جدير باليقظة والاهتمام والمتابعة.

إخوة الإيمان أيها الآباء، أيها المسؤولون- أما وسائل التأثير الأخرى فنعنى بها تلك الوسائل التي تلعب دورًا في صناعة أفكار الشباب وتخاطب عقولهم وغرائزهم، فوسائل الإعلام المختلفة قادرة على الإسهام بشكل فاعل وجيد في صياغة عقول الشباب وتهذيب غرائزهم إذا وسد الأمر فيها إلى أهله من النصحة والغيورين والمفكرين العقلاء وهي أداة هدم ووسيلة فساد إذا قام عليها من لا يحسنون اختيار موادها، واصطفاء برامجها فتثير الصورة الفاضحة غريزة الشباب- ذكرانًا وإناثًا- وتدعو المسلسلات الهابطة إلى احتراف الجريمة ومحاكاة الممثلين الساقطين، وتنشئ الدعايات والإعلانات الإعلامية الرخيصة حبًّا في الشباب للذي هو أدنى وينسون الذي هو خير، فجنبوا معاشر الأولياء أبناءكم كل وسيلة تهدم الخلق والدين وتثير الغرائز وتعلم الشباب ما يضرهم. والجمعيات المشبوهة- سواء كانت للرجال أو للنساء- والتي تعنى بتربية الشباب على الموسيقى والغناء وتجمع صغار الشباب إلى المراهقين في أعمارهم أو عقولهم أو تلك التي تدرب الفتيات على الرقص وأنواع القص للشعور، والجديد من المكيجة ونحوها- كل هذه وتلك لا تسهم في استصلاح الفتيان والفتيات في وقت غدت الأمة فيه أحوج ما تكون إلى التربية الجادة والاستفادة من كل طاقة. إخوة الإسلام هذه أبرز المحاور التي حضرتني ولا يعني ذلك الحصر بقدر ما يعني الإشارة .. وربما تساءل البعض- وما هي طرق العلاج؟ طرق العلاج ولهؤلاء أقول: إن من أهم وسائل العلاج معرفة أسباب المشكلة والوعي بها والعمل على سد كل المنافذ المؤدية إليها.

وتبقى بعد ذلك وسائل أخرى للعلاج لا تخص هذه الظاهرة الخلقية فحسب، بل هي أساس لعلاج أي ظاهرة شاذة توجد عند الشباب أتعرض لها في الخطبة القادمة بإذن الله. وأختتم الحديث بتنبيه مهم وهو أن حديثي في هذه الخطبة عن البيت أو المدرسة أو أمثالها لا يعفي التقييم لها، وليس حديثًا عن رسالتها التربوية وإلا لقلت غير هذا من الآثار الإيجابية لهذه المحاضن من محاضن التربية، لكنه حديث عن نقاط ضعف قليلة في بحر حسنات كثيرة أردت بها أن تكتمل جوانب التربية وأن تسد الثغرات المهمة حتى تكتمل لهذه المحاض أداتها في التربية ولئلا تؤتي الأبناء من ثغراتها السلبية ولست بمبالغ إذا قلت إن بعض البيوت قلعة من قلاع العلم والتربية والأدب، وعددًا من المدارس قمة شامخة في التربية والمتابعة والمتابعة والتعليم والتوجيه. ذلك من التحدث بنعمة الله {وأما بنعمة ربك فحدث} لكن الملاحظة الناصحة، والاستمرار في المتابعة لا تزيد البنيان إلا شموخًا .. وعساها أن تكون موقظة لمواقع يكاد السوس أن ينخر فيها .. ولبنيان يكاد أن تتصدع جدرانه .. والله الهادي والموفق.

(3) طرق العلاج وقنوات الإصلاح في إصلاح الشباب

(3) طرق العلاج وقنوات الإصلاح في إصلاح الشباب (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ... إخوة الإيمان حين يتحدث المتحدث عن ظاهرة سلوكية سيئة- كاللواط مثلاً- فلا يعني ذلك إغفال غيرها من الظواهر السلوكية المنحرفة الأخرى لدى الشباب، كالتهاون بالصلاة أو تعاطي المخدرات، أو عقوق الوالدين، أو ضياع الأوقات والتسكع في الطرقات، وإيذاء الناس وتكدير صفو عيشهم أو غير ذلك من مظاهر تحتاج كل واحدة منها إلى وقفة وتأمل وعلاج. ومن هنا فعلينا ونحن نرغب في علاج ظاهرة أن نربطها بغيرها، وأن نتأمل في جملة الأسباب والعوامل المؤدية للانحراف لتلافيها، وأن نبحث في جملة العناصر والمؤسسات القادرة على العلاج والإصلاح لنشملها ونذكر بواجبها ومسؤوليتها ولا يمنع بعد ذلك أن نعالج كل ظاهرة بحسبها، لكن التنبه أساسًا لعوامل البناء والتربية يعفي المجتمع كثيرًا من هذه الأمراض، ويقلل ابتداءً من أعداد المنحرفين والشواذ، ومن هنا فسأعود في هذه الخطبة إلى التذكير بعدد من الجهات والأشخاص الذين يجب أن يكون لهم دورهم في استصلاح المجتمع بعامة، ومجتمع الشباب خاصة، ولست متعجلاً في الحكم إن قلت: إن قيام هذه الجهات بمسؤوليتها كفيل بقطع دابر الفساد والرذيلة، بل وسبب- بإذن الله- في رفع همم الشباب، ونقلة كبرى في أساليب تفكيرهم يدعوهم إلى عدم ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 7/ 2/ 1415 هـ.

النظر والتفكير في هده السواقط والرذائل من الأخلاق فضلاً عن مقارفتها أو الوقوع في حبائلها. هذه الجهات والمؤسسات أكتفي بذكر أربع منها: 1 - البيت .. وليس البيت- إخوة الإيمان- مطعمًا ومقهى يتناول فيه الشاب ما لذ وطاب من المطعم والمشرب وكفى بذلك بناء للجسد على حساب الروح، وذلك تورم في الأطراف على حساب بناء العقول وتنوير الفكر، وقولوا لي بربكم: كم هي البيوت التي تعنى ببناء عقل الشباب، وتعنى بتربية فكره، وتجتهد في سبيل تهذيب سلوكه، وتعطيه مع جرعة الطعام جرعات أخرى في الإيمان والأخلاق والآداب؟ وليست البيوت معرضًا للأزياء يجد فيها الشاب والشابة ما جد في عالم اللباس والزينة بكافة أنواعها، فتكون هذه وتلك شغله الشاغل وهمه الأوحد، ينتهي فكره عن حدودها، وتنقطع آماله حين لا يجد عناءً في سبيل الحصول عليها، وقولوا لي بربكم: أيهما أعلى نسبة في البيوت الاهتمام إلى حد الإسراف في هذه الزينة الظاهرة، أم الاهتمام بلباس التقوى الذي قال الله عنه {ولباس التقوى ذلك خير} (¬1). وليست البيوت مهاجع يوفر فيها للشاب والشابة ما رق وارتفع من الفرش الوثيرة ووسائل الراحة الكاملة، فينام فيها الأبناء والبنات معظم الليل وسحابة النهار يتقلبون على ظهورهم وجنوبهم، والصلاة تجمع إلى الصلاة، والأشكال لطول النوم متغيرة، والقدرة عند هؤلاء لتحمل المسؤوليات ضعيفة .. صحيح أن على البيوت مسؤولية توفير المطعم والمشرب والملبس، وجميل أن تكون ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 26.

البيوت المقر لراحة الأبناء ونومهم .. ولكن ذلك بقدر لا يصل حد السرف وثمة مسؤولية تغيب عن عدد من البيوت، وعلى أرباب البيوت أن يدركوا أن البيت ينبغي أن يكون مدرسة يتعلم فيها الأبناء الأخلاق الفاضلة، ويزرع في نفوسهم الإيمان والحياء، وأن يذكروا فيه بقضايا البعث والجزاء، ويصور لهم بالقدر الذي يعوه نعيم الجنة وعذاب النار، وأن يؤكد البيت على أهمية الوقت واستثماره بما ينفع من أمور الدين والدنيا. وليس عيبًا أيها الأب أن تحطم كبرياءك وتنزل من برجك العاجي لتخاطب الأبناء والبنات، وتشعرهم أنك صديق محب لهم فضلاً عن الأبوة والعاطفة تجاههم وسيسهل ذلك عليك تعليمهم الخير وتحذيرهم من الشر، وجميل أن تروح عن قلوبهم أحيانًا بالنكتة اللطيفة، أو اللعبة المسلية، أو الرحلة الهادفة، وأن تستصحبهم معك إلى مجتمعات الخير، ودوريات الأقارب والجيران والأحباب والأصحاب الخيرين، وأجمل من ذلك أن تنشئ لهم في البيت مكتبة طيبة تحوي من الكتب المفيدة والأشرطة النافعة ما يوسع مداركهم ويعينك على تربيتهم، وأن تجعل فيها أو في أي ناحية من البيت جلسة معهم تحفظهم شيئًا من كتاب الله أو تقص عليهم ما فيه عبرة لهم، أو تقرأ عليهم من سير الصالحين وأحاديث النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. أيتها الأم فإذا كان الأب أكثر هيبة عند الأولاد منك فلا تنسي أنك أكثر قربًا للأولاد منه، فساهمي في نصحهم وتوجيههم وتعرفي على أحوالهم وما لا يبدونه لأبيهم، وكوني خير معين للأب على تربيتهم، فالنفع لكما، والمستفيد الأول كلاكما، وما أجمل أسرة يفهم كل واحد من الزوجين دوره فيؤديه. أعتقد أن بيوتنا حين تبلغ هذه المنزلة وحين تفكر بهذه العقلية قادرة- بإذن الله- على إخراج أجيال صالحة وعناصر فاعلة ومؤثرة سينفع الله بها الآخرين،

بدل أن تكون مشكلة يتأذى منها الأهل والجيران وينال قسط من قدرها الآخرين. 2 - المؤسسات التربوية وأهمها المدارس والجامعات، ودور المدرسة يتمثل في التوجيه والتربية والدعوة لمكارم الأخلاق والتحذير من سيئها، وتنظيم اللقاءات الطلابية والرحلات الهادفة المفيدة كل ذلك- ولا شك- يسهم إسهامًا جيدًا في استصلاح الشباب وتوجيههم واستثمار وقت فراغهم، وقبل ذلك سلوك المعلم وشخصيته وحديثه فهي منارة يهتدي بها الدارسون ويحاول الطلاب والطالبات محاكاة معلميهم ومعلماتهم، وعلى قدر همم وأخلاق الكبار يدرج الصغر، وحري بالإدارات المعنية أن يشجعوا الجادين المخلصين، وأن يلفتوا نظر من يقصرون في واجبهم أو لا يكون على مستوى المسؤولية في التربية والمتابعة. أما الجامعات فهي مستودع للعقول ومركز للمعلومات يؤهلها ذلك لعقد الدورات، وتنظيم المحاضرات والندوات، ومن ضمن واجباتها التعرف على المشكلات واقتراح الحلول الناسبة لها، والنظر بين الفينة والأخرى في المناهج الدراسية واستصلاحها وتطويرها بما يخدم أهداف الأمة ويعمق أصالتها، ويحفظ عليها كرامتها ويؤهلها لقيادة العالم من حولها. وليست وظيفة المدرسة والجامعة أن تحفظ الطلبة والطالبات مجموعة من النصوص وتلقنهم كمًّا من المعلومات لا يستفيدون منها في حياتهم العملية، ولا ينبغي أن يكون الهدف من الدراسة مجرد نقل الطالب من مرحلة إلى أخرى، ومنحه في النهاية شهادة تؤهله للعمل وتصله بأسباب الرزق ليس إلا، بل أساس التعليم العمل، والتربية والتهذيب ونصاعة الفكر وارتفاع الذوق والشعور بالمسؤولية والتضحية في سبيل خدمة الآخرين وقيادة المجتمع إلى الخير كل

ذلك أهداف سامية للتعليم ليس العمل والوظيفة إلا واحدًا منها. وكم هو خطاب واع ذلك التعميم الذي عممت به وزارة المعارف برقم 32/ 7/ 1/ 46/ 376 في 18/ 12/ 1414 هـ مشكورة على جميع المناطق التعليمية (مؤخرًا) بشأن دور المدرسة في تحقيق أهداف الإرشاد الوقائي وحماية أبنائنا الطلاب، وتضمن التعميم ثمان نقاط جديرة بتعاون المدراء والمدرسين والمرشدين والأولياء مع تحقيقها ولولا خشية الإطالة لقرأته عليكم. هذه المؤسسات ينبغي ألا تتوقف رسالتها في الشتاء والصيف، فليست الإجازة الصيفية بأقل شأنًا في حياة الطلاب من أيام الدراسة، لكن ينبغي أن يروح عن الطلاب وألا يتصل كد الأذهان عليهم فيملوا، بل تكون الإجازة فرصة للإكثار من المراكز الصيفية التي تعنى بتنشيط الشباب وملء وقت فراغهم بوسائل الترفيه المفيدة واقتراح البرامج المناسبة. ونجدها فرصة مناسبة لنزجي الشكر الجميل للجامعات وإدارات التعليم وهي تعنى بهذه المراكز الصيفية وتشجعها وتدعو الشباب للمشاركة فيها. وعلى الأولياء أن يقدروا أهميتها ويساهموا في تشجيع أبنائهم على التسجيل فيها إذ هي من أفضل الوسائل لحفظ أوقات الشباب وحمايتهم من الانحراف بإذن الله إذا توفر لها المربون المخلصون وتولى مسؤوليتها العارفون المجربون. اللهم ارحمنا برحمتك يا رحيم، وأصلحنا شيبًا وشبابًا ذكرانًا وإناثًا يا رب العالمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالين، أمر المؤمنين بالتعاون على البر والتقوى، ونهاهم عن التعاون على الإثم والعدوان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى سائر المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها السلمون .. 3 - للجماعات والجمعيات الخيرية دورها في استصلاح الشباب، فجماعات تحفيظ القرآن الكريم تعنى بتعليم كتاب الله وتحفيظه وتجويده، ولا شك أن العكوف على حفظ كتاب الله والتفرغ له، وقضاء شطر من حياة الشاب في سبيله .. لا شك أن ذلك عنوان خير، وطريق للفلاح والسعادة، والقرآن يهدي للتي هي أقوم، وبقدر ما تنتشر الحلق في حي أو بلدة بقدر ما يتوفر الخير ويتقلص الشر. وبقدر ما نشكر القائمين على هذه الجماعات ونسأل الله لهم المثوبة، فإننا نأمل أن تزيد من مناشطها فتخدم كتاب الله بالدروس النافعة التي توضح مجمل القرآن، وتكشف عن إعجازه، وتقرب معانيه وترسخ مفاهيمه في أذهان الشباب والشابات. كما نأمل أن تضاعف الحلق مناشطها في الإجازات الصيفية، سواء على مستوى البنين أو على مستوى البنات، وأن تضع لذلك من الدورات والحوافز ما يستنهض همم الأبناء والبنات، ويدعوهم إلى استثمار أوقاتهم وبناء عقولهم وإصلاح قلوبهم.

أما جمعيات البر الخيرية فلها رسالة جليلة في خدمة الفقراء وسد حاجات المعوزين، والالتفات للفقراء والمساكين، وهو جهد يذكر فيشكر لهذه الجمعيات والقائمين عليها. وما أجمل رسالة الجمعية حين تهدي للفقراء والمساكين الرسالة الطيبة، والكتيب النافع والشريط الجيد مع إهدائها للغذاء والملبس، وما أروع رسالة الجمعية وهي تعنى باليتامى والأرامل فتقدم لهم البرامج المفيدة، وتفكر في أساليب ربطهم بالحياة بعيدًا عن استجداء الآخرين أو تسولهم مع عامة المتسولين، وليست يخفى أن من رسالة الجمعية الاجتماعية تنظيم دورات مفيدة للشباب، تنفعهم في حياتهم العملية، والمساهمة في دعم المراكز الصيفية إلى غير ذلكم من أساليب ومناشط يقدرها المسؤولون عن هذه الجمعيات وهم يتحسسون حاجات المجتمع، ويشكرهم المجتمع حين يتولونها. أما الجهة الرابعة القادرة على الإسهام في إصلاح الشباب بإذن الله فهم العلماء والدعاة والتجار، وأصحاب الرأي والفكر أيًّا كانت مواقعهم، فالعلماء والدعاة عليهم مسؤولية توجيه الشباب بدروسهم ولقاءاتهم ومؤلفاتهم ومحاضراتهم وندواتهم، وبوركت أمة يقود مسيرة الشباب فيها العلماء والدعاة والمربون. أما التجار فلهم ميدان رحب في المساهمة في إصلاح الشباب بأموالهم، وذلك بدعمهم للمشاريع والبرامج والمراكز النافعة، وتحية ولأولئك التجار الذين فهموا دورهم واستثمروا أموالهم في دفع عجلة الخير، وفرق كبير بين هؤلاء وبه من طغت عليهم الأنانية، ولم يلتفتوا إلى مجتمعهم، ولم يساهموا في حماية أبناء المجتمع من حولهم، وكأن لسان حالة بعضهم يقول: إنما جمعت هذه الأموال بجهدي وعرق جبيني، فكيف أقدمها رخيصة سهلة للآخرين،

ويذكرنا هذا النوع الممسك من التجار بقصة الرجل الذي منع حق الله فيه وقال: إنما أوتيته على علم عندي؟ ولا يعفى من المسؤولية أصحاب الوجاهة والرأي، وأهل الفكر وأرباب المناصب، فكل يمكن أن يقدم شيئًا لمجتمعه، ولا يسعه السلبية في الحفاظ على أغلى ثروات الأمة- وهم الشباب- فالكلمة الطيبة صدقة، والرأي المستنير لبنة في البناء، والتفكير المستديم في قضايا الشباب علامة الوعي وهو الطريق الأمثل للعلاج ومجرد النقد لذات النقد ولي زمنه، وينبغي أن يترفع العقلاء عن مقارفته، إذ يوجد فئة من الناس لا هم لها إلا انتقاد هذا الشاب أو التقليل من قيمة هذا المشروع دون أن يقدموا بدائل مفيدة ومثمرة وبوركت يا شيخنا الجليل، ويا سماحة والدنا العزيز وأنت تكتب رسالة إلى جميع هذه الفئات مذكرًا الجميع بواجبهم ومسئولياتهم ولعل الجميع قد اطلع على الخطاب الذي وجهه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز يحفظه الله إلى عموم العلماء والدعاة والتجار وأصحاب الوجاهة والرأي للمساهمة في إصلاح الشباب وتربيتهم بشكل عام وفي الإجازات الصيفية ودعم مراكزها بشكل خاص. وهو خطاب لا تبقي لأحد عذرًا في التخلي عن المساهمة بما يستطيع. أيها السلمون أرأيتم لو قام كل فرد منا بدوره الذي يستطيع وأدت هذه المؤسسات والجهات رسالتها على الوجه المطلوب هل يوجد بيننا شاذ أو منحرف، بل وهل يوجد في مجتمع كهذا فرصة لشاب غير جاد يبحث عن قضاء وقته بأي شكل كان، وأنَّى لمنحرف أن ينحرف وهو يجد العناية والاهتمام تلازمه أينما حل، ويجد التربية والتوجيه يحيط به أينما رحل، ويجد الجدية شعارًا للمجتمع كله أينما نظر؟

إن تضافر المجتمع وتكامل المؤسسات في رسالتها عنوان وعي ودليل تحضر، وهو أنجح أسلوب للتربية المتكاملة فضلاً عن الوقاية من السلوكيات المنحرفة، فلنتق الله معاشر المسلمين ولنتعاون على البر والتقوى، وليدرك كل شخص منا أنه معني بالحديث بما يستطيع، ولا يكن دور أحدنا إلقاء اللائمة على الآخرين، أو التباكي على واقع الشباب المنحرفين، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السامع وهو شهيد.

دواعي التوبة في رمضان

دواعي التوبة في رمضان (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، يتوفى الأنفس حين موتها، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بقدرته يتعاقب الجديدان، وتتكرر المواسم، وتطوى الأيام والليالي، وتفنى أمم وشعوب، وتنشأ أمم وشعوب أخرى، وما يعقل ذلك إلا العالمون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أزكى البشرية وأبرها وأسبقها إلى الخيرات، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعلى الآل والأصحاب الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين فشهر الصيام موسم للبر والتقوى، قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} (¬2). إخوة الإيمان حل الضيف الكريم المنتظر، ومتع الله من شاء من عباده حتى بلغ شهر الصيام، وطويت صحائف أقوام، فغيبتهم اللحود، واخترمتهم المنايا قبل حلول هذا الشهر الكريم، ولن تزال المنايا تخترم النفوس، وقد قضى الله على أقوام باستكمال هذا الشهر وقضى على آخرين بالموت قبل بلوغ الشهر أجله، ولكل أجل كتاب، ومن أدركه هذا العام وإذا كانت تلك جزءً من أقدار ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق. (¬2) سورة البقرة، الآية: 183.

الله وتدبيره في العبيد فالمغبون حقًا من يدخل عليه الشهر ويخرج ولم يستفد شيئًا، ألا وكلنا ذاك المخطئ الذي يرجو مغفرة ربه وتكفير سيئاته، ورمضان فرصة لتكفير السيئات، ويجد المرء فيه من العون ما لا يجده في الأشهر الأخرى، ففرص الطاعة تتوفر، وأبواب الجنة تفتح، ودواعي الشر تضيق، وأبواب النار تغلق، به تنشرح صدور المؤمنين، وبه تصفد مردة الشياطين، فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره من الشهور، وهذه وتلك تعين المرء على تكفير سيئاته وتدفعه إلى عمل الصالحات التي بها يكفر الله السيئات، قال تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} (¬1) ومحروم من أدركه رمضان فلم يغفر له، فأي خسارة أعظم من أن يدخل المرء فيمن عناهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بحديثه على منبره في مساءلة بينه وبين جبريل عليه السلام، وقد جاء فيها: «من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين. فقلت: آمين». وإذا كان الله يدعو عباده إلى التوبة النصوح الصادقة في كل زمان، ويقول جل ذكره: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحًا} ويقول تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}. فإن التوبة في رمضان أحرى وأولى، فهو شهر تسكب فيه العبرات، وتقال فيه العثرات، ويحصل به العتق من النار، ومن منا لا يتلبس بخطأ هو أدرى به من غيره، ومن منا لا يصر على معصيته كبرت أو صغرت .. أو ليس حريًّا بنا في رمضان أن نتخفف من الأوزار، ونقلع عن المعاصي والموبقات فيستشعر لذة رمضان ونحس بأثره في نفوسنا وسلوكياتنا، ولا يكن رمضان وغيره سواء. ¬

(¬1) سورة هود، الآية: 114.

إن رمضان فرصة لمحاسبة النفس، وينبغي أن يكون رمضان مذكرًا لنا بما اقترفنا طيلة العام فما وجدنا من خير حمدنا الله وازددنا، وما وجدنا عملنا فيه من سوء تبنا إلى الله واستغفرنا وتصدقنا، وأكثرنا من عمل الصالحات حتى تعفوا على السيئات، ووعدنا أنفسنا ألا تتكرر أخطاؤنا، وألا نرخي العنان لشهواتنا، فإذا حافظنا على ذلك وحافظنا قبله على الصلوات الخمس، والجمعة والجماعة، كنا ممن فقه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لا بينهن إذا اجتنبت الكبائر» (¬1). ومن دواعي التوبة في رمضان الصبر، فالصوم كما جاء في الحديث «نصف الصبر» (¬2). والصوم يربي النفس على الصبر وتحمل المشاق، وإذا كان الصائم يصبر نفسه عن ما أحل الله له من الطعام والشراب والمنكح، فلا شك أن صبره عن ما حرم الله عليه من باب أولى. وهكذا يخرج المسلم من شهر الصيام وقد تدرب على الصبر، وانتهي في حسبانه أي شيء كان يظنه مستحيلاً، أو ليس المدمن على التدخين مثلاً كان لا يطيق الصبر عنه بضع سويعات فإذا به في شهر الصيام يصبر عنه الساعات الطوال .. أو ليس في ذلك فرصة للإقلاع منه والخلاص من أسره بدءًا من شهر الصيام .. وهكذا فكل من فتن بشيء محرم وصبر نفسه عنه في شهر الصيام فجدير به أن يقلع عنه ويتوب إلى مولاه، وهذا من المستفيدين حقًّا من حكم الصيام ومثله يفقه حقيقة التقوى في الصيام، كما قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}. ¬

(¬1) رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجه وفي إسناده موسى بن عبيدة، متفق على ضعفه، رمضان مدرسة الأجيال، ناصر العمر/ 30. (¬2) رواه الترمذي وابن ماجه وهو حديث حسن، عبد الله الفوزان، أحاديث الصيام/ 97.

وينبغي أن يترفع الإنسان المكرم بصبره عن صبر البهائم التي تأكل حين تجد المرعى، وتصوم إجبارًا حين يعز المرعى، فما بالله حاجة أن يدع الإنسان طعامه وشرابه دون جدوى، لكنه السر العظيم يراد للإنسان أن يدركه فيشكر ربه على أن هيأ له ما يأكل منه ويشرب، وقد حرم منه آخرون، ويتوب إلى بارئه ويستغفره ويعبده حق عبادته. لا ترد، كما قال عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة لا ترد دعوتهم، الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم» (¬1). وليحرص السلم على الدعاء عند الإفطار، فللصائم عند فطره دعوة لا ترد، كما صح بذلك الحديث (¬2). كما يحرص على الاستغفار بالأسحار قال تعالى: {والمستغفرين بالأسحار} ولا يخص أن حضور القلب والإلحاح في الدعاء والبدء بحمد الله والثناء عليه، والختم بالصلاة والسلام على نبيه صلى الله عليه وسلم كل ذلك من آداب الدعاء .. وهل غاب عن ذهنك أيها المقصر أن الله تعالى يغفر الذنوب جميعًا مع التوبة وصدق التوجه، وأن لله تعالى نفحات في رمضان حري بك أن تستفيد منها، فقد روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله عتقاء في كل يوم وليلة، لكل عبد منهم دعوة مستجابة». وفي الحديث الآخر عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لله عند كل فطر عتقاء». ¬

(¬1) المرجع السابق/ 97. (¬2) رواه أحمد وصحح إسناده المنذري والألبانى الصيام/ 89.

فتذكر ذلك جيدًا يا أخا الإسلام وادعُ الله بالتوبة النصوح، واسأله من خيري الدنيا والآخرة، وأرجه أن تكون من عتقائه من النار. وإنه لفرق بين من يتصور هذه المعاني وهو عند لحظات الإفطار، وبين من هو غافل شارد، لا يقطع حديثه المعتاد إلا سماع الأذان، وربما كان الكلام في محرم، فكانت الخسارة أعظم، فاستفيدوا من الصيام يا معاشر الصوام، وانتبهوا للحظات قبول الدعاء فهي حرية بالاهتمام. إخوة الإيمان .. وثمة أمر يدعو إلى التوبة في كل حال، وهو في رمضان أحرى وأولى، ألا وهو كثرة الذكر وكثرة الصدقة، فكثرة الذكر تشرح الصدور وتطمئن بها القلوب، وتصبح النفوس متهيأة للتوبة {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} والذكر طارد للشيطان جالب لملائكة الرحمن، هذا فضلاً عما في الذكر من تكفير الخطايا والذنوب وقد صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» (¬1). أما الصدقة فهي برهان على الرغبة في الخير، ولاسيما صدقة السر، التي قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها «صدقة السر تطفئ غضب الرب» (¬2). والصدقة- بشكل عام- تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار .. كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3). وإذا كانت الصدقة- الأخرى- مستحبة في كل زمان، فلها في شهر الصيام مزية على سائر العام، وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما ¬

(¬1) الأذكار للنووي ص 12، 13. (¬2) صحيح الجامع 3/ 240. (¬3) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه. الفوزان/ 68.

يكون في رمضان، وقال الإمام الشافعي رحمه الله «أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم (¬1). وهكذا يكون الذكر وتكون الصدقة من أسباب التوبة وتكفير السيئات، ولا تبقى الخطيئة في حس المسلم عقدة به تقعد عن المغفرة كحال أصحاب العقائد الفاسدة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم}. ¬

(¬1) معرفة السنن والآثار للبيهقي عن أحاديث الصيام للفوزان/ 69.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين غافر الذنب وقابل التواب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله الأطهار وارض اللهم عن الصحابة الأخيار، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان ما تجدد الليل والنهار وتلاحقت المواسم والأعوام. أيها الصائمون فمن دواعي التوبة في شهر رمضان كثرة تلاوة القرآن، من أسباب التوبة في رمضان لا شك أن تلاوة القرآن مستحبة في كل زمان، ولا شك أن للقرآن أثره على قارئه في كل حال، كيف لا وهو الكتاب العظيم المعجز الذي حكى الله أثره على صم الجبال لو أنزل عليها {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله} وتبقى القلوب التي لا تلين أو تتأثر بالقرآن {كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون} (¬1). وللقرآن في رمضان مزية خاصة، ففيه أنزل، وبه كان جبريل عليه السلام يلقى النبي صلى الله عليه وسلم كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن (¬2) وبه تزدان المساجد في رمضان تلاوة وصلاة، وخشوعًا، وبه يتهيأ لكثير من الناس القراءة أكثر من غيره، وإن كان حريًّا بالمسلم أن يداوم على قراءة القرآن في رمضان أو غير رمضان، لكن ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 74. (¬2) متفق عليه البخاري 1/ 30، ومسلم 2308.

فضل الزمان يدعو إلى كثرة التلاوة والتدبر للقرآن، وفي رمضان يجتمع الصيام مع تلاوة القرآن فيكون أسمى للروح وأخف للجوارح لعدم امتلاء البطن في الطعام. وقارئ القرآن بتدبر وتمعن لابد أن ينتهي إلى التوبة، ولابد أن يعود إلى ربه ويستغفره من ذنوبه لعدة دواع منها: أنه يقرأ ما أعده الله للمتقين من النعيم والحبور الدائم مما تطرب له النفوس وتتعلق به القلوب، ويزداد شوقه إذا قرأ أن في ذلك النعيم ما لا يستوعبه الخيال أو تحيط به العيون والأسماع {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} (¬1). ولا يكاد ينتهي من الأنس والشوق حتى تمر به المشاهد المغيبة للكافرين والفجار مما لا تطيق بعض النفوس سماع وعده ووعيده فضلاً على أن تصبر على شدة العذاب أو تطيق أن تكون من أهل النار والعياذ بالله وبين هذه المشاهد وتلك تأتي الدعوة الإلهية للتوبة فضلاً من الله وإحسانًا وإلا فربك الغني القهار، وجهنم لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم، وحين يقال لها: هل امتلأت؟ تجيب: هل من مزيد؟ وقارئ القرآن يستشعر التوبة لأنه يقرأ أخبار وقصص التائبين وفي مقدمتهم آدم عليه السلام، فلم تقعد به الخطيئة عن التوبة والاستغفار، ولم يتجبر أو يتكبر كحال إبليس الذي كان مصيره إلى النار وبئس القرار، وسيشعر من هذا أن كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، فيتأمل في نفسه ويعقد العزم على التوبة، ويكون هذا الشهر الكريم بداية عتقه من النار، ويكون القرآن دليله إلى النجاة، وقاربه إلى بر الأمان. ¬

(¬1) سورة السجدة، الآية: 17.

بل إن قارئ القرآن يجول بطرفه ويسرح بفكره في أحوال الأمم الغابرة بين الطاعة والعصيان، وبين الرجوع إلى الله والجبروت والطغيان .. ويهديه القرآن إلى نهاية هؤلاء وأولئك، ويبصره كيف كانت العاقبة ولمن كانت النهاية في كل حال، فيدعوه ذلك إلى أن يكون من حزب الله المفلحين، وينأى بنفسه أن يكون ممن أخذهم الله بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون. إخوة الإيمان: وقارئ القرآن لا يخدعه عن التوبة طول الأمل أو نضرة الشباب، أو توفر النعم فيسوف في التوبة حتى تقترب النهاية وتكون المفاجأة {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} (¬1). ويهدي القرآن أصحابه كيف يتوبون وكيف يستغفرون {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين} (¬2). أيها المسلمون توبوا إلى ربكم واستغفروه، واستفيدوا من تلاوة القرآن وشهر الصيام، ولا تتعاظموا على الله ذنبًا، فقد أذن لأهل الكفر بالمغفرة إن هم تابوا وانتهوا {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} (¬3). ودعا أهل التثليث وقتلة الأنبياء- عليهم السلام- إلى التوبة فقال {أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم} (¬4). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 18. (¬2) سورة آل عمران، الآيتان: 135، 136. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 38. (¬4) سورة المائدة، الآية: 74.

وفي الحديث جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أحدنا يذنب، قال «يكتب عليه»، قال: ثم يستغفر منه، قال: «يغفر له وتاب عليه» قال: فيعود فيذنب، قال: يكتب عليه، قال: ثم يستغفر منه ويتوب قال: يغفر له ويتاب عليه، ولا يمل الله حتى تملوا» (¬1). وقيل للحسن يرحمه الله: ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه، ثم يعود ثم يستغفر ثم يعود فقال: ود الشيطان لو ظفر منكم بهذا فلا تملوا من الاستغفار (¬2). ومع التوبة والاستغفار تجنبوا الموبقات، وأكثروا من الطاعات، عسى ربكم أن يرحمكم ويغفر لكم- إن في ذلك لذكرى لمن عقل شهر الصيام، وأدرك ما فيه والقرآن من أسرار ودعوة إلى الخير والإيمان، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها. ¬

(¬1) أخرجه الحاكم، توجيهات وذكرى 2/ 249. (¬2) السابق 1/ 250.

التوبة النصوح.

التوبة النصوح (¬1). الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ... أما بعد: إخوة الإسلام فبشراكم شهر الصيام، وهنيئًا لكم إدراك شهر القرآن .. نزف البشرى للمستبشرين، ونذكر أصحاب الهمم العالية بموسم من مواسم الخيرات للناس أجمعين، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، هلال خير وبركة، ربنا وربك الله. أيها المسلمون أنتم تشتركون مع الشمس والقمر، والجبال والشجر، والأنعام والليل والنهار ومن في السموات والأرض كلهم. تشتركون مع هؤلاء وأولئك بالعبودية لله رب العالمين. أمر القمر بالإهلال فأهل، {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون}. وأمرتم أنتم بالصيام والقيام في هذا الشهر الكريم فحققوا العبودية والطاعة لرب العالمين. أمة الإسلام هذا هو الشهر الذي طالما انتظره المؤمنون، وهذا هو الضيف الذي طالما حل خفيفًا ثم ارتحل وأعين المؤمنين تذرف الدمع حزنًا لوداعه .. ولوعة لفراقه، فهل يسمع النداء من لا يزال قلبه لاهيًا منغلقًا، وهل يصدق التوبة من ظل طول العام في المعاصي والغفلة، وستر الله يظله، وعين الله تبصره، {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون أنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار}. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 2/ 9/ 1414 هـ.

أيها المؤمنون استقبلوا هذا الشهر بالفرح والبشرى والعزيمة الصادقة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم .. وليكن هذا العام خيرًا من أعوام خلت، فلعل بعضكم يدركه هذا العام ويكون في العام القابل في عداد الموتى. كم هي نعمة أن يدرك المرء شهر الصيام وهو موفور الصحة، قوي البنية، آمنًا في سربه، عنده قوت يومه وليلته، فضلاً أن يكون عنده ما يقتاته لبضع شهور- بل لبضع سنين، إنها نعمة ومغنم، ولكن لا يعقلها إلا العالمون، ولا يقدرها حق قدرها إلا الموقنون، ولا يحس بقيمتها إلا المجربون، تصور يا أخا الإسلام إخوانًا لك طالما شغلوا بمعاشهم وما يسد رمقهم، أو أشغلتهم الحروب المدمرة عن عبادة ربهم، أو أخل بطمأنينة العبادة لديهم انعدام الأمن في أرضهم وديارهم، ماذا لو كنت بجوارهم وحل بكم شهر الصيام- لا شك أنك ستتألم وتتمنى لو كنت من المصائب واللأواء سالمًا، وأنك قمت لله قانتًا- وصمت يومك لله خاشعًا شاكرًا، فاعقل ما أنت فيه من نعمة .. وتذكر ما أنت فيه من عافية، واسأل ربك دائمًا العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة، وكن لربك من الشاكرين، ولفرص الخير من المبادرين، وإياك إياك أن تحصد الشوك والشرور، وذلك ما اقترفت يداك وما ربك بظلام للعبيد، في وقت يحصد فيه غيرك ما لذ وطاب من الثمار، وتلك وربي هي الخسارة التي لا تعوض بثمن- ولا رجعة فيها ولا ينفع الندم. إخوة الإسلام .. فطالما بدأت القلوب بوابل المعاصي، فطهروها بالقرآن وطالما تعفنت البطون بكثرة المطاعم والمشارب فأصلحوها بالصيام. وطالما غفلنا وفرطنا فلنعد إلى الله في شهر رمضان فأبواب السماء تفتح، ومردة الشياطين تصفد- يزين الله في هذا الشهر جنته .. وتنادي الحور أن هلموا

والثمن كثرة السجود ومداومة الذكر، ومراقبة المولى جل جلاله .. والاستغفار حين طلوع الشمس وحين غروبها في الأسحار. وما أعز التوبة وأغلاها في كل زمان .. ولكن المرء يعان عليها في شهر الصيام، وشهر رمضان شهر التوبة والإنابة إلى الملك العلام، وإذا هممت بالتوبة يا أخا الإسلام فلتكن توبة نصوحًا تلك التي قال عنها الجليل في محكم التنزيل وهو ينادي المؤمنين أجمع {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحًا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير} (¬1). أتدري أيها التائب ما التوبة النصوح؟ وما شروطها؟ وما علامتها؟ لقد ذكر العلماء عدة أقوال في التوبة النصوح أوصلها القرطبي يرحمه الله إلى ثلاثة وعشرين قولاً، أذكر لك بعضًا منها، فروي عن عمر وابن مسعود وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم: هي التي لا عودة بعدها، كما لا تعود اللبن إلى الضرع (¬2). وقال الحسن: النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره. وقال الجنيد: التوبة النصوح هو أن ينسى الذنب فلا يذكره أبدًا لأن من صحت توبته صار محبًّا لله، ومن أحب الله نسى ما دون الله. وقال القرطبي: يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيء الخلان. ¬

(¬1) سورة التحريم، الآية: 8. (¬2) ورفعه بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم والموقوف أصح، كما نقل ابن كثير في تفسيره (8/ 196).

وعن أنس رضي الله عنه (ذي الأذنين) هو أن يكون لصاحبها دمع مسفوح، وقلب عن المعاصي جموح. أما شروط التوبة النصوح، فقد قال سعيد بن جبير رحمه الله: لا تقبل التوبة ما لم يكن فيها ثلاثة شروط: خوف ألا تقبل، ورجاء أن تقبل، وإدمان الطاعات. وهل من شروط التوبة النصوح الاستمرار على ذلك إلى الممات؟ تساءل ابن كثير- يرحمه الله- هذا التساؤل .. فقال: (وهل من شرط التوبة النصوح الاستمرار على ذلك إلى الممات كما تقدم في الحديث وفي الأثر) (لا يعود منه أبدًا)، أو يكفي العزم على أن لا يعود في تكفير الماضي، بحيث لو وقع منه ذلك الذنب بعد ذلك لا يكون ذلك ضارًا في تكفير ما تقدم، لعموم قوله عليه السلام: «التوبة تجب ما قبلها»؟ - ثم قال- وللأول- معنى عدم العودة إلى الذنب أبدًا- أن يحتج بما ثبت في الصحيح أيضًا «من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» (الحديث متفق عليه) فإذا كان هذا في الإسلام الذي هو أقوى من التوبة، فالتوبة بطريق الأولى والله أعلم (¬1) وعلى كل حال فمما ينبغي أن يعلم أن الندم توبة كما ورد ذلك عن المصطفى صلى الله عليه وسلم. وإذا لم يكن بمقدور الإنسان الخلاص من المعاصي، وكل ابن آدم خطاء .. فعليه أن يلازم التوبة وألا ييأس من المغفرة، حتى ولو كثر ذنبه .. ولو تكررت أخطاؤه .. ولو أعاد التوبة مرة ومرة، فقد أخرج البخاري ومسلم حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه تبارك وتعالى (¬2). ¬

(¬1) انظر تفسير ابن كثير 8/ 197. (¬2) انظر ص 3 من خطبة المغفرة (1) ورقمها (36) أو انظر الحديث نفسه جامع الأصول 8/ 39 مع الحاشية.

أخي المسلم ينبغي أن تحذر المعاصي ما ظهر منها وما بطن قدر طاقتك، فهي لا تزال بصاحبها حتى تورده المهالك .. ومع ذلك فينبغي ألا تيأس من روح الله ورحمته، وألا يصيبك الإحباط والقنوط مهما بلغت ذنوبك، شريطة أن تقبل على الله وأن تقف ببابه معترفًا مستغفرًا، وإليك قصة هذا الرجل الذي تكرر ذنبه وفي كل مرة يقف بباب الله سائلاً مستغفرًا فلم يخيب الله أمله. فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه تبارك وتعالى قال: «أذنب عبدي ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي ربي أغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك، قال عبد الأعلى: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة اعمل ما شئت». وفي رواية بمعناه وفي الثالثة قال «قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء» قال الحافظ في الفتح، قال القرطبي (وفائدة هذا الحديث أن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه لأنه انضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة، لكن العود إلى التوبة أحسن من ابتدائها لأنه انضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم والإلحاح في سؤاله، والاعتراف أنه لا غافر للذنب سواه، ثم نقل الحافظ كذلك عن النووي قوله في الحديث: إن الذنوب ولو تكررت مائة مرة بل ألفًا فأكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته) (¬1) تلك نعمة ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه. ¬

(¬1) جامع الأصول 8/ 39.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين غافر الذنب وقابل التوبة شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو. أحمده تعالى، وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأر ض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. إخوة الإسلام بقي أن تعلموا علامات التوبة النصوح، فقد قال سفيان الثوري يرحمه الله: علامة التوبة النصوح أربع: القلة، والعلة، والذلة، والغربة. وقال ذو النون: علامتها ثلاث: قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام، وقال شقيق: أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة، ولا ينفك من الندامة، لينجو من آفاتها بالسلامة. وقال السقطي: لا تصلح التوبة النصوح إلا بنصيحة النفس والمؤمنين لأن من صحت توبته أحب أن يكون الناس مثله (¬1). يا أخا الإسلام وأينا معاشر البشر لا يخطئ، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) وأينا الذي ينفك عن ذنب أو عن عدد من الذنوب هو أدرى بها من غيره .. وإذا كان الأمر كذلك فإنني أدعو نفسي وأدعوكم معاشر المسلمين لتجديد التوبة مع الله في هذا الشهر الكريم، فهو فرصة للتوبة الصادقة النصوح، وهو معين على فعل الطاعات المكفرة لما ¬

(¬1) انظر تفسير القرطبي 18/ 198.

سلف من الذنوب، وأرشد نفسي وإياك إلى وسيلة من وسائل التوبة والاستغفار- علمًا بأن التوبة لا تنحصر في أسلوب واحد معين- فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من رجل يذنب ذنبًا فيتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له» (¬1)، وقال الحافظ ابن كثير معلقًا عليه: ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة (¬2). ولا شهر أخا الإسلام أن للوضوء والصلاة أثرًا في تكفير الخطايا والسيئات، وإليك الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه مطولاً في قصة إسلام عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه وقد جاء في الوضوء أن عمرًا قال: يا نبي الله فالوضوء حدثني عنه قال: ما منكم وجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرجت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرجت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرجت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرجت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه .. » (¬3). فهل يعجز أحدنا أن يصنع ذلك كلما ارتكب خطيئة .. بل ولو لم يكن له خطيئة عسى الله أن يرحمه ويغفو له. وثمة دعاء والاستغفار يحسن التذكير به بشكل عام وحال الخطيئة وعند التوبة ¬

(¬1) حديث حسن أخرجه الأمام أحمد وأهل السنن. (¬2) تفسير ابن كثير 2/ 104، والمتجر الرابح/ 497. (¬3) صحيح مسلم 1/ 570، 571.

بشكل خاص، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان قد فر من الزحف» (¬1). إخوة الإيمان ليس يخفي أن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين، فتزودوا من الصالحات في شهر تضاعف فيه الحسنات فهو سبيل لتكفير سيئاتكم وأكثروا من الصلوات وتلاوة القرآن، والذكر، والصدقات وصلة الأرحام وغيرها من القربات واحفظوا جوارحكم عن الحرام فليس الصيام إمساكًا عن المطعم والمشرب والمنكح كلا وليس لله حاجة أن يدع الإنسان طعامه وشرابه دون جدوى، بل المقصود تزكية الجوارح وحفظها وتزكية النفوس وجلب النفع لها. ¬

(¬1) قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ومسلم (الأذكار للنووي/ 349) وحاشية جامع الأصول 4/ 389.

من عوامل الثبات على دين الله

من عوامل الثبات على دين الله (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه .. إخوة الإيمان .. وكما يحرص المسلم على معرفة أسباب الهداية فهو حريص كذلك بل هو أحرص على معرفة عوامل الثبات على دين الله .. ذلك لأن الثبات على دين الله حتى الممات هو ثمرة الهداية، وهو الضمان بإذن الله للحصول على الجنة والمغفرة، وما أتعس المرء وأقل حظه حين يذوق طعم الإيمان ثم هو يرتد بعد إلى حماة الكفر بالله والعياذ بالله، ولذا كانت عاقبة المرتد وخيمة ونهايته أليمة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من بدل دينه فاقتلوه» (¬2) الحديث رواه أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما (صحيح الجامع 5/ 264). وما أحوج المرء في زمان الغربة إلى التعرف على عوامل الثبات بعد معرفته لأسباب الهداية إلى الصراط المستقيم وذلك لفساد الزمان، وندرة الإخوان، وضعف المعين، وقلة الناصر، بل ولكثرة حوادث الردة والنكوص على الأعقاب .. وليس بالضرورة أن تكون الردة ردة معلنة صريحة عن الإسلام .. فإن قبول بعض أحكام الإسلام ورفض أحكام أخرى، أو الإيمان بشيء مما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم والعمل به، ورفض شيء آخر من دين الله هو ردة عن الدين، وهو نكوص عن الحق الذي نزل به المرسلون عليهم السلام والإسلام كل لا يتجزأ، والشريعة حق كلها وهي منظومة لا يمكن الفصل بينها .. وقد حكم الله بكفر ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 17/ 3/ 1414 هـ. (¬2) الحديث رواه أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما (صحيح الجامع 5/ 264.

الذين يقبلون بعضها ويرفضون بعضًا آخر، فقال تعالى {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} (¬1). إن العلمنة بكافة ألوانها وصورها- هي ردة عن دين الله .. وكيف لا يكون كذلك وهي أسلوب ماكر لتنحية الدين عن الحياة وأن العلمانيين مهما اختلفت أسماؤهم أو تباينت لغاتهم أو تباعدت ديارهم هم أولئك النفر الذين يحاولون فصل الأمة عن دينها وتاريخها، ويلبسون عليها دينها هم دعاة على أبواب جهنم. وفي ظل هذا التشكيك الخفي في دين الله تبرز الحاجة إلى معرفة عوامل الثبات .. بل وفي ظل مغريات الحياة الدنيا واختلاط الحق بالباطل، وضعف اليقين وغلبة الدين، وندرة الصالحين تكون الحاجة أشد للوقوف على عوامل الثبات. فإذا أضيف إلى هذه العوامل أن الهداية والثبات مردها بإذن الله إلى القلب، وهي متعلقة به، وهو من أكثر الجوارح تقلبًا، حتى قال فيه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «لقلب ابن آدم أشد انقلابًا من القدر إذا اجتمعت غليانً» (¬2). ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: «إنما سمي القلب من تقلبه، إنما مثل القلب كمثل ريشة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهرًا لبطن» (¬3). إذا كان ذلك كذلك عدم مدى الحاجة إلى معرفة عوامل الثبات بعد معرفة أسباب الهداية .. وإليك أخي المسلم بعضًا من الأمور التي تعين بإذن الله على ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 85. (¬2) الحديث روه أحمد والحاكم والطبراني بأسانيد ورجال أحدها ثقات (مجمع الزوائد 7/ 211). (¬3) الحديث رواه أحمد.

الثبات على الحق .. أسأل الله أن يثبتني وإياكم وإخواننا المسلمين على الحق إنه جواد كريم. 1 - العامل الأول: الاعتصام بالكتاب والسنة، والتمسك بما فيهما علمًا وعملاً، فالقرآن الكريم حبل الله المتين، والسنة النبوية مكملة للقرآن وشارحة له، تفصل ما أجمل، وتفسر ما أشكل، وهما جميعًا نور وضاء يهتدي بنورهما أولو الألباب، وما فتئ المصطفى صلى الله عليه وسلم يدعو أمته للتمسك بهما والرجوع إليهما حتى وافاه اليقين، ومما قاله عليه الصلاة والسلام «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله» (¬1). وهكذا فكلما كان التزام الأمة بالكتاب والسنة قويًا، كان ثباتها على الحق .. وكلما هجر القرآن اندرست السنة .. كان ذلك داعيًا للانحراف وباعثًا للضلال ولا حول ولا قوة إلا بالله. ويندرج تحت هذا الأصل الاقتداء بسلف الأمة الصالحين الذي صحبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم وأخذوا منه وتربوا على يديه، وفي طليعة هؤلاء الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وعن سائر الصحابة أجمعين وفي هؤلاء جاءت وصية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (¬2). أخي المسلم ومن هنا يتضح لك حاجتك في الثبات على دين الله على لزوم الكتاب والسنة وما فيهما من توجيه ولزوم سنة الخلفاء الراشدين، وهديهم .. ويتبين لك كذلك أن التمسك بالبدع المحدثة كأعياد المولد مثلاً، والتعبد ¬

(¬1) أخرجه الإمام مالك والحاكم بسند حسن، جامع الأصول 1/ 277. (¬2) الحديث رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه بسند صحيح جامع الأصول 1/ 279.

بالخرافات الشركية كالطواف حول القبور والتوسل بالأموات ونحوها كل ذلك مما يدعو إلى الانحراف عن صراط الله المستقيم، ويبعد المرء عن الثبات على دين الله ومنهجه القويم. 2 - العامل الثاني: من عوامل الثبات استدامة الطاعة والاقتصاد فيها: قال الله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (¬1) وقال في الآية الأخرى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة} (¬2). فهذا وعد من الله أن يحفظ ويثبت الملتزمين بالطاعة والمحافظين على فعل ما جاءت به الشريعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة إن الاستمرار على فعل الطاعات وترك المحرمات والعمل بما يوعظ به المرء أمر عزيز على النفس ويحتاج إلى مجاهدة وترويض، لكنه في النهاية عامل مهم في الثبات {ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا} (¬3). وقال تعالى: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء} (¬4). قال قيادة وغي واحد من السلف: أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح. وفي الآخرة في القبر (¬5). ¬

(¬1) سورة الأحقاف، الآية: 13. (¬2) سورة فصلت، الآية: 30، 31. (¬3) سورة النساء، الآية: 66. (¬4) سورة إبراهيم، الآية: 27. (¬5) تفسير ابن كثير 4/ 421.

أما الكسالى والمفرطون .. والذين يقدمون عمى الطاعة حينًا ويتهاونون فيها حينًا آخر فهؤلاء على خطر .. وهل يضمنون أنفسهم أن تخترمهم المنية في حال تفريطهم فيحتم لهم بسوء الخاتمة ولا حول ولا قوة إلا بالله. فاحرص أخي المسلم على استدامة الطاعة، لأنك لا تدري متى الرحيل، واعلم أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم المداومة على عمل الصالحات وإن كانت قليلة، وقال في ذلك «أحب الأعمال إلي الله أدومها وإن قل» (¬1) وبهذا نصح الأمة وأرشد الرعية، وفي الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان للنبي صلى الله عليه وسلم حصير، وكان يحجره بالليل فيصلي فيه، ويبسطه بالنهار فيجلس عليه، فجعل الناس يثوبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يصلون بصلاته حتى كثروا، فأقبل فقالت فقال «يا أيها الناس خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملو، وأن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل» (¬2). زاد في رواية و «كان آل محمد إذا عملوا عملاً أثبتوه» (¬3). 3 - العامل الثالث من عوامل الثبات على دين الله .. الدعاء والإلحاح على الله بالثبات، وكما أن الدعاء سبب للهداية أصلاً- فهو عامل للثبات ثانيًا وإذا كانت القلوب هي أوعية الهداية .. أو هي السبب في الغواية- فهي بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء عن نعيم بن همام الغطفاني رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يزيغه أزاغه، وإن شاء أن يقيمه أقامه، وكل يوم الميزان بيد الله، يرفع أقوامًا، ويضع آخرين إلى يوم القيامة» (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه صحيح الجامع 1/ 107. (¬2) متفق عليه صحيح الجامع 1/ 107. (¬3) انظر رواياته في جامع الأصول 1/ 303 - 305. (¬4) الحديث رواه الطبراني ورجاله ثقات، مجمع الزوائد 7/ 211.

وثبت في الحديث الصحيح أن أكثر دعائه صلى الله عليه وسلم «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» فقيل له في ذلك؟ قال: «إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ» (¬1). وثبت أيضًا أن أكثر أيمانه كانت: «لا ومصرف القلوب» (¬2) فألحوا على الله بذلك معاشر المسلمين ولاسيما في أوقات الإجابة، نسأل الله ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب (¬3). أقول ما تسمعون وأستغفر الله ... ¬

(¬1) صحيح الجامع 4/ 36 حديث رقم 4677. (¬2) صحيح الجامع 4/ 236 حديث رقم 4676. (¬3) مجمع الزوائد 7/ 211.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين ... العامل الرابع من عوامل الثبات .. الالتفاف حول العلماء الصالحين والدعاة الصادقين .. الذين يثبتون الناس حين الفتنة، ويؤمنونهم حين الخوف والرهبة أولئك مصابيح الدجى يحيي الله بهم قلوب العباد .. وينتشل بهم آخرين من الفساد .. ويتماسك على الطريق القويم بسببهم أمم وأقوام كادوا أن يقعوا في الهاوية، وهل نسى المسلمون دور أبي بكر رضي الله عنه في الردة أو تناسى المؤمنون موقف الإمام أحمد يوم المحنة، وهذا الإمام علي بم المديني رحمه الله يقول: أعز الله الدين بالصديق يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة (¬1). وتأمل ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله عنه دور شيخيه ابن تيميه يرحمه الله في تثبيتهم على الحق، إذ يقول: وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا (¬2). بل وتأمل ما في قصة الإمام أحمد يوم المحنة بخلق القرآن، وكيف توافد الصالحون على الإمام أحمد يهدأونه ويثبتونه، وهو الأمام الأشم، ومع ذلك يعترف بأثر كلامهم عليه، فقد روى الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي جعفر الأنباري قال: لما حمل أحمد إلى المأمون أخبرت، فعبرت الفرات، فإذا هو جالس في الخان، فسلمت عليه. ¬

(¬1) وسير أعلام النبلاء 11/ 96. (¬2) وسائل الثبات، ص 25.

فقال: يا أبا جعفر تعنيت. فقلت: يا هذا، أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير. ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك، فإنك تموت، لابد من الموت، فاتق الله ولا تجب. فجعل أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله. ثم قال: يا أبا جعفر، أعد .. فأعدت عليه وهو يقول: ما شاء الله .. أ. هـ (¬1). وقال الإمام أحمد في سياق رحلته إلى المأمون: «صرنا إلى الرحبة، ورحلنا منها في جوف الليل، فعرض لنا رجل فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ . فقيل له: هذا. فقال للجمال: على رسلك .. ثم قال: (يا هذا، ما عليك أن تقتل هاهنا، وتدخل الجنة. ثم قال: أستودعك الله، ومضى. فسألت عنه، فقيل لي، هذا رجل من العرب، من ربيعة، يعمل الصوف في البادية، يقال له: جابر بن عامر، يذكر بخير» (¬2). وفي البداية والنهاية: أن الأعرابي قال للإمام أحمد: (يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤمًا عليهم، وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه، فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله، فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل). ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 11/ 238. (¬2) المصدر السابق 11/ 241.

قال الإمام أحمد: وكان كلامه مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع عق ذلك الذي يدعونني إليه (¬1). وفي رواية أن الإمام أحمد قال: (ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق). قال: (يا أحمد إن يقتلك الحق مت شهيدًا، وإن عشت، عشت حميدًا .. فقوي قلبي) (¬2). ويقول الإمام أحمد عن مرافقة الشاب (محمد بن نوح) الذي صمد معه في الفتنة. ما رأيت أحدًا- على حداثة سنه، وقدر علمه- أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، إني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير. قال لي ذات يوم: (يا أبا عبد الله، الله الله، إنك لست مثلي، أنت رجل يقتدى بك، قد مد الخلق أعناقهم إليك، لما يكون منك فاتق الله، واثبت لأمر الله. فمات وصليت عليه ودفنته. (سير أعلام النبلاء 11/ 242). وحتى أهل السجن الذين كان يصلي بهم الإمام أحمد وهو مقيد، قد ساهموا في تثبيته. فقد قال الإمام أحمد مرة في الحبس: (لست أبالي بالحبس- ما هو ومنزلي إلا واحد- ولا قتلاً بالسيف وإنما أخاف فتنة السوط). فسمعه بعض أهل الحبس فقالت: (لا عليك يا أبا عبد الله، فما هو إلا سوطان، ثم لا تدري أين يقع الباقي). ¬

(¬1) البداية والنهاية 1/ 332. (¬2) البداية والنهاية 1/ 332.

فكأنه سري عنه (¬1). وهكذا يكون دور الأخيار في تثبيت المسلمين، فالزموا صحبتهم واطلبوا نصحهم. إخوة الإسلام ويبقى بعد ذلك عوامل أخرى للثبات على دين الله .. منها الذكر .. وتأمل كيف قرن الله بين الذكر والثبات في آية واحدة فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون} (¬2). ومنها عدم الاغترار بالباطل وكثرة المبطلين {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} (¬3) {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} (¬4). ومنها استجماع الأخلاق المعروفة على الثبات وفي مقدمتها الصبر والتقوى {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} (¬5). {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}. وفي الحديث الصحيح «وما أعطى أحدً عطاءً هو خير وأوسع من الصبر» (¬6). ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 11/ 241. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 45. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 196، 197. (¬4) سورة الرعد، الآية: 17. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 200. (¬6) رواه الجماع (انظر: جامع الأصول 10/ 139).

من أسباب الهداية

من أسباب الهداية (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله وارض اللهم عن أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرًا. أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون. إخوة الإسلام وعدتكم في الجمعة الماضية أن يكون الحديث في هذه الجمعة عن أسباب الهداية وعوامل الثبات على دين الله. ولا شك أن الهداية إلى الصراط المستقيم هدف ينشده كل مسلم مع تفاوت الناس في جدية الطلب، وصدق العزيمة وبلوغ الهدف وإلى كل راغب في الهداية، ومتجر لأسبابها ومتطلع للجنان العالية. عاشق لحورها ومؤمل في نعيمها، ومستجير من النار، وفار من حرها وزمهريرها ومر زقومها وسائر عذابها، أسوق الأسباب والعوامل التالية للهداية إلى الله بإذن الله: أولاً: سعة الصدر وانشراحه للإسلام وتعاليمه قال الله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} (¬2). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق، 10/ 3/ 1414 هـ. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 125.

ومفتاح شرح للإسلام التوحيد الذي لا يخالطه أدنى شك أو شرك مع الله، وإذا كان الهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، فإن الشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وإنحراجه فحققوا التوحيد وعمقوا الإيمان-معاشر المسلمين- وإياكم والشرك أو الشك والخرافات أو البدع التي لم ينزل الله بها من سلطان. قال ابن عباس رضي الله عنهما {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} يقول: يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به (¬1). سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المؤمنين أكيس؟ قال «أكثرهم ذكرًا للموت، وأكثرهم لما بعده استعدادًا»، وسئل عن هذه الآية {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال: «نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح»، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» (¬2). يا أخا الإسلام، وإذا كان التوحيد مفتاح الهداية، فإن عمل الصالحات والتقرب إلى الله بسائر الطاعات هي الأسنان لهذا المفتاح، ومن هنا فاحرص على أن يكون لك حظ من كل طاعة، ولك نصيب من كل قربة، فيدفع الله عنك بهذه الطاعة مصيبة أو نازلة، ويرفعك بالأخرى منزلة، ويكتب لك أجرًا وعافية، وتصير من هذه وتلك إلى انشراح في الصدر وسعة في القلب تحس من خلالهما بطعم الحياة الدنيا، قبل أن تصير إلى لذة الحياة الأخرى. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 3/ 327. (¬2) الحديث ذكر عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وقال الحافظ ابن كثير: ورد من طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضًا، والله أعلم. (تفسير ابن كثير 3/ 328).

وإياك أن تغمس نفسك في الشهوات، وتغرق قلبك بالمحرمات فتظلم الدنيا في عينيك، وتضيق بك الحياة مع سعتها على غيرك، وقد قيل في معنى قوله تعالى: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا} وهو الذي لا يتسع لشيء من الهدى، ولا يخلص إليه شيء من الإيمان ينفعه وينقذه. وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً من الأعراب من أهل البادية: ما لحرجة؟ قال: هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء، فقال عمر رضي الله عنه؟ كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير (¬1). فحذار أخي المسلم أن تسيطر عليك الغفلة، أو أن تغريك اللذة العاجلة فتنسيك ما أمرك الله به، أو تدعوك لفعل ما نهاك عنه، وتذكر وأنت في الدنيا محادثة أهل النار واعترافهم {قالوا ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين فما تنفعهم شفاعة الشافعين فما لهم عن التذكرة معرضين} وعليك بالجمعة والجماعة .. وإطعام الطعام، وصلة الأرحام وفعل الخيرات وترك المنكرات جهدك، فإنها أسباب جالبة لشرح الصدر والهداية بإذن الله، وعكسها جالبة للضيق والشقاوة والضلال عن صراط الله. وتأمل على سبيل المثال أثر عدم إقامة الصلاة والتهاون في اجتماع المسلمين للصلاة وكونه طريقًا لاستحواذ الشيطان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما من ثلاثة في قرية، لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية» (¬2). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 3/ 328. (¬2) حديث حسن أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما .. (صحيح الجامع 5/ 162).

ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: «ما عمل ابن آدم شيئًا أفضل من الصلاة، وإصلاح ذات البين، وخلق حسن» (¬1). ثانيًا: من أسباب الهداية والتوفيق للصراط المستقيم استدامة ذكر الله، فذكر الله على كل حال سبب جالب لارتباط القلب بالله، وعامل مهم لطمأنينة القلب وانشراح الصدر، يقول خالق هذا القلب والعالم بمكوناته وأسراره {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} وهل علمت أخا الإسلام أنك على قدر ذكرك لله يذكرك الله {فاذكروني أذكركم} بل يزيد الله تفضلاً منه ورحمة فيذكرك أكثر «من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه». وهل علمت أنك حينما تتغاضى وتتكاسل عن ذكر الله يسلط الله عليك الشياطين فيكونوا هم صحبتك وقرناءك {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا فهو له قرين} والفرق كبير بين صحبة الملائكة وصحبة الشياطين، وإذا أردت أن تعلم ذلك جيدًا فتأمل هذا الحديث وتأمل أثر الذكر فيه، يقول الرسول صلى الله وسلم «ما من راكب يخلو في مسيره بالله وذكره إلا كان ردفه ملك، ولا يخلو بشعر ونحوه إلا كان ردفه شيطان» (¬2). أيها المسلم والمسلمة .. يا من تبحث عق الهداية في مظانها، وترغب الجنة مهما كان ثمنها، إليك هذه الوصية من أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام يحدثنا عنه خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: «لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، قال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، ¬

(¬1) الحديث رواه صحيح الجامع 5/ 149. (¬2) حديث حسن رواه الطبراني عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، صحيح الجامع 5/ 163.

وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر» (¬1). وليس بخاف عليك أن مفتاح الجنة لا إله إلا الله، وأن لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة. أما الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم- وهي من الذكر- فيكفي أن تعلم قدرها من خلاله قول النبي صلى الله عليه وسلم «من ذكرت عنده فخطئ الصلاة علي خطئ طريق الجنة» (¬2). السبب الثالث والباعث على الهداية .. تلاوة كتاب الله، بتدبر وتمعن وخشوع وهو وإن كان من أنواع الذكر إلا أن إفراده بالذكر لعظيم أهميته ومزيد العناية به. قال الله تعالى {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} هكذا تأتي الآية على وجه الإطلاق والعموم فيشمل الهدي أقوامًا وأجيالًا بلا حدود من زمان أو مكان، وتستمر هداية القرآن إلى نهاية الوجود. والقرآن يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور بالعقيدة الواضحة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، تنطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتنطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء. ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا ¬

(¬1) حديث حسن رواه الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه إلا ما أبهل الغرض وأعظم الثمر (صحيح الجامع 5/ 34). (¬2) حديث صحيح رواه الطبراني عن الحسين رضي الله عنه، صحيح الجامع 5/ 291.

تنفصم، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله، ولو كان هذا العمل متاعًا واستمتاعًا بالحياة (¬1). أيها المسلمون .. وفي القرآن الشفاء والرحمة {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} (¬2). وكذلك يعلم الذين أوتوا العلم هذا الأمر العظيم للقرآن {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك هن ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد} (¬3). {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن وألغوا فيه لعلكم تغلبون} (¬4). وأثر القرآن وتأثيره على النفوس واضح مشهود، مهما بلغت القلوب من قسوتها ومهما كانت حال المرء من الشقاوة والضلال- وهل بعد الكفر من ذنب، ومع ذلك فقد روى البخاري في صحيحه قصة أثر القرآن في قلب كافر من أكابر قريش أنه جبير بن مطعم بن عدي الذي قدم المدينة في وفد أساري بدر، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بسورة الطور يقول: فلما بلغ هذه الآية {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون} كاد قلبه أن يطير (¬5). ومثل ذلك أو قريب منه يقال في قصة عودة الفضل إلى الله وهو اللص الذي كان يخوف المارين ويروع الآمنين وينهب المسافرين، فلما أراد الله له الهداية، ¬

(¬1) في ظلال القرآن 4/ 2215. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 82. (¬3) سورة سبأ، الآية: 6. (¬4) سورة فصلت، الآية: 26. (¬5) الفتح 8/ 603 وكان ذلك أول ما دخل الإيمان في قلبه (الإصابة 2/ 6).

كان ذات يوم يتسلق بيتًا فسمع قارئًا يقرأ {ألم يئن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله}. جعلني الله وإياكم من أهل القرآن ونفعني وإياكم بما فيه من الهدى والفرقان - أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، يضل من يشاء، ويهدي الله من ينيب، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، دعا الأمة إلى طريق الهداية حتى وافاه اليقين، اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله وأرض اللهم عن أصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين. إخوة الإسلام ومن أسباب الهداية التفكر في مخلوقات الله، والنظر في ملكوت السموات والأرض، ولا شك أن العاقل المتأمل في هذا الكون سيعود بعد رحلة التأمل مؤمنًا خاشعًا لله مهتديًا بهداه .. فليست الطبيعة بقادرة على هذا الخلق والإحياء .. ويستحيل أن تكون الصدفة وراء هذا الكون والوجود .. إلا أن الخلاق العليم تعترف به العقول ويهتدي إليه أولو الألباب {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار} (¬1) ويتحدى الخالق العظيم أن يجد الناس في خلقه عيبًا، بل تعود الأبصار بعد رحلتها في عالم الوجود خاسئة مطرقة مستسلمة لرب العالمين {الذي خلق سبع سموات طباقًا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير} (¬2). ويلفت الخالق نظر الإنسان للتأمل في نفسه {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} ويزداد العاقل إيمانًا بخالقه وهو يرى عجائب قدرته في نفسه، فلا يملك من أمر نفسه شيئًا، وتتحرك أعضاؤه التي بين جنبيه بلا إدارة منه وتقوم بأدوارها المرادة لها ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 190، 191. (¬2) سورة الملك، الآية: 3، 4.

دون رقابة منه أو توجيه أوليس ذلك منتهى الإعجاز .. وليس ذلك ببرهان وطريق إلى الهداية والإيمان .. لمن تأمل وأراد الله له الخير والتوفيق إلى الصراط المستقيم؟ ومن أسباب الهداية رفقة الصالحين الأخيار .. واختيار الأقران .. فكم من ضال هداه الله على أيدي الصالحين الأخيار .. وكم من فاجر شاء الله له الهداية على أيدي أقرأه ما زالوا به حتى سلكوا به طريق النجاة، وإذا كان المرء في هذه الحياة لابد له من خليل، فلينظر أحدكم من يخالل، فإن المرء على دين خليله. ومجرد محبة الصالحين وحب أفعالهم تورد المرء موارد الخير إذا صدقت نيته وتوجه قلبه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم فقال عليه الصلاة والسلام: «الرجل مع من أحب». وليس بخاف عليك أخي المسلم أثر الجليس الصالح وجليس السوء من خلال حديث حامل المسد ونافخ الكير، وليس بخاف عليك كذلك أن قرناء السوء في هذه الحياة يكونون يوم القيامة بعضهم لبعض عدو {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} فاستعن بالله واقترب من الأخيار جهدك وجاهد نفسك وروضها على مصاحبة الأخيار، وانج بنفسك عن الأشرار وأنقذها قبل العطب .. فإن ذلك عامل مهم في الهداية إلى صراط الله. وثمة سبب مهم للهداية .. ألا وهو الدعاء: سلاح المؤمن في الشدائد .. والقمة الكبرى بلا جهد ولا ثمن .. ومهما بذلت من أسباب الهداية فليكن الدعاء بالتوفيق والهداية للصراط المستقيم ديدنك، ولا تسأم أو تستكثر الدعاء، فتقول: دعوت ودعوت، فلم يستجب لي فتلك آفة فاحذرها، فدعاؤك محفوظ فإما أن يعطيك الله ما دعوت، أو يصرف عنك من السوء مثله، أو يدخر لك دعوتك حين تلقاه وأنت أشد حاجة إليها.

يقول الله {وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}. ويقول الله تعالى- كما في الحديث القدسي: «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم». والنبي صلى الله عليه وسلم كان لا يفتر من الدعاء وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد علمنا من الدعاء كثيرًا ومنه حين القيام لصلاة الليل، فقد كان يقول: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اللهم اهدني لما اختلف من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم». فألحوا على الله بالدعاء معاشر المسلمين، واحرصوا على أوقات الإجابة، أسأل الله أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم وأن يثبتنا عليه ما بقينا إنه جواد كريم. أيها الإخوة وحيث علمتم أسباب الهداية فبقي أن تعلموا عوامل الثبات على دين الله.

بين تدبر القرآن وهجره

بين تدبر القرآن وهجره (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المصطفى صلى الله عليه وعلى إخوانه من الأنبياء، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان وسار على درب الهدى. أما بعد: فيقول الحق تبارك وتعالى: {ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله .. } (¬2). إخوة الإيمان ألا إن من تقوى الله تلاوة كتابه العزيز آناء الليل وأطراف النهار، وتدبر آياته، والعمل بحكمه والإيمان بمتشابهه قال الله تعالى مثنيًا على من كان ذلك دأبه {ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون} (¬3). وفي الصحيحين واللفظ للبخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب وقام به آناء الليل، ورجل أعطاه الله مالاً فهو يتصدق به آناء الليل وآناء النار» (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 14/ 6/ 1412 هـ (¬2) سورة النساء، الآية: 131. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 113. (¬4) الصحيح مع الفتح 9/ 73.

والمعنى- كما قال أهل العلم- لا رخصة في الحسد، أو لا يحسن الحسد إن حسن إلا في هاتين الخصلتين (¬1). أو لعل المقصود الغبطة، وهي تمني مثل ما عند الغير من غير رغبة في زوالها عنه، ولهذا بوب البخاري لهذا الحديث بقوله «باب اغتباط صواحب القرآن» ثم أردف بعد هذا الحديث حديث صاحب النية الطيبة الذي تمنى إحدى هاتين الخصلتين له مع بقائهما لأصحابهما، فوسعه فضل الله، والله واسع عليم، وقصته كما رواها البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل» (¬2). أخي المسلم ألست تبحث عن الخير في مظانه؟ إليك هذه الهدية وإن كنت لبيبًا فاحفظها واعمل بها، يقول عقبة بن عامر رضي الله عنه: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة- وهو موضع في المسجد كان فقراء المسلمين يأوون إليه، ولذا سموا بأصحاب الصفة- فقال: «أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق- وهما موضعان قرب المدينة- فيأتي منه بناقتين كوماوين- وهي العظيمة السنام - في غير إثم ولا قطيعة رحم؟ فقلنا: يا رسول الله، نحب ذلك، قال: أفلا يغدو أحدكم إلى السجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين أو ثلاث خير من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل» (¬3). ¬

(¬1) ابن حجر، الفتح 9/ 73. (¬2) البخاري مع الفتح 9/ 73. (¬3) الحديث رواه مسلم 1/ 552.

أخي المؤمن أنت طيب في معدنك، وكريم على الله لشمائلك وخلقك، لكن هل علمت أن القرآن يزيد في جمالك، ويزكي رائحتك؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرآ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو» (¬1). فإن قلت: فما الحكمة في تخصيص الأترجة بالتمثيل دون غيرها من الفاكهة التي تجمع طيب الطعم والريح كالتفاحة- مثلاً-؟ فقد قيل: إن الأترجة: 1) يتداوى بقشرها وهو مفرح بالخاصية. 2) ويستخرج من حبها دهن له منافع. 3) وقيل إن الجن لا تقرب البيت الذي فيه الأترج، فناسب أن يمثل به القرآن الذي لا تقربه الشياطين. 4) وغلاف حبه أبيض فيناسب قلب المؤمن. 5) وفيها أيضًا من المزايا كبر جرمها وحسن منظرها وتفريح لونها ولين ملمسها. 6) وفي أكلها مع الالتذاذ طيب نكهة ودباغ معدة وجودة هضم- ولها منافع أخرى مذكورة في المفردات (¬2) - وهل علمت- أخي السلم- أن القرآن يزيد من قدرك، ويرفع شأنك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين». فقد أخرج أبي داود- بإسناد صحيح- عن الأشعث بن قيس أنه قدم غلامًا صغيرًا، فعابوا عليه، فقال: ما قدمته ولكن قدمه القرآن (¬3). ¬

(¬1) الحديث متفق عليه، واللفظ لمسلم 1/ 549. (¬2) نقل ذلك الحافظ بن حجر عليه رحمة الله - في الفتح 9/ 66، 67. (¬3) الفتح 9/ 83.

إخوة الإيمان، يكفي أن يعلم أن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته، لكن ينبغي أن يعلم كذلك أنه ليس المقصود بأهل القرآن، من يقرأونه دون تمعن، أو يهذونه هذًّا كهذِّ الشعر دون تأمل لمعانيه، أو تدبر لآياته، أو التزام بأوامره وتجنب لنواهيه، قال الله تعالى {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} (¬1)، وقال تعالى {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} (¬2). وقال تعالى {أفلا يتدبرون القرآن لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} (¬3). وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ينكرون على من يهذ القرآن هذًّا كهذ الشعر أو يتكلفون في قراءته، ففي صحيح مسلم عن أبي وائل قال: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف نقرأ هذا الحرف ألفًا تجده أم ياءً «من ماء غير آسن» أو من ماء غير ياس) قال: فقال عبد الله: وكل القرآن قد أحصيت غير هذا؟ قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة: فقال عبد الله: هذا كهذِّ الشعر؟ إن أقوامًا يقرأون هذا القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع، إن أفضل الصلاة الركوع والسجود، إني لأعلم النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن، سورتين في كل ركعة (¬4). وكان إمامهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم مثالاً حيًا ونبراسًا يحتذى في تأمله القرآن وأثره به، ويكفي أن أسوق لك خبرة مع عبد الله بن مسعود نفسه حيث ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 24. (¬2) سورة ص، الآية: 29. (¬3) سورة النساء، الآية: 82. (¬4) صحيح مسلم 1/ 563.

قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ علي القرآن، قال: فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري، فقرأت النساء حتى إذا بلغت: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي، فرأيت دموعه تسيل» (¬1). إخوة الإيمان، هذه حال أسلافنا، فما بالنا نحن نقرأ القرآن كما يقرأ أي كتاب آخر لا تراق لنا دمعة، ولا تقف لنا شعرة؟ وفي القرآن الكريم مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، كما قال تعالى {الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد} (¬2). وهذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار، فهو لما يفهمون من الوعد والوعيد والتخويف والتهديد تقشعر جلودهم خشية وخوفًا، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه، وهم بذلك يختلفون عن الكفار، ومخالفون لأهل البدع الذين ربما ذهبت عقولهم وغشي عليهم بفعل الشيطان (¬3). ولأهمية قراءة القرآن بتدبر وتمعن جاء النهي عن كثرة قراءته إلى حد لا يفقه القارئ ما قرأ، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» وبإسناد صحيح آخر «اقرأوا القرآن في سبع ولا تقرأوه في أقل من ثلاث» (¬4). ¬

(¬1) رواه مسلم 1/ 551. (¬2) سورة الزمر، الآية: 223. (¬3) تفسير ابن كثير 7/ 85. (¬4) الفتح 9/ 96، 97.

وقد ذمت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من بلغها عنه خلاف ذلك، فقالت: إن رجالاً يقرأ أحدهم القرآن في ليلة مرتين أو ثلاثًا فقالت: قرأوا أو لم يقرأوا، كنت أقوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة التمام، فيقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء فلا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا ورغب، ولا بآية فيها تخويف ألا دعا واستعاذ (¬1). فهل يكون لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، نقرأ القرآن بتدبر وخشوع .. نداوي به جراحنا، ونصلح به ما أعوج من أخلاقنا وسلوكياتنا، ونصون به حمانا، وندافع به عن معتقداتنا، ونربي عليه أبناءنا، ونزكي به أنفسنا، وينصح به خاصتنا عامتنا، ويكون هو الفيصل في قضايانا، وإليه المرجع والتحاكم في صغير أمورنا وعظيمها. إن ذلك هو الأليق بنا وهو الأمر الطبيعي في حياتنا وخلافه أمر شاذ في مجتمعاتنا. اللهم علمنا الحكمة والقرآن، وفقهنا في الإسلام، وادفع عنا غوائل مردة الإنس والجان ... أقول هذا القول وأستغفر الله. ¬

(¬1) الإتقان في علوم القرآن/ للسيوطي 1/ 137.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وآلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه .. صلى الله عليه وعلى آله وإخوانه .. وارض اللهم عن أصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين. أيها الإخوة المسلمون، والمسافة بعيدة بين قراءة القرآن وتدبره والعمل، وهجره ومخالفته وعدم الاكتراث به، والفرق كبير بين من يقرآون القرآن ويعلمون به، ومن يهجرون القرآن ويلغون فيه، وحين اشتكى المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى ربه من الذين يهجرون القرآن أوحى الله إليه أن من قبلك من المرسلين جعلنا لهم أعداء {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا، وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا من المجرمين وكفى بربك هاديًا ونصيرًا} (¬1). وإذا كان هجر القرآن صفة مذمومة، والذين يهجرون القرآن فئة معلومة، فاتقوا الله معاشر المسلمين في القرآن، واحذروا هجره. إخوة الإسلام، يكاد القرآن يهجر عند بعض المسلمين فيقل قراءته في المساجد إلا في رمضان، وأقل من ذلك قراءة القرآن في البيوت وتخصيص حلق نافعة تجتمع عليها الأسرة، وتكون مائدتها القرآن. وربما فهم البعض أنه يكفيهم من القرآن أن تتلى آياته في المناسبات والاحتفالات وأن يستفتح به في البرامج والإذاعات. والحق أن تقديمه يعني عدم التقدم عليه، والوقوف عند حدوده وأحكامه، وينبغي أن يفهم أن تقديمه رمز لإعلاء شأنه وعدم مخالفته، وأنه الحاكم الحق، ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية: 30، 31.

والفيصل بلغت الخلق {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} (¬1) وهل رد الأمر إلى الله والرسول إلا رد لما ورد في القرآن إما جملة وإما تفصيلاً؟ ! ومن صور هجر القرآن عدم العمل به، وربما وجدت قارئًا مكثرًا من قراءة القرآن، لكنك لو فتشت في حاله لوجدته في واد والقرآن في واد آخر، وقد قيل كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه، نعم ومصداق ذللت أن هناك من يقرأ {ألا لعنة الله على الظالمين} - وهو يظلم- يقرأ لعنة الله على الكاذبين، وهو يكذب. ويقرأ الوعيد الشديد في أكل الربا وهو واقع فيه، ويسمع آيات الله تتلى في تحريم شرب الخمر والزنا أو غيرهما من الفواحش، وكأن هذه الآيات لا تعنيه. ما هكذا تكون قراءة القرآن يا عباد الله، وما نزل القرآن من أجل أن يتسلى به، أو يترنم بآياته فحسب؟ ومن صور هجر القرآن عدم الاهتمام به فلا يعلمه بنفسه ولا يتعلمه من غيره فضلاً عن أن يعلمه لمن يحتاج إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». أيها المسلمون إذا كان هذا بعض شأن هجر القرآن في عموم المسلمين، فإن هجر القرآن لدى الحكام الأمراء أو العلماء أشد وأنكى، ذلك أن هؤلاء يخولون للحكم به، وإلزام الناس بالتحاكم إليه، وسياسة الخلق على هداه، ويوم أن تفرط الأحكام عن توجيهات القرآن، أو يحكم بالقرآن في بعض الأمور ويتجاهل في أمور أخرى، أو تزاحم أحكام القرآن مواد القوانين الوضعية، أو ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 59.

الدساتير البشرية، فقل على المجتمع بل على الأمة السلام، وتلك من أعظم صور هجر القرآن. إن الله تعالى أمرنا بالتحاكم إلى القرآن، ووصف الذين لا يحكمون به بالكفر والظلم والفسوق فقال تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}، وفي آية أخرى {فأولئك هم الظالمون} وفي آية ثالثة (فأولئك هم الفاسقون} (¬1). ومن حق المسلم في ديار الإسلام أن يطلب التحاكم إلى القرآن في كل أمر يهمه، أو قضية تعرض له ومن حقه كذلك أن يرفض التحاكم إلى القوانين البشرية والأنظمة المستوردة .. لكن لا ينبغي أن يكون الهوى والمصلحة هما المسير له، فأيهما وجد فيه مصلحة له انساق له ورضي به، وليس من داع أن يقال لك أخي المسلم إن حكم الله دائمًا وحكم القرآن أبدًا فيهما المصلحة للبشر في الحياة الدنيا وفي الآخرة، لأن تلك بدهية من البدهيات، ولأن الذي خلق أعلم بمن خلق، وهو الحكيم الحميد، فكيف والعالم اليوم عاد يشكو من الظلم والاضطهاد، وبات يتبرم من أحكام شريعة الغاب، وأضحى القادة والمفكرون في البلاد الكافرة يبحثون عن مخرج ويتلمسون المنقذ .. ولا مخرج إلا بالإسلام، ولا منقذ إلا الرحمن، فهل يعي المسلمون دورهم، ويكونون عند حسن الظن بهم، ويقدمون للعالم كله أنموذجًا للحياة السعيدة في الدنيا، وطريقًا آمنًا للوصول إلى الآخرة. اللهم هيء للمسلمين من أمرهم رشدًا. اللهم اهدهم واهد بهم، وارحمهم وارحم بهم، هذا وصلوا على النبي ... صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 44، 45، 46.

(1) طريق المغفرة

(1) طريق المغفرة (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين كتب على نفسه الرحمة، أنه من عمل منكم سوءًا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يفرح بتوبته عبده وهو غني عنه، والعبد قد يعرض وهو فقير إليه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله كان يتوب إلى ربه ويستغفره في اليوم أكثر من سبعين مرة .. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله وارض اللهم عن أصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين. أما بعد أيها الناس اتقوا الله ربكم، وتوبوا إليه من ذنوبكم، ولا تقنطوا من رحمة الله مهما بلغت ذنوبكم، فإنه يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب وأناب. يقول الحق تبارك وتعالى في صفات المتقين {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون .. } (¬2). ويقول تعالى مؤكدًا توبته ومغفرته لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم أهتدي {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى} (¬3). ويفتح الله طريقًا إلى التوبة بالاستغفار وهو يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم فيقول {ولو ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 13/ 5/ 1413 هـ. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 135. (¬3) سورة طه، الآية: 82.

إنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابًا رحيمًا (¬1). أيها المسلمون .. ومن ذا الذي لا يخطئ في هذه الحياة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» (¬2). ولا شك أن الناس متفاوتون في حجم أخطائهم على قدر إيمانهم ويقينهم بخالقهم، وعلى قدر خوفهم من العذاب أو صبرهم على الطاعات .. ومع ذلك كله فالله يفتح باب الرجاء لمن زلت به قدمه أو عثر به لسانه، أولم تطاوعه جوارحه فسبقته إلى المعاصي. ويقول البارئ جل جلاله: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم} (¬3). بل لعل الله تعالى يريد من الخلق أن يبقوا دائمًا وأبدًا على صلة به فهم يحبونه ويتبعون أمره في حال عبوديتهم وطاعتهم وإقبالهم على الخيرات وجمع الحسنات .. وهم يخشونه ويطلبون منه المغفرة في حال ضعفهم وزلتهم إذ لا نصير لهم إلا الله .. ولا مجيب لهم سواه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» (¬4). وهذا الحديث كان يكتمه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه رغم معرفته به، ولم يتحدث به إلا حينما حضرته الوفاة وقال: «كنت كتمت عنكم حديثًا سمعته من ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 64. (¬2) صحيح الجامع الصغير 4/ 171. (¬3) سورة الزمر، الآية: 53. (¬4) الحديث رواه مسلم، انظر جامع الأصول 8/ 38.

رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوف أحدثكموه وقد أحيط بنفسي» ثم ذكر نحوًا من الحديث السابق (¬1). أخي المسلم وينبغي أن تحذر المعاصي ما ظهر منها وما بطن قدر طاقتك فهي لا تزال بصاحبها حتى تورده المهالك .. ومع ذلك فينبغي ألا تيأس من روح الله ورحمته، وألا يصيبك الإحباط والقنوط مهما بلغت ذنوبك، شريطة أن تقبل على الله، وأن تقف ببابه معترفًا مستغفرًا، وإليك قصة هذا الرجل الذي تكرر ذنبه، وفي كل مرة يقف بباب الله سائلاً مستغفرًا، فلم يخب أمله .. فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن ربه تبارك وتعالى قال: «أذنب عبد ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك، قال عبد الأعلى: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة «اعمال اعمل ما شئت» (¬2). وفي رواية بمعناه وفي الثالثة قال: «قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء» قال الحافظ في الفتح، قال القرطبي: وفائدة هذا الحديث أن العود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه لأنه انضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة، لكن العود إلى ¬

(¬1) مسلم، جامع الأصول 8/ 38. (¬2) رواه البخاري رحمه الله 7057 في كتاب التوحيد، ومسلم 8572 في كتاب التوبة وانظر جامع الأصول لابن الأثير 8/ 93.

التوبة أحسن من ابتدائها، لأنه انضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم والإلحاح في سؤاله، والاعتراف أنه لا غافر للذنب سواه، ثم نقل الحافظ وذلك عن النووي قوله في الحديث أن الذنوب ولو تكررت مائة مرة، بل ألفًا وأكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحت توبته» وقوله: «اعمل ما شئت» معناه: ما دمت تذنب فتتوب غفرت لك (¬1). أيها المسلمون ما أعظم فضل الله: والمرء يمكنه بتوفيق من الله أن يخرج من ذنوبه وأن يتخفف من سيئاته، بملازمة الاستغفار، وهي كلمات يسيرة «أستغفر الله .. أستغفر الله .. » أو نحوها .. ولا شك أن الذي يقولها من قلب حاضر مستشعر لمعناها .. ومعترف بمغزاها يختلف عمن يقولها بلسانه وقلبه مشغول عنها .. وهذا ديدن الذكر كله فهو يحتاج إلى حضور قلب وتعظيم للخالق. وهناك طريق للتوبة والاستغفار حفظه لنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة الأطهار الذين كانوا يعقلون ما يسمعون، ويعملون بما يعلمون. فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني- وصدق أبو بكر- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من رجل يذنب ذنبًا فيتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له» (¬2). إخوة الإسلام .. والاستغفار دأب الصالحين، ومنهج الأنبياء والمرسلين، ¬

(¬1) الفتح 13/ 471، 472. (¬2) حديث حسن أهرجه الإمام أحمد وأهل السنن وغيرهم، تفسير ابن كثير 2/ 104، ولهذا قال الحافظ ابن كثير: ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة. (السابق 2/ 104).

وهذا صفوة الخلق وأكرمهم على الله، والذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر في اليوم مائة مرة .. كما روى ذلك مسلم في صحيحه (¬1). وقبله كان هود عليه الصلاة والسلام يقول لقومه: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارًا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين} (¬2). وقبلهما قال نوح عليه الصلاة والسلام لقومه {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارًا يرسل السماء عليكم مدرارًا ويمددكم بأموال وبنين وجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا} (¬3). ألا وإن الأنبياء أعرف الخلق بالله وأخشاهم له، مع قلة أخطائهم وكثرة عبادتهم .. وقوة صلتهم بخالقهم .. ولكن من كان به أعرف كان منه أخوف .. وكلما ازداد العبد قربًا من الله زاد منه خوفًا ووجلاً. والخائفون في هذه الحياة هم الآمنون المطمئنون بعد الممات، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية .. إلا أن سلعة الله الجنة. وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ... نفعني الله وإياكم بهدي كتابه .. ¬

(¬1) الأذكار للنووي/ 347. (¬2) سورة هود، الآية: 52. (¬3) سورة نوح، الآية: 10 - 12.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله .. أيها المسلمون .. وللاستغفار فوائد جليلة، وآثار حسنة كثيرة .. ومن آثار الاستغفار وفوائده .. قوة التعلق بالله جل جلاله، فإن الغافلين اللاهين أبعد الخلق عن الله .. وكلما كثر استغفار العبد لخالقه كان دليلاً على قربه منه وحضوره في قلبه. وللاستغفار أثر في تفريج الهموم وإزالة الكروب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا ومن كل هم فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب» (¬1). والذي يلازم الاستغفار لا يعد من المصرين على الذنوب، ولا شك أن الإصرار على الذنب آفة عظمى وسبب حائل دون مغفرة الله، وقد جاء في الحديث: «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» (¬2). والاستغفار سبب لمغفرة كبار الذنوب فضلاً عن صغائرها، ولابد من التنبيه للصيغة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى سبيل المثال يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفرت ذنوبه، وإن كان قد فر من الزحف» (¬3). ¬

(¬1) الحديث رواه أبو داود وابن ماجه، وأحمد، بسند لا بأس به، الأذكار/ 348، جامع الأصول 4/ 389. (¬2) حديث حسن رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، تفسير ابن كثير 2/ 106. (¬3) رواه الحاكم قال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم، الأذكار للنووي/ 349، جامع الأصول 4/ 389.

ومن صيغ الاستغفار التي ينبغي معرفتها والعمل بها «سيد الاستغفار» فافقهوا سيد الاستغفار، وتأملوا ما فيه من الأجر والمغنم وهو أثر من آثار الاستغفار، يقول صلى الله عليه وسلم «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها من النهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة» (¬1). والاستغفار- معاشر المسلمين- طريق الجنة، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا» (¬2). والاستغفار جلاء للقلوب، وقد قيل «إن للقلوب صدأً كصدأ النحاس، وجلاؤها الاستغفار» (¬3) وروى البيهقي بإسناد لا بأس به «من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار» (¬4). وعليك أخي المسلم ألا تستعظم ذنوبك مهما بلغت أمام مغفرة الله وعفوه، وما أجمل كلمة قالها أعرابي شوهد متعلقًا بأستار الكعبة ويقول «اللهم إن استغفاري مع إصراري لؤم، وإن تركي الاستغفار مع علمي بسعة عفوك لعجز، فكم تتحبب إلي بالنعم مع غناك عني وأتبغض إليك بالمعاصي مع فقري إليك، ¬

(¬1) الحديث أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، جامع الأصول 4/ 388. (¬2) رواه ابن ماجه بسند جيد، الأذكار للنووي/ 348. (¬3) المتجر الرابح/ 496. (¬4) المتجر الرابح/ 497.

يا من إذا وعد وفى، وإذا توعد تجاوز وعفا، أدخل عظيم جرمي في عظيم عفوك يا أرحم الراحمين (¬1). وعليك أخي المسلم ألا تتألى على أحد، وتنصب من نفسك حكمًا عليه، وتظن أن الله لا يغفر لفلان لكثرة ذنوبه، أو لا يهدي فلانًا لكثرة أخطائه ومعاصيه، فالقلوب بين يدي الرحمن يقلبها كيف يشاء، وباب التوبة مفتوح. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان: وأن الله تعالى قال: «من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان، فإني قد غفرت له وأحبطت عملك» (¬2). اللهم اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا .. ¬

(¬1) الأذكار للنووي/ 349. (¬2) أخرجه مسلم، جامع الأصول 8/ 40.

(2) طريق المغفرة

(2) طريق المغفرة (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله .. أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، والتمسوا الطريق لرضاه، وابحثوا عن أسباب مغفرته ورضاه، فإن رضي الله غاية القصد .. وإذا رضي الله عن عبد وفقه للخير وأرضى عنه الناس. أيها المسلمون .. قد تقرر في الخطبة الماضية أن الخطأ من طبيعة البشر .. ولكن دواء الذنوب والأخطاء الندم والاستغفار، ولهذا ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال إبليس: وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني» (¬2). ولهذا لم يكن عبثًا أن يبحث الصحابة رضوان الله عليهم عن أسباب المغفرة، وأن يعلموا الدعاء الذي يغفر الله به الذنوب، وقد سأل أحدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم». بل لقد ثبت من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 20/ 5/ 1413 هـ. (¬2) الحديث رواه أحمد والحاكم وقال: صحيح الإسناد، المتجر الرابح ص 496.

وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي» (¬1). وفوق ذلك كله فقد كان الصالحون يبحثون عن الأوقات المناسبة للاستغفار وهل علمت أخي المسلم أنسب الأوقات للاستغفار؟ تجد ذلك في كتاب الله وأنت تقرأ في صفات المتقين قوله تعالى: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون} (¬2) وتقرأ في صفات المؤمنين قوله تعالى {الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار} (¬3) قال العلماء: وهذا يدل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار، وقد قيل: إن يعقوب عليه السلام لما قال لبنيه {سوف أستغفر لكم ربي} (¬4) أنه أخرهم إلى وقت السحر (¬5)، وثبت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جماعة من الصحابة ما يؤكد أهمية الاستغفار في الأسحار، فقد قال البني صلى الله عليه وسلم «ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ فأين السائلون وأين المستغفرون .. أين أصحاب الحاجات؟ والجليل تبارك وتعالى يفتح بابه للسائلين والمستغفرين». ¬

(¬1) حديث متفق على صحته، شرح السنة 5/ 172. (¬2) سورة الذاريات، الآية: 17، 18. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 16، 17. (¬4) سورة يوسف، الآية: 98. (¬5) تفسير ابن كثير 2/ 18.

أجل لقد استفاد من هذه الأجواء المشمرون .. وربح البيع عند أولئك المسارعين للخيرات .. فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي من الليل ثم يلتفت إلى نافع ويقول: يا نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال نعم: أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح. وروى ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة. وعن إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال: سعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: رب أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي. فنظرت فإذا ابن مسعود رضي الله عنه (¬1) هكذا كان المخبتون، وكذلك ينبغي أن يكون المفرطون المذنبون. إخوة الإيمان وبالاستغفار تؤجل العقوبة ويؤخر الله العذاب {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} (¬2). ومن هنا يبقى للأمة أمانات من العذاب هما بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ودوام الاستغفار، فإذا ذهب بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم بموته بقي الاستغفار هو الأمان الوحيد من العذاب إلى يوم القيامة. ولهذا ساق الحافظ ابن كثير- عليه رحمة الله - حديثًا رواه الترمذي- عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنزل الله علي أمانين لأمتي .. وما كان الله يعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون .. فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» (¬3). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 2/ 18 مع ما سبق. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 33. (¬3) قال الترمذي: هذا حديث غريب، تفسير ابن كثير 3/ 590.

وبالاستغفار كذلك ينزل الله البركات من السماء وتنتشر الجنان وتكثر الأموال والأولاد، وتجري الأنهار .. وهي كلها نعم يتمناها الناس ويسعون إلى تحقيقها .. والاستغفار سبب جالب لها بإذن الله، واسمع إلى قول نوح- عليه السلام لقومه- {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارًا يرسل السماء عليكم مدرارًا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا} (¬1). إخوة الإسلام وإذا كان الإسلام قد شرع الإستغفار بعد عمل الطاعات، فأول ما يبدأ به المرء بعد انتهاء الصلاة هو الاستغفار .. وهي لفتة إلى أن الطاعة قد يكون دخلها من الخلل، والتقصير ما يستدعي طلب العفو والمغفرة من الله .. ولذلك يقول المصلي بعد السلام مباشرة «أستغفر الله- أستغفر الله .. إذا كان هذا في شأن العبادة والطاعة، فكيف ترون الحاجة للاستغفار في حال الذنب والمعصية؟ .. لا شك أن الحاجة أولى وأحرى. أخي المسلم أحذر كل الحذر أن يُران على قلبك بالمعاصي بسبب غفلتك عن الاستغفار، وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم «إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فان تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه فذلكم الران الذي ذكر الله عز وجل في كتابه {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} (¬2). واعلم أن من علامات حياة القلب الندم على المعاصي والمبادرة بالتوبة والاستغفار، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «الندم توبة» (¬3). ¬

(¬1) سورة نوح، الآية: 10 - 12. (¬2) حديث صحيح أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم .. شرح السنة للبغوي 5/ 89. (¬3) رواه أحمد وابن ماجه بسند قوي، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، شرح السنة 5/ 91. وحسنه الحافظ ابن حجر كما في الفتح 13/ ا 47.

ومن هنا فرق العارفون بين المؤمن الذي يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وبين الفاجر الذي يرى ذنوبه مثل ذباب مر على أنفه فذبه عنه (¬1). اللهم ارزقنا التوبة والاستغفار، والندم على الذنوب والآثام، ووفقنا لعمل الصالحات وتقبل منا يا عزيز يا غفار .. هذا وصلوا .. ¬

(¬1) شرح السنة 5/ 86.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله تعالى على كل حالة، وأشكره وهو الغفور لمن شاب وأناب، وأشهد ألا إله إلا هو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أزكى الخليقة وأكثرها ذكرًا واستغفارًا اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله، وارض اللهم عن أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .. أما بعد أيها المسلمون فاعلموا- رحمني الله وإياكم- أن هناك موانع لمغفرة الذنوب لابد من معرفتها والعلم بها والحذر منها. وأول هذه الموانع الشرك بالله قال الله تعالى {إن الشرك لظلم عظيم} (لقمان) وقال تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء) وقال تعالى {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} (¬1). وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب (أي ملؤها أو ما يقارب ذلك) الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» (¬2). والشرك المقصود هنا- معاشر المسلمين- لا يقتصر على عبادة الأصنام التي كان أهل الجاهلية يعبدونها كاللات والعزى ونحوها .. كما قد يفهم بعض ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 72. (¬2) رواه الترمذي بسند صحيح، صحيح الترمذي 3/ 176.

الناس وإنما يشمل كذلك عبادة القبور والاستغاثة بالأموات، ودعاءهم من دون الله وطلب المدد منهم، وهل يغيب عن البال أن أول شرك وقع في الأرض هو هذا الذي قد يظنه بعض الناس ليس شركًا فقد كان الشرك الذي وقع في قوم نوح الغلو في الصالحين، والتوسل بالأموات {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وذًا ولا سواعًا ولا يغوث ويعوق ونسرًا} (¬1) روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح ماتوا فعبدوهم من دون الله .. » نسأل الله السلامة من الفتن وأن يرزقنا البصيرة في ديننا لنعبد الله على هدي المرسلين. أيها المسلمون أما المانع الآخر من حصول المغفرة فهو قتل المؤمن عمدًا، فقد روت أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «كل ذنب عسى أن يغفره الله أو قال عسى الله أن يغفره، إلا من مات مشركًا، أو مؤمن قتل مؤمنًا متعمدًا» (¬2). ولابد من العلم بأن الإصرار على الذنب- آفة ينبغي للمسلم أن يعالج نفسه منها، قال الله تعالى {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنبوهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} (¬3) ومن هنا فلا ينبغي أن يتحول الاستغفار إلى كلمات باللسان فقط مع البقاء والاستمرار على المعاصي، وهذا أمر نقع فيه كثيرًا .. نسأل الله أن يعيننا على تجاوزه .. وما أجمل كلمة قالها أحد السلف وكأنه يحكي واقع الكثير منا، ولابد من إدراك معناها والعمل على إزالة آثارها، فقد قال الفضيل ¬

(¬1) سورة نوح، الآية: 23. (¬2) الحديث أخرجه أبو داود وأحمد وغيرهما وإسناده حسن، انظر: جامع الأصول 8/ 46. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 135.

بن عياض- رحمه الله- «الاستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين»، ويقارب ذلك المقولة الأخرى «استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير» (¬1). إخوة الإيمان .. من أقوى عوامل حصول المغفرة قوة الرجاء بالله وعدم القنوط من رحمته أو اليأس من روحه- قال الله تعالى {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} (¬2). وفي الحديث السابق (يا ابن آد م إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي) فلابد من الدعاء والرجاء .. الدعاء بصدق وضراعة .. والرجاء بخشوع وإنابة وأن تتصور أن خزائن الله ملأى لا يضيره ما أنفق وأعطى .. وما بالله بخل أو شح إذا أحسَّ من عبده التوجه الصادق والتوبة النصوح .. واقرأ بقلب خاشع قول الحق تبارك وتعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون .. } (¬3). أسأل الله أن يغفر لي ولكم وأن يرزقنا التوبة النصوح، وأن يلهمنا رشدنا، ويعيننا على أنفسنا .. هذا وصلوا .. ¬

(¬1) الأذكار للنووي/ 349. (¬2) سورة يوسف، الآية: 87. (¬3) سورة الزمر، الآية: 53، 54.

(1) اليوم الأغر

(1) اليوم الأغر (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله الذي هدأنا لهذا الدين وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللهم ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، خص أمتنا بما لم يخص به غيرها من الأمم، وفضل ملتنا على سائر الملل، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخاتم الأنبياء وأفضلهم- اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الأخيار الطيبين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين، واشكروه على ما أولاكموه من نعم، وأختصكم به من مزايا ومنن. أيها المسلمون يغيب عن أذهان المسلمين أحيانًا ما اختصهم الله تعالى به من فضل، أو يتكاسلون في الاستفادة فيما هيأ لهم من فرص الطاعات والخيرات .. وسواء كان الداء الجهل أو الكسل فهما صوارف عن الخير، ودواؤها العلم والعمل. وحديثي إليكم- عن يوم عظيم من أيام الله لم نوله ما يستحق من العناية والتكريم، ولم نستثمره في الطاعات والقربات، بل وربما لم نعلم خصائصه ومميزاته، ولم نلتزم أحكامه وآدابه كما ينبغي، إنه اليوم الأغر في جبين هذه الأمة .. سيد الأيام على الإطلاق هو يوم الجمعة، الذي ادخره الله لنا، وأضل عنه من قبلنا. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 27/ 4/ 1413 هـ.

قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله ثبت أن الأمم قبلنا أمروا به فضلوا عنه، واختار اليهود يوم السبت الذي لم يقع فيه خلق آدم، واختار النصارى يوم الأحد الذي ابتدأ فيه الخلق، واختار الله لهذه الأمة يوم الجمعة الذي أكمل الله فيه الخليقة، كما أخرج البخاري ومسلم- في صحيحيهما- واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا، ثم إن هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع: اليهود غدًا، والنصارى بعد غد» (¬1). هذه الحقيقة مسجلة في كتب أهل الكتاب، ويعترف بها مَنْ مَنَّ الله عليهم بالإسلام من أهل الكتاب، واستمعوا إلى هذا الحوار بين أبي هريرة رضي الله عنه وكعب الأحبار وتأييد عبد الله بن سلام رضي الله عنه: فقد قرأ أبو هريرة رضي الله عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أهبط وتيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقًا من الساعة إلا الجن والأنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله عز وجل حاجة إلا أعطاه إياها» قال كعب: ذلك في كل سنة يوم؟ فقلت: بل في كل جمعة، قال: فقرأ كعب التوراة فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو هريرة، ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب فقال عبد الله بن سلام: وقد علمت أية ساعة هي (¬2). وفي حديث آخر عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: قلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) محمد ابن حجر، الجمعة ومكانتها/ 22، انظر ابن القيم في زاد المعاد 1/ 365. (¬2) الحديث رواه أبو داود وغيره بسند صحيح (زاد المعاد 1/ 392).

جالس: إنا لنجد في كتاب الله (يعني التوراة) في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلى يسأل الله عز وجل شيئًا إلا قضى الله له حاجته (¬1). وهكذا معاشر المسلمين تتضافر الكتب والأخبار الصحاح على فضيلة هذا اليوم، وماذا كان وما سيكون فيه وإنه لمؤسف أن تستشعر الملائكة والدواب والشجر والحجر عظمة هذا اليوم وتخشى ما يقع فيه والإنس والجان عنه غافلون، ما بال هذه وتلك لا تستشعر عظمة هذا اليوم، ويوم الجمعة أعظم عند الله من يوم الفطر ويوم الأضحى .. كل ذلك وغيره يؤكده المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث أبي لبابه بن عبد المنذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيد الأيام يوم الجمعة وأعظمها عند الله، وأعظم عند الله من يوم الفطر ويوم الأضحى، وفيه خمس خصال، خلق الله فيه آدم وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى الله عز وجل آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئًا إلا آتاه الله إياه ما لم يسأل حرامًا، وفيه تقوم الساعة، ما من ملك مقرب، ولا أرض ولا رياح ولا بحر، ولا جبال ولا شجر إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة» (¬2). إخوة الإسلام كما أن لهذا اليوم مكانته ومنزلته في الحياة الدنيا فليوم الجمعة كذلك شأنه ومنزلة في الحياة الأخرى، وكلما أن للجمعة ما الحياة الدنيا أهلاً يقدرونها حق قدرها، فأهلها يوم القيامة بمنزلة سامية يطرق الناس منهم عجبًا، كما جاء في حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها، ويبعث يوم الجمعة زهراء منيرة لأهلها، فيحفون بها كالعروس، تهدى إلى كريمها، تضيء لهم، يمشون في ضوئها ألوانهم كالثلج بياضًا، رياحهم تسطع كالمسك، يخوضون في جبال الكافور، ينظر إليهم ¬

(¬1) الحديث رواه ابن ماجه بسند حسن انظر المصدر السابق 1/ 391. (¬2) الحديث رواه أحمد في مسنده وابن ماجه وهو حسن 1/ 388.

الثقلان ما يطرقون تعجبًا حتى يدخلوا الجنة، لا يخالطهم أحد إلا المؤذنون المحتسبون» (¬1). هذه معاشر المسلمين بعض ما ورد في فضل يوم الجمعة، هذا اليوم الذي لم يَعُدْ له وزنه الحقيقي عند كثير من المسلمين، بل ربما اعتبره بعضهم فرصة لكثرة النوم والتنوع في المآكل والمشارب لا أكثر .. وربما فهمه آخرون على أنه يوم متعة جسدية ولهو ولعب وطاب لهم أن يخرجوا فيه إلى البراري، ويتركوا الجمع والجماعات، ويا ليت هؤلاء يفقهون كلام أهل العلم في حكم السفر المباح في يوم الجمعة، إذ نصوا على أنه لا يجوز السفر بعد دخول وقتها، إلا إذا كان سيؤديها في مسجد في طريقه، وأما السفر في أول النهار وقبل دخول وقتها فمكروه، هذا حكم السفر الذي قد يكون الإنسان محتاجًا إليه، فكيف بمن يخرج من البلد في هذا الوقت لتضييع الوقت والتغيب عن الصلاة، إن التحريم والكراهية في حقه أشد (¬2). اللهم علم جاهلنا وفقه متعلمنا .. ¬

(¬1) الحديث رواه الحاكم والبيهقي وسنده صحيح، انظر: صحيح الجامع الصغير 2/ 142. (¬2) الشيخ صالح الفوزان/ الخطب 1/ 64.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأسأله المزيد من فضله، وأشهد ألا إله إلا الله في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله، وارض اللهم عن أصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين. أيها المسلمون لفضل هذا اليوم يبعث الله ملائكته على أبواب المسجد بكرة ليستقبلوا المبكرين المحتسبين، ويسجلوا أعمال الراغبين، ويوزعوا الهدايا على المستحقين، ويا ويحك أخي المسلم إن فاز الناس بالشاه والبعير، وكان نصيبك الخسران المبين .. يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على قدر منازلهم الأول فالأول، فإذا جلس الأمام طووا الصحف، وجاءوا يستمعون الذكر، ومثل المهجر (يعني المبكر) «كمثل الذي يهدي بدنه ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كالذي يهدي الكبش ثم كالذي يهدي الدجاجة، ثم كالذي يهدي البيضة» (¬1). أيها الإخوة المسلمون التأخر في المجيء لصلاة الجمعة داء ابتليت به الأمة المسلمة، وهو في ظني يعود إلى أمرين غالبًا، الأمر الأول: القصور في معرفة منزلة هذا اليوم معرفة حقيقية، تجعل المرء يضحي في سبيل هذا اليوم وفي سبيل التبكير لصلاة الجمعة بالغالي والنفيس، وهو يستشعر عظمة الله وعظمة هذا اليوم. أما الأمر الآخر فهو العجز والتكاسل والرغبة في الإخلاد إلى الراحة وإعطاء النفس حقوقها من المنام والمآكل والمشارب، وتلك وربي آفة صارفة عن كل ¬

(¬1) حديث صحيح عن أبى هريرة، صحيح الجامع 1/ 273.

خير، ولا يزالا العجز والكسل بالمرء حتى يورده المهالك .. والنفس كما قيل كالطفل إن تتركه شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم. ويوم أن يتوافر لك أخي المسلم علم حقيقي لا نظري بمنزلة يوم الجمعة عند الله .. ومجاهدة للنفس عن بعض شهواتها فستصل إلى منزلة تسمو بك عن الآخرين وتجد أثرها يوم العرض على رب العالمين. إخوة الإيمان ما ظنكم لو أن السلطان أمر جنودًا يقفون على الأبواب ويوافونه بالمتقدم، ويعدونهم بالعطايا والهدايا الحسان، ويسجلون المتخلف ويعدونه بالخسارة على رؤوس الأشهاد؟ فكيف الحال إذا كان الباعث هو الجبار جل جلاله، والجنود هم الملائكة الأطهار. إنه حري بك أخي المسلم أن تستحي من ملائكة الرحمن أن يروك متأخرًا إن تصورك لهذا الأمر في كل جمعة سيدعوك للتبكير مستقبلاً بإذن الله إن كنت ممن يعي ويتعظ ويقدر الخير ويفرق بين البدنة والبيضة، وأرجو ألا يكتبك الله مع الغافلين .. وأرجو أن يعينك الله على مواصلة السير مع الصالحين .. وألا يحشرك مع الغافلين المتكبرين. أخا الإسلام افتح قلبك وسمعك لهذا الحديث النبوي المرغب في التبكير، واحرص على أن يكون لك منه أوفر الحظ والنصيب. يقول صلى الله عليه وسلم: «من غسَّل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع وأنصت، ولم يلغ كان له بكل خطوة يخطوها هن بيته إلى المسجد عمل سنة أجر صيامها وقيامها .. وذلك على الله يسير» (¬1). ¬

(¬1) الحديث رواه أحمد وغيره بسند صحيح، صحيح الجامع 5/ 325.

قال الإمام أحمد: وغسَّل بالتشديد جامع أهله، وكذلك فسره وكيع (¬1). أين الراغبون في الحسنات .. وأين المسارعون إلى الخيرات .. إن ذلك جزء من فضائل يوم الجمعة. إخوة الإسلام ويكفي من فضائل يوم الجمعة أن ما بين الجمعتين كفارة لما بينهما إذا ما اجتنبت الكبائر، وهنا يغلط بعض الناس فتراه يحافظ على الجمعة، ويتهاون فيما سواها من الصلوات ظنًّا خاطئًا منه أن الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، وهذا تحريف للكلم عن مواضعه، وإيمان ببعض الكتاب وكفر ببعض، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما ذكر أن الجمعة تكفر الذنوب الصغائر دون الكبائر، حيث قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» ولا شك أن ترك الصلوات الخمسة أو التهاون بآدائها من الكبائر .. فلا تصح الجمعة ممن هذه حاله حتى يؤدي الصلوات الخمس. أما من يتهاون أو يترك صلاة الجمعة دون عذر فهذا جرمه كبير .. فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من ترك صلاة الجمعة تهاونًا بها طبع الله على قلبه (¬2). وفي الحديث الآخر: «من ترك ثلاث جمعات من غير عذر كتب من المنافقين» (¬3) نسأل الله السلامة والعصمة من الزلل. أيها المسلمون هناك خصائص وفضائل وأحكام أخرى للجمعة نرجئ الحديث عنها في خطبة لاحقة بإذن الله .. هذا وصلوا. ¬

(¬1) زاد المعاد 1/ 385. (¬2) صحيح صالح الفوزان خطبة الجمعة / 61. (¬3) صحيح الجامع 5/ 268.

(2) اليوم الأغر سننه وأحكامه

(2) اليوم الأغر سننه وأحكامه (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله، وارض اللهم عن أصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، وارجوا اليوم الآخر، وتلمسوا أسباب النجاة في هذه الحياة، وبواعث السعادة بعد الممات، ألا وإنكم في يوم عظيم من أيام الله، سبق في الجمعة الماضية بيان شيء من فضله، ونستكمل اليوم بعضًا من خصائصه وسننه وأحكامه. روى الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «سيد الأيام يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة» (¬2). وهذه السيادة لهذا اليوم كان يقدرها المصطفى صلى الله عليه وسلم حق قدرها بدءًا من فجر هذا اليوم، حيث كان يقرأ في صلاة الفجر سورتي آلم السجدة، وهل أتى على الإنسان، ويظن كثير ممن لا علم عنده أن المراد تخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة ويسمونها سجدة الجمعة، وإذا لم يقرأ أحدهم هذه السورة قرأ سورة ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 5/ 5/ 1413 هـ. (¬2) صححه الحاكم ووافقه الذهبي/ زاد المعاد 1/ 366.

أخرى فيها سجدة، ولهذا كره من كره من الأئمة المداومة على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة دفعًا لتوهم الجاهلين (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله- وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة لأنهما تضمنتا ما كان ويكون في يومها، فإنهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذكر المعاد، وحشر العباد، وذلك يكون يوم الجمعة، وأن قراءتهما في هذا اليوم تذكير للأمة بما كان فيه ويكون، والسجدة جاءت تبعًا، ليست مقصودة حتى يقصد المصلي قراءتها حيث اتفقت (¬2). أيها المسلمون، كان من هديه صلى الله عليه وسلم تعظيم هذا اليوم وتشريفه وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره، وقد اختلف العلماء هل هو أفضل أم يوم عرفة على قولين (¬3). ويستحب الإكثار فيه من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يومه وليلته لقوله صلى الله عليه وسلم «أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة» (¬4). كما يستحب الاغتسال في يوم الجمعة، بل قال بعض العلماء إنه أمر مؤكد جدًا، ووجوبه أقوى من وجوب الوتر، وقراءة البسملة في الصلاة، ووجوب الوضوء من مس النساء، ومن مس الذكر والقهقهة في الصلاة، ووجوب الوضوء من الرعاف والحجامة والقيء ووجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير ووجوب القراءة على المأموم. قال الإمام ابن القيم- رحمه الله-: وللناس في وجوب الغسل يوم الجمعة ثلاثة ¬

(¬1) ابن القيم: زاد المعاد 1/ 375. (¬2) المصدر السابق 1/ 375. (¬3) هما وجهان لأصحاب الشافعي، الزاد 1/ 375. (¬4) أخرجه البيهقي من حديث أنس وهو حسن، المصدر السابق 1/ 376.

أقوال: النفي، والإثبات، والتفصيل بين من به رائحة يحتاج إلى إزالتها فيجب عليه، ومن هو عنه فيستحب له، والثلاثة لأصحاب أحمد (¬1). أما التطيب يوم الجمعة فهو أفضل من التطيب في غيره من أيام الأسبوع، والسواك فيه له مزية على السواك في غيره. أما التبكير للجمعة فقد سبقت الإشارة إليه، لكني هنا أشير إلى المقارنة بين صلاة الجمعة وصلاة العيد، حيث قال العلماء: لما كان يوم الجمعة في الأسبوع كالعيد في العيد، وكان العيد مشتملاً على صلاة وقربان، وكان يوم الجمعة يوم صلاة، جعل الله التعجيل فيه إلى المسجد بدلاً من القربان وقائمًا مقامه، فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاة والقربان، وهذا من حكم قوله صلى الله عليه وسلم: «من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة» (¬2). وهل علمت أخي المسلم أن قربك من الله يوم القيامة على قدر رواحك للجمعة، وهل تريد أن تعلم شيئًا من حرص السلف على التبكير لصلاة الجمعة؟ ذكر البيهقي في الشعب وابن ماجه في السنن وغيرهما عن علقمة بن قيس قال: رحت مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إلى جمعة فوجد ثلاثة قد سبقوه، فقال: رابع أربعة، وما رابع أربعة ببعيد، ثم قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس يجلسون يوم القيامة من الله على قدر رواحهم إلى الجمعة الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع» ثم قال: وما رابع أربعة ببعيد» (¬3). ومن الأمور المستحبة في يوم الجمعة قراءة سورة الكهف، فقد ورد عن ¬

(¬1) المصدر السابق 1/ 377. (¬2) الحديث (زاد المعاد 1/ 399). (¬3) الحديث حسنه المنذري في الترغيب والترهيب والبوصيري في الزوائد، انظر زاد المعاد 1/ 409.

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قي فضل ذلك: «من قرأ سورة الكهف في يومها سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء به يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين» (¬1). كما يستحب في هذا اليوم أن يلبس أحسن ثياب، فعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر في يوم الجمعة: «ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته» (¬2). فإذا اجتمع لك يا أخا الإسلام غسل يوم الجمعة وسواك وتطيب ولبس أحسن الثياب ثم كملت ذلك بالمشي إلى المسجد مبكرًا وعليك السكينة، وركعت ما قدر الله لك أن تركع، وأنصت والإمام يخطب فأبشر بالخير والمثوبة من الله. وفي ذلك يقول صلى الله عليه ومسلم: «من اغتسل يوم الجمعة واستاك ومس من طيب إن كان له، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد ولم يتخط رقاب الناس ثم يركع ما شاء الله أن يركع، ثم أنصت إذا خرج الإمام فلم يتكلم حتى يفرغ من صلاته، كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى» (¬3). وكما يستحب أن يهتم الناس بنظافة ملابسهم وأجسادهم في كل حين، وبالأخص يوم الجمعة، فيستحب كذلك الاهتمام بالمساجد وتجميرها، وكان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يأمر بتجمير مسجد المدينة كل جمعة حين ينتصف النهار (¬4). وهذه مسألة طالما غفل عنها كثير من الناس في وقت لا يغفلون فيه عن تجمير ¬

(¬1) حديث صحيح أخرجه الحاكم وغيره، زاد المعاد 1/ 377. (¬2) رواه أبو داود بإسناد صحيح 1/ 382. (¬3) حديث صحيح أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم/ صحيح الجامع 5/ 252. (¬4) زاد المعاد 1/ 391.

منازلهم وأضيافهم وبيوت الله حرية ألا تنسى، وضيوفها الملائكة وخيار الصالحين. إخوة الإسلام من أبرز خصائص وفضائل هذا اليوم أن فيه ساعة الاستجابة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنها: «وإن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه، وقال بيده يقللها» (¬1)، وقد اختلف أهل العلم في تحديد هذه الساعة وأرجح الأقوال رأيان يعضد كل منهما أحاديث صحيحة، وأحدهما أرجح من الآخر. القول الأول أنها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة، وصحة هذا القول ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي بردة بن موسى أن عبد الله بن عمر قال له: أسمعت أباك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ساعة الجمعة شيئًا؟ قال: نعم سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة» (¬2). والقول الثاني أنها بعد العصر، وهذا- كما يقول ابن القيم- أرجح القولين وهو قول عبد الله بن سلام وأبي هريرة والإمام أحمد وخلق، وحجة هذا القول ما رواه أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه وهي بعد العصر». وروى سعيد بن منصور في سننه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة فتفرقوا ولم يختلفوا إنها آخر ساعة من يوم الجمعة (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما. (¬2) وهناك حديث آخر رواه ابن ماجه والترمذي يشير إلى نفس المعنى (زاد المعاد 1/ 39). (¬3) زاد المعاد 1/ 391.

فإن قلت: وكيف يكون آخر ساعة من يوم الجمعة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي .. ومن المعلوم أن آخر ساعة من الجمعة ليست محل صلاة .. فقد أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم على سؤال وجهه له عبد الله بن سلام حين قال: إنها ليست ساعة صلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة» فهل يحتسب المسلمون هذه الساعة يروضوا أنفسهم على الجلوس في المساجد ابتغاء ما عند الله .. وإذا لم يمكنه في كل جمعة فهل يحاول ولو بعض الجمع، وإذا لم يستطع المكوث في المسجد من صلاة العصر فهل يحرص على الأقل على الذهاب إلى المسجد قبل الأذان بوقت يكفيه للدعاء والابتهال إلى الله .. إلى ذلك خير من الدرهم والدينار .. بل لعله من أنفع طرق جمع الدرهم والدينار، وما عند الله خير وأبقى .. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. أيها المسلمون، الصدقة في يوم الجمعة لها مزية على الصدقة في سائر الأيام، قال العلماء: والصدقة فيه بالنسبة إلى سائر أيام الأسبوع كالصدقة في شهر رمضان بالنسبة إلى سائر الشهور، وقال ابن القيم رحمه الله: وشاهدت شيخ الإسلام ابن تيمية- عليه رحمة الله- إذا خرج إلى الجمعة يأخذ ما وجد في البيت من خبز أو غيره فيتصدق به في طريقه سرًا وسمعته يقول: إذا كان الله قد أمرنا بالصدقة بين يدي مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالصدقة بين يدي مناجاته تعالى أفضل وأولى بالفضيلة (¬1). اللهم علمنا ما ينفعنا وأنفعنا بما علمتنا .. ووفقنا لطاعتك وجنبنا معصيتك يا حي يا قيوم .. أقول هذا القول وأستغفر الله. ¬

(¬1) زاد المعاد 1/ 407.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا كبيرًا طيبًا طاهرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد ألا إله إلا الله الواحد الأحد الفرد الصمد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله وارض اللهم عن أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أيها المسلون ... لابد من التفقه في دين الله، ولابد من معرفة أحكام شرع الله .. وهذه الفضائل وغيرها إنما تحصل لمن اتبع والتزم ولم يلغ ويؤذي غيره، يقول صلى الله عليه وسلم «يحضر الجمعة ثلاثة نفر: رجل حضرها يلغو وهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو، فهو رجل دعا لله عز وجل إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكون ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدًا فهي كفارة له إلى يوم الجمعة التي يليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك أن الله يقول: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها» (¬1). فكن أخي المسلم ممن يحضر إلى الجمعة بإنصات وخشوع، وتأمل واستفادة مما يقال، فذلك خير من الدعاء والتشاغل دون الخطبة .. فضلاً عن اللغو والحديثة الآخر. ولتعلم أخي المسلم أن اللغو أو التشاغل يوم الجمعة أمره خطير وقد ورد: «من قال لصاحبه يوم الجمعة صه فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له» بل فهم بعض العلماء أن المقصود بقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}، ¬

(¬1) الحديث رواه أحمد وأبو داود بسند حسن، زاد المعاد 1/ 431.

يشمل الإنصات يوم الجمعة، فقد ذكر ابن كثير عن سعيد بن جبير قال: الإنصات: يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة، وفيما يجهر به الإمام من الصلاة، وهذا اختيار ابن جرير- رحمه الله- أن المراد من ذلك الإنصات في الصلاة وفي الجمعة. ثم اعلموا معاشر المسلمين أن من أدرك ركعة من صلاة الجمعة مع الإمام فليضف إليها ركعة أخرى وقد تمت جمعته، ومن أدرك أقل من ركعة فقد فاتته الجمعة فيدخل مع الإمام بنية الظهر، ويصلي أربع ركعات (¬1) وهذه مسألة يغلط فيها كثير من الناس فليتفقهوا ذلك. ومن حضر الجمعة فلا يجوز له أن يتخطى رقاب الناس، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر رجلاً يتخطى رقاب الناس، فقال له: «اجلس فقد آذيت»، ولا يجوز للإنسان أن يحجز مكانًا في المسجد ويحرم الناس منه، إلا من عرض له عارض فقام ثم عاد قريبًا فهو أحق بمكانه. أما نافلة الجمعة قبل الصلاة فلا حدّ لها، وليس لها سنة راتبة، بل يتنفل بما شاء، أما النافلة الراتبة بعدها، فأقلها ركعتان، وأكثرها أربع (¬2). قال العلماء: إن صلى النافلة في المسجد صلى أربعًا وإن صلى في بيته صلى ركعتين هذا هو المحفوظ من سنة النبي صلى الله عليه وسلم لراتبة الجمعة بعدها، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما بسند قوي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في المسجد صلى أربعًا وإذا صلى في بيته صلى ركعتين (¬3) فاعلموا واعملوا بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ترشدوا. ¬

(¬1) الفوزان في خطبه 1/ 60. (¬2) الفوزان 1/ 60. (¬3) رواه أبو داود بسند قوي، زاد المعاد 1/ 440.

إخوة الإسلام .. الله الله أن تغلبوا على هذه السنن، أو تفرطوا في هذه الواجبات، واشكروا الله إذ هيأ لكم هذا اليوم الفضيل لكي تتقربوا فيه إلى الله بالنوافل والواجبات، وجعل لهم يومًا يتفرغون فيه للعبادة، ويتخلون فيه عن أشغال الدنيا، ويوم الجمعة بالنسبة لنا معاشر المسلمين يوم عبادة وهو في الأيام- كما قال أهل العلم كشهر رمضان في الشهور، وساعة الاستجابة فيه كليلة القدر في رمضان، ولهذا قيل: من صح له يوم جمعته وسلم سلمت له سائر جمعته، ومن صلح له رمضان وسلم سلمت له سائر سنته، ومن صحت له حجته وسلمت له صح له سائر عمره، فيوم الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضان ميزان العام، والحج ميزان العمر، وبالله التوفيق (¬1). بل لقد قيل: إن جهنم تسجر كل يوم إلا يوم الجمعة، وسر ذلك والله أعلم- كما نقل ابن القيم- أنه أفضل الأيام عند الله، ويقع فيه من الطاعات والعبادات والدعوات والابتهال إلى الله سبحانه ما يمنع فيه تسجير جهنم فيه .. وقيل كذلك: إن الموتى تدنو أرواحهم من قبورهم وتوافيها في يوم الجمعة، فيعرفون زوارهم ومن يمر بهم، ومن يسلم عليهم، ويلقاهم في ذلك اليوم أكثر من معرفتهم بهم في غيره من الأيام. فهو يوم يلتقي فيه الأحياء والأموات، فإذا قامت الساعة التقى الأولون والآخرين وأهل الأرض وأهل السماء، والرب والعبد، والعامل وعمله والمظلوم وظالمه والشمس والقمر. ولم يلتقيا قبل ذلك قط. فهو يوم التلاق ويح من يكشف سريرته في هذا اللقاء وقد أضمر من الشر والخداع ما أضمر .. ويا سعادة من يسر إذ تنشر صحائفه على الخلائق .. ذلك فضل الله يؤتيه من ¬

(¬1) زاد المعاد 1/ 398.

يشاء .. اللهم لا تحرمنا فضلك ولا تجعلنا أشقى خلقك بك .. واجعل لنا من الخير نصيبًا وافرًا، ومن الشر والعجز والكسل مانعًا وحائلاً .. اللهم تقبل منا واغفر لنا وأعنا على أنفسنا، إنك على كل شيء قدير.

فيض العشر وفضل الدعاء

فيض العشر وفضل الدعاء الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ... أما بعد إخوة الإسلام فها هي أيام رمضان تسارع مؤذنة بالانصراف والرحيل، وها هي أيام العشر تحل لتكون الفرصة الأخيرة لمن فرط في أول الشهر، أو لتكون التاج الخاتم لمن أصلح ووفي فيما مضى، إخوة الإيمان العشر الأخيرة من شهر رمضان سوق عظيم يتنافس فيه العاكفون، وموسم يضيق فيه المفرطون، وامتحان تبتلى فيها الهمم، ويتميز أهل الآخرة من أهل الدنيا .. طالما تحدث الخطباء، وأطنب الوعاظ، وأفاض الناصحون بذكر فضائل هذه الليالي .. ويستجيب لهذا النداء الحاني، والموعظة المشفقة قلوب خالط الإيمان بشاشتها، وآذان أصغت للمنادي واستقر في روعها أنه لا يريد إلا الخير ليس إلا .. فسلكت هذه الفئة المستجيبة طريق المؤمنين، وانضمت إلى قافلة الركع الساجدين، واختلطت دموع أصحابها بدعائهم في جنح الظلام، وربك يسمع ويجيب، ويجزي العاملين المخلصين، وما ربك بظلام للعبيد. أما الفئة الأخرى فتسمع النداء وكأنه لا يعنيها، وتسمع المؤمنين يتضرعون لخالقهم، وكأنه ليس لهم حاجة إلا ملء البطون والتفكير في الفروج .. ويا ليت شعري والمأساة أعظم أن هؤلاء نائمون قائمون .. فهم في عداد النائمين إذ لم يشهدوا مع المسلمين صلواتهم ودعاءهم وهم في عداد القائمين المضيعين لأوقاتهم والمزحين لفراهم بالقيل والقال والسهر الذي لا طائل من ورائه، ولا نفع يرجى من خلاله إلا من رحم الله.

فهل يتأمل الشاردون في غبنهم، وهل يعيد المفرطون الحساب مع أنفسهم ومع خالفهم، ونحن بعد في مستهل هذه العشرة التي ضمنها الله تعالى ليلة: العبادة فيها خير من العبادة في ما يزيد على ثلاثة وثمانين عامًا، وربك تعالى يقول {ليلة القدر خير من ألف شهر} وكم هي نعمة أن يتخفف المرء في هذا الشهر من الذنوب والأوزار التي لو كان لها جرم لما أطاق الإنسان حملها لثقلها، ولو كان للذنوب رائحة لزكمت الأنوف لشدة نتنها «ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه». هكذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، والذي يحتسبون على الله قيام ليالي العشر لابد وأن يدركوا هذه الليلة، فهي في العشر الأواخر، وهي في الأوتار أحرى وآكد. وفي الليل سواء كان في رمضان أو غيره- ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئًا من أمور الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، ولكم هو وقت النزول الإلهي، ومنه الثلث الأخير من الليل، يقول المولى جل جلاله في هذه الساعة: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ .. فأين أنت يا عبد الله عن هذا المورد العظيم، وإذا غلبتك نفسك في سائر العام أفلا تغلبها على الأقل في هذه الليالي والأيام. أخوة الإيمان إذا كان قيام الليل أعظم ما يرجى وأزكى ما يقدم في هذه العشر منحة قربات حري بالمؤمن أن يتقدم بها لمولاه في هذه الليالي والأيام الفاصلة .. فذكر الله على كل حال سياج من الشيطان ودرع واق للإنسان، ويكفي أن يعلم أن مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره كمثل الحي والميت .. ويرحم الله أمواتًا رغبوا لأنفسهم الموت وهم بعد أحياء، ويرحم الله أمواتًا إذا ذكرهم الناس ذكروا الله وإن كانوا أجداثًا في قبورهم. فليس من مات فاستراح ... بميت إنما الميت ميت الأحياء.

فلا تمت نفسك أخي المسلم بالغفلة عن ذكر الله وأنت بعد على قيد الحياة. وبادر باغتنام هذه العشر لمزيد ذكر الله والأنس به {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} ومن رحمة الله أن فضل الذكر عظيم وهو لا يكلف المرء عناءً، وبإمكان المرء أن يذكر الله قائمًا أو قاعدًا أو على جنبه. فلا يستحوذن عليكم الشيطان. عباد الله حذار أن ينسيكم الشيطان ذكر الله والباري يقول في محكم التنزيل {استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}. ومن الأمور المعينة على ذكر الله الاعتكاف في المساجد، وهي سنة أغفلها كثير من الناس، ومنها انقطاع عن الخلق واتصال بالخالق تعين المرء على ذكره والإنس به وحده، وفيها تفريغ للقلب من المشاغل التي طالما فرقته في أودية الدنيا وهمومها، ويخطأ بعض الناس فيظن أن الاعتكاف لازم للعشر كلها، وليس الأمر كذلك فبإمكان الإنسان أن يعتكف نصفها، أو بعضًا منها، أو يومًا أو ساعةً منها، فهل تحيي هذه السنة النبوية في مساجدنا وتشجع كبارنا وصغارنا على المسارعة في الخيرات واغتنام الأوقات؟ وليس يخفي أن الإكثار من تلاوة القرآن، والسنن النوافل والصدقات، وصلة الأرحام، والعمرة، ونحوها من القربات، تحسن في كل حال، ولها ميزتها في مثل هذه الأيام، ولا تنسوا أنكم مقبلون على إجازة، الكيس منكم من استثمرها في الطاعة، والمسكين من فرط فيها بكثرة النوم وضياع الأوقات. أيها المسلمون وثمة عبادة يحسن التذكير بها في كل حال، وهذه الليالي والأيام بالذات ميدان للاجتهاد فيها- ألا وهي الدعاء. إخوة الإيمان والدعاء هو سهام الليل يطلقها القانتون، وهي حبل ممدود بين السماء والأرض يقدره حق قدره عباد الله المخلصون.

هو الربح ظاهرًا بلا ثمن، وهو المغنم في الدنيا والآخرة بلا عناء، هو التجارة الرابحة يملكها الفقراء كما يملكها الأغنياء على حد سواء، يتفاوت الناس في هذه العبادة بين مقل ومستكثر، بين حاضر القلب، وشارد الذهن، بين خاشع متأمل لما يقول وبين قاس القلب لا يتأثر ولا يلين وهو طريق للفلاح في الآخرة، وهو سبب من أسباب السعادة في الدنيا بإذن الله ذلكم هو الدعاء، بل هو العبادة، كما قال عليه الصلاة والسلام: «الدعاء هو العبادة» (¬1). قال الله تعالى: {وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} (¬2). فالآية في بدئها تسمية الدعاء، وفي نهايتها أطلق عليه العبادة، مما يؤكد لك أهمية الدعاء، وكونه هو العبادة. وإذا كان الله يصف الراغبين عن الدعاء بالاستكبار كما في الآية السابقة، فاعلم أخي المسلم- أن ليس شيء أكرم على الله من الدعاء، كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه بسند حسن (¬3) - يا أخا الإسلام أترغب أن توصف بالعجز والكسل، وهل علمت أن المقصر في الدعاء من أعجز الناس بقول الرسول صلى الله عليه وسلم «أعجز الناس من عجز عن الدعاء وأبخل الناس من بخل بالسلام» (¬4). لقد أمر الله المسلمين بالدعاء ووعدهم بالاستجابة، وهل بعد ذلك من كرم، فقال أكرم الأكرمين: {وقال ربكم ادعوني استجب لكم}، لكنها الاستجابة ¬

(¬1) قال الترمذي: حديث حسن صحيح (الأذكار/ 333). (¬2) سورة غافر، الآية: 60. (¬3) الأذكار للنووي/ 333. (¬4) رواه الطبراني في الأوسط، والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح (صحيح الجامع 1/ 346.

المشروطة بالاستجابة لله والإيمان به، وهذا وذاك طريق الرشد وسبيل الخير {وإذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} (¬1). وهل علمت أخا الإسلام أن الدعاء وتعليمه يأتي في مرتبة تالية للصلاة، للداخلين في الإسلام فقد كان الرجل إذا أسلم علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ثم أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات «اللهم اغفر لي وارحمني، واهدني وعافني وارزقني» وكان عليه الصلاة والسلام يقول في فضل هذه الدعوات: إنها تجمع الدنيا والآخرة (¬2). وهل علمت أن صاحب الدعاء كاسب على كل حال إذا لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، وتأمل جيدًا هذا الحديث النبوي الشريف الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا أتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: إذا نكثر (يعني من الدعاء) قال (صلى الله عليه وسلم): الله أكثر (¬3). وحاصل ذلك أن الداعي لا يعلم أحد ثلاثة أمور، إما أن يستجاب دعوته عاجلاً، أو تأخر له في القيامة، أو يدفع عنه من السوء مثلها. وهذا أو ذاك لا شك فضل عظيم ومنة من الله يمتن بها على عباده الداعين، اسأل الله سبحانه وتعالي أن يتقبل منا إنه هو السميع العليم. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 186. (¬2) الحديث رواه مسلم في صحيحه. رياض الصالحين/ 469. (¬3) يعني أكثر إحسانًا مما تسألون (الحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح (رياض الصالحين/ 475. وزاد الحاكم في المستدرك: (أو يدخر له من الأجر مثلها) وصححه ووافقه الذهبي (الدعاء/ 5).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية فإذا عرفت فضل الدعاء وأهميته فينبغي أن تعرف أن للدعاء آدابًا وسننًا، تخفي على كثير من الناس، ومعرفتها والعمل بها سبب في استجابة الدعاء بإذن الله. فمن آداب الدعاء أن يبتدأ الداعي دعوته بحمد الله والثناء عليه والاعتراف بتقصير العبد وحاجته إلى الله، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو ويقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فقال (صلى الله عليه وسلم) «لقد سألت الله تعالى بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب». وفي رواية: «لقد سألت الله باسمه الأعظم» (¬1). بما هو أهله وتأمل في دعاء ذي النون إذ دعا ربه وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب له (¬2). وإذا كان هذا الثناء على الله في بدء الدعاء، فمن آداب الدعاء وسننه كذلك أن نختمه بالصلاة والسلام علي الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في الحديث لا يزال الدعاء معلق بين السماء والأرض حتى يصلي الداعي على الرسول، فإذا صلى رُفِعَ الدعاء. وفي صحيح الجامع «كل دعاء محجوب حتى يُصَلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم». فهل تعمل بهذا الأدب في الدعاء في البدء والنهاية إن ذلك أرجى للقبول وأدعى لفتح أبواب السماء. ¬

(¬1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن (الأذكار/ 336). (¬2) رواه الحاكم وقال، صحيح الإسناد (الأذكار/ 338).

ومن سنن الدعاء أن يختار الداعي الأوقات الفاضلة، والأزمنة الشريفة، كيوم عرفة، وشهر رمضان، ويوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل، ووقت الأسحار، وبين الأذان والإقامة، ودبر الصلوات. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبة (¬1). ومن آداب الدعاء- بل هو من أهم الآداب- حضور القلب وخشوعه لله ومعرفة ما يدعو به، فإن الغافل اللاهي تتحرك شفتاه بالدعاء وقلبه مشتغل بأمر آخر وأنَّى لهذا الدعاء أن يصعد للسماء، والحق يرشدنا إلى هذا الأدب ويقول {ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين} (¬2). ويصف حال طائفة من المؤمنين فيقول عنهم: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين} (¬3). ومن آداب الدعاء وسننه بدأ يستقبل القبلة ويكون على طهارة، فذلك أقرب للقبول وإن لم يكن ذلك شرطًا لازمًا فيمكن أن يدعو المرء على كل حال وفي أي اتجاه كان- لكن إن تيسر له الاستقبال وكان على وضوء فهو أولى وأحرى. ومن آداب الدعاء أن يعزم الداعي الدعاء، ويوقن بالإجابة، فلا يقول مثلاً: اللهم اغفر لي إن شئت، أو ارزقني إن رغبت، فإن الله لا مكره له، بل يعزم المسألة، ولا يخامره شك في الاستجابة واضعًا ذهنه أنواع الاستجابة المعملة أو الموكلة أو دفع السوء والمكروه، كلما تقدم قال سفيان بن عيينه يرحمه الله: ¬

(¬1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن (رياض الصالحين/ 475). (¬2) سورة الأعراف، الآية: 5. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 90.

لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلمه من نفسه، فإن الله تعالى أجاب شر المخلوقين إبليس إذ {قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين} (¬1). ومن آداب الدعاء عدم التكلف في الدعاء، وخفض الصوت، وتكرار الدعاء ثلاثًا والإلحاح في الدعاء، والدعاء في الرخاء إذ هو سبب لقبول الدعاء في حال الشدة والضر، وقد ورد في الحديث: «من سره أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء» (¬2). هذه أبرز آداب الدعاء، ويبقى بعد ذلك أمر مهم وهو معرفة موانع الاستجابة للدعاء ليتجنبها. ومن أبرز أسباب عدم قبول الدعاء المطعم الحرام والملبس الحرام، ورد في ذلك خبر الأشعث الأغبر الذي لا يزال يسأل ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له الحلال يستجب الله دعاءكم. ومن موانع الاستجابة: الاستعجال في الدعاء والتوقف عنه والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: قد دعوت ربي فلم يستجب لي» (¬3). وفي رواية لمسلم قيل يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: «يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر من يستجب لي فيستخسر عند ذلك ويدع الدعاء» (¬4). ومن موانع الاستجابة في الدعاء الاعتداء في الدعاء والزيادة عن المشروع، والله تعالى يقول: {دعوا ربهم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين} (¬5) وكم من ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 14. (¬2) حديث حسن رواه الترمذي، الأذكار/ 333. (¬3) متفق عليه. (¬4) رياض الصالحين. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 55.

دعوة بلغت عنان السماء وصاحبها خاشع لا يكاد جاره يسمع به لكن قلبه مرتبط بالسماء وشفتاه وقسمات وجهه تعبر عن صدق التضرع والالتجاء وكم من داع علا صوته وأسمع من حوله .. ولكن دعوته لم تتجاوز حدود مكان الدعاء، ولم يؤذن لها باختراق الحجب، بسبب اعتداء صاحبها أو تفريطه في الذنوب والمعاصي وعدم إقباله على الله بصدق وإخلاص وتوبة نصوح. وأخيرًا يبقى أن تعلم أخي السلم- أختي السلطة- نماذج من الدعاء، حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تكرارها أو أوصى أحد أصحابه بالدعاء بها، فهي عون لك بإذن الله، وهب في عداد جوامع الدعاء التي ينبغي الحرص عليها وتكرارها، ومن هذه الأدعية الجوامع: «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» رواه مسلم. وعلم أبا بكر أن يقول في الصلاة: «اللهم أني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم». (متفق عليه). قال الإمام النووي: وهذا الدعاء وأيه كان ورد في الصلاة فهو حسن نفيس صحيح فيستحب في كل موطن، وقد جاء في رواية «وفي نيتي» (¬1). وفي صحيح البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» زاد مسلم في روايته قال «وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه» (¬2). ¬

(¬1) الأذكار للنووي/ 334. (¬2) الأذكار/ 333.

ومن الأدعية التي ينبغي الإكثار منها: يا ذا الجلال والإكرام، فقد ورد: «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» (¬1) والمعنى الزموا هذه الدعوة وأكثروا منها. وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: أي الدعاء أفضل؟ قال: «سل ربك العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة»، ثم أتاه في اليوم الثاني فسأله فقال له مثل ذلك، ثم أتاه في اليوم الثالث كذلك فقال له مثل ذلك، وقال: «فإذا أعطيت العافية في الدنيا وأعطيتها في الآخرة فقد أفلحت» (¬2). ومن جوامع الدعاء ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها: اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله وأعوذ بك من الشر كله .. وأسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار .. وأسألك خير ما سألك به عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك ... وأسألك ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته رشدًا (¬3). إخوة الإسلام ومن رحمة الله بنا وسعة فضله علينا في الدعاء أنه لا يعجل بإجابة الداعي على نفسه أو ولده أو ماله بالشر في حال الضجر والغضب وضعف النفوس، وذلك لعلمه سبحانه أن ذلك غير مقصود منا، وإنما هو التفريج عن الشدة التي نجدها أحيانًا في نفوسنا، فنظن أننا نفرغها بالدعاء على أنفسنا وأموالنا وأولادنا. وبعكس ذلك في دعائنا بالخير فهو يستعجل الإجابة لنا، ويعطينا سؤلنا أو يدخر لنا خيرًا منه في أخرانا. ولكم معاشر المسلمين فضل من الله وإحسان .. ¬

(¬1) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد (الأذكار/ 338). (¬2) رواه الترمذي وقال: حديث حسن، الأذكار/ 338. (¬3) رواه الحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد وهو حديث حسن (الأذكار/ 339).

ويأملوا في حقيقة ذلك في قوله تعالى {ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون} (¬1). ومع ذلك- إخوة الإيمان- فلا ينبغي للمسلم أن يكثر من الدعاء على نفسه أو ولده أو ماله، مهما ضجر أو غضب، فالعاقبة وخيمة كلما قال عليه الصلاة والسلام «لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم» (¬2). قال مجاهد في تفسير هذه الآية {ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير} وهو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه «اللهم لا تبارك فيه والعنه، فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم» (¬3). ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 11. (¬2) رواه البزار. تفسير ابن كثير 4/ 188. (¬3) تفسير ابن كثير 4/ 188.

النصر والتمكين في يوم عاشوراء

النصر والتمكين في يوم عاشوراء (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمد ونستعينه .. أما بعد إخوة الإسلام فإن ثوبي الكبرياء والعظمة لله لا ينبغي لأحد من البشر مهما كان أن ينازع فيهما، قال الله تعالى في الحديث القدسي «الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري فمن نازعني واحدًا منهما قذفته في النار» (¬2) والظلم مرتعه وخيم، والمكر السيئ لا يحيق إلا بأهله تلك معان وحقائق يعرضها علينا القرآن في أكثر من مشهد وغير واحد من المواقف والقصص في أخبار السابقين، ولكنها تتجلى بشكل واضح، ويزداد تكرارها في القرآن في قصة موسى عليه السلام وفرعون اللعين، بشكل ملفت للنظر لمن تمعن في قصص القرآن، فلماذا يكثر ذكر قصة موسى عليه السلام مع فرعون في القرآن؟ وقد أجاب أهل التفسير عن ذلك بأنها من أعجب القصص، أما وجه العجب فقالوا: إن فرعون حذر من موسى كل الحذر فسخره الله أن ربى هذا الذي يحذر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد، ثم ترعرع وعقد الله له سببًا أخرجه من بين أظهرهم، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم، وبعثه الله إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده ويرجع إليه، هذا مع ما كان عليه فرعون من عظمة الملك والسلطان، فجاءه برسالة الله وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه السلام، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية والنفس الخبيثة الأبية وركب رأسه وتولى بركنه وادعى ما ليس له ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 8/ 1/ 1415 هـ. (¬2) رواه مسلم وأبو داود- جامع الأصول 10/ 63.

وتهجم على الله وعتا وبغى، وأهان حزب الإيمان من بني إسرائيل، والله تعالى يحفظ رسوله موسى وأخاه هارون- عليهما السلام- ويحوطهما بعنايته ويحرسهما بعينه التي لا تنام، ولم تزل المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يدي موسى شيئًا بعد شيء ومرة بعد مرة مما يبهر العقول ويدهش الألباب مما لا يقوم له شيء، ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله، وصمم فرعون وملأه- قبحهم الله- على التكذيب بذلك كله، والجهد والعناد والمكابرة حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد، وأغرقهم في صبيحة واحدة أجمعين {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} (¬1). فهل من مدكر؟ وكيف وقع الغرق؟ وما هي عاقبة الظلم والطغيان، وكيف نستفيد من قصص القرآن؟ تلك أسئلة مهمة، ومفتاح الإجابة عليها في أمثال قوله تعالى {وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} (¬2). وفي قوله تعالى {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدوًا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين * الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا لغافلون} (¬3). وتأويل ذلك: أن بني إسرائيل حين خرجوا من مصر صحبة موسى عليه السلام وهم فيما قيل ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية- ويقال: إن إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 4/ 220، 221. (¬2) سورة البقرة، الآية: 50. (¬3) سورة يونس، الآية: 90 - 92.

حين دخل مصر دخلها في ستة وسبعين نفسًا من ولده وولد ولده، فأنمى الله عددهم وبارك في ذريتهم (¬1) وكانوا بنو إسرائيل حين خرجوا قد استعاروا وكان من القبط حليًا كثيرًا (ومتاعًا وأحل الله ذلك لبني إسرائيل) (¬2) فخرجوا به معهم، فاشتد حنق فرعون عليهم، فأرسل في المدائن حاشرين، يجمعون له جنوده من أقاليمه، فركب وراءهم في أبهة عظيمة وجيوش هائلة لما يريده الله تعالى بهم، ولم يتخلف عنه أحد ممن له دولة وسلطان في سائر مملكته فلحقوهم وقت شروق الشمس (وذكر الطبري أن فرعون أعلم أن موسى سرى ببني إسرائيل من أول الليل فقال: لا يتبعهم أحد حتى تصيح الديكة، فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك، وأمات الله تلك الليلة كثيرًا من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الاتباع مشرقين (¬3) {فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون} وذلك إنهم لما انتهوا إلى ساحل البحر وأدركهم فرعون لم يبق إلا أن يتقاتل الجمعان، وألح أصحاب موسى عليه السلام عليه بالسؤال كيف المخلص مما نحن فيه؟ فيقول: إني أمرت أن أسلك {ها هنا كلا إن معي ربي سيهدين} فعندما ضاق الأمر اتسع، فأمره الله أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فانفلق {فكان كل فرق كالطود العظيم} أي كالجبل العظيم، وصار اثني عشر طريقًا لكل سبط واحد، وأمر الله الريح فنشفت أرضه {فاضرب لهم طريقة في البحر يبسًا لا تخاف دركًا ولا تخشى} وتخرق الماء بين الطرق كهيئة الشبابيك ليرى كل قوم ألاخرين حتى لا يظنوا أنهم هلكوا، وجاوز بنوا إسرائيل البحر، فلما خرج آخرهم منه انتهى فرعون وجنده إلى حافته من الناحية الأخرى (وعدتهم فيما قيل ألف ألف ومئتا ألف) (¬4) ¬

(¬1) تفسير القرطبي 1/ 389. (¬2) القرطبي 1/ 389. (¬3) القرطبي 1/ 389. (¬4) تفسير القرطبي 1/ 389 ..

ومعهم مائة ألف أدهم (فرس) سوى بقية الألوان، فلما رأى ذلك فرعون هاله البحر وأحجم وهاب وهم بالرجوع وهيهات ولا حين مناص، نفذ القدر واستجيبت الدعوة، وجاء جبريل على فرس وديق حائل (ويقال إنه لم يكن في خيل فرعون فرس أنثى، ويقال أن جبريل جاء في صورة هامان وقال له: تقدم، ثم خاض البحر فتبعهما حصان فرعون وميكائيل يسوقهم لا يشذ منهم أحد (¬1) ولم يبق فرعون يملك من نفسه شيئًا فتجلد لأمرائه، وقال لهم: ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا. فاقتحموا كلهم عن آخرهم، فلما اجتمعوا فيه وتكاملوا، وهو أولهم بالخروج منه أمر الله القدير البحر أن فارتطم عليهم، فارتطم فلم ينج منهم أحد، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون وغشيته سكرات الموت فقال وهو كذلك {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} فآمن حيث لا ينفعه الإيمان {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون} (¬2). وهكذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال {آلان وقد عصيت قبل} أي أهذا الوقت تقول وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه {وكنت من المفسدين} (¬3). إخوة الإسلام هذا الذي حكاه الله عن فرعون في حاله ذاك من أسرار الغيب التي يعلم الله بها رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم فلم يسمعها، بل ربما لم يسمعها أحد من خلقه بقي على الحياة بعد فرعون، ولكن جبريل وقد حضر الواقعة وسامع ¬

(¬1) تفسير القرطبي 8/ 377. (¬2) سورة غافر، الآية: 84، 85. (¬3) تفسير ابن كثير 4/ 226، 227.

الكلمة- أوحى بها بأمر الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبلغه كذلك بغيرها مما وقع بينه وبين فرعون قي لحظاته الأخيرة، فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما قال فرعون {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} قال: قال لي جبريل: يا محمد لو رأيتني وقد أخذت حالاً من حال البحر (وهو الطين الأسود في قاع البحر) فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة» (¬1). تلك واحدة من أسرار القرآن، وهي معدودة في دلائل نبوته عليه السلام حتى قال الطبري «وفي أخبار القرآن على لسان محمد عليه الصلاة والسلام بهذه المغيبات التي لم تكن من علم العرب ولا وقعت إلا في حق بني إسرائيل دليل واضح عند بني إسرائيل قائم عليهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم (¬2). والحادثة بمجملها تؤكد نهاية الطغيان وهلاك المجرمين، ونصرة الحق ونجاة المؤمنين، وإذا كانت هذه الحقيقة بارزة في هذا المشهد والحق ينتصر على مشهد من الناس في هذه الحياة، فليس ذلك شأن القصص كله في القرآن، إذ ليس أمد النصر ينتهي في هذه الحياة: وليس معنى النصر مقصورًا على النصر المحسوس للناس، فقد ينال النصر فرد أو مجموعة من الصادقين وإن خيل للناس أنهم قد استضعفوا أو أهينوا أو غلبوا في هذه الحياة الدنيا أجل لقد انتصر الخليل عليه السلام على الطغاة وإن قذف في النار، وانتصر أصحاب الأخدود وإن حفرت لهم الأخاديد وأحرقوا، وانتصر الغلام المؤمن وإن كانت روحه قد أزهقت على ملأ الناس الذي لم يتمالكوا أنفسهم وقالوا آمنا برب الغلام. وهكذا يبدو النصر أشمل من صورته الظاهرة المحسوسة، وينبغي أن يعلم الناس أن الثبات على المبدأ الحق حتى الممات نصر، وأن نصر المبادئ والقيم ¬

(¬1) قال الترمذي: حديث حسن (تفسير ابن كثير 4/ 227). (¬2) انظر تفسير القرطبي 1/ 393.

نجاح ونصر، وينبغي ألا يصاب الناس بالإحباط إذا لم يشهدوا نصر الحق وأهله في هذه الحياة الدنيا، فليست هذه الدار نهاية المطاف، بل وليست أعمارهم هم مستغرقة لكل هذه الحياة الدنيا وقد يشهد أبناؤهم أو أحفادهم النصر الذي بذرت بذوره الأولى في عهد آبائهم وأجدادهم، ولهذا أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فيما أوحى {وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون} (¬1)، وأوحى إليه أيضًا {فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون} (¬2). كل ذلك حتى لا يستعجل النصر ولا يتعلق به أكثر وتعلقه بتهيئة أسبابه والصبر على متطلباته. تلك قيمة كبرى من قيم القرآن، وعبرة عظمى من عبر التاريخ لابد من وعيها. ولله الأمر من قبل ومن بعد ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 46. (¬2) سورة الزخرف، الآية: 41، 42.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله الواحد القهار، ذي الجبروت والسلطان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر أنبياء الله ورسله، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. إخوة الإسلام ثمة درس ثالث وقيمة كبرى نستفيدها من قصص القرآن ألا وهي الحفاظ على النصر، ومضاعفة الشكر حين تتضاعف النعم، وكما يمتحن الله بالضعف والذلة والهزيمة والمطاردة يمتحن بذلك بالقوة والعزة والنصر والتمكين، فمن الناس من يصبر حال الضعف والقلة، ولا يشكر في حال القوة والكثرة، والمؤمنون الصادقون هم الذين يصبرون في الضراء ويشكرون في السراء قال عليه الصلاة والسلام «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له» رواه مسلم. ووصف الله عباده الذين يستحقون التمكين في الأرض ويستحقون النصر بقوله {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (¬1). وتعالوا بنا إخوة الإيمان لنقرأ على عجل شيئًا من تاريخ هذه الأمة التي نصرت ورأت من آيات الله الباهرات ما رأت، هل قدرت هذا النصر وأورثها التقى والهدى واتباع المرسلين، أم زاغت وحرفت وبدلت وآذت المرسلين؟ . ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 40، 41.

إن تاريخ بني إسرائيل شهد من المعجزات على يدي موسى عليه السلام ما لم تشهده أمة من الأمم قبلهم، وشهد في الوقت نفسه من الحيل والصدود والإيذاء لموسى عليه السلام ما يجل عن الوصف، وحذرت هذه الأمة أن تسلك مسلكهم {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهًا} (¬1). وإليكم طرفًا من سيرتهم: ذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن قيس بن عباد أن بني إسرائيل قالت: وما مات فرعون وما كان ليموت أبدًا، فلما أن سمع الله تكذيبهم بنبيه عليه السلام رمى به على ساحل البحر كأنه ثور أحمر يتراءاه بنو إسرائيل، فلما اطمأنوا وبعثوا من طريق البر إلى مدائن فرعون حتى نقلوا كنوزه وغرقوا في النعمة رأوا قومًا يعكفون على أصنام لهم قالوا: يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة- حتى زجرهم موسى وقال: أغير الله أبغيكم إلهًا وهو فضلكم على العالمين- أي عالمي زمانه- ثم أمرهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة التي كانت مساكن آبائهم ويتطهروا من أرض فرعون، وكانت الأرض المقدسة في أيدي الجبارين قد غلبوا عليها، فاحتاجوا إلى دفعهم عنها بالقتال، فقالوا: أتريد أن تجعلنا لحمة للجبارين، فلو أنك تركتنا في يد فرعون لكان خيرًا لنا فدعا عليهم وسماهم فاسقين .. فبقوا في التيه أربعين سنة عقوبة لهم، ثم رحمهم فمن عليهم بالسلوى والغمام. ثم سار موسى عليه السلام إلى طور سيناء ليجيئهم بالتوراة فاتخذوا العجل، ثم قيل لهم: قد وصلتم إلى بيت المقدس فادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة، فبدلوا وأنزل الله بهم وأنزل كما في القرآن الكريم، وكان موسى عليه السلام شديد الحياء ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 69.

ستيرًا وكانوا هم يغتسلون عراة يرى بعضهم عورة بعض، فقالوا: ما استتر إلا أنه آدر أي من عيب خلقي في خصيته- حتى كشف الله لهم الحقيقة حينما ذهب الحجر بثوبه فأبصروه لا عيب فيه، ولما مات هارون قالوا: أنت قتلته وحسدته حتى نزلت الملائكة بسريره وهارون ميت عليه .. إلى غير ذلك من مواقفهم المشينة حتى بلغ بهم الأمر أن بدلوا التوراة، وافتروا على الله، وكتبوا بأيديهم ما لم يأذن به الله، واشتروا به عرضًا من الدنيا، ثم صار أمرهم إلى أن قتلوا أنبياءهم ورسلهم، فهذه معاملتهم مع ربهم وسيرتهم في دينهم وسوء أخلاقهم (¬1). أجل لقد شاء الله أن تكون هذه الأمة نموذجًا لمن بغى وتجبر وأعرض وأنكل بعد أن أبصر من آيات الله ما أبصر فأحل الله بهم بأسه ومسخهم قردة وخنازير وألحقهم بمن سلفهم، وكذلك تعمى القلوب وتصم الآذان عن رؤية الحق وسماع الهدى لدى القوم الفاسقين الغافلين، وصدق الله {وما تغنى الآيات والنذر عن قوم ير يؤمنون} (¬2). إخوة الإيمان هذه الملحمة الكبرى وهذا النصر المبين لحزب الله المؤمنين والغرق والهلاك للطغاة والمفسدين وقع كله في العاشر من هذا الشهر شهر الله المحرم، وعليه فيوم عاشوراء يوم من أيام الإيمان، ومناسبة تستحق الشكر والعرفان- بما شرع الله لا بما يهوى البشر، لا بما يتوارثه أصحاب النحل والملل والأهواء الفاسدة. وقد قدر المؤمنون على مدار التاريخ هذا اليوم وعظموه وكانت اليهود يصومون ويقولون: إن موسى عليه السلام صامه شكرًا لله، فصامه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ¬

(¬1) تفسير القرطبي 1/ 392، 393. (¬2) سورة يونس، الآية: 101.

«نحن أحق بموسى منكم»، بل كانت العرب في جاهليتها تصوم ذلك اليوم وتعظمه وتكسو فيه الكعبة (¬1)، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفة اليهود وصيام التاسع مع العاشر فقال: «إن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع» (يعني مع العاشر) (¬2). وصيام التاسع مع العاشر هو أصح ما جاء، وعليه أكثر الأحاديث، أما حديث «صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده» فالمرفوع منه للنبي صلى الله عليه وسلم ضعيف، والموقوف على ابن عباس رضي الله عنهما صحيح (¬3) وكذلك حديث «صوموا يومًا قبله ويومًا بعده» (¬4). وإن كان ابن القيم ذكر مراتب صيامه فقال: «أكملها أن يقام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم» (¬5). معاشر المسلمين قدروا هذا اليوم وصوموه قربة لله وشكرًا، واحتسابًا للمغفرة والمثوبة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «صوم عاشوراء يكفر سنة ماضية» واسألوا الله النصر للإسلام والمسلمين. فالذي قدر النصر للسابقين قادر على إنزال النصر على اللاحقين. ¬

(¬1) زاد المعاد 2/ 70. (¬2) رواه مسلم/ 1134. (¬3) زاد المعاد 2/ 69. (¬4) أخرجه البيهقي وسنده ضعيف (زاد المعاد 2/ 76 الحاشية). (¬5) زاد المعاد 2/ 76.

ليث الإسلام والبطل الهمام

ليث الإسلام والبطل الهمام (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا .. أما بعد إخوة الإسلام فلا تزال صفحات مشرقة من تاريخنا تحتاج إلى جلاء وبيان .. وتحتاج إلى وقفات متأملة غايتها العظة والاعتبار، ولا يزال عدد من ملوك الإسلام وخلفائه وسلاطينه أو قادته ورجاله العظام يكتنف شخصياتهم الغموض عند أبناء الإسلام للجهل بسيرهم وعدم معرفة أحوالهم أو تقدير جدهم وجهادهم في سبيل هذا الدين، والدفاع عن بيضة الإسلام والمسلمين. وما أروع قراءة الصحيح من تاريخ المسلمين! وما أجمل التأمل في ملاحمهم! فهي من جانب تؤنس الفرد وتسري عنه، وتخفف جزءًا من همومه إن قدر له العيش في فترة يستذل فيها المسلمون، ويتصدر القيادة غيرهم من اليهود والنصارى أو سواهم من الكفرة والملحدين، وهي من جانب آخر تشعره بأن تاريخه لا يبدأ من تاريخ ولادته، وينتهي بوفاته، وإنما يمتد تاريخه في غابر السنين وعبر القرون .. لكن هذه القرون حافلة بالنصر والهزيمة والعزة والذلة، والاجتماع والفرقة، والقوة والضعف وهو في تأمله يرصد أسباب النصر والتمكين، ويقف على أسباب الهزيمة والضعف للمسلمين، فلا تعد الأحداث في أي عصر تفاجأه، ولا تعد الأوضاع في أي مصر تخرج عن إطار نظرته وتقويمه، فهناك سنن كونية ثابتة يستدل بها، وهناك قواعد كلية يحتكم إليها. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 7/ 5/ 1414 هـ.

وبكل حال فقراءة التاريخ يزود القارئ برصيد كبير من التجارب، ويضيف إلى معارفه عددًا من المعارف إن شاء في دنياه وإن شاء في دنياه وأخراه. وهذا هو المهم فالإنسان في هذه الحياة يحتاج إلى من يدفع مسيرته إلى الله، ويحتاج إلى نماذج عملية شقت طريقها في الحياة، ورسمت له معالم الطريق علمًا وعملاً، وجهادًا وتربية، وإخلاصًا ومتابعة، وبذلك تقطع وساوس الشيطان، ويتخلص الفرد من ضعف الهمة والتردد في عمل الخير، ويضمر شعوره بالوحدة في الميدان. وإذا كنت أسلفت الحديث عن صلاح الدين الأيوبي وجهاده يرحمه الله، فحديث اليوم عن نموذج آخر لا يقل عن صلاح الدين، بل ربما فاقه في بعض الجوانب، على الرغم من جهل بعض المسلمين بسيرته، وعدم وضوح جوانب من شخصيته عند آخرين. إنه الملك العادل ليث الإسلام نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، ترتبط أسرته بدولة السلاجقة العظام، فهو من نسل الأتابكة لهذه الدولة السلجوقية، وتعني كلمة الأتابكة: مربي الأمير، وكان السلاجقة يعهدون بتربية أبنائهم إلى المقربين إليهم من الأتراك، الذين ترعرعوا في كنفهم، وإذا عين السلطان أحد أبنائه على مدينة من المدن أو ولاية من الولايات أرسل معه هذا التركي (المربي) ليعاونه في الحكم ويسدي إليه النصح .. وسرعان ما أصبح هؤلاء الأتابك أصحاب النفوذ الفعلي في الولايات التي عهد إليهم بالحكم فيها (¬1). ومن هذه السلالة الأتابكية التركية خرج نور الدين محمود ومع أنه لم يكن من أصحاب الملك الأصليين، ولم يك من ذوي النسب المرموقين، فقد فاق غيره من أصحاب النسب والحسب، وحقق لأمة الإسلام وأبناء المسلمين ما تجاوز ¬

(¬1) انظر تاريخ الإسلامي السياسي .. لحسن إبراهيم حسن 4/ 61.

خيال الواصفين، وإليك شيئًا من سيرته التي يجتمع فيها العلم والإيمان، ويتوفر فيها الشجاعة والإقدام، وهي نموذج للعبادة والزهد والعدل بين بني الإنسان، وهو من ذوي العفة لليد واللسان، وليس من أرباب شهوات البطن والفرج بلا رادع أو ميزان، كتب في سيرته أهل التاريخ وأصحاب التراجم، لكن ابن الأثير قدم لسيرته بالقول: (وقد طالعت سير الملوك المتقدمين فلم أر فيهم بعد الخلفاء الراشدين وعصر ابن عبد العزيز أحسن من سيرته ولا أكثر تحريًا منه للعدل) (¬1). وهذا إن وجد فيه مبالغة من ابن الأثير يرحمه الله- فهو يدلك على قدر هذا الملك وعظيم منزلته وعلو مناقبه. ثم تحدث عن زهده وعبادته وعلمه فقال: كلام لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف في الذي يخصه إلا من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، ولقد شكت إليه زوجته من الضائقة فأعطاها ثلاثة دكاكين في حمص كانت له ومنها يحصل له في السنة نحو عشرين دينارًا فلما استقلتها قال: ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن للمسلمين لا أخونهم ولا أخوض نار جهنم لأجلك. وكان يصلي كثيرًا بالليل وله فيه أوراد حسنة، وكان كما قيل: جمع الشجاعة والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب (¬2). وذكر ابن كثير في ترجمته لنور الدين أن الزهد والعفاف بلغ به إلى حد استفتى معه العلماء في مقدار ما يحل له من بيت المال فكان يتناوله ولا يزيد عليه شيئًا ولو مات جوعا (¬3). ¬

(¬1) الكامل في التاريخ 11/ 403. (¬2) الكامل لابن الأثير. (¬3) البداية والنهاية 12/ 295.

بل بلغ في عبادته وذله لربه وخشوعه بين يديه ما حكاه سبط ابن الجوذي قال: حكى لي نجم الدين بن سلام عن والده أن الفرنج (النصارى) لما نزلت على (دمياط) ما زال نور الدين عشرين يومًا يصوم ولا يفطر إلا على الماء، فضعف وكاد يتلف. وكان مهيبًا ما يجسر أحد يخاطبه في ذلك، فقال إمامه يحيى: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يقول: يا يحيي بشر نور الدين برحيل الفرنج عن دمياط، فقلت: يا رسول الله! ربما لا يصدقني، فقال: قل له: بعلامة يوم حارم. وانتبه يحيى، فلما صلى نور الدين الصبح وشرع يدعو، هابه يحيى، فقال له: يا يحيى تحدثني أو أحدثك؟ فارتعد يحيى وخرس فقال نور الدين: أنا أحدثك، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم هذه الليلة وقال لك كذا وكذا، قال: نعم، فبالله يا مولانا ما معنى قوله: بعلامة يوم حارم؟ فقال نور الدين: لما التقينا بالعدو خفت على الإسلام، فانفردت ونزلت ومرغت وجهي على التراب، وقلت: يا سيدي: من محمود في البين، الدين دينك، والجند جندك، وهذا اليوم أفعل ما يليق بكرمك، قال: فنصرنا الله عليهم (¬1). إخوة الإسلام كان ليث الإسلام والبطل الهمام نور الدين محمود صادقًا مع نفسه ومع ربه، لا يأكل الحرام ولا يشربه ولا يلبسه ولا غرابة أن تستجاب له الدعوة، بل ورد في سيرته أنه يأكل من كسب يده، وكانت له عجائز فكان يخيط الكوافي، ويعمل السكاكر فيبعنها له سرًا ويفطر على ثمنها (¬2). وخلاصة القول فهو كما قال الذهبي: كان دينًا نقيًا لا يري بذلك الأموال إلا في نفع، وما للشعراء عنده نفاق، وقد اصطبغت رعيته بصبغته كما قال الشاعر: ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 20/ 538. (¬2) المصدر السابق 20/ 537.

سلطاننا زاهد والناس قد زهدوا ... له فكل على الخيرات منكمش أيامه مثل شهر الصوم طاهرة ... من المعاصي وفيها الجوع والعطش (¬1). أيها المسلمون وهل يمكن أن يكون هذا الزهد والعفاف والتقى والدين وتلك العبادة والإنابة لرجل خلو من العلم أو بعيد عن العلماء؟ كلا. وإليكم شيئًا من حرصه على العلم وإكرامه للعلماء. فقد نقل ابن الأثير عنه أنه كان عارفًا بالفقه على مذهب أبي حنيفة، ليس عنده فيه تعصب، وسمع الحديث وأسمعه طلبًا للأجر .. وكان يكرم العلماء وأهل الدين ويعظمهم ويعطيهم ويقوم إليهم، ويجلس معهم وينبسط ولا يرد لهم قولاً، ويكاتبهم بخط يده (¬2). وذكر ابن كثير أنه كانت له هيبة، ولذلك كان أكابر رجاله يقفون بين يديه، ولا يجلسون إلا بإذنه سوى نجم الدين أيوب (والد صلاح الدين الأيوبي) ومع هذا كان إذا دخل أحد الفقهاء أو الفقراء قام له ومشى خطوات وأجلسه معه على سجادته في وقار وسكون، وإذا أعطى أحدًا منهم شيئًا مستكثرًا يقول: هؤلاء جند الله وبدعائهم ننصر على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما نعطيهم، فإذا رضوا منا ببعض حقوقهم فلهم المنة علينا. بل نقل ابن كثير لنا أكثر من هذا في سبيل إكرام هذا الملك العادل والمجاهد الصادق للعلماء، ومنعه العامة أن تنالهم بسوء أو أذى حتى ولو وقع ذلك من كبار الأمراء، وإليك هذه الحادثة فاعقلها، واعلم ما فيها من الحكمة والأدب، فقد نال بعض الأمراء مرة عنده من الفقهاء وهو قطب الدين النيسابوري- فقال له ¬

(¬1) السابق 20/ 535. (¬2) الكامل لابن الأثير 11/ 404، 405.

نور الدين: ويحك إن كان ما تقول حقًّا فله من الحسنات الكثيرة الماحية كذلك ما ليس عندك، مما يكفر عنه سيئات ما ذكرت، إن كنت صادقًا، على أني والله لا أصدقك، وإن عدت ذكرته أو أحدًا غيره عندي بسوء لأوذينك، فكف عنه ولم يذكره بعد ذلك (¬1). إنه الدفاع الواعي عن أعراض العلماء، ينبغي على كل أحد، ولكن يطيب ويحسن إذا صدر من الولاة والأمراء للصادقين من العلماء. ¬

(¬1) البداية والنهاية 2/ 298.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين واهب النعم ومحل النقم، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله، وارض اللهم عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. إخوة الإسلام ولا تكاد تنقضي عجائب هذا الملك العادل، أو تحصر مناقبه وسأكتفي بالوقوف عند منقبتين من مناقبه- غير ما سلف- هما: العدل والجهاد، إذ هو كما وصفه الإمام الذهبي: حامل رايتي العدل والجهاد، قل أن ترى العيون مثله، حاصر دمشق تم تملكها وبقي بها عشرين سنة .. وكان بطلاً شجاعًا وافر الهيبة، حسن الرمي، مليح الشكل، ذا تعبد وخوف وورع، وكان يتعرض للشهادة، سمعه كاتبه أبو اليسر يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير .. قال ابن واصل- كما نقل الذهبي- كان من أقوى الناس قلبًا وبدنًا لم ير على ظهر فرس أحد أشد منه، كأنما خلق عليه لا يتحرك وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها. قال الذهبي: قد أدركها على فراشه وعلى ألسنة الناس (وهم يقولون) نور الدين الشهيد (¬1). وإليك أخي المسلم هذا الحوار المعبر عن شجاعته وبذله لنفسه في سبيل الله، فقد قال له يومًا قطب الدين النيسابوري: بالله يا مولانا السلطان لا تخاطر ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 20/ 532، 537.

بنفسك، فإنك لو قتلت قتل جميع من معك، وأخذت البلاد، وفسد حال المسلمين. فقال له: اسكت يا قطب الدين فإن قولك إساءة أدب على الله، ومن هو محمود؟ من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الذي لا إله إلا هو؟ ومن هو محمود؟ قال: فبكى من كان حاضرًا رحمه الله (¬1). إذا كان ذلك كذلك فلا غرابة أن يفتح القلاع ويدك الحصون، حتى فتح الله على يديه وانتزع من الكفار نيفًا وخمسين مدينة وحصنًا (¬2) وينشر الله رعبه في قلوب الأعداء، فضلاً عن هيبة الصلحاء، حتى أن بعض المسلمين حينما دخلوا بلاد القدس للزيارة أيام كانت القدس مع الفرنج سمعوا الفرنج وهم يقولون: إن القسيم ابن القسيم- يعنون نور الدين- له مع الله سر، فإنه لم يظفر وينصر علينا بكثرة جنده وجيشه، وإنما يظفر علينا وينصر بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي بالليل، ويرفع يده إلى الله، ويدعو فيستجيب له ويعطيه سؤله، فيظفر علينا، قال: فهذا كلام الكفار في حقه (¬3). أيها الإخوة المسلمون .. أما عدل نور الدين محمود- يرحمه الله- فهو مثار الوصف، ومحل الإعجاب، فهو أول من ابتنى دارًا للعدل- كما نقل ابن الأثير وابن كثير- وكان يجلس فيها في الأسبوع مرتين، وقيل أربع مرات وقيل خمس، ويحضر القاضي والفقهاء من سائر المذاهب، ولا يحجبه يومئذ حاجبه ولا غيره، بل يصل إليه القوي والضعيف، فكان يكلم الناس ويستفهمهم ويخاطبهم بنفسه فيكشف المظالم وينصف المظلوم. ¬

(¬1) البداية والنهاية 12/ 297. (¬2) سير أعلام النبلاء 20/ 533. (¬3) البداية والنهاية 12/ 300.

وبلغ من عدله أن رأى يومًا رجلاً يحدث آخر ويومئ إلى نور الدين، فبعث الحاجب ليسأله ما شأنه؟ فإذا هو رجل معه رسول من جهة الحاكم، وهو يزعم أن له على نور الدين حقًا يريد أن يحاكمه عند القاضي، فلما رجع الحاجب وأعلم نور الدين ألقى ما بيده وأقبل مع خصمه ماشيًا إلى القاضي الشهرزوري، وأرسل إلى القاضي يقول له: لا تعاملني إلا معاملة الخصوم. ثم وقف مع خصمه أمام القاضي حتى انفصلت الخصومة ولم يثبت للرجل على نور الدين حق، بل ثبت الحق للسلطان على الرجل، فلما تبين ذلك قال للسلطان: إنما جئت معه لئلا يتخلف أحد عن الحضور إلى الشرع إذا دعي إليه، فإنما نحن معاشر الحكام أعلانا وأدنانا شجنكية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولشرعه، فنحن قائمون بين يديه طوع مراسيمه، فما أمر به امتثلناه، وما نهانا عنه اجتنبناه، وأنا أعلم أنه لا حق للرجل عندي، ومع هذا أشهدكم أني قد ملكته ذلك الذي ادعى به، ووهبته له (¬1). لا غرابة بعد ذلك أن تتعلق الرعية به، ويطير صيته في الآفاق، كيف لا وقد أكثر من أعمال البر والإحسان إلى الناس، فعمر المساجد، وبنى المدارس، وأقام المستشفيات، وأسقط عنهم المكوس والضرائب، وما أبقى سوى الجزية والخراج والعشر، وكتب بذلك إلى جميع ولاته في البلاد، فكتبت له أكثر من ألف منشور. كما نقل ذلك العماد في البرق الشامي (¬2). بل نقل الحافظ ابن كثير أنه كتب إلى الناس ليكون منهم في حل مما كان أخذ منهم ويقول لهم: إنما صرف ذلك في قتال: أعدائكم من الكفرة والذب عن بلادكم ونسائكم وأولادكم، وأمر الوعاظ أن يستحلوا به من التجار (¬3). ¬

(¬1) البداية والنهاية 12/ 296. (¬2) سير أعلام النبلاء 20/ 536. (¬3) البداية والنهاية 12/ 298.

إخوة الإسلام بهذه النوعية من الرجال تُرسى دعائم الملك، وبهذه السياسة الحكيمة تصلح الرعية، وبهذه الهمم العالية والدعوات الصادقة ينتصر المسلمون ويذل الكفرة والمنافقون .. والله غالب على أمره وله الأمر من قبل ومن بعد، وهو الحليم الخبير. اللهم هيء للمسلمين قادةً صالحين أمثال نور الدين وصلاح الدين واجعل المهابة للمسلمين في صدور الكافرين وأذهب ما حل بالمسلمين من ذل وهوان يا رب العالمين.

لماذا يتأخر النصر؟

لماذا يتأخر النصر؟ (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين تكفل بإظهار هذا الدين، ووعد بنصرة المؤمنين، فقال في كتابه المبين: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} (¬2) وقال تعالى: {وكان حقًا علينا نصر المؤمنين} (¬3) وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له اقتضت حكمته أن يديل الإسلام والمسلمين تارة، ويدير الكفر والكافين تارةً أخرى، وصدق الله {وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} (¬4). وأشهد أن محمداً عبده ورسوله عاش فترة من حياته والمسلمون معه في مكة ظروف المحنة وشدة الابتلاء حتى جاء الله بالنصر والفتح المبين، وعاد المحاربون له مسالمين مؤمنين، بل وفي عداد الغزاة الفاتحين. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وارض اللهم عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا}. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 16/ 7/ 1416 هـ. (¬2) سورة الصف، الآية: 9. (¬3) سورة الروم، الآية: 47. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 140، 141.

أيها المسلمون ... يتكرر في فترات من التاريخ لمن تأمل انسياح الإسلام في الأرض وغلبة المسلمين، أو انحسار مدِّ الإسلام وهيمنة غير المسلمين، وإذا كانت أكثرية المسلمين تلتزم بالإسلام في حالة غلبته، فإن القلة من المسلمين من يتمالك نفسه ويلتزم بمقتضيات العقيدة والدين ويصبر على اللأواء والمحن في حال غلبة أعداء الدين، إذ من الناس من يصاب بالهلع وفقدان الثقة بنصرة هذا الدين، ويصاب آخرون بالإحباط واليأس والقنوط من رحمة الله، والتسخط لأقدار الله، وتلك أدواء قاتلة وهي منافية لحقيقة التوحيد من الصبر واليقين والتقوى والتوكل على رب العالمين. إخوة الإيمان وهذا الشعور قديم وهذه الفتنة غير مستحدثة، وهذا الهاجس تحدث عنه العلماء السابقون، وذلك حين أصيبت الأمة، وكاد اليأس يلف بعض المنتسبين للإسلام، يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله، (وهنا نكتةٌ نافعة، وهي أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيبُ كثيرًا من أهل الإيمان والإسلام في الدنيا من المصائب، وما يصيب كثيرًا من الكفار والفجار في الدنيا من الرياسة والمال وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا لأهل الكفر والفجور، وأن المؤمنين ليس لهم في الدنيا ما يتنعمون به إلا قليلاً، وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين، وإذا سمع ما جاء في القرآن من أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين وأن العاقبة للتقوى، وقول الله تعالى: {وإن جندنا لهم الغالبون} (¬1) وهو ممن يُصدِّق بالقرآن حمل هذه الآيات على الدار الآخرة فقط، وقال: أما في الدنيا فما نرى بأعيننا إلا أن الكفار والمنافقين فيها يظهرون ويغلبون المؤمنين ... الخ (¬2). ¬

(¬1) سورة الصافات، الآية: 173. (¬2) كلام الشيخ وإجابته السديدة على هذه المشاعر الخاطئة والهواجس الفاسدة، فليراجعه من شاء في: جامع الرسائل، الرسالة الثالثة (قاعدة في المحبة) (عن: متى نصر الله، الجليل ص 56 - 74).

وهذا تلميذه الشيخُ ابن القيم رحمه الله، يعرض أمام ناظريك أيها المسلم الحكمة من وراء تمكين أهل الكفر والفسوق والعصيان فيقول: «وكان في تمكين أهل الكفر والفسوق والعصيان من ذلك إيصالُ أولياء الله إلى الكمال الذي يحصل لهم بمعاداة هؤلاء وجهادهم والإنكار عليهم والموالاة فيه والمعاداة فيه، وبذل نفوسهم وأموالهم وقواهم له، فإن تمام العبودية لا يحصل إلا بالمحبة الصادقة، وإنما تكون المحبةُ صادقةً إذا بذل فيها المحب ما يملكه من مال ورياسة وقوة في مرضاة محبوبه والتقرب إليه، فإن بذل له روحه كان ذلك أعلى درجات المحبة، ومن المعلوم أن من لوازم ذلك ... أن يخلق ذواتًا وأسبابًا وأعمالاً وأخلاقًا وطبائع تقتضي معاداة من يحبه ... إلى أن يقول: فلولا خلق الأضداد وتسليط أعدائه وامتحان أوليائه لم يستخرج خاص العبودية من عبيده الذين هم عبيده، ولم يحصل لهم عبودية الموالاة فيه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه، والعطاء له والمنع له (¬1). أيها المؤمنون نستبطئ النصر أحيانًا ونحن بعد لم نقدم للنصر ثمنًا، ونستجعل النصر وقد لا يكون حان وقته بعد، ونتطلع إلى تغير مفاجئ في العالم ونحن بعد لم نغير ما بأنفسنا. وبالجملة فهناك معوقات للنصر وأسباب لتأخره، يعرفها العلماء ويجهلها البسطاء، وأسوق لكم طرفًا منها استجمعها صاحب الظلال- يرحمه الله- فاعقلوها وقارنوا واقع المسلمين بها، يقول سيد قطب- رحمه الله-: (والنصر قد يبطئ لأن بنية الأمة المؤمنة لم ينضج بعد نضخها، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى ¬

(¬1) إلى آخر كلامه النفيس في طريق الهجرتين ص 214، 215. طبعة قطر.

المذخور فيها من قوة واستعدادات، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكًا لعدم قدرتها على حمايته طويلاً .. وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد فلا تستبقي عريزًا ولا غاليًا، إلا وتبذله هينًا رخيصًا في سبيل الله. وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر .. إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله .. وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر معها قرار، فيظل الفراغ قائمًا حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر لاستبقائه. «من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية، وللنصير تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفائه أسبابه، وأداء ثمنه، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه». وقد تبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل، ولا تجد لها سندًا إلا الله ولا متوجهًا إلا إليه وحده في الضراء .. وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله .. فلا تغطى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها الله به. وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو

تقاتل شجاعة أمام أعدائها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئًا من المشاعر الأخرى التي تلابسه. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى فأيها في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (¬1). كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحص خالصًا، ويذهب وحده هالكًا، لا تتلبس به ذرةٌ من خيار تذهب في الغمار .. وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تمامًا، فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عاريًا للناس ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية) (¬2). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { ... إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} (¬3). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص 359. (¬3) سورة الرعد، الآية: 11.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين {له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون} (¬1) وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد إخوة الإسلام فينبغي ألا يخامر المسلم شك بنصرة الله لهذا الدين، حتى وإن لم يره بأم عينه وتحقق لأجيال بعده، فحسبه أن يكون جنديًا صادقًا في سبيل خدمة هذا الدين، وحسبه أن يموت يوم يموت، وهو يحسن الظن بربه ويستشعر بمسئوليته تجاه دينه، قد حرر عبوديته لله ... أما النصر فلابد من اكتمال أسبابه وزال معوقاته، والله يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، ووعده حق، ونصره قريب، وأمره بين الكاف والنون ... ولكن ثمة أدواء يتلبس بها المسلمون وهم يستشرفون النصر، ونصر الله عزيز لا بد فيه من تمحيص الصفوف، ولابد من تمييز الخبيث من الطيب، لابد من سقوطٍ لأصحاب المطامع والأهواء، ولابد من تجريد للصفوة المختارة التي يحبها الله وتستحق نصره، لابد من تمييز المجاهدين الصادقين من المتقوّلين المنتفعين ... عباد الله ... وليست المسؤولية في هذا على الناس على حدٍ سواء فكل بحسبه، وليست العبودية المؤهلة للنصر ضربًا من الأماني أو قدرًا محدودًا من العبادات، يظن المرء فيها أنه بلغ قمة الإيمان واستحق النصر لولا فساد ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 70.

الآخرين بزعمه ... كلا فالمسؤولية كبيرة والعبودية المرادة لله شاملة، واسمع إلى أحد علماء السلف وهو يشخص الحال وكأنه يعيش اليوم بين ظهراني المسلمين، ويقول ابن القيم في كتابه القيم «أعلام الموقعين عن رب العالمين» وهو يتحدث عن نوعي العبودية العامة والخاصة: « ... ولله سبحانه على كل أحدٍ عبوديةٌ بحسب مرتبته، سوى العبودية العامة التي سوّى بين عباده فيها: فعلى العالم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره، وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي، وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير، وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما. وتكلم يحيى بن معاذ الرازي يومًا في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقالت له امرأة: هذا واجب قد وضع عنا فقال: هبي أنه قد وضع عنكن سلاح اليد واللسان فلم يوضع عنكن سلاح القلب، فقالت: صدقت جزاك الله خيرًا. أن يقول الشيخ رحمه الله، وقد غر إبليسُ أكثر الخلق بأن حسّن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات فلم يُحدِّثوا قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس دينًا، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالاً عند الله ورسوله من مرتكبِ المعاصي ... إلى أن يقول: ومن له خبرةٌ بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يُشار إليهم بالدين. هم أقل الناس دينًا والله المستعان، وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب

عنها، وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرص، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلامبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحصن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضةٌ عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجد واجتهد، واستعمل مراتبَ الإنكارِ الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء- كما يقول الشيخ رحمه الله- مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل (¬1). أيها المسلمون في ترك أمر الله وعدم التمعر لشيوع الفساد والمنكر وقد ذكر الإمام أحمد وغيرة أثرًا أن الله سبحانه أوحى إلى ملك من الملائكة أن اخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب كيف وفيهم فلان العابد، فقال: به فابدأ، فإنه لم يتمعر وجهه في يومًا قط. وذكر صاحب التمهيد أن الله سبحانه أوحى إلى نبي من أنبيائه أن قل لفلان الزاهد: أما زهدك في الدنيا فقد تعجّلت به الراحة. وأما انقطاعك إلى فقد اكتسبت به العز، ولكن ماذا عملت فيما لي عليك؟ فقال: يا رب وأي شيء لك عليَّ؟ قال هل واليت في وليًا أو عاديت في عدوًا؟ (¬2). هكذا إخوة الإسلام فهم السلف رحمهم الله حقيقة العبودية لله، وكذلك جاءت النصوص الشرعية والوصايا النبوية تؤكد أمر القيام لله بحقه عبودية عامة يشترك الناس فيها وعبوديات خاصة كل بحسبه تضمن قيام أمر الله، تُرسى ¬

(¬1) أعلام الموقعين. (¬2) أعلام الموقعين- تعليق طه عمد الرؤوف 2/ 176، 177.

دعائم الخير في الأرض، وتوالي الخيرين وتحب الناصحين، وتسهم في اقتلاع الشر من حذروه وتأخذ على أيدي السفهاء وتأطرهم على الحق أطرًا، وتكره المبطلين وتعادي الكافرين وتبغض المنافقين ... وبهذه المجاهدة في الأرض ينساحه الخير وينكمش الباطل ويقترب النصر، ولكن ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة وإيمان ويقين، ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر. {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} {وكان حقًا علينا نصر المؤمنين} (¬1) {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون} (¬2). وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا أعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر» (¬3). اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين- اللهم اجعلنا من أنصار دينك والمنافحين عن شرعك يا رب العالمين. ¬

(¬1) سورة الروم، الآية: 47. (¬2) سورة الصافات، الآية: 171 - 173. (¬3) رواه ابن حيان وصححه الألباني في السلسلة ج 1/ 7 ح 3.

السلف والوقت

السلف والوقت (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. إخوة الإيمان حديث اليوم عن الجوهرة الثمينة في نظر العارفين، والطاقة المهدرة عند البطالين، عن واحد من جوانب النعمة المغبون فيها كثير من الناس، عن الوقت بل عن الحياة، فالوقت هو الحياة. والمسلم يستشعر قيمة الزمن وأهمية الوقت من آي القرآن الحكيم، فالله قد أقسم في كتابه أكثر من مرة بالوقت، ولله أن يقسم بما شاء لكنه لا يقسم إلا بعظيم يستحق القسم. قال تعالى {والفجر، وليال عشر، والشفع والوتر، والليل إذا يسر، هل في ذلك قسم لذي حجر} (¬2). ومع ما قيل في تأويل الفجر، والليالي العشر، والشفع والوتر والليل، فالذي يلفت النظر أن هذا القسم لعظمته وأهمية المقسم به إنما هو لأصحاب العقول الذين يعقلون ما يسمعون، ويستفيدون مما يعلمون {هل في ذلك قسم لذي حجر} وإنما سمي العقل حجرًا لأنه يمنع صاحبه من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال .. وهذا القسم هو بأوقات العبادة وبنفس العبادة من حج وصلاة وغيرها، كما يقول المفسرون (¬3). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 2/ 2/ 1416 هـ. (¬2) سورة الفجر، الآية: 1 - 5. (¬3) تفسير ابن كثير 8/ 416.

وقال تعالى: {والليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، وما خلق الذكر والأنثى، إن سعيكم لشتى}. وهل الليل والنهار إلا مراكب يختلف الناس في سبل الانتفاع بهما فمغبوط يستثمرها في طاعة الله، ويزرع فيهما ما يبلغه إلى الله ويسعد يوم لقاه، ومغبون مضيع لساعات الليل والنهار، مفرط على نفسه، يحمل الأوزار التي تثقل كاهله يوم العرض على الله، وصدق الله {إن سعيكم لشتى}. ويقسم الله مرة ثالثة بالدهر فيقول {والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} (¬1) والعصر هو الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم من خير وشر، والله تعالى يقسم أن بني الإنسان كلهم في خسارة وهلاك إلا من استثمر وقته، واستنفد عمره في عمل الصالحات (¬2) كما أقسم تعالى بالضحى والليل. إخوة الإسلام يهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم بسنتيه القولية والفعلية إلى استثمار الوقت بما ينفع، ويحذر من إضاعة الأوقات سدى فيقول: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» (¬3). وتأمل قوله (كثير من الناس) والمعنى أن الذي يوفق لاستثمار هاتين النعمتين بما ينفع قليل. قال ابن الجوزي: قد يكون الإنسان صحيحًا، ولا يكون متفرغًا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة ¬

(¬1) سورة العصر، الآية: 1 - 3. (¬2) تفسير ابن كثير 8/ 500. (¬3) أخرجه أحمد والبخاري وغيرهما.

التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون، لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم، ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل. يسر الفتى طول السلامة والبقا ... فكيف ترى طول السلامة يفعل يرد الفتى بعد اعتدال وصحة ... ينوء إذا أم القيام ويحمل (¬1). ولقد كان استثمار الوقت أحد نصائحه، وضمن مواعظه عليه الصلاة والسلام لأصحابه يقول- وهو الناصح الأمين- لرجل وهو يعظه: «غانم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» (¬2). فإذا كانت تلك طائفة من سنته القولية فيكفي أن ينظر اللبيب فيما عمل وخلف في مدة لا تتجاوز ثلاثة وعشرين عامًا، لقد أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، علم العلم وفاق غيره في العمل، وزرع الخير واقتلع جذور الشر، جاهد في الله في كل ميدان، وخلف أجيالاً تحمل مشاعل النور والهدى من بعده. أيها المسلمون يكفيكم أن تطلعوا على نماذج من سير أصحابه لتروا كيف كانوا يعملون، وكيف كانوا لأوقاتهم مستثمرين، وفي ذلك إجابة لمن لا زالوا حائرين في استثمار الأوقات، متطلعين إلى نماذج راشدة في ملء الفراغ وبماذا تقضى الأوقات؟ وإذا كانت العبادة الحقة لله رب العالمين هدف الوجود في هذه الحياة امتثالاً لقوله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (¬3). ¬

(¬1) الفتح 11/ 230. (¬2) أخرجه الحاكم موصولاً وصححه ووافقه الذهبي وغيره، شرح السنة للبغوي 14/ 224. (¬3) سورة الذاريات، الآية: 56.

فقد ضرب الصحابة رضوان الله عليهم أروع الأمثلة في استثمار الوقت فيها فالصلاة - مثلاً- لا يشغلهم عنها شاغل ولا يصرفهم عنها صارف حتى ولو كانوا في ساحات الوغى، ولا تسأل عن حسن صلاتهم وطول قراءتهم وقيامهم وركوعهم وسجودهم وخشوعهم، حتى أطلق على بعضهم السّجاد (محمد بن طلحة بن عبيد الله) لعبادته وتألهه (¬1) وبلغ الحرص بهم في المحافظة عليها جماعة المسلمين أن أحدهم إذا فاتته العشاء في جماعة أحيا بقية ليلته- كما ثبتت عن ابن عمرو رضي الله عنهما (¬2). وفي الصيام لهم أخبار وأحوال تراها النفوس الضعيفة ضربًا من الخيال، ففي ترجمة (أبي طلحة الأنصاري) رضي الله عنه أنه كان يسرد الصوم، وأنه كان لا يفطر إلا في سفر أو مرض (¬3). إخوة الإيمان مما يستثمر الصحابة رضوان الله عليهم به أوقاتهم تلاوة كتاب الله، تعلمًا وتعليمًا وعملاً، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يسأل عنه علي رضي الله عنه فيقول قرأ القرآن ثم وقف عنده وكفى به (¬4) وفي رواية أخرى: وعلم السنة وهو القائل: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن (¬5). وكانوا يعقدون لتعليم القرآن الحلق، وتمتلئ المساجد بالمتعلمين ولا تكاد تخلو من القائمين به في ساعات الليل والنهار، وأنعم بكتاب الله رفيقًا، وأكرم ببيوت الله موئلاً. ¬

(¬1) السير 4/ 368. (¬2) السير 3/ 215. (¬3) السير 2/ 29، 30، 33. (¬4) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي 3/ 318. (¬5) أخرجه الطبري في تفسيره بسند حسن (السير 1/ 490).

وكان القوم جادين في حياتهم مستثمرين لأوقاتهم كذلك في بيوتهم، فهذا نافع رحمه الله يسأل: ما كان يصنع ابن عمر في منزله؟ قال: لا تطيقونه: الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما (¬1). عباد الله يا من ترومون نهج السلف، وتريدون الاقتداء باستثمار الأوقات بما ينفع، فقد كان للعلم والتعليم بكل عام نصيبه وافر من أوقات العارفين، ومع ما كانوا فيه من عبادة خاصة فقد كانوا يؤثرون الناس على أنفسهم، ويجلسون لتعليمهم إذا احتاجوا إليهم ويعتبرون ذلك ضربًا من العبادة يتقربون بها إلى خالقهم كما روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه (¬2). وحين يرد الاختلاف بينهم فيما يقرؤون من أجل التعليم ينتهي في وقته، لأن الحق رائدهم، وهذا أبي بن كعب رضي الله عنه كان يقرأ قوله تعالى {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية} (¬3) ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فأغلظ له، فقال يا عمر: إنك لتعلم أني كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلمني مما علمه الله، والله لئن أصبت لألزمن بيتي فلا أحدث شيئًا ولا أقرئ أحدًا حتى أموت! فقال عمر: اللهم غفرًا، إنا لنعلم أن الله قد جعل عندك علمًا فعلم الناس ما علمت». وفي رواية: «بل أنت رجل عندك علم وقرآن فاقرأ وعلم مما علمك الله ورسوله» (¬4). ¬

(¬1) أخرجه ابن سعد 4/ 70 بسند رجاله ثقات، السير 3/ 215. (¬2) السير 1/ 399 مع ضعف إسناده. (¬3) الفتح/ 26. (¬4) تفسير ابن كثير 7/ 327.

ولم يقف الأمر بهم عند حدود العلم والتعليم، بل استثمروا جزءًا من أوقاتهم في الدعوة لله فانتشروا في مشرق الأرض ومغربها يعلمون الناس الخير، ويدعون إلى الله بالحسنى، ويحملون صفاء الإسلام وإشراق العقيدة حتى هدى الله على أيديهم أممًا من الناس، واستنقذ الله بهم فئامًا من الخلق وهم في ذلك كله مسترشدون بهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم الذي لم يكفه بياض النهار في الدعوة للخير، بل استثمر سواد الليل، وهذا عمر رضي الله عنه يحدثنا أنه كان هو وأبو بكر رضي الله عنه يسمرون مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً في بيت أبي بكر في بعض ما يكون من حاجة النبي صلى الله عليه وسلم» (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين}. ¬

(¬1) أخرجه أبو نعيم والفسوي بإسناد صحيح، سير أعلام النبلاء 1/ 499، 500.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. أيها الإخوة المسلمون ثمة ما يقضي به المسلمون أوقاتهم، ويتقربون به إلي خالقهم ألا وهو الجهاد في سبيل الله والمرابطة في ثغور المسلمين، وهذا أبو طلحة رضي الله عنه شيخ كبير، ومع ذلك يقرأ قوله تعالى {انفروا خفافا وثقالاً} فيقول: استنفرنا الله وأمرنا شيوخًا وشبابًا، جهزوني، فقال بنوه: يرحمك الله، إنك قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، ونحن نغزو عنك الآن، قال: فغزا البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فلم يتغير» (¬1). ولئن عجبت من همة هذا الشيخ الكبير واستثمار عمره حتى الممات، فعجبك سيكون أعظم حين تقف على همة شيخ ضرير عذره الله وأنزل بشأنه وأمثاله قوله تعالى {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله} (¬2) ومع ذلك كان يغزو بعد ويقول: ادفعوا إليّ اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفرّ وأقيموني بين الصفين (¬3). ويقال: إنه قاتل رضي الله عنه يوم القادسية، وفي رواية أخرى: شهدها ومعه الراية، ويقال: إنه استشهد يوم القادسية (¬4). وإذا كانت تلك همة هؤلاء فلا تسأل عن همم من سواهم! ويكفيك أن تقف على مقولة سيف من سيوف الله أبلى في الجهاد بلاءً حسناً، وأمضى حياته بين ¬

(¬1) رواه ابن سعد والحاكم بسند صحيح، السير 1/ 34. (¬2) سورة النساء، الآية: 95. (¬3) أخرجه ابن سعد، السير 1/ 364. (¬4) السير 1/ 364، 365.

صليل السيوف وطعن الرماح، ومع ذلك كان يستشعر لذة هذه الحياة، ويرجو أجرها عند الله فيقول: خالد بن الوليد رضي الله عنه: (لقد طلبت القتل مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد أن لا إله إلا الله من ليلة بتها وأنا متترس والسماء تهلني تمطر إلى صبح حتى نغير على الكفار) (¬1). وهو القائل (ما من ليلة يهدى إليّ فيها عروس أنا لها محب أو أبشر فيها بغلام أحب إلي من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية أصبح فيها العدو) (¬2). وهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه يزور الشام فيسأل عن أبي الدرداء رضي الله عنه فيقال: يا أهل بيروت ألا أحدكم حديثًا يذهب الله به عنكم عرض الرباط، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رباط يوم وليلة كصيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطًا أجير من فتنة القبر، وجرى له صالح عمله إلى يوم القيامة» (¬3) وفي رواية لمسلم: «وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجرى عليه رزق وأمن النفاق» (¬4). أمة الإسلام إذا عز الجهاد في سبيل الله، أو تعذر الرباط في ثغور المسلمين فلا أقل من أن يبقى حديث النفس في الغزو والجهاد، وإنهما من خير ما تستثمر به الأوقات وتستنفد فيه الأعمار، «فالجنة تحت ظلال السيوف» (¬5). ¬

(¬1) الإصابة 3/ 74. (¬2) كذره الهيثمي في المجمع 9/ 350، وقال: رجاله رجال الصحيح. وذكره غيره، السير 1/ 375، الإصابة 3/ 73. (¬3) إسناده حسن، السير 1/ 506. (¬4) صحيح مسلم 3/ 120 ح 1913. (¬5) رواه الحاكم بسند صحيح، صحيح الجامع 3/ 85.

ويحذر- النبي صلى الله عليه وسلم أمته من تناسي هذه الشعيرة الكبيرة ويقول: «من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» (¬1). أيها المسلمون ليس الجهاد مقصورًا على جهاد الأعداء في ساحات الوغى، فالجهاد باللسان وبذل الأموال في سبل الخير والتيقظ للثغرات في الداخل، وكشف النفاق وفضح المنافقين كل ذلك ضرب من ضروب الجهاد، حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» (¬2) واهتم له السلف الصالح حتى ظهرت السنة، وماتت البدعة وأخمدت نيران الفتن المشتعلة وقضوا به شطرًا من أوقاتهم. وهذا العالم الفطن والصحابي النجيب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول (جاهدوا المنافقين بأيديكم، فإن لم تستطيعوا فبألسنتكم، فإن لم تستطيعوا إلا أن تكفهروا في وجوههم فافعلوا) (¬3) وإذا كانت ساحة المعركة في الخارج مكشوفة لكل أحد، فإن ميدان المعركة في الداخل، وإفساد المنافقين الذين إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون لا يخفى على الواحد الأحد. إخوة الإيمان استثمر السلف الصالح جزءًا من أوقاتهم في تفقد أحوال إخوانهم المسلمين، وقضاء حوائج المحتاجين، ولله درها من نفوس لم يلهها الغنى عن استشعار من يبيتون على الطوى، وتذكر من يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، يفزعون في النائبة ويطعمون المسكين والأرملة، وهاكم نموذجًا لهؤلاء، فأهل المدينة - كما تقول الروايات .. كانوا عيالاً على ¬

(¬1) رواه أحمد ومسلم وغيرهما، صحيح الجامع 5/ 358. (¬2) حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم، صحيح الجامع 3/ 79. (¬3) السير 1/ 497.

عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ثلث يقرشهم واله، وثلث يقضي دينهم، ويصل ثلثًا» (¬1). ومع ذلك كان يخشى الهلكة على نفسه، فيأتي أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها ويقول: يا أم المؤمنين إني أخشى أن أكون قد هلكت، إني من أكثر قريش مالاً بعت أرضًا لي بأربعين ألف دينار، فتوصيه بالنفقة (¬2). ترون معاشر المسلمين ماذا سيكون موقفنا إذا سألنا عن أرملة من أرامل المسلمين تهدهد أطفالها وليس عندها ما تطعمهم؟ أو عن مغيبة طال ليلها وحيل بينها وبين زوجها، أو عن أسر فقيرة معدمة لا يسألون الناس إلحافًا، وعن مدين أقلق الدائنون مضجعه ولا يجد لديونهم سدادًا. ألا وإن تفقد أحوال المسلمين وقضاء حاجات المحتاجين من سمات هذا الدين ومن أخلاق المؤمنين، ومما تستثمر به الأوقات، والدال على الخير كفاعله، ومن فرج عن مسلم كربة من كوب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب الآخرة. هذه معاشر الأحبة إطلالة يسيرة على جوانب من استثمار الوقت عند السلف الصالحين وهي كما ترون- صلاة وصيام وتلاوة واعية للقرآن علم وتعليم وعمارة للمساجد بذكر الله، دعوة للخير وجهاد في سبيل الله والمال والنفس واللسان ومرابطة في ثغور المسلمين دفاعًا عن حياض الإسلام وحرمات المسلمين وتلمس واع لحاجات المسلمين والتقفي لأحوال المحتاجين فأين الشعور بالفراغ لمن يستثمر وقته في هذه الأعمال الجليلة أو مثلها وأي مكان في مجتمع المسلمين لمن يهلكون أوقاتهم في أماكن الخنا (¬3) والزنا وأين من ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 1/ 88. (¬2) السير 1/ 82. (¬3) الخنا: الفحش (مختار الصحاح ص 192).

ينتظرون نصرة هذا الدين وهم بعد لأوقاتهم مضيعون، ولأهوائهم وشهواتهم مستسلمون. إن الأمة محتاجة لكل طاقة، وإن الدعوة لا تستغني عن أي وسيلة مباحة فليسد كل واحد من المسلمين الثغرة التي يحسنها، لنتق الله في أوقاتنا ولنقدم خيرًا لأنفسنا، اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل، اللهم ألهمنا رشدنا، ويسر أمورنا، واختم بالصالحات أعمالنا. هذا وصلوا.

من أخطائنا في الصلاة

من أخطائنا في الصلاة (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، جعل الصلاة عماد الدين، وقال في كتابه المبين {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} (¬2) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حثّ على إقامة الصلاة، وجعلها حدًّا فاصلاً بين الإيمان والكفر، فقال: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ... } (¬3). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ما زال يوصي بالصلاة حتى كان من آخر كلامه «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم» (¬4). اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى الآل والأصحاب المؤمنين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فأوصي نفسي وإياكم معاشر المسلمين بتقوى الله، ألا وإن المحافظة على الصلاة بأوقاتها، وخشوعها وأركانها وواجباتها وسننها طريق إلى التقوى. أيها المسلمون لا ضير أن يتتابع الحديث، ويتجدد عن هذه الشعيرة العظيمة، لاسيما إذا كان دعوة للخشوع فيها، أو تحذيرًا من أخطاء يكثر الوقوع فيها، وحيث مضى الحديث عن الخشوع في الصلاة فحديث اليوم عن أخطاء ينبغي التنبه لها لمن وقع في شيء منها، فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 18/ 6/ 1416 هـ. (¬2) سورة البقرة، الآية: 45. (¬3) سورة التوبة، الآية: 11. (¬4) رواه أحمد بإسناد جيد 1/ 290، الفتح الرباني 2/ 702، إرواء الغليل 7/ 238.

وأكيس الناس وأبصرهم من أصلح عيوب نفسه ولسان حاله يقول كما قال الصالحون (سمعنا وأطعنا) وأحمق الناس وأجهلهم من ظن الحديث موجهًا لغيره واشتغل بعيوب الآخرين ونسي نفسه. أيها الإخوة المؤمنون هذه الأخطاء منها ما هو قبل الصلاة، ومنها ما هو أتناء الصلاة، وثمة ما يحسن التنبيه إليه بعد الصلاة. وأول الأخطاء تقع في «الوضوء» وهو مفتاح الصلاة وبوابتها الأولى وشرطها المقدم فـ (لا تقبل صلاة بغير طهور .. ) (¬1). والطهور شطر الإيمان (رواه مسلم وغيره) وفي التنزيل {يا أيها الذين أمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} إلى قوله {وإن كنتم جنبًا فاطهروا ... } (¬2) ويقع الخطأ في الوضوء إما بعد التنزه من البول. والرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من ذلك، ويقول: «تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه» (¬3) أو يكون الخطأ في عدم إسباغ الوضوء، وبقاء بقع في أحد الأعضاء الواجبة الغسل لم يبلغها الماء، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام مؤكدًا على ذلك «وإسباغ الوضوء شطر الإيمان» (¬4) وتدعو الحاجة للإسباغ بشكل عام وتشتد حين المكاره كشدة البرد مثلاً «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد الحديث» (¬5). ¬

(¬1) رواه مسلم 1/ 204 ح 224. (¬2) سورة المائدة، الآية: 6. (¬3) رواه الدارقطني وصححه الألباني في الإرواء 1/ 310، الطيار/ 61. (¬4) رواه ابن ماجه وهو في صحيح الترغيب 1/ 83. (¬5) رواه مالك ومسلم والترمذي وغيرهم (صحيح الترغيب 1/ 83.

والمكاره: هي المشقة كشدة البرد مثلاً، وإسباغ الوضوء إتمامه وإكماله (¬1). وكما يقع الخلل في عدم الإسباغ يقع الخطأ كذلك في المبالغة في الغسل المفضي إلى الوسوسة، عافانا الله من ذلك والمسلمين، وتلك بلية أخرى ينبغي التنبه لها والحذر منها، وعلى كل حال فالخلل في الوضوء زيادة أو نقصًا وعدم حسن الوضوء له أثره على الصلاة، وإليك الأثر من مشكاة النبوة لتكون على حذر، فقد روى الإمام أحمد فس مسنده بسند حسن «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالمسلمين الصبح فقرأ الروم فأوهم، فلما انصرف قال: إنه يلبس علينا القرآن، فإن أقوامًا منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد منكم الصلاة معنا فليحسن الوضوء» (¬2). وعلق عليه ابن كثير رحمه الله بقوله: هذا إسناد حسن ومتن حسن، وفيه سر عجيب، ونبأ غريب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم تأثر بنقصان من ائتم به، فدل ذلك على أن صلاة المأموم متعلق بصلاة الإمام (¬3). وبكل حال فقد وردت أحاديث كثيرة تأمر بحسن الوضوء وحسن الصلاة وترتب على ذلك الأجر العظيم (¬4). ومن الأخطاء المصاحبة للوضوء ترك التسمية. فالتسمية واجبة عند بعض العلماء، وسنة عند آخرين قبل البدء في غسل الأعضاء، فيقول المتوضئ: بسم الله الرحمن الرحيم قال عليه الصلاة والسلام: «ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والطبراني والحاكم، وقال: ¬

(¬1) رياض الصالحين 426، 434. (¬2) المسند 5/ 363، الصحيح المسند من أذكار اليوم والليلة ابن العدوي/ 75. (¬3) تفسير ابن كثير لسورة الروم. (¬4) صحيح الترغيب 1/ 144، 145، 156.

صحيح الإسناد، وصححه الألباني (¬1) وتسقط مع الجهل والسهو، وقبل الوضوء كذلك لابد من استحضار النية لرفع الحدث والطهارة للصلاة. قال ابن حجر: واستنبط بعض العلماء من قوله تعالى {وإذا قمتم إلى الصلاة} إيجاب النية في الوضوء لأن التقدير: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤوا لأجلها (¬2). والنية محلها القلب ولا تحتاج إلى تلفظ باللسان، وهي عزم القلب على فعل الوضوء ابتغاء مرضاة الله وامتثالاً لأمر رسوله صلى الله عليه وسلم (¬3). إخوة الإيمان ويبقى الوضوء سمة هذه الأمة، ومفرقها بين الأمم، فهم غر محجلون من آثار الوضوء، كذلك يعرفهم نبيهم صلى الله عليه وسلم (¬4) والوضوء من الإيمان، وقد صح في الحديث (ولن يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) (¬5) وفي المسند وينسون أنه ليس من عمل أحبَّ إلى الله تعالى من الصلاة على وقتها، وهو مقدم على الجهاد في سبيل الله مع فضله ومشقته (¬6). أخي المصلي ولا تكن الصلاة آخر اهتماماتك، تقضى حين الفراغ، ففرض الله أولى من كل عمل مهما كان، وإياك أن تكون ممن توعد بالويل في قوله تعالى: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتم ساهون} أتدرون من هؤلاء الساهون؟ لقد سأل مصعب بن سعد أباه فقال: يا أبتاه أرأيت قوله تعالى: {الذين هم عن صلاتهم ساهون} أينا لا يسهو؟ أينا لا يحدث نفسه؟ قال: ليس ¬

(¬1) صحيح الترغيب 1/ 87، الصلاة للطيار/ 34، 35. (¬2) الفتح 1/ 232 باب ما جاء في الوضوء. (¬3) الطيار/ 34. (¬4) صحيح الترغيب 1/ 76. (¬5) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح الحاكم صحيح الترغيب 1/ 86. (¬6) متفق عليه، صحيح الترغيب/ 159.

ذلك، إنما هو إضاعة الوقت، يلهو حتى يضيع الوقت) (¬1) أتدري أيها المؤخر للصلاة عن وقتها أنك على خطر عظيم، ولست بضامن على، الله المغفرة، يقول كعب بن عجرة رضي الله عنه خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن سبعة نفر ننتظر الصلاة، فقال: هل تدرون ما يقول ربكم؟ قلنا: لا، قال: فإن ربكم يقول: من صلى الصلاة لوقتها وحافظ عليها ولم يضيعها استخفافًا بحقها فله علي عهد أن أدخله الجنة، ومن لم يصلها لوقتها ولم يحافظ عليها وضيعها استخفافًا بحقها فلا عهد له علي، إن شئت عذبته، وإن شئت غفرت له (¬2). بشراكم أيها المحافظون على الصلوات بأوقاتها وخشوعها، وتنبهوا من رقدتكم أيها الكسالى المفرطون المؤخرون للصلاة والمستثقلون لها. عباد الله ومن أخطائنا المتكررة في الصلاة نقرها وعدم الاطمئنان في ركوعها أو سجودها أو قيامها أو نحو ذلك من الأركان والواجبات. والطمأنينة ركن من أركان الصلاة لا تصح إلا به، ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً لا يتم ركوعه، وينقر سجوده وهو يصلي فقال: «لو مات هذا على حاله هذه مات على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: مثل الذي لا يتم ركوعه، وينقر في سجوده مثل الجائع يأكل التمرة والتمرتين لا يغنيان عنه شيئًا» (¬3). وحذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الإخلال بشيء من أركانها، وأن أولئك، لا تقبل صلاتهم ولو مكثوا على ذلك سنين فقال: «إن الرجل لصلي ستين سنة وما تقبل له صلاة، لعله يتم الركوع ولا يتم السجود، ويتم السجود ولا يتم الركوع» (¬4). ¬

(¬1) رواه أبو يعلى بإسناد حسن (صحيح الترغيب/ 230، 231. (¬2) رواه الطبراني في الكبير والأوسط وأحمد بنحوه وهذا في صحيح الترغيب 1/ 161. (¬3) رواه الطبراني في الكبير وأبو يعلي بإسناد حسن، وابن خزيمة في صحيحه: صحيح الترغيب/ 1/ 210، 211. (¬4) رواه الأصبهاني بسند حسن: صحيح الترغيب 1/ 211.

أيها المسلمون أيها المصلون وليس بخاف على أحد قصة الرجل المسيء في صلاته والذين اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل حقيقة وإن صلاها ظاهرًا، وقال له مرتين أو ثلاثة: «ارجع فصل فإنك لم تصل» وحين أقسم أنه لا يحسن غير هذه الصلاة، علمه النبي صلى الله عليه وسلم غيره ممن يخل بالصلاة فقال: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تستوي قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» (¬1). وفي رواية لأبي داود: «فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت من هذا فإنما انتقصته من صلاتك» (¬2). إنها الطمأنينة في سائر الأركان وحتى تقضى الصلاة، وليست الصلاة مجرد حركات لا يفقه المصلي فيها قولاً ولا يحسن دعاءً، ولا ترى إلا أجسادًا تهوي إلى الأرض خفضًا ورفعًا. هل يرضيك أخي المصلي أن يصرف الله نظره عنك وأنت تصلي؟ يقول صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله إلى عبد لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده» (¬3). أيها المصلون: وثمة أخطاء في هيئات ركوعنا أو سجودنا أو جلوسنا، فمن الناس من إذا ركع لم يخفض ظهره، بل يكتفي بالانحناء قليلاً، وهذه سمة جهل ¬

(¬1) الحديث متفق عليه. (¬2) صحيح الترغيب 1/ 213. (¬3) رواه أحمد بإسناد جيد: صحيح الترغيب 1/ 211.

أو تكبر (والسنة في الركوع استواء الظهر حتى لو صببت عليه ماءً لركد فيه) ويبالغ آخرون في الركوع حتى تنخفض رؤوسهم ويزيدون عن الحد المشروع في الركوع، فليحذر الإفراط والتفريط. وفي السجود يخطئ من يرفع أنفه أو جبهته أو رجليه وهو ساجد وإنما السجود على سبعة أعظم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «على الجبهة، وأشاره بيده على أنفه، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين» (¬1). كما يخطئ من يفترش ذراعيه افتراش السبع وهو ساجد لما في ذلك من التشبه بالحيوان، والمستحب مجافاتها ورفعهما عن الأرض وفي الحديث «إذا صليت فلا تبسط ذراعيك بسط السبع وادعم على راحتيك، وجاف مرفقيك عن ضبعيك) (¬2).، ما لم يشق عليه ذلك لطول سجوده فإن شق اعتمد بمرفقيه على ركبتيه (¬3). ساقيه ويضع يديه على الأرض كما يفرش الكلب وغيره من السباع (¬4) وللإقعاء صور أخرى (¬5). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} (¬6) نفعني الله وإياكم. ¬

(¬1) رواه البخاري. (¬2) رواه الطبراني عن ابن عمر بسند صحيح، صحيح الجامع/ 242. (¬3) الطيار، الصلاة/ 136. (¬4) صحيح مسلم، تحقيق عبد الباقي 1/ 358. (¬5) الطيار/ 136. (¬6) سورة هود، الآية: 114، 115.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله القائل: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون} (¬1) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق لعبادته، وشرع لهم من الدين أحسنه وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، ما زال يوصي أمته ويقول: «صلوا كما رأيتموني أصلي» رواه البخاري. وحذر من إضاعة الصلاة والتهاون بها، وهو القائل: «ورب مصل لا خلاق له عند الله تعالى» (¬2) اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها المؤمنون من الأخطاء الشائعة مسابقة الإمام بالركوع أو الرفع منه أو السجود أو السلام أو نحو ذلك، ويكفي لذلك ردعًا أن يعي المصلي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار» (¬3). وهناك خطأ آخر ألا وهو التأخر عن الإمام، أو الموافقة له في القيام والقعود أو الركوع والسجود، والسنة المتابعة للإمام، فإنما جعل الإمام ليؤتم به، وها كم صورة جلية للمتابعة المشروعة، يقوله البراء بن عازب رضي الله عنه: أنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا انحط من قيامه للسجود لا يحني أحدٌ منا ظهره حتى يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض (¬4). ورأى ابن مسعود رضي الله عنه رجلاً يسابق إمامه فقالت: لا وحدك صليت ولا أنت بإمامك اقتديت (¬5). ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 56. (¬2) صحيح الجامع الصغير، وعزاه إلى الحكيم وحسن سنده 2/ 353. (¬3) متفق عليه، صحيح الترغيب 1/ 208 وفيه مزيد تعليق. (¬4) متفق عليه. (¬5) ابن حميد الخطب 2/ 39.

إخوة الإيمان ومن الأخطاء الاختصار في الصلاة، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلى الرجل مختصرًا كما في صحيح مسلم (¬1). والاختصار في الصلاة وضع اليد في الخاصرة، والخاصرة هي المستدق من البطن الذي فوق الورك، وعلة النهي أنه من فعل اليهود، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها (¬2). والتثاؤب في الصلاة ينبغي أن يدفع، قال عليه الصلاة والسلام «إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع، فإن الشيطان يدخل، وفي رواية: فليمسك بيده على فيه فإن الشيطان يدخل» (¬3). أيها المسلمون إذا كان يشرع تغطية الفم حال التثاؤب منعًا لدخول الشيطان، فاعلموا أنه لا ينبغي تغطية الفم في الصلاة لغير حاجة. فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطي الرجل فاه كما في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره بسند حسن عن أبي هريرة (¬4) وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء أن ذلك فعل المجوس عند نيرانهم التي يعبدونها، فنهي المسلمون عن مشابهة الكفار (¬5). والسترة في الصلاة مما ينبغي الاعتناء بها ويخطئ بعض المصلين حين لا يصلي إلى سترة أو يتهاون في منع المار بين يديه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن من سترته، لا يقطع الشيطان عليه ¬

(¬1) المنذري/ 97. (¬2) الطيار، الصلاة - 137. (¬3) رواه مسلم، المنذري/ 97. (¬4) الفوزان أحكام حضور المساجد ص 27، 28. (¬5) الاقتضاء 1/ 344.

صلاته» (¬1) وفي رواية أخرى: «ولا يدع أحدًا يمر بين يديه، فإن جاء أحدٌ يمر فليقاتله فإنه شيطان» (¬2). والسترة المأمور بها مثل مؤخرة الرحل ... أما خط الخط فقد ضعف حديثه عدد من العلماء وأخذ به أحمد وغيره مع ضعف الحديث كما قال النووي قال النووي يرحمه الله: قال العلماء: والحكمة في السترة كف البصر عما وراءه، ومنع من يجتاز بقربه (¬3). ومن الأخطاء الإشارة بالأيدي عند السلام، وفي صحيح مسلم: باب كراهية أن يشير بيده إذا سلم من الصلاة، وساق الحديث عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيده إلى الجانبين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علام تومئون بأيديكم. وفي رواية: ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس، وإنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله (¬4) التلفظ بالنية عند الصلاة خطأ شائع عند المصلين. أيها المصلون وليس بخفي أن الشيطان حريصٌ على إضاعة صلاتكم، كيف لا وقد أمر بالسجود فأبى واستكبر، وأمرتم أنتم بالصلاة فسمعتم وأطعتم، والناس مع الشيطان في الصلاة أصناف صنف استحوذ عليهم بالكلية فأنساهم ذكر الله والصلاة. وصنف رضي منهم بالوسوسة فيها والغياب عن خشوعها والطمأنينة فيها، وزين لهم كثرة الحركات فيها. وصنف عصمهم الله منه فأدوا ¬

(¬1) رواه أحمد وغيره بسند صحيح الجامع 1/ 238. (¬2) صحيح الجامع 1/ 238 للألباني. (¬3) شرح مسلم 4/ 216. (¬4) مختصر المنذري: ص 88.

الصلاة كما أمروا، أولئك هم المفلحون. ولا شك أن مراغمة الشيطان ومغاليته على هذه الصلوات ورياضة النفس وتدريبها المرة تلو الأخرى خير سبيل لحفظ هذه الصلوات، فإن غاب عنك الخشوع في ركعة فاحرص عليه في الأخرى، وإن غلبك الشيطان في هذه الصلاة فغالبه في الصلاة اللاحقة، وهكذا حتى تستمر النفس الخشوع وتتقلل من الأخطاء، والله تعالى يعين الصابرين {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}. ثم احرصوا رحمني الله وإياكم على النوافل فإنها من خير ما يسدد نقص الفرائض، وفي الحديث «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن كان أتمها كتبت له تامة، وإن لم يكن أتمها، قال الله لملائكته: انظروا هل تجدون لعبادي من تطوع فتكملون بها فريضته» (¬1). ومن عجب أن ترى أكثر الناس تفريطًا في الصلوات المكتوبة أزهدهم في النوافل المنسوبة، ومثله عجبًا أن ترى آخر من يدخل المسجد أول الناس خروجًا منه، والفضل بيد الله، وراغموا الشيطان يا عباد الله، واعلموا أن المكوث في المسجد عبادة، ولا تزال الملائكة تصلي على المرء وتدعوا ما دامت الصلاة تحبسه. ¬

(¬1) رواه أحمد وأبو داود وغيرهما بسند صحيح: صحيح الجامع 2/ 353.

أول ما يرفع من هذه الأمة

أول ما يرفع من هذه الأمة (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، {نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} (¬2). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وصف الصفوة من عباده ورسوله إمام المتقين وقدوة الخاشعين المخبتين بالمسارعة للخيرات، وامتدحهم بالخشية والخشوع، فقال جل من قائل عليمًا {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبًا ورهبًا وكانوا لنا خاشعين} (¬3). وأشهد أن محمدًا عبده، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن آله المؤمنين وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه} (¬4) {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} (¬5). إخوة الإيمان كثيرة هي الألفاظ التي نمر بها في كتاب الله دون أن ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 3/ 6/ 1416 هـ. (¬2) سورة الزمر، الآية: »، 23. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 90. (¬4) سورة الطلاق، الآية: 2، 3. (¬5) سورة يوسف، الآية: 90.

تستوقفنا، وكثيرة هي المعاني العظيمة التي نقرأها في القرآن وأثرها في سلوكياتنا ضعيف، وتعالوا بنا لنقف على واحدٍ من المصطلحات نحرره، ونعلم المقصود به، ونعي قيمته، ونحاكم أنفسنا إليه، ونصحح المفاهيم الخاطئة فيه، وكيف نبلغه. إنه «الخشوع» شعار المتقين، وأول ما يرفع من المسلمين. أخرج الإمام أحمد والطبراني عن أبي الدرداء، وشداد بن أوس رضى الله عنهما- بسند صحيح- أن النبي صل الله عليه وسلم قال: «أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع، حتى لا ترى فيها خاشعًا». وفي رواية «أول ما يرفع من الناس الخشوع» (¬1). وخرج النسائي- بسند صحيح أيضًا- من حديث جبير بن نفير رضي الله عنه عن عوف بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى السماء يومًا فقال: «هذا أوان يرفع فيه العلم، فقال رجل من الأنصار يقال له: زياد بن لبيد: يا رسول الله: أو يرفع العلم وقد أثبت ووعته القلوب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة». وذكر ضلال اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله عز وجل، قال (جبير) فلقيت شداد بن أوسيٍ فحدثته بحديث عوف بن مالك فقال: صدق عوف، ألا أخبرك بأول ذلك يُرفع؟ قلت بلى، قال: الخشوع حتى لا ترى خاشعًا» (¬2). أمة الإسلام فمعنى الخشوع المراد هنا: لين القلوب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته، فإذا خشع القلب تبعته الجوارح والأعضاء خاشعة مطيعة لله ¬

(¬1) صحيح الجامع 2/ 351 - 353، وانظر تحقيق علي حسن لرسالة الخشوع في الصلاة لابن رجب/ 26. (¬2) الرسالة السابقة 24 - 25، وانظر: صحيح الجامع الصغير 6/ 72 مع اختلاف يسير.

«ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (¬1). أجل يا أخا الإسلام إن الخشوع الحق ينتظم جوارح العبد كلها بدءًا بالقلب، ومرورًا بالمخ والعظم والعصب، وانتهاءً بالسمع والبصر. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه في الصلاة: «اللهم لك ركعت وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي (¬2) وكان عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من فقده ويقول في دعائه «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا تستجاب لها» (¬3). ولك- يا أخا الإيمان- أن تدرك قيمة الخشوع وتعي قدره حين تعلم أن خيار الأمة عوتبت عليه، ولما يمضي على إسلامهم زمن طويل، قال الله تعالى {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون، اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون} (¬4). قال ابن مسعود رضي الله عنه: «ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية ... إلا أربع سنين» (¬5) ولعلك تدرك من لفظ الآية والتي بعدها: أن طول الأمل سببٌ ¬

(¬1) الحديث متفق عليه. (¬2) رواه مسلم 6/ 57 - 60 شرح النووي. (¬3) رواه مسلم 2722. (¬4) سورة الحديد، الآية: 16، 17. (¬5) أخرجه مسلم 18/ 162 النووي، الهلالي/ 19. وزاد النسائي: «فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضًا» (رسالة ابن رجب في الخشوع/ 29 السابقة).

لقسوة القلب، وأن قسوة القلب مظهر من مظاهر عدم الخشوع، وأن الله كما يحيي الأرضي الميتة بماء السماء، كذلك يحيي القلوب بوحي السماء. قال الله تعالى {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله .. } (¬1). قال أبو عمران الجوني: والله لقد صرف إلينا ربنا في هذا القرآن ما لو صرفه إلى الجبال لمحاها ودحاها، وكان مالك بن دينار رحمه الله يقرأ هذه الآية ثم يقول: أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صدع قلبه». ويروى عن الحسن رحمه الله أنه قال: يا ابن آدم إذا وسوس لك الشيطان بخطيئة أو حدثتك بها نفسك فاذكر عند ذلك ما حملك الله من كتابه مما لو حملته الجبال الرواسي لخشعت وتصدعت، فإنما ضرب لك الأمثال لتتفكر بها وتعتبر، وأنت يا ابن آدم أحق أن تخشع لذكر الله وما حملك من كتابه .. لأن عليك الحساب ولك الجنة والنار (¬2). يا أهل القرآن والخاشعون لله حقًا هم الذين يحبون الله ويثبتون هذه المحبة بالتقرب إليه بالطاعات، وهم الذين يخافون عقابه ويؤكدون خوفهم بالبعد عن المحرمات، الخاشعون لله هم الذين يؤتون ما آتوا من القربات وتبقى قلوبهم وجلة ألا تقبل منهم تلك الطاعات، أما الجاهلون .. أما غير الخاشعين فتبقى قلوبهم لاهية وإن لم تتقدم بهم الحسنات، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف، ومن أعرض عن ذكر الله فلا يبال الله بأي أودية الدنيا أهلكه- نسأل الله السلامة ونعوذ به من الغواية. وليس من خشوع العين رؤيتها لما حرم الله، ¬

(¬1) سورة الحشر، الآية: 21. (¬2) رسالة ابن رجب في الخشوع السابقة 30، 31.

وليس من خشوع الأذن سماعها لما حرم الله، وليس من شأن اليد الخاشعة أن تبطش بالحرام، ولا أن تسير الرجل الخاشعة إلى حرام، ولا من شأن القلب الخاشع أن ينطوي على الخواطر الرديئة وسيء الأخلاق والاعتقاد {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً}. أيها المسلمون ومن صفات الخاشعين البكاء من خشية الله {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدًا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعًا} (¬1). قال القرطبي رحمه الله، وهذه أحوال العلماء، يبكون ولا يصعقون، ويسألون ولا يصيحون، ويتحازنون ولا يتموتون (¬2). ومن صفاتهم: الصبر على ما أصابهم، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ووجل القلوب عند ذكر الله، قال تعالى {وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} (¬3). ومن صفات الخاشعين: تعظيم شعائر الله، وشعائر الله أوامره. كما قال المفسرون (¬4) ومن تعظيمها: التحرج من المساس بها سوءًا أو القرب منها تعديًا، وذلك من تقوى القلوب، قال علام الغيوب: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} (¬5). ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 107 - 109. (¬2) الجامع لأحكام القرآن 6/ 258. (¬3) سورة الحج، الآية: 34، 35. (¬4) تفسير ابن كثير 5/ 416. (¬5) سورة الحج، الآية: 32.

ومن صفاتهم الإيمان بالله ورسوله وكتبه المنزلة مع عدم كتمان شيء من الحق أو بيع الدين بالدنيا {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً} (¬1). ومن صفات الخاشعين في كتاب الله، يقينهم بلقاء ربهم، وأنهم إليهم راجعون، {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون} (¬2). وكذلك فامتحن نفسك أيها الإنسان في الخشوع، وانظر قربك أو بعدك من هذه الصفات، وهل أنت من الخاشعين أم عدادك في الغافلين؟ . يا أخا الإيمان وإن استهوتك منازل السالكين في الجنان، ورمت طريق الخاشعين فاعلم أنه يسير على من يسره الله عليه، لكنه محتاج في البداية إلى صبر وعزيمة وتجاوز للعقبات وسؤال الله الثبات .. وهاك تجربة العارفين بمدارج أحد السالكين يهديها لك الإمام ابن القيم حين يقول: «فالنفسن جبل عظيم شاق في طريق السير إلى الله. وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل، فلابد أن ينتهي إليه .. وفي ذلك الجبل أودية وشعوب، وعقبات ووهود، وشوك وعوسج، وعليق وشبرق ولصوص يقطعون الطريق على السائرين .. فإذا لم يكن معهم عدد الإيمان، ومصابيح اليقين تتقد بزيت الإخبات وإلا تعلقت بهم الموانع، وتشبثت بهم تلك القواطع وحالت بينهم وبين السير، فإن أكثر السائرين فيه رجعوا على أعقابهم لما عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته، والشيطان على قلة ذلك الجبل يحذر الناس من صعوده وارتفاعه ويخوفهم منه، ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 199. (¬2) سورة البقرة، الآية: 45، 46. وانظر: الخشوع وأثره في بناء الأمة: سليم الهلالي ص 27 - 30.

فيتفق مشقة الصعود وقعود ذلك المخوف على قلته، وضعف عزيمة السائرين فيتولد من ذلك الانقطاع والرجوع، والمعصوم من عصمه الله .. ثم يقول وكلما رقى السائر في ذلك اشتد به صياح القاطع وتحذيره وتخويفه، فإذا قطعه وبلغ قلته انقلبت تلك المخاوف كلهن أمانًا، وحينئذ يسهل السير، وتزول عوارض الطريق .. ويرى طريقًا واسعًا آمنًا يفضي به إلى المنازل والمناهل، وعليه الأعلام وفيه الإقامات قد أعدت لركب الرحمن. إلى أن يقول: فبين العبد وبين السعادة والفلاح: قوة عزيمة، وصبر ساعة، وشجاعة نفس، وثبات قلب، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم» (¬1). اللهم اسلك بنا طريق المتقين، وبلغنا منازل الصادقين، واعصمنا من الفتن يا رب العالمين/ أقول قولي هذا .. ¬

(¬1) مدارج السالكين 2/ 7 - 8.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، هو أهل الحمد والثناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا مثيل {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها الإخوة المؤمنون .. والخشوع الحق تصور واع لعظمة الله وعلم يقيني بثوابه وعقابه، يقود إلى صلاح القلب ووجله وتقواه، ويعلق صاحبه بالله دون سواه، ثم تسري هذه الشحنة الإيمانية في الجسد فيقشعر لها، ثم تفيض العين بالبكاء، ثم يلين القلب والجلد معًا، ثم تتنزل السكينة والوقار فيأمن الخاشع من المخاوف ويهدأ من الاضطراب، وينتهي بالمرء إلى الإخبات، والإخبات أول منازل الطمأنينة، حتى يبلغ الخشوع بالمرء إلى الطمأنينة وهي نهاية الإخبات، ومعها يسكن القلب والنفس مع قوة الأمن دون غرور .. تلك درجات الخشوع الحق لمن ابتغاها (¬1). أيها المسلمون وليس من الخشوع الحق الزعيق والصياح كما يصنعه جهلة العوام أو المبتدعة، ولا الرقص والتصفيق كما يفعله أهل التصوف والطرقية والجهلة الطغام، يقول العز بن عبد السلام يرحمه الله: وأما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة لرعونة الإناث، لا يفعلها إلا راعن، أو متصنع كذاب، كيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبه وذهب قلبه ... أما التصفيق فقد حرمه بعض العلماء لقوله عليه الصلاة والسلام «إنما التصفيق ¬

(¬1) انظر سليم الهلالي، الخشوع ص 57 - 61.

للنساء» (¬1) - إلى أن يقول العز رحمه الله: ومن هاب الإله، وأدرك شيئًا من تعظيمه لم يتصور منه رقصٌ ولا تصفيق، ولا يصدر التصفيق إلا من غبي جاهل، ولا يصدر من عاقل فاضل (¬2). أمة الإسلام .. وليس من الخشوع الحق ضرب الخدود وشق الجيوب، والتباكي كما يفعله أهل البدع الضلال، أولئك الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وقد تحدث الإمام الشاطبي رحمه الله عن طائفة من هؤلاء الذين شأنهم الرقص. والزمر، والدوران، والضرب على الصدور، وبعضهم يضرب على رأسه وما أشبه ذلك من العمل المضحك للحمقى والمبكي للعقلاء ... وبين خطأهم وضلاهم كما علق عالم السنة أبو بكر الأجري رحمه الله على حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال الأجري: «ميزوا هذا الكلام، فإنه لم يقل: صرخنا من موعظة، ولا طرقنا على رؤوسنا، ولا ضربنا على صدورنا، ولا زفنا ولا رقصنا، كما يفعل كثير من الجهال يصرخون عند المواعظ، ويزعقون ويتناشون ... إلى أن يقول: وهذا كله من الشيطان يلعب بهم، وهذا كله بدعة وضلالة (¬3). عباد الله ... ومن الخشوع الكاذب خشوع النفاق، وهو تكلف الإنسان الخشوع في جوارحه وأطرافه مع فراغ قلبه من الخشوع وخلوه منه، ذلكم هو الذي كان يتعوذ منه السلف، فيروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: «استعيذوا ¬

(¬1) أخرجه مسلم. (¬2) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2/ 186، 187، عن الخشوع للهلالي 63 - 65. (¬3) انظر: سليم الهلالي، الخشوع وأثره في بناء الأمة 65 - 67.

بالله من خشوع النفاق، قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعًا، والقلب ليس بخاشع» (¬1). معاشر المسلمين- وليس من الخشوع الصادق المسكنة الفارغة، والضعف المذل، والسلبية والانطوائية، وضعف الإنتاج، وطأطأة الرأس دون وجل القلب وقوته، ويروى أن عمر رضي الله عنه أبصر شابًا قد نكس رأسه فقال له: يا هذا: ارفع رأسك فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب» فمن أظهر خشوعًا غير ما في قلبه فإنما هو نفاق على نفاق (¬2). هذه معاشر المسلمين ضروب من التخشع الكاذب فاحذروها، واعلموا أن الخير كل الخير فيما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن سار على نهجهم، وأولئك جاء في القرآن صفة خشوعهم، وأبانت السنة الصحيحة كيفية عبادتهم وهيئة خشوعهم، يقول الحق تبارك وتعالى في وصف أحوال أهل المعرفة عند سماع الذكر والتنزيل {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ... }. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة، فخرج ذات يوم، فصعد المنبر فقال: «سلوني، لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمت في مقامي هذا» فلما سمع ذلك القوم أرموا- أي سكتوا- ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر، قال أنس: فجعلت ألتفت يمينًا وشمالاً فإذا كل إنسان لافٌّ رأسه في ثوبه يبكي ... الحديث. ¬

(¬1) أورده السيوطي في الدر المنثور، ونسبه لابن المبارك وأحمد في الزهد، وابن أبي شيبة عن أبي الدرداء، انظر: الخضوع في الصلاة لابن رجب تحقيق علي حسن/ 21. (¬2) المرجع السابق/ 21.

وقد مر معنا هيئتهم عند الموعظة تذرف منها العيون، وتوجل منها القلوب- كما في حديث العرباض رضي الله عنه- لكن دون زعيق أو صياح، أو رقص وتصفيق أو ضرب خدود وشق جيوب ... أو نحو ذلك من أحوال رآها الخلف الجاهلون ضروبًا من العبادة والقربى ... وهي ليست إلا ضروبًا من البدع منكرة ... وألوانًا من المعونات الباطلة. أيها الإخوة المؤمنون، وبالعلم والإيمان، وتدبر السنة والقرآن، والنظر في ملكوت الله وكيف خلق الإنس والجان، وكيف رفع السماء بلا عمد تراها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، وبسط الأرض ودحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها ... والإلتفات بعد ذلك إلى الطامة الكبرى، يوم يرد الناس كلهم على الله آتيه فردًا، عراة غرلاً ... كما بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا حقًا- ونذكر الله بأسمائه الحسنى وتصور صفاته العلى - بهذه وتلك، يناله الخشوع وتطمئن القلوب. قال تعالى وهو أصدق القائلين {إنما يخشى الله من عباده العلماء}. وقال جل من قائل عليمًا {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك إنه على كل شيء شهيد} (¬1). {الذي آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (¬2). ويبقى بعد ذلك حديث مهم عن الخشوع في الصلاة. اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، نسألك نعيمًا لا ينفد وقرة عين لا تزول ... هذا وصلوا. ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: 53. (¬2) سورة الرعد، الآية: 28.

الخشوع الغائب

الخشوع الغائب (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله وأصلحوا أعمالكم وراقبوه فيما تعملون أو تدعون، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (¬2). {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (¬3). عباد الله كثيرًا ما يسأل المرء منا نفسه ماذا وكم عمل؟ . وقليلاً ما نسائل أنفسنا وكيف كان عملنا ومدى قربه أو بعده من هدي نبينا؟ . وهذا من جهلنا وتقصيرنا بحقيقة العبادة التي يريدها الله منا، فإن المعول عليه في العبادات كلها إخلاصها وصحة أدائها، لا مجرد الإتيان بها وكثرتها، ولقد بين الله في كتابه الكريم أنه خلقنا ليبلونا أينا أحسن عملاً، قال تعالى في سورة هود {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 10/ 6/ 1416. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬3) سورة الحشر، الآية: 18. (¬4) سورة هود، الآية: 7.

وقال في سورة الملك {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} (¬1). ذلك لمن كان يرجو لقاء ربه كما قال في سورة الكهف: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا} (¬2). قال العارفين في معنى «أحسن عملاً أي أصوبه وأخلصه. وحتى نبلوا أنفسنا ونصحح أخطاءنا تعالوا بنا لنقف على واقعنا في عبادة من أهم العبادات وأكثرها تكرارًا في اليوم والليلة هي أول ما سنحاسب عليه، وهي آخر ما نفقد من ديننا، إنها الصلاة، كتاب الله المفروض على المسلمين، والحد الفاصل بين الإسلام والكفر. ولن يكون حديثي هذا اليوم عن فريضة الصلاة ووجوبها، وليس الحديث موجهًا لأولئك النفر القلة المضيعين للصلاة والمفرطين في الواجبات، لكنه حديث موجهٌ لنفر من المسلمين المحافظين على الصلاة بأوقاتها ومع جماعة المسلمين، أولئك الذين يرجون رحمة الله، ويرغبون في معرفة أخطائهم، ويتطلعون إلى الاقتداء بخير البرية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وحيث سبق الحديث عن الخشوع بمفهومه العام، وحاجتنا إليه، فحديث اليوم عن الخشوع في الصلاة، لب الصلاة وروحها، وهذا الخشوع الذي افتقده كثيرٌ من المصلين، ولم تقف المصيبة بفقده عند عوام الناس، بل وصلت الخواص- إلا من رحم الله- وسار داء فقد الخشوع حتى شمل النساء إلى جانب الرجال، والصغار إلى جانب الكبار، ولم تكن البلية بعدم الخشوع في الصلاة حدثًا طارئًا بل وجد فيمن قبلنا ... ولكن بنسب متفاوتة، وكلما شاع ¬

(¬1) سورة الملك، الآية: 2. (¬2) سورة الكهف، الآية: 110.

الجهل وقل التقى، واشتغل الناس بالدنيا عن الدين كلما اتسعت الهوة وقل الخشوع في العبادة، ولئن صحت نسبة القول إلى أحد السابقين» يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلاً خاشعًا» (¬1) فهي البلية الكبرى والمصيبة العظمى. وعلى كل حال فما من شك أن غياب الخشوع في الصلاة ظاهرة خطيرة ودار يستحق الوقفة، ويستوجب العلاج، وذلك لأمرين هامين: الأمر الأول: أن الصلاة ميزان لقبول الأعمال أوردها، يقول عليه الصلاة والسلام: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله» (¬2). الثاني: أن المرء ليست له من صلاته إلا ما عقل منها، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وفي المسند مرفوعًا «إن العبد ليصلي الصلاة ولم يكتب له إلا نصفها، أو ثلثها أو ربعها حتى بلغ عشرها» (¬3). فهل ترضى يا أخا الإسلام أن ترد أعمالك الأخرى بسبب عدم إصلاح صلاتك؟ وهل يكفيك أن تكتب لك من صلاتك ربعها أو ثمنها أو عشرها. أيها المسلمون ... أيها المصلون وهنا ترد الأسئلة التالية: ما معنى الخشوع في الصلاة؟ وما حكمه؟ وما مظاهر عدم الخشوع في صلاتنا، وكيف نستجلب الخشوع في الصلاة؟ . أما معنى الخشوع في الصلاة: فهو .. كما قال ابن كثير .. رحمه الله: تفريغ ¬

(¬1) أخرجه الترمذي ورواية النسائي أرجح ابن رجب ص/ 25. (¬2) رواه الطبراني في الأوسط وغيره عن أنس وسنده صحيح، صحيح الجامع الصغير 2/ 352. (¬3) مدارج السالكين 1/ 112 عن المنجد في رسالته 33 سببًا للخشوع في الصلاة ص 60/ 61.

القلب لها، وعدم الاشتغال بما عداها، وإيثارها على غيرها، وحينئذ تكون قرة عين للمصلي، كما كانت للنبي صلى الله عليه وسلم «وجعلت قرة عيني في الصلاة» (¬1). والخشوع في الصلاة كما جاء في عبارات السلف، سكون وخوف، وغض للبصر وخفض للجناح، وعدم الالتفات هنا أو هناك (¬2). هو باختصار سكون الجوارح عن الحركة غير المأذون بها شرعًا، وتدبر القلب وخشوعه لما يقال أو يفعل في الصلاة إن سرًا أو جهرًا. قال بعض السلف، الصلاة كجارية تهدى إلى ملك الملوك، فما الظن بمن يهدي إليه جارية شلاء أو عوراء أو عمياء أو مقطوعة اليد والرجل أو مريضة أو دميمية أو قبيحة، حتى يهدى إليه جارية ميتة بلا روح ... فكيف بالصلاة يهديها العبد ويتقرب بها إلى ربه تعالى، والله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وليس من العمل الطيب صلاة لا روح فيها، كما أنه ليس من العتق الطيب عبد لا روح فيه (¬3). أيها المؤمنون أما حكم الخشوع في الصلاة فقد قال بوجوبه في الصلاة عدد من العلماء، قال القرطبي رحمه الله «اختلف الناس في الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها؟ على قولين، والصحيح الأول ومحله القلب» (¬4)، وممن قال بوجوبه، قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: قال تعالى {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} (¬5) ¬

(¬1) أخرجه النسائي وأحمد بسند صحيح الهلالي، الخشوع وأثره في الأمة ص 31، وتكون له راحةً، كما قال عليه الصلاة والإسلام لبلال رضي الله عنه «أرحنا بها يا بلال (أخرجه أبو داود، وأحمد بسند صحيح، المرجع السابق/ 32، تفسير ابن كثير 5/ 456. (¬2) تفسير ابن كثير 5/ 456، ابن رجب/ 35. (¬3) مدارج السالكين 1/ 526 عن رسالة المنجد في الخشوع في الصلاة 7، 8. (¬4) الجامع لأحكام القرآن 12/ 104. (¬5) سورة البقرة، الآية: 45.

قال الشيخ: وهذا يقتضي ذم غير الخاشعين، والذم لا يكون إلا لترك واجبٍ أو فعل محرم، وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دلّ ذلك على وجوب الخشوع/ كما استدل الشيخ على وجوب الخشوع لقوله تعالى {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} ... إلى قوله {أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}. وبأدلة أخرى وكلام طويل استجمعه رحمه الله (¬1). كما قال بالوجوب الحافظ العراقي في (طرح التثريب (¬2) ردًّا على النووي رحمهما الله (¬3). إخوة الإسلام فإذا علم وجوب الخشوع في الصلاة أدركنا مدى تفريطنا وتهاوننا في أداء هذه الفريضة الواجبة وقلة خشوعنا في الصلاة، فإن قال قائل: وما هي مظاهر عدم خشوعنا في الصلاة؟ قلت: هذه كثيرة ومنها: - 1 - كثرة الحركات في الصلاة دونما فائدة كتحريك الأرجل والأيدي وتسوية الملبس ومس الشعر والنظر في الساعة وفرقعة الأصابع ونحو ذلك، وتأمل كيف قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه حين سأله عن مسِّ الحصى في الصلاة فقال: «واحدة، ولأن تمسك عنها خيرُ لك من مائة ناقة كلها سود الحدَق العيون» (¬4). 2 - الإلتفات في الصلاة وهو نوعان: حسي ومعنوي، فالحسي تقليب البصر يمينًا وشمالاً. وذلك هو الاختلاس الذي يختلسه الشيطان من صلاة العبد، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (¬5). والمعنوي هو التفات القلب عن الله لأي غرض من أغراض الدنيا، والانشغال عن الصلاة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) في الفتاوى» / 553 - 572. (¬2) 2/ 372. (¬3) انظر الخشوع وأثره في بناء الأمة، الهلالي/ 35. (¬4) الحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه وهو في صحيح الترغيب والترهيب (558) المنجد/ 53. (¬5) أخرجه البخاري 2/ 234، 6/ 238 من الفتح.

لعمرو بن عتبة رضي الله عنه في فضل الوضوء والصلاة الخاشعة «فإن هو قام وصلى فحمد الله وأثنى عليه ... وفرّغ قلبه لله انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه» (¬1) والخاشع والموفق من سلم من التفات البصر والفؤاد في الصلاة ولم يرفع بصره إلى السماء. 3 - ومن مظاهر عدم الخشوع استثقال الصلاة وتباطئ الإمام في السلام، قال الله تعالى: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} والمعنى ثقيلة إلا على الخاشعين. 4 - ومن مظاهره عدم نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر، قال تعالى {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} (¬2). وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فلانًا يصلي الليل كله، فإذا أصبح سرق، فقال سينهاه ما تقول، أو قال ستمنعه صلاته» (¬3). 5 - ومن مظاهر عدم الخشوع كثرة السهو فيها، وقلة التدبر لما يقال أو يقرأ من القرآن فيها، ولو سألت بعضهم ماذا قرأ الإمام في المغرب والعشاء مثلاً أو ماذا قرأ هو قي صلاة اليوم لتردد في الإجابة، وليس ذلك إلا مظهرًا من مظاهر الغفلة وعدم الخشوع والتدبر في الصلاة فليحذر. 6 - ومن أبرز مظاهر عدم الخشوع في الصلاة عدم الطمأنينة في الصلاة، وسرقة شيء من أركانها أو الواجبات، كعدم الاطمئنان في الركوع أو الرفع منه، أو السجود أو الجلسة بين السجدتين أو نحو ذلك، قال صلى الله عليه وسلم «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، قيل: يا رسول الله كيف يسرق صلاته؟ قال لا يتم ¬

(¬1) رواه مسلم 832، انظر الخشوع في الصلاة لابن رجب/ 38. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 45. (¬3) رواه أحمد البزار وصححه الألباني 1/ 66 من السلسلة الضعيفة حين ضعف الحديث. لم تنهه صلاته عن الفحشاء (الصلاة وأثرها/ العوايشة/ 49).

ركوعها ولا سجودها» (¬1) وفي الحديث الآخر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب» (¬2). وقد يصل الأمر ببعضهم إلى مسابقة الإمام، وهذا من تلاعب الشيطان في المصلي، وإلا هل سينهي الصلاة قبل الإمام، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال «أما الذي يخشى يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار» (¬3) اللهم وفقنا للهدى وعافنا من البلوى. ¬

(¬1) رواه أحمد والحاكم وهو في صحيح الجامع 977. (¬2) رواه أحمد وهو في صحيح الترغيب 556، المنجد/ 95. (¬3) رواه مسلم 1/ 320.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، واللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. إخوة الإيمان إذا عرفنا معنى الخشوع في الصلاة وقيمته وحكمه وبعضًا من مظاهر عدم خشوعنا في الصلاة، فهنا يرد السؤال المهم فكيف نخشع في الصلاة؟ ، وما هي الأسباب المعينة على الخشوع؟ وقبل الشروع في ذكر بعض الأسباب المعنية، أذكرك أخي المسلم بعلاج الظواهر السابقة لعدم الخشوع فتلافيها يورث الخشوع في الصلاة، وأضيف إليها أسبابًا أخرى للخشوع. 1 - وأول هذه الأسباب استحضار عظمة الله حين الدخول في الصلاة. أولست تبدأ الصلاة بالتكبير قائلاً: الله أكبر ... أجل إن معرفتك بمدلول هذه الكلمة يجعلك تعتقد أن الله أكبر من كل شيء ومن ثم فلا ينبغي أن يشغلك شيء عن ذكر الله وعن الصلاة حتى تفرغ منها. وينبغي أن تجل الله وأنت تقف بين يديه تناجين قال صلى الله عليه وسلم «إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه فلينظر كيف يناجيه» (¬1). 2 - وتدبر ما تقول من أذكار وما تقرأ من قرآن، من خير ما يعينك على الخشوع، فأنت لو تأملت ما تقول من دعاء الاستفتاح وما تقوله حين تركع وترفع وتسجد وتعتدل، وتدبرت ما تقرأ بين ذلك من كتاب الله العزيز لكان في هذا ذاك شغل لك عن التفكير في أمور أخرى خارج الصلاة، ولمن يغفل عن ¬

(¬1) رواه الحاكم في مستدركه 1/ 236 وهو صحيح الجامع الصغير رقم 651.

تدبر القرآن أثناء الصلاة أو خارجها أذكر بمقولة أحد السلف «إن الله جمع الكتب المنزلة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله {إياك نعبد وإياك نستعين} (¬1). وأذكر من يقرؤون من الآيات دون تدبر بموقف قتادة بن النعمان رضي الله عنه الذي قام الليل لا يقرأ إلا {قل هو الله أحد} يرددها لا يزيد عليها (¬2). 3 - ومما يعين على الخشوع في الصلاة تذكر الموت، والصلاة صلاة مودع، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم «اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحري أن يحسنها، وصل صلاة رجل لا يظن أنه يصلي غيرها» (¬3). إي وربي إن صلاة من يظن أجله قاب قوسين أو أدنى لتختلف عن صلاة من خدع بطول الأمل وحب الدنيا. 4 - أيها المسلمون ومن الأمور المعينة على الخشوع في الصلاة الحرص على سنن الصلاة، فصلاً عن الإتيان بواجباتها والأركان، ولهذا وذاك أثر في خشوع المصلي، أرأيت وضع اليد اليمنى على اليسرى على صدر المصلى ... كم فيه من عبودية لله رب العالمين، وقد سئل الإمام أحمد يرحمه الله عن المراد بذلك فقال «هو ذل بين يدي عزيز» قال علي بن محمد المصري الواعظ يرحمه الله: ما سمعت في العلم بأحسن من هذا» (¬4). فوق ما في ذلك من اتباع هدي المرسلين «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة» (¬5) ثم أرأيت ¬

(¬1) الفتاوى لابن تيمية 10/ 18. (¬2) رواه البخاري الفتح 9/ 59 وأحمد 3/ 43. (¬3) أخرجه الديلمي في مسنده بسند حسن: الخشوع للهلالي/ 45، المنجد/ 13. (¬4) الخشوع في الصلاة لابن رجب 36، 37. (¬5) رواه الطبراني في المعجم الكبير، وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح 3/ 155.

تحريك السبابة حين التشهد كم هو شديد على الشيطان حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم «لهي أشد على الشيطان من الحديد» (¬1) ومثل ذلك يُقال في طأطأة الرأس، والنظر في موضع السجود، ونحو ذلك من هيئات الصلاة المشروعة، وكلها تدعوا للخشوع وتذهب الغفلة وتطرد وساوس الشيطان بإذن الله. 5 - إخوة الإيمان، ومما يدعو للخشوع التأمل في حال السلف في صلاتهم، وتذكر مسلسل الخاشعين الماضين من المؤمنين، وهاك نموذجًا لهم، يقول مجاهد رحمه الله: كان إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يشد بصره إلى شيء أو يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه من شأن الدنيا إلا ناسيًا ما دام في صلاته» (¬2) وقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: في ثلاث خصال لو كنت في سائر أحوالي أكون فيهن لكنت أنا أنا، إذا كنت في الصلاة لا أحدث نفسي بغير ما أنا فيه، وإذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا لا يقع في قلبي ريبٌ أنه الحق، وإذا كنت في جنازة لم أحدث نفسي بغير ما تقول ويقال لها» (¬3). ويذكر أن عصام بن يوسف رحمه الله مر بحاتم الأصم وهو يتكلم في مجلسه، فقال: يا حاتم تحسن تصلي؟ قال: نعم، قال: كيف تصلي؟ قال: حاتم: أقوم بالأمر، وأمشي بالخشية، وأدخل بالنية، وأكبر بالعظمة، وأقرأ بالترتيل والتفكر، وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع، وأجلس للتشهد بالتمام، وأسلم بالنية، وأختمها بالإخلاص لله عز وجل، وأرجع على نفسي بالخوف، أخاف ألا يقبل مني، وأحفظه بالجهد إلى الموت» قال: تكلم فأنت تحسن تصلي (¬4). ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد بسند حسن كما في صفة الصلاة/ 159، المنجد/ 24. (¬2) تعظيم قدر الصلاة 1/ 188 عن رسالة المنجد/ 37. (¬3) الفتاوى لابن تيمية 22/ 605. (¬4) الخشوع لابن رجب ص 47.

عباد الله أيها المصلون ومما يعين على الخشوع: 6 - استحضار المغنم والمغرم في الصلاة، وإذا كان قد مضى شيء من المغرم لمن ضيع صلاته ولم يخشع فيها يكفي منها أنها لا تنهاه من الفحشاء والمنكر في الدنيا، وتكون في الآخرة سببًا لرد أعماله الأخرى، إلى غير ذلك من المغارم الأخرى. أما الصلاة الخاشعة فلها مغانم كثيرة، منها مغفرة الذنوب، كما قال صلى الله عليه وسلم «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارةً لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة، وذلك الدهر كله» (¬1). في الحديث الآخر قال عليه الصلاة والسلام «إن العبد إذا قام يصلي أتي بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقيه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه» (¬2). قال المناوي: المراد أنه كلما أتم ركنًا سقط عنه ركن من الذنوب، حتى إذا أتمها تكامل السقوط وهذا في صلاة متوفرة الشروط والأركان والخشوع كما يؤذن به لفظ (العبد) و (القيام) إذ هو إشارة إلى أنه قام بين يدي ملك الملوك مقام عبد ذليل (¬3) والصلاة الخاشعة سبب لدخول الجنة كما ثبت ذلك في صحيح (¬4) وهي تمنع مدخل السوء ومخرجه كما صح بذلك الحديث (¬5). إخوة الإيمان يطول الحديث عن آثار الصلاة ومغانمها- وليس هذا موضع بسطها- والمقصود أن نقدر هذه الصلاة حق قدرها، وأن يبصر كل منا نفسه ¬

(¬1) رواه مسلم 1/ 206. (¬2) رواه البيهقي في السنن الكبرى والطبراني وغيرهما بسند صحيح (صحيح الجامع 2/ 78). (¬3) فيض القدير 2/ 368 عن المنجد في 33 سببًا للخشوع في الصلاة / 41. (¬4) العوايشة: الصلاة وأثرها/ 51. (¬5) صحيح الجامع 1/ 197.

ويتأمل في صلاته، وإن من الحرمان أن يجهد المرء نفسه ثم لا يتقبل الله منه بسبب تقصيره وتلاعب الشيطان بعبادته، وكم هو مؤلم للنفس أن يمكث الإنسان دهرًا من عمره يؤدي الصلاة وكأنها عادة لا عبادة، فلا يجد فيها أنسه، ولا تنهاه عن معصية، وفرق كبير بين من إذا دخل الصلاة تمنى عدم الخروج منها لما يجده من لذة المناجاة وقرة العين، وبين من إذا دخل في الصلاة أخذ يحسب أنفاسه حتى تقضى الصلاة؟ .

حرب العقائد والدرس المستفاد

حرب العقائد والدرس المستفاد (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، له العزة والكبرياء، يحكم ما يشاء ويختار، والذين يمارون في عزته أو يتشككون في قدرته أولئك هم الخاسرون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بديل أممًا من الناس على أمم تارة، وقد تكون هذه الإدالة بداية النهاية. ويمتحن آخرين فيسلط عليهم أعداءهم، وقد يجعل الله في ثنايا المحن منحًا إلهية، وقد يكون بداية النصر المؤزر على إثر الهزيمة الساحقة. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله جاهد في الله حق جهاده وناله وأصحابه من ألوان الأذى من أعدائه ما لم يستكينوا معه أو ييأسوا وما زالوا يتضرعون حتى كان النصر والفتح المبين ... اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطاهرين وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. اتقوا الله معاشر المسلمين، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوانًا {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرة ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا} (¬2). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 15/ 3/ 1416 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 1.

إخوة الإسلام والمتتبع لتاريخ العلاقات ما بين الغرب وشعوب الإسلام يلاحظ حقدًا مريرًا يملأ صدور الغرب حتى درجة الجنون، يصاحب هذا الحقد خوف رهيبٌ من الإسلام والمسلمين. وهذا الحقد وذلك الخوف ليس مجرد إحساس نفسي لا ظل له ولا أثر في الوجود، وإنما من أهم العوامل التي تبني وتبلور عليها مواقف الحضارة الغربية من الشعوب المسلمة سياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا وسائر جوانب الحياة الأخرى. ولم تعد هذه المقولة مجازفة يطلقها المسلمون ... أو تهمة تلصق بالغرب ومن شايعهم وهم منها براء، كلا والواقع ينطق والحقائق تشهد، والستار الوهمي يزاح، وتشهد أرض البوسنة والهرسك اليوم أبشع جريمة، وأسوأ كارثة في التاريخ المعاصر .. تسفك فيها دماء الأبرياء، وتغتصب النساء، ويفصل بين الأبناء والآباء، ويموت الألوف محل الأطفال ويحال بينهم وبين الرضاع أو شربة الماء .. ولا تنتهي الكارثة رغم سوئها عند هذا الحد فالهوية المسلمة يراد طمسها .. والأرض الخاصة لابد من تقسيمها والملأ يأتمرون ويخططون والسادة يباركون، والمنظمات والهيئات الدولية تحمي وتشرف على المخطط الآثم وتضطلع بمسؤوليتها في الجريمة النكراء، ويلف الصمت أممًا أو دولاً أخرى لها نصيبها في المغنم أو يكفيها يوأد الإسلام المتململ، وتنهى- ولو إلى حين- هذه الصحوة الإسلامية المتجددة. ولك الله يا شعب البوسنة والهرسك، كم تكالبت عليك الخطوب، وكم كنت هدفًا للتخطيط الماكر، والكيد الظاهر والخفي ... لك الله وأنت باكورة ثمار التخطيط للنظام العالمي الجديد بصليبيته الظاهرة، واستعماره الملفوف، وخداعه المكشوف.

على أن حرب اليوم ليست ضد شعب البوسنة وحدهم، بل هي حرب على الإسلام أنى كان وعلى المسلمين أينما وجدوا ... ودونك مذابح المسلمين في الشيشان والطاجيك، وبورما، وتايلند، وكشمير، والفلبين، وفلسطين وغيرها. وكأن من بنود النظام العالمي الجديد السماح لأي دولة تريد الاستقلال وتقرير حق المصير، أما الإسلام وأما المسلمون فيستثنون من هذه القاعدة ولابد من اضطهادهم والتضييق عليهم وعدم تمكينهم. إنها حرب العقائد بكل ما تحمله الكلمة من معان ومضامين، وممارسة الاستعمار، ولكن بثوب جديد، وميدان المعركة خير دليل على المؤامرة، وبيان هوية المقاتلين، والتصريحات بعدم السماح لدولة ترفع شعار الإسلام في أوربا لم تعد خافية، والجهود لمحاصرة هذه النبتة الإسلامية مسؤولية مشتركة حتى ولو كانوا من بني جلدتهم. أيها المؤمنون وإن من السذاجة والتغفيل أن نتصور حرب العقائد وليدة اليوم، وأن عدوان الغرب لنا معاشر المسلمين نبتت هذه الأيام. كلا .. فالتخطيط قديم، والنية للعداء مبيتة، والتصريحات قديمة وإن رغمت أنوف المخدوعين، وهاكم البينة وإليكم الدليل، يقول (أيو جين روستو) رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية ... ومستشار الرئيسي جونسن لشؤون الشرق الأوسط حتى عام 1967 م: (يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دولٍ أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية، لقدر كان الصراع محتدمًا بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة بصور مختلفة .. إلى أن يقول: إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي، فلسفته، وعقيدته، ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية

للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته الممثلة بالدين الإسلامي ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها). فهل بعد هذا من صراحة؟ (¬1). إذا كانت هذه سياسة أمريكا فقبلها أوربا وقد قال مسؤول في وزارة الخارجية الفرنسية عام 1952 م- وليت المسلمين يعون ما يقوله الآخرون عنهم. يقول هذا المسؤول: ليست الشيوعية خطرًا على أوربا فيما يبدو لي، إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديدًا مباشرًا وعنيفًا هو الخطر الإسلامي. فالمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الخاص بهم، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، فهم جديرون أن يقيموا قواعد عالم جديد دون حاجة إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية في الحضارة الغربية، فإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في نطاقه الواسع- هكذا يقول الكاتب من وجهة نظره المادية، وإلا فهناك أسباب أخرى لانطلاقة المسلمين الكبرى- انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الثمين، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الحضارة الغربية، ويقذفون برسالتها إلى متاحف التاريخ ... إلى أن يقول الكاتب: إن العالم الإسلامي عملاق مقيد، عملاق لم يكتشف نفسه حتى الآن اكتشافًا تامًا، فهو حائرٌ، وهو قلقٌ، وهو كاره لانحطاطه وتخلفه، وراغب رغبة يخالطها الكسل والفوضى في مستقبل أحسن وحرية أوفر ... إلى آخر ما قال (¬2). ¬

(¬1) قادة الغرب يقولون .. جلال العالم ص 24/ 25. (¬2) قادة الغرب يقولون ص 40/ 41.

إخوة الإسلام هذه التصريحات الجلية بالعداوة من جانب، وبالتخوف من الإسلام القادم من جانب آخر إذا انضم إليها الواقع المشهود بتآمر الغرب ووحشيته وتآمره على الإسلام والمسلمين في أرض البوسنة والهرسك مثلاً باتت سهامًا موجعةً وضربةً قاصمةً للعلمانيين في ديار المسلمين أولئك الذين ما فتأوا ينافحون عن الغرب ومؤسساته ويوهمون أمتهم أن الدول المتحضرة لم تعد تقيم للدين وزنًا قي سياستها وبرامج تخطيطها، وينبغي- حسب نظرتهم الهزيلة- أن يبقى الدين علاقة شخصية بين الفرد وخالقه، لا علاقة له بتنظيم أمور الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية وسواها. أجل لقد واتت الفرصة لكل مخدوع بشعار العلمنة والتغريب أن يكشف القناع عن عينيه، وأن يسمح لأذنيه بسماع ما لم يكن يسمح به من قبل، وستتكشف له الحقائق دون غموض، وهذه راعية العلمنة ومصدرة أفكارها تؤوب إلى ديانتها وإن كانت محرفةً، وتتخذ من الدين والمعتقد منطلقًا أساسيًا لسياستها، وتُبقي العلمنة شعارًا أجوف تخدع به المساكين، وتصدره بضاعةً مزجاة لمن لا زال في قلبه مرضٌ من أبناء المسلمين، وإذا سقطت العلمانيةُ وأفلس العلمانيون في ديار الغرب، فلا تسأل عن مصيرها في ديار المسلمين، وربك يحكم ما يشاء ويختار، فبالأمس سقطت الشيوعية الشرقية وأذنابها داخل يحميها، واليوم تتهاوى العلمانية الغربية ومؤسساتها وغدًا وبعد غدٍ ستتهاوى بإذن الله كل نحلة ضالة، وسينفضح كل نظام مزورٍ مهما خدع الأبصاَر برهةً من الزمن. ويبقى دين الإسلام دين الله في الأرض منسجمًا مع نظام الكون كلِّه، ويبقى المسلمون يسبحون بحمد ربهم، ويشاركون غيرهم من مخلوقات الله تسبيحهم. ووعد الله حق، ولكن الله لا تغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأنصتوا

لعلكم ترحمون لقوله تعالى {إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور، أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ... ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (¬1). نفعني الله وإياكم بهدي القرآن، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين. ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 38 - 41.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وأشكره ولا يحمد على مكروه سواه، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد أيها المسلمون فطالما تحدث الغرب ومؤسساته وأذنابه عن الأصولية الإسلامية وعن تطرف المسلمين وتعصبهم وخطرهم، وها هي الأحداث تكشف بجلاء أين مكمن التطرف وأين يكون العداء، فالغرب لا يكتفي برفع شعار الدين رايةً لحروبهم ومساعداتهم، ولا ينتهي عند حد الدفاع عن الصليب مقابل الهلال، بل ولفرط تطرفهم- يصيرون على الدفاع عن مذاهب النصرانية المتنافرة، ويتفقون على اقتسام الغنيمة بين فضائل الكاثوليك والبروتستانت، والأرثوذكس، ففي الوقت الذي تساند (ألمانيا) الكاثوليكية (الكروات) يبقى (الصرب) في حماية من روسيا واليابان وبقية الدول التي لا تدين بالكاثوليكية. فهل بعد هذا التطرف من تطرف، وحروب اليوم تذكرنا بالحروب الصليبية السابقة فأين المعجبون بالغرب والمروجون لشعاراته الوهمية من الديمقراطية والحرية والعدالة. وحقوق الإنسان أتراهم اليوم يعيدون حساباتهم، ويعلنون انخداعهم فيما مضى. فينصحون لأنفسهم، ويصدقون مع أمتهم، أم تراهم يراوغون ويخادعون ولا تزال عقدة الشعور بالنقص تصاحبهم، والفتنة بالفكر المستورد تطاردهم. أيها الإخوة المؤمنون وبرغم فداحة ما تسمعون من جرائم تقشعر لهولها الأبدان من أمم الكفر على شعوب الإسلام فالحقيقة الغائبة أكبر، والمخطط

أعتى وأقسى، وكل يوم تكشف لنا حقائق وإحصاءات لم تتكشف بالأمس، لن يكون آخرها اكتشاف قبور جماعية لما يقرب من ثلاثة آلاف مسلم ومسلمة من شعب البوسنة ردموا فيها بالجرافات في الأحداث المؤلمة الأخيرة، وأمثال هذه الأحداث تؤكد لنا استمرار العداوة بين المسلمين وأهل الكتاب التي أخبرنا عنها ربنا بقوله {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ... } (¬1)، وتذكرنا بعدم اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، كما قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق} ... إلى قوله تعالى {وودوا لو تكفرون}. ولقد مضى على العلماء والدعاة زمن وهم يقررون هذه الحقائق للناس، وقد لا يعيرهم البعض اهتمامًا لهذا، أما اليوم فكشفت الحقائق، ونطقت الرماح، وتحدثت لغة الأرقام عن حجم العداوة والمأساة، وفي أنين الأيامى والثكالى، وصراخ الأطفال جوعًا وعطشًا، وانتشار الجثث الهامدة على السكك طولاً وعرضًا ما يُعبر عن الصورة بجلاء، وما يقصر المسافة على الدعاة والعلماء .. أمة الإسلام .. ومع الصمت والتخاذل والقعود عن نصرة المسلمين المستضعفين فلن تقف العداوة عند هذا الحد. فالهدف اقتلاع الإسلام من جذوره، والمخطط يشمل المسلمين كلهم، وما أجمل ما قيل (فبعد أن ينجز الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس مهمتهم في أوربا لابد وأن يتطلعوا عبر البحر الأبيض المتوسط صوب أراضي المسلمين ليكملوا ما يقوم به اليهود) (¬2). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 120. (¬2) جاسر الجاسر، مقال في الجزيرة بعنوان: أيها المسلمون تبرعوا لتحموا أنفسكم، في 14/ 3/ 1416 هـ عدد 8351.

فهل نعي حقيقة المؤامرة وحجمها، وهل نتخذ من أساليب الوقاية وأسبابها ما نحفظ به على أنفسنا حين نساهم في الحفاظ على إخواننا .. إن أحداث البوسنة والهرسك ومثيلاتها في عالمنا الإسلامي مؤلمة للنفس أيَّما إيلام .. ولكن هل نتجاوز مجرد الحديث إلى ما بعده من دروسٍ وعبرٍ، وهل نتجاوزُ مرحلة البكاء والعويل إلى مرحلةِ الجدَّ والاستعداد للمستقبل القريب، فنتعاون جميعًا وبكل ما أوتينا من قوة للوقوف صفًّا واحدًا في وجه العدو الحقيقي لنا، هل نتجاوز الخلافات الوهمية التي يصنعها المغرضون، هل تتجاوز الحدود المرسومة من قبل المستعمرين لتقطيع أوصال الأمة وإشغالها عن قضاياها المهمة والمصيرية، هل يعود عودة صادقة لكتاب ربنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابنا أصدق الكتب المنزلة، ونبينا خاتم المرسلين، في وقت عاد فيه الآخرون إلى كتبهم المحرفة ودياناتهم المنسوخة؟ هل نحافظ على طاقاتنا؟ . إن عالم اليوم لا مكان فيه لمن يعيش بدون هوية، وإذ تشبث اليهودي والنصراني والبوذي وسواهم بعقائدهم أفيليق بنا معاشر المسلمين أن نعيش هملاً نقتات على موائد الآخرين، ونستطعم منهم وكأننا حفنة من المساكين ... أين العزة بالإسلام .. أين الغيرة للقرآن وأين نضع خيريتنا وشهادتنا على الأمم بنص القرآن {كنتم خير أمة أخرجت للناس} (¬1) {وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس .. } (¬2). أن من واجبنا أن ندعم كل مبادرة خيرة صادقة للتضامن مع شعب البوسنة والهرسك، على أن لا يتوقف هذا الدعم، وذلك التضامن حتى ينتصر المضطهدون، ويفضح المعتدون، وأن يشمل هذا الدعم والمساندة بقية ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 110. (¬2) سورة البقرة، الآية: 143.

المسلمين المضطهدين في أنحاء الأرض. إن على وسائل الإعلام بقنواتها المختلفة وفي عالمنا الإسلامي كله، مسؤولية توعية الشعوب بحقيقة المؤامرة، وشرسة الهجمة، والهدف من وراء اللعبة، ولا ينبغي أن نقل مصداقية إعلامنا عن إعلام الغرب حين يشوهون صورتنا ونحن المسلمون المضطهدون ويلهبون مشاعر شعوبهم ضدنا وهم الكفرة المعتدون؟ . ومع ذلك كله فينبغي أن لا نقف عن حدود التوعية المبرمجة لقضايانا مع أهميتها، ولا نكتفي بمجرد المساندة المالية للمضطهدين مع مسيس الحاجة إليها، بل لابد من التفكير بربط علاقاتٍ ثقافية مع الشعوب المسلمة يحكمها الإسلام، ولابد من إقامة علاقات اقتصادية مع الشعوب المسلمة لا يكون الربح المادي هدفها، بل تهدف إلى إيجاد فرصٍ اقتصادية يستغني بها المسلمون عن استجداء الآخرين. ولابد من تعاونٍ عسكري جادٍ في محيط الأمة المسلمة، تتقلل منه في البداية عن معونات الأمم الأخرى وتستغني به مستقبلاً عن أي صفقة أخرى لا تعطى حتى تؤخذ تنازلات تقايضها، أو تعطى صراحة لفتة وتحرم أخرى كما يجري اليوم مع المسلمين البوسنة والصرب النصارى. وحين نصدق مع ربنا، ونتمثل إسلامنا فلن يضرنا كيد الكائدين {إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدًا} (¬1) ولن يستطيعوا إطفاء نور الإسلام {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون} (¬2). والله غالب على أمره. ¬

(¬1) سورة الطارق، الآية: 15 - 17. (¬2) سورة الصف، الآية: 8.

المرض الوافد

المرض الوافد (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره إخوة الإيمان ويقول الله وهو أصدق القائلين: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} ويقول {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}. وفي صحيح السنة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ... » (¬2). وفي الحديث الآخر: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» في مأثور الحكم قيل: دع القلق وابدأ الحياة. وبين هدي القرآن وتوجيهات السنة واستثمار مأثور الحكم سيكون الحديثُ عن موضوع من الأهمية بمكان، يُفترض أن بيئته التي ينمو فيها غيرُ بلاد المسلمين، ولا شك أن المصابين به من غير المسلمين أكثر، فإذا سرت عدواه إلى بلاد المسلمين، أو بدأت نذر خطره تهدد بعض المسلمين كان ذلك داعيًا للحديث عنه وتحذير الناس منه .. إنه المرض الوافد، القلق المؤذي، أو ما يسمى بالمرض النفسي داءٌ من أدواء هذا العصر، خفيُ العلة، ليس بالضرورة أن يكون الفقراءُ والمعوزون هم المرضى، وليس يسلم أصحابُ الثرى وأهلُ النعمةِ من الإصابة به، وتتجاوز عدواه الرجال إلى النساء، يمكن توصيف المرض بأنه ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 23/ 7/ 1416 هـ. (¬2) رواه مسلم (جامع الأصول 10/ 120).

تراكمُ هموم خيالية لا مبرر لها، وأسوأهُ ما قطع عن الجمع والجماعات، وأفضى إلى ترك الواجبات وفعل الحرمات وتوارد أحزانٍ وخواطر لا حقيقة لوجودها، هو ذبولٌ عن الحياة وانقطاعٌ عن الأحياء لا مسوغ له، هو ضعف بعد القوة، وعزلةٌ بعد الصحبة، وشكوك مستحكمة، وخوف وقلق وبغضاء وأثرةٌ، وعجز عن الملائمة في حياته مع الآخرين، ويبلغ بالمرضُ ذروتَه حين يصاب صاحبهُ بالوسوسة، أو يغلب الشكُّ على المريض أفعلَ الشيءَ أم لم يفعلْه، وربما استدرج الشيطان بالإنسان فزين له فراق الأهل والأحبة، وتعد به عن العَمل أو الفصلِ من الوظيفة، أو الانقطاع عن الدراسة، أو حرم الشاب عن استثمارِ طاقته، ولم يستفد من شبابه أو عمره. إخوة الإسلام ولا شك أن هذا المرضَ ينتشرُ كلما جارت الحياةُ الماديةُ على حساب القيم المعنوية، ويتَفاقمُ كلما غابت عن الوجود شريعةُ السماء بهداها وعدلِها، واستحكمت قوانين البشر. بجورها وظلمها وشقوتها، وها كم شهادة مجربٍ خبير درس المرض وألف فيه، وكان كتابه «دع القلق وابدأ الحياة» خلاصة تجاربه ومرئياته عن بني قومه، يقول «دايل كارنيجي» عشتُ في «نيويورك» أكثر من سبع وثلاثين سنة فلم يحدث أن طرق أحدٌ بابي ليحذرني من مرض يدعى «القلق» هذا المرض الذي سبب في الأعوام السبعة الثلاثين الماضية من الخسائر أكثر مما سببه الجدري بعشرة آلاف ضعف. نعم لم يطرق أحدٌ بابي ليحذرني أن شخصًا من كل عشرة أشخاصٍ من سكان أمريكا معرضٌ للإصابة بانهيار عصبي مرجعُه في أغلبِ الأحوال إلى القلق ... ثم يقول: كارنيجي: ويقرر الأطباءُ أن واحدًا من كل عشرين أمريكيًا سوف يقضي جانبًا من حياته في مصح للأمراض العقلية، ومن الحقائق المريرة أن واحدًا من كل

ستة شبابٍ تقدموا للالتحاق بالخدمة العسكرية في خلال الحرب العالمية الأخيرة رد على أعقابه لأنه يعاني مرضًا جسميًا أو نقصًا عقليًا (¬1). هذه معاشر المسلمين صيحةُ محزنةٌ قديمة، ووراء الإحصاءات الحديثة أدهى وأمر. وإذا كانت تلك البيئاتُ الفاسدةُ موطن هذا المرضِ وأمثالهِ، فلا يعني براءةَ بلاد المسلمين منه، ولا عصمةَ المنتسبين للإسلام من آثاره. وإذا كان الله قد حكم على هذه الدار بالفناء، وكتب على ابن آدم حظه فيها من الكبد والنكد والشقاوة أو السعادة، فذلك يعني أن نصوص الشريعة جاءت على ذكر الهم والحزن وما يتبعهما من غم وقلق، وضيق وغضب وتعرض للسراء والضراء، لكن ميزة هذه النصوص أنها موجهةٌ وهادفة. فالخوف أساسًا ينبغي أن يكون من الله، والخشية الحقيقية من عذابه وعقابه {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}. {والذين هم من عذاب ربهم مشفقون} (¬2) والغضب يتبعه الرضا والمغفرة {وإذا ما غضبوا هم يغفرون} (¬3) ولا داعي للقلقِ والتحسر على ما مضى، أو زيادة الفرح على ما أوتي وأعطي {ولكيلا لا تألسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} والصبر حين تحل الضراء والشكر حين تكون السراء، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن كما صح الخبر، والهموم ينبغي أن تقصر ولا تشعب، وفي الحديث «من جعل الهم همًا واحدًا، هم المعاد كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك» (¬4) والدعاء سبب لإزالة الهم والقلق، وقد أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار في المسجد قد ركبته الديونُ ¬

(¬1) انظر: جدد حياتك. محمد الغزالي 37، 38. (¬2) سورة المعارج، الآية: 27. (¬3) سورة الشورى، الآية: 37. (¬4) رواه ابن ماجه بسند حسن (صحيح الجامع الصغير 5/ 279).

ولزمته الهموم فأرشده أن يقول إذا أصبح وإذا أمسى: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال». قال أبو أمامة رضي الله عنه: ففعلت ذلك فأذهب الله همي وقضى ديني، وبالجملة فأهل الإيمان لا مكان لهذا المرض عندهم {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (¬1). أيها المؤمنون تكاد تنحصر دواعي القلبي وكثرة الهموم والأحزان في التحسر على ماضٍ عمله الإنسان وهو عليه نادم، أو إشغال الفكر بمستقبل لا يدري ما الله صانع فيه. وهو منه متخوف وجل، أو مواجهة لواقع نازل لا يدري كيف الخلاص منه (¬2). أما القلق من المستقبل فقد قيل: إن من أخطاء الإنسان أن ينوء في حاضره بأعباء مستقبله، واستعجال الضوائق التي لم يحن موعدها ولا يدري ما في غيب الله منها. حمق كبير، وإفساد الحاضر السعيد بشؤون المستقبل المتقوقع خطأ صرف، وإساءة الظن وتشاؤم مبكر لا يليق بالمسلم الذي علمه الإسلام حسن الفأل وتوقع الخير، والرضاء بالقضاء والقدر وأما التحسر على الماضي الفاشل، والبكاء المجهد على ما وقع فيه من آلام وهزائم فذلك التحسر السلبي الذي يزيد الألم ألمًا وينكأ الجرح الذي أوشك على الشفاء، ويجر النفس إلى الوراء كلما رامت التقدم إلى الأمام ذاك في نظر العقلاء. وهو في نظر الشرع تسخط على أقدار الله الواقعة لا ينبغي للمؤمن أن يقع فريسة له، ولا أن يثلم عقيدته بكثرة الأسى لفوات مرغوب أو عدم الحصول على ¬

(¬1) سورة الرعد، الآية: 28. (¬2) الغزالي: جدد حياتك: ص 23، 24.

محبوب قد يكون الخير في منعه وهو لا يدري ... وقد يكون خيرًا له وهو يظن شرًا ووبالاً عليه إنها حسرات القلب دونما فائدة ... وأقدار الله جارية لا محالة كذلك وجه المسلمون وأربوا، وعوتب غيرهم وبالحسرة أخذوا {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزىً لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير} (¬1). أما النوازل الواقعة والشدائد الداهمة، فالعقلاء هم الذين يثبتون لها. والمؤمنون هم الذين يعتقدون أنها بإذن أدبه فيصبرون عليها، أما الضعفاءُ أما قليلو الإيمان فربما هدم الروح أفئدتهم، وربما رمت بهم العواصف الهائجة في مكان سحيق، والإسلام يرشد أن الصبر عند الصدمة الأولى. والحكماء يوصون بالتجلد للمصائب، والشجاعة في المواقف، ويقول الشاعر أقول لها وقد طارت شعاعًا ... من الأبطال ويحك لن تُراعي فإنك لو طلبت بقاء يومٍ ... على الأجل الذي لك لن تطاعي ويقول الآخر: وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهرِ لا أتضعضع إخوة الإيمان: وهناك فرق بين الاهتمام بالمستقبل والاعتمام به، وبين الاستعداد له والاستغراق فيه، وبين التيقظ في استثمار اليوم الحاضر وبين التوجس المربك المحير، مما قد يفد به الغد، والتوسط في ذلك بدأ تستقبل الدنيا برضى ويقين وشجاعة، يصور ذلك أبو الحسن علي رضي الله عنه حين يقول: أي يومي من الموت أفر ... يوم لا يقدر أو يوم قدر ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 156.

يوم لا تقدر لا أحذره ... ومن المقدور لا ينجي الحذر (¬1) أيها المسلمون وطالما أهم بعض الناس معاشه في هذه الدار، وربما كان شبحُ الفقر همًّا ملازمًا أورث صاحبه الفقر وإن كان غنيًا، وأضحت حياتهُ نكدًا وإن كان مثلهُ سعيدًا، وقد قيل: والناس من خوف الفقر في فقر ومن خوف الذل في ذل (¬2). أين الثقة بالله، وأين التوكلُ عليه، {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} (¬3). أما الموت فهو شبح مخيف ودافعٌ للقلق عند قوم، ولئن صح ذلك عند غير المسلمين الذين يظنون الحياة الدنيا مبدأهم ومنتهاهم، والمحطة الأولى والأخيرة لملذاتهم وشهواتهم ... فليس الأمر كذلك بالنسبة للمسلمين. فالموت لا يخيف، والحياة بعده لمن وفقه الله أسعد وأكرم، وأطول وأنعم. إن الموت في حس المسلم مرحلة لحياةٍ أخرى تعد حيائنا هذه لهوًا وعبثًا إلى جانبها، ولذلك يعبر القرآن عنها بلفظ أكبر في مبناه وأوسع في معناه فيقول {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون} (¬4). فلا معنى ولا داعي لقلق المسلم من الموت لذاته، والخوف مما بعد الموت لا يقود للهم السلبي والقلق المؤذي والمرض النفسي، بل يقود النفس إلى عمل الصالحات بانشراح صدر، ويقودها إلى توقي السيئات بوعي وتعقل. ¬

(¬1) جدد حياتك: 26، 75. (¬2) جدد حياتك، الغزالي ص 30. (¬3) سورة هود، الآية: 6. (¬4) سورة العنكبوت، الآية: 64.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون، والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} (¬1). نفعني الله وإياكم. ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآيات: 57 - 61.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله وفق من شاء لطاعته وشرحَ صَدره لهداه، فاستقرت نفسه وقوي قلبه، ولم يجد الشيطان عليه سبيلاً، وأضل من شاء فجعل صَدره ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء، وتناوشته الهموم وتحاوشته الشياطين، وكذلك يجعل الله الرجس على الذين ما يؤمنون. وأشهد أن لا إله إلا الله بذكره تطمئن القلوب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قدوة المهتدين وإمام المتقين- اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. أيها المسلمون سواءً كانت دواعي القلق تحسرًا على أمر مضى لم يدرك الإنسان بغيته منه، أو تخوفًا من مستقبل يوحي إليه الشيطان بمفاجآته الصعبة عليه، أو عجزًا عن مواجهة وتحدي الواقع الذي يعيشه في ظنه، أو هي نتيجة مجموعة من التخوفات الوهمية لا حقيقة لها- وكان المرض النفسي خلاصًا من مشكلة ظن المريض خطأً أنه يتخلص بها، أو كان نتيجة ترادف مشكلات استسلم الفرد لها، أو بسبب سوء معاملة من قريب أو بعيد جارت على المريض فغيرت مزاجه وتعكر صفو حياته، أو كان المرض لأي أسباب أخرى ... فثمة أنواع من العلاج يشفي الله بها من كل داء، وأول الأدوية الناجعة للعلاج الإيمان بالله {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} فمن يملأ الإيمان قلبه تفر شياطين الإنس والجن من حوله، وذكر الله على كل حال كفيلٌ بشرح الصدر وطمأنينة القلب {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}. والإيمان بالقضاء والقدر وما يقذفه في القلب المرء من الرضا والتسليم دواءٌ ناجح بإذن الله فصاحبه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن

ليصيبه {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير} (¬1). والإيمان الحق بأسماء الله وصفاته يورث الطمأنينة ويذهب القلق، فالمالك مثلاً مقتضاه أنه هو المتصرف في مماليكه كيف شاء، «والحكيم» مقتضاه أن له الحكمة التامة في كل ما يصنع، و «الرحيم» تقضي بأنه لا أرحم بعباده منه، وهكذا بقية الأسماء والصفات الإلهية لو تأملها المرضى لكان عونًا لهم بإذن الله على الشفا- والعمل الصالح سبب للحياة الطيبة السعيدة {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزيهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (¬2) وعكسه التردي في الموبقات فهو سبب للمعيشة الضنك والقلق الحاد {ومن أعرض عند ذكرى فإن له معيشة ضنكًا ... } (¬3). وخذوا على سبيل أثر الصلاة في تهذيب النفوس وطهارتها وصلتها بخالقها، وقد أوحى الله إلى عبده فيما أوحى {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} (¬4) وقال تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} (¬5) كان عليه الصلاة والسلام إذا جزيه أمر فزع إلى الصلاة. ويقول الغزالي: إن الركض في ميادين الحياة بقدر ما يُجلل البدن بالغبار والعرق، يجلل الروح بالغيوم والأكدار، والمرء إثر كل شوط طويل يحتاج إلى ¬

(¬1) سورة الحديد، الآية: 22. (¬2) سورة النحل، الآية: 97. (¬3) سورة طه، الآية: 124. (¬4) سورة هود، الآية: 14. (¬5) سورة الإسراء، الآية: 79.

ساعة يلم فيها شعثه، ويعيد النظام والنظافة إلى ما تعكر وانتكث من شأنه كله، وليست الصلاة إلا لحظات لاسترجاع هذا الكمال المفقود أو المنشود (¬1). بل لم يعد الاعتراف بقيمة الصلاة في تجاوز المشكلات قصرًا على المسلمين، وهذا الدكتور إلكسيس كاريل يقول في كتابه: الإنسان ذلك المجهول: «لعل الصلاة هي أعظم طاقة مولدةٍ للنشاط غرفت إلى يومنا هذا-، وقد رأيت بوصفي طبيبًا كثيرًا من المرضى فشلت العقاقير الطبية في علاجهم، فلما رفع الطب يديه عجزًا وتسليمًا تدخلت الصلاة فأبرأتهم من عللهم (¬2). ولئن كنا معاشر المسلمين نشعر محتاجين لمثل هذه العقول من الآخرين ففي كتاب ربنا وسنة نبينا غنيةٌ، فتلك مزيد لفتةٍ لأولئك الذين يتخلون عن الصلوات المكتوبة مع توفر الصحة في أجسامهم ورغد العيش في حياتهم. ثم تراهم بعد ذلك يشكون من قلق في حياتهم واضطراب في نفسياتهم، ولو عادوا إلى ربهم لعافاهم، ولو طلبوا الشفاء منه بمرضاته لأجابهم {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم}. إخوة الإسلام ويشكل الفراغ عاملاً مؤثرًا في المرضى النفسانيين، ويقول أحدُ الأطباء النفسانيين (إن ثلث مرضاي لا يشكون من أمراض نفسية معلومة واضحة بقدر ما يشكون من ألم الفراغ في حياتهم، ذلك الذي يُبعد البهجة والسعادة منها) (¬3). وإذا ساغ وجود فراغ عند أصحاب الملل والنحل الأخرى فلا يسوغ وجود فراغ عند مسلم يعلم ويعمل بقوله تعالى {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم ¬

(¬1) جدد حياتك صلى الله عليه وعلى آله وسلم 198. (¬2) عن جدد حياتك صلى الله عليه وعلى آله وسلم 199. (¬3) دع القلق وابدأ الحياة، كارنجي ص 157.

إلينا لا ترجعون} (¬1)، أو يفقه المصطفى صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ» (¬2). وكما يملأ الفراغ بطاعة الله، يملأ بالسعي في أرض الله بحثًا عن الرزق أو في طلب علم أو نحو ذلك مما ينفع المرء في دينه ودنياه، يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إني لأرى الرجل فيعجبني، فإذا سألت عنه فقيل: لا حرفة له سقط من عيني (¬3). ومما يدفع القلق عن النفس عدمُ التطلع إلى ما عند الآخرين والرضا والقناعة بما قدر الله له، ومصيبة أن ينسى الإنسان ما أعطاه الله ويقلل التفكير فيما لديه، ويظل يرقب ويحصى ما عند الآخرين، ويكثر التفكير فيما ينقصه. ومن الجهل والحمق بل ومن بواعث المرض أن يتقمص المرء شخصيات الآخرين، ويتطلع إلى كل موهبة وهبها غيره، بل ربما حسدهم عليها وقد قيل إن التشبه بالغير انتحارٌ للشخصية ذاتها، وعلى المرء أن يتقبل نفسه على علاتها- ويحاول تقويم نفسه على منهج الله - وأن يرضى بما قسم له، وأن لديه قوةً ومواهب لم تمنح لغيره (¬4). ومن الوصايا لثبات النفس ومقاومة القلق أن يثبت الإنسان أمام النقد، فمن ذا الذي ترضى سجاياه ... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه وألا يعول الإنسان كثيرًا على الثناء العاجل على المعروف في يسدى أو على النعمة تهدى، وكلم أن الحجور فطرةٌ، وأن مقابلة الإحسان بالإساءة شائع في الخليقة. وفي الأثر: اتق شر من أحسنت إليه. وفي التنزيل: {إن الإنسان لربه لكنود} (¬5) قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي كفور ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآية: 115. (¬2) رواه البخاري وغيره (صحيح الجامع 6/ 32). (¬3) الغزالي: جدد حيالك 67. (¬4) سورة العاديات، الآية: 6. (¬5) تفسير القرطبي 20/ 160.

جحود لنعم الله (تفسير القرطبي 20/ 160) وما أجمل مقولة الإمام الشافعي الذي ملأ الدنيا علمًا ثم هو يقول بإخلاصٍ وتجرد: «وددت لو نشر هذا العلم دون أن يعرف صاحبه» (¬1). عباد الله النظر في أمور الدنيا إلى من هو أسفل من الإنسان يطأ من كبريائه ويعرفه بمزيد نعمة الله، ويذهب عنه الوساوس والأحزان، ويطرد القلق وتلاعب الشيطان، قال عليه الصلاة والسلام «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» وحسن الظن بالناس والاشتغال بالشكر والذكر، والاعتدال في النظرة إلى الحياة وإفساحُ مجال الأمل وانتظار الفرج، والاشتغال بنفع الناس والإحسان إليهم، وجمعُ الفكر على الاهتمام بالباقية دون الفانية، وملازمة الاستغفار والتوبة، واستشعار غنى النفس واستحضار الأدعية الشرعية، وعدم السماح للنفس بالثورة لأتفه الأسباب ... كل هذه مع ما سبق أدوية دافعة للقلق بإذن الله، وعلاج شافٍ لتوتر النفسِ بحول الله ... عافاني الله وإياكم والمسلمين من كل شر ومكروه- ووفقنا لانشراح الصدور في الدنيا، وراحة القلب في الآخرة- هذا وصلوا. ¬

(¬1) الغزالي: جدد حياتك/ 133.

فرض الحج ومنافعه

فرض الحج ومنافعه (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. إخوة الإسلام، في هذه الأيام تتوق نفوس المؤمنين إلى زيارة البلد الحرام، وتتطلع الأفئدة لأداء مناسك الحج أحد فرائض الإسلام .. وهناك من يقدر له ذلك ويشاء الله أن يبلغه إتمام المناسك وقضاء النسك، وهناك آخرون تقعد بهم الحاجة، أو تنعدم لديهم الوسيلة، أو يشغلهم ما هم فيه من فتن ومحن عن مجرد التفكير في الحج، فضلاً عن الاستعداد له أو بلوغه. وعلى الذين يعيشون حالة الأمن والرخاء أن يشكروا الله على هذه النعمة وأن يستثمروا أعمارهم وصحتهم في المسارعة للخيرات، وعدم التسويف في عمل الصالحات وعليهم أن يشاركوا إخوانهم محنتهم بالدعاء والدعم والمساندة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وفي مواطن الحج ومواقفه فرصة للدعاء، وهي حرية بالإجابة والقبول، فلا تحرموا أنفسكم وإخوانكم المسلمين من الدعاء فهو سلاح نافذ، وهو طريق لتفريج الكربات بإذن الله. أيها المسلمون لقد أنزل الله فيما أنزل في كتابه الكريم على رسوله الأمين قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} (¬2). ¬

(¬1) ألقيت هده الخطبة يوم الجمعة الموافق، 30/ 11/ 1413 هـ. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 97.

قال أهل التفسير: هذه آية وجوب الحج عند الجمهور. وقيل: بل هي قوله تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله} والقول الأول أظهر (¬1). وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعًا ضروريًا وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع. وقد روى الإمام أحمد في مسنده، والإمام مسلم في صحيحه بسندهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس: قد فرض عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم. ثم قال: ذروني ما تركتم، فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» (¬2). وقد اختلفت عبارات السلف في المقصود بمعنى قوله تعالى {من استطاع إليه سبيلاً} ويجمعها: الزاد، والراحلة، والصحة، ويؤكدها قول الرسول صلى الله عليه وسلم وقد سئل: من الحاج يا رسول الله؟ قال: «الشعث التفل»، فقام آخر فقال: أي الحج أفضل يا رسول الله؟ قال: «العجَ والثجّ»، فقام آخر (وهنا موضع الشاهد) فقال: ما السبيل يا رسول الله؟ قال: الزاد والراحلة (¬3). والمقصود بالشعث التفل: الذي لم يحلق رأسه، وقد اغبر من عدم الغسل، وتفرق من عدم المشط: أي تارك الزينة، والتفل الذي ترك استعمال الطيب. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 2/ 67. (¬2) مسند أحمد 2/ 508، ومسلم كتاب الحج 4/ 102، تفسير ابن كثير 2/ 67. (¬3) الحديث رواه الترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم وغيرهم بإسناد حسن، مشكاة المصابيح 2/ 776، انظر كلام ابن كثير في تصحيحه 2/ 68 التفسير.

أما العجّ فالمقصود به: رفع الصوت بالتلبية، والثجّ سيلان دم الهدي والأضاحي (المصادر السابقة). إخوة الإسلام ويا من قدرتم على الحج وتيسرت لكم سبله ولم تحجوا بعد، الله الله بالمبادرة تأدية لفرض الله، وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو يحثكم على الاستعجال في ذلك ويقول: «تعجلوا إلى الحج- يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له» (¬1). وفي الحديث الآخر يؤكد صلى الله عليه وسلم على الاستعجال في أداء الفريضة، ويبين العوارض التي قد تصد الإنسان، فيقول صلى الله عليه وسلم: «من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة وتعرض الحاجة» (¬2). واحذر- أخي المسلم- من التفريط في أداء الواجبات بشكل عام، وتأمل عقوبة من أطاق الحج فلم يحج- بشكل خاص- يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه يهوديًا مات أو نصرانيًا قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إلى عمر (¬3)، وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة- أي مالاً وقادرًا على الحج- فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين» (¬4). أيها المسلمون .. وفضلاً عن كون الحج أحد أركان الإسلام التي لا قيام له بدونه، وقد قال الله تعالى في نهاية آية الحج السابقة {ومن كفر فإن الله غني عن ¬

(¬1) الحديث رواه أحمد بسند حسن، صحيح الجامع 3/ 43، تفسير ابن كثير 2/ 69. (¬2) الحديث رواه أحمد وابن ماجه بسند حسن، صحيح الجامع 5/ 237. (¬3) تفسير ابن كثير 2/ 70. (¬4) تفسير ابن كثير 2/ 70، سورة آل عمران، الآية: 97.

العاملين} قال ابن عباس وغيره رضي الله عنهما في تأويلها: أي ومن جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه (¬1). فضلاً عن وجوبه وعظم جريرة من جحده وأنكره .. فإن للحج سواء كان فريضة أو نفلاً منافع جمة، وفضائل كثيرة، جمعها الله تعالى في قوله {وليشهدوا منافع لهم} وجاء بيانها في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم. فمن منافع الحج وثماره: أنه وسيلة لمغفرة الذنوب، وهل يوجد شخص خلوًا من الذنوب والمعاصي. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» (¬2). ويروى عن أبي هريرة أنه قال: «حجة مبرورة تكفر خطايا سنة» (¬3). وقد ثبت أن الحج يهدم ما قبله من الذنوب، كما ورد في قصة إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبسط يمينك لأبايعك، فبسط الرسول صلى الله عليه وسلم يده، فقبضها عمرو، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: مالك يا عمرو؟ قال: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قال: أن يغفر لي، قال: «أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله» (¬4) ويا له من فضل عظيم لمن وفقه الله. ومن منافع الحج أن المتابعة فيه والاستمرار على العمرة معه سببان مانعان ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 2/ 69. (¬2) الحديث رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة، صحيح الجامع 5/ 281 قال الحافظ ابن حجر: أي بغير ذنب، وظاهره غفران لصغار والكبائر والتبعات، وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس المصرح بذلك (الفتح 3/ 382، 383). (¬3) رواه ابن حبان، المتجر الرابح ص 286. (¬4) رواه ابن خزيمة، وهر مسلم أطول من هذا، المتجر الرابح ص 285.

بإذن الله دون الفقر والذنوب، يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة» (¬1). والحج المبرور طريق إلى الجنة .. وهي مبتغى كل مسلم- وقد قاله صلى الله عليه وسلم «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» (¬2). وفي الحديث الآخر «وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة» (¬3) «والحجاج والعمار وفد الله دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم» (¬4). وفي لفظ: «الحجاج والعمار وفد الله إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم» (¬5). ومن منافع الحج أنه جهاد لكل ضعيف، وفي الحديث أتقول الرسول عملي الله عليه وسلم: «الحج جهاد كل ضعيف» (¬6). هذا فضلاً عن كونه يعفي النساء عن الجهاد، ففي الحديث المتفق على صحته تقول عائشة رضي الله عنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقالت: «جهادكن الحج» (¬7). وفي الحديث الآخر: قالت عائشة رضي الله عنها: قلت يا رسول الله على النساء جهاد؟ قال: «نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة» (¬8). ¬

(¬1) رواه الترمذي والنسائي بإسناد حسن، مشكاة المصابيح 2/ 775. (¬2) رواه أحمد وغيره بإسناد حسن، صحيح الجامع 3/ 97. (¬3) تكملة السابق. (¬4) حديث صحيح رواه البزار بسند حسن، صحيح الجامع 3/. (¬5) رواه ابن ماجه والمشكاة 2/ 877. (¬6) رواه ابن ماجه بسند حسن، صحيح الجامع 3/ 97. (¬7) مشكاة المصابيح 2/ 773. (¬8) رواه ابن ماجه بسند صحيح، المشكاة 2/ 777.

والحج معاشر المسلمين- وسيلة بر للأرحام والأقربين، فحن حج عن أبيه أو عن أمه أو عن أحد أقاربه فهو من البر الذي تصدق لهم، لكن لابد أن يكون قد أدى الفريضة عن نفسه، ففي الحديث الصحيح عن أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، قال: «حج عن أبيك واعتمر» (¬1). ويا لها من فرصة يبر فيها الأحياء للأموات أو لمن لا يستطيعون الحج وإن كانوا أحياء، وخاصة إذا كانت فريضة الإسلام، فانفعوا أنفسكم معاشر المسلمين، وبروا غيركم، واستبقوا الخيرات، وبادروا بالطاعات، واعلموا أن ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا، واستغفر الله إن الله غفور رحيم. ¬

(¬1) الحديث رواه الترمذي، وأبو داود والنسائي، وقال الترمذي حسن صحيح، صحيح الجامع 3/ 88، المشكاة 2/ 776.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين يستحق الحمد والثناء، أشكره تعالى على نعمه وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله. إخوة الإسلام لا تقف منافع الحج وآثاره عند هذا الحد، إذ أن الحج معبر وسبب لكثير من العبادات، ففيه ذكر الله دائمًا وأبدًا {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم} {واذكروا الله في أيام معدودات .. } وفيه الاستغفار {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله}. وفيه يلهج الحجيج بالتهليل والتكبير، كلما طافوا أو سعوا، وكلما رموا الجمار أو ذبحوا، بل وكلما أقاموا في مكان أو ارتحلوا، أو هبطوا ثنية أو صعدوا. ويكفي الحجيج أن يتلبسوا بالتوحيد، ويجعلوه شعارهم، وألسنتهم تردد «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» ويا لها من كلمات عظمى لو عقلها والتزم بها المسلمون في حلهم وإحرامهم، وفي كل لحظة من لحظات حياتهم. والحج فرصة لنحر الهدي والتقرب إلى الله بسفك الدماء، قال الله تعالى {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} قال مجاهد- رحمه الله- يريد استعظام البدن واستسمانها (¬1). والحج فرصة كذلك لإطعام الطعام وإفشاء السلام وطيب الكلام. وقد جاء ¬

(¬1) المتجر الرابح صلى الله عليه وعلى آله وسلم 315.

في الحديث: «الحج المرور ليس له جزاءه إلا الجنة»، قيل: وما بره؟ قال: «إطعام الطعام، وطيب الكلام» (¬1). فأنت مدعو أخي الحاج لإطعام الطعام وإفشاء السلام على من عرفت ومن لم تعرف، والكلمة الطيبة تشيع المحبة بين المسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة للخير، كل ذلك من سمات المسلمين في كل زمان ومكان، ولاسيما في هذه الأزمان والأماكن الفاضلة، وحيث يجتمع المسلمون من كل حدب وصوب. وأنت مدعو أخي الحاج لحفظ لسانك وسمعك وبصرك، وجميع جوارحك عن الحرام في كل منزل من منازل الحج، ولاسيما في المواطن التي ينبغي الاشتغال فيها بذكر الله كيوم عرفة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان فلان ردف النبي صلى الله عليه وسلم (وفي رواية كان الفضل بن عباس) يوم عرفة، فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي أخي إن هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له» (¬2). فهل يقدر المسلمون عامة والحجاج خاصة هذا اليوم حق قدره، فيشتغلوا بذكر الله ودعائه، أم تراهم يجتمعون للأحاديث العابرة، والحكايات النادرة التي تستجيب لها النفوس .. وكان يومًا كسائر الأيام؟ ! والحج وسيلة للكسب الحلال لمن هو محتاج إلى ذلك، قال الله تعالى {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} (¬3). ¬

(¬1) رواه أحمد والطبراني بإسناد حسن، وابن خزيمة والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وفي رواية لأحمد قال: «إطعام الطعام، وإفشاء السلام، المتجر الرابح / 287. (¬2) رواه أحمد إسناد صحيح، وابن خزيمة، المتجر الرابح ص 313. (¬3) سورة البقرة، الآية: 198.

روى البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواق الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في الموسم فنزلت هذه الآية. وروى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال: كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج، يقولون: أيام ذكر. فأنزل الله: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} (¬1). وبالجملة فالحج معدود في فضائل الأعمال بعد الإيمان والجهاد، ففي الحديث المتفق على صحته «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور» (¬2). حجاج بيت الله الحرام أوصيكم ونفسي بتقوى الله ومراقبته فيما تعملون أو تدعون، وأنصحكم ونفسي بالإخلاص لله في العمل، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو القائل: «خذه عني مناسككم» وليس يسوغ لك أخي الحاج أن تذهب إلى المشاعر وأنت لا تدري ما تصنع وترى أنه يكفيك أن تذهب مع الناس حيث ذهبوا، وتتحرك معهم حيث تحركوا، بل عليك أن تعرف أحكام الحج، وأركانه وواجباته وسننه، فإن كنت قارئًا فاقرأ مناسك الحج لأصحاب الفضيلة العلماء، وإن كنت لا تستطيع القراءة فاستمع إلى هذه الأحكام مسجلة على أشرطة الكاسيت، وهي منتشرة والحمد لله. وإن لم يتيسر لك هذا ولا ذاك فاسأل عن الأحكام الهامة وصفة الحج والعمرة قبل السفر، فليس يسوغ لك الجهل في هذا الزمان .. ولا تعذر ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 1/ 349. (¬2) رواه البخاري ومسلم، المتحجر الرابح/ 284، الفتح 3/ 381.

بالتقصير بكل حال- حتى عند الشاعر يتوفر علماء ودعاة يستقبلون السائلين ويوجهون الغرباء، واحرص على الرفقة الصالحة فهم خير معين لك على معرفة ما تجهل، أو تذكيرك حين تغفل، وسأتعرض في الخطبة القادمة إن شاء الله لبعض أحكام الحج التي تدعو الحاجة لبيانها، وبعض الأخطاء التي يقع فيها بعض الحجاج، هدانا الله وإياهم للحق وثبتنا عليه، ورزقنا البصيرة في ديننا والفقه في عبادتنا. أيها المسلمون من غير الحجاج أمامكم فرصة هذه الأيام لا تعوض ألا وهي عشر ذي الحجة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم بشأنها «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء» (¬1). فاجتهدوا بكل طاعة من صيام وصدقة وذكر وصلاة ونحوها .. واعلموا أن على من أراد الأضحية منكم ألا يأخذ من شعره ولا ظفره شيء حتى يضحي. ¬

(¬1) رواه البخاري وغيره.

الجزء الثاني

شعاع من المحراب الجزء الثاني إعداد د. سليمان بن حمد العودة

مقدمة الجزء الثاني

مقدمة الجزء الثاني الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأساله المزيد من فضله، وأصلي وأسلم على خير خلقه، وسائر أنبياء الله ورسله، ورضي الله عن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فإن سروري عظيم لنفاد طبعة الجزء الأول من مجموعة الخطب التي سميتها (شعاع من المحراب)، وكان ذلك مشجعًا لتقديم هذه المجموعة الثانية من الخطب حاملة العنوان نفسه (شعاع من المحراب). وأسال الله تعالى ألا يحرم الأجر من كتبها، أو قرأها أو قسم ماله أو جهده في سبيل إخراجها. وأعتذر للقارئ الكريم عن الأخطاء التي وقعت في الجزء الأول، أو ما سمع في هذا الجزء- وأرجو أن تكون أقل- فهي خارجة عن الإرادة أحيانًا، وفطنة القارئ المثقف كفيلة بتصحيحها. ومع تأكيدي في مقدمة الجزء الأول على أهمية إثبات المصادر والمراجع التي يرجع إليها في كتابة الخطبة، وتأكيدي عليه مجددًا في هذا الجزء لأهميته، فإنني أعتذر سلفًا ولاحقًا عن القصور- أحيانًا- في تطبيق ذلك بكل دقة، وقد يشفع لي في ذلك أن الخطبة ليست بحثًا علميًا تحتاج إلى ما يحتاج إليه البحث من دقة في عزو المصادر وإثباتها من جهة، ومن جهة أخرى فقد لا يتوفر لي حال كتابة الخطبة المصدر الأصلي فأحيل إلى من نقل عنه- مراعاة لظروف الزمان ومثل ذلك يقال في تخريج الأحاديث وإرجاعها إلى أصولها.

وحسبي أن يجد المطلع على الخطب إثباتًا للمصدر الأصلي أو لمصدر أو مرجع يصله بالأصل إن احتاج إلى ذلك. والذي أحاذره أن تبقى النصوص أو النقود دون بيان. وقد رأيت أن أقدم بين يدي هذه المجموعة الثانية أو الثالثة من الخطب ببعض القضايا المتعلقة بالخطبة أو الخطيب. أسال الله أن يتقبل منا أعمالنا، ويتجاوز عن أخطائنا وتقصيرنا، وشكري عظيم لكل من قدم لي نصحًا أو مشورة، فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه.

بين يدي الخطيب

بين يدي الخطيب إن مما يسر المسلم ويعين الخطيب في أداء مهمته توفر مجموعة من الخطب - لعدد من الخطباء- مطبوعة متداولة. وثمة ظاهرة طيبة جديرة بالعناية والتقدير، ألا وهي تصدير بعض الخطباء كتبهم (الخاصة بالخطب) بمجموعة من الفوائد والتنبيهات التي يحتاجها الخطباء. ومع ذلك فلا تزال الحاجة قائمة لعدد من التنبيهات والقضايا التي يحتاج إليها الخطباء، ولعل شخصية الخطيب والعوامل المساعدة له على الارتقاء بمستوى خطبته، ودواعي القبول وأسباب الضعف، واختيار موضوع الخطبة، وعناصر التأثير والتشويق فيها، ونحو ذلك من أمور لا تزال بحاجة لمزيد من التحرير والتنوير. وكم هو مفيد أن يتفضل عدد من الخطباء الموهوبين بالكتابة في هذا الميدان الرحيب، وحسبهم أن يسجلوا خواطرهم ومرئياتها، وأن ينقلوا ويدونوا من رصيد تجاربهم ما ينفع الله به غيرهم. ووزارة الشؤون الإسلامية- وهي صاحبة الاختصاص والسبق- تشكر كذلك حين تسهم بشكل أكبر في هذا الميدان، أو غيره من ميادين ينفع الله بها المتحدث والسامع. وحتى لا أتهم بالسلبية أدون رؤى ونقاطًا متواضعة، مساهمةً مني في هذا الموضوع الحيوي، وعسى أن يكون فتحًا لمبادرات ورؤى أخرى أعمق وأوسع:

[1] أهمية خطبة الجمعة

[1] أهمية خطبة الجمعة: وليس يخفى أفضلية يوم الجمعة، واختصاص هذه الأمة به، وانتظار الناس- في هذا اليوم- للخطيب، والتطلع للخطبة، ومع ذلك تبدو أهمية الخطبة لعدة أمور منها: أ- إلزام الناس شرعًا بالسكوت والاستماع للخطيب «ومن مس الحصى فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له». ب- يجتمع للخطباء قطاع عريض من الناس، فيهم الغني والفقير، والمتعلم والجاهل، والصغير والكبير، والصالح والطالح .. ومخاطبة هؤلاء كلهم فرصة لا يتوفر سماعهم وإنصاتهم في غيرها. ت- خطبة الجمعة أسبوعية، ولذا ينبغي أن يتوفر لها من الصدق والتأثير ما يقتات الناس عليه حتى مجيء الخطبة التي تليها. ث- وفوق ذلك ينازع خطبة الجمعة في التأثير على الناس منابر، ووسائل أخرى بلغت ذروتها في القنوات الفضائية ذات التأثير السيء على القيم والأخلاق والمعتقدات، وذلك يضاعف من أهمية الخطبة، ويدعو لمزيد العناية بها. ج- وعماد الخطبة: قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالخطبة توقيع عن الله، والخطيب متحدث باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك تعاظم من مسؤولية الخطيب، ويعطي للخطيب مكانة وأهمية، فلابد من اللهم لما ينقل، والتثبت لما يقال، والدقة في التعبير، حتى لا تزل الفيوم وتزل معها الأقدام! [2] هم الخطبة وقلق الخطيب: لا شك أن الخطبة هم عند من يحتسبون إفادة الناس، وتوجيههم للخير،

وتحذيرهم من الشرور والفتن، وهو بهذا الاعتبار هم محمود، ولا شك أن عددًا من الخطباء يحل بساحتهم نوع من القلق في نهاية الأسبوع بواعثه: أ- الرغبة في اختيار الموضوع للخطبة من جانب. ب- تحديد وانتقاء عناصر الموضوع المختار من جانب آخر. ت- واستكمال ذلك بالرجوع لعدد من المصادر المهمة، أو المراجع ذات العلاقة بالموضوع. ث- ثم هم الصياغة واختيار العبارات المناسبة. ج- وأخيرًا هم الإلقاء بطريقة تؤثر في جمهور المستمعين للخطبة. فتلك هموم خمسة يعيشها كثير من الخطباء، ولكن ثمة أمورًا خمسة تخفف منها، وتحيلها راحة وطمأنينة ومثوبة للخطيب وهي: أ- الإخلاص في قصد الخطيب، والرغبة في الإفادة دون طلب الثناء أو التطلع للشهرة. ب- المثوبة العاجلة التي يراها الخطيب في استجابة الناس للخير الذي دعاهم له، والبعد أو الإقلاع عن الشر الذي حذرهم منه: «ولئن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم». ت- وما ينتظر المثوبة الآجلة أعظم وأكبر حين تتطاير الصحف، وكل نفس بما كسبت رهينة، ويجازى معلمو الناس الخير على القطمير والنقير، وخير الناس أنفعهم للناس. ث- والتفكير المسبق بالخطبة يريح الخطيب، ويعين على إخراج الخطبة إخراجًا جيدًا، وتأخير ذلك إلى نهاية الأسبوع، فوق ما فيه من هدم وقلق، فهو

[3] عوامل تأثير الخطبة في السامعين

عرضة للانشغال والارتباط المفاجئ وكل ذلك يؤثر سلبيًا على الخطبة (موضوعًا، وعناصر، وإخراجًا). ج- واختيار عدة عناوين وموضوعات للخطب- سلفًا- وتحديد مظان عناصرها، ومواردها يسهم في إخراج خطب جيدة يستفاد منها مستقبلاً، ويوفر للخطيب احتياطًا مهمًا عند الحاجة، ويساعد على تنوع موضوعات خطبة في العقائد، والأحكام، والأخلاق والسير، والقضايا المعاصرة، والترغيب والترهيب ... وغير ذلك مما يجنب الخطيب التركيز على أمور أو موضوعات معينة، وإهمال أخرى قد لا تقل عنها أهمية. [3] عوامل تأثير الخطبة في السامعين: لا شك أن توفيق الخطيب ونجاحه في خطبته فضل من الله يؤتيه من يشاء، وهو أعلم وأحكم، ولكن يمكن تلمس ذلك في الأسباب الآتية: أ- الصدق في القول والإخلاص في العمل. ب- اختيار الموضوع المناسب زمانًا ومكانًا، وتوافقه مع حاجة المخاطبين. ت- شمولية العرض له واستيفاء عناصره المهمة دون إطالة مملة. ث- أسلوب الإلقاء واختيار العبارات المؤثرة، وأساليب شد الانتباه. ج- سعة ثقافة الخطيب واطلاعه المستمر على كل جديد. ح- تنوع موضوعات الخطبة (في العقائد، والأخلاق، والآداب، والسير، والأحكام، والفرائض والسنن، وأحوال المسلمين وواقع الأمم ... ). خ- استثمار النصوص والخطاب بلغة العصر، واستشعار واقع الناس ومخاطبتهم بما يعرفون.

[4] لغة الخطيب وبلاغته

د- الاستفادة من عرض النماذج العالية والقصص الصحيحة أحيانًا فهي مواد للتشويق والإثارة. ذ- عدم تيئيس الناس وتقنيطهم، ومعالجة الأخطاء برفق وحكمة، وفتح المجال للتوبة والإنابة للمسرفين، ومن هدي النبوة: بشروا ولا تنفروا، ويسيروا ولا تعسروا. ر- تفاعل الخطيب مع مادة الخطبة، ورفع صوته أحيانًا وخفضه أحيانًا أخرى. كل ذلك يشد انتباه الحاضرين للخطبة، ويدعو لتفاعلهم مع الخطيب، وقد قيل: (لا يؤثر إلا المتأثر). [4] لغة الخطيب وبلاغته: وهذه يمكن أن تكون ضمن عوامل التأثير في الخطبة، ولكني أفردتها هنا لأهميتها، وفي لغة الخطيب يمكن القول: إن أعظم وعاء تحمل به الخطبة لغة القرآن الكريم، ولا يعني ذلك مجال التقعر في الكلام، ولا اختيار الغريب من العبارات والألفاظ، قدر ما يعني سهولة العبارة وشمولها وصحتها، وصون الخطبة من العجمة واللحن، ففي المستمعين للخطبة نماذج يقطع متابعتهم للخطيب لحنه الجلي، وربما فروا عن الخطيب إذا تكاثر خطؤه وتكرر لحنه، واللغة العربية السهلة كفيلة بوصول المعاني وتأثيرها في المنصتين للخطبة، وهي مما يزين الخطيب ويرفع من شأن الخطبة. ولا ضير من تشكيل الخطيب ما يشكل عليه، ولا ضمير من سؤال أهل الاختصاص والاستفادة منهم في هذا المجال. وفي الحديث عن لغة الخطيب

[5] الخطيب وضعف الأداء وقلة المردود

وبلاغته لابد من اعتبار أن «للأذن إحساس يجب إرضاؤه، ونعومة يحذر من خدشها» (¬1). وللشعر أهميته وأثره- وإن لم يكثر منه الخطيب- فالكلام إذا حوّل نظمًا فرح به الحزين، وحرك الرزين، وقرب من الأمل البعيد (¬2). وإن من الشعر لحكمة» كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم (¬3). وبالجملة فكم يجتمع للخطباء نصوص واحدة أو متشابهة، ويختلف تأثرهم وتأثيرهم بها باختلاف قدراتهم في استثمارها وحسن صياغتها، وتلك مؤشرات للغة الخطيب وبلاغته، وإذا كان العلم بالتعلم فبإمكان الخطيب أن يزيد من ثقافته اللغوية، بمطالعة كتب اللغة عمومًا، وكتب الأدب والبلاغة على الخصوص. [5] الخطيب وضعف الأداء وقلة المردود: يملك الخطيب والداعية والواعظ هداية البيان والإرشاد للناس دون هداية التوفيق والقبول، فهذه لله وحده، وإذا أحس الخطيب أو حسس بضعف أدائه، وقلة مردوده، وانصراف الناس عنه، فعليه أن يفتش عن أسباب ذلك، ولعله أن يجدها كامنة وراء عدة أسباب ومنها: أ- غياب الإخلاص أو ضعفه، والتعلق بالشهرة والبحث عن الصيت. قال الله تعالى في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه». ¬

(¬1) الخطابة في موكب الدعوة/ محمود محمد عمارة/ 42. (¬2) جريدة القصر 1/ 202. (¬3) أخرجه البخاري وغيره.

ب- عدم تقدير ظروف الزمان، واعتبار مستوى المخاطبين، والحديث في واد والناس في واد غيره. ت- وطول الخطبة يُمل ويدعو للغفلة، وقصرها المخل يفوت الفائدة على الراغبين، وربما أوقع في لبس وحيرة، أما إذا كان قصر الخطبة غير مخل فإن من مئنة فقه الرجل قصر خطبته وطول صلاته». ث- ويشين المسلم على العموم والخطيب الداعية على الخصوص، أن يخالف قوله فعله، وأن يدعو الناس إلى خير يتكاسل عنه مع استطاعته له، أو ينهاهم عن شر هو واقع فيه، أو ينهى عن الإسبال وسماع الغناء، وحلق اللحى وهو متلبس بها! أو يحث على كريم الأخلاق مَن هو سيئُها، أو يدعو غيره للصدق والإحسان وهو كذوب بخيل شحيح؟ وهكذا .. ج- والشدة في القول والحدة في النقد- دون مبرر- سبب للنفور، ومن دواعي عدم القبول، وقد قيل: «القلوب كالقدور في الصدور تغلي بما فيها، ومغارفها ألسنتها فانتظر الرجل حتى يتكلم، فإن لسانه يغترف من قلبه، ومن بين حلو وحامض وأجاج، ينبئك عن طعم قلبه اغتراف لسانها» (¬1). فان قلت: فما أحسن شيء حين الحديث؟ أجبت بما أورده الخطيب: «أحسن شيء كلام رفيق، يستخرج من بحر عميق، على لسان رجل رقيق» (¬2) وإذا كان الغلو في المديح غير مقبول شرعًا وعقلاً، فالمغالاة في القدح والذم- فوق ما يلزم- غير مقبول كذلك، والعدل في القول هدي القرآن وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، وليس هذا موطن بسط النصوص. ¬

(¬1) عمارة، الخطابة في موكب الدعوة/ 29. (¬2) تاريخ بغداد 14/ 209.

ح- عدم الاكتراث بموضوع الخطبة إعدادًا وموضوعًا. خ- عدم المتابعة للأحداث الجارية، وما يهم الناس ويشغل تفكيرهم. د- وإذا أصيب الخطيب بأزمة ثقة بربه أو بنفسه فكيف يوصلها للآخرين؟ وفاقد الشيء لا يعطيه.

حقيقة الإيمان

حقيقة الإيمان (¬1) إن الحمد لله نحمده ونستعينه .... أيها المسلمون، والإيمان هو الحقيقة الكبرى في هذا الوجود، من أجلها خلق الحلق وبعث الأنبياء، وأنزلت الكتب: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (¬2). والإيمان هو ميدان الصراع بين الحق والباطل، أُوذِي وفُتِن من أجله المؤمنون، ولم يسلم من التهديد والمطاردة في سبيله المرسلون: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (¬3) وقال تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} (¬4) وقال: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} (¬5). والإيمان لأهميته تواصى به الأنبياء عليهم السلام: كما قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬6). ¬

(¬1) في 1417/ 3/ 29 هـ. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 25. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 1، 2، 3. (¬4) سورة إبراهيم، الآية: 13، لا ا. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 88. (¬6) سورة البقرة، الآية: 132.

وما زال محل تذكير الآباء للأبناء حتى حضور الموت: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (¬1). أيها المسلمون، والإيمان الحق هو: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر والقدر خيره وشره ... الإيمان الحق هو التصديق الجازم بعالمي الغيب والشهادة .... وإذا تساوى الناس في الإيمان بعالم الشهادة وهو ما يشاهدونه حاضرًا بأم أعينهم تفاوتوا في الإيمان بالغيب الذي غيبه الله عن أنظارهم وحواسهم في هذه الحياة، وأخبرهم عنه خبر صدق في كتبه المنزلة وبواسطة أصدق خلقه، من أخبار الأمم الماضية، وأهوال يوم القيامة، وأشراط الساعة ونحوها ... هنا يتفاوت الناس حسب إيمانهم، فمنهم من يؤمن بها كأنه يراها رأى العين، ومنهم من يجحد وينكر، وما يجحد بآيات الله إلا الظالمون، ومنهم من يبقى شاكًا مترددًا، فإن لم يرد الله به خيرًا ويهديه للإيمان عاش معذبًا في هذه الحياة، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ... نسأل الله السلامة والعصمة .. عباد الله ... والإيمان منزلة عليَّةٌ تَشْرئِبُّ لها الأعناق، والإيمان بالله ملاذٌ آمِنٌ عند الشدائد والكروب ... ولذا فليس كل من ادعى الإيمان مؤمنًا: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (¬2). بل لقد ادعاه فرعون حين أحسَّ الهلاك ففضحه الله وجعله عبرة للمعتبرين: { ... حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 133. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 14.

الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (¬1). وإذا كان الأمر كذلك فما هي حقيقة الإيمان، وما نوع الأعمال التي تبلغ بصاحبها إلى هذه المنزلة الرفيعة؟ يعرف علماء السنة والجماعة الإيمان بأنه: قولٌ باللسان، واعتقادًا بالقلب، وعملٌ بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان. ويعنون بقول اللسان: النطق بالشهادتين والإقرار بلوازمهما. أما اعتقاد القلب فهو: النية والإخلاص والمحبة والانقياد، والإقبال على الله، والتوكل عليه ولوازم ذلك وتوابعه. أما عمل الجوارح فهو: عمل الصالحات القولية والفعلية الواجبة والمسنونة، مما يتدرج تحت شعب الإيمان التي قال النبي صلى الله عليه وسلم بشأنها: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق». وبهذا المفهوم الواضح الشامل للإيمان يرد على الطوائف الضالة، التي اعتقد بعضها أن الإيمان مجرد التصديق وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، كالمرجئة، ومن سايرهم، ويرد كذلك على الذين يكفرون بالذنب يرتكبه المسلم كالخوارج ومن شايعهم، أو يغالون في الدين وينسبون إليه ما ليس منه كالروافض والباطنية على اختلاف نحلهم (¬2). إخوة الإسلام .... الإيمان الحق اعتقاد للمبدأ الحق، وثبات عليه دون تردد أو ارتياب: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (¬3). ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 90، 91، 92. (¬2) انظر: معارج القبول، الحكمي 1/ 20 - 35. (¬3) سورة الحجرات، الآية: 15.

وهو جهاد بالمال والنفس وتضحية بالغالي والنفيس قي سبيل الله: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬1). الإيمان الحق خوف من الجليل، يقود لفعل الجميل، وتوكل على العزيز الرحيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (¬2). {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (¬3). عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلةٌ هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل؟ قال: «لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا يتقبل منهم .... » (¬4). قال سفيان بن عيينة: كان العلماء فيما مضى يكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات: (من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه) (¬5). خوف المؤمنين- يا عباد الله- ليس خوفًا سلبيًا يقعد بهم عن عمل الصالحات لكنه تخوف من عدم القبول لكونهم قصروا في شروط القبول، يدفعهم إلى تحسين العمل وإتقانه، وهو خوف على أن يسلب منهم هذا الإيمان ويدفعهم إلى مزيد العناية به، واستشعار حلاوته، قال أبو الدردار رضي الله عنه: مالي لا أرى حلاوة ¬

(¬1) سورة الحجرات، الآية: 15. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 2. (¬3) سورة المؤمنون، الآية: 60. (¬4) رواه أحمد والترمذي. (¬5) الأيمان لابن تنمية، 60.

الإيمان تظهر عليكم، والذي نفسي بيده لو أن دبَّ الغابة وجد طعم الإيمان لظهر عليه حلاوته، وما خاف عبد على إيمانه إلا منحه، وما أمن عبد على إيمانه إلا سلبه (¬1). خوف المؤمنين صيانة للنفس عن النفاق الذي تبدو صورته الظاهرة حسنةً للعيان، والله أعلم بما تكن الصدور وتنطوي عليه القلوب من الكفر والعصيان، ولذا أخرج البخاري في صحيحه- تعليقًا- ووصله غيره عن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه (¬2). وقال الحسن البصري رحمه الله: والله ما أصبح على وجه الأرض ولا أمسى على وجه الأرض مؤمن إلا وهو يخاف النفاق على نفسه، وما أمن النفاق إلا منافق (¬3). أيها المسلمون، والإيمان الحق الذي نحتاجه جمعيًا هو: عدل في القول ووفاء بالعهد، ونطق بالحق، وسكوت عن الباطل: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا .... } (¬4). «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت». وهو خلق رفيع وحسنُ أدبٍ مع الخالق والمخلوق: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء» (¬5). ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ... ثلاث شعب ... 1/ 191. (¬2) انظر: الفتح 1، 109. (¬3) رواه البيهقي في الشعب، رواه البخاري طرفًا منه تعليقًا، الفتح 1/ 111، الشعب 1/ 191، 192. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 152. (¬5) أخرجه أحمد، وغيره بسند صحيح، وصحيح الجامع 5/ 89.

وهو لحسن خلقه وكرمه لا يتفطن للشر، وقد جاء في الحديث الحسن: «المؤمن غرٌّ كريم، والفاجِر خبٌّ لئيم» (¬1). والمعنى كما قال صاحب النهاية: إن المؤمن المحمود من طبعه الحرارة وقلة فطنته للشر، وترك البحث عنه وليس ذلك منه جهلاً ولكن كرمٌ وحسنُ خلقٍ (¬2). والمؤمن الحق يتجاوز دائرة ذاته، ويهتم ويألم لأحوال إخوانه، قال عليه الصلاة والسلام: «المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس» (¬3) .. وهو بين الناس طلق المحيا، كريم الندى، لطيف المعشر، يألف ويؤلف، (ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس) (¬4). وهو مع ذلك كله آمر بالمعروف ناه عن المنكر، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (¬5). يخالط الناس ويقدم الخير لهم ويصحبر على أذاهم (والذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم). وبالجملة فأهل الإيمان هم المحافظون على جلائل الأعمال القولية والفعلية من مثل قوله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ ¬

(¬1) رواه أبو داود والترمذي والحاكم، صحيح الجامع 6/ 6. (¬2) النهاية في غريب الحديث والأثر، بن الأثير 3/ 354، 355. (¬3) حديث حسن رواه أحمد عن سهيل بن سعد، صحيح الجامع 6/ 7. (¬4) صحيح الجامع 6/ 7. (¬5) سورة التوبة، الآية: 71.

غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (¬1). جعلني الله وإياكم من أهل الإيمان، ونفعني وإياكم بهدي القرآن. ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآية: 1 - 9.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين أنعم على عباده المؤمنين إذ هداهم للإيمان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شرح صدور المسلمين للإيمان فهم على نور من ربهم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أكمل المؤمنين إيمانًا، وأحسنهم خُلُقًا ... اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها المسلمون، والإيمان ضمان للثبات في مواقف الامتحان، وهو مركب للنجاة في طوفان الفتن والمحن، به يميز الله الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (¬1). يُفرِّق المؤمنون بين عذاب الله وفتنة الناس، يصبرون على البلوى ويشكرون على السراء «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن إن أصابته ضراء صبر فكان خير له» وفي حديث آخر: «المؤمن بخير على كل حال، تُنزعُ نفسه من بين جنبه وهو بحمد الله» (¬2). والإيمان معلم هاد في بيداء الصحاري المهلكة إذا تاه الدليل أو خيَّمَ الظلام، أو كان حبيس الغم، أو ضاقت على المرء الضوائق، فيؤنسه الإيمان بخالقه، ويتسع له المكان مهما كان ضيقه وعزلته: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 179. (¬2) صحيح الجامع 6/ 5. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 87، 88.

{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً} (¬1). الإيمان الحق سبب للأمان إذا انتشر الرعب، وساد القلق، وتخطف الناس، ولم يأمنوا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (¬2). والمؤمنون هم الذين تزيدهم الشدائد ثباتًا، ورؤيتهم لتكالب الأعداء إيمانًا وتسليمًا: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} (¬3). أما غير المؤمنين فتطير قلوبهم لكل نازلة: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (¬4). المؤمنون رحماء بينهم هينون لينون، كافون عن الأذى، باذلون للمروءة والندى، وليس من الإيمان إيذاء المؤمنين قولاً وفعلاً: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} (¬5). المؤمنون يتحاكمون إلى شرع الله، ويرضون بالإسلام حكمًا، ولا يجدون في أنفسهم حرجًا بل يرضون ويسلمون تسليمًا، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬6). ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 96. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 82. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 22. (¬4) سورة الأحزاب 14 لآية: 19. (¬5) سورة الأحزاب، الآية: 58. (¬6) سورة النور، الآية: 51.

أما غير المؤمنين فيأنفون من حكم الله ويتحاكمون إلى الطاغوت: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬1). المؤمنون حقًا يتحرون الحلال في مطعمهم ومشربهم وملبسهم، وهم حريصون على الحلال جمعًا، وإنفاقًا، لا يشربون الخمر، ولا يأكلون السحت، ولا يتعاملون بالربا أو ضروب المعاملات المحرمة الأخرى في البيع والشراء، نفقتهم عدلاً وسطًا بين التقتير والإسراف، أمرهم ربهم بالحلال فامتثلوا، ونهاهم عن الحرام فانتهوا، قال لهم في الأولى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (¬2)، وقال لهم في الأخرى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3)، وقال كذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَأما مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬4). أما غير المؤمنين فلا يتورعون عن الحرام، ولا يحتاطون في الحلال، أمرهم فُرطًا، وربما ملكوا القناطير المقنطرة، وقد يخيل لمن لا يعرفهم أنهم من شدة اللهاث جوعى، وربما انقلبت موازينهم فجأة، فأصبح الغني فقيرًا، والدائن مدينًا، فلا الإيمان أسعفهم بالنزاهة والشكر على المال جمعًا، وليس غير الإيمان يسليهم على فقده صبرًا {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} (¬5). ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 48 - 50. (¬2) سورة البقرة، الآية: 172. (¬3) سورة المائدة، الآية: 90. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 130. (¬5) سورة الحج، الآية: 18.

عباد الله هذه دعوة لنا جميعًا فلنعلم حقيقة الإيمان، ونتخلق بأخلاق الإسلام، وليست حصرًا لحقائق الإيمان، ولا إحصاءً لصفات المؤمنين، لكنها الإشارة بالبعض إلى الكل، أما النتيجة التي يجب أن نخلص إليها فهي أن الإيمان ليس بضاعة مزجاة تباع وتشترى بأبخس الأثمان، أو مجرد دعوى وألقاب تجوز على كل لسان ... وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ... ولكن الإيمان نهج متكامل، فهو عبادة لله خاشعة، ومعاملة لخلقه كريمة، وأخلاق رفيعة، هو كسب نظيف وإنفاق مشروع. الإيمان الحق اعتقاد سليم، وعمل صحيح، جهاد وتضحية، أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ولاء وبراء، مظهر ومخبر، بذل للندى وكف عن الأذى، وخروج عن الأنانية المقيتة، ونصرة للنفوس المسلمة المظلومة. وبهذا يتبين خطأ نظرتين للإيمان، إحداهما جافية والأخرى غالية. أما الجافية فترى أن مجرد الإيمان بالله كافٍ حتى وإن ضُيَّعت الصلاة وقُصِّر في أداء الزكاة، واختلطت المعاملات حلُّها والحرام، بل يُكثر هذا الصنف الجافي من القول لا داعي للتركيز على المظاهر فالمخابر هي الأساس، وهؤلاء يهدمون الإسلام لبنة لبنة حتى إذا لم يبق إلا شبح البناء تهاوى وبكى من على الأطلال. أما الصنف الغالي فهم يعظمون الصغير، ويكفرون على الذنب الكبير، وربما فتحوا معارك في خطأٍ علاجه بالحسنى أجدى وأولى، وربما ظنوا احتقار الناس دينًا، والتنقص من أمرهم دينًا وشرعًا، والله يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (¬1). ¬

(¬1) سورة النجم، الآية: 32.

إد دين الله وسط بين الغالي والجافي ... والحكم عند التنازع لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نظرة واسعة وفهم عميق. اللهم سددنا في أقوالنا وأفعالنا ... وهب لنا إيمانًا تصلح به سرائرنا وعلانيتنا ....

(1) نواقض الإسلام

(1) نواقض الإسلام (¬1) الحمد لله رب العالمين، أمر عباده المؤمنين بالإيمان، وغيرهم من باب أولى، فقال جل من قائل عليمًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} (¬2). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حذر من النكوص على الأعقاب، وأنكر نقض الإيمان لأي سبب من الأسباب، حتى ولو كان موت محمدٍ عليه الصلاة والسلام: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (¬3). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله استعاذ بالله من «الحور بعد الكور» وأرشد أمته إلى ذلك كما في دعاء السفر، (والحور بعد الكور: تغير حال الإنسان من الإيمان إلى الكفر، أو من التقوى والصلاح إلى الفجور والسوء، كما قرر العلماء) (¬4). اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى سائر صحابة رسول الله أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. فأما بعد، فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، والاستمساك بالعروة الوثقى، ¬

(¬1) في 6/ 4/ 1417 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 136. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 114. (¬4) انظر الحور بعد الكور للدويش/ 11.

والعزة بالإسلام ظاهرًا وباطنًا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬1). أيها المسلمون، ويدرك العقلاء أن الإيمان هو رأس مال العبد ما هذه الحياة، وهو التجارة التي يفد بها على الله بعد الممات، وخسارة الإيمان لا تعدلها خسارة، ولا تقبل فيها الفدية ولو كانت ملء الأرض ذهبًا {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} (¬2). وقال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬3). وما أتعسها من حالةٍ حين يهيم الإنسان على وجهه في هذه الحياة حيران قلقًا بعيدًا عن نور الإيمان، وتتردى حالته بعد فلا ينقضي النكد، ولا يُخفف العذاب {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (¬4). أيها المؤمنون، إذا علمتم قدر الإيمان وحقيقته، وكان الاعتقاد سليمًا والعملُ صائبًا، كما جرى بيان ذلك في الخطبة الماضية فأنتم محتاجون لتكميل ذلك إلى معرفة نواقض الإيمان، وهادمات الإسلام. ولقد اعتنى العلماء قديمًا وحديثًا بنواقض الإيمان وأوسعوها بحثًا وتفصيلاً، دعوةً للحق ونصحًا للخلْق. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 91. (¬3) سورة المائدة، الآية: 5. (¬4) سورة فاطر، الآية: 36.

وما أحرى المسلم أن يتنبه لهذه النواقض فيعلمها ويحذرها، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها. وأحصى الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، يرحمه الله، أصولاً عشرة اعتبرها نواقض للإسلام، حذر الأمة منها ودعا إلى العلم بها فقال يرحمه الله (¬1): اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض: الأول: الشرك في عبادة الله، قال الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (¬2)، {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (¬3). ومنه الذبح لغير الله، كمن ذبح للجن أو للقبر. الثاني: (من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم، ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم، كفر إجماعًا). وهذا الناقض من أكثر النواقض وقوعًا وأعظمها خطرًا، وذلك لأن كثيرًا من المنتسبين للإسلام- وهم لا يعرفونه حقيقة- جعلوا بينهم وبين الرب وسائط، يدعونهم لكشف الملمات، وإغاثة اللهفات، وتفريج الكربات، وهذا كفر، وإن زعم أصحابه أنهم لا يسألون الله مباشرة تعظيمًا منهم لله- بزعمهم - بل يحتاجون إلى وسائط، والله تعالى ينكر عليهم صنيعهم ويقول: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} (¬4). ¬

(¬1) انظر الدرر السنية 8/ 89، 90، مؤلفات الإمام محمد بن عبد الوهاب 5/ 212، الولاء والبراء/ 75، التبيان للعلوان. (¬2) سورة النساء، الآية: 48. (¬3) سورة المائدة، الآية: 72. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 56.

ويقول تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} (¬1). أخلص العبادة لله وحده، وادعه وحده، واعلم أن غيره، كائنًا من كان، لا يملك جلب النفع ولا دفع الضر، واستمسك موقنًا بقوله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬2). أجل لقد قال المشركون قديمًا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (¬3). وما زال المشركون حديثًا يستغيثون بالأولياء ويستصرخون الموتى، ويطوفون حول الأضرحة، ويطلبون المدد والشفاعة ممن لا يملكها، والله يقول: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (¬4). 3 - الناقض الثالث: (من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر إجماعًا). إن الإله الحق واحد، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، وإن الدين الحق واحد وهو ناسخٌ لجميع الأديان قبله {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} (¬5)، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬6). ¬

(¬1) سورة سبأ، الآية: 22. (¬2) سورة يونس، الآيتان: 106، 107. (¬3) سورة الزمر، الآية: 3. (¬4) سورة الزمر، الآية: 3. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 19. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 85

فمن عبد مع الله غيره، أو ابتغى غير الإسلام دينًا، فهو كافرٌ لابد من تكفيره والبراءة منه ومعاداته، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (¬1). تلك الحنيفية التي أُمِرْنا بالاقتداء بها، ومن رغب عنها فقد سفه نفسه، أما الاستمساك بالعروة الوثقى فشرطها الكفر بالطاغوت والإيمان بالله {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ} (¬2). قال الإمام محمد بن عبد الوهاب، يرحمه الله، (وصفة الكفر بالطاغوت أن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها، وتبغضها، وتُكفِّر أهلها، وتعاديهم) (¬3). أيها المسلمون، وحين تغيب هذه الحقائق المهمة في المعتقد، فيضعف الإحساس بالولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين، وتندثر في دنيا العلاقات المحبة في الله والبغض في الله، ويغيب التميز في الثقافات، وتُنسى أصالة الفكر واختلاف المعتقدات، هنا يقع الخلل، ويرتعُ الهملُ، وتشيع بين الناس دعوات باطلةٌ، وأفكار مضللةٌ، ظاهرها التسامحُ والحرية، وباطنها الكفرُ وفرضُ التبعية، وتُقامُ المؤتمراتُ العالمية، وتكثر الملتقيات والحوارات من أجل تقرير وحدة الأديان، ومقارنة الأديان، وإزالة الخلاف العقدي، وإسقاط الفوارق الأساسية بين الأديان، والثشبثُ بأمور بسيطة يخدعون بها الدهماء من الناس، ويجعلونها أساسًا للوحدة المزعومة، وربما سمعت مصطلح «الديانة الإبراهيمية» أو «الديانة العالمية»، وإبراهيم عليه السلام بريء من أي لون من ألوان ¬

(¬1) سورة الممتحنة، الآية: 4. (¬2) سورة البقرة، الآية: 256. (¬3) أنظر: التبيان شرح نواقض الإسلام/ العلوان/ 27.

الشرك والوثنية، وقد برأه الله من اليهودية والنصرانية المحرفة، وألبسه لبوس الحنيفية المسلمة {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬1). وجعل أولى الناس به الذين اتبعوه {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). تلك حاسمة الخلاف ومبتغى الحق لمن رامه، وكفى بالله شهيدًا وبالقرآن حكمًا، أما المخدوعون بالسراب فربما راقت لهم فكرة «زمالة الأديان» وإمكانيةُ التّعايشِ والتعاون بين أصحاب الديانات المختلفة في سبيل محاربة الإلحاد والعلمنة، ولا يخفى على أولي الألباب أن هذه الدعوات المحمومة نشأت في أحضان التنصير والصهيونية العالمية لتحطيم الإسلام، وتذويب الشخصية المسلمة، لأنهم يرون في الإسلام وأهله أكبر قوة تهددهم. ويأتي النظام الدولي الجديد، عاملاً رئيسًا في إحياء تلك الشجرة الخبيثة، إذ تعقد الاجتماعات، ويستمر الملأ لهذا الغرض الخبيث (¬3). وينبغي أن يعلم الناس أن هذه الدعوات المشبوهة ليست وليدة اليوم، بل لجلجت في غابر القرون، ودعا إليها قومٌ آخرون. وهذا شيخ الإسلام ابن تنمية، يرحمه الله، ينقل عن ملاحدة الصوفية كابن سبعين، وابن هود، والتلمساني أنهم وغيرهم كانوا يسوغون للرجل أن يتمسك باليهودية والنصرانية كما يتمسك بالإسلام ويجعلون هذه طرقًا إلى الله بمنزلة مذاهب المسلمين ... ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 67. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 68. (¬3) انظر. د عبد العزيز العبد اللطيف. نواقض الإيمان/ 377، 379.

بل ذكر الشيخ أن هؤلاء المُخَرِّفين يميلون إلى دين النصارى أكثر من دين المسلمين لما فيه من إباحة المحظورات (كالخمر مثلاً) ولأنهم أقرب إلى الاتحاد والحلول، بل ربما استحيا الواحد منهم أن ينتسب للإسلام بحضرة هؤلاء الكفار (¬1). نعوذ بالله من الخذلان والردة بعد الإسلام. كما أن التتار نادوا بمساواة الأديان، وقال الأكابر من وزرائهم: إن دين الإسلام كدين اليهود والنصارى ... وأن هذه بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين. قال ابن تيميه معلقًا: (ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين، وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً (¬2)} (¬3). نفعني الله وإياكم بهدى القرآن وهدانا لاتباع شرع محمد عليه الصلاة والسلام. أقول ما تسمعون وأستغفر الله. ¬

(¬1) انظر الفتاوى 14/ 164، 165 نواقض الإيمان، العبد اللطيف/ 378، الرد على المنطقيين/ 282. (¬2) سورة النساء، الآيتان: 150، 151. (¬3) الفتاوى 28/ 524.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين أكمل الدين وأتم النعمة على المسلمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ختم الله به الأنبياء، وجعل رسالته للناس كافة، ونسخت شريعته الشرائع السماوية السابقة كلها .. اللهم صل عليه وعلى سائر الأنبياء. أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم (¬1). أما الناقض الرابع من نواقض الإيمان فهو: من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسنُ من حكمه فهو كافر (¬2). أيها المسلمون، لقد أجمع العلماء الذين يُعتد بإجماعهم على أن السنة هي الأصل الثاني من أصول التشريع الإسلامي، وهي كالقرآن في التحليل والتحريم (¬3). وثمة دعوات مغرضةٌ للتقليل من شأن السنة النبوية، أو التشكيك في صحة ما ورد فيها، وتلك طريق لهدم أحكام الإسلام، لأن السنة مستقلةٌ بتشريع الأحكام ... وربما سمعت قولاً خبيثًا مفاده: دعونا نتحاكم إلى القرآن لأنه كلام الله، أما السنة فهي كلام محمد، ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر؟ ! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} (¬4)، وهل جاء محمد صلى الله عليه وسلم بشيء من أمور الشرع ¬

(¬1) رواه مسلم 6/ 153 شرح النووي. (¬2) الولاء والبراء/ 75. (¬3) العلوان: التبيان في شرح نواقض الإسلام/ 34. (¬4) سورة الكهف، الآية: 5.

من تلقاء نفسه؟ والله يقول عنه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (¬1). ويعصمه الله من الزلل والأقاويل الباطلة ويقول: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (¬2). ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الصنف من الناس فقال فيهم: «لا أعرفن الرجل منكم يأتيه الأمر من أمري، إمَّا أمرت به أو نهيت عنه، وهو متكئئٌ على أريكته فيقول: ما ندري ما هذا؟ عندنا كتاب الله، وليس هذا فيه، وما لرسوله الله يقول ما يخالف القرآن، وبالقرآن هداه الله» (¬3). بل لقد جاء الأمر بلزوم سنته صريحًا في القرآن {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (¬4). فهل ينتهي المنافقون ويستيقظ الغافلون لما أراد بهم؟ . على أن رفض هدي محمد صلى الله عليه وسلم يتخذ شكلاً آخر، يتجاوز القول إلى العمل، وذلك برفض التحاكم إلى شريعته في كل شيء، والعدول عنها إلى قوانين وضعية- سمّاها الشيخ «حكم الطاغوت» - زعموا أنها أصلح للحياة المعاصرة، وتلك وربي ردةٌ جديدة بُليَ بها شعوب العالم الإسلامي في القرون الأخيرة، ولقد عاش المجتمع الإسلامي قرونًا طوالاً يستظلُّ بشرع الله، وتهيمن الشريعة على حياة أفراده حُكامًا ومحكومين، مع وجود بعض المعاصي سواء كانت كبائر أم صغائر، ولكن النظام السائد هو شرع الله وحكمه، كما كان جهادُ الكُفَّار مُستمرًا، ونشر الإسلام متواصلاً. ¬

(¬1) سورة النجم، الآيتان: 3، 4. (¬2) سورة الحاقة، الآيات: 44 - 46. (¬3) أخرجه الترمذي وأبو داود ورزين وإسناده صحيح (جامع الأصول 1/ 83). (¬4) سورة الحشر، الآية: 7.

أما أن تُرمى الشريعة المطهرةُ بالقصور، أو يُتهمَ المطالبون بتحكيمها بالرجعية فذلك لم يحدث إلا حين أنهيت الخلافةُ الإسلاميةُ، وتغربَ بعضُ أبناء المسلمين، ومُكنَ لهم في القيادة، وكانوا أداةً طيعةً في أيدي المستعمرين، وكانوا أبعدَ الناس عن نصوص الكتاب المحكم والسنة المطهرة، وإلا ففي القرآن زواجر رادعةٌ، وفي السنة أحكامٌ وتنظيمات شاملةٌ، أينَ هؤلاء من مثل قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (¬1). وأين هم من قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬2) .. {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬3) ... {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬4) ... وأما من يدعون الإسلام وهم يحاصرون شريعة الإسلام في أمور خاصة لا تتجاوز الأحوال الشخصية، أما السياسات العامة والقضايا الكبرى المهمة فتلك يُحَكمون فيها أهواءهم، ويقلدون بها غيرهم، والله تعالى يقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (¬5). ولقد أحسن أحد العلماء في وصف من طُمِسَتْ بَصيرته فاستبدل بالشريعة القانون حيث قال: (إن مثل هذا مثل الجعل يتأذى من رائحة المسك والورد الفوّاح، ويحيا بالعذرة والغائط في المستراح) (¬6). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 50. (¬2) سورة المائدة، الآية: 44. (¬3) سورة المائدة، الآية: 45. (¬4) سورة المائدة، الآية: 47. (¬5) سورة النساء، الآية: 65. (¬6) الرسائل المنبرية: 1/ 139، الولاء والبراء، القحطاني/ 79.

لقد اعتبر العلماء قديمًا وحديثًا الحكمَ بغير ما أنزل الله كُفرًا مُخرجًا عن الملة، نقل الإجماع على ذلك ابن كثير (¬1). وألف مفتي الديار السعودية فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم، يرحمه الله، رسالة في «تحكيم القوانين» وضح فيها الحالات التي إن فعلها الحاكم دخلت في الكفر المخرج من الملة، ولولا خشية الإطالة، لنقلتها لكم فليراجعها من يشاء. أيها المسلمون، هذا حديث عن بعض نواقض الإيمان، وسأستكملُ الحديث عن بقيتها في خطبة لاحقة بإذن الله ... ولكنني قبل ذلك أسارع القول مُحذرًا من مسلكٍ خطير واستعمالٍ محذور، ألا وهو محاولة تطبيق الأحكام الشرعية النظرية على الواقع من قبل أُناسٍ لا يملكون أدوات التطبيق، وليس لهم من فهمِ قواعد الشريعة وكُلياتها ما يستطيعون به تنزيل النصوص منازلها الحقة، فلا ينبغي أن تدرج قضية التكفير على كل لسان، ومصيبةٌ أن يتجرأ فيها سفهاء الأحلام بغير علم ولا برهان، وأهل السنة- قديمًا وحديثًا- يحتاطون لذلك كثيرًا، ولذا فرقوا بين تكفير المطلق وتكفير المعين، ووضعوا شروطًا للتكفير وموانعَ يعذرُ بها الجاهل والمتأول .. إلى غير ذلك من ضوابط يعيها الراسخون في العلم، وإليكم شيئًا من احتياطهم وحذرهم من تكفير المعين. يقول ابن تنمية، يرحمه الله، : (وليس لأحدٍ أن يكفر أحدًا من المسلمين وإن أخطا وغلط حتى تُقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يُزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة) (¬2). ويسوق ابن تيمية في موضع آخر- من الفتاوى- بعضًا من الأعذار الواردة على تكفير المعين فيقول- وما أجمل ما قال- (الأقوال التي يكفر قائلها، قد ¬

(¬1) البداية والنهاية 13/ 114، التفسير 3/ 123. (¬2) مجموع الفتاوى 12/ 466.

يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون عنده ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون قد عرضت له شبهات يعذره الله بها، فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطاياه كائنًا ما كان، سواء في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام) (¬1). ولقد كان الإمام أحمد- كما نقل الشيخ- يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته، ولكن ما كان يكفر أعيانهم ... وكذلك نقل ابن تيمية عن الإمام الشافعي، رحمه الله (¬2). ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ومسالة تكفير العين مسالة معروفة، إذا قال قولاً يكون القول به كفرًا، فيقال: من قال بهذا القول فهو كافر، ولكن الشخص المعين إذا قال ذلك لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها) (¬3). إخوة الإيمان، وحين أحذر من هذا المسلك الخطر فإنني أفكر بل أخوف بالقرآن، وبحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬4). ويقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: «لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك» (¬5). ¬

(¬1) الفتاوى 23/ 326. (¬2) الفتاوى 23/ 348، 349 باختصار. (¬3) الدرر السنية 8/ 244، نواقض الإيمان: العبد اللطيف/ 53. (¬4) سورة النساء، الآية: 94. (¬5) أخرجه البخاري ومسلم ح 6045، 61.

وعن عبد الله ابن عمر، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله وسلم قال: «أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما» (¬1). اللهم اعصمنا من الزلل، ووفقنا لسلوك الطريق الأقوم، وأصلح سرائرنا وعلانيتنا. ¬

(¬1) متفق عليه.

(2) نواقض الإسلام

(2) نواقض الإسلام (¬1) إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آل بيته المؤمنين الطاهرين، وارض اللهم عن صحابته السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان .... والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المعاد. فأما بعد فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله والاستمساك بشرعه، ولزوم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ففي ذلك تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة. أيها المسلمون، وحيث سبق الحديث عن أربعة من نواقض الإسلام هي: أولاً: الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له. ثانيًا: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة. ئالثأ: من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم. رابعًا: من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطاغوت على حكمه، فهو كافر. أما الناقض الخامس فهو: من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو عمل به كفر إجماعًا، والدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (¬2). ¬

(¬1) في 13/ 4/ 1417 هـ. (¬2) سورة محمد، الآية: 9.

إن مفهوم الشهادتين تستلزمان المحبة والاستسلام، والطاعة والانقياد، وانشراح الصدر، وسرور القلب بأحكام الإسلام، أما الذين تضيق صدورهم بشيء من تكاليف الإسلام، أو يجدون كرهًا لبعض ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، فما أولئك بمؤمنين، إنها أنفسن شريرة، وقلوبٌ مريضةٌ، وأمزجةٌ فاسدة، تلك التي ترغب عن الهدى، وتقع في شرك الردى .. تكره هدى الله، وإن لم تعلنه صراحةً، وتبغض أو تستثقل هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم تجزؤ على التصريح به .. إنها نماذج تتكرر في كل زمان ومكان، تحس منها بالنفرة والكراهية لهذا الدين، وما يتصل به، حتى إنها لتفزع من مجرد ذكره .. بل وتتجنب أن يجيء ذكره أو الإشارة إليه فيما تسمع حولها من حديث (¬1). وصدق الله {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (¬2). أما من فتح الله بصائرهم للهدى فيدركون أن هدى الله هو الهدى، كما يدرك الذين استقامت فطرهم أن في تشريعات الإسلام كلها تحقيق الخير للفرد والمجتمع. وإذا أثار الموتورون غبارًا مشينًا عن قسوة بعض أحكام الإسلام في العقوبات والقصاص بزعمهم- كقتل القاتل، ورجم الزاني المحصن، وقطع يد السارق، وجَلد الشارب .. أو نحوها- جاء رد القرآن جاء مختصرًا شافيًا {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬3). وأكد الواقع الذي تنفذ فيه حدود الله نموذج الأمن والاستقرار. ¬

(¬1) الظلال 6/ 9. (¬2) سورة الزمر، الآية: 45. (¬3) سورة البقرة، الآية: 179.

أما الذين تلوك ألسنتهم الكذب، ويزعمون أن الإسلام ظلم المرأة ويكرهون أن تكون دية المرأة نصف دية الرجل، وشهادة المرأتين بشهادة رجلٍ واحد، أو يحاربون تعدد الزوجات بشتى الوسائل أو يعتبرون تشريعات الإسلام، تلك أو مثيلاتها تقاليد عفا عليها الزمن، ولا تناسب المدنية المعاصرة فأولئك يكفرون بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وإن عملوا به، وهم في عداد المنافقين، وإن صلوا وصاموا مع المسلمين {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (¬1). إنه مسلك خفي خطير، لابد أن يعالج المرء نفسه عن الوقوع في شراكه، فلا يكفي أن يعمل المسلم بشرائع الإسلام وهو يجد من نفسه كرهًا لشيءٍ فيها ... بل لابد من الرضا والتسليم، وانتفاء الحرج {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (¬2). أيها المسلمون، وثمة استدراكٌ لطيف في عدم الاستعجال بالحكم على الناس ببغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم نتيجة خطأٍ واقع يجليه أحد العلماء العارفين ويقول: ومما ينبغي التنبيه عليه أن كثيرًا من الناس قد تبين له منكرًا ما، فيرفض القبول، ولا يقبل ما تقول، خصوصًا عند ارتكابه، فهذا لا يطلق عليه أنه مبغض لما جاء به الرسول دون تفصيل، لأنه قد لا يقبل الحق الذي جئته به، لا لأنه حق، ولكن لسوء تصرُّفك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو جاءه غيرك وبين له نفس المنكر لقبل وانقاد، أو أنه لا يقبل منك لما بينك وبينه من شيءٍ ما، فهذا لا يسمى مبغضًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ... إلى أن يقول: وهناك من ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 28. (¬2) سورة النساء، الآية: 65.

يلزم صاحبه المعصية بما لا يلزم، فيلزم حالق اللحية، ومسبل الإزار، وشارب الخمر مثلاً، وغيرهم ببغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمر بإعفاء اللحية، وعدم الإسبال، والنهي عن شرب الخمر، فيقول لهم: لولا أنكم تبغضون ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لما فعلتم هذه المنكرات. وهذا إلزامٌ باطل، فهناك من الصحابة من حصلت منه بعض المخالفات كشرب الخمر مثلاً، ولم يلزمه أحد من الصحابة بذلك الإلزام، بل كما أُتي بشارب الخمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولعنه بعض الصحابة، وقال: ما أكثر ما يؤتى به! نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنه وقال: «إنه يحب الله ورسوله» (¬1). إنه العدل في القول، والرفق في النصح، وعدم الاستعجال في إصدار الأحكام على الآخرين، دون تذويب لشرائع الإسلام، أو مداهنة في النصح تتكاثر بسببها الفواحش والآثام. ألا وإن في دائرة الإسلام متسعًا لمن زلت بهم القدم، أو غلبت عليهم الشهوة، أو استحوذ عليهم الشيطان فترة ثم تابوا وأنابوا إلى ربهم شريطة أن يبقوا محبين لله ورسوله، غير مبغضين لشيءٍ من شريعة الله، وكيف نؤسس من لم يقنطه الله من رحمته. {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} (¬2) ... ولكن يقال لكل من خالف أمر الله: ¬

(¬1) رواه البخاري، ح 6780 الفتح 12. (سليمان العلوان: التبيان: شرح نواقض الإسلام/ 43، 44). (¬2) سورة الزمر، الآيتان: 53، 54.

احذر سوء العاقبة الواردة في قوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1). الناقض السادس: من نواقض الإسلام: من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ثوابه، أو عقابه، كفر والدليل قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (¬2). ويوضح معنى الآية سبب نزولها، فقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: (قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يومًا: ما رأينا مثل فرائنا هؤلاء، أرغبُ بطونًا، ولا أكذبُ ألسُنًا، ولا أجبنُ عند اللقاء، فقال رجلٌ في المجلس: كذبت، ولكنك منافقٌ لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن، قال عبد الله: فأنا رأيته متعلقًا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحجارة تنكبه وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ ) (¬3). والاستهزاء سخريةٌ واستخفاف، وإنما كان الاستهزاء بالدين كفرًا لأنه يدلُ على الاستخفاف، والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله بأقصى الإمكان، والجمع بين الأمرين محال (¬4). يقول ابن قدامة، يرحمه الله: ومن استهزأ بالله تعالى أو بآياته أو برسله أو كتبه كفر .. ثم أورد الآية، ثم قال: وينبغي أن لا يُكتفى من الهازئ بذلك بمجرد الإسلام حتى يؤذن أدبًا يزجره عن ذلك (¬5). ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 63. (¬2) سورة التوبة، الآيتان: 65، 66. (¬3) انظر تفسير ابن جرير حول الآية. (¬4) الرازي في تفسيره الكبير 16/ 124. (¬5) المغني 10/ 113، الإنصاف 10/ 326.

أيها المسلمون، والاستهزاء مؤشر لعدم تصديق القلب، ولذا قال ابن تيمية- رحمه الله-: (إن التصديق بالقلب يمنع إرادة التكلم، وإرادة فعلٍ فيه استهانة واستخفاف، كما أنه يوجب المحبة والتعظيم) (¬1). والاستهزاء خصلةٌ من خصال المنافقين الذين تضيق صدورهم بهذا الدين وأهله، ولا يجرؤون على التصريح فيعمدون إلى التلميح، وربما ضعفوا عن إعلان ذلك في مجتمع الخيِّرين، فتداولوا ذلك في مجتمعات البطالين. والاستهزاء كفرٌ، وإن اعتذر أصحابه، أو ظنوا بأنفسهم أنهم لم يأتوا كفرًا، كما تفيد الآية وكما قرر أهل العلم (¬2). ألا ما أعظم الاستهزاء سواء كان تصريحًا أو تلميحًا، ويتعاظم خطره في زمن باتت الكلمة فيه تسري بالآفاق، وتتناقلها وسائل الإعلام المختلفة في المشارق والمغارب. ألا وإن واجب المسلم أن ينتصر لدين الله حين ينال بشيء من الاستهزاء، وأن يعتزل مجالس المستهزئين حتى يخوضوا في حديث غيره، وكذلك أمرنا خالفنا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} (¬3). ¬

(¬1) الصارم المسلول/ 524. (¬2) الصارم المسلول/ 417 - 524. (¬3) سورة النساء، الآية: 140.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، يقصُّ الحقَّ وهو خير الفاصلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى سائر إخوانه من الأنبياء .. إخوة الإسلام، أما الناقض السابع من نواقض الإسلام فهو السحر- ومنه الصرف والعطف- وسأرجى الحديث عنه لأخصه بخطبة منفردة. الناقض الثامن: مظاهرة المشركين، ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬1) والمظاهرة هي المناصرة، والأصل أن تكون للمسلمين «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا ... » الحديث .. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} (¬2). وإنما تكون المناصرة للمشركين ومعاونتهم على المسلمين في فترات ضعف الإيمان من جانب، وضعف السلطان من جانب آخر. ولا شك أن مظاهرة المشركين تمكينٌ لهم، وفي التمكين لهم غلبة لدينهم، ولا يخفى على عاقل فضلاً عن مسلم ما في ذلك من ضير على الإسلام وأهله، وما ينجم عنه من فتن ورزايا يراها الناس رأي العين، تراق لها الدماء، وتستباح الحمى، وتغتصب النساء، وتهدم العوامرُ من بيوت الله ... فضلاً عن المنشآت ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 51. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 74.

الحيوية الأخرى .. وكل ذلك يقع لأن المسلمين تفرقوا شيعًا، وظاهروا إن من لم يرقُب فيهم أو في إخوانهم إلاً ولا ذمة. ولو أن المسلمين اعتصموا بحبل الله جميعًا ولم يتفرقوا، وساد حكم الشريعة التي ينتمون لها أنظمتهم كلها، وأقاموا الدين منزلته التي أنزله الله إياها. لو وقع هذا لتغير الحال، ولامتدت روافد الإسلام إلى أصقاع المعمورة بدل أن يكون شغل المسلمين الشاغل الدفاع عن حقوقهم المشروعة، والتشبث بهويتهم الأصلية. وصدق الله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬1). الناقض التاسع من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر، ذلكم لأن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة للشرائع السماوية قبلها، والقرآن مهيمنٌ على الكتب قبله، وقد حكم الله أنه لا يقبل دينًا غير دين الإسلام، وأخبر عليه الصلاة والسلام (أنه لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة، يهوديٌّ ولا نصراني، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أُرسلتُ به إلا كان من أصحاب النار) (¬2). فإذا كان هذا شأن اليهود والنصارى فلا تسأل عن غيرهم، بل لقد أبصر النبي صلى الله عليه وسلم في يد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ورقةً من التوراة فقال: «أمتهوكون يا بن الخطاب؟ ! لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيًا واتبعتموه وتركتموني لضللتم» وفي رواية «لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي، قال عمر: رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا (¬3). ¬

(¬1) سورة الرعد، الآية: 11. (¬2) رواه مسلم، مختصر المنذري/ 13، ح 20. (¬3) قال صاحب النهاية: التهوك: التهور، وهو الوقوع في الأمر بغير روية (5/ 282).

فإذا كان النبي في شأن التوراة هكذا، والأمر بالاتباع لمحمد صلى الله عليه وسلم حتى ولو كان من قتل موسى .. فلا شك أنه لا مسوغ لأحد كائنًا ما كان أن يتبع غير شريعة الإسلام، أو يهتدي بغير هدي القرآن، ويتم لا يكون ذلك كذلك وقد أكمل الله الدين بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن فيه بيان كل شيء {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} (¬1). والذين يرغبون عن صراط الله المستقيم تتفرق بهم السبل، وتستحوذ عليهم الشياطين، والله يقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (¬2). أما الذين يجنحون إلى أفكار ضالة ومبادئ منحرفة، ونحلٍ فاسدة، أو يتشبثون بالإلحاد أو بالعلمنة، أو الحداثة فأولئك ضلوا السبيل، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، ومن يضلل الله فما له من هاد. الناقض العاشر من نواقض الإسلام: الإعراض عن دين الله تعالى، لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} (¬3). والمراد بالإعراض هنا، الإعراض عن تعلم أصل الدين الذي به يكون المرء مسلمًا، ولو كان جاهلاً بتفاصيل الدين الأخرى، إذ العبادة هدف الخلق {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (¬4). ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 89. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 153. (¬3) سورة السجدة، الآية: 22. (¬4) سورة الذاريات، الآية: 56.

ولابد من عبادة الله بما شرع الله، ولا يتوصل إلى ذلك إلا بالمعرفة التي يطبقها عادة الناس، وليست بالمعرفة الخاصة بالعلماء، وكذلك العمل فالمقصود به العمل بأصول الإسلام التي بها يحكم بالإسلام. قال الشيخ ابن سحمان يرحمه الله: ( ... إن الإنسان لا يكفر إلا بالإعراض عن تعلم الأصل الذي يدخل به الإنسان في الإسلام، لا بترك الواجبات والمستحبات) (¬1). ويجلي الإمام ابن القيم رحمه الله الإعراض بقوله: (وأما كفر الإعراض فإنه يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه، ولا يعاديه، ولا يصغي إلى ما جاء به البتة) (¬2). نعوذ بالله من الصدود والإعراض، وما أعظم زواجر القرآن لمن عقل، والله يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} (¬3). ألا وإن الجزاء من جنس العمل، ومن يزرع الشوك لا يحصد العنب! إخوة الإسلام، ثم يختم الشيخ محمد بن عبد الوهاب يرحمه الله هذه النواقض بتنبيه مهم يقول فيه: (ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلا الكره، وكلها من أعظم ما يكون خطرًا، ومن أكثر ما يكون وقوعًا فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف على نفسه فيها) (¬4). اللهم احفظ علينا ديننا، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. ¬

(¬1) الدرر السنية 10/ 472. (¬2) مدارج السالكين ... عن التبيان، ص 69. (¬3) سورة طه، الآيتان: 124، 126. (¬4) الدرر السنية 8/ 89، 90.

نقد الذات لماذا؟

نقد الذات لماذا؟ (¬1) إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا فضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر أنبياء الله ورسله، وارض اللهم عن آله المؤمنين، وصحابته الطاهرين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين، وراقبوه، واعلموا لأنه يعلم السر وأخفى، وما يخفى على الله من شيءٍ في الأرض ولا في السماء {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} (¬2). إخوة الإيمان، وهناك مرض يسري فينا وقد لا نأبه كثيرًا بعلاجه، إنه العجب بالذات وعدهم الشعور أو الاكتراث بالأخطاء الذاتية. وثمة عيب يحيط بنا وتكاد أبصارنا تتجاوزه إلى أخطاء الآخرين وكأنما الشاعر يخاطبنا بقوله: نعيب زماننا والعيب فينا ... وما لزماننا عيب سوانا ولهذا وذاك تتراكم الأخطاء في حياتنا، ونُهملُ ذواتنا، ونستغرق في نقد الآخرين، فما من نازلة تنزلُ بنا إلا وننسبها لغيرنا، وما من مصيبة تصيبنا إلا ونحملها أعداءنا ... أما أن نلتفت إلى أنفسِنا، ونفتش في عيوبنا فذلك أمرٌ يصعب علينا التعامل معه بجدٍّ وإخلاص. ¬

(¬1) في ا/ 11/ 1416 هـ. (¬2) سورة الطلاق، الآية: 2.

إن نقد الذات من سمات العقلاء، والتأمل في النفس جاءت به شريعة السماء، أما إحالة الأخطاء كلها على الآخرين فذلك أسلوب العاجزين، وهو أقصر الطرق للهروب من المشكلات وتعليل الكائنات، وتزكية النفس جاءت نصوص الشرع ناهية عنه كما في محكم التنزيل: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (¬1) بل هو أحيانًا ضربٌ من الكذب وكفى به إثمًا مبينًا كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً} (¬2). إخوة الإسلام، ويذكرنا القرآن بهذا الداء، ويرشدنا الحق تبارك وتعالى إلى الدواء ويقول: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (¬3). ويقول تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬4). أجل، لقد قيل لصحابة رسوله الله صلى الله عليه وسلم: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬5). لقد استغربوا ما حصل من المصيبة يوم أحد، وقالوا: من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل، ونحن نقاتل في سبيل الله، ونحن مسلمون، وفينا النبي والوحي، وهدم مشركون (¬6)؟ فجاء الرد الإلهي درسًا بليغًا ومعلمًا لهم ولغيرهم ¬

(¬1) سورة النجم، الآية: 32. (¬2) سورة النساء، الآيتان: 49، 55. (¬3) سورة الشورى، الآية: 30. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 53. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 165. (¬6) تفسير القرطبي 4/ 265.

من المسلمين {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} فالإخلال بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والميل ولو قليلاً إلى الدنيا، يستحق العقوبة في الدنيا، ولو كان المخطئون من خيار خلق الله وفيهم الرسول صلى الله عليه وسلم! ولم يكن درسُ أُحد الأول والأخير من نوعه، فحينما أعجبَ المسلمين كثرتهم في حنين، وساد شعور عند بعضهم أنهم لن يُغلبوا من قلة، وقع لهم ما وقع من الضيق والهزيمة وولوا على إثرها مدبرين، ومع أن الله أنزل السكينة على رسوله والمؤمنين، وتبدلت الهزيمة نصرًا، فقد أنزل الله من آيات القرآن ما يكفي للعظة والاعتبار عبر القرون {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} (¬1). أيها المسلمون، إن ضعف نقد الذات أو تناسي أثر الخطيئة، أو التقليل من شأن عيوب النفس مدخلٌ واسعٌ من مداخل الشيطان، وهو قيدٌ دون بلوغ المعالي، وسببٌ مهمٌ من أسباب تأخر النصر. ويتساءل البعض أذلك أمر واقع؟ ماذا كان فما هي مظاهر ضعف نقد الذات؟ وما هي الآثار السيئة التي تخلفها على الفرد والمجتمع؟ وكيف الطريق لنقد ذواتنا وإصلاح أنفسنا؟ وهل من نماذج تُضيء طريقنا؟ . إن الواقع خير شاهدٍ على ضعف الاهتمام بهذا الجانب المهم، ولكن من الناس من يمارس هذا الداء وهو به عالم، وإنما يمارسه استخفافًا بعقول الآخرين، أو مخادعة ونفاقًا للمسلمين. وهؤلاء غير معنيين بحديث اليوم فلهم حديثٌ آخر أخصُّ وأشملُ. أما الصنف الآخر فهم الذين يجهلون الداء وإن كانوا واقعين فيه، ويستغربون الأمر وإن كانوا من أهله .. ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 25.

حديث اليوم يتجه أكثر للخيرين، ويخاطب أولاً الطيبين الذين ربما تصوروا أنهم خارج الدائرة، وأن غيرهم من أهل الفجور والعصيان، هم السبب الأول والأخير في كل نازلة تنزل بالمسلمين، وبكل محنةٍ يمتحن بها المؤمنون. إن من أبرز مظاهر هذا الداء أن هذا الصنف في الناس يسهلُ عليه تحميلُ الأخطاء على الآخرين، وكلما حصلَ ضيقٌ أو فتنةٌ كان التبرير خارج إطار النفس جاهزًا، أما أن يتجه بالنقد للذات .. ، أما أن تتهم النفوس، وتُبلى السرائر، فذلك آخر خاطر يرد على النفس. ومظهر آخر يتمثل في التهاون بأثر المعصية، وترانا لا نقيم وزنًا للخطيئة نقترفها، ولا نظن بقاء أثر لها في حياتنا، وما أحوجنا أن نتذكر مقولة أنس، رضي الله عنه، (إنكم لتعلمون أعمالاً هي أدقُّ في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) (¬1). وفي كتاب الزهد لأحمد عن محمد بن سيرين أنه لما ركبه الدين اغتم لذلك فقال: إني لأعرف هذا الغنم بذنب أصبته منذ أربعين سنة (ابن القيم: الداء والدواء/ 102). يقول ابن القيم رحمه الله: وهاهنا نكتةٌ دقيقة يغلط فيها الناس في أمر الذنب، وهي أنهم لا يرون تأثيره في الحال، وقد يتأخر تأثيره فيُنسى، وسبحان الله كم أهلكت هذه النكتة من الخلق؟ وكم زالت من نعمة وكم جلبت من نقمة؟ وما أكثر المغترين بها من العلماء والفضلاء فضلاً عن الجهال (¬2) وثالث هذه المظاهر عجبنا بالطاعة نؤديها، وعدم تخوفنا من عدم قبولها، وما أروع حال النفس بين ¬

(¬1) رواه البخاري وغيره (انظر رياض الصالحين/ المراقبة 48). (¬2) المصدر السابق/ 102 - 103.

الخوف والرجاء، تقدم الخير راجية عفو الله، وتزري بنفسها خشية عدم القبول، ومن مأثور ما يستملح في هذا ما روي عن عبد الله بن الإمام الحجة بكر بن عبد الله المزني (رحمهما الله) قال: سمعت إنسانًا يتحدث عن أبي أنه كان واقفًا بعرفة، فقال: (لولا أني فيهم لقلت قد غفر لهم) (¬1). أما المظهر الرابع من مظاهر ضعف نقد الذات فهو الانشغال عن عيوب النفس بتعداد عيوب الآخرين، وإضاعة الأوقات بتقييم أعمال العاملين، وكان الإنسان ينصب نفسه حكمًا فيصوب هذا ويخطئ ذاك، وينسى نفسه في زحمة المحاكمات والموازنات. ومن عيون الشعر قول القائل: يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليمُ ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهتْ عنه فأنت حكيمُ ويل الخلي من الشجي فإنه ... نصب الفؤاد لشجوه مغمومُ وترى الخير قرير عين لاهيًا ... وعلى الشجر كآبة وهموم وينتج عن هذا مظهر خامسٌ يتمثل في تقصير الإنسان بحقوق خالقه أو خلقه، كالتهاون في العبادات البدنية، أو استثقال العبادات المالية، أو التفريط في الواجبات، أو التساهل في أمر المحرمات ... أو ما شابه ذلك من حقوق الله. أما حقوق الخلق فبمنع حقوقهم، أو الاعتداء على أعراضهم، أو التقصير في شيء من واجباتهم .. ويترتب على ذلك انحراف في الطبع، وشرهٌ في النفس، واستصحاب الأدواء المهلكة كالكبر والعجب والحسد ونحوها. ¬

(¬1) رواها ابن يسعد في طبقاته 7/ 209، وعلق عليها الذهبي بقوله: كذلك ينبغي للعبد أن يُزريَ على نفسه ويهضمها (سير أعلام النبلاء 4/ 534).

عباد الله، وثمة مظهرٌ من مظاهر ضعف نقد الذات يتمثل في كرهنا لنقد ذواتنا والتطلع إلى الثناء يُهدي إلينا .. ويطيب لنا الحديث عن الحسنات والإيجابيات، ونضيق حين ذكر السيئات والسلبيات، بل نحب حديث المجامل وإن أدركنا خطأه في الفهم، وتعلونا الكآبةُ حين يتحدثُ الناصح بشيء من عيوبنا وإن كان واقعًا؟ . ومن المظاهر كذلك أن نحتجز طاقةً نمتلكها، ونبخل بجهد يسهلُ علينا تقديمه خدمة لدين الله .. وفرق بين من يحتجز طاقة يملكها ويبخل بالخير يقدمه لنفسه وللمسلمين، وبين من يبلغ به الإيمان والتجرد من حظوظ النفس إلى درجةٍ يبذل ما هو معذورٌ ببذله، ودونكم هذا المثال فتأملوه: قال أنس بن مالك، رضي الله عنه، رأيت يوم القادسية عبد الله بن أم مكتوم، رضي الله عنه، وعليه درع يجر أطرافها، وبيده رايةٌ سوداء فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟ قال: بلى، ولكني أكثر سواد المسلمين بنفسي (¬1). لله درك يا ابن أم مكتوم وأنت تفهم هذا الفهم، رجل أعمى، وشيخ كبيرٌ قد عذرك الله، ولكنك تصر على الجهاد في سبيل الله، لا لتنكأ بالعدل فأنت لا تستطيع ذلك - فإذ لم تستطع فيكفيك أن تكثر سواد المسلمين- فهل رأيتم مثل هذه الإيجابية والفدائية وما أرخصها في سبيل الله؟ . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (¬2). ¬

(¬1) تفسير القرطبي 4/ 266. (¬2) سورة النساء، الآيتان: 95، 96.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله أمر بالصدق ورتب الجزاء للصادقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله تعوذ من العجز والكسل، وأمر بالجهاد والعمل، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين الذين جاهدوا في الله حق جهاده فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين. أيها المسلمون، ومما يسهم في إصلاح أنفسنا ويؤكد ويعين على نقد ذواتنا أن نستشعر المسؤولية الفردية في عمل الدنيا وجزاء الآخرة، وربنا تبارك وتعالى يقول: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (¬1). ويقول جل ثناؤه: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} (¬2). ويقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (¬3). فاستشعار المسلم لهذه الحقيقة كفيلٌ بإصلاح ذاته وإقامتها على منهج الله واستصلاح من استرعاه الله إياه من أهل وولد، استجابةً لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (¬4) الآية: : ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآيات: 12 - 15. (¬2) سورة مريم، الآيات: 93 - 95. (¬3) سورة فصلت، الآية: 46. (¬4) سورة التحريم، الآية: 6.

ومن عجبٍ أن ترى بعض الناس إذا جاء الحديث عن ضعف المسلمين في التمسك بدينهم له القدح المعلى في النقد والتعليق، وقد يكون هو جزءًا من هذا الواقع المشين ولو أنه عوض الكلام بالعمل، وأسهم بحل المشكلة بفعله لا بقوله وأصلح نفسه ومن حوله لصلح أمر الإسلام وعز المسلمون، وهل المجتمع الإسلامي إلا مجموعة من الأفراد والأسر والمجتمعات، يؤثر في مجتمع المسلمين صلاح أو فساد أي منها؟ . ذلك مظهر إيجابي من مظاهر نقد الذات، ولا يقف الأمر عن هذا الحد فثمة مظهر آخر يتمثل في حماية سفينة المجتمع كله من الغرق، وأي مسلمٍ لا يهمه أمر المسلمين؟ وأي إسلام يقعد بصاحبه عن الإنكار على المستهترين بحرمات الدين؟ . وهل يصح أن ترى المنكر وأنت قادرٌ على إنكاره، ثم يُخَّيل إليك أن غيرك مسؤول عنه؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يحملك المسؤولية ويقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع قبقلبه وليس وراء ذللا من الإيمان حبة خردل». فأنت مدعو للمشاركة في حماية حرمات المسلمين وأعراضهم وأموالهم وكراماتهم، وما أروع حياة السلف وهم يفهمون النصح دينًا واستصلاحًا، والإنكار منهجًا للتغيير والإصلاح لا تشهيرًا، فلا يتردد الآمر، ولا يتبرم المأمور، ويبقى الود والصفاء وحسن الظن وإن اختلفت وجهات النظر، وفي قصة الفاروق مع سيف الله المسلول، رضي الله عنهما، نموذجٌ رفيع لأدب المعاملة بين الآمر والمأمور، فعمر، رضي الله عنه، لمصلحة رآها، يعزل خالدًا عن قيادة الجيش في الشام ويولي مكانه أبا عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه، فيسمع ويطيع، بل ويجعل وصيته في النهاية إلى عمر، وعمرُ، رضي الله عنه، حين بلغه موت خالد، رضي الله عنه، ينصفه ويثني عليه

ويترحم ويقول: كان والله سدّادًا لنحر العدو، ميمون النقية (¬1) ... وحين جاءت تركة خالد فلم يوجد بها إلا فرسه وسلاحه وغلامه، لم يتمالك عمر أن يقول: (رحم الله أبا سليمان كان على ما ظنناه به) (¬2) فهل رأيتم كهذا العدل في القول والفعل؟ . وهذا سليمان بن عبد الملك يجتاز المدينة في طريقه إلى مكة، ويرسل إلى أبي حازمٍ شيخ المدينة فيسأله: يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟ فأجابه بكل صدق وصراحة: لأنكم خربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب، قال سليمان: كيف القدوم على الله يا أبا حازم؟ قال: يا أمير المؤمنين أما المحسن فكالغائب يقدُم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه ... وتمضي هذه الكلمات الصادقة لتلامس قلب الخليفة فلا يسعه إلا أن يبكي ويقول: ليت شعري فما لي عند الله؟ . قال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله تعالى حيث يقول: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (¬3)، إلى آخر القصة التي آخرها أشدُ من أولها، لكنها الكلمات الصادقة ينفع الله بها، ويقدّرها حق قدرها العارفون (¬4). يا أخا الإسلام، ومن الإيجابية في نقد الذات واستصلاح النفس ألا ترى سبيلاً للدعوة لدين الله ونشر الخير وأنت قادرٌ عليه إلا سلكته، وقد أودع الله في كل إنسان من الطاقة ما يستطيع بها، بعون الله، أن يسخرها في الخير الذي هو مستطيع له، ومن السلبية أن نظن أن أمر الدعوة خاص بفئة معينة، ومن علائم ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 1/ 383. (¬2) سير أعلام النبلاء 1/ 383. (¬3) سورة الأنفطار، الآية: 13. (¬4) مناهج العلماء في الأمر بالمعروف/ 98.

فقدان نقد الذات أن تشغل نفسك بتقويم عمل فلان، وتخطئة علان من الناس، وأنت بعيد عن الساحة، سلبي في المشاركة .. كيف لا وأنت مدعو للمشاركة في التجارة الرابحة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1). ومم يعين على نقد الذات واستصلاح النفس اختيار أفضل طرق العقلاء فيما يحققون به السعادة لأنفسهم، قال بعض العلماء: (فكرتُ فيما يسعى فيه العقلاء، فرأيت سعيهم كله في مطلوبٍ واحد، وإن اختلفت طرقهم في تحصيله، رأيتهم جميعًا إنما يسعون في دفع الهم والغم عن نفوسهم، فهذا بالأكل والشرب، وهذا بالتجارة والكسب، وهذا بالنكاح، وهذا بسماع الغناء والأصوات المطربة، وهذا باللهو واللعب، فقلت: هذا المطلوب مطلوب العقلاء، ولكنّ الطرق كلها غير موصلةٍ إليه، بل لعلّ أكثرها إنما يوصلُ إلى ضده، ولم أر في جميع هذه الطرق كلها طريقًا موصلة إليه إلا الإقبال على الله ومعاملته وحده، وإيثار مرضاته على كل شيء) وعلق ابن القيم على ذلك موافقًا ومؤكدًا (¬2). يا أخا الإيمان، وثمة طرقٌ أُخري لاستصلاح النفس ونقد الذات، إن فكرت فيها وجدتها، وليس هذا حصرًا لها، والمهم أن تستشعر دائمًا عظمة نعمة الله عليك وتقصيرك في شكرها، وأن تتصور أن كل مصيبة نازلة بالمسلمين فلك سهمٌ في وجودها وفي رفعها بإذن الله، وأن يلاحقك هم المسلمين وواقع المسلمين في كل مكان، فلا ترى ثغرةً ينفذ منها العدو إلا سألت نفسك: هل بإمكاني حراستها؟ وهل كنت سببًا في دخول العدو منها؟ . ¬

(¬1) سورة الصف، الآيتان: 10، 11. (¬2) الداء والدواء/ 328، 329.

بهذه النظرة الإيجابية نحقق نقد ذواتنا، ونقدم الخير لأمتنا، ونستجمع طاقاتنا بدل أن تبدد في القيل والقال .. والتهويش والتجريح والاتهام ... والله من وراء القصد.

نقد الآخرين (ضوابطه وآدابه)

نقد الآخرين (ضوابطه وآدابه) (¬1) الحمد لله رب العالمين أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الظلم والفجور والعصيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحب الرفق في الأمور كلها، وقد أنزل على عبده {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (¬2). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله كان من آخر وصاياه في حجة الوداع: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله» (¬3). اللهم صلى وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله المؤمنين وارض اللهم عن صحابته أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (¬4). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬5). أيها المسلمون، وسبق الحديث عن نقد الذات وحاجتنا إليه، وإذا علمنا ذلك ووعيناه في واقعنا، فلا يعني ذلك أن ننكفئ على أنفسنا ونعتزل الآخرين، فهذا ¬

(¬1) في 17/ 11/ 1416 هـ. (¬2) سورة الحجر، الآية: 88. (¬3) ابن حبان في موارد الظمآن رقم 25 بإسناد رجاله ثقات، السيرة في ضوء المصادر الأصيلة/ 684. (¬4) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71. (¬5) سورة الحجرات، الآية: 13.

خطأ، ويقابله خطأ آخر، وهو أن ننشغل بنقد الآخرين، والوسطية في ذلك أن نبدأ بنقد ذواتنا، وإصلاح أنفسنا، فإذا رُمنا نقد الآخرين، وإصلاح أخطاء المخطئين، فلابد من أصول وضوابط، ولابد من طرائق وأساليب، العلم بها شرط لازمٌ، وسريان النقد بموجبها ينفع الله بها الناقد، ويستصلح المنقود. وكم أحدث غياب هذه الأصول والضوابط الشرعية، والآداب الإسلامية، من فتن وخصومات، وضياع ذمم، وهدر أوقات، وفتح ثغرات مقفلة، والغفلة عن ثغرات مفتوحة، فتسلل العدد الخارجي إلى أرضنا، ونحن في شغل ومهاترات داخليةٍ بيننا، وحق لنا جميعًا أن نتذكر قول حبيبنا صلى الله عليه وسلم «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم» (¬1). مصيبة أيها المسلمون أن تقطع أوصال الأمة، وتغيب هويتها، ويعتدى على مقدساتها ... ويعبث المنافقون بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، والمسلمون في شغل شاغل بينهم، ورحى المعركة تدور لتحصد البقية الباقية منهم، وتركز على الصفوة منهم ... إنها الطامة الكبرى، والحالقة للدين، وإنها الأجواء التي يتنفسن فيها المنافقون، ويستثمرها لصالحهم المجرمون، ويمتد على حسابها أعداء الأمة العابثون. لابد لتستعيد الأمة المسلمة مجدها وكرامتها من تنقية الأجواء بين المسلمين، ولابد من إصلاح السرائر ودفن الضغائن، لابد من التخلي عن حظوظ النفس، ولابد من التجرد من الهوى، ولابد من مراغمة الشيطان، وأساس ذلك كله تقوى الله وإصلاح ذات البين، وحسن الظن، وتقديم القول الحسن، وكل ذلك من طاعة الله وطاعة رسوله، وهكذا أُدِّبَ المسلمون حين وقع الخلاف بينهم: ¬

(¬1) رواه مسلم، مختصر المنذري، 1804.

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (¬1). وكذلك أمر المسلمون بالتخاطب فيما بينهم: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} (¬2). عباد الله، لا قوام للأمة المسلمة ولا فلاح إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬3). وتتخلى الأمة عن خيريتها إذا تخلت عن هذه الشعيرة المهمة من شعائر دينها {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (¬4). والنقد البناء في طريقنا في البناء، وأي مجتمع تسود أفراده الأنانية وتقديس الذات فهو إلى فناء، وأي أمة لا تأبه بالخطأ يقع، ولا يتناهى أبناؤها عن المنكر يحل فلن تسلم من غضب الجبار ولعنته: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (¬5). ولكن إلانة القول في النصح مطلب، والرفق بالنقد منهج، وإليكم شيئًا من آداب ومطالب وضوابط النقد للآخرين فافقهوها، واعملوا بها تنجوا وتفلحوا. ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 1. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 53. (¬3) سورة آل عمران/ الآية: 104. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 110. (¬5) سورة المائدة، الآيتان: 78، 79.

1 - العلم أولاً، فلابد من العلم فيما يؤمر به أو ينهى عنه خشية أن يأمر بمنكر وهو يظنه معروفًا، أو ينهى عن معروف وهو يظنه منكرًا، وهنا يغلط صنفان من الناس: صنف يعلم ويسكت خوفًا أو مجاملةً أو لأي غرض من أغراض الدنيا، وصنف يأمر وينهى ولكن دون علم، وبسبب ذلك تقع المصائب والفتن والشرور. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، يرحمه الله: (وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت آخرون عن الأمر والنهي فيكون ذلك من ذنوبهم، وينكر عليهم آخرون إنكارًا منهيًا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم، فيحصل التفرق والاختلاف والشرور، وهذا من أعظم الفتن والشرور قديمًا وحديثًا .. ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك، ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشايخها ومن تبعهم من العامة من الفتن، هذا أصلها) (¬1). 2 - الإخلاص في النصح والصدق في النقد، وذلك بأن يشعر بالأسى وهو يرى أخاه المسلم واقعًا في المعاصي فلا يهدأ له بال حتى يقوم بنصحه شفقة عليه، وتتمالكه الرأفة والرحمة وتدعوه روابط الأخوة إلى انتشال أخيه من وحشة الذنب، ويظهر على محياه الصدق، وعلى كلماته نور الإخلاص حتى يستشعرها صاحبه، فلا يملك إلا أن يستجيب له .. ويقدر له نصحه. أما إذا كان النقد لأغراض شخصية، أو ثأرًا لعداوةٍ قديمة، أو دافعه الحسد والبغضاء، أو التنازع على مكانة أو رئاسة أو لإظهار الشماتة أو التحقير أو الفرح بالخطأ يقع من أجل إظهار الفضيحة والتشهير، فذلك أبعد ما يكون عن الإخلاص والصادق، والأعمال بالنوايا، ولكل امرئ ما نوى .. ¬

(¬1) الفتا وى 28/ 142، 143.

بل ذكر العلماء أن الناقد ولو كان بحق لكن قصده العلو في الأرض، أو الفساد كان بمنزلة الذي يقاتل حميةً ورياءً، وإن تكلم لأجل الله مخلصًا كان من الجاهدين في سبيل الله من ورثة الأنبياء (¬1) فاحرصوا معاشر المسلمين على الإخلاص جهدكم فربكم أعلم بما تكن صدوركم، وإياكم والكذب ومخادعة النفس أو مخادعة الآخرين، فلا يصح إلا الصحيح، وحبل الصدق متين، وبضاعة الكذب مزجاة، ولحوم العلماء مسمومة؟ ! ! 3 - ولابد مع العلم والإخلاص والصدق من العدل في القول، قال تعالى وهو أصدق القائلين: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (¬2). فلا يعني خطأ المرء مرة وصمه بالخطأ أبد الدهر، ولا تنسف سيئةٌ أو أكثر أضعافها من الحسنات، ولا ننسي تاريخ المجاهد المتفاني في عدد من المعارك والجولات عثرة فرسه في إحدى اللقاءات. ومن ذا الذي تُوضَى سجاياه كلها كفى المرء نُبلاً أن تُعَدَّ معايبُهْ وإذا كان الإسلام يأمر بالعدل مع الخصوم، وألا تقعد بنا بالعداوة عن قول الحق والعدل كما في قول الحق {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى .. } (¬3). فكيف يسوغ لنا أن ننسى العدل مع إخواننا والأقربين من المسلمين؟ بالعدل أيها الإخوة قامت السموات والأرض، وبالظلم تحطمت صروح الحضارات، وفنيت الأمم، بالعدل يقيم الله الدولة العادلة، وإن كانت كافرة ¬

(¬1) الفتاوى 28/ 235. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 152. (¬3) الفتاوى 28/ 146.

ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة (¬1)! هكذا قيل قديمًا، وكذلك يشهد التاريخ حديثًا. إن التجافي عن العدل يحطم مقدور الأمة، ويهدر طاقاتها، ويصاب بالإحباط ذوو القدرات من أبنائها إذا زلت بهم القدم مرة أو غلبتهم أنفسهم أخرى، وإن العدد سبيل إلى النهوض، وأمانُ من اليأس والقنوط: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (¬2). لقد كان أهل السنة والجماعة قديمًا وحديثًا أعدل الناس، يترحمون على المجتهد المصيب، وينكرون على المبتدع الضال، وينصفون المجتهد المخطئ، فلا يتركون الأخذ عن عالمٍ أخطأ في مسألة، وله من الحسنات ما يكفر عن هذه السيئة، ولا ينسفون جهوده كلها بسبب زلة وقعت له، وما أروع ما سطره الإمام الذهبي في عدد من تراجمه لسير أعلام النبلاء، وإليك بعضًا منها: يقول عن قتادة بن دعامة السدوسي (المفسر): ( ... كان يرى القدر نسأل الله العفو، ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكمٌ عدلٌ، لطيفٌ بعباده، ولا يسأل عما يفعل، ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك) (¬3). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 8. (¬2) سورة الزمر، الآية: 53. (¬3) سير أعلام النبلاء 5/ 271.

أما ابن حزم، العالم البحر، فقد كانت له اجتهاداتٌ خاطئة، وجرت بينه وبين عدد من العلماء مناظراتٌ وخصومات، وقد أنصف الذهبي من نفسه حين قال عنه: (ولي أنا ميلٌ أبي محمد لمحبته في الحديث الصحيح، ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال والعلل، والمسائل البشعة في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير ما مسالة، ولكن لا أكفره ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين، وأخضع لفرط ذكائه، وسعة علومه .. ) (¬1). فهل رأيتم كهذا المنهج النقدي عند علم من أعلام المسلمين؟ ألا ما أحوجنا في حياتنا المعاصرة إلى الاعتدال في تقييم الآخرين ... وما أحرانا بتلمس مناهج وطرائق السابقين ... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (¬2). نفعني الله وإياكم بهدى القرآن، وهدانا لاتباع شرع محمد عليه الصلاة والسلام. أقول ما تسمعون واستغفر الله. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 18/ 202. (¬2) سورة النساء، الآية: 135.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين يقصُّ الحقَّ وهو خير الفاصلين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، حرّم على نفسه الظلمَ وجعله بين عباده محرمًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أثنى عليه ربه بجلائل الأخلاق وكرم الشمائل، فقال جل من قائل عليمًا: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬1). وزكى خلقه ربه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬2). اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين، وأرض اللهم عن أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، أيها المسلمون، فلئن قعد الضعف واتباع الهوى بأقوام عن إنصاف غيرهم من المسلمين المجتهدين فنالوهم بالتجريح والأذى والتهوين، فقد بلغ التجدد بأخرين أن يترفعوا عن سباب من آذاهم، بل ويوصوا أتباعهم بعدم الانتصار لهم، وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية، يرحمه الله، تكثر التهم حوله حين أُدخِل السجن، ويروج الكذاب والشائعات حول منهجه ومؤلفاته، فيكتب رسالة مطولة لأتباعه، ومما قال فيها: ( ... تعلمون كثرة ما وقع في هذه القضية من الأكاذيب المفتراة، والأغاليط المظنونة، والأهواء الفاسدة، وأن ذلك أمر يجل عن الوصف، وكل ما قيل من كذب وزور هو في حقنا خيرٌ ونعمة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ .. } (¬3). ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية 128. (¬2) سورة ن، الآية 4. (¬3) سورة النور، الآية: 11.

وقد أظهر الله من نور الحق وبرهانه ما رد به إفك الكاذب وبهتانه، فلا أُحبُّ أن يُنْتَصَتَر من أحدٍ بسبب كذبه عليَّ أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللتُ كل مسلمٍ، وأنا أحبُّ الخير لكل المسلمين، وأُريدُ لكل مؤمنٍ من الخير ما أُحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهم في حلٍّ من جهتي .. ). وهذا القول من الشيخ سبقه كلامٌ عن نعَم الله عليه المتزايدة، وهو في السجن، وانتشار كتبه، وإقبال الخلق على سبيل السنة والجماعة، وحاجة الأمة إلى تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين (¬1). وهو كلام نفيس جدير بمن ينتسبون إلى العلم والديانة أن يقرؤوه، ومن يبحثون عن منهج أهل السنة والجماعة في أدب الاختلاف أن يتأملوه، وينهجوه .. وتبقى بعد ذلك الدعاوى إذا لم يقم عليهن دليلٌ أصحابها أدعياء؟ 4 - إخوة الإيمان، ومن الآداب المشروعة في نقد الآخرين إلانةُ القول وتحري دواعي القبول .. فهذا فرعون قد حكم الله بكفره وضلاله واستكباره، يؤمر الرسولان الكريمان في سبيل دعوته بإلانة القول له {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (¬2). وكذلك يؤمر المصطفى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} (¬3). فإذا كانت إلانة القول في النصح مطلبًا وإن عُلِم عدم استجابة المنصوح، فكيف ترونه ينبغي أن يكون الأمر عند من يُرجى قبوله النصح؟ إن الكلمة الطيبة سهمٌ ينفذ إلى القلوب، فينفع الله بها من أراد له الهدى، وإن ¬

(¬1) سورة الفتاوى/ 28/ 42 - 55. (¬2) سورة طه، الآيتان: 43، 44. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 159.

فظاظة القول، وقسوة الخطاب، حاجز عن سماع الحق، موجبًا لنفرة الخلق {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (¬1). ولئن كانت مهمة المرسلين- عليهم السلام- البلاغ المبين، فلا يُطلب من غيرهم هداية المنحرفين- وما عليهم إلا تحري دواعي القبول بالكلمة الطيبة، والموعظة البليغة، وذكر المحسان في المقدمة ... فإن البدء بما للمرء من محاسن يحطم الكبرياء في النفس، ويهِّيءُ النفس لسماع ما بعده من الحق والنقد ولكن ... لا ينبغي الإسراف فيه بحيث يداخل النفس العُجْبَ والغرور ... أو الاكتفاء به بحيث يرى المرء أن حياته كلها حسنات، فلا يستسيغ السماع بعد، ممن جاءه مذكرًا إياه بالأخطاء والسيئات. 5 - ومن ضوابط النقد المجادلة بالتي هي أحسن، وذلك بأن يكون صاحبه قاصدًا لإيضاح الحق أو طامعًا في أتباع خصمه له .. أما إن كان قصدُه الغلبة على الخصم، ومجرد الظهور تحقيقًا لحظ النفس، وتدعيمًا لشهوة الهوى، فذلك المراء المذموم شرعًا ... إذا كنا معاشر المسلمين مأمورين بالتي هي أحسن في مجادلة أهل الكتاب، كما قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (¬2) فهل ترونه يسوغ بين المسلمين تبادل التُّهم، والرغبة في الانتصار على الخصم لا أكثر؟ وهكذا ينبغي أن يكون سلاح المجادلة، الكلمة الصادقة، والحجة القاطعة لا غير، أما استخدام القوة الغاشمة سبيلاً إلى النصرة بغير حق فذلك طريق العاجزين، وما أجمل ما قاله ابن القيم رحمه الله، وهو يتحدث عن مجادلة أهل ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 159. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 46.

الكتاب وغيرهم من الكفار في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، ومما قال: (وإنما جعل السيف ناصرًا للحجّة، وأعدل السيوف سيفٌ ينصر حُجَج الله وبيناتِه، وهو سيف رسوله وأمُته) (¬1). 6 - النصح بين السر والعلن، لقد سبق القول أن النصح لمجرد التشهير مخالف للإخلاص، ولاشك أن خلوتك بشخصٍ يستخفي بذنبه أدعى لنصحه وأقرب لقبول نفسه: تَعَمَّدْني بِنُصْحِكَ في انفرادي ... وجنِّبني النصيحةَ في الجماعة فإن النصحَ بين الناس نوعٌ ... من التوبيخ لا أرضى اسمتاعهُ فإن خالَفْتَني وعَصَيْتَ أمْري ... فلا تغضبْ إذا لْم تُعْطَ طاعة ولهذا قال أهل العلم: فمن أظهر المنكر وجب عليه الإنكار، وأن يُهْجَر ويُذمّ على ذلك، وهذا معنى قولهم: من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له، بخلاف من كان مستترًا بذنبه، مستخفيًا فإن هذا يُسْتَر عليه، لكن يُنصح سرًا، ويهجره من يعرف حاله حتى يتوب (¬2). ويتحدث شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، عن نوعين من أعداء الدين، لابد من جهادهما، وبيان حالهما للناس، ويقول: (وقد أمر الله نبيه بجهاد الكفار والمنافقين في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (¬3). فإذا كان أقوامٌ منافقون يبتدعون بدعًا تخالف الكتاب، ويُلّبسونها على الناس، ولم تُبَيَّن للناس، فسد أمر الكتاب، وبُذِّل الدين، كما فسد دين أهل ¬

(¬1) زاد المعاد 3/ 642. (¬2) الفتاوى 28/ 220. (¬3) سورة التحريم، الآية: 9.

الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم يُنْكَرْ عل أهله .. ) بل يصِفُ الشيخ طائفةً ثالثةً لابد من الإنكار عليها علانية، وبيان حالها للناس فيقول في كلامٍ بديعٍ أنقله لكم بنصه وحروفه: (وإذا كان أقوامٌ ليسوا منافقين، لكنهم سمّاعون للمنافقين، قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقًا، وهو مخالفٌ للكتاب، وصاروا دعاةً إلى بِدَع المنافقين، كما قال تعالى: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} (¬1)، فلابد أيضًا من بيان حال هؤلاء، بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم، فإنّ فيهم إيمانًا يوجِبُ موالاتهم، وقد دخلوا في بِدَعٍ من بِدَعِ المنافقين التي تُفْسد الدين، فلابد من التحذير من تلك البِدَع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم، بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق، لكن قالوها ظانين أنها هدى، وأنها خير، وأنها دين- ولم تكن كذلك- لوجب بيان حالها) (¬2). وهكذا تتضح الحاجة إلى النصح سرًا وعلنًا، حسب مقتضيات الأحوال والظروف. أيها المسلمون، هذه بعضٌ من الشروط والضوابط والآداب في نقد الآخرين، يُلْحَقُ بها: نقد الفكرة أَوْلى من نقد الأشخاص، وبيان المنهج الحق كفيلٌ ببيان عورِ المناهج المنحرفة، لأن الأشخاص يذهبون، والأفكار تبقى، وإغفال الناقد وإهماله- أحيانًا- أقصر الطرق لنسيانه، وربما أعطاه فرصةً للتأمْل في ذاته، بل كان من منهج أهل السنة والجماعة، أحيانًا، إغفال الفكرة كذلك وعدم الرد عليها حتى لا يكون ذلك سبيلاً إلى بقائها بعد فناء أصحابها، ومعرفة أجيال لم تشهدها من قبل. ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 47. (¬2) الفتاوى 28/ 233.

ويلحق كذلك بطرائق النقد وأساليبه: ألا تطول سلسلة النقد، وجواب النقد، فجواب الجواب، حتى لا تثير الضغائن والأحقاد بين الأفراد، بعضهم لبعض، بصفةٍ دائمةٍ، ويُوقَف الكلام عند حدود اتضاح الوجوه المختلفة للطرفين (¬1). إخوة الإيمان، وفي زحمة المناظرات والردود، والانتصار للنفس، تضيع أغلى مهمة للنقد، ألا وهي الرغبة في الإصلاح، ودفع الفساد .. وذلك حين يسوف المنتقد في نقد من انتقده، وربما تناسى غيره من الخصوم الصرحاء، بل ربما وسوس له الشيطان أن ذلك المنتقد أخطر وأولى بالنقد ... وهكذا يتسلل الأعداء، ويفرح المنافقون، إذ تخلو الساحة من الرقابة عليهم ... ويأمنون من متابعة الخيرين لمخططاتهم، إذ هم في شغُلٍ شاغلٍ بينهم ... وتُسْتباح المحرمات، وتُرْسِم البرامج والمخططات، ويصطلي بنارها الناقد والمنقود .. ولا يفرق المجرمون بين غالب أو مغلوب، ما داموا في دائرة الخيرين .. وهكذا تُحْفَر القبور بأيدي أصحابها .. وتُطْرَف العيون بأقرب عضو إليها! ! ألا ما أحوج الصادقين لجمع الكلمة .. وإصلاح ذات البين، وتجميع الطاقات، فمكر الأعداء كبيرٌ، وأنفاس الحياة معدودةُ، والانشغال بالبناء ومجاهدة الكفار والمنافقين أولى وأحرى من إشغال النفس بالهدم والتقليل من شأن المسلمين. حذار عباد الله أن يتجارى بكم الشيطان كما يتجارى بأصحاب الأهواء فترون المنكر معروفًا، وتظنون المصلحين مفسدين، وحذار معاشر العلماء والدعاة وطلبة العلم من التخلي عن دوركم في الإصلاح والإنكار فيتحمل الدعوة غيركم ممن لافقه في الإنكار عندهم، فيبقى دوركم مقتصرًا على نقدهم والاستهانة بهم. ¬

(¬1) المودودي، التذكرة ص 90.

اللهم ألهمنا رشدنا، وبصِّرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، اللهم ربِّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض .. اللهم هل بلّغت، اللهم فاشهد.

(1) السحر، حقيقته وحكمه ولماذا ينتشر؟

(1) السحر، حقيقته وحكمه ولماذا ينتشر؟ (¬1) الحمد لله الذي أنار بنور كتابه دياجير الظُّلم، ونوّر بأنوار هدايته قلوب العرب والعجم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحاط علمه بالكائنات، فلا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السموات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ما فتئ يحذر الأمة من كل داء يضر بها في الدين والدنيا، ويدعوها إلى الخير والهدى حتى توفاه الله، وترك في الأمة نورين يتجدد ضياؤهما، ولا يزال الناس بخير ما استمسكوا بهما، وعنهما قال: «تركتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما، كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض» (¬2). اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وعلى إخوانه من الأنبياء، وارض اللهم عن آل بيته المؤمنين، وصحابته الخيّرين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إنما اليوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا. فأما بعد فاتقوا الله عباد الله وارجوا اليوم الآخر ولا يصدنكم الشيطان فينسيكم ذكر الله .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬3). واحذروا أن تكونوا ممن قال الله فيهم: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (¬4). ¬

(¬1) في 1/ 5/ 1417 هـ. (¬2) رواه الحاكم عن أبي هريرة بسند صحيح (صحيح الجامع 3/ 39). (¬3) سورة الحشر، الآية: 18. (¬4) سورة المجادلة، الآية: 19.

أيها المسلمون، وبقي من الحديث عن نواقض الإسلام، الحديث عن السحر، ذلكم البلاء المستشري، والحقيقة المرة. داءٌ من أدواء الأمم قديمًا، عرفته، ولسوء أثاره اتهمت به الأنبياء، وهم منه براء {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (¬1). وهو مشكلةٌ من مشكلات الزمن حديثًا، وفي عصر التقدم المادي تزداد ظاهرة السحر والشعوذة نفوذًا، وتجري طقوسه في أكثر شعوب العالم تقدمًا، وربما أقيمت له الجمعيات والمعاهد، أو نظمت له المؤتمرات والندوات (¬2). وهنا لابد من وقفة تُجيب على عدة أسئلة، منها: ما معنى السحر؟ وهل له حقيقة؟ وما حكم تعلمه والعمل به؟ وما جزاء السحرة؟ ولماذا يروج السحر في بلاد المسلمين؟ وما حكم الذهاب للسحرة والعرافين؟ وما عقوبة الذاهبين؟ وما هي عوامل الوقاية وطرق الخلاص من السحرة والمشعوذين؟ إخوة الإسلام، أما معنى السحر فيطلق في لغة العرب على كل شيء خفي سببه، ولطف ودق، ولذلك قالوا «أخفى من السحر» (¬3). أما تعريفه في الشرع فهو كما قال ابن قدامة: «عقد ورُقى يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئًا يؤثر في بدن المسحور، أو قلبه، أو عقله، من غير مباشرة له» (¬4). ¬

(¬1) سورة الذاريات، الآية: 52. (¬2) العبد اللطيف، نواقض الإيمان/ 501. (¬3) عالم السحر والشعوذة، الأشقر/ 69. (¬4) المغني 8/ 150.

وهو أنواعٌ مختلفة، وطرائق متباينة، ولذا قال الشنقيطي، رحمه الله: «اعلم أن السحر لا يمكن حده بحد جامع مانع، لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشتركٌ بينها يكون جامعًا لها، مانعًا لغيرها، الداخلة تحته، ولا يتحقق قدر مشتركٌ بينها يكون جامعًا لها، مانعًا لغيرها، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء قي حدة اختلافًا متباينًا» (¬1). ومن السحر الصرف والعطف، والصرف هو صرف الرجل عما يهوى، كصرفه مثلاً عن محبة زوجته إلى بغضها، والعطف عملٌ سحري كالصرف، ولكنه يعطف الرجل عما لا يهواه إلى محبته بطرق شيطانية. والسحر محرم في جميع شرائع الرسل عليهم السلام (¬2) وهو أحد نواقض الإسلام- كما علمتِ- حتى قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، يرحمه الله: فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} (¬3). وقد دل القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة، وأقوال أهل العلم على أن للسحر حقيقة، كيف لا؟ والله يقول: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (¬4)، ويقول {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ .. } (¬5)، ويقول عن موسى عليه السلام: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (67) قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى (68) ¬

(¬1) أضواء البيان 4/ 444. (¬2) العلوان، التبيان/ 50. (¬3) سورة البقرة، الآية: 102. (¬4) سورة الفلق، الآية: 4. (¬5) سورة البقرة: الآية: 102.

وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (¬1)، وفي الحديث المتفق على صحته: عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: (سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق يقال له لبيد ابن الأعصم حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخيل إليه أنه يفعل الشيء، وما يفعله (¬2) .. الحديث). قال النووي: (والصحيح أن السحر له حقيقة، وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة) (¬3). بل قال الخطابي بعد أن أثبت حقيقة السحر، ورد على المنكرين: (ففي السحر جهلٌ، والرد على من نفاه لغوٌ وفضل) (¬4). إخوة الإيمان، أما مكمن الخطر فهو في تعليمه، والعمل به، لما في ذلك من الكفر والإشراك بالله من جانب، وإلحاق الأذى والضرر بعباد الله من جانب آخر، قال الله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬5). ويبين الشيخ السعدي- يرحمه الله- وجه إدخال السحر في الشرك والكفر فيقول: (السحر يدخل في الشرك من جهتين: من جهة ما فيه من استخدام الشياطين ومن التعلُّق بهم، وربما تقرب إليهم بما يحبون، ليقوموا بخدمته، ¬

(¬1) سورة طه، الآيات: 66 - 69. (¬2) البخاري مع الفتح 15/ 222، ومسلم، كتاب السلام، باب السحر. (¬3) انظر الفتح 15/ 222، الصارم البتار، وحيد بالي/ 46. (¬4) شيخ السنة 12/ 188. (¬5) سورة البقرة، الآية: 102.

ومطلوبه، ومن جهة ما فيه من دعوى علم الغيب، ودعوى مشاركة الله في علمه، وسلوك الطرق المفضية إلى ذلك، وذلك من شُعَب الشرك والكفر) (¬1). ويقول الذهبي: ( .. فترى خلقًا كثيرًا من الضلال يدخلون في السحر، ويظنون أنه حرام فقط، وما يشعرون أنه الكفر .. ) (¬2). أيها المسلمون، ولهذا جاء تحذير المصطفى صلى الله عليه وسلم عن السحر أكيدًا شديدًا، وجاء حكم الشريعة في السحرة صارمًا عدلاً، يقول عليه الصلاة والسلام: «اجتنبوا السبع الموبقات .. » (¬3) فعد منهن السحر، والموبقات هي المهلكات. وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر» (¬4). وفي حديث ثالث يبلغ تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: «ليس منا من تطير أو تُّطيَّر له، أو تكهن أو تُكهِّن له، أو سَحر أو سُحر له، ومن أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» (¬5). أما حكم السحرة وحدهم فيتولى ابن تيمية، رحمه الله: (أكثر العلماء على أن الساحر كافر يجب قتله، وقد ثبت قتل الساحر عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وحفصة بنت عمر، وعبد الله بن عمر، وجنوب بن عبد الله) (¬6). ¬

(¬1) القول السديد من 74، 75. (¬2) الكبائر: 41، العبد اللطيف، نواقض الإيمان/ 517. (¬3) رواه البخاري ومسلم (ح 2766، ح 89). (¬4) رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، قال الهيثمي: ورجال أحمد وأبي يعلى ثقات (المجمع 5/ 74). (¬5) رواه البزار وقال المنذري: إسناده جيد، الترغيب 4/ 32، وحسنه الألباني في تخريج الحلال والحرام برقم 289. (¬6) الفتاوى 29/ 384.

وعن بجالة بن عبدة أنه قال: كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، فقتلنا ثلاث سواحر) (¬1). وفي رواية عن أبي داود بسند صحيح عن بُجالة ابن عبدة قال: جاءنا كتاب عمر، رضي الله عنه، قبل موته بسنة: (اقتلوا كل ساحر .. ) (¬2). قال ابن قدامة معلقًا على هذا الأثر: (وهذا اشتهر فلم يُنكَر، فكان إجماعًا) (¬3). وإنما جاء حكم الشريعة بقتل الساحر لأنه مفسد في الأرض يفوق بين المرء وزوجه، ويؤذي المؤمنين والمؤمنات، ويزرع البغضاء، ويشيع الرعب، ويفسد على الأُسَر ودها، ويقطع على المتوادين حبهم وصفاءهم، وفي بقائه على وجه الأرض فساد كبير على الأفراد والمجتمعات، وفي قتله قطع لفساده، وإراحة البلاد والعباد من خُبثه وبلائه. والله لا يحب المفسدين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} (¬4). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ... ¬

(¬1) أخرجه أبو داود وأحمد والبيهقي وابن حزم في المنفى وصححه 13/ 740، 773. (العبد اللطيف، نواقض الإيمان/ 512). (¬2) العنوان: احذروا السحر والسحرة/ 1. (¬3) المغني 8/ 153. عن نواقض الإيمان/ 512. (¬4) سورة يونس، الآيتان: 69، 70.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، عنده مفاتح الغيب، لا يعلمها إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن يمسسك بضر فلا كاشف له إلا هو، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، تضرع إلى ربه حين ناله الأشرار بسوء فكشف الضر عنه وعافاه .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أما بعد، فالسؤال المهم الذي ينبغي أن نشترك جميعًا في الإجابة عليه: لماذا يروج السحر ويكثر السَّحرَة في بلاد المسلمين؟ وللإجابة عليه يمكن رصد عدد من الأسباب، ومنها: 1 - ضعف الإيمان في نفوسنا أحيانًا، إذ الإيمان دعامةٌ كبرى، ووقايةٌ عظمى من كل فتنةٍ وشر ومكروه {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (¬1). وفى الحديث: «إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم» (¬2) فحين يضعف الرجاء بالله، ويقل الخوف منه، ويهتز جانب التوكل على الله، والرضاء بما قدر، واليقين بما قسم يتسامح بعض الناس بالذهاب للسحرة والمشعوذين فيزيدهم ذلك وهنًا على وهنهم وتستلب أموالهم وعقولهم. 2 - الجهل بأحكام الشريعة، وما جاء فيها من زواجر عن الذهاب إلى هؤلاء السحرة والعرافين، وما ورد في ذلك من ضير على المعتقد والدين. ¬

(¬1) سورة التغابن، الآية: 11. (¬2) رواه الطبراني والحاكم وسنده صحيح (صحيح الجامع 2/ 56).

وهل يذهب إليهم من عرف وقدر قوله المصطفى صلى الله عليه وسلم «من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» (¬1) الحديث. أما إن سألهم وصدقهم فالخطب أكبر، والخطر أعظم، فقد روى الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» (¬2). وعند البزار بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، موقوفًا قال: «من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم» (¬3). 3 - سذاجة بعض المسلمين وجهلهم بحال أولئك السحرة والمشعوذين، فتراهم يذهبون يستطبون عندهم، وأولئك لا يملكون من أنواع العلاج إلا ما يضر ولا ينفع، تخرصات وأوهام، وفصدٌ للعروق تسيل منه الدماء، وتمتماتٌ وطلاسم، وكتاباتٌ ورُبُط تُباع بغالي الأثمان، وهي لا تساوي فلسًا عند أولي الألباب. بل ولو ذهبت ترقُبُ أحوال هؤلاء المشعوذين الدينية والخلقية لرأيت العجب العجاب، ولأيقنت أنهم أحوج الناس إلى العلاج والاستصلاح، وإن نصبوا أنفسهم على هيئة الشيوخ، وحُذّاق الأطباء؟ ! 4 - طغيان الحياة المادية المعاصرة قست له القلوب، وجفت ينابيع الخير في أرواح كثير من الناس، ونتج عن ذلك العقد النفسية، والمشكلات الوهمية، وارتفاع مؤشر القلق، وزاد الطين بلة ظن أولئك المرضى أن شفاءهم يتم على ¬

(¬1) رواه مسلم (2230). (¬2) المستدرك 1/ 8، وانظر التبيان، للعلوان/ 58. (¬3) احذروا السحر والسحرة، العلوان/ 2.

أيدي السحرة والمشعوذين، فراحوا يطرقون أبوا بهم، ويدفعون أموالهم، وينتظرون الشفاء على أيديهم، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار (¬1). 5 - وباتت بعض بيوت المسلمين مرتعًا للشياطين، يقل فيها ذكر الله، وقل أن يقرأ فيها كتاب الله، أو تُوردَ فيها التعاويذ والأوراد الشرعية التي لا يستقرُّ معها الشياطين، وفي مقابل ذلك تجد هذه البيوت ملأى بأنواع المنكرات المرئي منها والمسموع، والصور العارية وغير العارية، وألوان الكتب والمجلات السيئة، وقد لا تخلو من مأكول أو مشروب محرَّم، وهذه البيوت الخربة، وإن كان ظاهرها العمران، تصبح مأوى للشياطين، وتصطاد أهلها وتصيبهم بالأدواء، فلا يجدون في ظنهم سبيلاً للخلاص إلا عن طريق السحر والشعوذة والكهانة، وهكذا يسري الداء، وكلما ابتعد الناس عن الله ومنهجه، عظمت حيرتهم وكثُر بلاؤهم، ووجد شياطين الجن والإنس لدجلهم رواجًا. 6 - ضعف دور العلماء والمفكرين، وأهل التربية في التحذير من السحرة، وبيان الأضرار الناجمة عن الذهاب للمشعوذين والعرافين، وتلك، وربي، تستحق أن تُعْقَد لها الندوات، وأن تسلط عليها الأضواء في وسائل الإعلام المختلفة، حتى يتم الوعي ولا يؤخذ الناس بالدجل. 7 - وإذا عُطِّلَ أو قل تنفيذ حكم الله في السحرة، أو ضعفت المتابعة لهم، انتشروا وراج دجلهم، وقد يكون من أسباب ذلك عدم الإثبات، وضعف تعاون الناس في البلاغ، إذ من الناس من يقل أو ينعدم خوفه من الله، فيسعى في الأرض مفسدًا، إلا أن تردعه قوة أو يخاف الحد، ومن المعلوم أن الله يزع ¬

(¬1) عالم السحر والشعوذة/ الأشقر ص 8، 88.

بالسلطان ما لا يذع بالقرآن، وقد جاء في حديث يصح وقفه- دون رفعه- «حد الساحر ضربة بالسيف» (¬1). وينبغي أن يتعاون الناس في الرفع للجهات المسؤولة لمن يُثبتُ تعاطيه السحر. 8 - انتشار العمالة الوافدة بشكل عام، ومن غير المسلمين بشكل أخص، والحذر الحذر من السائقين والخدم، ففيهم من يتعاطى السحر أو يتعاون مع أهله، ولهم على البيوت في ذلك آثار سيئة، ينبغي التفطن لها، ومن أعظم وسائلهم جمع الشعر وإرساله وعقد السحر فيه، وكم هو جهد مشكورٌ لموظف بريد أو رجل جوازات اكتشف شيئًا من وسائل السحر والشعوذة فأراح المسلمين أو غيرهم منها، وسلم الله المجتمع من أضرارها، بسبب يقظته وشعوره بالواجب. 9 - استمرار المرض، وضيق الصدر، وقلّة الصبر، وضاعف الاحتساب للأجر عند الله، كل ذلك قد يدفع البعض للذهاب لهؤلاء، وإن لم يكن مقتنعًا في البداية، وربما أقنع نفسه أو أقنعه غيره أن ذلك من فعل الأسباب، والإنسان لا شك مأمور بفعل الأسباب، لكنها الأسباب المشروعة دون المحرمة. 10 - والدعاية الكاذبة سبب لرواج السحر وذهاب الناس لهؤلاء الدجالين، فقد يكتب الله شفاءً لمريض على أيدي هؤلاء لتكون له فتنة، فيطير بالخبر وينشر في الآفاق الدعوة للذهاب لهؤلاء ليفتن غيره كما فُتِن، وبعض الناس لديه القابلية للتصديق لأي خبر دون تمحيص أو النظر في العواقب، وهكذا يفتن ¬

(¬1) أخرجه الترمذي وقال: لا يصح رفعه، والبيهقي، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 4/ 360 نواقض الإيمان/ 512).

الناس بعضهم بعضًا، ويجرئ بعضهم بعضًا، ويكونون أداة للدعاية الكاذبة الخاسرة من حيث يشعرون أو لا يشعرون؟ عباد الله، هذه بعض الأسباب لرواج السحر، والذهاب للسحرة، وقد يكون هناك غيرها .. ومن العدل والإنصاف أن يقال: إنه على الرغم من انتشار السحر، ووجود من يذهب إليهم، فثمة فئام من المسلمين يربؤون بأنفسهم ومن تحت أيديهم عن الذهاب لهؤلاء الدجالين من السحرة، والكهنة والعرافين والمشعوذين، يحميهم الدين، ويبصرهم العقل، وملاذهم التوكل واليقين، وزادهم الصبر واحتساب الأجر من رب العالمين، وتلك شموع تضيء، وهي نماذج للعلم والعقل والدين. جعلنا الله منهم وإخواننا المسلمين. أيها المسلمون، ويبقى بعد ذلك حديثٌ مهمٌ عن عوامل الوقاية من هذا الداء، وطرق الخلاص المشروعة لمن ابتلى بشيء من ذلك، وأمور أخرى مهمة أرجئ الحديث عنها للخطبة القادمة بإذن الله. اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا، اللهم اشف مرضانا وعافِ مُبتلانا، واحفظ علينا ديننا وأمتنا وإيماننا. اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفقهم للعمل بكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم. اللهم ول على المسلمين خيارهم، وأكفهم شر شرارهم، اللهم ومن أرادنا أو أراد أمتنا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره يا رب المسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين .. اللهم اشف مرضى المسلمين، واقض الدين عن المدينين، ونفس كرب المكروبين، وارحم موتاهم ..

(2) السحر (طرق الوقاية والعلاج)

(2) السحر (طرق الوقاية والعلاج) (¬1) إن الحملة لله، نحمده ونستعينه، ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آل محمد وأزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يون الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (¬2). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (¬3). أيها المسلمون، وحيث سبق الحديث عن السحر، حقيقته وحكمه، وجزاء السحرة والذهاب إليهم، وأسباب رواج السحر في بلاد المسلمين .. فإن حديث اليوم استكمال لما سبق، وإذا كان ما سبق تشخيصٌ للداء، فحديث اليوم توصيف للدواء، وتلمسٌ مشروعٌ للوقاية وطرق العلاج. وليس يخفى أن اتقاء السحر قبل وقوعه أولى وأحرى من التعب في استخراجه بعد الوقوع، ويحفظ الناس من مأثور الحكم: (الوقايةُ خيرٌ من العلاج). ¬

(¬1) في 8/ 5/ 1417 هـ. (¬2) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71. (¬3) سورة النساء، الآية 1.

وإليكم، إخوة الإسلام، شيئًا من الطرق الوقائية للسحر قبل وقوعه، وما أحرانا جميعًا بتأملها والعمل بها. أولاً: تجديد الإيمان في النفوس كلما آنس المرء من نفسه ضعفًا، والالتجاء إلى الله كلما خاف المرء على نفسه عدوًا، ومن يركن إلى الله فإنما يأوي إلى ركنٍ شديدٍ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وهذا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى تجديد إيماننا ويقول «إن الإيمان ليُخلَق في جوف أحدكم كما يَخلَقُ الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم» (¬1). وأي قوة مهما بلغت، وأي عدو، مهما كانت شراسته، لا شيء أما قوة الله وجبروته {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬2). ومن لوازم الإيمان الاستمساك بشرع الله أمرًا ونهيًا، علانيةً وسرًا، وهل علمتم أن من أسباب انتشار السحر قديمًا، وفساد بني إسرائيل خصوصًا بعدهم عن الشريعة التي أنزل الله عليهم، ونبذهم تعاليمها، واتباعهم للشياطين الذين استدرجوهم إلى السحر وزينوه لهم، وسولت لهم أن تسخير الجن والإنس والطير والريح لسليمان عليه السلام من اتباع الشياطين: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ .. } (¬3) (¬4). ثانيا: نشر العلم بقضايا العقيدة، والحرص على سلامتها، وبيان ما يخدشها، وتعميم الوعي بمخاطر السحر والشعوذة، وتحذير الناس منها ¬

(¬1) صحيح الجامع 2/ 56. (¬2) سورة البقرة، الآية: 137. (¬3) سورة البقرة، الآية: 2، وانظر: الأشقر، السحر والشعوذة/ 245. (¬4) انظر الأشقر، السحر والشعوذة/ 245.

بمختلف وسائل الإعلام، وتوسيع دائرة الوعي بمدارس البنين والبنات، وبالطرق المناسبة، واستخدام المحاضرة والندوة والمطوية أسلوبًا من أساليب التوعية عن هذه الأدواء. ثالثا: تشجيع المؤسسات الحكومية ذات العلاقة على الرقابة الدقيقة لكل ما يرد أو يصدر لهذا البلد الآمن، والأخذ بجزم كل من تسول لهم أنفسهم الإضرار بالآخرين، ولابد من تعاون الناس مع هذه الجهات المسؤولة، وسرعة البلاغ عما يثبت من محاولات الإفساد، والكشف عن أماكن التجمعات المشبوهة، ورصد التحركات المريبة، والله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬1). رابعًا: إصلاح البيوت وعمارتها بالذكر والصلاة وتلاوة القرآن، وفي الحديث «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» (¬2). وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام موجهًا لأثر صلاة النافلة في البيت «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورًا» (¬3). قال النووي معلقًا: (حث على النافلة في البيت لكونه أخفى وأبعد عن الرياء؛ وأصون من المحبطات، وليتبرك البيتُ بذلك، وتنزل فيه الرحمة والملائكة وينفر منه الشيطان) (¬4). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 2. (¬2) رواه مسلم في صحيحه ج 780، 1/ 539 (¬3) متفق عليه (خ 1/ 528 فتح، م 6/ 68 النووي). (¬4) شرح مسلم 6/ 68، وقاية الإنسان/ 69.

ودونكم أثر السلام، وهو نوع من الذكر، أدّبنا الله إلى البدء به حين الدخول إلى البيوت فقال جل ذكره {فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} (¬1). وأرشدنا إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم، واعتبره ضمانًا على الله للحفظ والأمان فقال: «ثلاثة كلهم ضامنٌ على الله عز وجل، وذكر منهم، رجلاً دخل بيته بسلام فهو ضامنٌ على الله سبحانه وتعالى» (¬2). ولا تسأل عن أثر قراءة آخر آيتين من سورة البقرة، {آمَنَ الرَّسُولُ .... } {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا .. } فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه» (¬3). ومن المعاني الواردة في قوله (كقتاهُ) أي من الشيطان، ولهذا جاء في حديثٍ آخر «إن الله كتب كتابًا وأنزل منه آيتين، ختم بهما سورة البقرة، لا يقرءان في دار فيقرُّ بها الشيطان ثلاث ليال» (¬4). فهل نحضن بيوتنا، ونحفظ أنفسنا وأولادنا وأهلينا بذكر الله والصلاة وتلاوة القرآن ... مع استبعاد كل ما يجمع الشياطين من الصور والكلاب والغناء ونحوها من المنكرات الأخرى ... ذلكم لمن رام النجاة في الدنيا والآخرة. خامسًا: ومما يدفع الله به الإصابة من السحر، التصبح بسبع تمرات من تمر العجوة، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: «من تصبح بسبع تمراتٍ من تمر ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 61. (¬2) رواه أبو داود بإسناد حسن، كما قال النووي (الأذكار 2، وقاية الإنسان من الجن والشيطان، وحيد بالي/ 363). (¬3) رواه البخاري (القتح 9/ 55). (¬4) أخرجه الحاكم، وصححه .. (انظر: الأشقر: عالم السحر والشعوذة/ 212).

العجوة لم يُصِبه سمِّ ولا سحر» (¬1). وقد اشترط كثيرٌ من أهل العلم في التمر أن يكون من العجوة- كما في الحديث- وذهب آخرون إلى أن لفظ العجوة خرج مخرج الغالب، فلو تصبَّح بغيرها نفع، وهو قولٌ قويّ، وإن كان تمر العجوة أكثر نفعًا وتأثيرًا، كذا قال أهل العلم- والله أعلم- (¬2). سادسًا: التنبُّه لمخاطر العمالة الوافدة، والاستغناء عن السائقين والخدم ما أمكن، وإذا لزم الأمر فلابد من المراقبة الدقيقة لتصرفاتهم حتى لا يكونوا سببًا في نشر السحر والشعوذة والناس غافلون. سابعًا: ونظرًا لسهولة انتشار السحر والشعوذة عند النساء أكثر منه في الرجال فينبغي على المرأة أن تحفظ نفسها في بيتها ولا تُكثر من الخروج للأسواق، وألا ترتاد الأماكن المشبوهة، وعلى الأزواج أن يحافظوا على أهليهم في بيوتهم ويوفروا لهم حوائجهم. ثامنًا: أما الحصنُ الحصين، والسبب الوافي المنيع- بإذن الله- من كل سوء ومكروه فهو المحافظة على الأوراد الشرعية في الصباح والمساء، وهي صالحة للاستشفاء قبل وقوع السحر أو بعد وقوعه، وكيف لا؟ وهي الأدوية الإلهية كما يسميها ابن القيم، رحمه الله، ومع مسيس حاجة الإنسان لهذه الأذكار فما أكثر ما يقع التفريط فيها! وإليكم نماذج منها وأثرها: (أ) فمن قرأ أية الكرسي حين يأوي إلى فراشه لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح. كذلك صح الخبر (¬3). ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) انظر: احذروا السحر والسحرة/ العلوان/ 3. (¬3) البخاري 4/ 487، الفتح.

(ب) ومن قرأ بالآيتين الأخيرتين من سورة البقرة كفتاه، وقد سبق البيان. (جـ) وقراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} حين تُمسي وحين تصبح ثلاث مرات، يكفيك من كل شيء (¬1)، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم. (د) وكان عليه الصلاة والسلام يعوذ الحسن والحسين ويقول: إن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق «أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان، وهامة، ومن كل عين لامة) (¬2). والهامة ذات السموم، وقيل: كل ما له سم يقتل، واللامة: كل داء وآفة تلمّ بالإنسان من جنون وخبل (¬3). (هـ) وصح في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك». فهل يصعب عليك ذلك يا أخا الإسلام وأنت محتاجٌ لذلك لكثرة حلولك وارتحالك؟ وهل تعجز أن تقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة «بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء» ثلاث مرات؟ وهي كفيلة بإذن الله أن لا يضرك أي شيء كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬4). أيها المسلمون، وكتب الأذكار مليئةٌ بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي يدفع الله بها، ويمنع من كل مكروه .. وحري بالمسلم أن يطالعها ويعمل بها ¬

(¬1) رواه أبو داود 4/ 321 والترمذي 5/ 227 وحسنه النسائي وجود الألباني إسناده. (¬2) أخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح (الصحيح المسند في أذكار اليوم والليلة- العدوي- 108). (¬3) قاله الخطابي (انظر الصحيح المسند- لمصطفى العدوي/ 108). (¬4) صحيح المسند للعدوي/ 94.

ويحافظ على ورده منها صباحًا ومساءً، وأن يعلمها أهله وذويه، ومع المحافظة لابد من الصدق والإيمان والثقة بالله والاعتماد عليه، وانشراح الصدر لما دلت عليه، فبذلك ينفع الله بهذه الأوراد، ويدفع، كما قرره أهل العلم (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً (82) وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (¬2). نفعني الله وإياكم بهدى القرآن وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام. ¬

(¬1) انظر: رسالة في حكم السحر والكهانة/ ابن باز ص 7. (¬2) سورة الإسراء، الآيات: 82 - 84.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خيرٌ حافظًا وهو أرحم الراحمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نصح الأمة ورسم لها طريق الاستقامة. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء ... أيها المسلمون، وإذا وقع السحر أو حصل الأذى على المسلم بشكل عام فحريٌ به أن يصبر ويحتسب، وتزداد ثقته بالله وتوكله عليه، وأن يضرع إليه بالدعاء لكشف الضر، فلا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا جُناح عليه بفعل الأسباب المباحة شرعًا لعلاج السحر فما هي وسائل علاج السحر بعد وقوعه؟ . لاشكَّ أن الرقى والتعاويذ الشرعية سبب مهمٌ، وعلاج نافع بإذن الله، كيف لا والله يقول: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} (¬1). والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: « .. لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك» (¬2) وفي حديث آخر «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه» (¬3). قال أهل العلم: إن الرُّقى تكون مشروعةً إذا تحقق فيها ثلاثة شروط: الأول: أن لا يكون فيها شرك ولا معصية كدعاء غير الله. الثاني: أن تكون بالعربية أو ما يفقه معناه. الثالث: أن لا يعتقد كونها مؤثرةً بنفسها، أن يكون القارئ لها صالحًا وموقنًا بنفعها. ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 82. (¬2) رواه مسلم. (¬3) رواه مسلم .. وانظر: الأشقر السحر والشعوذة/ 203).

أيها المسلمون، وينفع الله بالرقى المشروعة- وقايةً أو علاجًا- إذا توفر صدق اليقين، والتوكُّلُ، وكونُ القلبِ معمورًا بذكر الله ودعائه ... وفي هذا يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله: ( ... فالقلب إذا كان ممتلئًا من الله، معمورًا بذكره، وله من التوجُّهات والدعوات والأذكار والتعوُّذات وردُ لا يُخَلُّ به، يطابقُ فيه قلبه لسانَه كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له، ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه ... ) إلى أن يقول- موضحًا من يتأثرون بالسحر- (وعند السحرة أن سحرهم إنما يتم تأثيُره في القلوب الضعيفة المقفلة، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسُّفليات، ولهذا فإن غالب ما يؤثر في النساء، والصبيان، والجهال، وأهل البوادي، وقد ضَعُف حظُّه من الدين والتوكل والتوحيد، ومَن لا نصيبَ له من الأوراد الإلهية، والتعوذات النبوية) (¬1). ئانيًا: ومن طرق علاج السحر بعد وقوعه بذل الجهود في معرفة موضع السحر، واستخراجه وإبطاله، والاستعانة على ذلك بالدعاء والتضرع لله، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل ربه- حين سُحِرَ- فدُلَّ على مكان السحر .. وفي هذا تقول أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها: (حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة، وهو عندي، لكنه دعا، ودعا، ثم قال: يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشمٍ ومُشاطة، وجُفِّ طلعةِ نخلةٍ ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ناسٍ من ¬

(¬1) زاد المعاد 4/ 127.

أصحابه، فجاء فقال: يا عائشة، كأن ماءها نقاعةُ الحناء، وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين» (¬1). وهكذا أطلع الله نبيه على موضع السحر فاستخرجه واستراح منه، وعصمه الله من آثاره السيئة، ولم يكن ذلك قادحًا في مقام النبوة كما قرر أهل العلم. قال القاضي رياض، فظهر بهذا أن السحر إنما على جسده وظواهر جوارحه لا على تميزه ومعتقده، بل ذهب بعضُ أهل العلم إلى أن ذلك من دلائل نبوته وعلائم عصمته حيث دله الله على مكانه ولم يؤثر فيه السحر، وفي مرسل عبيد الرحمن بن كعب عند ابن سعد (فقالت أختُ لبيد بن الأعصم: إن يكن نبيًا فسيُخبر، وإلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله) (¬2). أيها المسلمون وهنا يرد السؤال: هل يجوز الذهاب للسحرة للتعرف منهم على مكان السحر ومن سحر؟ وما معنى قول ابن المسيب كما في البخاري معلقًا عن قيادة: قلت لابن المسيب: رجل به طِبٌ أو يُؤخذ عن امرأته أيحل عنه أن ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه (¬3). أقول سبق البيان في الخطبة الماضية عن حكم الذهاب للسحرة لسؤالهم أو تصديقهم .. وأنقل لكم الآن طرقًا من أقوالِ أهلِ العلم في حل السحرِ عن المسحور يقول ابن القيم رحمه الله: حلُّ السحر عن المسحور نوعان، أحدهما: حلُّ بسحرٍ مثله وهو الذي من عمل الشيطان .. والثاني النشرة بالرقية والتعويذات والأدوية والدعوات المباحث فهذا ¬

(¬1) الحديث متفق عليه. (¬2) فوقع الشق الأول كما ثبت في الصحيحين (الأشقر السحر والشعوذة/ 184، 185). (¬3) (الصحيح مع الفتح 10/ 232).

جائز .. أما ما رواه البخاري عن ابن المسيب، فهو محمول على نوع من النشرة لا محذور فيه، لأن الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لما سئل عن النشرة: هي من عمل الشيطان» (¬1) وقال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم يرحمه الله: وقال بعض الحنابلة: «يجوز الحُّل بسحرٍ ضرورةً، والقول الآخر أنه لا يحل، وهذا الثاني هو الصحيح .. - في كلامٍ وتدليلٍ يطول نقله-» (¬2) ويقول سماحة الشيخ ابنُ باز رحمه الله: «وأما علاجُ السحر بعمل السحرةِ الذي هو التقربُ إلى الجنِ بالذبح أو غيره من القربات، فهذا لا يجوز لأنه من عمل الشياطين، بل من الشرك الأكبر فالواجب الحذر من ذلك كما لا يجوز علاجه بسؤال الكهنة والعرافين والمشعوذين واستعمال ما يقولون لأنهم لا يؤمنون ولأنهم كذبةٌ فجرةٌ يدَّعون علم الغيب ويلبسون على الناسِ، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من إتيانهم وسؤالهم- كما سبق بيان ذلك» (¬3) أهـ. ثالثًا: ومن الأدوية المباحة لعلاج السحر: الحجامة وقد فصل القول فيها ابن القيم، وأجاب عن العلاقة بين السحر والحجامة (¬4) .... كما ذكر ابن بطال، ونقله ابن حجر في الفتح، وابن باز في رسالته عن السحر علاجًا يصلح للرجل إذا حبس عن أهله: وهو: أن يأخذ سبع ورقاتٍ من سدر أخضر فيدقه بين حجرين، ثمَّ يضربه بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسي، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وثم يحسو منه ثلاث ¬

(¬1) (التبيان/ 57). (¬2) انظر: فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم 1/ 165. (¬3) (رسالة في حكم السحر والكهانة/ 9). (¬4) زاد المعاد 4/ 125.

حسيات ثم يغتسل به، فإنه يذهب عنه كلَّ ما به وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله) (¬1). (ألا فاتقوا الله عباد الله وإذا تداويتم فلا تتداووا بالحرام، يقول عليه الصلاة والسلام «إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواءً، فتداووا، ولا تداووا بالمحرم» (¬2). وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه «إن الله لم يجعل شفاءكم في ما حرم عليكم» (¬3). ألا وإني أُذكر المسلمينَ عمومًا والمرضى بالسحر خصوصًا .. التضرع إلى الله وسؤاله الشفاء وفي محكم التنزيل {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (¬4). وأُخوِّفُ السحرة والمشعوذين بالله وأن يتوبوا إلى بارئهم وأن يكفوا عن أذى خلقه، فإن أمد الحياة قصير، والله يمهل الظالم ولا يهمله، وإذا أخذه فإن أخذه أليم شديد .. وفرق بين سحرة فرعون حين كانوا سحرة أشرارًا وحين، انضموا إلى قافلة المؤمنين فخروا لله ساجدين وكان مما قالوا: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى} (¬5). اللهم اصرف عنا الأشرار، وأبطل كيد الفجار، وثبت الهداة الأخيار، واهد إليك قلوب العباد ... ¬

(¬1) (الفتح 10/ 233، رسالة السحر لابن باز ص 9). (¬2) أخرجه أبو داود بسند حسن (أبو داود (3874 في الطب) وانظر: زاد المعاد 4/ 154). (¬3) (أخرجه البخاري تعليقًا 10/ 68، والسابق 4/ 154). (¬4) سورة الشعراء، الآية: 80. (¬5) سورة طه، الآيات: 74 - 76.

آفة العين وطرق الوقاية والعلاج

آفة العين وطرق الوقاية والعلاج (¬1) إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه، وعلى إخوانه من الأنبياء، وعلى آل بيته الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. فأما بعد فأوصي نفسي وإياكم، معاشر المسلمين، بتقوى الله امتثالاً لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (¬3). أيها المسلمون، وحديث اليوم امتداد للحديث السابق عن الآفات والعلل التي تُصيبُ بعض بني الإنسان، وكيف يحفظ الله منها. حديث اليوم عن آفة تستنزل الفارس عن فرسه و (تورد الرجلَ القبرَ وتُدَّخِلُ الجمل القِدْرَ) (¬4). إنها «العين» و (العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا ¬

(¬1) في 22/ 5/ 1417. (¬2) سورة الحشر، الآية: 18. (¬3) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71. (¬4) رواه أبو نعيم في الحلية، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4023).

استغسلتم فاغتسلوا) (¬1) كذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم. جاءت الإشارة إلى العين في القرآن الكريم على لسان يعقوب عليه السلام حين خاف على أبنائه فقال: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (¬2). وهكذا يفعل المؤمنون الأسباب، ويبقى التوكل على الله ملاذًا آمنًا، ومعتقدًا صادقًا، يأخذون بالحيطة والحذر، ويؤمنون بالقضاء والقدر، ويثقون بقدرة الواحد الأحد {وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ}. وجاء في القرآن أيضًا إخبارٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم عن حسد الكافرين له، ومحاولة إنفاذه بأبصارهم {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} (¬3). قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: (لَيُزْلِقُونَكَ) أي يعينونك بأبصارهم، بمعنى يحسدونك ... قال ابن كثير: وفي هذه الآية دليلٌ على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل كما ورد بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة) (¬4). إخوة الإيمان، وينبغي أن يعلم أن العين إنسيةٌ وجنِّيةٌ، بمعنى أنها تصيب من الجنّ كما تُصيبُ من الإنس، فعن أم سلمة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عنه وسلم قال لجارية ¬

(¬1) رواه مسلم في صحيحه في كتاب السلام، باب الطب والرقى. (¬2) سورة يوسف، الآية: 67. (¬3) سورة القلم، الآية: 51. (¬4) تفسير ابن كثير 8/ 227.

في بيتها، رأى في وجهها سفعة: (بها نظرة استرقوا لها) (¬1). والسفعة علامة من الشيطان، وقيل ضربةٌ واحدةٌ منه (¬2). والمعنى: بها عينٌ أصابتها نظرةٌ من الجن أنفذ من أسنة الرماح (¬3). ولهذا (كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من (الجان)، ومن (عين الإنسان) حتى إذا نزلت المعوذتان أخذ بهما، وترك ما سوى ذلك) (¬4). عباد الله، ومع ثبوت العين وأثرها بإذن الله، حتى قال عليه الصلاة والسلام «أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين) (¬5). فلا ينبغي الإفراط ولا التفريط بشأنها، وكما لا يسوغ إنكارها .. فلا ينبغي الإسراف بشأنها ونسبة كل شيء إليها .. وفوق ما مضى من الأدلة يردُّ ابن القيم، رحمه الله، على المنكرين لأثر العين بقوله: (فأبطلت طائفةٌ ممن قل نصيبهم من السّمع والعقل، أمر العين وقالوا: إنما ذلك أوهامٌ لا حقيقة لها، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجابًا، وأكثفهم طباعًا، وأبعدهم معرفةً عن الأرواح والنفوس وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها، وعقلاءُ الأمم علي اختلاف مللهم ونِحَلهم، لا تدفع أمر العين ولا تُنكرِه، وإن اختلفوا في سببه، وجهة تأثير العين .. ) (¬6). أما المسرفون بشأن العين فتطاردهم الأوهام، ويحاصرهم القلق، ويضيف عندهم اليقين، ويختل ميزان التوكل. أولئك يعظمون البسيط، وينسبون كل ¬

(¬1) رواه البخاري ومسلم [خ 10/ 171، م (97)]. (¬2) النهاية 2/ 375. (¬3) شرح السنة 12/ 163. (¬4) أخرجه الترمذي، وحسبه وأخرجه غيره (2059/ زاد المعاد/ 4/ 165). (¬5) رواه البخاري في التاريخ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1217). (¬6) زاد المعاد 4/ 165.

إخفاق أو فشل إلى العين، وإن لم يكن بهم عين، وربما استدرجهم الشيطان فأمرضهم وما بهم مرض، وأقعدهم عن العمل وما بهم علّة، ذلكم أن نسبة العجز والكسل إلى الآخرين أسهل من الاعتراف به وتحمّل لوم الآخرين. وبين هؤلاء الجفاة والغلاة تقف طائفة من الناس موقفًا وسطًا، تؤمن بالعين وتصدق بآثارها نقلاً وعقلاً، ولا تُغالي فتنسب كل شيء إليها، تتقي العين قبل وقوعها، وتفعل الأسباب المأذون بها شرعًا بعد وقوعها. أيها المسلمون، وإذا كان هذا كله يقال (للمَعين) فيقال للعائن: اتق الله، ولا تضر أحدًا من إخوانك المسلمين، وإياك والحسد فإنه منفذٌ للعين فكل عائنٍ حاسدٌ، وليس كل حاسدٍ عائنًا، ولما كان الحاسدُ أعمَّ من العائن كما في قوله تعالى {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (¬1). والعائن ربما فاتته نفسه أحيانًا، فوقعت منه العين، وإن لم يردها، وقد يكون العائن صالحًا، وربما أصاب أقرب الناس إليه، وإن لم يقصد، من والدٍ أو ولد. ولذا يوصى المسلم عمومًا، والعائن خصوصًا بذكر الله والتبريك حينما يعجبه شيء، وتلك وصية من وصايا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يأمرنا بها حين يقول: «وإذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يُعجبُه فليَدعُ له بالبركة فإن العين حق) (¬2). إن النفوس المؤمنة لا يفارقها الذكر، ولا ترضى للآخرين بالضُّرِّ، ويصاحبها الدعاء والتبريك والشكر {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ ¬

(¬1) سورة الفلق، الآية: 5. (¬2) رواه أبو يعلى في مسنده، والطبراني في الكبير، والحاكم في مستدركه بسند صحيح (صحح الجامع الصغير 1/ 212).

بِاللَّهِ} (¬1). على أن المسلم نفسه ينبغي أن يحتاط لنفسه، ويدفع غوائل الشر عنه ما استطاع، وإذا كانت العينُ سهمًا تخرجُ من نفس الحاسد أو العائن نحو المحسود والمعين فهي تصيب تارةً وتُخطئُ تارة، فإن صادفته مكشوفًا لا وقاية عليه أثرت فيه ولابد، وإن صادفته حذرًا شاكي السلاح لا مَنفَذَ فيه للسهام لم تؤثر فيه (¬2) كذا قال العارفون. فإن قلتَ: وكيف أتقي العين؟ وما أعظم سلاح ألوذُ به؟ أجبت بأن الأذكار والأوراد الشرعية أعظم ما يحفظ الله بها الإنسان، فاسم الله الأعظم لا يضر معه شيء، و (قل أعوذ برب الفلق)، و (قل أعوذ برب الناس) ما تعوذ متعوذ بمثلهما، وقراءة آية الكرسي والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة يحفظ الله بهما عباده المؤمنين، وقد سبق لك البيان ... إلى غير ذلك من أوراد الصباح والمساء التي بسطها العلماء في كتب الأذكار. قال ابن القيم: ومما يدفع به إصابة العين قول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، روى هشام بن عروة عن أبيه أنه كان إذا رأى شيئًا يُعجبهُ أو دخل حائطًا من حيطانه قال: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله. ومنها رُقية جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم التي رواها مسلم في صحيحه (بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك) (¬3). ولقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم بالرقية، وقال لأسماء بنت عُمَيس، رضي الله عنها: (مالي أرى ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 39. (¬2) ابن القيم (زاد المعاد 4/ 167). (¬3) مسلم 2185 في السلام/ باب الطب.

أجسام بني أخي ضارعة- أي نحيفة-؟ يصيبهم الحاجة؟ قالت: لا، ولكن العين تسرع إليهم، فقال: ارقيهم، فعرضت عليه فقال: ارقيهم) (¬1). أعوذ الله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}. نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب، وسنة المصطفى عليه السلام، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم. ¬

(¬1) رواه مسلم، كتاب السلام 2198.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وهو أهل الثناء والحمد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها المسلمون، ومن وسائل اتقاء العين- أيضًا- التبريك، وهو قولك: (اللهم بارك عليه) للشيء تراه أو يُذكرُ لك فيُعُجبُكَ، إذ قد تقع منك العين وإن لم تردها، فعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: (اغتسل أبي، سهل بن حنيف، بالخرار (¬1) فنزع جبةً كانت عليه، وعامرٌ بنُ ربيعةَ ينظر إليه، وكان سهلُ شديدَ البياض، حسنَ الجلد، فقال عامر: ما رأيتُ كاليوم، ولا جلدَ مخبأةٍ عذراء، فوُعكَ سهلٌ مكانه واشتد وعكه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوعكهِ فقيل له: ما يرفعُ رأسه، فقال: هل تتهمون له أحدًا؟ قالوا: عامر بن ربيعة، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيَّظَ عليه فقال: علامَ يقتلُ أحدُكم أخاه؟ ألا برَّكتَ؛ اغتسل له، فغسل عامرٌ وجههُ ويديهِ، ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه، وداخِلَةَ إزاره في قَدَحٍ، ثم صُبَّ عليه من ورائه، فبرأَ سهلٌ من ساعتِه) (¬2). عباد الله، وإذا كان التبريك سببًا واقيًا بإذن الله عن وقوع العين، فإن اغتسال العائن ووضوءه بماء يُصب على المعين شفاءٌ له بإذن الله- كما سمعتم بقصة سهل بن حنيفٍ وعامر بن ربيعة، رضي الله عنهما- وهو مفسرٌ لقوله، صلى الله عليه وسلم، «وإذا استغسلتم فاغتسلوا» (¬3). ¬

(¬1) من أودية المدينة. (¬2) رواه مالك وأحمد والنسائي وابن ماجه بسند صحيح (انظر: صحيح الجامع الصغير 3908، وحاشية زاد المعاد 4/ 163 هامش 4). (¬3) رواه مسلم في كتاب السلام/ باب الطب والرقى.

ولذا، فينبغي للمسلم ألا يمتنع عن الاغتسال إذا اتهمه أهل المعين، أو أحسّ هو من نفسه أنه عانَ أحدًا من المسلمين. أيها المسلمون، وثمة وقايةٌ من العين، بإذن الله، يغفل عنها كثيرٌ من الناس، ألا وهي: ستُر محاسن من يخاف عليه العين، بما يردها عنه، فقد ذكر البغوي في شرح السنة أن عثمان، رضي الله عنه، رأى صبيًا مليحًا، فقال: (دسموا نونته كيلا تُصيبه العين). ثم شرحه بقوله: ومعنى دسّموا: أي سودوا، والنونة: الثقبة أو النقرة التي تكون في ذقن الصبي الصغير (¬1). إخوة الإيمان، ويبقى بعد ذلك أمران مهمان: يسنُ التنبيه إليهما- حين الحديث عن العين-. الأول منهما: ألا أكثر من التطير والتشاؤم، وأحسن الظن بالله، وتُقوي جانب التوكل عليه، وأن يلازمنا الفأل الحسن فقد كان عليه الصلاة والسلام يُعجبه الفأل، ونهى عن الطيَرة فقال: «الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن يُذهبُه الله بالتوكل» (¬2). وفي قوله: وما منا إلاّ ولكن: أي وما منّا إلا ويعتريه التطّير، ويسبق إلى قلبه لكراهة له .. ولكنّ الله يُذهبه بالتوكل، ولا يؤاخذه الله بما عرض له، ولم يعبأ له وسلم أمره لله (¬3). ثانيًا: ألا ننسى حظوظ النفس وآثار المعاصي في وقوع المصائب والكوارث لبني الإنسان، فكثيرٌ من الناس إذا وقع لهم مرضٌ أو اعترته مصيبةٌ عزاه للعين ¬

(¬1) شرح السنة 12/ 166، ابن القيم: زاد المعاد 4/ 173. (¬2) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، واللفظ لأبي داود (3910، 1614). (¬3) لعل الله أن ييسر الحديث عن هذه الظاهرة السيئة الخلل في العقيدة بشيءٍ من الإيضاح والبيان.

مباشرة دون أن يتهم نفسه، أو يفتش في أحواله وعلاقته بربه، صحيحٌ أن العين حق- وقد سبق البيان- ولا يُماري في ذلك مسلمٌ يؤمن بنصوص الكتاب والسنة، ولا عاقلٌ يرى أثر العين رأي العين ... ولكن الذي ينبغي ألا يُنسى أن للذنوب أثرًا في وقوع المصائب، كيف لا؟ والحق تبارك وتعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (¬1). قال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من اختلاجِ عِرقٍ، ولا خدشِ عودٍ، ولا نكبة حجر إلا بذنب، ولمِاَ يعفو الله عنه أكثرُ» (¬2). وقال عكرمة: ما من نكبةٍ أصابت عبدًا فما فوقها إلا بذنوب لم يكن الله ليغفره له إلا بها، أو لينال درجة لم يكن ليوصله إليها إلا بها» (¬3). ويقول تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} (¬4). روى الإمام مسلم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: لما نزلت هذه الآية بلغت من المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كَفَّارة، حتى النّكبَةُ يُنكُبها، أو الشوكة يُشاكها» (¬5). قال ابن عبد البر، رحمه الله: (الذنوب تكفرها المصائب والآلام، والأمراض والأسقام، وهذا أمر مجتمع عليه) (¬6). أيها المسلمون، ولا يقف الأمر في المصائب التي يبتلي الله بها عباده عند ¬

(¬1) سورة الشورى، الآية: 30. (¬2) تفسير القرطبي 16/ 31. (¬3) تفسير القرطبي 16/ 31. (¬4) سورة النساء، الآية: 123. (¬5) رواه مسلم: (4/ 1993، 2574). (¬6) التمهيد 23/ 26.

حدود تكفير السيئات، بل فيها زيادة حسناتٍ ورفعة درجات، فعن أم المؤمنين، عائشة رضي الله عنها قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما ضرب على مؤمن عرقٌ قطُّ إلا حطّ الله به عن خطيئته، وكتب له حسنة، ورفع له درجةً) (¬1). ألا فاحتسبوا ما يُقدّر الله عليكم من المصائب والأسقام .. واستغفروا ربكم واشكروه، ولا تُحيلوا كل شي للعين وإن كانت العين حقًا. عصمني الله وإياكم من الذنوب والآثام، وعافانا والمسلمين من كيد الفجار وحسد الحساد. ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وأقره الذهبي، وحسن سنده المنذري وغيره (المستدرك 1/ 147، الترغيب 4/ 150). تحفة المريض/ 17.

دلائل الإيمان في القرآن

دلائل الإيمان في القرآن (¬1) الحمد لله رب العالمين، خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فالق الحب والنوى، يُخرج الحيَّ من الميتِ، ومخرج الميت من الحي، ذلكم الله فأنى تُؤفكون، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، أزكى البشرية وأتقاها، وأعظمها إيمانًا بربِّ العالمين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه الغر الميامين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. فأما بعد أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ولزوم طاعته، فتلك وصية الله للأولين والآخرين {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} (¬2). أيها المسلمون، ، ويقلبُ العقلاء أفئدتهم وأبصارهم في ملكوت الله العظيم فيزيدهم ذلك إيمانًا بعظمة الخالق، ودقة الصانع: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (¬3). ويتأمل المختصون بعلوم البحار في عالم البحار، وقاع المحيطات، فيرون في اختلاف مياهها ملوحةً أو عذوبةً، حرارةً أو برودةً، وأنواعًا من الحيتان ¬

(¬1) في 2/ 4/ 1417 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 131. (¬3) سورة البقرة، الآية: 164.

تختلف أشكالها، وطعومها، وأحجامها، وخَلَقًا آخر، وجواهرَ، ودُررًا لا يُحيطُ بها إلا من خلق وهو اللطيف الخبير. فمن أقام بين البحرين حاجزًا، وجعل بينهما برزخًا وحجرًا محجورًا؟ ومن أزجي الفلك وسيّرها على ظهره وأجرى الرياح وسخرها ليبتغي الناس من فضله؟ أو ليس الله رب العالمين ... فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ (32) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} (¬1). ويقرأ العالمون بالفلك ويرى غيرهم في عالم السماء كيف رفع الله السبع الشداد بلا عمد، وجعلَ فيها أنواعًا من المخلوقات لا يعلمها إلا الله، وأودع فيها من الغيوب والأرزاق ما اختص الله بعلمه، وينزله للناس في حينه بقدر ويُبصِر الناسُ، كلَّ الناسِ، كيف زيَّن الله السماء الدنيا بمصابيح يهتدي بها المسافرون، ويُرجَم بها الشياطين، وجعل للنجوم مواقع، وللشمس والقمر منازل بها يستدل الحاسبون، ويعرف الناسُ الأزمان والشهور .. تُرى مَن أجراها على الدوام وسخرها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها؟ إنه الله الولي الحميد. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2). ويح أولئك الذين لا يشكرون، وما أكثر الذين هم عن نعم ربهم غافلون ¬

(¬1) سورة الشورى، الآيات: 32 - 34. (¬2) سورة القصص، الآيات: 71 - 73.

{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} (¬1). أيها السلمون ويبحث علماء الجغرافيا أو الجيولوجيا في طبقات الأرض العلوية أو السفلية، فيرون مختلف الجبال وأنواع الصخور، فهذه جُددٌ بيض وتلك حُمرٌ مختلفٌ ألوانُها، وثالثة غرابيب سود، ويلفت نظرهم قممُ الجبالِ العالية وبطون الأودية السحيقة وبين هذا وذاك تنبت أنواعٌ من النباتات وتنتشر أنواع من الحيوانات وإذا اعتدل الهواء في المناطق المتوسطة باتت قمم الجبال العالية السوداءِ بيضاءَ من الثلوج النازلة، وفي حين تنعدم الحياة في المناطق الاستوائية لشدة الحرارة ... تُرى من قَدَّر لهذه وتلك قَدَرهَا .. وهل في مُكنةِ البشر أن ينقلوا جوَّ هذه إلى تلك أو العكس ... أو يبعثوا الحياةَ في الأرض الميتة .. ؟ ! كلا بل هو الله العليم القدير، ويدرك العالمون أكثر من غيرهم أن جوف الأرض يحتفظ بأنواع من المياه الجوفية تختلف في مخزونها، وفي مذاقها، وقربها أو بعدها، فمَن يُمسك البنيانَ إذ يُبنى على ظهر الماء؟ ومن يمنع الأرض أن تتحول إلى طوفان بطغيان الماء في أعلاها وأسفلها إلا الله الذي أنزل من السماء ماء بقدَرٍ فأسْكنه في الأرض، وهو القادر على أن يذهب به متى شاء. وعلى سطح البسيطة تنتشر أنواعٌ من البشر، تختلف في ألوانها وألسنتها، وتختلف في عوائدها وطرائق حياتها، فمن بثّها وبعث الحياة فيها وألهم كلّ نفس فجورها وتقواها؟ إنه الله يعرفه ويخشاه العالمون، ولا يكفر به إلا الظالمون المعاندون. ¬

(¬1) سورة الملك، الآيتان: 3، 4.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (¬1). إخوة الإيمان، ودلائل الإيمان تبدو للإنسان نفسه حتى وإن كان أُميًا، وهو يتأمل في نفسه، ويبصر عظمةَ الخلق فيها، كيف خلقها الله ابتداءً من ماءٍ مهين، ثم كانت بهذا الشكل القويم، وأودع فيها من أسرار الخلق ما يعجز الطب عن كنهه، ويبقى الأطباء في حيرة منه {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (¬2). وهذا نموذجٌ للإعجاز والتحدي. تُرى من يرعى دقات قلب المرء في حال اليقظة والمنام؟ وأقرب الناس إليه لا يملك من أمره شيئًا؛ بل وهل يملك الإنسان نفسه التصرف في حركة التنفس؟ فيتنفسن متى شاء، ويوقف أنفاسه إذا لم يشاء؛ ألم ير الإنسان كيف يُدخل الطعام مدخلاً ثم يُخرجه الله مخرجًا آخر؟ أله في ذلك قدرةٌ وشأنٌ؟ وما حيلته لو اختنق النفسُ أو احتبس البول؟ كم في جسم الإنسان من جهاز وطاقة؟ وكم فيه من أعضاءٍ وخلية؟ أيملك التصرفَ بشيءٍ منها؟ وصدق الله وهو أصدق القائلين {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} وهو القائل: {خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (¬3). إن القرآن، يا عباد الله، كتاب مفتوح للتأمل في ذات الإنسان وفي ملكوت الله، وخلقْه الآخر، وكم تُلفت آيات القرآن للتأمل والعبرة، وتدعو للتفكّر، ¬

(¬1) سورة فاطر، الآيتان: 27، 28. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 85. (¬3) سورة التين، الآية: 4.

وتَثرّب على العقول الخاملة، والقلوب الميتة، وكم في القرآن من مثل ودعوة .... وكم من مثل قوله تعالى {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ}، {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}، {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}، {أفلا تؤمنون} ... {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (¬1). فهل يزداد المسلم إيمانًا حين يتلو آيات القرآن؟ وهل يتعاظم الإيمان في قلبه حين يُطلق لفكره وقلبه التأمل في مخلوقات الله العظام؟ . إن العلم يدعو للإيمان، وإن دلائل القرآن تؤكد نبوةَ محمد عليه الصلاة والسلام، فَمن أين لمحمدٍ الأمّيِّ أن يخبَر عن حركات الأمواج ويصف الظلمات في البحار اللجيّة، ويقول للناس: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (¬2) تُرى أركب البحر محمدٌ صلى الله عليه وسلم، أم توفر له في حينه ما توفر في عالم اليوم من الغواصات والآلات؟ كلا .. إن هو {إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (¬3). بل ومن أين لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي عاش في بيئةٍ يقلّ فيها العلم، وينتشر فيها الجهل أنْ يخبر عن أطوار خَلْق الجنين في بطن أُمِّه، كما قال تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (¬4). وإذا لم يعلم محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الظلمات قبل تعليم الله إياه، افتراه يعلم أو يقول من ذات نفسه عن خلق الإنسان {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 46. (¬2) سورة النور، الآية: 40. (¬3) سورة النجم، الآية: 4. (¬4) سورة الزمر، الآية: 6.

فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (¬1). تُرى هل مارس محمد صلى الله عليه وسلم الطبَّ أم كان على صلةٍ بالأطباء، وهل كان الأطباء حينها يعلمون ذلك؟ كلا، بل هو كما قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ} (¬2). نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب وسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآيات: 12 - 14. (¬2) سورة العنكبوت، الآيتان: 48، 49.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمات وأحيا، وخلق الزوجين من نطفة إذا تمنى، أمسك السموات والأرض أن تزولا، وأهلك عادًا الأولى، وثمودَ فما أبقى والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى، فبأي ءالاء ربك تتمارى ... وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أنزل الله عليه من البينات والهدى ما تخشع له الصخور الصم، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله، وما الله بغافل عما تعملون ... اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين. عباد الله، ويجد المتدبِّرُ لكتاب الله ألوانًا من المواعظ والعبر، تدعوه إلى الإيمان إن كان في بحثه صادقًا، وتُثِّبتُ إيمانه وتزيده إن كان من قبلُ مؤمنًا، وقل أن يستفيد من وقفات القرآن من يهذه هذ الشعر أو يقرؤه كما يقرأ الكتاب أو الجريدة، كحال من يختمون القرآن وهم لا يفقهون منه شيئًا .. إن أثر القرآن عظيمٌ في النفوس حين تقشعر منه الجلود، ثم تلين له القلوب، وإن مواعظه وعِبَره أكثر من أن تُحصى حين يُقْرأُ بتأملٍ وتدبُّر ... وحسبُنا في هذه الوقفة أن نذكر بمنهج القرآن في تثبيت الإيمان من خلال دلائل الكون في الأنفس والآفاق، ومن عظمة القرآن أن تبقى مواعظه صالحةً نافعةً في كلِّ زمان ومكان، أبى الله أن يبلى كتابه، أو يَخْلق من كثرة الترداد على تعاقب الأجيال. وإليكم نموذجًا يلفت فيه ربنا تبارك وتعالى أنظارنا من خلال آي القرآن إلى التأمل والاعتبار، في مشاهد تتكرر في كل آن، ونراها رأي العيان، ومع ذلك فقد نغفل عنها كثيرًا، أو لا تدعونا لمزيد من الإيمان .. للجهل بها أو لكثرة

أُلْفها، أو لثباتها، علمًا بأن في ثباتها واستمرارها دليلاً على بقاء موجدها على الدوام. تأملوا الحدَث واستلهموا العبرة، وجددوا الإيمان، يقول تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} (¬1). قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآيات: من هاهنا شرع سبحانه وتعالى في بيان الأدلة الدالة على وجوده وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة. ونقل عن ابن عباس وابن عمر وغيرهم أن المقصود بالظل في الآية هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ولو شاء لجعله ساكنًا، أي مستمرًا، ولولا أن الشمس تطلع عليه لما عُرف {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} ثم يقبض الله الظل حتى لا يبقى منه في الأرض إلا ما كان تحت سقفٍ أو شجرة (تفسير ابن كثير عند آيات الفرقان). يقول صاحب الظلال: (هذا التوجيه إلى تلك الظاهرة التي نراها كل يوم، ونمر بها غافلين هو طرفٌ من منهج القرآن في استحياء الكون ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآيات: 45 - 55.

دائمًا في ضمائرنا، وفي إحياء شعورنا بالكون من حولنا، وفي تحريك خوامد إحساسنا التي أفقدها طول الألفة إيقاع المشاهد الكونية العجيبة، وطرفٌ من ربط العقول والقلوب بهذا الكون الهائل العجيب (¬1). أيها المسلمون، كم في إرسال الرياح وإنزال المطر من آية تدل على أن مرسلها ومنزل المطر بعدها واحدٌ قادر، والرياح كما يقول العلماء أنواع في صفاتٍ كثيرة من التسخير، فمنها ما يثير السحاب ومنها ما يحمله، ومنها ما يسوقه، ومنها ما يكون بين يدي السحاب مبشرًا، ومنها ما يكون قبل ذلك تقُمُّ الأرض، ومنها ما يلقح السحاب ليمطر، وإلى ذلك أشار ربنا في قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} (¬2) وآيات غيرها في القرآن كثير. فإذا أنزل الله المطر أحيا به الأرض، روى عكرمة قال: ما أنزل الله من السماء قطرةً إلا أنبت بها في الأرض عشبةً، أو في البحر لؤلؤة. ومع هذه القدرة البالغة، فلله القدرة كذلك على تصريفه من مكان لآخر، وسَقي هذه الأرض أو البلد دون تلك- {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ... } (¬3). قال ابن عباس وابن مسعود، رضي الله عنهم: ليس عامٌ بأكثر مطرًا من عام، ولكن الله يصرفه كيف يشاء، ثم قرأ هذه الآية {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا ... } والقدرةُ هنا مُذكّرة بالقدرة على إحياء الموتى بعد أن كانت عظامًا ورفاتًا، أو ليذّكّر من مُنع المطر أنما أصابه ذلك بذنبٍ أصابه، فيقلع عما هو فيه ... كذا نقل الحافظ ابن كثير رحمه الله في معنى الذكرى هنا (¬4). ¬

(¬1) الظلال 5/ 2569. (¬2) سورة الفر قان، الآية: 48. (¬3) سورة الفر قان، الآية: 50. (¬4) تفسير آيات الفرقان 3/ 513.

عباد الله، ومن ماء السماء إلى ماء الأرض يقص علينا القرآن عجائب قدرة الله {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} (¬1). فالحلو منها كالأنهار والعيون والآبار، قاله ابن جُريج واختاره ابن جرير، وقال ابن كثير: وهذا المعنى لاشك فيه، فإنه ليس بحر ساكن وهو عذب فرات .. ، أما الملح الأُجاج فهو هذه البحار والمحيطات الكبيرة في المشارق والمغرب، وهذه البحار حين أراد الله أن تكون ساكنة لا تجري، بل تتلاطم أمواجها وتضطرب، أو يحصل فيها المد والجزر بقدرة الله، وهي ثابتة في أماكنها .. حين أراد الله لهذه المياه الغامرة لجزءٍ كبيرٍ من سطح الأرض أن تكون كذلك قدّر- وله الحكمة البالغة- أن تكون مياهها مالحةُ ... أتدرون لماذا؟ قال أهل العلم: خلقها الله مالحة لئلا يحصل بسببها نتن الهواء فيفسد الوجود بذلك، ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان، ولما كان ماؤها ملحًا كان هواؤها صحيحًا وميتتها طيبة (¬2) .. أليس ذلك تقدير العزيز العليم؟ بل قيل في حكمة الله وتقديره لعدم اختلاط البحرين: أنّ مجاري الأنهار، غالبًا، أعلى من سطح البحر، ومن ثَمَّ فالنهر العذبُ هو الذي يصبّ في البحر الملح، ولا يقع العكس إلا نادرًا، وبهذا التقدير الدقيق لا يطغى البحر، وهو أضخم وأغزر، على النهر الذي منه الحياة للناس والأنعام والنبات، فتبارك الله أحسن الخالقين (¬3). أيها المسلمون، وثمة ماءٌ ثالث هو أعجبُ من ماء السماء وماء البحار .. إنه ماء الحياة ... إنه الماء المهين الذين ينشأُ منه البشر أجمعون، وتنتشر فيه الحياة والأحياء، وتأملوا القدرة الإلهية في قوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ ¬

(¬1) سورة الفر قان، الآية: 53. (¬2) تفسير ابن كثير .. (¬3) الظلال.

نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} (¬1) فالمخلوق في إبتداء أمره ولدٌ نسيب، ثم يتزوج فيصير صهرًا، ثم يصير له أصهار وأختان وقرابات ... وكلّ ذلك من ماء مهين .. تلكم من عجائب قدرة الله ... وتلكم أدلة على وحدانية الله .. إلا وإن فيها بواعث للإيمان واليقين لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ... ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية: 54.

تمكين ذي القرنين .. الحديث والعبرة

تمكين ذي القرنين .. الحديث والعبرة (¬1) إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. أيها الإخوة المسلمون، وحيث سبق الحديث عن التوكل وآثاره، وعن صنف من غير المتوكلين وسلوكياتهم، فقد آن الأوان لعوض نموذج للمتوكلين على الله، وأولئك الذين فهموا حقيقة التوكل على الله، وما عطلوا الأخذ بالأسباب المأذون بها شرعًا، فأورثهم ذلك استقامة على الهدى وتمكينًا في الأرض، ورضى الخالق، ومحبة الخلق، دون عُلُوٍ واستكبار، ودون ضعفٍ ومسكنةٍ واستجداء الآخرين، أو تعلق وركون إلى الكافرين. تلك، وربي، هي حقيقة التمكين التي تستحق الإشارة والذكر، وسواها من أنواع الغلبة والرئاسة، لا تعدو أن تكن تسلطًا على رقاب الناس، وتحكمًا في مصالح الخلق ومعاشهم، وحجرًا أبلهًا على أفكارهم ومعتقداتهم، لا تلبث أن تزول لأنها لا تملك مقومات الثبات، ولا تستخدم أسلوب الإقناع، أو تسمع للدليل، بل تقيس الأمور بمقياس السادة والعبيد! هذا التمكين في الأرض مطلبٌ يبحث عنه السادة والزعماء، ويظل يلهثُ في بيداء سرابه المغرمون بالكراسي، فتنقطع أنفاس الكثيرين منهم دون أن يحققوه، لأنه منحةٌ إلهية ذات مواصفات وشروط معينة لا يهبها الله إلا من شاء من خلقه. وغاية ما يمكن أن يحققه الكثير منهم رغد العيش له ولمن حوله، والاستمتاع بشهوات الدنيا فترة من الزمن، وربما فاجأته الأقدار فتكدّر صفو العيش، وتحولت المسرات إلى أحزان، واقتيد الملوك الأباطرة، وأصبحوا في عداد ¬

(¬1) في 28/ 2/ 1415 هـ.

العبيد المأسورين، وتضاءل الملك العريض من حوله، وكان نصيبه من الدنيا ملجأً ضيقًا يستتر به إن لم يكن حظه سجنًا مظلمًا يُغيَّبُ فيه. وإذا كان هذا جزاءً وفاقًا لما تنكبوا عن صراط الله المستقيم، ونّحوا شرع الله عن أرضه وخلقه، وغرتهم الحياة الدنيا، وغرهم بالله الغرور، فتعالوا بنا لنقف على صورة أخرى من التمكين، رضي الله عنها، وخلد القرآن ذكرها وكان ذو القرنين نموذجها: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً} (¬1). وذو القرنين من عباد الله الصالحين، ونتوقف في نبوته، كما توقف النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال «وما أدري، كما توقف النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال: «وما أدري أتبع نبي أم لا؟ وما أدري ذا القرنين نبيًا أم لا» (¬2). لقد أعطاه الله ملكًا عظيمًا فيه من كل أدوات التمكين والجنود مما يؤتاه الملوك، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العباد، وخدمته الأمم من العرب والعجم، وطاف الأرض كلها حتى بلغ قرني الشمس، مشرقها ومغربها، ولهذا سمي بذي القرنين. وليس يتم التمكين إلا بالعلم الذي يصون الملك عن أسباب التفكك والانهيار، ويمنع الملوك من التكبر والظلم الذي يجعل مصيرهم الدمار والهلاك، وبهذا فسر ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة والضحاك قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} يعني علمًا (¬3). أجل، إن ذا القرنين، مع توكله على الله، لم يتواكل ويغفل الأسباب المؤدية إنما تمكينه في الأرض، بل استخدم ما منحه الله من علم في سبيل تعريف ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 84، 85. (¬2) رواه الحاكم والبيهقي، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير 5/ 121). (¬3) تفسير ابن كثير 5/ 185، 186.

الخلق بالخالق، وتحطيم قوى الشرك وإذلال المشركين، وتحقيق العبودية لله رب العالمين، مما هو في مكنة أمثاله من ملوك الأرض، فلم يترقَّ في أسباب السموات، ولم يصنع شيئًا يستحيل أن يصنعه البشر، وما ينسج عنه في ذلك من الإسرائيليات والقدرات الخارقة للعادة، لا تستقيم مع النقد، وهذا أنكر معاوية، رضي الله عنه، على كعب الأحبار، في حوار لطيف، حين قال له: أنت تقول إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا؟ فقال له كعب: إن كُنتُ قلت ذاك فإن الله تعالى قال: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}. ثم علّق ابن كثير على هذه المحاورة بقوله: وهذا الذي أنكره معاوية، رضي الله عنه، على كعب الأحبار هو الصواب، والحق مع معاوية في الإنكار (¬1). إخوة الإيمان، وحتى تعلموا طرَفًا من علم ذي القرنين وعدله ودستوره وسياسته في الملك في البلاد التي افتتحها تأملوا في معنى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} (¬2). قال أهل التفسير: إنه سلك طريقًا حتى بلغ إلى أقصى ما يُسلَك فيه من الأرض من ناحية المغرب، حتى أبصر الشمسَ في منظره تغرب في البحر المحيط في عين حمئة، قيل: ماء وطين أسود، وقيل: إنها حارة لمواجهتها وهج الشمس عند غروبها. وملاقاتها الشعاع بلا حائل، وبه جمع العلماء بين مختلف الأقوال في العين الحمئة (¬3). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 5/ 186. (¬2) سورة الكهف، الآيات: 86 - 88. (¬3) تفسير ابن كثير 5/ 188.

المهم أنه بلغ أمةً من الأمم، ذُكر أنها كانت عظيمةٌ من بني آدم، وحين مكّنه الله منهم، وحكمهُ فيهم، وأظفره بهم خيره، إن شاء قتل وسبى، وإن شاء مّن أو فدى، فعرف عدله وإيمانه حين قال: {أَمَّا مَن ظَلَمَ} أي استمر على كفره وشركه بربه {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أي في الدنيا بنوع من العذاب، {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً} أي في الآخرة، وفيه إثبات المعاد والجزاء {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} أي تابعنا إلى ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له {فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} في الدار الآخرة عند الله عز وجل، {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} أي قولاً معروفًا. وهذه غاية العدل، وقمّةُ العلم، وعلامة الهدى ودليل التمكين في الأرض دون جهلٍ أو استعلاء، وتلك تجربةٌ خاضها ذو القرنين، فما أفشى القتل جزافًا، أو استخدم البطش تجّبرًا وتسلطًا. ومن مغرب الأرض إلى مشرقها يصل ذو القرنين، ويُمَكِّنُ الله له في الأرض، ويقهر الأمم، ويدعوهم إلى الله فإن هم أطاعوه وإلا أذلَّهم، وأرغم أنوفهم، واستباح أموالهم، واستخدم من كل أمةٍ ما يستعين به- بعد الله- ومع جيوشه على أهل الإقليم المتاخم لهم، وهكذا جاب الأرض، طولها وعرضها، في مدةٍ قال بنو إسرائيل: إنها بلغت ألفًا وستمائة سنة، والله أعلم. ولما انتهى إلى مطلع الشمس، وجدها تطلع على قوم لم يجعل الله لهم من دونها سترًا، قيل: المعنى أنهم كانوا يسكنون سهولاً شاسعةً، ولا يوجد عندهم جبال تحجب عنهم الشمس، وقيل كانوا لا يملكون بيوتًا أو أبنيةً تمنع عنهم أشعةَ الشمس وحرّها، وقيل: ما كانوا يملكون شيئًا يغطون به أجسادهم، وكانوا عُراةً فإذا أشرقت أصابتهم بأشعتها (¬1). ¬

(¬1) مع قصص السابقين في القرآن/ صلاح الخالدي/ 333.

وإذا كان القرآن لم يقص علينا من أخباره معهم كما قصّ في أخبار من كانت الشمس تغرب عندهم، فلا شك أن المعاملة بالعدل والحسنى، والدعوة إلى الإيمان والهدى، منهجٌ داوم عليه ذو القرنين في كل الممالك التي مر بها والقرى، استوجَبتْ ذكره في القرآن، ورضي عنه الرحمن، وكان بذلك نموذجًا صالحًا للمُمكَّنين في الأرض. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (¬1). اللهم انفعنا بالقرآن، واملأ قلوبنا بالإيمان، ولا تجعلنا من أهل الشقوة والخسران. ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 41.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعزّ من يشاء، ويذلّ من يشاء بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الخلق خلقه، والأمر أمره، وإليه المرجع والمآل وحده، وكل شيء هالك إلا وجهه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أوحى إليه ربّه، وعلمه ما لم يكن يعلم، وتلك من دلائل نبوته، وصدق رسالته. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين .. وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، إخوة الإسلام، فلم يكن تطواف ذي القرنين ينتهي عن حدود مغرب الأرض ومشرقها، بل هيأ الله له من الوسائل والإمكانات، ما بلغه شمالَها، وهناك وجد أمةً لا يكادون يفقهون قولاً: وذلك لاستعجال كلامهم وبعدهم عن الناس (¬1). وهي أمة عاجزة عن الدفاع عن نفسها، واتكالية ترغب من الآخرين حلّ مشكلتها، ولذلك قالوا لذي القرنين: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} (¬2) (¬3) وهذه الأمة تجاورها أمتان كثير عدّها، ويستفحل خطرها، وتعيث فسادًا فيما حولها، إنهما يأجوج ومأجوج الذين قال الله في وصفهم: {وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} (¬4). ¬

(¬1) ابن كثير 5/ 192. (¬2) سورة الكهف، الآية: 94. (¬3) الخالدي، مع قصص السابقين/ 338. (¬4) سورة الأنبياء، الآية: 96.

هما أمتان من سلالة آدم عليه السلام، ما كانتا في شيءٍ إلا كثرتاه، وهما المكثرتان لبعث النار، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أبعث بعث النار، فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فحينئذٍ يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها فيقال: إنّ فيكم أُمتين، ما كانتا في شيء إلا كثرتاه، يأجوج ومأجوج» (¬1). لقد كان من رحمة الله لهذا الأمة أن وصلها ذو القرنين، وكان بناؤه السد برهانًا آخر على تمكينه في الأرض، فكيف وقع ذلك كله؟ لقد بلغ ذو القرنين بين السدين، وهما جبلان متقابلان، بينهما ثغرةٌ يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك، فيعيثون فيهم فسادًا، ويهلكون الحرث والنسل، ويقال: إن هذه المنطقة الواقعة جنوبي جبال القوقاز، وهي المُسماةُ الآن بأرمينيا وجورجيا وأذربيجان- والله أعلم- (¬2). فطلب القوم الذين يسكنون فيها من ذي القرنين أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سدًا، ويعطوه من المال ما يعينه على هذه المهمة ... ولكن ذا القرنين، بعلمه وتمكين الله له، رد عليهم بقوله: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} يعني: ما أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعون، وكذلك قال سليمان- عليه السلام- حين جاءته هدايا وأموال (بلقيس) صاحبة سبأ {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} (¬3). ¬

(¬1) انظر صحيح البخاري مع الفتح 8/ 441 في تفسير سورة الحج، وصحيح مسلم في كتاب الإيمان، باب بعث النار. (¬2) الخالدي/ 337. (¬3) سورة النمل، الآية: 36.

وكذلك تلتقي كلمات الصالحين مع كلمات الأنبياء والمرسلين، عليهم السلام، وكلها الثقة بالله، والتوكل عليه وحده، والاستغناء بما عنده وأعطاه دون أُعطيات الناس وهداياهم، وكذلك يظهر لك توكل ذي القرنين، واعتماده أساسًا على الله {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬1). ثم شرع ذو القرون في بناء السد، وكان عملاً جبارًا، وتخطيطًا رائعًا، فهو أولاً يطلب من هذه الأمة المشاركة بمجهودها العضلي، وما تملكه من آلات البناء، ثم يطلب قطع الحديد حتى إذا حاذى به رؤوس الجبلين طولاً وعرضًا قال: انفخوا: أي أججوا عليه النار، ولك أن تتصور حجم وضخامة هذه النار التي يلزمها صهر هذه الأطنان من الحديد في هذا الممر الشاهق الارتفاع. ولما كانت هذه المجموعة مشغولة بجمع قطع الحديد وصهرها، فهناك مجموعة أخرى تجمع النحاس، وتذيبه في القدور. فلما تم صهر الحديد في الممر، وتم صهر النحاس في القدور- أو في أي مكان آخر- جاءت المرحلة الأخيرة من مراحل بناء السد {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} والقطر كما قال ابن عباس وغيره: النحاس المذاب، فأمرهم بصب النحاس المصهور المذاب على الحديد المذاب فتخلل النحاس وسط الحديد واختلطا وصارا معدنًا واحدة قويًّا متينًا ثم تُركا حتى جُمدا، فصار سدًا منيعًا عجيبًا مدهشًا، وإذا أردت أن تعلمَ مرة أُخرى علمَ ذي القرنين، وتُدرك حجم تمكينه في الأرض، وتفقه معنى قوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} فاقرأ كتابًا متخصصًا في الصناعة الحديثة، وقف على ما انتهى عليه عالم اليوم بمصانعه الضخمة، وآلياته الجبارة، وتقنياته المقدمة، وستدرك أَنّ ذا القرنين، بما علمه الله، سبق هذه الصناعة بقرون، وعلمه الله ما لم يعلمه غيره إلا بعد آلاف السنين. ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآية: 3.

يقول سيد قطب- رحمه الله- (وقد استُخْدمت هذه الطريقة حديثًا في تقوية الحديد، فوجد أن إضافةَ نسبةٍ من النحاس إلى الحديد تضاعف مقاومته وصلابته، وكان هذا الذي هدى الله إليه ذا القرنين وسجله في كتابه الخالد سبقًا للعلم البشري الحديث بقرون لا يعلم عددها إلا الله) (¬1). وهكذا، إخوة الإيمان، ينبغي أن تكون دعائمُ التمكين في الأرض توكلاً على الله، ينفي الاعتماد على غيره، أو الاستعانة بما سواه. وقوةً وتخطيطًا تأخذ بكل أسباب القوة الممكنة شرعًا وعقلاً، فلا تدع مجالاً للتواكل والتراخي، وإضاعة الفُرص، وهدر الطاقات سدىّ. وسياسةً حازمةً عادلةً مع خلق الله، تسوسُهم بشرع الله، تكافئ المحسن وتفرّق بين المؤمنين والكافرين، وتكرم العلماءَ والصلحاء، وتأخذ على أيدي الفسَقة والسفهاء، وتضطرهم على الحق أطرًا. إن الأرض أرض الله، وإن الخلق خلقُه، والسموات مطوياتٌ بيمينه، وتعْسًا لمن يحارب الله وهو الذي أوجده ومكنه، ولن يُفلحَ قومٌ نصبوا العداوةَ لشرعه، وعادَوا أولياءه، وما أنكد عيش مَن كان هّمه صرف الناس عن العبودية الحقة لله، ومهما طال ليل الظالمين فالعاقبة في النهاية للمتقين، ولا يُقدّر التمكين حقّ قدره إلا المؤمنون، فبالحقّ يحكمون، وبالعدل يسوسون، ولا تغتر بالمستكبرين، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون. ¬

(¬1) في ظلال القرآن 4/ 2293.

(1) مؤتمر الإسكان الدولي بين العقل والشرع

(1) مؤتمر الإسكان الدولي بين العقل والشرع (¬1) الحمد لله القائل في محكم التنزيل {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬2). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك ملكه، والخلق خلقه، والمعتدون على شرعه والمشاركون له في ربوبيته أو إلهيته أو أسمائه وصفاته لا يفلحون {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (¬3). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلغ رسالة ربه، وأنقذ الله به البشرية من ظلام الجاهلية إلى نور الإسلام، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى الآل والأصحاب والتابعين إلى يوم الدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬4)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (¬5). أمة الإسلام، ويشهد التاريخ قديمًا وحديثًا على تعَدّي الطغاة والمجرمين على حُرُمات الله، والتجاوز على شريعته، ومحاولة صرف الناس عن الملة الحنيفية السّمحة إلى تشريعات وقوانين لم يأذن بها الله، ويشهد التاريخ كذلك ¬

(¬1) في 4/ 4/ 1415 هـ. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 96. (¬3) سورة الأعراف، الآيتان: 182، 183. (¬4) سورة التوبة، الآية: 119. (¬5) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71.

أن الله أهلك الذي قال: «ما علمت لكم من إله غيري» وانتقم من الذي قال: «أنا أحيي وأميت» ومنذ زمن المغول وتشريعات جنكيز خان البشرية وإلى زماننا هذا، حيث تنتشر القوانين البشرية المحادة لشرع الله، والبشرية لم تفلح ولم تسعد بهذه القوانين، وأنَّى لها أن تسعد أو تفلح وهي تنحي شرعةَ العليم الخبير {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬1) {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2). وعلى الرغم من أن هذه المحاولات العابثة، وهذه الجهود الضخمة المبذولة، بقيت تعاليم السماء منارةً يستضيء بها السالكون، وبقي القرآن الكريم محفوظًا يشهد على عظمة المُنزِل وإعْجاز المُنزِل {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬3). إخوة الإسلام، ومؤتمر الإسكان والتنمية الدولي الذي يعقد هذه الأيام في القاهرة، نموذجٌ للتطاول على شرع الله، ومحاولةٌ عابثة للتلاعب بآيات القرآن الكريم، وقد تضمنت مسودة العمل المقدَّمة للمؤتمر من اللجنة التحضيرية خلاصة الأفكار التي أراد مناقشتها في مائة وإحدى وعشرين صفحة مكونة من ستة عشر فصلاً ومما جاء فيها: 1 - الدعوة إلى الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة، والقضاء التام على أي فوارق بينهما، وتجاهل ما قررته الشرائع السماوية، واقتضته الفطرة وحّتمته طبيعة المرأة وتكوينها. 2 - العودة إلى فتح باب العلاقات الجنسية المحرمة شرعًا، ومناقشة كل ما يخدم هذه القضية بدءًا بزعزعة وضع الأسرة المسلمة ومرورًا باتخاذ كافة ¬

(¬1) سورة الملك: الآية: 14. (¬2) سورة الشورى، الآية: 21. (¬3) سورة الحجر، الآية: 9.

الوسائل لمنع الحمل وتقليل النسل، وإضفاء الشرعية على الإجهاض، وإسقاط المواليد، وانتهاءً بإمكانية قيام الأسرة من ذكرين بدل قيامها على ذكر وأنثى. وباختصار فالمؤتمر والمؤتمرون أباحوا لأنفسهم مناقشة ما جاءت به الشرائع السماوية، وعدم الالتفات إلى ما جاء في القرآن، فضلاً عمّا جاءت به السنة النبوية من أحكام وتشريعات، ولهذا وغيره أفتى مجلس هيئة كبار العلماء بوجوب مقاطعة المؤتمر وقالوا: إن الوثيقة كفرٌ وضلال ومخالفة للإسلام وجميع الشرائع السماوية (¬1). وإذا كان هذا المؤتمر غير مستغربٍ وقوعه من الدول الكافرة، إذ هو في عداد الهجمات الشرسة على الإسلام والمسلمين، فإن مما يندى له الجبين استجابة الدول في العالم الإسلامي للمشاركة فيه، وأدهى من ذلك وأمرَ أن تحتضنه حاضرة من حواضر العالم الإسلامي؟ . إخوة الإسلام، وتعالوا بنا لننظر في ظروف عقد المؤتمر، زمانًا، ومكانًا. أما الزمان الذي يعقد فيه المؤتمر فهو زمان بدأت الأمة المسلمة تفيق من رقدتها وتحس بالمخاطر المحدقة بها، وهو زمان تنامى فيه الشعور الإسلامي، وبدأ الوعي بتعاليم الدين والعودة إلى قيم الإسلام تنتشر بين أجيال المسلمين، وبدأ الاهتمام بصناعة الأسرة المسلمة ويكثر نسل المسلمين، هو زمان بواكير الصحوة وإن كان بعد ثمة غفوة، وإن كان ثم مطاردة وجلة وظلمة. وهو من جانب آخر زمان التضليل الإعلامي وفشوُّ النفاق الاعتقادي، هو زمان التخطيط الماكر والكيد المحكم من قبل الأعداء، فالحرب الباردة تصفي أو على الأقل يؤجل النظر فيها وتجمد آلياتها، والنظام العالمي الجديد تحاك ¬

(¬1) انظر جريدة الرياض العدد 10251 في 25/ 3/ 1415 هـ.

خيوطه ويبرز بديلاً للحياة والمستقبل، ولعل المؤتمر ثمرة من ثمار هذا التخطيط الماكر، وإفراز مبكر لهذا النظام العالمي المزعوم؟ . أما ظروف المكان فأرض الكنانة مصر العزيزة، حيث المآثر الإسلامية القديمة، وحيث درج الأنبياء عليهم السلام، وحيث العلم والعلماء، مصر يرتبط بها العالم الإسلامي قديمًا وحديثًا تبعث إليه البعوث وتصدر إليه الأفكار، وفوق ذلك كله فهي واحدة من مناطق الكثافة السكانية، فلا غَرو أن يركز عليها وأن تختار أرضها مقرًا للمؤتمر والمؤتمرين. ولكِ الله يا مصر كم دهاك من خطوب، ولك الله يا شعب مصر كم بليت بغارات الأعداء، وكم جثم على أرضك من زعماء اعتبروا الأعداء أصدقاء؟ ! إخوة الإيمان، وثمة سؤال مهم لابد أن نطرحهُ ونجيب عليه لماذا يعقد المؤتمر في ديار المسلمين ويُدعى له المسلمون، والدول المخططة له لا تحتاج إلى بنوده ولا تضيف توصياته إن كانت جديدة إلى واقعها فالنسل محدد، والاختلاط واقع والإجهاض سائد، والحياة الاجتماعية بشكل عام ووضع الأسرة بشكل خاص، من التفكك والضياع لا مزيد عليه، والزنا واللواط، وانتشار الجنس الثالث، وكل ما يخطر ببالك مما صور البهيمية والانحطاط الخلقي مشرعة له الأبواب، وتحميه الديمقراطية وتدعو له الحرية المزعومة. فلماذا إذًا تحرص هذه الدول على عقد مثل هذا المؤتمر؟ الإجابة باختصار حتى من دخل في النفق المظلم من أبناء المسلمين، ويدخل نفق الرذيلة من لم يدخله بعد باسم التنمية والإسكان أو ما شابهها من عبارات خادعة كاذبة.

أيها المسلمون، والمسلم كيس فطن، ويجب ألا ينخدع بمعسول الكلام وظاهر القول، وأن يعي جيدًا ما يريده الأعداء لنا، فهدف المؤتمر تحطيم القيم عند المسلمين، والقصد تنحية شرع الله عن الوجود، ولئن طنطن المؤتمرون حول الخدمات الصحية للمرأة فما موقع الإجهاض من الصحة المزعومة، وهل يكون علاج مرض الإيدز أو غيره من أموال العلاقات الجنسية المحرمة بفتح الباب على مصراعيه للعلاقات الجنسية والإباحية المطلقة، سبحانك هذا بهتان عظيم؟ ولئن تنادى المنافقون بتوفير فرص التعليم للمرأة فيما علاقة ذلك بالحرص الشديد على الاختلاط مع الرجال، وتجربة التعليم المختلط ثبت فشلها وصيحات الخطر تسمع من هنا وهناك محذرة منها، ومؤكدة ضعف الحصيلة العلمية من ورائها حيث تهدر الفوارق بين الجنسين، وتطغى العلاقات الجنسية بين المختلطين، وهل لم يبق من أنواع الثقافة إلا الثقافة الجنسية يُنَشّأَ عليها أبناء المسلمين في سن الطفولة والمراهقة كما في الوثيقة الظالمة؟ . وإذا كان الإنسان أهم عامل في التنمية فلماذا نصت فصول الوثيقة على التنفير من الزواج المبكر، ومعاقبة من يتزوج قبل السن القانونية لولا أنه يراد تجفيف المنابع وتقليل جمهور المسلمين، وإتاحة بدائل أخرى يتمرغ المنخدعون بها في أوحال الرذيلة بعيدًا عن دفء الأسرة وحنان الأمومة والأبوة للطفل. بل وما علاقة السماح بحرية الجنس وإباحة أنواع الاقتران الأخرى غير الزواج- والتي نصت عليها بنود الوثيقة- بموضوع التنمية لولا أن هذه وتلك وغيرها من أفكار سيئة هي بيت القصيد، وأما شعارات التنمية ومصطلحات التعليم والصحة ونحوها ليست إلا أغطية مضللة ينخدع بها البسطاء ويكشف زيفها العقلاء {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (¬1). ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 40.

إخوة الإسلام- في كل مكان- وكما يستطيع المنطق السليم كشف حقيقة المؤتمر وأهدافه، يستطيع المتأمل كذلك إسقاط فكرة المؤتمر الأساسية التي زعم المؤتمرون أنهم جاؤوا لمناقشتها ووضع الحلول لها، إذ تقوم فكرة المؤتمر على النظر في مشكلة الانفجار السكاني، وقلة الموارد وحتمية الفقر للشعوب وتضاعف الديون على الدول، والواقع يقول أن الشعوب الإسلامية ليس فيها انفجار سكاني إذا ما قورنت بالشعوب الكافرة الأخرى كالصين مثلاً، وبلاد المسلمين من أكثر البلاد موارد لو أحسن استغلالها، وهي أحوج ما تكون إلى كثرة السكان التي تسهم في استخراج مواردها ويستغني شعوبها عن استيراد العمالة من شعوب الأرض الأخرى- كما هو الواقع الآن. ولو كانت هذه الدول الكافرة صادقة في حل إشكالية الفقر للشعوب لما أحرقت كل عام كميات هائلةً من المنتجات الزراعية خشية تأثير الأسعار ولبعثت بها إلى من تراهم رأى العين يتضورون جوعًا ويموتون فقرًا. ولو نطقت البحار لشهدت على الكميات من الموارد التي تهدر فيها وللسبب ذاته فأين حل مشكلة الفقر والحال تلك؟ بل وأين حل المشكلة وكيف نستطيع التوفيق بين مزاعم هذه الدول في حل مشكلة الفقر المستقبلية المتوقعة، وواقعها الحاضر يشهد على فرض العقوبات الاقتصادية على شعوبها حتى يهلكوا لقلة الغذاء والدواء ويتآمروا جميعًا على ممارسة الحصار الاقتصادي على دول حتى يحاولوا عزلها عن الدول الأخرى؟ أما الديون المتراكمة على الدول النامية فيدرك الغرب الكافر أنها لن تحل بقلة السكان وتخفيض النسل، وهم وغيرهم يعلمون أن الديون تعود بالدرجة الأولى إلى إهدار موارد الأمة وعدم الاستفادة من كل طاقتها، وإضافة إلى تزايد السرقات من الزعماء والقادة لهذه الموارد لحساباتهم الخاصة، ومن حولهم من

المنافقين المنتفعين، وبالتالي فليست مشكلة الفقر شبحًا مخيفًا للأعداء لهذه الدرجة، وليست النية صادقة لحل إشكال العالم النامي كما يزعمون، وهم أقل وأبخل من النظر والتصدي لهذه القضية، وصدق الله إذا يقول لأسلافهم من الكافرين {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً} (¬1). ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 100.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله القائل {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (¬1). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يمهل ولا يهمل {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} (¬2). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أخبر عن دعاة على أبواب جهنم من أطاعهم قذفوه فيها. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آل محمد الطيبين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. إخوة الإيمان، وما مضى من الحديث يمكن أن يكون محاكمة عقلية ومجادلة موضوعية لإثبات كذب المدعي، وبيان حقيقة الدعوة وهذه المناقشة العاجلة للمؤتمر نافعة بإذن الله لكل ذي عقل منصف مهما كانت ديانته وأنَّى كانت هويته. أما أهل الإسلام والقرآن فينبغي أن يكون لهم حديث آخر، منطلق من الأصول التي تربوا عليها، ويعتمد الأدلة التي طالما سمعوها وأعيذ المسلمين جميعًا أن يكون حظهم من الإسلام اسمه، ومن القرآن رسمه. ¬

(¬1) سورة هود، الآية: 6. (¬2) سورة إبراهيم، الآيتان: 42، 43.

وإنها لمهزلة أن يحضر المؤتمر منتسبون للإسلام يستشهدون بآيات القرآن الكريم، وبنود الوثيقة المرسومة سلفًا، بل وفكرة المؤتمر أساسًا تضرب عرض الحائط بهذه الآيات كلها، بل تريد أن تقيم فلسفة بعيدة عن هدي القرآن والسنة وتعاليم الإسلام. وإلى أهل الإسلام الصادقين، وإلى المؤمنين حقًا بالقرآن الكريم نقول: إن شبح الفقر، والخوف من قلة الأرزاق سمة من سمات الكافرين في الماضي والحاضر ولذلك قام هذا المؤتمر على أساسها، وقديمًا كان المشركون يقتلون أحب الناس إليهم خشية الفقر فحذر الله من صنعهم وضمن أرزاقهم فقال: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (¬1). بل قدّم رزقهم على رزق آبائهم في آيات أخرى {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} (¬2). ومن سعة رحمة الله ورزقه أنه يكتف بضمان رزق من يعقلون ويعملون بل تكفل بحمل الرزق لمن لا يستطيعون ولا يعقلون {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬3). {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (¬4). وعلى الذين يعتمدون في أرزاقهم على غير الله أن يعيدوا النظر في أنفسهم ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 151. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 31. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 60. (¬4) سورة هود، الآية: 6.

وفيمن يعتمدون {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬1). ومهما بلغت طاقة البشر وقدراتهم فلا يملكون لأنفسهم رزقًا إلا ما يأذن به الله، فضلاً عن ضمان الرزق لغيرهم: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} (¬2) {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (¬3). هذه الآيات وغيرها كثير كفيلة بطمأنة المسلم في ضمان رزقه وعدم اعتماده فيه على أحد غير الله فليعبده وليتوكل عليه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬4) {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (¬5). وإذا كان خوف الفقر سمة الجاهلية الأولي والآخرة فإن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق- أجنة كانوا أو وليدًا- سمة الجاهلين قديمًا وحديثًا، والفرق بين الجاهلية الأولى والآخرة أن الجاهلية الأولى تمارس القتل والقرار بوسائلها البسيطة الأولى فتحفر للبنت وتدفنها وهي حية، وتضع المرأة على حفرة فإن كان المولود بنتًا ردمت عليها الحفرة إلى الأبد. أما الجاهلية المعاصرة فتستخدم التقنية وسيلة للقتل، وتقترح إنشاء مصحّات خاصة بالإجهاض علنًا وهي لا تكتفي بإزهاق أرواح البنات بل تشمل في جريمتها الذكور والإناث على حدٍ ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 17. (¬2) سورة الملك، الآية: 21. (¬3) سورة فاطر، الآية: 3. (¬4) سورة الذاريات، الآيات: 56 - 58. (¬5) سورة الطلاق، الآيتان: 3، 2.

سواء، وبالتالي تتفوق الجاهلية الآخرة على الجاهلية الأولى في جريمتها النكراء. {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} (¬1). ويحاول المؤتمرون نسف آيات الزنا نسفًا، وفتح بيوت الدعارة والخنا علنًا، والله يخاطب المؤمنين ويقول: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} (¬2) ويقول: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} (¬3). أما اللواط ونحوه من أنواع الشذوذ الجنسي الذي يدعو المؤتمر إلى تحقيقه، فإذا كانت الفطرة السليمة تستهجنه، ففي تجارب البشر قديمًا ما يربط بين أهل الشذوذ في الماضي والحاضر، وقد تحدث القرآن عن قوم لوط الذين قالوا لنبيهم عليه السلام ومن آمن معه {أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (¬4). ويا ليت شعري، وكيف يرضى منتسب للإسلام، أو قارئ مؤمن بالقرآن أن يناقش- وبالأمس القريب- مع المناقشين مسألة مساواة المرأة بالرجل في الميراث، والله تعالى يقول وقوله الفضل وهو أحكم وأعلم: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} وهو يعلم عقلاً أن حاجة الذكر إلى المال أكثر من حاجة الأنثى، فله القوامة، وعليه النفقة، وله الفضل بنص القرآن {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (¬5). ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 43. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 32. (¬3) سورة الفرقان، الآيات: 68 - 71. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 82. (¬5) سورة النساء، الآية: 34.

وليس في ذلك أي غضاضة على امرأة، فهي محل التكريم والتقدير أمًا وأختًا وبنتًا، تشب وتشيب معززة مكرمةً مصونة العرض، محفوظة الحقوق، وليست كالأنعام السائبة في الحظائر المختلطة، أو كقصعة الأيتام في مائدة اللئام، وكالفريسة التائهة بين الذئاب الجائعة، كما يريد لها الكفرة والمنافقون. إخوة الإسلام، هذه ذكرى لا يتسع المقام لأطول منها، وإلا لذكرتكم بآياتٍ أُخر من القرآن، وطائفة من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام. ولكن القصد أن تعلموا أنه يراد للمؤتمر الطعن في عقيدة المسلمين، ويزيد المؤتمرون التشكيك في مصادر التلقي عند المؤمنين، ويريد الذي يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيمًا، والله من ورائهم محيط، ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين. {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} (¬1). أيها المسلمون، وإذا سقطت أفكار المؤتمر عقلاً وشرعًا، واتضح الهدف دينًا ودنيا، فيبقى حديث عن الدروس والعبر، والأهم من ذلك، ما هو الدور والعمل الذي يجب أن يقوم به المسلمون على كافة المستويات تجاه هذا المؤتمر وأمثاله من مؤتمرات القرار؟ .. ذلك أرجئ الحديث فيه للخطبة القادمة بإذن الله. أسال الله أن يلهمنا رشدنا، ويعلمنا ما ينفعنا. ¬

(¬1) سورة الطارق، الآيات: 15 - 17.

(2) مؤتمر الإسكان الدولي العبرة والواجب

(2) مؤتمر الإسكان الدولي العبرة والواجب (¬1) الحمد لله رب العالمين، قال وهو أصدق القائلين {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (¬2)، وأشهد إلا إله إلا الله وحده لا شريك له يتولى الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي الأمين عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة وأزكى التسليم. أمَّا بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين والتزموا شرعه وقفوا عند حدوده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬3)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬4). معاشر المسلمين كان حديثي إليكم في الجمعة الماضية عن مؤتمر السكان بين العقل والشرع، ووعدتكم استكمال الحديث في هذه الخطبة عن الدروس التي نبتغي أن نعيها وندركها، والموقف الذي يجب أن نتخذه ونعمل به إزاء هذا المؤتمر وأمثاله. فالمؤتمر أولاً يؤكد العداوة الظاهرة من اليهود والنصارى واللادينيين للإسلام وأهله، وهذه دول الكفر تتنادى من بقاع الأرض للتآمر على المسلمين، وهتك ما بقي لهم من خلق وحياء، واستغلال ضعف المسلمين وتفرق كلمتهم في فرض الوصاية عليهم وإملاء القوانين والدساتير والبنود المناسبة لهم حتى وإن صادمت عقائد المسلمين أو كانت طعنة نجلاء في نحورهم وتنحية متعمدة لما ¬

(¬1) 11/ 4/ 1415 هـ. (¬2) سورة البقرة، الآية: 120. (¬3) سورة التوبة، الآية: 119. (¬4) سورة الحشر، الآية: 18.

جاءت به شرائعهم، وصدق الله إذ يقول: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} (¬1). وليس يخفى أن هذه العداوة قديمة تتجدد عبر القرون، والمطلعون يؤكدون أن هذا المؤتمر حلقة قي سلسلة تحكم حلقاتها في هذا الزمان فقد سبقه مؤتمر للسكان الأول في بوخارست عام 1974 م، ثم أعقبه المؤتمر الثاني للسكان والمعقود بالمكسيك عام 1984 م، وهذا المؤتمر الثالث وما برحت الأمم المتحدة وهياكلها المخصصة تثير هذه القضية وتروج لها عالميًا عبر العقود، وتتخذ لها سياسة النفس الطويل، وسياسة التخطيط طويل المدى {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ (¬2)} (¬3). والمؤتمر يكشف هوية الأمم المتحدة وأمثالها من المنظمات العالمية التي يسيطر عليها اليهود والنصارى، ويكشف أهدافها، وإنك لتعجب من أمينها الصليبي (بطرس غالى) حين يقول في المؤتمر (واعتبر أن دور الأمم المتحدة في قضايا السكان والتنمية مكمل لدورها في حفظ السلام والأمن الدوليين) (¬4). ونحن نقول: وهل نجحت أصلاً هيئة الأمم المتحدة في حفظ السلام والأمن في العالم، والواقع يشهد بفشلها في الصومال، وانحيازها المكشوف مع النصارى الصرب ضد مسلمي البوسنة والهرسك حتى تستكمل دورها في القضايا الأخرى، أم أن تلك أقنعة تتستر بها، وتعمل وفق أهدافها ما يخدم مصالحها ويحقق رسالتها ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 120. (¬2) سورة فاطر الآية 43. (¬3) انظر مقال د. عبد العزيز السنبل: مؤتمر السكان والتنمية لماذا؟ الجزيرة. (¬4) الحياة، العدد 11524، في 1/ 4/ 1415 هـ.

والمتأمل في الموضوعات المطروحة للنقاش في المؤتمر يدرك هدف الغرب وحرصهم على فرض الحضارة الغربية وقِيَمها البالية على كافة شعوب العالم، ويدرك أيضًا محاولة الغرب ترحيل مشكلاته إلى الآخرين، وإجبارهم على حل هذه المشكلات وتقنينها، فالإجهاض مثلاً- وهو من أكبر القضايا المثيرة للجدل- مشكلة كبرى وقضية مثيرة للجدل هناك، وتتصدر الأخبار عندهم حوادث قتل الأطباء الذين يمارسون عمليات الإجهاض، وتقف بعض الجمعيات تدافع عن القاتلين، لأنهما حين قتلا إنما كانا يدافعان عن حق الأجنة في الحياة. إذًا هذه مشكلة وهي تحتاج إلى دراسة وتقنين، وهذا المؤتمر فرصة لدراستها وتقنينها، ولو كانت على حساب الآخرين، وزواج الرجل بالرجل يمارس علنًا في ظل هذه الحضارة المزعومة، بل وتحميها وتباركها (الكنيسة المضللة)، وفي جامعة فرجينيا مثلاً- وهي من أكبر الجامعات تميزًا في أمريكا يعرض الأستاذ في مقرر الأصول الاجتماعية للتربية على الطلبة فيلمًا وثائقيًا لهذه الظاهرة وفيه يظهر العروسان وعدد من المدعوين في الكنيسة، والقسيس وهو يتحدث عن الحياة الزوجية وأهميتها ويطلب منها مراعاة كل منهما للآخر والمحافظة على مشاعره، فهل يتصور عاقل هذا الزواج؟ وهل من قيم الحضارة ترحيل هذه المشكلات للآخرين (¬1). إخوة الإسلام، لقد بلغت البهيمية عند هؤلاء ذروتها، وتصدع جدران الأسرة وتحطمت أركانها، وغرقوا في الوحل واعترفوا بالضياع فأرادوا جر غيرهم وإشراك العالم في مشكلاتهم، ولم يكن ذلك منسجمًا ولا متوازنًا مع ما بلغوه من العلم المادي، والتقدم التكنولوجي، وهذا أحد زعمائهم، السيناتور (ويلم ¬

(¬1) انظر مقال الدكتور/ محمد عبد العليم مرسي، مؤتمر السكان والتنمية هذا، الشرق الأوسط، عدد 576 في 10/ 9/ 1994 م.

فوليرايت) رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس الأمريكي لعدة دورات، ومؤلف كتاب (حماقة القوة) يُسأل عن انطباعه حين حققت أمريكا ما حققت في عالم الفضاء فيقول غير مبهور ولا مأخوذ بما وصلوا إليه (لقد وضعنا رجلاً على سطح القمر ولكن أقدامنا مغروسة في الوحل). وهو بذلك يشير إلى المآسي الأخلاقية والاجتماعية التي يعاني منها المجتمع (¬1). فهل يفيق المغرمون بهذه الحضارة وهل يكون الأتباع أشد عجبًا من المتبوعين، وهل يكون الأدعياء من أهل الدار الأصلاء؟ {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (¬2). والمؤتمر رسالة مكشوفة لإفساد الأسرة المسلمة وهدِّ بنيانها وهو سهم طائش، ظالم تجاه المرأة، إذ يملأ رحمها زورًا وبهتانًا ثم يعمد إلى إجهاضها ظلما وعدوانًا، وهو تحريض مسيس لثورتها على الأصول والثوابت وتشكيك لها في الوحيين: في القرآن والسنة، ولا أخال المرأة المسلمة الواعية تجهل مداخلهم الخفية من أبواب الحرية، والمساواة، والتعليم والثقافة، تلك التي تستجر بسطاء النساء وتعي ما وراءها الواعيات من النساء. ومن دروس المؤتمر أنه كشف عن جهل أو ضعف بعض المسلمين الذين شاركوا فيه دون استحضار هذه القيم والمعاني والأهداف المرسومة سلفًا، وأعطت مؤشرًا لبعض من يثقون بالغرب ثقة عمياء ويتخذونهم أولياء والله تعالى ¬

(¬1) المرجع السابق. (¬2) سورة الحج، الآية: 46.

يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ} (¬1). وكشف المؤتمر عن المنافقين الذين يتعاملون مع المسلمين بوجه ويتعاملون مع الكافرين بوجه آخر، وأولئك يروجون للمؤتمر ويدفعون عجلته أكثر من أصحابه، بل يصورون المؤتمر فرصة لتوضيح مبادئ الإسلام، والهدف من التشكيك في أصول الإسلام وثوابته، فالمؤتمر وإن كانت ديار المسلمين تحضنه فهو غربي المنشأ والتخطيط، صليبي الغرض والهدف، يبرز فيه الفاتيكان مناقَشًا ومعترضًا ظاهرًا والله أعلم بما يدور ويخطط في الخفاء، وحين يكون يوم الأحد إجازة للمؤتمرين فذلك إحكام للنصارى السيطرة على المؤتمر شكلاً ومضمونًا. والله المستعان. إخوة الإيمان، ومع ذلك كله ومع غير هذه الوقفات والدروس التي يطول سردها فينبغي ألا يخامر المسلمين أدنى شك في دينهم، أو يدخل اليأس والإحباط إلى قلوبهم، وهذا هو الواجب الأول على المسلم تجاه هذه المؤتمرات، بل ينبغي أن يزداد المؤمن ثقة بدينه وحماسًا للتمسك به ونشره، فليس يحارب إلاَّ الأقوياء، وليس يبتلى إلا المؤمنون الأشداء، ولو لم يكن هذا الدين من العظمة والسمو والقدرة على غزو الآخرين والتأثير فيهم لما هابه الأعداء وخططوا للقضاء عليه، فإذا كان هذا مع ما في المسلمين من ضعف ومع ما في تطبيق تعاليم الإسلام من قصور في واقع المسلمين فكيف لو عادت للمسلمين قوتهم، وكيف لو سادت الأرض أحكام الإسلام ... الله أكبر إنه التخوف من شبح الإسلام، والقلق لهذه القوة المسلمة أن تتفجر يومًا من الأيام، ¬

(¬1) سورة الممتحنة، الآية: 1.

فليس أمام قوى الكفر إلاَّ أن يمنعوا الانفجار، وليس لهم بُدٌ من التخطيط لإبعاد المسلمين عن هذا الإسلام ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. نفعني الله وإياكم ....

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله القوي العزيز، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. إخوة الإسلام، وفي إطار ما يجب على المسلم عمله إزاء هذه المؤتمرات فليس يكفي مجرد الاعتقاد بعظمة هذا الدين ومعرفة خبث الكافرين وتخطيطهم بل لابد من خطوة عملية ألا وهي العمل بما شرع الله والانتهاء عن ما حرم الله، ورفض القوانين البشرية المخالفة لذلك مهما قُنَّنت ومهما هذبت ما دامت تتعارض مع نصوص الكتاب والسنة، ودعوة الآخرين إلى ذلك بالقول والعمل. وعلى أهل الاختصاص المساهمة بتوضيح الصورة- كلٌ فيما يخصه- فأساتذة الجامعات المختصون يؤصلون بحوثهم عن الأسرة المسلمة ويطرحونها نموذجًا رفيعًا للتطبيق ويبينون للناس حقيقة الوضع السكاني في العالم الإسلامي مقارنًا بالانفجار السكاني في العالم الآخر، وما وراء ذلك من أهداف. وتطرح قضية التحديد للنسل واحدة من مخططات الأعداء، ويكشف عن مساوئ التعليم المختلط، وتبرز الإحصائيات في آثار الجريمة بسبب العلاقات الجنسية الشاذة، ويكشف الأطباء عن آثار الإجهاض، وأسباب انتشار أمراض الجنس المحرمة، ويربطون بين أنظمة الإسلام وتشريعاته وتوفر الأجواء الصحية النظيفة. ولابد من حماية الأسرة السلطة من المؤثرات المضللة والدعايات المغرضة عبر وسائل الإعلام كلها، فحرب الإعلام اليوم حرب ضروس. والغزو الثقافي أقصر طريق توصّل إليه الأعداء في غزو المسلمين فلننتبه لهذا جيدًا.

ولابد من الاهتمام بالمرأة على الخصوص، حماية وتربية وإقناعًا، وتثقيفها بالثقافة الإسلامية الواعية ضمانة كبرى بإذن الله دون هجمات الأعداء، وعلى المؤسسات التربوية والإعلامية كفل كبير من هذه المسؤولية، ومن ذا الذي لا يستطيع منا أن يهتم بأسرته، أو يعني بأمه أو زوجته وبنته وأخته، إنها مسؤولية فردية يحتمها الواجب الشرعي أساسًا، وتؤكدها الظروف المحيطة بنا وسهام الأعداء المسمومة الموجهة لنا. وعلى العلماء، والمفكرين، والجمعيات والمنظمات الإسلامية، والمنابر بشكل عام أن يسهموا في تنوير الأمة وكشف هذه الغمة، بعقد المؤتمرات والندوات، وتأليف الكتب ونشر الإحصائيات والدعوة بكل وسيلة لحماية الفضيلة، والتحذير من الرَّذيلة، وإقامة المحاورات والمناظرات الجادة التي تحق الحق، وتبطل الباطل ويستبين بها سبيل المجرمين. وينبغي أن تُؤصِّلَ هذه المؤتمرات وتلك المؤامرات عداوتنا للكافرين، وتحدد عمق الهوة بين المسلمين والكافرين والمنافقين، وتكشف لنا عن عمق تخطيطهم واعتمادهم الدراسة والتنظيم أساسًا لطروحاتهم، ومن الحماقة والجهل أن يُتَصور أن هذا المؤتمر وليد الساعة وتتجاوز مدة تنظيمه السنة أو السنتين مثلاً وحتى أؤكد ذلك أُشِير إلى كتاب صدر لأحد مفكريهم قبل ما يقرب من ثلاثين عامًا بعنوان: (شمس الإسلام تسطع على الغرب)، وذكر فيه ثلاث مقومات للمسلمين تسهم في نصرة المسلمين وتفوقهم ويهدد بالخطر القادم على غيرهم، هذه المقومات هي: 1 - الموقع الجغرافي. 2 - الموارد المتوفرة. 3 - الخصوبة في الإنتاج (يعني كثرة النسل).

فهل هذا المؤتمر وما قبله أسلوب من أساليب التعويق لهذا الخطر القادم ليس ذلك ببعيد ولا مستغرب؟ وينبغي كذلك أن لا يدعونا هذا التخطيط الماكر للتشنج أو مجرد الاستنكار والشجب ليس إلا، بل يجب أن يؤكد ذلك دعوتنا إلى عمل وتخطيط وإنتاج نثبت به قدراتنا للآخرين، ونخرج بحلول عملية نغيظ بها الكافرين، ونُبصِّر بها الحائرين ونكشف الغمة عن المترددين، فعددنا كبير، وطاقاتنا كثيرة، ومفكرونا ليسوا أقل شأنًا من مفكريهم، ولكنا بحاجة إلى لَمِّ الشمل، وتوحيد الكلمة والاستفادة من طاقتنا والتعاون فيما يخدم المصلحة ويحقق نصرة الدين وإعلاء كلمة المسلمين. إخوة الإسلام وعلى الرغم من الحضور الكبير للمؤتمر، فحضور المؤتمر لا يمثل وجهة نظر الشعوب الإسلامية، فهناك دول لم تشارك فيه، وهناك هيئات وجمعيات ومنظمات استنكرته، وهناك أصوات واحتجاجات ومسيرات، وهذه وتلك تؤكد الوعي عند طائفة من المسلمين، يجب ألاَّ تستقل نفسها أو تنخدع بالصياغات والتعديلات الطفيفة التي لا تأتي على أصل المؤتمر وهدفه. وثمة واجب آخر على من تلبَّس واشترك، أو دخل بحسن نية فاتضح له الهدف أن يكشف ما في المؤتمر من ممارسات وأباطيل، وأن يكون أمينًا في نقله دقيقًا في تصويره، وأن يعتبر نفسه النذير العريان لمن لا يزال مخدوعًا وما راءٍ كمن سمع؟ والحق بغية المسلم، واللبيب لا يخضع والحر لا يكذب، والشجاع لا يتردد، والناطق بالباطل شيطان ناطق، والساكت عن الحق شيطان أخرس.

وأخيرًا إخوة الإسلام وكما قال تعالى: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (¬1)، وما يدريكم أن يكون هذا المؤتمر نقطة ضوء للمسلمين وبداية حركة مثمرة لأهل القرآن، فالضغط يولد الانفجار، والنار تصفي الذهب من الشوائب، والفرج حين تشتد الأزمة، والنور يبدو حين تستحكم الظلمة، والله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 19.

دروس من قصة موسى عليه السلام مع فرعون

دروس من قصة موسى عليه السلام مع فرعون (¬1) الحمد لله معزّ المؤمنين، وناصر أوليائه المتقين، ومذلّ الطغاة والمستكبرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ... اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وعلى آله وصحابته والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فاتقوا الله يا عباد الله، وثقوا بنصر الله إذا توفرت أسبابه من الصدق والإخلاص والاستقامة على شرعه، والتضرع بين يديه ورجائه والخوف منه وحده دون سواه. أيها المسلمون، وتكثر القصص في القرآن بشكل عام، وفي كل قصة عبرة وما يعقلها ولا العالمون، وتحكي قصص القرآن صورًا من الصراع القديم بين الحق المؤيَّد من السماء، والباطل الذي يلوذ به الملأ والكبراء خداعًا وعنادًا واستكبارًا وحفاظًا على الذوات ليس إلاَّ، كما تكشف قصص القرآن عن مواقف المؤمنين وحقيقة وآثار الإيمان، ومواقف الظالمين ونهاية الفجار. ولئن كانت القصص تشغل مساحة عريضة في القرآن، فإن قصة موسى عليه السلام مع فرعون تتميز بكثرة عرضها وتنوع مشاهدها وهي من أطول قصص الأنبياء عليهم السلام في القرآن، فما الحكمة من كثرة ذكرها؟ قال المفسرون: لأنها من أعجب القصص، فإن فرعون حذر من موسى كل الحذر، فسخره القدر أن رُبِّي هذا الذي يحذر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد، ثم ترعرع، وعقد الله له سببًا أخرجه من بين أظهرهم، ورزقه النبوة ¬

(¬1) في 4/ 1/ 1416 هـ.

والرسالة والتكليم، وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده ويرجع إليه، هذا مع ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان، فجاءه برسالة الله، وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه السلام، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحميَّة، والنفس الخبيثة الأبية، وقوة رأسه وتولى بركنه، وادعى ما ليس له، وتجرّأ على الله وعتا وبغى وأهان حزب الإيمان من بني إسرائيل، والله تعالى يحفظ رسوله موسى وأخاه هارون- عليهما السلام- ويحوطهما بعنايته ويحرسهما بعينه التي لا تنام، ولم تزل المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يدي موسى شيئًا فشيئًا ومرة بعد مرة مما يبهر العقول ويدهش الألباب، مما لا يقوم له شيء ولا يأتي به إلا ما هو مؤيد من الله {وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} (¬1) وصمم فرعون وملؤه- قبحهم الله- على التكذيب بذلك كله ... حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد وأغرقهم في صبيحة واحدة: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (¬2)} (¬3). أجل إخوة الإيمان، لقد تعمد فرعون قتل أبناء بني إسرائيل، لأنه بلغه أن غلامًا منهم سيولد ويكون هلاك ملك مصر على يديه، فانزعج لذلك وأمر بقتل كل مولود يولد لبني إسرائيل حذرًا من وجود هذا الغلام- ولا يغني الحذر عن القدر- ومع حرص فرعون وطغيانه وجبروته فقد قدر الله أن يولد موسى عليه السلام في السنة التي يقتل فيها كل مولود لبني إسرائيل، وأن ينجوَ من بأسه وقتله، وقد حزنت أمه حين حملت به خوفًا عليه، وحين وضعته، واستمر الخوف يلاحقها حتى أُوحي إليها أن ترضعه، فإذا خافت عليه فلتضعه في صندوق ثم تُلق به في ¬

(¬1) سورة الزخرف، الآية: 48. (¬2) سورة الأنعام، الآية 45. (¬3) تفسير ابن كثير 4/ 220، 221.

البحر وسيحفظه الله ويرده إليها {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (¬1). ولكم معاشر المسلمين أن تعجبوا من قدر الله وقدرته وأمواج البحر بدأت تقذف بتابوت الرضيع (موسى عليه السلام) ذات اليمين وبات الشمال حتى أوصلته إلى بيت فرعون، وكأن الله تعالى أراد- فيما أراد- أن يظهر عجز فرعون وضعفه أمام قوة الله الجبار وقدرته، فإذا كان فرعون يقتل الغلمان من أجل هذا الغلام، فها هو الغلام يولد، ويسلم من القتل رغم المتابعة الدقيقة، فإذا سلم وصل إلى بيت فرعون دون عناء أو بحث، فهل يستطيع الملك الطاغية أن يقتل غلامًا ما زال في المهد؟ كلا وعناية الله تحيط بالغلام، ورعايته سبحانه تتولاه وصدق الله {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (¬2) وتحقق وعد الله {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} (¬3). ويبدأ، ويستمر موسى عليه السلام في دعوة فرعون وملئه .. ويصر أولئك على الكفر والمعاندة ويلين الدعاة بالقول تارة، ويؤكد موسى وهارون عليهما السلام نبوتهما بالبراهين القاطعة والمعجزات الظاهرة، ويظل الحوار مع فرعون صريحًا جادًا تؤكد فيه الربوبية الحقة لله رب العالمين، وتسلخ من فرعون الدعم العنيد وتنسف الدعوة الكاذبة رغم المكابرة والاستهزاء والتهديد: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 7. (¬2) سورة القصص، الآية: 8. (¬3) سورة القصص، الآية: 13.

أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} (¬1). وحين شعر فرعون أن موسى عليه السلام قد غَلبَه بالحجة والبرهان لجأ إلى القوة والسلطان وهدد بسجن موسى إن هو عبد الله وحده ورفض ما عليه الناس من عبودية فرعون: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} (¬2). أيها السلمون، وحين نتجاوز كثيرًا من المشاهد والمواقف ونصل إلى نهاية القصة نجد العبرة فيها أكثر والدروس أبلغ، وموسى والمؤمنون معه يفرون بدينهم من وجه الطاغية بأمر الله، ويصر فرعون وجنده على اللحاق بهم، بل ويرسل فرعون في المدائن حاشرين، ويقول عن المؤمنين: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} (¬3). ويبلغ الكرب بالمؤمنين نهايته، والبحر أمامهم، والعدو خلفهم، وهم لا يدرون ماذا في غيب الله وعلمه {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (¬4). إخوة الإيمان، وبين البدء والنهاية في هذه الملحمة العظيمة التي وقعت في اليوم العاشر من هذا الشهر شهر الله المحرم عدد من الدروس والعبر المهمة ومنها: ¬

(¬1) سورة الشعراء، الآيات: 23 - 28. (¬2) سورة الشعراء، الآية: 29. (¬3) سورة الشعراء، الآيات: 54 - 56. (¬4) سورة الشعراء، الآيات: 61 - 68.

1 - أن نور الله غالب مهما حاول المجرمون طمس معالمه، وأن الطغاة وإن أثّروا في عقول الدهماء فترة من الزمن، واستمالوهم بالمنح والعطايا، فإن القلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء، وتأملوا في فرعون وسحرته وكم وعدوا ومع ذلك انقلبوا فجأة عليه، واستهانوا بما وعد به حين أبصروا دلائل الإيمان، وحين لاذوا بحمى الملك الديان، فكانوا أول النهار سحرة وآخره شهداء بررة {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوْا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (¬1). إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية هذا الذي كان بين فرعون وملئه والمؤمنين من السحرة السابقين، إنه موقف حاسم بانتصار العقيدة على الحياة وانتصار العزيمة على الألم، وانتصار الإنسان على الشيطان (¬2). وليس هذا أول خرق في سفينة فرعون فقد كان في بيته مؤمنون، ومع ضعف النساء فقد تحدت آسية امرأة فرعون زوجها، وشمخت بإيمانها ولم تفتنها الدنيا ومباهجها، وضرب الله بها مثلاً للمؤمنين وقالت {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬3) ووجد في آل فرعون مؤمنون ناصحون رغم العنت والأذى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ ¬

(¬1) سورة الأعراف/ الآية: 122. (¬2) تفسير الظلال: 3/ 1352. (¬3) سورة التحريم، الآية: 11.

إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ .. } (¬1) بل وجد سوى هؤلاء من آل فرعون آمنوا بموسى رغم الخوف وخشية الفتنة في الدين: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} (¬2). قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما- في تأويل هذه الآية- (فإن الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل، من قوم فرعون يسيرٌ، منهم امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون وامرأة خازنه وقال ابن كثير: قليل من قوم فرعون من الذرية وهم الشباب ورد على ابن جرير الذي اختار أن الذرية من بين إسرائيل، لا من قوم فرعون وقال ابن كثير: وفي هذا نظر لأنه أراد بالذرية الأحداث والشباب وإنهم من بني إسرائيل والمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى عليه السلام واستبشروا به، وكانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به من كتبهم المتقدمة) (¬3) .. وكذلك يبدد نور الإيمان دياجير الظلمات في أجواء تُخْنَق فيها العبودية لله رب العالمين ويُكره الناس على عبودية البشر من دون الله .. ¬

(¬1) سورة غافر، الآية: 28. (¬2) سورة يونس، الآية: 83. (¬3) تفسير ابن كثير 4/ 222.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحابته أجمعين .. أيها المسلمون، أما الدرس الثاني من قصة موسى عليه السلام مع فرعون فقد عاش المسلمون في أيام فرعون ظروفًا عصبية ملؤها الخوف والأذى، ووصل بهم الأمر أن يُسروا بصلاتهم ويتخذوا المساجد في بيوتهم قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). والمعنى: كما قال العوفي عن ابن عباس في تفسير الآية: قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة وأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم وقاله مجاهد: لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة ... أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرًا، وكذا قال قتاده والضحاك (¬2). الدرس الثالث: وفي ظل هذه الظروف العصيبة أُمر المسلمون بالصبر عليها والاستعانة بالله على تجاوزها بالوسائل التالية: أ) الصبر والصلاة، قال الله تعالى لهم {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} (¬3) وقال لهم ولغيرهم: ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 87. (¬2) تفسير ابن كثير 4/ 224. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 128.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬1) فالصلاة سمة المسلم حين الرخاء وهي ملاذه حين الشدة والضراء. ب) والإيمان بالله والتوكل عليه ضرورة للمسلم في كل حال وهما في حال الشدة عدة {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} (¬2). ج) وكذلك الدعاء وصدق اللجوء إلى الله، أمان من الضيق وفيه فرج من الكروب وخلاص من فتنة الظالمين، ونجاة من الكافرين: {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (¬3). {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} (¬4). د) ومع ذلك فلابد من الاستقامة على الخير وعدم الاستعجال في حصول المطلوب فذلك أمر يقدره الله أنى شاء وكيف شاء {قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (¬5). قال ابن جُريج: يُقالُ أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة، وقال محمد بن على بن الحسين، مكث أربعين يومًا (¬6). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 153. (¬2) سورة يونس، الآية: 84. (¬3) سورة يونس/ الآيتان: 85، 86. (¬4) سورة يونس، الآية: 88. (¬5) سورة يونس، الآية: 89. (¬6) تفسير ابن كثير ج 4/ 226.

أمة الإسلام، أما الدرس الرابع الذي تكشفه قصة الحوار بين موسى عليه السلام والمؤمنين معه، وفرعون وملئه، فهو الخداع والتدليس الذي يمارسه المجرمون على رعاع الناس وجهلتهم، وتأملوا في مقولة فرعون للسحرة -حين آمنوا- كما قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (¬1). وقال في الآية الأخرى: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} (¬2). قال ابن كثير رحمه الله: وفرعون يعلم، وكل من له لبّ، أن هذا الذي قاله من أبطل الباطل، فإن موسى عليه السلام، بمجرد ما جاء من (مدين) دعا فرعون إلى الله وأظهرَ لهُ من المعجزات ما جعله يبعث في مملكته لجمع السحرة لإبطال سحر موسى، كما زعم، وموسى، عليه السلام، لا يعرف أحدًا منهم، ولا رآه ولا اجتمع به .. إلى أن يقول ابن كثير: (وفرعون يعلم ذلك، وإنما قاله تستُرًا وتدليسًا على رعاع دولته وجهلتهم، كما قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} فإن قومًا صدّقوه في قوله {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} من أجهل خلق الله وأضلهم، انتهى كلامه رحمه الله (¬3). أيها المؤمنون، ومع الخداع والتدليس على الدهماء تُقْلب الحقائق، ويُتَّهَم الأبرياء- وهذا هو الدرس الخامس- فلم يكتف فرعون وقومه بالقول عن المؤمنين الصادقين {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} (¬4)، بل اتّهَم الملأ وجلساءُ السوء موسى والمؤمنين معه، بالإفساد في الأرض: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 123. (¬2) سورة طه، الآية: 71. (¬3) التفسير 3/ 454، 455. (¬4) سورة الشعراء، الآية: 54.

مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} (¬1). وهكذا إخوة الإيمان، فليس كل من ادّعى النزاهة والعدالة مُحِقًا صادقًا، وليس كلُّ مَنْ رُميَ بالتَّطَرُّف أو أُتَّهِمَ بالفساد مبطلاً كاذبًا، وليست تغير الألفاظ والاتهامات الباطلة من واقع الأمر شيئًا، لكنها السنة في الابتلاء تمضي في الأولين والآخرين؟ ومن حق ابن كثير أن يعجب لهذه المقولة الكاذبة ويقول: (يا الله العجب صار هؤلاء يُشفقون من إفساد موسى وقومه، ألا إن فرعون وقومه هم المفسدون ولكن لايشعرون) (¬2). الدرس السادس: أن الصراع مهما امتد أجله، والفتنة مهما استحكمت حلقاتها فإن العاقبة للمتقين .. لكن ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة واستعانة بالله صادقة {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬3). أجل، فلا ينبغي أن يخالج قلوب المؤمنين أدنى شكٍ بوعد الله، ولا ينبغي أن يساورهم القلق وهم يصبرون على الضراء، ولا ينبغي أن يخدعهم أو يغرّنهم تقلّبُ الذين كفروا في البلاد فيظنوه إلى الأبد، وما هو إلا متاع قليل، ثم يكون الفرج والنصر البين للمؤمنين. أيها المسلمون، ويحسّ المسلمون برباط العقيدة، مهما كانت فواصل الزمن، وكما تجاوز المؤمنون من قوم موسى عليه السلام المحنة، فكذلك ينبغي أن ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 127. (¬2) تفسير ابن كثير 3/ 456. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 128.

يتجاوزها المسلمون في كل عصر وملة، وكما صام موسى عليه السلام يوم عاشوراء من شهر الله المحرم شُكرًا لله على هذا النصر للمؤمنين صامه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، ولا يزال المسلمون يتواصون بسنة محمد صلى الله عليه وسلم بصيام هذا اليوم، ويرجون بره وفضله. وقد قال عليه الصلاة والسلام بشأنه: « .. وصوم عاشوراء يُكّف السنة الماضية» (¬1) وفي لفظ «وصيام يوم عاشوراء، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» (¬2). فقدّروا لهذا اليوم قدره .. وسارعوا فيه إلى الطاعة واطلبوا المغفرة، وخالفوا اليهود، وصوموا- تطوّعًا لله- يومًا قبله أو يومًا بعده، وإن صمتم العاشر ويومًا قبله ويومًا بعده فذلك أكمل مراتب الصيام، كما قال ابن القيم، رحمه الله (¬3). ¬

(¬1) رواه أحمد ومسلم والترمذي، صحيح الجامع 3/ 251. (¬2) رواه الترمذي وابن حبان، صحيح الجامع 3/ 262. (¬3) زاد المعاد 2/ 76.

بين الاتباع والابتداع

بين الاتباع والابتداع (¬1) الحمد لله رب العالين، أتم الشريعة وأكمل الدين، وختم الأنبياء عليهم السلام بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، فمن اتبع واقتفى وفق واهتدى، ومن خالف أو ابتدع ضل الطريق وغوى، وأشهد أن لا إله إلا الله شرع من الدين ما يصلح البلاد والعباد، وأبي الجاهلون والمنافقون إلا أن يشرعوا لأنفسهم ما لم يأذن به الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، لا خير إلا دل الأمة عليه ولا شر إلا حذرها منه، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا، ورضي الله عن أصحابه الميامين الذين اقتفوا أثره وبشرعه كانوا مستمسكين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. إخوة الإسلام، ويعجب المرء حين يلحظ فئامًا من المسلمين كلفوا أنفسهم ما لم يأذن به الله، واتبعوا شرائع وطرائق لم يعملها صفوة الخلق محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولا صحابته الأخيار فابتدعوا في الدين ولو كلفوا أنفسهم السؤال عن أصلها والهدف منها، وما فيها من المغرم والمأثم لما عادوا إليها مرة أخرى فليس الدين- معاشر الإخوة- شهوة جامحة، ولا تقليدًا أبلهًا .. إنما هو الشرع الموحي، والسنة الموروثة عن أولي البصائر والأحلام والنهى «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة بالنار». نعم إن الإسلام- أيها الأخوة- دين الله، والله تعالى أعلم بما يصلح للبشر ويقيم سلوكهم ويطهر قلوبهم، ولم يمت محمد صلى الله عليه وسلم إلا وقد أكمل الله دينه، ¬

(¬1) في 14/ 7/ 1415 هـ.

وأتم شريعته، وكان من أواخر ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (¬1) وشرائع الإسلام وسننه كافية شافية، وليس يسوغ للمسلم كلما سمع صيحة هنا أو دعوة هناك تشبَّث بها حتى وإن كانت بدعةً محدثةً في الدين .. وحتى وإن كان مقصرًا فيما صح أمر الله به وفعل رسوله صلى الله عليه وسلم له، فلا بد للمسلم إذًا أن يستسلم لشرع الله وأمر رسوله ويسأل نفسه قبل الإقدام على هذا العمل أهو في كتاب ربه أو أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، أم عمل به سلف الأمة وخيارها؟ فإن لم يجد من ذلك شيئًا فلا يغتر بكثرة الهالكين، ولا يكن دليله أنه وجد الناس يعملون هذا العمل فهو لهم تبع فالله تعالى يقول: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (¬3) وينعى القرآن على الذين قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون. إخوة الإيمان، شأن البدعة عظيم، وأمر العبادة لا يسوغ من مجرد التقليد، ولزوم السنة والاتباع فضل من الله عظيم. ولخطورة البدع، ما ظهر منها وما بطن، اسمعوا ما قاله الأئمة الأعلام لتحذير الأمة من ضلالات الشيطان. يقول الإمام مالك رحمه الله: (من أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 2. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 116. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 153.

دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (¬1) فما لم يكن يومئذ دينًا لا يكون اليوم دينًا (¬2). ويقول سفيان الثوري رحمه الله: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها (¬3) وذلك أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه الله ورسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسنًا، فهو لا يتوب ما دام يراه حسنًا لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيء ليتوب منه، فما دام يراه حسنًا، وهو سيئ في واقع الأمر، فإنه لا يتوب، ومع ذلك فالتوبة ممكنة لمن وفقه الله وهداه كما هدى الله الكفار وأصحاب الباطل الذين أبصروا ما هم عليه من الباطل ورغبوا في الحق (¬4). إخوة الإسلام، وقد يسأل سائل ويقوله: ما هي الظروف والأزمان التي تنتشر فيها البدع؟ ولماذا تتعلق بعض النفوس بالبدع؟ والجواب: إذا انتشرت الجهالة بدين الرسل عليهم السلام بين الناس ونما زرع الجاهلية في نفوسهم، وكثر الدعاة المبطلون، واختفى أو قل دور الدعاة المصلحين سارعت الطباع إلى الانحلال من ربقة الاتباع، لأن النفس فيها نوع من الكبر فهي تحب أن تخرج من العبودية بحسب الإمكان، كما قال أحد السلف: ما ترك أحد سنة إلا تكبر في نفسه). فهي تصير إلى البدعة كمخرج من تكاليف الشرع المستمرة إلى ضروب البدعة والأعمال المؤقتة، إذًا المحافظة على السُّنة تحتاج إلى صبر ومصابرة، ومجاهدة ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية 3. (¬2) الاعتصام 2/ 53 عن الولاء والبراء للقحطاني/ 143. (¬3) شرح السنة 1/ 216. (¬4) الولاء والبراء بتصرف/ 305.

للنفس لديمومتها على ذلك حتى تلقى الله وهو راضٍ عنها .. أما البدع فهي عبادات مؤقتة، وهي لقاءات موسمية، وهي أحيانًا اجتماعات عامة قد تطرب لها بعض النفوس المريضة وتظنها نوعًا من القربة والمغنم، وهي في واقع الحال معصية ومأثم. والبدع، معاشر المسلمين، كثيرة ومتنوعة فمنها لا يتكرر في العام إلا مرة واحدة كبدعة المولد التي أحدثها العبيديون في مصر والمسمَّون ظلمًا بالفاطميين، وهؤلاء العبيديون كانوا يظهرون الرفض (أي ينتسبون إلى الرافضة- ويبطنون الكفر المحض، يقول عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (واتفق طوائف من المسلمين علماؤهم وملوكهم وعامتهم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم على أنهم كانوا خارجين عن شريعة الإسلام وأن قتالهم كان جائزًا .. وأن الذين يوجدون في بلاد الإسلام من الإسماعيلية والنصيرية والدرزية وأمثالهم من أتباعهم (¬1) .. ويقول عنهم ابن كثير رحمه الله: (وقد كان الفاطميون من أغنى الخلفاء، وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرةً، وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات، وكثر أهل الفساد، وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية، وتغلب الإفرنج على سواحل الشام بكامله حتى أخذوا القدس وغيرها .. وقتلوا من المسلمين خلقًا وأممًا لا يحصيهم إلا الله) (¬2). فإذا كان بدعة المولد وأمثالها من البدع من ترويج هؤلاء الضالين المضلين ¬

(¬1) الفتاوى 28/ 636. (¬2) البداية والنهاية 12/ 84.

فأيُّ خير يرجى في هذه البدع .. وكيف ساغ للمسلمين أن يتشبثوا بها إلى زماننا هذا، زمان العلم والمعرفة والوعي بتاريخ الأمور سلفًا وخلفًا. ومن هذه البدع بدعة القيام ليلة النصف من شعبان، وتخصيصها بعبادات وأذكار وأدعية لم ترد في الشرع المطهر ولم تؤثر عن النبي ولا صحابته الغرر. ومن هذه البدع بدعة الرجبية الذين يعظمون أيامًا أو ليالي من شهر رجب، ولاسيما ليلة السابع والعشرين منه إذ يزعمون أن ليلة الإسراء وقعت فيه، ولم يثبت ذلك بالنقل الصحيح ولو ثبت لم يكن ذلك مسوغًا لتعظيم هذه الليلة أو غيرها من ليالي رجب، وهناك من يعتقد أفضلية خاصة لشهر رجب فتراهم يخصونه بعبادات لا يعلمونها في غيره، وربما فضله بعضهم على شهر رمضان .. وهكذا تفعل البدع بأصحابها، وكذلك يصرف الشيطان الجهلة عن الفاضل إلى المفضول، وصدق من قال: لا تعمل بدعة إلا أبطلت سنة. ومن البدع ما يتكرر في اليوم أكثر من مرة، كبدعة النية في الصلاة حين إرادة الدخول فيها فيقول القائل (اللهم إني نويت أن أصلي لله كذا وكذا من الركعات لصلاة كذا (فيسميها) وأين من قال ذلك من الصالحين والأئمة المهديين؟ هذا من ناحية النقل، أما العقل فهل يسوغ أن تُعْلِم العليم الذي يعلم السر وأخفى أنك تريد أن تصلي له كذا وكذا؟ إنها بدع متوارثة حري بالمسلم أن يسأل عن أصلها وحكمها ... وقمنٌ به أن يُقلع عنها إذا تيقن له الخطأ في فعلها. أعوذ الله من الشيطان الرجيم {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬1). نفعني وإياكم بهدي كتابه ... ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 50.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله القائل في محكم التنزيل {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} (¬1) وأشهد أن لا إله إلاً الله وفق من شاء لاتباع الملة والسنة، وأبى الجاهلون إلا المخالفة والابتداع: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (¬2). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه .. وهو القائل: «ما تركتُ شيئًا يقربكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، وما تركت شيئًا يبعدكم عن الله إلا وقد نهيتكم عنه» (¬3). اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. إخوة الإسلام، ويرد السؤال الآخر، وما هي مفاسد البدعة لا سيما وأصحابها يزعمون أنهم يتقربون بها إلى الله زلفى؟ وللبدع مفاسد كثيرة، ومن أول هذه المفاسد أن أصحابها يتهمون شريعة الله بالنقص، إذ يُصرون على قُرُباتٍ لم يأذن بها الله، ولم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما عبدوا الله بمستحسنات العقول، وفي ذلك قدحٌ في كمال هذا الدين، وكأنّ أولئك يستدركون على الشريعة، ومنها أن أصحاب البدع يزهدون في السنن الثابتة، وتفتر عزائمهم عن العمل بها، وينشطون في البدع، فتراهم ينفقون أموالهم، وينصبون أبدانهم، ويضيعون أوقاتهم في إحياء البدع، وربما وجدوا خفّة ونشاطًا لما يشعرون به من موافقة الهوى، ولو كان الجهد -على غير هدى- ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 8. (¬2) سورة المائدة، الآية: 50. (¬3) رواه الطبراني بإسناد صحيح، خطب صالح الحميد، المجموعة الثانية/ 8.

ينفع أصحابه لانتفع به رهبان النصارى الذين كانوا ينقطعون في صوامعهم وأديرتهم على غير هدى، فقال الله فيهم وأمثالهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} (¬1) وتأمل قوله تعالى {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (¬2). ومن مفاسد البدع أنها السبب للفرقة والخلاف، فتحيا شعارات الجاهلية وتنطمس أنوار الإسلام، إذ يحس كل فريق أن ما هو عليه الحق وما عداه الباطل ويتحقق قوله تعالى {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (¬3) فتنشأ الإحن والعداوات بين المسلمين، ولو اعتصموا بحبل الله واستمسكوا بشريعته المنزلة الجامعة لكان فيها أمانٌ من الفرقة والخلاف. قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (¬4) (¬5). ولا يقف الأمر عند حدود الفرقة والخلاف- مع ما فيها من شر وبلاء- بل يحتدم الجدل، ويروج سوق المراء بين المسلمين، وتحصيل الخصومة في الدين، ويضيع بها جزءٌ من وقت المسلمين دون فائدة، قال قتادة- رحمه الله- قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (¬6)، قال: هم أهل البدع. ¬

(¬1) سورة الغاشية، الآيات: 2 - 4. (¬2) سورة الكهف، الآيتان: 103، 104. (¬3) سورة المؤمنون، الآية: 53. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 103. (¬5) الخطب المنبرية للشيخ صالح الفوزان 1/ 72. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 105.

وتأملوا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهديه إذ يقوله: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) (¬1). ومن مفاسد البدع أنها تفسد الدين الصحيح، حتى يظنّ من لا يعرف حقيقة الإسلام أنه مجموعةٌ من الخرافات والطقوس الفارغة، فينصرف عنه من يريد الدخول فيه، وهذا ما يريده ويخطط له الكافرون والمنافقون حتى يصدوا عن الدين الحق، ويشغلوهم بترهات باطلة، وعقائد محرمة، وبدع فاسدة .. وهل يستطيع أرباب البدع مقاومة الباطل والمبطلين وهم في الباطل واقعون؟ وهل يستطيعون محاربة الشيطان وصدّه وهم له متبعون؟ كتب عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- إلى عدي بن أرطأة بشأن بعض القدرية، يقول له: (أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت به سنة، فعليك بلزوم السنة، فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر ناقدٍ كُفُوا، وهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضل كانوا فيه أحرى، إنهم هم السابقون، تكلموا بما يكفي، ووصفوا بما يشفي، فما دونهم مقصر، وما فوقهم محسر، لقد قصر منهم قوم فجفَوا، وتجاوز آخرون فغَلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم) (¬2). معاشر الإخوة، كلماتٌ توزن بماء الذهب لمن عقل وتدبر ووعى، على أن دور السلف الصالح لم يقف عند حدود التحذير المجرد، للبدع وأصحابها، بل ¬

(¬1) حديث حسن، أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما، صحيح الجامع 5/ 146. (¬2) صالح الحميد، المجموعة الثانية لخطبه: 11، 12.

استلزم منهم أحيانًا النهي الفعلي، وتفريق المجتمعين على البدع، فقد أخرج الدارمي بسند صحيح أن أبا موسى الأشعري قال لابن مسعود، رضي الله عنهما: إني رأيت في المجلس قومًا حلقًا جلوسًا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة، فيقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء، ثم أتى حلقةً من تلك الحِلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن، أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد؛ ما أسرع هلكتكم! هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذا ثيابه لم تبل، والذي نفسي بيده أنتم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة؟ قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه (¬1). هذه كلمات واضحةٌ صريحة، توزن بماء الذهب لمن عقل ووعى، وهي نهي مبكر عن الابتداع في الدين، وهي تحذيرات من جيل الصحابة والتابعين، وليست نظرات وهابية كما يخيل للجاهلين وأصحاب الأهواء المبتدعين. وتأمل أخي المسلم كيف يدخل الشيطان على الإنسان من باب القربة والطاعة حتى يبعده عن السنة والجماعة، ويرحم الله الإمام الشافعي وهو القائل: (لأن يلقى الله العبد بكل ذنب- خلا الشرك- خيرٌ من أن يلقاه بشيء من الهوى). وقيل لسفيان بن عتبة رحمه الله: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم ¬

(¬1) خطب الشيخ صالح الحميد، المجموعة الثانية/ 13، 14. وانظر: خطب الشيخ الفوزان 1/ 73 مع اختلاف في الرواية.

فقال: أنسيت قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} (¬1) وقال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون) (¬2). فاتقوا الله معاشر المسلمين، وإياكم والبدع واتباع الهوى وعليكم بالاتباع والسنة .. واعلموا أن قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم (¬3). رزقني الله وإياكم العلم النافع والعمل الصالح وسددنا في الأقوال والأفعال وجنبنا الأهواء والبدع ومقالات .. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 93. (¬2) الولاء والبراء للقحطاني/ 312. (¬3) شرح السنة 1/ 171.

كيف تصح القلوب؟

كيف تصح القلوب؟ (¬1) أحمد الله الذي ظهر لأوليائه بنعوت جلاله، وأنار قلوبهم بمشاهدة صفات كماله، وتعرف إليهم بما أسداه إليهم من إنعامه وأفضاله، فعلموا أنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ولا يحصي أحذ ثناءً عليه. وأشهد ألا إله إلا الله، إلهًا واحدًا جل عن الشبه والأمثال، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا معقب لأمره. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله والأمين على وحيه، والحجة على خلقه، شرح الله به الصدور، وأنار به القلوب، وهدى به أقوامًا من الضلالة إلى الهدى، اللهم صل عليه وعلى إخوانه الأنبياء وعلى آله، وارض اللهم عن أصحابه أعلام الهدى، ومن سار على نهجهم علما يوم الملتقى. أما بعد فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيما أوحى إليه بطهارة القلب وتزكيته من أدرانه فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (¬2). وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم كما يقول ابن القيم- رحمه الله- على أن المراد بالثياب هنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأعمال والأخلاق، ولئن ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية على ظاهرها، وأن المقصود تطهير الثياب من النجاسات التي لا تجوز معها الصلاة، فقد قيل: إن الآية تعم هذا كله، وتدلل عليه بطريق التنبيه واللزوم، إن لم تتناول ذلك لفظًا، فإن المأمور به، إن كان ¬

(¬1) في 15/ 10/ 1412 هـ. (¬2) سورة المدثر، الآيات: 1 - 4.

طهارة القلب، فطهارة الثوب وطيب مكسبه تكميل لذلك، فإن خبث الملبس يكسب القلب هيئة خبيثة، كما أن خبث المطعم يكسبه ذلك (¬1). ومن هنا تعلم، أخي المسلم، أن أول شيء من عوامل إصلاح القلب طيب المطعم، وطيب الملبس، وكونهما من حلال، وليست بخافٍ عليك أن خبيث المكسب تُحجب دعوته دون السماء، وهو يقول: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام وغذي بالحرام، فأني يستجاب له؟ لذلك، كما أخبر الصادق المصدوق عليه أفضل الصلاة والسلام اللهم لا تحرمنا فضلك بسبب شح نفوسنا وتجاوزها الحلال إلى الحرام. والبعد عن المحرمات بشكل عام عامل مهم من عوامل إصلاح القلوب، وتأمل كيف ربط الله في كتابه العزيز بين طهارة القلب وتزكيته وبين الخلاص والنهي عن عدد من الذنوب، كالنظر المحرم، والزنا، وهتك عورات المسلمين، قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (¬2). وقال تعالي: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬3). قال ذلك عقب تحريم الزنا والقذف ونكاح الزانية فدل أن التركي هو باجتناب ذلك. وقال تعالى: - في آية ثالثة- {وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} (¬4). قال ذلك في الاستئذان على أهل البيوت، فإنهم إذا أمروا بالرجوع فامتثلوا ولم ¬

(¬1) (إغاثة اللهفان 1/ 67، 69). (¬2) سورة النور، الآية: 30. (¬3) سورة النور، الآية: 21. (¬4) سورة النور، الآية: 28.

يطلعوا على عورة، لا يحب صاحب المنزل أن يطلع عليها، كان ذلك من تزكية القلوب، ومن عظمة هذا الدين. إخوة الإيمان، والأصلُ في ذلك كله غض البصر، وعدم إطلاقه في المحرمات والعورات وقد قيل: كل الحوادث مبدؤها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر وقال العارفون: إن غض البصر يوجب ثلاث فوائد عظيمة الخطر، جليلة القدر، إحداها: حلاوة الإيمان ولذته، فإن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، ذلكم أن العين رائدة القلب، فإذا أطلق الإنسان بصره في المحرم تعلق قلبه به، فيصير القلب عبدًا لمن لا يصالح أن يكون هو عبدًا له، وحينئذ يقع القلب في الأسر، ويصبح أسيرًا بعد أن كان ملكًا، ومسجونًا بعد أن كان حرًا طليقًا. وتبدأ همومه وشكواه وصبابته وتيهه وغرامه وعشقه في غير الله وهكذا يتوزع قلبه وينصرف عما خلق له، وهذا إنما تمتلئ به القلوب الفارغة من حي الله والإخلاص له، إذ القلب لابد له من تعلق، وفرق بين من تعلق بالله فهداه وبين ما تعلق قلبه بغير الله فأضله وأرداه. الفائدة الثانية من فوائد غض البصر للقلب أنه يورثه النور وصحة الفراسة: وقد عقب الله على قصة لوط عليه السلام بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} (¬1) وهم المتفرسون الذين سلموا من النظر المحرم والفاحشة .. هذا في فراسة القلب، أما نوره فقد قال تعالى عقب أمره إلى المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (¬2). وسر هذا كما قال ابق القيم- رحمه الله- أن الجزاء من ¬

(¬1) سورة الحجر، الآية: 75. (¬2) سورة النور، الآية: 35.

جنس العمل، فمن غض بصره عمّا حرم الله عليه عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه، فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله. أما الفائدة الثالثة من فوائد غض البصر للقلب فهي تورثه كذلك قوةً وثباتًا، وشجاعةً وقد قيل في الأثر: (إن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله). أما المتبع لهواه، والمطلق عنان شهواته فيوجد عنده من ذل النفس، وضعفها ومهانتها ما جعله الله لمن عصاه، وقد قضى الله بالعزة لمن أطاعه واتقاه {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (¬1) قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} (¬2). أخي المسلم، مهما طلبتَ العزة فلق تجدها في غير طاعة الله، ومهما طال أمد تجاربك فستعود صفر اليدين من العزة ما دمتَ للمعاصي ملازمًا، وللطاعات مقلاً، قال بعض السلف: (الناس يطلبون العز بأبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله). أيها الإخوة، ومهما تبد لكم عزة أصحاب المعاصي فهي سراب خادع، وهي أُنس لحظات، ويعقبها هّم وحسرةٌ لعدّة ساعات، وقال الحسن: (إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال، فإن ذلّ المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يُذل من عصاه) (¬3). أمة الإسلام، ومن أنفع الأدوية لعلاج مرض القلب القرآن الكريم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} (¬4). ¬

(¬1) سورة المنافقون، الآية: 8. (¬2) سورة فاطر الآية: 10. (¬3) إغاثة اللهفان 1/ 60، 62. (¬4) سورة يونس، الآية: 57.

وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (¬1). وحاصل ذلك أن جماع أمراض القلوب هي أمراض الشبهات والشهوات، والقرآن شفاء للنوعين، ففيه البينات والبراهين القاطعة ما يبين الحق من الباطل، فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم والتصور والإدراك، وليس تحت أديم السماء كتاب متضمّن للبراهين والآيات من التوحيد وإثبات المعاد والنبوات ورد النحل الباطلة والآراء الفاسدة مثل القرآن ... فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك .. ولكن ذلك موقوف على فهمه، ومعرفة المراد منه، فمن رزقه الله ذلك أبصر الحق والباطل عيانًا بقلبه كما يرى الليل والنهار .. وكما يرى الشمس ليس دونها سحاب. وأما شفاء القرآن من مرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة .. فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده، ويرغب عَّا يضره فيصير القلب محبًا للرشد مبغضًا للغي .. وهكذا يعود القلب إلى فطرته التي فطره الله عليها، فلا يقبل إلا الحق، ولا يفعل إلا الخير، وهكذا يزكو القلب ويطيب وتنساق له الجوارح بعمل الصالحات (¬2)، وباختصار فالقرآن يذهب ما في القلوب من أمراض، من شك ونفاق، وشرك وزيغ، وقيل: ليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه (¬3) وفي القرآن كذلك شفاء للأجسام إذا رقيت به وفيها بلاء، كما يدل على ذلك قصة اللديغ الذي رُقيَ بالفاتحة وهي صحيحة ومشهورة (¬4). ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 82. (¬2) إغاثة اللهفان 1/ 56 - 58، بتصرف واختصار. (¬3) تفسير ابن كثير 5/ 110. (¬4) خرجها الشيخان في صحيحيهما.

إخوة الإيمان، وهذا العلاج القرآني يدعونا إلى مزيدٍ من الاهتمام بكتاب الله وتلاوته وتدبر معانيه، ولن يخيب شخص طلب الدواء مظانَّه الحقيقة، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً، فاستجيبوا له واطلبوا الشفاء منه، وتعرضوا لنفحاته وهو تعالى مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (¬1). أتدرون كيف يحول الله بين المرء وقلبه؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر والإيمان. وقال السدي: المعنى: لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفي إلا بإذنه (¬2). ومن هنا نعلم- معاشر المسلمين- أهمية الدعاء والتضرع لله في إصلاح القلوب واستقامتها على منهج الله، وقد كان خير البرية صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء وخاصة لإصلاح القلب ويقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، وحين سئل عن سر إكثاره من ذلك أجاب بقوله: «إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها» وفي رواية: «فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه»، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب (¬3) .. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول هذا القول وأستغفر الله. ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 24. (¬2) تفسير ابن كثير 3/ 575. (¬3) تفسير ابن كثير 3/ 577.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالين، خلق فسوى وقدر فهدى، وأخرج المرعى وكذلك يحي الموتى وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله بيده مقاليد السموات والأرض، وبيده مفاتيح الهدى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أزكى البشرية نفسًا وأطيبهم قلبًا، اللهم صلّ عليه وسلم وعلى إخوانه من الأنبياء، وعلى آله، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين. أيها المسلمون، ومن الأدوية الناجحة بإذن الله لإصلاح القلوب ذكر الله تعالى، قال الله تعالى {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬1) فبذكر الله تأنس القلوب وتصفو الأرواح، ولكن ذلك هبة من الله يهبها لمن آمن به وتوكل عليه {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ} (¬2). ويكفي أن تعلم أخي السلم أن الفرق بين الذاكر لله والغافل عن ذكره كالفرق بين الحي والميت، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولاشكّ أنّ من أحبّ شيئًا تعلّق به وأكثرَ من ذكره، والذاكرون لله هم من أولياء الله والمحبون له، وأولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وحتى نعلم أن الذكر هبةٌ وتوفيقٌ من الله تأمّل في سهولة الذكر، إذ لا يحتاج إنما طهارة، ولا إلى كلفة، وليس له أوقات مخصصة، ويستطيعه الإنسان قائمًا وقاعدًا، مسافرًا ومقيمًا، صحيحًا أو مريضًا ... ومع ذلك يتفاوت الناس فيه، فمنهم من لا يزال لسانه رطبًا بذكر الله، ومنهم من يجد صعوبة في استدامة ذكر الله، وهناك فئة ثالثة تشمئز قلوبها ¬

(¬1) سورة الرعد/ الآية: 28. (¬2) سورة الرعد، الآية: 28.

وتضيق وتنقبض حينما يذكر الله، وهؤلاء هم الكافرون الذين قال الله عنهم: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (¬1). أخي في الله، وإذا أضيفَ إلى ذكر الله سلامة القلب من الغش والحسد، كان ذلك علامة صحة القلب، وقاد ذلك صاحبهما إلى الجنة ونعم المآب، وتأمل كيف اجتمع الأمران لرجل فكانا سببًا في دخوله الجنة في قصة تستحق الوقفة والتأمل، فقد أخرج الإمام أحمد وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك .. فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قالت النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى .. فلما قام تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثًا فإن رأيت أن تؤوييني إليك حتى تمضي، فعلت؟ قال: نعم، قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعار- أي تنبه من نومه- وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مضت الثلاث ليال، وكدت أن أحتقر عمله، قلت يا عبد الله: إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ثَمَّ، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ثلاث مرار يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة وطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال الرجل: ما هو ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 45.

إلا ما رأيت، قال عبد الله: فلما وليت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد نفسي لأحد من المسلمين غشًا ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي والله التي لا نطيق) (¬1). إخوة الإسلام، تشبهوا بالصالحين، واقتدوا بالهداة الراشدين، ولا يلقين الشيطان في روعكم أن تلك أمة خلت، فمن يؤمن بالله يهد قلبه، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا .. والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا. ثم اعلموا- وفقني الله وإياكم للخير- أنه لن تتم لكم سلامة قلوبكم حتى تسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص (¬2). وإذا علمتم ذلك فاعلموا كذلك أن خير ما اكتنز الناس- كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- ثلاثة: قلب شاكر، ولسان ذاكر، وزوجة صالحة تعينك على أمر دنياك ودينك (¬3). وفقني الله وإياكم للخير وعصمنا من الشر، وجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين ... وصلوا، رحمكم الله، على خير نبي .. فقد أمركم الله بذلك. أخي في الله، كلنا في قلوبنا مرض، لكن حجم هذا المرض يختلف من شخص لآخر، وكلنا محتاجون إلى تعاطي الأدوية الناجعة لعلاج مرضى القلب، فلنسارع إلى العلاج، ولنأخذ بالأسباب، ولا يكن نصيبنا من الخط سماعه. وإنما قدمت لك بعض ما يسمح الوقت به من الأدوية وربما خطر لك علاج آخر تفطنت لدواء ناجع فعليك به. ¬

(¬1) انظر رسالة العمل بالعلم/ العلوي ص 8 - 10. (¬2) ابن القيم، الداء والدواء ص 179. (¬3) صحيح الجامع 4/ 142.

الفتن والمخرج منها

الفتن والمخرج منها (¬1) إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آل محمد الطيبين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فعليكم بوصية الله للأولين والآخرين {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (¬2). تقوى الله معاشر المسلمين كثرة حين القلة، وقوة حين الضعف والمسكنة، وهي أمان بإذن الله، وفيها مخرج حين المحن والمصائب والفتنة. أيها المسلمون، وهناك سنة إلهية حين تغيب عن الأذهان، وحين يجهلها المسلمون، يفاجؤون بكل نازلة ويرتبكون عند أدنى مصيبة، ويسهل عليهم أن يحيلوا الأمر لغيرهم، وإن يحملوا الآخرين أخطاءهم. فمن سنن الله الثابتة بنص القرآن الكريم أن الناس لا تصيبهم مصيبة إلا بما كسبت أيديهم، مع كثرة عفو الله وستره وتجاوزه، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (¬3) وما فتئ القرآن يُحَذّر من مخالفة أمر الله ويذكر أنها سبب للمصائب {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬4). ¬

(¬1) في 18/ 4/ 1415 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 131. (¬3) سورة الشورى، الآية: 35. (¬4) سورة النور، الآية: 63.

ولو كان أحدٌ يعفى من آثار خطئه لعفي عن الصحابة الأبرار رضي الله عنهم، فحين وقع الخطأ منهم حصل ما وقع لهم من الشدة والمصيبة في غزوة أحد وقال الله لهم: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1). وليس لأحد أن يتطير بأحدٍ أو ينسب الشر إليه، مع ما هو واقع فيه هو والمجتمع من حوله من ذنوب وسيئات، وهل نفع آل فرعون حين تطيروا بموسى عليه السلام وحاولوا ترحيل أخطائهم إليه، وتحميل أوزارهم عليه، لقد استنكر القرآن صنيعهم، وأوحى الله فيما أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بيانًا صادقًا لأسباب مصائبهم ونكباتهم فقال تعالي: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (¬2). ويرحم الله أقوامًا كانوا يعرفون أثر معاصيهم في دوابهم التي تحملهم، فإذا أخطؤوا، وجفلت بهم دوابهم تذّكروا خطأهم بتغير خُلُق دوابهم أو بمعصية نسائهم أو لعقوق أبنائهم أو بشدة مواليهم، وعادوا يستغفرون ربهم ويتوبون إليه من أخطائهم، أولئك يرون بنور الله، وأولئك الموفقون لطاعته، وأولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. أما الغافلون .. أما اللاهون السادرون، فأولئك تمر المصائب تترى فلا يعون أو يتذكرون، ويُفتنون في كل عام مرةً أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ... وتلك علامة من علامات موت القلوب، ولا قيمة للجسد إذا انتفخ على حساب ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 165. (¬2) سورة الأعراف، الآيتان: 130، 131.

ضمور القلب وهزاله، والأدهى من ذلك أن يموت ويصاب بالران، ويقفل عليه: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬1)، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (¬2)، {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (¬3). إخوة الإيمان، وكان المسلمون في عصور العزة والغلَبة والتمكين لدين الله يخشون الفتن والمصائب، وقد أخرج الإمام أحمد الطبراني بسند حسن من حديث خالد بن الوليد، رضي الله عنه، أن رجلاً قال له: (يا أبا سليمان، اتق الله فإن الفتن ظهرت، فقال: أما وابن الخطاب حي فلا، إنما تكون بعده، فينظر الرجل، فيفكر هل يجد مكانًا لم ينزل له مثل ما نزل بمكانه الذي هو به من الفتنة والشر فلا يجد، فتلك الأيام التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة أيام الهرج) (¬4). فإذا كان هذا واردًا في القرون المفضلة فلا تسأل عن القرون اللاحقة، لاسيما والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: «لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشد منه حتى تلقوا ربكم» (¬5). فإذا عُلم وقع الفتن في كل زمان، وكثرتها في آخر الزمان، فالسؤال المهم: ما هي أسباب الفتن ودواعي المصائب؟ وما علاقة أهل الزمان بقلة الفتن أو كثرتها؟ نجد الإجابة واضحةً في كتاب الله، فكلما انتشر الفساد وظهرت المنكرات ¬

(¬1) سورة المطففين، الآية: 14. (¬2) سورة محمد، الآية: 24. (¬3) سورة الحج، الآية: 46. (¬4) فتح الباري، 13/ 15. (¬5) رواه البخاري، انظر الفتح 13/ 20 وفيه إيضاح للمقصود ص 21.

وعمت، وغاب المصلحون والمنكرون، وكثر الطالحون على حساب الصالحين، كلما اشتدت المصائب، واستحكمت الفتن. قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬1). ويقول تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (¬2) ويقول تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬3). وتأمل في آيات الأعراف بين أثر الإيمان والتقوى، وآثار التكذيب والمعاصي والذنوب، يقول تعالى عن الأولى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (¬4) ثم يقول عن الأخرى: {وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬5). ثم يقول تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} (¬6). وهذا يعني أن أهل الزمان هم المسؤولون عن المصائب والذنوب إذا فسدوا، وهم المستفيدون من آثار البركات والخيرات إذا صلحوا، وكل واحدٍ منهم ¬

(¬1) سورة الروم، الآية: 41. (¬2) سورة هود، الآية: 17. (¬3) سورة الأعراف، الآيتان: 55، 56. (¬4) سورة الأعراف/ الآية: 96. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 96. (¬6) سورة الأعراف، الآية: 100.

بسلوكه الشخصي يُساهِمُ في إصلاح المجتمع وإفساده، ويتحمّل كفلاً من تبعةِ هذا الفساد إذا كان من المفسدين، وله نصيبه من الأجر إن كان من المصطلحين. نعم أيها المسلمون، ليس لنا أن نحمل مسؤوليتنا غيرنا، أو أن نقذف دائمًا بأخطائنا على غيرنا .. صحيح أن المسؤولية تتفاوت .. ولكن لكلٍ نصيبه، وعلى كلٍ مسؤوليته. فلنتق الله جميعًا، ولنعلم أننا في مركبٍ واحد، على كلِّ منا حفظ هذا المركب من الغرق، فإلقاء اللائمة على الآخرين دائمًا لا يكفي وتحميل المسؤولية كلها جهة بعينها غير صحيح. فدعوا الأنانية والاتكالية، وليأخذ كلٌ منّا نصيبه، وليبدأ إصلاح نفسه، ومن تحت يده على هدى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. وثقوا أن التعاون على البر والتقوى طريق للفلاح والنجاح، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (¬1). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 103.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آل محمد الطيبين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد إخوة الإسلام، فاتقوا الله، واعلموا أنكم ملاقوه، أصلحوا سرائركم يصلح الله علانيتكم، وانصحوا لخلق الله، وكونوا عناصر خير، ورسل إصلاح، فأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وإذا وقع بأرضكم فتنة أو مكروه فاسعوا إلى التهدئة قدر الإمكان، وإلى التسكين قدر المستطاع، ولا خير فيمن يندسّ في الصفوف ليشعل الفتيل ويخالف بين المجتمعين، ويسعى جهده لتفريق الصفوف، أولئك أهل الريب والنفاق الذين يسوءهم أن يبقى الناس في صفاء ووئام، ويقلق مضاجعهم اتحاد الكلمة، أما الخيرون فهم يسعون للإصلاح جهدهم، ويحتسبون للأجر عند خالقهم، والله يقول: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (¬1) يقربون وجهات النظر، ويحفظون هوة الخلاف التي يصنعها أهل الشائعات، هؤلاء ينصحون بالتريث والحكمة وقت الشدة والأزمة، ويقطعون على الشيطان طريق الإفساد والوقيعة بين المسلمين، وكم من راشد أبصر نفسه غضبان قلقًا فملك زمام نفسه، حتى إذا هدأت ثائرة الغضب، وخف دفع الشيطان، أدرك قيمة الأناة والرفق، وتذكر قول المصطفى صلى الله عليه وسلم «ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» ومن لم يستطع الإصلاح، ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 114.

أو لم يتبين له الحق لظروف الفتنة فيسعه السكوت واعتزال الفتن، كما صنع سعد وابن عمر ومحمد بن سلمة وأبو بكوة، رضي الله عنهم، والأحنف بن قيس وغيرهم (¬1). بل قال بعض أهل العلم: إنه يُستحب هجران البلدة التي يقع فيها إظهار المعصية، فإنها سبب وقوع الفتن التي ينشأ عنها عموم الهلاك، قال مالك: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارًا، وقد صنع ذلك جماعة من السلف (¬2). وعلى المسلم، في كل وقت وحال، العدل في القول. قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (¬3). والقسط في الشهادة والنطق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (¬4). وحفظ اللسان عن الحكم فيما لا يعلم {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (¬5) ولنتذكر جميعًا قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (¬6) ونتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتفوه بالكلمة من غضب الله ما يلقي لها بالاً يهوي بها سبعين خريفًا في النار». ¬

(¬1) الفتح 13/ 31، 34. (¬2) الفتح 13/ 10. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 152. (¬4) سورة النساء، الآية: 135. (¬5) سورة النحل: الآية: 116. (¬6) سورة ق، الآية: 18.

فاحفظوا ألسنتكم عن الحرام وتحملوا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: «وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم». لاسيما وثمة وظائف أخرى للسان يستطيع المرء أن يشغله بها، فالذكر من أجلِّ القربات، وبذكر الله تطمئن القلوب، والدعاء مطلوب في كل حال وهو في أوقات الشدائد أحوج، كما هدى إلى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ففي صحيح البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعًا يقول: «سبحان الله ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن، من يوقظ صواحب الحجرات -يريد أزواجه- لكي يصلين .. » (¬1). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث الندب إلى الدعاء والتضرع عند نزول الفتن ولاسيما في الليل لرجاء وقت الإجابة لتكشف أو يسلم الداعي ومن دعا له (¬2). كما يجدر بالمسلم في أوقات الفتن الإكثار من العبادة فللعبادة بشكل عام وأوقات الفتن بشكل خاص منزلة عظيمة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهرج كهجرة إلي» (¬3). والذي يظهر- والله أعلم- أن أوقات الفتن يضطرب الناس وتنشغل القلوب، وتكل النفوس، وبالتالي ينشغل الناس عن بعض العبادات، . ولذا أرشد المصطفى صلى الله عليه وسلم إليها لأن المتلفت إليها قليل، أو لما فيها بإذن الله دفع الغوائل ورفع الكربات لما تشتمله على ذكر وتضرع لله تعالى، ولجوء إليه وحده فهو كاشف البَليَّات. ¬

(¬1) الحديث/ 13/ 20. (¬2) السابق 13/ 23. (¬3) رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه، انظر: صحيح الجامع 4/ 59.

إخوة الإيمان، ومع التهدئة والتسكين، ومحاولة الإصلاح وقول المعروف لمن استطاع، والصمت وكف اللسان لمن لم يتبين له الأمر، وورود الاعتزال والهجرة عن مواقع الفتن، والدعاء بشكل خاص، والعبادة بشكل عام، فثمة أمر آخر أرشد الله إليه في كتابه إلا وهو التوبة والاستغفار والإقلاع عن الذنوب والمعاصي فتلك سبب بإذن الله لرفع المصائب والمحن، قال الله تعالى: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (¬1). اللهم لا تفتنا في ديننا، اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا، اللهم ومن أرادنا أو أراد أمتنا بسوءٍ فأشغله بنفسه يا سميع الدعاء. ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 126.

زلازل الذنوب

زلازل الذنوب (¬1) إن الحمد لله نحمده ونستعينه ... إخوة الإيمان، يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} (¬2). وهكذا تقرر الآيات ضعف البشر أمام قوة الله وقدرته، وتؤكد ألا مفرَ من الله إلا إليه، فلا مستقلُّ البحر بمأمن من عذاب الله إذا نزل، ولا السائر في البر بآمنٍ من مخاوف الخسف والزلازل، والأمطار المصحوبة بالحجارة إذا أراد الله. أجل، ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوا أمره، واستطعموا رزقه، ولم يشكروا نعمته، ومتعهم بالصحة والأمن ورغد العيش، فلم يكترثوا بأمره ونهيه، ما هذه الغشاوة على القلوب وهي تستمرئ المنكر، وتضيق بالمعروف، وما هذه السكرة بالنعم؟ فتنسيها اللحظة الحاضرة مشاهد القيامة وأهوال الساعة، وما هذه الغفلة عن سنن الله في الإهلاك والتدمير؟ وأين حياة القلوب وهي ترى المصائب تحل ذات اليمين وذات الشمال، ثم لا تلين لذكر الله ولا ترعوي؟ لقد لانت قلوب الجبابرة والمجرمين أمام جبروت الله وقدرته، وتفجرت الأنهار من الحجارة الصم بإذن الله، وتشقق بعض منها فخرج منه الماء، وهبط ¬

(¬1) في 2/ 7/ 1416 هـ. (¬2) سورة الإسراء، الآيات: 67 - 69.

بعض منها خشيةً لله، أفتكون الحجارة الصم أطوع لله وأخشى من قلوب الخلق؟ {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (¬1). ولقد آمن بآيات الله الكافرون، وأسلم لوجه الله الشاردون وهم يبصرون النذر توقظ ضمائرهم، والمخاوف تحيط بهم، فلا ملجأ من الله إلا الله، ولا منقذ إلا هو وحده. وهاك نموذجًا لهؤلاء: لقد آذى عكرمة بن أبي جهل، رضي الله عنه، قبل أن يسلم، رسول الله والمؤمنين معه، ومع مرور الزمن بدأ صوت الحق يعلو وصوت الباطل يخف، حتى أذن الله بفتح مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وعفا الرسول صلى الله عليه وسلم عمن آذوه وطردوه، وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وكانت تلك لمسةَ وفاء، وجزءًا من أخلاقه وشمائله، عليه الصلاة والسلام. ومع أنه صلى الله عليه وسلم أمَّن الناس كلهم إلا أنه استثنى نفرًا من المشركين، منهم عكرمة، وأمر بقتلهم، وذلك لشدة أذاهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولما ألحقوه من أذى وتنكيل بالمسلمين. وكيف لا يكون عكرمةُ في طليعة هؤلاء وهو ابن فرعون هذه الأمة .. وربما خُيّل لعكرمة يومًا أنه سيخلفُ أباه، وربما بلغ به الغرور أنه سيحطم الدعوة، أو يشل من حركة المؤمنين، ومن عادى وليًا لله كان في حرب مع الله، وتطامنت الكبرياءُ، وزال أمام عظمة الله كل دواعي الغرور .. فها هو عكرمة يفرُّ من مكة إلى اليمن، هائمًا على وجهه خوفًا من الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يركب البحر ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 74.

ليدخل الحبشة مع قوم مسافرين، فجاءتهم ريحٌ عاصف، فقال القوم بعضهم لبعض: أخلصوا، فإنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده، هنا استيقظ الإيمان في قلب عكرمة، وتبدّى له الحقُّ دون حجاب وقال قولته العاقلة: (والله لئن كان لا ينفع في البحر غيره، فإنه لا ينفع في البر غيره، اللهم لك عليَّ عهد لئن أخرجتني منه، لأذهبن، فأضعنَّ يدي في يده، فلأجدنه رؤوفًا رحيمًا، فخرجوا من البحر، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه (¬1)، ومع شؤم المعصية التي اقترفها عكرمة، ومع الصدود والإعراض وإيذاء المؤمنين قبل، فإنها التوبةُ النصوح والصدق والإخلاص في الجهاد في سبيل هذا الدين بعدُ .. وها هو عكرمة يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ليقول له: يا رسول الله، والله لا أنزلُ مقامًا قُمتُه لأصد به عن سبيل الله، إلا قمت مثله في سبيل الله تعالى، ولا أترك نفقةً أنفقتها لأصد عن سبيل الله، إلا أنفقت مثلها في سبيل الله، عزل وجل .. وصدق عكرمة مع الله وشهدته ساحات الوغى جنديًا مقاتلاً في سبيل الله، حتى إذا كان يوم اليرموك نزل فترجَّل فقاتل قتالاً شديدًا فقُتل رحمه الله، فوُجد به بضعٌ وسبعون من بين طعنةٍ وضربةٍ ورمية رضي الله عنه وأرضاه (¬2). أيها المسلمون، يمهل الله ولا يهمل، ويُري الناس من آياته وعجائب قدرته ما تشهد به قلوب المؤمنين، ويغفل عنه المستكبرون وتحيط القوارع والنذر بالناس أجمعين، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لايؤمنون .. وتتوالى الفتن وتعصف بالناس عواصف المحن، والقلة القليلة منهم هي التي تتذكر وتستغفر {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (¬3). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 5/ 93، الإصابة 7/ 37 وقد أسندها. (¬2) أسد الغابة- بهامش الإصابة- 8/ 122. (¬3) سورة التوبة، الآية: 126.

ومن ذا الذي لا يقع في معصية، ومن منا لا يقترفُ الخطيئة، وهذا الحبيب المصطفى يقسم ويقول «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» (¬1). لكن الإيمان والتقى يذكر صاحبه بعظمة من عصى فيرعوي ويستغفر ولا يصرُّ على الخطأ والمنكر {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬2). أمما الجهل والطغيان فيسهل على صاحبه المعصية ويهون أمر الله عنده فلا يزال عن الحق معرضًا وللشرِّ والباطل واردًا حتى يهلك غير مأسوف عليه {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} (¬3). معاشر المسلمين، تأملوا أحوالكم مع خالقكم، وفتشوا عن أنفسكم ففرقٌ بين من يقترف المعصية وهو لها كاره، وهو من ربه خائفٌ مشفق ينظر إلى ذنوبه كأصل جبل يخاف أن يقع عليه، وبين من يمارس الذنب إثر الذنب، ولا يتمعّر وجهه خشية الله، بل يرى ذنوبه أشبه بذباب وقع على أنفه فقال بيده يهشه هكذا! وهكذا يتفاوت الناس في أحوالهم حين مقارنة المعاصي، وفرق بين من يراها كالجبال وآخرون يرونها كالذباب، وتأمل هذا النص وصنف نفسك حيث هي: فقد روى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن السماك أنه قال: أصبحتِ الخليقةُ على ثلاث أصناف: صنف من الذنب تائب، موطِّن لنفسه على هجران ذنبه، لا ¬

(¬1) رواه مسلم 2749. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 135. (¬3) سورة الدخان، الآية: 29.

يريدُ الرجوع إلى شيءٍ من سيئته، هذا هو المبرِّر، وصنف يذنب ثم يندم، ويذنب ويحزن، ويذنب ويبكي، هذا يرجى له ويُخاف عليه، وصنف يذنب ولا يندم ولا يحزن ويذنب ولا يبكي، فهذا الكائن الحائر عن طريق الجنة إلى النار (¬1). يا أخا الإسلام، إياك من الفرح بالخطيئة، وإيَّاك أن تنسيك لذة الهوى مرارة الخطيئة، وأن تحرق نار الهوى بذرة الإيمان في قلبك، وإيَّاك إيَّاك والمجاهرة بالذنب، أو عداوة من يهديك للحق أو استحقار من يعلمك الخير، أو التضايق ممن يصدقك الحديث، فصديقك حقًا من صدقك القول لا من صدَّقك في كل ما تقول وتعمل، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (¬2). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ... ¬

(¬1) برقم 7156 عن سبيل النجاة من شؤم المعصية محمد درويش/ 10. (¬2) سورة الأعراف، الآيتان: 52، 53.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فالق الإصباح وجعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا ذلك تقدير العزيز العليم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. أيها المسلمون، ويتخوف المؤمنون من كثرة ما يُسمع من محن ومصائب وما يقع من زلازل، وفتن في بلاد المسلمين وهم يقرؤون أمثال قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬1). وإذا كانت الآية تربط بين كثرة الفساد في الأرض ومعاصي الخلق وتدعوهم إلى التأمل في ذوات أنفسهم والعودة إنما خالقهم بالتوبة والطاعة فثمة آيات أخر تربط بركات السماء والأرض بالإيمان والتقى، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬2). قال العلامة ابن القيم رحمه الله (وقد دلَّ العقلُ والنقلُ والفطرةُ وتجاربُ الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها على أن التَقربَ إلى ربِّ العالمين وطلب مرضاتِه، والبرِّ والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبةِ لكلِّ خير، ¬

(¬1) سورة الروم، الآية: 41. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 96.

وأضدادها من الأسباب الجالبة لكل شر، فما استجلبت نعم الله تعالى واستدفعت نقمتُه بمثل طاعته والتقريب إليه والإحسان إلى خلقه) (¬1). كيف لا؟ إخوة الإسلام، والقرآن الكريم يُذكرنا بمصير السابقين ويقول جل ذكره: {فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (¬2) ويقول تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} (¬3) وقال تعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} (¬4) وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (¬5) وتأملوا معاشر المسلمين قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (¬6). قال الإمام علي، رضي الله عنه: (ما نزل بلاءٌ إلا بذنب وإلا رفع إلا بتوبة) (¬7). أيها المسلمون، والفساد الناشئ في الأرض لكثرة خطايا العباد وإسرافهم في الذنوب لا تنتهي آثاره على العصاة وحدهم، بل يعم الناسَ إذا لم يتناصحوا ويأخذوا على أيدي السفهاء (إن الناس إذا رأوا الظالم ثم لم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده). ولا تقف العقوبة عند حدود الآدميين، بل يطال شؤم المعصية الأحياء ¬

(¬1) الداء والدواء/ 38، 39. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 166. (¬3) سورة الزخرف، الآية: 55. (¬4) سورة الحاقة، الآية: 10 (¬5) سورة الشورى، الآية: 30. (¬6) سورة الرعد، الآية 11. (¬7) الداء والدواء/ 142.

والمخلوقات الأخرى، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (إنّ الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم) (¬1). وقال مجاهد، رحمه الله: إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر، ويقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم). أيها المسلمون، أما العصاة أنفسهم، أما المفسدون في الأرض، فيكفيهم ما ذل المعصية هوانهم على الله {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} (¬2). قال الحسن البصري، رحمه الله: هانوا على الله فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد- كما قال تعالى: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} - وإن الناس في الظاهر لحاجتهم إليهم أو خوفًا من شرهم، فهم في قلوبهم أحقر شيء وأهونه (¬3). ويكفي العصاة المفسدين في الأرض أيضًا محقُ بركة أعمارهم وأموالهم وعلمهم وعملهم، فكل وقتٍ عُصي الله فيه، وكلّ ما عُصى الله فيه، أو بدن، أو جاه، أو علمٍ، أو عملٍ، فهو على صاحبه، ليس له، إذ ليس له من ذلك كله إلا ما أطاع الله فيه. ولهذا قال العارفون: فمن الناس من يعيش في هذه الدار مائة سنة أو نحوها، ويكون عمره لا يبلغ عشر سنين أو نحوها، كما أن منهم من يملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، ويكون ماله قي الحقيقة لا يبلغ ألف درهم أو نحوها، وهكذا الجاه والعلم (¬4). ¬

(¬1) الداء والدواء ص 113. (¬2) سورة الحج، الآية: 18. (¬3) الداء والدواء/ 112. (¬4) الداء والدواء، تحقيق يوسف بديوي، دار ابن كثير/ 160، 161.

وقد صح الخبر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالم أو متعلم» (¬1). وفي الحديث الآخر: «الدنيا ملعونةً، ملعونٌ ما فيها إلا ما كان لله» (¬2). إخوة الإيمان، تذكروا أنكم خلق من خلق الله، وأن خلق السموات والأرض أكبر من خلقكم، وهذه السموات والأرض في قبضة الله وليس له من شريك في تصريفهما: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (¬3). {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬4). أجل، إن الله جعل الأرض ذلولاً ليمشي الناس في مناكبها، ويأكلوا من رزقه، وإذا شاء حركها فمادت من تحتهم تذكيرًا لهم، فهم غير آمنين من خسف الله بهم، وهم غير آمنين من أن يرسل عليهم حاصبًا من السماء فيهلكهم: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} (¬5). ألا فاشكروا الله على نعمه، ولا تستعينوا بنعم الله على معصيته، ولا تغتروا بإمهال الله لكم، ولا تمرن عليكم الزلازل والمحن، والمصائب والفتن، دون ¬

(¬1) رواه الترمذي وحسنه 2322. (¬2) رواه أحمد في الزهد (28) وقال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه خداش، لم أعرفه وبقية رجاله ثقات [المجمع 10/ 222]. (¬3) سورة فاطر، الآية: 41. (¬4) سورة الحج، الآية: 65. (¬5) سورة الملك، الآيتان: 16، 17.

أن تعقلوا مراد الله منها، فتشوا عن أنفسكم، وكل أدرى بنفسه، وتوبوا إلى بارئكم، وتناصحوا بينكم {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬1). اللهمّ قنا عذابك يوم تبعث عبادك. اللهم وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك. ¬

(¬1) سورة الزمر، الآيات: 54 - 61.

أثر القرآن الكريم

أثر القرآن الكريم (¬1) إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين، وتمسّكوا بحبله المتين، واستقيموا على صراطه المستقيم. ألا وإن القلوب تصدأ وجلاؤها القرآن الكريم، والقرآن هو النبع الحقيقي الذي لا ينضب، وهو الدستور الذي يحق للأمة المسلمة أن تفاخر به في الوقت الذي تساق فيه الأمم والشعوب الأخرى سوقًا إلى الدساتير الوضعية والقوانين البشرية. القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة لهذا الدين، وهو الكتاب الحكم الذي أنزل على النبي الكريم، وإذا كان الأنبياء السابقون عليهم السلام قد أوتوا من المعجزات ما آمن عليه البشر في وقتهم ثم انتهت هذه المعجزات بموتهم وفناء أقوامهم، فإن الذي أُوْتيه محمد صلى الله عليه وسلم ظلَّ وسيظلّ معجزة يدركها اللاحقون بعد السابقين، ويراها المتأخرون كما رآها المتقدمون .... وتلك- وربِّي- معجزة تتناسب وطبيعة هذا الدين الذي أراد الله له أن يكون آخر الأديان، وتتناسب مع القرآن الذي أراد الله أن يكون آخر كتاب ينزل من السماء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله «ما من الأنبياء نبيٍ إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة» (¬2). لقد نزل القرآن في أمةٍ تتباهى بالفصاحة والبيان، وتفاخر بالبلاغة وجزل الكلام، تعقد لها الاجتماعات، ويجتمع في الأسواق والمناسبات فحول ¬

(¬1) في 8/ 6/ 1412 هـ. (¬2) الحديث أخرجه مسلم ج 1/ 134.

الشعراء، وأرباب الفصاحة للحوار والمفاخرة وإظهار التحدي .. فنزل القرآن ليتحداهم جميعًا، إنسهم، وجنهم {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (¬1) بل بلغ التحدي إظهار عجزهم عن تأليف سورة من مثله {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (¬2). وفوق ذلك فقد استطاع القرآن الكريم أن يخترق قلوبهم وهم بعد على الكفر والضلال، وما زال يؤثر فيها حتى قاد أصحابها إلى الهدى والإيمان، يقول جبير بن مطعم بن عدي القرشي النوفلي رضي الله عنه وكان من أكابر قريش وعلماء النسب فيها: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة (وذلك في وفد أسارى بدر) فسمعته يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ الآية {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} (¬3) كاد قلبي يطير (كما روى ذلك الشيخان في صحيحيهما) (¬4). وفي رواية (كان ذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي) وإن كان قد تأخر إسلامه إلى ما بين الحديبية والفتح) (¬5) وقبل جبير كانت قصة عتبة بن ربيعة، وهي مشهورة، وإسنادها حسن، وخلاصتها أن قريشًا بعد ما رأت انتشار الإسلام اختارت أحسن رجالاتها ليكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو وليد عتبة بن ربيعة، وكلم النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وهو منصت له، فلما فرغ قال: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 88. (¬2) سورة هود، الآية: 13. (¬3) سورة الطور، الآيات: 35، 36، 37. (¬4) (البخاري مع الفتح 8/ 603، ومسلم 1/ 338، والإصابة 2/ 65، 66). (¬5) (الإصابة 2/ 66).

نعم، قال أنصت فقرأ عليه مطلع سورة فصلت حتى بلغ قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (¬1) فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله، واحتبس عن قريش فترة، وفي بعض الروايات أنه جاء إليهم، فقال بعضهم لبعض: نقسم، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك؟ قال ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر عليهم فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك يا أبا الوليد بلسانه، قال هذا رأي فيه فاصنعوا ما بدا لكم (¬2). وكان للقرآن أثره البالغ على أفئدة قساوسة النصارى {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (¬3). بل تأثر مردة الجان الذين كانوا قبل نزوله يسترقون السمع، فقالوا: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} (¬4). وأخرج الحاكم وغيره بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: هبطوا- يعني الجن- على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلما سمعوه قالوا أنصتوا، قالوا صه! وكانوا تسعة، أحدهم زوبعة، فأنزل الله عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: 13. (¬2) تفسير ابن كير 7/ 151، 152. (¬3) سورة المائدة، الآية: 83. (¬4) سورة الجن، الآية: 1.

إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (¬1). وإذا كان هذا منطق الجن تجاه القرآن، فللملائكة كذلك شأن مع القرآن الكريم، فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما واللفظ للبخاري عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال: بينما هو يقرأ القرآن من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكتت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت فسكتت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها، فأشفق أن تصيبه، فلما اجتره- يعني ولده حتى لا تطأه الفرس- رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: اقرأ يا بن حضير اقرأ يا بن حضير، قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريبًا، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: وتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو أنك قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى عنهم (¬2). وفي صحح مسلم- أيضًا- عن البراء قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين (والشطن: الحبل الطويل المضطرب، وإنما ربطه بشطنين لقوته وشدته) فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما ¬

(¬1) سورة الأحقاف، الآيات: 29 - 32 وانظر (الصحيح المسند من دلائل النبوة/ 3). (¬2) الفتح 9/ 61، مسلم 1/ 5548.

أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فقال: تلك السكينة تنزلت للقرآن (¬1). إخوة الإيمان، وكذلك يكون أثر القرآن حين يتلى، وليس بمستغرب أن يحيل القرآن قلوب اللصوص المجرمين إلى قلوب علماء متميزين، وعباد صالحين، والفضيل بن عياض العالم العابد- عليه رحمة الله- نموذج واضح لما أقوله وقد حكى الذهبي في سير أعلام النبلاء قصة توبته وتأثره بالقرآن فقال: كان الفضيل ابن عياش شاطرًا، (يقطع الطريق) بين أبيورد وسرجس وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تاليًا يتلو: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ... الآية} (¬2) فلما سمعها قال: بلى يا رب، قد آن، فرجع، فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها سابلة (أي مسافرون)، فقال بعضهم نرحل، وقال بعضهم حتى نصبح فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين هنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام (¬3) رحم الله الفضيل حجة زمانه، وعابد دهره، وأورع الناس من حوله .. وأكرم وأعظم بهذا الكتاب الذي أحيا أمة بعد أن كانت في عداد الموتى. وصدق الله، وهو أصدق القائلين {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬4). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه .. وألان قلوبنا وفقهها لمحكم تنزيله .. أقول هذا وأستغفر الله. ¬

(¬1) مسلم 1/ 547، 548. (¬2) سورة الحديد، الآية: 16 (¬3) السير 8/ 373. (¬4) سورة الحشر، الآية: 21.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى إخوانه من الأنبياء. أيها المسلمون، ولأثر القرآن على النفوس خشي المشركون على أبنائهم أن يتأثروا به حين يسمعونه من المسلمين الخاشعين لتلاوته، وقصة أبي بكر رضي الله عنه مع ابن الدغنة تكشف عن هذا، وذلك حين خرج أبو بكر مع من خرج يريد الهجرة إلى الحبشة فلقيه (ابن الدغنة) فقال: مثلك لا يخرج يا أبا بكر، وأنا جار لك، ثم جاء ابن الدغنة إلى قريش في ناديها وأعلن جواره له، فلم تكذبه قريش لكن قالوا له: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا في ذلك ولا يستعين به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك لأبي بكر، فمكث فترة كذلك، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدًا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقذف (يجتمع) عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه، وينظرون إليه- وكان أبو بكر رجلاً بكاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة يشتكون أبا بكر إليه، ويقولون إنا خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهَهُ. إلخ القصة التي رواها البخاري في الصحيح (¬1). إذا كان هذا أثر القرآن وهو غيض من فيض وقليل من كثير فالسؤال هنا الذي يجب أن نسأله أنفسنا: ما هو أثر القرآن علينا نحن المسلمين في هذه الأزمة؟ ¬

(¬1) الفتح 6/ 230، 231.

وقبل هذا السؤال سؤال آخر: ما هو نصيبنا من قراءة القرآن؟ وما حظنا من الخشوع والتدبر حد يتلى القرآن؟ إن واقع كثير من المسلمين اليوم واقع مر، يرثى له مع الأسف الشديد فالمصاحف تشكو من تراكم الغبار عليها، والهجر أصبح ديدن المسلمين إلا من رحم الله، البضاعة من كتاب الله مزجاة، ويرحم الله زمانًا كان الشيخ الكبير يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: أقرئني يا رسول الله؟ قال له: اقرأ ثلاثًا من ذات (ألر). فقال الرجل: كبرت سني واشتد قلبي وغلظ لساني، قال: فاقرأ من ذات (حم) فقال مثل مقالته الأولى، فقال اقرأ ثلاثًا من المسبحات، فقال مثل مقالته، فقال الرجل: ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة، فأقرأه (إذا زلزلت الأرض) حتى إذا فرع منها قال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها أبدًا، ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلح الرويجل، أفلح الرويجل (¬1) .. وإذا كان فضل سورة (الزلزلة) هذا، فما بال من تتوفر لهم الأداة لقراءة القرآن كله، ويتوفر لهم من النشاط والقوة ما يمكنهم من إعادة قراءة القرآن مرة تلو المرة؟ اللهم لا تحرمنا فضلك، ولا تصدنا بسبب ضعف نفوسنا وغلبة شهواتنا عن كتابك. إخوة الإسلام، هل نسينا أن الحسنة بعشرة أمثالها وأن (ألم) فيها ثلاثة أحرف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لا أقول (ألم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف .. فكيف سيكون تعداد الحروف في الصفحة الواحدة، وكم سيكون عدد الحسنات فيها ألا إن فضل الله واسع .. ولكن هل من ساع إلى الخير جهده؟ أليس من اللائق بك أخي المسلم أن تبكر في المجيء إلى ¬

(¬1) الحديث رواه أحمد الحاكم وأبو داود وغيرهم بإسناد صحيح. (المسند 10/ 8 ح 6575).

الصلوات الخمسة لتحظى بقراءة قسط من القرآن وتحصل على رصيد كبير من الحسنات، فإن أبيت، بكرت فيما تستطيع التبكير منها، فإن تكاسلت أليس يجدر بك أن تبكر يوم الجمعة لتقرأ ما تيسر من القرآن، وخاصة سورة الكهف التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من قرأها يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء به يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين) (¬1). أيها المسلمون صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) حديث صحيح أخرجه الحاكم وغيره. زاد المعاد 1/ 277.

بين المصائب والذنوب

بين المصائب والذنوب (¬1) تصيب الأممَ والجماعات المصائبُ والنكباتُ، وتحل البلوى والمحن بالأفراد والدول والمجتمعات، وليس ذلك بمستَغرب، فسنة الله ماضية في نكد العيش، ومنغصات هذه الحياة، كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} (¬2). وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (¬3). وقال تعالي: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬4). والأمر في هذه القضية لا يحتاج لمزيد أدلة من الكتاب والسنة لإثباته، فواقع الحياة وحال الناس يشهد به. ولكن الأمر المهم هو تأمل هذه السنة الربانية والتعرف على أسبابها وحكمها، وكيفية الوقاية أو التقليل منها. والحق أن الناس يتفاوتون في هذا الأمر تفاوتًا كبيرًا، وذلك على قدر علمهم وفقههم، ودرايتهم بكتاب الله وفهم نصوصه. فهناك من تنزل به المصائب وتحل به المحن صباحًا مساءً، وهو لا يدري شيئًا من أسبابها، ولا يعلم كيف يتخلص منها، فيظل ينتقل من محنة إلى أخرى ومن غم إلى آخر حتى تنقرض حياته، وربما كانت آخرته امتدادًا لشقائه في حياته ¬

(¬1) 12/ 3/ 1412 هـ. (¬2) سورة البلد، الآية: 4. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 35. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 168.

الدنيا، وهذه حال الذين غفلوا عن ذكر الله، وهم الذين قال الله بشأنهم: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} (¬1). وهذه التعاسة التي يعيشها والمحن التي يلاقيها جزاء معجل له في هذه الحياة بسبب إعراضه عن ذكر الله، ونسيانه آلاءه ونعمه وتأمل قوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} (¬2). أيها الإخوة، ولا يعني أن هذا الصنف من الناس لا عقول لهم، بل هم في مجال الحياة الدنيا لا ينازعون، وفي سبيل جمع حطامها لا يُسايرون، ولكن أمر الهداية والتوفيق للخير فضل ومّنةٌ من الله، يتفضل به على من عرف صدقه وإخلاصه وإنابته إلى الله، أما الذين رضوا من عقولهم أن تكون مسخَرة لجمع الدرهم والدينار فحسب، ولم يتجاوزوا بها إلى ما ينفعهم في حاضرهم ومستقبلهم، ولم يستخدموها في التفكير في هدف الحياة ومصير الناس، فهؤلاء رضوا من الغنيمة بالإياب، وعليهم أن يصبروا ويتحملوا ما يأتيهم من فتن ومحن ما داموا في غفلتهم يعمهون، وما داموا يسمعون الذكر فلا يستفيدون. وليتذكروا قول الحق تبارك وتعالى: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (¬3). أيها المسلمون، ومهما أدّعى المفرطون والمسرفون على أنفسهم بالسيئات العلم مفلسون بالجهل، ولهذا قال السلف: كل من عصا الله فهو جاهل .. ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 28. (¬2) سورة الزخرف، الآيتان: 36، 37. (¬3) سورة التوبة، الآية: 126.

ولهذا أثبت الله للكفرة العلم في أمور الحياة الدنيا، لكن أخبر أنهم عن الآخرة جهلةٌ غافلون: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (¬1). يقول أبو العالية: سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} (¬2). فقالوا: كل من عصى الله فهو جاهل، ومن تاب قُبَيل الموت فقد تاب من قريب (¬3) .. وقال قتادة: أجمع أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنّ كلّ من عصى ربه فهو في جهالة عمدًا كان أو لم يكن، وكل من عصى الله فهو جاهل، وكذلك قال التابعون ومن بعدهم (¬4). وإذا كان هذا حال الجهل، فإن حال العلم والعلماء خلاف ذلك، فليس العلم الحقّ حفظ النصوص، ومعرفة المتون فحسب، وليس العالم الرباني هو الذي يستظهر العلوم دون عملٍ بها، بل العلم الحقيقي يكمن في خشية الله والعمل بما علم، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬5). ولهذا قال رجلٌ للشعبي: أيها العالم، فقال: إنما العالم من يخشى الله، وقال ابن مسعود، رضي الله عنه: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار جهلاً (¬6). ومن رحمة الله بعباده، وفضله على بني آدم عامة، أنه تفضل عليهم بأمرين، هما أصل السعادة، فلم يُعَنِّهِمْ في أمر الهداية، ولم يكلفهم ما لا يطيقون: ¬

(¬1) سورة الروم، الآية: 7. (¬2) سورة النساء، الآية: 17. (¬3) الحسنة والسيئة لابن تيمية/ 73. (¬4) المصدر نفسه/ 73. (¬5) سورة فاطر، الآية: 28. (¬6) الحسنة والسيئة/ 75.

الأول: أنه فطرهم على الخير، فكل مولود يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه- أما الذين يبقون على الإسلام فهم باقون على أصل الفطرة- وكان أبو هريرة، رضي الله عنه، إذا قرأ هذا الحديث يقول: اقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (¬1). وفي صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: «خلقتُ عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرّمت عليهم ما أحللْتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» (¬2). الثاني: من فضل الله على الناس، أنه قد هداهم هداية عامة بما جعل فيهم بالفطرة من المعرفة وأسباب العلم، وبما أنزل إليهم من الكتب، وأرسل إليهم من الرسل، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (¬3). وقال {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (¬4). أي بيّنا له طريق الخير وطريق الشر (¬5). أيها الإخوة، إذا تقرر هذا فليعلم أن هناك صنفًا من عباد الله يعرفون أسباب المحن ودواعي الفتن، ويعلمون أسباب رفعها وطريق الخلاص منها، أولئك الذين ينظرون بنور الله، وأولئك الذين يقرؤون كتاب الله فيجدون من بين آياته قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (¬6). ¬

(¬1) سورة الروم، الآية: 30. والحديث رواه البخاري ومسلم. (¬2) كتاب الجنة/ 63. (¬3) سورة الرحمن، الآيات: 1 - 4. (¬4) سورة البلد، الآية: 10. (¬5) الحسنة والسيئة/ 79. (¬6) سورة الشورى، الآية: 30.

وقال عكرمة: (ما من نكبة أصابت عبدًا فما فوقها إلا بذنبٍ لم يكن الله ليغفره له إلا بها، أو لينالَ درجةٍ لم يكن لِيُوصلَه إليها إلا بها) (¬1). وهكذا تفهم العارفون أمور الحياة والأحياء. إخوة الإسلام، هل نتعامل فيما يصيبنا وما ينزل بنا من مصائب في هذه الحياة الدنيا، بهذا الأسلوب الإيماني الرفيع، وهل نتأدب بهذا الأدب القرآني الكريم؟ لاشك أن ذلك يخفف مصابنا، ويقضي بنا على أسباب المحن، ويصل بنا - بمشيئة الله- إلى تجاوز المواقف الصعبة والمحرجة في هذه الحياة الدنيا ... {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} (¬2). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه .. أقول هذا القول .. وأستغفر الله .. ¬

(¬1) تفسير القرطبي 16/ 31. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 43.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله على آلائه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة مقرّ بوحدانيته وجلاله وكبريائه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، بلغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، فتركها على محجةٍ بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وسلم عليه وعلى إخوانه من النبيين، وعلى آله وصحابته والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين. أيها الإخوة، يسيرٌ على النفس أن تُعلق أخطاءها على غيرها، ومرغوبٌ عندنا أن نبحث في أي مشكلة تواجهنا عن عنصر آخر خارج محيطنا لنلصق به التهمة .. ذلك ضعف فينا، وقصور في إرادتنا، وعجزٌ عن مواجهة أنفسنا بأنفسنا، ولو أن كل واحد منا تحمل أخطاءه بنفسه، وبحث في سيرته عن أسباب ما أصابه، وعالج الخطأ، وأناب إلى الصواب، لصلحت الحياة بنا، وصلحت أحوالنا. ومشكلةٌ أخرى لدينا، هي أننا ننسى- أحيانًا- ما يأتينا من خير من الله، ومن نعمة الصحة، والولد، والمال وغيرها .. وهي كثيرةٌ، لا تعد ولا تُحصى. {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (¬1). وفي المقابل نتألم لأي نازلة تنزل بنا، ونتضايق عند وقوع أي مصيبة فينا، حتى ولو كانت صغيرة إلى جانب نعم الله علينا، فهل ذلك من العدل والإنصاف، أم إن ذلك سببه تقصيرنا في طاعة الله، وفي سلوك، وفي أداء فرائضه؟ وهذا يذكرنا بقوله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 18.

عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} (¬1) .. الآيات. أيها الإخوة: أينا الذي وقف عند تفسير قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} (¬2). والمصيبة الثالثة: إننا نخطئ كثيرًا، ونظلم أنفسنا ونظلم الناس من حولنا، وقد نشعر بهذا أو لا نشعر .. المهم أننا لا بهتم بذلك، فإذا ما أُصِبنا أو لحق بنا ضرر في أنفسنا أو في أهلينا أو أموالنا، عجبنا واستغربنا. وكرهنا وفزعنا، فهل، ذلك من العدل والإنصاف؟ وأينا الذي وقف عند قوله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} (¬3) قال جمهور السلف: لفظ الآية عام، والكافر والمؤمن مجازى بعمله السوء، وأما مجازاة الكافر فالنار لأن كفره أوبقه وأما المؤمن فبنكبات الدنيا، كما روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}. بلغت المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال: اللهم أصلح أحوالنا، وبصرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، واجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، والشوكة يشاكها». ¬

(¬1) سورة المعارج، الآيات: 19 - 26. (¬2) سورة النساء، الآية: 123. (¬3) سورة النساء، الآية: 123.

وكان ممن فزع لهذه الآية أبو بكر الصديق رضي الله عنه- وهو في الفضل والبر والإيمان- فجاء إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كيف الصلاح يا رسول الله مع هذا؟ كل شيء عملنا جزينا به؟ فقال غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تنصب، ألست تحزن، ألست تصيبك اللأواء؟ قال: بلى، قال: فذلك مما تجزون به (¬1) .. أيها المسلمون هل نعي هذه المعاني، وتكون نبراسًا يضيء لنا الطريق في هذه الحياة، وهل نربط بين المصائب والذنوب والمعاصي، وهل نتجرد في إصلاح ذواتنا ومعرفة أقصر الطرق لرفع المحن والمصائب عنا، وعن أمتنا .. أو نستمر في الخطأ، ونرتكس في أوحال الخطيئة، فننتقل من بلية إلى أخرى، ومن وضع مُردٍ إلى آخر أسوأ منه؟ ذلك خياره بأيدينا .. لكن لنثق أن الله تعالى لن يغير ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬2). وسوف تستمر تجاربنا الخاطئة حتى نهتدي إلى صراط الله المستقيم. وسنظل نتخبط في الظلمات، حقي نفيء إلى أنفسنا ونبصر نور الله، والمصيبة أن الشقاوة لا تنتهي في هذه الحياة الدنيا، فمن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً، ومن يضلل الله فما له من هاد. ¬

(¬1) تفسير القرطبي 5/ 396 - 398. (¬2) سورة الرعد، الآية: 11.

من فقه الحج ومنافعه

من فقه الحج ومنافعه (¬1) إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره. أما بعد، فاتقوا الله معاشر المسلمين، واستقيموا على طاعته، وأديموا له العبودية، وأخلصوا له العبادة. وقد مرت بالمسلمين أيام اغتبط المشمرون فيها بطاعة الله وفاز العاملون المحتسبون فيها بعظيم عفو إن الله ومغفرته. أجل لقد عاد حجاج بيت الله بعد أن أهلوا بالتوحيد الخالص لله وألسنتهم تلهج لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وكم هي كلمات عظيمة لو فقهها كل الملبون .. وتمثلها واقعًا علميًا جميع المسلمين؟ وطاف الحجاج حول الكعبة أول بيت وضع للناس، وكم هي عظيمة تلك الذكريات التي تذكر المسلم بأن إسلامه كان استجابة من الله لدعاء إبراهيم الخليل عليه السلام، وابنه إسماعيل عليه السلام، حينما قالا، وهما يرفعان بنيان البيت: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} (¬2). قيل: إنهما كانا مسلمين ولكنهما سألا الله الثبات وقيل: المعنى مخلصين لك، ومستسلمين لأمرك خاضعين لطاعتك (¬3). إخوة الإيمان ويكتمل التوحيد ويشهد الحاج منافع الحج إذا تخلص من الشرك والشركاء، وعاد من حجه مدركًا قيمة التوحيد متمسكًا بها، عارفًا ¬

(¬1) في 17/ 12/ 1414 هـ. (¬2) سورة البقرة، الآية: 128. (¬3) تفسير ابن كثير 1/ 266.

بالشرك، رافضًا للشركاء مخلصًا لله في عبادته، وتأملوا كيف تربط شعائر الحج بعدم الإشراك بالله منذ أن بوأ الله لخليله عليه الإسلام مكان البيت، يقول تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬1). قال المفسرون: هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله، وأشرك به من قريش في البقعة التي أسست أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، وقوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}. أي طهره من الشرك واجعله خالصًا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له (¬2). ثم يقول تعالى في الآيات بعدها: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (¬3). وهكذا يرتبط التوحيد الخالص بالحج، ويجب أن يعود الحجاج من حجهم وقد تخلصوا من الشرك دقيقه وجليله، حقيره وعظيمه، فلا طواف حول القبور ولا استغاثة إلا بالله، ولا محبة إلا في الله، ولله، ولا عبادة للدرهم والدينار، ولا ذهاب للسحرة والكهان والعرافين .. وتلك وربي، من منافع الحج، وما فقه الحج ومنافعه من عاد يمارس شيئًا من أنواع الشرك التي حرم الله، وإياك أخي المسلم، أن تعرض نفسك للخطر، وتخرجها من دائرة الذين يغفر الله لهم ثم إذ يقول: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (¬4). ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 26. (¬2) تفسير ابن كثير 4/ 409. (¬3) سورة الحج، الآيتان: 30، 39، (¬4) سورة النساء، الآية: 48.

القلب المؤمن، أمر العقيدة هو شغله الشاغل، وهو همه الأول، وشعور إبراهيم وإسماعيل بقيمة النعمة التي أسبغها الله عليهما- ألا وهي نعمة الإيمان تدفعها إلى الحرص عليها في عقبهما، وإلى دعاء الله ألا يحرم ذريتهما هذه الأنعام الذي لا يكافئه إنعام وهل أغلى وأعز ثمن من نعمة الإيمان والإسلام (¬1)؟ إنه الشعور الذي يحس به المسلمون عبر الأجيال والقرون، الدعاء بالهداية للأنفس والأقربين، وإذا كان إبراهيم الخليل إمام المتقين في هذا الدعاء، فدعاء المؤمنين بعده: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (¬2). وهو دعاء مشعر بالإحساس بالمسؤولية من جانب، وفيه إدراك لقيمة الدعاء والتربية من جانب آخر .. فهل يحس المسلمون وهم يقرؤون هذه الآية: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} أو وهم يطوفون بالبيت بهذا الإحساس الذي أحس به الخليل وابنه عليهما السلام؟ تلك واحدة من فقه الحج ومنافعه والله تعالى يقول عن الحج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (¬3). ثم يسعى الحاج بين الصفا والمروة وهما من شعائر الله كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ .. } (¬4). والمعنى: أي مما شرع الله تعالى لإبراهيم الخليل في مناسك الحج، ومن المعلوم أن أصل ذلك مأخوذ من تطواف هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها لما نفذ ماؤها وزادها، فلما خافت الضيعة قامت تطلب ¬

(¬1) في ظلال القرآن 1/ 115. (¬2) سورة الفر قان، الآية: 74. (¬3) سورة الحج، الآية: 28. (¬4) سورة البقرة، الآية: 158.

الغوث من الله عز وجل، ولم تزل تتردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة في هذا الوادي المقفر حيث لا ماء ولا مرعى ولا أنيس ولا سامع للصوت إلا الحي القيوم الذي سمع ما بهاجر من رقة وتذلل وتضرع وإحساس بالفقر إلى الله، فكشف الله كربتها، وآنس غربتها، وفرج شدتها، وأنبع لها زمزم التي ماؤها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «طعام طعم وشفاء سقم» أي يشبع الإنسان إذا شِرب ماءها كما يشبع من الطعام. قال أهل العلم: فالساعي بين الصفا والمروة ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه، وصلاح حاله، وغفران ذنبه، وأن يلتجئ إلى الله عز وجل ليزيح ما هو به من النقائص والعيوب، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم وأن يثبته عليه إلى مماته، وأن يحوله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي إلى حال الكمال، والغفران، والسداد، والاستقامة كما فعل بهاجر عليها السلام (¬1). وتلك أخرى من فقه الحج ومنافعه. إخوة الإيمان، وكذلك ينبغي أن يتحرك الحجيج في مناسك الحج كلها، فقهًا وخشوعًا، وتأملاً، واقتداءً بأنبياء الله ورسله، وليس يخفى على المسلمين أن هذه المناسك سنها إبراهيم عليه السلام واقتفى أثره منها خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، وأصبحت بعد عبادة يؤديها المسلمون ولم تكن هذه المشاعر محض اجتهاد من أبي الأنبياء عليه السلام، بل كانت استجابة أخرى لدعاء إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام لربهما حين قالا {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}. قال سعيد بن منصور: حدثنا عتاب بن بشير عن خصيف عن مجاهد قال: قال إبراهيم: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} فأتاه جبريل، فأتي البيت فقال: ارفع القواعد، فرفع ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 9/ 287، 288.

القواعد وأتم البنيان شعائر الله، ثم انطلق به إلى المروة فقال: وهذا من شعائر الله، ثم انطلق به نحو منى، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة فقال: كبر وارمه، فكبر ورماه، ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى، فلما حاذاه جبريل وإبراهيم قال له: كبر وارمه، فكبر ورماه، فذهب إبليس، وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئًا فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به عرفات، قال: قد عرفت ما أريتك؟ قالها ثلاث مرار، قال: نعم) (¬1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن إبراهيم لما أُري المناسك، عرض له الشيطان عند المسعى فسابقه إبراهيم، ثم انطلق به جبريل حتى أتى به منى، فقال: مناخ الناس هذا، فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به الجمرة إلى الجمرة القصوى فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، فأتى به جمعًا (يعني مزدلفة) فقال: هذا المشعر، ثم أتى به عرفة، فقال: هذه عرفة، فقال له جبريل: أعرفت (¬2)؟ . إخوة الإيمان، وكما عرض الشيطان لأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وقبله عرض لأبي البشر آدم عليه السلام، فلا يزال يعرض لعباد الله في عبادتهم في كل زمان ومكان، فهل نقتدي بمن رماه وأخزاه، وهل نفقه من رمي الجمار أن ذلك تعبير عن عصيان الشيطان في كل حال وليس فقط حين رمي الجمار، أم يكون حالنا كحال من يصفعه بالنعال فضلاً عن السب والشتم، وواقعه يشهد باستحواذ الشيطان عليه وطاعته على الدوام ... وتلك ثالثة من فقه الحج ومنافعه فهل يفقه المسلمون أسرار العبادة وينتفعون بآثارها (¬3)؟ ¬

(¬1) وروي عن أبي مجلز وقتادة نحو ذلك. (¬2) تفسير ابن كثير 1/ 268. (¬3) تفسير ابن كثير 1/ 267.

إخوة الإسلام، وكلما فقه الحاج مناسك الحج، وعلم مشاعره، وأخلص لله في عبادته، واتبع هدي المرسلين في قوله وفعله، كان ذلك أعظمَ لأجره، وأزكى لعبادته، وأرضى لنفسه، وأشرح لصدره، وعلى كل حال فبشرى الحاج الذي خرج ابتغاء وجه الله، ولم يشرك مع الله أحدًا في عبادته، بشرى هؤلاء عظيمة، والمولى جل جلاله يُغدق عليهم من رحماته الواسعة في عرفات، ويقول: انصرفوا مغفورًا لكم. ويا لها من بشرى، والحاج يتصور قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفُث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه» ويا لها من هدية تطرب لها النفوس، وتهون في سبيلها كل المصاعب والمتاعب، والهادي البشير، عليه الصلاة والسلام، يقول: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة». أسال الله أن يجعل حجّنا والمسلمين حجًا مبرورًا وسعيًا مشكورًا، وأن يجعل ذلك زادًا لنا يوم نلقى الله، وأن يرفع لنا به الدرجات، ويكفر به عنّا السيئات، كما نسأله تعالى أن يتغمد أموات المسلمين من حجاج بيت الله الحرام بواسع رحمته، وأن يكتب لهم أجرهم وأن يجزيهم على نيّاتهم، وإن لم يقدر لهم إكمال مناسكهم، وفضل الله واسع: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (¬1) كما نسأله أن يرزق أهليهم وذويهم الصبر والسلوان، وأن يجعل في أهليهم وذرياتهم خلَفًا صالحًا، إنه سميع الدعاء. أقوله هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، وتوبوا إليه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم. ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 100.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى، وأشكره، وأُثني عليه الخير كلّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء ورسله، وعلى الآل والأصحاب، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليمًا كثيرًا. إخوة الإسلام، وفاز بالدرجات العلى، والأجر العظيم كذلك- من غير الحجاج- من استثمر أيام العشر بعمل الصالحات، ومن جاهد نفسه على فعل الخيرات. وها هي الأيام تنقضي، وكذلك العمل ينصرم، ويبوء بالخيبة والخسران أصحاب الهمم الضعيفة، وساعة المندم يوم القيامة أشد وأنكى، يوم تكون شكوى بعض الأنفس: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} (¬1). هنا في هذه الحياة الدنيا يتباين الناس في الإيمان، فشخصٌ يعمل وكأن الآخرة أمامه يراها رأي العين، فيشتاق لحورها، ويشتهي من ثمارها، ويتمنى لو صار إلى أنهارها، وكلما أنس من نفسه ضيقًا في هذه الحياة ذكَّر نفسه بسعة الآخرة، وكلما أحس بمصيبة أو نكد، صبَّر نفسه ومناها بحياة لا نكد فيها ولا صخب في جنات ونهر، ومقعد صدق عند مليك مقتدر. وشخص آخر يعمل حين يرى الناس يعملون- لكن في بحار الشهوات غارق - وظلمة الدنيا تكاد تحجبه عن أنوار الآخرة، وغاية أمانيه أن يكون صاحبها حرث ونسل، أو صاحب ملك عريض تتنوع فيه ملاذ الدنيا وشهواتها .. وهو في ظل هذه الأحلام لا يتلذذ في العبادة .. وهو في هذه الغفلة لا يكاد يحمس بنعيم الآخرة .. ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 56.

وتظل الغفلة تلاحقه وتظل هموم الدنيا تطارده، وفي أوديتها السحيقة متسع لهلاكه وأمثاله .. فلا يصحو إلا على طرق النذير، ولا يفيق إلا على صيحة الملك الموكل لقبض روحه .. وهنا في هذه اللحظات يبدأ الندم، ويدرك الشارد حقيقة الدنيا وخداعها، ويبدأ المرء يلوم نفسه، يتذكر ما مضى من عمره، حتى وإن كان من أنعم أهل الدنيا، فيخيل إليه وكأنه لم يمكث في الدنيا إلا ساعة، أو أقل، ويتذكر ما هو مقدم عليه .. وأن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون، وهيهات أن ينفع الندم، بل وهيهات أن يعطى المرء فرصة لمزيد من التأمل والتفكر، فاللحظات حاسمة، والنهاية قريبة، والمشهد سريع، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (¬1). إخوة الإيمان، وفضل الله عظيم، ورحمته واسعة، وهو الذي يهب الناس من أعمال الخير ما يعوضون به ما فاتهم، ويلحقون به من سبقهم، وفي الأيام الخالية كان صيام عرفة لغير الحاج فرصة للتزود بزاد التقوى، وفرصة لتكفير السيئات، والرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: «صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده .. » فأي فضل بعد هذا؟ وأي نعمة تربو على هذه النعمة؟ أيها المسلمون من الحجاج والمقيمين وتبقى- بفضل الله ورحمته- صحائفكم في هذه الأيام بيضاء نقية، وقد غفر الله لكم، إن شاء الله، بالحج أو بصيام عرفة، ما تقدم من ذنوبكم .. فهل تحافظون على هذه المكاسب؟ لم يُسَوِّد بعضنا صحيفته بالآثام والموبقات، وكان موسمًا من مواسم الخير لم يمر به، أو نفحة من نفحات الله لم تدركه، وهل يضمن حياته إلى موسم آخر؟ ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 34.

إن مغفرة الذنوب هدف يسعى الخيرون له، ولكن هناك هدفًا آخر أعلى وأغلى، ألا وهو رفعة الدرجات في الجنات، وما فتئ المؤمنون يتنافسون في الحصول على هذه الدرجات أشد من تنافس أهل الدنيا بدنياهم، وتشهد الأرض في كل زمان رجالاً يمشون على هذه الأرض، وهم من أصحاب الدرجات العلى في الجنة، ليس بينهم وبين الجنة إلا أن يموتوا، وقد ختم الله لهم بالخير وثبتهم على الحق. أما الذين ماتوا وحطوا رحالهم في الجنة فأولئك لا خوف ولا هم يحزنون، نسأل الله أن يلحقنا بهم وأن يثبتنا على الحق كما ثبتهم. إخوة الإيمان، وطريق الجنة لاشك محفوف بالمكاره والمخاطر، ومعرض فيه السائر لأنواع من الفتن والبلايا .. ولكن الله تعالى يعين السائرين، ويوفق العاملين، ويسدد الخطا، ويغفر الزلات للمستغفرين.، ويهيئ دائمًا للناس فيه فرص الخير ما يكفرون به السيئات، ويرتفعون في الدرجات، فهل نحس بهذه النعمة؟ وهل نشكر المنعم على هذا الإحسان؟ إن اللبيب حقًا من يحضر الموسم، فإذا كان المغنم أمسك به ولم يفوت بقدر المستطاع، حتى يكسب في المغنم الآخر وهكذا- لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها- وليس الناس ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ولكن الارتفاع بالنفس عن الكبائر والموبقات المهلكات، والتزود من عمل الصالحات، التي يكفر الله بها السيئات، وكلما أحس الإنسان بتقصير ضاعف العمل حتى يسدد النقص والخلل .. إخوة الإيمان، ومن فضل الله ورحمته أن هذا الموسم من مواسم الخير يأتي في نهاية عام أثقلت فيه الكواهل بحمل الخطايا والسيئات .. ثم تتاح الفرصة للتخفيف منها، واستقبال العام الجديد بصحف بيضاء، وهمم عالية، لا مكان

فيها للخطايا، أسأل الله أن لا يحرمنا وإياكم فضله، وأن يتقبل منا أعمالنا، وأن يتجاوز عن تقصيرنا، وأن لا يجعلنا من المحرومين المطرودىن، وأن يجعلنا في عداد الفائزين وأن يغفر لنا ما سلف، وأن يعيننا على عمل الصالحات فيما نستقبل من أيامنا، إنه جواد كريم، رؤوف رحيم.

من كلام النبوة الأولى

من كلام النبوة الأولى (¬1) إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ..... عباد الله، اتقوا الله واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله. إخوة الإيمان وطالما اعتاد كثير من الناس مقولة (استح يا فلان) وهي كلمة تقال لمن خالف شرع الله، أو وقع في شيء من محارمه، أو استهتر في شيء من الواجبات، وقلل الأدب مع خلق الله بأي شكل من الأشكال، والحق أنها كلمة ذات ولها معنى ولها مغزى، وشيوع الكلمة وكثرة إطلاقها دليل الغيرة، وعلامة الوعي، وهي أسلوب من أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصلح لفئة من الناس لم تُجْدَ معها الوسائل الأخرى، وبلغ بها الاستهتار بالمعاصي إلى حد المجاهرة بها دون خوف من الله، واستحياء من خلقه، وبلغ بها الاستهتار بحقوق الخلق إلى حد يضطر الناس معه إلى أن يقولوا استح يا فلان، ومع أهمية الحياء وحاجتنا إليه إلا أننا أحيانًا نجهل معنى الحياء، وربما فات على بعضنا الفرق بين الحياء الشرعي وغير الشرعي، أو فات علينا معرفة قيمة الحياء. وكلنا محتاج إلى معرفة الأسباب المؤدية للحياء الشرعي، والأسباب المساعدة على فشو قلة الحياء .. هذه وغيرها، معاشر المسلمين، مما يتعلق بالحياء أمور تمس الحاجة إليها في سبيل طاعتنا لخالقنا وحسن علاقتنا بإخواننا. وسأقف معكم في هذه الخطبة معرفًا بالحياء، وموضحًا ما يلتبس الأمر فيه، وعسى أن يكون فيها عبرة وعظة للمتحدث والسامع، إنه لسميع الدعاء. ¬

(¬1) 5/ 3/ 1415 هـ.

إخوة الإسلام وإذا كانت قيمة الأخلاق في الإسلام لا تخفى، وقد سبق الحديث عن شيءٍ منها، فما مكانة الحياء من أخلاق الإسلام؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم موضحًا ذلك: «إن لكل دين خلقًا وخلق الإسلام الحياء» رواه مالك وابن ماجه بسند حسن (¬1). ولأهمية الحياء وقدره، وحاجة الحياة والأحياء له بقي سمة هذا الدين، وسمة الأديان السابقة، ولم ينسخ من بين ما نسخ من شرائع الله، ولهذا قال المصطفى، صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما تشاء) (¬2). ويكفي الحياء قدرًا أنه من الإيمان، وأنه طريق إلى الجنة، وعكسه البذاء. يقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار» (¬3). وعرف العلماء الحياء، لغة، بأنه تغير وانكسارٌ يعتري الإنسان من خوف ما يُعاب به (¬4). أما تعريف الحياء في الشرع: فهو خلقٌ يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، ولهذا جاء في الحديث (الحياء خيرٌ كله) (¬5) .. وقال الراغب الأصفهاني: الحياء انقباض النفس عن القبيح، وهو من خصائص الإنسان ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي، فلا يكون كالبهيمة، وهو ¬

(¬1) جامع الأصول 3/ 622. (¬2) رواه البخاري وأبو داود، جامع الأصول 3/ 621. (¬3) الحديث أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، جامع الأصول 3/ 617. (¬4) الفتح 1/ 52. (¬5) المصدر السابق 1/ 52.

مركب من جبن وعفة، ولهذا لا يكون المستحي فاسقًا، وقلما يكون الشجاع مستحيًا (¬1). أما الإخوة المسلمون، والحياء علامة خير، وهو شعبةٌ من شعب الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام: «الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء سبعة من الإيمان» (¬2) والسؤال المهم: لماذا كان الحياء من الإيمان؟ ويليه سؤال آخر لا يقل أهمية: ولماذا أفرد من بين شعب الإيمان؟ أما لماذا كان الحياء من الإيمان، فقد قال ابن قتيبة، يرحمه الله: إن الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب المعاصي، كما يمنع الإيمان، فسمي إيمانًا، كما يسمى الشيء باسم ما قام مقامه (¬3). وقال ابن الأثير، يرحمه الله: جُعل الحياء، وهو غريزة، من الإيمان، وهو اكتساب، لأن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي، وإن لم تكن له تقية- أي مانع- فصار كالإيمان الذي يقطع بين العاصي والمعصية، وإنما جُعل الحياء بعض الإيمان لأن الإيمان ينقسم إلى ائتمار بما أمر الله، وانتهاء عما نهى الله عنه، فإذا حصل الانتهاء بالحياء كان بعضَ الإيمان (¬4). أما إفراده من بين شعب الإيمان الأخرى، فذلك لأن الحياء كالداعي إلى باقي الشعب، إذ الحيي يخاف فضية الدنيا والآخرة فيستمر وينزجر. وهكذا يتضح لكم، معاشر المسلمين، قدر الحياء وقيمتَه، فهو رقابةٌ داخليةٌ تتحكم في سلوكيات الإنسان، وتدفعه لفعل الجميل، وتكفه عن القبائح، حتى ¬

(¬1) المصدر السابق 1/ 74، 75. (¬2) رواه البخاري. الفتح 1/ 51. (¬3) الفتح 1/ 74. (¬4) النهاية في غريب الحديث 1/ 470.

وإن خالف ذلك هواه، وما تشتهيه نفسه، وإذا تمثل الإنسان الحياء قاده إلى كل خير، وحجبه عن كل سوء، لكن ذلك يحتاج إلى جدٍ واجتهاد، وترويضٍ للنفس، واحتسابٍ للأجر عند الله. وهذا هو الحياء الشرعي المطلوب، فالحياء الشرعي- كما قال أهل العلم- هو المقترن بالعلم والنية الطيبة، وهو الباعث على فعل المأمور، وترك المحظور، وهو الذي يقع على وجه الإجلال والاحترام للأكابر (¬1). وإذا كان هذا هو الحياء الشرعي، فهناك حياء غير شرعي؛ قال عنه الحافظ ابن حجر: ولا يقال: رب حياء يمنع عن قول الحق، أو فعل الخير، لأن ذلك ليس شرعًا (¬2). وقال أيضًا: وأما ما يقع سببًا لترك أمر شرعي، فهو مذموم، وليس هو بحياء شرعي، وإنما هو ضعف ومهانة (¬3). وهكذا يتضح الفرق بين الحياء الشرعي الذي يريده الله، ويؤجر عليه الإنسان، وبين الضعف والمهانة الذي يُنسَب للحياء، وليس منه في شيء. نسأله تعالى أن يبصرنا في ديننا، ويرزقنا الحياء، ويعصمنا البذاء والجفاء، وسوء الأخلاق. ¬

(¬1) الفتح 1/ 52. (¬2) الفتح 1/ 52. (¬3) المصدر نفسه 1/ 52.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية إخوة الإيمان، وقديمًا قال العارفون: الرجال ثلاثة: رجل عمل حسنةً فهو يرجو ثوابها، ورجل عمل سيئة ثم تاب منها، فهو يرجو المغفرة، والثالث: الرجل الكذاب، يتمادى في الذنوب، ويقول: أرجو المغفرة، ومن عرف نفسه بالإساءة ينبغي أن يكون خوفه غالبًا (¬1). فالأول والثاني يتمثل فيهم الحياء، والثالث مغالط لنفسه، وما فقه معنى الحياء، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله التوبة والمغفرة فإن قلتم: وما الطريق إلى الحياء الحق؟ وكيف يعرف الإنسان نفسه؟ أمن فئة المستحيين أم من زمرة الخادعين وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون؟ أُجبْتُم يما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم صحابته حين قال لهم: استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: والله إنا لَنستحي من الله يا رسول الله، والحمد لله، قال: ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحى من الله حق الحياء) (¬2). إخوة الإسلام، ونستطيع القول في معاني الحياء وآثاره: - هو ترجمة للخوف من الجليل، وهو نوع من الأدب في التعامل مع الآخرين، هو طريق للخير والفلاح، وهو جسر للسعادة والصلاح، هو دليل رجاحة العقل، ومؤشر لميزان الإيمان، وعنوان للثقة بقيم الإسلام وأخلاقه، ورفضٍ واعٍ لمحاكاة الآخرين وتقليدهم في سواقط العادات والأخلاق. ¬

(¬1) ثلاث شعب من الجامع لشعب الإيمان للبيهقي 1/ 297. (¬2) أخرجه الترمذي وغيره، وصححه الحاكم ووافقهم الذهبي، جامع الأصول 3/ 616.

وهو شعار المتقين، ودثار المؤمنين، وجلباب يستر الله به كثيرًا من الفضائح والعيوب. هو باختصار: سلوك يمتاز صاحبه بالهدوء، والرويّة ورجاحة العقل، والأصالة والثبات. أيها المؤمنون، ومن مظاهر قلة الحياء بشكل عام: - المجاهرة بالمعصية أيًا كانت هذه المعصية، فإن من يستحي من الله، ويستحي من خلقه لا يمكن أن يجاهر بالمعصية، والمجاهرة، كما هي مظهر لقلة الحياء، هي سبب لعدم المعافاة «كل أمتي معافى إلا المجاهرون». - التطبع بالأخلاق الرديئة، من السباب والفسوق واللجاج، وكثرة المزاح بما حلّ أو حرم، والتلفظ بالكلمات البذيئة، والكبر، والكذب، والخداع ... ونحوها. - عدم احترام الآخرين وتقدير مشاعرهم، فلا يرعى لكبير حقًا، ولا يغرس في صغير خلُقًا، همّه مصالحه الخاصة، تستحكم فيه الأنانية وحب الذات إلى درجة تسفيه أحلام الآخرين واحتقارهم. - ألف المحرمات، واستثقل الواجبات (سواء كانت للخالق أم للخلق)، فإن من يألف التهاون بالواجبات كالصلاة وشرب المسكرات، أو يستهين بحقوق الخلق، ولا يهتم بواجباتهم عليه هو شخص لم يستح من الله، ولا من خلقه.

من أسرار شهر الصيام

من أسرار شهر الصيام (¬1) إن الحمد لله، نحمده ونستعينه .. إخوة الإسلام، وكم هو عظيم شهر الصيام، وكم فيه من حكَمٍ وأسرار، يدرك كل صائم منها بحسب علمه وإيمانه، وتعبَّدِه لِمولاه، ويكفيه أنه باب مشرِعٌ لكل طرق الخير، من صيام، وصلاةٍ، وزكاةٍ، وصدقةٍ، وذكرٍ، ودعاءٍ، وتلاوةٍ، وجودٍ، وإحسانٍ، وصبرٍ، ويقينٍ، واحتساب للأجر العظيم، ويكفيه أنه طريق للتقوى، والتقوى جماع الخير، وسبيل الفلاح والنجاح: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ .. } (¬2)، {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (¬3). كم تحجب الشهوات النفوس عن السمو، وشهر الصيام يحطم كبرياء النفس بكسر باعث الشهوة- قلب المعاصي- وهذا كما قال القرطبي، رحمه الله: وجه مجازي حسن في تأويل معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬4). وقيل: لتتقوا المعاصي (بالصيام)، وقيل: وهو على العموم لأن الصيام كما ورد «الصيام جُنَّة ووجاء وسبب تقوى لأنه يُميت الشهوات» (¬5). أجل، إن الصيام جنة يتقي بها الصائم عن المآثم والسيئات والهلكات ¬

(¬1) في 11/ 9/ 1415 هـ. (¬2) سورة الطلاق، الآيتان: 2، 3. (¬3) سورة يوسف، الآية: 90. (¬4) سورة البقرة، الآية: 183. (¬5) تفسير القرطبي 2/ 275، 276.

المؤدية إلى النار، كما يتقي المحارب بجنته حين القتال، فيمنعه القتل، ويسلمه من العدو، بإذن الله. يجسد هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث ويقول: «الصيام جنة وإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم- مرتين-» (¬1). وفي الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام: «الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال» (¬2). وفي الحديث الثالث «الصيام جنة وهو حصن من حصون المؤمن .. » (¬3). إخوة الإسلام وفي شهر الصيام فرصة للتخفيف من أثقال الأوزار، وفيه تطهير للنفوس من الأدران، وحماية القلوب من الرَّان، وهذه وتلك قد لا يحسن بوطأتها إلا من أثقلت نفوسهم المعاصي فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فلما حل شهر رمضان وصاموا مع الصائمين ووقفوا يتضرعون مع القائمين، وبكوا على خطيئتهم وندموا على تفريطهم، وأحسوا بانشراح صدورهم، وخفة في أرواحهم، وانفراج في كربتهم، وأنس بدل وحشتهم، وكذلك يفعل الصيام وكذلك تنزل الرحمات في رمضان وغير رمضان. فبشراكم معاشر المسلمين، بشهر الصيام يرتفع فيه المؤمنون درجات وتحط به الأوزار عن أهل السيئات. ولا يزال الصيام بالمسلم يحوطه ويؤنسه، حتى يكون شافعًا له لدخول الجنة والنجاة من النار يوم القيامة، وكذلك يفعل القرآن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصيام ¬

(¬1) الحديث رواه أحمد والبخاري، صحيح الجامع 3/ 267. (¬2) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه يسند صحيح، صحيح الجامع 3/ 27. (¬3) رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن، صحيح الجامع 3/ 268.

والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان» (¬1). أيها المسلمون ويدرك من فقه سر الصيام كم لرمضان من أثر على تربية النفس، وعبودية الجوارح بقية العام، ذلكم لأن شهر رمضان يدرب النفس على كثير من خلال الخير، فتحيا المراقبة لله، ويشيع الصدق في النفوس لصدقها مع الله في الصيام واجتناب الآثام، وتتطبع النفوس بالكرم والجود، وتهوى الإحسان إلى المحتاجين، والبر بالأقربين وتتهذب الأخلاق فلا تسمع الآذان الحرام، ولا تنطق الألسنة بالفحش والسبِّ ورديء الكلام، وتربي الأعين على عدم استدامة النظر في الحرام. ذلك كله يهدي العارفين والمدركين لأسباب الصوم أن بإمكان المرء أن يغير من واقعه، وأن الفساد والحرام ليسا ضربة لازب له، وتتحطم أسطورة الشيطان التي يوسوس بها في النفوس حين يوحي لأوليائه بثقل الطاعات وصعوبة ممارسة الخيرات، وعدم القدرة من الانفكاك من أسر الشهوات، وكذلك ينبغي أن يستثمر العاقل هذه التوبة إلى الله، وأن يسارع بتغيير واقعه إلى الأحسن بعد رمضان. ما أحوج الأمة إلى شهر الصيام يأتي ليحسسها بقيمة الوقت، وأهمية ملئه بالطاعات .. والصائم الفطن يقضي سحابة وقته في الذكر والتلاوة والصلاة والتحسر على الوقت يضيع دونما فائدة، وكذلك ينبغي أن يكون المسلم حريصًا على وقته في رمضان وبعد رمضان وأن يتخذ من حفظ وقته في رمضان وسيلة لحفظ أوقاته على الدوام. ¬

(¬1) الحديث رواه أحمد والطبراني والحمائم وغيرهم بإسناد صحيح، صحيح الجامع 3/ 268.

وما أحوج الأمة إلى شهر الصيام وهو يجمع الكلمة الواحدة، ويوحد الصفوف، ويؤلف بين المسلمين فتراهم يلتزمون في وقت واحد، وتراهم ينتظرون الإفطار، ويفطر أهل كل قطر في زمان واحد، إنه مذكر بوحدة المسلمين، ودعوة إلى إخوتهم، وتوادهم، وشيوع المحبة بينهم {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬1). «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» وهذه الوحدة تقلق الأعداء وتراهم يسعون جاهدين لتفريق صف المسلمين .. فهل يفقه المسلمون قيمة وحدتهم ويتداعون لجمع كلمتهم .. ذلكم جزء من أسرار شهر الصيام وما يعقلها إلا العالمون. أيها الصائمون وشهر الصيام فرصة لمزيد من الاهتمام بتربية الأهل والأولاد على البر والإحسان والتقوى، فحثهم على الصلوات، وترغيبهم في الصدقات، وتدريبهم على الصيام، وتشجيعهم على كثرة الذكر وتلاوة القرآن، وسائر الطاعات كل ذلك يسير في التربية الواجبة في كل حال، لأن النفوس لديها استعداد في رمضان أكثر من غيره من مواسم البر ومواطن الدعاء، وقيام الليل، والاستغفار بالأسحار ما قد لا يتوفر مثله في سائر الأزمان، والأب الناصح هو الذي يستثمر الفرص ويذكر بفضلها، والأم الحانية هي التي تشجع على الخير وتؤازر الأب في تربية الأبناء، وإذا وقع في أذهان البعض أن الأبوين المثاليين هما من يوفران للأبناء ما يحتاجون، ويعاملون الأبناء بالحسنى فلا شك أن غفلة الآباء والأمهات عن توجيه أبنائهم وحثهم على الخير في هذه الأيام الفاضلة هو نوع من الغفلة لا تليق، ونتيجته الخسارة لا في الدنيا فحسب بل وفي الدين .. ¬

(¬1) سورة الحجرات، الآية: 10.

فانتبهوا لتربية أبنائكم وبناتكم على الدوام، خصوا شهر الصيام والقيام بمزيد من العناية والاهتمام .. فذلك جزء من واجبكم في وقايتهم من النار، قال تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ .. } (¬1). وفي صلاحهم وتوجيههم نفع لكم في الحياة، وحين ترحلون إلى الدار الأخرى، فابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث ومنها: الولد الصالح يدعو له .. وكم من مأساة أن ترى الآباء والأمهات في أيام رمضان مع القائمين والراكعين والساجدين .. وأبناؤهم يسرحون ويمرحون، وربما حصلت منهم الأذية للمصلين، أو ربما عكفوا وعكفت البنات معهم على مشاهدة ما لا يحل أو سماع ما حرم الله، والزمان زمان رحمة والأيام فاضلة، والدعوة مستجابة ومن تذكر فإنما يتذكر لنفسه .. ومن أساء فعليها. اللهم ألهمنا رشدنا، واهدنا واهد بنا، وتقبل صيامنا وقيامنا، واشرح صدورنا للخير والإيمان، ونور قلوبنا بالقرآن. ¬

(¬1) سورة التحريم، الآية: 6.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية إخوة الإيمان وشهر الصيام شهر المواساة .. ألا ترون الناس أجمع- غنيهم وفقيرهم، ذكرهم وإناثهم، وكبيرهم- يمسكون عن الطعام والشراب وسائر المباحات مع توفرها عند قوم وندرتها عند آخرين .. أفلا يوحي ذلك للقادرين أن بإمكانهم أن يتنازلوا عن بعرض ما يملكون إلى غيرهم من المحتاجين، ولئن نسي المنعمون أو غفلوا عن حوائج المحتاجين طوال العام - وما كان لهم أن ينسوه- فشهر الصيام خير مذكر، وخير داع للصلة والقربى والإحسان، إن المواساة تبدو في شهر الصيام في كثرة إطعمام الطعام، وإفطار الصائمين وكم هو مشهد إيماني محبب للنفس هذه الاجتماعات الجماعية على الإفطار، وهذه المشروعات الخيرة- بإذن الله- لإطعام الصائمين تلك التي تنتشر في المساجد أو خارج المساجد، فيشعر المسلم بقرب أخيه منه وحنانه عليه واهتمامه بأمره، وكم في الجلوس مع الفقراء أو الغرباء من معاني الرحمة والتآلف والتواضع والصلة والإحسان، وتزداد عظمة المشهد، كلما زادت مساحة التجمع وكثر المحتاجون وتبلغ قيمتها في المسجد الحرام بمكة، أو في الحرم النبوي في المدينة، وكم هي جديرة هذه الوحدة الرمضانية أن تؤلف بين المسلمين، وتجمع كلمتهم في سائر الشهور وسائر البقاع. ومن مظاهر المساواة- في شهر رمضان- قضاء الدَّين عن المدينين، وفك الرقاب على الغارمين، وتفريج الكربات للمعسرين، وشهر الصيام يقوي عزائم هؤلاء وأولئك ليهيموا على وجوههم بحثًا عن أهل الخير لسد حاجتهم، وعلى الموسرين أن تطيب نفوسهم بما يجودودن به لهؤلاء من صدقات مستحبة فضلاً عن دفعهم للزكاة الواجبة، ولا ضير من التحري والدقة والسؤال والمعرفة ولاسيما في أهل الزكاة والمستحقين لها.

وشهر رمضان فرصة للمواساة مع شعوب العالم الإسلامي ... تلك التي أثخنتها الجراح، وعز فيها الطعام، أو قل فيها الكساء، وكم هو مؤلم أن تندس الجمعيات اليهودية، أو الإرساليات النصرانية في ظل هذه الظروف المحرجة للمسلمين فتمدهم بالطعام والكساء، أو توفر لهم الشراب أو الدواء، كل ذلك حتى تغزوهم بالأفكار وتقدم لهم المبادئ الكافرة، وتصرفهم عن الإسلام الحق. أو ليس في غفلة المسلمين عن إخوانهم فرصة لنجاح مهمة هؤلاء الأبالسة الماكرين ... أو لسنا جميعًا نتحمل مسؤولية أي انحراف يقع نتيجة تراجعنا عن المساعدات الواجبة وتقدم غيرنا؟ أمَّا من يتضور جوعًا، أو يتقلب في قمم الجبال الباردة، ولا يتوفر عنده ما يقيه شدة البرد، فتلك مسؤولية أخرى يتحملها المسلمون بإزاء إخوانهم المسلمين. يا إخوة الإسلام، إذا توفرت لكم المعلومات عن حاجة هذه الشعوب المسلمة، وتوفرت لكم الأيدي والجمعيات الإسلامية والهيئات الموثوقة التي توصل هذه الصدقة إلى محتاجيها فأي عذر لكم عن الإحجام عن المساعدة أولستم في شهر الصيام تتذكرون حاجة النفس إلى الطعام حين صومكم، وقرقعة بطونكم؟ وتتذكرون حاجتها إلى الشراب حين يبس الشفاه، وشدة العطش؟ فتسلون أنفسكم بقرب الإفطار، وتوفره، فتَذكَّروا حاجة هؤلاء المحتاجين لا في رمضان فحسب، وتَذَّكروا أن هؤلاء منتظرون مدد السماء، وإعانات المحسنين وأهل البر والوفاء، أو لستم في فصول الشتاء تبحثون عن الفرش الوثيرة لتحتموا بها من لسع البرد القارص؟ فَتَذَكَّروا من يشعرون بشعوركم ويحتاجون لحاجتكم أو أشد، لكنهم لا يملكون ما به يتدثرون، وينتظرون العون ممن أفاء الله عليهم وفتح عليهم ما لم يفتح على غيرهم.

شهر الصيام جدير بتذكيرنا بهذه المعاني وأكثر لمن تأمل وتدبر، أما الذين ينتهي تفكيرهم في الصيام عند الإمساك عند الفجر، والإفطار عند تحقق الغروب، دون إحساس بالحكمة والسر العظيم من وراء ذلك، فما فقه هؤلاء حكمة الصيام، وما بالله حاجة أن يدع المرء طعامه وشرابه دون أن يورثه ذلك تقوى، تدعوه لفعل الخيرات، وتنأى به عن المحرمات، وتهذب نفسه، وترقق مشاعره، وتخفف من حدة الشح أو البخل المصاحبة للنفوس في غياب التقوى.

الصدقة الفاضلة

الصدقة الفاضلة (¬1) الحمد لله رب العالمين يدخل من يشاء في رحمته، ويظل المتقين تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ويتفيأُ المتصدقون بظل صدقتهم يوم القيامة حتى يُقضى بين الناس، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته أجمعين وعن التابعين وأتباعهم إلى يوم الدين. أما بعد: إخوة الإسلام، فاتقوا الله واخشوا يومًا توجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون. ألا وإن من عوامل تقوى الله مداومة ذكر الله، وتلاوة كتاب الله، وإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام. أيها المسلمون: وإذا كانت النفقة والجود والإحسان، والبر، وصلة الأرحام، تطيب في كل حال وزمان، فهي تركز وتتضاعف حسناتها في شهر رمضان، شهر الجود والإحسان. وما دمتم في شهر القرآن فتأملوا خاشعين، وقفوا متفكرين في آيات النفقة في القرآن، والحق تبارك وتعالى يقول: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬2) قال سعيد بن جبير: (في سبيل الله) يعني في طاعة الله، وقال مكحول: يعني من الإنفاق في الجهاد ... وقال ابن عباس: الجهاد والحج يضاعف الدرهم ¬

(¬1) 8/ 9/ 1414 هـ. (¬2) سورة البقرة، الآية: 261.

فيهما إلى سبعمائة ضعف (¬1). وسواء أكان هذا أو ذاك فهذا المثل التشبيهي محصلته سبعمائة ضعف، ولكن- والله أعلم- ذكر بهذه الصيغة ليكون أبلغ في النفوس، إذ فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل لأصحابها كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة (¬2). وجاء في صحيح السنة النبوية ما يؤكد مضاعفة الصدقة، بل ومضاعفة كل عمل صالح، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ومسلم في صحيحه: (كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، يقول الله إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي ... الحديث) (¬3). وهل تظن بربك- يا ابن آدم- إلا كل خير حين يختص بالصيام له، وهل يراودك شك أنه سيجزيك به أضعافًا مضاعفة، وهو الكريم الجواد، بل ويضاعف لك أجر الصدقات أضعافًا مضاعفة، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} (¬4) وتعال بنا لنقف سويًا عند هذا الحديث الذي رواه أبو عثمان النهدي وتحمَّل في سبيله السفر حين يقول: لم يكن أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني، فقدم قبلي حاجًا وقدمت بعده، فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة، فقلت: ويحكم والله ما كان أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني، فما سمعت هذا الحديث، قال: فتحملت ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 1/ 467. (¬2) تفسير ابن كثير 1/ 467. (¬3) المسند 2/ 443، ومسلم الصيام 3/ 15. (¬4) سورة البقرة، الآية: 245.

أريد أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجًا، فانطلقت إلى الحج أن ألقاه بهذا الحديث، فلقيته لهذا، فقلت: يا أبا هريرة ما حديث سمعت أهل البصرة يأثرون عنك؟ قال وما هو؟ قلت: زعموا أنك تقول: إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة، قال: يا أبا عثمان: وما تعجب من هذا والله يقول: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} (¬1) ويقول تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (¬2) والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألفي حسنة» (¬3). وإذا كان هذا ما نقله أبو هريرة رضي الله عنه في مضاعفة أجر الصدقة، فاسمع إلى ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما في هذا الصدد أيضًا، وقد روى ابن أبي حاتم بسنده إلى ابن عمر قال: لما نزلت هذه الآية: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ .... } (¬4) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رب زد أمتي، فنزلت {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} (¬5) قال: رب زد أمتي، فنزل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬6). إخوة الإيمان، إذا كان هذا في مضاعفة أجر الصدقة يوم القيامة، فللصدقة والإنفاق الخِّير بشكل عام آثار أخرى، تشمل الدنيا والآخرة، فثواب أصحابهم محفوظ عند الله، وهم آمنون من مخاوف يوم القيامة حين يفزع الناس، وهم غير آسفين على ما خلَّفُوا من الأموال والأولاد وزهرات الدنيا، لأنهم قد صاروا ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 245. (¬2) سورة التوبة، الآية: 38. (¬3) الحديث رواه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير 1/ 42، (¬4) سورة البقرة، الآية: 261. (¬5) سورة البقرة، الآية: 245. (¬6) سورة الزمر، الآية: 10.

إنما ما هو خير من ذلك كله، يقول تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬1). وهل علمت أخا الإسلام أن الصدقة تظلل صاحبها في وقت هو أحوج ما يكون فيه إلى الظل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة حتى يُقضى بين الناس» (¬2). وهل علمت أن الصدقة طريق إلى الجنة وسبب من أسباب دخولها، يقول الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ... الآية} (¬3). يا أخا الإسلام، أنفق ينفق الله عليك وأعط يعطك الله، وهل يغيب عنك أن الله يعوضك عمَّا أنفقت، وملَكَان يصيحان مع بداية كل يوم، يقول أحدهما: اللهم أعط كل منفق خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط كل ممسك تلفًا. أعط يا أخا الإسلام، وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغني، فهنا تنفع النفقة، وهنا تقبل الصدقة، وهنا يكون الامتحان وتصعب المنافسة ... أما إذا بلغت الروح الحلقوم وشعرت أنك ستخرج من الدنيا فهيهات وقد انتقل، أو قارب المال أن ينتقل إلى غيرك .. يقول عليه الصلاة والسلام موضحًا ذلك كله: «أفضل الصدقة أن تصدُّق وأنت شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان كذا» (¬4). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 262. (¬2) الحديث رواه أحمد والحاكم وسنده صحيح- صحيح الجامع 4/ 170. (¬3) سورة آل عمران، الآيتان: 133، 134. (¬4) الحديث متفق عليه. صحيح الجامع 1/ 364.

يا أخا الإيمان، ومهما كان فقرك وقلتك فحاول المساهمة في الصدقات مع المتصدقين وابدأ بالأقربين وإن كان المتصدق به قليلاً، فذلك جهد المُقِل الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة جهد المُقِل وابدأ بمن تعول» (¬1). أيها المسلمون، ولا يفوتنّ عليكم البدء في صدقاتكم لذوي الأرحام والأقربين، فإن الصدقة على المسكين البعيد صدقة، وهي على القريب المحتاج صدقة وصلة. ومهما وقع بينكم وبين أرحامكم من خلاف فلا يمنعكم ذلك من صلتهم، والتصدق عليهم، وإليكم توجيه المصطفى صلى الله عليه وسلم في ذلك إذ يقول: «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح» (¬2). والكاشح: العدو الذي يضمر عداوته ويطوي عليها، وكشحه باطنه، أو الذي يطوي عنك كشحه ولا يألفك (¬3). يا أخا الإيمان، وإذا قدرك الله على شيء من النفقة فلا يخالطها شيء من المن بالعطية أو الأذى لمن تعطي فذلك مبطل للصدقة، كما يبطلها الرياء والسمعة، من أجل أن يقول الناس هو جواد أو كريم، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ .. الآية} (¬4). وهل ترضى أن يعرض الله عنك يوم القيامة؟ والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا ¬

(¬1) رواه أبو داود والحاكم بسند صحيح- صحيح الجامع 1/ 364. (¬2) حديث صحيح رواه الإمام أحمد والطبراني- صحيح الجامع 1/ 364. (¬3) ذكره ابن الأثير في النهاية 4/ 15. (¬4) سورة البقرة، الآية: 264.

يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» (¬1). وإيّاكَ إيّاكَ أن تأكل الحرام، أو تتصدق بالحرام، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وجاهد نفسك عن إنفاق الخبيث والرديء، وافقه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (¬2). وقد جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسنده إلى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ... ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره، إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث» (¬3). أيها المسلمون، ولكم بمن سلف من صالحي الأمة مثل وعبرة، وقد استجابوا لله والرسول صلى الله عليه وسلم، فهذان الخَيّران: أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، يتنافسان في الصدقة، فيجيء عمر بنصف ماله، ويأتي أبو بكر بماله كله ويكاد أن يخفيه من نفسه، ويقول له النبي صلى الله عليه وسيلم: وما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر؟ فيقول: عدة الله وعدة رسوله، ثم يبكي عمر ويقول: بأبي أنت يا أبا بكر، والله ما استبقنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقًا، ويقال فيهما نزلت: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ ... الآية} (¬4). ¬

(¬1) الحديث رواه مسلم 1/ 71، 72. (¬2) سورة البقرة: الآية: 267. (¬3) المسند 1/ 387 تفسير ابن كثير 1/ 473. (¬4) سورة البقرة، الآية: 271، انظر تفسير ابن كثير 1/ 477.

وهذا أبو الدحداح الأنصاري رضي الله عنه حين نزل قوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} (¬1). قال يا رسول الله: وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإني أقرضت ربي حائطي- وحائطه من سبعمائة نخلة- وأم الدحداح فيه وعيالها فجاء إليهم ونادى: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: أخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل (¬2). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 245. (¬2) رواه بن ابن حاتم ... تفسير ابن كثير 1/ 441، 442.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وهو الغني الحميد وأشهد ألا إله إلا هو يجزي المتصدقين ويحب المحسنين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قدوة المتصدقين ونموذج أعلى للمحسنين صلى الله عليه وعلى الأنبياء المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين إلي يوم الدين. أيها المسلمون ولسنا- معاشر البشر- ملائكة براء كما نزغ الشيطان، وأينا الذي لا يفكر ولا يتردد حين إخراخ الصدقة، فنفسه المطمئنة بوعد الله في الثواب تدعوه لمزيد من الإنفاق وتطمئنه أن الله سيخلفه، وأن ما أنفق له، وما ألقى فهو لغيره. ونفسه الأمارة بالسوء وهواه يخوفانه عواقب الفقر، وقلة ذات اليد، ويذكرانه أن هذا المال لم يأتك إلا بعد كدح وكد وعرق جبين أفتخرجه بهذه السهولة للفقراء والمحتاجين أو لذوي الأرحام والمساكين؟ هذه المعادلة صعبة، وتلك الوعود المتباينة أول من يعلمها في نفسك علام الغيوب، ولذلك أخبر عنها في كتابه العزيز وبين المخرج فقال: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬1) وفي تفسير الآية ورد قول النبي صلى الله عليه وسلم إن للشيطان للمةً بابن آدم، وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فلتعوذ من الشيطان، ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً} (¬2). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 268. (¬2) رواه ابن أبي حاتم، والترمذي وقال حسن غريب، ابن كثير 1/ 75.

فاعلم -أخي المسلم- هذه اللمة وافقه المخرج منها فذلك عون لك بإذن الله على الإنفاق والإحسان، وطريق إلى الجنان بإذن الله. إخوة الإسلام، ويتردد بعض المحسنين حين النفقة بين الإسرار بالصدقة أو الإعلان، والله تعالى امتدح الأمرين معًا فقال: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (¬1). فمتى يكون الإسرار بالصدقة أفضل، ومتى يكون إعلانها أفضل؟ قال العلماء في الآية دليل على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به فيكون أفضل من هذه الحيثية. والأصل أن الإسرار أفضل لهذه الآية لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه (¬2) ... وروى الترمذي والنسائي من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله، فأما الذين يحبهم الله: فرجل أتى قومًا فسألهم بالله ولم يسألهم لقرابة بينه وبينهم، فمنعوه، فتخلف رجل بأعقابهم، فأعطاه سرًا لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه (¬3) .. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صدقة السر تطفئ غضب الرب» (¬4). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 279. (¬2) الحديث متفق عليه- انظر تفسير ابن كثير 1/ 477. (¬3) الحديث صححه الترمذي، ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه محقق جامع الأصول 9/ 563، 564. (¬4) صحيح الجامع 3/ 240، 248.

وفي لفظ صحيح آخر «والصدقة خفيًا تطفئ غضب الرب .. » قال ابن كثير: والآية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل سواء كانت مفروضة أو مندوبة لكن روى ابن جرير من طريق على بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية قال: جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها فقال بسبعين ضعفًا، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها فقال: بخمسة وعشرين ضعفًا (¬1). أيها المسلمون، هذه بعض أحكام وآداب، وأجر النفقات والصدقات فتزودوا لأنفسكم، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون، وأذكركم ونفسي أخيرًا بمغانم جليلة للنفقة صورها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح فقال: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة خفيًا تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم زيادة في العمر، وكل معروف صدقة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة» (¬2). إخوة الإيمان، وليس يخفى عليكم أن هناك حاجات وهناك محتاجين، وهناك من لا يسألون الناس إلحافًا، والله أعلم بما يقتاتون .. فلا مددتم يد العون لهؤلاء وأولئك أجمعين، وإذا تجاوزتم الداخل فهناك جراح المسلمين في الخارج تنزف دمًا، ويعز المطعم والمشرب ويقل الملبس والكساء .. وهل يليق بنا أن نعيش آمنين مطمئنين وفي رغد العيش مترفين، وإخواننا في العقيدة والدين يعيشون المسغبة ويتجرعون كؤوس المآسي من أمم الكفر مجتمعين. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 1/ 478. (¬2) الحديث رواه الطبراني في الأوسط بسند صحيح (الجامع 3/ 24) وفي لفظ عند الحاكم: صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والمهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة (صحيح الجامع).

الخصلتان الحبيبتان

الخصلتان الحبيبتان (¬1) إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صلي وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فاتقوا الله أيها المسلمون وراقبوه واعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه، وتخلقوا بالأخلاق الفاضلة وجاهدوا أنفسكم على الاتصاف بالصفات الحميدة فإنها سبيل إلى التقوى وطريق إلى السعادة في الدنيا والآخرة. إخوة الإسلام، وتضطرب على الدوام أمور الحياة، وتكثر في هذه الدار المنغصات والمكدرات، ويصور الشاعر طرقًا من هذه المعاناة حين يقول لبيد ابن ربيعه العامري: بُلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الديارُ بعدنا والمصانعُ فلا جزعٌ إن فرَّق الدهر بيننا ... فكلُ امرئ يومًا له الدهر فارجعُ وما الناس إلا كالديار وأهلها ... بها يومٌ حلُوها وتغدو بلاقعُ ويمضون أرسالاً وتخلف بعدهم ... كما ضمَّ إحدى الراحتين الأصابعُ وما المرءُ إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادًا بعد إذ هو ساطعُ وما المرء إلا مُضْمَرَاتٌ من التقى ... وما المال إلا عارياتٌ ودائعُ أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لُزوم العصا تُحنى عليها الأصابعُ ¬

(¬1) 16/ 2/ 1416 هـ.

إلخ القصيدة (¬1). وأبلغ من ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} (¬2). وقوله جل ذكره: {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬3). وأمام هذه الحقيقة الماثلة يحتاج المسلم- بل العامل- إلى نوع من التعامل يجنّبه مزالق الطريق، ويجاوزه العقبات، وإلى نمط من الأخلاق يخفف عنه الصدمات ويسوي عنه حين الشدائد والأزمات، ويرشد الإسلام- فيما يرشد- إلى الخروج من المأزق بالتزام الهدوء وعدم العجلة والطيش في التصرفات، ويهدي النبي صلى الله عليه وسلم خصلتين حبيبتين يحبهما الله ويقول عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس «إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والآناة» (¬4). وما أعز هاتين الخصلتين في الناس، وما أشد حاجتهما إليهما، أما الحلم فهو العقل، وأما الأناة فهي التثبت وترك العجلة (¬5). والحلم أفضل من كظم الغيظ، لأن كظم الغيظ عبارة عن التحلم أي تكلف الحلم، ولا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه، ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة، ولكن إذا تعود ذلك مدةً صار ذلك اعتيادًا، فلا يهيج الغيظ، وإن هاج فلا يكون في كظمه تعبٌ، وهو الحلم الطبيعي. وكذلك تدرب النفس على الحلم بالتحلم، كما حكاه الغزالي، يرحمه الله (¬6). ¬

(¬1) أنظر مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق لابن حزم ص 83، 84 حاشية. (¬2) سورة البلد، الآية: 4. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 185. (¬4) الحديث رواه مسلم وغيره (صحيح مسلم 1/ 48 ح 25). (¬5) كما ذكر ذلك الإمام النووي رحمه الله (شرح مسلم 1/ 189). (¬6) الإحياء 9/ 1657.

معاشر المسلمين، ويكفي الحلمُ عزةً ورفعةً وعلوَّ شأن أنه من أسماء الله وصفاته، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (¬1). {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (¬2). {وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} (¬3). والحلم حلية أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، والخليل عليه السلام يصفه ربه بالحلم ويقول: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} (¬4). {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لحَلِيمٌ} (¬5). ويبشره ربه كذلك بابن حليم، ويكون الحلم من صفات إسماعيل عليه السلام. قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} (¬6). ويُوصف شعيب عليه السلام بالحلم والرشد من قومه وإن كان على سبيل التهكم والاستهزاء، قال تعالى: {إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (¬7). لكنه كذلك وإن رغمت أنوف الملأ ويكفيه حلمًا وعلمًا أن يقول لهم: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (¬8). أما صفوة الخلق وخيرة المرسلين، فيزكيه ربه بكمال الأخلاق ويقول: ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 235. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 155. (¬3) سورة النساء، الآية: 12. (¬4) سورة التوبة، الآية: 114. (¬5) سورة هود، الآية: 75. (¬6) سورة الصافات، الآية: 101. (¬7) سورة هود، الآية: 87. (¬8) سورة هود، الآية: 88.

{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬1). ويجمع الله به القلوب بعد فرقتها، ويجمع به شمل النفوس بعد شرودها وضياعها ويقول له ربه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (¬2). أيها المسلمون، ويوصي الله بالحلم والرفق، ومجاهدة النفس عليهما وبَيَّن آثارهما، ويقول تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (¬3). قال ابن كثير رحمه الله، أي وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك فإنه يشق على النفوس .. ويقول جل ذكره: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (¬4). ويعلق الإمام الطبري على الآية بقوله: ولمن صبر على إساءة من أساء إليه، وغفر للمسيء إليه جرمه، فلم ينتصر منه وهو على الانتصار ومنه قادر ابتغاء وجه الله وجزيل ثوابه، إن ذلك لمن عزم الأمور ندب الله إليه عباده، وعزم عليهم العمل به. إخوة الإسلام، ونتيجة جهل الإنسان وضعفه، فقد يتبدى له أحيانًا أن أسلوب الشدة هو أقصر الطرق للوصول إلى هدفه، وأن ممارسة العنف قد تعجل له حصول النتائج التي يرنو إليها .. وليس الأمر كذلك فما يحصل بالحلم والرفق ¬

(¬1) سورة القلم، الآية: 4. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 159. (¬3) سورة فصلت، الآيتان: 24، 25. (¬4) سورة الشورى، الآية: 43.

والأناة خير في الآخرة والأولى، كذلك يهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته ويقول: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه» (¬1). بل يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم أن الرفق والأناة سبب لكل خير، ويقول: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه». ويحذر عليه الصلاة والسلام من فقد الرفق بفقد الخير كله وهو القائل: «من يُحرَم الرفق يُحرَم الخير» (¬2). ومن ثم قيل: (الرفق في الأمور كالمسك في العطور) (¬3). وقديمًا قيل: الحلم سيد الأخلاق. وما فتئ العارفون يتمثلون الحلم في حياتهم، والأناة في تصرفاتهم، ويهدون بها غيرهم، وقد ورد أن رجلاً سبَّ ابن عباس رضي الله عنهما، فلما فرغ قال يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى (¬4). وقال أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (¬5). هو الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنت كاذبًا فغفر الله لك، وإن كنت صادقًا فغفر الله لي (¬6). وما أجمل ما قال الشافعي رحمه الله يخاطبني السفيه بكل قبحٍ ... فأكره أن أكون له مجيبًا يزيد سفاهةً فأزيد حلمًا ... كعودٍ زاده الإحراق طيبًا (¬7). ¬

(¬1) رواه مسلم ح 2593، 4/ 204. (¬2) روى الحديثين الإمام مسلم في صحيحه 4/ 2003، 2004. (¬3) الأخلاق الضائعة للعنبري/ ص 32. (¬4) إحياء علوم الدين 9/ 1661. (¬5) سورة فصلت، الآية: 34. (¬6) الإحياء 9/ 1661. (¬7) الأخلاق الضائعة/ العنبري/ 34.

إخوة الإيمان، وإذا كانت الحاجة تدعو الحلم والأناة في كل حال في هذه الحياة الدنيا، فهي في زمن الشدائد والفتن أحرى وأولى، ففيها تطيش العقول، وتضطرب القلوب، وتختل المواقف، ولا يسعف المرء إلا التثبت والأناة والحلم والرفق في المدلهمات، لكن ذلك محتاج إلى صبرٍ ومصابرة، وتغليب حظوظ الآخرة على الدنيا، ويضرب ابن عمر رضي الله عنهما أروع الأمثلة في هدوئه وأناته ورفقه وحلمه في الفتنة ويقول: (دخلت على حفصة، ونَسْواتها تنطفُ- أي ذوائبها تقطر- قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين، فلم يُجعل لي من الأمر شيءٌ، قالت: الحق فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة، فلم تدعه حتى ذهب، فلما تفرق الناس خطب معاوية قال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فلُيطلع لنا قرنه، فنحن أحق به ومن أبيه، قال حبيب بن مسلم لابن عمر فهلا أجبته؟ قال عبد الله، فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحقُّ بهذا الأمر من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمةً تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان، قال حبيب: (حفظت وعصمت) (¬1). وسواء وقعت هذه الحادثة حين تفرق الحكمان فيه (صفين) فلم يتفقوا عل أمير المؤمنين، أم كانت في زمن معاوية حين أراد أن يجعل ولاية العهد لابنه (يزيد) فهي تصور (أناة) ابن عمر ورغبته في تسكين الأمور وعدم إثارة الفتن بين المسلمين، والحرص على جمع الكلمة، وهو ما وافقه عليه الصحابي حبيبُ ابن مسلمة حين قال حُفِظْت وعُصِمت) (¬2). ¬

(¬1) الحديث أخرجه البخاري وغيره (أنظر الفتح 7/ 403). (¬2) الحديث أخرجه البخاري وغيره، انظر: الفتح 7/ 403.

وكذلك ينبغي أن تكون الأناة والرفق والحلم منهجًا للمسلم في كل حال، وتتحتم أكثر حين تكون الفتن والفرقة والخلاف، فتلك خير وسيلة لمراغمة الشيطان وجمع كلمة المسلمين، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، ومن يحرم الرفق يُحرم الخير كله .. أقول ما تسمعون.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين قدَّر أرزاق العباد، وقسَّم أخلاقَهم، والمغبوط حقًا من وفقه الله علمًا وحلمًا، قال عليٌ رضي الله عنه: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك، وأن لا يباهي الناس بعبادة الله، وإذا أحسنت حمدت الله تعالى، وإذا أسأت استغفرت الله تعالى (¬1). وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له يعطي الدنيا من أحبَّ ومن لم يحب ولكن لا يعطي الدين إلا من أحب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، علَّم الأمة بسلوكه القولي والفعلي، العلم والحلم والرفق والأناة، والخير كل الخير في اتباع سنته واقتفاء أثره. أيها المسلمون، ولم يكن الأناة والرفق وتسكين الأمور في الفتن سلوكًا خاصًا بابن عمر رضي الله عنهما، بل كان ذلك ديدن الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم، وهذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو أحد المبشرين بالجنة، ثبت عنه أنه قال لابنه حين حث في القيام ببعض الأمور الفتنة قال لابنه: (يا هذا! أتريد أن أكون رأسًا في الفتنة، لا، لا والله) (¬2). بل وصل الأمر بسعد رضي الله عنه إلى أن اعتزل الناس حين وقعت الفتنة .... ولا شك أن سعدًا وابن عمر وغيرهما من الصحابة رضوان الله عليهم تعلموا سلوك الأناة والرفق والنظر في الأمور من محمد صلى الله عليه وسلم الذي أدبه ربُّه فأحسن تأديبه، وزكاه في محكم تنزيله {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ¬

(¬1) الإحياء 9/ 1660. (¬2) صالح آل الشيخ، الضوابط الشرعية لموقف المسلم في الفتن ص 41.

مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (¬1). ومحمد صلى الله عليه وسلم، لأناته، وتقديره، لم يتعجل في تغيير بناء الكعبة، وهو القائل لعائشة رضي الله عنها: «لولا حدثانُ قومك بكفر لهدمت الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم ولجعلت لها بابين» (¬2). والبخاري رحمه الله بوَّب على هذا الحديث بابًا عظيمًا فقال: (باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر الناس عن فهمه فيقعوا في أشد منه). معاشر المسلمين، وهل علمتم أن الحلم والأناة سبب للحفظ والبقاء حتى وإن كان المحفوظ فاسقًا أو كافرًا؟ تأملوا في هذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه، وقد جاء فيه أن المستورد القرشي رضي الله عنه قال- وعنده عمرو بن العاص رضي الله عنه- (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس! قال له عمرو: أبصِر ما تقول، قال المستورد: ومالي أن لا أقول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمرو: إن كان كذلك فلأن في الروم خصالاً أربعًا، وعدّ منها: أنهم أحلمُ الناس عند الفتنة، وأنهم أسرع الناس إفاقةً بعد مصيبة ... وعدّ بقية الخصال الأربع، قال أهل العلم: هذا كلام من عمرو بن العاص رضي الله عنه، لا يريد أن يثني على الروم والنصارى الكفرة .. كلا، ولكن ليبين للمسلمين أن بقاء الروم وكونهم أكثر الناس علما أن تقوم الساعة، لأنهم عند وقوع الفتن أحلم الناس فهم لا يكملون ولا يعجلون ولا يغضبون، فَيقُوا أنفسهم ويقُوا أصحابهم القتل (¬3). ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 128. (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه. (¬3) الضوابط الشرعية .... آل الشيخ/ 17، 18.

ومن العجب أن يتساهل المسلمون فيما نص عليه دينهم ويتشبثَ بها من حُرِّفَت كُتُبُهم ونُسخت أديانُهم؟ أيها المؤمنون، وتشتد الحاجة للحلم كذلك حين تستثار المشاعر، فتحتاج إلى التهدئة والتسكين، وحين تشعر النفوس بالضيم فتتطلع إلى الانتصار وحين يشيع المنكر فترتفع أسهم الغَيْرَة لدين الله. لكنها ينبغي أن تُضْبَط يميزان الشرع وأن تحكم بالعقل، وأن تحلى بالحلم، وأن تُجَمَّل بالرفق (وما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه). وعلى مسلمي اليوم أن يتذكروا أن الاستفزاز قديم وأن العاقبة للمتقين إن هم صبروا وصابروا ورابطوا واتقوا رب العالمين. واقرؤوا القرآن الكريم وستجدون فيما أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} (¬1). وقال تعالي- في معرض الحديث عن صراع الحق والباطل بين موسى عليه السلام وفرعون- {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} (¬2). إخوة الإسلام، ولا يعني الحلم والأناة تبلُّد الإحساس عن مصائب المسلمين، ولا موت المشاعر عن واقعهم المهين، ففئة تُقتَل أو تُهجّر- كما يحصل اليوم على أرض البوسنة والشيشان وغيرها- وربما مات الكثير من فقد الطعام والشراب، وفئة تؤذى أو تنفى أو تسجن أو تعذب كما في بلاد كثيرة من بلاد المسلمين. ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 76، 77. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 103، 104.

وليس من الحلم والأناة إضاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتكاسل في الدعوة إلى الله بالحسنى ولا القعود عن نصرة المظلومين، ومحبة المؤمنين، والبراءة من الكافرين، وبغض المنافقين، ولكن الحلم والأناة تريثٌ وتعقلٌ في الحركات، وتأن، وعدم عجلة في التصرفات، ونظرٌ محمود في العواقب، وتقديرٌ وتغليبٌ للمصالح والفاسد، إنه كبح جِماح النفس والهوى، واستشارة لذوي العلم والفضل والنهى، بالحلم والأناة يسود العلماء، وبالحلم والأناة والرفق شأن الولاة والأمراء. (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به). كذلك قال المصطفى صلى الله عليه وسلم (¬1). وتأملوا في عظيم هذه الحكمة التي أسداها واحد من سادات الحكماء ومن يُضرب بحلمه وسؤدده المثل. إنه الأحنف بن قيس رحمه الله، الذي يقال أنه كلم مصعب بن الزبير في محبوسين، وقال: أصلح الله الأمير إن كانوا حبسوا في باطلٍ فالعدل يسعهم، وإن كانوا حبسوا في حقٍ فالعفو يسعهم. وهو القائل: لا ينبغي للأمير الغضب، لأن الغضب في القدرة لقاح السيف والندامة (¬2). وبالحلم والرفق والأناة ينبغي أن يربي الآباء والأمهات البنين والبنات، وأن يكون جزءًا مهمًا من وظيفة المربين، وأسلوبًا عمليًا للمعلمين، ونهجًا متّبعًا للقادة والمسؤولين، اللهم هيء للمسلمين من أمرهم رشدًا، وارزقهم الحلم والأناة والرفق في الأمور كلها. ¬

(¬1) رواه مسلم (1828) رياض الصالحين/ 298. (¬2) سير أعلام النبلاء/ 94.

الجزء الثالث

شعاع من المحراب الجزء الثالث إعداد د. سليمان بن حمد العودة

بسم الله الرحمن الرحيم

شعاع من الحراب

أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وقصة التحكيم

أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وقصة التحكيم (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .... إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخوة الإيمان، وما أجمل العيش في سير القادة العظماء، ويطيب أكثر إذا كان في مواقف وأخبار السادة النجباء، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فهم أَبرُّ قلوبًا، وأنقاها سريرة، وأصلحها سيرة، ويتحتم أكثر فأكثر حين يكون ذودًا عن المتهمين زورًا وكذبًا، وإيضاحًا للحقيقة صدقًا وعدلاً. أجل لقد جاء الثناء على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن، ونوَّه الله بذكرهم في ¬

(¬1) في 30/ 10/ 1415 هـ.

التوراة والإنجيل، فقال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} (¬1). وفي هذه الخطبة استجلاء لشخصية أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، رضي الله عنه، الذي ربما غابت بعض مواقفه البطولية عن بعض الناس، وربما ترسّخ في أذهان آخرين ما تنسبه إليه بعض الروايات التاريخية الساقطة من التغفيل والجهل بأبسط قواعد السياسة والحكم في قصة التحكيم، وهو العم والفقيه، والقاضي والوالي، والقارئ والكيس الفَطن، ويكفيه فخرًا أن القرآن نزل في الثناء عليه وعلى قومه، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬2). أخرج الحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن عياض الأشعري قال: لما نزلت: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم قومك يا أبا موسى وأومأ إليه (¬3). وأثنى النبي صلى الله عليه وسلم ودعا لأبي موسى وعمه أبي عامر الأشعري في قصة تكشف عن شجاعة وصدق أبي موسى وعمه، وطلب عمه من النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار له وهو في سياقة الموت، وشمول الدعوة لأبي موسى، فقد روى البخاري ومسلم- فى صحيحيهما- عن أبي موسى قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر الأشعري على جيش أوطاس، فلقي دريد بن الصمة، فقتل دريد ¬

(¬1) سورة الفتح، الآية: 29. (¬2) سورة المائدة، الآية: 54. (¬3) المستدرك 2/ 313، الطبقات لابن سعد 4/ 107، سير أعلام النبلاء 2/ 384.

وهزم الله أصحابه، فرمى رجل أبا عامر في ركبته بسهم فأثبته، فقلت: يا عم من رماك؟ فأشار إليه، فقصدت له فلحقته، فلما رآني ولَّى ذاهبًا، فجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألست عربيًا؟ ألا تثبت؟ قال: فَكَفَّ، فالتقيت أنا وهو فاختلفنا ضربتين فقتلته، ثم رجعت إلى أبي عامر فقلت: قد قتل الله صاحبك، قال: فانزع هذا السهم، فنزعته، فنزل منه الماء، فقال: يا ابن أخي: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرئه مني السلام وقل له: يستغفر لي، واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيرًا ثم مات، فلما قدمنا وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثم رفع يديه ثم قال: اللهم اغفر لعبدك أبي عامر، حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قال: «اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك» فقلت: وَلِي يا رسول الله؟ فقال: «اللهم اغفر لعبد الله ابن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريمًا» (¬1). إخوة الإسلام، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنه في عداد العلماء الفقهاء أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال صفوان بن سليم- أحد فقهاء التابعين الثقات-: (لم يكن يُفتِي في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير هؤلاء: عمر وعلي ومعاذ وأبي موسى) (¬2). وقال مسروق: كان القضاء في الصحابة إلى ستة: عمر وعلي، وابن مسعود، وأُبي، وزيد، وأبي موسى (¬3). ولكفاءة أبي موسى وغزارة علمه، وحسب رأيه، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذًا في اليمن، وولي أبو موسى أمرَ الكوفة لعمر رضي الله عنه، وكذلك البصرة وأحسن السيرة في أهلها حتى قال الحسن البصري: ما قدمها راكب خير لأهلها من أبي موسى (¬4). ¬

(¬1) البخاري: المغازي 8/ 34، غزوة أوطاس، وسلم/ 2498، في فضائل الصحابة، سير أعلام النبلاء 2/ 385. (¬2) تاريخ ابن عساكر 9/ 502، مخطوط عن: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة 2/ 228. (¬3) سير أعلام النبلاء وسنده صحيح 2/ 388. (¬4) سير أعلام النبلاء 2/ 389.

ومع هذه السيرة الحسنة والعدل في الرعية، فلم تكن الولاية في ذهن أبي موسى وغيره من صلحاء الأمة شهوةً جامحةً، أو سبيلاً للاستعلاء والسيطرة، وهذا عمر، رضي الله عنه، يطلب أبا موسى في رهط من المسلمين بالشام ويقول له: إني أرسلك إلى قوم عسكر الشياطين بين أظهرهم، قال أبو موسى: فلا ترسلني، قال عمر: إن بها جهادًا ورباطًا فأرسله إلى البصرة (¬1). وكذلك تكون رغبة الجهاد والمرابطة في سبيل الله ضمانًا لموافقة أبي موسى وقبوله بالولاية. أيها المسلمون، ويظهر اللهم الدقيق- في شخصية أبي موسى رضي الله عنه- لأمور الولاية في الإسلام، فهو الأمير والقاضي وهو المقرئ ومعلم الناس القرآن، وهو الكيس الفطن، وهو القائد الفاتح. فقد قال أبو شوذب: كان أبو موسى إذا صلى الصبح استقبل الصفوف رجلاً رجلاً يقرئهم (¬2). وعن أنس قال بعثني الأشعري إلى عمر، فقال لي: كيف تركت الأشعري؟ قلت: تركته يعلم الناس القرآن، فقال عمر: أما إنه كيس ولا تسمعها إياه (¬3). وفي مجال الفتوح، فقد أُفْتُتِحَ في أثناء ولايته: البصرة، والأهواز، والرها، وسميساط، وما والاها، وفتح أصبهان (¬4). ولذا كتب عمر في وصيته: ألاَّ يقرّ لي عامل أكثر من سنة وأقروا الأشعري أربع سنين (¬5). ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 2/ 389. (¬2) ابن عساكر/ 504، سير أعلام النبلاء 2/ 398. (¬3) أخرجه ابن سعد ورجاله ثقات 4/ 108. (¬4) السابق 2/ 390، 391. (¬5) ابن عساكر/ 522، السابق 2/ 391.

هذا نموذج لولاية أبي موسى وحسن سياسته، وهو كما ترى مزيج بين الدين والدنيا، أما هذا الانشطار الغريب في الولاية بين أمور الدين والدنيا فلم يكن يعرفه أبو موسى ومن على شاكلته من ولاة المسلمين فيما مضى. وإن تعجب- يا أخا الإسلام- من حسن سياسته وفهمه لمسؤولية الولاية والإمارة، فالعجب أشد حين تعلم شيئًا من نزاهته وترفعه عن متاع الدنيا وحطامها الفاني، فما ملك القصور والضياع، ولا جمع المال والمتاع، ولم تغيره الإمارة ولا اغتر بالدنيا (¬1). وقال ابنه أبو بردة حدَّثتنِي أمي قالت: خرج أبوك حين نزع عن البصرة وما معه إلا ستمائة درهم عطاء عياله (¬2). أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع يا أخا الإسلام، وكما أن الأشعري من فرسان النهار، ومن صلحاء أهل الولاية في الإسلام، فكذلك الأشعري كان من رهبان الليل، ومن أهل الذكر والدعاء والصلاة وتلاوة القرآن، فقد روى الإمام أحمد وغيره بإسناد صحيح عن بريدة رضي الله عنه قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسجد ويدي في يده، فإذا رجل يصلي يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سُئِلَ به أعطى، وإذا دُعِيَ به أَجَاب، فلما كانت الليلة الثانية دخلت مع الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد، قال: فإذا ذلك الرجل يقرأ، قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتراه مُرَائِيًا- ثلاث مرات-، قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 2/ 396. (¬2) رواه سعد في الطبقات 4/ 111، سير أعلام النبلاء 2/ 400

هو مؤمن منيب، عبد الله بن قيس أو أبو موسى أوتي مزمارًا من مزامير آل داود، قال: قلت: يا نبي الله ألا أبشره؟ قال: بلى، فبشرته فكان لي أخًا (¬1). بل هو مؤمن منيب، تلك والله هي الشهادة العظمى، وأكرم بتزكية من لا ينطق عن الهوى، وعجَبُك لا ينقضي من هذا الصحابي المجاهد حتى لحظات حياته الأخيرة، وقد ورد أن أبا موسى، رضي الله عنه، اجتهد قبل موته اجتهادًا شديدًا فَقِيْلَ له: لو أمسكت ورفقت بنفسك؟ قال: إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من عمري أقل من ذلك (¬2). توفي أبو موسى رضي الله عنه سنة أربع وأربعين للهجرة على الصحيح كما قال الذهبي (¬3)، رضي الله عنه وأرضاه، وألحقَنَا به وحَشَرنا في زمرته ... أقول ما تسمعون وأستغفر الله. ¬

(¬1) انظر شرح السنة للبغوي 5/ 37، 38، سير أعلام النبلاء 2/ 386. (¬2) سير أعلام النبلاء 2/ 393. (¬3) سير أعلام النبلاء 2/ 398.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين وفق من شاء لطاعته وهداه، وأضل من شاء بعلمه وحكمته فلا إله إلا هو ولا رب سواه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له يمتحن الناس في هذه الحياة الدنيا، فيغتبط الصالحون ويندم المفرطون المفسدون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ربَّي صحابته على الإيمان والتقى فكانوا منارات يستضاء بها في الأرض كَحَال النجوم في السماء، اللهم صلي وسلم على محمد وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ... وبعد: فأي عقل لبيب وأي منطق سليم يرضى ويقنع بروايات أهل البدع والأهواء في هذا الجيل الفريد، وقاتل الله الرافضة فكم شوهوا في تاريخنا وكم حرَّفوا في مرويّاتنا، ولقد نال أبا موسى الأشعري رضي الله عنه من هذا التشويه والتحريف ما أصبح مادةً لمن في قلوبهم مرض، فَرَامُوا تشويه تاريخ الصحابة بهدف تشويه الدين أساسًا، وتأمل مقولة الإمام مالك رحمه الله في هدف الذين يقدحون في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إنما هؤلاء أقوام أردوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه، حتى يقال رجل سوء ولو كان وجلاً صالحًا لكان أصحابه صالحين (¬1). ومما ذاع وشاع في التاريخ قديمًا وحديثًا موقف الحكمين: أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، رضي الله عنهما، في قصة التحكيم بين علي ومعاوية، رضي الله عنهما، حين وقعت الفتنة، وأن موقف أبي موسى رضي الله عنه يمثل موقف المغفل المخدوع، بينما يمثل موقف عمرو ابن العاص موقف الماكر الخادع، إذ اتفقوا -كما تقول ¬

(¬1) الصارم المسلول/ 513، مرويات أبي مخنف/ 10.

الرواية الساقطة- على أن يخلع كل منهما صاحبه أمام المسلمين وتُوَلِّي الأمة من أحبَّت، فابتدأ أبو موسى وخلع صاحبه عليًا، فلما جاء دور عمرو بن العاص وافق على خلع علي وأثبت صاحبه معاوية فهل تليق هذه المراوغة بالصالحين من أباء المسلمين فضلاً عن نسبتها للمؤمنين الصادقين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. إن المقام لا يتسع للحديث عن شخصية عمرو بن العاص الإيمانية ومواقفه الجهادية، وعسى أن تتاح الفرصة لذلك قريبًا. ولكن القضية مرفوضة أولاً بميزان العقل والمنطق، فكيف يُتَّهَم أبو موسى الأشعري، رضي الله عنه، بالتغفيل وهو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زبيد وعدن، واستعمله عمر رضي الله عنه على البصرة حتى قتل، ثم استعمله عثمان على البصرة، ثم على الكوفة وبقي واليًا عليها إلى أن قتل عثمان فأقرَّه علي رضي الله عنه، فهل يتصور أن يثق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خلفاؤه من بعده برجل يمكن أن تجوز عليه مثل الخدعة التي ترويها قصة التحكيم (¬1)؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلِّقًا على حديث البخاري في بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن، قال: واستدل به على أن أبا موسى كان عالمًا حاذقًا، ولولا ذلك لم يوله النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة، ولو كان فَوَّضَ الحكم لغيره لم يحتج إلى توصيته بما وصاه به، ولذلك اعتمد عليه عمر ثم عثمان ثم علي، وأما الخوارج والروافض فطعنوا فيه، ونسبوه إلى الغفلة وعدم الفطنة، لما صدر منه في التحكيم بصفين (¬2). وكيف يسوغ أن يُتَّهم الفقيه القاضي، والعالم المتبحر بمثل هذا؟ بل ويقطع ¬

(¬1) آمحزون: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة 2/ 226، 227. (¬2) الفتح 8/ 62.

الفاروق عمر رضي الله عنه بكياسة أبي موسى، ومن هو الفاروق في تقويم الرجال؟ (ألا إنه كيِّس وإلا تسمعها إياه). والقضية مرفوضة ثانيًا بميزان العلم والنقد، وليس نقد السند بأقل من نقد المتن، فرواتها الذين صدروها ابتداء متهمون وهم من أهل الأهواء والبدع ويكفي أن فيها أبا مخنف، لوط بن يحيى، وهو شيعي محترق كما قال أهل العلم، ومشهور بالكذب والافتراء والدس والتشويه في التاريخ، عمومًا وأحداث الفتنة بين الصحابة خصوصًا. قال الحافظ الذهبي رحمه الله: ولا ريب أن غلاة الشيعة يبغضون أبا موسى رضي الله عنه لكونه ما قاتل مع علي، ثم لما حكمه علي على نفسه عزله، وعزل معاوية وأشار بابن عمر فما انتظم من ذلك حال (¬1). إخوة الإسلام، وإذا رفضنا هذه المرويات الكاذبة لسقوطها سندًا ومتنًا فما هي الرواية الصحيحة في التحكيم والتي تليق بمقام الصحابة رضوان الله عليهم؟ هناك رواية أخرجها البخاري في تاريخه مختصرًا بسند رجال ثقات، وأخرجها ابن عساكر مطولاً عن الحضين بن المنذر أن معاوية أرسله إلى عمرو ابن العاص فقال له: (إنه بلغني عن عمرو بعض ما أكره- يعني في مسالة التحكيم بينه وبين أبي موسى الأشعري- فأته فاسأله عن الأمر الذي اجتمع عمرو وأبو موسى فيه، كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس وقالوا، ولا والله ما كان ما قالوا، ولكن لما اجتمعت أنا وأبو موسى قلت له: ما ترى في هذا الأمر؟ قال أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض قال- عمرو- فقلت أين تجعلني من هذا الأمر أنا ومعاوية؟ قال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يُستغنى ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 2/ 394،

عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما (¬1). فأين الخداع، وأين الكذب، وأين التغفيل، والمراوغة، في مثل هذه المرويات الصحيحة؟ إن تاريخ الأمة المسلمة محتاج إلى استجلاء وتصحيح ونظر وتدقيق، وإن تاريخ الصحابة بالذات محتاج إلى تمحيص وفقه لأخذ الدروس والعبر، ومعرفة الطريق الأبلج، والمنهج الإسلامي، وكم من كنوز هذا التاريخ تحتاج إلى استخراج، وكم من عبر تنتظر السالكين إلى الله .. ويأبى الله إلا أن يدافع عن الذين آمنوا ولو كذب المنافقون، ولو تزيد المتزيدون. قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (¬2). أيها المسلمون، إن من أعظم الدروس التي نستفيدها من هذا الحدث، أن تدرك كيف تروج إشاعات، وكيف تساق جزافًا الاتهامات، وإذا كان هذا في جيل محمد صلى الله عليه وسلم، فغيرهم من باب أولى! فهل يتثبت المسلمون في أخبار الموتورين، وهل يتأكدون من الشائعات قبل ترويجها .. وهل نحافظ جميعًا على سمعة الخيرين من كذب المبطلين .. وهل نزن الأمور بميزان الشرع والحق، لا بميزان الهوى والباطل .. إن ذلك خليق بالمسلم الذي يقرأ قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (¬3). ¬

(¬1) انظر: مرويات أبي حنف في تاريخ الطبري: يحي اليحيى/ 408. (¬2) سورة الرعدة الآية: 17. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 36.

المحاسبة، وقصر الأمل

المحاسبة، وقصر الأمل (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ... أما بعد فاتقوا الله يا معشر المسلمين، وقوموا بأمره، واجتنبوا نواهيه، إخوة الإيمان، إن اللحظات التي يقف المرء فيها متأملاً متفكرًا لهي من أسعد اللحظات وأنفعها إذا أوتي الإنسان عقلاً حصيفًا ومنطقًا سليمًا .. ذلكم أن الإنسان في هذه الحياة أشبه بسائر فوق ظهر سفينة، تمخر به عباب البحر، فهو إن لم ينتبه لمسيرتها، ويتجنب أسباب عطبها، ويحذر الصوارف التي يمكن أن تصرفها عن طريقها، فلا شك أن مصيرها إلى الغرق، ومصيره هو إلى الهلاك. وأينا الذي لا يصدق الموت، بل أينا الذي يستبعد نزوله في أي لحظة؟ لقد جلّى لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم الصورة، وضرب لنا الأمثلة الموضحة للحقيقة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (غرز عودًا بين يديه، وآخر إلى جنبه وآخر بعد، فقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا الإنسان، وهذا الأجل -أراه قال- وهذا الأمل فيتعاطى الأمل فلحقه الأجل دون الأمل) (¬2). ولقد عقل الصحابة والسلف الصالح من بعدهم -رضي الله عنهم أجمعين- ¬

(¬1) 15/ 1/ 1412 هـ. (¬2) رواه أحمد وغيره بإسناد حسن (شرح السنة 14/ 285) وفي حديث آخر يقرب لنا الصورة: (هذا ابن آدم وهذا أجله، ووضع يده عند قفاه، ثم بسط فقال: وثم أمله). رواه الترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح. (السابق 14/ 285، 286).

هذه المعاني، وقدروها حق قدرها، فسارت حياتهم العملية وفق هذه الموازين والقيم، وحذروا مَن بعدهم من الاغترار والغفلة. قال علي رضي الله عنه: إنما أخشى عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة، وإن اتباع الهوى يصد عن الحق. وقال عون: كم من مستقبل يوم لا يستكمله، ومنتظر غدًا لا يبلغه، لو تنظرون على الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره (¬1). أيها المسلمون، لا يعني التأمل في قصر الأمل، السكون والاستسلام أو الكسل والإحجام، بل إن ذلك ينبغي أن يدفع إلى العمل والجدية وحث الخطى .. لكن أي عمل .. وأي جدية .. هل في جمع حطام الدنيا الفاني؟ لا .. فالدنيا لا تستحق هذا الجهد وهذا العناء .. ويكفي الإنسان ما يسد رمقه، ويكسو جسده، ويغنيه عن الآخرين .. وإنما عمل الصالحات هو الميدان الذي ينبغي أن تشمر له سواعد الجد، ويتسابق فيه المتسابقون .. وكلما طال العمر وازداد العمل الصالح، دل على توفيق الله للعبد، وقد سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ فقال: من طال عمره وحسن عمله، قيل: وأي الناس شر؟ قالت: من طال عمره وساء عمله (¬2). وهل علمت يا أخا الإيمان، أن العبد ربما بلغه منازل الشهداء وربما زاد عليها- بسبب كثرة عبادته وطول عمره- حتى وإن مات على فراشه، وإليك ما يؤكد ذلك من مشكاة النبوة، فعن عبيد بن خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين رجلين، فقتل أحدهما في سبيل الله، ثم مات الآخر، فصلوا عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما ¬

(¬1) شرح السنة 14/ 286. (¬2) الحديث رجاله ثقات، شرح السنة 14/ 287.

قلتم؟ قالوا: دعونا الله أن يغفر له ويرحمه ويلحقه بصاحبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأين صلاته بعد صلاته، وعمله بعد عمله؟ أو قال: صيامه بعد صيامه، لما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض (¬1). أرأيتم فضل الله، وعظيم أجر الصالحات، وقد ورد في بعض روايات الحديث أن الفرق بين وفاتيهما جمعة أو نحوها .. ألا فليسعد العاملون، وليستيقظ النائمون، وينتبه الغافلون. وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو القائل: «إن الله إذا أراد بعبدٍ خيرًا استعمله، فقيل وكيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: يوفقه لعملٍ صالح قبل الموت (¬2). اللهم وفقنا لعملٍ صالحٍ ترضاه عنا واجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم لقاك. أيها الإخوة، لابد من تدقيق العمل وتجويده، ولابد من إخلاص العمل وتصويبه، فالله طيب لا يقبل إلا طيبًا، ومن أشرك مع الله غيره تركه الله وشركه، وأحبط عمله، فانتبهوا- رحمني الله وإياكم ووفقنا- للإخلاص، فهو أساس قبول العمل أو رده، وما أحوجنا جميعًا إلى أن نتذكر قصة شفي الأصبحي- رحمه الله- مع أبي هريرة رضي الله عنه، فقد دخل شفي المدينة فإذا هو برجلٍ قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، وهو يحدث الناس، فلما سكت، وخلا قلت له: أسألك بحق وبحق، لا حدثتني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، فقال أبو هريرة: افعل، لأحدثنك حديثًا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، ثم نشغ ¬

(¬1) الحديث رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وإسناده حسن (السابق) 14/ 288، 289. (¬2) رواه أحمد والترمذي وسنده صحيح 14/ 290.

أبو هريرة نشغة، فمكثنا قليلاً، ثم أفاق فقال: لأحدثنك حديثًا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة، ثم أفاق، ومسح وجهه، وقال: افعل، لأحدثنك حديثًا حدثنيه رسوا الله صلى الله وسلم أنا وهو في هذا البيت، ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة، ثم مال خارًا على وجهه، فأسندته طويلاً، ثم أفاق، فقال حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة، ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قالا بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال كنت أقوم به آناء الليل وأطراف النهار، فيقول له: كذبت، وتقول الملائكة كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان قارئ، فقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتُك؟ قال: كنتُ أصل الرحم وأتصدّق، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، فيقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جواد وقد قيل ذلك. ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقوله له الملائكة كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء، فقد قيل ذلك، تم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي فقال: يا أبا هريرة: أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة. وقصة شفي لا تنتهي عند هذا الحد فهو يعقل هذا الحديث، ثم يدخل على معاوية رضي الله عنه في خلافته، فيخبره بهذا الحديث العظيم ويبكيه، ويقول معاوية: قد فعل بهؤلاء هذا؟ فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاءً شديدًا حتى

ظُنَّ أنه هالك، وقال من حوله: قد جاءنا هذا الرجل بِشَرٍّ، ثم أفاق معاوية، ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله (¬1) {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2). هكذا فهم الصحابة ومن بعدهم هذا الحديث، وتأثروا به، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل وجنبنا الرياء والسمعة والزلل .. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم. ¬

(¬1) رواه الترمذي بسند صحيح سنن الترمذي 2/ 281 - 283. (¬2) سورة هود، الآيتان: 15، 16.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله الموفق من شاء لطاعته، والمكرم من شاء بدخول جنه، أحمده وأشكره، وهو أهل الحمد والثناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله، ورضي عن أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أيها المسلمون، كل الناس يغدو ويروح في هذه الحياة، لكن هناك من يعتق نفسه وهناك من يوبقها وكل الناس يسعون إلى الجنة، ويفرون من النار، لكن بعض الناس ربما خردل نفسه فيها، وبعض الناس يُجَرُّ إلى الجنة بسلاسل، ولكن ليُعْلَم أن سلعة الله غالية، وهي تحتاج إلى صبر ومصابرة، وتقوى ومراقبة، وذلك يسير على من يسرَّه الله عليه، ولا شك أنها صعبة على من اتَّبعَ الشهوات ووقع في الشبهات. وإذا كانت الجنة قد حُفَّت بالمكاره، فإن النار قد حفت بالشهوات، وتأملوا معاشر المسلمين في هذا الحديث الذي أخرجه أهل السنن وغيرهم بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله أن عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعا الله جبريل، فأرسله إلا الجنة، فقال: انظر إليها وما أعددت لأهلها فيها، فرجع إليه فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فقال فحجبت بالمكاره، فقال له: ارجع فانظر إليها، فرجع إليه، فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، ثم أرسله إلى النار، فقال اذهب إليها، وانظر، ما أعددت لأهلها فيها، فرجع إليه فقال: وعزتك لا يدخلها أحد سمع بها، فحجبت بالشهوات، ثم قال: عد إليها فانظر، فرجع إليه، فقال: وعزتك لقد خشيت ألا يبقى أحدٌ إلا دخلها (¬1). ¬

(¬1) رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي، شرح السنة 14/ 307.

إن ذلك يستدعي ضبط النفس بحدود الشرع، وقصرها على الحلال، وإن كان صعبًا على النفس أحيانًا، وكفها عن الحرام حتى وإن كان سهلاً بل محببًا، فشهوة ساعة ينبغي ألا تورث الذل إلى ما لا نهاية. ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه - وهو يبين الفرق بين الحق والباطل - (الحق ثقيل مريء، والباطل خفيف وبي، ورب شهوة ساعة أورثت حزنًا طويلاً). وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: لولا ثلاث لصلح الناس، شحٌ مطاع، وهوى مُتبع، وإعجاب المرء بنفسه). وتأملوا كذلك مقولة أبي حازم- رحمه الله- إن كنت تريد العلاج والمخرج من مأزق الشهوات والشبهات، يقول: شيئان إذا عملت بهما أصبت بهما خير الدنيا والآخرة، . قيل: ما هما؟ قال: (تحمل ما تكره إذا أحبه الله، واترك ما تحب إذا كرهه الله) (¬1). أيها المسلمون، احذروا اتباع الهوى، واتخاذ آلهة من دون الله فتقعوا في محذور قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (¬2). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليأتين على الناس زمانٌ يكونُ هم أحدهم فيه بطنه، ودينهُ هواه. واحذروا، أيها الإخوة، من كل ناعق ومنافق، أولئك الدعاة على أبواب جهنم، من أجابهم، قذفوه فيها .. الذين يُحَسِّنون الباطل للناس فيعرضونه بصورة مغرية، والله أعلم بما يكتمون، ويصورون الحق بصورة مشوهة، والله ¬

(¬1) هذه النصوص كلها من شرح السنة 14/ 309. (¬2) سورة الجاثية، الآية: 23.

يشهد على ما يقولون، احذروا هؤلاء، فهم قطاع الطريق حقًا، وهم لصوص القلوب حتمًا. اللهم احفظنا من كل سوء ومكروه، ووفقنا لكل خير ومعروف، وأجزل المثوبة لكل من هدانا إلى الصراط المستقيم، واكفنا واحفظنا وسلط على من يريدنا وبالمسلمين السوء والمكروه .. هذا وصلوا.

قيمة العلم وأمية المتعلمين

قيمة العلم وأمية المتعلمين (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ الله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على سائر الأنبياء والمرسلين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة والوثقى، كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول إذا قعد: إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، ومن زرع خيرًا يوشك أن يحصد رغبةً، ومن زرع شرًا يوشك أن يحصد ندامةً، ولكل زارع مثلما زرع، ولا يسبق بطيء بحظه، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، فمن أعطي خيرًا فالله أعطاه، ومن وقى شرًا فالله وقاه، المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة. إخوة الإسلام، وبصورة مصغرة- ومع الفارق- نتذكر في هذه الأيام قيمة الجد والاجتهاد، ويدلف الطلبة والطالبات إلى قاعات الامتحانات، وسعيهم شتى، وهممهم متفاوتة، وحصيلتهم متباينة، وطموحاتهم مختلفة، غاية بعضهم أن يفرغ هذه المدة من ذهنه، وأن يتجاوزها بنجاح، ولو لم يبق لها أي رصيد في معارفه، أو يستفيد منها في حياته، ويراها آخرون فواتح في حياته، تفتح أمام ¬

(¬1) 25/ 1/ 1416 هـ.

ناظريه مجالات العلم رحبةً واسعة، وتهذب من سلوكه، وتعزز تجاربه وتطلعه على شيءٍ من واقع أمته في الماضي، وتترك له المقارنة بالحاضر. إن المناهج الدراسية- في عالمنا الإسلامي- يجب أن تكود مدرسة يتعلم فيها الدارس ما ينفعه في دينه، ويصلح له دنياه، ولا قيمة للعلم إذا لم يهد للإيمان، وإذا حارت العقول في تفسير عظمة هذا الكون فعقل المسلم قادر على الإجابة والبيان، أجل، إن عددًا من العلوم غير الموجهة، وكَّمًا من العلماء والباحثين يزيد عجائبنا ولا يحلها، فهذا الفلكي- مثلاً- بعلمه، ودقته، وحسابه، ورصده، وآلته، ماذا صنع؟ أبان لنا بأن ملايين النجوم في السماء، بالقوة المركزية بقيت في أماكنها، أو أتمت دورتها، كما أن قوة الجاذبية حفظت توازنها، ومنعت تصادمها، كما أبَان الفلكيون عن حجم الشمس والنجوم وسرعتها وبعدها عن الأرض، يزيدوننا عجبًا، ولكن ما الجاذبية؟ وكيف وجدت؟ وما القوة المركزية؟ وكيف نشأت؟ وهذا النظام الدقيق العجيب كيف وجد؟ أسئلة تخلى عنها الفلكي لما عجز عن حلها. وأبان الجيولوجي لنا من قراءة الصخور كم من ملايين السنين قضتها الأرض حتى بردت .. وكيف غمرت بالماء؟ وكيف ظهر السطح؟ وأسباب البراكين المدمرة، والزلازل المهلكة .. وكذلك فعل علماء الحياة في حياة الحيوان، وعلماء النفس في نفس الإنسان، ولكن هل شرحوا إلا الظاهر، وهل زادونا إلا عجبًا، وسلوهم السؤال العميق المعبر، والذي يتطلبه العقل دائمًا، وهو: من مؤلف هذا الكتاب المملوء بالعجائب التي شرحتم بعضها، وعجزتم عن أكثرها، أتأليف ولا مؤلف! ، ونظام ولا منظم، وإبداع ولا مبدع؟ من أنشأ في هذا العالم حياة وجعلها تدب فيه؟ إنه الله تبارك الله أحسن الخالقين، وكذلك يقود العلم إلى الإيمان، ولقد شهد العلماء من غير المسلمين بالتقاء العلم

والإيمان، واعترف المتأخرون منهم بقيمة الدين وأثر الإيمان في الحياة، والفضل ما شهدت به الأعداء. وانظروا مقولة (كارينجي) حين يقول: (إني لأذكر تلك الأيام التي لم يكن للناس فيها حديث سوى التنافر بين العلم والدين، ولكن هذا الجدال انتهى إلى غير رجعة، فإن أحدث العلوم وهو الطب النفسي يبشر بمبادئ الدين، لماذا؟ لأن أطباء النفس يدركون أن الإيمان القوي، والاستمساك بالدين، والصلاة كفيلة بأن تقهر القلق والمخاوف والتوتر العصبي، وأن تشفي أكثر الأمراض التي نشكوها)، ويقول الدكتور (بريل) ويعلنها صريحة: (إن المرء المتدين حقًا لا يعاني مرضً نفسيًا قط). ويؤكد ذلك كذلك (وليم جيمس) حين يقول: (إن أمواج المحيط المصطخبة المتقلبة لا تعكر قط هدوء القاع العميق، ولا تقلق أمنه، وكذلك المرء الذي عمق إيمانه بالله خليق بألا تعكر طمأنينته التقلبات السطحية المؤقتة، فالرجل المتدين حقًا عصي على القلق، محتفظ أبدًا باتزانه مستعد دائمًا، لمواجهة ما عسى أن تأتي به الأيام من صروف) (¬1). إن في ذلك لعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أجل لقد عادت أساطين العلم تعترف بالدين، وتقر بالعظمة لرب العالمين، ويل لمن ى زال شاردًا عن الدين، جاهلاً بحقائق العلم وتجارب العالمين، وهم يحسبون أنفسهم من كبار المثقفين! . أيها الإخوة المؤمنون، ولا شك أن الجهل شر وبلاء، وأن الأمية ضياع وجفاء، ولكن علم المنحرفين وأمية المتعلمين أشد وأنكى، ومصيبة أن تتحول ¬

(¬1) انظر في النقولات د. القرضاوي: الإيمان والحياة/ 230، 359، 360.

المناهج الدراسية إلى نوع من المعرفة الآنية الباردة، وأن يبقى هذا الكم من المعلومات رصيدًا للثقافة العامة لا علاقة له بواقع الحياة، ولا صلة له كما ينبغي بتوجيه سلوك الفرد والإجابة على كثير من تساؤلاته، وترى المتعلم مثلاً يقرأ قيمة الصلاة في الإسلام، ويعلم سننها وواجباتها وأركانها، ولكنه في واقعه العملي من المقصرين في المحافظة عليها، أو من المخلين في أحكامها، وربما احتاج وهو المتعلم إلى استفتاء العارفين المحافظين، وإن كانوا دونه في التعليم، وتراه يقرأ معنى التوحيد الحق، ويقف على أنواع الشرك في المنهج، ثم تجده، في حياته أو حياة أسرته المحيطة به، مخلاً بما قرأ، جاهلاً لما تعلم، فربما ذهب للسحرة والمشعوذين، وربما ذبح واستغاث، أو استعان، أو نذر لغير الله، وليس أقل خطرًا ممن استهزأ بشيء من أمور الدين، ولربما استحيا من نفسه إن عاتبه على خطئه من لا يجيد القراءة ولا الكتابة أصلاً، لكنه عارف بأحكام العقيدة والدين. وترى فئة ثالثة تعي وتدرك الثقافة الإسلامية الأصيلة وهم في واقعهم العملي من دعاة التغريب، ورابعة ترى وتسمع تراث النبلاء من المسلمين، ثم هم كلفوا بالدعوة للحداثة، مغرمون بأفكار الساقطين. {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (¬1) هذه ضروب من أمية المتعلمين وانحراف المثقفين. إخوة الإسلام، ويبقى للمناهج الدراسية قيمتها وأثرها في تنشئة أبناء المسلمين، فالتعليم فيها منذ الصغر، والدراسة فيها للذكر والأنثى، وإنما أصيبت أجيال المسلمين- أخيرًا- بالخواء الروحي، والشذوذ السلوكي يوم أن طورت المناهج- في زعم المطورين- فزُوحِمت لغة القرآن، وقُلِّصَت مواد ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 40.

التربية الإسلامية أو فُرِّغت من بعض محتوياتها المهمة، وقطعت صلة الدارسين بتاريخ الإسلام وبطولات المسلمين، فتخرجت هذه الأجيال وهي لا تعلم من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه، وويل لمن خان أمته، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. أيها المعلمون، أيها المربون، وليس الامتحان للطلاب وحدهم، بل أنتم في نهاية الفصول مُمْتَحنون، ومسؤولون، فإن قلتم أنكم اعتدتم أن تَمتحِنوا ولا تُمْتَحَنوا، وتَسأُلوا ولا تُسأَلُوا، فدونكم هذه الأسئلة، وخليق بكم أن تعدوا للسؤال جوابًا: فما هي القيم التربوية التي عنيتم بها وأوصلتموها للطلاب؟ وكم من المبادئ الإسلامية غرستموها في الناشئة ودعوتم إليها الشباب؟ أي قدوة كنتم؟ وأي لون من ألوان المعاملة مع الطلاب اخترتم؟ كم فضيلة دعوتم إليها، وكم رذيلة حذرتم منها؟ وكم سلوك معوج نقدتموه، وكم ثقافة أصيلة رسختموها، وكم فكر منحرف حذرتم منه؟ أي ذكرى أبقيتم في ذهن الطلاب؟ وهل لازمتكم مسؤولية المربي طوال الفصل، وما نوع الثمار التي جنيتم في نهاية الفصل؟ تلكم وغيرها كثير من الأسئلة المهمة ينبغي أن يمتحن المربي نفسه فيها، فإن قلتم: هذه أسئلة مفاجئة، وذلك امتحان جديد، ومعذرة إن لم نعد لبعض الأسئلة إجابة، فهلا عرضتم هذه الأسئلة وغيرها على أنفسكم مع مطلع العام القادم بإذن الله، ذاك هو المرجَّى والمؤمل منكم فالأمانة عظيمة، والمسؤولية جسيمة، والامتحان مشترك والرسوب والفشل- لا قدر الله- ليس حاصلاً بالطلبة وحدهم فأنتم شركاء لهم واختاروا لأنفسكم ما تريدون. ألا وإن من العدل والإنصاف ألا تحمل المدرسة والمعلم وحدهم مسؤولية النجاح أو الفشل، فالأسرة شريكة في المسؤولية وهذه الامتحانات تكشف عن

تفاوت الأسر في الاهتمام بمصلحة الأبناء، فالأسرة التي تهتم بأبنائها وبناتها أيام الامتحانات هي في الغالب مهتمة بهم في بقية الأوقات، والأسر التي لا تهتم بهم في مثل هذه المناسبات، هي لما سواها أضيع في بقية الأوقات، فلينتبه الغافلون، وليغتبط العاملون، وتبقى بعد ذلك كله دروس هذه الامتحانات حَرِيًا بالتذكير في الامتحان الأكبر، وموجبًا للآباء والأمهات، والبنين والبنات، بالاستعداد للعرض على رب العالمين، وهناك في أرض المحشر تبلى السرائر، وتطير القلوب، وتزيغ الأبصار، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، اللهم آمن روعاتنا، وارحم في مقام العرض عليك صغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأُنثانا ... أقول ما تسمعون وأستغفر الله.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، أيها المربون والمتربون، أيها المعلمون والمتعلمون، ويبقى السؤال المهم، ما هي حصيلة التربية المنظورة علمًا وعملاً، تربيةً وسلوكًا، فهمًا جيدًا لأحكام الدين، واستظهارًا واعيًا لعلوم ومعارف المسلمين، هل نعزو ما فينا من نقصٍ وتقصير للمنهج المقرر؟ أم للمعلم المكلف؟ أم لوسيلة التعليم؟ أم لذات الطالب المتعلم؟ أم للوقت المتاح للتعليم بإزاء الأوقات الأخرى التي تصرف لغير التعليم؟ وهل يعزى الضعف المشهود في المتعلمين إلى مؤسسات التعليم في المراحل المبكرة أم للتعليم الجامعي، كل ذلك محل دراسة التربويين، وأساتذة الجامعة المختصين ... لكن سأعرض لكم نموذجًا لتربية محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم- وهي محل الأسوة والقدوة- وهذا النموذج لا يعد صاحبه فيمن لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ملازمة طويلة، بل أسلم في نهاية الفترة المكية، وله ثماني عشرة سنة، وتوفي وهو ابن ثمان وعشرين وقيل ابن اثنتين وثلاثين- وقيل أكثر من ذلك- (¬1). ومع قصر هذه المدة فقد حاز علمًا كثيرًا، ونال فضلاً عظيمًا، وهو أعلم الناس بالحلال والحرام (¬2)، وهو محل الثقة والثناء من محمد عليه الصلاة والسلام حين يقول: (نعم الرجل أبو بكر، ونعم الرجل عمر، نعم الرجل معاذ بن جبل) (¬3). ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء/ 445، 460. (¬2) أخرجه أحمد وغيره بإسناد صحيح، السير، 1/ 446. (¬3) أخرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن وصححه ابن حبان وغيره، السابق 1/ 45.

ولم يكتم النبي صلى الله عليه وسلم محبته إياه فأخبره بذلك وأوصاه «يا معاذ إني لأحبك في الله» قلت- والقائل معاذ بن جبل-: وأنا والله يا رسول الله أحبك في الله، قال: «أفلا أعلمك كلمات تقولهن دبر كل صلاة؟ رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (¬1). وعلى الرغم من صغر سن معاذ بن جبل رضي الله عنه فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا تحدَّثُوا وفيهم معاذ نظروا إليه هيبَةً له (¬2). وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجالية فقال: (من أراد الفقه فليأت معاذ بن جبل)، وحَدَّث ابن مسعود رضي الله عنه فقال: (إن معاذ بن جبل كان أمةً قانتًا لله حنيفًا ولم يكن من المشركين) (¬3). ومع هذه الخلال كلها ومع هذه الرفعة والمنزلة في الدنيا، فله نصيب وافر من المنزلة في الأخرى، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن معاذًا يحشر يوم القيامة بين يدي العلماء برتوه» (¬4). فإذا كان هذا مقامه بين العلماء فلا تسأل عن مقامه من دونهم؟ ولهذا وصفه أبو نعيم فقال: معاذ بن جبل إمام الفقهاء وكنز العلماء (¬5). قال أحد الرواة لابن مسعود: إن إبراهيم كان أمةً قانتًا لله حنيفًا ولم يكن من المشركين، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: (عن الأمة: معلم الخير، والقانت: المطيع، وإن معاذًا رضي الله عنه كان كذلك) (¬6). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم ووافقه الذهب، 1/ 453. (¬2) السابق 1/ 453. (¬3) صححه الحاكم ووافقه الذهبي وعلق بعضه البخاري 1/ 451. (¬4) الرَّتوة: هي رمية السهم، وقيل مَدُّ البصر. (¬5) الإصابة 9/ 220. (¬6) السير 1/ 451.

أجل لقد كان معاذ رضي الله عنه أُمةً في علمه، وأُمَّةً في عمله، كان قارئًا للقرآن، قائمًا لله في الليل والناس نيام، وفي حواره مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كما في البخاري وغيره- ما يكشف ذلك- قال معاذ لأبي موسى رضي الله عنهما- حين بعثا لليمن-: كيف تقرأ القرآن؟ قال أبو موسى: أقرؤه في صلاتي، وعلى راحلتي، وقائمًا وقاعدًا، أتفوقه تفوقًا، يعني شيئًا بعد شيء، ثم قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، قال الراوي: وكان معاذ فضّل على أبي موسى (¬1). وكان زاهدًا ورعًا، وقد لحقه دَين فلم يبرح به غُرَماؤه حتى باع ماله وقسمه بينهم فقام ولا مال له، ثم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ليجبره، وحين قدم من اليمن ومعه رقيق لقى عمر بمكة، فقال له: ما هؤلاء؟ قال: أهدوا إلىِّ قال: ادفعهم إلى أبي بكر، فأبى، فبات فرأى (في المنام) كأنه يُجَر إلى النار وعمر يجذبه، فلما أصبح قال: يا ابن الخطاب ما أراني إلا مطيعك، إلى أن قال: فدفعهم أبو بكر إليه- لمعرفته بحاله- ثم أصبح فرآهم يصلون، قال: لمن تصلون؟ قالوا: لله، قال: فأنتم لله (¬2). وكان رضي الله عنه واعظا صادقًا وناصحًا حكيمًا، فقد مرَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم برجل، فقال: أوصوني، فجعلوا يوصونه، وكان معاذ في آخر القوم فقال: أوصني يرحمك الله، قال: قد أوصوك فلم يألوا، وإني سأجمع لك أمرك: اعلم أنه لا غنى بك عن نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك إلى الآخرة أفقر، فابدأ بنصيبك من الآخرة فإنه سيمر بك على نصيبك من الدنيا فينتظمه، ثم يزول معك أينما زلت (¬3). ¬

(¬1) السير 1/ 449، والصحيح مع الفتح 8/ 60، 62. (¬2) أخرجه بن سعد وأبو نعيم والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، السر 1/ 554. (¬3) أخرجه أحمد في الزهد .. السير 1/ 455.

كما كان رضي الله عنه ملاذًا للناس، شأنه كشأن العالم العامل، يفزعون إليه حين الشدة، فيسليهم، ويعلمهم أزمان وظروف الفتن والمحنة، وحين اشتدَّ الوجع بالمسلمين في طاعون عمواس صرخ الناس إلي معاذ: ادع الله أن يرفع عنا هذا الرجز، فقال: إنه ليس برجز ولكن دعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وشهادة يخص الله بها من يشاء منكم، أيها الناس أربع خلال من استطاع إلا تدركه، قالوا: ما هي؟ يأتي زمان يظهر فيه الباطل ويأتي زمان يقول الرجل: والله ما أدري ما أنا، ولا يعيش على بصيرة ولا يموت على بصيرة (¬1). أيها الأحبة كيف خرجت هذه النوعية- وأمثالها كثير- كيف تعلمت، وكيف تربت، ما هي مجالات التربية التي امتازت بها، وميزت بها على الآخرين، تلك معالم تربوية تستحق الجمع والاهتمام ونماذجها قمم إيمانية صالحة للقدوة في كل زمان ومكان، وهذه وتلك تستحق أن تكون مجالاً للحديث في خطب لاحقة بإذن الله والله المستعان وعليه التُّكْلان. ¬

(¬1) رواه بن سعد، السير 1/ 457.

من أحكام الحج وأخطاء الحجاج

من أحكام الحج وأخطاء الحجاج (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، منَّ على عباده بمواسم الخيرات ليغفر لهم الذنوب، ويجزل لهم الهبات، أشكره تعالى وقد خص بالفضيلة أيامًا معدودة. وأماكن محدودة، الموَفَّق من اغتنمها بطاعة الله، والمغبون من فرط فيها مع قدرته عليها، وأشهد أن لا إله إلا الله أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة. ورضي لنا الإسلام دينًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، علم الأمة ما ينفعهما، ووجهها للعبادة، وفق ما شرع الله وهو القائل: «صلوا كما رأيتموني أصلي». وقال: «خذوا عني مناسمكم». اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطاهرين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، فأوصي نفسي وإياكم معاشر المسلمين بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين. قال تعالى: { .. وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (¬2). إخوة الإيمان، وحديثي إليكم عن شيءٍ من أحكام الحج وأخطاء الحجاج. وأبدأ الحديث مذكرًا بأهم أمر ينبغي أن يتذكره المسلم ويتمثله في كل عبادة لله - ومنها الحج- ألا وهو إخلاص العمل لله، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وعبادة الله ¬

(¬1) 28/ «/ 1415 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 131.

وفق ما شرع الله، فلا رياء، ولا سمعة، ولا جهل، ولا إخلال بالسنَّة، أولئك هم الذين يرجون لقاء ربهم، وأولئك هم الذين يتقبل الله أعمالهم. قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (¬1). {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (¬2). وحرىٌّ بمن عزم على السفر للحج أن يوصي أهله بتقوى الله، وأن يكتب وصيته، وماله وما عليه، وأن يبادر بالتوبة النصوح، ورد المظالم وقضاء الديون، لأنه لا يدري ما يعرض له، كما أن عليه اختيار الرفقة الصالحة، ومعرفة أحكام السفر والحج. فإذا وصل الميقات سنَّ له أن يغتسل ويتنظف، ويتخذ من شعره وأظافره ما يحتاج إلى أخذ، وليس هذا من خصائص الإحرام، ولكنه مطلوب عند الحاجة، وهو سنة، ولذا قال بعض أهل العلم إن من كانت له أضحية وعزم على الحج فإنه لا يأخذ من شعره وأظافره إذا أراد الإحرام، لأن هذا سنة، فيرجح جانب الترك المنهي عنه، على جانب الأخذ المسنون، وهذا بخلاف التقصير أو الحلق للعمرة أو للحج فإن ذلك نسك فلا بد منه (¬3). فإذا اغتسل، وتنظف، وتطيب في جسده- دون إحرامه- ولبس ثياب الإحرام استحب له أن يحرم عقيب صلاة مفروضة إن كانت، وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه كما رجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله (¬4). ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 110. (¬2) سورة المائدة، الآية: 27. (¬3) مجالس عشر ذي الحجة للفوزان / 17، 37، وأحال إلى الشيخ العثيمين في مفيد الأيام 1/ 319. (¬4) الفتاوى 26/ 108.

واستحب له كذلك قبل الدخول في الإحرام أن يحمد الله، ويسبحه، ويكبره، لحديث أنس رضي الله عنه، وفيه: (ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استوت به راحلته على البيداء، حمد الله، وسبح، وكبر، ثم أَهَل بحج وعمرة) (¬1). وهذا من السنن التي قلَّ من يتفطن لها، ولذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وهذا الحكم وهو استحباب التسبيح، وما ذكر معه قبل الإهلال، قلّ من تعرض لذكره مع ثبوته) (¬2). ثم ينوي بقلبه الدخول في النسك الذي يريد، فإن كان قارنًا قال: لبيك عمرةً وحجًا، وإن كان متمتعًا قال: لبيك عمرةً متمتعًا بها إلى الحج، وإن كان مفردًا قال: لبيك حجة (¬3). ومعنى التمتع أن يحرم بالعمرة ثم يفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه، وعليه هدي كما أن عليه طوافًا وسعيًا للعمرة، وطوافًا وسعيًا آخر للحج، ولكثرة أعماله، ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم به أصحابه، اعتبره عدد من العلماء أفضل أنواع النسك (¬4). أما القران فمعناه أن يحرم بالحج والعمرة جميعًا، وعليه هدي كالمتمتع، وليس عليه إلا سعي واحد بين الصفا والمروة فإن سعى مع طواف القدوم كفاه عن سعي الحج أيام التشريق، أما طواف القدوم فلا يكفيه عن طواف الحج أيام التشريق، لأن هذا الطواف ركن في الحج لجميع الحجاج لا يبدأ إلا في يوم العيد. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه/ ح 1551. (¬2) الفتح 3/ 412. (¬3) الفتاوى 26/ 154. (¬4) الفتاوى 26/ 34، 54، مجالس عشر ذي الحجة/ 41، 42.

أما الإفراد فهو أن يحرم بالحج وحده، وليس عليه هدي، أما في الطواف والسعي فهو مثل القارن ليس عليه إلا سعي واحد، أما الطواف فيلزمه طواف الحج في أيام التشريق، ولو طاف للقدوم (¬1). ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الحجاج إعلانهم النية، كأن يقول: اللهم إني نويت الإحرام بالحج متمتعًا أو قارنًا أو مفردًا، فهذا لا ينبغي لأن النية محلها القلب والتلفظ بها بدعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: تنازع العلماء هل يستحب أن يتكلم بذلك، كما تنازعوا هل يستحب التلفظ بالنية في الصلاة؟ والصواب المقطوع به أنه لا يستحب شيء من ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع للمسلمين شيئًا من ذلك، ولا كان يتكلم قبل التكبير بشيءٍ من ألفاظ النية، لا هو ولا أصحابه (¬2). وهذا التلفظ بالنية المنهي عنه غير رفع الصوت بالتلبية في النسك الذي يريد- كما تقدم- فهذا مطلوب، فيكتفي الحاج المتمتع بالقول لبيك عمرة متمتعًا بها إلى الحج، والقارن لبيك عمرة وحجًا، والمفرد لبيك حجًا، ويسن رفع الصوت بالتلبية للرجال، وتخفيها النساء وهي من شعائر الحج، وفي فضلها قال عليه الصلاة والسلام: «ما من ملبٍ يلي إلا لبى ما عن يمينه وعن يساره من شجر، وحجر حتى تنقطع الأرض من هنا وهناك» (¬3). قال عليه الصلاة والسلام: «أمرني جبريل برفع الصوت في الإهلال فإنه من شعائر الحج» (¬4). فإذا وصل الحاج إلى البيت قدم رجله اليمنى، وقال ما ورد عند دخول ¬

(¬1) مجالس عشر ذي الحجة ص 55. (¬2) الفتاوى 26/ 105. (¬3) رواه ابن خزيمة والبيهقي بسند صحيح، مناسك الحج للألباني/ 17، مجالس الفوزان/ 41. (¬4) رواه أحمد وابن خزيمة وسنده صحيح، الفوزان/ 40.

المسجد، ثم قصد الحجر إن تيسر له ذلك دون مزاحمة، وإيذاء الآخرين، وقبَّله وإلا استلمه بيده اليمني، فإن لم يتيسر أشار إليه، ثم يبدأ الطواف قائلاً: (بسم الله والله أكبر) اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعًا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ويكثر من الدعاء والذكر وتلاوة القرآن، بقلب خاشع متأمل، وليس للطواف أدعية مخصوصة بكل شوط، ومن أخطاء الحجاج أنهم يصطحبون معهم حال الطواف أدعية مكتوبة قد لا يفقهون معناها، بل ولا يحسنون نطقها، ولو أنهم دعوا بما عرفوا ويفقهون لكان أولى لهم وأحرى باستجابة دعائهم، فإذا وصل إلى الركن اليماني استلمه من غير تقبيل إن تيسر، ويقول بين الركنين. {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، وكلما مر بالحجر الأسود كبّر مرةً واحدة، وأشار إليه بيده اليمنى إن لم يتيسر تقبيله ولا استلامه. وهنا خطأ يقع فيه كثير من الحجاج وهم يقبِّلون أو يستلمون أو يتمسحون بجوانب من البيت أو المقام، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولا يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين دون الشاميين فإن النبي صلى الله عليه وسلم استلمهما خاصة لأنهما على قواعد إبراهيم، والآخرين هما في داخل البيت .. وأما سائر جوانب البيت ومقام إبراهيم، وسائر ما في الأرض من المساجد وحيطانها، ومقابر الأنبياء والصالحين كحجرة نبينا صلى الله عليه وسلم، ومغارة إبراهيم .. وصخرة بيت المقدس فلا تستلم ولا تقبل باتفاق الأئمة (¬1). ويستحب في طواف القدوم الاضطباع والرمل، والاضطباع أن يجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن وطرفه على عاتقه الأيسر، فيكون المنكب الأيمن، ¬

(¬1) الفتاوى 26/ 121.

مكشوفًا إظهارًا للجلادة في مقام العبادة، ويظن البعض أن الاضطباع من حين يحرم إلى أن يخلع ثياب الإحرام، وإنما محله الطواف فقط، قال ابن عابدين: (والمسنون الاضطباع قبيل الطواف إلى انتهائه لا غير) (¬1). أما الرمل فهو إسراع المشي مع تقارب الخطا من غير وثب، وهو في الأشواط الثلاثة الأولى فقط إن تيسر، فإذا فرغ من الطواف سوى رداءه وصلى ركعتي الطواف خلف المقام، أو في أي مكان من البيت إن لم يتيسر، يقرأ في الأولى (الكافرون) وفي الثانية (قل هو الله أحد) ثم يذهب إلى الصفا والمروة ليسعى بينهما مبتدئًا بما بدأ به (الصفا) ويرقى عليه، ويستقبل القبلة ويوحد الله ويكبره ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده- يكرر هذا ثلاث مرات، ويدعو بين ذلك رافعًا يديه- كما ثبت ذلك من حديث جابر رضي الله عنه في صحيح مسلم رقم (1218). وهذا الذكر والدعاء قلَّ من يتمسك به مع ثبوته، ثم يسعى إلى المروة، ويسرع بين العلمين الأخضرين، ويدعو ويذكر الله بما شاء، أو يتلو القرآن، ومن الأدعية الثابتة في السعي، عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما: (رب اغفر وارحم إنك أنت الأعز الأكرم) (¬2). وعلى الحاج أن يتذكر بشكل عام عظمة هذه المشاعر وهو يؤديها، فلا يتحرك جسمه، وقلبه سارح عن الهدف والحكمة منها، وفي السعي مثلاً، قال أهل العلم في حكمته: 1 - أن يشعر الساعي بأن حاجته إلى الله وفقره إلى خالقه كحاجة وفقر أم إسماعيل عليه السلام في ذلك الوقت الضيق والكرب العظيم. ¬

(¬1) الفوزان ص 51. (¬2) صححه الألباني، كما نقل الفوزان/ 54.

2 - وليتذكر أن من كان يطيع الله كإبراهيم عليه السلام، لا يضيعه، ولا يخيب دعاءه، وهذه حكمة بالغة ظاهرة دلَّ عليها حديث صحيح- كما قال الشنقيطي رحمه الله (¬1) - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (¬2). ¬

(¬1) أضواء البيان 5/ 318. (¬2) سورة البقرة، الآية: 197.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. إخوة الإيمان .. فإذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن، أحرَم من لم يكن مُحرِمًا بالحج، فإذا كان فجر التاسع تحرك الحجاج إلى عرفات (والحج عرفة) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والوقوف بها يبدأ من زوال الشمس إلى تحقق الغروب، وينبغي التأكد من الوقوف بعرفة فإن بطن عرنة ليست من الموقف، ولا يجوز للحاج أن ينصرف إلا بعد تحقق الغروب وينبغي استشعار عظمة هذا اليوم واستثماره بالذكر والدعاء وتلاوة القرآن مع حضور القلب وخشوعه، فما رُئِي الشيطان أحقر ولا أذل منه في يوم عرفة، إلا ما رؤيَ في يوم بدر، ويخطئ بعض الحجاج في عدم استثمار هذا اليوم وإضاعته بكثرة الأحاديث التي لا قيمة لها، أو غيرها أولى منها، ويخطئ آخرون بإضاعة وقتهم في صعود جبل الرحمة فهو لا أصل له ولا فضيلة فيه، قال الشنقيطي: وما قاله الطبري والماوردي في استحباب ذلك لا يعول عليه (¬1). قال عليه الصلاة والسلام مبينًا قيمة الدعاء في هذا اليوم: «خير الدعاء دعاء عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» (¬2). ¬

(¬1) أضواء البيان 5/ 263، 264. (¬2) حديث حسن رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما (صحيح سنن الترمذي 2/ 184، صحيح الجامع الصغير 3/ 121).

فإذا تحقق الغروب سار الحجاج إلى مزدلفة ملبين بسكنية ووقار، فإذا وصلوا مزدلفة صلوا بها المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا ثم يبيتون بها، حتى إذا أصبحوا صلوا الفجر في أول وقتها- كما جاء عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم- ثم يستقبلون القبلة يذكرون الله تعالى ويدعونه حتى يسفروا جدًا، ثم يدفعون إلى مِنى قبل طلوع الشمس ملبين وعليهم السكينة، والمبيت بمزدلفة واجب لا ينبغي التساهل فيه، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للضعفاء أو أصحاب الأعذار بالدفع منها بعد مغيب القمر. فإذا وصل الحجاج إلى منى رَمَوا جمرة العقبة- وهي أقرب الجمرات إلى مكة- بسبع حصيات ولا يرمون غيرها في هذا اليوم، أما اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر لمن تأخر فيرمي الجمرات الثلاث مبتدئًا بالصغرى ثم الوسطى ثم العقبة، وهنا عدة أمور يحسن التنبيه عليها في الرمي: 1 - أن الرمي كغيره من أعمال الحج لإقامة ذكر الله- كما ورد في الحديث- وهذه حكمة عامة، وهناك حكمة خاصة ألا وهي تذكر موقف إبراهيم عليه السلام حين أتى المناسك فاعترض له الشيطان في جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، ثم عرض له في الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الشيطان ترجمون وملة أبيكم تتبعون). فالاقتداء بأبينا إبراهيم عليه السلام مطلب، واستشعار عداوة الشيطان مطلب، كذلك الرمي بالحجارة من أكبر مظاهر العداوة (¬1). 2 - من السنة بعد رمي الجمرة الأولى والثانية التوقف بعدهما بالدعاء، فتلك ¬

(¬1) ذكره الشنقيطي رحمه الله، أضواء البيان 5/ 316.

من السنن المهملة عند كثير من الحجاج، أما جمرة العقبة فلا دعاء عندها لا يوم النحر ولا أيام التشريق. 3 - ينبغي أن يتأكد الرامي من وقوع الحصى في المرمى، وموضع الرمي مجتمع الحصى لا ما سال منه ولا الشاخص، يخطئ من الحجاج من يرمي من بُعد وقد تقع في المرمى وقد لا تقع، ويظهر آخرون أصواتًا عند الرمي لم تَرِد، ويستخدم البعض النعال عند الضرب، وكل هذا جهل. 4 - ومن أشد الأخطاء التي تمارس حال الرمي إظهار القوة واستخدام العنف مع المسلمين مما يتسبب في مضايقة المسلمين وربما أدى إنما هلاكهم فليتق الله الحجاج وليرفقوا بأنفسهم وإخوانهم المسلمين. 5 - ويتسامح بعض الحجاج في التوكيل بالرمي ولو لم يكن هناك حاجة، والأدهى والأمر أن بعضهم يوكل ويسافر عائدًا إلى بلده، والأولى عدم التوكيل إلا لحاجة شرعية. 6 - ويجوز تأخير الرمي في اليوم الحادي عشر إلى اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر لأن أيام التشريق كلها وقت للرمي، فيرمي عن الحادي عشر ثم يرجع ويبدأ الرمي عن اليوم الثاني عشر، وهذا أولى من التوكيل. كما يجوز الرمي ليلاً قال النووي: (الرمي في الليل فيه وجهان أصحهما الجواز) (¬1). وبعد رمي جمرة العقبة ينحر المتمتع والقارن هديه- وكل أيام التشريق وقت للهدي- لكن هنا ينبغي التنبيه لكون النحر في الحرم، فمن ذبح هديه خارج ¬

(¬1) شرح المهذب- عن مجالس عشر ذي الحجة ص 63، وبجواز الرمي ليلاً صدر قرار هيئة كبار العلماء (نقله ابن بسام في: نيل المآرب 2/ 438، الفوزان والمجالس ص 64.

حدود الحرم في عرفة أو غيره من الحل لم يجزئه على المشهور (¬1). وينتبه للسِّن المشروعة في الهدي، ويأكل ويهدي ويتصدق منها ثم يحلق رأسه أو يقصر والحلق أفضل، فإذا أتم الحجاج رمي الجمار في اليوم الثاني عشر لمن تعجل، وفي اليوم الثالث عشر لمن تأخر، وعلى من أراد التعجل أن يخرج قبل غروب الشمس، عادوا إلى البيت ليطوفوا طواف الوداع لمن طاف للحج وسعى، ومن أخَّر طواف الإفاضة- وهو طواف الحج- فطافه عند الخروج أجزأ عن الوداع، لكن ينويه للحج لأنه ركن، وطواف الوداع يدخل ضمنه. وعلى الحاج أن يسال الله ويبتهل إليه دائما بالدعاء وطلب القبول، ومغفرة الذنوب .. فتلك مواطن تُسْكَبُ فيها العبَرات، وتُسْتجاب فيها الدعوات، ويُكفِّر الله بها السيئات. وعلى الحاج، كذلك، أن يتعرَف على إخوانه المسلمين، ويعاون المحتاج منهم، ويعلم الجاهل، فالحج فرصةٌ لتعارف المسلمين، وتآلفهم، وتعاونهم على البر والتقوى. وإطعام الطعام من بر الحج، وإهداء الأشرطة أو الكُتيِّبات النافعة من سبيل الدعوة إلى الله. أيها المسلمون جميعًا، وستظلكم هذه الأيام أيام فاضلة عند الله، ألا وهي عَشر ذي الحجة، أقسم الله بها في كتابه فقال: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (¬2)، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فضلها بقوله: «مَا مِن أيامٍ، العمل الصالح فيهن أحبُّ إلى الله منه في هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا ¬

(¬1) شرح المهذب 8/ 190، 191، الفوزان/ 60. (¬2) سورة الفجر، الآية: 1، 2.

الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء» (¬1). فاغتنموا هذه الأيام- رحمكم الله- بأنواع الطاعات، ولا تكن الأيام عندكم سواء، واسألوا الله التوبة والمغفرة والقبول، وألحوا على الله بإصلاح أحوال المسلمين، ونصرة هذا الدين فإن الله سميع مجيب. واعلموا- رحمكم الله- أنه يجب على من أراد أن يضحي أن يُمسك عن الأخذ من شعره وظفره وبشرته، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويُخطئ بعض المضحين، ولاسيما النساء، حين يوكَل قريبًا له في أُضحيته حتى يأخذ أو تأخذ هي من شعرها وهذا غير صحيح، فالحكم متعلقٌ بالمضحي، سواء وكَّل غيره أم لا، والذي يظهر، كما قال أهل العلم، أن هذا الحكم يخص صاحبَ الأضحية، ولا يعم الزوجة ولا الأولاد إذا أراد أن يشركهم في الثواب، إلا إن كان لأحدهم أضحية تخصه (¬2). اللهم هيئ للمسلمين حجهم، ويسر للمسلمين عباداتهم .. وتقبلها منهم إنك سميع الدعاء. ¬

(¬1) أخرجه البخاري وغيره. (¬2) ابن عثيمين: أحكام الأضحية والزكاة ص 55.

بين همي الدنيا والآخرة

بين هَمي الدنيا والآخرة الخطبة الأولى: الحمد لله رب العالمين أغنى وأقنى، وأهلك عادًا الأولى وثمود فما أبقى وأشهد أن لا إله إلا الله له الآخرة والأولى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله كان عيشه وأهل بيته كفافًا، وما شبعوا ثلاثًا تباعًا من خبز البر حتى فارقوا الدنيا .. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين فتلك وصية الله للأولين والآخرين: {وَللَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (¬1)، إخوة الإسلام، وهناك حقيقة يشهد بها الواقع ويجليها المصطفى صلى الله عليه وسلم فيقول: «من كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همَّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدم له» (¬2). وبنظرة متأملة في كلمات هذا الحديث الشريف يتبين أولاً أن الغنى ليس عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفوس، كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث آخر. ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 131. (¬2) الحديث رواه الترمذي، وصححه الألباني، صحيح الجامع الصغير 5/ 349، وضعفه محقق جامع الأصول 11/ 11.

ويشهد الواقع أن عددًا من الناس يملكون القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام والحرث، ومع ذلك يعيشون النكد في حياتهم ولا يشعرون بلذة المال، ولا راحة البدن، كدحًا وتفكيرًا، وهمومًا، ومشاجرة وخصومة، ومنعًا وحرمانًا للفقراء والمساكين، والأصحاب الأقربين. ويهدي الحديث ثانيًا أن الآخرة هي الأصل في تفكير الإنسان، وهي التي تستحق أن تبذل لها الأوقات، ويتنافس فيها المتنافسون، وهي التي ينبغي أن تستحوذ على تفكير الإنسان، وفيها ينبغي أن تكون همومه وآماله وأمانيه. وفوقها ما في التفكير في الآخرة من جمع الشمل، وإراحة الفكر، وغنى النفس، فليس يفوت على الإنسان بسبب الانشغال بها ما كتب الله له من نصيبه في الحياة الدنيا. وفي مقابل ذلك فإن كثرة التفكير في الدنيا لا يدعو إلى الغنى ولا يسلم صاحبها من تشتت الشمل، بل هو طريق إلى الفقر، إذ ليس يأتي للمرء من الدنيا إلا ما قدر الله له وقضى. وعلينا- إخوة الإسلام- ونحن نعي هذا الحديث جيدًا أن نعي معه الحديث الآخر الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال» (¬1). والله تعالى يمتحن الناس بهذا المال، كما يمتحنهم بالأزواج والأولاد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (¬2). ¬

(¬1) حديث صحيح رواه الترمذي، صحيح سنن الترمذي 2/ 73. (¬2) سورة التغابن، الآيتان: 14، 15.

فمن الناس من يتخذ المال وسيلة للكبر والبطر، أو الشح والبخل، أو للغفلة عن ذكر الله والطغيان على العبودية لله رب العالمين، قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (¬1). {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (¬2). ومن الناس من يسعده المال، ويسعد هو بالمال، فهو يعرف لله فيه حقًا، ينفق منه ذات اليمين، وذات الشمال، يأخذه من حله، ويصرفه في مصارفه الشرعية، لا يلهيه عن ذكر الله، ولا يطغيه أو يدعوه لازدراء خلق الله، أولئك في أموالهم حق للسائل والمحروم، وأولئك من أهل الإيمان والتقى كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (¬3). إخوة الإيمان، وليس يخفى أنَّ أودية الدنيا سحيقة، وشعابها كثيرة متفرقة، والخلاص من فتنتها والسمو عن زخرفها والنجاة من غرورها يحتاج إلى مجاهدة للنفس، واستعانة بالعلي الأعلى، فحب الدنيا مغروس في النفوس. {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} (¬4). وكلما زاد المال أو تقدم بالإنسان السن زاد ولعه وتعلقه بالدنيا، وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «يهرم ابن آدم ويشب منه اثنتان: الحرص على العمر، والحرص على المال» (¬5). ¬

(¬1) سورة العلق، الآيتان: 6 - 8. (¬2) سورة القصص، الآية: 78. (¬3) سورة الذاريات، الآيات: 15 - 19. (¬4) سورة الفجر: الآية: 20. (¬5) حديث صحيح رواه الترمذي وابن ماجه، صحيح سنن الترمذي 2/ 273.

عباد الله وإذا كانت تلك حقائق يشهد الواقع بها ويؤكدها القرآن والسنة، فما سبيل الخلاص من فتنة الدنيا المهلكة؟ إن أول طريق للخلاص هو التفكير المستمر في الآخرة، وإعطاؤها ما تستحق من الجهد والوقت والتفكير، ففي القلب استعداد للانصراف للآخرة، كما فيه استعداد للانصراف للدنيا، وحين تزاحم إحداهما الأخرى، فسيكون نصيب المغلوب ضئيلاً، سواء كان ذلك للآخرة أم الدنيا، وليختر العاقل ما شاء بين متاع الغرور وبين النعيم الدائم والحبور. وثمة أمر آخر يعين على الخلاص من فتنة الدنيا، ألا وهو القناعة بما رزق الله والكفاف بالعيش، وفي الحديث الصحيح: «طوبى لمن هُدي للإسلام، وكان عيشه كفافًا وقنع» (¬1). والإسلام يصحح المفهوم الخاطئ في الغنى، ويعتبر الأمن، والعافية والقوت القليل تعدل الدنيا بأسرها، فعن عبيد الله بن محصن الخطمي رضي الله عنه، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا» (¬2). ذلك يعدل النظرة السائدة .. ويطامن من كبرياء النفوس نحو التعلق بالمال، وجمع الحطام، ويدعو إلى القناعة والرضى والعفاف والغنى بالمال، بل هو سبيل إلى عدم التشاغل والتلهي الزائد بالدنيا، كما قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} (¬3). ¬

(¬1) صحيح سنن الترمذي 2/ 275. (¬2) صحيح سنن الترمذي 2/ 274. (¬3) سورة التكاثر، الآية: 1، 2.

عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: (ألهكم التكاثر) قال: «يقوله ابن آدم: مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» (¬1). أيها المسلمون، ومما يعين على الخلاص من فتنة المال، أن يعلم الناس أن المسكنة ليست عيبًا، فهذا صفوة الخلق صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول: «اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة» (¬2). ويسري عن الفقراء، وهو يخبر، أنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء فيقول: «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وهو خمسمائة عالم» (¬3). وفي رواية: «يدخل فقراء المسلمين قبل أغنيائهم بأربعين خريفا» (¬4). إخوة الإيمان، وتأملوا هذا العلاج النبوي للخلاص من هموم الدنيا، يصفه النبي صلى الله عليه وسلم لكل علاج ويقول: «من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» (¬5). إنه التوكل الحق على الله، والاستغناء به وحده عما سواه، وسؤال الله وحده والالتجاء إليه لكشوف الكربة، وإزالة الغمة، والله هو الغني الحميد، وهو أكرم الأكرمين، ومن رفع يديه إليه سائلاً لا يمكن أن تعود إليه صفر اليدين، إنها دعوة للتعفف عما في أيدي الناس، وهي تحذير عن المسألة، إلا في الحدود المأذون ¬

(¬1) رواه مسلم انظر: مختصر مسلم للمنذري ص 580 ح 2178. (¬2) رواه الترمذي وابن ماجه بسند صحيح، صحيح سنن الترمذي 2/ 275. (¬3) رواه الترمذي، وقال حسن صحيح، صحيح سنن الترمذي 2/ 276. (¬4) صحيح سنن الترمذي 2/ 275. (¬5) رواه الترمذي وأبو داود بسند صحيح، صحيح سنن الترمذي 2/ 270، 271.

بها شرعًا، فأين الواثقون بالله يسد فاقتهم، وأين المستعينون بالله وحده يقضي حوائجهم؟ ! أيها المسلمون، وفضل الله واسع، ورحمته تنال في الدنيا والآخرة لمن وفقه الله، وهمة المرير ينبغي ألا تكون قصرًا على الدنيا. فالله تعالى يقوله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (¬1). والمعنى: يا من ليس همه إلا الدنيا، اعلم أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة، وإذا سألته من هذه أعطاك، وأغناك، وأقناك، كما قال تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ (200) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬2). قال ابن كثير: وزعم ابن جرير أن المعنى في قوله: (من كان يريد ثواب الدنيا) أي من المنافقين الذين أظهروا الإيمان لذلك (فعند الله ثواب الدنيا) أي ما حصل لهم من المغانم وغيرها مع المسلمين، وقوله (والآخرة) أي وعند الله ثواب الآخرة، وهو ما ادخره لهم من العقوبة في نار جهنم. قال ابن كثير: ولا شك أن هذه الآية معناها ظاهر، وأما تفسير الآية الأولى بهذا ففيه نظر، فإن قوله: (فعند الله ثواب الدنيا والآخرة) ظاهر في حضور الخير في الدنيا والآخرة .. فلا يقتصرن قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة (¬3) ... ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 134. (¬2) سورة البقرة، الآيات: 200 - 202. (¬3) تفسير ابن كثير 2/ 384.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (¬1). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه .. ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 58.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالين، أحمده تعالى على مزيد نعمه، وعظيم إحسانه. وأشكره وأسأله المزيد من فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى الآل والأصحاب أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين. أيها الإخوة المؤمنون، أيتها الأخوات الآمنات، وإذا أردتم أن تزدادوا معرفةً بقيمة الدنيا وحقارتها وهوانها، وعظيم قدر الآخرة، واستحقاقها للسعي وبذل الجهد، فتأملوا في عيش خيار الخلق، وصفوة الأمة وخير القرون. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم- كما تقول عائشة رضي الله عنها - (ما شبع من خبز شعيرٍ يومين متتابعين حتى قبض) (¬1). ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويًا، وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير) (¬2). وسئل سهل بن سعد رضي الله عنه: أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي؟ يعني الحواري، فقال سهل: ما رأى رسول الله صلى الله عله وسلم النقي حتى لقي الله، فقيل له: هل كانت لكم مناخل؟ قال: ما كانت لنا مناخل، قيل: كيف تصنعون بالشعير؟ قال: كنا ننفخه فيطير منه ما طار ثم نثريه فنعجنه) (¬3). ¬

(¬1) صحيح سنن الترمذي 2/ 276. (¬2) رواه الترمذي وابن ماجه بسند حسن، صحيح سنن الترمذي 2/ 276. (¬3) رواه الترمذي وابن ماجه بسند صحيح، صحيح سنن الترمذي 2/ 277.

والخبز الحواري: هو الذي نخل مرة بعد أخرى (¬1). وليس يخفى أنه عليه الصلاة والسلام ربما ربط على بطنه الحجر والحجرين من الجوع، وهو الذي لو شاء وسأل الله أن تتحول له الجبال ذهبًا لأجابه .. ولكنه عرف قدر الدنيا وآثر عليها الآخرة .. وكذلك كان أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، واسمعوا إلى واحد من خيارهم يشخص حالته ونفرًا من أصحابه فيقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: إني لأول رجل أهراق دمًا في سبيل الله، وإني لأول رجلٍ رمى بسهم في سبيل الله، ولقد رأيتني أغزو في العصابة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما نأكل إلا ورق الشجر، والحبلة حتى إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة والبعير (¬2) .. وعن فضالة بن عبيد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يخرُّ رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصفة، حتى تقول الأعراب: هؤلاء مجانين أو مجانون، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم فقال: «ولو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقةً وحاجةً» قال فضالة: وأنا يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3). أما أبو هريرة رضي الله عنه فَيُحدِّث عن نفسه ويقول: وقد رؤي عليه ثوبان ممشقان من كتان فمخط في إحداهما ثم قال: بخ بخ يمتخط أبو هريرة في الكتان؟ لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجرة عائشة من الجوع مغشيًا عليَّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي يرى أن بي الجنون، وما بي ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث 1/ 458. (¬2) رواه الترمذي بسند صحيح، صحيح سنن الترمذي 2/ 277، (¬3) رواه الزمني وغيره بسند صحيح، صحيح سنن الترمذي 2/ 278.

الجنون، وما هو إلا الجوع (¬1). إخوة الإيمان وما ضرَّ هؤلاء حالهم، ولا انتقص الفقر من أقدارهم، وإذا كُنتُ أسلفتُ أن هناك أغنياء تضيق عليهم الدنيا مع سعتها، ولا تذهب الوحشةَ عنهم أموالُهم رغم كثرتا، فيشهد الواقع أن ثمة طائفة أخرى يعيشون السعادة بكل معانيها، ويحسون بالأمن والطمأنينة بكل ألوانها وليسوا يملكون من الدنيا إلا ما به عن الخلق يستغنون، ولا من العيش إلا ما به يقتاتون .. لكنهم يملكون رصيدًا من الإيمان بالله به يهتدون، ويملكون الرضا والقناعة والزهد في الدنيا وبهذا وذاك يستغنون، وهؤلاء وأولئك يؤكدون قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له» كما سبق الحديث-. وبعد أيها المسلمون، فهذه الدنيا وقدرها، وتلك نماذج من فهم العارفين بها .. أتستحق الاهتمام إلى درجة ينسى فيها المرء الواجبات المتحتمات، أو يتهاون في سبيلها بالكبائر والمحرمات؟ ألا ما بال أقوام يستهينون في جمعها مما حلَّ أو حرَّم، فلا ينتهون عن الربا، ولا يتورعون عن الغش في البيع والشراء، ولا يبالون بالكذب والخداع، وربما فهموها نوعًا من الشطارة في الأخذ والعطاء. وما بال أقوام يستغلون الفرص فيرفعون الأسعار، ويزيدون في السلع دون مبرر لهذا أو ذاك، أو ما علم أولئك أن القليل من الحلال يبارك الله فيه، وأن ¬

(¬1) الحديث رواه البخاري وغيره، انظر الصحيح مع الفتح 13/ 303، وصحيح سنن الترمذي 2/ 277.

الكثير من الحرام يمحقه الله؟ وهل غاب عنهم أن المتضرر إخوانهم، وأنهم يضيفون إلى همومهم همومًا أخرى كان حريًا بإخوانهم أن ينفسوا عنهم وأن يعينوهم، بدل إلحَاق الحيف بهم ومزيد تعنيتهم، ألا فاتقوا الله عباد الله وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، وتراحموا فالراحمون يرحمهم الله. أيها المسلمون، وإذا كان هذا طرفًا من الحديث عن الفقراء الشاكرين، ومن عوامل الزهد والقناعة في الدنيا دون الدين .... فثمة حديث آخر عن الأغنياء الشاكرين، وعن الموسرين الباذلين، أرجئ الحديث عنه لخطبة لاحقة بإذن الله.

الصلاة- بعض فضائلها وأحكامها

الصلاة- بعض فضائلها وأحكامها (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ... أما بعد فحديثي إليكم اليوم معاشر المسلمين عن شعيرة عظمى من شعائر هذا الدين، وركن أساسي من أركان الإسلام، بهذه الشعيرة يحكم على المرء من خلالها بالإسلام أو يوصف بالكفر والنفاق، شعيرة طالما فرط فيها المسلمون .. وطالما أوصى بها النبي الكريم حتى قال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة «الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة وما ملكت أيمانكم» (¬2). هذه الشعيرة التي يجب أن تستنهض همم المسلمين للقيام بها كما أمر الله، ويجب أن يتآزر المسلمون على حفاظ المجتمع المسلم بأسره على آدائها، يستوي في ذلك الذكران والإناث، والصغار والكبار، ويفترق الرجال على النساء في حضور صلاة الجماعة، والأمة إذا لم تستطيع القيام بهذا الواجب فأنى لها أن تتطلع إلى تحقيق أهدافها، أو تعد نفسها بالنصر على أعدائها، أو التمكين في الأرض؟ فالمرء الذي لا يستطيع أن يتغلب على شهوته، أو يتخلص من محبوبات نفسه من أكل أو شرب أو نوم أو عمل أو ما شاكل ذلك ليقطعه إذا نودي للصلاة، غير جدير بأن يتغلب عليها إذا ما ادلهمت الخطوب، وحزبت الأمور، واحتاجت إلى الرجال الأشداء الأقوياء لا في أجسادهم فحسب، بل في هممهم وعزائمهم، وهذه هي القوة الحقيقة. ¬

(¬1) في 16/ 5/ 1412 هـ. (¬2) صحيح الجامع 3/ 366.

أمة الإسلام يا من أفاء الله عليهم بالنعم ... أليس من حق المنعم عليكم أن تشكروه؟ والشكر ليس مجرد كلمات تقال باللسان، بل هو مع ذلك سلوك تصدقه الجوارح، لقد كان أسلافكم فيما مضى في شظف من العيش، وقلة من الدنيا، ومع ذلك كان للصلاة عندهم قدر ومكان ... أفهكذا يكون الشكر؟ أم هكذا يقابل الإحسان؟ وعلى الذين يظنون أن الصلاة ربما عاقتهم عن الرزق والكسب المباح أن يعلموا أن الصلاة سبب للرزق وزيادة في الفضل وقد ورد القرآن الكريم عدة آيات تعد الذين يقيمون الصلاة بالرزق وزيادة الفضل، يقول تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬1). أرأيتم كيف قرن الله بين من لا تلهيهم التجارة ولا البيع عن ذكر الله وعن الصلاة، وبلين الرزق وزيادة الفضل؟ وحتى لا يرد في النفس تساؤل ومن أين يأتي الرزق لمن هو عاكف أو مقيم في المسجد، قال تعالى في نهاية الآية: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬2). ثم تأمل أخي الكريم هذه الآية الأخرى التي تؤكد هذا المعنى وتضمن للمقبلين رزقهم، بل توفيهم وتزيدهم، يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (¬3). ¬

(¬1) سورة النور، الآيات: 36 - 38. (¬2) سورة النور، الآية: 38. (¬3) سور فاطر: الآيتان: 29، 30.

ثم قف مع نفسك وقفة صادقة، أساسها الثقة بما كتب الله، وميزانها الطاعة والاستسلام لأمر الله، وليكن ذلك شأنك مع نفسك وأهلك، وأنت تسمع إلى وصية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم حين أمره بالصلاة وتكفل له بالرزق: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (¬1). أخا الإيمان، نحن لا ننتقدك في طلب الرزق، ولا نفترض أنك ملك كريم لا هم لك إلا الذكر والصلاة، بل من الطبيعي أن تفكر في أمور العيش لك ولمن تعول، ولقد قال من كان قبلك ممن هو أفضل منك كذلك، حتى إذا ما خرج بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد يوم الجمعة والرسول- صلى الله عليه وسلم- يخطب لعلمهم بتجارة قدمت، جاءهم التوجيه الإلهي ليلفت نظرهم إلى أن ما عند الله خير وأبقى، وليؤكد لهم أنه تعالى خير الرازقين: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (¬2). وهو توجيه قرآني تأدب به الصحابة والتزموا به فيما بعد، وعقلوه وحري بك أن تلتزم به، وأن ترعاه وتعقله. أما الذين يفِرُّون من النفاق والمنافقين، ويرغبون لأنفسهم البعد عن صفاتهم وسماتهم لقبح النفاق، وخسة المنافقين، فعليهم أن يعلموا أن التكاسل عن الصلاة من سمات المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} (¬3) وإذا كنت في مقابل ذلك تبحث عن الإيمان فالصلاة من صفات المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ ¬

(¬1) سورة طه، الآية: 132. (¬2) سورة الجمعة، الآية: 11. (¬3) سورة النساء، الآية: 142.

الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬1) وفي سورة (البقرة) يصف الله المتقين بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬2). أخا الإسلام، وإذا ما ضايَقَتْك سيئاتُك يومًا من الدهر، أو آلمك وخز ضميرك المؤنب لثقل الخطايا، فتذكر أن الصلاة وسيلة لتكفير الخطايا والسيئات، قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (¬3). أتدري- أخي في الله- سبب نزول هذه الآية؟ لقد روى البخاري ومسلم في سبب نزول هذه الآية: أن رجلاً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أحبَّ امرأة فقبَّلها قبلةً، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأنزلت عليه: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (¬4) قال الرجل ألي هذه؟ فأجاب المصطفى صلى الله عليه وسلم: بل لمن عمل بها من أمتي (¬5). ألا ما أعظم عفو الله! وما أجمل هذه الصلاة! بل إن الصلاة تمنع صاحبها، ابتداءً، من ارتكاب الفواحش والآثام {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (¬6) والواقع يقول إن المحافظين على ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآيتان: 1، 2. (¬2) سورة البقرة، الآيات: 2 - 5. (¬3) سورة هود، الآية: 114. (¬4) سور هود، الآية: 114. (¬5) انظر الصلاة في القرآن الكريم/ الرومي/ 46. (¬6) سورة العنكبوت، الآية: 45.

الصلوات أقل وأسلم من غيرهم، وأقرب إلى الخير وأبعد عن الشر، والقرآن الكريم يصدق هذا كله {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} (¬1). أيها المسلم، أنت محتاج إلى إعانة الله وتوفيقه إياك في كل لحظة، وفي كل عمل، وفي أي زمان أو مكان، أليس كذلك؟ إذا لم يكن عون من الله للفتى، فأول ما يجني عليه اجتهاده، وإذا كان ذلك كذلك فلا تنس أن في الصلاة عونًا ومساعدة، واستمع إلى خالقك حين يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬2). وقد فقه ذلك خير البرية عليه الصلاة والسلام فكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، واقتفى أثره من بعده صحابته الكرام، فكانت الصلاة ملاذهم عند الشدائد والمحن، ومستراحهم في عتمات الليل والناس هجع، أو في ضحى النهار والناس في هلع، أو عند الصائب والناس شأنهم الجزع. وقد روي أن ابن عباس، رضي الله عنهما، كان في مسيرة فنعي إليه ابن له فنزل، فصلى ركعتين، ثم استرجع، وقال: فعلنا كما أمرنا الله {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (¬3). وهكذا كان خيار الأمة من بعدهم وإلى زماننا هذا، وأنت أحيانًا تسمع عن عالم من العلماء أو داعية من الدعاة، أو مجاهد من المجاهدين تسمع عن هؤلاء أنهم يقومون بأعمال تعجب لقيامهم بها لكثرتها وثقلها على النفس، لكن عجبك يزول حينما تعلم حرص هؤلاء على الصلاة التي اتخذوها وسيلة لمناجاة ربهم ¬

(¬1) سورة المعارج، الآيات: 19 - 23. (¬2) سورة البقرة، الآية: 153. (¬3) ذكره السيوطي في الإكليل، عن الصلاة والقرآن/ 45.

والخلوة بخالقهم وسؤاله الإعانة والتسديد {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} (¬1) بل فوق ذلك تحس أن نفوسهم راضية أو أن حاجاتهم مقضية، وهم في رضا، والناس إليهم مسرعون، وفي مقابل هؤلاء ربما أبصرت شخصًا لا تكاليف عنده، ولا هموم للأمة تطارده، ولا أعمال عظمى تطلب منه، ومع ذلك كله تراه مقصرًا في الواجبات متهاونًا في الطاعات، يستثقل الخفيف الهين ويستصعب السهل اللين، وهو في وحشة مع نفسه، والناس منه في جفوة، فإذا ما فتَّشت عن سيرة هذا الصنف وجدت رصيده من الصلاة ضحلاً ... ومن العبادة بشكل عام نزرًا ... {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} (¬2) ... فتنبهوا معاشر المسلمين لقيمة الصلاة وأهميتها، والبدار البدار إلى تأديتها كما أمر الله، دون كسل أو تهاون أو تفريط. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ (238) فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (¬3). ¬

(¬1) سورة السجدة، الآية: 16. (¬2) سورة الحج، الآية: 18. (¬3) سورة البقرة، الآيتان: 238، 239.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه .... إخوة الإسلام، وبعهد الصلاة أخاطبكم بالإسلام، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» (¬1). فإذا كنت لا ترضى، أخا الإسلام، أن يصفك واصف بغير الإسلام فكيف ترضى لنفسك أن تصلي أحيانًا وتدع الصلاة أحيانًا أخرى؟ وكأن القضية قضية مزاج، بل كيف يسوغ لك أن تصليها أحيانًا في وقتها ثم يشهد الله عليك مرات وكرات أنك أخرتها عن وقتها أو تهاونت في أدائها وربما جمعت بين صلاة والتي تليها دونما عذر يخولك لهذا؟ أخي في الله، أرأيت إن كنت موظفًا أو عاملاً في أي نوع من الأعمال، أتراك ترضى لنفسك أن تذهب يومًا وتدع الذهاب يومًا آخر أو تجتهد في عملك صباحًا، ثم تفرط فيه وقت المساء؟ وحتى لو رضيت لنفسك هذا المسلك ولا أخالك كذلك، فهل ترى هذا الصنيع مرضيًا لمسؤولك أو حتى للمجتمع من حولك. أخي في الله، تفطن أن الناس ربما غفلوا عنك أحيانًا، وربما خفيت عليهم منك بعض هفواتك، لكن خالقك لا تخفى عليه منك خافية، فلا تتخذ من ستره عليك في هذه الحياة فرصة للتمرد والفسوق والعصيان، فليس ذلك من شأن ¬

(¬1) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم، صحيح الجامع 4/ 64.

الكرماء، ولا من شيم الأباة العظماء، وكن دائمًا وأبدأ على حذر، وبئس الرجل أنت إن لم تفق من غفلتك إلا عند سكرات الموت، وعند معاينتك لملك الموت يقبض روحك؟ أخا الإسلام، ليس هناك من البشر من هو معصوم من الخطأ إلا من عصم الله، ولكن هل علمت أن هذه الصلاة شبهت بالنهر الجاري عند بابك فإذا كنت تغتسل منه في اليوم خمس مرات فهل تراه يبقى على جسدك درن؟ ومهما كانت أخطاؤك، فإياك أن تتهاون في الصلاة فتهلك، فهي آخر ما تفقد من الدين، والذي فقد الصلاة فقط قبلها أمور الدين الأخرى، وليس له، إن لم يتب، عند الله من خلاق. أيها المسلم- وقد تكون من المتصدقين المحسنين، وقد تكون من ذوي الأخلاق الفاضلة والطباع الكريمة، وقد تكون بارًا بوالديك أو محسنًا لأقاربك وجيرانك، إلى غير ذلك من أعمال البر التي ترجو أجرها عند الله، لكن هل علمت أن قبول ذلك كله مرهون بالقيام بركن الصلاة- يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله» (¬1). فهل تنبهت إلى هذا الأمر ووضعته نصب عينيك، وهل يقودك هذا الشعور إلى أن يتحسر فؤادك، وينقطع قلبك، حينما تسمع عن أخ لك مقصر في هذه الصلاة، فيقودك ذلك إلى تقديم النصح له بأسلوب طيب وعبارة ناصحة جميلة؟ . أيها المسلمون ... هناك داء قد استفحل، وظاهرة تحتاج إلى المساعدة في ¬

(¬1) صحيح الجامع 2/ 352، 353.

الحل، إنها هجر المساجد، والتهاون بصلاة الجماعة، تلك التي رتب الله عليها من الفضل والأجر ما تعلمون، بل اشترطها كثير من العلماء لصحة الصلاة وقبولها، ولو كان واسعا أحدًا عذر لوسع النبي الرحيم بأمته صلى الله عليه وسلم لذلك الشيخ الكفيف الذي يفصل بينه وبين المسجد واد كثير السباع والهوام .. ولكنه قال له في النهاية «أجب فإني لا أجد لك رخصة» فكيف بمن أفاء الله عليه ببيوت لا تكاد يفصلها عن المسجد إلا بضعة أمتار، والطرق معبدة، والهوام نافرة، والقوة جيدة، والقوى مكتملة؟ إنني أستثير في هؤلاء الرجال همم الرجال الأوفياء ... وأدعوهم إلى مراجعة حساباتهم مع خالقهم، وأذكرهم أن المسلمين لم يدَعُوا صلاة الجماعة وإن كانوا في منازلة الأعداء حيث شرع لهم صلاة الخوف بشكل جماعي ... فماذا يعني ذلك؟ أيها المسلمون لأي شيء عمرت المساجد؟ إذا ساغ لبعض المسلمين أن يفهموا أن بإمكانهم أن يصلوا في بيوتهم ... أهي للجمعة فحسب أم ترونها شيدت لتكون آثارا إسلامية يبصرها الناس؟ كلا كلا ... فالمساجد مكان للرحمة، وموضع للملائكة، وهي شاهدة للمسلم، أو شاهدة عليه بصدق الإسلام والمحافظة على الصلوات والاستجابة لنداء الرحمن. إخوة الإيمان، وإياكم والعزلة عن المسلمين، ففي اجتماع المسلمين الخبير كل الخير .... والذئب إنما يأكل القاصية من الغنم، والشيطان يفرح حينما يدع المسلم الصلاة بالكلية، فإن لم يستطع رضي له بالعزلة عن جماعة المسلمين في البداية ولا يزال يضعفه حتى ينسيه أو يراه يتكاسل في أدائها، واستمع إلى هذا التوجيه النبوي الكريم لتعلم قيمة صلاة الجماعة ... يقول صلى الله عليه وسلم: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو ولا تُقَام فِيهمِ الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم

بالجماعة فإنما يأكل الذئب من القاصية» (¬1). أخي في الله، لا أراك مستغنيًا عن رحمة الله، وراغبًا في النار والنفاق فهل سمعت قول المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يُرَغِّب في صلاة الجماعة، ويقول: «من صلى لله أربعين يومًا في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كُتِبَ له براءتان: براءة من النار، وبراءة كما النفاق» (¬2). أخي في الله، الناس يبحثون عن الضمان وإن كان من البشر، أرأيت الضمان من الله؟ أليس أعز وأغلى؟ ثم إن كان ذلك حاصلاً بسبب خروجك لصلاة الجماعة أفلا يدعوك ذلك للخروج: قال عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله عز وجل، ورجل غازيًا في سبيل الله تعالى، ورجل خرج حاجًا» (¬3). أيها المسلمون، أناشدكم جميعًا بالتعاون على إقامة هذه الشعيرة ونصح المتخلفين عنها، وإياكم والشدة في القول أو الغلظة في الموعظة فما كان الرفق في شيء إلا زانه ... ومن يتق الله ليجعل له مخرجًاأ، ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ... والله هو الغني وأنتم الفقراء، وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ... نفعني الله وإياكم بما نسمع، ورزقنا الإخلاص والتوبة النصوح ... هذا وصلوا .. ¬

(¬1) الحديث أخرجه أحمد، وأبو داود وغيرهما بسند حسن، صحيح الجامع 5/ 162. (¬2) الحديث رواه الترمذي بسند حسن، صحيح الجامع 5/ 317. (¬3) حديث صحيح رواه أبو هريرة، صحيح الجامع 3/ 68.

من أمراض القلوب

من أمراض القلوب (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين مقلب القلوب والأبصار، ومكوِّر الليل على النهار، ومكوِّر النهار على الليل، وفي ذلك آياتٌ لأولي الألباب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلى وسلم عليه وعلى إخوانه وآله، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها المسلمون، اتقوا الله، وراقبوه، وأصلحوا سرائركم يصلح الله علانيتكم، واهتموا بإصلاح وعلاج قلوبكم تستقم وتصلح لكم سائر جوارحكم. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب» (¬2). إخوة الإسلام، ويهتم الناس، كل الناسِ، بعلاج أجسامهم، والحفاظ على سلامة جوارحهم، فتقام المستشفيات، وتزار العيادات، ويستشار الأطباء، ويختص الإخصائيون، كلٌّ بمعالجة جانبٍ من جوانب الجسم، ولا ضير في ذلك ولا جناح، بل كان من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وصف العلاج لذوي الحاجة من المرضى، ولكن الذي ينبغي التنبه له أنه ليس هناك عيادات معلنة لعلاج مرض القلب، وليس هناك مستشفيات تعنى بفساد القلب الذي نريد، ذلك أن ¬

(¬1) 8/ 10/ 1412 هـ. (¬2) متفق عليه، انظر رياض الصالحين، باب الورع ص 220.

العلم المادي توصل إلى معالجة بعض ما يعتري القلب من آفات مادية، وأمراض حسية، أما معالجة القلب من أدوائه الحقيقية، وإصلاح القلب من أدغاله وعلله الباطنية، فذلك ما لا تستطيعه أيدي البشر، وإنما هو من صنع الرحمن، خالق القلوب، ومقلبها، والعالم بمنحنياتها، والخبير بسبل علاجها، وهذا ما يدعونا إلى الوقوف عند هذا الأمر مليًا قبل أن ينتشر فساد القلب فيحتاج إلى استئصال الجوارح كلها، وإذا كان الناس يفزعون لمرض السرطان لسرعة انتشاره وخطره، فليس أقل منه خطرًا مرضُ القلب أو موتُه. وإن كان ليس مدرجًا لكل الناس، أما صاحب القلب نفسه فهو يحس بالخطر، ويتأذى من المرض، لكن ربما لم يدرك حقيقة الأمر، أو لم يهتد بعد للعلاج النافع. وها نحن- أولاً- نعرف بشيءٍ من أمراض القلوب وأدوائها، ثم نعرض بعد حين- بإذن الله- إلى سبيل العلاج والأدوية النافعة للشفاء بإذن الله، والموفَّق من وفقه الله، فأصْغى سمعه، وقوم نفسه، فإن وجد خيرًا فليحمد لله، وإن وجد غير ذلك فلا تزال فرص الإصلاح ميسورة، وطرق الخير مشروعة. وقبل أن نعرض لهذا وذاك، لابد من القناعة بأهمية موقع القلب بالنسبة للإنسان وجوارحه، فهو- كما قيل- مَلِك الأعضاء، وبقيَة الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود مطيعون له، منبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك، فإن كان الملكُ صالحًا كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسدًا كانت جنوده بهذه المثابة فاسدةً، ولابد من العلم كذلك أنه لا ينفع عند الله إلا القلب السليم، كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (¬1). ¬

(¬1) سورة الشعراء، الآية: 88.

ويروى أنه كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «اللهم إني أسألك قلبًا سليمًا» والقلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهات كلها، وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله وخشيته. وقد امتدح الله خليله إبراهيم، عليه السلام، بسلامة القلب فقال: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (¬1). وربط النبي صلى الله عليه وسلم بين استقامة الإيمان، وصلاح القلب فقال عليه الصلاة والسلام «لا يستقيمُ إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل الجنة حتى يأمن جارُه بوائقه» وبوائق الجار غشه وظلمه (¬2). ولهذا كان السلف- رحمهم الله- ينصح بعضهم بعضًا بإصلاح القلب ومداواته، فقد قال الحسن- رحمه الله- لرجل: داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، والمعنى: الإصلاح للقلوب حتى تستقر فيها معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته، ورجاؤه والتوكل عليه، ويمتلئ من ذلك، وهذا هو حقيقة التوحيد، وهو معنى قول: لا إله إلا الله (¬3). إخوة الإسلام، إذا عُلم هذا كله فليُعلَم أن أدواء القلب كثيرة، وأمراضه متنوعة، وعلله وأسقامه خفية، ومن أمراض القلب الغل والحقد والحسد، وهذه مواد فاسدة إذا أُصيب بها القلب حُجب عن النور والخير، وبات دائمًا تأكل هذه الأدواء الفاسدة قلبه، وتحجبه عن السمو والطهر، وهي أدواء غالبًا ما تنشأ من ¬

(¬1) سورة الصافات، الآية: 84. (¬2) الحديث رواه أحمد وفي إسناده على بن مسعدة، ووثقه جماعة وضعفه آخرون، المجمع 1/ 53. (¬3) جامع العلوم والحكم/ 65.

ضعف اليقين، وضحالة التوكل على الله، وإلا فما زوى الله من نعمةٍ عن شخصٍ، لا يمكن أن ينتزعها الناس له ولو اجتمعوا، كما أن ما أصاب المرء من خير لا يمكن أن يرفعه الناس ولو تكالبوا على ذلك وتعاونوا. وثقة المرء دائمًا بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه فيها إراحة للقلب والضمير وفيها قناعة ورضا بالمكتوب .. ولن يحصل الحسود على غير ما قسم الله له، ولن يفلح الحقود بمقصده، ولن يسلم ذو الغل من آفة تقلق مضجعه وتنغص عليه عيشه. ومن أمراض القلب كذلك الكبر والعجب والرياء وهي أَدْواء نسأل الله السلامة منها، إذ تعزل الفرد غالبًا عن مجتمع الناس، وتخيل لصاحب الكبر والعجب أنه في منزلةٍ يقصر الناس دونها فلا يسايرهم في حياتهم ولا يأنس بوجوده معهم، تراه دائمًا عبوس الوجه، مقطب الجبين، والدنيا أقل من ذلك وأهون، لا سيما إذا لم يكن ذلك في طاعة الله ومن أجل الانتصار لدين الله، بل وما أُثر في دين الله تقطيب الجبين، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهو خير الدعاة، كان يبتسم في وجه كل أحد، ويطيب خلقه مع كل من قابله، وربما كان حُسن خلقه سببًا في إسلام خصومه والمناوئين له. فالكبر والعجب آفات قاتلة، وهي أمراض خطيرة وحَرِيَّة بالعلاج، وصدق الشاعر حينما قال: كن كالنجم لاح لناظر ... على صفحات الماء وهو رفيع ولا تكن كالدخان يعلو بنفسه ... إلى طبقات الجو وهو وضيع أما الرياء فهو الآخر آفة قاتلة- نسأل الله السلامة منه- وهو تَزَيُّن أمام المخلوقين وخداع ومراوغة أمام رب العالمين، وهو من كونه معصية للخالق

العظيم، هو نقص في العقل لا يحتاج إلى دليل، وإلا فكيف يَتَزَيَّن الإنسان ظاهرًا وباطنه خراب، وكيف يخشى الخلق والله أحق أن يخشاه، وما أجمل مقولة القائل: فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والآنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب إخوة الإيمان، وهناك أمراض خفية للقلوب، منها خسف القلوب، ومسخ القلوب، ونكس القلوب وحجب القلب عن الرب، والختم على القلب وكل واحدة من هذه تحتاج إلى وقفة بيان .... نفعني وإياكم بهدي كتابه .. أقول هذا القول ...

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين وفق من شاء لطاعته فاجتباه وهداه وأضل من شاء بحكمته وعلمه فأبعده وقلاه. وأشهد ألا إله إلا الله العليم الخبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي الأمين .. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله، وارضَ اللهم عن أصحابه وأتباعه ومن تبعهم إلى يوم الدين. إخوة الإسلام، راقبوا قلوبكم واحرصوا على تخليصها من أدوائها، ولتكن عنايتكم بها أشد من عنايتكم بالأجسام، فالله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. أما خسف القلب، فقد قيل أنه يخسف بالقلب كما يُخسف بالمكان وما فيه، فيخسف به إلى أسفل السافلين، وصاحبه لا يشعر، وعلامة الخسف به أنه لا يزال جوالاً حوله السفليات والقاذورات والرذائل، كما أن القلب الذي رفعه الله وقربه إليه لا يزال جوالاً حول العرش، قال بعض السلف: (إن هذه القلوب جوَّالة فمنها ما يجول حول العرش ومنها ما يجول حول الحش). أما مسخ القلب، فهو يمسخ كما تمسخ الصورة، كما قيل فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته، فمن القلوب ما تمسخ على قلب خنزير لشدة شَبَه صاحبه به، ومنها ما يمسخ على خلق كلب أو حمار أو حية أو عقرب وغير ذلك، وهذا تأويل سفيان بن عيينة في قوله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} (¬1) قال: منهم من يكون على ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 38.

أخلاق السباع العادية، ومنهم من يكون على أخلاق الكلاب وأخلاق الخنازير وأخلاق الحمير، ومنهم من يتطوس بثيابه كما يتطوس الطاووس في ريشه، ومنهم من يكون بليدًا كالحمار، ومنهم من يؤثر على نفسه كالديك، ومنهم من يألف ويؤلف كالحمام، ومنهم الحقود كالجمل، ومنهم الذي هو خير كله كالغنم، ومنهم أشباه الثعالب التي تروغ كروغانها. أما نكس القلب، فهو الذي يرى صاحبه الحق باطلاً والباطل حقًا، ويصد عن سبيل الله وهو يرى أنه يدعو إليه، ويشتري الضلالة بالهدى وهو يرى أنه على الهدى، ويتبع هواه وهو يزعم أنه مطيع لمولاه، وكل هذا من عقوبات الذنوب الجارية على القلب. أما حجب القلب عن الله، فهو حجبه في الدنيا، والحجاب الأكبر يوم القيامة كما قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (¬1). فمنعتهم الذنوب أن يقطعوا المسافة بينهم وبين قلوبهم، فيصلوا إليها فروا ما يصلحها ويزكيها وما يفسدها ويشقيها. وويل لمن حجب قلبه عن الله في الدنيا فتاه في أوديتها، وغمرته بزخارفها، وألهته عن طاعة مولاه والاستعداد لما وراءه، وويل ثم ويل لمن قدم على الله وهو محجوب عنه، ومن له غير الله والأمر أمره والشفاعة كلها بيد، - اللهم لا تصدنا ولا تحجبنا بسبب ذنوبنا-. أما الداء العضال الآخر ... فهو: الختم على القلب، وجعل الغشاوة عليه والريبة والطبع عليه، وإغفاله عن ذكر الله، وإنساء الإنسان لنفسه، وجعل الصدر ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء، وصرف القلب عن الحق وزيادة ¬

(¬1) سورة المطففين، الآيتان: 14، 15.

مرضه وانتكاسه .. فاحذر أخي المسلم من هذه الأدواء، وعالج قلبك قبل أن يستفحل الخطر، وسبحان الله فكم من قلب منكوس وصاحبه لا يشعر، وقلب ممسوخ وقلب مخسوف به، وكم من مفتون بثناء الناس عليه، ومغرور بستر الله عليه، ومستدرج بنعم الله عليه، وكل هذه عقوبات وإهانات ويظن الجاهل أنها كرامة (¬1). وعليك أن تمتحن نفسك وتنظر موقع قلبك من هدى المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «القلوب أربعة: فقلبٌ أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب مسلم، وقلب أغلف فذلك قلب كافر، وقلب منكوس فذلك قلب المنافق، وقلب تمده مادتان، مادة إيمان ومادة نفاق، وهو لما غلب عليه فيهما». فَلْنُدَاو قلوبنا ولنعالج أمراضنا، وإن سألتم عن سبيل العلاج لمرض القلب، فذلك ما سيكون الحديث عنه في الجمعة القادمة، بإذن الله، نسأل الله الإعانة والتسديد وصلاح القلوب والسلامة من الهوى ... هذا وصلوا ... ¬

(¬1) الداء والدواء لابن القيم ص 172 - 176.

الرسل والرسالات

الرسل والرسالات (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فيا أيها الإخوة المسلمون، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وتبصروا حقيقة دينكم، وعُوا قضية إيمانكم الذي به تلقون ربكم. إن من قضايا العقيدة التي تحتاج إلى تذكير، الإيمان بالرسل والرسالات والإيمان بالرسل أصل من أصول الإيمان، قال تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (¬2). والذين يزعمون أنهم مؤمنون بالله ولكنهم يكفرون بالرسل، أو ينكرون شيئًا مما أنزل الله عليهم، هؤلاء لا يقدرون الله حق قدره: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} (¬3)، وليس من الإيمان في شيء التفريق بين الله ورسله، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا ¬

(¬1) في 19/ 3/ 1412 هـ. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 84. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 91.

بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} (¬1). فقد نصت الآية على كفر من زعم الإيمان بالله وكفر بالرسل، كما في قوله تعالى: {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} ولهذا قال الإمام القرطبي- رحمه الله- في تفسير هذه الآية: نص سبحانه على أن التفريق بين الله ورسله كفر، وإنما كان كفرًا لأن الله فرض على الناس أن يعبدوه بما شرعه على ألسنة الرسل، فإذا جحدوا الرسل ردوا عليهم شرائعهم، ولم يقبلوها منهم، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التي أُمِروا بالتزامها، فكان كجحد الصانع سبحانه، وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية وكذلك التفريق بين الله ورسله (¬2). أيها الإخوة المسلمون، اقتضت حكمة الله تعالى الأمم الماضية أن يرسل في كل منها نذير {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ} (¬3)، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم كانت عامة للبشر كلهم، وكانت خاتمة فلا رسالة بعدها. واقتضى عدل الله ألا يعذب أحدًا من الخلق حتى يكون البلاغ وتقوم الحجة {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (¬4) ... {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (¬5). ولهذا كان الأنبياء والمرسلون عددًا كثيرًا، وجمًا غفيرًا، روى الإمام أحمد ¬

(¬1) سورة النساء، الآيتان: 150، 151. (¬2) تفسير القرطبي 6/ 5. (¬3) سورة فاطر، الآية: 24. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 15. (¬5) سورة النساء، الآية: 165.

وغيره عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله: كم وفاء عدد الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، المرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمًا غفيرًا (¬1). وهذا العدد الكبير يجب الإيمان بهم كلهم، وإن لم نعرف منهم إلا القليل، ومحمد صلى الله عليه وسلم وهو الموحى إليه من ربه قال الله له: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} (¬2). ولم يرد في القرآن الكريم إلا ذكر خمسة وعشرين نبيًا ورسولاً، وهؤلاء ذكروا بأسمائهم، وهناك من ذكرت نبوته ولم يذكر اسمه، وهم الأسباط أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليهم السلام- وعددهم اثنا عشر رجلاً، عرَّفنا القرآن بواحد منهم وهو يوسف عليه السلام، أما الأحد عشر فقد أخبر الله أنه أوحى إليهم ويجب الإيمان بما أنزل عليهم، {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ} (¬3). إخوة الإيمان ولقد بين العلماء- رحمهم الله- حاجة العباد إلى الرسل وتعاليمهم، فقال ابن القيم- رحمه الله-. (ومن هنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفه الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا يُنال رضى الله البتة إلا على أيديهم ¬

(¬1) الحديث إسناده صحيح كما في مشكاة المصابيح 3/ 122، والرسل والرسالات/ 17. (¬2) سورة النساء، الآية: 164، وفي غافر، الآية: 78 مشابهة لها. (¬3) سورة البقرة، الآية: 136.

فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به فيه الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأخلاقهم توزن الأخلاق والأعمال وبمتابعتهم يتميز أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها .... ) (¬1) إلى آخر كلامه القيم- رحمه الله-. ويفرق ابن القيم في كتابه القيم (¬2) بين حاجة الأبدان إنما علوم الطب، والأرواح إلى تعاليم الرسل، فيقول: (حاجة الناس إلى الشريعة ضرورية فوق حاجتهم إلى كل شيء ولا نسبة لحاجتهم إلى علم الطب إليها، ألا ترى أن أكثر العالم يعيشون بغير طبيب ولا يكون الطبيب إلا في بعض المدن الجامعة، وأما أهل البدو كلهم، وأهل الكفور كلهم- وعامة بني آدم- لا يحتاجون إلى طبيب وهم أصح أبدانًا وأقوى طبيعة ممن هو متقيد بطبيب، ولعل أعمارهم متقاربة) إلى أن يقول: (فليس الناس قط إلى شيء أحوج منهم إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والقيام به، والدعوة إليه والصبر عليه، وجهاد من خرج عنه حتى يرجع إليه، وليس للعالم صلاح بدون ذلك البتة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلا بالعبور على هذا الجسر). أيها المسلمون، أَصِلُ بكم إلى بيان وظائف الرسل ومهماتهم فتعلَّموها، ثم اعملوا بما تطيقون منها، وتنبهوا إلى أن من يقوم بها إنما هو من ورثة الأنبياء، فالأنبياء- عليهم السلام- لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم. وأول هذه الوظائف للرسل البلاغ المبين، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ¬

(¬1) زاد المعاد 1/ 15. (¬2) مفتاح دار السعادة 1/ 15.

بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ .. } (¬1). والبلاغ يحتاج إلى الصدق والشجاعة وعدم الخشية من الناس حينما يأمرهم بما يستنكرون، أو ينهاهم عما يألفون- مما أمر الله به أو نهى عنه- قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ} (¬2). الثاني من وظائف الرسل: الدعوة إلى الله، فلا تقف مهمة الرسل وأتباعهم عند بيان الحق وإبلاغه للناس، بل عليهم دعوة الناس إلى الأخذ بدعوتهم، وترغيبهم في الخير، وتحذيرهم من الشر، وتحقيق هذا الخير في أنفسهم قولاً وعملاً. وهذا لاشك يكلف الرسل وأتباعهم من الدعاة إلى الله والمصلحين .. لكن من يتصدى لإصلاح الناس وتوجيه مسيرتهم وتعريفهم بربهم لابد له من الصبر والتحمل وأجره على الله، ألا ما أكرم المرسلين وأتباعهم من الدعاة والمصلحين وهم يجهدون أنفسهم في سبيل تقديم الخير للآخرين، وإليكم هذا المثل المعبر عن هذه الحقيقة، فقد روى البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلاً، فقال: اسمع سمعت أذنك، واعقل عقل قلبك، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارًا، ثم بنى فيها بيتًا، ثم جعل فيها مائدة، ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه، فالله هو الملك، والدار هو الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد رسول، من أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها» (¬3). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 67. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 39. (¬3) صحيح الجامع 2/ 319، الرسل والرسالات/ 45.

ومن وظائف الرسل التبشير والإنذار، فهم يبشرون من أطاعهم بالجنة والمغفرة، ويخوفون وينذرون من عصاهم التعاسة والنار، وليست بشارتهم قاصرة على الآخرة بل يبشرون الهداة الطائعين بالحياة الدنيا {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (¬1). وفي المقابل يخوفون العصاة المجرمين بالشقاوة في الدنيا قبل الآخرة {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} (¬2). إخوة الإيمان، تأملوا هذا المثل الذي يوضح حال الدعاة والمدعوين، ويقرب الصورة لأثر الاستجابة لداعي الهوى، وعاقبة الإعراض لمن ضل وغوى، يقول إمام الدعاة (محمد صلى الله عليه وسلم): «مثلي ومثل ما بعثني الله كمثل رجل أتى قومًا فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبته طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت من الحق» (¬3). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه .. ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 97. (¬2) سورة طه، الآية: 124. (¬3) الحديث متفق عليه.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله حَمْد الشاكرين الذاكرين، وأشهد ألا إله إلا الله رب العالمين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله ورضي عن أصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد إخوة الإيمان، اتقوا الله وأطيعوه، واهتدوا بهدي رسوله ولا تخالفوه، واعلموا أن الأجل قصير والموت قريب، وكل آت قريب. ثم اعلموا أن الوظيفة الرابعة للرسل- عليهم السلام- صلاح النفوس وتزكيتها، وهذه من رحمة الله بعباده أن يحيي نفوسهم بالوحي، وينور بصائرهم بالهدى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (¬1). وتأملوا كيف سمى الله رسالته روحًا، والروح إذا عدم فقدت الحياة، ثم تأملوا- كذلك- كيف يضرب الله المثل ويشبه الوحي المنزل من السماء على أيدي الرسل بالماء الذي ينزل من السماء، فتكون به حياة الأرض، يقول تعالي: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (¬2). يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- معلقًا على هذه الآية: (فشبه العلم بالماء المنزل من السماء، لأن به حياة القلوب، كما أن المراد بالماء حياة الأبدان ¬

(¬1) سورة الشورى، الآية: 52. (¬2) سورة الرعد، الآية: 17.

وشبه القلوب بالأودية لأنها محل العلم، كما أن الأودية محل الماء، فقلب يسع علمًا كثيرًا، وواد يسع ماءً كثيرًا، وقلب يسع علمًا قليلاً، وواد يسع ماءً قليلاً، وأخبر تعالى أنه يعلو على السيل من الزبد بسبب مخالطة الماء وأنه يذهب جفاءً، أي يرمي به ويختفي، والذي ينفع الناس يمكث في الأرض ويستقر، وكذلك القلوب تخالطها الشهوات والشبهات، ثم تذهب جفاءً، ويستقر فيها الإيمان والقرآن الذي نفع صاحبه والناس- إلى آخر كلامه- رحمه الله (¬1) .. ومن وظائف الرسل- عليهم السلام- كذلك تقويم الفكر المنحرف والعقائد الزائفة، فحين كان الناس على التوحيد الخالص لله، والفطرة السليمة التي فطرهم الله عليها، لم يحتاجوا إلى مرسلين فلما تفرقوا واختلفوا، ومالوا عن التوحيد إلى الشرك بعث الله فيهم المرسلين لتصحيح عقائدهم، وتقويم ما انحرف من أفكارهم، يقول تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (¬2)، أي كانوا أمةً واحدةً، فلما اختلفوا أرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين. وقد واجه الأنبياء- عليهم السلام- مع أقوامهم من الشدة والأذى في سبيل إصلاح معتقداتهم وتقويم ما انحرف من سلوكهم ما الله به عليم، فهذا ينكر عبادة الأصنام ويبطلها بالحجة والبرهان، ونبي آخر ينكر على قومه الاستعلاء في الأرض- كما فعل هود عليه السلام- وثالث ينكر على قومه الفساد في الأرض واتباع المفسدين- كما هو شأن صالح عليه السلام- ونبي يحارب جريمة اللواط التي انتشرت في مجتمعه كما فعل لوط عليه السلام، وخامس يقاوم جريمة التطفيف في المكيال ¬

(¬1) الفتاوى 9/ 93 - 96، الرسل والرسالات/ 34. (¬2) سورة البقرة، الآية: 213.

والميزان كما صنع شعيب عليه السلام، ثم جاء خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، ليحارب هذه الجرائم كلها، وينكر هذه النكرات على الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وما يزال أتباعه من الدعاة والمصلحين، يكشفون زيف المنحرفين ويبطلون ضلالات المبتدعين، ويواجهون حربًا ضروسًا من اليهود والنصارى والكفرة والمنافقين، كان الله في عونهم، حدثا لا رسل ولا رسالات بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وليس لهم إلا عون الله وميزان محمد صلى الله عليه وسلم، يتقدمون به ليسقطوا كل راية تخالف هديه، ويكشفوا كل دسيسة تحاوله النيل من الإسلام وأهله، وإن أقل حقوق هؤلاء العلماء، والدعاة والمصلحين علينا أن نناصرهم وندعو لهم، ونكون وإياهم يدًا واحدة في سبيل الدعوة إلى الخير، والتحذير من الشر. ومن وظائف الرسل- عليهم السلام- إقامة الحجة على الناس، فلا يعتذر أحد بالجهل، {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (¬1). لهذا تسقط حجة المكذبين وهم يساقون إلى النار سوقًا {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} (¬2). ثم يعرفون ويندمون حيث لا ينفع ذلك {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ} (¬3). وأخيرًا- من وظائف الرسل- عليهم السلام- سياسة الأمم، فالويل هم الذين يحكمون ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 165. (¬2) سورة الملك، الآيتان: 8، 9. (¬3) سورة الملك، الآيتان: 10، 11.

بين الناس في حياتهم، ويجب أن يتحاكم الناس إلى هديهم بعد مماتهم {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} (¬1)، هكذا قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل لداود- عليه السلام- {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (¬2). وهكذا كان أنبياء بني إسرائيل- عليهم السلام- يسوسون بني إسرائيل كلما هلك نبي قام نبي، كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله وسلم، وأخرجه البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجه. أما الذين يشرعون للبشر من ذوات أنفسهم، ويحكمونهم بأهوائهم بعيدًا عن شرع الله، ويضعون لهم من القوانين المستوردة ما يرون به حياتهم، فهؤلاء مخطئون في حق أنفسهم، وظالمون لرعاياهم، ومعتدون على حقوق ربهم حيث شرعوا في الأرض ما لم يأذن به، وحكموا عباده بغير حكمه، وعليهم أن يتأملوا قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬3)، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬4)، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬5). أبعد الله عن أمتنا الشرور والضلالة والغي، وأعادها إلى تحكيم الشرع المطهر عاجلاً، وأصلح الله رعايا الأمة ورعاتها .. هذا وصلوا .. ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 48. (¬2) سورة ص، الآية: 26. (¬3) سورة المائدة، الآية: 44. (¬4) سورة المائدة، الآية: 45. (¬5) سورة المائدة، الآية: 47.

متاع الغرور

متاع الغرور (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره. أما بعد إخوة الإسلام، فيقول الحق تبارك وتعالى- وهو أصدق القائلين-: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (¬2). ففي الآية تقرير من الله لما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من متاع وأنواع الملاذ التي بها يتعلقون، وبها أحيانًا يفتنون وعن طريقها يغنمون وأحيانًا أخرى يغرمون. فهذه الملاذ تختلف باختلاف أحوال الناس تجاهها .. فهي لفئة مأثم ومغرم، ونقمة وفتنة. وهي لفئة أخرى نعمة ومغنم، ووسيلة للفلاح والنجاح في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. فإن قلت كيف يكون ذلك والمتاع هو المتاع، والناس هم الناس؟ أجبت بأن الهدف يختلف من شخص لآخر، والنظر لهذا المتاع واستخدامه يختلف من فئة لأخرى. فالذين يتعاملون مع ملاذ الحياة على أنها المبدأ والنهاية، والهدف الأول والأخير هؤلاء غارمون آثمون لأن الدنيا بملاذها لا تستحق أن ينقطع الإنسان لها، وأن يصب كل جهده ويوليها كل عنايته بعيدًا عن طاعة الله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وهل الدنيا إلا وسيلة إلى الآخرة فمن استخدمها بهذا ¬

(¬1) في 15/ 8/ 1414 هـ. (¬2) سورة آل عمران الآية: 14.

الفهم وجعلها معبرًا للنعيم الدائم فقد أفلح وأنجح، ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه شمله، ويجعل فقره بين عينيه، ولم يعطه الله إلا ما كتب له. أما الذين يستعينون بمتاع الدنيا على الطاعة، وينصرفون بها إلى الجنة ورضوان الله فهؤلاء يحققون السعادة لأنفسهم في الحياة الدنيا ويضمن لهم الله السعادة الحقة يوم القيامة، ومن كانت الآخرة همه جعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة. إخوة الإسلام، وبدأ الله المتاع الدنيوي بالنساء لأن الفتنة بهن أشد، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء». وتنقلب المرأة أحيانًا عدوًا للإنسان، فتلهيه عن طاعة الله، أو تدعوه إلى ما حرم الله، أو تعوقه عن الخير بكل طرقه ووسائله، ولهذا حذر المولى منها في تلك الحال فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (¬1). فأما إذا كان القصد بالنساء إعفاف الفروج، وكثرة الأولاد الصالحين وكانت المرأة مثالاً للطاعة، ونموذجًا في العبادة فهذا مطلوب ومرغوب، بل ومندوب إليه، بل هو خير المتاع كما قال عليه الصلاة والسلام: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة، إن نظر إليها سرته، كان أمرها أطاعته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله» (¬2). وفي الحديث الصحيح «وإن خير هذه الأمة كان أكثرها نساءً» (¬3)، وتقول ¬

(¬1) سورة التغابن، الآية: 14. (¬2) الحديث رواه مسلم/ ابن كثير 2/ 14. (¬3) تفسير ابن كثير 2/ 14.

عائشة رضي الله عنها: (لم يكن أحب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء إلا الخيل، وفي رواية من الخيل إلا النساء) (¬1). وإذا كان هذا في النساء فحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة، فهو داخل في النهي والفتنة كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} (¬2). وتارة يكون لتكثير النسل، وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ممن يعبد الله وحده لا شريك له، ومن يسدون الثغور، وينفع الله بهم البلاد والعباد فهذا محمود ممدوح ومطلوب، كما في وصية الرسول صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة». ولهذا كان كل دعاء الصالحين: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (¬3). إخوة الإيمان، وكما تحرصون على اختيار النساء وتربية الأولاد، فاحذروا الافتتان بهم، وقد قيل: إن في النساء فتنتين، وفي الأولاد فتنة واحدة، فأما اللتان في النساء فإحداهما تؤدي إلى قطع الرحم، لأن المرأة تأمر- أحيانًا- زوجها بقطعه عن الأمهات والأخوات، أو من ذوي القرابات بشكل عام، والثانية يبتلى بسببها بجمع المال من الحلال والحرام، وأما البنون فالفتنة معهم واحدة، وهي جمع المال لأجلهم (¬4). بل قد يكون الأبناء سببًا لبخل الآباء، وجبنهم، وحزنهم، وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأشعث بن قيس: هل لك من ابنة حمزة من ولد؟ قال: نعم، لي ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 2/ 14. (¬2) سورة التغابن، الآية: 15. (¬3) سورة الفر قان، الآية: 74. (¬4) تفسير القرطبي 4/ 29.

منها غلام، وتوددت أن لي به جفنة من طعام أطعمها من بقي من منى جبلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لئن قلت ذلك إنهم لثمرة القلوب وقرة أعين، وإنهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة (¬1). أيها المؤمنون، وحب المال لذلك تارة يكون للفخر والخيلاء، والتكبر على الضعفاء، والتجبر على الفقراء، فهذا مذموم، وتارة يكون للنفقة في القرابات، وصلة الأرحام والقرابات، ووجوه البر والطاعات، فهذا ممدوح عليه شرعًا (¬2). والناس بين هذا وذاك، فالمال يرفع أقوامًا في درجات الجنان، أولئك الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين وذكر منهما رجلاً آتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء الليل وأطراف النهار» وتارة يستعبد الإنسان ويذله ويتعسه ويشغله، وهؤلاء هم الذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتفش، .. الحديث» فإياكم معاشر المسلمين أن تستعبدكم أموالكم أو تذلكم تجارتكم والحق أن ليس لكم منها إلا ما قدمتم لآخرتكم، وما عدا ذلك فهو للوارث من بعدكم، وتأملوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدد المال الحقيقي للإنسان، والمال الآخر الذي يظنه له وليس كذلك فيقول: «اعملوا أنه ليس منكم من أحد إلا مال وارثه أحب من ماله، مالك ما قدمت ومال وارثك ما أخرت» (¬3). أما الخيل المسومة وهي الراعية الحسان أو ذوات الغرِّ والتحجيل فهي على ثلاثة أقسام، فإن ربطها صاحبها في سبيل الله متى احتاج إليها غزا عليها فهي ¬

(¬1) تفسير القرطبي 4/ 29، 30. (¬2) تفسير ابن كثير 2/ 15. (¬3) رواه النسائي بسند صحيح، الجامع 1/ 353.

مغنم ويؤجر عليها صاحبها، وإن ربطها فخرًا ونواء لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر، وإن جعلها للتعفف واقتناء نسلها، ولم ينس حق الله فهي لصاحبها ستر. ويمكن قياس غيرها عليها من الدواب التي تركب وتستخدم للخير أو الشر مما يتوفر في كل زمان ومكان محببًا للنفوس. ومثل ذلك يقال في الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم مما كانت العرب تقتنيها وتستخدمها، ولا يزال الناس يحبون هذه الأنعام ويرعونها وربما فتنت بعضهم فأبعدتهم عن الجمع والجماعات، أو قطعته عن الأرحام وذوي القرابات والأمر كذلك بالنسبة للزروع والحرث التي تعلق الناس بها في زماننا، حتى نأت بأصحابها الديار، وعمرت بسببها الصحاري والقفار، واغتنى بسببها قوم وافتقر آخرون. وعلى كل حال المعجزة تتحقق، والخير يصدق، وواقع الناس يؤكد ارتباطهم ومحبتهم لهذه الزينة في الحياة الدنيا، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (¬1). لكن ما الذي وراء هذه الآية، وما هو التوجيه الرباني بعدها؟ وإذا كان هذا متاع الدنيا، فما هو متاع الآخرة، يقول تعالى في الآية التي بعدها {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (¬2). ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 14. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 15.

فهذا هو المتاع الحق، وتلك هي الزينة الباقية، والبساتين تنخرط بين جوانبها وأرجائها الأنهار من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. أما الأزواج هناك فهي مطهرة من الدنس والخبث والأذى والحيض والنفاس وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا. وفوق هذا وذاك فرضوان الله يحل بهم فلا يسخط عليهم أبدًا، وحيثما كانوا في النعيم فلا يتحول عنهم أبدًا. وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} (¬1). ¬

(¬1) سورة الكهف، الآيتان: 107، 108.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين وفق من شاء لطاعته، وأعان أولياءه على استخدام زينة الحياة الدنيا في الوصول إلى الزينة الحقيقية الكبرى، وافتتن آخرون فأشغلتهم الدنيا عن الدين، وصرفتهم الحياة الفانية عن التأمل والمسارعة للحياة الآخرة الباقية. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله وصحبه أجمعين. أيها المؤمنون، انظروا في واقعكم، وتأملوا في نهايتكم، واستعدوا للقاء ربكم، واحذروا الفتنة فيما حولكم، وحيث قد علمتم زينة الحياة الدنيا والآخرة والفرق بينهما كبير، فإن لمتاع الحياة الآخرة وزينتها الباقية ثمنًا ليس بالعسير ولا المستحيل، بل هو يسير على من يسره الله عليه، وهو ما ذكره تعالى في الآية الثالثة بعد الآيتين السابقتين فقال: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} (¬1). ثم قال تعالى في وصفهم (الصابرين) والمعنى صابرون في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات .. ولاشك، إخوة الإسلام، أن الطاعات تكليف يحتاج إلى الصبر والمصابرة ومجاهدة للنفس، وترويض حتى تألف الطاعة وتحبها وتداوم عليها، وأن المحرمات أحيانًا تلتقي مع شهوة النفس وحظوظ الهوى ولذا يحتاج المرء الذي يتطلع إلى الجنان أن يكبح جماح النفس ويلزمها الطريق ويصبر على ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيتان: 16، 17.

مرارة الدواء، ولولا الحاجة للصبر على الطاعات والصبر عن المحرمات لتساوى الناس في منازلهم. قال المفسرون، وفائدة التمثل بأنواع الزينة في الحياة الدنيا أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره، وبالصبر عليها، وأن النار لا منجى منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «طريق الجنة حزن بربوة، وطريق النار سهل بسهوة». وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات». أي طريق الجنة صعبة المسالك فيه أعلى ما يكون من الروابي، وطريق النار سهل لا غلظ فيه ولا وعورة وهو معنى قوله سهل بسهوة (والحزن هو الغليظ الخشن) (¬1) أما قوله تعالى (الصادقين) فهي تعني صدقهم فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمون به من الأعمال الشاقة على كثير من النفوس، فليس إيمانهم بالتمني ولا بالتحلي، ولكن شيء وقر في النفوس فانبعثت له الجوارح مصدقة، و (القانتين) هم أهل الطاعة والخضوع، و (المنفقين) من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات، وصلة الأرحام والقربات، وسد الخلات، ومواساة ذوي الحاجات وآخر صفة لأصحاب النعيم الدائم: (المستغفرين بالأسحار). وهذا كما قال أهل العلم دليل على فضيلة الاستغفار بشكل عام ووقت الأسحار بشكل خاص وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فاستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ » (¬2) الحديث. ¬

(¬1) تفسير القرطبي 4/ 28. (¬2) تفسير ابن كثير 2/ 18.

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي من الليل ثم يقول: يا نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح، ونقل عن حاطب رضي الله عنه أنه قال: سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: رب أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي، فنظرت فإذا ابن مسعود رضي الله عنه (وكأنه تأول قوله تعالى: والمستغفرين بالأسحار). إخوة الإسلام والإيمان، تزودوا من دنياكم لآخرتكم ولا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، وليس بغائب عنكم أن الدنيا ظل زائل، وهي حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون؟ وبأي واد ترتعون؟ وأي طريق تسلكون؟ ويا ويح من عض أصابع الندامة والحزن والروح تبلغ الحلقوم، وهيهات أن يعاد المرء إلى الحياة الدنيا بعد أن خرج منها وأعطي من المهلة ما هو كاف للامتحان، ومهما كانت ذنوبك وخطاياك فقف باب ربك سائلاً ومستغفرًا، واستمع إلى قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ (60)} (¬1). ¬

(¬1) سورة الزمر، الآيات: 53 - 60.

فريضة الحج في أعماق الزمن

فريضة الحج في أعماق الزمن (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، شرع الشرائع، وسن الأديان، وأنزل الكتب، وأرسل المرسلين، والتقت الأديان السماوية في التوحيد والعبودية لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله هو أعلم بما كان وما يكون، وله الحكم في الأولى والآخرة، وهو الغفور الرحيم. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أكمل الله به الدين، وختم به الرسالات والمرسلين، وكانت بعثته إلى الناس أجمعين، حتى يوم الدين. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه من النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد أيها المسلمون، فاتقوا الله وراقبوه وتأملوا في حقيقة دينكم، واعبدوا الله على بصيرة، فلم يعد هناك فرصة للجهل أو للتقليد في أحكام الدين. إخوة الإسلام، والمتأمل في فريضة الحج في أعماق الزمن يرى عجبًا ويزداد إيمانًا، ويحس بترابط الأديان، والصلة بين الأنبياء والمرسلين، على الرغم من تباعد الأزمان واختلاف الأقوام والأوطان، ويحس كذلك بأن العبادة لله عميقة الجذور قديمة التاريخ والإنسان. وفريضة الحج- التي تقترب أيامه ونعيش الآن في أحد شهوره -نموذج لهذا ¬

(¬1) 20/ 11/ 1412 هـ.

العمق وذاك الترابط، فما هو تاريخ الحج؟ وكيف بدأت فرضيته؟ وما هي أدلة وجوبه، وما الشروط المعتبرة للوجوب؟ تبدأ رحلة الحج في أعماق الزمن، منذ ضاقت الحياة بإبراهيم عليه السلام مع قومه الوثنيين الجاحدين في العراق، فرحل منها إلى فلسطين، ومعه زوجته سارة وابن أخيه لوط - عليهم السلام- كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬1). وأقام الخليل عليه السلام في فلسطين، ثم رحل إلى مصر وأقام فيها ما شاء الله له أن يقيم، ووقعت له هناك قصة الابتلاء لزوجته سارة من قبل ظالم مصر، الذي حالت قدرة الله دون الاعتداء على المؤمنة العفيفة، وكان ذلك سببًا في إهدائها جارية لخدمتها، ألا وهي (هاجر) ومن هاجر بدأت قصة أخرى أكثر صلة بالحج، وبناء البيت العتيق. حيث رجع إبراهيم- عليه السلام- مرة أخرى إلى فلسطين، وكانت زوجته سارة عاقرًا لا تلد، فأشارت على زوجها إبراهيم بالزواج من جاريتها (هاجر) لعل الله أن يهبه منها ولدًا، فكان، وولدت (هاجر) إسماعيل عليه السلام، كما شاء الله أن تلد (سارة) إسحاق عليه السلام، ومع البقاء، وطبيعة النساء، غارت سارة من هاجر ولم تطق رؤيتها، وصارحت إبراهيم بما تجد في نفسها فكان ذلك سببًا في هجرته بهاجر وإسماعيل إلى مكة. وهناك في أرض لا زرع فيها ولا ماء، ولا أنيس ولا جليس ترك إبراهيم المرأة وطفلها، وهَّم بالعودة إلى فلسطين مرة أخرى فتعلقت به الأم (هاجر) وهي تقول: إلى من تكلنا ونحن في هذا الوادي المقفر الموحش؟ فقال النبي ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 26.

الخليل عليه السلام: إلى الله، واستوحت المرأة أن ذلك بأمر الله، فقالت: له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا .. وانصرف الخليل عليه السلام وصوت دعائه يجلجل في السماء: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (¬1). واستجاب الله دعاء خليله عليه السلام، بعد أن عاشت هاجر وابنها إسماعيل لحظات عصيبةً أوشك الوضيع فيها على الهلاك، وكادت الوحشة وقلة الطعام والشراب أن تودي بالمرأة وطفلها، لولا فضل الله ورحمته، وهل يخيب من رجاه، وهل يضيع من تولاه- ومن هذه اللحظات الحرجة تبدأ قصة بناء البيت، وقصة سعي الناس بين الصفا والمروة، كلما حجوا أو اعتمروا، وكلما طافوا بالبيت العتيق- ومن هنا كذلك تبدأ قصة زمزم، ذلك الماء العذب الزلال والبلسم الشافي للأسقام بإذن الله. وإليكم القصة بتمامها- كما أخرجها البخاري في صحيحه- وهي قصة جديرة بالاهتمام، وجديرة بالتذكر، كلما سعى الناس بين الصفا والمروة، وكلما شربوا من زمزم، حتى لا تكون المشاعر مجردة من الفقه والإيمان، وحتى لا يكون الحج مجرد طقوس يقلد الأحفاد فيها الأجداد، دون علم أو بصيرة أو هدى. عن سعيد بن جبير، قال ابن عباس: (أول ما اتخذ النساء المنطَقَ من قِبَل أم إسماعيل اتخذت منطقًا لتعفي أثرها عن سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها- وهي ترضعه- حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعها هناك، ووضع جرابًا فيه تمرٌ وسقاء فيه ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 37.

ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (¬1). وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى- أو قال: يتلبط- فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طوف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فلذلك سعى الناس بينهما، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه- تريد نفسها- ثم تسمعت أيضًا فقالت: قد أسمعت إن كان غواث، فإذا هي بالملَك عند موضع زمزم فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه، وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو قال: لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينًا معينًا، قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 37.

مرتفعًا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم- أو أهل بيت من جرهم- مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائفًا، فقالوا؟ إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريًا أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا- قال وأم إسماعيل عند الماء- وقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم الماء قالوا: نعم. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن العيش وهيئتهم، فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئًا فقال: هل جاءكم أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلها وتزوج منهم أخري، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاه بعد، فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله. فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم. قتال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولم يكن لهم يومئذ حب، ولو كان دعا لهم فيه، قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه.

قال: إذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل عليه السلام، قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة- وأثنت عليه- فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبيت عتبة بابك. قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك. ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل: إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتًا- وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها- قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقال عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 127.

(1) فاحشة الزنا، مقدمات وروادع

(1) فاحشة الزنا، مقدمات وروادع (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن حفاظًا على الأفراد، وصيانة للمجتمعات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحل الحلال ويسره، وحرم الحرام وعظمه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله كان من أحسن الناس خلقًا، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين وعلى آله الطيبين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، فاتقوا الله معاشر المسلمين واعلموا أن من علامات التقى كف النفس عن موارد الهلكة والشهوات والشبهات. أيها المسلمون، جاء الإسلام حريصًا بتشريعاته على سمو الأنفس وطهارتها ناهيًا عن مواطن الريب وأماكن الخنا، فبين الحلال وشرف صاحبه، ونهى عن الحرام، ووضع الحدود الزاجرة لمقارفته، {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .... } (¬2). أجل لقد قضت سنة الله أن الأمم لا تفنى والقوى لا تضعف وتبلى إلا حين تسقط الهمم وتستسلم الشعوب لشهواتها فتتحول أهدافها من مثل عليا وغايات نبيلة إلى شهوات دنيئة وآمال حقيرة متدنية فتصبح سوقًا رائجًا للرذائل ومناخًا لعبث العابثين، وبها ترتفع أسهم اللاهين والماجنين فلا تلبث أن تدركها السُّنة الإلهية بالهلاك والتدمير، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن ¬

(¬1) في 28/ 6/ 1415 هـ. (¬2) سورة النور، الآية: 19.

نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (¬1). أي مسلم يرغب أن يُخَوَّن في أهله؟ ! وأي عاقل يرضى أن يكون سببًا في اختلاط الأنساب من حوله؟ ! وأي مؤمن يرضى بالخيانة والخديعة والكذب والعدوان؟ ! ومن ذا الذي يجهل عداوة الشيطان وحرصه على انتهاك الأعراض، وقتل الذرية، وإهلاك الحرث؟ تلكم معاشر المسلمين وغيرها أعراض وآفات مصاحبة لفاحشة الزنا، هذه الجريمة التي جعلها الله قرينة للشرك بالله في سفالة المنزلة وفي العقوبة والجزاء فقال تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). ويقول في الجزاء والعقوبة وهو يقرن بين الزنا وغيره من الموبقات: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً .... الآية} (¬3). ولا مقابل ذلك ربط السعادة وعلق الفلاح بخصال حميدة، منها حفظ الفروج عن الزنا فكان فيما أنزل الله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (¬4) وتدل الآية على أن من قارف الزنا ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 16. (¬2) سورة النور، الآية: 3. (¬3) سورة الفرقان، الآيتان: 68، 69. (¬4) سورة المؤمنون، الآيات: 1 - 7.

وتجاوز الحلال إلى الحرام فقد فاته الفلاح، ووقع في اللوم، واتصف بالعدوان (¬1). أيها المؤمنون -وقاني الله وإياكم الفتن والشرور- وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، فهو سلعة غالية، وهو مكانة عالية، وهو طريق السعادة في الدنيا والآخرة، لكنه جهاد ونية وصبر وتضحية وضبط لزمام النفس وتعال عن الشهوات المحرمة، والإيمان بإذن الله حارس للمرء عن الوقوع في المحرمات، وهو درع يحمي صاحبه عن المهلكات، لكن الزنا- معاشر المسلمين- يخرم هذا الحزام من الأمان، ويدك هذا الحصن الحصين، وينزع هذا السربال الواقي بإذن الله إلا أن يتوب، يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الإيمان سربال يسربله الله من يشاء فإذا زنى العبد نزع منه سربال الإيمان فإن تاب رد عليه». ولا يجتمع الإيمان مع الزنا، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن .... الحديث». وتُحَذِّر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تروي هذا الحديث وأمثاله، تُحَذِّر الأمة وتقول: فإياكم وإياكم (¬2) ..... كما جاء في رواية أخرى من روايات الحديث بيان الفرق بين الإيمان والزنا، وكرم هذا وخسة ذاك، فقد ورد: «لا يسرق السارق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني وهو مؤمن، الإيمان أكرم على الله من ذلكم» (¬3). ¬

(¬1) خطب الفوزان. (¬2) رواه أحمد والبزار ورجال البزار رجال الصحيح (مجمع الزوائد 1/ 100). (¬3) روى هذه الزيادة البزار، وفيه إسرائيل الملائي وثقه يحيى بن معين في رواية وضعفه الناس (مجمع الزوائد 1/ 101)

وورد أيضًا عنه صلى الله عليه وسلم بهذا الخصوص قوله: «إذا زنا أحدكم خرج منه الإيمان وكان عليه كالظلة فإذا انقطع رجع إليه الإيمان» (¬1). إخوة الإيمان -عصمني الله وإياكم والمسلمين من الفواحش ما ظهر منها وما بطن- وكم أذل الزنا من عزيز، وأفقر من غنى، وحط من الشرف والمروءة والإباء، عاره يهدم البيوت ويطأطئ عالي الرؤوس، يُسوِّد الوجوه البيضاء، ويخرس ألسنة البلغاء، ينزع ثوب الجاه مهما اتسع، ويخفض عالي الذكر مهما علا، إنه شين لا يقتصر تلويثه على من قارفه، بل يشين أفراد الأسرة كلها .. إنه العار الذي يطول حتى تتناقله الأجيال. بانتشاره تضمر أبواب الحلال، ويكثر اللقطاء، وتنشأ طبقات بلا هوية طبقات شاذة تحقد على المجتمع وتحمل بذور الشر- إلا أن يشاء الله- وحينها يعم الفساد ويتعرض المجتمع للسقوط. أيها العقلاء فكروا قليلاً في الصدور قبل الورود، وتحسبوا لمستقبل الأيام، وعوادي الزمن قبل الوقوع في المحظور، واخشوا خيانة الغير بمحارمكم إذا استسهلتم الخيانة بمحارم غيركم، وكم هي حكمة معلِّمة تلك الكلمات التي قالها الأب لابنه حين اعتدى في غربته على امرأة عفيفة بلمسة خفيفة، فاعتدى في مقابل ذلك (السَّقاء) على أخته بمثلها وحينها قال الأب المعلم لابنه: «يا بني دقة بدقة ولو زدت لزاد السقا». وإياكم إياكم أن تلوثوا سمعتكم وفيما قسم الله لكم من الحلال غنية عن الحرام. وتصوروا حين تراودكم أنفسكم الأمارة بالسوء أو يراودكم شياطين الجن ¬

(¬1) الحديث رواه أبو داود، والحاكم وصححه، شرح السنة للبغوي 1/ 90، وانظر كلام ابن حجر في الفتح 12/ 52.

والإنس للمكروه، تصوروا موقف العبد الصالح حين راودته التي هو في بيتها عن نفسه، وغلقت الأبواب وقالت هيت لك، قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون، أجل لقد رأى الصديق عليه السلام برهان ربه، وصرف الله عنه السوء والفحشاء، وعدَّه في عباده المخلصين. وفي مثل هذه المواقع يبتلى الإيمان، وفي مثل هذه المواقف يمتحن الرجال والنساء، وفي مثل هذه المواطن تبدو آثار الرقابة للرحمن، وهل تتصور يا عبد الله أنك بمعزل عن الله مهما كانت الحجب، وأيًّا كان الستار؟ كلا، فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو الذي يعلم السر وأخفى، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬1). إذا ما خلوت الدَّهرَ يومًا فلا تقل خلَوتُ ولكن عليَّ رقيبُ إخوة الإسلام، ومُستَحِلُّ الزنا في الإسلام كافر خارج من الدين، والواقع فيه من غير استحلال فاسق أثيم، يرجم إن كان محصنًا، ويجلد ويغرب إن كان غير محصن (¬2). لا ينبغي أن يدخل فيه الوساطة والشفاعة، وينهى المسلمون أن تأخذهم في العقوبة الرأفة والرحمة، وأمر المولى جل جلاله أن يقام الحد بمشهد عام يحضره طائفة من المؤمنين ليكون أوجع وأوقع في نفوس الفاعلين والمشاهدين. قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ... ¬

(¬1) سورة الملك، الآية: 14. (¬2) ابن حميد توجيهات وذكرى 1/ 125. (¬3) سورة النور، الآية: 2.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، سن من الشرائع والأحكام ما فيه مصلحة للعباد في دينهم ودنياهم، وأشهد ألا إله إلا الله، يعلم ما يصلح الخلق في حاضرهم ومستقبل أيامهم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ما فتئ يحذر أمته من الخنا والفجور حتى وافاه اليقين. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين. إخوة الإسلام، وإذا كان ما مضى جزءًا من شناعة عقوبة الزنا في الدنيا فأمر الآخرة أشد وأبقى. ولو سلم الزناة من فضيحة الدنيا، فليتذكروا عظيم الفضيحة على رؤوس الأشهاد، هناك تبلى السرائر ويكشف المخبوء، وما للإنسان حينها من قوة ولا ناصر، بل إن أقرب الأشياء إليه تقام شهودًا عليه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬1). وهل تغيب عن العاقل شهادة الجلود، وهل دون الله ستر يغيب عنه شيء وهو علام الغيوب {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} (¬2). يا أمة الإسلام، ولا يقف الأمر عند حد الفضيحة على الملأ مع شناعته بل يتجاوز إلى العذاب وما أبشعه؟ جاء في صحيح البخاري وغيره عن سمرة بن جندب رضي الله عنه -في الحديث ¬

(¬1) سورة يس، الآية: 65. (¬2) سورة فصلت، الآيات: 21 - 23.

الطويل- في خبر منام النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل جاءاه قال: فانطلقا فأتينا على مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فإذا فيه رجال ونساء عراة فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا- أي صاحوا من شدة الحر- فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني فهذا عذابهم إلى يوم القيامة (¬1). وروى الإمام أبو يعلى وابن حبان وصححه. عن أنس رضي الله عنه: (من مات مدمن الخمر سقاه الله جل وعلا من نهر الغوطة، قيل وما نهر الغوطة؟ قال: نهر يجري من فروج المومسات- يعني البغايا- يؤذي أهل النار ريح فروجهم). فأهل النار يعذبون بنتن ريح الزناة (¬2)؟ أيها المسلم والمسلمة، وفي يوم عظيم أنتم في أشد حاجة إلى الظل تستظلون به من حر الشمس حين تدنو من الخليقة، والعرق يلجمهم على قدر أعمالهم- هل علمتم أن من أسباب ظل الله للعبد يوم لا ظل إلا ظله- البعد عن مقارنة الزنا، وتصور عظمة الله ورقابته. جاء في الحديث الصحيح أن أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .. رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقالت إني أخاف الله. أيها المسلمون، إن عذاب الله شديد وعقابه أليم. وهو يمهل ولا يهمل، فلا تؤخذوا بالاستدراج، ولا ينتهي تفكيركم عند حدود الحياة الدنيا فإن يومًا عند ربكم كألف سنة مما تعدون. ولو عدنا مرة أخرى للدنيا لوجدنا من الزواجر والروادع، غير ما مضى، ما ¬

(¬1) ابن حميد 1/ 27، وانظر صحيح الجامع 3/ 165. (¬2) ابن حميد 1/ 127.

يكفي للنهي عن هذه الفاحشة النكراء. فالأمراض المدمرة يجلبها الزنا وقد جاء في الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على المهاجرين يومًا فقال: يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ الله أن تدركوهن فذكر منها: «ولم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيها الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم» (¬1). وهنا نحن اليوم نشهد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم في المجتمعات التي ينتشر فيها الزنا. أيها المسلم والمسلمة وكل منا محتاج إلى كشف الكربات التي تصادفه في الدنيا وكشف كربات القيامة من باب أولى، وقد ورد أن البعد عن الزنا سبب لتفريج الكربات، كما في قصة الذين انطبق عليهم الغار فاستصرخ كل منهم ربه بعمل عمله، وكان من أعمال أحدهم أنه راود يومًا امرأة في الحرام فلما وقع منها موقع الرجل من امرأته قالت له: يا عبد الله اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فخاف الله وأقلع عنها، وكان هذا العمل سببًا لرفع جزء من الصخرة عنهم ... وكذلك يفرج الله عن عباده العارفين به حال السراء إذا مسهم الضر وأصابهم البلاء .. أيها المسلمون، هذه مقدمات وروادع لفاحشة الزنا، وبيان لبعض عقوباتها في الآخرة والأولى. أما الأسباب المؤدية للجريمة، وأما العوامل المساعدة على الخلاص منها فتلك لأهميتها أرجئ الحديث عنها لخطبة قادمة بإذن الله. عصمني الله وإياكم من كل مكروه، وأخذ بأيدينا إلى الخير والفلاح هذا وصلوا على القائل: «ما من عبد يصلي علي إلا صلت عليه الملائكة ما دام يصلي علي فليقل العبد من ذلك أو ليكثر» (¬2). ¬

(¬1) صحيح الجامع 6/ 306. (¬2) صحيح الجامع 5/ 174.

(2) فاحشة الزنا الأسباب والعلاج

(2) فاحشة الزنا الأسباب والعلاج (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. أيها المؤمنون والمؤمنات وقد سبق الحديث عن مقدمات وروادع فاحشة الزنا، تلك التي يكفي أن الله قال في شأنها: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} (¬2). وعدَّها العلماء من أكبر الكبائر الثلاث، الكفر، ثم قتل النفس بغير الحق، ثم الزنا كما رتبها الله في قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ .. } (¬3). وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: قُلتُ: «يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم منك، قلت ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك». قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولهذا الترتيب وجه معقول، وهو أن قوى الإنسان ثلاث: قوة العقل، وقوة الغضب، وقوة الشهوة (¬4). هذه الفاحشة التي ترفضها الفطر والعقول السليمة، ويأنف منها غير الآدميين ¬

(¬1) في 7/ 7/ 1415 هـ. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 32. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 68. (¬4) الفتاوى 15/ 428.

من الحيوان والطير، فقد ذكر البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العطاردي أنه رأى في الجاهلية قردًا يزني بقردة فاجتمعت القرود عليه حتى رجمته، وقال ابن تيمية: وحدثني بعض الشيوخ الصادقين أنه رأى نوعًا من الطير قد باض، فأخذ الناس بيضه وجاؤوا ببيض جنس آخر من الطير، فلما انفقس البيض خرجت الفراخ من غير الجنس، فجعل الذكر يطلب جنسه حتى اجتمع منهن عدد، فما زالوا بالأنثى حتى قتلوها. قال الشيخ: مثل هذا معروف في عادة البهائم (¬1). أختاه في الله، ولِعِظَم جرم الزنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء على عدم مقارفته، كما يبايعهن على عدم الإشراك بالله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ ... } (¬2) وكان العرب، وهم مشركون، يحرمون الفواحش، وربما قتل بعضهم البنات خشية العار، فنهى القرآن عن قتلهن بغير حق، ورتَّب العقوبة المناسبة للفاحشة، ولهذا استغربت هند بنت عتبة بن ربيعة، حين بايعها النبي صلى الله عليه وسلم، فيما بايعها على عدم الزنى وقالت: أوَ تزني الحرة؟ وكان الزنى معروفًا عندهم في الإماء (¬3). أيها المسلمون والمسلمات، وليس شيءٌ يقع إلا وله أسباب، ومعرفتنا بالأسباب والعوامل المؤدية لفاحشة الزنى تضع أيدينا على الداء، والوقاية منها وسد الطرق الموصلة إليها يكمن فيها العلاج والدواء، والعاقل مَن وعى هذه الأسباب، وأبعد نفسه عن مخاطرها، وتأمل طرق العلاج وألزم نفسه فيها. وأول الأسباب المؤدية للزنى وأحراها ضعف الإيمان واليقين، فإذا ضعف هذا العامل نسي المرء أو تناسى الوعد والوعيد، وأمن العقوبة، وتباعد ¬

(¬1) الفتاوى 15/ 147. (¬2) سورة الممتحنة، الآية: 12. (¬3) الفتاوى 15/ 146.

الفضيحة، وقل ما حسه ميزان الرقابة، وانحسر الخوف من الجليل، وقد سبق الحديث: «لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن» وفي الحديث الآخر «من زنى خرج منه الإيمان، فإن تاب تاب الله عليه» (¬1)، ومن صفات المؤمنين-كما جاء في القرآن الكريم- أنهم لا يزنون. السبب الثاني: النظرة المحرمة، إذ هي سهم من سهام الشياطين، تنقل صاحبها إلى موارد الهلكة، وإن لم يقصدها في البداية، ولذا قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ .. } (¬2). وتأمل كيف ربط بين غض البصر وحفظ الفرج في الآيات، وكيف بدأ بالغض قبل حفظ الفرج لأن البصر رائد القلب، كما أن الحمى رائد الموت، كما قال الشاعر: ألم تر أن العينَ للقلب رائدٌ فما تألف العينان فالقلب آلف. وفي السنة بيان لما أجمله القرآن في أثر النظرة الحرام، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان، وزناهما النظر ... الحديث» فاتقوا زنى العينين، قال أهل العلم: لا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة- الأجنبية- ولا المرأة إلى الرجل- الأجنبي عنها- فإن علاقتها به كعلاقته بها، وقصدها منه كقصده منها (¬3). ¬

(¬1) حديث حسن (صحيح الجامع الصغير 5/ 296). (¬2) سورة النور، الآيتان: 30، 31. (¬3) تفسير القرطبي 12/ 227.

إخوة الإيمان، وكم نظرةٍ محرَّمةٍ قادت إلى نظرات أخرى، وقادت النظرات إلى همسات، ثم مواعد فلقاء، ومعظم النار من مستصغر الشرر: كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها ... فتك السهام بلا قوس ولا ترِ والمرء ما دام ذا عين يُقَلِّبُها ... في أعيُن الغيد موقوفٌ على الخطرِ يسرُّ مُقلتَه ما ضرَّ مهجته ... لا مرحبًا بسرورٍ جاء بالضرر قال الإمام القرطبي رحمه الله: ولقد كره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته، وزمانه خير من زماننا هذا، وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذات محرمه نظرة شهوة يرددها (¬1). فإذا كان هذا في القرن السابع الهجري فماذا لو رأى القرطبي زماننا نحن، ماذا عساه يقول عن كلام الشعبي؟ وإذا كان هذا في النظر إلى المحارم فكيف يكون الحال في النظر إلى الأجنبيات أو إلى الصور الخليعة أو المسلسلات الهابطة التي يختلط فيه النساء بالرجال؟ ومن الأسباب الداعية للزنا أيتها المرأة المسلمة: كثرة خروج المرأة وتبرج النساء، وتكسرهن في المشية، وإلانتهن في القول، فهذه وتلك فواتح للشر تطمع الذي في قلبه مرض. وتفتن المستمسك إلا أن يعتصم بالله، وقد نهى الله نساء المؤمنين عن ذلك كله حماية لأعراضهن وصونًا لغيرهن من مواطن الريب، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (¬2). ويقول تعالى مخاطبًا نساء النبي صلى الله عليه وسلم- وغيرهن من باب أولى-: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} (¬3). ¬

(¬1) تفسير القرطبي 12/ 223. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 33. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 32.

إن مما يؤسف له أن تملأ نساء المسلمين الأسواق العامة، وأن تَظْهرَ المرأة بكامل زينتها، وأن يُنزع الحياءُ منها فتخاطب الأجانب وكأنما هم من محارمها، وربما ساءت الأحوال فكانت الممازحة والمداعبة، وتلك وربي من قواصم الظهر ومن أسباب إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا! إخوة الإيمان، ويستهين فريق من الناس بالخلوة بالنساء الأجنبيات ولو كن من ذوات الأقارب، ويتسامح آخرون في سفر المرأة دون محرم وهذه وتلك طرائق أخرى للجريمة العظمى، وما فتئ المصطفى صلى الله عليه وسلم يحذر الأمة ويبعدها عن مناطق الخطر ويقول: «إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت- والحمو قريب الزوج-» (¬1). وفي الحديث الآخر قال عليه الصلاة والسلام: «لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم» و «ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما». كما حرم الإسلام الخلوة بالمرأة الأجنبية في أي موضع وأي حال فقد حرم سفرها بدون محرم ومهما كانت الظروف والأحوال، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم عليها». إذا كان هذا منطق الإسلام وهدي سيد الأنام فما بال أقوام يتعللون بالثقة أحيانًا ويتذرعون بالحاجة أحيانًا أخرى، والثقة شيء وسد الذرائع الموصلة إلى الحرام شيء آخر، والمعرفة المجردة بالأحكام شيء، والانصياع والتطبيق والرضا والتسليم لشرع الله شيء آخر: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ ¬

(¬1) الحديث أخرجه البخاري وسلم والترمذي.

وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} (¬1). أمة الإسلام، ومن أعظم دواعي الفاحشة استقدام الخدم والسائقين تلك، المصيبة التي عمت وطمت، وامتلأت بها البيوت لحاجة ولغير حاجة، واعتاد الرجال على الدخول مع النساء المستخدمات وكأنهن من ذوات المحارم وربما تطور الأمر عند آخرين فجعلها تستقبل الزائرين وتقدم الخدمة للآخرين؟ وليس أقل من ذلك إتاحة الفرصة للسائقين الأجانب بدخول البيوت دون رقيب، والذهاب بالنساء وحدهن دون حسيب، وليت شعري أُنزعت الغيرةُ من الرجال إلى حد يستأمنون فيه الذئاب على الشياه، ويودعون ماء الوجوه لأقوام لا خلاق لهم ولا حياء، وقد يكون بعضهم فاسقًا أو كافرًا بالله فلا ذمة ولا دين له؟ وإذا كان الإسلام حرم على قريب الزوج أن يدخل على زوجته دون محرم، وقد يكون ذا غيرة عليها، وعلى فراش قريبه، فكيف نسمح للأجنبي عنها وعن زوجها ونعطيه من الثقة ما ليس أهلاً لها؟ إن أحداث الزمن وواقع الناس يشهد بكثير من الجرائم والفواحش من وراء استقدام السائقين والخدم ... ولكن التقليد الأبله، والثقة العمياء ربما حجبت الرؤية عند قوم وأصمت آذان آخرين، ومصيبة أن يستيقظ المرء على الجريمة تقع في بيته، وليس من العقل أن يتأخر المرء حتى يصبح عبرة للآخرين فالعاقل من وعظ بغيره، والموفق من استبرأ لدينه وعرضه. أمة الإسلام مصيبة عظمى أن نسعى بأنفسنا لتهيئة أسباب الفاحشة لنسائنا وأزواجنا وأخواتنا في قعر بيوتنا، ونحن نسمح للسائقين بالخلوة بهن والذهاب ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 36.

والمجيء معهن، وأن نهيج غرائز أبنائنا وإخواننا بتوفير الخادمات اللاتي يستعرضن أنواع الزينة، ويلبسن ما شف أو وصف ولم يغط الذراعين والساقين أو كليهما، ثم نطلب من هؤلاء المراهقين أن يكونوا بررة أتقياء؟ أو نتصور الأمور طهرًا ونقاء والله أعلم بما يجري في الخفاء. اتقوا الله معاشر الرجال في قوامتكم ومسؤوليتكم، واتقين الله معاشر النساء في رعايتكن للبيوت ولا تطلبن من الأزواج ما خالف الشرع أو كان سببًا للفحش، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين مستحق الحمد والثناء، وأشهد أن لا إله إلا الله ذي المجد والثناء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأنار الطريق للأمة وتركها على المحجة البيضاء فلا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آل محمد الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها المسلمون والمسلمات، ويبقى سبب مهم من الأسباب الداعية لفاحشة الزنا ألا وهو سماع الغناء والخنا، والعكوف على مشاهدة المسلسلات الهابطة والنظر إلى الأفلام الخليعة تلك التي تبثها وسائل الإعلام بمختلف قنواتها، إن هذه المشاهد المؤذية تروض البنين والبنات على الفحش، وتذهب عنهم ماء الحياء وإذا نزع الحياء من أمة فقد تودع منها، وأنى لكلمات الآباء وتوجيهات الأمهات أن تصل إلى الأولاد وهم يستقبلون كل يوم عشرات المشاهد والكلمات التي تنسخ بالليل ما سمعوه منهم بالنهار، ويظل الشيطان بالإنسان يغريه ويغويه حتى ينتقل من مرحلة إلى أخرى وكأنما خلق للهو والعبث فلا يكفيه أن يشاهد من الداخل بل يطمع بمشاهدة كل جديد ولو كان فيه حتفه وينصب بعضهم أعمدة البث المباشر خفية أول الأمر حتى إذا أمن عقوبة الناس أو تخفف بعض الشيء من نقدهم أعلنها وأعلاها وكأن نقد الناس هو العائق عن المجاهرة ... أما ما تحويه هذه (الدشوش) من بلاء وفتنة، وما تحمله من سموم مبطنة فتلك آخر ما يفكر فيها، وأما ما تحمله هذه المادة المبثوثة من غزو للأفكار مقصودة، ومن تدمير للأخلاق مبرمجة ومدروسة، فذلك ما تغيب عن باله في سبيل

اللذة .. الآنية، والنهم في معرفة ما لدى الآخرين، ومن عجب أنك لا تجد أحدًا- حين المناقشة- يخالفك الرأي في الأثر السيء لسماع الغناء والخنى، والنظر إلى المشاهد المثيرة للغرائز والعواطف، في أي وسيلة وعبر أي قناة ... ومع ذلك تحس بالإصرار على الخطأ أحيانًا، وتحس بالتجاهل لنتائج الدراسات العلمية لهذه البرامج على النشء مستقبلاً، لا أعتقد أن البعض جاهل إلى هذه الدرجة، والمأساة لا تحل به وحده، بل تطبع جيلاً من أبنائه وأبناء غيره لا هم لهم إلا ضياع الأوقات في زبالات الأفكار الواردة، والاستجابة لتربية الغرباء بدلاً من تربية الأمهات والآباء، وإنما القضية ضعف في اتخاذ القرار وانشطار في القوامة على البيوت بين الرجال والنساء وهي تحتاج لنوع من التفاهم لما فيه الخير، ونوع من التعاون على البر والتقوى لما فيه الرشد والفلاح، وسيحس الأبوان حينها بإشراق البيوت بنور الله، وامتلاء القلوب بذكر الله، وستفر الشياطين كالحمر المستنفرة، وستحل محلها الملائكة تشهد الخير وتنزل معها السكينة والرحمة، والفرق بين الحالتين كبير، والتجربة أكبر برهان. يا أمة القرآن، وليس يخفى أن من العوامل الخطيرة لإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا صيحات المنافقين، ودعوات العلمانيين، ومن سار في ركبهم لتحرير المرأة من كل حشمة ووقار، ومطالبتها بالخروج والاختلاط بالرجال وهي دعوات مبطنة تتخذ أساليب عدة- ليس هذا موضع تفصيلها- لكني أنبه إليها بإجمال ليحذر المؤمنون والمؤمنات أولئك الذين يخرجون باسم التقدم والحضارة، وباسم حماة المرأة والمهتمين بقضاياها، والله أعلم بما يبطنون، ولقد بلغت المرأة في بلادنا بفضل الله مبلغًا من العلم والوعي لم تعد فيه تنخدع أو تستجيب لهذه الدعوات التي يُعْرَف أصحابُها في لَحْن قولهم: {أَمْ حَسِبَ

الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} (¬1). أيها المسلمون وثمة أسباب أخرى لا تقل أهمية، فالسفر للبلاد الإباحية دونما حاجة، والتردد كثيرًا على البلاد التي ينتشر فيها الفساد وتعلن الرذيلة أسباب جالبة لوقوع الزائر في الشراك، وإن لم يقصدها أول مرة، وضعف رقابة الآباء والأمهات على البنين والبنات، وغلاء المهور، وضعف التوعية في مدارس البنين والبنات عن مخاطر جريمة الزنا- كل هذه وتلك إذا وجدت فهي أسباب من الأسباب المؤدية إلى الزنا- نسأل الله السلامة لنا ولسائر المسلمين. أيها الإخوة والأخوات، وتبقى طرق العلاج رهينة معرفة الأسباب ومرتبطة بعلاجها، فمعرفة السبب وإزالة الداعي إلى الفتنة، أول طريق للعلاج، وبالتالي فإن تقوية الإيمان في النفوس، وصرف الأبصار عن الحرام (وإنما لك الأولى وليس لك الثانية). ولزوم الحجاب الشرعي للمرأة، وعدم اختلاطها بالرجال أو خلوتها بهم، والوعي بمخاطر سفر المرأة دون محرم، وعدم التهاون بذلك، والتنبه لمخاطر الهاتف والإعراض عن السفهاء، وعدم استقدام السائقين والخدم إلا لضرورة وبالمواصفات الشرعية، فالسائق مع زوجته، والخادمة مع زوجها، والاقتصار على المسلمين دون غيرهم، والحذر من وسائل الإعلام وما تبثه من برامج ساقطة وعدم الانخداع بدعوات المغرضين، أو الاستجابة لأصوات المنافقين، وتيسير المهور، ومراقبة البيوت، والإشراف ومزيد الاهتمام بالبنين والبنات، والاقتصاد في السفر للخارج- كل هذه إذا وضعها المسلم نصيب عينه، وأولاها من العناية ما تستحق فستكون بإذن الله عوامل ناجحة في العلاج وطرقًا مهمة لقطع دابر الفتنة. ¬

(¬1) سورة محمد، الآيتان: 29 - 30.

ويبقى بعد ذلك دور الجهات المسؤولة في تنفيذ الأحكام، فلا يأخذ المسؤول لومة لائم في تطبيق الحدود وإقامة شرع الله كما أمر، (فالله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، وبعض الناس يخيفه عذاب الدنيا ويخشى العار من الخلق أكثر من خوفه من عذاب الله، وخشيته من الفضيحة الكبرى، وهؤلاء لا تردعهم إلا القوة، ولا يصلح معهم الضعف والمسامحة، والله تعالى وهو أرحم الراحمين يقوله في تطبيق الحدود على الزناة: {وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} (¬1). ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا المعنى كلامًا جميلاً ومما قاله: وبهذا يتبين لك أن العقوبات الشرعية كلها أدوية نافعة يصلح الله بها مرض القلوب وهي من رحمة الله بعباده ورأفته بهم الداخلة في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (¬2). فمن ترك هذه الرحمة النافعة كرأفة يجدها بالمريض، فهو الذي أعان على عذابه وهلاكه، وإن كان لا يريد إلا الخير إذ هو في ذلك جاهل أحمق .. إلى أن يقول: ومن الناس من تأخذه الرأفة بهم لمشاركته لهم في ذلك المرض وذوقه ما ذاقوا من قوة الشهوة وبرودة القلب والديانة، فيترك ما أمر الله به من العقوبة وهو في ذلك أظلم الناس وأريثهم في حق نفسه ونظائره، وهو بمنزلة جماعة من المرضى قد وصف لهم الطبيب ما ينفعهم فوجد كبيرهم مرراته فترك شربه ونهى عن سقيه للباقين) (¬3). نعوذ بالله من الخذلان، ونسألك اللهم البعد عن الفواحش، والدياثة وسيء الأخلاق. ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 2. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 157. (¬3) الفتاوى 15/ 290/ 291.

اللهم طهر قلوبنا من الآثام والأمراض، واحفظ جوارحنا عن الفواحش وسيء الأخلاق، اللهم احفظنا واحفظ لنا وطهرنا وطهر لنا، اللهم كما حفظت أنبياءك وأولياءك فاحفظنا .. اللهم ألهمنا رشدنا وبصرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، اللهم اهد ضال المسلمين.

من فقه النوازل وثمار السنن

من فقه النوازل وثمار السنن (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين أحاط بكل شيء علمًا، وخلق فسوى وقدر فهدى، وسعت رحمته كل شيء، وجعل بعد العسر يسرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ما يقدر في هذا الكون من خيرٍ أو شرٍ فله الحكمة البالغة، يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، وما جعل عليهم في الدين من حرج، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بلغ رسالة ربه، واحتمل في سبيلها الأذى وأحاطت الفتن به وبأصحابه، فصبروا لأمر الله، ورضوا بما قدر الله، فأعقبهم الحسنى وكتب لهم النصر في الدنيا ووعدهم النعيم الدائم في الحياة الأخرى .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء الذي صبروا على اللأواء ... وعلى آل محمد المؤمنين، وارض اللهم عن أصحابه البررة المتقين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. اتقوا الله عباد الله، واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬2). معاشر المسلمين، وبإزاء النوازل الواقعة والفتن المتلاحقة في ديار المسلمين تكاد القلوب تطير هلعًا وجزعًا لهولها، وتكاد أقدام تزل بعد ثبوتها، أفيليق أن تهتزَّ القناعات لحدثٍ مدمرٍ، أو تغير الثوابت لمحنةٍ مزلزلة ... أو يفقد التوازن ¬

(¬1) 23/ 12/ 1416 هـ. (¬2) سورة التوبة، الآية: 119.

لقدرٍ إلهي واقع؟ كلا .. والذين ينظرون بنور الله، ويقرؤون آياته ويحسنون الظنَّ بالله لا تروعهم الأحداث مهما كانت جسامتها ولا يفقدون الثقة بأنفسهم ولا يسيئون الظنَّ بربهم مهما أظلم الليلُ وهاجت الأعاصير، وأخافت أصوات الرعود والبروق، أولئك يفقهون قوله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬1). قال أبو عبيدة (عسى) من الله إيجاب، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقَّة وهو خيرٌ لكم، في أنكم تغلبون وتظفرون وتغنمون وتؤجرون، ومن مات مات شهيدًا، وعسى أن تحبوا الدَّ عةَ وترك القتال وهو شرٌ لكم، في أنكم تُغلبون وتُذلون ويذهب أمركم، قال القرطبي رحمه الله: تعليقًا على هذه الآية: وهذا صحيحٌ لا غبار عليه، كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد وجنبوا عن القتال، وأكثروا من الفرار، فاستولى العدوُّ على البلاد، وأي بلاد؟ وأسر، وقتل، وسبى واسترق، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته. وقال الحق- في معنى الآية- لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلربَّ أمرٍ تكرهه فيه نجاتك، ولربَّ أمرٍ تحبه فيه عطبك (¬2). أيها المسلمون، هكذا يدرك العارفون فقه النوازل، وكذلك ينبغي أن ينظر المسلم بنور الله إلى الفتن والحوادث. إن الشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس، وطبائع القلوب، ودرجة الغبش فيها والصفاء، ودرجة الهلع فيها ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 216. (¬2) تفسير القرطبي.

والصبر، ودرجة الثقة فيها بالله والقنوط، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم والجموح. كذلك امتحن الله المسلمين فيما مضى وزلزلوا زلزالاً شديدًا، وكذلك يُمتحن المسلمون اليوم، وتموج الأرض من تحت أقدامهم .. ليميز الله الخبيث من الطيب .. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين. إن سنن الله ثابتة، فالفساد في الأرض، والتمرد على شرع الله، والذل والهوان، والرغبة في العاجلة، والارتماء في أحضان الكافرين .. لابد وأن يعاقب الله عليه عاجلاً، حتى تصفو النفوس، وتستقيم القلوب، وتعود الشوارد، وتستجيب الصمُّ لنداء الحق. يقول ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (¬1). (أي لابد أن يعقد سببًا من المحنة، يظهر فيها وليُّه، وينفضح فيه عدوُّه، ويعرف به المؤمن الصابر، والمنافق الفاجر). عباد الله، ومع ما يقدر الله على العباد من محن وبلايا، وأحداث ورزايا، فقد كتب الرحمة على نفسه، فالابتلاء لحكمةٍ وفي المحن منح، وإن مع العسر يسرًا {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (¬2). والمسلم العارف بربَّه يوافقه الشعور برحمة الله به في أي حال كان، يستيقن أن الرحمة وراء كلِّ لمحة، وكلِّ حالة، وأن ربَّه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه أو طرده من رحمته، فإن الله لا يطرد من رحمته أحدًا يرجوها، وإنما يطرد ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 179. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 12.

الناس أنفسهم من هذه الرحمة حين يكفرون بالله، ويرفضون رحمته ويبعدون عنها. إن توفر الطمأنينة إلى رحمة الله تملأ القلب بالثبات، والصبر، وبالرضا، وبالرجاء، والأمل، وبالهدوء والراحة .. ألا وإنه لا ممسك لرحمةٍ يفتحها الله للناس، ولا مرسل لما أمسك {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬1). أين الواثقون بعطاء الله، أين الإيمان بآيات الله، أين اليقين والرضا والتسليم بما قدر الله .. كيف تطلب الرحمة من غير واهبها؟ وكيف يطلب المسلمون الإرسال والمدد من البشر وبيد خالقهم مفاتيح النفع والضر؟ وهل تطيب النعم الظاهرة إذا كنت بمنأى عن رحمة الله؟ وهل تضير المحن والبلايا إذا ظللت أصحابها رحمة الله؟ يقول صاحب الظلال تعليقًا على هذه الآية- وما أروع ما قال-: (وما من نعمة- يمسك الله معها رحمته- حتى تنقلب هي بذاتها نقمة، وما من محنةٍ تحفها رحمه الله حتى تكون هي بذاتها نعمة، ينام الإنسان على الشوك مع رحمة الله فإذا هو مهاد، وينام على الحرير وقد أُمسكت عنه فإذا هو شوك القتاد، ويعالج أعسر الأمور برحمة الله فإذا هي هوادةٌ ويسر، ويعالج أيسر الأمور، وقد تخلت رحمة الله، فإذا هي مشقة وعسر، ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام، ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مَهْلَكةٌ وبوار. ولا ضيق مع رحمة الله إنما الضيق في إمساكها دون سواه، ولا ضيق ولو ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 2.

كان صاحبها في غياهيب السجن، أو في جحيم العذاب، أو في شعاب الهلاك، ولا سعة مع إمساكها، ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم وفي مراتع الرخاء، فمن داخل النفس برحمة الله تتفجر ينابيع السعادة والرضى والطمأنينة، ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصيب والكدر والمعاناة .. إلى أن يقول رحمه الله: رحمة الله لا تَعزُّ على طالب في أي مكان ولا في أي حال، وجَدَها إبراهيم عليه السلام في النار، ووجدها يوسف عليه السلام في الجُبِّ، كما وجدها في السجن، ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت، في ظلمات ثلاث، ووجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفلٌ مجرد من كلِّ قوة ومن كلِّ حراسة، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدوٌ له متربصٌ به ويبحث عنه، ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور، فقال بعضهم لبعض: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته} (¬1). ووجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار، والقوم يتعقبونهما ويقصُّون الآثار .. ووجدها كلُّ من آوى إليها يائسًا من كل ما سواها، منقطعًا عن كلِّ شبهةٍ في قوة، وعن كلِّ فطنة في رحمة الله، قاصدًا أبواب الله وحده دون الأبواب). إلخ كلامه الجميل يرحمه الله (¬2) .. ألا ما أحوجنا إلى التأمل في كتاب ربِّنا، نستهلم فيه الأمنَ والإيمان يهدِّئ من روعنا، ويديم صلتنا بخالقنا، ويذهب قلقنا، وتستقيم معه حياتنا .. أجل لقد كان نبي الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم يتمثل هذه المعاني ويحياها، يصبر على ما أصابه، ويثني على ربِّه، ولا ينسب الخير إلا له، وهو القائل: (والشر ليس إليك) (¬3). ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 16. (¬2) الظلال، الآية 2 من سورة فاطر. (¬3) جزء من حديث رواه مسلم، كتاب صلاة المسلمون (771).

وعلَّم أمته حين تصاب بالهمِّ والحزن أن تقول- فيما تقول- (ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك) وذلك منتهى الرضا والتسليم والحمد والشعور بعدل رب العالين، وكذلك ينبغي أن يقتدي المسلم، فيستشعر الرضاء في كل قضاءٍ يختاره له ربُّه. ومن مأثور السلف، يُروى أنه اجتمع وهيبٌ بن الورد وسفيان الثوري ويوسف بن أسباط فقال الثوري: قد كنت أكره موت الفجأة قبل اليوم، وأما اليوم: وددت أني ميت، فقال له يوسف بن أسباط: ولِمَ؟ فقال: لما أتخوف من الفتنة، فقال يوسف: لكني لا أكره طول البقاء، فقال الثوري: ولم تكره الموت؟ قال: لعلِّي أصادف يومًا أتوب فيه وأعمل صالحًا، فقيل لوهيب: أي شيء تقول أنت؟ فقال: أنا لا أختار شيئًا، أَحبُّ ذلك إليَّ أحبُّه إلى الله، فقبَّل الثوري بين عينيه وقال: روحانية ورب الكعبة. قال ابن القيم معلقًا: وقد كان لوهيب المقام العالي من الرضا وغيره (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (¬2). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا واستغفر الله .. ¬

(¬1) مدارج السالكين 2/ 224. (¬2) سورة آل عمران، الآيتان: 140، 141.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله على كلِّ حال، وأشكره على الدوام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم ما لا نعلم ويقدر ما لا نقدِّر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله لاستنقاذ العباد من عبودية العباد إنما عبودية ربِّ العباد، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين .. إخوة الإيمان، والمعرفة اليقينية بسنن الله في هذا الكون تورث في المسلم ثمارًا يانعة يحسها في الدنيا ويجد ثوابها يوم يلقى الله .. ومن هذه الثمار: 1 - تحقيق العبودية لله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، فإذا كنا نعلم أن من أسمائه: العليم، الحكيم، البر، الرحيم، اللطيف، الودود، ونحوها .. فلا معنى للتسخط لأي قدر يقدره الله .. بل لابد من الإيمان أن فيما يقدره الله في هذا الكون الخير، وسواء أدركنا ذلك أم لم ندركه، وينتج عن هذا الإيمان حسن الظنِّ بالله، وصدق التوكل عليه، وقوة اليقين والمحبة لله ولرسوله ولدينه. 2 - كما تثمر هذه المعرفة اليقينية في القلب ثباتًا ورباطةَ جأشٍ وصبرًا أمام الابتلاءات والمصائب، والمسلم مثابٌ على صبره ويرجو رحمة ربه، هكذا علمنا القرآن وذلك فرق بين صبرنا وصبر أهل الملل والأديان: {إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (¬1). وتأملوا فقه السلف في فهم حكم المصائب والنوازل، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (إن كلَّ قدرٍ يكرهه العبد ولا يلائمه لا يخلو: إما إن يكون عقوبةً على الذنب، ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 104.

فهو دواءٌ لمرضٍ لولا تدارك الحكيم إياه بالدواء لترامى المرضى إلى الهلاك، أو يكون سببًا لنعمةٍ لا تنال إلا بذلك المكروه، فالمكروه يرتفع ويتلاشى، وما يترتب عليه من النعمة دائم لا ينقطع، فإذا شهد العبد هذين المشهدين انفتح له باب الرضى عن ربه في كل ما يقضيه له ويقدره) (¬1). 3 - وهذه وتلك تورث القلب شعورًا بالأنس والسعادة والطمأنينة والسكينة مهما اشتدت المصائب أو توالت المحن، وتلك وربي هي البلسم الشافي الذي افتقد في حياة كثير من المسلمين، وحل محلها القلق والاكتئاب، وساد عند البعض منهم شعور بالإحباط، وكادت الحياة تظلم بانتشار الهمِّ والغم والحزن وشتات القلب، وسوء الحال، وظن السوء بالله. 4 - والنظرة الإيمانية الفاحصة في حجم المآسي والمصائب النازلة في ديار المسلمين تدعو أصحابها إلى محاسبة أنفسهم ومراجعة حساباتهم، وتفقد إيمانهم، والنظر في مصداقية علاقاتهم بخالقهم .. فما نزل بلاءٌ إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة- أو ليس قيل لخير القرون: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} (¬2). إن المصائب الواقعة في الأمة درسٌ ينبغي أن يعوه، وخللٌ واقعٌ في أنفسهم لابد أن يصلحوه، وثغرات مفتحة لابد أن يسدوها، هنا تتحول المصائب إلى دروسٍ معلمةٍ للأمة، ومدرسةٍ للإصلاح والاستصلاح يفيء المسلمون فيها إلى خالقهم متضرعين بين يديه، بعد أن مدوا أيديهم زمانًا إلى غيره، فلم يغنهم من جوع ولم يؤمنهم من خوف، ويعودون إلى شريعة السماء بعد أن أفلست تعاليم ¬

(¬1) المدارج .. عن لا تحسبوه شرًا لكم ص 107، 108. عبد العزيز الجليل. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 165.

الأرض، وشرائع الخلق، ذلكم درسٌ لا يعيه إلا أهل القرآن الذين يقفون عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1). وعند قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬2). ألا ومن أيقظته المصائب وردته إلى الله فتاب وأناب فإن المصيبة في حق هذا خيرٌ ونعمة، وأما من زادته طغيانًا وإمعانًا في الذنوب والمعاصي، فإنها في حقه فتنة ونقمة .. ولا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون .. 5 - ومن ثمار الفطرة الإيمانية في سنن الله الكونية الأناة وعدم الاستعجال في المواقف، والبعد عن التصرفات الرعناء .. وكم تعجل أقوام أمورهم فصارت نتائجها وبالاً عليهم، وكم سئم أناسٌ من نعمةٍ هم فيها لكنهم تقالوها وملوها فانتقلوا بجهلهم إلى ما هو أسوأ منها. ويصف ابن القيم رحمه الله هذا الداء الخفي حين يقول- وتنبهوا لما يقول-: (من الآفات الخفية العامة أن يكون العبد في نعمةٍ أنعم الله بها عليه واختارها له، فيملُّها العبد، ويطلب الانتقال منها إلا ما يزعم لجهله أنه خيرٌ له منها، وربُّه برحمته لا يخرجه من تلك النعمة ويعذره بجهله وسوء اختياره لنفسه، حتى إذا ضاق ذرعًا بتلك النعمة وسخطها وتبرم بها، واستحكم ملله لها سلبه الله إياها، فإذا انتقل إلى ما طلبه، ورأى التفاوت بين ما كان فيه وما صار إليه اشتد قلقه ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآيتان: 42، 43. (¬2) سورة الروم، الآية: 41.

وندمه وطلب العودة إلى ما كان فيه .. إلى أن يقول: والموفق من شهد نعمة الله عليه فشكره عليها وثبت عليها، فإن حدثته نفسه الانتقال منها استخار الله استخارة جاهلٍ بمصلحته مفوضٍ أمره إلى الله .. (ولا خاب من استخار وفوض أمره إلى العزيز الجبار)، ثم يختم بقوله: (فأكثر الناس أعداء نعم الله عليهم ولا يشعرون) (¬1). أيها المسلمون، وهناك ثمارٌ أخرى للتأمل في سنن الله في هذا الكون، يفتح الله بها على عباده المؤمنين الذين ينظرون بنور الله، ويزنون بميزان الكتاب والسنة، أولئك- فوق ما سبق- ينظرون إلى هذه الفتن والأحداث المؤلمة على أنها أضواء في طريق اليقظة، ومقدمات بين يدي النصر الموعود للمؤمنين. ينظرون إلى هذه الأحداث المؤلمة أحيانًا، والباعثة للفتن أحيانًا أخرى على أن فيها تعجيلاً لانصرام ظلام الليل، وبشائر لطلوع الفجر .. وقد علمنا الله من سننه أن الفوج بعد الشدة، وأن مع العسر يسرًا، وأن التمكين في الأرض يكون بعد الاستضعاف والتشريد، لكن لابد أن يعي المسلمون أسباب الضياع، ويبدؤوا طريق الإصلاح، ويدَعوا التواكل والسلبية، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم- وإن تتولوا يستبدله قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم .. اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء واختر لنا ما اخترته لأوليائك المتقين .. اللهم انصر دينك وأعز أولياءك. ¬

(¬1) الفوائد/ 181 (بتصرف) وانظر: لا تحسبوه شرًا لكم، عبد العزيز الجليل/ 147، 148.

(1) الثورة الغالية (نماذج ووقائع)

(1) الثورة الغالية (نماذج ووقائع) (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ... أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين في أنفسكم، ومَن تحت أيديكم احملوهم على طاعة الله، وجنبوهم مواطن الزلل، واستجيبوا لربكم حيث يخاطبكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬2). أيها المسلمون، وحديثي إليكم اليوم عن الثروة الغالية .. عن الطاقة الحيوية المتجددة في الحاضر، وعن ثروة الأمة ومستودعها المذخور في المستقبل عن الشباب ذكرانًا وإناثًا .. ولئن كنا قد اعتدنا الحديث عن الشباب في المناسبات، كحلول الإجازات الصيفية مثلاً، فالحديث عن الشباب أشمل من ذلك وأكبر، وينبغي أن يكون متواصلاً يعكس حجم الاهتمام بالشباب والعناية بهم على الدوام. ولئن اعتاد بعضنا أن يكون حديثهم عن الشباب مقصورًا على اللوم والتقريع لا أكثر، فمن الإنصاف أن يكون الحديث تلمسًا لأسباب الداء، واجتهادًا في وصف الدواء .. ¬

(¬1) في 16/ 2/ 1417 هـ. (¬2) سورة التحريم، الآية: 6.

إن من السهل على أي منا أن يلوم الشباب ويُجرِّمهم، ويتحدث عن انحرافهم، ولكن التحدي يكمن في مساهمتنا في حل مشكلاتهم وتقويم ما انحرف من سلوكياتهم، واقتراح البرامج العملية المفيدة لاستثمار أوقاتهم، وتلبية رغباتهم والاستجابة لطموحاتهم وفق تعاليم الإسلام، ليس ذلك دفاعًا أبلهًا عن الشباب، ولا تجريدًا لهم عن المسؤولية الملقاة على عواتقهم، ولا تبريرًا لأخطائهم .. لكنها المسؤولية المشتركة لابد من بيانها، والتعرف على حقيقة المشكلة والأطراف المسؤولة عنها، وتلمس أفضل طرق العلاج بعيدًا عن التلاوم والمنازعة والخصام، دون إسهام في العلاج. إخوة الإسلام، وليس يخفى أن عنصر الشباب محل اهتمامٍ عالمي وهم كذلك محلُّ إشكال دولي، ومعدل الجريمة بينهم أكثر من غيرهم، ومن عجبٍ أن الأنظمة البشرية مهما كانت مُقنَّنةً وصارمةً، والتقنيات البشرية مهما تقدمت في أساليب مكافحة الجريمة، فيأبى الله إلا أن تتزايد نسب الجريمة، وترتفع معدلاته كلما ابتعد البشر عن منهج الله وشريعته، ويتراجع المؤشر وتنخفض نسب الجريمة كلما حُكم الناس بشرع الله، وصدق الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (¬1). ليس ذلك تنظيرًا بل الواقع يشهد به، ومهما بلغت نسب انحراف الشباب في المجتمعات الإسلامية، فهي لا تبلغ أو تقارب النسب في المجتمعات الكافرة، وهاكم الدليل والمثال: يقول الرئيس الأمريكي جون كندي: إن الشباب في أمريكا آخذ في الانحراف بصورة مزعجة، حتى أصبح لا يصلح للتجنيد منهم إلا شخصٌ واحد من كلِّ ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 82.

سبعة أشخاص، وإذا كان ذلك فيما مضى، فلا نسأل عن جرائم الشباب وانحرافهم في تلك البلاد حاضرًا (¬1)؟ عباد الله ... وكيف لا تنخفض معدلات الجريمة في البلاد المسلمة، وشريعة الله عبر رسالات الرسل تهتم بالشباب، وتلفت الأنظار إليهم، وشباب المسلمين يجدون في كتاب الله نماذج للشباب القدوة، فإبراهيم عليه السلام- فتى الفتيان- كان أمة لله في طاعته وعبوديته لله، وكان أمة في تحطيم الأصنام ودعوة قومه إلى عبادة الواحد الديان، ويوسف عليه السلام نموذجٌ رفيع للشباب المتعفف عن الرذيلة رغم قوة الداعي، وصنوف الإغراء: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (¬2). - وأهل الكهف فتية آمنوا بربهم، واعتزلوا قومهم ولم يشاركوهم تخبطهم وانحرافهم: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً (14) هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} (¬3). - وفي وصايا لقمان لابنه وهو يعظه ما يؤكد عناية القرآن بتوجيه الشباب، وما أعظمها من وصايا لو عقلها وعمل بها الشباب. {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ ¬

(¬1) أحمد جمال، من أجل الشباب/ 21. (¬2) سورة يوسف، الآية: 23. (¬3) سورة الكهف، الآيات: 13 - 15.

أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (¬1). معاشر الشباب، وعناية الإسلام بكم تبدأ قبل وجودكم، والزوج يؤمر بحسن اختيار الزوجة الصالحة: « .. فاظفر بذات الدين تربت يداك .. » (¬2). وفي الحديث الآخر: «تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم» (¬3). وتستمر العناية بعد وجودكم، فأول ما ينبغي أن يقرَّ في آذانكم ذكر الله وتوحيده، والشهادتان، إذ من السنة أن يؤذن في أذن المولود ويقام في الأخرى .. وتظل آداب الإسلام تحوطكم وترعاكم أطفالاً وبالغين، وفي آداب الاستئذان نموذج لهذه الرعاية والتربية: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (¬4). ¬

(¬1) سورة لقمان، الآيات: 13 - 19. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه ابن ماجه والحاكم والبيهقي بسند صحيح (صحيح الجامع 2/ 27). (¬4) سورة النور، الآية: 59.

وحتى لا يطلع الشباب على علاقات آبائهم الخاصة فينشغلوا بها قبل أوانها .. ومع كل ألوان التربية وأساليبها، واختلاف مراحلها، يثني الله على الآباء الذين يواصلون التربية بالدعاء للذرية، ويذكر من صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (¬1). وليس ذلك فحسب، بل تشهد سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرته العملية اهتمامًا واضحًا بالشباب، وهل كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا شبابًا أحداثًا؟ وسأعرض لنموذجٍ واحدٍ فقط يؤكد مدى العناية بالشباب، علمًا، وعملاً، ودعوةً، واحتسابًا، وتضحيةً وجهادًا، وفي قصة السبعين الذين استشهدوا ببئر معونة خيرُ مثال على تكامل التربية وشمولها لشباب الإسلام .. وفي قصتهم أخرج البخاري في صحيحه عن أنس ابن مالك رضي الله عنه: (أن رعلاً وذكران وعصية وبني أحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدوًّ، فأمدهم بسبعين من الأنصار، كنا نسميهم (القُرَّاء) في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل حتى كانوا ببئر معونة، قتلوهم وغدروا بهم .. الحديث) (¬2). وفي صحيح مسلم عن أنس أيضًا- قال جاء ناسٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أن ابعث معنا رجالاً يُعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم القراء ... يقرؤون القرآن ويتدارسون بالليل، يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء ... الحديث (¬3). ¬

(¬1) سورة الفر قان، الآية: 74. (¬2) انظر الفتح 7/ 285. (¬3) صحيح مسلم 2/ 1511 ح 677.

وفي مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك- كذلك- قال: (كان شباب من الأنصار سبعين رجلاً يقال لهم القراء، يكونون في المسجد، فإذا أمسوا انتحوا ناحيةً من المدينة فيتدارسون ويصلون، يحسبهم أهلوهم في المسجد، ويحسبهم أهل المسجد في أهلهم، حتى إذا كان في وجه الصبح استعذبوا من الماء واحتطبوا من الحطب فجاءوا به فأسندوه إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم) (¬1). ومن مجموع هذه الروايات نستخلص الأمور التالية: - أن هؤلاء السبعين من الشباب، كانت لهم همَّةٌ في قراءة القرآن ومدارسته، وتعلم العلم والاجتماع عليه، حتى عرفوا بالقراء، ويظهر حرصهم على أوقاتهم، فهم يكونون في السجد لشهود الصلاة مع المسلمين، فإذا أمسوا انتحوا ناحية من المدينة للمدارسة والصلاة ... حتى يحسبهم أهلوهم في المسجد، ويحسبهم أهل المسجد في أهليهم .. - وما أحلى الاجتماع إذا كان على طاعة الله- {الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} (¬2). ومع همتهم في تلاوة القرآن ومدارسة العلم، والمحافظة على الصلوات- فرضها ونقلها- وإذا كان لهم نصيبهم من صلاة الليل فلا تسأل عن صلاتهم بالنهار- أقول مع هذه الهمة في العبادة .. فلهم همَّة بالعمل فلم يكونوا عالةً على أهليهم أو على المجتمع من حولهم بل كانوا يحتطبون ويبيعون .. بل تجاوز نفعهم للآخرين (وكانوا يشترون الطعام للفقراء، ويوفرون الماء للمحتاجين من المسلمين). ولم يقعدهم ذلك كلُّه عن الجهاد في سبيل الله، والدعوة لدينه، ولم ¬

(¬1) الشيخ محمد العثيمين: من مشكلات الشباب/ 46، 47. (¬2) سورة الزخرف، الآية: 67.

يستكثروا أي شيء يقدمونه لهذا الدين، ولم يندموا إذا فاضت أرواحهم شهداء في سبيل الله. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تأثر لمصابهم وما وجد على أحدٍ ما وجد عليهم (أصحاب بئر معونة) كما قال أنس (¬1). وهاك نماذج لمواقفهم وعناية الله بهم، هي وربي قمم في الإيمان، وهي صالحةٌ للاعتبار في أوساط الشيوخ والشبان. فهذا حرام بنُ ملحان- خال أنس- رضي الله عنهما، حينما أتاه رجلٌ من خلفه فطعنه برمحٍ حتى أنفذه، قال بالدم هكذا، ونضحه على وجهه ثم قال: (فزت ورب الكعبة) (¬2). وهذا (عامر بن فهيرة) رضي الله عنه، قال عنه أحد الكفار حين قتل: (لقد رأيته بعدما قتل رُفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض ثم وضع ... ) (¬3). وقد ذكر الواقدي وابن المبارك: أن الملائكة وارته ولم يره المشركون، قال ابن حجر: وفي ذلك تعظيم لعامر بن فهيرة، وترهيب للكفار وتخويف (¬4). أما قائدهم كما في رواية ابن إسحاق (المنذر بن عمرو الخزرجي)، فكان يلقب المُعْنِق ليموت وإنما لقب بذلك لأنه أسرع إلى الشهادة (¬5). ¬

(¬1) أخرجه ابن سعد: الطبقات 2/ 54. (¬2) متفق عليه. البخاري ج 4092، وسلم ج 677. (¬3) رواه البخاري 4093. (¬4) الفتح 7/ 390. (¬5) سيرة ابن هشام 3/ 184، 185.

ولا ينتهي عجبك من هؤلاء جميعًا حين تعلم أنهم سألوا الله أن يبلغ نبيه رسالتهم إليه وفيها: (اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا) وقد بلغت وكانت قرآنًا فنسخ (¬1). كذلك أخرج الإسلام قومي ... شبابًا مخلصًا حرًا أمينًا شباب ذللوا سبل المعالي ... وما عرفوا سوى الإسلام دينًا تعهدهم فأنبتهم نباتًا ... كريمًا طاب في الدنيا غصونًا اللهم ألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} (¬2). ¬

(¬1) متفق عليه ... سبق، والرواية لسلم (سبق). (¬2) سورة فصلت، الآيات: 30 - 32.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، خلق الإنسان من نطفةٍ فإذا هو خصيمٌ مبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يهدي من يشاء ويضل من يشاء ومن يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أخبر أن ربك يعجب من شاب ليس له صبوة (¬1). وأن أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه: شابٌ نشأ في طاعة الله (¬2). اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين .. فبين يدي الحديث عن انحرافات الشباب، أو نماذج من سلوكياتهم الخاطئة .. لابد من القول إن هناك العديد من الشباب في هذه البلاد- حرسها الله- وفقهم الله لالتزام الطريق المستقيم، فعرفوا حقَّ الله عليهم، وأدركوا قيمة الوقت في حياتهم، واعترفوا بالشكر لكل من أسدى إليهم معروفًا، فحياتهم سعيدة وقلوبهم مطمئنة، ونسأل الله أن يثبتنا وإياهم والمسلمين على الحقِّ حتى الموت .. وثمة طائفة أخرى بدأت تفيق من سبات نومها، وتتلمس الطريق المنقذ لها والآمن في حياتها، وتلك أدركت، بعد لأي، أن لا سعادة في الحياة الدنيا بعيدًا عن هدى الله .. ولا نجاة من عذاب الله إلا بسلوك صراط الله المستقيم .. وتلك الطائفة نسأل الله أن يبلغها مأمولها وأن يسدد في طريق الخير خطاها. ¬

(¬1) رواه أحمد. (¬2) متفق عليه.

أما الفئة الثالثة فهي التي لا تزال واقعةً تحت تأثير طيش الشباب وغروره، لا تكاد تبلغها الدعوة- وإن سمعتها فكأنما على مضض تسمع، وربما خيل لها أن المخاطب بالحديث غيرها .. هذه الفئة يؤنبها الضمير حينًا فتفكر في الإقلاع عما هي فيه من بؤس وشقاء .. ولكن سرعان ما يغلبها الهوى وترتكس في حمأة الخطيئة، وتخادع نفسها بتنفس أجواء الحرية المزعومة .. وتظن أنها تتقلب في نعيم الشهوة ولو ساعة .. ثم تتكشف لها الحقائق بعد حين فإذا بها أسيرةٌ لعبودية الشهوة .. وتظل تتجرع مرارة المعصية أيامًا طويلة وربما لم تفق إلا على سياط الجلادين .. وضمن مجموعة المساجين، أَوَهكذا يُذلِّ الإنسان نفسه ويرضى بالعبودية والأسر، بعد الحرية والعافية؟ أيها الشاب، ومن الجهل ألا تكتشف المشكلة إلا إذا وقعت الواقعة وانتشرت الفضيحة، وينبغي أن تعلم أنك وإن ستر الله عليك في هذه الحياة، فسيفضحك- إن لم تتب- على رؤوس الأشهاد- بعد الممات. ولابد أن تدرك أن السجن ليس مقصورًا على السجن الحسي المعروف، فثمةَ نوعٌ من السجن لاشك أنك تحس به أكثر من غيرك، إنه سجن الشهوة، وألم المعصية، وأسر الهوى .. فالمحبوس حقًا من حُبس عن خالقه فلا يتلذذ له بعبودية، ولا ينعم له بمناجاة، والمأسور من أسره هواه .. فهو يقوده إلى كلِّ هاوية ويقعد به عن أخلاق الإسلام العالية. - أيها الشباب المصرُّ على السفاهة والغرور- وفي ظلِّ تشخيصي لمشكلتك .. كأني أراك غالب وقتك مهمومًا مغمومًا، قلقًا حائرًا .. تضيق بك الدنيا على سعتها .. وتكره الناس وهم يحبونك، ويظل الشيطان يلقي في روعك من الوساوس والأوهام ما ليس له في الواقع حقيقة ولا مقام؟ - أراك تتهرب من رؤية الوالدين .. وتخاف كثيرًا من المتدينين، وتأنس

بالقرب من العابثين ... ويطيب لك حديث البطاطين، تنام عن الصلوات، وتتساهل بالواجبات، وتكثر من السفر للخارج، وتبالغ في الرحلات، - وكم نظرت إليك بأسى ورحمة وأنت تتسكع في الشوارع وتتخذ لك من الطرقات مجلسًا .. ومن الخطوط الدائرية مربعًا تقضي بها الساعات الطوال .. لا أنت في شغل من الدنيا فتحمد، ولا أنت في عملٍ للآخرة فتُغبط، تؤذي هذا، وتزعج ذاك، وتعتدي على حرمات ثالث، ثم تعود في الهزيع الأخير من الليل .. وقد حملت نفسك من الأوزار ما تنوء به .. وربما رجعت وأنت على خلاف وبغض مع أقرب الأصحاب إليك .. ، فإذا البيت الملتزم والصابر على لأوائك وسفهك ينتظرك بالكلمات الغاضبة نصحًا لك وشفقة عليك .. وربما أصابتك دعوة من أحد والديك .. وافقت ساعة استجابة فكانت سببًا لشقوتك إلى يوم الدين .. وهل تلوم الوالدين إذا فعلا معك المستحيل ثم لم يبق كما من سلاح إلا الدعاء .. فاظفر منهما بالدعاء الجميل قبل أن يسخطا عليك ويرسلا عليك سياط العذاب عبر الدعاء .. ودعاء الوالدين لا حجاب بينه وبين السماء؟ أيها الشاب والشابة، وكم من مؤلم لكما وللأمة من ورائكما أن تضيعا أوقاتكما بمشاهدة الأفلام الساقطة، والمسلسلات الهابطة، وتُديما النظر في الصور الخليعة، وتتخذا من المجلات الهابطة وسيلةً لتزجية الفراغ، وتتيحا لأسماعكما سماع الخنا والغناء والقول الساقط وكلام الزور، ويتعاظم الخطب إن بلغت بك هذه الوسائل المنحرفة مبلغها، فأردتك صريع الشهوة، فتجاسرت على حدود الله، واستحللت ما حرم الله من الزنا واللواط، وانتهكت محارم الآخرين، وأنت لا ترضى ذلك لأمك وأختك، ولا ترضينه لأبيك وأخيك إن كان بكما غيرة وشهامة وكذلك أظنكما؟ فإن تطور الأمر إلى تعاطي المخدرات وشرب المسكرات فتلك الطامة

الكبرى وتلك المأساة التي يراهن عليها الأعداء .. وليس على لبيب جُرم أمِّ الخبائث يخفى؟ يا أخا الإسلام، وفي ظلِّ حرب العقائد المعلنة، وصراع الحضارات الحقيقية والمصطنعة، فمن العار عليك أيها الشاب أن تخذل أمتك بتقليد أعدائك في هيأتك أو ملبسك، أو طريق تفكيرك، أو أسلوب حياتك أو التشكك في معتقدك الحق، ومن خوارم المروءة أن تتشبه بالنساء، وأن يكون قدوتك سواقط الفنانين والفنانات، ومثلك يأبي أن يستنوق الجمل؟ ومن العار أختي الشابة أن تطيري مع كلِّ موضة، وأن تُغرمي بالتقليد لكل ناعق وناعقة .. وفي عصر عودة الحجاب إياك أن تنخدعي بدعايات السفور أو أن تسمعي للمنافقات المستهترات بالحجاب؟ وفي زمنٍ أفلست فيه تجربة الاختلاط، وعادت مجالس الأمة تصوت بأغلبية ساحقة على قرار منع الاختلاط في التعليم .. فإياك أن تسمعي للأصوات المخدوعة التي تطرح بوضوح أو بأسلوب ملفوف الحاجة للاختلاط، ولو في الصفوف الدنيا من التعليم .. فإذا ابتدأ المرض في أسفل الجسم أو في طوف منه، لحق بأعلاه وشمله كله .. والوقاية خيرٌ من العلاج .. والبداية من حيث انتهى الآخرون دليل العقل والحكمة .. والدخول في النفق المظلم أو محاكاة التجربة الفاشلة نوعٌ من الجهل والتبعية والرغبة في محاكاة الآخرين لا أكثر. وفي الختام .. عذرًا أيها الشباب ذكرانًا وإناثًا إن لم أستطع التشخيص لكلِّ أدوائكم، أو قصرت في تشخيص حل مشكلاتكم، فليست محاكمًا، هدفي تتبع عوراتكم، ولا مشهَّرًا، أبغي الوقوف على كلِّ سقطاتكم، وإنما أنا لكم ناصحٌ وعليكم مشفق، واللبيب بالإشارة يفهم، ومن تذكر فإنما يتذكر لنفسه .. ومن ضلَّ فإنما يضل عليها .. فإن قلتم وما بالك شخصت الداء أو بعضه- ولم

تبيِّن شيئًا من أسبابه وطرق علاجه، وما القنوات المسؤولة عن استصلاح الشباب؟ وهل ترى المشكلة ستبدأ وتنتهي بنا أم هناك من جزءًا من مسؤولياتنا. أجبتكم أن ذلك لأهميته يحتاج مني لحديث خاصٍ أرجو من الله العون عليه في الجمعة القادمة بإذن الله. سددكم الله ورعاكم .. وهدانا وإياكم للحقِّ وجنبنا الشرور ومزالق الردى هذا وصلوا ..

(2) الثروة الغالية أسباب المشكلة وطرق العلاج

(2) الثروة الغالية أسباب المشكلة وطرق العلاج (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له .. إخوة الإسلام، تحدثت إليكم في خطبة مضت عن الشباب، نماذج من القرآن وسيرة محمد عليه الصلاة والسلام لشباب كانوا قممًا في إيمانهم، قدوة في أخلاقهم وسلوكياتهم .. وكذلك يكون الشباب حين يملأ الإيمان قلوبهم، وتكون الآخرة محطَّ أنظارهم، ثم أعقبت ذلك بحديث عن نماذج من السلوكيات الخاطئة للشباب حين ينحرف عن صراط الله المستقيم، مكتفيًا بوصف الظاهرة .. وقد وعدت باستكمال الحديث عن أسباب انحراف الشباب وطرق الوقاية والعلاج- وهو من ضوء حديث اليوم-. وأبدأ الحديث بسؤال طرحته في الأسبوع الماضي ويقول: هل تبدأ مشكلة انحراف الشباب وتنتهي بهم، أم هناك جهاتٌ أخرى تتحمل كفلاً من المسؤولية معهم؟ وأسارع بالإجابة قائلاً: يتكلف الذين يحملون المجتمع كلَّ أسباب الانحراف ويخلون الشباب من أي مسؤولية. ¬

(¬1) في: 20/ 2/ 1417 هـ.

ويخطئ الذين يُحملون الشباب وحدهم مسؤولية انحرافهم. والنظرة المتزنة تقول: إن المسؤولية مشتركة بين الشباب والمجتمع، فكلٌ يتحمل قسطًا من المسؤولية. ويرى صاحب كتاب (من أجل الشباب) أن مشكلة انحراف الشباب تنحصر في أسباب ثلاثة: بعضها ذاتي، وبعضها محلي، وبعضها خارجي .. ثم يقول: أما السبب الخارجي لانحراف الشباب المسلم ومشكلاته فهو العدوى السريعة الفتاكة التي انتقلت من شباب الغرب العلماني، وشباب الشرق الإلحادي إلى شباب العالم الإسلامي .. أما السبب المحلي فهو التناقض الاجتماعي العجيب الذي يشيع في جوانب شتى من حياة الشباب، في البيت والمدرسة، والسوق والشارع والنادي، فهو يتعلم في مدرسته أمور دينه، ويستمع من العلماء والوعاظ إلى دروس أخلاقية ... ثم ينطلق إلى البيت والسوق والنادي فلا يرى أثرًا أو صورًا أو مثالاً لما تعلمه في المدرسة أو استمع إليه في المسجد (وحتى نكون منصفين فلابد من القول إن هذا التناقض لا يشمل كلَ بيت- ولا أظن الكاتب يقصد هذا بقدر ما أراد الإشارة إلى وجود هذا التناقض في حياة الشباب). ويواصل الكاتب تحليله لهذا التناقض ويقول: (ثم يتكرر هذا التناقض عندما يرى الشاب في التلفاز، أو يسمع في المذياع قصةً إسلاميةً رائعةً تبدو فيها الأسرة مسلمةَ العقيدة والسلوك، أو حديثًا دينيًا يحث على مكارم الأخلاق، ويروي أو ينقل بعض الآداب القرآنية والنبوية .. ثم بعد ذلك مباشرةً يرى أو يسمع من نفس المذياع أو ذات التلفاز قصصًا تمثيلية أو أغنيات أو أحاديث تغري بمشاهدتها وحركاتها بالفسق والفجور وعظائم الأمور.

هذا إلى جانب ما يرى- في المكتبات التجارية- من كتبٍ وصحف ومجلات تناقض موضوعاتها وصورها وقصصها، وتلوث في قلوب الشباب حيرةً وضلالاً لا يميِّز معها الطيب من الخبيث .. ويختم الكاتب حديثه عن هذا السبب قائلاً: وهذا السبب في نظرنا أهمَّ الأسباب الثلاثة، وأخطرها، وأجدرها أن نبدأ بإصلاحه وتقويمه. أما السبب الثالث- في نظر الكاتب- فهو راجعٌ لطبيعة الشباب من الحدَّة، والجدة، وحبَّ الانطلاق، والحرص على الحرية، والفراغ من المهمات والفراغ من المهمات والشواغل (¬1). أيها المسلمون، وتعالوا بنا لنحاسب أنفسنا، ونقف وقفة جادة مع بيوتنا، وأثرها في سلوكيات الشباب، وطرائق تربيتهم، إذ من المقطوع به أن البيت هو العامل النبوي الأمثل، والوعاء الثقافي الأول في تنشئة الفرد وتكوينه .. ومع المصارحة لابد من القول: إن بعض الآباء- هداهم الله- يفهم من تربية الأولاد أنها توفيرٌ للمطعم والمشرب، والمسكن والملبس، لا أكثر، بينما تفهم عدد من الأمهات أن مسؤولية التربية من نصيب الآباء، وليس للأمهات نصيب فيها، وهذا الصنف المهمل للتربية يقابله صنفٌ آخر يشتد في التربية، ويتجاوز في أساليبها، وربما كانت هذه الشدة، في غير موضعها- سببًا من أسباب الانحراف- لا قدر الله- فإذا أُضيف التسابق المحموم عند بعض الأسر في توفير وسائل المتعة والترفيه، ولو كانت مما يهدم الدين والقيم، أدركنا أثر بعض البيوت في انحراف الشباب. واسمحوا لي أن أنقلكم نقلة بعيدة ولكنها معبرة، فإذا علمتم أن إمام أهل ¬

(¬1) أحمد محمد جمال: من أجل الشباب: ص 54، 57.

السنة والجماعة، الإمام أحمد بن حنبل يرحمه الله، قد توفي أبوه وهو في الثالثة من عمره (¬1) وأن أمه هي التي تولت كفالته وتربيته .. أدركتم نماذج لتربية البيوت في تلك الأزمان، وإذا كان هذا نموذجًا لتربية النساء، فلا تسال عن تربية الرجال! ألا وإن اهتمام البيوت بالشباب من علائم الوعي، ومؤشر للغيرة، وإذا كان أحد الأسباب في الانحراف، فهو أول الطريق لاستصلاح الشباب. إخوة الإسلام، وتشكل المدرسة محضنًا تربوية صالحًا، لا يقل أثرُه عن البيوت، فقد يتقبل الشاب من معلميه ما لا يتقبله من أهل بيته. ولكن المدرسة التي هذا شأنها قد تكون سببًا في انحراف الشباب لا قدر الله وذلك حينما تغفل عن الاهتمام بسلوكيات الشباب أو الشابات، أو لا تعير اهتمامًا للعلاقات المريبة التي تنشأ بين بعضهم. وتحية للمديرين والوكلاء والمعلمين والمرشدين الذين يولون هذه القضايا عنايتهم، ويتعهدون الشباب والشابات بالتوجيه والمتابعة. إن المجتمع، بكامل مؤسساته، وأفراده مسؤول عن استقامة الشباب أو انحرافهم، فإذا قصرت المؤسسات التربوية في أداء رسالتها، وانشغل التجار بتجارتهم، واستنكف العلماء والمفكرون عن محاورة الشباب وحل مشكلاتهم، ولم تتوفر أو تشجَّع المحاضن المناسبة لملء فراغ الشباب، وحركت وسائل الإعلام غرائز الشباب، ولم تسمُ بها، ورُبِّيت أفراخ الصقور تربية بغاث الطيور، وأشبال الأسود تربية الخراف، كما قال التربويون (¬2) هنا لا تسأل عن واقع الشباب، ولا تستغرب انحرافهم. ¬

(¬1) البداية والنهاية 15/ 369. (¬2) (إقبال) مشكلات الشباب ... د. عباس محجوب/ 27.

وإذا كان هذا يقال عن الأسباب المحلية التي قد تؤدي إلى انحراف الشباب، فليس هذا مبررًا لانحراف الشباب، ولا بمخلٍ لهم عن مسؤولية انحرافهم، فالتبعة في الإسلام فردية، ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى، والله تعالى هدى الإنسان النجدين، وحباه عقلاً يميز به بين الضار والنافع، والخير والشر، وبالتالي فهو يتحمَّل تبعة تقصيره، ولا يتعارض هذا مع تحمل الآخرين مسؤولياتهم. ومن الأسباب الخاصة بالشباب والمؤدية بهم إلى الانحراف ضعف الإيمان بالله، وأنه مطلعٌ على السرائر وما تخفي الصدور، وضعف الإيمان بالملائكة الكاتبين، وبالرسل المبشرين المنذرين، وما حوته آيات القرآن من الوعد والوعيد، واستبعاد اليوم الآخر وما فيه من مشاهد القيامة التي تشيب لها النواصي، وتذهل المرضعات عما أرضعت، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، وكذا ضعف الإيمان بالقدر خيره وشره، مما يورث الهم والقلق على الحاضر، أو أشباحًا من الخوف على المستقبل، فيقود ذلك كله الشباب إلى الانحراف. ومع أثر ضعف الإيمان في الانحراف، فلا يقل عنه أثرًا ضعف العلم الشرعي الذي يقود الشباب للفرار من مشكلة للوقوع فيما هو أشكل منها ... ويرتكب المحظور- وكأنما يقوم بالمأمور-. وتشكل رفقة السوء منعطفًا خطيرًا في حياة الشباب ... منها تبدأ المشاكل، وفي جحيمها يتورط الشباب بأمور قد يكونون كارهين في ذوات أنفسهم، ولكن الخلطة السيئة جرتهم إليها، وجرأتهم على فعلها. كما تشكل المكالمات الهاتفية الساقطة، واللصوص الجبناء الذين يتحدثون من وراء .. ولا يقع في شراكهم إلا المخدوعون والضعفاء .. أقول تشكل هذه المكالمات الهاتفية سببًا من أسباب انحراف البنين والبنات.

والشباب والشابات الذين يعيشون في بحبوحة من العيش، ويكون عندهم من أوقات الفراغ ما لا يستطيعون توجيهه في عبادة صائبة أو تعلم علم نافع، أو استثماره في عمل دنيوي بما يتناسب وطبيعة كل منهما، هؤلاء الذين لا يستطيعون ملء وقت فراغهم بالنافع سيملؤونه بالضار، فالشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة. والقراءة في الكتب المنحرفة، ومطالعة المجلات الخليعة، وتبادل الأشرطة الساقطة، والقرب من مروجي المخدرات أو متعاطيها، كل ذلك يدعو للانحراف، ويقضي على القيم، ويقتل الحياء .. وإذا فقد الحياء فقد الخير والإيمان. يعيش المرء ما استحيا بخيرٍ ... ويبقى العود ما بقي اللحاءُ إذا لم تخش عاقبة الليالي ... ولم تستحي فاصنع ما تشاءُ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} (¬1). ¬

(¬1) سورة الزخرف، الآيات: 36 - 38.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا إله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. أما بعد، فإذا توصيف الداء أمكن مباشرة العلاج، وأول طرائق العلاج العناية بإزالة أسباب الانحراف. فالبيت ينبغي أن يتحمل مسؤوليته كاملة في تربية الفتيان والفتيات، وذلك بالمتابعة والتعرف على أحوالهم، والمسارعة بحل مشكلاتهم، ولكُم أن تتصوروا حجم إهمال بعض البيوت من خلاله الدراسة الميدانية التي أُجريت على عينة من الشباب، وأظهرت النتائج التالية: نسبة من يطلعون على أسرار أبنائهم دائمًا هي 3.2% وهي نسبة قليلة جدًا، في حين أن نسبة من لا يطلعون على أسرار أبنائهم الشباب 5. 64%، أما الذين يطلعون أحيانًا فهي 32.3%، وبالتالي تكون نسمة من لا يطلعون أصلاً أو يطلعون أحيانًا على مشكلات أبنائهم 96.8% وهي نسبة مذهلة، وهل يستطيع بيتٌ حل مشكلة وهو لا يدرك بها أصلاً، أو يعرف شيئًا ويجهل أشياء؟ (¬1). وعلى المدرسة أن تتجاوز في مهمتها التربوية التلقين وحشد أكبر قدر من المعلومات، وأن تعنى بأخلاق الطلبة والطالبات، وتتعرف على مشكلاتهم وتساهم في حلها، وأن توفر لهم المناخ المناسب للتربية بجوانبها المختلفة. ووسائل الإعلام، ورجالات الإعلام، عليهم كفلٌ من مسؤولية الشباب ¬

(¬1) مشكلات الشباب والمنهج الإسلامي في علاجها/ شبير ص 334.

وعليهم ألا يثيروا غرائز الشباب بصورة فاتنة، أو ألحان حب وغرام محرمة، أو خبر مثير، وألا يستهلكوا أوقاتهم، ويبددوا طاقاتهم بما لا يخدمهم ولا ينفع أمتهم. وشعور المجتمع كله بقيمة الشباب، وتلمس مشكلاتهم، والإسهام في حلها يقلل الانحراف، ويحصر المنحرفين. وإذا كان هذا يقال للشباب العاجزين عن حل مشكلاتهم، فيقال لمن بلي بشيء من الانحراف ولديه استعداد لسماع موعظة الناصحين. إن الإيمان سبب للسعادة والأمان، وطلب العلم يفتح لصاحبه آفاقًا من المعرفة تصرفه عن مواطق الردى، ويسهل الله به طريقًا إلى الجنة، ورفقة الخير عون على الطاعة، والترفع عن السواقط من المروءة، والاعتبار بمن هلك منحرفًا كفيلٌ بالمراجعة والمحاسبة، وعلو الهمة سبب للمكرمات، وصارف بإذن الله عن الفضائح والموبقات، ولهذا يروى عن عمر، رضي الله عنه، أنه قال: (لا تصغرنَّ همتكم، فإني لم أر أقعدَ عن المكرمات من صغر الهمم) (¬1). أيها المسلمون، وثمة قنوات ووسائل لاستصلاح الشباب، وحفظ أوقاتهم، وبيوت الله أولى ما حفظ الشباب بها أوقاتهم تعلمًا لكتاب الله، وأداءً لفرائضه، وحضورًا لمجالس العلم، واستفادةً من العلماء، والنشاط المدرسي الموجه وسيلة لبناء شخصية الشباب، وحفظ أوقاتهم، وتنمية مهاراتهم، وكم هي خطوة رائدة لتعليم البنات حين استثمرت أوقات فراغ بعض الطالبات بإيجاد حلق لتحفيظ القرآن الكريم، والأندية الأدبية رافد من روافد المعرفة، فهي تستقطب الشباب بمسابقة القصة الهادفة، وتعليم الخطابة، وربط الشباب بهموم الأمة عبر ¬

(¬1) أدب الدنيا والدين للماوردي ص 319، عن الهمة العالية/ الحمد/ 95.

الحوار الهادف، والأمسية، والمقال، وقراءة الكتاب، ولئن شكت من روادها أثناء الدراسة فهل تجدد نشاطها في الإجازة، وتضع الجوائز الحافزة؟ والأندية الرياضية تدرك أن الرياضة وسيلة لا غاية، ولها رسالة ثقافية، وعليها مسؤولية اجتماعية، وينبغي أن تعي دورها في استصلاح الشباب، وتقويم سلوكياتهم، وأن تكون يقظة لعلاقات الشباب، واختلاط الصغار مع الكبار. أما الجمعيات الخيرية فلها رسالة جليلة حين تعنى بتعليم كتاب الله، وتقيم الدورات والمسابقات للبنين والبنات، وحين تهتم بالخدمات الاجتماعية فتعين الأسر المحتاجة، وتقيم الدورات النافعة والمؤهلة للشباب، أو تساهم في إعانة المتزوجين، أو تعنى باليتامى والمعاقين، أو تتلمس حاجات المجتمع هنا وهناك فتسدها، ولا ننسى جهود مساعدة الراغبين في الزواج، وجهودها مشكورة في مساعدة الشباب على الزواج، وتجاوز مرحلة العزوبة الخطرة. ألا وإن من حق هذه الجماعات والجمعيات واللجان الخيرية علينا الدعم والمساندة والدعاء، وتحيةً وسلامًا للعاملين المخلصين المتطوعين فيها. وتشكر مكاتبُ التوظيف والعمل حين تتيح فرصًا وظيفية للشباب في الصيف يقضون بها أوقاتهم، ويسددون بمخصصاتها المالية حاجاتهم أو حاجات أهليهم. ومن علائم الخير أن تسهم مؤسسة التعليم الفني والتدريب المهني -مشكورة- في افتتاح مراكز صيفية، أو دورات تدريبية للشباب في الصيف، فتسهم مع الجامعات وقطاعات التعليم في توفير فرص صالحة لاستثمار فراغ الشباب في الصيف، وتدريبهم على المهارات المفيدة. وتشكر وزارة المعارف حيت تفتتح المراكز الصيفية وتنشرها في عدد من

المدن في بلادنا الحبيبة. والقطاعات العسكرية كذلك تشكر حين تتبنى دورات نافعة للشباب، فيعنى الدفاع المدني بدورات في السلامة، وأنسب الطرق لإطفاء الحريق- لا قدر الله- ويعنى المرور بإقامة دورات مستديمة لأصول القيادة وفنها، والتحذير من مخاطر التهور والسرعة، وعرض نماذج لآثارها، وإحصاءات تبين مخاطرها. وتعنى مكافحة المخدرات بتحذير الشباب من مخاطر المخدرات على الدوام، وليس في الأيام العالمية لمكافحة المخدرات فحساب، وتتخذ من الوسائل الحديثة أداة لإيصال رسالتها، فتستخدم الشريط والمطوية والمحاضرة والندوة، وتصل إلى الذكر والأنثى، والغني والفقير، والصغير والكبير، فشبح المخدرات مخيف، والعصابات فيه عالمية، والحرب فيه مدمرة، ولابد من توعية كاملة ومقنعة للأمة، وبخاصة الشباب والشابات عن المخاطر وطرق الوقاية. إخوة الإسلام، ليس ذلك إحصاءً لجهود الجهات المشاركة في توعية الشباب، وليس حصرًا للقطاعات المساهمة بقدر ما هي إشارة إلى أهمية تكاتف الجهود للمؤسسات والجمعيات لاستصلاح الشباب واستثمار أوقاتهم والعناية بهم، وعلى الشباب أن يُثَمِّنوا هذه الجهود، وأن يستفيدوا منها لحاضرهم ومستقبلهم، وأن يحفظوا أوقاتهم ويقدروا محياهم ومماتهم، وأن يتصوروا قول الشاعر: ومن عجب الأيام أنك جالس ... على الأرض في الدنيا وأنت تسيرُ فسيرك يا هذا كسير سفينةٍ ... بقوم جلوس والضلوع تطيرُ (¬1) ¬

(¬1) الوقت/ 33.

(1) عبودية الضراء

(1) عبودية الضراء (¬1) الخطبة الأولى حاجتنا إلى الصبر الحمد لله الصبور الشكور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واهب النعم، ومحل النقم، أحمده تعالى وأشكره وأُثني عليه الخير كله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أوصاه ربه بالصبر فقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} (¬2). اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، أثنى الله عليهم بالصبر فقال: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ} (¬3). وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (¬4). وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، صبروا وصابروا حتى سادوا العالمين، وكانوا أئمةً في الدين، وعن التابعين، ومن تبعهم وسار على نهجهم، وصبر على طريقهم إلى يوم الدين: أما بعد، فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن مع الصبر والتقوى لا يضر ¬

(¬1) في 26/ 10/ 1416 هـ. (¬2) سورة النحل، الآية: 127. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 85. (¬4) سورة ص، الآيات: 42 - 44.

كيد العدو ولو كان ذا تسليط: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬1). والصبر والتقوى طريق العز والتمكين، كذلك أخبر الله عن يوسف عليه السلام: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (¬2). أيها المسلمون: حديث اليوم عن عبادة الضَّراء، وعُدَّة المسلم حين نزول البلاء، وزاد المؤمن حين وقوع الابتلاء، عن الطاقة المدَّخَرة في السراء، والحبل المتين في الضراء .. إنه الصبر تبدو مرارته ظاهرًا، ويصعب الاستشفاء به عند الضعفاء، لكن مرارته تغدو حلاوةً مستقبَلاً، ويأنس به رفيقًا الأقوياء النبلاء. وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائمُ ... وتأتي على قدر الكرام المكارمُ ويكبر في عين الصغير صغيرها ... وتصغر في عين العظيم العظائمُ جعل الله الصبر جوادًا لا يكبر، وصارمًا لا ينبو، وجندًا لا يهزم، وحصنًا حصينًا لا يهدم ولا يُثْلَم. وهو كما قيل: آخيّة المؤمن، يجول ثم يرجع إليها، مثله للإنسان مثل العروةُ تَّثبتُ في الأرض أو الحائط، تُرْبَط بها الدابة، فتجول ثم تعود إليها. وهو ساق إيمان الزمن فلا إيمان لمن لا صبر له، وإن كان فإيمان قليل في غاية الضعف، وصاحبه ممن يعبد الله على حرف فإن أصابه خير أطمأنَّ به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، خسر الدنيا والآخرة .. فخير عيش أدركه السعداء بصبرهم، وترقوا إلى أعالي المنازل بشكرهم، فساروا بين جناحي ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 125. (¬2) سورة يوسف، الآية: 9.

الصبر والشكر، إلى جنات النعيم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (¬1) .. أيها المؤمنون لا غنى عن الصبر في هذه الحياة، وإذا استوى الأبرار والفجار في حاجتهم للصبر على نكد العيش ومفاجأة الحياة، فاز الأبرار بالثواب العظيم على صبرهم لأنهم يصبرون في ذات الله، وخاب الفجار لأنهم لا يرجون من وراء صبرهم جزاءً ولا شكورًا. وإذا كانت مرارة الدواء يعقبها الشفاء، فقد رتب الله على الصبر المحتسب عظيم الجزاء فقال جل من قائل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬2)، قال الأوزاعي رحمه الله: (ليس يوزن لهم ولا يكال إنما يغرف لهم غرفًا) (¬3). عباد الله وإذا كان المسلم محتاجًا للصبر في كل حال فحاجته إليه أشد إذا مرجت العهود، وضعفت الذمم واختلت المقاييس والقيم، ونحتاج للصبر إذا خُوِّنَ الأمين، وسُوِّدَ الخؤون، وألبس الحق بالباطل، وسكت العالمون، وتنمرَّ الجاهلون. والصبر المشروع هنا ليس يأسًا مُقيطًا، ولا عجزًا مُقعِدًا، إنه الثبات على الحق، والنصح بالتي هي أحسن للخلق، والشعور بالعزة الإيمانية مع الظلم والهضم، والثقة بنصر الله وإن علت رايات الباطل برهة من الزمن، فالصبر والنصر- كما قيل- أخوان شقيقان، والفرج مع الكرب، والعسر مع اليسر. أيها المسلم والمسلمة، وأنت محتاج للصبر على طاعة الله، وعن معاصي الله، وعلى أقدار الله .... ¬

(¬1) عدة الصابرين، ابن القيم/ 12. (¬2) سورة الزمر، الآية: 10. (¬3) تفسير ابن كثير 7/ 80.

تحتاج للصبر على الطاعة شكرًا للمنعم، وأُنْسًا بالخالق، واستجلابًا لراحة القلب وطمأنينة النفس، وتحتاج للصبر على الطاعة لطول الطريق، وقلة الرفيق، وكثرة الأشواك. كما تحتاج للصبر عن المعاصي لقوة الداعي، وضعف النفوس، وكيد الشيطان وغروره، أماني النفس بتقليد الهالكين .. تحتاج للصبر هنا لآفات الذنوب والمعاصي عاجلاً، وقبح الورد على الله آجلاً. وتحتاج للصبر على أقدار الله حين تطيش النفوس بفقدان الحبيب، وتعلو خفقات القلب للنازلة المفاجئة، وتصاب بالحيرة والاضطراب للمصيبة الجاثمة ... أجل: إن الله يفتح بالصبر والاحتساب على عباده آفاقًا لم يحتسبوها، ويغدو البلاء في نظرهم نعمة يتفيؤون ظلالها ويأنسون بخالقهم من خلالها، ويتحول الضيق في تقدير غيرهم إلى سعة يغتبطون بها، ولسان حالهم ومقالهم يقول: نخشى أن تكون طيباتنا عجلت لنا في الحياة الدنيا، وربما ذهبت إلى مصاب مبتلى معنَّى- في نظرك- فتجاسرت على تعزيته في مصيبته فكان المُعَرِّي هو المُعَزَّى وعاد المُعَزَّى يذكر لك من أنعم الله عليه ما خفف المصاب عنه وأنسى فلا إله إلا الله لا يتخلى عن أوليائه في حال الضراء إذا كانوا معه في حال السراء. وما أجمل الصبر وصية للمؤمن في حال الشدة والرخاء. أيها المسلمون، كم تُسلينا آيات القرآن بالصبر فلا نرعوي، وكم تهدينا سنَّةُ المصطفى صلى الله عليه وسلم ونظلُ بعدُ في حيرةٍ من أمرنا ليس عبثًا أن يتكرر الصبر في القرآن وفي تسعين موضعًا .. كما قال الإمام أحمد رحمه الله، وقد عدَّ لها العارفون أكثر من

عشرين معنى، ليس تعليق الإمامة في الدين بالصبر واليقين إلا نموذجًا لها كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬1). فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين (¬2). وعلَّق خصال الخير بالصبر فقالت تعالى: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ} (¬3). وحكم بالخسران حكمًا عامًا على كلِّ من لم يؤمن ولم يكن من أهل الحقِّ والصبر فقال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (¬4). وقرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬5)، {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} (¬6)، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (¬7)، {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} (¬8). أيها المسلمون، ومن مشكاة النبوة قبسٌ يُسلي الصابرين ويقول عليه الصلاة ¬

(¬1) سورة السجدة، الآية: 24. (¬2) عدة الصابرين/ 122. (¬3) سورة القصص، لأية: 80. (¬4) سورة العصر، الآيات: 1 - 3. (¬5) سورة البقرة، الآية: 153. (¬6) سورة يوسف، الآية: 90. (¬7) سورة إبراهيم، الآية: 5، انظر: ابن القيم: عدة الصابرين 111 - 117. (¬8) سورة الأحزاب، الآية: 35.

والسلام: «ما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر» (¬1). وكم هي إضاءة قوله عليه السلام: «والصبر ضياء» (¬2). قال النووي رحمه الله: (والمراد أن الصبر محمود ولا يزال صاحبه مستضيئًا مهتديًا مستمرًا على الصواب) (¬3). وقيل: إن عاقبة الصبر ضياءٌ في ظلمة القبر، فبصبره على الطاعات والبلايا في سعة الدنيا، جازاه الله بالتفريج والتنوير في ضيق القبر وظلمته) (¬4). وهل علمت أن الصبر من أعلى درجات الإيمان .. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الإيمان أفضل؟ قال: الصبر والسماحة) (¬5). وعلق عليه ابن القيم بقوله: (وهذا من أجمع الكلام وأعظمه برهانًا، وأوعبه لمقامات الإيمان من أولها إلى آخرها، فإن النفس يراد منها شيئان: بذل ما أُمرت به وإعطاؤه، فالحامل عليه السماحة، وترك ما نهيت عنه، والبعد عنه، فالحامل عليه الصبر) (¬6). أجل لقد كان في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: (واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا) (¬7). ¬

(¬1) متفق عليه (البخاري ح 469. مسلم ح 1053). (¬2) رواه مسلم 223. (¬3) النووي على مسلم 3/ 103. (¬4) مشكاة المصابيح 2/ 8. (¬5) أخرجه ابن أبى شبيبة في الإيمان، والبيهقي في الزهد بسند صحيح (أنظر: تحفة المريض/ عبد الله الجعيثن/ 45). (¬6) مدارج السالكين 2/ 167. (¬7) رواه أحمد وصححه القرطبي وحسنه ابن حجر. (تفسير القرطبي 6/ 398، تخريج أحاديث المختصر لابن حجر 1/ 326، وحسنه غيرهم: تحفة المريض، للجعيثن).

يا أخا الإسلام، وعرف السلف للصبر مكانته وقدره، فقال علي رضي الله عنه: (ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد- فإذا انقطع الكأس بان الجسد- ثم رفع صوته فقال: ألا لا إيمان لمن لا صبر له) (¬1). وقال عمر رضي الله عنه: وجدنا خير عيشنا بالصبر (¬2). وقال عمر بن عبد العزيز يرحمه الله: (ما أنعم الله على عبدٍ نعمةً فانتزعها منه، فعاضه مكانها الصبر، ما عوَّضه خيرًا مما انتزعه) (¬3). وتمثل بعضهم: صبرتُ فكان الصبرُ خير مغبَّةٍ وهل جزعٌ يُجدي عليَّ فأجزعُ ملكتُ دموعَ العينِ حتى رددُتها إلى ناظرِي فالعينُ في القلب تدمعُ (¬4). اللهم اجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬5). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. ¬

(¬1) ابن تيمية الفتاوى 10/ 40. (¬2) صحيح البخاري مع الفتح 11/ 303 معلقًا، ووصله أحمد في الزهد بسند صحيح .. الفتح 11/ 303. (¬3) عدة الصابرين/ 151. (¬4) السابق/ 155. (¬5) سورة البقرة، الآيات: 155 - 157.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا طاهرًا مباركًا كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قدوة الصابرين، وإمام المجاهدين، وخير البرية أجمعين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، وعلى آله المؤمنين ومن تبعهم إلى يوم الدين. أيها المسلمون، ويرد السؤال: ما هي حقيقة الصبر؟ ومتى ومَن يحتاج إليه؟ وقد قيل: الصبر ثباتُ باعثِ العقلِ والدينِ في مقابلةِ باعث الهوى والشهوة) (¬1). وهذا يعني أن الصبر ناتجٌ عن العقل والدين، وأنَّ الجزعَ والخور سائقهما الهوى والشهوة. سُئل الجنيدُ عن الصبر فقال: (تجرع المرارة من غير تعبس) (¬2). هو باختصار كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: خُلقٌ فاضلٌ من أخلاق النفس يُمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل (¬3). الصبر سيد الأخلاق، وبه ترتبط مقامات الدين، فما من خلق فاضل إلا ويمر بقنطرة من الصبر، وإن تحول إلى اسم آخر، فإن كان صبرًا عن شهوة فرجٍ محرمةٍ سُميَ عِفةً، وإن كان عن فضولِ عيشٍ سُمي زُهدًا، وإن كان عن دواعي غضبٍ سُميَ حلمًا، وإن كان صبرًا عن دواعي الفرار والهرب سُميَ شجاعة، ¬

(¬1) عدة الصابرين/ 25. (¬2) السابق/ 21. (¬3) السابق/ 21.

وإن كان عن دواعي الانتقام سُميَ عفوًا، وإن كان عن إجابة داعي الإمساك والبخل سُميَ جُودًا .. وهكذا بقية الأخلاق فله عند كلِّ فعلٍ وتركٍ اسمٌ يخصه بحسب متعلقه، والاسم الجامع لذلك كلَّه (الصبر) فأكرِمْ به من خلق وما أوسع معناه، وأعظم حقيقته (¬1). والصبر ملازم للإنسان في حياته كلِّها وفي حال فعل الطاعات أو ترك المعاصي، وحين نزول البلاء. قال السعدي يرحمه الله؟ فالصبر هو المعونة العظيمة على كلِّ أمر، فلا سبيل لغير الصابر أن يدرك مطلوبه، وخصوصًا الطاعات الشاقة المستمرة، فإنها مفتقرة أشد الافتقار إلى تحمل الصبر وتقع المرارة الشاقة، وكذلك المعصية التي تشتدُّ دواعي النفس ونوازعها إليها وهي في محلِّ قدرة العبد، وكذلك البلاء الشاق خصوصًا إن استمر فهذا تضعف معه القوى النفسانية والجسديةُ ويوجد مقتضاها وهو التسخط إن لم يقاومها صاحبها بالصبر لله والتوكل عليه (¬2) .. أيها المسلمون، ويظنُّ الناس أن الصبر يُحتاج إليه في وقت الضراءِ فحسب، والعارفون يرون الصبر في حال السراء أشد، قال بعض السلف: (البلاء يصبر عليه المؤمن والكافر، ولا يصبر على العافية إلا الصديقون)، وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (ابتلينا بالضراءِ فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر) (¬3). ويقول ابن القيم رحمه الله: وإنما كان الصبر على السراء شديدًا لأنه مقرونٌ بالقدرة، والجائع عند غيبة الطعام أقدر منه على الصبر عند حضوره (¬4) .. ¬

(¬1) عدة الصابرين/ 27، 28. (¬2) تفسير كلام المنان 1/ 176. (¬3) أخرجه الترمذي وحسنه 4/ 2464. عدة الصابرين/ 98. (¬4) عدة الصابرين/ 99.

والصبر في حال السراء والضراء يرشدك إلى اقتران الصبر والشكر وحاجتك إلى كليهما، قال بعض الأئمة: (الصبر يستلزم الشكر، لا يتم إلا به، وبالعكس، فمتى ذهب أحدهما ذهب الآخر، فمن كان في نعمةٍ ففرضه الشكر والصبر، أما الشكر فواضح، وأما الصبرُ فعن المعصية، ومن كان في بلية ففرضه الصبر والشكر، أما الصبر فواضحٍ، وأما الشكر فالقيام بحقِّ الله عليه في تلك البلية فإنَّ لله على العبد عبوديةً في البلاء، كما له عبوديةً في النعماء) (¬1). يا أخا الإسلام، وإذا علمت أنك محتاج للصبر في حال السراء والضراء، وفي حال النعمة أو البلِّية، فاعلم كذلك أنك محتاج للصبر قبل العمل وأثناء العمل، وبعده، فإن قلت وكيف ذلك؟ أُجبتَ: بأن حاجتك للصبر قبل الشروع في العمل تكون بتصحيح النية والإخلاص وتجنب دواعي الرياء والسمعة وعقد العزم على توفية المأمورية حقَّها، أما الصبر حال العمل فيلازم العبد الصبر عن دواعي التقصير والتفريط فيه، ويلازم الصبر على استصحاب ذكر النية وعلى حضور القلب بين يدي المعبود، أما الصبر بعد الفراغ من العمل فذلك بتصبير نفسه عن الإتيان بما يبطل عمله، وعلى عدم العُجب بما عمل والتكبر والتعظم بها فإن هذا أضرُّ عليه من كثير من المعاصي الظاهرة، وأن يصبر كذلك على عدم نقلها من ديوان السرِّ إلى ديوان العلانية، فإنَّ العبد يعمل العمل سرًا بينه وبين الله سبحانه فيكتب في ديوان السرِّ، فإن تحدث به نُقل إلى ديوان العلانية فلا يظنُّ أن بساط الصبر انطوى بالفراغ من العمل. وهذا تقرير نفيس فافهمه واحرص عليه (¬2). ¬

(¬1) ابن حجر: فتح الباري 11/ 205. (¬2) عدة الصابرين/ 100، 101.

وبعد يا إخوة الإسلام، فالحاجة ماسةٌ للصبر في كلِّ أحوالنا، وكذلك ينبغي أن نستصحب هذه العبادة في كلِّ شأن من شؤون حياتنا. فالصبر سلوتنا على الطاعة لله إخلاصًا ومتابعةً وديمومةً وحفظًا. والصبر عدتنا عن مقارفة المعاصي ومغالبة الشهوة والهوى، والرضى بأقدار الله المؤلمة حين تفجعنا، وما أحوجنا للصبر في تعلم العلم وتعليمه، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله بالحسنى. والصبر رفيق الدربِّ حين تُظلم الدنيا في وجوهنا فيفتح الله به علينا ما لم يكن في حسباننا، نحتاج للصبر حين يَظلمُ القريب ويجور البعيد، ونحتاج للصبر في الثبات على الحقِّ المجردِ من كلِّ قوةٍ إلا قوة الجبَّار جلَّ جلاله، والخالي من كلِّ منحةٍ إلا منح الرحمن يوم القيامة، ونحتاج للصبر في عدم الاغترار بالباطل إذا دُعم بالمال وتكاثر حوله أشباه الرجال، واستشرفت له النفوس، وتطاولت له الأعناق حرصًا على مغنمٍ عاجلٍ أو خوفًا من بأسٍ ينزل، وإذا علم الله صدق النوايا، وتميز الصابرون الصادقون، وانقطعت العلائق بأسباب الأرض، وتعلقت القلوب بالله وحده، ورُجيَ النصر منه دون سواه، جاء نصر الله والفتح، وتحققت سنة الله في النصر لعباده الصابرين وفي مقدمتهم الأنبياء والمرسلون: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (¬1). هذه معاشر المسلمين بعض المفاهيم والمعاني حول الصبر، ويبقى حديثٌ عن مقامات الصبر وأعظم أنواعه، وأقسام الناس في الصبر وأفضل الصابرين، ونماذج للصبر، وآثار الصبر عاجلاً وآجلاً، والأمور المعينة على الصبر وما ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 110.

يضاد الصبر .. ونحوها من مفاهيم أخرى أرجئ الحديث عنها للخطبة القادمة بإذن الله. أسال الله أن يجعلني وإياكم والمسلمين من الصابرين الشاكرين، وأن يرزقنا العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وأن يجيرنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن .. هذا وصلوا ...

(2) عبودية الضراء

(2) عبودية الضراء (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اتقوا الله، معاشر المسلمين، وراقبوه، واعملوا بطاعته، واجتنبوا معاصيه، واستعينوا بالصبر والصلاة، إن الله مع الصابرين، واستجيبوا لنداء ربكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬2). إخوة الإسلام، وإذا سبق الحديث عن بعض مفاهيم الصبر، وحقائقه، ومدى الحاجة إليه، وارتباطه بمقامات الدين كلها، وتقدمه على الأخلاق الفاضلة جميعها، فإنني أستكمل اليوم معاني ومفاهيم أخرى حول الصبر، وأبتدئ بأنواع الصبر على البلايا والمحن، وأعلى مراتب الصابرين المحتسبين. قال العارفون: هناك مصائب تجري على العبد دون اختياره، كالمرض، وموت العزيز عليه، وأخذ اللصوص ماله، ونحو ذلك مما يُثاب المسلم على الصبر عليه، وإن كان وقع بغير اختياره، وإنما يُثاب على الصبر عليها، لا على ¬

(¬1) في 2/ 11/ 1416 هـ. (¬2) سورة الحشر، الآية: 18.

ما يحدث من المصيبة، بتكفير خطاياه، أما الثواب فإنما يكون على الأعمال الاختيارية، وما يتولد عنها (¬1). وأعلى من هذا النوع ما يصيب المرء باختياره، طاعةً لله، وامتثالاً لأمره، واحتسابًا لما يصيبه من مكروه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، يرحمه الله: (وهكذا إذا أوذي المؤمن على إيمانه، وطُلب منه الكفر أو الفسوق أو العصيان، وان لم يفعل أوذي وعوقب، فاختار الأذى والعقوبة على فراق دينه: إما الحبس، وإما الخروج من بلده، كما جرى للمهاجرين حيث اختاروا فراق الأوطان على فراق الدين، وكانوا يُعَذَبون ويُؤذون ... وهذا أشرف النوعين، وأهله أعظم درجةً، فإنهم إنما أُصيبوا وأُوذوا باختيارهم طاعةً لله فيثابون على نفس المصيبة، ويُكتب لهم بها عملٌ صالحٌ، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (¬2) إلى أن يقول الشيخ، رحمه الله: فالذين يُؤذون على الإيمان، وطاعة الله ورسوله، ويحدث لهم بسبب ذلك حرج أو مرض، أو حبسٌ أو فراق وطن، وذهاب مالٍ وأهل، أو ضربٌ أو شتمٌ، أو نقص رياسة ومال، هم في ذلك على طريقة الأنبياء وأتباعهم كالمهاجرين الأولين (¬3). إخوة الإيمان، وكذلك تتفاوت مراتب الناس على الصبر على المقدور، ¬

(¬1) الفتاوى 10/ 124. (¬2) سورة التوبة، الآية: 120. (¬3) الفتاوى 10/ 122، 124.

واختيار معالي الأمور، فمن الناس من يجزع للمقدور ليس منه مفر، ومنهم من يسلم لما ليس له فيه اختيار ويصبر عليه ويحتسب، وأصحاب القدح المعلى، والدرجات العلى، هم أولئك الذين يختارون بمحض إرادتهم الصبر على الأذية في سبيل نصرة الملة. وفي هذه المرتبة العلية عزاءٌ لمن ابتلي من أهل السنة، فصبر واحتسب، وحضٌّ لمن يضنون بالجهاد بأنفسهم في سبيل نصرة دينهم خشية أن يؤذوا ويُتَّهموا ... شريطة ألا يعرضوا أنفسهم للبلاء لما يطيقون وألا يتمنوا لقاء العدو. نسأل الله لكل مبتلى العفو والعافية والثبات على الحق والنصرة. أيها المسلمون، وثمة تقسيمٌ آخر للناس إذا ما حلَّت بهم المصائب الكونية القدرية، فهم ينقسمون حسب صبرهم وتقواهم إلى أربعة أقسام: أحدها: أهل التقوى والصبر، وهم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة. والثاني: الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر، مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها، ويتركون المحرمات، لكن إذا أُصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرضه أو اُبتلى بعدو يخيفه عظم جزعه، وظهر هلعه. والقسم الثالث: قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى، مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص والقطاع الذين يصبرون على الآلام فيما يطلبون من أخذ الحرام، والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها، وكذلك طلاب الرئاسة والعلو على غيرهم، يصبرون مع ذلك على أنواع من الأذى، لا يصبر عليها أكثر الناس، لكن دون تقوى تميُّز لهم بين المأمور والمحظور.

وأما القسم الرابع: فهم شر الأقسام، لا ييقون إذا قدروا، ولا يصبرون إذا ابتلوا، بل هم كما قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} (¬1). وهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا، ومن أذلِّ الناس وأجزعهم إذا قُهروا، إن قهَرْتهم ذلوا لك ونافقوك، وحاَبَوك واسترحموك، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس، وأقساهم قلبًا، وأقلَّهم رحمةً وإحسانًا وعفوًا ... مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون، وَمَن يشبههم في كثير من أُمورهم، وإن كان متظاهرًا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصنَّاعهم، فالاعتبار بالحقائق، فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) (¬2). هكذا يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية، يرحمه الله، ويبين أحوال الناس في الصبر والتقوى، والمؤمن من وفقه الله، والمخذول من خذله الله. يا أخا الإسلام، إذا أردت أن تمتحن صبرك فانظر في نفسك، وهل أنت واقع في شيء من الأمور المضادة للصبر؟ وقد ذكر أهل العلم من الأمور المضادة للصبر ما يلي: الشكوى إلى المخلوق على وجه التسخط والاسترحام، وقد قيل: من شكا ربه إلى مخلوق مثله فقد شكا من يرحمه إلى من لا يرحمه، أما الشكوى لله، أو لمخلوق على وجه الاسترشاد والتوصل إلى زوال ضرره فلا يقدح في الصبر (¬3). ومع ذلك فمن يشتكي ربه، وهو بخير فهو أمقت الخلق عند الله، روى الإمام ¬

(¬1) سورة المعارج، الآيات: 19 - 21. (¬2) الفتاوى 10/ 673 - 674. (¬3) عدة الصابرين، ابن القيم/ 417.

أحمد بسنده أن كعب الأحبار قال: إن من حسن العمل سُبْحة الحديث، ومن شر العمل التحذيف، قيل لعبد الله (أحد الرواة): ما سبحة الحديث؟ قال: سبحان الله وبحمده في خلال الحديث، قيل: فما التحذيف؟ قال: يصبح الناس بخير، فيسألون فيزعمون أنهم بشرٍ (¬1). 2 - ومما ينافي الصبر: شق الشباب عند المصيبة، ولطم الوجه، والضرب بإحدى اليدين على الأخرى، وحلق الشعر، والدعاء بالويل، وكل ما نهى عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم، أما بكاء العين، وحزن القلب دون تسخط فتلك رحمة جعلها الله في قلوب العباد، ولا ينافي الصبر، قال تعالى عن يعقوب عليه السلام: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (¬2) قالت قتادة: كظيمٌ على الحزن، فلم يقل إلا خيرًا (¬3). وقال صلى الله عليه وسلم: «تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، والله إنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» (¬4). 3 - ومما يقدح في الصبر إظهار المصيبة والتحدث بها، وكتمانها رأس الصبر، وقد روي: (من البر كتمان المصائب والأمراض والصدقة) (¬5) وقيل: لما نزل في إحدى عيني عطاء الماء مكث عشرين سنة لا يعلم به أهله حتى جاء ابنه يومًا من قبل عينيه فعلم أن الشيخ قد أصُيب. وقال مغيرة: شكا الأحنف إلى عمه وجع ضرسه، فكرر ذلك عليه، فقال: ما ¬

(¬1) المصدر السابق/ 419. (¬2) سورة يوسف، الآية: 84. (¬3) المصدر السابق/ 419. (¬4) رواه أحمد وسلم وأبو داود، صحيح الجامع 3/ 37 - 38. (¬5) في إسناده صدوق كثير الأوهام.

تكرر عليَّ، لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة فما شكوتها إلى أحد (¬1). 4 - ويضاد الصبر- كذلك- الهلع. وهو: الجزع عند ورود المصيبة، والمنع عند ذهابها، كما قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} (¬2). قال الجوهري: الهلع: أفحش الجزع (¬3). يا أخا الإيمان، وإذا سلمك الله من هذه الآفات المضادة للصبر، فاعلم أنك محتاجٌ على الدوام لمنازلة الأعداء، وفي مقدمتهم الشيطان الرجيم، وسلاحك في ذلك: الصبر والصابرة، والمرابطة والتقوى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬4). يقول ابن القيم، رحمه الله: ولا يتم أمر هذا الجهاد إلا بهذه الأمور الأربعة، فلا يتم لنا الصبر إلا بمصابرة العدو، وهي مقاومته ومنازلته، فإذا صابر عدوه احتاج إنما أمر آخر، وهو المرابطة، وهي لزوم ثغر القلب وحراسته لئلا يدخل منه العدو، ولزوم ثغر العين والأذن واللسان والبطن واليد والرجل، فهذه الثغور، منها يدخل العدو فيجوس خلال الديار، ويفسد ما قدر عليه، فالمرابطة لزوم الثغر فلا يخلي مكانه، فيصادف العدو الثغر خاليًا فيدخل منه ... وإذا كان خيرة الخلق، بعد الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم حين أخلَوا المكان الذي أُمروا بلزومه يوم أحد دخل منه العدو، فكان ما كان، فلا تسأل عن غيرهم، واعلم أن جماع هذه الثلاثة وعمودها الذي تقوم به وهو: تقوى الله ¬

(¬1) المصدر السابق/ 421. (¬2) سورة المعارج، الآيات: 9 ا-21. (¬3) المصدر السابق/ 421. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 200.

تعالى، فلا ينفع الصبر ولا المصابرة ولا المرابطة إلا بالتقوى، ولا تقوم به التقوى إلا على ساق الصبر (¬1). أعوذ الله من الشيطان الرجيم {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (¬2). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ... ¬

(¬1) الداء والدواء/ 179، 180. (¬2) سورة لقمان، الآية: 17.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله يحب الصابرين، ويجزل المثوبة للشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أما بعد فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة وكل ضلالةٍ في النار. أيها المسلمون، وإذا علمتم أقسام الناس في الصبر، وأعلى مقامات الصابرين، وتأملتم ما يضاد الصبر، فمن الأهمية بمكان أن تعلموا ما يعينكم على الصبر، فما هي يا ترى الأمور المعينة للمسلم على الصبر؟ 1 - إن أول ما يعين على الصبر معرفة العبد بطبيعة هذه الحياة، بمفاجآتها ونكدها وأكدارها، فهي ليست بدار قرار، ومن ركن إليها وظن فيها السعادة والسلامة من الآفات فقد أخطأ الفهم، والمولى يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} (¬1) ويقول: {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬2). فسعادتك فيها، حينًا، طيفٌ عابر، ومصابك فيها حتم لازم، وهل سلم الصفوة من البلاء فتسلم أنت وأنا ونحن المساكين؟ ولكن عزاء المؤمنين (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط) (¬3). ¬

(¬1) سورة البلد، الآية: 4. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 185. (¬3) رواه الترمذي وحسنه. صحيح الجامع 2/ 216.

واستشعار المصاب لهذه الحقيقة يخفف عنه ألم المصيبة، ويدعو إلى الصبر واحتساب الأجر عند ربه. 2 - ليس ذلك فحسبه، بل إن مما يدعو المسلم للصبر طمعه في ثواب الله، ومعرفته ما أعد الله للصابرين، ويكفيه أن يتأمل قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬1). أو أن يستيقن معية الله له حين يصبر، والحق تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬2). قال أهل التفسير: وهذه معيَّة خاصة تقتضي محبته ومعونته، ونصره وقربه، وهذه منقبة عظيمة للصابرين، فلو لم يكن للصابرين فضيلة إلا أنهم فازوا بهذه المعيَّة من الله لكفى بها فضلاً وشرفًا (¬3). وإن الله تعالى وعد على الصبر النصر والظفر، وهي الكلمة الحسنى التي وعد الله بها بني إسرائيل بما صبروا: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (¬4). إلى غير ذلك من معاني الصبر وآثاره التي وردت في القرآن أو صحيح السنة، وهي تكشف عن عواقب الصبر وآثاره في الدنيا والآخرة. 3 - ألا يغيب عن ذهن المبتلى بمصيبةٍ إنها قد تكون خيرًا عجَّله الله له ليتذكر أنْعُمَ الله عليه فيشكره عليها من جانب، وليصبر ويحتسب على هذه المصيبة فيأجره الله عليها، ويرفع درجاته من جانب آخر، وكم تحوَّلت المحن- في حياة الصابرين- إلى منحٍ ما زالوا يشكرون الله عليها. وقد تكون للعبد المنزلة لا ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 15. (¬2) سورة البقرة، الآية: 153. (¬3) تفسير السعدي 1/ 177. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 137.

يبلغها بعمله، فيبتليه الله بمصيبة فيرفعه الله بصبره عليها إلى هذه الدرجة العالية .. أفلا يسلي ذلك الصابرين؟ وقد يظلم نفسه، ويحملها من الأوزار ما يثقل كاهلها، فإذا ما ابتلاه ربه بمصيبة فصبر عليها، واحتسب أجروا كانت رفعة لدرجاته، ومكفرة لسيئاته، وفي صحيح مسلم: قال عليه الصلاة والسلام: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا سقم، ولا حزن، حتى الهم يُهمه إلا كُفِّر به من سيئاته» (¬1) وعند الترمذي: (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة) (¬2). وتأمل هذا الحديث: عن شداد بن أوس، رضي الله عنه، مرفوعًا (أن الله عز وجل يقول: إذا ابتليت عبدًا من عبادي- مؤمنًا- فحمدني وصبر على ما ابتليته به فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيوم ولدته أمه من الخطايا، ويقول الرب للحفظة: إني قيَّدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له من الجر ما كنتم تجرون له قبل ذلك وهو صحيح) (¬3). 4 - ومما يعينك على الصبر، يا أخا الإسلام، النظر في مصائب الآخرين، والتسرية عن النفس بحال المبتلين من الأولين والآخرين. ففي النفس جزع يخفف منه معرفة آلام الآخرين، وفيها غفلةٌ يوقظها ذكر من هو أعظم منه بليَّة، وكم هو صالح للاعتبار ومخفف للمصاب أن نتذكر مصيبة عروة بن الزبير، يرحمه الله، حين ذهب إلى الوليد بن عبد الملك فأصابت رجلَه الأكَلَةُ، فلم يكن بد من قطعها، ثم فقد ابنه محمدًا في الرحلة نفسها حين ركلته بغلةٌ في إصطبلها فكان مما قال: (اللهم كان لي بنون سبعة وأخذت واحدًا وأبقيت لي ¬

(¬1) مختصر صحيح مسلم للمنذري ح 1798، ورواه البخاري وغيره، انظر (جامع الأصول 9/ 579). (¬2) جامع الأصول 9/ 584، وانظر عدة الصابرين ص 126. (¬3) رواه أحمد وغيره وهو صحيح (الصبر، أبو عبد الرحمن المصري/ 24).

ستة، وكان لي أطرافٌ أربعة فأخذت طرفًا وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت لقد عافيتَ، ولئن أخذت لقد أبقيت) (¬1). ألا ما أروع الكلمة التي وردت عن بعض السلف: (لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة مفاليس) (¬2). 5 - ومما يعين على الصبر وتخفيف المصاب صدق اللجأ إلى الله، والتضرع بين يديه، فهو المعين وكاشف البلاء {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (¬3). وهل علمت شيئًا من بلاء أيوب عليه السلام الذي قيل: إن الله يحج به يوم القيامة أهل البلاء؟ عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، أن رسول الله وعلى الله عليه وسلم قال: «إن نبي الله أيوب عليه السلام كان في بلائه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان إليه، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم، والله لقد أذنب ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله، فيكشف ما به، فلما راحا عليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك لأيوب، فقال عليه السلام: لا أدري ما تقول: غير أن الله عز وجل يعلم أني كنتُ أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق .. إلخ القصة (¬4) وفيها شفاه الله، ورد إليه ما كان سلبه منه، بعد أن ¬

(¬1) السير للذهبي 4/ 430، 431. (¬2) عدة الصابرين/ 145. (¬3) سورة الأنبياء، الآيتان: 83، 84. (¬4) روى القصة أبو يعلى والبحار وقال الهيثمي: رجال البزار رجال الصحيح (مجمع الزوائد 8/ 208) قال ابن حجر، أصح ما ورد في قصته، (الفتح 6/ 421) وإن كان ابن كثير استغرب رفع الحديث (التفسير 5/ 356) فقد ذكر أبو عبد الرحمن الأثري جملة من العلماء وصححوها ومنهم ابن كثير (الصبر/ 31).

امتحن صبره، وجعله عبرة للصابرين (وذكرى للعابدين)، والمعنى كما قال ابن كثير: أي جعلناه قدوة لئلا يظن أهل البلاء أنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا، وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله في البلاء (¬1). 6 - يا أخا الإسلام، ومما يعينك كذلك على الصبر- ولاسيما عن مقارفة الحرام- أن تعلم أن لذة الحرام ساعة، ثم تعقبها الندامة إلى قيام الساعة، وأن الكرام تعز أنفسها عن الورود على موائد اللئام: إذا كثُر الذبابُ على طعامٍ رفعتُ يدي ونفسي تشتهيهِ وتجتَنبُ الأسود ورودً ماءٍ إذا كان الكلاب يَلِغْنَ فيهِ (¬2). اللهم اعصمنا من الزلل، وارزقنا الصبر حين البلوى والمحن. وبعد، إخوة الإسلام فهذه إطلالة يسيرة على موضوع من الأهمية بمكان، ما أحوجنا إليه في هذا الزمان، ومن رام المزيد فعليه أن يرد موارد العلماء الذين استوقفتهم آيات الكتاب، وعنوا بشرح أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام. وأراني هنا محتاجًا لأن أقول لكم، وليس العبرة بمقولة اللسان، ولكن بتصديق الجنان، فالصبر عند الصدمة الأولى، والصابرون المحتسبون هم أولو الأحلام والنهى، وأهل البلاء هم أهل المصيبة، وإن عوفيت أبدانهم، وأهل العافية هم أهل الطاعة، وإن مرضت أبدانهم. وأجدني مضطرًا لأن أقول لكم كما قال مَن قبلي: (هذا جهد المقل، وقدرة المفلس، حذر فيه من الداء، وإن كان من أهله، ووصف فيه الدواء، وإن لم ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 5/ 357. (¬2) عدة الصابرين/ 85.

يصبر على تناوله لظلمه وجهله، وهو يرجو أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين أن يغفر له غيه لنفسه بنصيحته لعباده المؤمنين) والله المستعان (¬1). ¬

(¬1) ابن القيم، عدة الصابرين/ 13.

أمانة الكلمة ومسؤوليتها

أمانة الكلمة ومسؤوليتها (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ... إخوة الإسلام، والمتأمل في آيات القرآن الكريم وأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، يلحظ تركيزًا واضحًا واهتمامًا بالغًا بمسؤولية الكلمة وأمانة النطق، فالرقابة دقيقة: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (¬2)، والمسؤولية شاملة: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (¬3). والكلمة في حس المسلم ليست عبثًا فراغًا، ولا لغوًا آثمًا: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (¬4)، بل هي في ضمير المؤمن نهجٌ عادلٌ، وقولٌ سديدٌ راشدٌ، وهي طريق للصلاح والاستصلاح، ومغفرة للذنوب، وهي قرينة التقوى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (¬5). وإذا كانت تلك نظرة أهل الهداية والفضيلة، فليس الأمر كذلك عند أهل الغواية والرذيلة، وينبغي أن يترفع العالمون عن الجاهلين: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ ¬

(¬1) في 28/ 1/ 1417 هـ. (¬2) سورة ق، الآية: 18. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 36. (¬4) سورة المؤمنون، الآيات: 1 - 3. (¬5) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71.

أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (¬1). أجل، لقد ألزم الله المسلمين {كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (¬2). أما الذين كفروا فحقت عليهم كلمة العذاب: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} (¬3) أيها المسلمون، والكلمة كلمتان: طيبة وخبيثة، والطيبون للطيبات، والخبيثون للخبيثات، وفي أمثال القرآن عظةٌ وعبرة، والله يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (¬4). ومن ظلال هذه الآية: إن كلمة الحق ثابتة لا تزعزعها الأعاصير، ولا تعصف بها رياح الباطل، ولا تقوى عليها معاول الطغيان، وإن خُيِّل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان، وهي سامقة متعالية، تطل على الشر والظلم من علٍ، وإن خيل للبعض أحيانًا أن الشر يزحمها في الفضاء، وهي مثمرة لا ينقطع ثمرها لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آنًا بعد آن. أما الكلمة الخبيثة- كلمة الباطل- فهي كالشجرة الخبيثة، قد تهيج وتتعالى ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 55. (¬2) سورة الفتح، الآية: 26. (¬3) سورة الزمر، الآية: 19. (¬4) سورة إبراهيم، الآيات: 24 - 27.

وتتشابك، ويخيل إلى بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى، ولكنها تظل نافشة هشة، جذورها في التربة قريبة، حتى لكأنها على وجه الأرض، وما هي إلا فترة ثم تُجْتثٌ من فوق الأرض فلا قرار لها ولا بقاء (¬1). إخوة الإيمان، وما أعظم مسؤولية الكلمة، ونبي الهدى، عليه الصلاة والسلام يقول: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يُلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في جنهم» وفي لفظ «يزلُ بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب» (¬2). قال ابن عبد البر، يرحمه الله: (الكلمة التي يهوي صاحبها بسببها في النار، هي التي يقولها عند السلطان الجائر، زاد ابن بطال: بالبغي أو بالسعي على المسلم، فتكون سببًا لهلاكه، وإن لم يُرد القائل ذلك، لكنها ربما أدت إلى ذلك فيكتب على القائل إثمها). والكلمة التي ترقع بها الدرجات، ويُكتَب بها الرضوان، هي التي يدفع بها عن المسلم مظلمة، أو يفرج عنه كربة، أو ينصر بها مظلومًا. ويضيف القاضي عياض: يحتمل أن تكون الكلمة من الخنا والرفث، وأن تكون في التعريض بالمسلم بكبيرة أو بمجون، أو استخفاف بحق النبوة والشريعة، وإن لم يعتقد ذلك. ويزيد النووي: في هذا الحديث حثٌ على حفظ اللسان، فينبغي لمن أراد أن ينطق أن يتدبر ما يقول قبل أن ينطق، فإن ظهرت فيه مصلحة تكلم، وإلا أمسك) (¬3). ¬

(¬1) في ظلال القرآن/ الآية. (¬2) الحديث متفق عليه. خ/ 6476، 6477، م/ 49، 50. (¬3) فتح الباري 11/ 311. ونقل نصوصًا أخري.

أيها المسلمون، وحين نعي له المسؤولية، فليس المهم أن نُمكَّن من القول، ولكن الأهم أن نعيَ ما نقول، وليس يكفي أن يرضى الناس أو بعضهم عما نقول، ولكن الغاية رضى رب العالمين. وفي إطار أمانة الكلمة احذر بدأ تكون شيطانًا ناطقًا، أو أخرسًا فتتحدث حين يلزمك الصمت، أو تسكت حين يلزم الأمر أو النهي، وهل يغيب عنك أن من لوازم الإيمان قول الخير أو الصمت: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» (¬1). وهل علمت أن أفضل المسلمين (من سلم المسلمون من لسانه ويده) (¬2). وأين أنت من طريق الجنة، وهو مرهون بضمان اللسان والفرج؟ (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) (¬3). كفى بالويل رادعًا عن سواقط الكلم، وهمز الآخرين ولمزهم: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} (¬4). وكفى بالكفر ذنبًا ماحقًا من جراء كلمةٍ ساخرة مسهزئة: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (¬5). وإذا تعاظمت الفواحش- ما ظهر منها وما بطن- بقي القول على الله بغير ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه البخاري وغيره/ ج 6474. (¬4) سورة الهمزة، الآية: 1. (¬5) سورة التوبة، الآيتان: 65، 66،

علم أعظمها وأفحشها {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (¬1). وإليك ما قاله العارفون في تأويل هذه الآية: يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله: (رتب الله المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريمًا منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريمًا منهما وهو الشرك بالله سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريمًا من ذلك كله وهو القول على الله بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي دينه وشرعه) (¬2). ألاما أعظم الخَطْبَ حين يشيع القول على الله، وعلى شرعه بغير علم، فتصبح الكلمة لا خطام لها ولا زمام، ويسري التحليل والتحريم على كل لسان، أو تُحاصر كلمة الحق، وتتحدث الرويبضة في أمر العامة وتخف كفة العدل في القول، والله يقول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (¬3). هنا، وفي هذه الأجواء، تشتد الحاجة لأمانة الكلمة، وتتعاظم مسؤوليتها على العلماء والأمراء، والدعاة والمفكرين، ورجالات الإعلام، والمربين، وكل بحسبه، فمسؤولية الكلمة لدي العلماء البيان وعدم الكتمان، وميثاق الله أولى بالقضاء، وهو فوق أعراض الدنيا: {وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (¬4). ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 33. (¬2) إعلام الموقعين 1/ 38. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 152. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 187.

وزلة العالِم يزلُ بها عالَمٌ، ومَضروبٌ لها الطبل- كما يُقال- (¬1) أما الأمراء فيكفيهم أن يتذكروا قول المصطفى، صلى الله عليه وسلم، «ما من أمير عشرة إلا وهو يأتي يوم القيامة مغلولاً، حتى يفكه العدل أو يوبقه الجور) (¬2). وفي الحديث الآخر «ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة» (¬3). أما الدعاة فمسؤولية الكلمة في دعوتهم ألسنة صادقة، وقلوب مخلصة، وحكمة في الدعوة، وحسن في الموعظة، ومجادلة بالحسنى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬4). أيها المسلمون، ويسري الأدب في القول لعموم عباد الله، بحسن العبارة، وعدم الإثارة، وفي ذلك قطع لطريق الشيطان، وإغاظة له: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} (¬5). {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} (¬6). ألا فاستحضروا- يا عباد الله- أينما كانت مواقعكم، ومهما عظمت أو قلت مسؤولياتكم، شمولية البيعة التي بايع عليها أسلافكم، وهي شاملة لكم: (بايعنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمرَ أهله وعلى أن نقول بالحق ¬

(¬1) د. أبو بكر زيد، حلية طالب العلم/ 10. (¬2) رواه البيهقي بسند صحيح (صحيح الجامع 5/ 161). (¬3) رواه مسلم عن معقل بن يسار (5/ 161). (¬4) سورة النحل، الآية: 125. (¬5) سورة الإسراء، الآية 53. (¬6) سورة البقرة/ 83.

أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم) (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (¬2). نفعني وإياكم بهدي القرآن، وبصرَّنا بسنَّة خير الأنام، ... أقول ما تسمعون ... ¬

(¬1) الحديث رواه البخاري وسلم وغيرهم عن عبادة رضي الله عنه (جامع الأصول 1/ 253). (¬2) سورة فاطر، الآية: 10.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، أسبغ على عباده من النعم ما لا يُعَد ولا يُحصى، وهل اللسان إلا آية ونعمة علتْ بها كفة أقوام، وخفت بها موازين آخرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يُبح لأحد من خلقه أن يتقول عليه، ولو كان صفيَّه وخليلَه، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} (¬1). فكيف بالآخرين. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أدبه ربه فأحسن تأديبه، فلم يكن سبَّابًا، ولا فاحشًا، ولا لاعنًا، اللهم صلى وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وعلى عباد الله الصالحين، أولئك الذين امتدحهم الله بقوله: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} (¬2). أما بعد، عباد الله، فإن القلوب الكبيرة تترجمها الألسنة الصادقة التي تحترق لآلام الآخرين، وتُسَرُّ لنجاة المسلمين من العذاب المهين، حتى وإن احترقت في سبيل نجاتهم كالشموع تضيء للآخرين، وتحرق نفسها. وهل تخرج الكلمة الصادقة إلا بجد واجتهاد، وتجرد وإخلاص، وانتصار في معركة الهوى والشيطان، وحظوظ الدنيا. أما الألسنة الكاذبة، فهي لوحة كاشفة لمخبئات الصدور غالبًا، وهي أسلحة فتاكة تهلك الحرث والنسل، تزرع الضغينة، وتنشر بذور الفتنة، وتضلل العامة، وتسيء إلى الخاصة، وفرق بين الثرى والثُّريَّا ... إخوة الإيمان، ولا ينتهي أثر الكلمة الصادقة في هذه الحياة، فكم من رجال ونساء غيَّبتهم اللحود، وباتوا رممًا باليةً من أثر الأرض والدود، ومع ذلك بقيت ¬

(¬1) سورة الحاقة، الآيات: 44 - 46. (¬2) سورة الفرقان الآية: 72.

كلماتهم سراجًا يضيء الطريق للسالكين، ويذكر الأحياء بجهاد الأموات السابقين، إنها الحياة الممتدة للموتى، والذكر للمرء عمر ثان؟ أفيعجز الأحياء عن مقارعة الباطل بالكلمة الصادقة، والحوار المقنع، وجهادُ الكلمة ضربٌ من ضروب الجهاد، لا يقل أثرًا عن جهاد النفس والمال، كما قال عليه الصلاة والسلام «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) (¬1). ألا ما أحوجنا إلى جهاد الكلمة حين تروج الشائعات الكاذبة، وتُطلُّ الفتن المضللة، ونحتاج إلى أمان الكلمة للدفاع عن عرض مسلم مظلوم، أو لردع ظالمٍ غشوم، وتتعاظم مسؤولية الكلمة حين يتبجَّح المتفيهقون، ويتصدرون زمام المجالس، ومراكز القيادة، وتشتد الحاجة لقول كلمة الحق، حين يسكت العلماء، ويحار العقلاء، في وقت يتنمر فيه المنافقون، وينطق السفهاء؟ ما أحوجنا لكلمة الحق حين تطال التهمة الأبرياء، وتحارَب الفضيلة علنًا، وحين تضعف الغيرة لدين الله، ويلهث الناس وراء المادة، فيصل اللصوص إلى قلوب العامة ... ويلتبس الحق بالباطل! وفي ظل هذه الظروف الصعبة لا يكفي التلاوم الشخصي، ولا يجدي النوح على الواقع المتردي، وليس بنافع ولا شافع عند الله ترحيل المسؤولية للآخرين، (فأنتَ وأنا وهو) كلٌّ مخاطبٌ بإنكار المنكر: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) والعقوبة إذا نزلت- لا سمح الله- تعم ولا تخص، {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً} (¬2). (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) وفي رواية ¬

(¬1) الحديث رواه أحمد وأبو داود وغيرهم، بإسناد صحيح: صحيح الجامع 3/ 79. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 25.

(إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقاب) (¬1). أمة الإسلام، وإذا كان هذا على المستوى الفردي، فإن جهاد الكلمة ومسؤوليتها على مستوى المجتمع والأمة لا يقل أثرًا وخطرًا. ولو قدر للأمم الكافرة أن تتوارى عن التوجيه للرأي العام، نظرًا لغضب الرب عليها، أو ضلالها، أو حلول اللعنة عليها، أو قتلها لأنبيائها، أو تلبيس بالخطيئة المزعومة، وتحريف معتقداتها، وتشويهها للكتب السماوية المنزلة عليها ... أقول: لو قدِّر هذا، والواقع يشهد بخلافه ... فإن الواجب على أمة الإسلام أن تنبري للمهمة، معتزةً بسلامة المنهج، وصفاء المعتقد، وخيرَّته الرسالة والمرسَل .. ومن عجبٍ أن تتوارى كلمة أمة، تلك بعض سماتها، وتمسك بزمام القيادة أُمم، تلك بعض هناتها، وتظل الأسئلة حائرة تنتظر الجواب .. أين كلمة الإسلام الحق في المحافل الدولية؟ وأين سيطرة المسلمين على وسائل الإعلام؟ ووكالات الأنباء العالمية؟ أين التميز والأصالة في إعلام المسلمين؟ وهي منابر لنقل الكلمة الطيبة، وأسلوب فاعل من أساليب الدعوة. تُرى أيصح أن يتشبث الآخرون بهويتهم، وإن كانت مزورةً .. ويتراجع المسلمون وهم أصحاب الرسالة الحقة؟ أيها المسلم والمسلمة، وإذا تسارعت الفتن في الأمة، فينبغي أن يسرع الإنسان- بقدرها- إلى إمساك لسانه، فلا يقول إلا خيرًا، ولا يتحدث إلا بعلم، ولا يكفر مسلمًا، ولا يبدع أو يضلل مصلحًا، ولا يخطئ عالمًا صادقًا، جهلاً منه أو تسرعًا، وعليه أن يسعى في جمع كلمة المسلمين، ويحذر فرقتها، وأن يتثبت في الأمور قبل أن يصدر حكمًا عليها .. وأن يعي جيدًا قول ¬

(¬1) كلا الحديثين وردا بسند صحيح (صحيح الجامع 2/ 171، 172).

المصطفى، صلى الله عليه وسلم، «وهل يكبُّ الناس في النار علي وجوههم- أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) (¬1). معاشر المسلمين، وإذا كان الاختلاف بين المسلمين واردًا فينبغي أن يكون اجتهادًا في الرأي، لا اختلافًا في القلوب، والعلماء الربانيون هم الذين يسعون في جمع الكلمة، وتأليف القلوب .. ومن فقه الواقع يسطر لنا شيخ الإسلام ابن تيمية، يرحمه الله، موقفًا رائعًا حين بلغه اختلاف المسلمين (في البحرين) في مسألة «رؤية الكفار لربهم» حتى ذكر وفدهم أن أمرهم إلى قريب من المقاتلة ... فتحدث الشيخ عن هذه المسألة ناقلاً لآراء أهل العلم، ومعاتبًا على حدتهم في الاختلاف، ومنتقدًا لهم على مفاتحتهم عوام المسلمين فيها، وهم في عافية وسلام عن الفتن، وعلَّمهم آدابًا تجب مراعاتها حين الاختلاف (ويليق بغيرهم من المسلمين أن يتعلموها في أدب الاختلاف). وفي نهاية رسالته إليهم أعرض- رحمه الله- عن بيان الراجح فيها، معللاً ذلك بقوله: (وأما استيعاب القول في هذه المسألة وغيرها، وبيان حقيقة الأمر، فربما أقول أو أكتب في وقت آخر، إن رأيت الحاجة ماسّةً إليه، فإني في هذا الوقت رأيت الحاجة إلى انتظام أمركم آكد) (¬2). ألا ما أحوج الأمة إلى هذا النوع من العلماء الذين يعون مسؤولية الكلمة، ويجمع الله بهم الأمة. اللهم أصلح أحوالنا، واجمع كلمتنا واقمع أهل الزيغ والبدع والفساد في مجتمعاتنا. ¬

(¬1) صحيح سنن الترمذي. (¬2) الفتاوى 6/ 485 - 506.

وبالوالدين إحسانا

وبالوالدين إحسانًا (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، أيقظ الغافلين، ونفع بالتذكرة المؤمنين، عرفوا ما لربهم من الحقوق فقاموا بها، وما عليهم من الواجبات لخلقه فأدُّوها. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر وقضى، ولا يأمر ربك إلا بالعدل والإحسان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أزكى البشرية وأبرها يحقوق الله وحقوق خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (¬3). أيها المسلمون، وحيث سبق الحديث عن الشباب، واستوقفنا الحديث عن الأبناء، فاستكمال الحديث اليوم عن الشيوخ والآباء .. ولكنه ليس حديثًا عن انحرافهم، بل تذكير ببرهم، وطرائق الإحسان إليهم، تلك العبادة التي غفل عنها بعض الناس، واستخف بأمرها كثيرٌ من الشباب، حتى وصل الداء إلى الخيرين، ولم يسلم منه الطيبون، وكان لابد من وقفة تذكير، عسى الله أن ينفعَ بها المتحدِّثَ والسامعين، وعموم المسلمين. ¬

(¬1) 13/ 2/ 1417 هـ. (¬2) سورة التوبة، الآية: 119. (¬3) سورة النساء، الآية: 1.

فمن هما الأبوان اللذان جاءت نصوص الشرع بالبر والطاعة لهما؟ وأي حق أو قدرٍ للوالدين اللذينِ أمر الله بالإحسان إليهما؟ هما أمك التي حملتك في أحشائها وهنًا على وهن، حملتك كرهًا ووضعتك كرهًا، ولا يزيدها نموَّك إلا ثقلاً وضعفًا ... غذَّتك بصحتها، تجوع هي لتشبع أنت، وتسهر لتنام أنت، ومع ذلك فأنت في فؤادها يقظان دائمًا، صغيرًا كنت أم كبيرًا، تتخذ من حجرها لك بيتًا، ومن يديها مركبًا، طالما أماطت عنك الأذى، ولم تضق بك ذرعًا، هي أم الصبر، وحبل الشوق، وعنوان التضحية ورمز الحنين، ومرفأ السلوى والشكوى ... وأبوك يكد لك ويسعى، يجوب الفيافي والقفار، ويتحمل الأخطار بحثًا عن لقمة عيشك، يدفع عنك صنوف الأذى، ويتعهدك بالحنان والتربية، أنت له مجبنة مبخلة، وأنت محل تفكيره، وبك غالب همومه، هو الخادم المجهول، والمكافح المغمور، وربما اخترمته ريب المنون، وهو في رحلة الجهاد للبنين والبنات، .. هذان الأبوان هما اللذان قال الله بيانهما: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (¬1). وأمرنا بالشكر له ولهما: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} (¬2). هما اللذان جاءت الوصية الإلهية بالإحسان إليهما: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} (¬3)، بل أمر بمصاحبتهما بالظروف في الدنيا، وإن كانا كافرين: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} (¬4). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 36. (¬2) سورة لقمان، الآية: 14. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 8. (¬4) سورة لقمان، الآية: 15.

الجهاد فيهما جهاد مقدم، والإذن منهما أمرٌ لازم، (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يستأذنه في الجهاد فقال: أحيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) (¬1). وإيناسهما، وإدخال السرور عليهما شرط للهجرة والجهاد: (جاء رجل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: جئتُ أُبايعك على الهجرة وتركتُ أبوي يبكيان، فقال: ارجع عليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) (¬2). وإذا كان هذا في عظائم الأمور فلا تسأل عما دون ذلك؟ أيها المؤمنون، والبر بالوالدين وفاءٌ وقربةٌ، وهو طريق إلى الجنة، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضِعْ ذلك البابَ أو احفظه) (¬3). والمعنى، كما قال العلماء، أي خير أبواب الجنة (¬4). وحنانيك- يا أخا الإسلام- قولَ المصطفى، صلى الله عليه وسلم، «رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: مَن أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كلاهما، ثم لم يدخل الجنة» (¬5). هل يغيب عنك أن رضى الرب في رضاهما، وسخطه في شخطهما؟ أم نسيتَ أن دعوتهما لك لا تُرد، وأين أنت من بسط الرزق، والفسحة في الأجل، والمصطفى، صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن سره أن يُبْسَطَ لهُ في رزقه ويُنْسَأَ له في أثره فلْيصل ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) رواه أبو داود بسند صحيح (صحيح سنن أبي داود 2/ 480). (¬3) رواه الترمذي وصححه، وابن حبان والحاكم، وأقره الذهبي (صحيح سنن الترمذي 2/ 175، المستدرك 4/ 152، موجبات الجنة/ 57). (¬4) شرح السنة للبغوي 13/ 11. (¬5) رواه مسلم ح 2551.

رحمه» (¬1). وهل هناك أقرب من الوالدين وأولى منهما بالصلة؟ بل يصل الأمر إلى أن يحفظ الله الأبناء، في أنفسهم وأموالهم، بصلاح الآباء: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ .... } (¬2). ومن آثار بر الوالدين أنه سبب لكشف الشدائد والكربات بإذن الله، وفي الحديث أن أحد الثلاثة الذين أخذهم المطر فآووا إلى غار في الجبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم، ولم يستطيعوا الخروج منها حتى دعوا الله بصالح أعمالهم، أحد هؤلاء كان بارًا بوالديه ففرج الله عنهم (¬3). يا أخا الإيمان، وفوق ما يذكره الله لك من خيري الدنيا والآخرة بسبب البر، فيدعوك للبر كذلك معرفتك بسيرة البررة الأخيار من الأنبياء والصالحين: فيحيى، عليه السلام، يقول عنه مولاه: {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} (¬4)، وعن عيسى، عليه السلام، قال تعالى: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} (¬5). وفرق بين البر والعصيان، وبين التجبر والإحسان! ! وتأمل يا من تتلو كتاب الله نموذجًا آخر للبر والإحسان، نالت عطف وإحسان موسى، عليه السلام، {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ¬

(¬1) رواه البخاري. (¬2) سورة الكهف، الآية: 82. (¬3) متفق عليه، البخاري 10/ 338 الأدب، وسلم 2743 في الذكر والدعاء. (¬4) سورة مريم، الآية: 14. (¬5) سورة مريم، الآية: 32.

وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا .. } (¬1). وتظل قصة المرأتين مثار عجب وقدوة، ولا يدري المتأمل في صنيعيهما، أيعجبه البر والإحسان والخدمة لأبيهما في أمر يقوم به الرجال غالبًا، أم يعجبه حياؤهما وعفتهما وبعدهما عن خلطة الرجال، وإذا جمعت الفتاتان بين الأمرين كان حقًا على الفتيان والفتيات ألا يقلوا عنهما برًا وإحسانًا. ومن مدرسة النبوة يبرز لنا «حارثة بن النعمان» رضي الله عنه، نموذجًا للبر، يشهد له النبي، صلى الله عليه وسلم بحسن المكافأة، ويراه في الجنة، على بره، وهو بعدُ في الدنيا، ويقول عليه الصلاة والسلام: «نمتُ فرأيتني في الجنة، فسمعتُ صوتَ قارئٍ يقرأُ فقلتُ: من هذا؟ قالوا: هذا حارثه بن النعمان، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كذلك البر، كذلك البر، وكان أبرَّ الناس بأمه) (¬2). ومن جيل التابعين، يخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، عن رجل آخر من البررة، ويقول: يأتي عليكم أُويس بن عامر القرني من أمداد أهل اليمن، من مراد، ثم من قرن، كان به برصٌ فبرئ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ، هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعتَ أن يستغفر لك فافعل، ثم تمر الأيام والسنون، ويلتقي عمر به ويتأكد من صفته واسمه، ويطلب منه أن يستغفر له فاستغفر له (¬3). أيها المسلم والمسلمة، معاشر البررة، ويكون البر بلين القول، وطيب الكلام، وخفض الجناح، رحمةً وتقديرًا، والدعاء لهما أحياء وأمواتًا، وسد حوائجهما، ومؤانستهما .. ¬

(¬1) سورة القصص، الآيتان: 23، 24. (¬2) رواه أحمد، وسنده صحيح، وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة ح 912، وأخرجه الحاكم بلفظ آخر وصححه، وأقره الذهبي/ المستدرك 3/ 208) (وانظر ترجمته في الإصابة 2/ 190). (¬3) وردت القصة في صحيح مسلم في الفضائل 4/ 1969.

سُئل الحسن، يرحمه الله، ما بر الوالدين؟ قال: أن تبذل لهما ما ملكتَ، وتطيعهما فيما أمراك ما لم يكن معصية، قيل: فما العقوق؟ قال: أن تهجرهما وتحرمهما، ثم قال: أما علمتَ أن نظركَ في وجوه والديك عبادة فكيف بالبر بهما؟ وقال أبو هريرة، رضي الله عنه، لرجل، وهو يعظه في بر أبيه: لا تمش أمام أبيك، ولا تجلس قبله، ولا تدعُهُ باسمه. وقال طاووس: من السنة أن يُوقَّر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسلطان، والوالد، ومن الجفاء أن يدعو الرجل والده باسمه (¬1). أيها المسلمون، ويستمر البر بالوالدين في حياتهما وبعد مماتهما، ويستفيد الأموات من دعوات الأحياء واستغفارهم، وقد ورد عن أبي هريرة بإسناد حسن: (تُرفع للميت بعد موته درجته فيقول: أي رب، أي شيءٍ هذه؟ فيقال: ولدك استغفر لك) (¬2). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً} (¬3). ¬

(¬1) شرح السنة للبغوي 13/ 26، 27. (¬2) صحيح الأدب الفرد/ 45. (¬3) سورة الإسراء، الآيات: 23 - 25.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، وقدوة البارين، والبر لا يبلى، والديَّان ولا يموت، فكما تدين تدان، اللهم صل على نبينا محمد وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها المسلمون، وإذا كان البر عنوانًا للوفاء، ودليلاً على العقل والمروءة والكرم، وطريقًا للسعادة في الدنيا والآخرة، فإن العقوق نكران للجميل، وهو دليل على دناءة المروءة وخسة الطبع، وهو انتكاس للفطرة السوية، وطريق للشقوة في الدنيا، والهاوية في الأخرى. ألا يكفي في التحذير من عقوق الوالدين أنه من أكبر الكبائر، وأنه رديف للشرك بالله؟ والصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم، يقول: «ألا أنَبِّئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى، قال ثلاثًا؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يقولها حتى قلنا: ليته سكت» (¬1). يا أيها المخذول، هل حينما كبرا فاحتاجا إليك جعلتهما أهون الأشياء عليك؟ قدَّمت غيرهما بالإحسان، وقابلت جميلهما بالنسيان، شق عليك أمرهما، وطال عليك عمرهما؟ (¬2). أما علمتَ أن في بقائهما سعادتك، وفي برهما تتنزل البركات عليك وعلى عقبك، وأنتَ مخذول حقًا، إن لم تنل رضا ربك برضاهما، وتدخل الجنة بسبب برهما. ¬

(¬1) متفق عليه، (خ: في الأدب، مثلًا: لا الإيمان). (¬2) خطب ابن حميد م 1/ 84.

أنسيت أيام الصبا، أم غرَّتك الدنيا؟ وهل يرد في مخيلتك أنك لم تمر بمرحلة الضعف والطفولة؟ أم تراك أعجبك الشباب والفتوة، وغرَّك التعليم والثقافة، فظننتَ المال والجاه مؤهلين للترفُّع وداعيين للتأفف والتبرُّم؟ ! قل لي بربك ماذا تراك تصنع؟ وبأي نوع من المعروف تكافئ لو قُدِّر أن إنسانًا وجدك في فدفد من الأرض مجردًا من الثياب، خلوًا من الطعام والشراب، قد آلمتك الغربة، وأوحشتك الطفولة، وأنت أضعف من أن تجلب لنفسك سببًا في الحياة، وأهون من أن تدفع عنها الممات، وأنت في تلك الحال لا تملك إلا البكاء، فهدى الله إليك من أشفق عليك، وأنزل رحمته في قلبه لك، فكساك بعد العري، وأطعمك وقد قاربت الممات، ثم استمر يتعهدك بالمطعم والمشرب، وهيَّأ لك السكن تتقي به حر الهواجر، وتستكن به من زمهرير الشتاء- وما زال هذا دأبه يحوطك بالرعاية، ويدفع عنك كل مكروه يستطيع دفعه- حتى اشتد ساعدك، واكتملت قوتك .. أتراك تقابل الإحسان بالإساءة؟ أم تتصدد عن أداء الواجب حين جاء وقته ... إنني أترك لك فرصة التفكير لتختار لنفسك ما تشاء؟ أيها المؤمنون، والمتأمل في أسباب العقوق يجدها نتيجة جهل ضلَّ صاحبه، أو سبب مال أو جاه غرَّ صاحبيهما، أو بسبب سوء خلق ودناءة طبع أَنْسَتْ الماضي، وأَسَرَتْ العاق في لحظته الحاضرة أو بسبب طاعة الزوجة والأبناء ... وربما وجدت في قائمة العاقين سفيهًا لم يعرف للوالدين حقهما، أو شيخًا متصابيًا أَنْسته السنون فضلهما، وأعجبه عقله واكتمال قوته ومعرفته في مقابل صنعهما، وغياب كثير من الأمور عن مدركاتهما، أو فقيرًا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فراح ينسب لهما أسباب فقره وقلقه، وينزل بهما جام غضبه، وربما كان سر فقره وقلقه عقوقه وعصيانه. أو غنيًا ضنَّ بماله،

وضاق ذرعًا بمطالب والديه وإن كانت يسيرة، وفي الحديث. ( ... وأطع والديك وإن أمراك أن تخرج من دنياك فاخرج لهما ... ) (¬1). أو متعلمًا- في صورة جاهل- ساقه ما وصل إليه من علم إلى التعالي، وما حصل عليه من شهادة إلى الغرور والتباهي، فظن بوالديه الجهل، وقدَّر فيهما محدودية العقل، فتحدث إليهما حديث العالم للجاهل، ونظر إليهما نظرة احتقار ودونية، فلا يستطيب الحديث معهما، وربما تأفَّف أو كره شيئًا من أحاديثهما .. أو صاحب وجاهة، اتسع صدره للآخرين، وضاق عن الوالدين والأقربين ... ألا فاتقوا الله، عباد الله، وأنزلوا والديكم المنزلة التي أنزلها الله إياهم، واحذروا أسباب العقوبة بعقوقهما في الدنيا، والخزي والندامة في الآخرة. لقد عدَّ ابن عمر، رضي الله عنهما «بكاء الوالدين من العقوق» من الكبائر التسع (¬2)، وقال للسائل الذي جاء يسأله عن ذنوب اقترفها: (أتفْرَق من النار وتحب أن تدخل الجنة؟ قلتُ: أي والله، وقال: أحيٌّ والداك؟ قال عندي أمي، قال: فوالله لو ألنتَ لها الكلام، وألهمتها الطعام لتدخلنَّ الجنة ما اجتنبت الكبائر). أيها المسلمون، وفي مقابل ذلك تحيق العقوبة في العاقين في الدنيا، وتصيب دعوة الوالدين الأبناء، وفي الحديث: ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالدين على ولدهما. وإذا كانت دعوة الوالدين أصابت (جريجًا) الراهب العابد في صومعته، وكانت الصلاة سبب عصيانه، حين آثر الصلاة على إجابة دعوة أمه، فدعت عليه ¬

(¬1) رواه ابن ماجه والحاكم وغيرهم بسند حسن (صحيح الأدب الفرد/ 38، 39). (¬2) رواه البخاري في الأدب المفرد وصحح إسناده الألباني (صحيح الأدب المفرد/ 35).

قائلة: لا أماتك الله يا جريح حتى تنظر في وجه المومسات، فابتلي جريج، واتهم بتلك المرأة التي واقعها الراعي فولدت له، وحين سئلت نسبته إلى جريح كان ذلك سببًا في هدم صومعته، والإتيان به مغلولاً .. حتى مرَّ على المومسات، فلما رآهن تبتسَّم، فلما مَثُل بين يدي الملك قال: تزعم هذه أن ولدها منك، قال: أنتِ تزعمين؟ قالت: نعم، فطلب الصبي ثم قال له: مَن أبوك؟ فقال: راعي البقر (وكان أحد الذين تكلموا في المهد) فردَّت إليه صومعته، ثم سأله الملك عن تبسُّمه فقال: أمرًا عرفته، أدركتني دعوة أمي، ثم أخبرهم خبره .. فإذا كان هذا شأن جريج ودعوة أمه في أمر من أمور العبادة لله فكيف تكون الحال فيما هو دون ذلك؟ ألا وإن التوبة تجب ما قبلها فمن فرَّط فليستغفر، وليبدل السيئة بالحسنة إن كان والداه على قيد الحياة. والفرصة أمامه، كذلك، إن كانا قد فارقا الحياة، ففضل الله واسع، ورحمته واسعة، وذلك بكثرة الدعاء والاستغفار لهما، والصدقة عنهما، وصلة من كانا يرغبان صلته في الدنيا. قال عبد العزيز بن أبي رواد: إذا كان الرجل بارًا بوالديه في حياتهما ثم لم يف بعد موتهما بنذورهما، ولم يقض ديونهما، كتب عند الله عاقًا، وإذا كان لم يبرهما في حياتهما ثم أوفى بنذورهما، وقضى ديونهما كتب عند الله بارًا (¬1). ¬

(¬1) شرح السنة 13/ 22.

محاسبة بين المتحانين

محاسبة بين المتحانين (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، كتب الفناء على هذه الدار، ومن عليها من الحياة والأحياء: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} (¬2) وكتب الخلود في دار القرار: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬3). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬4). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، لو كان أحد جديرًا بالبقاء لبقي فيها حيًا مخلدًا، ولكن الحكمة اقتضت: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (¬5). اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله المؤمنين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا ... أما بعد. فاتقوا الله، معاشر المسلمين، وتذكروا على الدوام ما ينتظركم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ ¬

(¬1) في 21/ 1/ 1417 هـ. (¬2) سورة مريم، الآية: 40. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 64. (¬4) سورة القصص، الآية: 88. (¬5) سورة الأنبياء، الآيتان: 34، 35.

مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (¬1). أيها المسلمون، وتظل مساحة الغفلة عند كثير من المسلمين أكبر من مساحة اليقظة، رغم النوازل والنُّذر، وكفى بالقرآن واعظًا، وكفى بالقرآن على أعمال العباد حكمًا. {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬2). ولئن تحدث القرآن، وأزرى بغفلة الكافرين واستهزائهم فكيف تسوغ الغفلة عند المسلمين، وهم يؤمنون بقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (¬3). حاسبوا أنفسكم، معاشر المسلمين، على الدوام، قبل أن تحاسبوا، - وزنوها قبل أن توزنوا ... وتأمَّلوا في تتابع الليل والنهار، وتسارع الأيام والشهور والأعوام، واعلموا أن ذلك من أعماركم، وهي فرصٌ للتأمل والنجوى مع أنفسكم، إن لم تذكر بها الأيام والشهور ... فما أقل من ضرورة التذكر في انصرام عام ومجيء عام .. فمن أحسن ووفَّى فيما مضى فليستمر في الحسنى فيما يستقبل، ومن فرَّط أو سها فالفرصة لا تزال معه إذا ندم على ما مضى، ¬

(¬1) سورة الحج، الآيتان: 1، 2. (¬2) سورة الأنبياء، الآيات: 1 - 4. (¬3) سورة المؤمنون، الآية: 115.

وعقد العزم على الجد فيما بقي، وربك أعلم بالمنتهى. وإذا كانت الغفل داءً واقعًا، فدواؤها باليقظة والتذكُّر، وتلك من علامات التُّقى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (¬1). وإذا كان نزغ الشيطان واردًا فالاستعاذة بالله خير عاصم {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬2). والانتفاع بالذكرى- حين تسيطر الغفلة أو يغلب الهوى- من علامات الخشية، ومجانبتها دليل الشقوة {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} (¬3). وكذلك ينتفع المؤمنون بالذكرى {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬4). أيها المؤمنون، ولئن كانت أسباب الغفلة كثيرة فإن من بينها طولي الأمل في هذه الحياة الدنيا، فتلك الآفة التي حذَّرنا القرآن منها: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (¬5). واتخاذ الدين لهوًا ولعبًا، وغرور الحياة الدنيا .. سبب آخر من أسباب الغفلة في الدنيا، ومُوردٌ للهلكة في الأخرى {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 201. (¬2) سورة فصلت، الآية: 36. (¬3) سورة الأعلى، الآيات: 9 - 12. (¬4) سورة الذاريات، الآية: 55. (¬5) سورة الحديد، الآية: 16.

الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (¬1). عباد الله، لماذا نكره لقاء الله؟ لأننا لم نقدره حق قدره .. ولماذا نكره الموت؟ لأننا لم نستعد لما بعده .. رحم الله أقوامًا خافوا فأدلجوا، وعاشوا للآخرة فلم تفتنهم الدنيا. قدم- يومًا- ضرار بن ضَمرة على معاوية، رضي الله عنه، فقال له: صِف لي عليًّا، رضي الله عنه، قال: أوَ تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: بل تصفه لي، قال: أما إذا لابد، فإنه، والله كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل وظلمته، كان، والله، غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، كان، والله، كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويبتدينا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن، والله، مع تقريبه لنا، وقربه منا، لا نكلِّمه هيبة، ولا نبتديه لعظمته، فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القويُّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لرأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وقد مَثُل في محرابه قابضًا على لحيته، يتململ تململ السليم- يعني المريض- ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه، وهو يقول: يا دنيا يا دنيا، أبي تعرضتِ؟ أم لي تشوَّقتِ، هيهات هيهات، غِرّي غيري، قد بتتكِ ثلاثًا، لا رجعة لي فيكِ، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آهٍ من قلَّة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق. ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 51.

قال: فذرفت دموع معاوية- رضي الله عنه- فما يملكها، وهو ينشفها بكمَّه، وقد اختنق القوم بالبكاء، ثم قال معاوية: رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن مَن ذُبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها، ولا تسكن حسرتها) (¬1). ومع استعدادهم وزهدهم وعدلهم فقد كان خوف الله حتى الممات ملازمًا لهم. عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين حضرته الوفاة، قال له المغيرة بن شعبة: هنيئًا لك يا أمير المؤمنين الجنة، فقال: (يا بن أم المغيرة! وما يدريك؟ والذي نفسي بيده لو كان لي ما بين المشرق والمغرب لافتديت به من هول المطلع) (¬2). كانوا ينظرون إلى الدنيا وما فيها على أنها فيءٌ زائل، وإلى الآخرة على أنها المستودع الباقي، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، واسمعوا إلى أحدهم، وهو يصف الدارين، يقول شداد بن أوس رضي الله عنه: (إنكم لن تروا من الخير إلا أسبابه، ولن تروا من الشر إلا أسبابه، الخير كله بحذافيره في الجنة، والشر بحذافيره في النار، وإن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، والآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قاهر، ولكلٍ بنون فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا) (¬3). ¬

(¬1) الإصابة لابن حجر، غذاء الألباب السفاريني 2/ 554، قل هو نبأ عظيم/ 81. (¬2) وصايا العلماء للحافظ الربعي ص 47 عن: قل هو نبأ عظيم، الجليل/ 80. (¬3) سير أعلام النبلاء 2/ 466 وباختلاف يسير، وهو في الحلية أو فى من هذا 1/ 264، وانظر: قل هو النبأ العظيم/ 86.

أيها المسلمون، ومن أعظم الأسباب الجالبة لليقظة والمبعدة للغفلة أن يتخيل المرء مشاهد القيامة، وهو بعدُ في الدنيا، ويتصور منازل الأبرار، وما أعدَّ الله لهم من الحسنى، ومنازل الفجار، وسوء حالهم، وتلك، وربي، لا يتمالك المتقون أنفسهم حيالها من البكاء. عن سوار أبي عبيدة قال: قالت لي امرأة عطاء السليمي: عاتبْ عطاءً في كثرة البكاء، فعاتبته فقال لي: (يا سوار، كيف تعاتبني في شيء ليس هو إلي؟ إني ذكرت أهل النار، وما ينزل بهم من عذاب الله تمثلت لي نفسي بهم، فكيف بنفس تُغلّ يدها إلى عنقها، وتسحب إلى النار، ألا تصيح وتبكي؟ وكيف بنفس تُعذَّب، ألا تبكي؟ ويحك يا سوار، ما أقلَّ غناء البكاء عن أهله إن لم يرحمهم الله! قال: فسكتُّ عنه) (¬1). أيها المسلمون، وفي سبيل محاسبة أنفسكم هاكم هذه الوصية فاعقلوها، وأنصفوا أنفسكم من خلالها، وتناصحوا بينكم. فعن سفيان بن عيينه، رحمه الله، قال: كان الرجل من السلف يلقى الأخ من إخوانه فيقول: (يا هذا، اتق الله، وإن استطعتَ ألا تسيء إلى من تحب فافعل، فقال له رجل يومًا: وهل يسيء الإنسان إنما من يحب؟ قال: نعم، نفسك أعز الأنفس عليك، فإذا عصيتَ فقد أسأتَ إلى نفسك) (¬2). اللهم إنا نشهدك على محبة هؤلاء، وإن لم نلحق بهم، اللهم اسلك بنا طريقهم، واحشرنا في زمرتهم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيَا ¬

(¬1) صفوة الصفوة 3/ 327. (¬2) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ص 88 عن: قل هو نبأ عظيم ص 89.

وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة يونس، الآيات: 7 - 10.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، له الحكم في الأولى والآخرة، وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى إخوانه من النبيين، وعلى عباد الله الصالحين. أما بعدُ، فمن الامتحان في الأخرى إلى الامتحان في الدنيا أذكركم، وفي هذه الأيام تطل الامتحانات برأسها على الطلبة والطالبات، وفي أجوائها أقف مذكرًا البيت والمعلم والطلاب بالأمور التالية، فأما البيت فأذكره بما يلي: 1 - هناك إفراط أو تفريط في رعاية أبنائهم أيام الامتحانات، فبيتٌ لا يكترث بالامتحانات، ولا يهمه كثيرًا أنجح أولادهم أم رسبوا، وربما كان هذا شأنهم معهم في كثير من أمور حياتهم، وبيتٌ آخر يبلغ به الاهتمام حدَّ السرف، وربما أمَلَّ الأولاد، ونفَّرهم، حتى وإن تظاهروا بالدراسة أمامهم، وإن حملوا الكتب في حالة مراقبتهم. وإذا رُفض الأسلوب أو ذاك فالمتابعة واللين والحكمة في التربية والتوجيه هي الطريق لصلاح الأولاد، واستفادتهم بإذن الله. 2 - وليس من سمات البيت المسلم أن يقتصر في متابعة البنين أو البنات في حال دون حال، أو يقصروا اهتمامهم وتوجيههم على الدراسة والامتحانات فحسب، بل ينبغي أن يكون الاهتمام مستمرًا، والمتابعة والتوجيه والنصح شاملاً. 3 - والبيت رديف للمدرسة في مسألة التربية والتوجيه، ولذا ينبغي ألا يعيش الطالب والطالبة حالة تناقض، فما تبنيه المدرسة تهدمه البيوت ... وما يأخذه الدارسون في المدارس من توجيهات تربوية تذهب أدراج الرياح في ضوء

ممارسات البيوت الخاطئة، .. وكذلك العكس بالنسبة للمدرسة إزاء ما تبنيه البيوت .. أما بالنسبة للمدرسة والمعلم فينبغي أن تكون محضنًا يشاع فيها روح المحبة، وتحاصر فيها أساليب الرهبة التي ربما أفقدت بعض الدارسين معلوماتهم، ويكفي شبح الامتحان خوفًا، فلا نزيد عليه .. بل نعطي الطلاب من الهدوء والراحة النفسية ما يتجاوزون به الامتحان بسلام. 2 - وليس ذلك يعني بحال، التسامح المخل، والذي ربما تسلل من خلال الضعفاء، فالغش حرام في شريعتنا .. ونتائجه لا تبني أمةً قادرةً على العطاء والذين يمارسون الغش في مكان العلم، ومحضن التربية، ستكون جرأتهم عليه في مناحي الحياة الأخرى من باب أولى، فلنحارب هذا الداء العضال قبل أن يستشري في مجتمعنا. 3 - ويخطئ المعلم- أو البيت- الذي يرسِّخ في ذهن الطالب أو الطالبة منذ الأيام الأولى للدراسة أن الهدف من التعليم هو الامتحان في نهاية العام فقط، فتلك النظرة تنسحب بظلالها على الدارسين وتصرفهم عن الهدف الأسمى من أهمية طلب العلم، ورفع الجهل، وإعطائه الأدوات الأولى التي يسلك بها مسالك العلماء .. كما تحرمه من الاستفادة من هذه المعلومات، وأساليب التربية في حياته العملية، فيعبد على بصيرة، ويستطيع التعامل مع خلقه بأدب وحكمة. أيها المعلمون، وأيتها المعلمات، أبناؤنا وبناتنا أمانة في أعناقكم وستُسألون عنها، فازرعوا ما شئتم اليوم، وستحصدون ما زرعتم غدًا، وإن غدًا لناظره قريب، وإننا إذ نذكِّركم بمسؤوليتكم لا يداخلنا شك في أمانتكم، لكنها الذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين، بل ومن حقكم علينا أن ندفع التهم التي ربما

قيلت لكم جزافًا، وكم هو مؤلم لكم ولنا أن نطالع في إحدى زوايا الصحف مقالاً لإحدى الكاتبات تحت عنوان (الغرق تحت سطوة التعليب) وتبدأ الكاتبة مقالها بالقول: (أجدني، ومئات الآلاف من أفراد الأسر غرقى في مركب واحد أمام التناقضات الهائلة التي يواجهها صغارنا ومراهقونا بين ما يمارسهم معهم معلموهم داخل المدارس من أنماط سلوكية تسلطية مطلقة لأمور عامة لا تعكس في الحقيقة حرامًا أو حلالاً قدر ما يخضع تفسيرها لأساليب نيات وطبيعة ثقافة هؤلاء المعلمين، بحيث أضحى التلفزيون حرامًا، والدش حرامًا، والسائق حرامًا، والخادمة حرامًا، وقصَّة الشعر حرامًا، ولبس البنطلون حرامًا، ويعود الطفل إلى واقعه ليجد الخادمة وليجد السائق والدش، ويجد والده الذي يعمل في الجيش أو في المستشفى أو في الخطوط وقد ارتدى البنطلون كزي رسمي .. ) (¬1) إلخ مقالها الذي تختمه بالقول: هل أنت راض عن تعامل المعلم مع ابنك؟ وأنا هنا لا أقف مناقشًا لهذه الطروحات والأفكار بالتفصيل فليس هذا موطنها، لكنني أتساءل، وربما تساءل غيري، أَيسوغ طرح هذه القضايا في المزاد العلني، وعلى رؤوس الأشهاد بهذا التعميم والتهويل؟ وهل أصبحت قضايا الحلال والحرام كلأً مباحًا يقول فيه غير أهله بغير علم؟ ولمصلحة من تُبلبل عقول الناس، ويداخلهم الشك في أمانة ومسؤولية معلمي أبنائهم؟ وهل يعني ذلك إعطاء الفرصة لنقد المؤسسات الأخرى، إن بحق أو بغير حق؟ أم يضمر هؤلاء الكتاب هدفًا مبيتًا للتعليم؟ فمرَّةً تتهم المناهج، وأخرى يتهم المعلمون، وهل التعليم إلا منهج ومعلم؟ . ¬

(¬1) الجزيرة عدد 8644 في 12/ 1/ 1417 هـ.

أم هي دعوة لإغراق البيوت التي سلمت من بعض هذه الآفات، فينبغي أن تكون صريحةً، وليست على طبق اتهام المعلمين؟ أم تراها رفضًا مبطنًا لفتاوى أصحاب الفضيلة العلماء، وقد قالوا قولتهم- وهم أصحاب الشأن- في هذه القضايا وأمثالها. إننا نستغرب هذه الجرأة، ونستغرب معها إتاحة الفرصة لمثل هذه الطروحات الفجة، والتهم التي تهدم ولا تبني، ولسنا بحاجة إلى فصام نكد بين البيت والمدرسة، وإنما حاجتنا إلى التفاهم والتعاون المثمر. أما أنتم- معاشر الطلبة والطالبات- فنوصيكم بتقوى الله، والإخلاص في طلب العلم، واستثمار ما تعلمتموه في حياتكم العملية، وإياكم والسلوكيات الخاطئة داخل قاعة الدرس والامتحان أو خارجها ... كونوا لوحة مشرقة للعلم النافع الذي تعلمتموه، ولا تكن الامتحانات نهاية المطاف في تعلمكم، فطلب العلم من المهد إلى اللحد، وهو من المحبرة إلى المقبرة، والعلم النافع سعادة في الحياة الدنيا، وطريق موصل إلى الله بأمان في الأخرى، ولتكن قاعات الدرس مؤهلة لكم لحضور حلق العلم، وثني الركب، والاستفادة من العلماء، وليكن رائدُكم في ذلك قولَ المصطفى صلى الله عليه وسلم «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة» (¬1). لاسيما وأنتم مقبلون على إجازة يليق بكم استثمارها في كل عمل نافع. وإياكم والأهواء المضللة، والنزغات الشيطانية، واحذروا رفقة السوء، وكلام الزور، وليكن خوفكم من خالقكم، وأدبكم مع والديكم ومعلميكم، ¬

(¬1) حديث صحيح رواه الترمذي (صحيح الجامع 5/ 302).

وصلتكم بزملائكم والناس من حولكم، ليكن ذلك كلُّه وفق النصوص الشرعية التي حفظتموها. اللهم ارحمنا أجمعين، أباءً وأمهاتٍ، وبنات وبنين، وعلمنا ما ينفعنا، وأنفعنا بما علمتنا ... عالمين ومعلمين ومتعلمين ... هذا وصلوا ..

المسلمون بين تعظيم القرآن وهجره

المسلمون بين تعظيم القرآن وهجره (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجًا، قيِّمًا، فبشر به المؤمنين وأنذر به قومًا لُدًّا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رفع بهذا القرآن أقوامًا ووضع به آخرين، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بيَّن للناس ما نُزِّل إليهم من ربهم، ولو كان كاتمًا شيئًا لكتم أمثال قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ... } (¬2). ولكتم قصته مع الأعمى ونزول قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الأَعْمَى} (¬3). اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وكان بالقرآن أكثر الأنبياء تبعًا، وقد صح عنه أنه قال: «ما من الأنبياء نبي إلا أُعطيَ من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيتم وحيًا أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكونَ أكثرَهم تابعًا يوم القيامة» (¬4). وارض اللهم عن أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ¬

(¬1) في 13/ 9/ 1416 هـ. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 37. (¬3) سورة عبس، الآيتان: 2، 1. (¬4) رواه البخاري 4981، الفتح 9/ 3.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (¬1). إخوة الإيمان، ويطيب الحديث عن القرآن في كل آن، ويزكو في شهر رمضان، ففيه أُنزل، وفيه كان جبريل عليه السلام يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن (¬2). ومعنى نزول القرآن في رمضان نزوله جملةً واحدةً إلى بيت العزَّة في السماء الدنيا، وإلا فقد نزل القرآن في أشهر أُخرى تثبيتًا لقلب النبي صلى الله عليه وسلم، وإفحامًا للمشركين كما قال ابن عباس، رضي الله عنهما: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السماء الدنيا جملة واحدة، وكان الله يُحْدِث لنبيه ما يشاء، ولا يجيء المشركون بمثَل يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه، وذلك قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} (¬3). أيها المسلمون، والقرآن الكريم مصدق للكتب السماوية السابقة ومهيمن عليها كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ... الآية} (¬4). قال ابن عباس، رضي الله عنهما: المهيمن: الأمين، والقرآن أمين على كل كتابٍ قبله (¬5). والقرآن معجزة محمد صلى الله عليه وسلم الكبري، والباقية المتجددة ما بقيت الأيام تترى، فلقد تحدى الله به أهل الفصاحة، والبلاغة قديمًا، وما زال، ولن يزال ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71. (¬2) كما في صحيح البخاري ح 4997، الفتح 9/ 43. (¬3) سورة الفرقان، الآيتان: 32، 33. (¬4) سورة المائدة، الآية: 48. (¬5) صحيح البخاري، انظر الأثر في الفتح 9/ 3.

يرغم أنوف الأعداء، وبه تحدى الله الخليقة إنسًا وجنًّا: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (¬1). وعظمة الإعجاز في القرآن أنه مؤلفٌ من جنس كلام الناس، ومؤلف من نفس الحروف التي يتخاطبون بها {الم، الر، ص، ق، كهيعص .. } ونحوها، ومع ذلك لا يستطيعون الإتيان بمثله، ولهذا انتصر ابن كثير، رحمه الله، في تفسيره لهذه الحروف المقطعة بأنها ذُكرت بيانًا لإعجاز القرآن، وقال: ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلابد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء في تسع وعشرين سورة مثل: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} (¬2). أيها المؤمنون، وإذا كان اعتراف المشركين قديمًا بعظمة القرآن وإعجازه مشهورًا ومعروفًا، فأكتفي بسوق نموذج لاعتراف المشركين حديثًا بعظمة هذا القرآن، فإن فرنسا قامت في سبيل القضاء على القرآن في نفوس شباب الجزائر بانتقاء عشر فتيات مسلمات جزائريات، أدخلتهن الحكومةُ الفرنسيةُ في المدارس الفرنسية، وألبستهن الثياب الفرنسية، ولقنتهنَّ اللغة الفرنسية، والثقافة الفرنسية، فأصبحن كالفرنسيات تمامًا، وبعد أحد عشر عامًا من الجهود هيأت لها حفلة تخرُج، دُعي لها الوزراء والمفكرون والصحفيون، ولما ابتدأت الحفلة فوجئ الجميع بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهن الإسلامي الجزائري .. فثارت ثائرة الصحف الفرنسية وتساءلت: ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذن بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عامًا؟ ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 88. (¬2) تفسير ابن كثير للبقرة 1/ 59.

وحينها أجاب (لاكوست) وزير المستعمرات الفرنسي بقوله: وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟ (¬1). أيها المسلمون، وينبغي أن تسري عظمة القرآن في نفوسنا، وأن تلين له جلودنا، بعد أن تخشع له قلوبنا، تلكم هداية القرآن: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (¬2). والقرآن يهدي لأقوم الطرق وأوضح السبل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (¬3). يقول علي، رضي الله عنه في وصف القرآن: (اعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدِّث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحدٌ إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى ونقصان من عمى، واعلموا أنه ليس على أحدٍ بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد بعد القرآن من غنى، فاستشفوا به من أدوائكم، واستيعنوا به على لأوائكم، فإن فيه الشفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق، والغي والضلال، واعلموا أنه شافعٌ ومشَفعٌ، وقائلٌ ومصدَّق، وإنه من شفع له القرآن يوم القيامة شُفِّع فيه، فإنه ينادي منادي يوم القيامة: ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله، غير حرثة القرآن، فكونوا من حرثته وأتباعه، واستدلوا على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم، واستغشوا فيه أهواءكم) (¬4). ¬

(¬1) قادة الغرب يقولون ... جلال العالم/ 50، 51. (¬2) سورة الزمر، الآية: 23. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 9. (¬4) عن مقدمة كتاب أحكام القرآن، الكيا الهراس 1/ 6.

يا أمة القرآن، كم يوقظ القرآن ضمائرنا ولا تستيقظ، وكم يحذرنا ونظل نلهو ونلعب، وكم يبشرنا وكأن المبشَّر غيرنا، وكم تعيينا الأموال والعلل ولو استشفينا بالقرآن لشفانا الله به حسًّا ومعنى، وصدق الله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً} (¬1). فهو يُذهب ما في القلوب من أمراض الشك والنفاق، والشرك والزيغ، وبه يحصل الإيمان والحكمة، وليس هذا إلا لمن آمن بالقرآن وصدقة واتبعه، وهذا شفاء القرآن المعنوي، أما شفاؤه الحسي فتؤكده ولاية البخاري عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: (انطلق نفرٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلُدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه شيء، فقال: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لُدغ وسعينا له بكل شيء، لا ينفعه، فهل عند أحدكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله، إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، فصالحوهم على قطيع من الغنم [وفي رواية: فأمر لنا بثلاثين شاة، وسقانا لبنًا) فانطلق يتفل عليه ويقرأ (الحمد لله رب العالمين) فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمضي وما به قَلَبة، قال: فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له، فقال: وما يُدريك أنها رقية؟ ثم قال: قد أصبتم، اقسموا، واضربوا لي معكم سهمًا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم (¬2). ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 83. (¬2) البخاري: الإجارة 2276، وفضائل الصحابة 5007، الفتح 4/ 453، 9/ 54، قال ابن حجر: وفي الحديث جواز الرقية بكتاب الله، ويلحق به ما كان بالذكر والدعاء المأثور.

أيها المؤمنون، ويشهد القرآن بتعظيم من في السموات ومن في الأرض لله بأنسه، وملائكته، وشموسه، وجباله، وشجره، ودوابه، ويخرون لله سجدًا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (¬1). وهذه الجن تستجيب لنداء القرآن، ويؤمنون بالإسلام، ويسمعون محمدًا عليه الصلاة والسلام: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} (¬2). {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (¬3). وملائكة السماء تدنو لتسمع صوت القارئ للقرآن كما في قصة أسيد بن حضير، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: «تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم» (¬4). وعن ابن مسعود، رضي الله عنه، نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفًا من ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 18. (¬2) سورة الجن: الآيتان: 1، 2. (¬3) سورة الأحقاف الآيات: 29 - 32 (¬4) رواه البخاري 5018، الفتح 9/ 63.

الملائكة (¬1) وعن جابر، رضي الله عنه، لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق (¬2). فهل نعظم هذا الكتاب الذي عظمه الله، وعظمته ملائكته، واستجاب له إنسه وجنه؟ وهل نزداد له تلاوةً وتدبرًا في شهر نزوله؟ وهل نحافظ على الصلة به علمًا وعملاً، ولا نكون في عداد من هجره كما قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (¬3). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 3/ 233. (¬2) رواه الحاكم بسنده وقال: صحيح على شرط مسلم. (المستدرك 2/ 314). (¬3) سورة الفرقان، الآية: 30.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره وأُثني عليه الخير كلَّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. أما بعد، فيا أهل القرآن، احذروا شكوى محمد صلى الله عليه وسلم لربه من هجر قومه وأمته للقرآن {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} وتأملوا في رد الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} (¬1). قال صاحب أضواء البيان- يرحمه الله- (معنى هذه الآية الكريمة ظاهرٌ، وهو أن نبينا صلى الله عليه وسلم شكا إلى ربه هجر قومه- وهم كفار قريش - لهذا القرآن العظيم، أي تركهم لتصديقه والعمل به، وهذه شكوى عظيمة، وفيها أعظم تخويفٍ لمن هجر هذا القرآن العظيم فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكاوم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال) أهـ (¬2). ويقول صاحب الظلال- يرحمه الله- (لقد هجروا القرآن الذي نزله الله على عبده لينذرهم ويبصرهم، هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم إذ كانوا يتقون أن يجتذبهم فلا يملكون لقلوبهم عنه ردًا، وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله، ويجدوا الهدى على نوره، وهجروه فلم يجعلوه دستور حياتهم، وقد جاء ليكون منهج حياةٍ يقودها إلى أقوم طريق، وإن ربه ليعلم- بحاله وحال قومه- ولكنه دعاء البث والإنابة يشهد به ربه على أنه لم يألُ جهدًا، ولكن قومه ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية: 31. (¬2) أضواء البيان 6/ 317.

لم يستمعوا لهذا القرآن ويتدبروه فيسليه ربه ويعزيه، فتلك هي السنة الجارية قبله في جميع الرسالات، فلكل نبي أعداءٌ يهجرون الهدى الذي يجيئهم به، ويصدون عن سبيل الله ... ولله الحكمة البالغة، فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوِّي عودها، ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها، وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذين يتصدون لها- مهما كلَّفهم من مشقة، وكلَّف الدعوات من تعويق- هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة، وهو الذي يمحص القائمين عليها، ويطرد الزائفين منهم، فلا يبقى بجوارها إلا العناصر المؤمنة القوية المتجردة التي لا تبتغي مغانم قريبة، ولا تريد إلا الدعوة خالصة تبتغي بها وجه الله تعالى. ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة، تسلك طريقًا ممهدة مفروشة بالأزهار، ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون، ولا يتعرض لها المكذبون والمعاندون، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحبَ دعوة، ولاختلطت دعوات الحق ودعاوى الباطل، ووقعت البلبلة والفتنة، ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتمًا مقضيًا، ويجعل الآلام والتضحيات لها وقودًا .. إلخ كلامه (¬1). أيها المسلمون، وهكذا تكشف الآية عن عظم هجر القرآن أفرادًا أو جماعات، شعوبًا أو حكومات، وإذا رأيت في مجتمع المسلمين عددًا من المخالفات لهدي القرآن ظاهرًا، وعددًا من التجاوزات لتعاليم الإسلام واضحًا، وزهدًا بسنة محمد صلى الله عليه وسلم صراحةً أو خداعًا، واستيرادًا للقوانين الوضعية، ووضعها للناس حكمًا، فاعلم أن ذلك من هجر القرآن، وتذكر حينها ¬

(¬1) الظلال 5/ 2561.

قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (¬1) وتأمل معنى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} (¬2). عباد الله، وبإزاء هذه الصورة الهاجرة للقرآن، فهناك صورة التعظيم والتقديم لكتاب الله، يقدرها حق قدرها العلماء والربانيون الذين يعلمون منزلة الكتاب، وما فيه من أحكام وآداب، ووعد ووعيد، ولذا تراهم يقدمون تعلمها على كل شيء، حتى ولو كانت من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم. روى البخاري في صحيحه عن حذيفة، رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حديثين، رأيتُ أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة ... وحدثنا عن رفعها قال .... [الحديث 7086]. قال ابن حجر معلقًا: قوله: «ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة» كذا في هذه الرواية بإعادة (ثم) وفيه إشارة إلى أنهم كانوا يتعلمون القرآن قبل أن يتعلموا السنن، والمراد بالسنن ما يتلقون عن النبي صلى الله عليه وسلم واجبًا كان أو مندوبًا (¬3). ويقول أبو عمر بن عبد البر يرحمه الله: طلب العلم درجات ومناقب ورتب، ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 65. (¬2) سورة النساء، الآيتان: 60، 61. (¬3) الفتح 13/ 39.

لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف، رحمهم الله، ومن تعدى سبيلهم عامدًا ضل، ومن تعداها مجتهدًا زلَّ، فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل، وتفهمه ... (¬1). وقال الحافظ النووي، رحمه الله: (وينبغي أن يبدأ من دروسه على المشايخ، وفي الحفظ والتكرار والمطالعة بالأهم فالأهم، وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز فهو أهم العلوم، وكان السلف لا يُعَلِّمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن ... ) (¬2). أيها المسلمون، وإذا كان هذا منهجهم في تقديم القرآن في طلب العلم، فلا تسأل عن التزامهم بهدي القرآن، ووقوفهم عند الحلال والحرام، والعمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه، وكان السلف، رحمهم الله، وقَّافين عند كتاب الله، لا يتجاوزون هديه، ولا يعدلون شيئًا بحكمه، ومن قرأ في سيرهم وخبر آثارهم، عرف ذلك جليًا في حياتهم- ولولا مخافة الإطالة لسقت لكم نماذج- ولذا سادوا الدنيا، ورفعهم الله في الآخرة مكانًا عليًّا، وحين تخلَّف المسلمون اليوم عن هدى القرآن، واتخذوه مهجورًا، سامهم الأعداء سومًا، وبات رصيدهم للآخرة قليلاً، وكل ذلك جزاءً وفاقًا، ولا يظلم ربك أحدًا. فهل نتخذ- معاشر المسلمين- فرصةً لنعيد النظر في أنفسنا، وموقفنا من كتاب ربنا، إن ذلك خليقٌ بنا في شهر الصيام وبعده، ولعلَّه يكون أثرًا من آثار تقوى الصيام. اللهم أصلح أحوالنا، وردَّنا إليك ردًا جميلاً، اللهم حكم في المسلمين كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم .. ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله 526، 528 عن النبذ في آداب الطلب/ للعثمان/ 63. (¬2) مقدمة المجموع، شرح المهذب 1/ 38 عن: النبذ في آداب الطلب/ 64.

تجربة صلاح الدين في تحرير فلسطين

تجربة صلاح الدين في تحرير فلسطين (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ... إخوة الإسلام، ومن القرن الخامس عشر لهجرة المصطفى، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، إلى مشارف القرن الخامس للهجرة النبوية، أدعوكم إنما رحلة تاريخية، ملؤها العظة والاعتبار، ثم أدلف بكم إلى القرن السادس للهجرة، لتروا كيف تتشابه الظروف والأحوال عبر القرون، وكيف يتم الخلاص من عوامل الذل والهزيمة والهوان، ويتخلص المجتمع من أسباب الفرقة والضلال، وتعود إلى الناس الشهامة، وتستعلي النفوس بالجهاد، وتستنشق عبير الجنان ... ففي نهاية القرن الخامس الهجري، وعلى وجه التحديد حين دخلت سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة للهجرة، أخذت الفرنج النصارى بيت المقدس، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألف قتيل من المسلمين، وجاسوا خلال الديار، وأفسدوا .. ، وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق ليستعينوا الخليفة على النصارى الفرنج، وفيهم العلماء والقضاة، فلما سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك وتباكوا، وقال قائلهم: مزجنا دمانا بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضةٌ للمراحمِ وشر سلاح المرء دمعٌ يُريقه ... إذا الحرب شبَّت نارها بالصوارمِ ¬

(¬1) في 30/ 4/ 1414 هـ.

فإيهًا بني الإسلام إن وراءكم ... وقائع يلحقن الذرى بالمناسم وكيف تنام العين ملء جفونها ... على هفوات أيقظت كل نائمِ وإخوانكم بالشام يضحي مقتلهم ... ظهور المذاكي أو بطون القشاعمِ تسومهم الروم الهوانَ وأنتمُ ... تجرون ذيل الخفضِ فعلَ المسالمِ أيها المسلمون، وليس هذا الحدث إلا صورة من صور الضعف التي عاشها المسلمون في أواخر القرن الخامس والقرن السادس الهجري، فالمسلمون في وضع سياسي لا يحسدون عليه، حيث الفرقة والنزاع، ومع بقاء اسم خليفة المسلمين في بغداد إلا أن الدويلات التي ظهرت، واستقل بعضها واختصت كل دولة منها بجزء من بلاد المسلمين، لاشك أن ذلك أضعف هيبة الخلافة، وفرق قوة المسلمين، بل وصل الأمر إلى تنازع هذه الدويلات فيما بينها، وربما بلغ التنازع مبلغه فوجد في الدويلة الواحدة عدة أشخاص يتنازعون السلطان بينهم، ووصل بعضهم إلى درجة الاستعانة بالكافرين على إخوانهم المسلمين ... أفبعد هذا التمزق والخلاف يُحسد المسلمون على وضعهم السياسي؟ وليس الوضع العقائدي بأحسن حالاً من الوضع السياسي، حيث تسود العقائد الباطلة، ويروج سوقها، وربما أُلزِم الناس بها إلزامًا، ودولة العبيديين (المسماة بالفاطميين) نموذج واضح لهذا الفساد العقائدي، والتي استقلت بمصر وبلاد الشام وما حولها، وفي هذه الدولة كان السبّ جهارًا لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأزواجه الطيبات الطاهرات، هذا فضلاً عن إيذاء المؤمنين وقتلهم، وفضلاً عن تقريب اليهود والنصارى وتقليدهم المناصب .. إلي غير ذلك من انحرافات في العقائد، ذكرها المؤرخون، حتى قال الحافظ ابن كثير- وقد نقل شيئًا من ذلك- (وإنما حكيتُ هذا ليعلم ما في طوايا الروافض من الخبث والبغض لدين الإسلام وأهله، ومن العداوة الباطنة الكامنة في قلوبهم

لله ولرسوله وشريعته) (¬1). إخوة الإسلام، وهل يُعقل أن دولة كدولة العبيديين (الفاطميين) ستحافظ على مقدسات المسلمين، أو تجابه اليهود والنصارى والمعتدين؟ وهل علمت أن سقوط بيت المقدس كان على أيديهم، وفي عهد ملوكهم؟ (¬2). وهو شاهد لك على أن المسلمين لا يمكن أن ينال العدو منهم ما يريد في حال عزتهم وتمسكم بعقيدتهم، وإنما يتسلل العدو إلى ديارهم إذا وقع الخلل في عقائدهم، وكان الضعف في هممهم، أو طلبوا النصير من أعدائهم، وفي تلك الحال تعم المصيبة وتحصل الفتنة، ويُستَذل المسلمون، ويستأسد المجرمون. ويكفي أن هذه الهزيمة التي حلَّت بالمسلمين باتوا يتجرعون كؤوسها مدةً تزيد على تسعين عامًا حتى أذن الله بالنصر، وعودة المسلمين مرة أخرى على يدي صلاح الدين الأيوبي، وجنده الصادقين- يرحمهم الله- فما هي قصة هذا الانتصار؟ وما هي أسبابه ومظاهره؟ وكيف نستفيد منه الدروس والعبَر؟ وإذا كنت، يا أخا الإسلام، قد أدركت سوء أحوال المسلمين في تلك الفترة فاعلم أن صلاح الدين لم ينتصر في يوم وليلة، ولم تكن المهمة سهلةً كما يتصور البسطاء، بل هو الجد والجهاد والصدق والعزيمة، والإعداد والتربية، حتى إذا اكتملت أسباب النصر، وتهيأ المجتمع، وقُطع دابر الفساد والفتن، أذن الله بالنصر والتمكين {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬3). ¬

(¬1) البداية والنهاية 12/ 146. (¬2) انظر البداية والنهاية 12/ 283، قبل أن يهدم الأقصى/ 55، 56. (¬3) سورة الحج، الآية: 40.

أجل، لقد بدأ صلاح الدين بالإصلاحات الداخلية، فقضى على النَّخَل الباطلة، ومحا من الوجود الدول المشبوهة، فعلى يديه كان سقوط دولة العبيدين، ووحد الكلمة، وقرب العلماء، حتى قال الذهبي- يرحمه الله- إن مجلسه كان حافلاً بأهل العلم يتذاكرون وهو يحسن الاستماع والمشاركة ومن جانب آخر كان عالي الهمة، حتى قيل: كانت له همة في الجهاد وإبادة الأضداد ما سمع بمثلها لأحد في دهر، وكان في نفسه صالحًا محبًا للخير، ولاسيما بعد ولايته لأمور المسلمين، فقد طلَّق الشهوات، وكان كثير البر والصدقات، ومقيلاً للعثرات، تقيًّا نقيًّا، وفيًّا صفيًّا ما رؤي صلى إلا في جماعة، هكذا قال العلماء في وصفه (¬1). ولاشك أنه الإمام يقتدي به من خلفه، والراعي تسير خلفه رعيته، والناس- كما قيل- على دين ملوكهم. فإذا كانت هذه سيرة الراعي فلا تسأل عن سيرة الرعية، وكأن صلاح الدين ساءته أحوال المسلمين، فأراد تربيتهم بالقدوة والعمل، وأراد شحذ هممهم في زوايا المساجد، وساحات الجهاد .. فاستجابت الأمة لندائه، ولبَّت الرعية دعوته، وكانت وقعة (حطين) الشهيرة، والتي كانت أمارةً متقدمةً وإشارةً لفتح بيت المقدس، وانتصر فيها المسلمون نصرًا مؤزرًا بعد طول جهاد وصبر ومنازلة، وكان صلاح الدين في مقدمة الصفوف، يحث الجيش ويحمل بهم، ويكبِّر أمامهم، حتى منح الله المسلمين أكتاف الأعداء، فقُتل منهم ثلاثون ألفًا في ذلك اليوم، وأُسر ثلاثون ألفًا من شجعانهم وفرسانهم، ولم يُسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله، ودفع الباطل وأهله، حتى ذُكر أن بعض الفلاحين رُؤيَ يقود نيفًا وثلاثين أسيرًا من ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 21/ 287.

الفرنج والنصارى، قد ربطهم بطنب خيمة، وباع بعضهم أسيرًا بنعلٍ ليلبسها في رجله، وجرت أمورٌ لم يُسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين، كما ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله (¬1). وفي أثر هذه المعركة انكسرت شوكة النصارى، وحنق قادتهم، وخافوا أن يفلت زمام بيت المقدس من أيديهم، فجمعوا جموعهم، وألَّبوا رجالاتهم، وأعدوا عدتهم .. أما صلاح الدين فزاده الله شرفًا، وطار صيته في الآفاق، ولم تقف همته عند هذا، بل كان فتح بيت المقدس حلمًا يراوده، وهدفًا يسعى إليه: (وطار في الناس أن السلطان عازمٌ على فتح بيت المقدس، فقصده العلماء والصالحون تطوعًا، فاجتمع له من عباد الله ومن الجيوش شيء كثير جدًا (¬2)، فقصد بهم في ملحمة، لا يزال اليهود والنصارى يذكرونها، ويذكرون معها صلاح الدين بكل عزَّة وافتخار، وكيف لا تكون الملحمة كبيرةً والذين يدافعون عن بيت المقدس من النصارى ستون ألف مقاتل أو يزيدون، وقد حصِّنت تحصينًا شديدًا، فوكل صلاح الدين إلى طائفةٍ من جيشه ناحيةً من السور وأبراجه، وبقي الحصار، وقُتل من قتل فيه من المسلمين، فاشتد صلاح الدين ورجاله، وقصدوا الزاوية الشمالية الشرقية من السور، فنقبوها، ثم حشوها، وأحرقوا فيها فسقط ذلك الجانب، وخرج البرج برمته، فإذا هو واجب، فلما شاهد الفرنج ذلك، وأحسوا بالهزيمة قصد أكابرهم السلطان وتشفَّعوا إليه أن يعطيهم الأمان فامتنع من ذلك وقال: لا أفتحها إلا عنوةً كما اقتحمتموها أنتم عنوةً، ولا أترك بها أحدًا من النصارى إلا قتلته كما قتلتم أنتم من كان بها من المسلمين، فطلب صاحب القدس الأمان ليحضر عند صلاح الدين، فلما أمنه، ¬

(¬1) البداية والنهاية 12/ 341. (¬2) البداية والنهاية 12/ 342 ..

وجاء عنده، ترقق لصلاح، وذل له ذلاً عظيمًا، وتشفع إليه بكل ما يمكن، فلم يجبه صلاح الدين إلى الأمان، فقال حينها: (إن لم تعطنا الأمان رجعنا فقتلنا كل أسير من المسلمين بأيدينا- وكانوا قريبًا من أربعة آلاف- وقتلنا ذرارينا وأولادنا ونساءنا، وخربنا الدور والأماكن الحسنة، وأحرقنا المتاع، وأتلفنا ما بأيدينا من الأموال، وهدمنا قبة الصخرة، وحرقنا ما نقدر عليه، وبعد ذلك نخرج فنقاتل قتال الموت، ولا خير في حياتنا بعد ذلك، فلا يقتل واحد منا حتى يقتل أعداد منكم، فماذا ترتجي بعد هذا من الخير؟ (¬1) فلما سمع صلاح الدين ذلك أجاب إلى الصلح مع عدد من الشروط أخذها عليهم، ووافقوا عليها .. وخرجوا منها أذلةً وهم صاغرون. وهكذا تكون نتائج العزة الإيمانية، وثمار الجهاد وآثار التربية الصادقة، وكذلك يذل الله الكافرين حين يصدق المسلمون، فهل من مدَّكر؟ اللهم أعزَّنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك، وارزقنا حلاوة الإيمان بك، واعصمنا من التوكل على أحدٍ سواك. ¬

(¬1) البداية والنهاية 12/ 344.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، نصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه، وعلى سائر المرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، إخوة الإسلام، فينبغي أن نستفيد من هذه الأحداث والملاحم الواقعة في تاريخ المسلمين الدروس والعبر، وأن نستثمر ماضينا لصناعة حاضرنا، وأن نفكر دائمًا في مستقبلنا على ضوء حاضرنا وماضينا. وأول هذه الدروس أن الأيام دول بين الناس كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (¬1) والله يحكم، لا معقِّب لحكمه، وبقدر ما تتوفر أسباب النصر لطرف من الأطراف ينتصر، وانتصاره على حساب هزيمة الطرف الآخر. الدرس الآخر: إن النصر لأي طرف لا يأتي من فراغ، وليس ثمن النصر يسيرًا، ولا يُنال العز والشرف إلا على جسر من المتاعب، وبعد بذل الجهد، واستنفار القوى، وإحياء الهمم، والعمل دون كلل أو ملل .. وهذا ليس خاصًا بالمسلمين، وفي واقعنا المعاصر شاهد على ما نقول، فالأمم التي تتصدَّر القيادة اليوم كافحت في سبيل ذلك، واستخدمت كل طاقة، وسخرَّت كل إمكانية، حتى اكتملت قوتها، وفرضت على الناس هيبتها وسيطرتها، وأصبح الناس إلى جانبها مستوردين آخذين، وفرق بين الآخذ والمعطي. وفي ظل هذه الظروف ينبغي ألا ننكر واقعنا، ولا نتجاهل قوة خصومنا، وألا ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 140.

نتوقع أن الحال ستتغير بين غمضة عين وانتباهتها .. نعم، إن الله قادر على كل شيء، وإذا أراد شيئًا قال له كن فيكون، لكنه تعالى علَّمنا من سننه الكونية القدرية أن دولةً ما لا تسقط حتى تستحكم فيها أسباب السقوط، ولا ترتفع دولة أخرى أو أمة من الأمم من غفوتها إلا حين تستجمع أسباب اليقظة، وتستكمل أسباب النصر، وإذا كانت تُحاسَب على الخطأ الاجتهادي، يقع من فئةٍ من رجالها، والنبي، صلى الله عليه وسلم، حاضر فيها: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} (¬1). فكيف إذا كانت الأمة دون ذلك؟ وكيف إذا كان الخطر أكبر من ذلك؟ وكيف إذا كان المخطئون كثيرًا؟ وهنا درسٌ رابع لابد أن نعيه، وهو أن بعض الناس، حين يتحدث الغيورون عن كثرة الفساد والمفسدين، وضعف الدول وهوان المجتمعات، واستعمار الدول وضياع المقدسات، وحين يتحسرون على الهزائم المذلة، ويتوجهون للضربات المتتالية، حين يحصل هذا أو مثله من الأخيار الغيورين على الدين والحرمات، يظن بعض الناس أن هؤلاء يتجاهلون الواقع بكل ما فيه، أو يدعون لمثاليات لا قبَل للناس بها، أو يراهنون على نصر ينبغي ألا يتجاوز بعض أيام أو ساعات! كلا فليس الأمر كذلك، وإنما يدعو هؤلاء إلى تشخيص الداء بكل شجاعةٍ وصراحة ترفع عن الأمة داء التحذير والمخادعة، ويدعون كذلك إلى رسم الدواء بكل أمانةٍ وجدية، بعيدًا عن الأماني الحلوة، والوعود المخدرة ليس إلا؛ ينادون بالأخذ بأسباب القوة، ويطمحون إلى أن تتلمس الأمة الطريق للخروج من الأزمة، فيربى الناس على العبودية لله وحده، وعلى الولاء لله وحده، وعلى التوكل عليه وحده، ينادون بأن تجمع طاقات الأمة ولا يهدر شيء ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 165.

منها، وعلى أن يؤخذ الناس بالجدية، ويُرَبُّون على الجهاد والتضحية، والطاعة لله ورسوله وأولي الأمر الذين يسوسونهم بهذه الأمور كلها، وبعد ذلك فمهما كان تاريخ حصول النصر فذلك أمر آخر لا يُسأل عنه وقع ونحن أحياء، أو تحقق على أيدي أبنائنا أو أحفادنا، فذلك مرجعه إلى الله، وبمثل هذه الخطوات قاد الأمةَ رجالٌ أمثال صلاح الدين في تحرير فلسطين، بل نستفيد منه في تحرير كل شبر من أراضي المسلمين، وبمثل هذا نفهم توجيهات القرآن، ونعي أسباب النصر، وندرك شرط التغيير الوارد في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬1). وثمة تنبيه مهم، فعلى المصلحين- وغيرهم من باب أولى- أن تكون الحكمة أسلوبهم في التغيير، وأن يكون الرفق بالأمة خُلُقَهم، وألا يكلفوا الأمة ما لا تُطيقهُ في حاضرها، وأن يستفيدوا من الإيجابيات الواقعة في الأمة، ويجعلوها أساسًا لانطلاقهم ودعوتهم، وعليهم ألا يستعجلوا الخطا أو يتعجلوا النتائج إذا اجتهدوا في الوسائل وأخلصوا النوايا، فالنصر من عند الله، ينزله إذا شاء وهو العليم الحكيم. اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدًا، واكتب لنا العزَّة في الدنيا والفوز في الآخرة ... هذا وصلوا. ¬

(¬1) سورة الرعد، الآية: 11.

الهجرة النبوية (الحدث والتاريخ)

الهجرة النبوية (الحدث والتاريخ) (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، نصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، يحفظ أولياءه المتقين بحفظه، ويكلؤهم برعايته، ويبطل عمل المفسدين، ويجعل كيدهم في نحورهم .. وكذلك يفعل بالمجرمين. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخليله وحبيبه، في الهدى والرحمة، وأفضل البرية وأتقاها، صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله، ورضي الله عن أصحابه، وأتباعهم إنما يوم الدين. أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين، ويا فوز من كانت التقوى لباسه: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} (¬2). أيها الإخوة المؤمنون، وكلما أقبل شهر الله المحرم من كل عام أقبلت معه ذكريات الهجرة النبوية واضحةً لكل ذي عين مبصرة، هاتفةً بكل ذي أُدُن واعية، وفيها للنائم يقظة، وللغافل لفتة، وللعاقل عبرة، وللمؤمن ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين، وهذه الذكريات المتجددة عبر آماد الزمان، وأبعاد المكان لا تني تذكرنا بأن الهجرة حدّ فاصل بين عهدين، عهد الاضطهاد وعهد البناء والجِلاد، ولكلٍّ منهما ملامح وسمات. ولكن الحد الفاصل بينهما هجرة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة واستقرار ¬

(¬1) في 18/ 2/ 1414 هـ. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 26.

المؤمنين بدار الهجرة، فكيف بدأت هذه الرحلة كيف كانت نهايتها؟ وما هي أبرز الدروس والعبر فيها؟ لقد سبقت هجرة المؤمنين، وتأخر الرسول، صلى الله عليه وسلم، حتى جاءه الإذن من ربه، وحين جاءه الإذن بالهجرة جاء إلى بيت أبي بكر، رضي الله عنه، متقنّعًا، وفي ساعة لم يكن يأتيه فيها، وذلك في نحر الظهيرة، فاستقبله أبو بكر: رضي الله عنه، وقال: فداك أبي وأمي، والله ما جاء بك في هذه الساعة إلا أمر؛ فقال له الذي، صلى الله عليه وسلم: أخرجْ مَن عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك- يعني عائشة رضي الله عنها وكان قد زوجه إياها- فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله عنه، فإنه قد أُذن لي بالهجرة، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: نعم، تقول أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، فجهزناهما أحث الجهاز، ووضعنا لهم سفرةً في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر، رضي الله عنها، قطعةً من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، وبذلك سُميت: ذات النطاقين. قالت: ثم لحق رسوله الله، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر- وهو غلام شاب ثقِفٌ لقٌ- فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح من قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرًا يُكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة- مولى أبي بكر- منحة من غنم، فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل- وهو لبن منحتهما ورضيفهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، حتى استأجرا رجلاً ماهرًا خريتًا ليصحبهما في الطريق (¬1). ¬

(¬1) صحيح البخاري 3/ 24، 4/ 255، 5/ 43 .. وغير ذلك من المواضع.

وإن المرء ليعجب من هذه الواقف في أحداث الهجرة، فهو من جانب يعجب لتضحية أبي بكر وآل أبي بكر في سبيل خدمة الرسول، صلى الله عليه وسلم، بكل ما يملكون من المال أو الولد، والموالي كلهم يُسخَّرون لخدمة الدعوة، وكلهم يشرف بخدمة نبي الهدى والرحمة، ولكل دوره الذي يقوم به، ولا غرو في ذلك، ولا غرابة، فالصديق هو صاحب الرسول، صلى الله عليه وسلم، الأول، وهو الذي قال عنه محمد، صلى الله عليه وسلم: «لو كنتُ متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) وأبو بكر هو صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الغار، كما نزل بذلك القرآن الكريم: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ... } (¬1)، وبكل حال فما موقف أبي بكر في الهجرة إلا نموذج لمواقف الإيمان والتضحية المشهودة للصديق، رضي الله عنه وأرضاه، وحشرنا في زمرته، والصالحين من عباد الله. ومن جانبٍ آخر، يعجب المرء أشدّ العجب، وهو يقرأ هذا الحدَث في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ... فلماذا يأتي الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى بيت أبي بكر وهو مخفٍ لشخصه وفي وقت لم يكن من عادته، هو، وربما غيره، أن يأتي فيه؟ ولماذا يخرج، هو وصاحبه، إلى جبال مكة الوعرة، ويختارا منها غارًا موحشًا مظلمًا؟ فيستتران فيه عن أعين الناس، ويختفيان فيه عن الطلب؟ ألهما جرم أو ذنبٌ يحاولان بسببه الانزواء عن الناس، وهما دعاة الهدى والرحمة ... ؟ وهل يجوز أن يُطَارَد الأنبياء والصديقون، ويُضطروا إلى هذه الألوان من الجهاد والصبر والتضحية؟ إنّ وراء ذلك كله كيدًا مدبَّرًا، ومكرًا ساحقًا- ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله- كشف الله خيوطه، وفضح أصحابه بقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (¬2). ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 40. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 30.

وحديث مؤامرة المشركين على النبي، صلى الله عليه وسلم، في الهجرة حديثٌ مؤلمٌ محزن بكل ما تحمله هذه الكلمات من معان، فهو نوع من الغدر والخيانة، وهو أسلوب من أساليب العنجهية والفظاظة، وهو جهل بحاجتهم إلى رسالة السماء، وهو خروج على المألوف في حماية القريب والذود عنه، ونسيان لحق العشيرة والقرابة. إنه مؤلمٌ بكل المقاييس، ومُبْكِ للصغير والكبير، والقريب والبعيد، وحُقَّ لعين تتأمل الحدثَ وما فيه أن تبكيَ وتُبكي الآخرين. وهذه فاطمة بنت محمد، صلى الله عليه وسلم، دخلت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهي تبكي، فقال ما يُبكيكِ يا بُنَيَّة؟ قالت: يا أبتِ مالي لا أبكي، وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر يتعاقدون باللات والعزَّى ومناة الثالثة الأخرى لو قد رأوك لقاموا إليكَ فيقتلوك، وليس فيهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك، فقال: يا بُنية ائتني بوَضوء، فتوضأ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم خرج إلى المسجد، فلمَّا رأوه قالوا: إنما هو ذا فطأطأوا رؤوسهم، وسقطت أذقانهم بين أيديهم فلم يرفعوا أبصارهم، فتناول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبضةً من تراب، فحصبهم بها، وقالت: شاهت الوجوه، فما أصاب رجلاً منهم حصاةٌ من حصيلته إلا قِتلَ يومَ بدر كافرًا (¬1). إخوة الإسلام، وكما يُبكي الحدَث ويُحزن، فهو من جانبه الآخر يسلي ويسري عن المؤمنين الذي يُضطهدون ويُطارَدون عبر القرون المتلاحقة، وفوق كل أرض، وتحت كل سماء ... فهذا قدوتهم يطارد ويلاحق، ثم هو يصبر ويصابر حتى نصره الله، وأظهر به الهدى والحق على رغم أنوف الكافرين. ¬

(¬1) كما روى ذلك ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ولا أعرف له علة (انظر تفسير ابن كثير 3/ 58).

ومطاردة الكافرين، وتبييتهم النوايا السيئة لقتل النبي، صلى الله عليه وسلم، تكشفت لنا أيضًا طبيعة الطغاة والمجرمين، الذين يسوؤهم انتشار الدين، ويقلق مضاجعهم غلبة المسلمين، وكثرة سوادهم فيحاولون- كما حاول أسلافهم- إطفاء نور الله بأفواههم، ويأتي الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون، ونحن نثق بنصر الله، ونؤمن إيمانًا جازمًا أن خطط المجرمين في الماضي كما انحسرت وتلاشت فسوف تنحسر وتتلاشى خطط اللاحقين، وسوف ينصر الله دينه، ويمكن لأوليائه المتقين، كما يكشف لنا هذا التبييت لحزب الله المؤمنين عبر القرون عن طبيعة الغل والحقد في قلوب الجرمين، وهم يحاولون قتل الدعاة أو نفيهم من الأرض، أو التضييق عليهم في معاشهم ومسكنهم، وهو تشابه يوحي بتشابه العقول حين تشذ في أسلوب التعامل مع الأحداث والأشخاص، فما كان الرسول، صلى الله عليه وسلم، يومًا من الدهر سببًا في عنت قريش، بل نالهم من بركاته ما كان سببًا في حل مشكلاتهم قبل بعثته، وبعد بعثته ما كان، صلى الله عليه وسلم، سببًا وليس الدعاة والمصلحون من بعده سببًا من أسباب تخلُّف الأمة في سياستها واقتصادها ووعيها حتى يستحقوا المطاردة والأذى، وكما لم تحصل قريش من وراء إخراج الرسول، صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين إلا الخزي والذل والعار، وهم أهل البيت وسدنته والمقدَّمون على العرب شرفًا ونسبًا، في الوقت الذي بدأ تاريخ المدينة يُكتب، وبدأ ذكر الأنصار يشتهر حين استقبلت الرسول وصحبه، واحتضنت الدعوة والدعاة معه. فلن يحصل لمن آذى الدعاة الصادقين، وضيق على الدعوة والمحتسبين إلا كما حصل لأسلافهم، وأحداث التاريخ دائمًا تقول: إن العاقبة للمتقين، وأن النصر مع الصبر، وأن الغلبة للحق وأهله ولو بعد حين، ومصيبتنا حين لا نقرأ التاريخ، أو لا نستفيد من دروس الغابرين.

والله يدعونا جميعًا للتأمل في أخبار الماضين ويقول: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (¬1) لكن بشرط أن يستوفيَ المسلمون أسباب النصر، ويكونوا أهلاً للتمكين كما قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (¬2). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 11. (¬2) سورة الحج، الآيتان: 40، 41.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره وأُثني عليه الخير كله، وأسأله المزيد من فضله، وأشهد ألا إله إلا إليه وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .. بَّلغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين .. فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى إخوانه وآله، ورضي الله عن صحابته وأتباعهم إلى يوم الدين .. وبعد: فإن أحداث الهجرة النبوية فيها من الدروس والعبر ما لو تأمَّله الناس لازداد إيمانهم، وقويت عزائمهم، وتوكلوا حق التوكل على خالقهم، ولم يبالوا بكيد الأعداء، إذ كانوا بحبل الله متمسكين، ولأسباب النصر عاملين، وحفظ الله تعالى لأوليائه المؤمنين، وإبطال كيد الكائدين، يظهر بجلاء لمن تأمل في الهجرة ... فالرسول، صلى الله عليه وسلم، في البداية يخرج من بين ظهراني المشركين وهم يرصدون، بل ونثر التراب على رؤوسهم، كما ورد في بعض الروايات، وحين علمت قريش بأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد أفلت من يدها، وخرج من مكة تتبعوا أثره، حتى وصلوا إلى الغار الذي يكمن فيه وصاحبه، ولم يكن بينهم وبين أن يكتشفوه إلا أن يطأطئ أحدهم بصره على موضع قدميه- كما قال أبو بكر رضي الله عنه- فيبصرهم (¬1)، ولكن الله سلب أبصارهم عن الرؤية هنا، والرسول، صلى الله عليه وسلم، واثقٌ بنصر ربه، مطمئنٌّ لحفظه لأوليائه، ولذلك قال لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا، وعادت جنود الكفر تجر رداء الخيبة والخسران، وهل يستطيع أحد محاربة أولياء الله، والله معهم؟ (مَن عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب). بل وأكثر من ذلك، يسَخِّر الله للنبي، صلى الله عليه وسلم، وصاحبه دليلاً من أبناء الكافرين، ¬

(¬1) كما في رواية البخاري في الصحيح 4/ 163، 5/ 204، وسلم في صحيحه 4/ 1854.

ماهرًا بدروب الصحراء، خبيرًا بالطرق غير المسلوكة، ويكون دليلهم، عبد الله بن أُريقط، وكان قد غمس حلفًا في العاص ابن وائل السهمي، وهو على دين الكفار، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال. وفي الطريق تظهر آيات ومعجزات، تكشف عن إكرام الله لنبيه، وتيسير أمره، وهذا أبو بكر، رضي الله عنه، يقول: لقد أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق، فلا يمر به أحد حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لا تأت عليه الشمس بعدُ، فنزلنا عندها .. وجاءها راعي غنم يريد منها الذي يريدون، وكأنما ساقه الله لهم ليشربوا من لبن غنمه، بعد أن يستريحوا بظل الصخرة، هم وإيّاه (¬1). أما المعجزة الأخرى، والآية العظمى، والدليل الأبلج على حماية الله لأوليائه فيتمثَّل في قصتهم مع سراقة ... وهو الرجل الذي تستهويه الجائزة التي رصدتها قريش لمن أتى بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيًّا أو ميتًا، فيمتطي صهوة جواده، ويطوي الأرض طيًا حتى يقترب من النبي، صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وأبو بكر، رضي الله عنه، يكثر الالتفات مخافة على النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول ثابت واثق بربه لا يلتفت، فلما اقترب منهم سراقة قال أبو بكر: أُتِينا يا نبي الله .. فلما اقترب أكثر ساخت قوائم فرسه في الأرض، ثم انتشلها .. فلما ركب في أثرهما ساخت أقدام الخيل مرة أخرى .. يقول سراقة: فأبيت إلا أن أتبعه، فركبت في أثره، فلما بدا لي القوم ورأيتهم عثر بي فرسي فذهبت يداه في الأرض، وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض، وتبعهما دخان كالإعصار، قال سراقة: فعرفت، حين رأيت ذلك، أنه قد مُنع مني، وأنه ظاهر، قال: فناديتُ القوم فقلت: أنا سراقة، انظروني ¬

(¬1) صحيح البخاري 4/ 180، 189، صحيح مسلم 4/ 2309.

أكلمكم، فوالله لا أريبكم ولا يأتيكم من شيءٌ تكرهونه .. فطلب منهم الأمان، وطلب منهم كتابًا يكون آيةً بينهم ... وقد قدّم لهم الكتاب يوم الفتح، وأسلم، وحسُن إسلامه (¬1). وهكذا كان سراقة آخر النهار مسلمةً للبني، صلى الله عليه وسلم، بعد أن كان جاهدًا عليه في أول النهار .. وكذلك سخَّر الله سراقةً ليعمي خبر النبي، صلى الله عليه وسلم، فما يهم أحد بالبحث في هذه الجهة إلا ويقول له: قد كفيتُك إياها، فصرف الله أنظار المشركين عنه، وكذلك يحمي الله جنده، ويحفظ أولياءه المتقين. أيها المسلمون، وينبغي أن نتعلم من أحداث الهجرة أن المسلم إذا توكل على الله كفاه، {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬2)، وإذا حفظ حدوده حفظه ورعاه (يا غلام، احفظ الله يحفظك)، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (¬3)، فهل يفقه المسلمون أحداث السيرة ويستفيدون من دروسها وعبرها؟ إن في ذلك الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة .. ولله الأمر من قبل ومن بعد، اللهم هيء لنا من أمرنا رشدًا، واجعل لنا من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا ... إخوة الإسلام، ووصل الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة، واجتمع المسلمون واستقروا بها، وكان نجاح الإسلام وجهاد المسلمين في تأسيس وطن لهم وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة أعظم كسبٍ حصلوا عليه منذ بدأت الدعوة، وتنادى المسلمون من كل مكان أن هلموا إلى المدينة، فلم تكن الهجرة إليها ¬

(¬1) صحيح البخاري 4/ 256، 257، وإسلام سراقة ذكره ابن إسحاق في روايته، انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/ 102 - 104 بسند قوي. (¬2) سورة الطلاق، الآية: 3. (¬3) سورة الطلاق، الآيتان: 2، 3.

تخلصًا من الفتنة والاستهزاء فحسب، بل كانت تعاونًا على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن. وأصبح فرضًا على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد، وأن يبذل جهده في تحصينه، ورفع شأنه، وأصبح ترك المدينة بعد الهجرة إليها نكوصًا عن تكاليف الحق، وعن نصرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، فالحياة فيها دين، والاجتماع بها مطلب، وكذلك ينبغي أن يعيش المسلم لدينه، وأن يضحى بالغالي والرخيص في سبيل عقيدته .. وألا تكون محبة المسلم لوطنه لذات التراب والطين، وإنما لأجل العقيدة والدين (¬1). ¬

(¬1) الهجرة النبوية، أسعد المرصفي (بتصرف) ص 121.

الثبات في المحن ودروس من غزوة أحد

الثبات في المحن ودروس من غزوة أحد (¬1) الخطبة الأولى إخوة الإيمان، ونحن نقف على نهاية أيام عام هجري يؤذن بالانصرام حريٌّ بنا أن نتأمّل ونتفكَّر في أحداثه، وعِبري، وقد اشتمل على مسراتٍ وأحزان، وتوفّرت فيه الصحة لأقوام، وأقعد المرض آخرين، وفيه من شارف على الهلكة ثم متعه الله إلى حين، وفيه من فاجأته المنية، واحترمه ريب المنون، فيه قدّر ربّك الغنى لقوم، وأقنى الآخرين، وفيه أضحك ربّك وأبكى، وأمات وأحيى، وعليه النشأة الأخرى، كما اشتمل العام على قتل فئام من الناس، وتشريد آخرين، وإيذاء طوائف من المسلمين، لا ذنب لهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} (¬2). أيها المسلمون، لا غرابة أن يقع هذا وغيره، فما هذه الدار بدار قرار، وليست خلوًا من المنغصات والأكدار، ويعلم العارفون أن هذه الدنيا لا يدوم على حال لها شأن، وأنها متاع الغرور، وأنها دار امتحان وابتلاء، ويخطئ الذين يغترّون بزينتها، فيفرحون بما أُوتوا وإن كان من حتفهم، ويأسون على ما فاتهم وإن كان خيرًا لهم، وكذلك يوجه القرآن، وما أسعد من يفقه توجيه القرآن: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا ¬

(¬1) في 26/ 12/ 1415 هـ. (¬2) سورة البروج، الآية: 10.

آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬1). إن المصائب والمحن في هذه الحياة الدنيا ليست قصرًا على جيلٍ دون آخر، وليست خاصةً بأمةٍ دون أُخرى، بل هي عامةٌ في الأولين والآخرين من بني الإنسان، وتشمل الصالحين والطالحين، قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} (¬2) وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (¬3). ولكن الذي يختلف فيه الناس أسلوب التعامل مع مصائب الدنيا، ونكدها فإذا امتاز المؤمنون بالصبر والمصابرة، والرضى والتسليم بأقدار الله الجارية، مع بذل الجهد في تحصيل الخير وتحقيق العدل، ودفع المكروه والشر، ورفع الظلم في الأرض، فإن سواهم يضيق به الصدر، وتنقطع أوصاله من الحزن والقلق، ويُصاب بالضيق والإحباط، وربما ارتكب من الفواحش والآثام ما زاد في ألمه، وضاعف مصائبه، وربما أودى بحياته تخلصًا مما هو فيه، فانتقل إلى نكدٍ مؤبَّد، وإنما عذاب دائم {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (¬4). إخوة الإيمان، واقرؤوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين معه، وستجدون أنهم نالوا من المصائب والمحن ما نالهم، ومنهم أزكى البشرية وأتقاها، وجيلهم خير أجيال المسلمين، وأنقاها، وكل ذلك حتى يمتحَن المؤمنون، ويعلمَ الله الصابرين، ويكشف زيف المنافقين، وحتى يعلمَ هؤلاء، وتعلم الأمةُ من ورائهم قيمة الثبات على الحق، والصبر على الشدائد، حتى يأذن الله بالنصر والفرج. وإذا كان الناس في حال الرخاء يتظاهرون بالصلاح والتقى ففي زمن الشدائد ¬

(¬1) سورة الحديد، الآيتان: 22، 23. (¬2) سورة البلد، الآية: 4. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 35. (¬4) سورة النور، الآية: 40.

يميز الله الخبيث من الطيب، ويثبت الله المؤمنين، ويلقي الروع في قلوب آخرين. قفوا، معاشر المسلمين، عند غزوة أُحد، واقرؤوا بشأنها قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (¬1). وقوله {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬2). وقوله {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ... الآية} (¬3). ولقد كانت أم المؤمنين عائشةٍ، رضي الله عنها، تدرك هول المعركة وشدتها على الرسول، صلى الله عليه وسلم والمسلمين وهي تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: هل مرّ عليكَ يومٌ كان أشدَّ عليك من يوم أُحد؟ والواقع يشهد أن المسلمين حين خالفوا أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واختل ميزان المعركة، أُسقط في أيديهم، وتساقط الشهداء منهم في ميدان المعركة، وفقدوا اتصالهم بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وشاع أنه قُتل، وفرَّ مَن فرَّ منهم، وأصابت الحيرة عددًا منهم، وآثر آخرون الموت على الحياة، وخلص المشركون إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فجرحوا وجهه، وكسروا رباعيته، وهشّمت البيضة على رأسه، وكانت ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 144. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 153. (¬3) سورة آل عمران، الآيتان: 166، 167.

فاطمة، رضي الله عنها تغسل الدم عن وجهه، وكان علىٌّ، رضي الله عنه، يسكب عليها الماء بالمجن، ولم يستمسك الدم حتى أحرقوا حصيرًا فلمّا كان رمادًا ألصقوه بالجرح فاستمسك الدم، كما في الحديث المتفق على صحته (¬1). وفي هذه الأجواء الصعبة، يثبت الرسول، صلى الله عليه وسلم، وينادي في المسلمين: إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله، قال تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} (¬2). وفي ظل هذه الظروف العصيبة، يتنادى المسلمون، وتثبت طائفةٌ من شجعان المؤمنين، وتقاتل قتال الأبطال دفاعًا عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، ويخلص بعض المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في سبعةٍ من الأنصار ورجلين من قريش، فيقول عليه الصلاة والسلام: «مَن يردهم عنّا وهو رفيقي في الجنة؟ فقاتلوا عنه واحدًا واحدًا حتى استشهد الأنصار السبعة (¬3) ثم قاتل عنه طلحة بن عبيد الله قتالاً مشهورًا حتى شلت يده بسهم أصابها (¬4) وقاتل سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه- وهو من مشاهير الرماة - بين يدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يقول له: ارم، فداك أبي وأمي. وأبو طلحة الأنصاري الذي قال للنبي، صلى الله عليه وسلم: (بأبي أنت وأمي، لا تشرفْ على القوم يصبك سهم من سهامهم، نحري دون نحرك) (¬5). وهكذا يكون حال المؤمنين، حين تعصف بهم المحن، الصبرَ والثباتَ، والجهاد والتضحية حتى يأذن الله بالنصر أو يفوزوا بالشهادة، فينالوا المغنم في ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 2/ 123. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 153. (¬3) صحيح مسلم، شرح النووي 12/ 146. (¬4) صحيح البخاري 7/ 358 الفتح. (¬5) صحيح البخاري، عن السيرة في ضوء المصادر الأصلية/ 389.

الدنيا، ويحظوا بالدرجات العلى في الأخرى. وهاك- فوق ما سبق- نموذجًا واعيًا للثبات على الإسلام حتى آخر لحظة، والوصية بالدفاع عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، حتى آخر رمق، يمثِّله الصحابي الجليل أنس بن النضر، رضي الله عنه، الذي كان يحث المسلمين على الجهاد ويقول: (الجنة، ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أُحد) وعندما انجلت المعركة وُجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة ورمية وطعنة، ولم يعرفه أحد إلا أخته (الرّبيّع) عرفته ببنانه، وحين أرسل النبي، صلى الله عليه وسلم، زيد بن ثابت ليتفّقدَه، وجده وبه رمق، فرد سلام الرسول، صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أجد ريح الجنة، وقل لقومي من الأنصار، لا عذر لكم عند الله أن يُخْلَص إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، وفيكم شفر يطرف، ودمعت عيناه) (¬1). وهاكم نموذجًا آخر، تمثِّله النساء، وليست البطولات قصرًا على الرجال، فالسُّميراء بنت قيس، يُصاب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في أُحد، فلما نُعوا لها قالت: فما فعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قالوا: خيرًا يا أمم فلان، هو- بحمد الله- كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، حتى إذا رأته واطمأنت على حياته قالت كلمتها العظيمة: كلّ مصيبة بعدك جلل (¬2) (أي صغيرة). ألا إنه الوعي ... ¬

(¬1) رواه ابن إسحاق بإسناد رجاله ثقات، السيرة في ضوء المصادر الأصلية 387. (¬2) رواه ابن إسحاق بسند حسن. المصدر السابق 399.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، يحكم ما يشاء ويختار، لا معقّب لحكمه ولا راد لقضائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فهذه إطلالةٌ على نموذج من المحن والشدائد التي نزلت يومًا من الدهر بالمسلمين، وهذه لمحة خاطفةٌ عن بعض أحداث غزوة أحد، ما أحرانا بتأملها، والاستفادة من عبرها، ألا ما أحوجنا في هذه الظروف إلى قراءة كتاب الله، بشكل عام، وإلى قراءة ما نزل تعقيبًا على هذه الغزوة الكبيرة في تاريخ المسلمين، بشكل خاص، وقد نزل حول أحداث غزوة أحد ثَمَان وخمسون آية من سورة آل عمران، ابتدأت بذكر أوّل مرحلة من مراحل الإعداد لهذه المعركة {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} (¬1) وتركت في نهايتها تعليقًا جامعًا على نتائج المعركة، وحكمتها، والله يقول: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} (¬2). أجل، لقد تميز الناس على حقيقتهم في غزوة أحد، فكانوا ثلاث طوائف سوى الكفار، وإذا كان مر معنا طائفة من المؤمنين، ثبتت حول النبي، صلى الله عليه وسلم، تحوطه، وتدافع عنه حتى استشهد من استشهد منهم، وجرح من جرح، فثمة طائفة أخرى من المؤمنين، حصل منهم ما حصل من توَلٍّ وفرار، واستزلهم ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 121. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 179.

الشيطان ببعض ما كسبوا .. لكن الله عفا عنهم لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ولا شك، وإنما كان عارضًا، عفا الله عنه، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (¬1). فعادت شجاعة الإيمان إلى مركزها ونصابها (¬2) وكذلك ينبغي أن يكون سلوك المؤمنين إذا وقعوا في الخطأ، وذكروا وتذكروا فإذا هم مبصرون، واستغفروا لذنوبهم، وعادوا إلى قافلة المؤمنين، أما الذين يستمرئون الخطأ، ويصرون على المعاندة، وإيذاء المؤمنين، مع علمهم بالحق وأهله وبالباطل وجنده، فأولئك في قلوبهم مرض، وسيكشف الله أضغانهم، وسيفضحهم في جوف بيوتهم. إخوة الإيمان، أما الطائفة الثالثة التي أراد الله لها أن تتكشف على حقيقتها في غزوة أُحد، فهي طائفة المنافقين. وللإمام ابن القيّم، رحمه الله، كلام جميل في الفصل الذي عقده للحِكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد، ومما قاله بشأن المنافقين: ومنها أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت دخل معهم في الإسلام ظاهرًا من ليس معهم فيه باطنًا، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنةً ميَّزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلَّموا بما كانوا يكتمونه، وظهرت مخبآتهم، وعاد تلويحهم تصريحًا، وانقسم الناس إلى كافر، ومؤمن، ومنافق، انقسامًا ظاهرًا، وعرف المؤمنون أن لهم عدوًّا في نفس ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 155 ا، (¬2) زاد المعاد 3/ 283.

دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم، وتحرزوا منهم، قال تعالى: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} (¬1) إي ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين، حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق- كما ميزهم بالمحنة يوم أحد- وما كان الله ليطلعكم على الغيب الذي يميز به بين هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه، وهو سبحانه يريد أن يميزهم تميزًا مشهودًا، فيقع معلومه الذي هو غيب شهادةً .. وإن كان من يجتبي من رسله يطلعهم على ذلك (¬2). إخوة الإسلام، وكذلك ينبغي أن تكون الشدائد والمحن في كل زمان فضلاً لتمييز المؤمنين، وفضح المنافقين. ومن الحكم الجليلة التي ذكرها ابن القيم، رحمه الله، لهذه الغزوة، وهي صالحة للاستفادة منها في كل نازلة ومحنة تقع بالمسلمين: استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء، وفيما يحبون ويكرهون، وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقًا، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والعافية (¬3). ومن هذه الحكم: (إن الله، سبحانه، إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها، بعد ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 179. (¬2) زاد المعاد/ 3/ 219، 220. (¬3) زاد المعاد 3/ 220.

كفرهم، بغيهم وطغيانهم، ومبالغتهم في أذى أوليائه ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (¬1). ألا ما أعظم هذه الحكم، وما أحوج المسلمين إلى تذكر هذه العبر، وقد وردت روايات تفيد الصلاة على شهداء أحد لكنها لا تقوى على معارضة أحاديث نفي الصلاة عليهم، فكلها متكلم فيها، وقد دفق الاثنان والثلاثة في قبر واحد، وحمل بعضَ الشهداء أهلوهم ليدفنوهم في المدينة فأمرهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، بدفنهم في أماكن استشهادهم بأحد. ولما انتهى من دفن الشهداء صف أصحابه، وأثنى على ربه فقال: «اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديتَ، ولا معطي لما منعتَ، ولا مانع لما أعطيتَ، ولا مقرب لما باعدتَ، ولا مباعد لما قربتَ، اللهم ابسط علينا من بركاتك، ورحمتك، وفضلك، ورزقك، اللهم إني أسألك النّعيم المقيم لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة (أي الفاقة)، والأمن يوم الخوف، اللهم عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفَّنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ¬

(¬1) زادت المعا د 3/ 222.

ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسولك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أُوتوا الكتاب، إله الخلق» ثم ركب فرسه ورجع إلى المدينة.

غرور الأماني وظاهرة الإرجاء

غرور الأماني وظاهرة الإرجاء (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله، نحمده ونحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الآل والأصحاب أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. فأما بعد، فأوصي نفسي وإياكم بوصية الله للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} (¬2). أيها المسلمون، ولابد للمسلم في هذه الحياة أن تكون عبادته لله بين الخوف والرجاء، ولابد أن يفقه ونصوص الوعد، ونصوص الوعيد، فما أفرط في الرجاء أصبح من المرجئة القائلين: لا يضر مع الإيمان شيء، ومن أفرط في الخوف كان من الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد صاحب الكبيرة إذا مات من غير توبة في النار، بل يكون وسطًا بينهما، كما قال تعالي: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (¬3). والخوف والرجاء- كما قال أهل العلم- كجناحَي طائر للإنسان يطير بهما فإذا اعترى أحدَهما نقص أثّر على الآخر. ¬

(¬1) في 11/ 10/ 1416 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 131. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 57. (انظر الفتح 11/ 302).

إخوة الإسلام، من سبر أحوال المسلمين اليوم وجد تغليبًا لجانب الرجاء على الخوف، ووجد معه فهمًا خاطئًا للرجاء، وانحرافًا عظيمًا أو يسيرًا عن مفهوم السلف لحقيقة الرجاء، وتأويلاً متعسفًا لبعض نصوص القرآن والسنة التي أبانت عن سعة رحمة الله، ومغفرة الذنوب. وحتى تتضح الصورة أضرب لكم نماذج هذه المفاهيم الخاطئة. فبعض الناس لا يشهدون الصلاة إلا من الجمعة إلى الجمعة، ويظن أنهما مكفرات لما بينهما، أو يتعبَّد من رمضان إلى رمضان، ويسيء فيما بينهما، بل وينقطع عمّا سواهما، ويفهم النص فهمًا خاطئًا: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه) وكاغترار بعضهم بالاعتماد على صوم يوم عاشوراء أو يوم عرفة حتى يقول هذا المغترُّ: صوم يوم عاشوراء يكُفِّر ذنوب العام كلَّها، ويبقى صوم عرفة زيادةً في الأجر. يقول الإمام ابن القيم، رحمه الله: (ولم يدر هذا المغتر أن صوم رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجل من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهي إنما تكفِّر ما بينهما إذا اجُتنِبت الكبائر، فرمضان إلى رمضان، والجمعة إلى الجمعة، لا يقويان على تكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها، فيقوى مجموع الأمرين على تكفير الصغائر) (¬1). إخوة الإسلام، وكذلك يتضح لكم أن القضية ليست تغليبًا لجانب الرجاء على جانب الخوف، فهذه مع ما فيها من تأثير على جانب الخوف من الله، واختلال للميزان الحق، فالمصيبة أعظم حين تكون إخلالاً لمفهوم الرجاء نفسه، ويظهر أن مفهومنا للرجاء يختلف عن مفهوم السلف له، فنحن كلما غلبتنا ¬

(¬1) الداء والدواء/ 48.

أنفسنا الأمارة بالسوء على المعاصي قلنا: (إن الله غفورٌ رحيمٌ) وكلما ضعفت عزائمنا عن أداء الواجبات المفروضة قلنا: (إن رحمة الله واسعة)، وهكذا حتى نألفَ المنكراتِ، وتصعب علينا الطاعات، أما السلَف فإليكم شيئًا من فهمهم لمعنى الرجاء: يقول الإمام البيهقي، رحمه الله: وأفضل الرجاء ما تولد من مجاهدة النفوس، ومجانبة الهوى، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (¬1)} (¬2) فتأمَّل مقولة هذا الإمام، وكيف يربط الرجاء بمجاهدة النفس، ومجانبة الهوى .. وليس مجرّد أمان لا رصيد لها في دنيا الواقع، بل وتأمْل قبل ذلك قولَ الحقّ في الآية السابقة، فهؤلاء الذين يرجون رحمة الله: قدموا لذلك بالإيمان، وللإيمان حقيقته وتبعاته، وهاجروا- والهجرة عن الأهل والولد أو المال والبلد- كلّ ذلك ضربٌ من ضروب الجهاد، ولا تطيقه كثير من النفوس الضعيفة، فإذا أُضيف إلى ذلك المجاهدة في سبيل الله، دعوةً إلى دينه، ومجاهدةً للذين يقفون دون الناس في معرفة الحق، وما يتطلبه هذا الجهاد من بذل المال أو بذل الأنفس أو كليهما .. علمتَ أنّ الرجاء الشرعي هو المتولِّد من مجاهدة النفس، ومجانبة الهوى .. وما سواه غرور الأماني، ومخادعةٌ للنفس، ليس إلا. يقول الإمام ابن القيّم، رحمه الله: فتأمّلْ هذا الموضع، وتأمّل شدة الحاجة إليه، وكيف يجتمع في قلب العبد تيقُّنه بأنه ملاقي الله، وأنّ الله يسمع كلامه، ويرى ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 218. (¬2) البيهقي: ثلاث شعب من الجامع لشعب الإيمان 1/ 290.

مكانه، ويعلم سره وعلانيته، ولا يخفى عليه خافيةٌ من أمره، فإنه موقوفٌ بين يديه، ومسؤول عن كل ما عمل، وهو مقيمٌ على مساخطِه، مضيِّعٌ لأوامره، معطلٌ لحقوقه، وهو مع ذلك يحسن الظنّ بِه، وهل هذا إلا من خداع النفوس، وغرور الأماني (¬1)؟ يا أخا الإسلام، ولابدّ أن تفهم الفرق بين حسن الظنّ بالله، وبين الغرور، فحسن الظن هو حسن العمل، والغرور تقصير وتهاونٌ، وضعف وعجزٌ وتواكل، قال الحسن البصري، رحمه الله: (إنّ المؤمن أحسنَ الظنّ بربه فأحسن العملَ، وإنّ الفاجر أساء الظنّ بربّه فأساء العمل) (¬2). وويلٌ لمن أرداه ظنّه السيء بربه فكان من الخاسرين قال الله تعالي: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} (¬3). أتدرون مَن هؤلاء؟ أولئك الذين يستترون لأعمالهم السيئة، ويظنون أنّ الله لا يعلم سرَّهم ونجواهم، وأولئك يفضحهم الله يوم القيامة، وزيادةً في فضيحتهم تكون الشهود عليهم جوارحهم التي لا يستطيعون الاستتار عنها .. وحق للنبي، صلى الله عليه وسلم، أن يضحك عجبًا من صنيعهم، وقد أخرج الإمام مسلمٌ وغيره عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: (ضحك رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، ذات يوم، وتبسَّم فقال: ألا تسألوني عن أيّ شيءٍ ضحكتُ؟ قالوا: يا رسولَ الله، من أيّ شيءٍ ضحكت؟ قال: عجبتُ من مجادلة العبد ربّه يوم القيامة، يقول: أي ربي، أليس وعدتني أن لا تظلمني؟ قال: بلى، فيقول: فإني لا أقبلُ عليّ شاهدًا إلا من نفسي، فيقول الله، تبارك وتعالى: أوليس كفى بي شهيدًا، وبالملائكة الكرام ¬

(¬1) الداء والدواء/ 50. (¬2) الداء والدواء/ 50. (¬3) سورة فصلت، الآية: 23.

الكاتبين؟ قال: فيردد هذا الكلام مرارًا، قال: فيختم على فيه، وتتكلم أركانه بما كان يعمل، فيقول بعدًا لكنَّ وسُحْقًا، عنكنَّ كنتُ أجادلُ) (¬1). يا بن آدم تذكر هذا المشهد العظيم: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬2). وأحضر للسؤال جوابًا .. وأتِّق الفضيحة غدًا، واعلم أنّ الله أقرب إليك من جوارحك، بل وأقرب إليك من حبل الوريد: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} (¬3). معاشر المسلمين، قال العارفون: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق (¬4). أين نحن من قوم كلما زادت طاعاتهم لربهم زاد خوفهم وطال بكاؤهم. قيل للحسن: نراك طويل البكاء؟ فقال: أخاف أن يطرحني في النار، ولا يبالي! وكان يقول: إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة، يقول أحدهم: لأني أُحسن الظنّ بربي، وكذب، لو أحسن الظنّ لأحسن العمل! وسأله رجل فقال: يا أبا سعيد، كيف نصنع بمجالسة أقوامٍ يُخوّفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله لأن تصحب أقوامًا يخوفونك حتى تدرك أمنًا، ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 7/ 159، ط الشعب. (¬2) سورة يس، الآية: 65. (¬3) سورة فصلت، الآيتان: 22، 23. (¬4) الداء والدواء لابن القيم/ 53، 54.

خيرٌ من أن تصحب أقوامًا يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف (¬1). نعوذ الله من سوء الخاتمة، ونسأل الله ألا يميتَ قلوبنا، ويشغلها بالدنيا عن الآخرة، ونسأله تعالى ألا يجعلنا من ميتي الأحياء، أتدرون من ميت الأحياء؟ سُئل ابن مسعود: مَن ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا (¬2). أعوذ الله من الشيطان الرجيم: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (¬3). ¬

(¬1) الداء والدواء لابن القيم/ 53، 54. (¬2) ابن تيمية، الحسبة ص 37. (¬3) سورة النازعات، الآيتان: 40، 41.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، وفق الصالحين لطاعته، وملأ قلوبهم خوفًا منه ورجاءً له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يمهل ولا يهمل، وإذا أخذ فإن أخذه أليمٌ شديد: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (¬1). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله كان أعلم الناس بالله، وأخوفهم لله، وأتقاهم له. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. أيها المسلمون، وإذا أردتم أن تعلموا الفرق بين أمننا وخوف السلف من قبلنا، فانظروا في الفرق بين طاعتنا وطاعتهم، وانظروا كذلك في تغليب الخوف عندهم، وتغليب الرجاء عندنا. فهذا عمر، رضي الله عنه، وهو الرجل الثاني في الإسلام بعد أبي بكر، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ومواقفه الإيمانية لا تكاد تخفى على مطلع، ويكفيه فخرًا أنه ما سلك فجًّا إلا وسلك الشيطان فجًّا آخر .. إلى آخر مناقبه العظيمة .. ومع ذلك يلازمه الخوف، ويخشى على نفسه، ليس من التقصير في الطاعات فحسب، بل ويخشى أن يكون في زمرة المنافقين الذين غيّب الرسول، صلى الله عليه وسلم، أسماءهم، وأودع سرهم عند حذيفة، رضي الله عنه، ومع ذلك يناشد حذيفةَ- صاحبَ سر رسول الله صلى الله عليه وسلم- ويقول: نشدتك الله يا حذيفة هل عدّني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من المنافقين؟ فيجيبه حذيفة، رضي الله عنه، لا، ولا أزكي أحدًا بعدك (¬2). إيه يا بن الخطاب، إذا كنتَ وأنتَ من أنتَ إيمانًا وتقىً وجهادًا وتضحيةً ¬

(¬1) سورة هود، الآية: 102. (¬2) سير أعلام النبلاء 2/ 364.

وعدلاً تخشى على نفسك النفاق، فكيف يرجو النجاة أمثالُنا؟ ترجو النَّجاة ولم تسلكْ مسالكَها ... إن السفينةَ لا تجري على اليبسِ وهذا أبو الدرداء، رضي الله عنه، يدخل عليه جُبَير بن نُفير منزله بحمص فإذا هو قائم يصلي في مسجده، فلمّا جلس يتشهد جعل يتعوذ من النفاق، فلما انصرف قلت له: غفر الله لك يا أبا الدرداء، ما أنت والنفاق؟ قال: اللهم غفرًا- ثلاثًا- من يأمن البلاء؟ من يأمن البلاء؟ والله إن الرجل لَيُفتن في ساعة فينقلب عن دينه (¬1). وأخرج البخاري- تعليقًا- عن ابن أبي مليكة، رحمه الله، قال: (أدركتُ ثلاثين من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، كلُّهم يخاف النفاق على نفسه) (¬2). إذا كانت تلك نماذج لخوف المؤمنين من عباد الله الصالحين، أفلا يدعوك إلى الخوف- مما خافوا منه- وأنت وأنا في عداد المخطئين المقصرين؟ أيها المسلمون، ولم تكن ظاهرة الإرجاء في عالمنا الإسلامي لتمضي دون أن تترك لها أثرًا أو ظلاً، والمتأمّل في واقعنا يلاحظ كثيرًا من مظاهر الضعف والتخلّي عن الواجبات، ولاشك أن لظاهرة الإرجاء أثرًا عليها، فكلُّ خطأٍ يبرّر بأن رحمة الله واسعة، وكل ذنبٍ يقع يقال عنه: إن الله يغفر الذنوب جميعًا .. وهكذا حتى أثّر تناسي الخوف من الله على كثير من العبادات، ونتج عن ذلك فتور في أداء الطاعات والواجبات، وربما صاحبتها منّةٌ ومماراة، وولّد هذا الشعور المتراخي هتكًا لأستار الحلال، وولوجًا إلى منطقة الحرام، وسرى الغش في البيع والشراء، وعدد من المعاملات بين الناس، وربما أباح بعض الناس لأنفسهم الربا، ولو كان فيه حربٌ على الله ورسوله، والزنا ولو كان ¬

(¬1) الجامع لشعب الإيمان للبيهقي 1/ 190. (¬2) انظر الفتح 1/ 109.

فاحشةً وساء سبيلاً، إلى غير ذلك من أنواع الفواحش التي جاءت نصوص الوعيد محذّرةً عنها. أيها المؤمنون، ولم يسلم الخاصّة من عقابيل الإرجاء وآثاره السلبية، فضعُف جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطائفة من أهل الدعوة يؤثرون العافية، ويغلبون نصوص الرجاء والوعد على نصوص الخوف والوعيد. وتوسّع الخيرون تبعًا لغيرهم في ملاذّ الحياة الدنيا، وفتنوا بها، وربما ضنوا بزينتها والخوف من ضدها، فلم ينشطوا في قول كلمة الحق للناس، وعدم كتمانه، كما قال تعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (¬1). وتذرّع بعضهم بالهروب من الفتنة، وربما كانت الفتنة بالذي منه هربوا، واسمعوا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، وهو يصنّف الناس إلى ثلاثة أصناف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويقول: «ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن، وما يُعرض به المرء للفتنة، صار في الناس من يتعلل في الترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة» ... إلى أن يقول: فتدبّر هذا، فإنه مقام خطر، فإن الناس هنا ثلاثة أقسام، قسمٌ يأمرون وينهون ويقاتلون طلبًا لإزالة الفتنة التي زعموا ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة كالمقتتلين في الفتنة الواقعة بين الأمة، وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كلّه، وتكون كلمة الله هي العليا لئلا يُفتَنوا، وهم قد سقطوا في الفتنة ... وهذه حال كثير من المتدينين، يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهيٍ ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 187.

وجهاد يكون به الدين كلّه لله، وتكون كلمة الله هي العليا لئلا يُفتَنوا بجنس الشهوات، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فرّوا منها، وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب، وتركُ المحظور، وهما متلازمان، وإنما تركوا ذلك لأن نفوسهم لا تطاوعهم إلا على فعلهما جميعًا، أو تركهما جميعًا مثل كثير ممن يحب الرئاسة والمال ... إلى أن يقول: فالواجب عليه أن ينظر في أغلب الأمرين، فإن كان المأمور أعظمَ أجرًا من ترك ذلك المحظور لم يترك ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه من المفاسد، وإن كان ترك المحظور أعظم أجرًا لم يفوّت ذلك برجاء ثوابٍ بفعل واجبٍ يكون دون ذلك (¬1). اللهم ألهمنا رشدنا، وعلِّمنا ما ينفعنا، وأنفعنا بما علَّمتنا، وارزقنا خوفك ورجاءك، وأعذنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن .. ¬

(¬1) الفتاوى، 28/ 167، 168.

الجزء الرابع

شعاع من المحراب الجزء الرابع إعداد د. سليمان بن حمد العودة

المرأة والهمة والوقت

المرأة والهمة والوقت (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. اتقوا الله- عباد الله- حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا مضلاتِ الفتن فإن أجسامكم على النار لا تقوى. إخوة الإيمان وسبق لي حديث عن الإجازةِ والوقت، وكان الحديثُ في أصله موجهًا للشباب، وإن جاءت الإشارةُ عرضًا للنساء .. ولقد رأيت أنهنَّ أهل للتخصيص بالحديث .. لماذا؟ لأن النساءَ محصوراتٌ مقصورات، وبالإفساد والمخططاتِ الرهيبةِ مقصودات، وما مؤتمر المرأةِ في بكين فيما مضى وما يُحاك للمرأة حاضرًا ومستقبلًا .. إلا نماذجُ صارخةٌ تشهدُ بالتركيز على المرأةِ بالإفساد، وإذا أفسدت المرأة فقل على المجتمع السلام .. ولا يغيبُ هذا الهدفُ عن اللئام! لم لا يكون الحديث- بكثرة- عن المرأة، ونحن نسمع بين الحين والآخر عن قانون جديد يُصْدر للمرأة ظاهرُه فيه الدفاعُ عن حقوقِها المنتهكة- فيما يزعمون- وباطنه فيه الهلكة والضياعُ للمرأة لو يعلمون؟ ! والمصيبةُ حين تصدر هذه القوانينُ في بلاد المسلمين ويعجز البشرُ أن يأتوا بتشريع أعدل وأوفى من تشريع الإسلام للمرأةِ، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون. الحديث للمرأة يكون لأن النساءَ قادراتٌ على العطاءِ والإسهام لفاعل الخير في المجتمع إذا عُلم الدورُ، واستثمر الزمن. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 22/ 2/ 1418 هـ.

لم لا يكون الحديث خاصًا للمرأة وعددهن في المجتمع كثير ودورهن في الإصلاح كبير. ويتأكد الحديثُ للمرأة، لأن هناك مَنْ يخاطبها بلهجةِ المصلح المتباكي، والمحرر والمنقذ، والله أعلمُ بما يكتمون؟ ! ويكون الحديثُ للمرأة لأن ثمة هدرًا في وقتها، وتقطيعًا لأيامها وسني عمرها سُدي، واشتغالًا بالتوافه ومحقرات الأمور، ونسيانًا أو تناسيًا للقيم الكبرى والهدف من الوجود. أختاه أنت محل اهتمام الإسلام وتقديره منذ أيامه الأولى، ولا تزال آياتُ القرآنِ النازلة بشأنكن تُتلى، وأنت محل اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصيته، وهو القائل: «استوصوا بالنساء خيرًا»، ولقد خصَّص للمرأة يومًا للحديث والفتيا- وجاء خلفاؤه الراشدون من بعده يؤكدون العناية بالنساء، وفي سير أعلام النبلاء (¬1) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر عمروَ بنَ حريثٍ رضي الله عنه أن يؤم النساء في رمضان. أختاه أنت مستودع للخير بما تملكين، ولئن عذرت عن حمل السيف ونكاية العدوِّ، فسلاحُ القلب وقوة التأثير في مجالاتٍ كثيرةٍ تستطيعين، ولقد أبكيت الأئمة، وأنت بالتأثير على غيرهم حرية، وهاك أنموذجًا فاعقليه. دخل سفيان الثوري رحمه الله على امرأة زاهدةٍ عابدة تُدعى أمُّ حسان فلم ير في بيتها غير قطعة حصير. فقال لها: لو كتبت رقعةً إلى بعض بني أعمامك ليغيروا من سوء حالك. فقالت: يا سفيان؛ لقد كنت في عيني أعظم، وفي قلبي أكبر. يا سفيان من ساعتك هذه أما إني لم أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسأل من لا يملكها. يا سفيان، والله ما أحبُّ أن يأتي عليَّ وقتٌ وأنا متشاغلةٌ فيه عن الله ¬

(¬1) 3/ 419.

بغير الله. فبكى سفيان (وحُقَّ له البكاء) (¬1). ويعترف العدوُّ- مع الصديق- بأثرك المشهود في نشر الإسلام والدعوة إليه، ويقول (توماس- و- آرنولد): ومما يثير اهتمامنا ما نلاحظه من أن نشرَ الإسلام لم يكن من عمل الرجالِ وحدهم، بل لقد قام النساءُ المسلماتُ أيضًا بنصيبهن في هذه المهمة الدينية (¬2). أختاه .. لقد ذل لك الجبابرة المستكبرون وأذعنوا، وفاق أثرُ إيمانك جبروت الطغاة وإن ظلموا. لم يستجب فرعونُ الطاغيةُ لآسيةَ المؤمنة في شأن إبقاءِ موسى- عليه السلام- وهو مطلبهُ الأوحد، ومن أجله كان يقتلُ ويستحيي! قال تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (¬3). ويحدثنا التأريخ أن المغولَ مع همجيتهم وشدتِهم على الإسلام والمسلمين تأثروا بالنساء، ويُقال: أن الفضل في إسلام كثير من أمراء المغول- يرجع بعد الله- إلى تأثير زوجة مسلمة. ويُقال أيضًا: ولا يبعدُ أن يكون مثلُ هذا التأثير سببًا في إسلام كثير من الأتراك الوثنيين حين أغاروا على الأقطار الإسلامية (¬4). أيتها المسلمات .. لا يُستكثر هذا ومثلُه على نساءٍ خالط الإيمانُ قلوبهن، واستشعرن قيمة الحياة، وقدر الزمن. وكم هو البون شاسعٌ بين هذه النماذج ¬

(¬1) أحكام النساء ص 143. (¬2) الدعوة إلى الإسلام ص 451. (¬3) سورة القصص، آية: 9. (¬4) توماس، الدعوة إلى الإسلام ص 451، فضل إلهي، مسؤولية النساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 17.

ونماذج أخرى من النساء، الهدفُ الأسمى عندهن غائب، والوقت يضيع هدرًا، الاهتماماتُ عندهن بسيطة، وهممُهن لتقديم الخيرِ لهن ولغيرهن ضعيفة، فتتثاقلُ إحداهُن أداء الواجبات المشروعة، ولربما كانت خطواتها المثيرة للفتنة سريعة. ولهذا الصنف من النساء يُقال: لابد من التحرير من الوهم، لابد من الاستيقاظ من النوم، لابد من الخلاص من عقدة الشعور بالنقص والرغبة في مجاراة الآخرين أن لم تُحمد سلوكياتُهم، لابد أن يمتلئ قلب المرأة المسلمة ثقة ويقينًا بأنها قادرة على تقديم الخيرِ في مجتمعها الصغير والكبير، وأن بإمكانها أن تدفع الشر عن نفسها وبنات جنسها. أيتها المؤمنات، وحين يكون الحديث عن وقت المرأة وهِمَّتِها ولا يتسع المجال للتفصيل في المجالات التي يمكن للمرأة أن تستثمر وقتها فيه، فحسبي أن أثير تساؤلات أدع للمرأة فرصة الإجابة عليها، واختيار ما تراه الأنسب منها، وأقول: أيتها المرأة المثقفة ماذا تقرئين؟ وما الهدف مما تقرئين؟ وما الخطوة الأخرى بعدما تقرئين؟ وهل بغير سهم الإسلام تضربين؟ أن الثقافة قد تكون نعمة، وقد تكون نقمة فمن أي الفريقين تكونين؟ أيتها المرأة العاملة: لماذا تعملين؟ وما أثرك في الإصلاح مع زميلات العمل؟ وهل يلازمك الحياء والبعد عن الخلطة بالرجال قدر ما تستطيعين؟ أيتها المعلمة: هل تشعرين بشرف المهمة، وتقدرين الأمانة وحجم المسؤولية؟ ما موقعك في المدرسة؟ وأيَّ أثرٍ خلفت على الزميلة والطالبة؟ أيتها الطالبة: لماذا تتعلمين؟ وبأي نوع من الأدب تتجملين؟ وهل تطبقين ما تتعلمين؟ كيف العلاقةُ مع الزميلات وما نوع الاحترام للمعلمات؟ ربة البيت: هل تتذكرين عظيمَ الأجر فيما تعملين؟ وهل تُديرين شؤون

المنزل، وترعين حقوق الزوج، وتقدرين مسؤولية التربية، ومع هذا يعطر المنزل بالذكر، وتفوح في جوانبه التقوى، ويكون لله قدوةٌ بمن قيل فيها: فمها يرتل آي ربِّك بينما ... يذهب تُدير على الشعير رحاها بلت وسادتها لآلئ دمعها ... من طول خشيتها ومن تقواها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة النحل، آية: 97.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخيرَ كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين. أعود للمرأة قائلًا: أيتها الفتاة البكر: بم تُفكرين؟ وما مواصفات شريك الحياة الذي ترغبين؟ وما نوع الحياة الزوجية التي تأملين؟ وإلام بعد الزواج تتطلعين؟ هل قرأت عن حقوق الزوج؟ وهل لديك عزمٌ وحزمٌ على تربية جيلٍ يسعد أمته ولا يشقيها، ويبني ما تهدم من أركانها؟ أيتها النساء عمومًا، بل أيها المسلمون جميعًا أن الوقت ثروةٌ عظيمة والمغبون حقًا من فرَّط فيها، وإن الحياة تمضي سريعًا. والعاجزون هم أصحاب التمني والتسويف فيها، واسمعوا إلى كلام الحسنِ البصري يرحمه الله وهو يُحذر من التسويف، ويقول: «إياك والتسويف، فإنك بيومك ولست بغدك، فإن يكن غد لك فكس فيه (أي اجتهد فيه) كما كست في اليوم، وإلا يكن الغد لك لم تندم على ما فرطت في اليوم» (¬1). ويقول ابن الجوزي: إياك والتسويف، فإنه أكبر جنود إبليس (¬2). أما ابن القيم فيشير إلى صوارف الخير بـ «لعل» و «عسى» محذرًا حين يقول: كلما جاء طارقُ الخير صَرَفه بوَّابُ: (لعل) و (عسى) (¬3). ¬

(¬1) 125 طريقة لحفظ الوقت، محمد بن صالح آل عبد الله ص 137. (¬2) صيد الخاطر. (¬3) الفوائد.

إخوة الإسلام أن الكسلَ والتسويف بضاعةُ الحمقى والمفاليس ولذا قيل: تزوج التواني الكسلَ فتولد منهما الخسران (¬1). وليس يخفى أن العمل، والعام، والشهر، واليومَ مضبوطٌ بساعات ودقائق وثوان لا تزيد، ولكنك مع ذلك تلحظ البون شاسعًا بين الناس في استثمارها، وكم بنى بها المشمرون قصورًا عالية في الجنان، وكم كانت سببًا لهلكة أقوامٍ ومعبرًا لهم إلى النار، كم شيد فيها أولو هممٍ وأصحابُ عزائم من بيوتٍ للعلم، أصبحت منابر تضيء للسالكين، وكم خمل فيها ذكرُ آخرين، ومرت عليهم السنون، وهم في ظلمات الجهل يتقلبون، كم أشاد فيها عاملون نشطون من صروح الحضارة ما بقي ذكره في العالمين .. وكم ثرب التاريخ على أمم عاشوا على فُتات حضارات الآخرين؟ ! إنه الزمن لك أو عليك، ومن لم يستثمر حياته بالخير وعملِ الصالحات قادته نفسه الأمارةُ بالسوء إلى مهاوي الردى وعمل السيئات، ولا ينفع الندم حين كشف الحساب عند أهل الغوايةِ والجهل، وبطول مُكثِهم وعدم استثمارِ أوقاتهم في الخير يشهد عليهم أهل العلم والإيمان {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} (¬2). إنه مشهد غائب حاضر لا يستبعده إلا الغافلون {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَأن أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَن جَاهَدَ فَأنمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ أن اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (¬3). ¬

(¬1) ابن الجوذي، المدهش، عن 125 طريقة لحفظ الوقت ص 137. (¬2) سورة الروم، الآيات: 55 - 57. (¬3) سورة العنكبوت، الآيتان: 5، 6.

{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬1). أختاه في الإسلام حنانيك أن يضيع وقتك سدى عبر جلسات مطولة لا فائدة فيها، بل ربما حملت نفسك أوزارًا من خلال الحديث المحرم فيها. ووقتك أغلى من أن يضيع في العكوف على سماع أو رؤية أصوات أو مشاهد الفجور والخنا وعمرك أنفس من إضاعته بكثرة النوم. وربما لم تصل الفجر حتى تعالى الضحى، ولربما كان النوم سببًا للخصام مع الزوج للتقصير في الأداء، وضياع الوقت هدرًا، وغدا الأطفال يسرحون ويفسدون، وأنت غائبةٌ لطول موتتك الصغرى. أختاه! ومن الخطأ أن تعتقدي أن في الذهاب للأسواق بكثرة ما يقطع الوقت، ويجلب السرور والسلوى .. والبيت نِعمَ المستقرُّ لك، وقد قيل لمن قبلك من خيرة النساء: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (¬2). كما أن من الخطأ أن تظني أن رفع سماعة الهاتف وقتًا طويلًا دونما فائدة تُرتَجى، يجلب السعادة ويمضي به الوقت سريعًا؟ ! أختاه! ليس ذلك حصرًا لمواطن هدر الوقت سدى عند بعض النساء. أنت بذلك وغيره أدرى، فاحذري وحذري غيرك من النساء من إضاعة الوقت سدى. كما أنت أدرى بمواطن استثمار الوقت، وهي من الكثرة بحيث أوصلها بعضهم إلى (مائة وخمس وعشرين طريقةً لحفظ الوقت) (¬3) يمكن أن يزاد عليها. ¬

(¬1) سورة الكهف، آية: 110. (¬2) سورة الأحزاب، آية: 33. (¬3) أبو القعقاع محمد بن صالح آل عبد الله.

إن الخطوة الأولى- لنا معاشر الرجال، ولكن معاشر النساء- نحو استثمار الوقت هي الشعور بأهميته، يتبع ذلك خطوة أخرى بالهمة والعزيمة الصادقة، ثم تكون الخطوة الثالثة بالعمل والتنفيذ، مع مراعاة القصد حتى تبلغوا، وطاقة النفس حتى لا تملوا «عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا». أيها الرجال- هذه كلمات وتوجيهات، وإن كانت في أصلها موجهة للنساء، فنحن شركاء في المسؤولية، والمرأة ليست جسمًا غريبًا عنا، فهي (أمٌّ) أو «زوجة» أو «أخت» أو «بنتٌ» أو «قريبة» لنا، والله أمرنا بالتعاودن على البر والتقوى، ونهانا عن التعاون على الإثم والعدوان. وعليكم كفلٌ من مسؤولية البلاغ والنصح والمتابعة، فكلكم راعٍ ومسؤولًا عن رعيته. هذا فضلًا عن كون بعض ما جاء فيها يصلح أن يكون خطابًا يوجه للرجل والمرأة على حدٍّ سواء. اللهم وفقنا لاستثمار أعمارنا بعمل الصالحات، اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة واتباع الهوى والشهوات ..

العقيدة الحقة .. وما يناقضها

العقيدة الحقة .. وما يناقضها (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله رب العالمين، خلق فسوى، وقدَّر فهدى، وله الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يفعل ما يشاء، يخفض ويرفع ويقبض ويبسط، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو الحكيم الخبير بشؤون أهل الأرض والسماء. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، والمؤتمن على وحيه، والنموذج الأمثل للرضا بما كتب الله وقدر. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصيكم ونفسي بلزوم تقوى الله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬3). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬4). أيها المسلمون متقرر عند العقلاء أن الله خلق هذا الوجود لحكمة بالغة، وأن ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 14/ 3/ 1418 هـ. (¬2) سورة النساء، آية: 131. (¬3) سورة النساء، آية: 1. (¬4) سوره آل عمران، آية: 102.

ما يقع فيه من الخير والشر بمشيئته وإرادته، كونًا وقدرًا، أو شرعًا ودينًا، ومتقررٌ عند العلماء أن معنى التوحيد: «أن يشهد صاحبه قيومية الرب تعالى فوق عرشه، يُدبر أمر عباده وحده، فلا خالق ولا رازق، ولا معطي ولا مانع، ولا مميت ولا محيي، ولا مدبر لأمر الملك- ظاهرًا وباطنًا- غيره، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا يجري حادث إلا بمشيئته، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات، ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا أحصاها علمه وأحاطت بها قدرته، ونفذت بها مشيئته واقتضتها حكمته» (¬1). أيها الناس أن امتلاء القلب بهذه الحقيقة الكبرى لا يدعو إلى الكسل والتواكل والتراخي والتقصير في آداء الطاعات والواجبات .. اعتمادًا على التقدير الأزلي، والربوبية الشاملة لحركة هذا الكون ومن فيه، فذلك فهمٌ سلبي لمعنى التوحيد. وإنما يدعو التوحيد الحق إلى العبودية الحقة المشتملة على الطاعة والتسليم، والقيام بحقوق الخالق من المحبة والتعظيم وإفراده بالألوهية والعبادة الخالصة، وانشراح الصدر لفعل المأمور والبعد عن المحظور. إن التوحيد الحق دعامة الإيمان، والإيمان الحق قول القلب، وهو اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح .. وبالإيمان والتوحيد يستشعر المؤمن السعادة الحقة في الدنيا، قبل أن يصل إلى السعادة الكبرى حين يلقى الله، وهو راضٍ عنه. يعمل المسلم جهده في سبيل الخير، وإن كانت الأمور مقدرةً في علم الله من قبل، فهو لا يعلم قدر الله من جانب، وهو من جانب آخر يعمل بوصاية المصطفى صلى الله عليه وسلم: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له .. ». ¬

(¬1) ابن القيم: مدارج السالكين 3/ 510.

وهو يتلو كتاب ربه، وفيه قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}. عباد الله! هناك نوع من الإيمان تجرى عليه الأحكام، وتقسم به المواريث، ولكنه لا يمنح صاحبه سعادة في الدنيا، ولا ينفعه في الآخرة، ذلكم هو إيمان المنافقين والمرائين الذين يظهرون للناس خلاف ما يبطنون. أما الإيمان الذي يحقق لأصحابه السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة، فهو الإيمان الحق، الذي يتفق الظاهر فيه مع الباطن، وهذه علمها وحكمها عند علام الغيوب، وسوف يكشف المخبوء، يقول سفيان الثوري، وابن المبارك رحمهما الله: «الناسخ عندنا مؤمنون في المواريث والأحكام، ولا ندري كيف هم عند الله عز وجل» (¬1). فإياك إياك يا عبد الله! أن تغتر بستر الله عليك، وإياك أن تتخذ من غفلة الناس عن حقيقتك مزيدًا من التمادي في المخادعة والنفاق والسير في طريق الضلال؟ إخوة الإسلام! وفي حال غُربة الإسلام تتغير المفاهيم، وتختل الموازين، ويظن أقوامٌ أن مجرد تصدىق اللساني يكفي للإيمان حتى وإن كان القلب شاكًا فاسدًا، وحتى لو كانت الجوارح تعبُّ من الفساد عبًا، وحتى وإن ضيعت الواجبات، وانتهكت المحرمات. ذلكم فكر الإرجاء، ومعتقد المرجئة: أنه لا يضر مع الإيمان معصية. وعكسهم الخوارج الذين يكفِّرون بالكبيرة. ¬

(¬1) السنة للخلال 3/ 567، والإبانة لابن بطة 2/ 872 عن نواقض الإيمان؛ د. العبد اللطيف ص 29.

وأما أهل السنة والجماعة فوسط بين الغالي والجافي. يقول أئمتهم: إن الإيمان عمل الجوارح. فكما يجب على الخلق أن يصدقوا الرسل عليهم السلام فيما أخبروا، فعليهم أن يطيعوهم فيما أمروا، فلا يتحقق الإيمان بالرسول مع ترك الطاعة بالكلية. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (¬1). ويقولون: إن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب ولازمةٌ لها، فالقلب إذا كان فيه معرفةٌ وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يختلف البدن عما يريده القلب، كما قال عليه الصلاة والسلام: «ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب .. » (¬2). إن الإيمان الحق يحدث خشية في القلب، تسري على الجوارح؛ فتصلحها فتنشط لعمل الصالحات .. وتتورع قدر الطاقة من فعل المحرمات، وإن ضعفت ووقعت في شيء من المحظورات ندمت، واستغفر صاحبها {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} (¬3). أو زاد من فعل الحسنات: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬4). وإذا صح الإيمان وحيا القلب تعلق العبد بالله تعلق المضطر المنيب المنكسر المسكين، وأحدث له من الأثر ما تحمد عقباه عاجلًا وآجلًا. ¬

(¬1) سورة النساء، آية: 64. (¬2) الفتاوي 7/ 187، 541، 221. (¬3) سورة النساء، آية: 115. (¬4) سورة هود، آية: 114.

يقول الإمام ابن القيم يرحمه الله: «ولا يزال يضرب هذا القلب السليم على صاحبه، حتى ينيب إلى ربه، ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المضطر، الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه، والأنس به، فبه يطمئن، وإليه يسكن ويأوي، وبه يفرح وعليه يتوكل، فإذا حصل له هذا سكن وزال اضطرابه، وانسدت تلك الفاقة. إن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله أبدًا. وفيه شعث لا يلمُّه غير الإقبال عليه، وفيه مرضٌ لا يشفيه غير الإخلاص له، فحينئذ يباشر روح الحياة، وإذا تعلق القلب بالله استغنى به عن كل ما سواه فيستغني عن المخلوقين ويعطي ربه» (¬1). يا أخا الإيمان! إذا أردت أن تمتحن قلبَك أسليمٌ هو أم مريض فانظر مدى تعظيمك لخالقك وقدره عندك، والله يقول: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جميعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬2). وتأمل خشوعك في صلاتك، فهي من علائم الإيمان {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬3). قال العارفون: وإذا كبرت أيها المصلي فلا يكذبن قلبُك لسانك، لأنه لو كان في قلبك شيء أكبر من الله تعالى فقد كذبت، فاحذر أن يكون الهوى عندك أكبر، بدليل إيثارك موافقته على طاعة الله تعالى، فإذا استعذت فاعلم أن الاستعاذة هي ملجأ إلى الله سبحانه، فإذا لم تلجأ بقلبك كان كلامك لغوًا، وإذا ركعت فاستشعر التواضع، وإذا سجدت فاستشعر الذل بين يدي الله، لأنك ¬

(¬1) إغاثة اللهفان 1/ 71. (¬2) سورة الزمر، آية: 67. (¬3) سورة المؤمنون، الآيتان: 1، 2.

وضعت النفس موضعها، ورددت الفرع إلى أصله بالسجود في التراب الذي خلقت له، واعلم أن أداء الصلاة بهذه الكيفية سبب لجلاء القلب من الصدأ .. (¬1). ¬

(¬1) إذاصح الإيمان، عبد الله السلوم ص 60، 61.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، أحمده حمد الشاكرين الذاكرين، وأتوب إليه وأستغفره وأسأله المزيد من فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. إخوة الإسلام .. أما تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته فتكون بطاعته فيما أمر واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع. ولابد أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وأهله وماله وولده والناس أجمعين: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬1). وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين». ولكن هذه المحبة مضبوطةٌ بضوابط الشرع، لا ينبغي أن يتجاوز المحبُّ فيها حدود الله، ولا يصرفه شيئًا من أنواع العبادة: كالدعاء والاستغاثة والنذر والتوكل ونحوها لغير الله. وتلك مزلة غلط فيها قوم، فغلوا في حبهم، وتجاوزوا المشروع في تقدير النبي صلى الله عليه وسلم، وقال قائلهم ظلمًا وعدوانًا. ¬

(¬1) سورة التوبة، آية: 24.

يا أكرمَ الخلقِ مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادثِ العممِ ولن يضيق رسول الله جافك بي ... إذا الكريم تحلى باسم منتقمِ فإن لي ذمةً منه بتسميتي ... محمدًا وهو أوفى الخلفي بالذممِ إن لم يكن في معادي آخذًا بيدي ... فضلًا وإلا فقل يازلة القدمِ وجرى آخر في شركه حتى قال: وحُلذَ عقدةَ كربي يا محمدُ مِنْ ... هَمٍّ على خَطَراتِ القلبِ مُطَّردِ أرجوك في سكرات الموتِ تشهدُني ... كيما يهون إذ الأنفاس في صُعُدِ وإن نزلت ضريحًا لا أنيس به ... فكن أنيسَ وحيدٍ فيه منفردِ وقال بعضُهم زورًا وبهتانًا: يا سيدي يا صفي الدين يا سندي ... يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري أنت الملاذُ لما أخشى ضرورته ... وأنت لي ملجأٌ من حادثِ الدهرِ إلى قوله: وامنن عليَّ بتوفيق وعافية ... وخير خاتمةٍ مهما انقضى عمري وكفَّ عنَّا أكفَّ الظالمين إذا امتدت ... بسوءٍ لأمرٍ مؤلمٍ نكري فإنني عبدُك الراجي بودك ما ... أمَّلتُه يا صفي السادة الغرر قال بعض العلماء: فلا ندري أيَّ معنى اختصر به الخالقُ تعالى بعد هذه المنزلة، وماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث لخالقه من الأمر؟ (¬1). معاشر المسلمين! هذه نماذجُ من شركيات وغلو في جانب الرسول صلى الله عليه وسلم، كانت ولا تزال تتكرر في مناسبات المولد المزعوم؟ ويتجاوز المادحون فيها حدود الشرع والعقل، وما هي إلا بدعٌ ابتدعوها ¬

(¬1) تيسير العزيز الحميد ص 187، 189، 191.

وسَنَّها أصحاب المللِ والنحلِ والطرق الصوفية، فراج سوقُها عند طوائفَ من المسلمين، ظنها البعضُ منهم عبادةً وقربة، وهي منكرات وشركيات مبتدئة. ومن عجب أن هؤلاء المادحين وأصحاب الأعياد البدعية لا يكاد بعضُهم يعرف النبى صلى الله عليه وسلم إلا بهذه المناسبة، وهم أجهل الناس بسنته، وأزهدهم في هديه، فصار حظُّهم منه صلى الله عليه وسلم وهم أجهل بالأشعار والقصائد والغلو الزائد، مع عصيانهم له في أمره ونهيه .. وذلك نوعٌ من تلاعب الشيطانِ بالإنسان، نسأل الله السلامةَ والعافية لنا ولإخواننا المسلمين. أيها المسلمون لقد حَمى المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسدَّ طرق الشرك، وهو القائل للوفدِ الذين وفدوا عليه، وقالوا له: أنت سيدُنا، فقال: «السيدُ اللهُ تبارك وتعالى»، قالوا: وأفضلنُا فضلًا وأعظمُنا طَوْلًا، فقال عليه الصلاةُ والسلام، «قولوا: بقوِلكم أو بعضِ قولِكم ولا يستجرينكم الشيطان» (¬1). ونهى وحذر عليه الصلاة والسلام أمتَه قبل موتِه من إطرائه والغلو فيه فقال: «لا تطووني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا عبد الله ورسوله». ومستقرٌ عند العلماء أن: «من الشرك أن يستغيث المرءُ بغير الله أو يدعو غيره، قال الله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} (¬2). وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ ¬

(¬1) رواه أبو داود بسند جيد (تيسير العزيز الحميد ص 662). (¬2) سورة الرعد، آية: 14.

لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬1). قال شيخ الإسلام: من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم، ويدعوهم ويسألهم كَفَر إجماعًا. ونقله عنه غير واحد من أهل العلم مقرين له. وقال ابن القيم: ومن أنواع الشرك طلبُ الحوائجِ من الموتى والاستغاثةُ بهم، والتوجهُ إليهم، وهذا أصل شركِ العالم، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، فضلًا لمن استغاث به، أو سأله أن يشفع إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوعِ عنده، فإن الله سبحانه لا يشفع عنده أحدٌ إلا بإذنه، والله سبحانه لم يجعل سؤال غيره سببًا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمالُ التوحيد .. » (¬2). عباد الله إن صحةَ المعتقد شرط في المغفرةِ ودخول الجنة: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (¬3)، {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬4). وإن فساد المعتقد وانتشار البدع في مجتمعات المسلمين معوِّق من أهم معوقات النهوض ببلاد المسلمين، ولن يستكمل المسلمون أسباب النصر حتى تصفو عقائدهم، ويصدقوا في إخلاصِ العبادة لله وحده لا شريك له. تلك خلاصة دعوة الرسل عليهم السلام وما أوحى الله به إليهم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (¬5). ¬

(¬1) سورة يونس، الآيتان: 106، 107. (¬2) شرح المنازل .. عن تيسير العزيز الحميد ص 195. (¬3) سورة النساء، آية: 48. (¬4) سورة الكهف، آية: 110. (¬5) سورة الأنبياء، آية: 25.

الخير المكروه

الخير المكروه (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله، فتقوى الله أمانٌ من كلِّ خوف، وبها المخرجُ عند كل فتنة، بها تُكَفر السيئاتُ، وتُعظَّم الأجورُ، وتتوفر الأرزاق، وتُيسر الأمور. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (¬3). أيها المسلمون وكثيرةٌ هي توجيهات القرآن وحقائقهُ التي تسترعي الانتباه، وتستحق التوقفَ عندها، وأخذ العبرةِ منها، وكلنا- لغفلتِنا وتقصيرنا- نمرُّ عليها مرَّ الكرام، فلا تُحدِثُ في أنفسنا الأثرَ المطلوب، ولا تهذبُ سلوكياتنا، ولا تكسرُ حِدةَ الشهوةِ والطمع في نفوسنا، وهي كفيلةٌ لو آمنا بها- حق الإيمان- وصدقنا- بتوفيرِ السعادة وتحقيق الرضا، وتثبيتِ اليقين. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 21/ 3/ 1418 هـ. (¬2) سورة الحشر، آية: 18. (¬3) سورة الحج، آية: 1.

ومن هذه الحقائق: أن الخيرَ قد يكونُ فيما تكرهه النفس ابتداءً لجهلها بما يؤول إليه، وقد يكون الشرُّ فيما تحبه النفس وتهواه .. إن الخير المكروه، والشرَّ المحبوب حقيقة وقدرٌ إلهي، أشار إليهما القرآن وكشف فيهما عن علم الله، وجهل الإنسان، فقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬1). وهذه الآيةُ وإن نزلت في إيجابِ جهادِ الأعداء، حتى قال الزهري يرحمه الله: الجهادُ واجبٌ على كل أحدٍ غزا أو قعد. القاعدُ عليه إذا استُعينَ أن يُعينَ، وإذا استُغيث أن يُغيثَ، وإذا استُنفر أن ينفرَ، وإن لم يُحتجْ إليه قعد. ودعا الله أن ينصر المسلمين. وفي الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: «من مات ولم يغزُ ولم يُحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية» (¬2). فمعنى الآية أعمُّ، وأن الخير يكون فيما تكرهه النفسُ أحيانًا، وأن الشرَّ يكون فيما تهواه النفسُ أحيانًا وتحبه، والله وحده يعلم والناس لا يعلمون. ومن عجب أن يقضي الله قضاء لابن آدم، يبيت بسببه غضبانَ أسفًا، وقد اختار الله له الخيرَ وهو لا يدرك، ولربما بات فرحًا جذلًا جراء مسرةٍ ظاهرةٍ واتته، وقد يكون فيها حتفه، ولذا جاء توجيهُ القرآن بلسمًا شافيًا {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬3). معاشر المسلمين إن هذه الحقيقة القرآنية تبدو واضحة على مستوى الفردِ ¬

(¬1) سورة البقرة، آية: 216. (¬2) تفسير ابن كثير 1/ 394. (¬3) سورة الحديد، آية: 23.

والمجتمع والأمة، وهي حقيقة يشهد بها الماضي ويؤكدها الحاضر، وستظل ماثلةً في المستقبل تشهد بإعجاز القرآن، وتؤكد علمَ وتقديرَ الرحمن. أما على مستوى الفرد فقد كتب الله على كل إنسان حظَّه من الفقر والغنى، والمرضِ والشفا، ومحبوباتِ النفسِ ومكروهاتها، والمهمُّ أن المرض ربما كان فتحًا للمريضِ تحول به من حال إلى حال، وكذا الفقر ونحوهما من مصائب الدنيا، ولربما كان الغنى سببًا للطغيان والفجور، ولربما كانت الصِّحةُ سبيلًا للغفلةِ والفسوق، ولا يعني ذلك بحال أن يتمنى المرءُ المرضَ أو الفقر، وإنما القصد أن يشكرَ المسلمُ ربَّه حال السراء، ويصبرَ نفسه ويَرضى بقضاء الله وقدره له حال الضراء، وهو في كل أحواله ينتقل من عبودية إلى عبودية أخرى. أما على مستوى المجتمع فقد يُبتلى الناس بالشرِّ والخيرِ فتنة، وحينها يميز الله الخبيثَ من الطيب، ويتبين الصادقون من الكاذبين، وتتحول الضراءُ والفتنُ عند بعضهم إلى سراءَ ومنح لا يعلم مداها إلا الله، وتنقلب السراء الظاهرةُ عند البعض منهم إلى بلايا ومحن يتمنون المخرج منها. ولرب نازلة يضيق بها الفرد أو الملأ، تحولت إلى خير ونعمة مع الصبر والإيمان والتقى، وشواهدُ ذلك كثيرة تفوق العد والإحصاء. إخوة الإسلام! ومن شواهد الماضي أسوق لكم نموذجًا وقع في خير القرون مؤكدًا حقيقة: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬1). فقد عقد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم مع مشركي مكة (صلح الحديبية) وكانت شروطُه- فيما يبدو ظاهرًا- مجحفة بحق المسلمين، فالمسلمون المُحرمون يحلون إحرامِهم دون عمرة، ويقضونها في العام المقبل، ومن جاء إلى المسلمين من ¬

(¬1) سورة النساء، آية: 19.

قريش بغير إذن وليه، يُرد، ولو كان مسلمًا فارًا بدينه. ومن جاء قريشًا من المسلمين يُقبل ولا يُرد - إلى غير ذلك من بنود الصلح، الأمر الذي تذمَّر منه المسلمون وتألموا له، وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي لم يتمالك نفسه حتى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ألسنا على الحقِّ وهم على الباطل؟ فقال: «بلى»، فقال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: «بلى»، قال (عمر) فعلامَ نُعطي الدنيةَ في ديننا؟ فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: «يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدًا» .. ثم ذهب إلى أبي بكر، وقال له نحوًا من ذلك (¬1). أما رواية ابنِ إسحاق فقد جاء فيها: أن المسلمين حين رأوا ما رأوا من الصلح، وما تحمَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه دخل الناسُ من ذلك أمرٌ عظيم حتى كادوا أن يهلكوا .. (¬2). ومع ذلك فقد انجلت هذه الشدةُ التي كرهها المسلمون في البداية وتحولت- بقضاء الله وتقديره- إلى فتح مبين، ونزلت البشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بذلك قبل أن يصل المدينة قافلًا بقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة (الفتح) إلى آخرِها على عمر، فقال: يا رسول الله: أو فتح هو؟ قال: «نعم» (¬3). إخوة الإيمان! وإذا كان هذا فيما تكرهه النفسُ وفيه الخير لها، ففي ما تحبه النفوس وإن كان فيه ضيرٌ عليها، يحدثنا الإمام القرطبيُ يرحمه الله عن واقع مُرٍّ ابتلي به المسلمون في بلاد الأندلُس، ويقول هو يُفسر قوله تعالى: {كُتِبَ ¬

(¬1) هذه رواية البخاري ح 3182 كتاب الجزية. (¬2) ابن هشام 3/ 308، ومسند أحمد 4/ 325، ومرويات الحديبية ص 172. (¬3) رواه البخاري.

عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} الآية- قال: والمعنى: عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقةِ وهو خير لكم في أنكم تغلبون وتظفرون وتغنمون وتُؤجرون، ومن مات مات شهيدًا، وعسى أن تحبوا الدعةَ وترك القتال، وهو شرٌّ لكم في أنكم تُغلبون، وتُذلون ويذهب أمرُكم، قلتُ (القرطبي): وهذا صحيحٌ لا غبار عليه، كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهادَ، وجبنوا عن القتال، وأكثروا من الفرار، فاستولى العدوُّ على البلاد، وأيَّ بلاد؟ وأسر وقتل، وسبى، واسترق، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته (¬1). إخوة الإسلام! أما النموذج الثالث فيجليه لنا الإمام ابن تيمية رحمه الله، وهو يشهد في عصره اجتماعَ الأحزاب على إبادة المسلمين، فيسلي المسلمين ويشحذ هممَهم، ويتفاءلُ بالشرِّ يعقبه الخير، وبالشدة يتلوها الفرج، ويقول مقارنًا بين غزوة الأحزاب في زمن النبوة، وغزو التتر والفرس والنصارى للمسلمين في زمنه: « .. كذلك- إن شاء الله- هؤلاء الأحزاب من المغول، وأصنافِ الترك، ومن الفرس والمستعربة، والنصارى ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة الإسلام، الآن نغزوهم ولا يغزونا، ويتوب اللهُ على من يشاءُ من المسلمين، الذين خالط قلوبهم مرضٌ أو نفاق بأن ينيبوا إلى ربِّهم، ويَحْسنُ ظنُّهم بالإسلام، وتقوى عزيمتهُم على جهاد عدوِّهم .. بل وينظر الشيخُ للحادثات الكونية التي يبدو فيها الضرُّ نظرةَ خيرٍ وإن كرهها غيره فيقول: «وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج والأمطار العظيمة التي وقعت في هذا العام، حتى طلبوا الاستصحاءَ غير مرةٍ، وكنا نقول لهم: هذا فيه خيرةٌ عظيمة، وفيه لله حكمةٌ وسرٌّ، فلا تكرهوه، فكان من حكمته: أنه فيما قيل: أصاب قازان ¬

(¬1) تفسير القرطبي 3/ 39.

وجنودَه حتى أهلكهُم، وهو كان فيما قيل سببَ رحيلهم، وابتلي به المسلمون ليتبين من يصبر على أمر الله وحكمه ممن يفرُّ عن طاعتِه وجهاد عدوه» (¬1). وكذلك ينظر أهلُ القرآن بنور الله، وما أحوج الأمة إلى رجال كهؤلاء يعيدون الثقةَ إلى النفوس، ويبعدون الناس عن اليأس والإحباط، مهما ادلهمت الخطوب وكثر المكروه وتجمعت الأحزاب، وساءت الظنون ولف الكون خيوطُ الظلام- فالعسرُ معه اليسر، والصبر معه النصر، والغبارُ سيتجلى، والعاقبة للمتقين .. وصدق الله وهو أصدق القائلين. {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ} (¬2). وصدق الله إذ يقول: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} (¬3). ¬

(¬1) الفتاوى 28/ 462، 463. (¬2) سورة الأنبياء، الآيتان: 105، 106. (¬3) سورة الصافات، الآيات: 171 - 177.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله العليم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَحكم ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة من أمرهم. وأشهد أن محمدًا عبده ورسولهُ عاش حياته راضيًا مرضيًا رغم ضيقِ العيش حينًا، وكيد الأعداءِ حينًا، ولم تكن حياته عليه الصلاة والسلام من الأكدار والمنغصات صفوًا. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآله، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها المسلمون ومن صفحة الماضي إلى ظروف الحاضر نتأمل حقيقة القرآن {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} فبالأمس القريب تنمرت الشيوعية الحمراء وحكمت الشعوبَ المسلمة المحيطة بها بالنار والحديد، وبات المسلمون حينًا من الدهر يُصلون ويتلون القرآن في السراديب المظلمة والخلوات، وامتدت هذه الأفعى لتغزو أجزاءَ من عالمنا الإسلامي بقوةِ السلاح، بل امتد أثرها الفكري ليغزو العقولَ النخرة، ونبتت في العالم الإسلامي نابتةٌ يسارية الفكر والمعتقد، لغرضٍ أو لآخر. وحين بلغ السيلُ الزبى، وبلغ الكرهُ والتأففُ للواقع الإلحادي مداه .. كانت النهايةُ قاب قوسين أو أدنى، وأخيرًا تحطمت الدولة الشيوعية الكبرى على مرأى الناسِ ومسمع، وأصيب الأتباعُ بالذهول، وكانت البشرى للذين آمنوا وضاقوا من قبلُ بها ذرعًا، وتنفس المسلمون الصُّعداء، وعسى أن يكره الناس شيئًا ويجعل الله من بعده خيرا كثيرًا. واليوم نشهدُ بأمِّ أعيننا غطرسةَ اليهودِ وتطرفَهم، وهم يسيئون إلى الأنبياء

عليهم الصلاة والسلام، ويستفزون مشاعرَ أكثر من مليار مسلم، ويصل بهم التطرفُ والغطرسة إلى تصوير الرسول صلى الله عليه وسلم على هيئة خنزير - قاتلهم الله أنى ينفكون- وتنشر هذه الصورُ المزريةُ على مرأى من العالم ومسمع؟ ! ثم لا يقف التحدي العقديُّ عند هذا الحد، بل يُستخرج القرآن ويمزقُ أمام أعين المسلمين؟ لقد ضاق المسلمون ذرعًا بهذه التصرفات الرعناء، ومن قبلُ كره المسلمون وصول المتطرفين من اليهود لحكم إسرائيل.، ولكن {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}. أجل إن المتأملَ في الأحداث الجارية على الساحة يرى أن في هذا الشرِّ الظاهر خيرًا كثيرًا في الباطن. فالأحداثُ تكشف أولًا حقيقة اليهودِ لمن به غبشٌ في الرؤية أو خداعٌ في النظرة، ويتولى اليهود بأنفسهم رسمَ الصورةِ الحقةِ لنفسياتهم ومعتقداتهم وأخلاقهم وطبيعة نظرتهم للأديان والشعوب، وهذه حقيقة لو مكث العلماءُ، والدعاةُ وأهلُ الاختصاص والخطباء حينًا من الدهر لكشفِها وبيانها للناسِ لم تصل أثرُ كلماتِهم وخطَبِهم إلى ما وصلت إليه أفعال اليهودِ أنفسِهم، فهل أبصرتم هذا الخير من وراء هذا الشر؟ وتكشف أحداثُ اليهودِ الراهنة ثانيًا عن حقيقة التطرف، وأصنافِ المتطرفين، ويتهاوى المصطلحُ العالمي الحائر بوصف المسلمين بالتطرف على أصداءِ التطرفِ الحقِّ لبني صهيون؟ . وثالثُ جوانبِ الخيرِ الذي نرجو أن يتحقق عاجلًا من وراء هذا الشر المستطير أن تستفزَّ هذه التصرفات المشينةُ مشاعرَ المسلمين، ويستيقظ أصحاب

السُّبات منهم على ضربات اليهودِ الموجعة، فيهبوا مدافعين عن عقيدتهم، وكأن اليهود بتصرفاتهم يقولون للمسلمين: هكذا نفعل بنبيكم وكتابكم، فأين أنتم؟ وماذا تفعلون؟ ! إن هذا التحدي السافرَ حريٌّ بأن يوحدَ كلمة المسلمين، ويجمع شتاتهم، وينسيَهم أضغانهم، ويضيِّق هوةَ الخلافِ في اجتهاداتهم، فالخطرُ يهددهم جميعًا، والعدو يُكشر لهم عن أنيابه، وخطوة اليوم من إخوان القردة والخنازير سيتبعها خطوات أكثر جرأة، إذا لم يعِ المسلمون دورهم، ويستعدوا لمنازلة عدوِّهم. أما الرابعة من جوانب الخير المتوقعة من وراء هذا الشر، أن تكون هذه الكبرياء وذلك السوءُ في المعتقد والخلق من يهود مؤشرًا لنهاية هذا الجسم الغريبِ في الأمة المسلمة، ومعجلًا بالمنازلة المحتومةِ النتائج مع اليهود «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهوديُّ من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم! يا عبد الله هذا يهوديٌّ خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقدَ، فإنه من شجر اليهود» (¬1). إن سلبيات واقعنِا المعاصر كثيرةٌ ومتنوعة، وإن رعودَ الشرِّ تبرق هنا وهناك، وإن الغصصَ والمآسي التي يراها المسلمُ أو يسمعها تدمي الفؤاد وتبكي العيون .. ومع ذلك فبإمكان المسلمين أن يحيلوا هذه السلبيات إلى إيجابيات حين يعودون إلى دينهم، ويعرفوا حقيقة أعدائهم وطبيعة المعركة معهم، ويأخذوا بأسباب العدة والنصر التي أمروا بها، ولا يركنوا إلى الذين ظلموا، ولا ينتظروا النصفَ والنصرةَ من أعدائهم فالكفرُ ملةٌ واحدة، ولن يرضى اليهود ولا النصارى عن المسلمين إلا باتباع ملتهم، وما النصر إلا من عند الله. ¬

(¬1) الحديث رواه مسلم عن أبي هريرة.

خير القرون

خير القرون (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه. اتقوا الله عباد الله- ومن يتق الله يجعل له مخرجًا. واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفسه بما كسبت وهم لا يظلمون. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (¬2). إخوة الإسلام وما أحوج الأمة إلى مُثُلٍ ونماذج صادقةٍ تحذو حذوها، ورجالاتٍ ذات هممٍ صادقةٍ وعاليةٍ يقتدى بها، ويُستضاء بتاريخها. وفي أمةِ الإسلام نجومٌ ومصابيحُ دجى أشرق نورها فترة من الزمن في هذا الوجود، ولئن ماتوا بأجسادهم فلا زال تاريخُهم ولن يزال غضًا طريًا يستنهض الهمم ويجلو الريب، ويبعث على الجهاد والتضحية في سبيل الله، إنهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير القرون، وأولئك القومُ الذين اختارهم الله لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وخصهم بفضل الصحبة- دون سواهم- وما كان اختيارهم على غيرهم فُرُطًا، بل كان قدرًا- من عند الله- مقدورًا. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 19/ 4/ 1418 هـ. (¬2) سورة الحج، الآيتان: 9، 2.

قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: إن الله نظرَ في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، بعد قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خيرَ قلوبِ العباد فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيء» (¬1). هم القوم أعلى شأنهم القرآن، وأثنى الله على المهاجرين والأنصار، ورضي الله عن أصحاب البيعة تحت الشجرة، وتاب على الذين اتبعوه في جيش العسرة من بعد ما كاد يزيغُ قلوبُ فريق منهم، ولئن فضل الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا على من أسلم بعدهم، فكلًا وعد الله الحسنى وكفاهم فخرًا- أن يقول الله فيهم ومن اتبعهم بإحسان- {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2). صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنةٌ للأمةِ، وبذهابهم أتى الأمةَ ما كانوا يوعدون، قال عليه الصلاة والسلام: «النجوُم أمنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماءَ ما توعد، وأنا أمنةٌ لأصحابي فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةٌ لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون» (¬3). قال صاحب النهاية: والأمنة في الحديث جمعُ أمين وهو الحافظ، وفي الحديث إشارةٌ بالجملة إلى مجيء الشر عند ذهاب أهل الخير (¬4). ¬

(¬1) رواه أحمد، 1/ 379 (3599). (¬2) سورة التوبة، أية: 100. (¬3) رواه مسلم 4/ 1961. (¬4) النهاية في غريب الحديث والأثر 1/ 70، 71.

أمةَ الإسلام، لقد أخبر الصادقُ المصدوقُ عن فضلهم وحكم بعلو منزلتهم فقال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم». قال عمران بن حصين رضي الله عنه- الراوي- فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة- «ثم إن بعدَهم قومًا يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن» (¬1). ونهى عليه الصلاة والسلام وكرر النهي عن سبهم حين قال: «لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثلَ أُحدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفه» (¬2). وأجمع أهل السنة والجماعة على عدالتهم، حتى قال الخطيب في الكفاية: «والأخبار في هذا المعنى تتسعُ، وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن، وجميعُ ذلك يقتضي طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحدٌ منهم مع تعديل الله تعالى لهم، المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحدٍ من الخلقِ لهم، فهم على هذه الصفة إلى أن يثبتَ على أحدٍ ارتكاب ما لا يحتمل إلا قصدَ المعصية، والخروج من باب التأويل، فيُحكم بسقوط العدالة، وقد برأهم الله من ذلك، ورفع أقدارهم عنده- إلى أن قال الخطيب: على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرنا لأوجبتِ الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد والمناصحةِ في الدين، وقوة الإيمانِ واليقين، القطعَ على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتِهم، وأنهم أفضلُ من المعُدِّلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبدُ الآبدين» (¬3). ¬

(¬1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما (جامع الأصول 8/ 547). (¬2) أخرجه مسلم (2340) (جامع الأصول 8/ 553). (¬3) الكفاية في علم الرواية ص 93 - 96.

أيها المسلمون! ولفضل الصحابة يُفتح للمسلمين إذا كانوا فيهم، ويفتح لمن صحبهم، أو صحب من صحبهم، وتلك كانت هي فترات القوة للبعوثِ الإسلامية، والجهاد إلى بلاد الكفار، أخرج الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمانٌ يغزو فيه فئامٌ من الناس، فيقولون: هل فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيُفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئامٌ من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يأتي على الناس زمانٌ فيغزو فئامٌ من الناس، فيقال: هل فيكم من صاحبَ من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم» (¬1). وفي لفظ: «هل من فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم». وهذا الحديث يستفاد منه عدةُ أمور ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الحكمَ بصحبته وعلق برؤيته، وجعل فتحَ اللهِ على المسلمين بسبب من رآه مؤمنًا به، وهذه الخاصيةُ لا تثبت لأحدٍ غير الصحابة، ولو كانت أعمالهم أكثر من أعمال الواحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم (¬2). 2 - قال الحافظ ابن حجر: ويستفاد من الحديث بطلان قول من ادعى في هذه الأعصار المتأخرة الصحبةَ، لأن الخبرَ يتضمن استمرارَ الجهاد والبعوث إلى بلاد الكفار، وأنهم يسألون: هل فيكم أحدٌ من أصحابه؟ .. وكذلك في التابعين، وفي أتباع التابعين. وقد وقع كلُّ ذلك فيما مضى، وانقطعت البعوث عن بلاد الكفار في هذه الأعصار، بل انعكس الحال في ذلك على ما هو معلومٌ ¬

(¬1) جامع الأصول 8/ 551. (¬2) نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (الفتاوى 4/ 465).

مشاهدٌ من مدةٍ متطاولة ولا سيما في بلاد الأندلس» (¬1). وإذا كان هذا في زمن ابن حجر، فكيف لو أبصر حال المسلمين اليوم؟ وقد أصبحت بعوثهم التنصيرية تغزو بلاد المسلمين، وتدرس في السياسات الخارجية للدول الكبرى مشروعات تنصير المسلمين، ومحاولة الضغط عليهم بالمنح والقروض، ولكن {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (¬2). اللهم انفعنا بالقرآن، وهدي محمد عليه الصلاة والسلام ... ¬

(¬1) الفتح 7/ 5. (¬2) سورة التوبة، الآيتان: 32، 33.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، يختص برحمته من يشاء، وهو العليم الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فضَّل هذه الأمة بالتراحم فيما بينها، فيستغفر اللاحقون للسابقين، على-حين كانت الأممُ الجاهلية قبلهم يلعن بعضُهم بعضًا؟ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أوحى إليه ربُّه أفضليةَ قرنِه، وشهد لصحابته بالخيرية على من سواهم، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين. أيها المسلمون! ويقول القاضي رياض يرحمه الله عن ميزة الصحابة: «وفضيلةُ الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عملٌ، ولا تنال درجتُها بشيء، والفضائل لا تؤخذُ بالقياس» (¬1). أما عمَّا شجر بينهم، فيقول الذهبي يرحمه الله: «كما تقرر الكف عن كثير مما شجر بينهم، وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين، وما زال يمرُّ بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثَر ذلك منقطع وضعيف، وبعضُه كذبٌ .. فينبغي طيُّه وإخفاؤه، بل إعدامُه، لتصفوا القلوب، وتتوفرَ على حبِّ الصحابة والترضي عنهم، وكتمانُ ذلك متعينٌ عن العامة وآحاد العلماء .. إلى أن يقول: فأما ما تنقله الرافضةُ وأهل البدع في كتبهم من ذلك فلا نُعرِّج عليه، ولا كرامة، فأكثره باطلٌ وكذبٌ وافتراء، فدأب الروافض روايةُ الأباطيل، أوردُّ ما في الصحاح والمسانيد، ومتى إفاقةُ من به سُكران» (¬2). ¬

(¬1) شرح مسلم 16/ 93. (¬2) سير أعلام النبلاء 10/ 93، 92.

هذه معاشر المسلمين مقتطفات عاجلةٌ من معتقد أهل السنة والجماعة في الصحابة، وتلك قناعات ومنطلقات شرعية لا تهتز بإرجاف المرجفين، ولا تتأثر بتشكيك المشككين.! ! وإذا كانت أعراض المسلمين- بشكل عام- مصونةً في الإسلام، فأعراض الصحابة وهم أهل الفضل والسابقةِ والجهاد أولى بالصيانة والدفاع قُربة لله عز وجل، وتقديرًا لمآثرهم وجهادهم. وقد نص العلماء قديمًا على تحريم سبِّ الصحابة، وأرشدوا إلى عقوبات تعزيريةٍ لمن فعل ذلك معهم. قال الإمام النووي يرحمه الله: واعلم أن سبَّ الصحابة رضي الله عنهم حرام من فواحش المحرمات، سواءٌ من لابس الفتن منهم وغيره» (¬1). وقال الإمام أحمد: إنه يجب على السلطانِ تأديبه وعقوبته، وليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه» (¬2). واعتبر القاضي عياض تعزيرَ من سب الصحابة مذهبَ الجمهور» (¬3). بل نقل عن بعض المالكية؛ أنه يُقتل. وحكم الإمام أحمدُ يرحمه الله على نوعية الطاعنين في الصحابة فقال: فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحدًا منهم، أو تنقصه أو طعن عليه أو عرض بعيبهم أو عاب أحدً منهم فهو مبتدع رافضي. أيها المسلمون! لماذا هذه العناية بأعراض الصحابة؟ ولماذا الدفاع عنهم؟ لأن هناك مكمنَ خطرٍ في سبِّهم أو التعريض بهم وعدالتهم، فهم نقلةُ الدين، ¬

(¬1) النووي: شرح مسلم 16/ 93. (¬2) رسالة السنة ص 78، وانظر: السلمي، في منهج كتابة التاريخ إلإسلامي ص 219. (¬3) شرح مسلم 16/ 93.

والطعن فيهم وسيلة للطعن في الدين. وهذا ما نبه إليه الإمام أبو زرعة الرازي يرحمه الله حين قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسننَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرحُ بهم أولى وهم زنادقة (¬1). عباد الله! لابد من التنبه لمثل هذه الأفكار المتسللة، التي تحاول بين الفينة والأخرى الطعنَ في أحدٍ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كانت بعبارات صريحة أو ملفوفة، أو استخدمت أسلوب التشكيك في وجود هذا الصحابي وأسطوريته، فتلك رغم ما فيها من جُرأةٍ تحطم الحجبِ الواقيةَ لهذا التاريخ المجيد، الذي أجمعت عليه الأمة، هو كذلك إشغالٌ للأمة بقضايا جانبية، لا يحتمله تاريخُ الأمة المثقلُ بكثير من القضايا والهموم، ليس اجتماع الكيد الصليبي مع التطرف اليهودي على العبث بمقدسات المسلمين ومحاصرةِ وتجويع أبنائهم إلا واحدةً من هذه القضايا المؤلمة، التي تحتاج من المسلمين إلى عملٍ دؤوب وصدق في اللقاء، يدفع الله به كيدَ الكائدين. وإذا قُدر لهذه القضايا أن تبحث فينبغي أن يوسدَ الأمر إلى أهله، وأن يتوفرَ على ذلك علماءٌ متمكنون في علمهم صادقون في توجههم، برآءُ من أي تهمةٍ في سلامة معتقدِهم، وأن يكون على مستوى الخاصة، وألا تفتنَ به العامةُ، وألا تكون قضيةً مطروحةً للمزاد، يعرف فيها من لا يعرف، ويظن الجاهل أن من حقه أن يوافق أو يخالف .. وليت شعري كم تنطق الرويبضةُ! ويتصدر السفهاء ¬

(¬1) الكفاية في علم الرواية ص 97.

إذا غاب عن الساحة صوتُ العلماء، أو توارى خلفَ الحجبِ رأيُ النبلاء .. ومع ذلك فالزبد سيذهبُ جفاء، ويمكث في الأرض ما ينفع الناس، وكذلك اقتضت حكمةُ الله في الصراع بينَ الحق والباطل قديمًا وحديثًا، ليميز الله الخبيث من الطيب، وينحاز الصادقون، وينكشف- ولو بعد حين- الكاذبون، اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.

المسلمون والإعلام

المسلمون والإعلام (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين، وارض اللهم عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. فأما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون لعلكم ترحمون، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. أيها المسلمون! تحتاج أي أمة من الأمم إلى وسيلة تنشر بها تراثها، وتوصل- عن طريقها- للآخرين أساليب حضارتها، ومقومات فكرها، أيًا كانت هذه الحضارة، وأيًا ما كان نوعُ هذه الأفكارِ المصدرة. وتتشكل هذه الوسيلة- لنقل الحضارة والأفكار- حسب ظروفِ الزمانِ والمكان، وتتطور وفق تطورِ الحضارات وتفوقِ الأمم. هذه الوسيلةُ اصطلح عليها مؤخرًا باسم «وسائل الإعلام» وحين يعرفه الغربيون بأنه «التعبير الموضوعي لعقلية الجماهير وروحها وميولها واتجاهاتها في نفس الوقت» (¬2). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 4/ 5/ 1418 هـ. (¬2) الإعلام الإسلامي، د. محيي الدين عبد الحليم ص 21.

فهو في نظرة المسلمين أداةٌ هامة؛ لنقل الخير والدعوة إليه، والتعريف بالشر والتحذير منه، أو هو باختصار كما قال أحدُ المختصين المسلمين بالإعلام: هو إعلاءُ كلمة الله في كل عصر بكافةِ وسائل الاتصال المناسب لكل عصر، والتي لا تتناقض مع مقاصد الشريعة الإسلامية» (¬1). أجل لقد استخدم الأنبياء عليهم السلام وسيلة البلاغ للناس أسلوبًا من أساليب الدعوة إلى دين الله، والتعريف بخالق الكون والحكمة من الوجود في هذه الحياة، وذلك بالأسلوب واللغة التي تناسبهم، كل ذلك ليتحقق البلاغ، ويصل البيان، وتقوم الحجة، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬2). وقيل لخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (¬3). فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وأشهدهم على البلاغ، أشهد ربَّه- وهو به أعلم- أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ » قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت، ونصحت، فقال بأصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء، وينكثها إلى الناس: «اللهم اشهد» ثلاث مرات. إخوة الإيمان! ومنذ القدم عرف الناسُ البلاغ ووسائل التأثير، فهذا موسى عليه السلام- في سبيل دعوته لفرعون وقومه- رغب أن يكون إحقاقُ الحقِّ ¬

(¬1) د. زين العابدين الركابي، النظرية الإسالأمية في الإعلام، عن: وسائل الإعلام وأثرها .. الغلايني ص 46. (¬2) سورة إبراهيم، آية: 4. (¬3) سورة المائدة، آية: 67.

وإبطالُ الباطل على ملأ من الناس، وفي يوم اجتماعهم: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} (¬1). وفرعون في المقابل يبعث في المدائن حاشرين مثيرًا ومُضللًا: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} (¬2). وينقلب السحر على الساحر، ويعلو الحقُّ الأصيل، وينكشف الباطل المزيف! وسليمان عليه السلام يستخدم الكتاب أسلوبًا من أساليب الدعوة لملكة سبأ التي قالت: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}. وكانت النتيجة {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬3). والعرب قبل الإسلام انتشرت لديهم وسائل كثيرةٌ للاتصال تتلاءم مع طبيعة تلك المرحلة، فعن طريق التجارة كانوا ينقلون الأخبار ويطلعون على الأحوال، وأسهمت البعثات اليهودية والنصرانية المتتابعة لأرض الجزيرة العربية في نقل أفكار الأمم المجاورة ومعتقداتها، وكانت إمارتا الحيرة والغساسنة على تخوم الفرس والروم صلة الوصل بين العرب والأمم التي تجاورها، وبين العرب أنفسهم كانت توجد وسائل اتصال فيما بينهم عن طريق الشعر والخطابة، والأعياد والأسواق وإشعال النار على رؤوس الجبال، وعقد الندوات والمشاورات (¬4). ¬

(¬1) سورة طه، آية: 59. (¬2) سورة الشعراء، الآيات: 54 - 56. (¬3) سورة النمل، آية: 44. (¬4) محمد موفق الغلايني، وسائل الإعلام ص 36.

وحين جاء الإسلام استبقى ما هو صالح للبقاء من هذه الوسائل وزاد عليها، فكان المسجدُ قاعدة ينطلق منها المسلمون إثر تجمعهم وتشاورهم، وكانت خطبة الجمعة بلاغًا للحاضر والباد، ونافح الشعراءُ والخطباء المسلمون عن الإسلام ونبي الإسلام، مؤيدين بملائكة السماء «اهجهم وروح القدس يؤيدك». وكتب عليه الصلاة والسلام إلى ملوك الأرض، وأرسل الرسلَ يدعوهم إلى الإسلام، وكانت البعثات التعليمية والدعوية الموجهة من الرسول صلى الله عليه وسلم تجوب جزيرة العرب وسطها وأطرافها، فبلغت الدعوة اليمن والبحرين والحبشة، وأرض فارس والروم، ومقوقس مصر .. وغيرهم. ثم جاءت حركة الفتوح الإسلامية والجهاد في سبيل الله لتنشر دين الله في الآفاق، ولم يبق بيت وبر ولا مدر، ولا أحمرَ ولا أسود إلا بلغتهم الدعوة. ووقف المجاهد الشهم في سبيل الله على ساحل البحر ليقول كلمته: والله لو أعلم أن خلف هذا البحر بشرًا لم تبلغهم دعوة الإسلام لخضت البحر إليهم .. الله أكبر، ويفوح شذى الذكريات، وإن كانت مؤرقة. إني تذكرت والذكر مؤرقة ... مجدًا تليدًا بأيدينا أضعناه أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد ... تجده كالطير مقصوصًا جناحاه؟ واستمر المسلمون، والعالم الآخر من حولهم يعنون بوسائل الإعلام وأساليب التأثير- ولكلٍّ وجهة هو موليها- حتى إذا كان العصر الحاضر تطورت وسائل الإعلام، وبلغت في تنوعها وتقنيتها وأساليب تأثيرها شأوًا بعيدًا، وأصبح العالم الكبير يعيش وكأنه في قرية واحدة - كما يقال- ولا تخفى أحداث الغرب على من هو في الشرق، ولا من هو في الشمال على من هو في الجنوب، والعكس. ولكن المؤلم والمؤسف أن مراكز القيادة الإعلامية، وقنوات التأثير الكبرى، ووكالات الأنباء العالمية من نصيب غير المسلمين، ويمتلكها مناوئون

للإسلام وقومٌ خصمون للمسلمين، يكفي- دليلًا على ذلك- أن تعترف الصحف الغربية نفسها بسيطرة اليهود على الصحافة العالمية- وخاصة في أوربا وأمريكا- ومنذ أمد بعيد (¬1). وليس يخفى سيطرة اليهود كذلك على أغلب وكالات الأنباء، وهذا يفسر التعتيم الإعلامي على كثير من قضايا المسلمين من جانب، وإشغال الناس بقضايا تافهة وفرضها على الإعلام العالمي، لأنها تخدم أغراضًا معينة يريد تصديرُها أولئك المنتقدون من جانب آخر- والله المستعان-. أيها المسلمون! ومكمنُ الخطر أن وسائل الإعلام باتت وجهة للرأي العام- بشكل عام- والمتفوق في هذا الميدان يفرض حضارته، ويصدر أفكاره، ويحشر الآخرين معه في اهتماماته ولو كانت ساذجة، ويؤثر في مشاعر الناس في أحداثه ولو كانت ساقطة. أجل أن من أبرز الآثار التي خلفها الإعلام المعادي على مجتمعات المسلمين زعزعة المعتقد عند بعضهم، ونشر الأفكار الهدامة عند بعضهم الآخر، كما أثرت في تصدير العوائد والأخلاق الرديئة، وساهمت في خلخلة بناء الأسرة المسلمة، وروجت للاقتصاد الحرِّ بزعمهم- وهو عين الربا والاحتكار، وشوهت صورة الإسلام، واختارت أبشع الصور لإلصاقها بالمسلمين، كما اختارت أسوأ المصطلحات المنفرة لترمي بها- زورًا وبهتانًا- أبناء المسلمين- ولو كانوا يُدافعون عن حقوقٍ مغتصبة- ولو حوصروا في معاشهم وضيق عليهم المستعمر أوطانهم، وأساءَ إلى مقدساتهم! مصيبة عُظمى حين تُؤَثِّر وسائل الإعلام المعادية في مجتمعات المسلمين، ¬

(¬1) اعترفت بذلك صحيفة الجرافيك اللندنية عام 1879 م (الغلاييني، وسائل الإعلام ص 240).

فيستوردون من عوائدهم القبيحة ما يستوردون، وينقلون من زبالة أفكارهم ما يجعلهم في ذيل القافلة وهم مؤهلون للقيادة. مصيبة أن يحزن المسلمون أو يتأثروا لمن يحزن أو يتأثر له الآخرون وهزيمةٌ فكرية حين تصبح قضاياهم النكدة قضايا مطروحة في بلاد المسلمين دون أن يتضح الفرق في طرحها باختلاف القيم والموازين، وتباين المعتقدات واختلاف قيم الحضارات؟ ! إذا كان خبر المسلم الفاسق لابد من أن يتبين ويمحص، فكيف بأخبار الكفار المعاندين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، يديل الأممَ والأيام بعلمه وحكمته، {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلم ما كان وما يكون وما سيكون، وهو العليم الخبير. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ترك الأمة على محجةٍ بيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين. إخوة الإسلام: بين إشراقة الصورة في نماذج الإعلام الإسلامي فيما مضى، ونتائجه المثمرة في الوجود أمنًا وإيمانًا، وسلامًا وإسلامًا، وعملًا وصدقًا، وبين قتامة الصورة ونتائجها المرةِ، وظلمةِ الواقع وجور الإعلام العالمي المعاصر، لابد للإعلام الإسلامي المعاصر من دورٍ بناء، وموقعٍ متميز، وتحمل المسؤولية بكل صدق وأمانة .. وعلى كاهل رجالهِ الأوفياء تقوم المسؤوليات التالية: 1 - رعاية التنميةِ، والتنميةُ بمفهومها الشامل، وبجوانبها المختلفة، الدينية، والاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية ونحوها، وما يتفرعَ عنها- كما لا يتسع الوقت لتفصيلها. 2 - حمايةُ مكتسبات الأمةِ- عبر تاريخها الطويل- والتنبهُ لكل من يريد العبثَ بها، أو بترَ حاضرِ الأمةِ عن ماضيها، أو صياغة مستقبلها خارج إطار الشريعة الإسلامية ونُظمِ الإسلام الكاملة المتفوقة. 3 - فضحُ أتونِ الحضارةِ المعادية ومنعُ تسرب أخلاقها وعوائدها الموبوءةِ

النكدةِ! ، وحمايةُ الأمةِ من مخاطرها الآنية والمستقبلية، مع الاستفادة من الضَّالةِ المنشودة. فالحكمة مطلوبة أيًا كان موقعها، وفرق بين هذا وذاك! 4 - كشف تحيزِ الإعلام العالمي، لقضاياه الخاصة، ووفق سياساته التسلطية المستعمرة، وتجهيل العالم بقضايا العالم الإسلامي أو رسمها بالصورة المشوهة، وقيام الإعلام الإسلامي بالدور الغائب تجاه قضايا الشعوب المظلومة والمطالبةُ بحقوقهم المستباحة. إخوة الإيمان من المفارقات العجيبة أن تجدَ هذا الإعلام المتحيز يُعنى بأخبار القططِ والكلاب، ويعرضه صورًا للكاسيات العاريات، ويبلغ الاهتمام بخصوصيات الفرد هناك إلى درجة تقتل معه عدسات التصوير مشاهير القوم- كما زعموا- وإنما قتلهم زيادة نسبة الكحول عقول المخمورين وقادة السيارات! والحقُّ أنهم في عدادِ الموتى قبل أن يقتلوا، يوم أن وأدوا الفضيلة والحياء، وليسوا بمشاهير- في نظر الإسلام- والقضية باختصار: كفرٌ وعهر وخلاعة ومجون، عقول مخمورة، وقلوب خربة واهتمامات ساقطة، ونهايةٌ مؤلمة! عباد الله! ليس غريبًا أن يحدث هذا في مثل هذه البيئات الموبوءة، التي تنكرت لشرائع السماء، وأفاء الله عليها من النعم ما شاء، فكفرت بأنعم الله .. ليس بعد الكفر ذنب .. وليس مع العلمنة وتقديس المادة ما يؤسف عليه بالبقاء .. إنها لوحة معبرة عن حضارة الرجل الأبيض - شاء المنهزمون والمعجبون بهم أم أبوا- وهي مؤشر للصيرورة إلى الزوال- طالت المدة أم قصر الزمان- فتلك سنةٌ إلهيةٌ، جاء بيانها في القرآن {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن

بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (¬1). ولكن الغريب- يا عباد الله- أن تُصدَّر هذه المخازي إلى بلاد المسلمين، وأن يفرض الإعلام المتفوق على من دونه حتمية الصورة، وتناقل الخبر بنوع من الشراهةِ، يُضلل العامة، وربما فتن الحدث والمرأة، ودون تعليق يوضح الحقيقة، ويكشف المأساة، ويبعد شُبهة التقليد وفتنة المحاكاة! أيها المسلمون! لابد أن نفهم الصورة في أحداث الإعلام المعادي بهذه الصورة، ومن رام غير ذلك فقد جعل الأسود أبيض، والظلمة نورًا، والكذب المزيف صدقًا وعدلًا! والصورة باختصار: إعلامٌ متورم، وشعبٌ مغرور متفوق، وحضارة غارقة في المادية، وبلغت الوحلَ في الشهوانية، تريد تصديرَ هذه الزبالات بقناة الإعلام عبر الصورة المخرجة، والأخبار المتتابعة وتحت رقابة وكالات أنبائهم الخسيسة. والهدفُ من ذلك حتى تدخل الأمة المسلمة حجر الضب الخرب وتسير في النفق المظلم ولا تدري نهايته. ونحن أمة لها تأريخها وقيمها، وحضارتها المتميزة، نخبر أول الطريق وندرك ما ينتهي إليه، ونميز بين ما يضر وما ينفع، وما أعظم مسؤولية رجال الإعلام المسلمين، وهم المؤتمنون على توضيح الصورة، وإعادة الثقة للأمة، هم مسؤولون عما ينقلون وعما يكتبون وما يشاهدون .. ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرًا عظيمًا. ومن غشَّ فليس منا، وظلم النفس جريمة، ولكن ظلم الآخرين واستلاب عقولهم أشد جرمًا، وليس ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآيتان: 16، 17.

من الوفاء للأمة التابع لها جرها إلى ذيل قافلة الأمم الأخرى .. إن معركة اليوم انتقلت من حرب السلاح إلى حرب الفكر، ووسائل الإعلام بكافة وسائلها وميادينها ورجالُ الفكر والإعلام حراسُها .. فالله الله أن يؤتى الإسلامُ من قبل أي ثغرة نقف حراسًا لها .. ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه، والله غني عن العالمين، اللهم انصر وسدد.

عبودية السراء

عبودية السراء (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم أيها الناسُ بتقوى الله، ألا إن تقوى الله أمانٌ من الزلل، وبها المخرجُ عند الشدائد والكرب، وبها يتوفرُ سعادة الدنيا ونعيم الآخرة {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}. {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إَن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (¬2). أيها المسلمون! ابتدأتُ معكم- في الجمعة الماضية- حديثًا عن الشكر، وأستكمل الحديث عنه في هذه الخطبة. عباد الله! لماذا لا يكون الحديث عن الشكر، ونعم الله علينا كثيرٌ لا تعد ولا تحصى، ونحن في المقابل نبارزه بالمعاصي صباح مساء؟ ولِمَ لا نُكثر الحديث عن الشكر ونحن نخشى قوارع السماء، وقد أهلك الله من قبلنا أممًا كانوا أشد منا قوة وأكثر جمعًا؟ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 23/ 6/ 1418 هـ. (¬2) سورة الأنفال، آية: 29.

كيف لا يثير الشكر كوامن النفوس، وفينا ما يبيتون على أنعم الله، ويستيقظون على معاصي الله، تمتلئ بطوننا من رزق الله، وننام ملء جفوننا بنعمة الله، لا يعكر ذلك مرضٌ ولا خوفٌ، ولا قلق، يعسعس الليل، ويتنفس النهار، فلا صعدت المؤذن يحرك فينا ساكنًا، ولا انشقاق الفجر أو ظلمة الليل تذكرنا بعظمة الباري، فنزداد لله ذكرًا وتعظيمًا، ولأنعمه علينا شكرًا كما أراد الله لنا: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} (¬1). إخوة الإسلام! نحتاج لمزيد الحديث عن الشكر، لأنه صمام الأمان لبقاء النعم وزيادتها، وأمانٌ من العذاب إذا توفر الإيمان كما قال ربنا {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} (¬2). قال العارفون: ويا عجبًا أي مقام أرفعُ من الشكر، الذي يندرج فيه جميعُ مقامات الإيمان، حتى المحبة والرضا، والتوكل وغيرها، فإن الشكر لا يصح إلا بعد حصولها (¬3). أيها المسلمون! إذا علم حقيقة الشكر ومنزلتهُ، وحاجتنا جميعًا إليه، فما هي الأسباب المعينة على الشكر، وما هي المعوقات عنه؟ إن مما يعين على الشكر رضاك بما قدر الله لك، واعتقادك الخير فيما أصابك، فلستَ تدري الخيرُ فيما أوتيتَ أو منعت، قال عليه الصلاة والسلام: «عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره له كله خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له! ¬

(¬1) سورة الفرقان، آية: 62. (¬2) سورة النساء، آية: 147. (¬3) ابن القيم: مدارج السالكين 2/ 259.

وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن». 2 - والنظرُ في الدنيا لمن هو دونك يزيد من قناعتك وشكرك. والنظر في أمور الدين لما هو فوقك يزيد في همتك، ويدعوك للمسارعة في الخيرات، يقول عليه الصلاة والسلام: «انظروا إلى من هو أسفلُ منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» (¬1). 3 - ومما يعينك على الشكر أن يمتدَ بصَرك إلى نعيم الآخرة، وألاَّ تكون الدنيا محط رحالك ونهايةَ آمالك، وهناك في الجنان ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لمن آمن وعمل صالحًا، هذا الشعور يجعلك تقنعُ بأي نعيم في هذه الحياة الفانية، متطلعًا إلى النعيم الباقي، متأملًا قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (¬2). 4 - وكيف لا تشكر يا ابن آدم وقد سخر لك من الدواب والأنعام ما تركب وتأكل، وهيأ لك من المسكن ما تكن إليه وتأوي وأفاء عليك من نعم الأموال والأولاد والأزواج ما تأنس به، وتتزين وإليه تسكن، وكم من نعمةٍ أنعم الله بها عليك وقد تعلم بها وقد لا تعلم، أفلا تستحق هذه وتلك منك الشكر للمنعم، ودونك تذكير القرآن بواحدة من هذه النعم {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ} (¬3). 5 - والإكثارُ من تلاوة كتاب الله وتدبر آياته، يزيد في إيمانك وشكرك، وهو ¬

(¬1) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه: صحيح الجامع الصغير 2/ 32. (¬2) سورة القمر، الآيتان: 54، 55. (¬3) سورة يس، الآيات: 71 - 73.

خيرٌ مذكرٍ لك بأنعمِ الله عليك، كيف لا وفيه سورة تدعى سورة (النِّعم) بسبب ما عدد الله فيها من نعمه على عباده .. هي سورة (النحل) (¬1). 6 - ومما يعينك على الشكر أن تتذكر أحوال الضعف التي مرت بك، وكيف صيرك الله إلى حال قوة وغنى، فلا يطغيك الغنى، ولا تنسيك النعمُ الشكر، وتذكر حالتك الأولى، ومن فقه أبي هريرة وشكره أنه رُئِيَ في الليل يُكبِّر، فلحقه رجلٌ ببعيره، وقال: من هذا؟ قال: أبو هريرة، قلت: وما التكبير؟ قال: شكرٌ. قلتُ: على مه؟ قال: كنتُ أجيرًا لبسرة بنت غروان بعُقبةِ رجلي وطعام بطني، وكانوا إذا ركبوا سُقت بهم، وإذا نزلوا خدمتهم، فزوجنيها الله، فهي امرأتي (¬2). 7 - والنظر في سير الشاكرين يعينك بإذن الله على الشكر، فآلُ داود الذين امتدحهم الله بالشكر بقوله {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} ورد أنهم لم يأت عليهم ساعة إلا وفيهم مصلٍّ (¬3). وإبراهيم الخليل الأمةُ القانت كان شاكرًا لأنعمه اجتباه. ولم ينس يوسفُ عليه السلام بعد خروجه من السجن وتبوئه خزائن الأرض أن يذكر نعمة الله، ويقول: {وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ ... } إلى قوله: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (¬4). وموسى عليه السلام يأمره ربُّه أن يتلقى ما آتاه من النبوة والرسالة والتكليم بالشكر ¬

(¬1) تفسير القرطبي 10/ 65. (¬2) تهذيب السير 1/ 200. (¬3) ابن القيم؛ عدة الصابرين ص 196. (¬4) سورة يوسف، الآيتان: 100، 101.

{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} (¬1). ويطول ذكر سير الشاكرين .. ولكنه خُلقُ الأنبياء والتابعين لهم بإحسان، قال رجلٌ لابن تيمية يرحمه الله: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بين نعمتين، لا أدري أيتهُما أفضل، ذنوبٌ سترها الله فلا يستطيع أن يعيرني بها أحد، ومودة قذفها الله في قلوب العباد لا يبلغها عملي» (¬2). بل كان الصالحون يتجاوزون بشكرهم خاصة أنفسهم، ويفرحون بالنعمة يهبها الله لإخوانهم المسلمين؛ نصرةً للدين، وإعلاءً لشأن المسلمين. وفي هذا ذكر عبد الله بن المبارك يرحمه الله أن (النجاشي) يرحمه الله أرسل ذات يومٍ إلى جعفر وأصحابه، فدخلوا عليه، وهو في بيتٍ، عليه خلقان، جالسٌ على التراب، قال جعفر: فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلما رأى ما في وجوهنا قال: إني أُبشركم بما يسركم، إنه جاءني من نحو أرضكم عينٌ لي، فأخبرني أن الله قد نصر نبيه صلى الله عليه وسلم، وأهلك عدوه، وأسر فلان وفلان، وقتل فلانٌ وفلان بواد يقال له (بدر) .. حتى قال له جعفر: ما بالك جالسًا على التراب، ليس تحتك بساط، وعليك هذه الأخلاق؟ قال: إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى عليه السلام: أن حقًا على عباد الله أن يحدثوا لله تواضعًا عندما أحدث الله لهم من نعمه، فلما أحدث الله لي نصر نبيه أحدثت لله هذا التواضع (¬3). يا أخا الإسلام! العلم نافذة تفتح لك آفاقًا واسعةً في الشكر، ويدرك العالمون الربانيون من آلاء الله ونعمه، مما يستوجب الشكر ما يفوق غيرهم، بل ¬

(¬1) سورة الأعراف، آية: 144. (¬2) عدة الصابرين ص 199. (¬3) عدة الصابرين ص 213.

إن فعل الشكرِ وترك الكفر لا يتم إلا بمعرفة ما يحبه الله، ومعرفة ما يكرهه، ولهذا ميز الله الذين يعلمون عن الذين لا يعلمون {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. والأصل كلما ازداد علم الإنسان زاد شكره وخشيته لله، ومن يضلل الله فما له من هاد، وصلاح القلب وقوة الإيمان مكملات للعلم وبهما يتحقق الشكر، وبالجهل والفجور والطغيان يحل الهلاك والدمار. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة القصص، آية: 58.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله، يشهد بآلائه الإنس والجن، خيرُه للناس نازل وشرهم إليه صاعد، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} (¬1). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ليس العطاء منه دليل الرضى، وليس المنعُ منه علامةَ سخطٍ وعذاب، يبلو بالسراء ليرى مدى الشكر، والضراء ليعلم- وهو أعلم- بالصابرين .. وهو العليم الحكيم. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أصابته الضراء فصبر، وحين أفاء الله عليه من النعم شكر واستغفر، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين. أيها المسلمون أما معوقات الشكر فكثيرةٌ، ومنها: الجهل والكبْرُ، والغفلة، فالجاهلُ لا يعرفُ نعمَ الله عليه، وأنَّى له أن يشكر ما لا يعرف، والكبْر داءٌ يتعالى به الفرد وينسى فضل المنعم، ويخيل إليه أن ما حوله من نعم بحوله وقوته، كما قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}. والغفلة آفة تُنسي النعم، ويظل صاحبها يرمق نعمة الله على الآخرين، غافلًا عما أنعم اللهُ به عليه، وإذا لم يتنبه الغافل في العلم، فسبيله للشكر أن يشهد المرضى تارةً، ويشهد أصحاب الحدود تارة أخرى، ليستيقن فضلَ الله بالعفو والعافية فيشكر اللهَ. ويلحق بذلك عائقُ الشحِّ والطمع والحسد، فمن ابتلي بذلك قل شكرهُ وكثرت شكواه، وأصبح كالعطشان يرد البحر فلا هو ارتوى منه، ولا البحر سقا ¬

(¬1) سورة فاطر، آية: 55.

ظمأه، وفي التنزيل {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1). واختر لنفسك ما تشاء من مراتب الإجابة، فكلُّ عبدٍ سئل عن حال فهو بين أن يشكر، أو يشكو، أو يسكت. يا أخا الإيمان! لا يغب عن بالك أن الشيطان بوسوسته وإغوائه معوق عن الشكر، كيف لا وقد أخذ العهد على نفسه بذلك. {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (¬2). وهاك نموذجًا لإعاقة الشيطانِ للإنسان عن الشكر، قال بكرُ بن عبد الله المزني: «ينزل بالعبد الأمرُ فيدعو الله فيصرفُ عنه، فيأتيه الشيطان فيضعفُ شكره، يقول: إن الأمر كان أيسرَ مما أذهب إليه قال: أو لا يقول العبد كان الأمر أشدَّ مما أذهب إليه ولكن الله صرفه عني» (¬3). يا أخا الإيمان! ومن المعوقات عن الشكر احتقارك نعمةً وهبها الله لك، فتظل تنظر إلى ما أوتيت على أنه شيء قليل، وتنسى أن المعافاة من البلايا نعمة، وأن السلامة من الأمراض نعمة، وهكذا مما صرف الله عنك، فكيف إذا أضيف إليها ما وهبك الله من نعم، ولا تنس أن النعمَ قد تكون مادية وقد تكون معنوية. يُحكى أن بعض القراء اشتد به الفقرُ، حتى ضاق به ذرعًا، فرأى في المنام كأن قائلًا يقول له: أتودُ أنا أنسيناك من القرآن سورة الأنعام وأن لك ألفتَ ¬

(¬1) سورة الحشر، آية: 9. (¬2) سورة الأعراف، الآيتان: 16، 17 (¬3) ابن القيم: عدة الصابرين ص 204.

دينار؟ قال: لا، قال فسورة هود؟ قال: لا، قال فسورة يوسف؟ قال: لا، فعدد عليه سورًا، ثم قال: فمعك قيمة مائةِ ألف دينار، وأنت تشكو، فأصبح وقد سري عنه (¬1). أجل لقد كان العارفون يشكرون الله على كلِّ نعمة وهبهم الله إياها. وهذا الإمام المزني- تلميذ الشافعي- يرحمهما الله، كان مجابَ الدعوة، وذا زهد وتأله، أخذ عنه خلق من العلماء، وبه انتشر مذهب الإمام الشافعي في الآفاق، وألف مختصرًا في الفقه امتلأت البلادُ به، حتى قيل: كانت البكرُ يكون في جهازها نسخةٌ من مختصر المزني، هذا الإمامُ بلغ من شكره كما قال الذهبي: إنه كان إذا فرغ من تبييضِ مسألة، وأودعها مختصره صلى لله ركعتين (¬2). أيها المسلمون! وإذا زادتكم سيرُ الشاكرين شكرًا، فإن نهاية الجاحدين للنعم تنهاكم وتخوفكم من الكفرِ بالنعم، وقصصُ القرآنِ للذكرى والعبر، لا لمجرد السلوةِ والنظر، وهاكم نموذجين لعدم الشكر وعاقبةِ الجحود في القرآن، يمثل الأول (سبأ) الذين كانوا في نعمةِ وغبطة، وعيش هنيء رغيد، بلادهم رخيَّة، وأماكنهم آمنة، وقراهم بالخيرات متواصلة، حتى أن مسافرهم لا يحتاج لحملِ زادٍ ولا ماء بل يجد ذلك أنَّى نزل، ويقيل في قرية ويبيت في أخرى، فلما أعرضوا ولم يشكروا أنزل الله بهم بأسه، وخرب ديارهم، وفرق جمعهم وجعلهم أحاديث للناس، حتى أن العربَ لتقول في القوم إذا تفرقوا (تفرقوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ، وتفرقوا شهر مذر). ¬

(¬1) الإحياء ص 2276. (¬2) سير أعلام النبلاء 12/ 493، 495.

وصدق الله {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} (¬1). أما النموذج الثاني فيمثله أصحاب القرية الذين قال الله فيهم: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (¬2). عباد الله! ليس من الشكر لله تضييع الواجبات كإقامة الصلوات وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحوها من شعائر الدين. وليس من الشكر فعلُ المحرمات كالزنا وتناول المسكرات والمخدرات، وتعاطي الربا وقطع ما أمر الله به أن يوصل ونحوها من المحرمات .. ليس من الشكر فشو العداوةِ والبغضاء والتنافر بين المسلمين، والمودة والموالاة للكافرين .. لابد أن تلهجَ ألسنتنا بالذكر والشكر لله، ولابد أن تصح القلوب من الغل والحقد والحسد، ولابد أن تشهد جوارحنا على ذلك بعملِ الصالحات والبعدِ عن المحرمات. تذكر يا عبد الله أن شكرك لنفسك وأن الله غني عنك {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (¬3). وكن على يقين بزيادة النعم بعد الشكر، قال الفضيل بن عياض: من عرف ¬

(¬1) سورة سبأ، الآيات: 15 - 17. (¬2) سورة النحل، آية: 112. (¬3) سورة لقمان، آية: 12.

نعمة الله بقلبه، وحدث بلسانه لم يستتم ذلك حتى يرى الزيادة لقول الله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (¬1) (¬2). اللهم ما أصبح بنا من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر. اللهم زدنا ولا تنقصنا، اللهم أكرمنا ولا تهنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا. هذا وصلوا ... ¬

(¬1) سورة إبراهيم، آية: 7. (¬2) عدة الصابرين، 194.

اليقظة ورقة القلب

اليقظة ورقة القلب (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له .. وأشهد أن لا إله إلا الله ... أيها المسلمون! التقوى وصية الله للأولين والآخرين، وهي سببُ النجاة والفلاح في الدارين: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (¬2). {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3). اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم آت نفوسنا تقواها، اللهم زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. عباد الله! فرق كبيرٌ بين الغفلة واللهو وقسوة القلب وبين اليقظة ورقة القلب وخشوعه وإنابتهِ إلى الله. وتبلغ قسوة القلب عند بعض الناس إلى درجةٍ ينقلب فيها القلبُ إلى حجر صلد، لا يترشح منه شيء، ولا يتأثر بشيء، كما قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 28/ 7/ 1418 هـ. (¬2) سورة الطلاق، الآيتان: 2، 3. (¬3) سورة المائدة، آية: 35. (¬4) سورة البقرة، آية: 74.

وصاحب هذا القلب وإن تقلَّب بين الناس حيًا، فهو في عداد الموتى، تمر عليه الآيات والزواجر، ويبصر في الكون وفي ذات نفسه من آلاء اللهِ ما يهز القلوب الحيَّة، وتتصدع له الجبالُ الرواسي، ولكنها لا تحرك فيه ساكنًا، لا تؤثر فيه موعظةُ الموت، وإن شيع أكثر من جنازة، بل ربما حمل الجنازة بنفسه، وواراها بالتراب، ولم تتحرك منه عبرةٌ أو تنزل له دمعة، ولربما سار بين القبور كسيره بين الأحجار؟ ! ولو قُدر له أن يناجيَ أهلَ القبور قائلًا: ماذا عندكم؟ وما هي أمانيكم؟ لقالوا: تركنا كلَّ شيء، ولم نحزن على شيء من الدنيا، سوى ساعة مرت بنا لم نعمل بها صالحًا، وما من حسرة هي أشدُّ علينا من لحظة عصينا الله وبارزناه بالمعاصي إن سرًا أو جهرًا .. ولكنا نرجو رحمة الله فأنفسنا رهينة بما كسبت، ولو خرجنا إلى الدنيا لرأيتم كيف نعملُ للآخرة، ولكن هيهات، وحقٌ على الأحياء أن يتعظوا بالأموات، لقد تزوجت نساؤنا، وقسم ميراثُنا .. وما بقي لنا أنيسٌ في ظلمة القبر سوى أعمالُنا الصالحة .. وكم تمنينا أن بيننا وبين ما عملنا من سوءٍ أمدًا بعيدًا .. وحق على الأحياء أن يستدركوا ما فات الموتى؟ ترى أيُّ قسوة للقلب تجعل صاحبها غافلًا لاهيًا عما خلق له، منهمكًا في جمع ما ليس له، يُعلق قلبَه بغير خالقه، ويخشى فوات ما هو مقدور له ويزهد في عمل هو سُّر سعادته وأنسه- ألا إن قسوة القلب وغفلته عقوبةٌ معجلةٌ له، والويل له إن لم يتدارك نفسه {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (¬1). قال مالك بن دينار: «ما ضرب عبدٌ بعقوبةٍ أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم» (¬2). ¬

(¬1) سورة الزمر، آية: 22. (¬2) تفسير القرطبي 15/ 248.

أيها المسلمون! أما أهلُ الإيمان وأصحاب القلوب الحية الخاشعة فأولئك الذين أنعم الله عليهم وشرح صدورهم، وهم على نورٍ من ربهم، كما قال تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (¬1). ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قلنا يا رسول الله: كيف انشراحُ الصدر؟ قال: «إذا دخل النور القلبَ انشرح وانفتح»، قلنا: يا رسول الله: وما علامة ذلك؟ قال: «الإنابةُ إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله». وفي الحديث الآخر من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا قال: «يا رسول الله أي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم له استعدادًا، وإذا دخل النورُ في القلب انفسح واستوسع» قالوا: فما آية ذلك؟ .» فذكر الخصال الثلاث. قال القرطبي- معلقًا على الخصال التي بها يُستحصل على انشراح الصدر-: ولا شك أن من كانت فيه هذه الخصال فهو الكامل الإيمان، فإن الإنابة إنما هي أعمال البر، لأن دار الخلود إنما وضعت جراءً لأعمال البر .. فإذا جدَّ العبدُ في أعمال البر فهو إنابتُه إلى دار الخلود، وإذا خمد حرصُه عن الدنيا ولها عن طلبها وأقبل على ما نعنيه منها فاكتفى به وقنع فقد تجافى عن دار الغرور، وإذا أحكم أموره بالتقوى، فكان ناظرًا في كل أمر واقفًا متأدبًا متثبتًا حذرًا، يتورع عما يريبه إلى ما لا يريبه فقد استعد للموت، فهذه علامتهم في الظاهر (¬2). عباد الله إذا كان للقسوة مظاهرها وآثارها على أصحابها، فللرقة والخشوع ¬

(¬1) سورة الزمر، آية: 22. (¬2) تفسير القرطبي 15/ 247.

آثارُها، فهي من علائم الإيمان. وسيما أولي الألباب {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} (¬1). وهي أمارة العلم: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (¬2). وبالخشية والخشوع والرقة تتحات الخطايا وقد ورد «إذا اقشعر جلدُ المؤمن من مخافة الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحاتُّ عن الشجرة البالية ورقها». وبه يحرمه الله على النار، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما اقشعر جلدُ عبدٍ من خشية الله إلا حرمه الله على النار». وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلجُ النار رجلٌ بكى من خشية الله حتى يعودَ اللبن في الضرع ... » الحديث (¬3). وبالخشية والبكاء الصادق أمانٌ- بإذن الله من عذاب يوم القيامة قال عليه الصلاة والسلام: «من ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله حتى يصيبَ الأرض من دموعه لم يعذبه الله تعالى يوم القيامة» (¬4). ¬

(¬1) سورة الرعد، الآيات: 19 - 21. (¬2) سورة الإسراء، الآيات: 107 - 109. (¬3) المستدرك 4/ 260، الترمذي 1633، 2311. وقال حديث حسن صحيح، ورواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. (¬4) رواه الحاكم (4/ 260) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

والخاشع الباكي خاليًا لذكر الله أحدُ السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .. «ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه». وما من شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين، قطرة من دموع من خشية الله، وقطرةُ دمٍ تُهراق في سبيل الله، وأما الأثران، فأثرٌ في سبيل الله، وأثر فريضة من فرائض الله» (¬1). ومن آثار الخشية والرقة والخشوع قبولُ الدعاء، ذلكم لأن قلبَ الخاشع هنا حاضرٌ مع الله مستشعرٌ عظمته وضعفَ نفسه، عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: إنما الوجلُ في قلب الرجل كاحتراق السعفة أما تجد إلا قشعريرة؟ قلتُ: بلى، قالت: فادع فإن الدعاءَ عند ذلك مستجاب. وكان أحدُهم يعلم استجابة دعوته من وجل قلبه ودموع عينيه. وعن ثابت البناني قال: قال لي فلان: إني لأعلم متى يُستجابُ لي، قالوا: ومن أين تعلم ذلك؟ قال: إذا اقشعر جلدي، ووجل قلبي وفاضت عيناي فذلك حين يستجاب لي (¬2). إخوة الإيمان ما أحوجنا إلى طول الخشية والرقة والبكاء في الدنيا .. حتى نأمن ونفرح بلقاء الله، يوم التلاق. خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يومًا فقال: «إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضعٌ جبهته ساجدًا لله! والله لو تعلمون ما أعلمُ لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا، ¬

(¬1) رواه الترمذي وحسنه ووافقه على تحسينه غيره. صحيح سنن الترمذي 2/ 133. (¬2) تفسير القرطبي 15/ 250.

وما تلذذتم بالنساء على الفرشِ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله .. » (¬1). وفي صحيح البخاري قال عليه الصلاة والسلام: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا» فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين (¬2). عباد الله يا من تبحثون عن النجاة تأملوا في أنفسكم وابكوا على خطاياكم، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله: ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتُك، وابك على خطيئتك» (¬3). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (¬4). نفعني الله وإياكم. ¬

(¬1) رواه الترمذي وحسنه، وحسنه غيره (صحيح سنن الترمذي 2/ 268)، وصححه ابن العربي (عارضة الأحوذي 9/ 194، الأربعون حديثًافي الرقة والبكاء ص 29). (¬2) كتاب التفسير. سورة المائدة 5/ 190، الأربعون في الرقة؛ محمد خير يوسف ص 27. (¬3) رواه الترمذي حسنه (صحيح سنن الترمذي 2/ 287). (¬4) سورة المؤمنون، الآيات: 57 - ا 6.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين وعد من خافه جنتين، وتوعد من عصاه نارًا وسمومًا وظلًا من يحموم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يمهل ولا يهمل، وإذا أخذ الظالم لم يفلته، {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ}. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، كان يسمع لصدره- إذا صلى- أزيز كأزيز الرحى، أو كأزيز المِرْجل من البكاء .. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين. عباد الله، هناك أمور وأسباب تدعو للرقة والبكاء (¬1) ومنها: مسحُ رأس اليتامى، وإطعام المساكين. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبهِ، فقال: «امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين» (¬2). وزيارةُ القبور تُرقق القلوب، كما قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: «زُر القبور تَذكرُ بها الآخرة، واغسل الموتى فإن معالجة جسدٍ خاوٍ عظةٌ بليغة، وصل على الجنائز لعل ذلك يحزنك فإن الحزين في ظل الله يوم القيامة» (¬3). وقراءة القرآن قراءة متدبرةً تخشع لها القلوب، وتلين لها الجلود وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ ¬

(¬1) وعلى من يجدون قسوة في قلوبهم أن يستعينواالله بفعلها. (¬2) رواه أحمد، وقال الهيثمي ورجاله رجال الصحيح (مجمع الزوائد 8/ 163). (¬3) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (المستدرك 4/ 330).

جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (¬1). ومن دواعي البكاء والخشية لله استشعار العبدِ مِنَّةَ اللهِ عليه لخير أصابه، فشكر الله عليه ولم يتمالك عينيه من البكاء، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبي بن كعب: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن»، قال أبى: آللهُ سماني لك؟ قال: «الله سمَّاك» فجعل أُبي يبكي. وفي رواية للبخاري أيضًا: قال أبي: آلله سماني لك؟ قال: نعم قال: وذكرت عند رب العالمين؟ قال: «نعم»، فذرفت عيناه ... (¬2). ومما يرقق القلب ويُبعد وحشته ويخفف قسوته مجالسةُ العلماء ومصاحبةُ الأخيار، فهؤلاء يذكرون الآخرة، قال الحسنُ البصريُ يرحمه الله: إخوانُنا أغلى عندنا من أهلينا، فأهلونا يذكروننا الدنيا، وإخواننا يذكروننا بالآخرة» (¬3). ومما يرقق القلب تعاهُده بالإيمان إذا ضعف، والمبادرةُ إلى عمل الحسنة بعد السيئة حتى تمحو أثرها، وقد ورد ما يفيد تقلب القلب وأن الله يقلبه كيف شاء، وورد أيضًا في حديث صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مشبهًا للقلب بضوء القمر: «ما من القلوب قلبٌ إلا وله سحابةٌ كسحابةِ القمر، بينا القمرُ مضيء إذ علته سحابة فأظلم، إذ تجلت عنه فأضاء» (¬4). وإذا كان هذا شأن القمر، فقلبُ المؤمن تعتريه أحيانًا سحابٌ مظلمة من ¬

(¬1) سورة الزمر، آية: 23. (¬2) الحديث متفق على صحته في كتاب التفسير (لمن يكن) ومناقب الأنصار (مناقب أبي) ومسلم: كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب قراءة القرآن على أهل الفضل .. ). (¬3) المنجد، ظاهرة ضعف الإيمان ص 24. (¬4) رواه أبو نعيم وهو في السلسلة الصحيحة 2268، ظاهرة ضعف الإيمان ص 32.

المعصية فيحجب نورَه، فيبقى صاحبُه في ظلمة ووحشة، فإذا سعى لزيادة إيمانه واستعان بالله في عمل الصالحات انقشعت تلك السحب وعاد نورُ قلبه يضيء كما كان. ولهذا قال بعض السلف: من فقه العبدِ أن يتعاهدَ إيمانَه، وما ينقص منه، ومن فقه العبد أن يعلمَ أيزدادُ إيمانُه أو ينقص؟ وإذن من فقه الرجل أن يبلغ نزغات الشيطانُ أنى تأتيه؟ (¬1). أيها المسلمون مستحيل أن يسلمَ العبدُ من الذنوبِ والأخطاء، ولو شاءَ اللهُ ذلك لجعلَ في الأرضِ ملائكة مقربين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، بل اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الخليفة في الأرض بشرًا يحقق العبودية لله في أرضه، يذنبُ فيستغفر ويخطئ فيتوب، ويذكر الله إذا نسي، ولقد نسي أبو البشر آدم ما عهد إليه ربه، وأزله وزوجه الشيطان فأخرجهما مما كانا فيه، وأهبط إلى الأرض فكانت مستقرًا لهما ولذريتهما، واستمر الشيطان يوسوس لهم ويزين، ولم تقتصر وسوسةُ الشيطان على الفجار والمجرمين بل شملت المتقين، ولكن ميزة هؤلاء أنهم يتذكرون ويستغفرون فيبصرون {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (¬2). وهذا يعني أن الإنسان لا يمكن أن يستمر طيلة حياتهِ على الرقةِ والخشوع والبكاء إذ هو إنس مفتونٌ مُبتلى في هذه الحياة، وحسبُه أن يجاهد نفسه على الثبات على دين الله، وتجديد التوبة وكثرة الاستغفار، وألا يصحو على كبيرةٍ ولا يستخف بصغيرة، وعليه أن يتذكر إذا ذُكر. ¬

(¬1) شرح نونية ابن القيم لابن عيسى 2/ 140، ظاهرة ضعف الإيمان ص 33. (¬2) سورة الأعراف، 201.

يقول عليه الصلاة والسلام: «ما من عبدٍ مؤمن إلا وله ذنوب يعتاده الفينة بعد الفينة أو ذنبٌ هو مقيمٌ عليه لا يفارقُه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمنَ خُلق مُفتنًا، توابًا، نسيًا، إذا ذكِّر ذكر» (¬1). يُقال هذا حتى لا ييأسَ قساةُ القلوب من رقتها إذا تعاهدوا أنفسهم، وجاهدوا أهواءهم وشياطينَ الجنِّ، وإخوانهم الذين يمدونهم في الغيِّ ثم لا يقصرون، وحتى لا يقنط المسرفون على أنفسهم بالمعاصي من رحمة الله، فالله يغفر الذنوب جميعًا لمن تاب إليه واسترجع، ويقال ذلك حتى لا يداخل نفوسً الخيرين العجبُ بأعمالهم، ولذا قال ابن القيم رحمه الله: «فلولا تقديرُ الذنبِ هلك ابنُ آدم من العجب» وقال ابن الجوزي: «إن النفس لو دامت لها اليقظة لوقعت فما هو شرٌّ من فوتِ ما فاتها وهو العجبُ بحالها والاحتقار لجنسها .. ». عباد الله إن تغييب الخاتمة عن الإنسان سرٌّ عجيب، وفيه حكمة بالغة وتدبير لطيف لأنه لو علم وكان ناجيًا أُعجب وكسل، وإن كان هالكًا ازداد عتوًا فحُجِب عنه» (¬2). عبادَ الله وإذا كان الفرق كبيرًا بين أهل اليقظة وأهل الغفلة فأهلُ اليقظة أنفسهم متفاوتون في سيرهم إلى الله، يقول الشيخ السعدنيُّ يرحمه الله: «سبحان من فاوت بين أهل اليقظة في قوة السير وضعفه، وفي استغراقِ جميعِ الأوقاتِ في العبادة وعدمِه، منهم من يكون سيرُه مستقيمًا في ليله ونهاره، ومع ذلك يتخيرُ من الأعمال أفضلها وأكملها، ولا ينزل من فاضلها إلى مفضولها إلا لمصلحة تقترن بالمفضول توجبُ أن يساويَ العملَ الفاضلَ، ويزيدَ عليه وقد ¬

(¬1) رواه الطبراني عن ابن عباس، وهو في صحيح الجامع 5/ 172. (¬2) معالم في السلوك ص 100، عن السلوم: إذاصح الإيمان ص 103.

يكون المباحُ في حقِّ هذا عبادةً لكمال إخلاصه، ونيتُه بذلك المباحِ أن يُجمَّ به نفسه ويتقوى به على الخير، فتراه ينتقل في مقامات العبودية في كل وقت بما يناسبه ويليق به، لا فرق عنده بين العبادة المتعلقة بحقوق الله المحضة، وبين العبادة المتعلقةِ بحقوق الخلق على اختلاف مراتبهم وأحوالهم .. » (¬1). هذا فضل من الله يؤتيه من يشاء .. اللهم لا تحرمنا فضلك، واسلك بنا سبيلك، وأعنا على أنفسنا ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. هذا وصلوا ... ¬

(¬1) الفتاوى السعدية ص 49 - 51.

بين الآباء والأبناء

بين الآباء والأبناء (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬3). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬4). أيها المسلمون الذرية في شريعة الإسلام نعمةٌ وهبة، وزينةٌ ومفخرة، وفي الوقت نفسه هم فتنةٌ وعدوٌ، وهم مجبنةٌ مبخلة. {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (¬5). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 5/ 8/ 1418 هـ. (¬2) سورة النساء، آية: 1. (¬3) سورة آل عمران، آية: 102. (¬4) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71. (¬5) سورة الشووى الآيتان: 49، 50.

{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬1). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (¬2). وما فتئ الصالحون يدعون لأبنائهم ويرفعون أكف الضراعة لهدايتهم، ويبذلون ما في وسعهم لاستقامتهم كيف لا؟ وهم زينتُهم وقرةُ عيونهم ما داموا أحياء والوارثون لهم والداعون لهم إذا كانوا أجداثًا رممًا {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} (¬3). كذا قال أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام وقال زكريا عليه السلام: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (¬4). ويصدق الداعون ويستجيب الله الدعاء، والدعوة ذات هدف ومعنى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ ¬

(¬1) سورة الكهف، آية: 46. (¬2) سورة التغابن، الآيتان: 14، 15. (¬3) سورة إبراهيم الآيات: 37 - 40. (¬4) سورة مريم، الآيتان: 5، 6.

وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} (¬1). {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (¬2). {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} الآية (¬3). لذا تتجه أنظار الأنبياء بالدعوات الصادقة للأبناء وهدفُهم من الذرية تحقيق العبودية لله، يقيمون الصلاة، ويشكرون أنعم الله، فليست دعواتهم لذرية مطلقة كلا بل مقيدة بالصلاح «ذريةً طيبة»، ومن أولياء الله «فهب لي من لدنك وليا». أوابين له {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (¬4). ويستمر الآباء في الدعوة والدعاء للأبناء وإن أحسوا منهم جنوحًا عن سبيل الهدى، وانحيازًا عن ركب المؤمنين ولكن الهداية بيد الله وحده لا يملكها الأنبياء المرسلون، ولا الملائكة المقربون. {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} (¬5). وحين ألح نوحٌ في الدعاء ونادى ربه فقال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}. قال الله له: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيتان: 38، 39. (¬2) سورة ص، آية: 30. (¬3) سورة النمل، آية: 16. (¬4) سورة ص، آية: 30. (¬5) سورة هود، الآيتان: 42، 43.

أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (¬1). ترى هل يتخذ الآباء من سلوك الأنبياء منهجًا وقدوةً؟ إخوة الإيمان .. من الأبوة إلى البنوة لنقف على نماذجَ عالية في الدعوة والطاعة والرضا والتسليم طاعةً للوالدين وإحسانًا إليهما .. وتأملوا هذا الأدب الرفيعَ والحوار المعبر والدعوة الحانية للخير بلطف في العبارة ولهف للاستجابة: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (¬2). وإذا كان هذا خطاب الابن المسلم لأبيه الكافر فماذا ينبغي أن يكون خطاب الابن المسلم لأبويه المسلمين؟ والبر لا يبلى، فقد وهب الله إبراهيم عليه السلام ذرية صالحة وجعل فيهم النبوة والكتاب، وحين امتُحن أحدُهم، وكان البلاء المبين وَفَى الابنُ لأبيه، واستسلم الأبُ والابنُ لأمر الله طائعين، {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءِ الْمُبِينُ} (¬3). أجل لقد بقيت كلمات إسماعيل- عليه السلام- برهانًا للصدق والوفاء والطاعة والاستسلام بوعي، والصبر عن يقين ورضا .. ، وما من شكٍّ أن الموقف حَرجٌ، وأن المطلوب صعبٌ .. لكنه برُّ الأبناء .. والوفاء للآباء {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ¬

(¬1) سورة هود، الآيتان: 45، 46. (¬2) سورة مريم، الآيات: 41 - 45. (¬3) سورة الصافات، الآيات: 103، 106.

قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (¬1). ويظل يوسف عليه السلام يذكر آباءه بخير وهو في غياهب السجن: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} (¬2). ولا ينسيه المُلك أو يطغيه الجاهُ والسلطان عن طلب والديه وأهله وحين دخلوا عليه مصر {آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} (¬3). أيها الأبناء تأدبوا غاية الأدب جمع والديكم وقولوا لهما قولًا كريمًا، وقدوهما حقَّ قدرهما. أورد النوويُ يرحمه الله في كتاب (الأذكار) في باب نهي الولد والمتعلمِ والتلميذ أن يُنادي أباه ومعلمه وشيخه باسمه فقال: روينا في كتاب ابن السُّني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا معه غلام، فقال للغلام: «من هذا؟ » قال: أبي، قال: «فلا تمش أمامه، ولا تَسْتَسِتَّ له، ولا تجلس قبله، ولا تدعُه باسمه»، قلت (النووي): معنى لا تستسب له: أي لا تفعل فعلًا يتعرضُ فيه لأن يَسبَّك أبوك زجرًا لك وتأديبًا على فعلك القبيح. أيها الآباء أدبوا أولادكم بآداب الإسلام واسألوا الله لهم الهداية والصلاح فالله هو الهادي والمصلح. ¬

(¬1) سورة الصافات، آية: 102 (¬2) سورة يوسف، آية: 38. (¬3) سورة يوسف، الآيتان: 99، 100.

روى البخاري في الأدب المفرد عن الوليدِ بن نمير بن أوس أنه سمع أباه يقول «كانوا يقولون: الصلاحُ من الله والأدبُ من الآباء» (¬1). أعوذ بالله من الشيطان: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}. ¬

(¬1) بناء شخصية الطفل المسلم، محمد عثمان جمال ص 85، 86.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولى الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. أيها المسلمون: من مقامات الأنبياء إلى وصايا الحكماء يقص القرآنُ علينا نموذجًا لتربية الآباء ووصاياهم للأبناء، وفضلُ الله يؤتيه من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، ولو كان الحكيمُ عبدًا حبشيًا، قصيرًا، أفطسَ الأنف، ذا مشافر عظيم الشفتين، مشقق الرجلين. وكذا كان لقمانُ الحكيم .. ولكن الله رفع ذكرَه بالإيمان والتقى والصدق واليقين، فقد كان عبدًا صالحًا وآتاه الحكمة ولم يكن نبيًا (¬1). وبدت حكمتُه لسيده حين أمره قائلًا: اذبح لي شاةً وائتني بأطيبها مُضغتين، فأتاه باللسان والقلب، فقال له: ما كان فيها شيء أطيب من هذين؟ فسكت، ثم أمره بذبح شاة أخرى ثم قال له: ألق أخبث مضغتين فيها، فألقى اللسانَ والقلب، فقال له: أمرتُكَ أن تأتيني بأطيب مضغتين فأتيتني باللسان والقلب وأمرتك أن تُلقىَ أخبثَها فألقيت اللسانَ والقلب؟ قال لقمان: إنه ليس شيء أطيبَ منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثَا (¬2). إخوة الإيمان كم يمرُّ بنا ذكرُ لقمانَ ووصاياه العظام فلا تلفت أنظارنا كثيرًا، وربما لم تحرك عند البعض منا ساكنًا، وفي وصايا لقمانَ لابِنه وهو يعظه دروسٌ ¬

(¬1) تفسير القرطبي 4 - 9/ 59، ابن كثير 3/ 731. (¬2) تفسير القرطبي 14/ 61.

للآباء والأبناء، وفي مواعظِه ما يحيي به اللهُ القلوبَ الغافلة ذكرانًا كانوا أم إناثًا أن أولَ ما تتجه له عاطفةُ الأب الناصح لابنه أن يدعو بعبادة الله وحده ولا يشرك به شيئًا: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬1). فالعبوديةُ لله وحده هدفُ الوجود .. وهي أساسُ دعوة الرسل، والشرك محبطٌ للأعمال موجب للخسران {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} (¬2). ولئن قيل إن ابن لقمان، وامرأته كانا كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما (¬3). فحري بالآباء أن يُحذِّروا الأبناء من طرائق الشرك ووسائله وإن كانوا في الأصل مسلمين، وكذلك نزل القرآنُ محذرًا المؤمنين عن الشرك بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (¬4). قد شقت هذه الآيةُ على الصحابة حين نزلت، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: وأينا لا يظلم نفسَه، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬5). ويلفت لقمانُ نظرَ ابنه إلي عظيم قدرةِ الله فالحبةُ وإن كان قدرها صغيرًا، والحسُّ لا يدرك لها ثقلًا، ولا تُرجِّح ميزانًا لخردلة، فالله يعلم وجودها، ولو كانت محصنة محجبة داخل صخرة صماء، أو غائبة ذاهبة في أرجاء السموات والأرض فإن الله يأتي بها فلا ¬

(¬1) سورة لقمان، 13. (¬2) سورة الزمر، الآيتان: 65، 66. (¬3) ذكره القشيري، تفسير القرطبي 14/ 62. (¬4) سورة الأنعام، آية: 82. (¬5) الحديث رواه مسلم.

تخفى عليه خافية {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (¬1). قيل أن لقمان هنا وعظ ابنه ألا يشغله الرزقُ عن أداء فرائض الله فلو كان رزقُ الإنسانِ مثقالَ حبةِ خردلِ في هذه المواضع جاء بها الله حتى يسوقها إلى من هي رزقُه. وقيل المعنى تخويفٌ عن اقترافِ المعاصي وتنبيهٌ لرقابة الله ولو ظن العاصي أنه لا يُرى. فقد روي أن ابن لقمان قال لأبيه: يا أبتِ إن عملتُ الخطيئةَ حيث لا يرانا أحدٌ كيف يعلمها الله؟ فقال له لقمان: يا بُني إنها إن تك مثقال حبةٍ من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأتي بها الله .. فما زال ابنه يضطربُ حتى مات ذكره مقاتل، ونقله القرطبي (¬2). أيها المسلمون لا يزال لقمانُ يوصي ابنه، وينقله من موعظةٍ إلى أخرى .. وتحتاجُ بقيةُ الوصايا إلى خطبة أخرى ولكني أقفُ في النهاية مستخلصًا أعظمَ ما ينبغي أن يمنحه الآباءُ للأبناء، ومن الاستعراض الموجزِ لسلوكيات الأنبياءِ أو الحكماء نعلم حاجة الآباء إلى تخصيص أبنائهم بالدعوة والدعاء، وأن يمنحوهم الأدب، ويمحضوهم النصحَ، ويخصوهم بالوصايا والعظاتِ النافعة، «فما نحل والدٌ ولدًا من نحلٍ أفضل من أدبٍ حسن» (¬3). وعلى الأبناء أن يخلصوا الطاعة لله، وأن يكونوا مثالًا للطاعة بالمعروف ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 3/ 735. (¬2) تفسير القرطبي 14/ 67. (¬3) رواه الترمذي.

والبرِّ والإحسان إلى والديهم، والشكر لهم، كيف لا، وقد قرنَ شكرُ الله بشكرهما «أن اشكر لي ولوالديك» قيل: الشكرُ للهِ على نعمةِ الإيمانَ وللوالدين على نعمة التربية، وقال سفيانُ بنُ عيينة: «من صلى الصلوات الخمسَ فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما» (¬1). ما أحوجَ الأبناءَ للقول الكريم للآباء والله يقول: «وقل لهما قولًا كريمًا». أورد القرطبي في أدب الخطاب مع الوالدين عن أبي البَدَّاح التُجيبي قال: قلت لسعيد بن المسبب: كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفتُه إلا قوله: «وقل لهما قولًا كريمًا» ما هذا القولُ الكريم؟ قال ابن المسيب: قولُ العبدِ المذنب للسيد الفظِّ الغليظ» (¬2). اللهم وفق الآباء وأصلح الأبناء، واجعلنا جميعًا ممن ينتفع بمواعظ القرآن وطرائق الأنبياء ووصايا الحكماء. ¬

(¬1) تفسير القرطبي 14/ 65. (¬2) تفسير القرطبي 10/ 243، وانظر: محمد جمال، بناء شخصية الطفل ص 84.

دروس من جلاء بني قينقاع

دروس من جلاء بني قينقاع (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬3). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬4). أيها المسلمون لابد بين الفينة والأخرى من إطلالة على سيرةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم، تُنير الطريقَ للسالكين وتكشف حقائقَ الأعداءِ والأصدقاء للناس أجمعين فسيرةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهديُه فصلٌ عند التنازع والاختلاف. {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (¬5). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 19/ 8/ 1418 هـ. (¬2) سورة آل عمران، آية: 102. (¬3) سورة التوبة، آية: 119. (¬4) سورة المائدة، آية: 35. (¬5) سورة النساء، آية: 59.

وبسنتِه يتعَبد المسلمون الذين يرجون الله واليوم الآخر. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (¬1). وليس يخفى أن حياته صلى الله عليه وسلم كلَّها جهادٌ ونصيحة وصبرٌ ومصابرة حتى أظهر الله الدينَ ونصر المسلمين ولئن طارده قومُه في مكة وآذوه وأصحابه حتى فروا بدينهم مهاجرين إلى المدينة .. فلم تكن الحياةُ بالمدينة صفوًا من المكدرات، أو نوعًا من حياةِ الدعةِ والكسلِ والبعدِ عن المنغصات. لقد ابتدأت بالمدينة مرحلةُ الجهادِ في سبيل الله إعلاءً لكلمةِ الله - وتكاثرت الخصومُ، بين يهودٍ حاسدين شامتين ومنافقين متربصين مرجفين، وفي أطراف المدينة أعرابٌ مشركون يتطلعون إلى ثمار المدينة وخيراتها بشراهة ومن وراء هؤلاء وأولئك الخصومُ الأولون كفارُ قريش يؤلبون ويُحرضون ويدعمون بأموالهم، ويدفعون بأبنائهم لخوضِ المعارك حتى لا تقومَ للدين قائمة ويأبى اللهُ إلا أن يتمَّ نورَه ولو كره الكافرون. دعونا- معاشر المسلمين- نقف على خصمٍ من هذه الخصوم في المدينة .. كان له أثره في إنشاءِ ورعايةِ خصوم آخرين إنهم اليهود، ومن اليهود سأقصر الحديث على (يهود بني قينقاع) وفي أحداثهم ومواقفهم عبرةٌ لمن تأمل. أيها المؤمنون وليس يخفى أن اليهود بشكل عامٍ كان لهم وجودٌ مؤثرٌ في المدينة، وإن لم يكونوا أكثريةً فيها، فبأيديهم المال، ولديهم قدرةٌ خبيثةٌ على إذكاء الحروب بين الأوس والخزرج، وهم أهلُ علمٍ وكتاب، ومن حولهم جهلةٌ لا يدرون ما الكتابُ ولا الإيمان. ¬

(¬1) سورة الأحزاب، آية: 21.

ولذا استطاعوا أن يُدخلوا في دينهم بعضَ أهل المدينة فكان في المدينة يهودُ أصلاءِ، ومتهودون متأثرون بهم (كيهود بني عوف مثلًا) بل بلغت فتنةُ اليهودِ بالمدينة أن المرأةَ من نساءِ الأنصار تكون مقلاةً - أي لا يعيش لها ولد- فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تُهوِّدَه، فلما أُجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندعُ أبناءَنا فأنزل الله {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (¬1). ولأهميةِ وجودِ اليهودِ في المدينة عاهدهم الرسول صلى الله عليه وسلم حين عاهدَ أهلَ المدينة- وتضمنت بنود المعاهدة ما يكفلُ حقوقهم ويمنع شرورهم، ويهيء الفرصة للنبي صلى الله عليه وسلم لكي يسلمَ من أذاهم ويتفرغَ وصحبُه لجهادِ غيرهم ونشر الدين الحقِّ في المدينة وخارجها، حتى إذا انتشر الدين وكثر الداخلون فيه قلَّ أثرُهم وأمكن القضاءُ عليهم، أو جلاؤهم. عباد الله لقد كان اليهودُ شوكة في حلوق المؤمنين قبلَ المعاهدةِ وبعدَها، وفي أولِ مقدمه المدينة، وبعد أن استقرَّ فيها. أخرج أبو داود وغيرهُ بسند صححه ابنُ حجر قال كعبُ بن مالك الأنصاري رضي الله عنه «كان المشركون واليهودُ من أهلِ المدينة حين قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابَه أشدَّ الأذى، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على ذلك والعفو عنهم، وفيهم أُنزلت الآية: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} (¬2). ثم كتبت وثيقة المعاهدة مع اليهود، وتضمنت فيما تضمنت «أن بينهم النصر ¬

(¬1) أخرجه أبو داود في سننه وغيره بسند صحيح 3/ 132، د. العمري: السيرة النبوية الصحيحة 1/ 290. (¬2) سورة البقرة، آية: 109، سنن أبي داود 3/ 401، أسباب النزول للواحدي ص 129، العمري 1/ 289.

على من حارب أهلَ هذه الصحيفة، والنصحَ والبر دون الأثمن .. بل تضمنت بنودُ الوثيقةِ أن اليهودَ ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين (بنود 24، 27) إلى آخر بنود الوثيقة فهل التزم اليهود بالمعاهدة، والرسول صلى الله عليه وسلم هو المعاهد؟ لقد كان يهودُ بني قينقاع أولَ يهودٍ نقضوا العهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم وَنقضِهم للعهدِ جاء بطريقة خسيسةٍ لئيمة، وأيًا ما كان أحدُ السببين أقوى سندًا من الآخر، ففي كليهما تتكشف أخلاقُ اليهودِ وحقدُهم على المسلمين. أما السببُ الأضعفُ سندًا -وإن كان مشهورًا، فيشير إلى أن امرأةً مسلمة قدِمت بجلبٍ لها فباعتهُ بسوقِ بني قينقاع، وجلست إلى صائغ فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغُ إلى طرفِ ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتُها فضحكوا بها، فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهوديًا، فشدَّت اليهود على المسلم فقتلوه فاستصرخ أهلُ المسلم المسلمين على اليهود فغضب المسلمون فوقع الشرُّ بينهم وبين بني قينقاع (¬1). أما السببُ الآخرُ -في جلاء بني قينقاع- فقد رواه ابنُ إسحاق بسند حسنه ابنُ حجر، وهو يكشف عن غرورِ اليهود وعجبهم بأنفُسهم واحتقار غيرهم وإن لم يكن لذلك أثرٌ ورصيدٌ على صعيد الواقع، ويكشف كذلك عن حسدِ اليهود لأي نعمةِ تنزل بالمسلمين، فقد ذكرت كتبُ السير- في هذا السبب- أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين انتصر على المشركين في معركة بدر، رأى أن يجمع بني قينقاع ¬

(¬1) السيرة لابن هشام 2/ 427، وانظر: من معين السيرة للشامي ص 223، وقد نقل ضعفها، والعمري في السيرة 1/ 300 كذلك، ومهدي ص 370.

وينصحَهم ويذكرهم العَهد ويخوفهم الغدرَ ولعله سمع شيئًا من ذلك عنهم، فاجتمع بهم في سوقهم وقال: «يا معشر يهود احذروا من اللهِ مثل ما نزل بقريشٍ من النقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبيٌّ مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهدِ الله إليكم»، قالوا: يا محمد: إنك ترى أنَّا قومك؟ لا يغرنَّك أنك لقيتَ قومًا؛ لا علم لهم بالحربِ فأصبتَ منهم فرصةً إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس، ونزل فيهم قولهُ تعالى: «قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا .. » كما نُقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما (¬1). وليس يخفى ما في هذه الكلمات من تهديدٍ، وإظهار الروحِ العدائية للمسلمين، ونكوصٍ عن قبول الحق، واستهجانٍ بقوة المسلمين رغم انتصارهم فإذا أضيف إلى ذلك ما ورد في السبب الأول - إن صح- يتبين لنا نقضُ اليهودِ للعهودِ، وتحينُهم الفرصةَ للغدر بمن يعاهدون ولو كان المعاهدُ نبيًا مرسلًا .. ولو كان العهدُ بالنصر قريبًا فإذا كان هذا واقعهم مع من يعرفون نبوتَه كما يعرفون أبناءهم، وتلك حالُهم مع المسلمين في وقت عزِّهم واجتماع كلمتهم فكيف يكون حالُهم بعد وفاة الرسولِ صلى الله عليه وسلم وفي حالِ ضعف المسلمين وفرقتهم؟ إن الذين يعتقدون التزامًا صادقًا من اليهود بالعهود والمواثيق، أو ينشدون صلحًا آمنًا وسلامًا دائمًا من وراء معاهداتِ الإسلام معهم، إنما يجرون وراء السراب الخادع ويحرثون في البحر الهائج .. كيف لا وقد حكم ربُّنا وربُّهم عليهم بنقض العهود، وليس ذلك حكمًا لفئةٍ منهم بل أكثرهم لا يؤمنون، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}. ¬

(¬1) السيرة لابن هشام 2/ 426، 427، الفتح 7/ 332.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين كتب العزة والغلبة لأوليائه الصادقين وجعل الذلَّ والصغارَ للكافرين والمنافقين وما ربُّك بظلام للعبيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يمتحن الناس في إيمانهم ويبلو صبَرهم، وحقٌّ عليه نصرُ المؤمنين، ويجعل العاقبَّة للمتقين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله جاهد في الله حق جهاده، وفي سيرته وسنته عبرٌ للناظرين .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر أنبياء الله والمرسلين ومن تبعهم إلى يوم الدين. إخوة الإسلام إذا كان الدرسُ الأولُ في حادثةِ بني قينقاع يكشف عن طبيعة نفسيات اليهود، وتلبُسِهم بالغدر والخيانة وانطواء نفوسهم على الحسدِ والبغضاء والاحتقار للآخرين. فالدرسُ الثاني يكشف عن حلفائهم وإخوانهم من المنافقين الذين نشأوا على أيديهم، واستمر ودُّهم فيهم، وإن أظهروا للمسلمين المودة وحسبوا عليهم. أخرج ابنُ إسحاق -بسند صحيح- أن بني قينقاع كانوا أولَ يهود نقضوا ما بينهم وبين رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين بدر وأحد، فحاصرهم رسوله الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه فقام عبدُ الله بنُ أبي ابنِ سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمكنه اللهُ منهم، فقالَ: يا محمد: أحسن في مواليَّ، فأعرضَ عنه، فأدخلَ يدَه في جيبِ درعِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلني، وغضب حتى رؤي وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ظلال، فقال له: ويحك أرسلني، فقال: والله لا أرسلك حتى تُحسنَ في موالي أربعمائةِ حاسرٍ، وثلاثمائة دارع منعوني من الأحمرِ

والأسود تحصدهم في غداة واحدة، أي والله، إني لامرؤ أخشى الدوائر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هم لك» (¬1). إنه الدفع المستميتُ عن اليهود يصنعه المنافقون، ولو غضب لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحرصُ الشديدُ على سلامتهم ولو كان في بقائهم شرٌ وبلاءٌ مستطير، والمنافقون لا يثقون بقوتهم الخاصة، ولا يثقون إلا باليهود تحسبًا لوقوع الدوائر .. ولئن عفى رسولُ الهدى عليه الصلاة والسلام عن ابن أبي، وتكرم بترك قتلهم استجابةً لمطلب هذا المنافق اللئيم .. فقد تولى اللهُ كشف الحقائق، واقتضت حكمته أن يكشف عن العلاقة بين اليهود والمنافقين في كل زمان ومكان، ونزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (¬2). أجل لقد تتابعت آياتُ القرآنِ الكريم تكشف ما بين اليهود والمنافقين من ودٍّ وتعاون، وإخاءٍ نصَّ الله عليه بقوله: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} (¬3). ويأبى الله إلا أن تتكشف حقيقةُ النفاق، وينفضحَ المنافقون إثر علاقاتهم المريبة مع اليهود على مرِّ العصور واختلاف الزمانِ والمكان. ¬

(¬1) السيرة لابن هشام، صحيح السيرة النبوية؛ إبراهيم العلي ص 198. (¬2) سورة المائدة، الآيتان: 51، 52. (¬3) سورة الحشر، آية: 11.

وإذا حكم اللهُ بالأخوة بين المنافقين واليهود فلا مزيد على هذا الوصف والبيان. أيها المسلمون .. أما الدرسُ الثالثُ من حادثةِ يهود بني قينقاع فهو درس في الإيمان، اختص اللهُ به أهلَ الإيمان الذين يوالون في الله ويعادون في الله، ويحبون للهِ ويبغضون للهِ وتلك أوثق عرى الإيمان .. ويمثل هذا الموقف الإيماني عبادةُ بن الصامت رضي الله عنه، وتأملوا الفرق بين موقفه مع اليهود الناكثين، وبين موقف عبد الله بن أبي رأسِ المنافقين. فقد أخرج ابنُ إسحاق في السيرة- بسند صحيح- قال: لما حاربت بنو قينقاع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم عبدُ الله بنُ أبي، وقام دونهم، فمشى عبادةُ بنُ الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحدَ بني عوف بنِ الخزرج لهم من حلفهم مثل الذي لهم من حلف عبدِ الله بنِ أبي، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم فقال: يا رسول الله: أتبرأُ إلى اللهِ وإلى رسولهِ من حلفهم وأتولى اللهَ ورسولَه والمؤمنين وأبرأ من حلف الكفارِ وولايتهم، ويقال فيه نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (¬1) وهكذا يتضح الفرق بين المنافقين والمؤمنين في الولاء أو البراء من الكافرين .. والمسافة لا شك هائلةٌ بين منافق يُغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الدفاع عن اليهود والصدِّ عن قتلهم .. وبين مؤمن يتولى أمر جلائهم، فقد كان ذلك لعبادةِ بن الصامت رضي الله عنه منقبةً، ولابد أبي فضيحةً وخزيًا إلى يقيم الدين. ألا ما أحوج الأمة إلى رجالٍ كعبادةِ بن ¬

(¬1) سورة المائدة، الآيتان: 55، 56.

الصامت يقدمون الولاء لله ولرسولهِ وللمؤمنين على كلِّ ولاء، ولا تقعد بهم مصالحهم الشخصية دون مصلحةِ الأمةِ وعقيدتها .. تلك تربيةُ محمد صلى الله عليه وسلم وأولئك أفراخ اليهود وربائبهم. وفرق بين الثرى والثريا. وهكذا تظل سيرةُ محمد صلى الله عليه وسلم بأحداثِها ودروسها معلمًا هاديًا ودرسًا بليغًا، وَعَتْه الأجيال المسلمة فيما مضى، وينبغي أن تعيَه في زماننا .. وهنا يردُ السؤالُ المهم: إلى متى سيظل المسلمون غافلين عن هدي السيرةِ النبوية؟ وإلى متى سيبقون يتمرغون في أوحال الذلِّ والهزيمة، ويتجرعون كؤوس الفرقة والشتات يرجون اليهودَ تارةً، ويتسيدون النصارى تارة ويقود ركابَهم المنافقون تارة .. ويستثمر اليهود والنصارى هذه الأوضاع المأساوية، فيستحلون المقدسات، ويزيدون في بناء المستوطنات ويُستذل المسلمون، وتستباح المحرمات، ويستحوذ على المقدرات. الجواب باختصار كامن في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.

الأيام الفاضلة والأضاحي

الأيام الفاضلة والأضاحي (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين .. اتقوا الله عباد الله وعظموا شعائر الله، ومن يعظم شعائرَ اللهِ فإنها من تقوى القلوب. أيها المسلمُ اعمل لدنياك بقدر بقائك فيها، واعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها، وإياك والتسويف فالموتُ أمامك والمرضُ يطرُقك والأشغال تتابعك، وحوادثُ الزمان ستفاجئك، والخلاصُ بأمان من ذلِك كلِه أن تستعين بالله، وتبادر إلى عمل الصالحات وتثمِّنَ الأيامَ الفاضلات، وليس يخفاك فضلُ عشرِ ذي الحجة التي أنصرم شطرُها، وشطرُها الآخر يسير على عجل لا ينتظر الغافلين حتى يتذكروا ولا الغارقين في سبات نوم عميق حتى يستيقظوا. أيها المترددُ في الذهاب للحج وليس ثمة ما يمنعك من مرض أو حاجة .. استعن بالله واعقد العزم فلا يزال في الأمر فرصة، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة. إلا أيها المتقاعسُ عن المسارعة للخيرات في هذه الأيام الفاضلة استدرك ما فاتك، والحق من سبقك، واعمل صالحًا لنفسك، فلا يزال في الأيام فرصةٌ لمن تحركت فيه هممُ الشوقِ إلى الجنان .. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 6/ 12/ 1418 هـ.

ألا أيها الراغب في الأضحية يمكنك أن تنوي ذلك وإن لم تعقد العزمَ عليه قبل ذلك، وإذا نويت فأمسك عن الأخذ من شعرِك وبشرتك، ولا إثم عليكم فيما أخذته قبل النية، أما من نوى قبلُ فعليه الإمساكُ عن ذلك من حين دخول العشر (¬1). أيها المسلم وإن فاتك الصومُ في هذه الأيام أو بعضها فاحرص ألا يفوتك صيامُ يوم عرفة ففيه من الفضل تكفيرُ ستين (سنةً قبله وسنةً بعده) كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح. تعرض لنفحات الله في هذا اليوم، فلله في يوم عرفة عتقاءُ من النار، روى مسلمٌ في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثرُ من أن يُعتقَ اللهُ فيه عبدًا من النار من يوم عرفة». فاحرص على صيام هذا اليوم، واحرص على الابتهال إلى الله بالدعاء، والذكرِ وتلاوة القرآن، ويوم عرفة لا يتكرر في السنة إلا مرة. أيها المسلم .. ويوم النحر يوم عظيم من أيام الله، ويغفل عن ذلك اليومِ وجلالةِ شأنِه كثيرٌ من المسلمين، مع أن بعضَ العلماء يراه أفضل أيامِ السنةِ على الإطلاق، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن أعظمَ الأيامِ عند الله يومُ النحر ثم يومُ القر» (¬2). ويوم القرِّ هو الحادي عشر وهو يومُ الاستقرار بمنى للحجاج فليحرص المسلمُ على إدراك فضلِ هذا اليومِ حاجًا كان أم مقيمًا، وعلى غير الحاج في هذا اليوم أن يغتسل ويتطيب ويذهبَ لصلاة العيد، ولا يتهاون في أدائها، فهي ¬

(¬1) ابن عثيمين: أحكام الأضحية. (¬2) رواه أبو داود بسند صحيح (صحيح الجامع الصغير رقم 1075).

سنةٌ مؤكدة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن العلماء المحققين من يراها واجبة، كشيخ الإسلام ابن تيمية، مستدلًا بقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وتشهد النساءُ صلاةَ العيد حتى الحُيَّض والعواتق، وتعتزل الحيض المصلى. ومن السُّنة ألا تأكل شيئًا قبل الذهاب لصلاة عيد الأضحى حتى تعود وتأكل من أضحيتك، فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يطعمُ حتى يرجع من المصلى فيأكل من أضحيته فليكن لك فيه أسوة. واحرص على التكبير في هذه الأيام وحتى عصرِ آخرِ أيام التشريق قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}. صلْ أقاربك وجيرانك وإخوانك في أيام العيد فهي من الأعمال الصالحة وهي سببٌ للألفة والمحبة، واعطف على المساكين، وتصدق على المحتاجين. يا أخا الإسلام أما الأضحية فأجرها عظيم، وهي سنة أبينا إبراهيم، ونبينا محمد عليهم الصلاة والسلام، ومشروعيتُها في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3)} (¬1). وقال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} (¬2). وروى البخاري ومسلم- رحمهما الله- في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين (¬3)، ذبحهما بيده وسمَّى وكبر (¬4). ¬

(¬1) سورة الكوثر. (¬2) سورة الحج، آية: 36. (¬3) والأملح ما يخالط بياضه سويد، والأقران: ماله قرن. (¬4) فقه السنة 3/ 318.

وفي فضلها ورد حديثٌ -وإن ضعفه بعض أهل العلم- قال عليه الصلاة والسلام: «ما عمل آدميٌّ من عمل يوم النحر أحبَّ إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامةِ بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقعُ من الله بمكانٍ قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسه» (¬1). أيها المضحي طِب نفسًا بأضحيتك، واختر من الأضاحي أحسنَها إن كنت قادرًا على ذلك، ولا تهدي إلى الله ما تستحي أن تهديه إلى نفسِك، وإليك وصية عروة بن الزبير لبنيه، فقد رَوى مالك في الموطأ- بسند صحيح- إلى عروة- يرحمه الله- أنه كان يقول لبنيه: يل بَنىَّ لا يُهدينَّ أحدُكم من البدنِ شيئًا يستحي أن يهديه لكريمه إن الله أكرم الكرماء، وأحقُّ من اختير له. (وكريمُ الرجل: من يَكْرُم عليه، ويَعزُّ عليه) (¬2). إخوة الإسلام: ومن فضل الله ورحمته ويسر الإسلام أن الأضحية الواحدة تجزئ عن الرجل وأهل بيته ويصل ثوابها الأموات والأحياء، إذا شملهم بها وإياكم والمباهاة بالأضاحي، أخرج مالكٌ والترمذي عن أبي أيوبٍ الأنصاري رضي الله عنه قال: ما كنا نضحي بالمدينة إلا بالشاة الواحدة، يذبحها الرجل عنه، وعن أهل بيته، ثم تباهى الناسُ بعدُ، فصارت مباهاة» (¬3). قال الترمذي: حسن صحيح والعملُ على هذا عند بعضِ أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق. أهـ، ونُقل أنه قولُ مالك والليث والأوزاعي وغيرِهم، أن الشاةَ الواحدة تجزئ عن أكثرِ من واحد (¬4). ¬

(¬1) رواه الترمذي وضعفه الألباني في ضعيف الجامع 5/ 103. (¬2) الموطا 1/ 380 في الحج وسنده صحيح كمافي جامع الأصول 3/ 329. (¬3) 3/ 322 (¬4) حسن صحيح، انظر: جامع الأصول 3/ 322.

بل إن من يُسر الإسلام أن من لم يجدِ الأضحية وهو راغبٌ فيها، فأجره على الله، وتأملوا هذا الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي - بسند صحيح- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت بيوم الأضحى عيدًا جعله اللهُ لهذه الأمة»، قال له رجلٌ: يا رسول الله: أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى (والمنيحة هنا: هي الناقةُ أو الشاةُ تُعارُ لينتفعَ بلبنها، وتُعادُ إلى صاحبها) أفأضحي بها قال صلى الله عليه وسلم: «لا، ولكن خُذ من شعركِ وأظفارك وتقصُّ شاربك، وتحلقُ عانتَك، فذلك تمامُ أضحيتك عند الله» (¬1). عباد الله وتنبهوا لوقتِ الذبح، وعليكم بسنةِ محمد صلى الله عليه وسلم في الصلاة ثم النحر، وهو القائل: «إن أولَ ما نبدأُ به في يومنا هذا: نُصلي ثم نرجعُ فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سُنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحمٌ قدمه لأهله، ليس من النُّسكِ في شيء» (¬2). قال بعض العلماء: «ويشترط في الأضحية ألا تذبح إلا بعد طلوع الشمس من يوم العيد، ويمر من الوقت قدر ما يصلى العيد ويصح ذبُحها بعد ذلك في أي يوم من الأيام الثلاثة في ليل أو نهار، ويخرج الوقتُ بانقضاء هذه الأيام» (¬3). أعوذ بالله من الشيطان {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (¬4). ¬

(¬1) جامع الأصول 3/ 318. (¬2) رواه البخاري ومسلم أو أحدهما (جامع الأصول 3/ 345، 346). (¬3) فقه السنة 3/ 322. (¬4) سورة الحج، الآيتان: 36، 37.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمامُ المتقين وسيدُ ولدِ آدم أجمعين .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين. معاشر المسلمين من السنةِ أن يذبح الإنسانُ أضحيته بنفسه رجلًا كان أو امرأة (¬1)، وتقول حال الذبح: بسم الله والله أكبر اللهم هذا عن فلان- ويسمي نفسه ومن أشركهم في أضحيته- فعل ذلك رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم. فإن كان لا يحسن الذبحَ فليشهده ويحضره- إن كان حاضرًا- أو ينيب عنه من يذبحها له أن كان مسافرًا. ومن السنة شحذُ المدية، وإرجاع الذبيحة على شقها الأيسر ويضع الذابحُ رجله اليمنى على عنقها، مستقبلًا بها القبلة ويسمي ويكبر، ويقوله: اللهم منك وإليك اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك، قال ابن تيميه يرحمه الله: ومن أضجعها على شقها الأيمن وجعل رجلَه اليسرى على عنقِها فهو جاهلٌ بالسنة، مُعذبٌ لنفسه وللحيوان (¬2). أما الإبلُ فالسُّنة نحرها قائمةً معقولةً يدُها اليسرى قائمةً على ما بقي من قوائمها، ومن أضضعها خالف السنة أخرج البخاريُ ومسلم وأبو داود عن زياد بين جبير قال: رأيت ابنَ عمر رضي الله عنهما أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها، فقال ابعثها قيامًا مقيدةً، فهذه سنة محمد صلى الله عليه وسلم (¬3). ¬

(¬1) جامع الأصول 3/ 356. (¬2) الفتاوي 26/ 309. (¬3) جامع الأصول 3/ 354.

ومن السنةِ كذلك أن يأكل منها ويهدي ويتصدق .. قال العلماء: ولا يجوز بيعُها ولا يبيعُ جلدها، ولا يعطى الجزارُ من لحمها شيئًا كأجرٍ، وله أن يكافئه نظير عمله (¬1). عباد الله تأكدوا- في ضحاياكم وهديكم- من السِّن المجزئ في الأضاحي والهدي .. ويجزئ من الإبلِ ماله خمسُ سنين، ومن البقر ماله سنتان، ومن المعز ماله سنة ومن الضأن ماله سنة أو ستةُ أشهر - على خلاف بين الأئمة- (¬2). واحذروا من العيوب المانعة من الإجزاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيِّنُ عورُها والمريضة بينٌ مرضُها، والعرجاءُ بين ضلعها، والكسيرة التي لا تُنقي» - وفي رواية: «العجفاء التي لا تُنقي» .. قال البراء- راوي الحديث- قلتُ: فإني أكرهُ أن يكون في السن أن نقص؟ قال: ما كرهتَ فدعه وإلا تُحرمه على أحد (¬3). ألحق أهلُ العلم بذلك: الغضباءُ التي ذهب أكثر أذنِها أو قرنها، والهَتماء التي ذهبت ثناياها من أصلها والعصماءُ وهي ما انكسر غلافُ قرنها، والعمياء، والتولاء- وهي التي تدور في المرعى ولا ترعى- والجرباءُ التي كثر جربها (¬4). عباد الله- كلوا واشكروا ربَّكم حيث أغناكم وهيأ لكم ما تذبحون وتأكلون وسخرها لكم واستحضروا تقوى الله فلن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم .. فإن فقه العبادات في الإسلام مطلبٌ وقليل من الناس من ¬

(¬1) فقه السنة 3/ 324. (¬2) فقه السنة 3/ 320. (¬3) رواه أبو داود والنسائي وسنده صحيح: جامع الأصول 3/ 333، 334. (¬4) فقه السنة 3/ 322.

يتفطن لذلك .. كما أن القليلَ من عباد الله الشكور. ومن شُكر الله ذكرُه في هذه الأيام الفاضلة وعدم التجاوز على حدود الله، فقد قال عليه الصلاة والسلام عن أيام التشويق: أيام أكلٍ وشربٍ وذكر لله وهنا فائدتان: الأولى كما قال ابنُ رجب رحمه الله: وفي هذا الحديث إشارةٌ إلى أن الأكل والشربَ في أيام العيد إنما يُستعان بها على ذكر الله وطاعته، وذلك من تمام شكر النعمة .. فمن استعان بنعم اللهِ على معاصريه فقد كفر نعمة الله، وبدلها كفرًا وهو جديرٌ أن يُسلبها كما قيل: إذا كانت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم وداوم عليها بشكر الإله فشكرُ الإله يزيل النقم (¬1) الفائدة الثانية: إنه لا يجوز التطوعُ بصيام أيام التشريق لأنها أعيادُ أهل الإسلام، كما ورد في الحديث: «يوم عرفة ويومُ النحرِ، وأيام التشريق عيدُنا أهل الإسلام» (¬2). اللهم هييء للمسلمين حجهم، وتقبل من الصائمين والمضحين والمتقربين إلى الله أعمالهم آمين. ¬

(¬1) اللطائف لابن رجب ص 332 عن الفوزان، مجالس عشر ذي الحجة. (¬2) الفوزان: مجالس عشر ذي الحجة ص 116، 117.

الأمل والأجل بين عامين

الأمل والأجل بين عامين (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله رب العالمين يكوِّرُ الليلَ على النهار، ويكور النهارَ على الليل، فالقُ الإصباح وجعل الليل سكنًا، والشمسَ والقمرَ حسبانًا ذلك تقديرُ العزيز العليم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُقدر الأعمارَ، ويعاقب الأيام، وبقدرته تتعاقب الأعوام، وتفنى أجيالٌ وتخلفها أجيالٌ أخرى وكلُّ من عليها فانٍ ويبقى وجهُ ربِّك ذو الجلال والإكرام. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله حل في هذه الدنيا ثم ارتحل، ولو قدر لأحدٍ الخلودُ فيها لكان المصطفى حيًا مخلدًا، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أما بعد فأوصي نفسي وإياكم معاشر المسلمين بتقوى الله ومراقبته، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ} (¬2). وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (¬3). واحذروا معاشر المسلمين أن تطغى مراقبتُكم لخلق الله على مراقبة الله فتكونوا ممن قال الله فيهم: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 27/ 12/ 1418 هـ. (¬2) سورة آل عمران، آية: 5. (¬3) سورة غافر، آية: 19. (¬4) سورة النساء، آية: 108.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬1). أيها المسلمون: حريٌّ بكم أن تقفوا مع أنفسكم محاسبين على الدوام، وأن يزيدَ في تذكركم ومحاسبتكم لأنفسكم انصرام عامٍ ومجيء عام. كم نلهوا ونغفل، وكم نعظم من أمر الدنيا ما هو أحقرُ وأذل، وكم نزهد في عمل الآخرة وهي أكرمُ وأبقى والباقيات الصالحات خير عند ربِّك ثوابًا وخيرٌ أملًا. عبادَ الله كتب الحسنُ البصريُّ يرحمه الله إلى عمرَ بن عبد العزيز يرحمه الله، يدعوه للتفكر، ويذكره بحقيقة الدنيا وحقارتها ويحذره من الاغترار بها، . ومما قاله: اعلم أن التفكرَ يدعو الخير والعمل به، والندمُ على الشر يدعو إلى تركه، وليس ما يفنى وإن كان كثيرًا يعدل ما يبقى وإن كان طلبهُ عزيزًا، واحتمال المؤُونةِ المنقطعةِ التي تعقبها الراحةُ الطويلةُ خيرٌ من تعجيلِ راحةٍ منقطعة تعقبها مؤونةُ باقيةٌ، فاحذر هذه الدار الصارعة الخادعة، التي غرت بغرورها، وقتلت أهلها بأملها .. إلى أن يقول: فاحذرها فإن أمانيها كاذبةٌ، وإن آمالها باطلة، عيشُها نكدٌ، وصفوها كدرٌ، وأنت منها على خطر، إما نعمةٌ زائلة، وإما بليةٌ نازلة. وإما مصيبةٌ موجعة، وإما منيةٌ قاضية .. فلو كان الخالقُ تعالى لم يخبرْ عنها بخبر، ولم يضربْ لها مثلًا، ولم يأمرْ فيها بزهد، لكانت الدارُ قد أيقظت النائمَ، ونبهت الغافلَ، فكيف وقد جاء من الله تعالى عنها زاجرٌ، وفيها واعظ، فما لها عند الله عز وجل قدرٌ .. ثم يقول مشخصًا أيام الدنيا: وإنما الدنيا إذا فكرت ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآيتان: 70 - 71.

فيها ثلاثةُ أيام: يومٌ مضى لا ترجوه، ويوم أنت فيه ينبغي لك أن تغتنمه، ويوم يأتي لا تدري أنت من أهله أم لا، ولا تدري لعلك تموتُ قبله، فأما أمس فحكيمٌ مؤدب، وأما اليوم فصديقٌ مودع، غير أن أمس وإن كان قد فجعك بنفسه فقد أبقى في يديك حكمته، وإن كنتَ قد أضعته فقد جاءك خلفٌ منه، وقد كان عنك طويل الغيبة، وهو الآن عنك سريع الرحلة، وغدًا أيضًا في يديك فيه أملُه، فخذِ الثقةَ بالعمل، واترك الغرور بالأمل قبل حلول الأجل .. ولو أن الأمل في غدكِ خرج من قلبك أحسنت اليوم في عملك، واقتصرت لهمِّ يومك غير أن الأملَ منك في الغد دعاك إلى التفريط ودعاك للمزيد في الطلب ... » (¬1). إخوة الإسلام: تعيشون هذه الأيام نهاية عامٍ مضى بما فيه، أفلح العاملون السائرون إلى الله .. وخاب وخسر المبطلون، عامٌ مضى بأحزانه وأفراحِه، وسرَّائه وضرائه .. عُدْ بذاكرتك قليلًا إلى ما مضى، وانظر ما قدمت فيه من عمل صالح فاشكر الله عليه، واسأله القبول وما عملت من سوءٍ فتأسف واندم عليه فقد قيل: إن الندمَ توبة. واختم ما بقي من العام بالاستغفار، والتوبة النصوح، واعمل صالحًا تختمُ به العامَ المنصرم. أما عامك الجديد فاستقبله بالعزيمة الصادقة على عمل الصالحات، واستفد مما مضى عبرةً لما تستقبله، فما الدنيا إلا ساعةٌ بين ساعتين، ساعةٌ ماضيةٌ، وساعةٌ آتية، وساعةُ أنت فيها، فأما الماضيةُ والباقيةُ فليس تجدُ لراحتهما لذَّةً ولا لبلائهما ألمًا، وإنما الدنيا ساعة أنت فيها، فخدعتك تلك الساعةُ عن الجنةِ وصيرتك إلى النار، وإنما اليومُ إن عقلت ضيفٌ نزل بك وهو مرتحل عنك، فإن أحسنت نُزله وقراه شهد لك وأثنى عليك بذلك وصَدَق فيك، وإن أسأت ضيافته ¬

(¬1) حلية الأولياء 2/ 134 - 139.

ولم تُحسن قراه جال في عينيك، وهما يومان بمنزلة الأخوين نزل بك أحدُهما فأسأت إليه ولم تُحسن قراه فيما بينك وبينه، فجاءك الآخرُ بعده فقال: إني قد جئتك بعد أخي فإنَّ إحسانك إليَّ يمحو إساءتك إليه ويغفر لك ما صنعت، فدوُنك إذ نزلتُ بك وجئتك بعد أخي المرتحلِ عنك، فلقد ظفرت بخُلفٍ منه إن عقلت، فَدَارِكْ ما قد أضعت، وإن ألحقت الآخرَ بالأول فما أخلَقَك أن تهلكَ لشهادتهما عليك (¬1). يا أخا الإسلام: مجردُ التحسر على ماضٍ مطيةُ الكسالى والعاجزين. والهمةُ والعزيمة على العملِ في الحاضر والمستقبل سيما أهلِ الجد والصدق واليقين .. ودونك تشخيصُ العارفين بما بقي من العمر وقيمته .. فقد قالوا: إنَّ الذي بقي من العمر لا ثمن له ولا عدلَ، فلو جُمعت الدنيا كلها ما عدلَت يومًا بقي من عمرِ صاحبه، فلا تبع اليومَ ولا تعدلْه من الدنيا بغير ثمنه، ولا تكوننَّ المقبورُ أعظمَ تعظيمًا لما في يديك منك وهو لك فلعمري لو أن مدفونًا في قبره قيل له: هذه الدنيا أولُها إلى آخرها تجعلها لولدك من بعدك يتنعمون فيها من ورائك فقد كنَتَ وليس لك همٌّ غيرهم، أحبُّ إليكَ أم يومٌ تُترك فيه تعملُ لنفسك لاختار ذلك (¬2). يا عبد الله اتعظ بمن مات، واستدرك ما فات وإياك وغرور الأماني، وأن توافيك المنيةُ على غير أهبةٍ واستعداد، جِدَّ في السير إلى مولاك، ولا يكن همُّك الدنيا وحطامُها .. ودونك حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم فاعتبره إذ يقول: «ما طلعت الشمسُ قطُّ إلا وبجنبتيها ملكان يناديان، يُسمعان مَنْ على الأرض غير الثقلين: أيها الناس هلموا إلى ربكم، ما قل وكفى خير مما كثر وألهى» (¬3). ¬

(¬1) حلية الأولياء 2/ 139. (¬2) حلية الأولياء 2/ 139. (¬3) صحيح الأخبار في الزهد والرقائق، عمرو سليم ص 79.

ودونك أنموذجًا في القناعة والزهد: كتب سليمانُ بنُ عبد الملك إلى أبي حازم: ارفع إليَّ حاجتك قال: هيهات، رفعتُ حاجتي إلى من لا يختزنُ الحوائجَ فما أعطاني منها قنعت، وما أمسك عني منها رضيت» (¬1). وقال أبو واقدٍ الليثي: تابعًا الأعمالَ، نقولُ أيها أفضل؟ فلم نجدْ شيئًا أبلغَ في طلب الآخرةِ بزهادةٍ في الدنيا (¬2). يا أخا الإيمان احرص على أن يكون لك في كل عمل خير سهمٌ نافذ فما أجملَ أن تروض النفسُ على عمل الخير فيصبح لها سجيةً وطبعًا، ومن داوم على شيء ألِفه وسهل عليه القيامُ به. وهذا سفيان الثوري يقول: ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثٌ قطُّ إلا عملت به ولو مرة» وهذا منه محمولٌ على فضائل الأعمال .. وهو منه أيضًا تأكيدٌ على العمل بسنة محمد صلى الله عليه وسلم وشدة العناية بها، أكثر من العمل، وأقلل من الذنوب .. ففي ذلك سلامةٌ لا يعدلها شيء، وفي الزهد لابن المبارك عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند صحيح أنه سئل: رجلٌ قليلُ العمل قليلُ الذنوب أعجبُ إليك، أو رجلٌ كثير العمل كثير الذنوب؟ قال لا أعدل بالسلامة شيئًا (¬3). ¬

(¬1) أخرجه أبو نعيم في الحلية 3/ 237، وسنده صحيح، المرجع السابق ص 79. (¬2) صحيح الأخبار، عمرو سليم فى 55. (¬3) الزهد لابن المبارك ص 66، وصحيح الأخبار ص 32.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. عبادَ الله على مشارف عامٍ ينتهي، وإطلالة عام يبتدي وقفةٌ وعبرة. فنهايةُ عامٍ يعني أن الله متَّع ابنَ آدم فيه مل يزيدُ على ثمانية آلاف وخمسمائة ساعة، وكم في هذه الساعات من نبضات قلبٍ ما كان له أن يعيشَ لو أنَّ اللهَ أوقفها لحظةً من الزمن وكم صعد خلالها النفسُ وما كان له أن يعيش لو كتمه اللهُ لحظة من الزمن. عامٌ يمضي يعني توفير نعمٍ كثيرة لهذا الكائنِ الحي، وتسخير وجوداتٍ كثيرةٍ في هذا الكون لهذا الإنسان- قد يعلم بعضها ويجهل أكثر ها. عام يمضي يعني امتلاءُ السجلات بما كسبت يداك وسطره الكرامُ الكاتبون، وغدًا سيكشف عن المخبوء، وتبلى السرائر، فأعد للسؤال جوابًا، وللجواب صوابًا، عام يمضي يعني سقوط ورقةِ من أوراق الشجرة ذات الأوراق المحددة، وبها يتناقص الموجود، ويزداد الذابلُ المفقود، ولربما كانت الورقةُ ما قبل الأخيرة أو كان بعدها أوراقٌ أخرى {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}. عام يمضي يعني قربك من الآخرة وبعدَك عن الدنيا {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}. وعامٌ يستجد، وأنت فيه في عداد الأحياء يعني أن الفرصةَ بيدك لتداركِ ما فاتك، وإبدالِ السيئات بالحسنات، واللهُ في غناه عنك وعن غيرك أشد فرحًا

بتوبتك منك إذ أضعت راحلتك في أرض فلاة وعليها زادك ومتاعك وحين أيست منها استسلمت للموت، فلما كنتَ كذلك إذا بها على رأسك وعليها ما ينقذك، فسبق لسانك وقلت من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك .. أخطأت من شدة الفرح. يا أخا الإسلام وحين تُذكَّر بهذا فلا يطل أمدْك، ولا تنس مفاجأة الموت لك .. وأنت ترى وتسمع بين كلِّ حين وآخر مفاجأةً لفلان، ومصيبةً جماعيةً لآلِ فلان، ولربما قلت من هول الصدمة وحداثة المفاجأة .. أمات فلان حقًا؟ نعم لقد مات .. وستموت أنتَ .. ومَنْ وراؤك {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}. وهنا وقفةٌ أُذكر بها، وأشاطرُ الجهات المسؤولة في التنبيه لمخاطِرها، والحذر من التهور فيها .. إنها الحوادث المروِّعة التي باتت تحصدُ الأنفس حصدًا، وينشأ عنها ترمُل النساء، ويُتْمُ الأطفال، وتشتت الأسرِ بعد اجتماعها .. وهذه التي نحذر منها هي الناشئةُ عن تهور في القيادة، أو استهتار في أنظمةِ المرورِ المساعدةِ بإذن الله على السلامة .. كيف هانت عليك نفسك فعرضتها للخطر بسبب سرعةٍ جنونية كان لها عواقبها السيئة عليك وعلى أسرتك وعلى المجتمع من حولك .. ولئن هانت عليك نفسُك .. أفيحق لك أن تستهتر بأرواح الآخرين وهل يعجبك أن تكون مصدرَ شقاءٍ للآمنين؟ وإذا أردت أن تتصور الكارثةَ بإنصاف، فما موقفك من شخصٍ تسبب في حادث مؤلمٍ لأسرةٍ قريبةٍ منك وفيها رجالٌ ونساء، وشيوخٌ وأطفال، وهذا جريح وهذا كسير، وذاك نَزفَ من الدماء حتى فارق الحياة، ورابعٌ فاضت روحُه في الحال، وخامسُ عاش في غيبوبة أمدَ الحياة .. أو فترةً طويلةً أو قصيرة من الزمن .. ولربما استيقظ يوم أن استيقظ وهو مشلولُ الأطراف أو بعضها كيف تكون نظرتك لمن تسبب في مصير هذه الأسرة فكانت كما ذكرتُ أو أقلَّ أو

أكثر؟ لا شك أنك ستلومه وترسل عليه الدعوات، وهو في عينك شخصٌ عابث مستهتر ولو أخذ رأيُك في الحكم عليه لكان لك معه شأنٌ آخر؟ أفلا تُطبق هذه النظرةَ على نفسِك يوم أن تتسبب في إلحاق الضرر بالآخرين؟ ! إخوة الإسلام .. لقد باتت حوادثُ المرور تشكل خطرًا يلتهم الأُسر .. ويُفقد بسببها العالمُ، والرجلُ الفاضل والمرأةُ المربية، والشابُ في ريعان الشباب، والطفلُ ببراءتِه ولم يسلم من آثارها وعوائدها الرجلُ المتعقلُ في قيادتها .. وهذه وتلك استثارة همم المسؤولين، فعقدت لها الاجتماعات والندوات، وصدرت لأجلها ولا تزال تصدر التوصياتُ والمجتمعُ بأسره شريككٌ في المسؤولية .. ولابد من المساهمة لعلاج هذه الظواهر السيئة، ولو أن كلًا منَّا التزم بنفسِه وحض أولاده على الالتزام بالأنظمة المرورية وقواعد السلامة .. لكان في ذلك نفعٌ كبير .. كيف لا وفي شريعتنا الغراء حمايةٌ للنفس وردٌّ للصائل، وأخذٌ على أيدي السفهاء، وتعاون على البرِّ والتقوى، ومساهمةٌ في النصح والتوجيه، وحفظٌ للطاقات، ونهي عن التسرع والإسراف، ورعايةٌ لآداب الطريق إنَّ من الذوق والمروءة أن تقدر- مشاعر الآخرين، ومن الفظاظة والرعونة أن تعيشَ متبلدَ الإحساس، لا ترعى للآخرين حرمة، ولا تُقدر لحراس الأمن مسؤولية .. ألا فليكن إسلامُك وخُلقك في المسجد وفي الطريق، مع أهلك وذويك ومع الناس أجمعين .. ساهم في السلامة بوعيك وحسن قيادتك، واعتبر بما حصل لك أو لقرابتك في سبيلِ تأمين الأمن والحماية للآخرين .. وإذا كانت الآجالُ محدودة، والأنفاسُ معدودةً فاتخاذ الأسباب المشروعة مطلبٌ، واتقاءُ التهلكة بالنفس محرم، وبقدر ما تتمثل من أخلاق عالية بقدر ما تكون محبوبًا عند الله وعند خلقه ..

انحراف الشباب مسئولية من؟

انحراف الشباب مسئولية من؟ (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله الهادي إلى سواء الصراط يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ومن يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فما له من سبيل وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه هدى اللهُ به من الضلالة إلى الهدى وفتح الله به أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غُلفًا- اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬3). أيها المسلمون حديث اليوم استجابةٌ لمطلب كريم من الجهاتِ المسؤولة- وهو في الوقتِ نفسه حديثٌ بالغُ الأهمية عن فئةٍ عزيزةٍ في المجتمع .. بات يكثر عددُها ويتنامى خطرُها، ويحمل واقعُها نُذرًا لابد من توعيتها وتقييمها والمسارعة بعلاجها. حديثُ اليوم عن فئةٍ من الشباب- لا بل عن طائفةٍ من الشباب بدأت تجنح في سلوكها، وتقلق المجتمعَ بتصرفاتها تُسيء إلى نفسها ... وتصل إساءتها إلى غيرها .. وتدمر ما حولها، وربما دمَّرت نفسَها .. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 19/ 1/ 1419 هـ. (¬2) سورة آل عمران، آية: 102. (¬3) سورة التوبة، آية: 119.

إنها فئةٌ من الشباب، لم نولها من العنايةِ ما تستحق، واكتفينا بلومها وانتقاد تصرفاتها .. ولكننا لم نقترب منها، ونكتشف أسبابَ جنوحِها، وأنسب الطرقِ لعلاجها .. هذه الفئةُ- حين نريدُ تشخيص حالها- نقول: إنها فئةٌ منطويةٌ على نفسها .. أو على ما يشابهها .. كسولةٌ في أداءِ العبادات المفروضة، غيرُ قادرةٍ على تحمل المسؤوليات الأسرية- مزعجةٌ داخل بيوت أهلِها، هاويةٌ للاجتماعات الصاخبة في زوايا الشوارع، محبةٌ للسهِر ليلًا، مكثرةٌ للنوم نهارًا، المدرسةُ تشكو من ضعفها الدراسي، وما بها لله سبحانه وتعالى ضعفٌ في الفهم ولكنها تحضر بجسدها وعقولُها خارج المدرسة، ويشكو منها الجيران لسوءِ تصرفاتها، ولربما تخوفوا على أبنائهم منهم وحذروهم الاختلاط بهم، تتخذ من السيارةِ وسيلةً لإزعاج الآخرين، وربما استخدمتها وسيلة للاقتناص والتغرير بالأطفالِ والمراهقين - ولربما دمرت نفسها أو دمرت الآمنين من حولها بقيادتها الهوجاء .. هذه الفئة تطربُ للأغاني الماجنةِ ولربما اضطرت الآخرين لسماعِها بسبب رفعها للصوت عمدًا وبلا مبالاة، تفتخر بالسيجارة تتعاطاها .. وتظنها بطولةً أمام الأحداث من حولها .. والأمر أدهى حين تبدأ في مسلسل المخدرات والخمور والمنبهات .. يضيع جزءٌ من وقتها في العكوف على مشاهدةِ الأفلام الخليعة .. ويتأثر فكرُها وسلوكُها بالمسلسلات الجنسية، أو بأحداث العنفِ البوليسية تركز على المجلات الهابطة .. ونصيبها من الصحف زوايا الفنِّ والرياضة. هذه الفئة لا ترعى للوالدين حقًا، ولا تطيع لهما أمرًا .. وتنساق مع الأصحاب وتطيعهم أكثر من غيرهم، وما أسرع ما يقع الخصومةُ بينهم ولأتفه الأسباب .. تشتكي منهم الجهاتُ الأمنية .. ولربما كانتِ إساءتهم أكثر للعمالةِ الوافدة.

إخوةَ الإسلام ليس المقصودُ تشخيصَ الداء، إلا بالقدر الذي يوصَفُ به الدواء .. ودعونا نتصارح، ولا نُلقي باللائمة كلِّها على هؤلاء الشباب .. ونرى مدى أسهامنا- بعلمٍ أو غيرِ علم- في بروز هذه الظواهرِ المنحرفة. فأنت أيها الأب قد تكون منزعجًا لهذه الظاهرة لكنك لم تساهم في علاجها وتظن أن مجردَ شكواك منها كافي في علاجها، بل ربما كنت أيها الأبُ وراء المشكلةِ في بدايتها حيث لم تُعن بالتربية المبكرة للأبناء، ولم تهتم كثيرًا باختيار الأصدقاءِ، أو على الأقل التعرفِ على من يصادق الأبناء فتشجعُ على مصاحبة الأخيار وتنهى وتحذر من مصاحبة الأشرار، وتستخدم في ذلك كلَّ وسيلة مستعينًا بالله ثم بالخيرين من حولك ومتصلًا بالمدرسة لمعرفة سلوكيات ابنك ولربما أخذتك العاطفة فوفرت للابن سيارة لا يحتاج إليها .. أو لا يحسن التصرفَ في قيادتها .. فألقيت ابنَتك المسكين في اليمِّ وقلت له إياك أن تبتل بالماء، وقد تمانع في البداية فينضم صوت الأمِ إلى صوت المراهق فتبدأ المشكلة. وأنت أيها المعلمُ الكريم ما الجهدُ الذي قدمته في سبيل استصلاح هذه الفئة .. أتُراه يكفيك أن تتذمر من وجودهم في المدرسة .. أم تراه يُغنيك أن تلوذ بكثرة الحصص وتعتذر بالأعباء التدريسية عن المساهمة في توجيه هؤلاء وإسداء النصح لهم والمساهمة في تربيتهم وما أعظم الخطب حين تُشعرهم- أيها المعلم- بالدونية، أو تكرس فيهم أنكم شبابٌ لا خير فيكم، وقد يكون فيهم أو في بعضهم خيرٌ كثيرٌ يحجبه طبقةٌ رقيقةٌ من الغبار الخادع .. ولا يسوغ لك بحال- أيها المربي- أن تُنقص شيئًا من درجات يستحقونها بسبب ما يبدو لك من انحرافهم، فتلك توغر صدورُهم، وتزيد من انحرافهم .. وما هكذا تورد يا سَعدُ الإبل؟ !

أيها المعلم تحفظ في الكلمة تلقيها .. واختر في الحديث مع هؤلاء بخاصة ومع غيرهم بعامة أطيب الكلام .. فللكلمة الطيبة وقعُها في الآذان أولًا وفي القلوب ثانيًا، ويكفيك أن الكلمةَ الطيبة صدقة. ولا تقنط أو تيأس من هداية هؤلاء .. ولا يرد إلى مخيلتك أن الشرَّ دائمًا مصاحبٌ لهؤلاء .. وقدِّر موقعك ولربما تأثروا بك أكثر من غيرك وحين تتحدث عن دور المعلم مع الطلاب فالحديث عن المدير والوكيل والمرشدِ الطلابي من باب أولى. أيها الأئمة والخطباء أنتم عليكم كفلٌ من المسؤولية بالتوجيه والنصح والزيارة والهدية .. والموعظة بالحسنى، وعدم الاكتفاء باللوم والتقريع والاستهزاء .. وكم هو جميلٌ أيها الإمام أن تستعين بعدد من الأخيار المجربين للذهاب لهؤلاء الشباب ومناصحتهم والتعرف على مشكلاتهم وحوائجهم ودعوتهم للمسجد .. وإذا نجحت في ذلك بدأت تباشيرُ السعادة على محياهم وما أسرع ما تتغير سلوكياتُهم. - أما أنتم معاشر الشباب الملتزم فكم أنتم غائبون عن هؤلاء .. وسائلو أنفسكم ماذا قدمتم لهم .. وكم يستغرق الاهتمام بهم من أوقاتكم؟ إنهم إخوانُكم وجِيرانكم، ولهم عليكم حقُّ النصح، وأنتم مسؤولون عن حسنِ دعوتهم، ولابد من الصبر على ما يصيبَكم من أذاهم، إنكم قد تستلذون الجلوسَ إلى العلماء في دروسهم ومحاضراتهم، وترتاحون للجلوس مع بعضكم وترون الوقتَ غاليًا فلابد من حفظه بحفظ كتابِ الله، أو القراءة في كتب العلم النافعة، أو الاستماع لأشرطة مفيدة .. وكل ذلك أمرٌ طيب، لا تثريب عليكم فيه .. ولكن قدروا فيما علمكم الله .. وفيما هداكم الله .. حقًا للسائل والمحروم .. ومن شكرِ الله على نعمةِ الهداية التي أنعم بها عليكم أن تدعوا

هؤلاء .. وترغبوهم في الخير، وتحذروهم من عواقب الشرِّ والفساد، والطرق المناسبة والوسائل المفيدة. أيها المسلمون لا يعفي ذلك كلُّه بحال رجالات الأمنِ من مسؤوليةِ المتابعة لهذه الفئة من الشباب، وكان اللهُ في عون العيون الساهرة وهي تراقب وتتابع، ويُباح لها ما لا يُباح لغيرها ويتخوف منها الشباب أكثر من غيرها .. فهل يقدر رجالات الأمن دورهم ويستشعرون مسؤوليتهم في الحفاظ على أمنِ المجتمع، وردع المعتدي وتأديب المخالف ومطاردة المجرم، وكشف ما في الزوايا المظلمة ومراقبةِ التجمعات المشبوهة، والوعي بمخاطر المخدرات والمسكرات والأفلام الخبيثة ... وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. أخي رجلَ الأمن إياك أن تبقى متفرجًا على انحراف الشباب وتجمعاتهم دون مراقبة ومتابعة وتقدير للمخاطر المستقبلية، وإذا نُصحت بأن لا تكون فظًا غليظًا في المعاملة، فإياك أن تغلبك العاطفةُ وترضى بالاعتذار الخادع، وقدِّر سعةَ انتشار الداء إذا لم تسارع بالحزم في اختيار الدواء .. ولا تنسي أنك عضو في هذا المجتمع مسؤول عن وقايته حتى وإن كنت لحظة رؤياك الانحرافَ مدنيًا، رعاك اللهُ وسددك ونفع بك وآجرك على قدر إخلاصك ومتابعتك. رجالات الهيئة الأعزاء مهمتُكم لا تقف عند حدود النهي عن المنكر، فهذا على أهميته جزءٌ من رسالتكم، ولكن الجزءَ الآخر يتمثل في الأمر بالمعروف والدعوة للخير .. وما أروع الرسالةَ حين تلحظ تجمعًا مشبوهًا للشباب فتصطحبهم للهيئة وتحدثهم برفق، وتثير فيهم كوامن الخير، وتذكرهم بقيمة أسرهم في المجتمع، وعظيم الفضيحة لهم ولأهليهم إذا وقع منهم المكروه .. وتشعرهم بقربهم منك وعطفك عليهم، ثم تختم ذلك بإهدائهم شريطًا موجهًا أو كتيبًا نافعًا، أو مطوية مفيدة مختصرة.

إخوة الإيمان وهكذا تتكامل عناصرُ التوجيه، وتساهم الجهات والأفراد- كلٌّ حسب اختصاصه- بالتوعية والمتابعة. وما بلغ الشباب في مجتمعنا- والحمد لله- مبلغًا من الشرِّ والفساد والعناد، حدًا لا يمكن ضبطهم أو يصعب توجيههم ولكنها طفرة النعمة، وآثار الفراغ، وقلة المتابعة، وعدم التجديد في الوسائل المصلحة بإذن الله للشباب .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة هود، الآيتان: 116، 117.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين يمن على من يشاء بالهداية والتوفيق {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء. إخوة الإسلام حين نتحدث عن انحراف بعض الشباب ونشرك في المسؤولية عددًا من الجهات والأشخاص، فلابد أن نستحضر ما لوسائل الإعلام- بكافة قنواتها- من أثر بالغ على انحراف الشباب أو استقامتهم، كيف لا وهي تخاطب عقولهم، وتحرك عواطفهم، وبإمكانها أن تختار النماذجَ الخيِّرة أو الساقطة لتبرزها مجالًا للقدوةِ أمام ناظريهم وكم افتتن شابٌ أو شابةٌ بصورةٍ خليعة أو مشهدٍ مثير فحركت كوامنَ الشبابِ فيهم، وهيجت عواطفهم فراحوا يبحثون عن إشباعها بطرق غير مشروعة. وكم لوَّث فكرهم مقالٌ نشر وفيه تمجيدٌ للرذيلة أو محاربةٌ للفضيلة، وكيف نلوم الشبابَ على الانحراف إذا كنا نمجد نماذج ساقطةً تتمرغ في أوحال الرذيلة في فكرها المُعطى .. وفي شعرِها المكتوب .. ويقل أن نسوق نماذج عاليةً في أخلاقها، قممًا في سلوكها .. ألم تمجد وسائلُ الإعلام الإسلامية الهالكةَ ديانا من قبل .. ومعلومٌ ما تمتلكه هذه من وسائل الدعاية والشهرة؟ وهي بكل حالٍ لا تتفق وقيمنا وأخلاقنا! ثم راحت تمجد الهالكَ نزار قباني من بعد .. وهو شاعر الفسق والإلحاد.

أيها المسلمون إن الأمرَ عظيم، والخطابُ جليل .. ما أعظم الكارثة حين ينحرف الشباب وهم عمادُ الأمة وأملُها في المستقبل .. وما عاد الانحراف يخفى ونحن بين الفينة والأخرى نسمع عن جرائم خلقيةٍ يندى لها الجبين، ونحن مسؤولون أمام اللهِ عن هؤلاء الشباب الذين تفشت بينهم المخدرات وحطمت مستقبلهم في الدنيا وجعلتهم على شفير الهاوية في الآخرة .. كما نحن مسؤولون عن انتشار الفاحشة في عدد منهم تلك التي تذهب رجولتهم، وتهدر طاقتهم، وتذهب حياءهم وتقتل طموحات الرجالِ في نفوسهم .. والخطبُ كبير حين يمتلك هؤلاء المراهقون أسلحةً فتاكة فيوجهونها إلى الأبرياء من حولهم ولربما قتلوا بها أقرب الناس إليهم .. بل ربما اعتدوا بها على أنفسهم. لابد من قومة صادقةٍ لله وتوعية شاملةٍ للمخاطر تشمل الآباء والأمهات، والمعلمين والمعلمات ورجالات الأمنِ والحسبة، والأئمة والخطباء والشباب الغيور على دينه وأبناءِ أمته .. ورجالات الإعلام والمفكرين والأدباء القادرين على الكتابة ومخاطبة جمهور الأمة وشبابها وشاباتها على الخصوص. ولابد مع ذلك من الحزم في العقوبة لمن لا يجدي معه النصحُ ولا يستفيد من التوعية ولا شك أن العقوبات في الإسلام ذاتُ أهدافٍ جليلة وإن ظنها الجهلةُ للوهلة الأولى شديدةً على من أقيمت عليه .. ولا ضير أن يهلك شخصٌ في سبيل حياة الآخرين والله يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. وكما ندعو إلى معاقبة أصحاب الجرائم الخلقية بما يكفل عدم انتشارها وتدميرها للشباب ندعو كذلك إلى التشديد في توفير السلاح عند الأحداثِ والمراهقين الذين لا يحسنون استخدامها.

الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله

الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، من يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فاتقوا الله أيها الناس، واخشوا يومًا لا يجزي والدٌ عن ولده، ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئًا، إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬3). أيها المسلمون .. ويهيم المحبون للدنيا بمحبتهم طرائق قددًا، فذاك متيم القلب لمحبوبته .. وذاك صريع العشق لمن استلبت فؤاده، وثالث محبٌ مفتون بماله أو ولده ورابع مغرور بملكه وسلطانه أو حرثه ونسله ولا تكاد تخرج هذه وتلك عن شهوات الدنيا الفانية، من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة والأنعام والحرث، وعنها قال تعالى: ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 26/ 1/ 1419 هـ. (¬2) سورة المائدة، آية: 35. (¬3) سورة التوبة، آية: 119.

{ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (¬1). وتبلغ المحبة دركات الحضيض حيث يتخذ الناس أندادًا من دون الله يحبونهم كحب الله ... أما المؤمنون .. فلهم في المحبة شأن آخر، فهم وإن أحبوا المال والأهل والولد، وأنسوا بما لذَّ وطاب مما أحل الله من متاع الدنيا، فهم مقتصدون في حبهم لها، وهم أشدُّ حُبًا لله منها، يأنسون بذكره، ويستلذون بطاعته يستكثرون به من قلة، ويأنسون به حين الوحشة، وتطيب في جنح الظلام مناجاتهم له، محبة الله غايتهم، ورضاه عنهم أحلى أمانيهم، يحبون ما يحبون لله .. ويبغضون ما يبغضون في ذات الله. عباد الله: ومحبة الله تعالى في الإيمان ومقاماته كواسطة العقد بين حباته، فما بعد إدراك المحبة مقامٌ إلا وهو ثمرةٌ من ثمارها وتابعٌ من توابعها كالشوق والأنس والرضى، ولا قبل المحبة مقامٌ إلا وهو من مقدماتها كالتوبة والصبر، والزهد، وغيرها (¬2). المحبةُ يزكو بها العملُ القليل، ويُبارك بها في الجهد اليسير فلا المجتهد السابق مستغن عنها، ولا القاصد أو المقصر مفلحٌ بغيرها. أخرج البخاري ومسلم رحمهما الله في صحيحيهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «بينما أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجين من المسجد، فلقينا رجلًا عند سُدَّةِ المسجد، فقال: يا رسول الله: متى الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أعددت لها؟ » قال: فكأن الرجل استكان، ثم قال: يا رسول الله: ما أعددتُ كبير صلاة ¬

(¬1) سورة آل عمران، آية: 14. (¬2) مختصر منهاج القاصدين، ابن قدامه ص 322.

ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحبُّ الله ورسوله، قال: «فأنت مع من أحببت». وفي رواية- لمسلم- قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحًا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم «فإنك مع من أحببت». قال أنس: فأنا أحبُّ الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم، وإن لم أعمل بأعمالهم (¬1). هذه المحبة- يا أخا الإسلام- هي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العيون، هي الحياة فمن حرمها فهو من جملة الأموات وهي النور فمن فقدها فهو في بحار الظلمات، وهي الشفاء فمن عُدمها حلَّت بقلبه جميع الأسقام .. كيف لا وهذا المحب صلوات ربي وسلامه عليه يقول: «أتاني ربي عز وجل» - يعني في المنام- (ورؤياالأنبياء حق) «فقال لي يا محمد؛ قل: اللهم إني أسألك حبَّك، وحبَّ من يُحبك، والعمل الذي يبلغني حبَّك» (¬2). يا عبد الله .. يا من تبحث عن حلاوة الإيمان .. فلن تجد طعمه حتى يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما- ففي الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواها، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه- كما يكره أن يُلقى في النار». ¬

(¬1) خ 6171، الفتح 10/ 573، ومسلم 2639، 4/ 2032. (¬2) الحديث رواه ابن خزيمة في التوحيد، والطبراني في الكبير، وأحمد، والحاكم والترمذي وحسنه، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/ 98، وانظر شرح الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله، عبد العزيز مصطفى ص 9.

فإن قلت: وما السبيل إلى محبة الله، وما الأسباب الجالبة لها؟ أجابك ابنُ القيم يرحمه الله في مدارج السالكين، بقوله: الأسباب الجالبة للمحبة، والموجبة لها عشرةٌ هي: 1 - قراءةُ القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه، وما أريد به، كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه. 2 - التقربُ إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة. 3 - دوامُ ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر. 4 - إيثارُ محابه على محابك عند غلباتِ الهوى، والتسنمُ إلى محابه وإن صعب المرتقى. 5 - مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومبادئها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة، ولهذا كانت المعطلة والفرعونية والجهمية قطَّاع الطريق على القلوب بينها وبين الوصول إلى المحبوب. 6 - مشاهدة برِّه وإحسانه وآلائه، ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبة الله. 7 - وهو من أعجبها: انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات. 8 - الخلوةُ به وقت النزول الإلهي لمناجاته، وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.

9 - مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، كما ينتقى أطايبُ الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيدًا لحالك ومنفعة لغيرك. 10 - مباعدة كلِّ سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل. ثم قال ابن القيم يرحمه الله: فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة، ودخلوا على الحبيب، وملاك ذلك كله أمران: استعدادُ الروح لهذا الشأن، وانفتاح عين البصيرة. وبالله التوفيق (¬1). يا أخا الإيمان .. ولا يجتمع في القلب محبة الله ورسوله، وبغض الصالحين، ومعاداة أولياء الله المتقين والتحريشُ بهم، بل يلاحق الوعيدُ الإلهي من عادى لله وليًّا .. وفي مقابل ذلك تبدو آثار المحبة على من تقرب إلى محبوبه في سلوكياته واضحة جلية .. ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إلي من أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش لها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه» (¬2). أيها المسلمون .. ولا عجب أن تتعلق قلوب الناس بأولياء الله من عباده الصالحين، وإن لم يمنحوهم من مُغريات الدنيا فتيلًا، ذلكم لأن واهب المحبة هو الله العليم الخبير، ومقادير المحبة تنزل من السماء، ولا توزع من ¬

(¬1) المدارج 3/ 17، 18. (¬2) المدارج 3/ 25.

الأرض .. والفرق كبيرٌ بين السماء والأرض، وفي دنيا الواقع يجد الناس مصداق قول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «إذا أحب الله العبد دعا جبريل فقال إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهلُ السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض» وذكر في بعض الولايات في بعض من قبل الله عكس ذلك» (¬1) أعوذ بالله. ¬

(¬1) المدارج 3/ 25.

الخطة الثانية

الخطة الثانية: الحمد لله صاحب الفضل والنعم والإحسان، أحمده تعالى وأشكره ولا نحصي ثناءً عليه .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلاهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بعثه الله للناس مبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر إخوانه من النبيين والمرسلين .. إخوة الإسلام .. وليست محبة الله دعاوى تجوز على كل لسان، أو أماني وظنون يوصف بها كل إنسان، وإن كان فضل الله واسعًا لا يستطيع حجره كائنٌ من كان ولكن الدعاوى تصدقها الأعمال أو تكذبها. ومن براهين المحبة الصادقة لله اتباع شرع الله والرضا به والتسليم دون حرج أو تململ، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر به أو نهى، وفيما أحبت النفس أو كرهت. قال تعالى- وقوله الفصل- {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬1). قال ابن كثير يرحمه الله: هذه الآية حاكمةٌ على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله (¬2). فإذا حصل الموجب الحقيقي للمحبة بالاتباع، كانت المحبة، بل كان ما هو أعظم منها، وهو محبة ¬

(¬1) سورة آل عمران، آية 310. (¬2) تفسير ابن كثير 1/ 562.

الله للمحب، ولهذا قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تُحِب، إنما الشأن أن تُحَبَّ. هذه الآية- معاشر المسلمين- فيها امتحانٌ لمحبة العبد لربه، كما قال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قومٌ أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية (¬1). عباد الله ومن براهين محبة الله .. أن يكون المُحب متواضعًا لإخوانه المؤمنين، متذللًا لهم، رحيمًا بهم، يحبهم لله، ويواليهم فيه - وإن لم يكن بينه وبينهم نسبٌ أو حسب- لكنها رابطة العقيدة وأخوة الإسلام توجب عليه إلا يحقرهم ولا يخذلهم ولا يظلمهم. وفي مقابل ذلك يكون المحب الصادق عزيزًا على عدوه وخصمه، شديدًا عليهم ويبغضهم لله، ويعاديهم لكفرهم به، وتطاولهم على شرع الله. وهو في ذلك محتاج إلى المجاهدة في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وإعزاز الحق، ودفع الباطل وأهله. فهل يصدق الحب من شخص لا يغار لمحارم الله؟ وهل يصدق الحب لله ممن لا يتمعر وجهه لفشل الباطل وكثرة المبطلين؟ ! إن محبة الشيء تعني الدفاع عنه، والدعوة إليه .. والدفاع عن الحق، والدعوة للخير الذي يحبه الله .. هو برهان على محبة الله .. وأنَّى لشخص يَدَّعي محبة الله، وهو ناصبٌ نفسه للدعوة للشر، ومحاربة الخير، وأهله! والمحبون الصادقون لا تأخذهم في دعوتهم وجهادهم للخير لومة لائم .. أو إرجاء مرجف- أو تخذيل مخذل- إقوؤوا بتمعن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ¬

(¬1) ابن كثير 1/ 562.

مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬1). وفي فترات ضعف الأمة تتبدل المفاهيم، وتنتكس الأحوال ولربما أصبح العدو صديقًا، والصديق عدوًا. ولكن ذلك لا يؤثر على حقائق القرآن، ولا يغير سلوكيات أهل الإيمان، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم. إنها قافلة محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، تتجدد ما بقي القرآن حيًّا في قلوب الأجيال تردد {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (¬2). يا أخا الإيمان كُن من دعاة الخير يُحبك الله، فإن لم تستطع فأحب الخير حيث يحبه الله .. وكن من أهل الخير فهم أولياء الله وأحباؤه فإن لم تستطع اللحاق بهم، فأحبهم وتمنَّ اللحاق بهم يحبك الله ويعينك .. فالمرءُ مع من أحب .. والرجل يحب القوم ولما يلحق بهم فهو معهم .. فضلًا من الله ورحمة، ليكن حبُّك لله وفي الله، وفق شرع الله وإياك أن تكون محبتك حيث يُحبُّ دهماءُ الناس فمن يحبون أو يبغضون وفقًا للأهواء والشهوات ليس إلا. يا أخا الإيمان وإذا أردت أن تعلم درجة حبك لله فعد لهذه الأسباب العشرة التي ذكرها العلماء .. وانظر في نفسك ومدى قربك أو بعدك منها، وسدد ما فاتك منها .. فلا أراني وإياك إلا في أشدِّ الحاجة إليها في اليوم قبل الغد ¬

(¬1) سورة المائدة، آية: 54. (¬2) الفتح 29.

لنستجمع منها لأنفسنا زادًا أثناء السفر وبعد انتهاء السفر حيث القرارُ في دار المستقر. ابدأ- يا أخا الإسلام- من الآن في بناء مستقبلك الحقيقي هناك، أما المستقبل هنا فمجازٌ وألغاز، ولعبٌ ولهوٌ وزينة وتفاخر، ابدأ من الآن في البناء شابًا كنت أو هرمًا، رجلًا كنت أو امرأة .. واجتهد في إيداع الأرصدة هناك فالليلُ والنهار خزانتان تُملآن هنا وتفتحان هناك، فاجتهد في ملء تلك الخزائن ببراهين المحبة لله وعناوين الإخلاص، ودلائل الطاعة له. ولا تنس الاستعانة بالله، وقل كما قال محمد صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك حبَّك، وحب من يُحبك، والعمل الذي يبلغني حبك». وكلما فتر عزمك أو ضعف سيرك تذكر قرب الرحيل إلى ربك، واتخذ من أصحاب الخير عونًا لك في طريقك .. رعاك الله وسددك وجعلنا وإياك من أحبابه العالمين بكتابه، والسائرين على منهاجه. هذا وصلوا.

العناية بالقرآن

العناية بالقرآن (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خص هذه الأمة بأفضل كتبه، وخاتم أنبيائه ورسله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها الناس أوصيكم ونفسي بتقوى الله، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3). أيها المسلمون: كتاب الله طريق للتقوى وسبيلٌ لمحبة الله تعالى، وهو يهدي للتي هي أقوم هو- كما وصفه عليٌّ رضي الله عنه: (الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يُضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحدٌ إلا قام عنه بزيادة أو نقصان زيادة في هدى، ونقصان من عمى .. إلى أن يقول: واعلموا أنه شافعٌ ومُشفع، وقائلٌ ومصدق، وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة شُفع فيه، فإنه ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 30/ 3/ 1419 هـ. (¬2) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71. (¬3) سورة المائدة، آية: 35.

ينادي منادٍ يوم القيامة: ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حَرَثة القرآن). «فكونوا من حرثته وأتباعه، واستدلوه على ربكم واستنصحوه على أنفسكم، وأتهموا عليه آراءكم، واستغشوا فيه أهواءكم» (¬1). عباد الله وفي هذا الزمان يكثر في المسلمين هجرةُ القرآن إما حسًا أو معنى .. أو كليهما .. إذ لا يقيمون وزنًا لتلاوته ولا يتدبرون آياته .. ولا يعملون بتوجيهاته، ولا ينتهون عند حدوده ومحارمه .. حتى وإن قبلوه عند التلاوة .. أو رفعوه في أمكنة علية، أو ابتدأوا به في مناسباتهم العامة، أو قرؤوه على موتاهم! ويوجد في المسلمين أيضًا من يحفظون كتاب الله، ويكثرون تلاوته .. ولكن يقل فيهم المتأدب بآدابه، والمستشعر لفضل الله ونعمته عليه به، ويقل فيهم العامل به، ويكاد يصدق في المسلمين اليوم مقولة ابن عمر رضي الله عنهما وهو يقارن بين السلف والخلف في العمل بالقرآن يقول: إذ كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به (¬2). أخوة الإسلام لقد استشعر السابقون من أهل الإيمان والتقى قدر القرآن، وعنهم قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: «إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويعتقدونها في النهار» (¬3). ¬

(¬1) أحكام القرآن، الكيل الهراسي 1/ 6. (¬2) القرطبي. الجامع لأحكام القرآن 1/ 40. (¬3) التبيان في آداب حملة القرآن، النووي 28.

واعتبر من بعدهم تلاوة القرآن شرفًا وكرامة، حتى قال ابن الصلاح - يرحمه الله- قراءةُ القرآن كرامة أكرم الله بها البشر، فقد ورد أنَّ الملائكة لم يعطوا ذلك وإنها حريصة على استماعه من الإنس (¬1). وليس يخفى أن أهل القرآن هم خيارُ الأمة .. بل هم أهلُ الله وخاصته، ففي قوله تعالى: «كنتم خير أمة أخرجت للناس»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». وقوله في حديث آخر: «إن لله عز وجل أهلين من الناس»، قيل من هم يا رسول الله؟ قال: «أهل القرآن هم أهل الله وخاصته» (¬2). في هذا كله ما يؤكد أن أهل القرآن خيارٌ من خيارٍ، وأنهم خاصة الخاصة. «وصاحب القرآن حامل لواء الإسلام كما قال القاضي عياض يرحمه الله: حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي أن يلغو مع مَنْ يلغو ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلهو مع من يلهو تعظيمًا لله تعالى» (¬3). يا حامل القرآن أخلص في حمله، واعمل بما فيه، وأبشر بالخير والمثوبة عاجلًا وآجلًا، وردد، وقف، وتمعن قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (¬4) قال ابن عباس رضي الله عنهما: فضل الله ودونك هذا الحديث- وما فيه من فضائل وكرامةٍ لصاحب القرآن- فقد روى الإمام أحمد، وابن ماجه، والدارمي، حديثًا وإن كان فيه ضعف فيحتمل التحسين- كما قال بعض أهل العلم عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ القرآن يلقى ¬

(¬1) الإتقان، للسيوطي 1/ 29. (¬2) رواه أحمد وابن ماجه بسند صحيح (صحيح سنن ابن ماجه 178). (¬3) مختصر منهاج القاصدين 45. (¬4) سورة يونس، آية: 58.

صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره، كالرجل الشاحب، فيقول هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كلَّ تاجرٍ وراء تجارته، وإني لك اليوم من وراء كل تجارة، فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويُكسى والداه حليتين لا تقوم لهما الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ فيقال بأخذ ولدكما القرآن، ثم يُقال اقرأ واصعد في درجة الجنة وغرفها، فهو في صعود ما كان يقرأ هذا كان أو ترتيلًا» (¬1). أيها المسلمون: كما يكرم ذو الشيبة المسلم، وذو السلطان المقسط .. فكذلك ينبغي أن يكرم حامل القرآن .. فذلك من إجلال الله. فقد صح في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط» (¬2). عباد الله ما أضاع وقته من صرفه لحفظ القرآن أو تدبره أو أكثر من تلاوته، وما مرض قلبٌ عاش مع القرآن، وبم يترنمُّ من لم يتغَنَّ بالقرآن .. وبم يناجي ربه من لم يكن معه شيء من القرآن .. ألا وإن الذي ليس معه شيء من القرآن كالبيت الخرب .. وما هزمت أمة كان دستورها القرآن وما خاف الأعداء من شيء كخوفهم من القرآن، وما أقض مضاجعهم أكثر من عودة المسلمين للقرآن. أيها المسلمون: عظموا كتاب ربكم واستشفوا به من أدوائكم، واطلبوا النصر به على أعدائكم، وميزوا به بين أعدائكم وأصدقائكم .. تأدبوا بآداب ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه (3048)، وأحمد (348). (¬2) صحيح سنن أبي داود (4053) 3/ 918.

تلاوته ويرحم اللهُ أقوامًا كانوا إذا تثاءبوا وهم يقرؤون كتاب الله أمسكوا عن القرآن تعظيمًا له حتى يذهب عنهم التثاؤب، كما قال مجاهد يرحمه الله (¬1) وأنى لقوم تلك همهم وآدابهم أن يتشاغلوا حين تلاوته .. أو ينشغلوا عن تلاوته وتدبره. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (¬2). نفعني الله وإياكم. ¬

(¬1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 1/ 27. (¬2) سورة فاطر، الآيتان: 29، 30.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين يمن على من يشاء بفضله، والله ذو الفضل العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فضل بعض خلقه على بعض في الدنيا .. ولكن الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلًا. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أكرمه ربُّه إذ أنزل عليه القرآن وكان خُلقه القرآن. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. إخوة الإيمان: لا تجارة أعظم من تجارة الإيمان وعمل الصالحات، وتلاوة كتاب الله ضمن التجارة التي وعد الله أنها لن تبور .. وهنيئًا لقراء القرآن لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ}، قال قتادة: كان مطرف بن عبد الله إذا قرأ هذه الآية يقول: هذه آية القُراء (¬1). ومع فضل الجهاد فقد سئل سفيان الثوري يرحمه الله، عن الرجل يغزو أحب إليك، أو يقرأ القرآن؟ فقال: يقرأ القرآن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». ويروى أن بعض فقهاء مصر دخلوا على الشافعي- يرحمه الله- وهو في المسجد وبين يديه المصحف، فقال له الشافعي: شغلكم الفقه عن القرآن، إني لأصلي العتمة، وأضع المصحف بين يدي، فما أطبقه حتى الصبح» (¬2). وبقدر ما تكشف هذه النصوص عن قدر القرآن وقيمته وصرف الهمم له عند ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 1/ 532 (¬2) البرهان في علوم القرآن 1/ 462.

هؤلاء الأخيار، فهي تكشف عن جلدهم وطول مكثهم في تلاوته وتدبره، كيف لا والمشغول بالقرآن يُعطى أفضل ما يُعطى السائلون، ففي الحديث القدسي يقول الربُّ تبارك وتعالى: «من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» (¬1). عباد الله وقيمة التلاوة للقرآن بتدبره والتأثر به، وإنما أنزل القرآن ليتدبر ويعمل به، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (¬2). قال البقاعي- يرحمه الله- في تفسير هذه الآية، أي لينظروا في عواقب كلِّ آية وما تؤدي إليه، وما توصل إليه من المعاني الباطنة التي أشعر بها طول التأمل في الظاهر، فمن رضي بالاقتصار على حفظ حروفه كان كمن له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نتوجٌ لا يستولدها، وكان جديرًا بأن يضيع حدوده فيخسر خسرانًا مبينًا» (¬3). وفي قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (¬4)، وقوله {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (¬5). قال القرطبي: دلت هذه الآيات على وجوب التدبر في القرآن ليعرف معناه (¬6). أيها المسلمون: إذا كانت قلةُ التدبر ظاهرةً فاشية فينا، فإنما أتينا من غفلتنا ¬

(¬1) رواه الترمذي، (القرطبي 1/ 4). (¬2) سورة ص، آية: 29. (¬3) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي 16/ 3375. (¬4) سورة محمد، آية: 24. (¬5) سورة النساء، أية: 82. (¬6) تفسير القرطبي 5/ 290.

عن أهمية التدبر من جانب، ورغبتنا أحيانًا لكثرة القراءة على أي حال كانت مع إنهاء السورة من جانب آخر، حتى قال أحد العارفين: إنما يؤتى أحدكم من أنه إذا ابتدأ السورة أراد آخرها» (¬1). أما المنافقون فمن سيماهم الإعراض عن تدبر القرآن والتماس الهداية منه، وذلك لأن قلوبهم مريضة بالشهوات والشبهات ولذا عاب الله عليهم بالإعراض عن التدبر في القرآن والتفكر في معانيه (¬2). يا أخا الإيمان فإن قلت فما السبيل لتدبر القرآن وكمال الانتفاع به؟ وجدت ذلك في قاعدةٍ جليلة جعلها ابن القيم- رحمه الله- على رأس الفوائد في كتابه الفوائد حيث قال: «إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (¬3) إلى أن قال: فإذا حصل المؤثر- وهو القرآن- والمحل القابلُ، وهو القلبُ الحي، ووجد الشرط وهو الإصغاء، وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر، حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر» (¬4). يا أيها الشيخ الكبير ماذا معك من القرآن، وما نصيبك من تلاوته وتدبره، ولئن فاتك منه شيء فيما مضى فاستدرك ما فاتك، فإن لم تستطع فشجع أولادك على حفظ كتاب الله والعناية به، ففضل الله واسع. ¬

(¬1) البرهان 1/ 471، شرح الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله، عبد العزيز مصطفى ص 20. (¬2) القرطبي 5/ 290. (¬3) سورة ق، آية: 37. (¬4) الفوائد ص 3، شرح الأسباب العشرة ص 24.

أيها الموظف والمدرس والعامل النشط تُرى هل تستثمر شيئًا من نشاطك وفراغك في تلاوة كتاب الله وحفظ ما استطعت من حفظه، فالقوة يعقبها الضعف، والفراغ يعقبه الشغل، وتحية للمعلمين أو الموظفين وغيرهم الذين يجتمعون على حفظ كتاب الله وتدبره. أيها الشاب الفتي ما نصيبك من كتاب الله حفظًا .. وما نصيبك منه تدبرًا، إياك أن يغلبك الفتيانُ في الحفظ في أيامك الأولى فتندم بعد على التفريط ولات ساعة مندم. أيها المسلمون- رجالًا ونساءً- استوصوا بكتاب الله خيرًا، وأحلوه بالمنزلة التي أرادها الله له تفلحوا في الحياتين وتسعدوا في الدارين. أما أنتم معاشر الحفاظ لكتاب الله فلي معكم حديث آخر يسره الله، اللهم أعنا جميعًا على العناية بكتابك وتدبره، واجعله لنا في الدنيا رفيقًا.

يا حامل القرآن

يا حامل القرآن (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬3). أيها المسلمون لا ينتهي الحديث عن القرآن عند حدٍّ معين وعجائب القرآن لا تنتهي، والموعظة بالقرآن لا تقتصر على جيلٍ دون جيل، ولا عن فئة من الناس دون أخرى، لقد جعل الله القرآن مأدبته الأخيرة من السماء، لم ينزله جملة كغيره من الكتب، بل نجومًا متفرقة مرتلة ما بين الآية والآيتين والآيات، والسورة والقصة، في مدة زادت على عشرين سنة وذلك لتتلقاه الأمة بالحفظ ويستوي في تلقفه في هذه الصورة الكليلُ والفطن، والبليد والذكي والفارغ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 7/ 4/ 1419 هـ. (¬2) سورة الحشر، آية: 18. (¬3) سورة النساء، آية: 1.

والمشغولة، والأمي وغيرُ الأمي، فيكون لمن بعدهم فيهم أسوة في نقل كتاب الله حفظًا ولفظًا قرنًا بعد قرن وخلفًا بعد سلف (¬1). عباد الله لقد نزل في وصف كتاب الله قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (¬2). وفي الحديث القدسي قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء تقرأه نائمًا ويقظان» (¬3). وعلق النووي رحمه الله على الحديث بقوله: فمعناه: محفوظ في الصدور، لا يتطرق إليها الذهاب، بل يبقى على مرِّ الزمانِ (¬4). يا حافظ القرآن هنيئًا لك بحفظ القرآن إذ كنت في عداد العلماء، فانظر يا هذا ماذا علمك القرآن؟ وماذا تعلم من علوم القرآن، وأسراره، وحكمه؟ يا حافظ القرآن .. لك البشرى إذ كنت في طليعة أمة جاء وصفها في الكتب المتقدمة بأن أناجيلهم في صدورهم (¬5). ألا ويح الأناجيل المكرمة أن لم تغن عن أصحابها شيئًا ألا ويح القراء والحفاظ، إن حملوا ما لم يُعظموا، أو جهلوا بما حملوا، أو لم يعملوا بما علموا؟ يا حافظ القرآن جاء في وصف القرآن الذي تحمله في صدرك قوله صلى الله عليه وسلم: «لو ¬

(¬1) الرازي، فضائل القرآن، 49. (¬2) سورة العنكبوت، آية: 49. (¬3) رواه مسلم 2865. (¬4) شرح مسلم 17/ 204. (¬5) تفسير ابن كثير، عند آية العنكبوت 3/ 689.

جعل القرآن في إهاب ثم ألقي في الناس ما احترق» (¬1). وقد فسره بعض أهل العلم بأن المقصود بذلك حافظ القرآن، وقال أبو أسامة «اقرأوا القرآن ولا تغرنكم هذه المصاحف فإن الله لا يعذب بالنار قلبًا وعى القرآن» (¬2). وقال أبو عبيدة: «وجه هذا عندنا أن يكون أراد بالإهاب قلب المؤمن وجوفه الذي قد وعى القرآن» (¬3) ألا فاغتبط بهذا الفضل، وعظم كتاب الله، وما أسعدك حين تكون في عداد الناجين- برحمة الله- من النار. وفي لفظ: «لو جُمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار» (¬4). يا حافظ القرآن وأنت مغبوط، بل محسودٌ على حفظ كتاب الله وتلاوته، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسدَ إلا في اثنتين، رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه أناءَ الليل وآناء النهار ... » (¬5) الحديث. فهلا قدمت هذه النعمة، وهل تقوم بحقها فتتلو كتاب الله آناء الليل وآناء النهار .. تقرأه حضرًا وسفرًا راكبًا أو ماشيًا أو قاعدًا أو نائمًا .. ويظل يُسرج في قلبك حتى تضيء منه على الآخرين .. ويظل يمدك بالنور فتكشف به أمارات الطريق لمن ضلوا السبيل. أجل لقد نزل القرآن أول ما نزل، ومهمته إخراج الناس من الظلمات إلى ¬

(¬1) رواه أحمد والدارمي وغيرهما. (¬2) فضائل القرآن للرازي 155، 156، محمد الدويش: حفظ القرآن 24. (¬3) فضائل القرآن: 23. (¬4) صحيح الجامع 5/ 62. (¬5) ح 5026

النور، وأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم- فيما أوحى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (¬1). وسائل نفسك يا حامل القرآن- ما نصيبك من إخراج من عمي في الضلالة إلى نور الهداية .. إن القرآن حجة لك أو عليك وأنت مؤتمن في حمله، ومسؤول عن العمل به، والدعوة إلى هديه. يا حافظ القرآن وخليق بك أن تُعرف بخشوعك في صلاتك إذ بعضُ الناس عن صلاتهم ساهون، وبحسن سمتك إذا بدأ بعض القوم في حديث الباطل يخوضون، وببكائك وخوفك إذا ما الناس يضحكون وعن أهوال يوم القيامة غافلون، وبصدق أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، إذا علمت البلوى بالمداهنة، وضعف جانبُ الأمر والنهي بين العامة والخاصة يا أهل القرآن أوتروا وليطل قيامكم بالقرآن، ولتمتلئ محاريبكم بالدموع خوفًا من الرحمن، وحزنًا على واقع أمة القرآن وأين هممكم من همة الشاب عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما- وقصته مشهورة في الصحيحين وغيرهما- قال: كنتُ أصوم الدهر واقرأ القرآن كلَّ ليلة، فإما ذُكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما أرسل لي، فأتيته فقال: «ألم أخبر أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كلَّ ليلة؟ » قلتُ: بلى يا نبي الله، ولم أردْ إلا الخير، قال: «فإن بحسبك أن تصوم من كل شهرٍ ثلاثة أيام»، إلى أن قال: «واقرأ القرآن في كل شهر»، قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: «فاقرأه في كل عشرين»، قال قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: «فاقرأه في سبعٍ ولا تزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقًا، ولزورك عليك حقًا، ولجسدك عليك حقًا .. » الحديث (¬2). ¬

(¬1) سورة إبراهيم، آية: 1. (¬2) انظر صحيح مسلم ح 1159.

يا أيها الحافظ فإن تقاصرت همتُك عن هؤلاء، وقلت في نفسك: تلك أمة قد خلت، ولا سبيل لمحاكاة رجالها .. ويصعب التعلق بقصص أولي العزم فيها؟ قلتُ دونك وفي همم المعاصرين ما يشحذ العزائم، ويجدد ذكرى السابقين وقد حدثني من أثق به أن الله فتح عليه وأعانه في مرحلة من مراحل عمره، فكان يختم القرآن كل ليلة، وما انقضت العشرُ الأواخر من رمضان حتى أتم معها عشر ختمات للقرآن. وكم لله من فضل على عباده وكم في المحن من منح إلهية، وفيما تكره النفس خيرًا كثيرًا. إنها فتوحات ربانية، وعزائم بشرية صادقة .. تقوي العزائم وتجدد الهمم، وتثبت أن في النفس قدرة على العطاء إذا ما أُخذت بالجد، واستعانت بالواحد الأحد .. ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ومن لم يستطع أن يبلغ ما بلغه أولو العزائم فليتشبه بهم، وليحدث نفسه بسيرهم، وليحافظ على ما استطاع من ورده من القرآن فالعمل القليل الدائم يحبه الله، وهو وصية وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في القرآن قليل، والآيتان منه خير من ناقتين كوماوين والثلاث خيرُ من ثلاث، وأربع خير من أربع ومن أعدادهن من الإبل، كذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في وصيته لأهل الصفة في الغدو إلى المسجد وتلاوة كتاب الله (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬2). ¬

(¬1) رواه مسلم (803). (¬2) سورة الأنعام، آية: 155.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين أنزل على عبده الكتاب لينذر به وذكرى للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أعلى منزلة القرآن بين كتبه المنزلة، وجعله نورًا يهدي به من يشاء من عباده، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أمره ريُّة بقراءة القرآن على مُكثٍ، كما أوحى الله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} (¬1) فقام به صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه، واستن بسنته أصحابه والتابعون وخيار الأمة سلفًا وخلفًا ولا تزال العناية بالقرآن حتى ينقضي الليلُ والنهار تحقيقًا لوعد الله بحفظ كتابه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬2). أيها المسلمون عمومًا .. وأيها الحافظون لكتاب الله خصوصًا استشعروا عظيم نعمة الله عليكم بالقرآن، وإياكم أن يكون أغلى ما عند الناس أرخص ما لديكم. ومن وصايا الأئمة أسوق لكم قول الفضيل- يرحمه الله-: «ينبغي لحامل القرآن أن لا يكون له حاجةٌ إلى أحد من الخلق وينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه، وحامل القرآن حاملُ راية الإسلام لا ينبغي له أن يلغو مع من يغلو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلهو مع من يلهو» (¬3). ووصية الآجري- هي الأخرى- ذات قيمة فاعقلوها واعملوا بها، يقول- يرحمه الله-: فأول ما ينبغي لحافظ القرآن أن يستعمل تقوى الله في السر ¬

(¬1) سورة الإسراء، آية: 79. (¬2) سورة الحجر، آية: 9. (¬3) الآجري، أخلاق أهل القرآن (37)، أبو نعيم 8/ 92.

والعلانية باستعمال الورع في مطعمه ومشربه، وملبسه ومسكنه، بصيرًا بزمانه وفسادِ أهله فهو يحذرهم على دينه، مقبلًا على شأنه، مهمومًا بإصلاح ما فسد من أمره، حافظًا للسانه، مميزًا لكلامه، همه في درس القرآن إيقاعُ الفهم لما الزمه الله من اتباع ما أمر والانتهاء عما نهى، ليس همتُه: متى أختم السورة؟ بل همتُه: متى استغني بالله عن غيره؟ متى أكون من المتقين؟ متى أكون من المحسنين، متى أكون من المتوكلين؟ متى أكون من الخاشعين؟ متى أكون من الصابرين؟ متى أكون من الصادقين .. إلخ الصفات الحميدة والخلال الكريمة التي يسائل نفسه متى يبلغها؟ (¬1). أما أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وهو من يُعرف بحسن التلاوة لكتاب الله، فقد روي أنه جمع الذين قرءوا القرآن- وهم قريبٌ من ثلاثمائة، فعظم القرآن وقال: إن هذا القرآن كائن لكم ذخرًا وكائن عليكم وزرًا، فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن زخَّ به في قفاه فقذفه في النار» (¬2). يا حامل القرآن إياك أن ترائي بحمله، أو تتكبر فتغمط أحدًا حقه أن آتاك اللهُ القرآن .. ولا خير فيك إن لم يهذب القرآن خلقك، ويحببك للناس ويحبب الناس إليك، بل وينبغي أن تسجد لله شكرًا أن آتاك القرآن، وتحمده سرًا وجهرًا وظاهرًا وباطنًا أن جعلك من أهل القرآن، فلم تحفظه بحولك وقوتك، ولا بفرط ذكائك وقوة صبرك بل بحول الله وتوفيقه وإعانته .. فهناك من يفوقك في هذه الصفات كلها ولم تمكنه هذه القدرات كلها في حفظ كتاب الله. فاعقل وثمن نعمة الله عليك واعلم أنك ممتحن فيها، فاشكر الله عليها، وأدِّ حق الله فيها، ¬

(¬1) الآجري، أخلاق أهل القرآن (79)، محمد الدويش، حفظ القرآن 61. (¬2) الدارمي (3328)، والآجري (3)، وانظر: حفظ القرآن 61.

وليرى الناس فيك أخلاق القرآن، وصفات المؤمنين، وسيما الخاشعين فيعلموا بها وبآثارها إنك من أهل القرآن وان لم يجزموا أنك من حفاظ كتاب الله. يا حامل القرآن من حق الله عليك في هذه النعمة أن تعلم القرآن من احتاج إلى تعليمه .. وتذكر بقيمة تلاوته وتيسير حفظه من ظن ذلك أو توهمه أمرًا عسيرًا .. لتكن مصباحًا يضيء حيثما حلَّ أو ارتحل، ولتكن نموذجًا للعلم والوعي تذود عن حياض الإسلام سهام الموتورين، وتذود عن لغة القرآن كيد الكائدين. أيها المسلمون كبارًا وصغارًا، ذكرانًا وإناثًا. هذه بعض مزايا وفضائل حفظ كتاب الله .. إلا وإن الفرصة لا تزال متاحة لمن فاته الركبُ في سني عمره الأولى .. فلا حدَّ للحفظ وإن كان في زمن الصبا أولى وأحرى بالثبات .. ولكن التاريخ يثبت والواقع يشهد بأن مجموعة من الناس حفظوا كتاب الله على كبر، إنها الهمة الصادقة والعزيمة القوية والاستعانة بالله وحده تذلل الصعاب وتجعل العسير سهلًا والمستحيل أمرًا واقعًا .. فجدوا معاشر المسلمين في طلب كتاب الله وحفظه .. واحرصوا معاشر الآباء والأمهات على تنشئة أبنائكم وبناتكم على حفظ كتاب الله والعناية به، فمن أسرار القرآن وإعجازه أن الصبي قد يتهيأ لحفظ كتاب الله وهو بعدُ لا يعرف للحرف شكلًا، ولا يملك من اللسان العربي إلا كلماتٍ محدودة .. ثم ما يلبث زمنًا إلا وقد حفظ كتاب الله. معاشر المسلمين لا يغب عن بالكم وأنتم تحاولون حفظ كتاب الله أو تحفيظه لأولادكم أن تذكروا قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}. يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: «أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد

حفظه، فهل من طالب لحفظه فيُعان عليه» (¬1). اللهم يسر لنا حفظ كتابك، وأعنا على تدبره والعلم به، والعمل بمقتضاه .. اللهم اجعلنا من أهل القرآن .. اللهم حكمه فينا وفي المسلمين. ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن 17/ 134.

آية محكمة ودلالتها

آية محكمة ودلالتها (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن إلا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر أنبياء الله ورسله، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬2). عباد الله، تنطوي هذه الحياة الدنيا على مسرات وأحزان وشدة ورخاء، وليست المسرات والرخاء ملائم خيرٍ دائمًا، وليست الأحزان والشدائد دليل شرٍ أو سخط على العبد، كلا وفي الناس من يتقلب في النعيم ويعيش معظم حياته في لهو ولعب، قد ترك لنفسه العنان لتقوده من شهوة إلى أخرى ومن الناس أيضًا من يكابد المرض، أو تتوالى عليه النوازل والمحن وإنك لتعجب أن ترى الصنف الآخر المُبتلى أكثر أنسًا وسعادة من الصنف الأول. فكيف يقع ذلك؟ وللإجابة باختصار أقول: إن الإيمان إذا وقر في القلب لم يعد للمرء من منغص في هذا الحياة، وصاحبُه يرى مسكنه في الدنيا أعلى المنازل وإن كان مسكنه كوخًا مجمعًا .. أو بناءً صغيرًا متواضعًا تمرُ بصاحب الإيمان الشدة أو الحاجة ¬

(¬1) ألقيت حاذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 15/ 4/ 1419 هـ. (¬2) سورة آل عمران، آية: 102.

والمرض فيصير لها راضيًا محتسبًا فيعيش مطمئنًا حينها، ثم تفرج الشدة وتقضى الحاجة ويزول المرض فيستبشر ويشكر، ويعيش في مسواتها أكثر مما عاشه المترفون طول حياتهم نعيمًا وأنسًا. أجل يا عبادَ الله الأنس أنس الإيمان، والشقوة لأهل الكفر والفسوق والعصيان، وأن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم. هذه حقيقة ينبغي أن نعيها وأن اختلت موازين البشر في تقييمها .. لكنها أمر محكم، وقيمة ربانية. ولتأكيد هذه الحقيقة تعالوا بنا لنقف على آية محكمة من كتاب الله طالما فرح بها المؤمنون، وأثر عن بعض السلف أنهم كانوا يقرءونها ويرددونها ويبكون لها حتى الفجر. تلكم الآية قوله تعالى: {أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (¬1). «عن مسروق أن تميمًا الداري رضي الله عنه قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية» (¬2). وقال بشير: بتُّ عند الربيع بن خثيم ذات ليلة فقام يُصلي، فمرَّ بهذه الآية فمكث ليلة حتى أصبح لم يَعْدُها ببكاء شديد، كما كان الفضيل بن عياض- يرحمه الله- كثيرًا ما يقرأ هذه الآية ويرددها من أول الليل إلى آخره- كذا نظائرها- ثم يقول: ليت شعري من أي الفريقين أنت؟ وكانت هذه الآية تُسمى مبكاة العابدين لأنها محكمة (¬3). ¬

(¬1) سورة الجاثية، آية: 21. (¬2) تفسير ابن كثير 4/ 241. (¬3) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 16/ 166.

يا أخا الإيمان أما نظائر هذه الآية فكثير في كتاب الله اقرأ وتمعن قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} (¬1). واقرأ وتدبر قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (¬2). وقف وقفة خاشع مصدق بقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (¬3). أيها المسلمون ومن عدل الله ورحمته ألا يُسوِّي بين الأخيار والفساق، ومن باب أولى ألا يسوي بين المؤمنين والكفار سواءٌ في الحياة الدنيا أو في الآخرة. وإذا عُلم عظيمُ الفرق في الجزاء في الآخرة، بما لا يمكن أن يتصوره المرءُ في مخيلته من أنواع النعيم، أو دركات الجحيم، والله يقول: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬4). وفي سؤال موسى- عليه السلام- ربَّه عن أدنى وأعلى أهل الجنة منزلة ما يكشف طرفًا من هذا النعيم، قال يا ربِّ ما أدنى وأعلى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجلٌ يأتي بعدما يدخل أهلُ الجنة الجنة، فيُقال له: ادخل الجنة، فيقول أي ربِّ كيف وقد ¬

(¬1) سورة السجدة، الآيات: 18 - 20. (¬2) سورة ص، الآيتان، 27، 28. (¬3) سورة الحشر، آية: 20. (¬4) سورة السجدة، آية: 17.

نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم، فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْكِ ملِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربِّي، فيقول لك مثله، ومثله معه، ومثله، ومثله، ومثله، فقال في الخامسة رضيت ربِّ، فيقال هذا لك وعشرةُ أمثاله، ولك ما اشتهت نَفسُك ولذة عينُك، فيقول رضيت رب (فهذا أدنى أهلها الجنة منزلة). قال موسى: ربِّ فأعلاهم منزلةً؟ قال: أولئك الذين أردتُ غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذنٌ، ولم يخطر على قلب بشر، قال: ومصداقه من كتاب الله قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1). فإذا قارنت هذه الصورة بصورة معاكسة قال الله في بيانها: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} (¬2). أدركت عظيم الفرق بين الفئتين، وتباين الصورتين وتفاوت المنزلتين- ولكن ينبغي أن تعلم- يا أخا الإسلام- أن فضل الله واقعٌ ونعمته حاصلة لأهل الإيمان في الحياة الدنيا، قبل بلوغهم ما وعدوا به في الآخرة .. وآية الجاثية تقرر هذا وتؤكده والله يقول: {أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) سورة فاطر، الآيتان: 36، 37.

بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (¬1). فهم سعداء في حياتهم وبعد مماتهم وقيل إن الضمير في قوله (محياهم ومماتهم) يعود على الكفار، والمعنى: محياهم محيا سوء، ومماتهم ممات سوء. وقال مجاهد: «المؤمن يموت مؤمنًا ويبعث مؤمنًا، والكافر يموت كافرًا ويبعث كافرًا» (¬2). وقوله تعالى: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي ساء ما ظنوا بنا وبعد لنا أن نساوي بين الأبرار والفجار في الدار الآخرة وفي هذه الدار (¬3). أخوة الإسلام والمتأمل في آيات القرآن يلحظ الحديث عن معدل الله وبيان حكمته من خلق السماوات والأرض أو مؤخرًا حين الحديث عن فروق الجزاء بين الكفار والمؤمنين وبين المتقين والفجار، وحيث جاء ذكرُ العدل مؤخرًا في آية الجاثية السابقة، فقد جاء مقدمًا في آيات (ص) كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (¬4). أيها المسلمون وهذه الآيات ونظائرها داعية للإيمان مؤنسة للمؤمنين، وفيها الوعيد للكفار، وهي تكشفت عن نوع الحياة التي يعيشها الفريقان في الحياتين، وفيها مبشرات عاجلة لأهل الإيمان لا تبديل لكلمات الله، ولا مغير لحكمه، وحري بأهل الإيمان أن يفرحوا بهذه الآيات ونظائرها، قال تعالى: {أَلا إِنَّ ¬

(¬1) سورة الجاثية، الآيتان: 21، 22. (¬2) تفسير القرطبي 16/ 165، 166. (¬3) تفسير ابن كثير 4/ 241. (¬4) سورة ص، الآيتان: 27، 28.

أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬1). ¬

(¬1) سورة يونس، الآيات: 62 - 64.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين أجزل المثوبة لأهل الإيمان، وحكم بعدله وقضائه بالخيبة والخسران لأهل الكفر والطغيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهداه النجدين .. فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآيات الله يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وما قبضه الله حتى ترك الأمة على محجة بيضاء ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها إلا هالك .. ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، ويرزقه العمل والاستعداد ليوم الدين، اللهم صل عليه وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين. أيها الناس يشهد الناسُ مصداق كتاب الله في واقع الحياة إذ يرون فقيرًا مدقعًا، أو مريضًا، أو مبتلى من أهل الإيمان ولكن حياته أنسٌ وطمأنينة ورضا وصبر وشكر، قانع بما آتاه الله، راضٍ بما قسم له، صابرٌ على ما أصابه. ويرون ذا نعمةٍ موسرًا معافى ولكن الهموم تتناوشه، والأمراض النفسية تحيط به، ذلكم لقلة الشكر والذكر عند هؤلاء، وفي القرآن إشارة إلى غلبة التكذيب والبطر عند أهل النعمة: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} (¬1). {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (¬2). وجاءت إشارات القرآن كذلك إلى ربط الرضى والصبر والشكر عند أهل ¬

(¬1) سورة المزمل، آية: 11. (¬2) سورة العلق، الىيات: 6 - 8.

الإيمان والبلوى {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (¬1). أخوة الإيمان هنا أتوقف عند ذكر الرحمة في هذه الآية إثر ما ابتلى الله به نبيه أيوب عليه السلام، حتى امتدحه الله بالصبر عليها في آية أخرى فقال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (¬2). وأقول إن القلة من الناس من يرى رحمة الله بعباده من خلال ابتلائهم بأنواع البلوى، ولذا قال العارفون: إن من تمام رحمة أرحم الراحمين تسليط أنواع البلاء على العبد فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعُه من كثير من أغراضه وشهواته من رحمته به، ولكن العبدَ لجهله وظلمه يتهمُّ ربَّه بابتلائه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه وقد جاء في الأثر: أن المُبتلى إذا دُعي له: اللهم ارحمه يقول الله سبحانه: كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟ وفي أثر آخر: إن الله إذا أحب عبده حماه الدنيا وطيباتها وشهواتها، كما يحمي أحدُكم مريضه. فهذا من تمام رحمته به، لا من بخله عليه. ومن رحمته سبحانه بعباده ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمةً وحميةً، لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به، فهو الغني الحميد، ولا بخلًا منه عليهم بما نهاهم عنه فهو الجوادُ الكريم، ومن رحمته أن نغَّص عليهم الدنيا وكدَّرها لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إلى ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآيتان: 83، 84. (¬2) سورة ص، الآية: 44.

ذلك بسياط الابتلاء والامتحان فمنعهم ليعظهم وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم ومن رحمته بهم أن حذرهم نفسه لئلا يغتروا به، فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به، كما قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} كما قال غير واحدٍ من السلف «من رأفته بالعباد حذرهم من نفسه لئلا يغتروا به» (¬1). أيها المسلمون ألا إن الذين يشهدون هذه المشاهد ويشعرون بهذه المشاعر هم المؤمنون حقًا، فهم يأنسون بذكر الله، ويشكرون أنعمه، ويصبرون محتسبين على أقداره وأولئك أهلُ الإيمان، وأصحاب الطمأنينة، وعنهم قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬2). اللهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين. أما غيرهم فيتأفف لكل نازلة، ويضيق بأي بلوى تصيبه إعراضه عن الله دائم، ونعم الله عليه تتوالى، فلا هو على النعم شكر، ولا عن التضجر عن مصائب الدنيا ازدجر، أولئك يعيشون حياة الضنك في الدنيا، ويحشرون يوم القيامة على وجوههم عميًا {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} (¬3). وعلى قدر البعد عن الله ونسيان آياته، والإعراض عن ذكره يكون الضنك في الدنيا، والعذاب في الآخرة. يا أهل الإيمان اعرفوا ربَّكم- بأسمائه وصفاته- حق المعرفة، وقدروا نعمة ¬

(¬1) ابن القيم، إغاثة اللهفان 2/ 252، 253. (¬2) سورة الرعد، آية: 28. (¬3) سورة طه، الآيات: 124 - 126.

الإيمان، واشكروه على نعمةِ الإسلام، وتحلوا بآداب الإسلام وقيمه، وقدموها للناس بسلوككم راضين مطمئنين شاكرين، ذاكرين، متطلعين إلى دار البقاء، متجافين عن دار الغرور، ألا فأكثروا من زاد التقوى فالسفر طويل، وخففوا أحمال السيئات فالعقبة كؤود. وأخلصوا العمل فالناقد بصير، وتفقدوا قلوبكم بالإيمان {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1). إلا وأن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسدُ كله، ألا وهي القلب .. اللهم أصلح فساد قلوبنا، وردنا والمسلمين إليك ردًا جميلًا. ¬

(¬1) سورة التغابن، آية: 11.

واجبنا مع بدء العام الدراسي

واجبنا مع بدء العام الدراسي (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله رب العالمين يُقلب الليل والنهار، وتتعاقب بإذنه الأمم والأجيال، وكلُّ يوم هو في شأن، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مالك الملك، وما بكم من نعمةٍ فمن الله، وإذا مسكم الضر فإليه تجأرون وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، الأمين على وحيه، والشافع المُشفع للأمة، صاحب الحوض المورود وسيذاد عنه أقوام أحوج ما يكونوا إليه، وحين يسأل عنهم نبي الرحمة ويقول أمتي أمتي .. يجاب إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. اللهم ألهمنا العلم بسنته، وارزقنا الثبات على الحق الذي جاء به، حتى نلقاك ربَّنا وأنت راضٍ عنا. اتقوا الله معاشر المسلمين في سرِّكم وعلانيتكم وإياكم أن يطلع الله في قلوبكم، خلاف ما تتحدث به ألسنتكم فاللهُ لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وسويداء القلب صمام الأمان .. إذا صلحت المضغة صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله .. ، وغدًا تبلى السرائر، وتكشف الخبايا، والناجون هم الصادقون المتقون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬2). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 20/ 5 / 1419 هـ. (¬2) سورة التوبة، آية: 119.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬1). عباد الله ابتدأ العام الدراسي، والمسافة بين امتحانات الفصول الماضي، وبدء الدراسة في هذا الفصل الحالي وإن كانت قصيرة في عمر الزمن. فهي طويلة في حساب المكاسب والخسائر. أجل لقد غنم فيها قومٌ وغُبن آخرون .. كانت مكاسب لمن اغتنموها بالجد وعمل الصالحات، والقراءة النافعة ونحوها من أعمالٍ قد لا يتوفر الوقت لها أثناء موسم الدراسة .. أما الصنف المغبون فهم أولئك المفرطون لطاقاتهم، القاتلون لأوقاتهم، هؤلاء ظنوا الإجازة سهرًا وصخبًا، وخيل لهم أنهم يعيشون أحلى الليالي مع برامج ساقطة وعبر شاشات وقنوات هابطة تم انقشع الصبح وإذا بالسراب خادع .. وانتهت اللذة وهيجت الشهوة .. واستحكمت الغريزة، فعاشت المُشاهد لحظات الحسرة والندامة، والصريع الأكبر من قادته هذه المشاهد إلى اقتراف المحرم، فاخترق الحمى، وتجاوز الخطوط الحمراء! ! معاشر الطلبة والطالبات عدتم إلى مقاعد الدراسة، والعودُ أحمدٌ إن شاء الله .. فكيف بدأتم هذا العام .. هل جددتم إخلاص النية لله في طلب العلم، وهل اتخذتم من الإجازة محطة للتقوية والترويح البريء، الذي يُسهم في تقبلكم للمعلومة المفيدة، هل تحتاجون إلى من يُذكركم أدب طلب العلم، وهل تمارسون الأدب مع معلميكم وزملائكم وهل تتذكرون يوم أن تسعوا كلَّ صباح إلى أماكن الدراسة قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة» وتستحضرون تقوى الله في طلبكم العلم والله يقول: ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71.

{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (¬1). أخي الطالب أختي الطالبة ما نوع الزملاء والأصدقاء الذين تختارونهم لرفقتكم أثناء الدراسة وخارجها، هل هم من النوع الذي يعينكم على الخير، ويساهم في تذليل المصاعب ويُشجع على الطموح؟ أم هم من النوع الذي يجركم إلى الوراء كلما حاولتم الصعود إلى الأمام، ويدعوكم إلى الرذيلة، ويسخر من الفضائل والمكارم .. ألا ففروا من المجذوم فراركم من الأسد .. واحرصوا على الجليس الصالح فهذا إن لم تبتعْ منه، أحذاك من رائحته الطيبة .. ويكفيك أنه محل وصية نبي الهدى والرحمة .. وأنت خبيرٌ بالفرق بين حامل المسك ونافخ الكير .. واختر لنفسك ما تشاء! ! أيها المعلمون والمرشدون وأيتها المعلمات والمرشدات .. وحين تتوافد عليكم هذه الجموع المتجددة من الطلبة والطالبات، فماذا أعددتم لهم وبم تستقبلونهم؟ وكيف وماذا ستعلمونهم؟ إنهم أمانة في أعناقكم فقدِّروا الكلمة التي تقولونها وزنوا الحركة قبل أن تتحركوها .. واعلموا أن الدارسين والدارسات يسمعون بأعينهم أكثر من سماعهم بآذانهم .. نعم إنها القدوة لا يكفي بها مجرد الكلام .. بل تحتاج إلى ممارسة الأفعال، والعلمُ ليس مجرد نصوص تُحفظ .. ولكنها الممارسة والتطبيق العملي الذي يجعل من النصوص أشكالًا تتحرك، وأشخاصًا تترجمها إلى واقع عملي فتنساب في أذهان الدارسين والدارسات ويتيسر عليهم هضمها والاستفادة منها. أيها المدرسون والمدرسات مهنتكم من أعزِّ المهن، وقد قيل: كاد المعلمُ أن يكون رسولًا، فجملوها بالإخلاص، واحموها بالجدِّ والمتابعة ومهما كان نوع ¬

(¬1) سورة البقرة.

رقابة البشر عليكم، فضعوا رقابة الله دائمًا نصب أعينكم وتذكروا دائمًا قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}. اعلموا أن الغرس الذي تغرسونه اليوم سيثمر غدًا، ولا يكن شبحُ الامتحان همكم الوحيد، أو معوقًا لرسالتكم التربوية النبيلة، واستثمروا فرص النشاط اللامنهجية التي تبعث بها إداراتكم إليكم، وبأخلاقكم العالية ومعاملتكم الطيبة تصلوا إلى قلوب الطلاب قبل أن تصل كلماتكم إلى أسماعهم. أيها المدراء الفضلاء أنتم على رأس المسؤولين في مدارسكم فكونوا عند حسن الظن بكم، وما أجمل الرئيس يجمع بين الحزم والحلم، وبين الضبط الإداري والمرونة في التطبيق، شجعوا المدرس والطالب المجد، وخذوا بأيدي الكسالى وساهموا في صعودهم إلى أعلى، وليكن أسوأ ما عندكم آخر سهمٍ في جعبتكم، عالجوا الأخطاء بحكمة، وإياكم والتساهل بعلاج الأخطاء أو الانحرافات فور وقوعها .. حتى لا تتسع دائرتُها، ويتعاظم خطرُها، اجمعوا بين اليقظة والثقة، وليكن لكم جولات ولقاءات متتابعة، أنصفوا المظلوم، وخذوا على أيدي الظالم .. وأشركوا البيت في مهمتكم، وتعاونوا ورجالات الحي في كل ما يحقق النجاح لرسالتكم، شكلوا من المدرسة أسرة صالحة بمعلميها وطلابها وإدارييهم .. واجعلوا من تقوى الله، والإخلاص لله سندًا يمدكم الله بعونه، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا، ويجعل الله من أمره يسرًا. ومثل ذلك يقال للمديرات الفاضلات .. وكلٌّ بحسبه. معاشر الأولياء، أنتم شركاء للمدرسة في مسؤوليتها .. ولا ينتهي دوركم عند تأمين اللوازم المدرسية للطلبة والطالبات .. وإيقاظهم في الصباح ولا ينبغي أن يكون آخر عهدكم بالمدرسة تسجيلهم فيها .. لابد من متابعة الأبناء والبنات والسؤال عن حالهم وزيارة المدرسة بين الفينة والأخرى للسؤال عن الأبناء

والمساهمة في رأي أو اقتراح مفيد لعموم الدارسين. معاشر الأولياء كم هو مؤلم أن تجد عناية من الأسرة لجانب من جوانب الطلبة، وترى إهمالًا في جوانب آخري .. وقولوا لي: بربكم هل أدى الأمانة من حرصه على استيقاظ ابنه للدراسة مقدمٌ على حرصه على الصلاة .. وتحسُره على فوته الدراسة أشدُّ من تحسره على فوت وقت الصلاة .. إنها ممارسات خاطئة يحس الطلبة والطالبات فيها بنوع من التناقض بين ما درسوه في المدرسة وما يجدونه في المنزل .. فعظموا أمر الله- معاشر الأولياء- في نفوس الناشئة، ومروهم بالصلاة لسبعٍ واضربوهم عليها لعشرٍ وفرقوا بينهم في المضاجع .. وإياكم وإشغالهم بمشاهد يطول سهرهم عليها فيأتون للمدارس وما بهم قدرة على التركيز والتحصيل وإن كانت هذه المشاهد محرمة فالأمر أدهى وأمر. معاشر الأولياء تشكو المدارس من ضعف قوامة بعض البيوت على أبنائهم وبناتهم. وتلك مصيبةٌ وداء عضال ولاسيما إذا كان منشأه قلة الاهتمام والانشغال بأمور الدنيا .. وكل ذلك له آثاره على ضعف الطلبة والطالبات دراسيًا .. وانحرافهم- لا قدر الله- خلقيًا فتنبهوا لذلك معاشر الأولياء، وتذكروا دائمًا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة التحريم، آية: 6.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده مقاليد السماوات والأرض، وهو وحده الممسك لهما أن تزولا .. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ترك الناس على المحجة البيضاء .. فتفرقت ببعضهم السبل- لضعف في الثبات على طريق الهدى .. أو لغلبة الهوى- والموفق من عصمه الله من الفتن .. وسار على طريق محمدٍ ومن بسنته اقتفى .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها المسلمون المباني الدراسية ذات شأن في العملية التعليمية، فتهيئة المكان المناسب، وتوفير وسائل التبريد والتدفئة- ووجود ساحات ينطلق فيها الطلاب يروحون عن أنفسهم، وتوفر المعامل اللازمة لتدريب الطلبة، ووجود مكتبة عامرة يأوي إليها الطلاب والطالبات وينهلون من علومها، ويستعيرون منه ما لا يسعفهم وقت المدرسة بقراءته .. إلى غير ذلك من أمورٍ تُسهم في مسيرة العملية التعليمية بحيوية وراحة ونشاط. أما المناهج الدراسية فهي والطالب المقصودة أساسًا بالتعليم ولهما يوفر المعلمون والمعلمات، ومن أجلهما تنشأ المباني وتوفر المعامل .. وتنفق النفقات. ولذا فحريٌّ بنا معاشر المدراء والمعلمين والأولياء والطلبة .. أن نوليها من العناية ما تستحق، وأن نهتم مع جهات الاختصاص دائمًا في مزيد العناية بها وتطويرها للأفضل. ومحور التطوير ينبغي أن يقوم على الأصول والثوابت وأن يبرز الهوية،

ويصون القيم، وأن يقدر تأريخ الأمة في فترات عزها ويسعى لتحقيقه، ويسبر أغوار ضعف الأمة ويجنب الناشئة سلوكه كما ينبغي أن تقوم المناهج كذلك على استثمار وسائل التقنية الحديثة، وطرق التربية النافعة وأن تصل الطالب بماضيه ولا تفصله عن حاضره، وأن تَبْنيَ هذه المناهج في الدارسين قوة العلم واليقين، والقدرة على تحدي ومنافسة الآخرين، بسلاح العلم والثقافة وأن تُخرج أجيالًا قادرة على التفكير، مستعدة للعطاء، نافعة لنفسها وللمجتمع من حولها. أجل إن المناهج الدراسية بإلزاميتها للجميع قادرةٌ على رفع مستوى الأمة، إذا توفر لها مخططون مخلصون، يرون مواقع الضعف فيعالجونها .. ومواقع القوة الغائبة عن النشء فيعيدونها عبر المناهج بالوسائل المختلفة .. وإذا كان زماننا زمان صراع حضاري وعقائدي بين الأمم فإن من علائم إخلاص ووعي المعنيين بالمناهج .. اعتبار هذا التحدي والتركيز على المنطلقات العقدية والفكرية الصحيحة في بناء المناهج وصياغتها، وتوزيع التخصصات فيها، وحجم الساعات المقدرة لكل منها. وعلينا مدراء، ووكلاء ومعلمين، ومرشدين، وطلبة نابهين أن نُسهم بالرأي والمشورة، من خلال تجاربنا وتدريسها أو إشرافنا أو اطلاعنا على هذه المواد، وبوركت الأمةُ المتناصحة فيما بينها، وبوركت الجهود المبذولة من هنا وهناك والقرار في النهاية لأولي الأمر والعلم والاختصاص. كان الله في عونهم وسدد على طريق الخير خطاهم، وجنبهم الزلل وأقال عثرتهم، ونفع الأمة بجهودهم. أيها المسلمون بقيت همسةٌ لطيفة، فقد تشتد ظروف الحياة على بعض الدارسين أو الدارسات .. وقد يشق عليهم توفيرُ ما يستطيع نظراؤهم توفيره .. فهل يجد هؤلاء من المدرسة رعاية خاصة وبطريقة مناسبة، لا تجرح شعورًا ولا تقلل قدرًا .. لكنها تُحسن وتبر وتتخذ من المدرسة جسرًا للمحبة والوصال

والنصيحة. بل وما أجمل المدرسة تكون مصدر إشعاع لأهل الحي تعين الضعيف، وتقوِّم المنحرف، وتعلم الجاهل، وتبصِّر الأسرة المحتاجة لسلوك الطريق القويم. إنها رسالة المدرسة التربوية المتكاملة، ينبغي أن يحسَّ بها ويعمل لها العاملون المخلصون .. والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا وما فتئ المسؤولون في التعليم يقولون: إن من الخسارة ألا يستفاد من المباني المدرسية إلا بضع ساعات، ومن هنا جاء تأكيدهم على افتتاح مراكز الأحياء، وافتتاح المراكز الرمضانية في المدارس .. فهل نستفيد من المدارس بأكبر حجم ممكن- اللهم اهدنا لليسرى.

إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه ..

إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه .. (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها الناس أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وتلك وصية الله لكم ولمن قبلكم: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (¬2). {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (¬3). ألا فاتقوا الله عباد الله واشكروه وهو الذي أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون. أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق- قال: «إن أحدهم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يُرسل الله الملك فينفخ فيه الروح، ويُؤمر بأربع كلمات، يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 27/ 5/ 1419 هـ. (¬2) سورة النساء، آية: 131. (¬3) سورة الطلاق، آية: 5.

أحدَكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها» (¬1). أيها المسلمون .. في هذا الحديث سرٌّ عظيم من أسرار الحياة والأحياء، وقدرة إلهية عظيمة تتكرر وتتجدد عبر القرون، ويشهد بها الناس في أنفسهم وذراريهم ومن حولهم، وإن لم يقفوا على سرِّها. والتأمل في هذا الخلق العجيب، والنظر في هذه الأطوار المتعاقبة للجنين حتى يخرج إلى الوجود يزدادُ لها المؤمنون إيمانًا وتقطع دابرَ الشكِّ، وتفحم أهل الإلحاد المنكرين لوجود الخالق جلَّ جلاله .. إن هذه النطفة بتشكلها وأطوارها واحدةٌ من دلائل الإيمان بالخالق جلَّ جلاله، فهي لا تختلف في أسبابها، ولا تنقطع عن الوجود بتكررها، وهي آية كبرى تدل على عظمة من خلق فسوى والسرُّ الأعظم أن هذا الإنسان المدرك فيما بعد، صاحب القوى والقدرات، والطاقات والانفعالات .. أصله من ماء مهين التقى فيه ماءُ الرجل مع ماء المرأة، فتولى الله خلقه وتكوينه عبر مراحل وأطوار، لا يعلمُ بها أقرب الناس إليها- إلا بعد تحركها ونفخ الروح فيها فتبارك اللهُ أحسن الخالقين. هذه النطفة يعلم الله بدءها وهو الذي يصورها ويعلم ما ستكون إليه، {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬2). ¬

(¬1) البخاري ح 6594، مسلم 1847 (المنذري) وهذا لفظه. (¬2) سورة آل عمران، آية: 6.

ولا يقف علمه -سبحانه- بكونها ذكرًا أو أنثي، بل يعلم قدرها وأجلها وفقرها وغناها، وشقاها وسعادتها، وحيث أطلق علمُ اللهِ فيها بقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} (¬1). فهو شاملٌ لكل ما يتعلق بهذه النطفة منذ بدء تكوينها إلى نهاية حياتها، وإلى أن تنتهي إلى المصير المقدر لها في الجنة أو في النار، وهذا ما يقف البشر عاجزين عن معرفته مهما تقدمت بهم وسوائل المعرفة، إذ هو من المغيبات التي لا يعلمها إلا الله - وهذه النطفة بما فيها من أسرار وإعجاز، وكثرة وانتشار في الأمم الخالية واللاحقة هينة على الله في خلقها وفي بعثها وكأنه لم يخلق إلا نفسًا واحدة: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (¬2). وفي ذلك ردٌّ على المنكرين للبعث، الذين جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم يقولون إن الله خلقنا أطوارًا، نطفةً ثم علقةً ثم مضغةً ثم عظامًا، ثم تقول: إنا نبعث خلقًا جديدًا جميعًا في ساعة واحدة، فأنزل الله هذه الآية، والله تعالى لا يصعب عليه ما يصعب على العباد، بل يقول للقليل والكثير كُن فيكون (¬3). عجبًا لك يا ابن آدم إذا اشتد عودك، وكملت قواك، نسيت الذي خلقك من ضعف، وبدأت تجادلُ وتخاصم ناسيًا أو متناسيًا أصل خلقتك، وسرِّ العظمة في بداية تكوينك، {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} (¬4). ¬

(¬1) سورة لقمان، الآية: 34. (¬2) سورة لقمان، آية: 28. (¬3) تفسير القرطبي 14/ 78. (¬4) سورة يس، الىيتان: 78، 79.

وعجبًا لك يا ابن آدم، ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك، ثم أنت بعدُ تكذب أو تشك في يوم الدين، وإن لم تقل هذا بلسانك، فلسان حالِك يشهد بإضاعتك للواجبات وارتكابك لكثير من المحرمات وقد لا تشعر بخطئك، وقليلًا ما تستغفر ربك، فأين ما يستلزمه الإيمان بالدين من خالص المحبة لله والتوكل عليه، والخوف منه، والرغبة إليه. أيها المسلمون الإيمانُ بعظمة الخالق وقدرته من خلال بدء الخلق وتصوير الأجنة ينبغي أن يقود لمزيد الإيمان بالبعث والجزاء، وكثيرًا ما تأتي آيات الخلق وانتشار الأحياء في الحياة الدنيا، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} (¬1). بل يقرر الله أن إعادة الخلق للبعث أهون عليه من بدئه- وله المثل الأعلى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬2). عباد الله في هذا الحديث الذي بين أيدينا إخبارٌ صادق بتقدير الرزق وتحديد الأجل لابن آدم وهو بعدُ في بطن أمه، فعلام الجشع في طلب الرزق إلى حدٍ ¬

(¬1) سورة الحج، الآيات: 5 - 7. (¬2) سورة الروم، آية: 27.

يتجاوز المرءُ الحلال إلى الحرام؟ أو إلى درجةٍ يشغله هذا الوزن المضمون عن المصير المحمود في الجنان وهو غير مضمون. ولماذا التخوف على الحياة إلى درجة يخشى الناس فيها أكثر من خشية الله، ولربما قال الإنسان باطلًا أو كتم حقًا، تخوفًا أو تحسبًا أو توهمًا من الشيطان والله يقول: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (¬1)، ويقول في آية أخرى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (¬2). يا عبد الله لا يعني ذلك بحال ترك فعل الأسباب المأمور بها شرعًا ولا التقحم في المهلكات والمنهيات، ولكن اليقين والتوكل، والصدق مع الله، والإيمان بقضاء الله وقدره، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولن تموت نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها، ولو اجتمعت الأمة على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، بهذا جفت الأقلام وطويت الصحف وجرى قدر الله. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ (58) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ} (¬3). ¬

(¬1) سورة آل عمران، آية: 175. (¬2) سورة الأعراف، آية: 34. (¬3) سورة الواقعة، الآيات: 57 - 62.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله الخالق البارئ المصور، له الأسماء الحسنى وهو العزيز الحكيم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله، ورضي عن أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. إخوة الإيمان لا ينتهي الإعجاز الإلهي في خلق النطفة وتكوينها وتسويتها، بل تتكاثر هذه النطفة حتى ينشأ عنها الأنساب والأصهار، فهو في بداية أمره ولدٌ نسيب، ثم يتزوج فيصيُر صهرًا، ثم يصيرُ له أصهارٌ وأختانٌ وقرابات وكل ذلك من ماء مهين، ودليلٌ على قدرة رب العالمين، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} (¬1). وسرٌّ آخر أن هذه النطفة التي لا تكاد ترى بالعين المجردة حين استقرارها في الرحم تحمل معها مواصفات وموروثات الجنين بعد. أما السرُّ الثالث فهو أن هذا الجنين يعيش ويتشكل في ظلمات ثلاث ظلمةِ البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، كما قال تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (¬2). والله تعالى وحده يتولى رعايتها، ويهيئ لها غذاءها، والظروف المناسبة لنموها، ثم بقدرته بعدُ يتولى إخراجها بعد اكتمال قواها وقدرتها على العيش ¬

(¬1) سورة الفرقان، آية: 54. (¬2) سورة الزمر، آية: 6.

خارج هذا الجوِّ الذي ألفته .. فتبارك اللهُ الخالق، ونعم القادر المقدر، {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ}. إخوة الإسلام في نهاية الحديث لفتة ووقفة عند حسن الخاتمة أو سوئها، والثبات على الحقِّ إلى الممات أو الزيغ عنه نعوذ بالله من الحور بعد الكور، والضلالة بعد الهدى، فوالله إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باعٍ أو ذراعٍ فيسبق عليه الكتابُ فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غيرُ ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. قال ابن أبي حمزة- يرحمه الله-: هذه التي قطعت أعناق الرجال مع ما هم فيه من حسن الحال لأنهم لا يدرون بماذا يُختم لهم (¬1). ترى من منا تُخيفه نهاية هذا الحديث فيظل دائبًا في عمل الصالحات خائفًا من الزيغ قبل الممات. سائلًا ربه دائمًا حسن الختام، والخوف والمصيبة حين يقل عملنا ويقل خوفنا، وحين ندعو «اللهم أحسن خاتمتنا» فهل ترانا نستحضر، ما جاء في نهاية هذا الحديث؟ وما أحرانا أن نتأمل ما جاء في الرواية الأخرى من حديث أنس عند أحمد وصححه ابنُ حبان بلفظ «لا عليكم أن لا تُعجبوا بعمل أحدٍ حتى تنظروا بم يُختم له، فإن العامل يعمل زمانًا من عمره بعملٍ صالحٍ لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملًا سيئًا .. » الحديث (¬2). إخوة الإيمان في الحديث تذكيرٌ وتأكيدٌ على الإيمان بالقضاء والقدر وهو أحد الأركان الستة للإيمان فلا يتم إيمان العبد إلا به، وهو التسليم والرضا ¬

(¬1) الفتح 11/ 488. (¬2) الفتح 11/ 487، 488.

لأقدار الله على العبد، وفي الحديث الحسن الذي أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء مرفوعًا: «إن العبد لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه» (¬1). وكيف يجزع المرءُ ويتسخط من شيء قد كتبه الله عليه سلفًا وهو في بطن أمه، ولكن الإيمان بالقضاء والقدر لا يتعارض مع فعل الأسباب المشروعة ولا ينبغي أن يقعد بالإنسان عن العمل. فهذه كذلك من أقدار الله والعبدُ مأمورٌ بفعلها، ولهذا فحين سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فائدة العمل مع تقدم القدر أجابهم بقوله: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» فقد أخرج البخاري في صحيحه عن علي رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عودٌ ينكتُ به في الأرض فنكس وقال: «ما منكم من أحد إلا قد كُتب مقعده من النار أو من الجنة»، فقال رجلٌ من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: «لا، اعملوا فكل ميسر»، ثم قرأ {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية (¬2). وفي هذا الحديث وأمثاله ردٌّ على شُبه القدرية الذين يتعلقون بالقدر ويتركون العمل، أو الجبرية الذي يقولون أن الإنسان مجبر على ما يقوم به ولا خيار له ولا مشيئة، ومذهب أهل السنة والجماعة أن كلَّ ما تحدث في الوجود بقضاء الله وقدره، ولكنهم يثبتون للعبد مشيئةً وإرادة بها يتجه للخير أو للشر، ولكنها لا تخرج عن مشيئة الله كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءُ اللَّهُ}. وخلاصة هذه النظرة عبَّر عنها العلماء بقولهم: «إن الله أمرنا بالعمل فوجب علينا الامتثال، وغيَّب عنا المقادير لقيام الحجة، ونصب الأعمال علامةً على ما ¬

(¬1) الفتح 11/ 490. (¬2) ح 6605، الفتح 11/ 494.

سبق في مشيئته فما عدل عنه ضل وتاه لأن القدر سرٌّ من أسرار الله لا يطلع عليه إلا هو، فإذا أدخل أهل الجنة الجنة كشف لهم عنه حينئذ» (¬1). ¬

(¬1) الفتح 11/ 498.

أين الإرهاب؟

أين الإرهاب؟ (¬1) الخطبة الأولي إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. فأما بعد فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬3). أيها المسلمون: تفنى الأمم وتُدمرُ الحضارات حين تكون القوة لغة التفاهم بين مجتمعاتها، ويختل الأمن ويتراجع المدُّ الحضاري حين يسهل استخدام وسائل التدمير في غير موضعها. ومن سنن الله في كونه تعجيلُ نهاية الدول حين تستعلي بقوتها، وتمتد مساحة ظلمها، ويتعاظم فسوق المترفين فيها: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 6/ 5/ 1419 هـ. (¬2) سورة النساء، آية: 1. (¬3) سورة آل عمران، آية: 102. (¬4) سورة هود، آية: 102.

{وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (¬1). لقد قصَّ الله علينا في كتابه العزيز نماذج لدول سادت ثم بادت، وحضارات شُيِّدت في سهول الأرض، ونحت أصحابها من الجبال بيوتًا فارهين، فلما استكبروا وطغوا واغتروا بقوتهم أهلك الله الظالمين منهم، وعادت قراهم حصيدًا كأن لم تغن بالأمس، يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (¬2). لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملكُ مُلكه، والخلق خلقه، والقوة قوته، والأرض له يورثها من يشاء من عباده، والويل لمن غرته قوته واستصغر من دونه، ومنطق الجهل والغرور يحيق بأهله وفي التنزيل: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا 31 عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ} (¬3). أيها الناس: الإرهاب مرفوضٌ في شريعة الإسلام، ذلكم الإرهاب الذي يُفضي إلى قتل النفس بغير حق، ويخيف الآمنين، ويدمر المُنشآت ويبدد الطاقات، ولكن الإشكالية في تحديد مفهوم الإرهاب، ومن يوصفون بالإرهاب، وأين يكون الإرهاب ومصيبتنا في هذا الزمن أن تحديد المصطلحات متروكٌ للدول الكبرى تتلاعب فيه كيف شاءت، وتصف به من تشاء، ونتج عن ¬

(¬1) سورة الإسراء، آية: 16. (¬2) سورة الفجر، الآيات: 6 - 14. (¬3) سورة فصلت: الآيتان: 15، 16.

هذا أن ألصقت التهمُ بالعرب والمسلمين الذين يرفضون سياسات الغرب وحلفائهم في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، ويكشفون الخبث والعداء أن السافر فيها ولهذا سحب اليهود والنصارى وأشياعهم مصطلحات: الإرهاب، والتطرف، والأصولية، ونحوها، على أبناء الأمة العربية الإسلامية، وهي في أصولها الحديثة مصطلحات نابعة من بيئاتهم ولها وجودٌ وأثرٌ في حياتهم وبين شعوبهم، والهدف من تحوير المصطلحات وتحبيرها تشويه صورة المنتمين للإسلام من جانب، وسَتْرِ سوآت الكفار وتطرفهم من جانب آخر. أخوة الإسلام تعالوا بنا لنوى نوعًا من الممارسات والسياسات للدول ذات النفوذ في المنطقة، ونسأل أذلك من الإرهاب أم لا؟ فماذا يُقال عن قتل الأبرياء في مسجد الخليل، وتبييتهم وهم ركعٌ سجدٌ لله والعمل الإجرامي المتمثل بالمحاولة الصهيونية في حرق المسجد الأقصى؟ (¬1) وماذا يُقال عن تطويق الإسلام ومحاصرة المسلمين وإعلان الحرب عليهم في كل من البوسنة والهرسك والشيشان، وكوسوفو؟ أليس من الإرهاب مشاركة الغرب في عزل الإسلام عن الحياة في تركيا، وتنحية الحزب الإسلامي عن الحكم حتى ولو جاء بإرادة الشعب واختياره؟ . يرى المراقبون أن لأمريكا دورًا في تأزيم العلاقات بين الهند وباكستان، وبين حركة طالبان وإيران ودول آسيا الوسطى وإذا حكم العقلاء- أن هذا- ومثله كثير- نوعٌ من الإرهاب العقدي والسياسي، فثمة إرهاب فكري يُصدِّره الغرب وفي مقدمته أمريكا، ومؤتمر المرأة في بكين نموذج صارخ لهذا الإرهاب الذي يتجاهل فيه المخططون للمؤتمر تعاليم السماء عامة فضلًا عن الاعتداء والسخرية ¬

(¬1) الجزيرة 3/ 5/ 1419 هـ.

بتعاليم الإسلام خاصة، بل لقد نجح إرهابيو الغرب وحلفاؤهم في عقد مؤتمر الإسكان في قلبِ العالم الإسلامي متحدين بذلك مشاعر المسلمين، وموقنين بأنَّ فساد المرأة بوابةٌ لفساد المجتمع، وأن تحديد نسل المسلمين أقصرُ الطرق لشل قوة المسلمين، ومنع تناميهم مستقبلًا، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. ومن الإرهاب العقدي والسياسي والفكري إلى الإرهاب الاقتصادي حيث يتحكم الغرب في اقتصاد العالم، ومن جراء هذا التلاعب دخلت دول جنوب شرق آسيا مرحلة السبات الطويل نتيجة الخسائر المتلاحقة لاقتصادها، الذي أثَّر بدوره على الاقتصاد العالمي والرأسمالية الأمريكية والغربية سببٌ مؤثرٌ في ذلك (¬1). أيها المسلمون من المسؤول عن تجويع شعب العراق المسلم، وأيُّ نوع من الإرهاب يكون موتُ آلاف الأطفال وانتشارُ الأمراض لدى شعب العراق العربي المسلم؟ وإذا فسدت القيادة وشذَّ الحزب الحاكم بالظلم والطغيان والفساد .. فهل يُسحب ذلك على الشعب العراقي بأكمله؟ إنها نوعٌ من الممارسات الإرهابية للشعوب المسلمة، تُختلق الأزمة فيها لتكون مبررًا لما وراءها. عباد الله لم يكتفِ الغرب الكافر بخنق السودان وحصاره اقتصاديًا وعزله سياسيًا- وهو البلد العربي المسلم- بل زاد في إرهابه بضرب منشآتٍ صحية فدمرها وألحق الأضرار البالغة فيها فأين الإنسانية .. وأين حقوق الإنسان .. وأين الإسهامُ في نشر الأمن والسلام في العالم من قبل راعية السلام المزعوم؟ ! وهبوا أنه كان مصنعًا لنوع من الأسلحة كما زعموا .. فهل يبرر ذلك ضربه- ¬

(¬1) جريدة الرياض 2/ 5/ 1419 هـ، الافتتاحية.

وهل يجوز إقامة المصانع العملاقة الحربية في مكان ويُحظر في مكان آخر .. ؟ وهل كُتب على العرب والمسلمين تحريمُ الصناعات، وهو حِلٌّ للغرب وحليفتهم إسرائيل؟ . إخوة الإيمان، إذا كلفت الضربة الأمريكية الأخيرة للسودان والمخيمات في الأفغان مائةً وخمسين مليون دولار كما يقال، فهل ذلك قمعٌ للإرهاب أم هو بذاته نوعٌ من الإرهاب واشفزازٌ للمشاعر في العالمين العربي والإسلامي وخلق لأجواء الإرهاب؟ معاشر المسلمين لابد أن نفهم المصطلحات وما وراءها، ولابد أن نعي الأهداف من وراء الضربات، وإذا نظر البعض إليها على أنها محاولةٌ لستر السوءات وتغطية الفضائح، فهناك نظرةٌ أكثر عمقًا لهدف هذه الضربات والممارسات وغيرها وتقضي بكونها حربًا عقائدية مسيَّسة تقف اليهودية والنصرانية في طرف، والإسلام طوف آخر .. ومن استبعد هذه النظرة. فليراجع كتاب الله فيه من أمثال قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ... }. وليراجع تصريحاتٍ أبى الله إلا أن تَفلتَ بها ألسنةُ القوم وهي تكشف عن الأهداف المبيتة والتخوف من الإسلام وأهله، ومن أواخر تصريحاتهم ما قالته وزيرة الخارجية الأمريكية بعيد ضرب السودان والأفغان، قالت: «عندما تتعرض الولايات المتحدة لاعتداء سواءٌ في الحرب العالمية الأولى، أو الحرب العالمية الثانية، أو الحرب الباردة، فإننا نحتاج إلى جهد متواصل ضد ما يمثل التهديد الرئيس في نهاية القرن الحالي، وبداية القرن المقبل .. » (¬1). ¬

(¬1) الحياة، السبت 30/ 4/ 1419 هـ ص 6.

ويُفهم من هذا التصريح أن الإسلام يمثل الخطر الرئيس الذي يهدد الغرب ولذا فلابد من جهد متواصل لحربه، والحربُ مع أبنائه طويلة الأجل وليست هذه المناوشات والضربات والتهديدات إلا حلقةً في سلسلة الصراع الطويل (وقد صدقت وهي كذوبة). فهل ترفع هذه التصريحات الغشاوة عن أعين طالما أُصيبت بالرمد وتستنيرُ أفكارٌ طالما ظللتها الشعارات الُمضللة وأوهمتها المصطلحات المصطنعة، واستجابت للناعقين وهم يفتكون بإخوانهم، وهم في الطريق إليهم إلا أن أتموا المسيرة معهم، ودخلوا جُحر الضب الخرب حيث دخلوا، فأولئك منهم وإن حسبوا على المسلمين في عدادهم؟ اللهم اكشف الغمة وأصلح أحوال الأمة، وانصر أبناء الملة المسلمة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬1). نفعني الله وإياكم. ¬

(¬1) سورة استحنة، الآيتان: 2، 3.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله القوي العزيز، غافر الذنب وقابل التعب، شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه وهو شديد المحال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرتُه من خلقه بعثه الله رحمة للعالمين، وكانت رسالته خاتمة رسالات السماء وناسخة لها، فلا يقبل الله من أحد غير الإسلام دينًا، فهو دينُ الله الخالد، وشريعتهُ هي الصالحةُ للتطبيق إلى يوم القيامة والمسلمون هم خلفاءُ الله في أرضه والمؤتمنون على تبليغ دينه. اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى سائر أنبياء الله ورسله. عباد الله ويشهد على إرهاب الغرب إرهابيو الشرق، فقد وصفت روسيا الإجراء الأمريكي الأخير (بضرب السودان والأفغان) بأنه إرهابٌ دولي، وقال مدير مكتب (إف، بي، آي) إن قرار واشنطن ضرب مواقع في أفغانستان والسودان لا يتعلقُ بالضرورة بالتحقيقات الجارية في تفجير سفارتي نيروبي، ودار السلام .. (¬1). أيها المسلمون بقدر ما يستهين اليهودُ والنصارى والشيوعيون بدماء المسلمين تراهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا تعرض فردٌ منهم للقتل، وكلما زاد عددُ القتلى تعاظم الأمر عندهم فهل دماءُ المسلمين بهذه المنزلة المهينة عند القوم؟ وهل كُتب القتلُ علينا والسلامةُ لغيرنا؟ إنها نوعٌ من الغطرسة والكبرياء لا مبرر لها إلا شعورهم الكاذب بالتميز علينا .. وقديمًا قال أسلافهم وكذبهم القرآن: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬2). ¬

(¬1) الحياة، السبت 30/ 4/ 1419 هـ. (¬2) سورة آل عمران، آية: 75.

ولا يزال اليهود ينظرون إلى أنفسهم على أنهم شعب الله المختار. إخوة الإسلام: من خلال الوقائع والأحداث المتلاحقة تبرر عدةُ دروس حريٌّ بالمسلمين أن يعوها ومنها: 1 - إن الحربَ قائمةٌ بين الإسلام وملل الكفر ولابد من الاستعداد لها والشعور الحي بأسباب الهزيمة ومقومات النمو. 2 - ولابد من الوعي بتحوير المصطلحات والهدف من تصديرها وإلصاقها بالمنتمين الصادقين للإسلام. 3 - وإذا استهدف الغرب بضرباته مجموعات صغيرة لا تقارن قوتها المادية بقوته، ولا تقنياتُها بتقنياته دلَّ ذلك على عظمة هذا الدين وتخوف الغرب من أبنائه ولو لم يبلغوا من القوة مبلغًا كبيرًا .. وهذا يدعو لمزيد التمسك بالإسلام والشعور بالعزة ولو تفوق عليهم عدوهم سياسيًا واقتصاديًا. 4 - ومن جانب آخر ففي الأحداث الجارية إيحاءٌ ظاهر بتخوف الغرب رغم قواهم .. وإذا أخافتهم قوى صغيرة فماذا لو اجتمع المسلمون واتحدت كلمتهم وقواهم؟ 5 - وينبغي أن يُعلم أن العدوَّ اتخذ من ضعف المسلمين وتفككهم وتفوق كلمتهم مناخًا مناسبًا لكيل الضربات هنا وهناك وتصدير الأفكار الهزيلة في عدد من القضايا، وتلك واحدة من ضرائب الفرقة والشتات في العالم الإسلامي والعربي. 6 - وإذا اتحد الأعداء- رغم خلافاتهم- على حرب المسلمين تحت شعارات خادعة .. أفلا يدعو ذلك المسلمين إلى اجتماع الكلمة وتوحيد الصفوف، فهم بالاجتماع أحرى وأولى، والله تعالى يأمرهم بالوحدة على شرع

الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (¬1). وينهاهم عن الفرقة والاختلاف: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬2). 7 - وللإعلام دورٌ مؤثر في توضيح الصورة دون مخادعة، وعلى الإعلاميين كفلٌ كبير في كشف الحقائق لعامة الأمة، وفي مثل هذه الظروف تبرز الهوية ويتحدد نوعُ الفكر .. ويتبين الصادقون ومن يتحملون أمانة الكلمة، والموتورون ومن في قلوبهم مرض، ولسانُ حالهم يقول: نخشى أن تصيبنا دائرة ويقول غيرهم {فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (¬3). وفرقٌ بين من يأوون إلى ركنٍ شديد فيتوكلون على الله ويستمدون النصر منه وحده، وبين من يُعلقون آمالهم على بشرٍ لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، ومثل هؤلاء: {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬4). 8 - إخوة الإسلام: وعلى صعيد الواقع تنكشف الحقيقة في دعوى أمريكا محاربة الإرهاب، فإن كانت صادقة في محاربة الإرهاب فماذا صنعت بإرهاب الصرب النصارى، وإذا ثبت للعالم كلِّه أن بعض قادة الصرب مجرمو حربٍ فهل ضربت أمريكا مواقعهم في سبيل مكافحة الإرهاب؟ وإذا ثبت للعالم كذلك تغطرسُ الصهاينة اليهود في الأراضي المحتلة بتدنيس ¬

(¬1) سورة آل عمران، آية: 103. (¬2) سورة آل عمران، آية: 105. (¬3) سورة المائدة، 52. (¬4) سورة العنكبوت، آية: 41.

المقدسات والاعتداء على حرماتها، وقتل الأبرياء، والاستمرار في بناء المستوطنات، واحتضان أنواع الأسلحة الكيماوية وغيرها .. وكل ذلك من الإرهاب، فماذا صنعت الدول الغربية- وفي مقدمتها أمريكا- لإيقاف هذا المدِّ الإرهابي الصهيوني المتنامي؟ إنها لعبةٌ مكشوفة يغض الطرف فيها عن إرهاب اليهود والنصارى، وتتركز التهم وتضخم القضايا على المسلمين وإذا كان الذئب لا يلام في عدوانه، فالمأساة أن تروج هذه الشائعات على بعض أبناء المسلمين. ومع ذلك كله فعسى أن تكون هذه الأحداث موقظة للمسلمين وباعثة لهممهم وموحدة لصفوفهم، وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعله الله فيه خيرًا كثيرًا.

فابتغوا عند الله الرزق

فابتغوا عند الله الرزق (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله واهب النعم، ومحلِّ النقم، أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو خيرُ الرازقين. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين وارجوا اليوم الآخر، ولا تعثوا في الأرض مفسدين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬3). عباد الله يظل الرزق حبلًا ممدودًا بين السماء والأرض: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (¬4). توهم وفاجرهم ونعمة ووحدة يتفضل الله بها على الخلق أجمعين: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬5). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 11/ 7/ 1417 هـ. (¬2) سورة الحجرات، آية: 13. (¬3) سورة آل عمران، آية: 102. (¬4) سورة الذاريات، أية: 22. (¬5) سورة الذاريات، أية: 58.

والله هو المقر لكل شيء: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا} (¬1). أي: مقتدرًا يُعطي كلَّ إنسانٍ قوته (¬2). لا إله إلا الله ينفردُ وحده بالربوبية والألوهية، ويختص وحده ببسط الرزق أو تقديره: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (¬3). ولا إله إلا الله امتد رزقه فضلًا عن العقلاء، فرزق الطير في أوكارها، والسباعَ في جحورها، والحيتان في قاع البحار والمحيطات، وشمل رزقه الدواب بأنواعها وصدق الله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (¬4). معاشر المسلمين تأملوا عظمة الله وإحسانه وكمال قدرته فالذي لا يَحْملُ الرزق يُحمل له، والذي لا يملك قوتَ يومه أو غده ييسره الله له: {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬5). ومن لطائف ما يُذكر في تفسير هذه الآية: أن الغُراب إذا فقس عن فراخِه البَيْضَ خرجوا وهم بيضٌ، فإذا رآهم أبواهم كذلك نفرا عنهم أيامًا حتى يَسْوَدَّ الريشُ فيظل الفرخُ فاتحًا فاه يتفقد أبويه، فيقيضُ الله تعالى طيورًا صغارًا كالبرغش فيغشاه فيتقوت به تلك الأيام حتى يسودَّ ريشه، والأبوان يتفقدانه كل وقت، فكلما رأوه أبيض الريش نفروا عنه، فإذا رأوه قد اسودَّ ريشه عطفا عليه بالحضانة والرزق (¬6). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 85. (¬2) شرح السنة؟ للبغوي 14/ 245. (¬3) سورة سبأ، أية: 36. (¬4) سورة هود، أية: 6. (¬5) سورة العنكبوت، أية: 60. (¬6) تفسير ابن كثير للآية: 3/ 669.

أرأيتم كيف يتولى الله رزق الضعفاء حين يتخلى عنه أقرب الأقرباء الرحماء؟ إنها منتهى الرحمة وكمال الربوبية؛ رُحماك ربي، تمتلئ بطوننا، وتمتد ثرواتنا، وتتضخم أرصدتنا، ولا نزال نلهث وراء الدنيا، وربما خرجنا ولم نستمتع بما جمعنا، وربما صعب علينا إنفاقُ القليل منها .. ولو كان في ذلك الخير لنا ما هذا السُّعار، وما هذا اللهاثُ .. أين نحن من قوم هانت عليهم الدنيا، والتفتوا بهمم عالية إلى الأخرى .. وربما خروا على الأرض صرعى من الفاقة، والمخمصة فيظن الغريب أن بهم مسًا من الجنون، وما هو إلا الجوع، عن فضالة بن عبيدٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يَخِرُّ رجالٌ من قامتهم في الصلاة من الخصاصة- وهم أصحاب الصفة- حتى يقول الأعراب هؤلاء مجانين، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم فقال: «لو تعلمون ما لكم عند الله تعالى لأحببتم أن تزدادوا فاقةً وحاجة» (¬1). أين التوكل على الله والرضا بما قسم، والشكر على ما أنعم في الحاضر، والثقة برزق الله في المستقبل: «لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا» (¬2). ألا ما أحوجنا- جميعًا- إلى أن نأخذ هذا المال بسخاوة وطيب نفس، فذلك الذي يُبارك له فيه، أما الشرهُ والطمع والحرص والشح؛ فتلك تورد المرء موارد الردى، وهل تُروي البحار ظمأ العطش؟ تلك وصيةٌ من وصايا المصطفى صلى الله عليه وسلم: «يا حكيم بن حزام إن هذا المال خضرٌ حُلو، فمن أخذه بسخاوة نفسٍ بورك له ¬

(¬1) الحديث رواه الترمذي وقال حديث صحيح (رياض الصالحين 194). (¬2) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، والحاكم بسند صحيح (صحيح الجامع الصغير 5/ 60).

فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى .. » (¬1). أيها المسلمون ويَظلُّ أقوامٌ فقراء لما في قلوبهم من الهلع والجزع والحرص على الدنيا، وإن كانوا في عداد الأغنياء ويظل آخرون أغنياء يتعففون ويتكففون ولا يسألون الناس إلحافًا، وإن باتوا لا يجدون من الدنيا ما يطعمون لو شاءوا لكانوا من ذوي الثروة والغناء. صلى عليك الله يا علم الهدى وأنت تربط على بطنك الحجرين من شدة الجوع والإعياء، ولو سألت ربَّك لأحال لك الصفا ذهبًا، وأنى لك أن تسأل هذا وأنت القائل: «اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتًا» (¬2)، والقوت ما يسد الرَّمقَّ- عند أهل اللغة-. وأبو هريرة رضي الله عنه يقول عنك: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير» (¬3). كان غنى النفس هو مفهوم الغنى الحق عندك، وكذلك أورثت أصحابك، ولقد خرجت والمؤمنون معك بعد ثلاث سنوات من الحصار الاقتصادي الذي فرضته قريش عليكم في الأرزاق والمناكح، وأنتم أصلبُ عودًا، وأشدُّ على المبدأ الحق ثباتًا، وإن أكل المسلمون ورق الشجر، وإن كان أحدُهم ليضع كما تضعُ الشاة ماله خَلْطٌ .. لكنه الإيمانُ والصبر واليقين تندُك له الصخور الراسيات، وتستجيب له القلوبُ وإن لم تتخلص بعدُ من حمأة الجاهلية، ولم يسلم أصحابها مع محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه. ¬

(¬1) الحديث متفق عليه (رياض الصالحين 201). (¬2) متفق عليه، رياض الصالحين ص 191. (¬3) رواه البخاري (رياض الصالحين 188).

أجل لقد تنادى قومٌ مشركون بنقض الصحيفة الآثمة الظالمة وكانت ترد بين الفينة والأخرى الإبل محملة بالأرزاق من المحسنين إلى حيث يُحصر المسلمون، فأُنهي الحصار، وأنزلت الصحيفة، وانتصر الحق، وخسر المبطلون في هذا اللون من الحصار على المسلمين، وكذلك يُروق صاحب التقوى من حيث لم يحتسب {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (¬1). وكذلك تفلس وسيلة الحصار في الرزق التي عمدت إليها قريش في شعب أبي طالب، قبل ما يزيد على ألفٍ وأربعمائة سنة، وفي ذلك درسٌ وعبرة. ألا فلنتق الله جميعًا في طلب أرزاقنا «اتقوا الله وأجملوا في الطلب» ولنثق بما عند الله لنا {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (¬2)، ولنشكر الرازق على ما حباها {كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} (¬3)، ولنثق بالخلف بعد الإنفاق {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (¬4). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (¬5). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه، أقول ما تسمعون واستغفروا الله. ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآيتان: 2، 3. (¬2) سورة طه، آية: 131. (¬3) سورة سبأ، آية: 15. (¬4) سورة سبأ، آية: 39. (¬5) سورة طه، آية: 132.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله يُطْعِم ولا يُطعَم، وأشكره على جزيل النعم، {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له رزقه ما له من نفاد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، رضي من الدنيا بالكفاف، وخرج منها ودرعه مرهونةٌ عند يهودي .. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء .. أيها المسلمون إذا كان غنى النفس مفهومًا شرعيًا وعقليًا للغنى الحقيقي، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيه: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» (¬1). فثمة مفهومٌ آخر ينبغي أن يستقر في أذهان المسلمين فيقنعون وهم يطلبون الرزق من الله، ويقول عنه صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًا في جسده، عنده قوتُ يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» (¬2). الله أكبر توفيرُ قوت يوم يعدل حيازة الدنيا بحذافيرها .. ألا ما أعظم القناعة في هذا الدين .. وما أجمل الرضا والثقة برزق رب العالمين. وهاكم وصيةً ثالثةً من وصايا خير المرسلين في الرزق ما أحوجنا إلى فهمها، وإقناع النفس بها، يقول عليه الصلاة والسلام: «قد أفلح من أسلم، وكان رزقه كفافًا، وقنعه الله بما آتاه» (¬3). أتدرون ما الكفاف؟ قيل: «هو الذي لا يفضل عن الحاجة ولا ينقص» (¬4). ¬

(¬1) متفق عليه (شرح السنة 14/ 243). (¬2) رواه الترمذي وحسنه، وحسنه غيره (صحيح الجامع 5/ 245). (¬3) الحديث رواه مسلم (رياض الصالحين 194). (¬4) جامع الأصول 10/ 138، وانظر: النهاية 4/ 191 مع اختلاف يسير).

وسئل سعيد بن عبد العزيز: ما الكفاف من الرزق؟ قال: «شبعُ يومٍ وجوع يوم» (¬1). وإذا كان ذلك كذلك فهل علمتم أن رزق آل محمدٍ صلى الله عليه وسلم كفافٌ، فقد أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما بسند حسن: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويًا وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبرهم خبز الشعير» (¬2). عباد الله فإن قلتم فما الطريق إلى القناعة والرضا بما قسم الله أجبتكم بقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّل عليه في المال والخَلْقِ، فلينظر إلى ما هو أسفل منه» (¬3)، وفي رواية لمسلم: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» (¬4). وإليكم نموذجًا عمليًا قال عون بن عبد الله بن عتبة: كنتُ أصحبُ الأغنياء، فما كان أحدٌ أكثر همًّا مني، كنت أرى دابةً خيرًا من دابتي، وثوبًا خيرًا من ثوبي، فلما سمعتُ هذا الحديث صحبتُ الفقراء فاسترحت» كذا جاء في رواية عن رزين (¬5). أيها المسلمون .. هذه المفاهيمُ الشرعية وأمثالها ينبغي أن يتذكرها المسلمون دائمًا وأبدًا وهم يطلبون الرزق، فتريحهم من العناء، وتصلهم بالأخرى وحين تختل هذه المفاهيم، وتُنسى هذه القيمُ، يُصاب الناسُ بأدواء الدنيا المهلكة، فتسود المنافسة والشحناءُ، ويسري الحسدُ والبغضاء، وتتحقق خشية ¬

(¬1) شرح السنة للبغوي 14/ 245. (¬2) رياض الصالحين 194، صحيح الجامع الصغير 4/ 254. (¬3) أخرجه البخاري. (¬4) جامع الأصول 10/ 142، 143. (¬5) جامع الأصول 10/ 143.

المصطفى صلى الله عليه وسلم: « .. فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهاكتهم» (¬1). أو يكون الرزقُ داعيًا للكبر والخيلاء والعلو والفساد، وينسى هذا المسكينُ أن الرزق لا يعني الرضا، وإنما هو فتنةٌ وامتحان للمُعطى وفي نموذج «قارون» عبرةٌ وذكرى، {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} إلى قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬2). عباد الله .. كما ينتج عن هذه المفاهيم الخاطئة في طلب الرزق الغفلة عن ذكر الله، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (¬3). أو عن الصلاة، والله يقول: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} (¬4). أما بيع الذمم، وضياعُ الدين بسبب الدنيا .. والمداهنة في بيان الحقِّ ضمانًا لحصول العيش وتوفر الرزق فذلك الذي توعد الله عليه بالويل {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (¬5). وأصحابه لا خلاق لهم في ¬

(¬1) متفق عليه (رياض الصالحين 179، فضل الزهد في الدنيا .. ). (¬2) سورة القصص، الآيات: 78 - 83. (¬3) سورة الححنافقون، آية: 9. (¬4) سورة الماعون، الآيتان: 4، 5. (¬5) سورة البقرة، آية: 79.

الآخرة، ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1). أيها المسلمون إياكم أن يكون طلبكم للرزق مفضيًا إلى الكسب الحرام من ربا أو غش أو خداعٍ أو قمار أو نحوها مما يُتحصل به على الحرام ففي الحلال غنية عن الحرام، والله يقول: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬2). إياكم واتباع خطوات الشيطان في رزق الله {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (¬3). وإياكم أن تكون هذه الأرزاق من الله لكم سبيلًا للفساد في الأرض أو الصدود عن سبيل الله أو منع ما أوجب الله، وقد جاءكم النذير منه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬4). وبالجملة فما أحرانا جميعًا للتنبه لمخاطر الدنيا وفتنتها وأن ندرك أننا مستخلفون فيها يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الدنيا حُلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعلمون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء» (¬5). ¬

(¬1) سورة آل عمران، آية: 77. (¬2) سورة البقرة، آية: 188. (¬3) سورة الأنعام، آية: 142. (¬4) سورة التوبة، آية: 34. (¬5) رواه مسلم (رياض الصالحين 179).

ذكرى وتنبيهات للصائمين

ذكرى وتنبيهات للصائمين (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله رب العالمين، بلَّغنا شهر الصيام، وأسبغ علينا نعمة الأمن والإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده خزائن السماوات والأرض، وشهر رمضان شهر الجود والإحسان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله كان أجود الناس بالخير وأجود ما يكون في رمضان حيث يُدارسه جبريل القرآن، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فاتقوا الله معاشر الصائمين واعلموا أن الصيام سبب ووسيلة للتقوى كما قال ربنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬2). ويتذكر المتقون بتقواهم منازلهم وما قدموا لها وهم على يقين أن الله مطلع على ما يعملون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬3). أيها المسلمون بشراكم شهر الصيام، وهنيئًا لكم إدراك شهر رمضان، وحقَّ للمسلمين أن يفرحوا ويغتبطوا بشهر القرآن، وكيف لا يفرح المسلمُ بشهر ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبهة يوم الجمعة الموافق 1/ 9/ 1417 هـ. (¬2) سورة البقرة، آية: 183. (¬3) سورة الحشر، آية: 18.

الرحمة والمغفرة والعتق من النار، ويفرح المشمرون لأن الفرصة تتجدد لهم، ولأن أبواب الخير تهيأ لهم، ويستبشر أولوا العزائم لأن ميدانًا فسيحًا للمسارعة للخيرات يفتح أمامهم، وواعظ القرآن يغذو سيرَهم {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}. {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ}، كما يفرح المخطئون لأن الحسنة تضاعف لهم، ومردةُ الجانِ التي تُعيق سيرهم تُصفَّد ويضعف أثرُهم يستبشر المذنبون والمقصرون بشهر الصيام لأنهم يجدون فيه عونًا على التوبة وتطهير النفوس وإصلاح القلوب وما منا إلا وله ذنبٌ وخطايا، وفي شهر رمضان فرصةٌ للخلاص منها، والاستزادة من الحسنات الماحيات، والحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين. أيها الصائمون .. يا من أدركهم شهرُ الصيام وهم يتمتعون بالصحة والعافية هلا تذكرتم إخوانًا لكم أقعدهم المرضُ عن الصيام مع المسلمين، وحبسهم العذر عن الصلاة والقيام مع المصلين، وهلا قادكم ذلك إلى شكر المنعم واستثمار الصحة بتقديم الصالحات، فقد يمرض الصحيح، ويضعف القوي، وحينها يتمنى على الله الأماني. ويا من أدركهم شهر الصيام وهم آمنون في أوطانهم، مطمئنون بين أهليهم وعشيرتهم هلا تذكرتم نفرًا من المسلمين ساد الرعبُ والقلقُ بلادهم، وحل الخوفُ محلَّ الأمن بين شعوبهم هل ترونه يهدأ بال الخائف، أم ترونه يطمئن في عبادته الذي لا يأمن على نفسه ومن تحت يده .. ؟ ؟ إن الذين يُهيءُ اللهُ لهم نعمة الصحة في الأبدان والأمن في الأوطان، والفراغ مما يشغل بال الإنسان ثم لا يستثمرون هذه النعم في مرضاة الله هم مغبونون بكل حال يقول عنهم عليه الصلاة والسلام: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ».

أيها الصائم أدرك نعمة الله عليك وتدارك نفسك وتقرب إلى مولاك، وأضمر جيادك، والملتقى في جنان الخلد إن قبلت منا صلاة وطاعات وإحسان! ! يا أخا الإيمان افتح قلبك لداعي الخير، ولا يصدنك الشيطان وأنت في شهر الصيام فتقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين، أتدوي لم سُمي رمضانُ برمضان؟ قال العلماء: لأنه يرمِضُ الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة- من الإرماض وهو الإحراق-. وقيل: لأن القلوب تأخذ فيه من حرارة الموعظة والفكرة في أمر الآخرة كما يأخذ الرملُ والحجارة من حرارة الشمس (¬1). فما نصيبك أيها الصائم من هذه وتلك، ذلك سؤالٌ أطرحه على نفسك، وأنت في بداية الشهر، وأجب عليه في نهايته وإياك أن تظلم نفسك بنفسك، وسيُقال لك يومًا من الأيام {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (¬2). يا أخا الإيمان أسوق لك أنموذجًا صالحًا للاعتبار في (الصيام أو القيام، وفي حياة السلف عمومًا عبرٌ توقظ الغافلين وهممٌ تشدُّ أصحاب العزائم الصادقين. وقد روي أن قومًا من السلف باعوا جارية لهم لقوم آخرين، فلما أقبل رمضان أخذوا يتهيأون بألوان المطعومات والمشروبات فلما رأت الجارية منهم ذلك قالت: ولم تصنعون ذلك؟ قالوا: لاستقبال شهر رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا في رمضان؟ والله لقد جئتُ من قومٍ السنةُ عندهم كلُّها رمضان، ولا حاجة لي فيكم، ردوني إليهم ورجعت إلى سيدها الأول. ¬

(¬1) تفسير القرطبي 2/ 291. (¬2) سورة الإسراء، آية: 14.

وفي قيام الليل يُروى أن الحسن بن صالح رحمه الله -وكان معدودًا في الأخفياء الأتقياء- كان يقوم الليل هو وأخوه وأمه أثلاثًا، فلما ماتت أمه تناصف هو وأخوه الليل، فلما مات أخوه صار يقوم الليل كله (¬1). يا أخا الإيمان جدد إيمانك في شهر الصيام وقد قيل للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} (¬2). واستمر في إحداث التوبة والزم الاستغفار ولاسيما في شهر القرآن، ونبيك صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأتوب إلى الله تعالى في اليوم سبعين مرة» (¬3). وفي حديث آخر صحيح: «إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» (¬4). وإياك أن تستثقل شيئًا من تكاليف الإسلام، أو تتبرم بشهر رمضان، وكم هي نهاية مؤلمة تلك الحادثة لسفيهٍ يُروى إنه ضاق ذرعًا حين أقبل رمضان، فأنشد: دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ولا صمتُ شهرًا بعده آخر الدهر فلو كان يعديني الأنام بقوة ... على الشهر لاستعديت قومي على الشهر فأصيب بمرض الصرع، فكان يصرع في اليوم عدة مرات، وما زال كذلك حتى مات قبل أن يصوم رمضان الآخر (¬5). يا أخا الإسلام: لا يغب عن بالك شفاعة الصيام والقرآن لأصحابهما، رَوَى الإمام أحمد والحاكم بسند حسن عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيامُ: أي ¬

(¬1) دروس رمضان؟ سلمان العودة 6، 7. (¬2) سورة النساء، آية: 136. (¬3) حديث صحيح رواه النسائي وأبن حبان (صحيح الجامع 2/ 324). (¬4) صحيح الجامع 2/ 325. (¬5) دروس رمضان 8.

ربِّ منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النومَ بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان» (¬1). أيها الصائمون يا من تستعيذون بالله دائمًا من النار، تذكروا أن الصيام جُنةٌ من النار، قال عليه الصلاة والسلام: «الصومُ جنةٌ يستجنُّ بها العبدُ من النار» (¬2). وتأمل عظيم فضل الله، ورسوله يقول في الحديث المتفق على صيحته: «من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا» فكيف بمن صام شهرًا كاملًا، وكيف إذا كان هذا الشهر شهر رمضان؟ اللهم لا تحرمنا فضلك، ولا تُلهنا عن ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (¬3). نفعني الله وإياكم بهدي القرآن، وسنة محمد عليه الصلاة والسلام، أقول ما تسمعون. ¬

(¬1) المسند 2/ 174، مستدرك الحاكم 1/ 554. (¬2) رواه الطبراني في الكبير بسند حسن (ح 3867). (¬3) سورة البقرة، آية: 185.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله صاحب الفضل والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد المنان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل من صلى وصام اللهم صل وسلم عليه وعلى ستائر الأنبياء والمرسلين. أيها المسلمون: هذه جملةٌ من التنبيهات والوصايا أذكر بها نفسي وإخواني الصائمين، ومن تذكر فإنما يتذكر لنفسه، والله يقول {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} فكن من أهل الخشية ولا تكن من الأشقياء التنبيه الأول: احفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى وإذا صمت لله فلتصم منك الجوارح كلها عما حرم الله، وكم هو غريبٌ وعجيب أن نلحظ بعض الصائمين قد امتنع عمَّا أحل الله له مؤقتًا من المطعم والمشرب والمنكح- تقربًا لله- ولكن فاته أن يمنع نفسه عما حرم الله عليه أبدًا من الغيبة والنميمة وقولِ الزور أو سماع المحرم، أو رؤيته، وقد صح في الخبر «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه» (¬1). التنبيه الثاني: يروعك أكثر في حياة بعض الصائمين ازدواجية مشينة في الشخصية، وفهم غريب للحكمة من العبادة فتراه يظل صائمًا نائمًا عن الصلوات المكتوبة، وربما أخَّر الصلاة حتى يفوت وقتها، وربما جمع الصلاتين مع بعضهما، أما صلاة الجماعة فزهدُه بها شمل رمضان إلى شعبان وشوال .. ترى أيجهل هذا الصنف أم يتجاهل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ ¬

(¬1) رواه أحمد والبخاري وغيرهما (صحيح الجامع 5/ 356).

الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وهل من التقوى في شيء النوم عن الصلاة المفروضة، أو الزهد في صلاة الجماعة؟ ! ثالثًا: هذه رسالة أوجهها للصائمين عمومًا وللشباب خصوصًا لاستثمار أوقاتهم وحفظ صيامهم ولاسيما في هذه الإجازة وهي نعمة وفضل لمن أحسَّ بقيمتها وسابق إلى الخيرات فيها وأولى ما ينبغي أن تتجه إليه الهمم تلاوة كتاب الله وحفظه وتدبره، وليحمد الله أولئك الشباب الذين توفر لهم الوقت، والمطعم والمشرب، والصحة والأمن ما لم يتوفر مثله لآبائهم من قبل، وما قد لا يتوفر لأمثالهم في بلاد أخرى من بلاد المسلمين! ! أخي الشاب أتراه يليق بك أن تُصفد مردة الشياطين في رمضان، وتظلَّ أنت تؤذي المسلمين وهم يصلون أو وهم نائمون. وإذا شملت هذه الإجازة المعلمين، فليسأل المربون أنفسهم عن كيفية استثمار أوقاتهم، وإذا كانوا قادرين على توجيه غيرهم فلا أظنه يعجزهم أن يوجهوا أنفسهم، ولكنها مجردُ تذكيرٍ لهم بقيمة الوقت وفضل الزمن. على أن استثمار الوقت في رمضان أو غيره شامل للموظفين ورجالات الأعمال .. وكلٌّ بحسب همته، بل ربما رأيت أميًا أحرص على وقته من متعلم وربما أبصرت جاهلًا أكثر خشية لله وتقربًا من عالم، وهذا وإن كان خلاف ما ينبغي أن يكون عليه العالمُ والمتعلمُ ففضل الله يؤتيه من يشاء، ورحمته ليست حكرًا على أحدٍ من خلقه، ومن علم شيئًا من أمور الدين على حقيقته، وعمل به وفق ما شرع الله ورسوله، فهو المسلمُ الموفقُ حقًا أيًا كان تعلمه، ومهما كانت منزلته. رابعًا: معاشر المسلمين يُفرط بعض الصائمين بأمرٍ عظيم وهو في حقيقته يسير على من وفقه الله، ألا وهو الدعاء، ولاسيما في ساعات الاستجابة، وهل

علمت أيها الصائم أن لك دعوة مستجابة، فقد روى الإمام أحمدُ بسندٍ جيدٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل مسلمٍ دعوةٌ مستجابة يدعو بها في رمضان» وقد جاء في عدة أحاديث أن هذه الدعوة عند الإفطار (¬1)، فلا يفوتنا هذا المغنم أيها الصائم واسأل الله فيه من خيري الدنيا والآخرة ولا تنس والديك وذريتك والمسلمين- لا سيما المستضعفين- بدعوة في ظاهر الغيب فقد تبلغ الدعوة الصادقة مبلغها وإن لم يحتسْبها كذلك الداعي بها! ! خامسًا: وللمرأة المسلمة يُوجه النداء بالحفاظ على الصيام من اللغو وقول الزور والعمل به، وصيانة نفسها في بيتها وعدم التعرض لفتنة الرجال في الأسواق فإن قُدر لها الخروج للمسجد فليكن بآداب الإسلام، وهي حَرِيَّةٌ بالحفاظ على وقتها والإكثار من الذكر والتلاوة وسائر الطاعات .. بل وفي خدمة زوجها وأبنائها فهي مأجورة مع حسن القصد بكل حال، وتتضاعف الحسنات في رمضان، والناصحُ لها بقول إياك أختاه بإضاعة الوقت في كثرة ما يُطبخُ فيستهلك وقتك وتكونين سببًا في التخمة والإسراف لأهل البيت، وهذا ينافي الحكمة من الصيام الواردة في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قال القرطبي رحمه الله قيل: معناه: «تضعفون فإنه كلما قلَّ الأكلُ ضعفتِ الشهوة وكلما ضعفت الشهوة قلَّت المعاصي، وهذا وجهٌ مجازيٌ حسن ثم ذكر معاني أخرى» (¬2). اللهم ارزقنا التقوى، واسلك بنا سبل الهدى، وجنبنا الشرور والأذى .. هذا وصلوا. ¬

(¬1) دروس رمضان 22. (¬2) تفسير القرطبي 2/ 276.

عظمة القرآن

عظمة القرآن (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله الرحمن، علم القرآن خلق الإنسانَ، علمه البيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خصنا بخيرةِ رُسله وأفضلِ كتبه، فكانت أمةُ الإسلام خيرَ أمةٍ أُخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بلغ ما أنزل من ربه وعصمه الله وحفظه، فما زاد ولا نقص مما أوحى اللهُ إليه شيئًا، ولو كان كاتمًا شيئًا من الوحي- وحاشاه لكتم مثلى قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (¬2). ومثل قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الأَعْمَى}. اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬3)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 8/ 417/ 9 اهـ. (¬2) سورة الأحزاب، آية: 37. (¬3) سورة النساء، آية: 1. (¬4) سورة الحشر، آية: 18.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬1). إخوة الإيمان يطيب الحديثُ عن القرآن في كل وقتٍ وآن، فكيف إذا كان الحديث عن القرآن في شهر القرآن؟ {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (¬2). قال المفسرون: يمدح تعالى شهرَ الصيامِ من بين سائر الشهور بأنِ اختاره من بينهنَّ لإنزال القرآن العظيم، وكما اختصه بذلك فقد ورد الحديثُ بأنه الشهرُ الذي كانت الكتبُ الإلهيةُ تنزل فيه على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- فقد روى الإمام أحمدُ بسنده عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُنزلت صحفُ إبراهيم في أول ليلةٍ من رمضان، وأُنزلت التوراةُ لستٍ مضين من رمضان، والإنجيلُ لثلاث من رمضان، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان» كما رُوي أن الزبورَ أنزل لثنتي عشرة خلت من رمضان، والإنجيل لثماني عشرة والباقي كما تقدم (¬3). أيها المسلمون كذلك أنزلُ القرآنُ جملةً واحدةً من اللوح المحفوظِ إلى بيت العزة من السماء الدنيا في رمضان وفي ليلة القدر منه، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}. أما تنزيلهُ على محمد صلى الله عليه وسلم فكان في رمضان وغيرِ رمضان، وعلى ما يزيدُ على عشرين عامًا، وكان الله فيه يُحدث لنبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء ولا يجيء المشركون بمثل ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الايتان: 70، 71. (¬2) سورة البقرة، آية: 185. (¬3) تفسير ابن كثير 1/ 336، 337.

يخاصمون به إلا جاءهم الله بجوابه، وكان في ذلك تثبيتًا لقلب النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال تعالى في حكمةِ نزولِ القرآني منجمًا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (¬1). أيها المسلمون إذا كان نزولُ القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم متأخرًا عن الكتب السماوية الأخرى، فقد جعله اللهُ مصدقًا لكتب قبله، ومهيمنًا عليها {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (¬2). أجل لقد نزل كتاب الله مصدقًا لما أخبرت به الكتبُ السماويةُ، وأخبر به الأنبياءُ السابقون، ولهذا لم يستنكرهُ المؤمنون العالمون أهل الكتاب بل خروا له سجدًا {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (¬3). وفي موضع آخر يقول عن قساوسة ورهبانِ النصارى الذين لا يستكبرون: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} (¬4). أيها المسلمون إذا تطاولت النصارى- اليوم- واليهودُ من باب أولى على كتاب الله، وخالفوا أمره ونهيه، وآذوا المؤمنين به، وسخروا بأتباعه فذلك جزءٌ ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآيتان: 32، 33. (¬2) سورة المائدة، آية: 48. (¬3) سورة الإسراء، الآيات: 107 - 109. (¬4) سورة المائدة، الآيتان: 83، 84.

من نكثهم للعهدٍ الذي أُخذ عليهم وعلى من قبلهم كما تشهد كتُبهم التي سلمت من التحريف .. وهو ناتجٌ عن الحسد والكبرياء {فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬1). وعلى المسلمين أن يعوا أهداف اليهود والنصارى في إضمار العداوة والبغضاء، فهي ليست جهلًا لكن حسدًا وتكبرًا ويفقهوا: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2). يا أهل القرآن كما أن القرآن عظيمٌ ومهيمنُ وشاهدٌ ومؤتمنٌ على الكتب قبله حين نزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فهو عظيمٌ كذلك عند الله وهو في اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (¬3). قال ابنُ كثير في معنى الآية: بيَّن شرفَه في الملأ الأعلى ليُشرِّفه ويعظِّمه ويطيعَه أهلُ الأرض» (¬4). أفيليق بنا- معاشر المسلمين- أن يُعظِّمَ كتاب الله أهلُ السماءِ ويتغاضى أو يعرض عنه أو يهجرَه أهلُ الأرض؟ إن الذين لا يقفون عند حدودِ القرآن ولا يعظمون أمرَه ولا ينتهون عند نهيه أولئك عنه معرضون .. وإن الذين تنقطعُ صلتُهم بالقرآنِ إلا في شهر رمضان له هاجرون. ¬

(¬1) سورة البقرة، أية: 89. (¬2) سورة البقرة، أية: 109. (¬3) سورة الزخرف، آية: 4. (¬4) تفسير ابن كثير 4/ 195.

معاشر المسلمين: أينا يجهلُ أن هذا القرآنَ شرفٌ لنا، وكلنا سنسأل عنه، ولولا رحمةُ اللهِ لرفعه حين رُدَّ أول مرة، وتأملوا آيتين الأولى قوله تعالى في كتاب الله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (¬1). قال ابنُ عباسٍ ومجاهدُ وقتادةُ والسدي وابنُ زيد: المعنى: شرفٌ لك ولقومِك، واختاره ابن جرير ولم يحك سواه (¬2). وقيل المعنى: تذكيرٌ لك ولقومك، وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم أما قوله: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} أي عن هذا القرآن، وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له (¬3). والأخرى، قولُه تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ} (¬4). والله لو أن هذا القرآنَ رُفع حين ردته أوائلُ هذه الأمة لهلكوا ولكن الله تعالى عاد بعائداتِه ورحمتِه فكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة، واستحسن ابنُ كثير رحمه الله هذا القولَ لقتادة فقال: وقول قتادة لطيفُ المعنى جدًا، وحاصلُه أنه يقول فيما معناه أنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءَهم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم- وهو القرآن- وإن كانوا مسوفين معرضين عنه، بل أمر به لنهتدي به من قدَّر هدايته وتقوم الحجةُ على من كتبَ شقاوته (¬5). أيها المؤمنون لقد كان اصطفاءُ هذه الأمةِ على الأمم قبلها جزءًا من فضائل ¬

(¬1) سورة الزخرف، آية: 44. (¬2) تفسير ابن كثير 4/ 206. (¬3) المصدر السابق 4/ 206. (¬4) سورة الزخرف، آية: 5. (¬5) تفسير ابن كثير 4/ 196.

القرآن وأثره، حيث أورثهم القرآن، والقرآنُ مصدقٌ للكتب قبله، وإن تفاوتت مراتبهُم بين الظالمِ لنفسه والسابق للخيرات بإذن ربه والمقتصد، {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (¬1). أمة الإسلام عظموا كتاب الله تلاوةً وتدبرًا في شهر رمضان وفي سائر الأيام، وتعلموه وعلموه تحصلوا على الخيرية التي وعد بها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». وقفوا عند حدوده، واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وإياكم وهجرَ القرآن، فإن تركَ تدبره وتفهمهِ من هجرانه، وتركَ العمل به وامتثالِ أوامره واجتناب زواجره، من هجرانه والعدول عنه إلى غيره من هجرانه، كذا قال أهلُ التفسير في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (¬2). أمة القرآن ولا تفوتنكم تجارةُ القرآن، والله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (¬3). وقد ورد في فضائل القرآن يقال لصاحب القرآن: إن كلَّ تاجرٍ من وراء تجارته وإنك اليوم من وراءِ كلِّ تجارة (¬4) وليس يخفى حديثُ المصطفى صلى الله عليه وسلم: «لا حسد ¬

(¬1) سورة فاطر، آية: 32. (¬2) سورة الفرقان، آية: 30. (¬3) سورة فاطر، الآيتان: 29، 30. (¬4) تفسير ابن كثير 3/ 914.

إلا في اثنتين رجلٌ آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناءَ الليل وآناءَ النهار، ورجل آتاه الله مالًا فهو ينفقه آناءَ الليل وآناءَ النهار» (¬1) وفي الحديث الآخر: «من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلامِ الله تعالى على سائر الكلام كفضلِ الله تعالى على خلقه» (¬2). اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، وارزقنا تلاوته آناءَ الليل وأطراف النهارِ على الوجه الذي يرضيك عنا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} (¬3). نفعني الله وإياكم بهدي القرآن .. ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) رواه الترمذي وحسنه، وانظر التبيان، للنووي ص 9. (¬3) سورة فصلت، الآيات: 1 - 4.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمر بتدبر القرآن فقال جلَّ قائلًا عليمًا: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (¬1). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أوحى إليه ربُّه فيما أوحى {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2). وتكفل اللهُ له بحفظهِ ما بقي الليلُ والنهار، وكانت تلك معجزةً من معجزات هذا النبي وهذا القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬3). اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى سائر المرسلين. أيها المسلمون: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (¬4). فأين المتلمسون لهدي القرآن ليقودهم لأقومِ الطرقِ وأوضح السبل، وإذا لجت البشريةُ في طغيانها، واستحكمت الظلمةُ على أهل الأرض في برها وبحرها وسادت الحيرة والضياع فئامًا من البشر في مشرق الأرض ومغربها، كان للمؤمنين بهذا القرآن منجاةٌ ومخرجٌ ونورٌ يضيءُ الطريق، ويُبدد ظلماتِ الحيرة والشك، فهل يعقل المسلمون - قبل غيرهم- هدايةَ القرآن، وهل ¬

(¬1) سورة محمد، آية: 24. (¬2) سورة الواقعة، الآيات: 77 - 80. (¬3) سورة الحجر، آية: 9. (¬4) سورة الإسراء، آية: 9.

يستشفون به من كلِّ داء، والله يقول: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} (¬1). أجل إنه القرآن يذهب ما في القلوب من أمراض الشكِّ والنفاق والشركِ والزيغِ والميل، وهو رحمةٌ يحصل فيها الإيمانُ والحكمةُ وطلبُ الخير والرغبةُّ فيه، ولكن ليس ذلك إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه- كذا قال العارفون (¬2). وهو أحسن الحديث: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (¬3). أفيليق يا عبادَ الله أن تتصدعَ الجبال الراسيات لعظمة القرآن، وتخشعَ الحجارةُ الصمُّ لو نزل عليها هذا القرآن، وتظلُّ قلوبُ البشر صلدةً لا تهزها قوارعُ القرآنِ، ولا تؤثر فيها مواعظُ الذكر الحكيم، ويختم المسلم كتابَ اللهِ ويهذُّه هذَّ الشعر وربما لم تنزل منه دفعة أو يقشعر له جلدٌ، فضلًا عن إصلاح حياته، أو تهذيب سلوكه وفق توجيهاتِ القرآن، ولو كان في الكتب الماضية كتابٌ تُسيرُ به الجبالُ عن أماكنِها، أو تقطع به الأرض وتنشق، أو تُكلَّمُ به الموتى في قبورها، لكان هذا القرآنُ هو المتَّصفُ بذلك دون غيره، لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيعُ الإنسُ والجنُّ عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ¬

(¬1) سورة الإسراء، آية: 82. (¬2) تفسير ابن كثير 3/ 99. (¬3) سورة الزمر، آية: 23.

وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (¬1). عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتيت ليلةَ أُسري بي على قوم تُقرض شفاههم بمقاريضَ من نار، كلما قُرضت وَفَت، فقلتُ يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباء أمتِك الذين يقولون ما لا يفعلون ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به» (¬2). أيها المسلمون أين النصحُ في دين الله لكتاب الله، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: «الدينُ النصيحةُ» - ثلاثًا- قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: «لله عزَّ وجل ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمةِ المسلمين وعامتهم» (¬3). أتدرون ما النصحُ لكتاب الله؟ قال العلماء: أما النصيحة لكتابهِ فشدةُ حبِّه وتعظيمُ قدره إذ هو كلام الخالق، وشدةُ الرغبةِ في فهمه، وشدةُ العنايةِ في تدبره والوقوفُ عند تلاوتهِ لطلب معاني حبِّ مولاه أن يفهمَه عنه أو يقومَ به له بعد ما يفهمه، والخشوعُ عند تلاوتهِ والتصديقُ بما فيه، والوقوفُ مع أحكامه، والاعتناء بمواعظِه والتفكرُ في عجائبه، ونشرُ علومِه، والدعاء إليه .. (¬4). يا حملةَ القرآنِ تمثلوا هديَ القرآنِ في ذواتِ أنفسكم، واحملوه إلى غيركم، علموه الأبناءَ، وادعوا إليه الآباء، واعقدوا له الحلقِ في المدنِ والقرى، ¬

(¬1) سورة الرعد، آية: 31، وانظر تفسير ابن كثير عندها 4/ 381. (¬2) رواه البيهقي في شعب الإيمان بإسناد حسن، وحسنه الألباني وصحيح الجامع الصغير (1/ 96). (¬3) رواه مسلم. (¬4) انظر: ابن رجب: جامع العلوم والحكم ص 78، 79، التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ص 97.

واصبروا وصابروا على ما ينالكم في سبيله من اللأواء، وليكن الإخلاصُ رائدَكم، والمتابعةُ لهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم منهجًا في حياتكم، وخذوا من هممِ السلف الصالحين ما يُقوي عزائمكم (¬1). كتب يزيدُ بنُ أبي سفيان إلى عمرَ رضي الله عنه يقول: إن أهلَ الشام قد كثروا وملئوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن، ويفقهُهم، فأعني برجالٍ يُعلمونهم، فدعا عمر الخمسة الذين جمعوا القرآن .. فقال: إن إخوانكم قد استعانوني من يُعلمهم القرآن، ويُفقههُم في الدين، فأعينوني يرحمكم الله بثلاثةٍ منكم أن أحبهم، وإن انتدب ثلاثةٌ منكم فليخرجوا، فقالوا: ما كنا لنتساهم، هذا شيخٌ كبيرٌ - يعنون أبا أيوب- وأما هذا فسقيمٌ يعنون أبي بنَ كعب، فخرج معاذٌ، وعبادةُ بنُ الصامت، وأبو الدرداء، فقال عمر ابدءوا بحمص فإنكم ستجدون الناس فيها على وجوه مختلفةٍ، فإذا رضيتم منهم، فليقمْ بها واحدٌ، وليخرج واحدٌ إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين، قال فقدموا حمص فكانوا بها، حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادةُ، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذٌ إلى فلسطين فمات في طاعون عمواس، ثم صار عبادةُ إلى فلسطين وبها مات، ولم يزل أبو الدرداء بدمشق حتى مات .. رضي الله عنهم وأرضاهم (¬2). وهكذا تكون الجديةُ في تعليم كتابِ الله والدعوةِ لدينه والنفع للخلق، حتى ولو تغرب عن الأوطانِ المعلمون وتحملوا الموتَ في سبيل الغاية النبيلة عند المجاهدين الصادقين. يا أهل الدثور، ويا أصحاب الولاياتِ والمسؤوليات في بلاد المسلمين، إنه ¬

(¬1) أخرجه ابن سعد في طبقاته، والبخاري في تاريخه الصغير بسند رجاله ثقات. (¬2) الطبقات 2/ 356، التاريخ الصغير 1/ 41، عن سير أعلام النبلاء 2/ 344.

لشرفٌ لكم أن تساهموا في تعليم كتابِ اللهِ بأموالكم أو بجاهكم، وكم هو عظيمٌ أن تشمل الخيريةُ التي وعد بها الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» اللهم اجعل لنا في الخير نصيبًا وافرًا، واجعل القرآن لنا في الدنيا رفيقًا، وفي القبر مؤنسًا وفي عرصات القيامة شافعًا. هذا وصلوا.

الحزن الممنوع والمشروع

الحزن الممنوع والمشروع (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه- اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وآلِه وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬3). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬4). أيها المسلمون يقول الحقُّ تبارك وتعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬5). إنها حقيقةٌ لا مريةَ فيها، حقارةُ الدنيا، وزوالُها وانقضاؤها، وغايةُ ما فيها لهوٌ ولعب، أما الحياةُ الأبديةُ الباقية فهي حياةُ الآخرة، ومن علم ذلك وأيقن به آثر الباقيةَ على الفانية، وبذلك خُتمت الآية «لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ». ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 5/ 11/ 1417 هـ. (¬2) سورة التوبة، آية: 119. (¬3) سورة الحشر، آية: 18. (¬4) سورة آل عمران، آية: 102. (¬5) سورة العنكبوت، آية: 64.

هذه الدنيا الدنيةُ حكم اللهُ بفنائها، وقدَّر على الإنسان نصيبه من الكبدِ فيها، وليس يسلم أحدٌ من همومِها وأكدارها ومنغصات العيش فيها، ومن رام غير ذلك فيها فهوُ مكلِّف الأيامِ ضد طباعها، ومن عيونِ الشعر وحكمه قولُ الشاعر: حكمُ المنيةِ في البرية جاري ... ما هذه الدنيا بدار قرار جبلت على كدر وأنت تريدها ... صفوًا من الأفذاء والأكدار بينا يرى الإنسان فيها مخبرًا ... حتى يرى خبرًا من الأخبار ومُكلِّفُ الأيامِ ضد طباعها ... متطلبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ وإذا رجوتَ المستحيل فإنما ... تبني الرجاءَ على شفيرٍ هاري فالعيشُ نومٌ والمنيةُ يقظةٌ ... والمرءُ بينهما خُيال ساري والنفسُ إن رضيتْ بذلك أو أبتْ منقادةٌ بأزمةِ المقدار فاقضوا مآربكم عجالًا إنما ... أعمالكم سفرٌ من الأسفار ليس الزمان وإن حرصت مسالمًا ... خُلُقُ الزمانِ عداوةُ الأحرار عبادَ الله وحديثي إليكم اليومَ عن حالةٍ نفسية، وخطرات قلبية تمرُّ بنا جميعًا، ومنا المكثرُ فيها ومِنا المُقل، وتختلف لها الدوافعُ والمواقف، إنه حديثٌ عن الحَزَن المرادفِ للهم، فما يعني الحزن؟ وماذا يجوز من الحَزَن وماذا يُمنع؟ وما يُحمد منه وما يُذم؟ وكيف نتقي الحزنَ المذمومَ وندفعُه؟ قال العارفون: الهمُّ والحزنُ قرينان، وهما الألم الوارد على القلب، فإن كان على ما مضى فهو الحزن، وإن كان على ما يُستقبل فهو الهم. والحزن انخلاعٌ عن السرور، وملازمةُ الكآبةِ لتأسفٍ على فائتٍ أو توجعٍ لممتنع، وهو من عوارض الطريق، وليس من مقامات الإيمان ولا من منازل السائرين، ولهذا لم يأمرُ اللهُ به في موضع قطُّ، ولا أثنى عليه، بل نهى عنه في

غير موضع، قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (¬1). وقال تعالى: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} (¬2). وقال تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ .. } (¬3). ومثل ذلك كثير (¬4). بل لقد قيل عن الحزن: إنه بليةٌ من البلايا التي نسألُ الله دفعها وكشفها، ولهذا يقول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} (¬5). وكان الحزنُ مما استعاذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه «اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحزن .. » الحديث» (¬6). يا ابن آدم عجبًا لك تضيق بك المهاجر وتقتلك الهمومُ، وتؤرقك الأحزان- كل ذلك أسفًا على فائتٍ حقير، أو خوفًا من مستقبلٍ لا تدري ما الله صانعٌ به؟ أين ثقتك بالله وخزائنه ملئَى ويدهُ سحاءُ الليل والنهار، وأين إيمانُك بأن ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما اخطأك لم يكن ليصيبك: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬7). ¬

(¬1) سورة آل عمران، آية: 139. (¬2) سورة النحل، آية: 127. (¬3) سورة الحديد، الآية: 23. (¬4) انظر: الفتاوى لابن تيميه 10/ 16، طريق الهجرتين .. لابن القيم ص 502، 503. (¬5) سورة فاطر، آية: 34. (طريق الهجرتين ص 503). (¬6) متفق عليه. (¬7) سورة التغابن، آية: 11.

يا أخا الإسلام، وإنما يُنهى عن الحزن لأنه لا يجلبُ منفعةً، ولا يدفع مضرةً فلا فائدةَ فيه، وما لا فائدة فيه لا يأمرْ به الله (¬1). ويُنهى عن الحزن لأن فيه نسيانُ المنةِ لرب العالمين بما أنعم عليكم من نعم قد تغيبُ عنك كلُّها أو بعضُها حال حزِنك، فلا تتذكرُ إلا هذه المصيبة في نظرك، وقد يكون فيها هي الأخرى خيرٌ لك وأنت لا تدري، وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا. ويُنهى عن الحزن لأن فيه بقاءً في رقة الطبع، وحبسًا للنفس في سجن التضجر والتشكي، والنفسُ مولعةٌ بحب العاجلِ، وهي كالطفل إن تتركه شب على حب الرضاع وإن تفطمهُ ينفطم (¬2). يا أخا الإيمان .. ويَنهى عن الحَزَنِ لأنه يُضعفُ القلبَ، ويوهنُ العزم ويضرُ الإرادة، وهو بهذا مرضٌ من أمراضِ القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره. وهل علمتَ أن الحزَنَ مدخلٌ من مداخلِ الشيطان على الإنسان يُحزنه ليقعَد به عن عمل الصالحات وهوُ يكثر عليه الهواجس والخطرات، ثم يتركه صريعَ الهمِّ، ممتلئًا بالحزن .. لا تقوى نفسهُ على عمل الصالحات وتضعفُ في مقاومة الشهوات، وليس بمقدور الشيطان أن يضرَّ أحدًا إلا بإذن الله وعلى من أُصيب بشيء من ذلك أن يستشعر عظمةَ الله ويتوكل عليه {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬3). يا أخا الإيمان فإن قلت وما بال المؤمن لا يحزن وهو يشعر بتقصيره في حقِّ ¬

(¬1) الفتاوي 10/ 16. (¬2) بتصرف من طريق الهجرتين ص 502. (¬3) سورة المجادلة، آية: 10.

الله، وما باله لا يأسف هو يرى عمرَه ينقرض في تحقيق الملذاتِ، دون أن يعمل عملًا لائقًا لجنةِ عرضُها الأرضُ والسموات؟ . وما بالُ المؤمنين لا يحزنون، ومصائبُ إخوانهم المسلمين تترى، وقضاياهم تتحكم فيها الأهواءُ، ويسوسهم فيها الأعداء وأنى لقلبٍ لا يحزن، وكلمةُ الحقِّ، وأصواتُ المُحقين تكاد تخنق، بينما يملأ الآفاق ضجيجُ الباطل، ويكثر سوادُ المبطلين. وما بال قلبٍ عمرته الرحمةُ لا يحزنُ لمصاب عزيز، وأيُّ عينٍ لا تدمع لفقدِ حبيب وتلك رحمةٌ جعلها الله في قلوب العباد؟ إن قلتَ ذلك أو عددت غيرَه مما يدعو للأسى والحسرة والهم والحزن أجبتُ بأن الحزَنَ لا يُحمد لذاتِه وإنما يحمد لسببه ومصدره ولازمهِ دون أن يُفضي به الحزنُ إلى القعودِ عن فِعل الأسباب الموصلة إلى الله يقول شيخ الإسلام ابنُ تيميه رحمه الله: وقد يقترن بالحزن ما يثابُ صاحبهُ عليه ويحمد عليه، فيكونُ محمودًا من تلك الجهة لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبةٍ في دينه، وعلى مصائب المسلمين عمومًا، فهذا يُثاب على ما في قلبه من حبِّ الخير وبغضِ الشرِّ وتوابع ذلك إلى قوله: ولكن الحزنَ على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمورٍ من الصبرِ والجهاد وجلبِ منفعةٍ ودفعِ مضرةٍ نُهي عنه. إلى أن يقول: وأما إن أفضى إلى ضعف القلب واشتغالِه به عن فعلِ ما أمر اللهُ ورسولُه به كان مذمومًا عليه من تلك الجهة وإن كان محمودًا من جهة أخرى (¬1). يا أخا الإسلام وإذا حزنت على شيءٍ تكرهه فلا تتسخطْ ولا تعترضْ على ¬

(¬1) الفتاوى، 10/ 17.

أقدار اللهِ، وسلم وارض وافعل الأسباب الدافعةَ لهذا الهمِّ وكذلك كان هدي المصطفى، تدمعُ العينُ ويحزن القلب ولا نقولُ ما يسخط الرب، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون» (¬1). ومع الهمِّ والحزن توكلْ على الله وبث الشكاية إليه، وارفع الدعوات له فذلك شأنُ الصالحين {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (¬2). وإياك واليأسَ من روحِ الله، والإحباط المذلَّ للنفوس وكذلك يلازم المؤمن الصبرُ وقوةُ الرجاء وعدمُ اليأس حين الشدائدِ والضراء والمحن {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (¬3). اللهم إنا نعوذُ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال» (¬4)، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك إنك كنت غفارًا. ¬

(¬1) صحيح الجامع 3/ 38. (¬2) سورة يوسف، آية: 86. (¬3) سورة يوسف، آية: 87. (¬4) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين كتب على ابن آدم حظَّه من السعادة والشقاء والفقر والغنى فهو مدرك ذلك لا محالة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحكم ما يشاءُ ويختار وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه كان أعظمَ الناس مسؤولية وأحسنَهم خُلُقًا اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أما بعد إخوة الإسلام فإذا اهتم أقوامٌ لشيء من محقراتِ الدنيا فاتتهم، أو حزن آخرون على مرتبةٍ من مراتب هذه الحياة لم ينالوها، أو بات القلقُ منكدًا لحياة فئامٍ من الناس وقد لا يحددون مصدرَه، فثمة فئةُ أخرى تُعد من خواصِ الناس ونبلائهم تحزنُ على تفريطها وتقصيرها في خدمة ربِّها وعبوديته، أو تحزنُ على تورطها في مخالفته ومعصيته وضياع الأيام والأوقات، وهذا دليلٌ على صحة الإيمان في القلب وكلما كان القلبُ أشدَّ حياةً كان شعورُه بهذا الألم أقوى .. ولكن الحزنَ وحده لا يجدي عليه بل يُضِعفه، والذي ينفعُه أن يستقبلَ السيرَ، ويجدَّ، ويُشمر، ويبذل جهده. وأخصُ من هؤلاء من يحزن على جزءٍ من أجزاءِ قلبِه، كيف هو خالٍ من محبة الله، وعلى جزءٍ من أجزاء بدنِه كيف هو منصرفٌ في غيرِ محابِّ الله (¬1). أيها الإخوة المؤمنون، إذا عرفتم الحزن المذموم، والممدوحَ فكيف يُدفع الحزن، وكيف يتحولُ إلى عملٍ مثمر ويتجاوزُ صاحبُه السلبية والقلق؟ يقول الإمامُ ابن القيمِ رحمه الله وهو يذكر حزنَ الخواصِ من الناس والتي سبقت الإشارةُ إلى شيء منها: «فهذه المراتبُ من الحزن لابد منها في الطريق، ولكن الكيسَ لا يدعُها تَملكُه وتُقعده، بل يجعلُ عوضَ فكرتِه فيها فكرتَه فيما يدفعها ¬

(¬1) ابن القيم: طريق الهجرتين ص 504. 505.

به، فإن المكروهَ إذا ورد على النفسِ فإن كانت صغيرةً اشتغلت بفكرها فيه وفي حصوله عن الفكرةِ في الأسباب التي يدفعها به فأورثها الحزن، وإن كانت نفسًا كبيرةً شريفةً لم تُفكِّر فيه، بل تصرفُ فكرِها إلى ما ينفعها فإن علمتْ منه مخرجًا فكَّرت في طريق ذلك المخرجِ وأسبابهِ وإن علمت أنه لا مخرج منه فكرت في عبوديةِ اللهِ فيه وكان ذلك عوضًا لها من الحزن. عبادَ الله وإذا كان هذا مخرجًا عمليًا من الأحزانِ، فثمة مقدمةٌ وأساس لهذا المخرج لابد من توفره، وبه يُعان المرءُ على تجاوز أحزانه ألا وهو معرفةُ الله بأسمائه وصفاتِه، والتوكلُ عليه، وحده، وعدمُ قطعِ حبلِ الرجاءِ معه، قال بعضُ العارفين: معرفةُ اللهِ جَلَا نورُها كلَّ ظلمة، وكشف سرورُها كلَّ غمة» فإن من عرف اللهَ أحبَّه ولابد، ومن أحبه انقشعت عنه سحائبُ الظلمات وانكشفت عن قلبه الهمومُ والغمومُ والأحزان، وعَمرَ قلبهُ بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفودُ التهاني والبشائرِ من كل جانب، فإنه لا حزن مع الله أبدًا -مهما ادلهمت الخطوب، واشتد الخصوم. أليس خيرُ البرية يقول لصاحبه «لا تحزن إن الله معنا». والكفار يطاردون محمدًا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه حتى يقفوا على فمِّ الغار الذي يختفي فيه وحينها يقول أبو بكر رضي الله عنه: «والله لو نظر أحدهم إلى موضوع قدميه لأبصرنا» فيرد عليه {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬1). ويوسف عليه السلام يؤذى من أقرب الناس إليه، ويُباع ويشترى بأبخس الأثمان وهو الكريمُ ابنُ الكريم ابن الكريم ابن الكريم، ثم يُؤذى في عِرضه وتلحقه التهمة ¬

(¬1) سورة التوبة، آية: 40.

وهي البريءُ العفيفُ الطاهر، ويُصر الملأ على سجنه من بعد ما رأوا الآيات حتى لا تنفضح امرأة العزيز، ويأسف أبوه لحاله ويقول: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}، ومع مكوثه في السجن بضع سنين يظل صابرً محتسبًا، بل ويظل خيِّرًا صادقًا داخلَ السجن كما كان خارجه ويعترف له من بالسجن بالصلاح والتقى وفضلِ العلم والهدى وينادى بـ «أيها الصديق»، ولا يمنعهُم سجنُه أن يستفتوه فيما أشكل عليهم حين أراد اللهُ براءته وإخراجه من السجن على الملأ، بل لقد ظل عليه السلامُ داعيًا إلى الله، لم تقعد به الأحزان أو تقطعه الهمومُ عن مواصلة السير إلى الله: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (¬1). وهكذا فمن تأمل حياة الأنبياء أو حياة أتباعهم من المجاهدين الصادقين لم يجد للحزن واليأس في قلوبهم طريقًا مع شدة البلوى وعظيم المُصاب. إخوة الإسلام، وهاكم مخرجًا ثالثًا شرعيًا من مخارج الهم والغم أرشد إليه المصطفى صص بكلمات نافعة، حين دخلَ المسجدَ ذات يومٍ، فإذا هو برجلٍ من الأنصار يقال له أبو أمامة- جالسًا فيه- فقال: «يا أبا أمامة: ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت صلاةٍ؟ قال: همومٌ لزمتني، وديونٌ يا رسول الله، قال: ألا أعلمك كلامًا إذا قلتها أذهب الله عز وجل همَّك وقضى عنك دينك؟ فقال: بلى يا رسولَ الله، قال قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من البخل والجبن، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال، فقلت ذلك فأذهب اللهُ همي وقضى عني ديني» (¬2). ¬

(¬1) سورة يوسف، آية: 39. (¬2) أخرجه أبو داود وهو حديث حسن (جامع الأصول 4/ 295، 296).

وفي رواية عند النسائي: «كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم دعواتٌ لا يَدَعَهُن، كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل .. » الحديث (¬1). يا أخا الإسلام وهاك دعاءً آخر خاصًا بإذهاب الهمِّ والحزن، قال عليه الصلاة والسلام: «ما أصاب عبدً همٌّ ولا حزن فقال: اللهم إني عبدُك ابنُ عبدِك ابنُ أمتِك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألكُ اللهم بكل اسمٍ هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنَه وهمَّه، وأبدله مكانه فرحًا» (¬2). أفيعجزك يا أخا الإسلام إذا نزل بك همٌ أو حزن لذاتِ نفسك أو لقضايا المسلمين من حولك أن ترفع يديك إلى السماء، وتدعو دعاءَ المضطر، الواثقِ بالإجابة، وبهذه الأدعية وسواها .. ؟ وخلاصةُ القولِ فلا تشغلْك همومُ الدنيا عن السير إلى الله والاهتمامِ بمنازل الآخرة، ولا يقعد بك الحزنُ علىَ مصائب المسلمين عن العمل والدعوةِ لدين الله، وكن بالله عارفًا، وعليه متوكلًا، وبنصره وتفريجه للكربات واثقًا .. فإن مع العسير يسرًا، إن مع العسر يسرًا، ولن يغلب عسرٌ يسرين. اللهم اهدنا ووفقنا لليسرى، اللهم جنبنا العسرى، اللهم اكفنا ما أهمنا، وعظم أجورنا، وارزقنا الصبرَ والاحتساب على ما أصابنا هذا وصلوا .. ¬

(¬1) المصدر السابق 4/ 352. (¬2) رواه أحمد وغيره، وحسنه الحافظ. الدعاء من الكتاب والسنة، سعيد القحطاني ص 4، 5.

طرق السعادة

طرق السعادة (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين خلق فسوى وقدَّر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قسم الخلق- بعلمه وحكمته- إلى أشقياءَ وسعداء ففريق في الجنة وفريق في السعير. وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه وخيرتُه من خلقه، حمل رسالة الخيرِ إلى أمتِه ففاز بالاتباع أهلُ السعادة، وانتكس أهلُ الفسوقِ والشقوة ولا يظلم ربُّك أحدًا. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين ومن سار على هديهم إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬3). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬4). أما بعد إخوةَ الإسلام فإن السعادةَ مطلبُ العقلاء ومبتغى الكبراء، وحُلُم يُراود الضعفاء، ولكن الناسَ متفاوتون في فهمِ حقيقتها، ومتباينون في طرق ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/ 11/ 1417 هـ. (¬2) سورة التوبة، آية: 119. (¬3) سورة الحجرات، آية: 13. (¬4) سورة النساء، آية: 1.

الوصول إليها، منهم من يراها في المال والولد، ومنهم من يراها في الجاه والمنصب، ومنهم من يراها في توفر الشهواتِ يعَبُّ منها عبًّا، غير آبهٍ بما يحلُّ وما يحرم، ولا فرق عنده بين ممنوعٍ ومشروع، ومنهم من يراها في السبقِ في مجالِ الصناعةِ والاختراع ومنهم من يراها في القصورِ الفارهة، والحسانِ الغانية، والخيلِ المسوَّمة والأنعام والحرث، وكل ذلك من متاعِ الحياة الدنيا الفانية، ولكن ثمةَ ما هو أنفعُ وأبقى. {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (¬1). أجل لقد أخطأ طريق السعادةِ فرعونُ الذي ظن الملكَ والجبروت طريقَه الآمنَ الدائم، فقال قولتَه الظالمةَ الآثمة «يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي» وأعلن على الملأ عقيدتَه الجائرة {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} وجعل فيه عبرة وكان لمن خَلفهِ آية وأبصر هو وجندُه المخدوعون به آثارَ الشقوة وهم بعدُ لم يفارقوا الدنيا، أعلن الندمَ والتوبة ولكن هيهات (¬2) {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (¬3). أيها المسلمون حين أضل طريقَ السعادة فرعون ومن على شاكلتِه في الكفر والطغيان، وجدها فتيةٌ مستضعفون آمنوا بربهِّم واعتزلوا معبودات قومهم، وكان ¬

(¬1) سورة آل عمران، آية: 15. (¬2) انظر: -خطب الفوزان 1/ 184. (¬3) سورة يونس، الآيتان: 91، 92.

نصيبُهم من الأرض -حين العزلة- كهفًا تقلُّ مساحتُه في الأرض وتضيقُ منافذُه الظاهرة نحو السماء، حتى إن الشمسَ إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذاتَ اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، ولو اطلعت عليهم داخله لوليت منهم فرارًا ولملئتِ منهم رُعبًا، ومع ذلك فالسعادةُ تحيط بهم، والرحمةُ منشورةٌ عليهم، والعقبُى كانت لهم تلك ثمراتُ الإيمان وذلك طريقُ السعادةِ لمن رام الجنان. أيها المؤمنون لقد جاء في كتاب الله تحديدُ طريقِ السعادة والفلاح فمرةً باتباع هدى الله {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} (¬1) {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬2) ومرة بالإيمان وعمل الصالحات {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬3). ومرة بتزكيةِ النفس وتحليها بالصفات الحميدة وإبعادها عن الصفات المذمومة: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (¬4). ومرة بالقيام بالواجبات والانتهاء عن المحرمات: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬5). ¬

(¬1) سورة طه، آية: 123. (¬2) سورة البقرة، آية: 38. (¬3) سورة النحل، آية: 97. (¬4) سورة الشمس، الآيتان: 9، 10. (¬5) سورة المؤمنون، الآيات 1 - 11.

أيها المسلمون إذا كانت الحيرةُ والشكُّ والضلالُ عذابًا وجحيمًا لا يطاق في الدنيا، والآثارُ في الآخرة أشدُّ وأبقى، فإن الإيمان واليقين سبيلٌ للسعادة في الآخرة والأولى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (¬1). {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (¬2)، {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} (¬3). محالٌ أن يجدَ السعادة أصحاب الخنى والغناء، والكؤوس المحرمة، وأهلُ الريب والرذيلةِ والمعاصي مهما أوتوا من حظوظ الدنيا، إن لم يهتدوا ويتوبوا، ذلكم لأن ذلَّ المعصية يحيط بهم يقعد بهم عن السعادة الحقيقية: «إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذينُ، إن ذلَّ المعصية لا يفارق قلوبَهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه» (¬4). وإذا أفلس من السعادة أرباب الأموالِ العظيمةِ والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وقارن نموذجٌ للانتكاسة والشقوة، ولم يمنعه مالُه، وقد أتاه اللهُ من الكنوز ما إن مفاتيحه لتنوء بالعصبة أولو القوة فقد خسف اللهُ به وبداره الأرض فهو يتجلجل بها إلى يوم القيامة. إذًا أفلس هؤلاء ووجد السعادةَ وحققها بكل معانيها من اتصلوا بالله وأطاعوه، ولو كان نصيبُهم من العيش كفافًا، ولو كان فرشهُم حصيرًا يبقى لها بعد النوم في الجنوب أثرٌ. ¬

(¬1) سورة مريم، آية: 96. (¬2) سورة الأنعام، آية: 82. (¬3) سورة طه، آية: 112. (¬4) كذاقال الحسن البصري يرحمه الله (ابن القيم، الداء والدواء ص 113).

عبادَ الله إن للإيمان والاستقامة على الحق أثرًا حميدًا حاضرًا ومستقبلًا، والله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (¬1). وطاعة الله ورسوله سببٌ للفوز والفلاح كما قال تعالى: {وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬2). وتأمل يا أخا الإسلام نعيمَ الأبرار، وجحيم الفجار الوارد في قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (¬3). يقول ابنُ القيم رحمه الله: ولا تظنَّ أن قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} مختصٌّ بيوم المعادِ فقط، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة، وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة وأيُّ لذةٍ ونعيمٍ في الدنيا أطيبُ من برِّ القلوب، وسلامةِ الصدر ومعرفةِ الربِّ تعالى ومحبتِه، والعملِ على موافقته، وهل العيشُ في الحقيقة إلا عيشُ القلب السليم، وهو الذي سلم من الشركِ والغل والحقدِ والحسد والشح والكبر وحبِّ الدنيا والرياسة فهذا القلبُ السليمُ في جنةٍ معجلةٍ في الدنيا، وفي جنة قي البرزخ، وفي جنة يوم المعاد (¬4). قال بعض العارفين وهو يستشعر محبة الله ويتنعم بعبادته: أن كنتُ في الجنةِ في مثلِ هذه الحالةِ فإني إذا في عيشٍ طيب (¬5). أيها المؤمنون للرضا بالمقدور والقناعةِ بالميسور أثر في السعادة في الدنيا ¬

(¬1) سورة فصلت، الآيتان: 30، 31. (¬2) سورة الأحزاب، آية: 71. (¬3) سورة الانفطار، الآيتان: 13، 14. (¬4) الداء والدواء باختصار ص 218، 219. (¬5) ابن القيم، زاد المعاد 2/ 25.

والمثوبةِ في الآخرة والله يقول: «ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه» وهذا حوارٌ لطيف في مسكن السعادة وطرق جلبها قيل: للسعادة أين تسكنين؟ قالت: في قلوب الراضين قيل: فبم تتغذَين؟ قالت: من قوة إيمانهم قيل: فبم تدومين؟ قالت بحسب تدبيرهم قيل فبم تُستجلبين؟ قالت: أن تعلمَ النفسُ أن لن يصيبها إلا ما كتب اللهُ لها، قيل فبم ترحلين؟ قالت: بالطمع بعد القناعة وبالحرص بعد السماحة، وبالهم بعد السرور وبالشك بعد اليقين (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (¬2). نفعني الله وإياكم. ¬

(¬1) السباعي، هكذاعلمتني الحياة ص 103. (¬2) سورة هود، الآيات: 106 - 108.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين منَّ على من شاء بالعبادة والهدى فشرح صدرهمْ للإسلام فهو على نور من ربه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حجب نوره عن المعرضين المعاندين فعاشوا حياة العَمىَ وإن كانوا مبصرين، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أوحى إليه ربُّه فيما أوحى {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أما بعد- إخوة الإسلام- فإن هذا الدين سببٌ للسعادة والهداية وغيرُه من الأديان والنحل سببٌ للنكدِ والشقوة، قال الله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (¬1). والقرآن طريقُك للهدى وهو مذكرٌ لك لحصولِ السعادة ومحذرٌ من طرق الغوايةِ والردى، ومن أعرض عنه باتت حياته ضنكًا، وإن خُيل للآخرين غير ذلك ظاهرًا وكذلك حكم ربنا {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}. يا أخا الإسلام، إذا كان الإيمانُ واليقين وعمل الصالحات، والاستقامةُ على الحقِّ، وسلامةُ القلبِ من الأمراضِ الخبيثة، والاهتداءُ بهدي القرآن .. كلُّ ذلك من أسباب السعادة، فهناك أسبابٌ أخرى فلا يفوتنَّك العلمُ بها والعمل، ¬

(¬1) سورة الزمر، آية: 22.

والعلمُ الشرعي بابٌ واسعٌ للسعادة وأهلُه أشرحُ الناسِ صدرًا، وأوسعُهم قلوبًا، وأحسنُهم أخلاقًا، وأطيبُهم عيشًا، أما الجهلُ فهو يورثُ الضيقَ والحصرَ والحبس وصدق الله «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون». أيها المسلمون: من أسباب السعادة أيضًا دوام ذكرِ اللهِ على كل حال، فبذكر اللهِ تطمئن القلوب، وتورث الغفلةُ ألوانًا من الضيق والعذاب، وهي طريقٌ إلى موت القلوب «ومثل الذي يذكر اللهَ والذي لا يذكره كمثل الحي والميت» ومصيبة أن يُميتَ الإنسانُ نفسهَ وهو يعدُ في عداد الأحياء؟ وأعظمُ ممن ذلك أن يرضى المرءُ بقرين الشيطان عوضًا عن الأُنس بالله، والله يقول: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (¬1). ونفعُ الخلقِ والإحسان إليهم بالمال أو الجاه أو البدن كلُّ ذلك يورث السعادة، فإن المحسنين الكرماءَ أشرحُ الناسِ صدرًا وأطيبُهم نفسًا، وأنعمُهم قلبًا، أما البخلاءُ فهم أضيقُ الناسِ صدرًا وأنكدُهم عيشًا .. عباد الله، إذا أورث الكرمُ السعادةَ وانشراحَ الصدر، فكذلك الشجاعةُ تورث السعادةَ، فالشجاعُ منشرحُ الصدر، واسعُ البطان، متسعٌ القلب، والجبانُ أضيقُ الناس صدرًا وأحصرهم قلبًا. أيها المؤمنون إن لَّذة الحياةِ وجمالَها وقمةَ السعادةِ وكمالَها لا تكونُ إلا في طاعةِ الله، ومهما ابتُغيت السعادةُ بغير ذلك فهي وهمٌ زائف، وما أهون الحياةَ الدنيا على الله وقد حكم على متاعِها بالقلة مهما تكاثر أو تطاول في أعين الجاهلية «قل متاعُ الدنيا قليل» وتأمل هوانَها على الله في قوله: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا ¬

(¬1) سورة الزخرف، آية: 36.

يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} (¬1). وحذار يا أخا الإسلام أن تغرك سعادةُ لحظة عن السعادةِ الأبدية، أو تُفتنَ بلذةٍ عاجلةٍ ندامةٌ آجلة، احذر أن تكونَ في حضيض طبعِك محبوسًا وقلبُك عما خُلق له مصدودًا منكوسًا، حذار أن ترعى مع الهملِ، أو تستطيبَ لقيعان الراحةِ والبطالةِ، وتستلين فراشَ العجزِ والكسل، فتبصرَ حين تبصر وإذا بجيادِ الآخرين قد استقرت في منازلها العالية وأنت دون ذلك بمراحل وتود الرجعة لتعوِّض ما فات ولكن هيهات. يا أخا الإيمان كيف ترجو السعادة وتأمل النجاة ولم تسلكْ مسالكها، وهل رأيت سفينةً تجري على اليبسِ؟ حاسب نفسَك على الصلاة ولا تأمل السعادة وأنت ساهٍ مضيعٌ لها والله يقول: «فويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون». ولقد أخطأت الفهمَ حين قَدَّرت أن سماعَ الغناءِ المحرم وسيلةٌ للسعادة والأنسِ في هذه الحياة، وفي ذلك ضلالٌ عن طريق الهدى والله يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (¬2). وكيف ترجو السعادةَ إن كنتَ من أهل الكسب الحرام، وإن خُيل لك ذلك وأنت تتعاطى الرِّبا مثلًا فاقرأ قوله تعالى «يمحق الله الربا .. ». وليست عقوبةُ الآخرةِ أقلَّ من الدنيا {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا ¬

(¬1) سورة الزخرف، الآيات: 33 - 35. (¬2) سورة لقمان، آية: 6.

يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (¬1). ابن آدم بشكل عام احذر خطوات الشيطانِ تكن سعيدًا في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، واتخذه عدوًّا .. تشعر بالسعادة عاجلًا وأنت واجدٌ ذلك آجلًا والله يقول: {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (¬2). يا ابن آدم في طباعِ النفس من الهلعِ والجزع والشح والبخل ما يقعد بها عن السعادة، وفي تعاليم الإسلام ووصايا القرآن ما يهذبها وتضمن سيرها إلى الله {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} (¬3) اللهم اجعلنا من أهل الجنة. ¬

(¬1) سورة البقرة، آية: 275. (¬2) سورة البقرة، آية: 168. (¬3) سورة المعارج، الآيات: 19 - 35.

عبرة في هجرة الحبشة

عبرة في هجرة الحبشة (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى وسائر الأنبياء والمرسلين وارض اللهم عن صحابته أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬3). اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. أما بعد إخوةَ الإسلام فما أروع سيرةَ النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وسير أصحابه، حين تُطالع أو تُروى، والمسلمون يجدون فيها في كلِّ زمَانٍ ومكان المرشدَ الهادي في حالِ عزِّهم وسؤددهم كما يجدون فيها السلوى وطرائق للثباتِ في حالِ ضعفِهم وتسلطِ الأعداء عليهم. ولاشك أن الحديث عن محمد صلى الله عليه وسلم حديثٌ عن خير البرية والحديثُ عن صحابته حديثٌ عن خير القرون، وسأتذكر وإياكم نموذجًا للفتنة التي أصابت ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 19/ 11/ 1417 هـ. (¬2) سورة الحشر، آية: 18. (¬3) سورة آل عمران، آية: 102.

هؤلاء الصفوة، وكيف خرجوا منها سالمين منتصرين، وفي قصَصِهم عبرة، وفي حياتهم وجهادهم أسوةٌ للمسلمين. أخوةَ الإيمان وفي السنة الخامسة لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم جُنَّ جنون قريشٍ لظهورِ الإيمان وكثرةِ الداخلين في الإسلام، واشتدَّ أذاها على محمدٍ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وما من وسيلة ترى فيها حربًا للإسلام وتقليلًا من شأن المسلمين إلا واستخدمها -وليس هذا موطنَ التفصيل فيها- وتحدثُنا كتبُ السير أنها استخدمت فيما استخدمت -سلاح القبيلة- أسلوبًا في النكالِ بالمسلمين يقول الإمامُ الزهريُّ يرحمه الله: فلما كثر المسلمون وظهر الإيمان فتحدثَ به ثار المشركون من كفار قريش بمن آمن من قبائلهم يعذبونهم ويسجنونهم وأرادوا فتنتهم عن دينهم، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للذين آمنوا به تفرقوا في الأرض، قالوا: فأين نذهبُ يا رسول الله؟ قال: هاهنا وأشار بيده إلى أرض الحبشة (¬1). أيها المسلمون لقد كانت هجرةُ الحبشة فرارًا بالدين، كانت صعبةً على المهاجرين، وفي حوارٍ جرى بين أميرِ المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه وبين إحدى المهاجرات إلى الحبشة تتضح صورةُ المعاناة وألمُ الغربة، فقد روى البخاريُّ في صحيحه أن أسماءَ بنتَ عميسٍ رضي الله عنها وكانت إحدى المهاجرات دخلت على حفصةَ زوج النبي صلى الله عليه وسلم بعد قدومهم من الحبشة، فدخل عمرُ على حفصة وأسماءُ عندها فقال عمرُ لأسماء: سبقناكم بالهجرة -يعني إلى المدينة- فنحن أحقُّ برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت أسماء وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطعم جائعكم ويعظُ جاهلكم، وكنا في دارِ أو في أرضِ البُعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم .. الحديث (¬2). ¬

(¬1) المغازي للزهري ص 96، الطبقات لابن سعد 1/ 203. (¬2) الفتح 7/ 484.

وكيف لا تكون الهجرةُ صعبةً عليهم وهم يهاجرون إلى أرض لم يألفوها، لغةُ الأحباشِ غير لغتهم، وعوائدُهم تختلف عن عوائدهم، ودينُهم غير دينهم، وشوقُ الأهلِ وحنينُ الديار وغربةُ المقامِ كلُّ هذه وتلك تشكل ضغطًا نفسيًا عليهم، ولكن الأمنَ من الفتنةِ في الدين، والسلامةَ من أذى المشركين، والرغبة في نشرِ هذا الدين تُخفف من آلام غربتهم، وتحفزهم على البقاءِ في أرض البُعداءِ البغضاء. أيها المسلمون وبرغم ارتياح المهاجرين بالحبشة وطمأنينتهم وفي ظروف الفتنِ تروجُ الشائعات، ولم يطلْ مكثُ المسلمين بالحبشية حتى بلغهم أن قريشًا قد أسلمت، فرجعت طائفةٌ منهم إلى مكة .. ولكنهم أدركوا حين اقتربوا من مكةَ أن الخبرَ كاذب وأن قريشًا أشدُّ في أذاها بعد هجرتهم، ولم يستطع أحدٌ من هؤلاء العائدين من الحبشة أن يدخل مكة إلا بإجارة- أو كفالة- أحدِ المشركين، ومن بين هؤلاء عثمانُ بن مظعون رضي الله عنه الذي دخل في جوار الوليد بن المغيرة، فلما رأى إيذاءَ المشركين للمسلمين- وهو آمنٌ- ردَّ على الوليدِ جوارَه ولم تطب نفسه أن يرى المسلمين يعذبون وهو آمن. وبينما هم في مجلس لقريش، وفَد عليهم لبيدُ بنُ ربيعة قبل إسلامه فقعد يُنشدهم من شعره فقال: ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطل. فقال له عثمانُ: صدقت. ثم قال لبيد: وكلُّ نعيمٍ لا محالة زائلُ. فقال له عثمانُ: كذبت.

نعيم الجنةِ لا يزول، فقال لبيد: متى كان يؤذى جليسُكم يا معشرَ قريش؟ فقام رجلٌ منهم فلطم عثمان فاخضرت عينه فلامه الوليدُ على رد جواره فقال: قد كنتَ في ذمةٍ منيعة فقال عثمان: إن عيني الأخرى إلى ما أصاب أختها في الله لفقيرة. فقال الوليد: فعد إلى جوارك، فقال: بل أرضى بجوار الله تعالى. إخوة الإيمان- قال بعضُ كتاب السيرة معلقًا على هذا الحديث: إن دعوة هذا بعضُ رصيدها من المفاهيمِ لن تُقهرَ ولن تُغلب وإن دينًا هذه بعضُ سمات رجاله لحريٌّ بالظهور والتمكين (¬1). إنه الثباتُ على دين الله رغم المحن واللؤى، وإنه الشعور بعزةِ الإسلام رغم المسكنةِ والضعف؟ ! وكم هو عجيبٌ هذا الجيل في صدقهِ مع الله وثباتِه على الدين الحق ويطول عجبُك حيث تعلمُ صورًا من ثبات المهاجرين للحبشة تجاوزت الرجالَ إلى النساء، وأمُّ حبيبة رضي الله عنها ثبتت على إسلامها وهي في أرض الغربة رغم ردةِ زوجها عبيد الله بن جحش ودخوله في النصرانية، وهي بذلك تضرب نموذجًا رائعًا للمرأةِ المسلمة، وتستحق على ذلك عظيمَ المكافأة، فقد عقد عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهي بعدُ في أرض الحبشة، وكانت واحدةً من أمهات المؤمنين، فور انقضاء عدتها. وإذا رأيتَ ثم رأيت دلائل الصدق وعظيم الصبر من المهاجرين في أكثر من موقفٍ وحادثة زال عجبُك من تهاوي أركان الجاهلية على أيدي هؤلاء، ولم تستغرب تغيُّرَ قناعةِ قريش بهذا الدين وإعجابهم بالمسلمين حتى إذا أتيحت الفرصةُ المناسبةُ أعلن عددٌ من قادةِ قريشِ إسلامهم وانضموا إلى صفوف ¬

(¬1) من معين السيرة ص 57.

المسلمين وكان حدثًا عظيمًا في الزمان وتغيرًا كبيرًا في الأذهان يوم أن أسلم خالدُ بن الوليد وعكرمة بنُ أبي جهل وعمرو بن العاص وغيرُهم كثير، وما دام الحديث متصلًا عن هجرة الحبشة وآثارها فدونكم خبرَ إسلامِ عمرو بن العاص وهو سفيرُ قريش لردِّ المهاجرين أولًا، والمسلمُ على يد النجاشي آخرًا يقول عمروٌ عن نفسه: كنتُ للإسلام مُجانبًا معاندًا، حضرت بدرًا مع المشركين فنجوت، ثم حضرتُ أحدًا فنجوت، ثم حضرتُ الخندق فنجوت، فقلتُ في نفسي: كم أوضع؟ والله ليظهرنَّ محمدٌ على قريش، فلحقت بمالي بالرهط، ثم بدا لي فلحقت مع رفقةٍ لي بالحبشية بعد صلح الحديبية وقلت نلحق بالنجاشي فنكون معه فإن يظهر محمد كنا عند النجاشي أحبُّ إلينا أن نكون تحت يد محمد، وأن تظهر قريشٌ فنحن مَنْ قد عرفت، فلحقنا به، وذات يوم جاءه عمرو بنُ أمية الضمري بكتاب من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليزوجه أمَّ حبيبة، فلما خرج من عنده دخلتُ عليه وقلت: أيها الملك خرج من عندك رجلٌ هو رسولُ عدوٍّ لنا قد وترنا وقتل أشرافنا، فأعطنيه فأقتله- يقول عمرو وإنما أردتُ بذلك أن أتخذ يدًا عند قريش بقتل رسول محمد- فلما قلتُ له ذلك غضب النجاشي ورفع يده فضرب بها أنفي ضربة ظننتُ أنه كسره، فابتدرتَ منخراي، وجعلتُ أتلقى الدَّم بثيابي، فأصابني من الذلِّ ما لو انشقت بي الأرض لدخلتُ فيها فرقًا منه، ثم قلتُ أيها الملك لو ظننتُ أنك تكره ما قلتُ ما سألتُك، قال: فاستحيا، وقال: يا عمرو: تسألني أن أعطيك رسولَ من يأتيه الناموسُ الأكبرُ الذي كان يأتي موسى وعيسى لتقتله؟ قال عمرو فغيَّر اللهُ قلبي عما كنتُ عليه، وقلتُ في نفسي: عرف هذا الحقَّ العرب والعجمُ وتُخالف أنت؟ ثم قلت؟ أتشهد أيها الملكُ بهذا؟ قال: نعم أشهد به عند الله يا عمرو، فأطعني واتبعه، فواللهِ إنه لعلى الحق، وليظهرنَّ على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده،

قلتُ: أتُبايعُني له على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعني على الإسلام، ثم دعا بطست فغسل عني الدم وكساني ثيابه .. (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (¬2). ¬

(¬1) البداية والنهاية 4/ 264. (¬2) سورة الأنعام، آية: 36.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو العليم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، الملكُ ملكه، والدينُ دينه، والنصرُ من عنده، وهو مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرتُه من خلقه، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وبعد: فلا تظنن -أيها المسلم- أن هجرةَ الحبشةِ كانت سياحةً يرغب المهاجرون فيها التنعمَ بالراحةِ والتلذذَ بشهوات الدنيا حيث ولا تتوفر مثيلُها في مكة. ولا يدور بخلدك أن المهاجرين استسلموا للراحة حيث ابتعدوا عن المحنة، بل وافتهم في أرض الحبشة صعوبات، وتعرضوا فيها أكثر من مرة لمخاطرَ ومساءلات- وكانت حواراتُهم صادقةً، يعظمون فيها الإسلام وإن لم يكن ثمة مسلمون غيرهم، ويلتزمون بهدي القرآن، وإن كان الحكمُ هناك للإنجيل، ويحافظون على صلواتهم وعباداتهم وإن لم يشاركهم فيها غيرُهم، بل تحدثنا كتب السير أن جعفرًا كان بالحبشة يجمع أصحابه ويحدثُهم (¬1)، كما نقل ذلك الذهبي. إخوة الإسلام الإسلامُ الذي هاجر المهاجرون من أجله، ظل في أرض الغربةِ عزيزًا عندهم، واستطاعوا بصدقهم وصبرهم وتوفيق اللهِ لهم أن يُدخلوا الآخرين فيها، ولو لم يكن من آثار هجرتهم إلا إسلامُ النجاشي ملكُ الحبشة لكان ذلك كافيًا وأثرًا عظيمًا، ولئن كان قارئُ السيرة يُعجب بعقلِ النجاشي وعدلِه، وهو الذي لم يأخذِ المسلمين بالظنة ولا صدق فيهم التهمَ الباطلة، التي ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 1/ 437.

روجتها قريشٌ ضدهم حتى استدعاهم وسمع منهم، وأعجبه حديث جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه عن أسباب هجرتهم واختيارهم أرضه حين قال: « ... فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلَم عندك أيها الملك فقال النجاشي: هل معك مما جاء به محمد عن اللهِ من شيء؟ قال: نعم فقرأ عليه جعفر صدرًا من (كهيعص) فبكى النجاشي حتى اخضلَّت لحيتُه وبكت أساقفتُه حتى أخْضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرجُ من مشكاةٍ واحدة» (¬1). يا أخا الإسلام إذا كان يُعجبكَ هذا الموقفُ المتعقلُ من النجاشي للمسلمين المهاجرين إليه، وتُسرُّ لإسلام النجاشي حين أصبح في عِداد المسلمين، وتغتبطُ إذ يُصلي عليه الرسولُ صلاة الغائب حين مات في أرض الحبشة ولم ير الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يره الرسول صلى الله عليه وسلم. فيزداد عجَبُك بالنجاشي حين تعلمُ أن العدل مبدأ أرسى عليه دعائمَ ملكه منذ أن صار إليه أمرُ الأحباش، ولقد رد هدايا قريش عليهم حين تبين له صدقُ المسلمين، وما هم عليه من حق وتذكَّر أن الرشوةَ لم تُؤخذ منه من قبل فيأخذها هو، وقال قولته المشهورة: ردوا عليهما -يعني مبعوثي قريش- هداياهما، فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ اللهُ مني الرشوةَ حين ردَّ عليَّ ملكي وآخذ الرشوةَ فيه، وما أطاع الناسَ فيَّ فأطيعهم فيه (¬2). يا أخا الإسلام، النجاشيُّ بهذه المقولةِ يتذكر فضلَ الله عليه حين حسده ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 359. (¬2) السيرة لابن هشام 1/ 361.

الحاسدون وباعوه رقيقًا، ثم مكَّنه الله نتيجةَ صدقه وعدله وصلابته في دينه وتروي قصته العجيبة أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها وتقول: إن أبا أصحمة النجاشي كان ملكَ قومِه، ولم يكن له من الولد إلا النجاشي (أصحمة) وكان له عمٌّ له من صلبه اثنا عشر رجلًا، وكانوا أهل بيتِ مملكةِ الحبشة، فقالت الحبشةُ بينها: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه، فإنه لا ولدَ له غير هذا الغلام وإن لأخيه اثني عشر ولدًا فتوارثوا ملكه من بعده، فبقيتُ الحبشةُ بعده دهرًا، فعدوا على أبي النجاشي فقتلوه وملكوا أخاه، فمكثوا على ذلك، ونشأ (النجاشي، أصحمة) مع عمه، وكان لبيبًا حازمًا من الرجال، فغلب على أمرِ عمه ونزل منه بكل منزلة، فلما رأتِ الحبشة مكانَه مِنه قالت بينها: والله إنا لنتخوفُ أن يُملكه، ولئن ملكه علينا لَيَقتلَنا أجمعين لقد عرف أنا نحن قتلنا أباه، فمشوا إلى عمِّه فقالوا له: أما أن تقتل هذا الفتى، وأما أن تُخرجه من بين أظهرنا، فإنا قد خِفنا على أنفسنا منه، قال: ويلكم: قتلتم أباه بالأمس وأقتله اليوم؟ بل أخرجوه من بلادكم، فخرجوا به فباعوه من رجل تاجر بستِ مائةِ درهم، ثم قذفه في سفينة، فانطلق به حتى إذا جاء المساءُ من ذلك اليوم هاجت سحابةٌ من سحاب الخريف، فخرج عمُّه يستمطرُ تحتها، فأصابته صاعقةٌ فقتلته، ففزعت الحبشة إلى ولده، فإذا هم حمقى ليس في ولده خير، فمرجَ على الحبشة أمرُهم، فلما ضاق عليهم ما هم فيه من ذلك قال بعضُهم لبعض: تعلمون والله إن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيرُه الذي بعتموه غدوةً، فإن كان لكم بأمرِ الحبشةِ حاجةٌ فأدركوه، قال: فخرجوا في طلبه حتى أدركوه فأخذوه من التاجر، ثم جاءوا به، وأقعدوه على سرير الملك وملكوه، فجاءهم التاجرُ فقال إما أن تعطوني مالي، وإما أن أكلمه في ذلك، فقالوا: لا نعطيك شيئًا، قال إذًا واللهِ لأُكلمنَّه، قالوا: فدونك، فجاءه فجلس بين يديه فقال أيها الملك ابتعت غلامًا

من قومٍ بالسوق بست مائة درهم فأسلموه إليَّ وأخذوا دراهمي، حتى إذا سرتُ بغلامي أدركوني فأخذوا غلامي ومنعوني دراهمي، فقال لهم النجاشي لتعطينه دراهمه أو ليُسلمَنَّ غلامَه في يده، فليذهبن به حيثُ يشاء؟ قالوا: بل نعطيه دراهمَه .. فذلك حين يقول النجاشي: ما أخذ اللهُ مني الرشوة حين ردَّ عليَّ ملكي فآخذ الرشوة فيه (¬1). أيها المسلمون هذه وقفةٌ عاجلة عند حدثٍ من أحداثِ السيرة، وكم في قصص الماضين من عبرة وكم فيها من تسليةٍ للنفس وتسرية، وما أحوج المسلمين لقراءة السيرةِ النبوية قراءةً واعيةً وفيها دروسٌ عظيمة، وسيرةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وهديُه هي الطريقُ الآمنُ لمسيرةِ الأمة، وهي السبيلُ السويُّ لنشر هذا الدين، وقبل ذلك فهي النموذجُ الحي للثبات على هذا الدين وفهمِه فهمًا صحيحًا، اللهم ألهمنا رشدنا وبصرنا بمواطنِ الضعفِ في نفوسنا، وأعنّا على الاقتداءِ بسنة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، هذا وصلوا ... ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 1/ 429، 430

الحج والتوحيد

الحج والتوحيد (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله اتقوا الله حق التقوى واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا ألا وإن تقوى اللهِ أمانٌ من كل خوف، وغنى ما بعده فقر، وسعادة لا شقوة فيها -ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب- ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرًا. أيها المسلمون عاد حجاجُ بيت الله بعد أن طوفوا بالبيت العتيق، وقفوا على صعيد عرفات خاشعين متذللين مبتهلين إلى الله والله غنيٌّ كريم أفاضوا من حيث أفاض الناس وذكروا اللهَ عند المشعرِ الحرام، ورموا الجمار، وتقربوا إلى الله بالهدي وهم على يقين أن الله لن يناله شيء من لحومها ولا دمائها ولكن يناله التقوى مِنكم. ألا ما أعظم رحلةَ الحج حين تذكرُ المسلم بقضايا العقيدة الكبرى فالتوحيدُ الخالصُ شعارُ الحجاجِ من أولِ وهلة وهم يُلبون عند عقد الإحرام «لبيك اللهم ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 18/ 12/ 1417 هـ.

لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمدَ والنعمةَ لك والملك، لا شريك لك لبيك». والتوحيدُ كذلك أساسُ بناءِ البيت العتيق، والهدفُ من بنائه ودعوةِ الناسِ للوفود إليه، كذلك أوحى اللهُ لخليله إبراهيم عليه السلام وكذلك سار على خطاه محمدٌ عليه الصلاة والسلام: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (¬1). وذكرُ اللهِ في الحج وهو مظهر من مظاهر التوحيد لا يكاد يفارق الحجاج فهم يذكرون اللهَ ويكبرونه وهم يطوفون حول البيت، وحين يسعون بين الصفا والمروة وحين يُهلون بالحجِ أو العمرةِ أو كليهما، وخير ما قال النبيون الأولون والآخرون «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير». ويذكرون الله ويكبرونه وهم يرمون الجمار، وينحرون الهدي والأضاحي وأدبارَ الصلوات المكتوبة، أو قبلها، وكذلك يرتفع اسمُ الله في مناسك الحج، وكذلك ينبغي أن يشهد الحجاجُ منافعَ الحج {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} (¬2). ويبدو ذكر اللهِ واضحًا لمن تأمل في مناسك الحج كلها .. كيف لا والحقُّ تبارك وتعالى يقول في سياق آيات الحج {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} (¬3). ¬

(¬1) سورة الحج، الآيتان: 26، 27. (¬2) سورة الحج، آية: 28. (¬3) سورة البقرة، آية: 198.

إنه التذكيرُ بالوحدانية لله وإدامةُ ذكره وحده، وتذكير كذلك بنعمة الله على من نزل عليهم القرآن حيث كانوا من قبل يتمرغون في أوحالِ الشرك والوثنية والضلالة «وإن كنتم من قبله لمن الضالين» وسواء أكان المقصودُ بذكر الله عند المشعر الحرام الصلاتين جميعًا أم ما هو أعمُّ من ذلك (¬1). فإن ذكر الله سمةٌ بارزة في الحج وهي مظهرٌ من مظاهر التوحيد ويستمر الحجاجُ يلهجون بذكر الله حتى يتموا حجهم كما قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (¬2). وهنا لفتة وخروجٌ عن تقاليد أهل الجاهلية في الذكر وهي تسيرُ في إطار التوحيد وتحقيق العبودية، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم كان أبي يطعم ويحمل الحمالات، ويحمل الديات، ليس لهم ذكرٌ غير أفعال آبائهم، فأنزل اللهُ على محمد صلى الله عليه وسلم {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} فحثوا على ذكر الله والتعلق به أشد من ذكرهم وتعلقهم بآبائهم .. » (¬3). إنها نقلة في المفاهيم .. وتبعة من تبعات هذا الدين الحق، عقلها المسلمون أول ما نزلت وينبغي أن يعقلها المسلمون وهم يتلون كتاب الله، ويؤدون شعائر الحج، فيديموا ذكر الله ويتعلقون به أكثر من تعلقهم بغيره، ولو كان المتعلق به أقرب الناس نسبًا. عبادَ الله يلخص الرسول صلى الله عليه وسلم أعمالَ الحج والهدف منها بإقامة ذكر الله ويقول ¬

(¬1) انظر تفسير ابن كثير عن الآية: 1/ 378. (¬2) سورة البقرة، آية: 200. (¬3) تفسير ابن كثير 1/ 381.

عليه الصلاة والسلام: «إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله» (¬1). أيها المسلمون تظل ظاهرةُ الذكر معلمًا بارزًا في أيام الحج لمن تأمل والله يقول: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (¬2). وفي سبيل الدعوة للتوحيد وإعلاء شأنه عاتب الله قريشًا يوم أن كانوا سدنة البيت فأشركوا معه في العبادة غيره، وصدوا الناس عنه {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (¬3). ونفى عنهم الولاية: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (¬4). أيها المسلمون حين تدرك أهمية التوحيد في شعيرة من شعائر الله، وركن من أركان الإسلام، فليس يخفى أثرُ التوحيد وأهميتهُ في شعائر الإسلام الأخرى وأركانه الأساسية أو ليست كلمة التوحيد هي الركن الأول من أركان الإسلام، وأَوَلسنا في كل قيام للصلاة نردد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فضلًا عن إعلان التوحيد وإعلاءِ شأن الذكر في أعمال الصلاة كلها، وليس التشهد إلا مظهرًا من مظاهرها بل ويظهر التوحيد في مقدمات الصلاة من الأذان والوضوء، وهكذا الشأن في بقية أركان الإسلام أو لا يقودنا ذلك كله إلى تعظيم شأن ¬

(¬1) رواه أبو داود والترمذي بسند حسن (جامع الأصول 3: 217). (¬2) سورة البقرة، أية: 203. (¬3) سورة الحج، أية: 25. (¬4) سورة الأنفال، أية: 34.

التوحيد والاهتمام به والبعد عن الشرك دقيقه وجليله، أَوَليس الحق تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (¬1). ومن وصايا العبد الصالح لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬2). وفي واحة التوحيد ورياض الإيمان يكون الهدى ويتوفر الأمن في الدنيا والآخرة وذلك ذكرى للذاكرين: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (¬3). أجل لقد أشكلت هذه الآية على الصحابة وقالوا: أيُّنا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلم، قال: «ليس كما تقولون، ذاك الشرك». وتأمل يا أخا الإسلام عظيمَ فضلِ الله ومغفرته للذنوب، ما لم يقع العبدُ في الشرك، وفي ذلك أعظمُ دليلٍ على أهمية التوحيد في حياة المسلم يقول عليه الصلاة والسلام: «يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشرُ أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا ومن تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً ومن لقيني بقُراب الأرضِ خطيئةً لا يشرك بي شيئًا لقيتهُ بمثلها مغفرة» (¬4). فتأملوا هذا الشرط «لا يشرك بي شيئًا». يقول ابن القيم رحمه الله في معنى الحديث: ويُعفى لأهلِ التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يُعفى لمن ليس كذلك، فلو لقي الموحدُ الذي لم يشرك ¬

(¬1) سورة النساء، آية: 48. (¬2) سورة لقمان، آية: 13. (¬3) سورة الأنعام، آية: 82. (¬4) رواه أحمد ومسلم (5/ 172)، (2687).

بالله شيئًا ربه بقراب الأرض خطايا، أتاه بقرابها مغفرة، ولا يحصل هذا لمن نقص توحيدُه، فإن التوحيد الخالصَ الذي لا يشوبه شركٌ لا يبقى معه ذنب، لأنه يتضمن من محبةِ الله وإجلاله وتعظيمه وخوفِه ورجائه وحده ما يوجب غسلَ الذنوب ولو كانت قرابَ الأرض، فالنجاسة عارضة، والدافع لها قوي (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (¬2). اللهم سلم قلوبنا من الشرك قليله وكثيره صغيره وكبيره، اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئًا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه .. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم. ¬

(¬1) فتح المجيد ص 61. (¬2) سورة الشعراء، الآيتان: 88 - 89.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخيرَ كله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. أما بعد فاذكروا الله- معاشر المسلمين- يذكركم، اذكروه ذكرًا كثيرًا وسبحوه بكرة وأصيلًا، اذكروا الله بألسنتكم وقلوبكم، وتعرفوا إلى الله في حال الرخاء يعرفكم في حال الشدة إياكم والغفلة عن ذكره وشكره {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (¬1). {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (¬2). معاشر المسلمين استقيموا على طاعة ربكم، واتخذوا من فرص الخير ومواسمه محطاتٍ تتزودون بها للقاء ربكم، واعلموا أن الحياة الدنيا متاع وأن الآخرة هي دارُ القرار .. ما أهون الخلق على الله وما أضعف حيلهم إذا حزبت الأمور، وعصفت العواصف وحل بهم شيءٌ من أقدار الله .. ولقد عاد كثيرٌ من الناس بذاكرته إلى الوراء يتذكر ما قدَّم يوم أن وقع في اليوم الثامن ما وقع في منى .. وربما خيُل لبعضهم أن القيامة قاب قوسين أو أدنى، وبلغ الرعب والهلعُ أن قتل بعض الناس بعضًا ولقيت ربها نفوسٌ قد تجردت من الدنيا، ولم يكن عليها إلا لباس تُشبه أكفان الموتى، وسلم اللهُ من سلم ليمتحنهم في بقية أعمارهم في الدنيا، ونسأل الله أن يتغمد أموات المسلمين بواسع رحمته، وأن يجعلها تذكرة لمن أنجاه الله منها وأن يقي الجميع نار جهنم فهي أشد حرًا ¬

(¬1) سورة الزمر، آية: 22. (¬2) سورة الزخرف، آية: 36.

وأنكى .. ، كما نسأله تعالى أن يقي المسلمين الشرورَ والفتن وأن يكشف الباطل وأهله، وأن ينزل شفاءه العاجل على مرضي المسلمين. أيها المؤمنون ما فتئ القرآن يذكرنا بنار جهنم وشدة حرها وسمومها .. فهي نزاعةٌ للشوى، وهي لواحةٌ للبشر وأصحابها لا يقضي عليهم فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها وهم يصطرخون فيها ويستغيثون بمالك خازنها {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} (¬1). وكلما فنيت فيها الجلود أبدلوا بجلود غيرها ليذوقوا العذاب أي نفسٍ تطيق هذا العذاب -أي أقدام لها جلدٌ وصبرٌ على النار-. ألا فلننقذ أنفسنا من النار، ولنحملها على طاعة الله فما أصبر الكافرين على النار؟ وصدق الله {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ}. وصدق الله إذ يقول: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} (¬2). عباد الله كم نركن إلى هذه الدنيا وهي غدارةٌ غرارة وكم نفسٍ حملت ما حملت من الأضغان والأحقاد وأضمرت من الشرور والفسوق والعصيان، وأنفاسها معدودة، ولربما كانت ورقتها ذابلة، وقد محيت من اللوح المحفوظ، وويل لمن لقي الله وهو غاشٌّ لنفسه، أو غاش لمن استرعاه الله عليه، تذكروا عبادَ الله هولَ المطلع يوم العرض على الله، وتذكروا سرعة النقلةِ وفجأة الموت فلا تدري نفس ماذا تكسب غدًا، وما تدري نفسٌ بأي أرض تموت، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا. ¬

(¬1) سورة الزخرف، آية: 77. (¬2) سورة الزخرف، الآيات: 74 - 76.

وتأملوا هذه الوصية من الحسن إلى عمرَ بن عبد العزيز وقد كتب إليه يقول: أما بعد فإن الدنيا دارُ ظعن، ليست بدار إقامة إنما أُنزل إليها آدم عقوبةً فاحذرها يا أميرَ المؤمنين فإن الزادَ منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها في كل حينٍ قتيل، تُذل من أعزها، وتُفقر من جمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلًا مخافةَ ما يكره طويلًا، ويصبر على شدة الدواء مخافة طولِ البلاء، فاحذر هذه الدارَ الغرارة الخداعة الخيالة. إلخ كلامه يرحمه الله (¬1). أيها المسلمون حققوا التوحيد ولا تصرفوا شيئًا من أنواع العبادة لغير الله، فمن حقق التوحيد دخل الجنة. وخافوا على أنفسكم من الشرك كبيره وصغيره، وقد خافه صلى الله عليه وسلم على أمته وقال: «أخوف ما أخاف عليكم الشركُ الأصغر، فسئل عنه فقال: «الرياء» (¬2). وإذا كان الشركُ الأصغر مخوفًا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كمال علمهم وقوة إيمانهم فكيف لا يخافه وما فوقه من هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب؟ كذا قال العالمون (¬3). حافظوا على الصلوات فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأقيموا الواجبات، واجتنبوا المحرمات، ولا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ولا تنخدعوا بطول الأمد فتقسوَ قلوبكم .. معاشر المسلمين حجاجًا ومقيمين عادت صحائفهم بيضاء نقية، «فمن حج ¬

(¬1) إغاثة اللهفان، 1/ 61. (¬2) رواه أحمد بسند صحيح 5/ 428، 429. (¬3) فتح المجيد ص 82.

ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» ومن صام عرفة كفر الله عنه سنة ماضية وقابلة .. ألا فحافظوا على هذه الصحائف بيضاء وتزودوا لآخرتكم فإن خيرَ الزادِ التقى .. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا واستر عيوبنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .. هذا وصلوا ..

المرأة في الإسلام

المرأة في الإسلام (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله الذي جعل الظلماتِ والنورَ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كل شيء هالكٌ إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وارض اللهم عن أصحابه وآله وأزواجه أمهاتِ المؤمنين، ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين والمسلمات فتلك وصية الله لكم ولمن سبقكم {وَللَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} (¬2). أيها الإخوة المؤمنون لا عجبَ أن يكثر الحديث عن المرأة، فهي تمثل نصف المجتمع أو تزيد، وهي الأم والبنت والزوج والأخت هي قمة شماء وصخرة صماء إذا صلحت واستقامت تحطمت على أسوارها المنيعة مكائد الكائدين، وهي نافذة واسعة، وبوابة مشرعة للفساد إذا خلص إليها المغرضون، أمر الله لها بحسن العشرة في محكم التنزيل فقال {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬3). وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بهن ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 20/ 4/ 1416 هـ. (¬2) سورة النساء: آية: 131. (¬3) سورة النساء، آية: 19.

خيرًا وقال: «استوصوا بالنساء خيرًا .. » (¬1). ونزل القرآن الكريم معليًا شأنهن ومؤكدًا حقوقهن من مثل قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} (¬2). بل نزلت سورةٌ كاملة من القرآن تحمل اسمهن، وتعالج قضاياهن ومع ذلك كله فهن موضعٌ للفتنة، وأول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، وخاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من النساء فقال: «ما تركت بعدي فتنةً أضر على الرجال من النساء» (¬3). لا عجب والحالة تلك أن يكثر الحديث عنهن، وأن توضح الصورة المتميزة التي حددها الشرع لهن، ولا عجب أن يكثر الحديث عن المرأة في زمن كثرت أصوات الناعقين، وامتلأت الأجواء ضجيجًا وزورًا وباطلًا باسمهن ومخادعة لهن. ومع كثرة اللقاءات والمؤتمرات التي عُقدت فيما مضى أو تعقد اليوم، أو يخطط لعقدها مستقبلًا، سواء ما يسر به أو يعلن على الملأ .. فإنا على ثقة أن هذه الصيحات الفاجرة الظالمة التي تنادي بتحرير المرأة ومساواتها وتدعو إلى خروجها واختلاطها، وتَئِدُ كرامتها وعفتها بعد نزع حجابها والتخلي عن حيائها .. إنا على ثقة أنها لن تؤثر- إن أثرت- إلا على صنفين من النساء، الصنفِ الأول: امرأة عفيفةٍ في نفسها، لكنها جاهلةٌ بحقوقها ومكانتها في ¬

(¬1) متفق عليه، رياض الصالحين ص 140. (¬2) سورة آلة عمران، آية: 195. (¬3) صحيح الجامع 5/ 138.

الإسلام، غافلة غائبة عما يريده لها أعداءُ الإسلام، فتلك يختلط عليها الحقُّ بالباطل، ولا تميز بين أصوات المؤمنين والمنافقين، يخدعها السراب وتبهرها الأنوار الكاشفة الكاذبة حتى إذا أطُفئت عنها فجأة وقعت في ظلمات بعضها فوق بعض، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور. أما الصنفُ الآخر فهن نساءٌ لديهن حظ من العلم والمعرفة الدنيوية، لكنهن في سلوكهن متهتكاتٌ مستهترات، أو فيهن استعدادٌ لهذا وذاك. هؤلاء لا يرين في الاختلاط عيبًا، ولا في السفور بأسًا، قد فتنتهن وغرتهن الدنيا بزينتها فهي محلُّ تفكيرهن ومحط آمالهن وغايةُ طموحاتهن أما الآخرة بنعيمها وسرمديتها فتمر بهن أحيانًا كالطيف، حين العزاء أو في مناسبات إسلامية عامة كشهر رمضان والحج أو ما شابهها .. ومع ذلك فباب الهداية مفتوح غير موصد، وطريق الإنابة والرشد ميسور ليس دونه أبواب تغلق ... ومن أوسع أبوابه العلمُ والخشية فبالعلم النافع تكون الخشية {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. وبالخشية تحصل المنعة من الفتنة بإذن الله. أيها المؤمنون والمؤمنات على طريق العلم والمعرفة وحيث سبق الحديثُ عن نماذج من امتهان المرأة في الجاهليات الأولى، وما كانت تلاقيه من مسخ وخسفٍ وذلةٍ ومهانة، أعرض لكم اليوم شيئًا من عناية الإسلام بالمرأة وبيان مكانتها الحقيقية في شرع الله، بضددها تتميز الأشياء وأعتذر لكم سلفًا عن الاختصار بما يقتضيه المقام، ومن رام التفصيل فدونه مطولات الكتب، ومؤلفات أهل الإسلام ففيها الإيضاح والبيان فيقرر الإسلامُ ابتداءً وحدة الأصل بين الذكر والأنثى، وأن المرأة كالرجل في الإنسانية سواءً بسواء ويقول تعالى

في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (¬1). ويقول عليه الصلاة والسلام: «إنما النساء شقائق الرجال» (¬2). ثانيًا: ضمن لها الإسلامُ الحياة الكريمة الطيبة في الدنيا والآخرة إن هي آمنت وعملت صالحًا وخوفها من الخزي في الدنيا والآخرة إن هي ضلت السبيل، كالرجل، فقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬3). ثالثًا: كما ساوى الإسلامُ في تكليفها بالعبادات- مع الرجل- فلها ثواب الطاعة إن عملتها، وعليها عقوبة المعصية أن وقعت فيهما. {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (¬4). وقال تعالى- في الجانب الآخر- {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} (¬5). وقال تعالى مخاطبًا الجنسين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن ¬

(¬1) سورة النساء، آية: 1. (¬2) حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود والترمذي (صحيح الجامع الصغير 2/ 281). (¬3) سورة النحل، آية: 97. (¬4) سورة الأحزاب، آية: 35. (¬5) سورة النور، آية: 2.

يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} (¬1). وفي سبيل وقاية النوعين من الوقوع في الرذيلة قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (¬2). رابعًا: حرم الإسلام التشاؤم بالمرأة والحزن لولادتها كما كان شائعًا عند العرب فقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} إلى قوله تعالى: { ... أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (¬3). كما حرم وأدها وشنع على ذلك فقال: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} (¬4). وقال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬5). خامسًا: كما ضمن الإسلامُ الأهلية للمرأة في الحقوق المالية، مهما كان نصيبها قال تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} (¬6). قال سعيدُ بنُ جبير وقتادة: كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئًا، فأنزل الله هذه الآية (¬7). ¬

(¬1) سورة الحجرات، آية: 11. (¬2) سورة النور، الآيتان: 30، 31. (¬3) سورة النحل، آية: 59. (¬4) سورة التكوير، الآيتان: 8، 9. (¬5) سورة الأنعام، آية: 140. (¬6) سورة النساء، آية: 7. (¬7) تفسير ابن كثير 2/ 191.

بل فوق ذلك جعل الإسلامُ للمرأة الرعاية في بيت زوجها وحملها مسؤولية رعايته «والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها». فأين ذلك من بعض تشريعات البشر وقوانينهم التي تعتبر المرأة مع الصغير والمجنون محجورًا عليهم؟ كما في القانون الروماني والفرنسي سابقا» (¬1). سادسًا: واعتنى الإسلام بتعليم المرأةِ، وقال لها وللرجل: «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون». وخصص الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء يومًا يعلمهن مما علمه الله، وكن خير معينات على العلم والتعلم، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ذهب الرجالُ بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يومًا نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال: اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا، فاجتمعن فأتاهن مما علمه الله» (¬2). وأفلح تعليم المرأة المسلمة في عصور الإسلام الزاهية فكانت نوابغ النساء في كافة الفنون، تشهده بذلك مدونات الإسلام، ويفتخر عددٌ من الرجال بمشيخة عددٍ من النساء، مع كمال الحشمة والعفة والوقار، وظلت المرأة المسلمة نموذجًا يحتذى في العلم والفقه والعزة بالإسلام، لا في عصر النبوة فحسب بل فيما تلاها من القرون أيضًا وإذا تجاوزنا أمثال عائشة رضي الله عنها نموذج العلم والفقه الأول، فهذه بنتُ سعيد بن المسيب رحمهما الله. حين دخل بها زوجها وكان من طلبة والدها، وأصبح أخذ رداءه يريد أن يخرج قالت له زوجته -بنت سعيد- ¬

(¬1) الإسلام والمرأة: إقبال المسلم، دانه الفليح ص 4 - 6، والسباعي: المرأة بين الفقه والقانون ص 43). (¬2) عناية النساء بالحديث النبوي مشهور آل سلمان ص 6.

إلى أين تريد؟ قال: إلى مجلس سعيد أتعلم العلم، فقالت له: أجلس أعلمك علم سعيد (¬1). وهذه أم الشافعي رحمهما الله كانت باتفاق النقلة من العابدات القانتات، ومن أذكى الخلق فطرة، شهدت مع أم بشر المريسي بمكة عند القاضي، فأراد أن يفرق بينهما ليسألهما منفردتين عما شهدتا به استفسارًا، فاعترضت عليه أم الشافعي وقالت أيها القاضي ليس لك ذلك لأن الله يقول: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} (¬2) فلم يفرق بينهما (¬3). تلك نماذج وغيرها كثير تفاخر بها المرأة المسلمة، ويعترف بها غير المسلمين وهذا غوستاف لوبون صاحب حضارة العرب- يذكر أنه كثر في العهد العباسي في المشرق، وفي ظل الأمويين في الأندلس اللواتي اشتهرن بمعارفهن العلمية والأدبية، وبعد ذلك من الأدلة على أهمية النساء أيام نضارة حضارة العرب» (¬4). فهل تعيد المرأة المعاصرة تاريخ ومجد أسلافها من المؤمنات العاملات ليس ذلك على الله بعزيز، ولا يقف مد الإسلام وفي الأرض مسلم ومسلمة يقولان لا إله إلا الله محمد رسول الله، أعوذ بالله {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (¬5). ¬

(¬1) الحلية لأبي نعيم 2/ 167/ 168، عناية النساء بالحديث، آل سلمان ص 121. (¬2) سورة البقرة، آية: 282. (¬3) عناية النساء بالحديث، ص 131. (¬4) حضارة العرب ص 489، عن المصدر السابق ص 7. (¬5) سورة النساء، الايتان، 123، 124.

هذه عناية الإسلام بالبنت حتى تغادر البيت معززة مكرمة فأين هذا من الحضارة المزعومة المعاصرة التي ترمي بالبنت في قارعة الطريق لتبحث عن مأوى آخر، وتهيم على وجهها في صحراء مهلكة تحيط بها الذئاب من كل جانب؟

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا، وجعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانًا وإناثًا ويجعل من يشاء عقيمًا إنه عليم قدير وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله علم الناس الخير ودعاهم إليه، وبين لهم الشر وحذرهم منه .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين وعلى الآل والأصحاب والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها المسلمون والمسلمات .. لا تقف عناية الإسلام بالمرأة عند هذه الحدود السابقة، بل يأمر الإسلام بإكرام المرأة أمًا، وبنتًا، وزوجة وأختًا، وعمةً، وخالة، منذ ولادتها وحتى مماتها. فعندما تكون بنتًا ضعيفة لا حول لها ولا طول يأمر أباها وأمها بحسن رعايتها وتوفير حاجاتها، ويرتب على ذلك من الأجر والمثوبة ما يدفع للخدمة والرعاية دون ضجر أو ملل، ويقول عليه الصلاة والسلام- فيما يقول- «من ولدت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها ولم يؤثر ولده- يعني الذكر- عليها أدخله الله بها الجنة» (¬1). وفي الحديث الأخر: «من كن له ثلاث بنات فصبر على لأوائهن وضرائهن، أدخله اللهُ الجنة برحمته إياهن، فقال رجلٌ وابنتان يا رسول الله قال: وابنتان قال رجل يا رسول الله وواحدة، قال: وواحدة» (¬2). ¬

(¬1) رواه الحاكم في مستدركه 4/ 177 وصححه ووافقه الذهبي. (¬2) رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين 4/ 176 وقال هذاحديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

ويبلغ عائل الجاريتين القمة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: «من عال جارتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين» وضمَّ أصابعه» (¬1). وحين تشب البنت عن الطوق وتصبح زوجة يوليها الإسلام عنايته، ويعتبر المتعة بها والأنس معها أفضل ما في الدنيا: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة» (¬2). وجعل الإسلام الحياة الزوجية ترتكز على دعائم قوية من المودة والرحمة تعجز الأنظمة البشرية أن تبلغه بتشريعاتها فهو آية من آيات الله كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬3). وإذا كان أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ففي بقية الحديث نفسه قال عليه الصلاة والسلام: «وخياركم خياركم لنسائهم» (¬4). فإذا كانت المرأة أمًا، فهي المنزلة التي لا تدانيها منزلة، وهي أحق ما في الوجود بحسن الصحبة والرعاية، والإحسان لها وللأب يُقرن بحق الله في العبودية «وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا .. ». والوصية بهما تنزل من السماء {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا}. ويلفت النظر إلى حق الأم لزيادة مشقتها: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} (¬5). ¬

(¬1) رواه مسلم وغيره (رياض الصالحين ص 138). (¬2) رواه مسلم 1467، رياض الصالحين ص 143. (¬3) سورة الروم، آية: 21. (¬4) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وصححه ابن حبان وغيره، رياض الصالحين ص 143. (¬5) سورة الأحقاف، آية: 15.

والرسول صلى الله عليه وسلم يرددها ثلاثًا: «رغم أنفُ، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة» (¬1). ولقد فقه سلف الأمة وخيارها هذه الحقوق فرعوها حق رعايتها بأقوالهم وأفعالهم فهذا ابن عباس رضي الله عنهما يقول (¬2) «إني لا أعلمُ عملًا أقرب إلى الله عز وجل من بر الوالدة» وهذا ابن عمر رضي الله عنهما يشهد رجلًا يمانيًا يطوف بالبيت وقد حمل أمه وراء ظهره ويقول: إني لها بعيُرها المذلل ... إن أُذعرتْ ركابها لم أُذْعرْ ثم قال: يا ابن عمر أتُراني جزيتُها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة» (¬3). وفي صحيح مسلم قال أبو هريرة رضي الله عنه: والذي نفسُ أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله، والحج، وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك، قال أحد رواة مسلم: وبلغنا أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها» (¬4). فأي تشريع غير الإسلام يبلغ بالمرأة هذه المنزلة، وأي حقوق يمكن أن يهبها لها البشر فوق ما حباها به رب البشر؟ ولولا أن يطول الحديث لاستكملت عناية الإسلام بالمرأة أختًا، وعمةً وخالةً وقريبةً أم بعيدةً .. وألتفت بعد ذلك إلى صوتٍ نسائي منصفٍ تعد صاحبته في طليعة المتعلمين .. وإن كان كل أحدٍ يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحبَ القبر أعني رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت عن مالك. ¬

(¬1) رواه مسلم (2551) رياض الصالحين ص 157. (¬2) كما في صحيح الأدب المفرد ص 34. (¬3) صحيح الأدب المفرد للألباني ص 36. (¬4) صحيح مسلم 3/ 1285.

- وتقول الدكتورة بنتُ الشاطئ (عائشة عبد الرحمن) عن قضية المرأة: إننا لم نكن في حاجةٍ إلى فهم هذه القضية ومثلها كما نحن الآن، إذ يعوز المرأة لكي تعرف حقيقة مكانها في عالم اليوم، وتميز دورها فيه- أن تستكمل وعيها لذاتها، وأن تفهم مقومات وجودها، وجوهر شخصيتها ومحالٌ أن يتحقق شيءٌ من ذلك إذا بُترنا من ماضٍ لنا بعيد طويل، وجهلنا ما تأصل في أعماقنا من تراثٍ لنا، فكري وروحي ومادي- ظل يتناقل جيلًا بعد جيل وخلفًا بعد سلف متغلغلًا في كياننا، متحكمًا في سلوكنا الفردي والجماعي، موجهًا أساليب تناولنا للحياة، وفهمنا لها، وسيرنا فيها .. إلى أن تقول: أجل لقد سمع اللهُ شكوى شاكيةٍ منا وغضب سبحانه لواحدة أخرى أفتري عليها ظلمًا وبهتانًا، فجعل براءتها آيةً تتلى وقرآنًا يتعبد به من يؤمن بالله واليوم الآخر ... إلى أن تقول: ولو لم يصنع الإسلام غير هذا لكان حسبنا نحن المسلمات، ولو لم يكن لنا من القرآن الكريم سوى هذه الآيات من سورة المجادلة والنور لرضينا بها حظًا ونصيبًا .. أي صنيع يمكن للإنسانية الكريمة أن تطمع فيه للأنثى أسمى من صون حصانتها، وحماية سمعتها من أراجيف المبطلين. وبعد عرضها لنماذج من حقوق النساء في الإسلام عادت لترد على المغرضين المتشبثين بقضايا زعموا أن فيها إجحافًا بحق المرأة. وتقول: «أفأحتاج بعد هذا إلى إطالةِ الوقوفِ عند الذين زعموه مجحفًا بنا من إباحة تعددِ الزوجات، والطلاق، واحتساب نصيب الأنثيين في الميراث كنصيب الذكر الواحد، وشهادة الأنثيين مكان شهادة الرجل؟ كلا فحكمة الإسلام في كل مسألة من هذه المسائل تبدو واضحة لا يجحدها إلا جاهلٌ أو مكابرٌ، تعدد الزوجات تقضي به أحيانًا ضرورةٌ قاهرة ويضبطه الإسلام بحدود ماديةٍ وأدبية

-ولا يزال الكلام للكاتبة- والطلاق لا محيد عنه إذا لم تعد الحياةُ الزوجية مستطاعة ولا محتملة، وهو مع ذلك أبغض الحلالِ عند الله، وإعطاءُ الأنثى نصف الذكر من الميراث يقابله إعفاؤها من أعباء النفقة حتى مع ثرائها وفقر زوجها وشهادة الاثنتين بدلًا من شهادة رجل منظورٌ فيها إلى عاطفية المرأة التي هي جوهر أنوثتها (¬1). أيتها الأخت المسلمةُ مع الفارق في الحقوق التي منحها الحكيمُ الخبيرُ للمرأة، والتخبط المشين لأدعياء حقوق المرأة فإن هناك فارقًا آخر ألمح إليه الدكتور السباعي في كتابه «المرأة بين الفقه والقانون» وقال: كان التشريعُ الإسلاميُّ نبيلَ الغاية والهدف حين أعطى المرأة حقوقها من غير تملقٍ لها أو استغلالٍ لأنوثتها، ففي الحضارتين اليونانية والرومانية، وفي الحضارة الغربية الحديثة، سمح لها بالخروج وغشيان المجتمعات للاستمتاع بأنوثتها، لا اعترافًا بحقوقها وكرامتها بينما حد الإسلام من نطاق اختلاطها بالرجال وغشيانها المجتمعات حين أعطاها حقوقها وبعد أن أعطاها وصانها وأعلن كرامتها راعى في كل ما رغب إليها من عمل وما وجهها إليه من سلوك أن يكون ذلك منسجمًا مع فطرِتها وطبيعتها وأن لا يرهقها من أمرها عسرًا (¬2). أما الحضارات المادية القائمة .. أما جهدُ المرأةِ وضياعها .. أما حسرتها وقلقها .. فلعلي أقص عليكم من نبأ ذلك في خطبة لاحقة بإذن الله. اللهم هيء لنا من أمرنا رشدًا .. وأرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه. هذا وصلوا. ¬

(¬1) الأخت المسلمة أساس المجتمع الفاضل: محمود الجوهري ص 93 - 100. (¬2) المرأة بين الفقه والقانون ص 44.

المرأة في الحضارة المادية المعاصرة

المرأة في الحضارة المادية المعاصرة (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قال- وهو أصدق القائلين: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} (¬2). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أوصى أبا ذرٍ رضي الله عنه أن يتعوذ من شياطين الجن والإنس، فقال أبو ذرٍ: يا رسول الله وللإنس شياطين؟ قال: «نعم» (¬3). اللهم صل على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى سائر المرسلين، وارض اللهم عن الآل الطيبين والصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬4)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬5) {وَللَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} (¬6). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 27/ 4/ 1416 هـ. (¬2) سورة طه، الآيات: 124 - 126. (¬3) الحديث رواه أحمد والنسائي. (¬4) سورة آل عمران، آية: 102. (¬5) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71. (¬6) سورة النساء، آية: 131.

أيها الإخوة المؤمنون .. أيتها الأخواتُ المؤمنات، قد آن الأوان للحديث عن وضع المرأة في ظل الحضارة المادية المعاصرة، بعد سبق الحديث عن وضع المرأة وكرامتها وصون حقوقها في الإسلام، وسبق الحديث كذلك عن وضع المرأة وقيمتها في ظل الجاهليات القديمة في شرق الأرض ومغربها ولست أدري من أين أبدأ حديثي عن المرأة في ظل الحضارة المادية المعاصرة أبدأه من صيحات أساتذة الجامعات؟ أم من تحذير الكاتبات الشهيرات؟ أم يكون الحديث دراسة واعية للأرقام المذهلة والإحصاءات ونتائج الدراسات؟ أم يكونُ جلاءً لانتكاسة دور السينما وانتحار أشتهر الممثلات أم يكون حديثًا عن بداية الضياع ورصيد خط الانحراف. أم يكون تشخيصًا للأسباب، ورصدًا للنتائج، وتوصيفًا للعلاج؟ ولئن لم يفِ الحديث بهذه أو تلك فمرد ذلك أن الخُطبة ليست للإسهاب والتفصيل بقدر ما هي للإشارة والتذكير، وهذا يعني أن وراء القليل المذكور الكثيرُ الذي لم يتسع المقام لذكره. وخلاصة القول أن المرأة في ظل هذه الحضارة المادية المعاصرة بدأت تشعر بحجم قضيتها، وفداحة وضعها، وخداع الرجال لها. لقد قيل لها- زورًا وبهتانًا- أنت إنسانة حرة يجب أن تتمتعي بحريتك وتهتمى بجمالك وتختلطي بالرجال في صداقات بريئة حتى لا تتعقدي ولا تكوني فريسة للأمراض النفسية والانهيارات العصبية فلما مشت في هذا الطريق عشرات السنين اكتشفت أخيرًا الفرية الكبرى والفضيحة العظمى من مراكز القيادة، واكتشفت أن حريتها لم تكن إلا لتصبح متعةً للرجل ومستقرًا لشهوته، إذ هو يخادعها في الخلوات، ويجلس معها في البارات، يراقصها في الحلبات، ويسبح معها على شواطئ الأنهار والبحار .. كل ذلك دون أن يرتبط معها

بمسؤولية الحياة الزوجية والسكون العائلي. لقد اكتشفت المرأة بعد التجارب المريرة أنها غدت وردةً ذابلة تدوسها المادة ولا يشعر بمأساتها أحد؟ أجل لقد انهارت سعادتها البيتية، وضاعت أمومتها الحانية، وفقدت كيانها وإرادتها وشخصيتها، وغدت حامل الطفل اللقيط تبحث في شرق البلاد وغربها عن مستشفيات الوضع، تمزقها المأساة وتحمل مع آلام الحمل ظلم الرجال على كتفها ويزيد من لوعتها وحسرتها تأوهاتُ الطفل كلما صرخ: ماما أين أبي؟ لماذا ليس لي أبٌ كسائر الأطفال؟ (¬1). إخوة الإسلام إنها الصورة الحقيقية- باختصار- للمرأة في ظل ظلم وجور هذه الحضارة العصرية المزعومة للمرأة؟ هذا الظلم والجور للمرأة لم يعد سرًا، بل أزعج المنظمات والهيئات الدولية فقد بدأت لجنةُ حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة تشعر بهذا الانحراف الخطير فنشرت قبل ما يزيد على عشرين عامًا مشروع قانون جديد على الدول الأعضاء لإزالة التمييز ضد النساء بمناسبة عام المرأة العالمي عام خمسة وسبعين وتسعمائة وألف للميلاد (1975 م) ومما جاء فيه أن أي مشروع يوضع لتنظيم قضايا المرأة في العالم ويحدد علاقتها بالرجل يجب أن يراعي الواجب الأساسي للمرأة في الحياة الاجتماعية، وهو الأمومة وتربية الأطفال، وتهيئة الجو المناسب لإنشاء البيت السعيد» (¬2). مع ما في هذه التوصية من تخفيف لآلام المرأة وتقدير لمنزلتها قد جاء مؤتمر المرأة الأخير في بكين ليقضي على هذا الحلم للمرأة ولذلك حين يتخبط البشر ¬

(¬1) المرأة في ظل الحضارة الغربية د. محسن عبد الحميد 3، 4. (¬2) السابق: 5.

في أنظمتهم يهدم اللاحقون ما استصلحه السابقون، ويخرب العابثون بيوتهم بأيديهم فاعتبروا يا أولي الأبصار! . إخوة الإسلام استمعوا إلى حصاد الحرية المزعومة تعلن قاضية سويدية كلفتها الأمم المتحدة بزيارة البلاد الغربية لدراسة مشاكلها والتعرف على أوضاعها الاجتماعية والقانونية .. فتحدثت القاضية السويدية (بريجيت أوف هاهر) عن المأساة التي خلفتها أوضاعُ الحرية في السويد- أرقى بلاد الحضارة الغربية- وتشير إلى زيادة نسبة الانتحار سنة بعد سنة بين النساء، ثم تقول: «إن المرأة السويدية فجأة اكتشفت أنها اشترت وهمًا هائلًا- هو الحرية- بثمن مفزع هو سعادتها الحقيقية، ولهذا فإنها تستقبل العام العالمي لحقوق المرأة (1975) بفتور مهذب، وتحن إلى حياة الاستقرار العائلية المتوازنة جنسيًا وعاطفيًا ونفسيًا، فهي تريد أن تتنازل عن معظم حريتها في سبيل كلِّ سعادتها. وتذهب القاضية السويدية في تقريرها أبعد من هذا وتقول: «إن النتيجة على مستوى الأمة مذهلة حقًا وتذكر نسبًا مخيفة للمرضى النفسيين والمصابين عقليًا، والمصابين بأمراض الشذوذ الجنسي» (¬1). أيها المسلمون أيتها المسلمات .. أما ثمار الاختلاط فتتحدث عنه بمرارة الكاتبة الإنجليزية الشهيرة «أنارورد» حين تقول: «ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف رداء، إنه عارٌ على بلاد الإنجليز أن نجعل بناتنا مثلًا للزائل بكثرة مخالطتهن للرجال فما لنا لا نسعى وراء ما يجعل البنات تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية بما يوافق القيام في البيت وترك أعمال الرجال للرجال ¬

(¬1) المرأة في ظل الحضارة الغربية 6، 7.

سلامة لشرفها وحفاظًا على أنوثتها ... » (¬1). وفي، أمريكا تعترف الدكتورة «أيدي ألين» أن سبب الأزمات العائلية في أمريكا، وسبب كثرة الجرائم في المجتمع هو أن الزوجة تركت بيتها لتضاعف من دخل الأسرة، فزاد الدخل وانخفض مستوى الأخلاق .. إلى أن تقول الكاتبة: إن التجارب أثبتت أن عودة المرأة إلى بيتها هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجيل من التدهور الذي يسير فيه. وفي ألمانيا قامت مظاهرةٌ نسائية تدعو إلى تحرر المرأة من العمل وتفريغها للبيت وشؤونه، ونادت النساء الألمانيات في هذه المظاهرة أن يُنص عند عقد الزواج على عدم مزاولة المرأة للعمل وأن تكون رسالتها الزوجية والأمومة لا مزاحمة الرجال في المكاتب والمصانع والمرافق الحكومية» (¬2). تجتمع هذه النذر وتتلاقى هذه الصيحات لما نتج عن عمل المرأة وخروجها واختلاطها من انتكاسة في القيم والأخلاق، حتى قال العالم الإنجليزي (سامويل سمايلي) في كتابه «الأخلاق» «إن النظام الذي يقضي بأن تشتغل المرأة في المعامل ودور الصناعات مهما نشأ عنه من الثروة، فإن النتيجة هادمةٌ لبناء الحياة المنزلية ... » (¬3). أيها المسلمون والمسلمات- لماذا لا تُعلن الصيحات، ومأساةُ المرأة في الحضارة المادية المعاصرة لم تقف عند حدود المعمل والمصنع والشارع والشاطئ، بل حاصرت المرأة في دور العلم، ولم تسلم المرأة المتعلمة من ¬

(¬1) المرأة بين البيت والعمل 24. (¬2) المرأة بين البيت والعمل 25، 26. (¬3) بدرية العزاز، المرأة، ماذا يعد السقوط 147.

حصار الرجل وظلمه حتى والمرأة تُحضر أعلى الدرجات العلمية، تقول إحدى الدارسات الحاصلات على درجة الدكتوراه في علم النفس أن رئيسها المباشر في الجامعة ابتدأ في معاكستها، وهي لا تستطيع أن ترفض طلبه لأن مستقبلها الدراسي بين يديه، تقول الدارسة: ولولا رضوخي لما كانت هناك امرأة في هذه الدرجة العلمية! ! (¬1). أفبعد هذا يبقى مكانٌ للقيم والشيم؟ وقد شاعت الفاحشة في دور العلم، وشمل المثقفين، ووقع في شراكه المعلمون والمربون؟ إن الكارثة لا تنتهي عند هذا الحد، وسوسُ الفساد ينخر في المجتمع بسبب إفساد المرأة، وقد صدر كتابُ «الابتزاز الجنسي» لمؤلفه «لين فارلي» عام 1978 م ليفضح استغلال الرجل للمرأة جنسيًا وفي الاستفتاء الذي قامت به جامعة «كورنل» بين عدد من العاملات في الخدمة المدنية، جاء من نتائج الاستفتاء أن سبعين في المائة من النساء تعرضن للاعتداء الجنسي عليهن، وأن ستة وخمسين بالمائة منهن اعتدي عليهن اعتداءاتٍ جسمانية .. إلخ التقرير الخطير (¬2). فأي حضارة تلك، وأي قيمة للمرأة في ظلها .. أين وقع المصطلحات الرنانة كالحرية، المساواة، وأين صيانة حقوق المرأة؟ ! ¬

(¬1) العزيز- المرجع السابق 143. (¬2) السابق: 142.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وأجلها نعمة الإسلام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شرع لنا من الدين أحسنه وأنزل علينا أفضل كتبه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، به تمت رسالات السماء وكان خير المرسلين .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين. إخوة الإسلام لضراوة الجاهلية المعاصرة، وظلم المرأة في ظل هذه الحضارة المادية المعاصرة، فقد استيقظت وتستيقظ أحيانًا فطرُ أكثر النساء لهوًا وضياعًا .. إنهن الممثلات العاريات، ورائدات دور السينما الفاتنات المفتونات .. تستيقظ أولئك النسوة على ضياعهن واستغلال الرجال لهن وفي فرنسا مثلًا- نشرت جرائد العالم في حينها- قصة الممثلة الفرنسية الداعرة، التي كانت تمثل مشهدًا عاريًا أمام الكاميرا، وفجأة ثارت ثورةً عارمةً وصاحت في وجه الممثل والمخرج تقول: أيها الكلاب، أنتم الرجال لا تريدون منا نحن النساء إلا أجسادنا، حتى تصبحوا من أصحاب الملايين على حسابنا، ثم انفجرت تبكي .. ». وقبلها انتحرت الممثلةُ الأمريكية «مارلين ... » وكتبت كلمات تندب فيها حظها وتحذر بنات جنسها من مثل مصيرها (¬1). أيها المسلمون والمسلمات أكتفي بهذه الإطلالة السريعة على واقع المرأة في الحضارة المادية المعاصرة لأقف مستنتجًا العبر والدروس الآتية: أولًا: أن هذا الواقع المشين لم تبلغه المرأة دفعة واحدة، ولم تُجر إليه بين ¬

(¬1) المرأة في ظل الحضارة الغربية؛ د. محسن عبد الحميد 10 - 11.

عشية أو ضحاها، وإنما كان هذا نتيجة تخطيط ماكرٍ مسبق استخدمت فيه الألفاظ البراقة الخادعة من جهة، وروجت له وسائل الإعلام وقنواتها المختلفة من جهة المرأة، ومع هذا الضجيج والخداع فقد اكتشفت المرأة أخيرًا اللعبة ولكن أنى لها الرجوع وقد أدخلت في النفق المظلم ولا تعلم طريق الخروج، فالاختلاط مثلًا عاد عليها بالويل والثبور وعرض أجسادهن لنهش الذئاب وفتك السباع، والحرية المزعومة لم تكن إلا غطاءً لخروجها دون حسيب أو رقيب وكان سببًا لتقويض بيت الزوجية الهانئة، ومعولًا لمشاعر الأم الحنونة، وسيفًا مصلتًا على العفة والكرامة والحياء أما المساواة فليس لها من المصطلح إلا رنينُ العبارة وجمال التسمية، وكيف تتاح المساواة مع الرجل في بيئات تشتد المنافسة في العمل بين جنس الرجال وأنى لهن أن يتحملن منافسة الجنس الآخر، والعطالة على أشدها، والانهيار الاقتصادي شبحٌ مخيفٌ! ثانيًا: هذه الموجةُ الغازيةُ وهذا الفساد المستشري لم يقف عند حدود البلاد الكافرة ولو كان كذلك لهان الخطبُ وقيل هذه أمةٌ لا تهتدي بهدي الله ولا تظللها شريعة السماء، والمرأة هناك لا تستند على حقوق معتبرة كتلك التي ضمنتها الشريعة الإسلامية للمرأة المسلمة .. ولكن المصيبة أن يصل الخداع إلى المرأة المسلمة، فتنزع حجابها، وتختلط بالرجال، وتطالب بالحرية والمساواة وتحشر نفسها في النفق المظلم الذي دخلته المرأة الكافرة وهي الآن تصرخ باحثة عن المخرج، إنه عارٌ على المرأة المسلمة أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير وإذا كان للمرأة الكافرة ما يفسر مطالبتها دون تبرير، فأي تفسير لانتهاك القيم ونزع الحياء والجلباب من المرأة المسلمة .. إن المرأة المسلمة أهلٌ للقيادة والريادة فكيف ترضى أن تُقاد، وكيف يسهل عليها أن تكون في مؤخرة القافلة، بدل أن تتصدرها؟

ثالثًا: ينبغي أن يُعلم أن خط الانحراف في إفساد المرأة عمومًا والمرأة المسلمة خصوصًا لا يأتي جملة واحدة. ولا يُعلن المنفذون عن أهدافهم الحقيقية ببساطة، فالتدرجُ أسلوبٌ متبع والتذرعُ بالنصح للمرأة والمدافعة عن حقوقها بات وسيلة مكشوفة للمرأة قبل الرجل، فالحجاب مثلًا لا ينزع في البداية جملة، وإنما يكتفى بكشف الوجه ثم يتدرج إلى كشف شيء من الشعر ثم الذراعين، ثم الصدر وهكذا حتى يصل المخطط نهايته، والاختلاط لا ينبغي أن يصدم به المجتمع في الجامعات أو حتى في الثانويات والمتوسطات، على حد تعبير هؤلاء وإنما يطرح الاختلاط في الصفوف الأولى الابتدائية لتستمرأه النفوس وتخف النفرة من كلمة الاختلاط، فينتقل بعد حين إلى مرحلة أخرى وهكذا حتى يبلغ المخطط نهايته. ومنافسة المرأة للرجل في الوظيفة ومشاركته في العمل تبدأ بافتتاح مجالات واسعةٍ لتعليم الفتاة في غير مجالها الذي يناسبها، ثم بعد ذلك حثها وحث وليها على المطالبة بتوظيفها، فتوفر وظائف كثيرة للنساء، حتى إذا امتلأت الأماكن الخاصة بالنساء، وبقيت طوابيرًا أخرى من النساء كانت الخطوة الجريئة بعد ذلك، بتوظيف المرأة بوظائف خاصة بالرجال والرجلُ أحوج ما يكون إليها، وربما كانت مع الرجل في مكتب واحد أو بينهما حجابٌ خفيف في البداية سرعان ما يخترق وتزال الحجب .. فتنبهوا معاشر المسلمين والمسلمات للخطر واستفيدوا من حصاد تجربة الآخرين والسعيد من وعظ بغيره. رابعًا: أيتها المرأة المسلمة حذار أن يخدعك المنافقون، أو يؤثر فيك أصوات المأفونين، ولن تجدي أصدق من كتاب الله خطابًا إليك، ولا أرحم من شريعة الله بك، وليسعك ما وسع الأمهات الطيبات الطاهرات، ونساءُ المؤمنين الخيرات {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن

جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (¬1). ولقد قيل لمن هو خير منك وأزكى {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} (¬2). أما الناعقون بحريتك والمنادون بمساواتك، والحريصون على اختلاطك، ما أجد من أصدق العبارات التي قيلت بشأنهم «المرأة وذئاب تخنق ولا تأكل» وهو عنوان كتاب صدر لأبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري- عفا الله عنا وعنه- يقول في تحليل العنوان: الخنق رمزُ جوع جنس باعثه التداوي من الإثم بالإثم، وإيحاش القلب بالسلوك الرديء، وجبن وتقاعس عن الالتزام ومسؤليات الزواج» (¬3). إنني أحمل المرأة مسؤولية الدفاع عن نفسها، والاعتراف بدينها، واكتشاف النصحة من المتاجرين بقضيتها .. وأدعوها لمزيد من العلم بشريعة ربها، والوعي بإسلامها .. والتنبه لمخططات الأعداء لها .. ومن يتق الله يجعل له مخرجًا. خامسًا: وفي سبيل وقاية نسائنا عما وصلت إليه المرأة الغربية من تعاسة وانتكاسة، أذكر بمسؤولية الجميع في الحفاظ على حياء وعفة المرأة المسلمة، ¬

(¬1) سورة الأحزاب، آية: 59. (¬2) سورة الأحزاب: الآيتان: 32، 33. (¬3) ص 9 ط 1411 هـ.

وعدم اختلاطها، أو الاستجابة لنزع جلبابها تحت أي شعار، وبأي أسلوب خادع طرح، لابد من التنبه لمخاطر الطروحات المغلفة بغلاف المصلحة المزعومة، والحاجة القائمة .. ونحوها. ومصيبة أن يُفاجأ الخيرون والخيرات بالستار يزاح عن مصيدة للمرأة حبكت فصولها في الخفاء، تلك مسؤولية العلماء والدعاة، ورجال الفكر، وأولي الأمر كافة.

عبودية السراء (الشكر)

عبودية السراء (الشكر) (¬1) الخطبة الأولى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (¬2). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نعمه لا تقدر ولا تحصى، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، يرضى لعباده الشكر ويكره منهم الكفر، وهو الغني الحميد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله كان عبدًا شكورًا، وقام حتى تفطرت قدماه وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اتقوا الله عباد الله وبذلك أوصاكم كما أوصى الذين من قبلكم {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}. إخوة الإسلام حديث اليوم عن عبادة قلبية وهي من مقامات القلوب وإن شملت الجوارح .. وهي يسيرة على من يسرها الله عليه، ولكنها في الخلق قليل، تمثلها الأنبياء عليهم السلام وانتفع بها السالكون لنهجهم، وأهلك الله بإنكارها ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 16/ 6 / 1418 هـ. (¬2) سورة فاطر، الآيات: 1 - 3.

أممًا، وقصم جبارين ما رعوها حق رعايتها، إنها عبودية السراء، قرنها الله بذكره فقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (¬1). أيها المسلمون ما أعظم الخطب حين يقول الله عن الشكر: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (¬2) وحين يقول: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} (¬3). ويتعاظم الأمر حين تستمع آثار الشكر وعاقبة كفر النعم {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (¬4). ترى من هم الفئة القليلة الشاكرة، وما معني الشكر وحقيقته، وما هي آثار الشكر، وعواقب الجحود، وهل من صور ونماذج للشكر والشاكرين، - وأخرى للجاحدين والمتكبرين .. وأمور أخرى سآتي على ذكرها في باب الشكر .. تذكيرًا بأنعم الله علينا، ودعوة للشكر لما أولانا، واستنقاذًا لأنفسنا من هلكة الجحود والبطر وإن لم نقلها بألسنتنا لكن واقع حالنا يشهد بها علينا. إخوة الإيمان ولعظيم قدر الشكر قرنه الله بالإيمان وجعله سببًا مانعًا من عذابه فقال: {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ} (¬5). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «الشكر نصف الإيمان» (¬6). وقال الشعبي: الشكر نصفُ الإيمان، واليقين الإيمان كله» (¬7). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 152. (¬2) سورة سبأ، آية: 13. (¬3) سورة السجدة، آية: 9. (¬4) سورة إبراهيم، آية: 7. (¬5) سورة النساء، آية: 147. (¬6) الإحياء للغزالي 32203. (¬7) ابن القيم: عدة الصابرين 195.

وأخبر سبحانه أن الشكر هو الغاية من خلقه وأمره، بل هو الغاية التي خلق عبيده لأجلها {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1). وإذا كان الشكرُ غاية الخلق، فهو غاية إرسال رسوله {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (¬2). كيف لا وقد أثنى اللهُ على أول رسول بعثه إلى أهل الأرض بالشكر فقال عن نوح عليه السلام {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}. قال ابن القيم: وفي تخصيص نوح هاهنا بالذكر، وخطاب العباد بأنهم ذريته إشارة إلى الاقتداء به، فإنه أبوهم الثاني، فإن الله لم يجعل للخلق بعد الغرق نسلًا إلا من ذريته كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} (¬3)، فأمر الذرية أن يتشبهوا بأبيهم في الشكر فإنه كان عبدًا شكورًا (¬4). عباد الله كم من آية في كتاب الله عن الشكر نمرُّ عليها ونحن غافلون، فهل عقلنا إنما يعبد الله من شكره {وَاشْكُرُوا لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (¬5). وهل علمنا أن أول وصية وصى الله بها الإنسان بعد ما عقل عنه بالشكر له وللوالدين {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (¬6). ¬

(¬1) سورة النحل، آية: 78. (¬2) سورة البقرة، الآيتان: 151، 152. عدة الصابرين 190. (¬3) سورة الصافات، آية: 77. (¬4) عدة الصابرين 189. (¬5) سورة البقرة، آية: 172. (¬6) سورة لقمان، آية: 14.

ولعلو رتبة الشكر طعن اللعين في الخلق فقال: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (¬1). وقطع الله بالمزيد مع الشكر ولم يستثن {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (¬2). والشكر خلق من أخلاق الربوبية {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} (¬3)، وقد جعل الله الشكر مفتاح كلام أهل الجنة {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} (¬4)، وقال {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬5). أيها المسلم والمسلمة وتأمل معنى الشكر في اللغة، وهو: الظهور، من قولهم: دابة شكور إذا ظهر عليها من السِّمن فوق ما تُعطى من العلف. ومن معانيه عند العلماء؛ الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية، وقيل: هو الاعتراف في تقصير الشكر للمنعم، وقيل: الشكر لمن فوقك بالطاعة ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان والإفضال (¬6). ولابد للشكر من أركان ثلاثة، ولا يكون العبدُ شكورًا إلا بمجموعها: أحدها اعترافه بنعمة الله عليه، والثاني الثناء على الله بها، والثالث: الاستعانة بها على مرضاته (¬7). والشكر يتعلق بثلاثة أشياء، بالقلب للمعرفة والمحبة وباللسان للثناء ¬

(¬1) سورة الأعراف، آية: 17. (¬2) سورة إبراهيم، آية: 7. (¬3) سورة التغابن، آية: 17. (¬4) سورة الزمر، آية: 74. (¬5) سورة يونس، آية: 10. (الغزالي، إحياء علوم الدين 2202). (¬6) تفسير القرطبي 1/ 398. (¬7) ابن القيم: عدة الصابرين 234.

والحمد، وبالجوارح لاستعماله في طاعة المشكور وكفِّها عن معاصيه، على حدِّ قول الشاعر: أفادتكم النعماءُ منِّي ثلاثةً ... يدي ولساني والضمير المحجبا وهذا يُصحح الفهم عند بعض الناس حين يظنون أن الشكر مجردُ حديث اللسان، فهذا مع أهميته فلابد من صدق القلب ومحبته لمن يشكره وخوفه من عقابه والجوارح تصدق هذا أو تكذبه. يُروى أن وفدًا قدم على عمر بن عبد العزيز يرحمه الله، فقام شابٌ ليتكلم، فقال عمر: الكبر الكبر، فقال: يا أمير المؤمنين، لو كان الأمر بالسِّن لكان في المسلمين من هو أسنُّ منك، فقال تكلم، فقال: لسنا وفدُ الرغبة، ولا وفدُ الرهبة، أما الرغبة فقد أوصلها إلينا فضلك، وأما الرهبة فقد آمننا منها عدلك، وإنما نحن وفد الشكر، جئنا نشكرك باللسان وننصرف، قال الغزالي: فهذه هي أصول معاني الشكر المحيطة بمجموع حقيقته (¬1). نعم إخوة الإيمان إن مجرد الثناء باللسان شكرٌ، وهو وإن كان وحده لا يكفي، والفرق كبيرٌ بينه وبين التشكي والتضجر وإظهار الحزن دائمًا، فهذا ازدراء لنعم الله ولذا كان من هدي السلف أنهم كانوا يتساءلون كلما التقوا- ولو كان العهدُ قريبًا- وذلك لإظهار نعمة الشكر، قال ابن عمر رضي الله عنهما: «لعلنا نلتقي في اليوم مرارًا يسأل بعضُنا عن بعض، ولم يرد بذلك إلا ليحمد الله عز وجل» (¬2). وهذه لطيفة حمالٍ فاعقلوها، رأى بكرُ بن عبد الله المزني حمالًا عليه حَمْله وهو يقول: الحمد لله، أستغفر الله، قال: فانتظرته حتى وضع ما على ظهره ¬

(¬1) الإحياء 2208، 2209. (¬2) عدة الصابرين 206.

وقلت له: أما تحسن غير هذا؟ قال (الحمال) بلى، أحسن خيرًا كثيرًا أقرأ كتاب الله، غير أن العبد بين نعمةٍ وذنب فأحمد الله على نعمه السابغة وأستغفره لذنوبي، فقلت: الحّمال أفقه من بكر (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)} (¬2)، نفعني الله وإياكم. ¬

(¬1) عدة الصابرين 196. (¬2) سورة النحل، الآيات: 120 - 122.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين يستحق الحمد والثناء، اللهم لك الحمدُ بما خلقتنا ورزقتنا، وهديتنا وعلمتنا، وأنقذتنا وفرَّجت عنا، لك الحمد بالإسلام والقرآن، ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، اللهم لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث أو سرٍّ أو علانية أو خاصةٍ أو عامة، لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت. وأشهد أن لا إله إلا الله في ربوبيته وإلاهيته وأسمائه وصفاته وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين. أيها المؤمنون والشاكرون أطيب الناس قلبًا، وأهنأهم عيشًا، وأوصلهم لما أمر الله به أن يوصل الشاكرون يقنعون باليسير، ويستجلبون بالشكر المزيد، يعلم الشاكرون أنهم وإن حرموا شيئًا فقد أعطوا أشياء، وإن اشتكوا مرضًا في جانب من جسدهم فقد أصحَّ لهم جوانب كثيرة أخرى. والشاكرون لا يشكون المصائب وينسون النعم، بل ينسون مصائبهم في مقابل ما وهبهم الله من نعم، ولسان حالهم يقول: يا أيها الظالمُ في فعله ... والظلم مردود على من ظلم إلى متى أنت وحتى متى ... تشكو المصيبات وتنسى النعم (¬1) ويدرك الشاكرون أن الشكر سبيلٌ لرضى من يستحق الرضى والشكر، ثبت في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده، ويشرب الشربة فيحمده عليها» (¬2). ¬

(¬1) عدة الصابرين، 195. (¬2) (4/ 89).

وهو طريق للمزيد من النعم، كذا جاء الخبر مؤكدًا في كتاب الله {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} قال الحسن البصري: إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء فإذا لم يُشكر عليها قلبها عذابًا». ولهذا كانوا يُسمون الشكر بـ (الحافظ) لأنه يحفظ النعم الموجودة، و (الجالب) لأنه يجلب النعمَ المفقودة. يا أخا الإيمان، الشكر وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لمن أحب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «والله إني أحبك فلا تنسَ أن تقول دبرَ كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتكِ» (¬1). والشكر سببٌ للثبات على الإيمان وعدم الانقلاب على الأعقاب حين تُزلزل الأقدام، وتأمل موقف الشاكرين حين ارتد من ارتد من العرب يوم توفي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (¬2). إخوة الإسلام إن منزلة الشكر عظيمة، ويكفي أن صاحبها يبلغ الصائم الصابر، قال عليه الصلاة والسلام: «الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر» (¬3). ونقيض الشكر من الجحود وتناسي فضل المنعم يورد صاحبه موارد الهلكة، ولهذا السبب كانت النساء أكثر أهل النار، كما قال عليه الصلاة والسلام: «لو ¬

(¬1) رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم. (¬2) سورة آل عمران، آية: 144. (¬3) أخرجه الترمذي وأبق ماجه بسند صحيح (صحيح سنن الترمذي 2/ 304).

أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيت منك خيرًا قط» (¬1). فإذا كان هذا بترك شكر نعمة الزوج، وهي في الحقيقة من الله، فكيف بمن ترك شكر نعمة الله؟ يا ابن آدم كم لله عليك من نعمة تُدرك شيئًا وتغيب عنك أشياء، فبأي شيء تُراك قابلت هذه النعم؟ تنسَّك رجلٌ فقال: لا آكل الخبيص، لا أقوم بشكره فقال الحسن: هذا أحمق، وهل يقوم بشكر الماء البارد؟ (¬2). وجاء رجلٌ إلى يونس بن عبيد يشكو ضيق حاله فقال له يونس: «أيسرك ببصرك هذه مائة ألف درهم؟ قال الرجل: لا، قال: فبيديك مائة ألف؟ قال: لا، قال فبرجليك مائة ألف؟ قال: لا .. قال: فذكَّره نعم الله عليه ثم قال له يونس؟ أرى عندك مئين الألوف، وأنت تشكو الحاجة؟ ! (¬3). وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قلَّ علمُه وحضر عذابه». عباد الله وما بالنا ونعم الله تترى علينا نضيق بنازلةٍ يسيره، ونغتاظ لمرض يسير ألمَّ بنا، ونكره لفوات محبوب من ملاذ الدنيا فات علينا - ولئن حُرمنا القليل فقد أُعطينا الكثير، ولئن ألم بنا مرضٌ يسير فقد متعنا الله بالصحة عمرًا طويلًا. ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) عدة الصابرين 197، 198. (¬3) عدة الصابرين 207.

أين الشكر على نحو قوله عليه الصلاة والسلام: «من أصبح آمنًا في سربه معافًا في بدنه، عنده قوت يومه وليلته فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها». أين الشكرُ على نعمةِ الجوارح وسلامتها؟ وأين الشكر على نعمة الأمن والرخاء، وأين الشكر على نعمة العقل والإرادة وأين الشكر على نعمةِ الأموال والأزواج والبنين .. وقبل ذلك وأين الشكر على نعمة الإسلام والإيمان .. إنها وغيرها نعمٌ تستحق الشكر باللسان والقلب والجوارح.

وقفات من معركة القادسية

وقفات من معركة القادسية (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله رب العالمين كتب العزة والغلبة له ولرسوله وللمؤمنين، وجعل الذلَّ والصغار على الكافرين والمنافقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُديل على المؤمنين فترة ثم ينصرهم، ويمكن للظالمين حينًا ثم يأخذهم وربك يحكم ما يشاء ويختار. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله استخرج الله به الأمة من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وعلى آله المؤمنين وصحابته الغرِّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3). أما بعد إخوة الإيمان فيطيب لي أن أنتقل وإياكم نقلتين بعيدتي الزمان والمكان، إحداهما أبعد من الأخرى- أما الزمان فإلى ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة- وبالتحديد ما بين أربعة عشر وستة عشر للهجرة، أما المكان فيتردد ما بين طابة الطيبة، وتخوم العراق حيث وقعت معركة القادسية. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 27/ 6/ 1416 هـ. (¬2) سورة آل عمران، آية: 102. (¬3) سورة المائدة، آية: 35.

لقد بلغ الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه هزيمةُ المسلمين في وقعة الجِسْرِ التي قُتل فيها خلق من المسلمين وفي مقدمتهم قائدهم أبو عبيد رحمهم الله جميعًا ورضي عنهم، كما بلغ الخليفة- أيضًا- انتظام شمل الفرس تحت قيادة يزدجرد، ونقض أهل الذمة بالعراق عهودهم، وإيذاء المؤمنين وإخراج العمال من بين أظهرهم .. وبلغت الغضبة العمرية لله مداها، وقرر الخروج بنفسه غازيًا للفرس في العراق، ولو كان يدير أمور الأمة كلها ومع أنه ركب ونزل على ماءٍ يُقال له صرار، واستصحب معه عثمان وسادات الصحابة، واستخلف عليًا على المدينة .. إلا أن بعض المسلمين أشار عليه أن يبعث غيره وأن يعود هو إلى المدينة، وفي هذا يقول عبد الرحمن بن عوف: إني أخشى إن كُسرت أن يضعف المسلمون في سائر أقطار الأرض .. فيرعوي عمر للمصلحة الكبرى ويقتنع المسلمون بمشورة ابن عوف رضي الله عنهم أجمعين، ويُنتدب لهذه المهمة العظيمة الأسد في براثنه - كما قال المشير ابن عوف: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مع سابقة سعدٍ وشريف نسبه، وصدق جهاده وبلائه، فقد أوصاه عمرُ وذكره الله قائلًا: يا سعد لا يغرنك من الله أن قيل خالُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، وإن الله ليس بينه وبين أحدٍ نسبٌ إلا بطاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، والله ربُّهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بُعث إلى أن فارقنا عليه فالزمه، فإنه الأمر» (¬1). ألا ما أعظمه من تجرد .. وأصدقها من نصيحة، وأصعبها من مهمة يستجيب سعدٌ للمهمة وهو يرى أنه سهم من سهام الإسلام مستعدٌ لأن يُرمى به في أي نحرِ من نحور الأعداء، ويقود المعركة العظيمة وإن بقي متكئًا على صدره فوق وسادة ¬

(¬1) البداية والنهاية 7/ 39.

لا يستطيع الركوب ولا الجلوس، فقد أصيب بمرض عرق النساء، وأصاب جسده دمامل في فخذيه وإليته. عباد الله إذا صدق القادة والأمراء انسحب ذلك على الجند وإن كانوا من أولي الأعذار والضعفاء، أوليس الأعمى من أولي الضرر الذين استثناهم الله في قوله: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1). مع ذلك أثبتت القادسية بطولاتٍ لرجالٍ كانوا من أولي الضرر قلَّ أن يجود الزمانُ بمثلها. قال أنس بن مالك رضي الله عنه رأيت يوم القادسية عبد الله بن أمِّ مكتوم رضي الله عنه وعليه درعٌ يجزُّ أطرافها، وبيده راية سوداءُ، فقيل له: أليس قد أنزل الله عُذرك؟ قال: بلى، ولكني أُكَثِّر سواد المسلمين بنفسي» (¬2). وهو الذي كان يقول: ادفعوا إلي اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفر، وأقيموني بين الصفين» (¬3). يُقال إنه استشهد يوم القادسية (¬4) رضي الله عنه وأرضاه. أمة الإسلام إذا قام أهل الأعذار بما أعفاهم اللهُ من القيام به، أفيليق بالأسوياء الأقوياء أن يفرطوا بما أوجب الله عليهم من تكاليف هذا الدين؟ ألا إنها الهممُ العالية لا ترضى بأصحابها دون أعالي الجنان وسيطرة الهوى والشهوة يوردان المرءَ موارد الردى. أيها المسلمون وثمة مواقف وعبرُ تلفت نظر المتأمل في هذه الوقعةِ العظيمة، ¬

(¬1) سورة النساء، آية: 95. (¬2) تفسير القرطبي 4/ 266. (¬3) سير أعلام النبلاء 1/ 364. (¬4) السوابق 1/ 365.

وما أولانا بالاستفادة منها فهل من مُدَّكر؟ وتحمل لنا الروايات التاريخية أنه كان عند سعدٍ في قصره رجلٌ مسجونٌ على الشراب، كان قد حُدَّ فيه مراتٍ متعددة .. فأمر به سعد فقيد وأودع في القصر، فلما رأى الخيول تجول حول حِمى القصر، وكان من الشجعان الأبطال قال: كفى حزنًا أن تدحم الخيل بالفتى ... وأترك مشدودًا عليَّ وثاقيا إذا قمتُ عناني الحديد وغُلِّقت ... مصاريع من دوني تُصِم المناديا وقد كنت ذا مالٍ كثيرٍ وإخوةٍ ... وقد تركوني مفردًا لا أخاليا ثم سأل من «زَبراء» أمِّ ولدِ سعدٍ أن تطلقه، وتعيره فرس سعد، وحلف لها أن يرجع آخر النهار، فيضع رجله في القيد، فأطلقته، وركب فرسَ سعدٍ وخرج فقاتل قتالًا شديدًا، وجعل سعدٌ ينظر إلى فرسه فيعرفها وينكرها ويُشبه الفارس بأبي محجن، ولكن يشكُّ لظنه أنه في القصر موثق، فلما كان آخر النهار رجع (الفارسُ الموثق) من رحلة الجهاد فوضع رجله في قيدها- وفاءً بالعهد ونزل سعدٌ فوجد فرسه يعرق، فقال: ما هذا؟ فذكروا له قصة أبي محجن، فرضي عنه وأطلقه رضي الله عنهما» (¬1). أيها المؤمنون .. وليست الخطيئة ضربة لازبٍ لا يستطيع المخطئ الفكاك عنها، وليس المخطئون عناصر فاسدة في المجتمع لا يمكن الاستفادة من طاقاتهم، ولا يُقال عثراتهم كلا، وليس يُكتب على المرء- في ظل شريعة الإسلام- الشقاوة أبد الدهر إن هو قصَّر يومًا أو استزله الشيطان وحثه فعمل محظورًا، فالخطيئة تُداوى بالتوبة، والسيئة تمحوها الحسنة بعدها، ومن مراغمة الشيطان عدم الاستسلام لنزغاته حين مقارنة الذنب، أو توهينه وتيئيسه بعد ¬

(¬1) البداية والنهاية 7/ 49، 50.

الوقوع في الذنب، فالله كريم يبسط يده بالنهار ليتوب مسيءُ الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ومن تمام عقل الإنسان وتوفيق الله له أن يزداد في الحسنات كلما أحسَّ من نفسه ضعفًا وارتكابًا للخطيئات، والله تعالى يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (¬1)، بل ربما تحولت السيئة إلى حسنة بفضل الندم على فعلها وكثرة الاستغفار منها، ومحاولة التعويض عنها، وعكس ذلك الحسنة التي يعجب بها صاحبها ويمن بها على الله وربما كانت سببًا لغروره وقعوده عن عمل الصالحات، ودونكم هذه المقولة لأحد السلف يقول سعيد بن جبير يرحمه الله: «إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة، وذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصب عينيه ويُعجب بها، ويعمل السيئة فتكون نصب عينيه فيستغفر الله ويتوب إليه منها .. » اهـ (¬2). ألا فلا تقعدَّن بكم الخطايا- معاشر المسلمين- عن عملِ الصالحات ولا يصدنكم الشيطان معاشر المخطئين عن المساهمة مع المسلمين في الدفاع عن حياض الدين ومجاهدة المشركين والمنافقين، فكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، وربما ارتفع سهمُ الغيرة لدين الله ومحارمه عند شخص يرى أنه مسرف على نفسه بالمعاصي، فكانت تلك الغيرةُ سببًا لانعتاقه من أسر الخطيئة أولًا، وطريقًا إلى سلوكه صراط الله المستقيم وثباته على شرعه القويم، ومجاهدتهم في سبيل الله بما يستطيع ثانيًا، وفضل الله يؤتيه من يشاء، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (¬3). ¬

(¬1) سورة هود، آية: 114. (¬2) الفتاوي 10/ 45. (¬3) سورة العنكبوت، آية: 69.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين وسيد ولد آدم أجمعين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين. أيها المسلمون، ومن وقفات معركة القادسية حديثٌ عن الأتقياء الأخفياء أولئك الذي وضعوا نصب أعينهم الآخرة ونعيمها فعملوا ما في وسعهم لها، واستشعروا محبة الله فعملوا بطاعته والبحث عن رضاه، لم تقعد بهم جراحات المعركة عن حزبهم من قيام الليل وتلاوة كتاب الله، ولم ينقص من جهادهم أن الخليفة لا يعرفهم بأعيانهم أولئك أقوامٌ يستشعرون رقابة الله فتكفيهم عن رقابة سواه، ويدركون دورهم في الحياة ومسؤوليتهم الفردية أمام الله فيدفعهم ذلك إلى أن يكونوا آسادًا بالنهار، رهبانًا بالليل .. يصفهم سعد رضي الله عنه في رسالته التي بعث بها إلى الخليفة عمر يخبره بالفتح ثم يقول: وأصيب من المسلمين سعدُ بن عبيد القارئ، وفلانٌ، وفلانٌ ورجالٌ من المسلمين لا يعلمهم إلا الله فإنه بهم عالم، كانوا يدوُّون بالقرآن إذا جنَّ عليهم الليل كدوي النحل، وهم آسادٌ في النهار لا تُشبههم الأسود، ولم يَفضُل من مضى منهم من بقي إلا بفضل الشهادة إذ لم يُكتب لهم» (¬1). أيها المسلمون بهذه النوعية من الجند انتصر المسلمون وبهذه العناصر الجادة في الجهاد والعبادة فُتحت البلادُ والقلوب ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وامتد رواقُ الإسلام شرقًا وغربًا، تلك من إيحاءات وقعة القادسية التي لم يكن ¬

(¬1) البداية والنهاية 7/ 51.

عددُ جيش المسلمين فيها مقاربًا لجيش الفرس، فقد نُقل أن جيش المسلمين كانوا ما بين السبعة آلاف إلى الثمانية آلاف، وأن جيش الفرس كانوا أربعين أو ستين ألفًا، وقيل كانوا ثمانين ألفًا، وقيل كانوا في مائة ألف وعشرين ألفًا» (¬1). وأيًا ما كان العدد والفرق كبير بين الجيشين عددًا وعدة، ومع ذلك كتب الله النصر للمسلمين، وكانت بداية الأفول لإمبراطورية الفرس الكبرى. وذلك يدعونا إلى الحديث عن الغثائية في مجتمع المسلمين في الأزمنة المتأخرة زمان التردي والضعف والانحسار حين يكثر عددهم ويقلُّ صدقهم، وتتفرق كلمتهم وتذهب ريحهم، فيسومهم العدو سوء العذاب، ويستولي على بلادهم، ويهيمنُ على مقدراتهم أين نحن من أهل القادسية، أين رجالاتنا من رجالاتهم، وأين نساؤنا وصبياننا من نسائهم وصبيانهم، وتلك هي الوقفة الأخيرة التي تتعلق بالمرأة وحشمتها وعفافها، مع مساهمتها في الجهاد ونكاية الأعداء، ودونكم هذه الرواية فتأملوها وحريٌّ بنسائنا وبناتنا وأخواتنا أن يفقهنها ويسرن علي منوالها. عن أمِّ كثير امرأة همام بن الحارث النخعي قالت: «شهدنا القادسية مع سعدٍ مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فُرغ من الناس شددنا علينا ثيابنا، وأخذنا الهراوي ثم أتينا القتلى، فمن كان من المسلمين سقيناه ورفعناه، ومن كان من المشركين أجهزنا عليه، ومعنا الصبيانُ فنوليهم ذلك -تعنى استلابهم- لئلا يكشفن عن عورات الرجال» (¬2). وهكذا تُشكل المرأة المسلمة لبنة مهمة في كيان المجتمع المسلم، ويشارك ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 1/ 365، البداية والنهاية 7/ 42، 48. (¬2) البداية والنهاية 7/ 51.

الرجال همتهم في الجهاد ونكاية الأعداء، دون أن تتجاوز أنوثتها أو تتنازل عن شيءٍ من حشمتها وعفافها، فهي لم تشترك إلا حين فرغ الناسُ من القتال وانحازت الصفوف وبقي من يحتاج إلى المساعدة من المسلمين فيُسقى، ومن به رمقٌ من المشركين ولا يستطيع الحراك فينهى. وقبل الإقدام على هذه الخطوة تُشدُّ الثياب فلا يبين منها عورة، ولا يطمعُ الذي في قلبه مرضٌ بنظرة أو شهوة وتترفع الحرائرُ العفيفات عن كشف عورات الرجال، وتترك للصبيان مهمة الاستلاب وأخذ ما مع الأعداء من عدة أو سلاح. ألا ما أروع الصورة، وأنظف المسؤولية، ودقة الأداء مع كمال الحشمة والحياء .. أين هذا من نساء يلهثن وراء الدعوة للاختلاط، ورجالٍ يرون الحشمة والحجاب مظهرًا من مظاهر التخلف وعهود الظلام؟ الفرق كبيرُ بين نساءٍ يساهمن في نشر الإسلام والتمكين لحضارة المسلمين والقضاء على الظلم والجهل والاستعباد وبين نساءٍ أو رجالٍ يتمنطقون بالعلمنة والتغريب ويريدون لأمتهم أن تكون ذيلًا في ركب الأمم التائهة في بيداء الظلام ويريدون لنسائهم أن يكن رقمًا ملحقًا بالغانيات الراقصات المائلات المميلات، وعلى الأقل يَكنَّ من النساء المترجلات فلا حشمة ولا حياء ولا عُزلة عن الرجال الأجانب يدفع الفتن والشرور ولا قرار في البيوت يتيح للمرأة إيجاد المحاضن المسلمة، إنه السُعار المحموم والتقليد الأبله وإفساد المرأة باسم المطالبة بحقوقها، وإذابة القيم باسم التقدم والحرية وليس يخفى فحيح الأفاعي على أولي الأحلام والنهى، ومن فضل الله علينا أن نساءَ هذه البلاد تربت وستظل بإذن الله على الحشمة والحياء رافضة موجات التقليد، ودعوات الاختلاط والسفور والناسُ

بعمومهم يدركون الفرق بين المفسدين والمصلحين، وإن قال المفسدون إنما نحن مصلحون. إخوة الإيمان أختم الحديث عن هذه الوقفات باهتمام الخليفة عمر بأمور الإسلام والمسلمين في نهاية المعركة كما كان مهتمًا في بدايتها .. رحمك الله يا عمر وأنت تخرج من المدينة إلى ناحية العراق تستنشق الخبر، وفي ذات يوم أبصر راكبًا يلوح من بعد، فاستقبله عمرُ واستخبره فأخبره أن الله فتح على المسلمين بالقادسية وغنموا غنائم كثيرة، وجعل الرجلُ يُحدث عمر وهو لا يعرفه، وعمر ماشٍ تحت راحلته، فلما اقتربا من المدينة جعل الناسُ يُحيون عمرَ بالإمارة فعرف الرجلُ عمر فقال: يرحمك الله يا أمير المؤمنين، هلا علمتني أنك الخليفة؟ فقالت عمر: لا عليك يا أخي» (¬1). هكذا إخوة الإيمان تبدو صورة المجتمع المسلم في القادسية نموذجًا للصدق والإخلاص والجهاد والتفاني والتواضع والحشمة والحياء، بأمرائه ومأموريه، بقادته وجنده، برجاله ونسائه وصبيانه .. وإذا أراد المسلمون العزة اليوم فلابد أن يتخذوا من تاريخ المجاهدين الصادقين نموذجًا يحتذى به وسُلمًا للوصول .. اللهم أصلح أحوال المسلمين واجمع كلمتهم على الحق والدين .. ¬

(¬1) البداية والنهاية 7/ 49.

(1) بين التطير والتفاؤل

(1) بين التطير والتفاؤل (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله ورضي عن صحابته وأتباعهم إلى يوم الدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬3). أما بعد فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه في السِّر والعلن، وبتقوى الله تصلح الأمور، وتتلاشى الشرور، ويصلح للناس شؤون دينهم ودنياهم. ألا وإن صلاح المعتقد سببٌ للصلاح والطمأنينة في الدنيا والفوز بالنعيم والسعادة في الآخرة. وحين يكون الخللُ في العقيدة يبتدع الناس عوائد ما أنزل الله بها من سلطان، ويتلبسون بسلوكيات تنغص عليهم حياتهم وتجعلهم نهبًا لإيحاءات شياطين الجن والإنس. لقد جاءنا الله بهذا الدين لتمتلئ قلوبنا بتعظيم الله، والتوكل عليه ولتقرَّ أعيننا ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 29/ 5/ 1417 هـ. (¬2) سورة آل عمران، آية: 102. (¬3) سورة النساء، آية: 1.

بتطبيق شرائع الإسلام وأخلاقه العالية، في وقت كانت ولا زالت الجاهليات تُضربُ أطنابها وتضلل أتباعها، ويظل الفرد في ظل هذه الجاهليات نهبًا للأهواء، قلقًا حائرًا تطارده الهموم، ويسيطر عليه التشاؤم، وربما بلغ به القلقُ مبلغه، والتشاؤم نهايته فأنهى حياته بنفسه، ظن ليستريح والحق أنها بداية للشهوة الأبدية. لقد كان العرب قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم في ظلام وشقوة ليست الطيرة إلا واحدة من سلوكياتها الخاطئة. والطيرة هي التشاؤم واشتقاقها من الطير، إذا كانوا يتطيرون من الغراب والأخيل ونحوهما، وكان الواحدُ منهم إذا خرج لأمر ورأى الطير طار يمنة تيمن به واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع، وكانوا يُسمون الطائر ذات اليمين بالسانح ويستبشرون به ويستدلون به على نجاح سفرهم وقضاء حوائجهم، كما يسمون الذي يأخذ بالشمال (البارح) فيتشاءمون به، وقد يرجعون عن السفر بسببه، أو يتوقفون عن عمل بدؤوه (¬1). وإذا كانت الجاهليات قديمًا وحديثًا تلتقي في كثير من صور الانحراف فإن التطير وُجد عند الأمم السابقة كما قص الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من أخبارهم في القرآن، منكرًا لها ومُشنِّعًا على معتقداتها وإذا كان التطير كلُّه مرفوضًا .. فإنه يتعاظم حين يكون الأمر خيرًا واقعًا .. أو يكون المُتطير منه نبيًا مرسلًا. أجل لقد تطير فرعون وقومه المجرمون بموسى ومن معه من المؤمنين {فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا ¬

(¬1) عالم السحر والشعوذة، الأشقر 298.

طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (¬1). كما تطير أهل القرية برسلهم الناصحين وهددوهم بالرجم والعذاب الأليم {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2). وتطيرت ثمود بنبيها صالح عليه السلام وقد طلب إليهم ألا تستعجلوا للسيئة قبل الحسنة، وأوصاهم بالاستغفار لعلهم يرحمون: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} (¬3). عباد الله لم لا يكون التطير حرامًا وهو يصور لصاحبه الخير شرًا والحق باطلًا، وربما دفع بصاحبه إلى فعل المكروه أو الإحجام عن فعل المحبوب، وهو أولًا وآخرًا لا ينجي من المقدور، وليس بمقدور صاحبه أن يكتشف الغيب المستور ولذا رفضه بعض عقلاء الجاهلية وقال شاعرهم: الزجر والطيب والكهانُ كلهم مُضللون ودون الغيب أقفال وقال الرقشي: ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واقٍ وحاتم فإذا الأشائم كالأيامن ... والأيامن كالأشائم وكذلك لا خير ولا ... شرَّ على أحدٍ بدائم لا يمنعنك من بغاء ... الخير تعقادُ التمائم (¬4) أما المسلم فيمنعه من التشاؤم عدة أمور رضاه بقضاء الله وقدره وثقتُه بأن ما يقدره الله له فيه خير فإن أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له. ¬

(¬1) سورة الأعراف، آية: 131. (¬2) سورة يس، آية: 18. (¬3) سورة النمل، آية: 47. (¬4) الطيرة والفأل في الكتاب والسنة، محمود الجاسم ص 13، 15.

واعتقاده الجازم بأن المستقبل غيبٌ لا يعلمه إلا علام الغيوب {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}، ومعرفته بأن الطيرة والتشاؤم نوعٌ من السحر، كما قال صلى الله عليه وسلم: «العيافة والطرق والطيرة من الجبت» (¬1). والجبت هو السحر عند جمع من أهل العلم، ووجه كون العيادة والطرق والطيرة سحرًا، لما فيها من دعوى علم الغيب، ومنازعة الله تعالى في ربوبيته .. إضافة إلى أن بعضهم يعتقد أن تلك الأشياء تنفعُ أو تضر بغير إذن الله تعالى (¬2). ومن أعظم ما يدعو المسلم للبعد عن التشاؤم والتطير خوفه من الشرك إذ هي بابٌ من أبوابه وطريقٌ موصلٌ إليه، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: «الطيرة شرك، الطيرة شرك» الحديث (¬3). وورد في حديث آخر: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك» قالوا فما كفارة ذلك قال: «أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا خيرك ولا إله غيرك» (¬4). يقول ابن القيم رحمه الله: فالطيرة بابٌ من الشرك وإلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته يكبر ويعظم شأنها على من أتبعها نفسه واشتغل بها وأكثر العناية بها، ¬

(¬1) رواه أحمد وأبو داود، وحسن النووي وابن تيميه إسناده (رياض الصالحين ح 1672، الفتاوى 35/ 192، وانظر: نواقض الإيمان؛ العبد اللطيف 522). رواه البخاري عن عمر رضي الله عنه معلقًا ووصله ابن جرير، وقال ابن حجر وإسناده قوي (الفتح 8/ 252، النص اقض 523). (¬2) نواقض الإيمان القولية والفعلية، العبد اللطيف 523. (¬3) رواه أبو داود والترمذي وصححه، ورواه غيرهم (تيسير العزيز الحميد 383). (¬4) تيسير العزيز الحميد 385، وصحح إسناده الألباني في صحيح الجامع الصغير 5/ 295.

وتذهب وتضمحل عمن لم يلتفت إليها ولا ألقى إليها باله ولا شغل بها نفسه وفكره .. أيها المسلمون يدعو المسلم كذلك للبعد عن التطير والتشاؤم قطعُ وساوس الشيطان، وبعده عما يُفسد عليه دينه، وينكد عليه عيشه وتأمل هذا الوصف الرائع من عالمٍ فقيه، لحال المتطير المتشائم يقول ابن القيم رحمه الله: «واعلم أن من كان معتنيًا بها- يعني الطيرة- قائلًا بها كانت إليه أسرع من السيل إلى منحدره، وتفتحت له أبوابُ الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه، ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يُفسد عليه دينه، وينكدُ عليه عيشه .. إلى أن يقول: وحال من تطير وتشاءم كحال من غلبته الوساوس في الطهارة فلا يلتفت إلى علمٍ ولا إلى ناصح، وهذه حالُ من تقطعت به أسباب التوكل وتقلص عنه لباسه، بل تعدى منه، ومن كان هكذا فالبلايا إليه أسرع، والمصائب به أعلق، والمحنُ له ألزم، ثم ينتهي إلى توصيفه بقوله والمتطيرُ مُتْعبُ القلب، منكرُ الصدر، كاسف البال، سيءُ الخلق يتخيل من كل ما يراه أو يسمعه، أشد الناس خوفًا، وأنكدهم عيشًا وأضيق الناس صدرًا وأحزنهم قلبًا، كثيرُ الاحتراز والمراعاة لما لا يضره ولا ينفعه، وكم قد حرم نفسه بذلك من حظٍ، ومنعها من رزقٍ، وقطع عليها من فائدة» (¬1). أيها المسلمُ ربما ندم المتطير مما تطير منه، واعتذر استحياءً ممن تطير به، ومن طريف ما يُروى عن بعض الولاة أنه خرج في بعض الأيام لبعض مهماته، فاستقبله رجل أعور، فتطير به وأمر به إلى الحبس، فلما رجع من مهمته ولم يلق شرًا أمر بإطلاقه، فقال له (المحبوس) سألتك بالله ما كان جرمي الذي حبستني ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة 2/ 230، 231.

لأجله؟ فقالت له الوالي: لم يكن لك عندنا جرمٌ، ولكن تطيرتُ بك لما رأيتك، فقال: ما أصبت في يومك برؤيتي؟ فقال الوالي: لم ألق إلا خيرًا، فقال الرجل، أيها الأمير: أنا خرجت من منزلي فرأيتك فلقيت في يومي الشرَّ والحبس، وأنت رأيتني فلقيت في يومك الخير والسرور فمن أشأمُنا، والطيرة بمن كانت؟ فاستحيا منه الوالي ووصله (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬2). نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب. ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة 2/ 231. (¬2) سورة الحديد، الآيتان: 22، 23.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين خلق فسوى وقدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه- اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء. أيها المؤمنون ربما تساءل البعض وبماذا يقع التطير وما أكثر ما يتطير منه قديمًا وحديثًا؟ ولئن كانت الطيرة تختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص، فمما يقع من التطير: 1 - الطيور كالغراب والأخيل، والبومة بشكل أخص، وهي التي جاء ذكرها في الحديث باسم (الهامة) قال عليه الصلاة والسلام: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر» (¬1). قال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم يقول نعت إليَّ نفسي أو أحدًا من أهل داري، ومعنى الحديث السابق لا شؤم بالبومة ونحوها (¬2). 2 - الشهور: وخاصة صفر .. إذ كان أهل الجاهلية يتشاءمون بصفر ويقولون إنه شهرٌ مشؤوم، وربما امتنعوا عن النكاح فيه، قاله ابن رجب: وكثيرٌ من الجهال يتشاءم بصفر، وربما ينتهي عن السفر فيه، والتشاؤم فيه هو من جنس الطيرة المنهي عنها (¬3). ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) (الفتح 10/ 241، الطيرة والفأل .. الجاسم ص 20). (¬3) تيسير العزيز الحميد ص 380، الطيرة والفأل في الكتاب والسنة ص 21.

3 - الأيام: فهناك من يتشاءم ببعض الأيام وينسب إليها النحس والشؤم، كمن يتشاءم بيوم الأربعاء، وذلك من تلاعب الشيطان بالجهال (¬1). 4 - وهناك من يتشاءم بالأعداد، كما تكره الرافضة لفظ العشرة، أو فعل شيء يكون فيه عشرة فلا يبنون بعشرة أعمد مثلًا، قال ابن تيمية وذلك لكونهم يبغضون خيار الصحابة وهم العشرة المشهود لهم بالجنة (¬2). وكثيرٌ من الناس في الغرب يتشاءمون برقم ثلاثة عشر، وربما حذفته بعض شركات الطيران في ترقيم المقاعد (¬3). 5 - التشاؤم في المركب والمسكن والمرأة .. وربما تعلق هؤلاء بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن كان الشؤم ففي الدار والمرأة والفرس» (¬4). وقد أجاب العلماءُ على هذا الحديث بأجوبةٍ عدة، ومن أجملها ما قاله ابن القيم: أن إخباره صلى الله عليه وسلم بالشؤم في هذه الثلاث ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها الله، وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق أعيانًا منها مشؤومة على من قاربها وساكنها، وأعيانًا مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤون ولا شر، والله خلق الخير والشر والسعود والنحوس، فيخلق بعض هذه الأعيان سعودًا مباركة يسعد بها من قاربها، ويخلق بوضعها نحوسًا ينحس بها من قاربها، وكل ذلك بقضاء الله وقدره .. والفرق بين النوعين مدركٌ بالحس فكذلك في الديار والنساء والخيل، فهذا لونٌ والطيرة لون .. أهـ (¬5). ¬

(¬1) تيسير العزيز الحميد ص 380. (¬2) منهاج السنة 1/ 10. (¬3) عالم السحر والشعوذة، الأشقر ص 229. (¬4) الحديث متفق عليه (جامع الأصول 7/ 631). (¬5) تيسير العزيز ص 377.

فإن قيل هذا جارٍ في كل مشؤوم فما وجهُ خصوصية هذه الثلاثة بالذكر؟ فجوابه: أن أكثر ما يقع التطير في هذه الثلاثة فخصَّت بالذكر (¬1). 6 - الاستقسام بالأزلام، وهي القداح، كان الرجل في الجاهلية إذا أراد سفرًا أو زواجًا أو أمرًا مهمًا أدخل يده في وعاء يضع فيها القدح، فأخرج منه (زلمًا) فإن خرج الأمر مضى لشأنه وإن خرج النهي كف ولم يفعل (¬2). وذلك نوعٌ من التطير المنهي عنه، كما في قوله تعالى: {وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ}، وفي الحديث عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يلج الدرجات العلى من تكهن، أو استسقم، أو رجع من سفرٍ تطيرًا» (¬3). إخوة الإسلام: ومن الاستسقام بالأزلام في هذا العصر: ضربُ الرمل والودع (¬4)، وفتح الكتاب والكوتشينة، وقراءة الفنجال، وكلُّ ما كان من هذا القبيل حرام منكر في الإسلام (¬5). إخوة الإيمان احذروا التطير والتشاؤم في أمور حياتكم كلِّها فإنه مفسدة للدين والدنيا، ولما لم يكن في ترك التطير إلا تحقيق التوحيد لكان هذا كافيًا، ودونكم هذا الحديث العظيم فتأملوه، واحرصوا على العمل به، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن حُصين بن عبد الرحمن قال: «كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم ¬

(¬1) تيسير العزيز الحميد ص 377. (¬2) النهاية 1/ 311 (¬3) أخرجه الطبراني وجود إسناده الألباني (الصحيحة 2161، وانظر: الطيرة والفأل؛ محمود الجاسم ص 32. (¬4) الودع: خرز بيض تخرج من البحر تتفاوت في الصغر والكبر، الواحدة منها (ودعة) مختصر الصحاح ص 714، ولا أدري أهي المقصود بذلك أم لا؟ . (¬5) الحلال والحرام ص 230، عن الطيرة والفأل؟ الجاسم ص 33.

رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ قلتُ: أنا، ثم قلت أما إني لم أكن في صلاة ولكن لُدغت، قال: فماذا صنعت؟ قلتُ: استرقيت، قال: فما حملك على ذلك؟ قلتُ: حديثٌ حدثناه الشعبي فقال: وما حدثكم الشعبي؟ قلتُ: حدثنا عن بُريدة بن حصيب الأسلمي أنه قال: «لا رقية إلا من عَيْنٍ أو حُمةٍ» فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عُرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبيَّ ومعه الرهط (دون العشرة)، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رُفع لي سواد عظيمٌ فظننت أنهم أمتي، فقيل لي هذا موسى صلى الله عليه وسلم وقومُه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سوادٌ عظيمٌ، فقيل لي انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سوادٌ عظيمٌ، فقيل لي هذه أمتُك، ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب»، ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يُشركوا بالله، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما الذي تخوضون فيه؟ » فأخبروه، فقال: «هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون» فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: «أنت منهم» ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: «سبقك بها عكاشة» (¬1). وهكذا يحققُ التوحيد من لا يتطيرون .. ويكونون ضمن من يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب .. جعلنا الله منهم والمسلمين .. على أن شيخ الإسلام ابن تيميه يرحمه الله ضعف قوله في الحديث «لا ¬

(¬1) صحيح مسلم 1/ 199، 200 ح 220.

يرقون» وقال إنها وهمٌ من الراوي ولم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم لأن الراقي محسنٌ إلى أخيه، وكذلك ضعفها تلميذه ابن القيم رحمهما الله، ومما يؤيد ذلك أنها لم ترد في رواية البخاري، بل ولا في الروايات الأخرى عند مسلم، وإنما الثابتة في الصحيحين «لا يسترقون» فقط والله أعلم (¬1). أيها المؤمنون ويبقى بعد ذلك حديث عن دفع التطير، ووسائل الخلاص منه، وحديث عن الفألِ ومعناه وأثره في حياة المسلم، وهذه وتلك مجال الحديث في الجمعة القادمة بإذن الله. ¬

(¬1) تيسير العزيز الحميد ص 84.

(2) بين التطير والتفاؤل

(2) بين التطير والتفاؤل (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله رب العالمين من توكل عليه كفاه ومن لاذ به سلمه وعافاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيء بقدر، لا مانع لما أعطى ولا مُعطي لما منع. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله دعا الأمة إلى كل خير وحذرها من كل شر، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وآل بيته الطاهرين، ورضي عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3). إخوة الإسلام، وسبق الحديث عن التطير والتشاؤم، وما فيهما من خلل في المعتقد والسلوك، دون أن يدفعا مكروهًا أو يجلبا محبوبًا. ومن حق الذين سمعوا التحذير والنهي عن باب من أبواب الشرك وسلوك يُعِّقد الحياة، ويشل حركة الأحياء، ويصيبهم بنوع من الإحباط والضيق .. من حق هؤلاء أن يسمعوا وسائل دفع التطير وكيف يتقون التشاؤم، ألا وإن من أعظم الأسباب التي يدفع بها التطير: ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 6/ 6/ 1417 هـ. (¬2) سورة الأحزاب، الآيتان: 70/ 71. (¬3) سورة المائدة، آية: 35.

1 - التوكل على الله، قال أبو السعادات: يُقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان، أي: ألجأته واعتمدت عليه فيه، ووكل فلانٌ فلانًا إذا استكفأه أمره ثقةً بكفايته، أو عجز عن القيام بأمر نفسه، والتوكل المشروع فريضة يجب إخلاصه لله تعالى، لأنه من أفضل العبادات وأعلى مقامات التوحيد .. ، ولقد أمر الله به في غير آية، وأعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة، بل جعله شرطًا في الإيمان والإسلام كما في قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} (¬1). وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، والمتأمل يلحظ أن الله يجمع بين التوكل والعبادة وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والإسلام وبين التوكل والهداية، فظهر أن التوكل أصلٌ لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها كمنزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الإيمان ومقوماته إلا على ساق التوكل (¬2). وكيف يتطير أو يتشاءم من يعي قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬3)، أي كافيه قال بعض السلف: جعل الله لكل عمل جزاءً من نفسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته فقال: ومن يتوكل على الله فهو حسبه، ولم يقل فله كذا وكذا من الأجر، كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه، وحسبه، وواقيه فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته ¬

(¬1) سورة يونس، آية: 84. (¬2) تيسير العزيز الحميد ص 437 - 439 باختصار. (¬3) سورة الطلاق، آية: 3.

السماوات والأرض وما فيهن لجعل له مخرجًا وكفاه ونصره (¬1). يا أخا الإسلام، إذا انفتح عليك بابٌ للتطير والتشاؤم وأوغر الشيطان صدرك بالقلق والوساوس، فافتح على نفسك باب التوكل على الله ثقةً بما عنده، ورضًا بما يقسمه، واعتمادًا عليه في تفريج الكربات ومن توكل على الله كفاه. 2 - العلم بأن كل شيء يسير بقدر الله، قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬2)، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (¬3). ومن حكم ذلك حتى لا يشتد فرح الإنسان لما آتاه الله فقد يكون فيه حتفه، ولا تذهب نفسه حسرات على ما فاته، فقد يكون فيه نجاته وهنا تنقطع مادة التطير ويحس المسلمُ بالطمأنينة والرضا، يقول عليه الصلاة والسلام: «كلُّ شيء بقدر حتى العَجْزُ والكَيْسُ» والمعنى أن كل شيء بتقدير الله في الأزل ولابد أن يقع ما قدره الله، والمرادُ بالعَجْزِ: التقصير فيما يجب فعله بالتسويف، وهو عامٌ في أمور الدنيا والدين (¬4). والكيس: هو النشاط والحذق، أو كمال العقل وشدة معرفة الأمور أو تمييز ما فيه الضر والنفع (¬5). وهذا الشعور بتقدير الله الأزلي لما يحدث في هذا الكون ينبغي أن يشعره بالرضا واليقين وأن يدفع عنه الطيرة والتشاؤم، دون أن ¬

(¬1) المصدر السابق ص 442، 443. (¬2) سورة القمر، آية: 49. (¬3) سورة الحديد، آية: 22. (¬4) النهاية ص 3/ 186. (¬5) الطيرة والفأل؟ الحاكم ص 83 والسنة إلى فيض القدير 4/ 22.

يقعدَ به عن فعل الأسباب المأمور بها شرعًا، فالعلم والتوكل شيء، والجهل والتواكل شيء آخر فليعلم. 3 - ومما يعين على دفع التطير- بإذن الله- أن يدافع ما يجدُ في نفسه من تطير أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «الطيرة شرك، الطيرة شرك، والطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن يذهبه الله بالتوكل» (¬1)، والمعنى: وما منا إلا ويعتريه التطير، ولكن من وقع له ذلك وسلَّم لله، ولم يعبأ بالطيرة. فلا يؤاخذ بما عرض له (¬2). وعلى المسلم في سبيل علاج التطير ألا يتابع هذه الخطرات، ولا يستسلم للوساوس وألا تصده عما همَّ به، فقد جاء في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: قلتُ يا رسوله: كنا نتطير، قال: ذاك شيءٌ يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم» (¬3). 4 - والاستخارة المشروعة يدفع الله بها وينفع، وهي من تمام التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، وهي خيرُ بديلٍ عن الطيرة والتشاؤم، والمراد بالاستخارة: طلب خير الأمرين لما احتاج إلى أحدهما (¬4)، وهي مشروعةٌ في الأمور التي لا يدري العبدُ وجه الصواب فيها أما ما هو معروفٌ خيره كالعبادات وصنائع المعروف فلا حاجة لاستخارة فيها (¬5). عباد الله مع عظيم فضل الله علينا في هذه الاستخارة، وشدة حاجتنا إليها في ¬

(¬1) رواه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح، وجعل آخره من كلام ابن مسعود (كتاب التوحيد، محمد بن عبد الوهاب ص 57). (¬2) الأشقر، السحر والشعوذة ص 300. (¬3) صحيح مسلم 4/ 1748. (¬4) الفتح 11/ 183، الجاسم ص 85. (¬5) التحفة 2/ 593 عن الجاسم، الطيرة والفأل ص 86.

كثير من أمورنا، فما أعظم تفريط بعض الخلق فيها، وزهدهم في دعائها، وهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: «إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول: اللهم إني استخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم أن كنت تعلم أن هذا الأمر- ويسميه- خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري- أو قال في عاجل أمري وآجله- قاقدره لي. وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري- أو قال في عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني واصرفني عنه، وأقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به، ويسمى حاجته» (¬1) قاله النووي يرحمه الله: وإذا استخار مضى بعدها لما ينشرح له صدره (¬2). 5 - أيها المسلم والمسلمة، الدعاء بشكل عام عبادة مشروعة، ولا يرد القضاء إلا الدعاء- كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (¬3) وهو طريق من طرق دفع التطير، كيف لا، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم دعاءً ندعو به، لدفع التطير في المرأة، والدابة، والخادم، فقد روى البخاري في خلق أفعال العباد، والنسائي في عمل اليوم والليلة والبغوي في شرح السنة، وابن ماجه في سننه، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي والنووي في الأذكار وصححه، وجود إسناده العراقي، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا تزوج أحدُكم امرأة: أو اشترى ¬

(¬1) رواه البخاري واللفظ له (الفتح 11/ 183) ورواه غيره (الصحيح المسند من أذكار اليوم والليلة ص 267. (¬2) الأذكار 3/ 355. (¬3) في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي والحاكم (صحيح الجامع 6/ 230).

خادمًا فليقل: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه، وإذا اشترى بعيرًا فليأخذ بذروة سنامه وليقل مثل ذلك» (¬1). 6 - الانتقالُ من المكان الذي يظن أنه مشؤوم، وذلك لإبطال الوهم بالشؤم، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجلٌ يا رسول الله إنا كنا في دار كثيرٌ فيها عددنا، كثيرةٌ فيها أموالنا، فتحولنا إلى دارٍ أخرى فقل فيها عددُنا، وقلَّت فيها أموالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذروها ذميمةً» (¬2)، قال ابن عبد البر: وعندي أنه إنما قاله خشية عليهم التزام الطيرة (¬3). ¬

(¬1) انظر: السحر والشعوذة، الأشقر ص 310. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (132) وأبو داود، وغيرهم بإسناد حسن (السلسلة الصحيحة للألباني 2/ 433، الطيرة والفأل، الجاسم ص 87. (¬3) أوجز المسالك 15/ 195 عن الفأل والطيرة، الجاسم ص 89.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا طاهرًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه .. اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه من الأنبياء. إخوة الإسلام يبقى بعد ذلك علاج عملي لدفع الطيرة والتشاؤم ألا وهو الفأل الحسن فحين نهى الشارع عن الطيرة والشؤم جعل الفأل البديل والعلاج، والسبب في ذلك أن الطيرة سوءُ ظن بالله تعالى، والفأل حسنُ ظن بالله، والمسلمُ مأمورٌ بحسن الظنِّ بربه، والفأل خلقٌ من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم تمثله في حياته ودعى الناسَ إليه، وفي الحديث: كان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل ويكره الطيرة» (¬1). والفأل هو الكلمة الحسنة يسمعُها الإنسان ويستبشر بها وكان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل، ففي الحديث المتفق على صحته عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل»، قالوا: وما الفأل: قال: «كلمة طيبة»، وفي لفظ: «الكلمة الحسنة» (¬2). والمتأمل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يجد فيها نماذج للفأل، والبعد عن التشاؤم والتطير، وعلى سبيل المثال لا الحصر قال عليه الصلاة والسلام عن جبل أحد «هذا جبلٌ يُحبنا ونحبه» (¬3)، ومن المعلوم أن وقعة أحدٍ الشهيرة كانت عند هذا الجبل، وبها أصيب المسلمون كما قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} (¬4)، فقد انجلت المعركة عن ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه وحسنه ابن حجر في الفتح 10/ 214، 215. (¬2) انظر: جامع الأصول 7/ 631. (¬3) رواه البخاري (الفتح 7/ 377، باب: أحد جبل .. كتاب المغازي). (¬4) سورة آل عمران، آية: 165.

سبعين شهيدًا من المسلمين (¬1)، ولم يسلم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين في هذه الغزوة إذ كُسرت رباعيته، وشُج في وجهه، وسال دمه، وكسرت البيضية على رأسه، كما ثبت ذلك في الأخبار الصحاح (¬2). ومع ذلك كلِّه فلم يتشاءم الرسول صلى الله عليه وسلم أو يتطير من هذا المكان- بل قال حين رجع من الحج، أو حين عاد من تبوك وأشرف على المدينة «هذا جبل يُحبنا ونُحبه» (¬3). قال السهيلي يرحمه الله، كان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن والاسم الحسن ولا اسم أحسن من اسم مُشتق من «الأحدية» قال: ومع كونه مشتقًا من الأحدية، فحركات حروفه الرفع أُحُد، وذلك يشعر بارتفاع دين الأحد وعلوه، فتعلق الحب من النبي صلى الله عليه وسلم به لفظًا ومعنى فخُصَّ من بين الجبال بذلك والله أعلم (¬4). إخوة الإسلام، قد يسأل سائلٌ عن الفرق بين الفأل والتطير عن السرِّ في استحباب الأول وتحريم الثاني، وقد أجاب عن ذلك ابن الأثير يرحمه الله (¬5) فقال: الفألُ فيما يُرجي وقوعه من الخير، ويَحسُن ظاهره ويَسُر والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، وإنما أحبَّ النبي صلى الله عليه وسلم الفأل لأن الناس إذا أمَّلوا فائدة من الله ورجوا عائدته عند كلِّ سببٍ ضعيفٍ أو قوي، فهم على خير، وإن لم يدركوا ما أملوا فقد أصابوا في الرجاء من الله وطلب ما عنده، وفي الرجاء لهم خيرٌ مُعجَّل، ألا ترى أنهم إذا قطعوا أملهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشر؟ فأما الطيرة فإن فيها سوءَ الظنِّ، وقطعَ الرجاءِ، وتوقع البلاء، وقنوط النفسِ ¬

(¬1) البخاري، ح 4043. (¬2) البخاري ومسلم، انظر: مهدي رزق الله 1/ 390، 397. (¬3) الفتح 7/ 378. (¬4) الفتح 7/ 378، وهو في الروض الأنف 5/ 449، 450 أطول من هذا. (¬5) جامع الأصول 7/ 631.

من الخير، وذلك مذموم بين العقلاء، منهي عنه من جهة الشرع. أهـ. ألا فتفاءلوا معاشر المسلمين وأملوا خيرًا وأحسنوا الظنَّ بربكم، وقدموا بين يدي هذا الفأل عملًا صالحًا تتقربون به إلى بارئكم، ومهما أظلمت الدنيا في وجوهكم أو حاول الشيطان أن يُقنِّطَكم .. فثقوا أن فرجَ الله قريب، وأن مع العسر يسرًا، ولن يغلب عسرٌ يُسرين، وأن الله يبلو الناس بالشر والخير فتنة ليعلم الصابرين والشاكرين، وليميز الخبيث من الطيب .. وإذا اغترَّ بعض الخلق برحمات الخلق وأعطياتهم، انفرد المؤمنون بالتعلق برحمة الله ووثقوا بحسن عطائه فالله هو المعطي وهو المانع، والله يقول وهو أصدق القائلين: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬1)، ويقول جل شأنه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (¬2). إخوة الإيمان بالفأل الحسن والعمل الصالح يُشرق وجهُ الحياة، وترفرف راياتُ السعادة على الأحياء، بهدف الفأل الصالح تنشرحُ الصدور، وتزول الكآبة عن النفوس، وبه ينجلي الضيق، وتنقشع سحبُ الوهم والتشاؤم، ويكون ذلك عونًا لحسنِ علاقة العبد مع ربه، وعلاقة الخلق مع بعضهم .. وكلُّ ذلك طرفٌ من هدي الإسلام، ولونٌ من ألوان خلق المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولذا فالمسلمون أحقُّ بهذا الفأل من غيرهم من شعوب الأمم الأخرى، فهل يفقه المسلمون دينهم، وهل يتجنبون مواطن الخلل في عقائدهم وسلوكياتهم ذلك المرتجى- والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل- هذا وصلوا ... ¬

(¬1) سورة فاطر، آية: 2. (¬2) سورة يونس، آية: 58.

الجزء الخامس

شعاع من المحراب الجزء الخامس إعداد د. سليمان بن حمد العودة

بسم الله الرحمن الرحيم

شعاع من الحراب

زلزلة الساعة

زلزلة الساعة (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} (¬2). {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} (¬3). عباد الله ما أعظم الهول .. وما أشدَّ الفزعَ لأحداثِ الساعة، والنداءُ هنا شاملٌ للناس جميعًا يُخوفون بحادثٍ سيقع .. ولا نجاةَ من الفزعِ إلا بالتقوى .. إنه الأمرُ العظيم، والخطبُ الجلل والطارقُ المفظع، والكائن العجيب؛ والشيء العظيم: ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/ 1/ 1419 هـ. (¬2) سورة لقمان، آية: 33. (¬3) سورة الحج، الآيتان: 1، 2.

{إن زلزلة الساعة شيء عظيم} (¬1). وما تذهل المرضعةُ عن طفلها وفي فمه ثديُها إلا للهول لا يدع بقيةً من وعي .. كيف لا والمشهدُ يصورها لذهولها وكأنها تنظر ولا ترى، وتتحركُ ولا تعي، وهذا الذي ذُهلت عنه أحبُّ الناس إليها، وهي أشفق الناس عليه .. أما الحوامل فتُسقط حَملها قبل تمام مِدتها لشدة الهول، والناسُ كلُّهم لهولِ الصدمة وشدة الأمر كالسكارى قد دهشت عقولُهم، وغابت أذهانُهم .. وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. روى الترمذيُّ بسنده عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما نزلت: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} (¬2) قال: أُنزلت عليه هذه الآية وهو في سفر، فقال: ((أتدرون أي يومٍ ذلك؟ )) قالوا: اللهُ ورسولهُ أعلم، قال: ((ذاك يوم يقول اللهُ لآدم: ابعث بعثَ النار قال: يا ربِّ وما بعثُ النار؟ قال: تسعمائة وتسعةٌ وتسعون إلى النار، وواحدٌ إلى الجنة)) فأنشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قاربوا وسددوا، فإنها لم تكن نبوةٌ قطُّ إلا كان بين يديها جاهليةٌ))، قال: ((فيُؤخذ العددُ من الجاهلية، فإن تمَّت وإلا كملت من المنافقين، وما مثلكُم ومثلُ الأمم إلا كمثلِ الرقمةِ في ذراع الدابة وكالشامةِ في جنب البعير))، ثم قال: (¬3) (إني لأرجو أن تكونوا ربعَ أهل الجنة)) فكبروا، ثم قال: ((إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة))، ¬

(¬1) سورة الحج، آية: 1. (¬2) سورة الحج، الآيتان: 1، 2. (¬3) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

فكبروا، ثم قال: ((إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة))، فكبروا قال: ولا أدري قال الثلثين أم لا (¬1). وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى يا آدمُ، فيقول لبيك وسعديك والخيرُ في يديك، قال يقول: أخرج بعثَ النار، قال: وما بعثُ النار؟ قال: من كلِّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال فذاك حين يشيبُ الصغيرُ وتضعُ كلُّ ذات حملٍ حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذابَ الله شديد))، قال: فاشتد ذلك عليهم، قالوا: يا رسولَ الله أينا ذلك الرجل؟ فقال: ((أبشروا، فإن من يأجوجَ ومأجوجَ ألفًا ومنكم رجل)) .. ثم ذكر الحديث .. أيها المسلمون، الساعةُ غيبٌ لا يعلمها إلا علاَّمُ الغيوب -وهي آتيةٌ لا ريب فيها- ولكن مجيئها بغتةً وذلك يستدعي الحذرَ والحيطة، والتأهبَ الدائمَ والاستعدادَ بالعملِ الصالح. وإذا كان أولو العزم من الرسلِ لا يعلمون وقتَ مجيئها، فغيرُهم من باب أولى، روى الإمام أحمدُ وابنُ ماجه، والحاكم -بإسناد صحيح- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ((لقيتُ ليلة أسري بي إبراهيمَ وموسى وعيسى، فتذاكروا أمرَ الساعة يردُّوا أمرهم إلى إبراهيم، فقال: لا علم لي بها، فردوا الأمر إلى موسى فقال: لا علم لي بها، فردوا الأمر إلى عيسى، فقال: أما وجْبتُها فلا يعلمها أحدٌ إلا اللهُ عز وجل، وفيما عَهِد إليَّ ربي أن الدجالَ خارجٌ. قال: ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص قال: فيهلكه الله)) (¬2). ¬

(¬1) تفسير القرطبي (12/ 2)، تفسير ابن كثير (3/ 327) (¬2) المسند (5/ 189) حديث 3556، وانظر: أشراط الساعة. يوسف الوابل ص 58، 59.

قال ابنُ كثير رحمه الله: فهؤلاء أكابرُ أولي العزم من الرسل ليس عندهم علم بوقت الساعةِ على التعيين، وإنما ردُّوا الأمر إلى عيسى عليه السلام، فتكلم على أشراطها؛ لأنه ينزلُ في آخر هذه الأمة مُنفِّذًا لأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتلُ المسيحَ الدجال، ويجعلُ اللهُ هلاكَ يأجوج ومأجوج ببركة دعائه، فأخبر بما أعلمه اللهُ به (¬1). بل أن علمَ الساعة ثقل على أهل السموات والأرض، كما قال تعالى: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (¬2). واختار ذلك التفسير ابنُ جرير ووافقه ابنُ كثير (¬3). وهذا كلُّه مبطل لأي تقولٍ بعلم الغيب عمومًا، وخبر الساعة خصوصًا، وهو كذلك مبطلٌ لأي زعم بالعلم بنهاية الدنيا .. فلا يعلم ذلك كلَّه إلا الله: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون * بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون} (¬4). أيها المسلمون لقد أخبر الصادقُ المصدوق صلى الله عليه وسلم: ((أن الساعةَ تقوم حين تقوم، وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعان ولا يطويانه، ولتقومن الساعةُ وقد انصرف الرجلُ بلبن لقحته فلا يطعمُه، ولتقومن الساعةُ وهو يليط حوضه فلا يسقي ¬

(¬1) تفسير ابن كثير لآية الأعراف (187) (3/ 525). (¬2) سورة الأعراف، آية: 187. (¬3) السابق (3/ 521). (¬4) سورة النمل، الآيتان: 65، 66.

فيه، ولتقومن الساعة، والرجلُ قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمُها)) (¬1). وأخبر تعالى أن الساعة أدهى وأمر، وبها توعد اللهُ المجرمين {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} (¬2). فهي أعظم واشق، وأكبر من كل ما يُتوهم، أو يدور في الخيال (¬3). والساعةُ موعدُ الجزاء والعدل {إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى} (¬4). وهي واحدةٌ من خمسٍ اختص اللهُ بعلمها: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} (¬5). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في الرقاق (8/ 132)، والفتن (9/ 74). (¬2) سورة القمر، آية: 46. (¬3) تفسير السعدي (7/ 240). (¬4) سورة طه، آية: 15. (¬5) سورة لقمان، آية: 34.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين يقص الحقَّ وهو خيرُ الفاصلين، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له بيده المقاديرُ والأجيال، وما يعزب عن ربك من مثقال ذرةٍ في الأرضِ ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتاب مبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله بعثه اللهُ بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، فمن اتبعه فقد رشد ونجى، ومن عصاه فقد خاب وخسر خسرانًا مبينًا. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين، وما من نبي إلا وذكَّر أمته بالآخرةِ وأهوالِ يوم القيامة. أيها المسلمون: إذا كانت الساعةُ حقًّا لا مرية فيها، وأن اللهَ يبعث من في القبور، ودلائلُ قدرةِ الله على ذلك ظاهرةٌ للعيان لمن تأمل في أحداثِ الحياةِ الدنيا، من ابتداء الخلق وأطوار الجنين، وإحياءِ الأرض بعد موتها .. مما لا تخطئه العين ولا يخفى على ذي عقل، وما يكابر في ذلك إلا كلُّ كفارٍ عنيد. وحجةُ اللهِ في القرآن دامغةٌ، وآياتهُ ظاهرة والعلاقة بين هذه الآيات الباهرة والبعثِ والنشور ظاهرة: {ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج * ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير * وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور} (¬1)، وأعجبُ من ذلك كله قدرةُ الله على خلقِ ما هو أعظم من ¬

(¬1) سورة الحج، الآيات: 5 - 7.

الإنسان كالسموات والأرض. وفيه دليل على قدرته على إعادة الإنسانِ بعد موته فذاك من باب أولى: {أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (¬1). وإذا كان هذا طرفًا من قدرة الله، في خلق الناس كلهم وأطوار حياتهم .. فأعجب منه ما استثنى اللهُ من خلقه، فخلقه من غير أبٍ ولا أم كآدم عليه السلام، أو خلقه من أب دون أم كحواء، أو خلقه من أمٍ دون أب كعيسى عليه السلام .. ولهذا جاء ذكرُ عيسى عليه السلام علمًا بين يدي الساعة، ودليلًا عليها قال تعالى: {وإنه لعلم للساعة فلا تمترون بها واتبعون هذا صراط مستقيم} (¬2). وأحدُ المعاني في تأويل هذه الآية: أن القادر على إيجاد عيسى من أمٍّ بلا أب قادر على بعث الموتى من قبورهم .. (¬3). بل يدرك العقلاء ويؤمن أولو الألباب بالبعث من خلال معرفتهم بحكمة الله في خلقه، والحكيم لا يترك الناسَ سدى، ولا يخلقهم عبثًا، بل لحكمة جليلة يُجازي المحسنَ بإحسانه والمسيءَ بإساءته: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم} (¬4). {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون} (¬5). ¬

(¬1) سورة يس، الآيتان: 81، 82. (¬2) سورة الزخرف، آية: 61. (¬3) تفسير السعدي (6/ 657). (¬4) سورة المؤمنون، الآيتان: 115، 116. (¬5) سورة الدخان، الآيتان: 38، 39.

عباد الله! الناسُ في هذه الدنيا وفي الآخرة من الساعة صنفان، فصنفٌ غافلون لاهون، آمنون، لا يؤمنون ببعث ولا نشور، أولئك تضيع أعمارُهم في البحث عن اللذة العاجلة، ولا يؤمنون إلا بالمادة المحسوسة، تنتهي مداركهمُ عند حدود الدنيا، فلها يحبون ومن أجلها يبغضون، وعندها تقف طموحاتهمُ وآمالُهم وأولئك هم الخاسرون في الآخرة .. وهم المبلسون عند قيام الساعة، ولهم الويلُ والثبور عند البعث والنشور. وعنهم قال تعالى: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون} (¬1). {ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون} (¬2). {قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} (¬3). وأما النصفُ الآخرة فهم المؤمنون بقيام الساعة، والمشفقون منها في الدنيا، لعلمهم أنها حق .. أولئك عرفوا الله فخافوه وراقبوه بما يأتون أو يدعون، وخافوا الآخرة فعملوا لها .. وهانت عليهم الدنيا فلم تلههم ولم تفتنهم بزخرفها .. وأولئك هم الآمنون عند قيامها .. ومنازلهم في الجنان والرياض بها يتنعمون، وبإيمانهم وخوفهم وعملهم يجازون، ولا يظلم ربك أحدًا، تأمل يا أخا الإسلام حال الفريقين في الدنيا في قوله تعالى: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين ءامنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق إلا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد} (¬4). ¬

(¬1) سورة الجاثية، آية: 27. (¬2) سورة الروم، آية: 12. (¬3) سورة يس، آية: 52. (¬4) سورة الشورى، آية: 18.

تأمل يا عبد الله مصير الفريقين وفروق الجزاءِ بين الصنفين في الآخرة وقوله تعالى: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون* فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون* وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون} (¬1). إنه الفرق بين الإيمان والكفر، واليقين والشك، ولئن كانت الساعةُ غيبًا، فهي كالمشاهد عند المؤمنين، فهم كما يؤمنون بالله وإن لم يروه يؤمنون بالساعة وإن لم يروها- ولذا جاء الربط في القرآن كثيرًا بين الإيمان بالله والإيمان بالغيب من مثل قوله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر} (¬2). وإذا تساوى الناسُ في تصديقهم بالمشاهد المحسوس لديهم تميز أهلُ الإيمان وأولو الألباب بالتصديق بالغيب الذي يرون دلائله وينظرون في شواهده، وإن غاب عنهم كنههُ وحقيقتهُ. إخوة الإيمان كم نحن بحاجة إلى غرسِ هذا الإيمانِ بالغيب ودلائِله في نفوسنا صغارًا وكبارًا، عالمين ومتعلمين وأميين رجالًا، ونساء، في مؤسساتنا التعليمية والإعلامية حتى تنحسر بقايا المدُّ الإلحادي الذي تهاوت دولتهُ قبل سنين، وبقيت بقيةٌ من أفكار أتباعه وهي في طريقها إلى الانقراض، فالعلمُ يدعو إلى الإيمان، ودلائل الإيمان بالغيب تحاصر المتشككين في ذوات أنفسهم وفي كون الله الواسع من حولهم، وفي كل شيء له آيةٌ تدل على أنه واحدٌ .. وتلاشت مقولةُ ((من يحيي العظام وهي رميم)) بقوله تعالى: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق ¬

(¬1) سورة الروم، الآيات: 14 - 16. (¬2) سورة البقرة، آية: 177.

عليم* الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا فإذا أنتم منه توقدون* أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم* إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون* فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون} (¬1). عباد الله! أعمال الناس في الدنيا نابعة من درجة إيمانهم بالغيب وقيام الساعة، فأشدُّ الناس إيمانًا بها أكثرهم استعدادًا لها، وأقلهم إيمانًا بها أكثرهم غفلةً عن الاستعداد لها، وليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكنه شيء يستقر في القلب وتنبعث له الجوارحُ مصدقة. اللهم ارزقنا صدق الإيمان بك والاستعداد للبعث والنشور، اللهم حاسبنا حسابًا يسيرًا اللهم ارحم ضعفنا، وفرج كربنا .. ولا تخزنا يوم يبعثون .. ¬

(¬1) سورة يس، الآيات: 79 - 83.

وقفات في شهر الله المحرم

وقفات في شهر الله المحرم (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدهُ ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فاتقوا الله أيها الناس، واعلموا أنكم ملاقوه {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} (¬2). {يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (¬3). إخوة الإسلام، وكما فضل اللهُ بعض الأماكنِ على بعضٍ فقد فضَّل أزمانًا على أزمانٍ أخرى، وله الحكمةُ البالغة وهو الحكيم الخبير. ولا ينتهي فضلُ الزمانِ عند رمضانَ، وعشرِ ذي الحجة، ويوم عرفة، ويوم الجمعة، وأيام العيد والتشريق، ونحوها ففي شهرِ الله المحرم (شهركم هذا) يومٌ عَظيمٌ من أيام الله، ألا وهو يومُ عاشوراء، والشهرُ كلُّه كانَ من الأشهر التي ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 5/ 1/ 1419 هـ. (¬2) سورة البقرة، آية: 281. (¬3) سورة الحشر، آية: 18.

يخصها الرسولُ صلى الله عليه وسلم بنوعٍ من العبادة، إذ كان يُفضل صيامَه عن غيرهِ بعد صيامِ رمضان. إن شهرَ اللهِ المحرم كان له شأنٌ في تاريخ الأنبياءِ عليهم السلام. وبين تعظيم هذا الشهرِ، وما نُدب فيه من العبادة، وارتباطهِ بتاريخ الأنبياء- وخاصة موسى عليه السلام- أقف خمس وقفاتٍ، مذكرًا بها نفسي وإياكم. الوقفة الأولى: هو شهرُ الانتصار للمؤمنين والاستعلاء للإيمان، أخرج البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ فرأى اليهود تصومُ يومَ عاشوراء، فقال: ((ما هذا؟ )) قالوا: هذا يومٌ صالحٌ، هذا يومٌ نجَّى اللهُ بني إسرائيلَ من عدوِّهم (¬1). وفي صحيح مسلم: ((هذا يومٌ عظيم أنجى اللهُ فيه موسى وقومَه وغرق فرعونُ وقومه)) (¬2). وإذا كان هذا في شأن موسى وقومه، فقد أخرج الإمامُ أحمدُ الحديثَ السابق وزاد فيه: ((وهو اليومُ الذي استوت فيه السفينةُ على الجودي فصامه نوحُ شكرًا)) (¬3). بل ورد القول بأن النصارى كانت تُعظم هذا اليوم، وقيل احتمال صيام عيسى عليه السلام له على اعتبار أنه مما لم ينسخ من شريعةِ موسى عليه السلام؛ لأن كثيرًا منها نُسخ بشريعة عيسى كما قال تعالى: {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم} (¬4). ¬

(¬1) الصحيح مع الفتح 4/ 244 ح 2004. (¬2) انظر الفتح 4/ 247. (¬3) الفتح 4/ 247، 248. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 50، وانظر الفتح 4/ 248.

ولو لم يثبت إلا تعظيمَ موسى ومحمدٍ عليهما الصلاة والسلام، لكفى لتعظيمِ هذا الشهرِ، ويكفي أن يتذكر المسلمون انتصار فئةٍ من المؤمنين واستعلائهم بالإيمان، وهلاكَ الطغاةِ- ورمزُهم فرعون - وهزيمة جندِهم المبطلين. الوقفة الثانية: ومع تعظيمِ الأنبياء لعاشوراء من شهرِ الله المحرم، فقد كان الجاهليون يُعظمون هذا اليومَ أيضًا، جاء في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي لله عنها قالت: كان يومُ عاشوراء تصومه قريشٌ في الجاهلية وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينةَ صامه وأمر بصيامه، فلما فُرض رمضانُ ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه (¬1). فما السرُّ يا تُرى في صوم قريش الوثنية لعاشوراء ولم يكونوا أهل كتاب، وصلتُهم ضعيفةٌ بأهل الكتاب؟ قال القرطبي يرحمه الله: لعل قريشًا كانوا يستندون في صومه إلى شرعِ من مضى كإبراهيم، وصومُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون بحكم الموافقةِ لهم كما في الحج، أو أذن اللهُ له في صيامه على أنه فعلُ خير .. ويحتمل غيرَ ذلك (¬2). وقال ابنُ حجر: وأما صيامُ قريشٍ لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرعِ السالف، ولهذا كانوا يعظمون بكسوةِ الكعبةِ فيه وغير ذلك، قال: ثم رأيتُ في المجلس الثالث من مجالس الباغندي الكبير عن عكرمة أنه سُئل عن ذلك فقال: أذنبت قريش ذنبًا في الجاهلية فعظم في صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء، يُكفرْ ذلك- هذا أو معناه- اهـ (¬3). ¬

(¬1) الصحيح مع الفتح 4/ 244 ح 2002. (¬2) الفتح 4/ 248. (¬3) الفتح 4/ 246.

تُرى يا أخا الإسلام- إذا عظمت اليهودُ، وقريشٌ هذا اليوم، وهم كفرةٌ ووثنيون .. أفلست الأولى بتعظيم هذا اليوم منهم، وأنت المسلمُ تربطك بالمؤمنين الناجين رابطةُ العقيدة والإيمان، وإن حجزت فواصلُ الزمان والمكان؟ فأمتكم أمةٌ واحدةٌ بنصِّ القرآنِ. الوقفة الثالثة: ومن شكرِ اللهِ وتعظيمِ هذا الشهرِ صيامُه، أو صيامُ عاشوراء منه. فقد أخرج الإمام مسلمٌ في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أفضلُ الصيام بعد شهرِ رمضان شهرُ اللهِ المحرم، وأفضل الصلاة بعد المكتوبةِ صلاة الليل)) (¬1). فإن قيل: فما الجمعُ بين ما ورد في فضل صيامِ شهرِ الله المحرم، وما ورد في فضل صيام شعبان، وإكثاره صلى الله عليه وسلم من الصوم فيه، حيث ورد في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: وما رأيتهُ صلى الله عليه وسلم أكثرَ صيامًا منه في شعبان، وفي رواية أخرى له: ((وكان يصوم شعبان كلَّه)) (¬2). فقد أجاب على ذلك النوويُّ بقوله: يحتمل أن يكون ما علم بفضل صومِ محرم إلا في آخرِ عمره فلم يتمكن من كثرة الصومِ في المحرم، أو أنه اتفق له فيه من الأعذار بالسفر والمرض مثلًا ما منعه من كثرةِ الصومِ في محرم (¬3). وبكل حالٍ فإن شقَّ عليك كثرةُ الصوم في شهرِ الله المحرم فحنانيك أن تُغلب على صيامِ عاشوراء منه، فقد ورد في فضله ((وصيام عاشوراء أحتسب على الله أن ¬

(¬1) مسلم 1163، جامع الأصول 9/ 273. (¬2) الصحيح مع الفتح 4/ 213 ح 1969، 1970. (¬3) النووي شرح مسلم 8/ 55، الفتح 4/ 215.

يكفر السنة التي قبله)) كذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم (¬1). وفي لفظ: (( .. وصوم عاشوراء يكفر سنةً ماضية)) (¬2). ومن السُّنة صيامُ التاسع مع العاشر مخالفةً لليهود، كما في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: ((لئن عشتُ إلى قابل لأصومن التاسع)). وكمالُ ذلك أن تصوم التاسع والعاشر والحادي عشر، فقد ذكر العلماءُ ثلاث مراتبَ لصيام عاشوراء: أدناه أن يُصام وحده، وفوقه أن يُصامَ التاسعُ معه، وفوقه أن يصام التاسعُ والحادي عشر (¬3). ولا يفوتنك حال الصيام استشعارُ فضلِ الصيامِ عمومًا، وتكفيرُ يوم عاشوراء لسنة ماضية خصوصًا، كما لا يفوتنك حالَ الصيامِ أن تتذكر عظمةَ هذا اليوم وما حصل فيه نصر للإسلام وعِزةٍ للمؤمنين في الماضي، واسأل ربَّك وأنت صائمٌ أن ينصر الإسلام ويعز المسلمين في الحاضر. الوقفةُ الرابعة: وهي فائدةٌ جليلةٌ حريةٌ بالوقفةِ والتأمل فهي وإن كانت بمناسبة الصيام فهي صالحةٌ للعبادات بشكل عام. وهي: التوفيقُ بين التأسي بالرسولِ صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال وبين المداومة على الطاعة وإن قَلَّتْ، فقد ورد على إثر قول عائشةَ رضي الله عنها (وكان يصوم شعبان كلَّه) قولُها (وكان صلى الله عليه وسلم يقول: خذوا من العمل ما تُطيقون، فإن اللهَ لا يَملُّ حتى تملوا، وأحبُّ ¬

(¬1) رواه مسلم (النووي 8/ 50). (¬2) رواه الجماعة إلا البخاري (إرواء الغليل 4/ 111). (¬3) انظر: الفتح 4/ 246، ابن القيم: زاد المعاد.

الصلاة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما دُووم عليه وإن قلت، وكان إذا صلى صلاةً داوم عليها) هكذا جاءت هذه التوجيهاتُ كلُّها في حديث واحد كما في صحيح البخاري (¬1). حتى قال ابنُ حجر رحمه الله: ومناسبةُ ذلك للحديث الإشارةُ إلى أن صيامَه صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يتأسى به فيه إلا من أطاق ما كان يطيق، وأن من أجهد نفسه في شيء من العبادة خُشي عليه أن يملَّ فيُفضي إلى تركه، والمداومةُ على العبادة وإن قلت أولى من جهد النفس في كثرتها إذا انقطعت، فالقليلُ الدائم أفضلُ من الكثير المنقطع غالبًا (¬2). ¬

(¬1) الفتح 4/ 213 ح 1970. (¬2) الفتح 4/ 215.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله ناصرِ دينهِ، ومعلي كلمته، ومعزِّ أوليائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حكم بنصرةِ رسلهِ والمؤمنين لا معقب لحكمه. ولكن نَصره مستلزمٌ لنصرة دينه والإيمان به {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} (¬1)، {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} (¬2). وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله ابتلاه ربُّه وأصحابَه، ثم أنزل عليهم النصر حين اكتملت أسبابُه، ومكن لهم في الأرض بعد أن صدقوا وصبروا في جهاده، ولو شاء ربُّك لنصرهم ومكنهم من قبل، ولكن سنةَ الله ماضيةٌ في الأولين والآخرين. {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون* ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} (¬3). اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. عبداَ الله .. لا ينفك شهرُ اللهِ المحرم، وعاشوراء على الأخص، عن قصةِ موسى عليه السلام- وليس في القرآن أعظمُ وأطولُ منها- وليس في أنبياءِ بني إسرائيل أعظمُ من موسى ولا أكثرُ أتباعً منه، وله من القوة العظيمة في إقامةِ دين الله والدعوة إليه، والغيرةِ العظيمة ما ليس لغيره، وزمانُه الذي عاش فيه من أشدِّ الأزمان، وفرعونُ المعاصرُ من أشدِّ الطغاة. وهنا لابد من وقفة عند بعضِ الفوائد المستنبطةِ نصًّا، أو ظاهرًا، أو تعميمًا، أو ¬

(¬1) سورة محمد، آية: 7. (¬2) سورة الروم، آية: 47. (¬3) سورة العنكبوت، الآيتان: 2، 3.

تعليلًا، من قصة موسى عليه الصلاةُ والسلام. وهذه هي الوقفة الخامسة: فقد استخرج الشيخُ السعديُّ يرحمه الله في كتابه (تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن) (وهو خلاصةُ تفسيره المشهور) ما يقرب من أربعين فائدة، أسوق لكم شيئًا منها، قال الشيخ السعديُّ يرحمه الله: ومن هذه الفوائد: أن آياتِ اللهِ وعبرَه في الأمم السابقة، إنما يستفيد منها ويستنير بها المؤمنون، واللهُ يسوق القَصصَ لأجلهم كما قال تعالى في هذه القصة: {نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون} (¬1). - ومنها أن الأمة المستضعفة لو بلغت في الضعف ما بلغت لا ينبغي أن يستولي عليها الكسلُ عن السعيِّ في حقوقها، ولا اليأس من الارتقاءِ على أعلى الأمور، خصوصًا إذا كانوا مظلومين كما استنقذ اللهُ بني إسرائيل على ضعفها واستعبادها لفرعون وملئه فيهم، ومكنهم في الأرض وملكهم بلادَهم. - ومنها أن الأمةَ مادامت ذليلةً مقهورةً لا تُطالب بحقها، لا يقوم لها أمرُ دينها، كما لا يقوم لها أمرُ دنياها. - ومنها أن قتلَ الكافرِ الذي له عهدٌ بعقدٍ أو عرفٍ لا يجوز، فإن موسى ندم على قتله القبطي واستغفر اللهَ منه وتاب إليه. - ومنها أن العبدَ وإن عرف أن القضاءَ والقدرَ حقٌ، وأن قدر اللهِ نافذٌ لابد منه، فإنه لا يهملُ فعلَ الأسبابِ التي تقع فإن الأسباب والسعي فيها من قدر الله، فإذن الله قد وعد أم موسى أن يرده عليها، ومع ذلك لما التقطه آلُ فرعونَ سعت ¬

(¬1) سورة القصص، آية: 3.

بالأسباب، وأرسلت أختَه لتقصَ، وتعملَ لأسباب المناسبةَ كتلك الحال. - ومنها جوازُ خروج المرأةِ في حوائجها وتكليمها للرجل إذا انتفى المحذورُ، كما صنعت أختُ موسى، وابنتا صاحب مدين. - ومنها أن إخبارَ الغير بما قيل فيه وعنه على وجه التحذيرِ له من شرٍّ يقَعُ به لا يكونُ نميمةً، بل قد يكون واجبًا، كما ساق اللهُ خبرَ ذلك الرجلِ الذي جاء من أقصى المدينةِ يسعى محذرًا لموسى على وجه الثناء عليه. - ومنها أن اللهَ كما يُحبُّ من الداعي أن يتوسل إليه بأسمائه وصفاته ونعمه العامةِ والخاصةِ، فإنه يُحبُّ منه أن يتوسلَ إليه بضعفه وعجزه وفقرِه وعدمِ قدرته على تحصيل مصالحِه ودفع الأضرارِ عن نفسه، كما قال موسى- عليه السلام-: {رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير} (¬1). - ومنها أن من أعظم العقوبات على العبدِ أن يكون إمامًا في الشرِّ، وداعيًا إليه، كما أن من أعظم نعم الله على العبد أن يجعله إمامًا في الخير هاديًا مهديًّا، قال تعالى في فرعون وملئه: {وجعلناهم أئمة يدعون على النار} (¬2) وقال عن بني إسرائيل: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا} (¬3). - ومنها أن قوله جلَّ ذكرهُ {وأقم الصلاة لذكري} أي أن الذكر العبد لربِّه هو الذي خلق له العبدُ، وبه صلاحه وفلاحه، وأن المقصود من إقامة الصلاة إقامة هذا المقصود الأعظم، ولولا الصلاةُ التي تتكرر على المؤمنين في اليوم والليلة لتذكرهم بالله ويتعاهدون فيها قراءة القرآن، والثناءَ على الله ودعاءَه والخضوع له ¬

(¬1) سورة القصص، آية: 24. (¬2) سورة القصص، آية: 41 (¬3) سورة الأنبياء، آية: 73.

الذي هو روحُ الذِّكر، لولا هذه النعمة لكانوا من الغافلين. - ومنها أن قوله تعالى: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} استوعب اللهُ بها الأسباب التي تدرك بها مغفرة الله: وهي التوبةُ، والإيمانُ، والعمل الصالح والاستمرارُ على الإيمان والهداية والازديادُ منها. على غير ذلك من فوائد ذكرها الشيخ في كتابه الآنف ص 130 - 136. وبعدُ إخوة الإيمان، فشهرُ الله المحرم، وعاشوراء مناسبةُ للذكر والشكرِ، وسببٌ من أسباب التأمل في قصص القرآنِ، وزيادة الإيمان وأنى هذا من ممارساتٍ خاطئةٍ تُلطم بها الخدود، وتُخَدش بها الوجوه ويُجتمع فيها للبكاء والعويل، وربما سالت منها الدماء، واختلط فيها الرجالُ بالنساء، وظهر فيها المنكر، وكل ذلك ما أنزل اللهُ به من سلطان، بل هو من تلاعب الشيطان، وهل يُعقل إقامةُ ذكريات للموتى على حساب تعاسةِ وإلحاق الضرر بالأحياء. اللهم اهد ضالنا، وثبت هداتنا.

ذكرى العيد (¬1) الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والحمد لله الذي أعان على الصيام والقيام، لك الحمد ربنا كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم وكما هديت فثبت على الحق، وكما يسرت لطاعة فتقبلها يا ذا الجلال والإكرام. وأشهد أن لا إله إلا الله بنعمته تتم الصالحات وبيده أمرُ الكائنات، {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} (¬2). وأشهد أن محمدًا عبدهُ ورسولهُ أفضلُ من صلى وصام وقام للهِ بأمره وكان عبدًا شكورًا، اللهم صلِّ وسلم عليه، وعلى سائر أنبياءِ اللهِ ورسله، وارض اللهم عن أصحابهِ الأخيار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان. اتقوا اللهَ معاشرَ المسلمين، ولباسُ التقوى خير، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب. {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم} (¬3). الله أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا والحمُد لله كثيرًا وسبحان الله بكرةً وأصيلًا. اللهُ أكبر عدد ما ذكره أبيضُ وأسودُ وأسمرُ، وأكرمُ الخلق على الله أتقاهم، ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 1/ 10/ 1418 هـ. (¬2) سورة يونس، آية: 61. (¬3) سورة الأنفال، آية: 29.

واللهُ أكبر عدد ما لاحت بوارقُ النصرِ، ورفرفت رايةُ التوحيد في الجبال والوهاد وفي كل سهلٍ أو وعر، الله أكبر عدد ما هلل مُهَللٌ وكبر مكبرٌ. الله أكبر كلما صام صائمٌ وافطر، وكلما تلا قارئُ كتابَ ربه وتدبر، وطاف طائفٌ بالبيت العتيق فذكر الله وكبر. اللهُ أكبر كلما استغفره المستغفرون في ساعةٍ من ليل أو نهار أو حين السحر، وكلما فاضت عيونُ المحبين واكتحلتَ بالبكاء مُقلُ الخاشعين. عبادَ الله يومُكم هذا يومٌ عظيمٌ من أيام الله يومُ عيدٍ وفرحة، ويومُ غبطةٍ في الدين والطاعة، يفرح المؤمنون به لأن الله تعالى وفقهم لإكمال العدة وأعانهم فيه على الطاعة، وهم ينتظرون من الكريم المثوبة والجائزة، ويستغفرون الله عن الخطأ والزلة، وليس الفرحُ بسبب إنهاءِ الصيام الذي يعده ضعفاءُ النفوس عبئًا ثقيلًا عليهم. العيدُ في الإسلام مظهرٌ من مظاهر القوةِ والمحبة والإخاء، وهو مُذكرٌ بيوم البعث والجزاء .. ولذا فليس العيدُ من لبس الجديد أو تفاخر بالعدد والعديد، ولكن العيدَ الحقَّ لمن خاف يومَ الوعيد، واتقى ذا العرش المجيد. فالوعدُ حقٌّ، والموقف رهيب، والعذابُ شديد، والقرآنُ مذكر للغافلين {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} (¬1). وفي البعثِ بعد الموت نشر صحائفٍ ... وميزانُ قسطٍ طائشٌ أو مُثَقَّلُ ونشرٌ يشيب الطفلُ من عُظمِ هولهِ ... ومنه الجبالُ الراسيات تزلزلُ ¬

(¬1) سورة الحج، الآيتان: 1، 2.

ونارٌ تلظى في لظاها سلاسلٌ ... يُغلّ بها الفجارُ ثم يُسلسلُ عليها صراطٌ مدحضٌ ومزلةٌ ... عليه البرايا في القيامة تُحملُ وفيه كلاليبٌ تَعلَّقُ بالورى ... فهذا نجا منها وهذا مخردلُ فلا مجرمٌ يفديه ما يفتدي به ... وإن يعتذرْ يومًا فلا عُذر يقبلُ (¬1). أيها المسلمون! قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكةٌ غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وذلك بالحمل على طاعةِ الله، والجدية في السيرِ إلى الله، والتذكيرِ بمقام العرض على الله. عن عدي بنِ حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربُّه ليس بينه وبينه تُرجمان، ينظرُ أيمنَ فلا يرى إلا ما قدَّ من عمله، وينظرُ أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظرُ بين يديه فلا يرى إلا النارَ تلقاءَ وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) (¬2). وإياكم- عباد الله- والغفلة عما خُلقتم له، ففي الغفلة العطب، واجعلوا من فرحةِ الدنيا سبيلًا للفرحة العظمى في جناتٍ ونهرٍ في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر. ولا تستوحشوا من ذكرِ هادمِ اللذات، فوصيةُ نبيكم صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا ذكرَ هادم اللذات)). قال القرطبي رحمه الله: قال الدقّاقُ: من أكثرَ من ذكر الموت أكرم بثلاثة: تعجيلُ التوبةِ، وقناعةُ القلبِ، ونشاطُ العبادة. ومن نسي الموت عوجل بثلاثة: تسويفُ التوبةِ، وتركُ الرضا بالكفاف، والتكاسلُ في العبادة. ¬

(¬1) المختار للحديث في رمضان 157. (¬2) رواه البخاري ومسلم في الرقاق، والزكاة 8/ 140، 2/ 703.

عباد الله! لا يعني ذكرُ الموت أن تتحولَ الحياةُ إلى أحزانٍ ولا إلى ظلمات مهلكة، وانطوائية مؤذية. لكن الموازنة بين نصيب الدنيا والآخرة، والمراقبةُ الدائمةُ والتحوُّطُ في المطعم والمشربِ والمنكح والملبس، والنطقِ والصمت اللهُ أكبر، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. أمةَ الإسلام! يومُ العيد يومُ أُنس وصلةٍ لما أمر اللهُ به أن يوصل، ويوم مواساةٍ لمن به حاجة، يُمسح رأسُ اليتيم، ويُتصدق على الفقراء والمساكين، ويُدعى فيه للمرضى، ويُترحم على الموتى، ويُدعى بفكاكِ الأسرى ورفع الضرِّ عن المتضررين من المسلمين. هو يومٌ تبرز فيه أخلاقُ الأمةِ المسلمة على سجيتها، وتبرز فيه العواطفُ والميول والعوائدُ على حقيقتها تمتد مشاعرُ الإخاءِ إلى أبعد مدى، ويبدو المجتمعُ في العيد متماسكًا متعاونًا متراحمًا، تخفق فيه القلوبُ بالحبِّ والودِّ والبرِّ والصفاء. أمةَ القرآن، مع أفراحِنا وأشواقنا .. فلا ينبغي أن تنسينا فرحةُ العيد مآسينا، وأحوالَ أمتِنا، فالقدسُ أسير، والمسلمون أشلاء ممزقة هنا وهناك. ويومُ العيد مناسبةٌ كبرى للمسلمين للمراجعةِ، وطرح الأسئلةِ المهمة، فإلى أين تسيرُ مناهجُ الإعلام والتعليم، وما هي الأسسُ التي يُبنى عليها الحكمُ والاقتصاد في بلاد المسلمين؟ ما وضعُ المرأةِ في مجتمعات المسلمين، وإلى أين تسيرُ قضيتها؟ كيف تستثمر طاقات الشباب؟ وما مقدارُ مكاسبُ الأمةِ ومغانمها وما حجمُ مآسيها ومغارمها؟ إن ما يعيبُ الأمةَ، جهلَ أبنائها، وغفلة علمائها، وتسلطَ قادتها، ويُضعفُ

قدرتها ويُفرِّق كلمتَها شيوعُ النفاق بين مثقفيها، ووجودُ الخلافِ النكد بين أبنائها وبروزُ العلمنةِ في أي منحى من مناحي حياتها، وقيادةُ العلمانيين لركبها .. ؟ ! إخوة الإسلام لن يفلحَ المسلمون في ذواتِ أنفسهم أو صراعهم مع الأمم الأخرى إذا نُحِّي شرعُ الله وساد تطبيقُ القوانينِ الوضعية فيما أنزل اللهُ حكمه من السماء وجاءت به شرائعُ الأنبياء عليهم السلام ولن تُفلح الأمةُ ونخبةٌ من أبنائها يرون الدين مظهرًا من مظاهر التخلفِ والرجعية، لا فرق في ذلك بين من يُعلنه، ومن يُسره لكنه يتمثله واقعًا عمليًّا. ولن تسود الأمةُ وفيها من يرون تقليدَ المرأةِ المسلمة للمرأةِ الكافرة أنسب الطرق لحريتها وكرامتها، والحشمة والعفاف والحياءَ تقاليدَ بالية؟ ! ولن ترشدَ أمةٌ أضاعت طاقة شبابها في اللهو واللعب الفارغ، وأنَّى للأمة المسلمة أن تُفلح إذا كان قادتها من يلزمون أنفسهم وشعوبهم دخول جحر الضبّ الخرب تقليدًا ومجاراةً للأمم الكافرةِ الأخرى. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم بالبينات والله لا يهدي القوم الظالمين} (¬1). ¬

(¬1) سورة آل عمران، آية: 86.

الخبطة الثانية: الله أكبر، الله أكبر .. الله أكبرُ كبيرًا والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا، وأشهد أن لا إله إلا اله إعظامًا وتجليلًا، وأشهد أن محمدً عبده ورسوله. اللهم لك الحمد ربنّا، أطعمتنا من جوع، وأمنتنا من خوف، أتممت علينا شهرَ الصيام، وشرعت لن عيدين في الإسلام، .. والخسارةُ لمن حاد عن الدين أو ابتدع مَا لم يأذن به الله. أيها المسلمون! اشكروا الله على ما أسبغ عليكم من نعم يزدكم، واذكروه في الملأ يذكركم .. وحافظوا على رصيد الخير الذي جمعتموه في شهر رمضان، واعملوا أن عملَ الصالحات ليس لها حدٌّ دون الموت. قال الحسنُ البصريُّ يرحمه الله: إن اللهَ لم يجعلْ لعملِ المؤمنِ أجلًا دون الموت، ثم قرأ {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} (¬1). ألا ما أجمل الطاعةَ تعقبها الطاعات والحسنةَ تعقبها الحسنات، وَأكرم بأعمال البرِّ في ترادف الحلقات وفي يوم المعادِ يغتبط العاملون للصالحات، وصدق الله {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} (¬2). ومع اتباع السيئة الحسنة تمحها، لازموا الاستغفارَ فهم مُذيبٌ للخطايا كما يذوب الجليدُ على الصفا، وأحدثوا لله توبةً كلما حدثت منكم معصية، وإياكم أن تقنطوا من رحمة الله، فالله يغفر الذنوب جميعًا، وراغموا الشيطان في معترك الحياة، واستعيذوا بالله من همزات الشياطين وحضورهم، وتجملوا بالأخلاق ¬

(¬1) سورة الحجر، آية: 99. (¬2) سورة الكهف، آية: 46.

الفاضلة فبها يبلغ المسلمُ درجة الصائم القائم، وإنما كانت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لإتمامِ مكارم الأخلاق! مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر تتحقق لكم الخيريةُ والفلاحُ، وادعوا الله على بصيرة فلا أحسن قولًا ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا، وقال إنني من المسلمين، تحققوا من طيب مطعمكم، واستعملوا جوارحكم في مرضاة الله، وارعوا الأمانة في أهليكم وأولادكم. أختاه في الإسلام هناك من يكيد لك كيدًا، ويريد بك شرًّا، فاحذري مروجي البضاعةِ المزجاة، وإن تظاهروا بزي الناصحين. إياكن أن تخضعن بالقولِ فيطمعَ الذي في قلبه مرض، وقلن قولًا معروفًا، وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة، وأطعن الله ورسوله، أدنين الجلباب، واغضضن البصر، واحفظن الفروج، ولا تبدين ما يخفى من زينة، ولا تستثمرن طاقاتكن في غير ما أحل الله لكنَّ. فذلك هديُ السماء، وأدبُ اللهِ للنساء. معاشر الشباب احفظوا أوقاتكم، واستثمروا طاقاتكم فيما ينفعكم ويعود بالخير على أمتكم، فالفراغ يعقبه الانشغال، والقوة ستتحول يومًا إلى ضعف، ومن فرّط في حالِ القدرةِ والقوة ندم حين الضعفِ والشيخوخة. معاشر الأخوة المقيمين، صلوا أرحامكم وإن نأت الديارُ بكم فالرسالةُ اللطيفة والمكالمةُ الحانية تطيب في كل وقت. ولها وقعُها في المناسبات والأعياد المشروعة واستأنسوا بذكر الله وطاعتهِ على آلام الغربة (¬1)، واحفظوا الله في ¬

(¬1) فبذكر الله تطمئن القلوب

أنفسِكم يحفظكم في أهليكم، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرًا. الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر ولله الحمد. اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت اللهُ لا إله إلا أنت الأحدُ الصمدُ الذي لم يلد ولم يولد ولم يكون له كفوًا أحد أن تجبر كسرنا، وتقبلَ صيامنا وقيامنا، وسائرَ أعمالنا، اللهم اجعلنا من الفائزين، ومن عتقائك من النار، اللهم احفظنا بالإسلام ما أبقيتنا، وحبب إلينا الإيمانَ وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. لإله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين .. اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، واختم بالصالحات أعمالنا، وأدم شكرنا وذكرنا، اللهم يا فارج الكربات، ويا مجيب الدعوات أصلح أحوال أمتنا، ورد المسلمين إليك ردًّ جميلًا، اللهم حكِّم فيهم كتابك وأعلي سنةَ نبيك، ومكِّن للصالحين، واقمع أهلَ الزيغ والبدعِ والفساد يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، واغفر اللهم لنا ولوالدينا واشف مرضانا وارحم موتانا، وهب لنا من أزواجنا قرة عين، وعاف مبتلانا، واهدِ ضلالنا، وثبت على الحق هداتنا، اللهم أصلح ووفق حكامنا وأمراءنا ووزراءنا للخير، اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرَّ شرارهم يا رب العالمين .. سبحان ربك ربَّ العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العاملين، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.

المسلمون والإدالة عليهم

المسلمون والإدالة عليهم الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها الناس! أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا .. ومن يتق الله يكفرْ عنه سيئاته ويعظم له أجرًا. {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم} (¬1). عباد الله! كتب اللهُ أن الغلبة والعزةَ والنُصرةَ للمؤمنين، وأن الذلَّ والصغار والمهانةَ للكافرين. تجدون ذلك مبثوثًا في أكثر من آية في كتاب الله العزيز، الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ومن ذلك قولُه تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} (¬2)، وقوله تعالى: {وإن جندنا لهم الغالبون} (¬3)، ¬

(¬1) سورة الأنفال، آية: 29. (¬2) سورة المنافقون، آية: 8. (¬3) سورة الصافات، آية: 173.

وقوله: {والعاقبة للمتقين} (¬1). ومثل ذلك كثيرٌ في كتاب الله. وبعضُ الناس حين يقرأ هذه الآيات وأمثالها، وينظرُ في واقع المسلمين اليوم وما هم فيه من ذلَّةٍ وضعفٍ وتشرذمٍ وما يتمتع به عدوُّهم من قوةٍ وغلبةٍ وتمكينٍ، يظنُ أن هذه الوعود للمؤمنين في الآخرة دون الدنيا، ويظن كذلك أن النعيم في الدنيا لا يكونُ إلا للكفار والفجار، وأن حظ المؤمنين من ذلك في الدنيا قليلٌ، قد يعتقدُ أن العزة والنصرة في الدنيا تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين (¬2). وهذه ظنون كاذبة، وفيها تزكيةٌ للنفوس غيرُ عادلة وغفلةٌ عن شروط النصر والتمكين لهذه الأمة. وأين الذين يفهمون أن هذه الوعود للمؤمنين خاصةٌ بالآخرة دون الدنيا- أين هم من قوله تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} (¬3). فالوعدُ للحاضر والمستقبل- فضلًا عن الماضي- والنصرة في الحياة الدنيا وفي الآخرة ظاهرٌ لا يحتمل التأويل. فكيف يُجمع بين الوعدِ والواقع؟ وهل من تعارض بين واقع الأمة وما وُعدت به؟ وما الحكمُ من رواء الإدالة على أهل الإسلام في فتراتٍ من حياتهم؟ أيها المسلمون! ولا تعارض بين واقع الأمة المسلمة وما وعدت به، فوعدُ الله ¬

(¬1) سورة الأعراف، آية: 128. (¬2) إغاثة اللهفان 2/ 255. (¬3) سورة غافر، آية: 51.

حقٌّ، وسنته ثابتةٌ لا تتغير، فهو حسبُ المؤمنين وكافيهم {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} (¬1). وهو يدافع عن المؤمنين بنص القرآن: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور} (¬2). {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} (¬3). ولكن السؤال المهم: هل تحقق الشرطُ، وتخلف الوعدُ؟ كلا والعالمون يقولون: إن هذه الآياتِ وهذه الوعود إنما هي لأهلِ الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمانُ صار لعدوهم عليهم من السبيل بما تركوا من طاعةِ الله. وكفايتهُ لهم إنما هي بحسب اتباعِهم لرسوله صلى الله عليه وسلم، وانقيادهم له، وطاعتهم له، فما نقص من الإيمان عاد بنُقصان ذلك كلِّه، وكذلك المدافعة مشروطةٌ بالإيمان، فإذا ضعف الدفعُ عنه فهو من نقصِ إيمانه. فيا قارئ القرآن! تأمل هذه الضماناتِ لعدم الهوان، أو الدعوةِ للسلم في آيتين من كتاب الله، هما: ولا تهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} (¬4). وقوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وانتم الأعلون الله معكم ولن يتركم أعمالكم} (¬5). فهذا الضمانُ إنما هو بإيمانهم وأعمالهم، التي هي جند من جنود الله يحفظهم بها (¬6). ¬

(¬1) سورة الأنفال، آية: 64. (¬2) سورة الحج، آية: 38. (¬3) سورة النساء، آية: 141. (¬4) سورة آل عمران، آية: 139. (¬5) سورة محمد، آية: 35. (¬6) ابن القيم، إغاثة اللهفان 2/ 264.

وفي حالة غيابها أو ضعفها تسوء أحوالُهم ويُسلط عليهم أعداؤهم. إخوةَ الإسلام! من الخطأ ومعوقات النصر أن يحسن العبدُ ظنه بنفسه وبدينه- مع ما هو فيه من مخالفاتٍ وتقصير وضعفٍ وهوى، وحب للدنيا- ثم تراه بعد ذلك يتحسر ويقول: لماذا يُذل المسلمون، ويُديل الله عليهم الكافرين؟ ! ولماذا يتفرق المسلمون، ويجتمعُ عليهم الكفرة والمنافقون؟ ! وفي هذا المقام يقول ابنُ القيم يرحمه الله موضحُا جوانب من تقصير العبدِ في دينه: فإن العبدَ كثيرًا ما يترك واجباتٍ لا يعلمُ بها، ولا بوجوبها فيكون مقصرًا في العلم، وكثيرًا ما يتركها بعد العلمِ بوجوبها، إما كسلًا أو تهاونًا، وإما لنوع تأويلٍ باطلٍ، أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغلٌ بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك، فواجبات القلوب أشدُّ وجوبًا من واجبات الأبدان وآكدُ منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثيرٍ من الناس، بل هي من باب الفضائل والمستحبات .. ثم يضرب ابنُ القيم نموذجًا لهذا التقصير في الواجبات فيقول: ما أكثرَ من يتعبدُ الله يترك ما أوجب عليه، فيتخلى وينقطعُ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قدرته عليه، ويزعم أنه متقربٌ إلى الله تعالى بذلك مجتمعٌ على ربه تبارك وتعالى، تارك ما لا يعنيه، فهذا من أمقتِ الخلقِ إلى الله، وأبغضِهم إليه، ومع ظنه أنه قائم بحقائق الإيمان وشرائع الإسلام وأنه من خواص أوليائه وحزبه (¬1). عباد الله! إذا كان ما ذكره ابنُ القيم نموذجًا لتقصير الخيرين ومن يزعمون أنهم أولياءُ الله .. فكيف وفي المسلمين من يستسهل تركَ الواجباتِ المهمةِ في الدين .. وفيهم من لا يتورع عن إتيان المحرمات صباحًا ومساءً، وفيهم من لا يهمه شأنُ ¬

(¬1) إغاثة اللهفان 2/ 260، 261.

الإسلام، ولا يعنيه أمرُ المسلمين عزوا أم ذلوا مُكِّن لهم في الأرض أم مكن لغيرهم .. ؟ وفيهم وفيهم .. بل وكيف الحال وفي المسلمين من يدل الكفار على العورات .. أو يتولى بفكره وقلمه هدمَ بناءِ الإسلام، أو يشكك في أصوله ومعتقدات أبنائه، ويدعو لتمجيد عقائد الكفار، ويروج لأفكارهم في بلاد المسلمين؟ أيها المؤمنون! كيف يعز المسلمون ويُنصروا على عدوهم والخلافاتُ والبغضاء والشحناء تعلو رايتها بينهم، وكلُّ حزب بما لديهم فرحون، ولربما بلغت شدة الخصومة بينهم حدًّا رأى الخصمُ فيها محاسنَ خصمِه مساوئ وإيجابياته سلبيات، وكأن الشاعر عناهم بقول: نظروا بعين عداوةٍ ولو أنها ... عينُ الرضا لا تستحسنوا ما استقبحوا إنها راياتُ الهوى .. والتعصبِ، والظلم ينصبها الشيطانُ ويُخيَّلُ لصاحبها أنه محقُّ وغيرُه مبطل، وهو المصيبُ وغيرُه مخطئ .. وما ذاك من العدل الذي أُمر به المسلمون: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} (¬1)، {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} (¬2). بالعدل قامت السماواتُ والأرض، ولأجله أرسل الرسل وأنزلت الكتب .. ومصيبةٌ أن يتخلى أهلُ العدلِ عن عدلهم أو عن شيء منه .. ويتشبث به ولو بنوع منه أعداؤهم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب ¬

(¬1) سورة الأنعام، آية: 152. (¬2) سورة النجم، آية: 32.

والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز} (¬1). ¬

(¬1) سورة الحديد، آية: 25.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله ربِّ العالمين يعز من يشاء ويذل من يشاء وهو العزيز الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له مالكُ الملك يؤتيه من يشاء وينزعه عمن يشاء وهو الحكيمُ الخبير. وأشهد أن محمدًا عبدهُ ورسولهُ عاش وأصحابهُ فترة من حياتهم مشردين مطاردين .. ثم مكن الله لهم وأذلَّ عدوَّهم والعاقبة للتقوى. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر من أرسلهم الله رحمةً للعالمين. إخوةَ الإسلام! في فترات ضعفِ الأمةِ المسلمة حريٌّ بها أن تراجعَ نفسَها وأن تبحث عن أسباب الضعفِ، وتسعى إلى إصلاح الأخطاء .. وعلى كل فردٍ مسلمٍ أن يراجعَ إيمانَه بالله وأنبيائِه وكتبه وحقائقِ اليوم الآخر، وأن يصححوا ما فسد من أخلاقهم أو اعوج من سلوكياتهم. وحريٌّ بالمسلمِ أن يتهم نفسَه بالتقصير في واجبات الله وحقوقه، وألا يزكيها ويغترَّ بالعملِ القليل يؤديه .. وإذا قال قائلنا في هذا الزمان: نحنُ ونحن وفعلنا وفعلنا .. وكأننا بذلك نستكثرُ ما عملنا. فأسلافُنا- الذين هم خيرٌ منا- كانوا مع قوتهم في الحق وجهادهم في سبيل الله، ومجاهدةِ أنفسهم عن مزالق الردى كانوا مع ذلك يتهمون أنفسهم ويشعرون بالتقصير في ذات الله، ويقول قائلهم: نشدتك الله يا حذيفة هل عدني رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين؟ وإذا قال هذا أحد العشرة المبشرين بالجنة خائفًا وجلًا، فهل يأمنُ أمثالنا؟

عبادَ الله! وفي فتراتِ ضعفِ الأمةِ المسلمة يتميز الصفُّ المسلمُ، وينكشفُ من اندس بين المسلمين وليس منهم، ومن كان يستطيع الانضمامَ إليهم في فتراتِ قوتهم، ويعجز عن مواصلةِ السير معهم في حال ضعفِهم وغلبة عدوهم عليهم. وقد قصَّ اللهُ علينا في كتابه نبأ طائفةٍ من الناس يتربصون بالمسلمين الدوائر، وهم مع من غلب، فقال تعالى فاضحًا المنافقين: {الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب اقلوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا} (¬1). وإذا استُثني المنافقون ومن في قلوبهم مرضٌ، فإن مرحلةَ الضعفِ حَرِيَّةٌ بأن تزيدَ في تماسكِ الصفِ المسلمِ، وتأليفِ قلوبهم، وحَرِيَّةٌ بأن تدعوهم إلى الانكسار والتضرع لله في رفع النازلةِ وكشفِ الغمة، لا أن تقسوَ قلوبُهم، أو ما يستمرءوا ما هم فيه من ذلةٍ ومهانة، وهذه الأمةُ كغيرها من الأمم تُمتحن بالسراء والضراء، ويذكرون بمن أخذ من الأممِ ليعتبروا بها، ويقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون* فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون* فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} (¬2). ويذكرنا القرآنُ بقيمةِ التوبة والذكرى في حالِ الفتنِ المتلاحقة يقول تعالى مُنكرًا على فئةٍ من الناس في قلوبهم مرض: {أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة ¬

(¬1) سورة النساء، آية: 141. (¬2) سورة الأنعام، الآيات: 42 - 44.

أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون} (¬1). ويُذكرنا بقوم آخرين لا تزيدهم الرحمةُ والنعمةُ إلا طغيانًا وإعراضًا، ولا هم في حال الشدةِ والعذابِ لربهم يستكينون ويتضرعون، ويقول تعالى عن قريش في حال كفرها وعنادها: {ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون* ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} (¬2). عبادَ الله! إذا استوجب على المسلمين مراجعةُ أنفسهم، ومحاسبتُها واتهامُها، واستصلاحُها، والتضرعُ لله، والتوبةُ لله- في كل الأحوال فالحاجة لذلك في حال الشدائدِ والمحن أكبر-، وإذا كانت هذه من دروس المحن وحكمتها، فثمة حِكمٌ في ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوِّهم لهم وقهرهم وكسرهم أحيانًا، لا يعلمها على التفصيل إلا الله، ومما ذكره العالمون منها: استخراجُ عبوديَتهم وذلِّهم لله وانكسارهم له وافتقارهم إليه، وسؤاله نصرَهم على أعدائهم، ولو كانوا دائمًا منصورين غالبين لبطروا وأشِروا ولو كانوا دائمًا مقهورين مغلوبين لما قامت للدين قائمة. ومنها أنه تعالى يُحبُّ من عباده تكميل عبوديتهم على السراءِ والضراءِ وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتِهم والإدالة عليهم، فتلك المحنُ والبلايا شرطٌ في حصول الكمالِ الإنساني والاستقامةِ المطلوبة منه، ووجودُ الملزومِ بدون لازمه ممتنع. ومنها أن امتحانَهم بإدالة عدوهم يُمحصهم ويُخلصهم ويهذبهم كما قال تعالى فيما حصل للمسلمين يوم أحد: {إن يمسسك قرح فقد مس القوم قرح مثله ¬

(¬1) سورة التوبة، آية: 126. (¬2) سورة المؤمنون، الآيتان: 75، 76.

وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين* وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين* أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} (¬1). عبادَ الله! ألا إن الصبرَ مفتاحُ الفرج، والثباتُ على الحق يعقبه الظفر .. واستمرارُ المجاهدةِ، وحملُ دين الله، وتبليغه لا يبوء صاحبُها بالخسارة، فإما أن ينصره الله في الدنيا وإما أن يُوفي أجره يومَ القدوم على الله. احرصوا على تغيير ما بأنفسكم يُغَيِّر اللهُ أحوالكم، فاللهُ لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وثقوا أن النصرَ قرينُ الإيمان، وشرطٌ للمؤمنين {وكان حقًا علينا نصر المؤمنين}. وبغير هدى الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم سيظل المسلمون يتنقلون في البيداء المهلكة حتى يقيض الله لدينه ناصرًا. اللهم انصر دينك. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيات: 140 - 142.

من معاني الإسراء والمعراج

من معاني الإسراء والمعراج (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم على الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (¬2). {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالًا كثيرًا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا} (¬3). أيها المسلمون! ما اشتد كربٌ إلا وجاء الفرج بعده من الله (¬4)، وفي سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم دروسٌ معلّمة للأمة، ففي حدود السنةِ العاشرة للبعثة بلغ الكربُ والهمُّ بالرسول صلى الله عليه وسلم مبلغَه. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 4/ 7/ 1417 هـ. (¬2) سورة الحشر، آية: 18. (¬3) سورة النساء، آية: 1. (¬4) ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعًا وعند الله منها الفرج ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكنت أظنها لا تفرج

فمكةُ تضيق بدعوته، وقريش تتابعه حتى تخرجَه من أرضه وأهلهِ وعشيرته، وأهل الطائفِ يغرون به السفهاءَ، ويستهزئ به الكبراءُ، تُدمى عقباه الشريفتان ويزيدُ من إيلامهِ أن الناسَ يرفضون هديَ السماء، فيخرجُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مهمومًا على وجهه ولم يستفق إلا بقرن الثعالب وما عساه أن يَجدَ بمكة بعد أن تُوفيت زوجه أمُّ المؤمنين خديجةُ رضي الله عنها نعم الصاحبُ والمؤنس وزيرة الصدق في الإسلام يسكن إليها عند الشدائدُ كما توفي عمُّه أبو طالب الذي سخره اللهُ لحمايته رغم كفره وبقائه حتى الممات على دين قومِه، ولا غرو أن يهتم الرسولُ صلى الله عليه وسلم ويحزن لموتِ هذين الركنين .. ولا غرابةَ أن تشتدَ قريشٌ في أذاها بعد انفراده عنهما .. ولكن المحن النازلةَ على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لا تَدلُّ بحالٍ عن تخلي الله عنه- وهل يتَخَلى اللهُ عن أوليائِه وقت الشدائد-؟ وإنما هي السنةُ الربانيةُ تمضي على الأنبياء ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين .. تبدأ المحنُ ثم تشتد ويعلمُ الله الصادقين من الكاذبين، ثم تكون العاقبةُ للمتقينَ. عبادَ الله! والمتأمل في أحداث السيرةِ النبوية يرى كيف يكون الفرجُ بعد الشدة، وكيف يكون النصرُ بعد الصبر، وفي حادثةِ الإسراء والمعراج وقفاتٌ تستحق التأملَ والاعتبار .. وما أعظمَ السيرةَ حين تُرى بهذا المنظار أجل إن حادثة الإسراء والمعراج وقعت لتؤكد أن المستقبل لهذا الدينِ المطاردِ في السهولِ والوهاد، وأن الإمامةَ العظمى-وعلى سائر الأنبياء- لمحمد صلى الله عليه وسلم، وإن بلغ به الأذى والسخريةُ كلَّ مبلغ. لقد أبانت حادثةُ الإسراءِ والمعراج أن الأرضَ إذا ضاقت في وقتٍ فإن السماءَ

تفتح أبوابَها لتستقبله، ولئن أذاه بعض أهلِ الأرضِ في وقتٍ فإن أهل السماء يقفون له مستقبيلن ومرحبين (¬1). أيها المسلمون! لقد كانت حادثةُ الإسراءِ والمعراجِ حدثًا عجيبًا في هذا الكون، مجّد اللهُ به نفسَه، وعظّمَ شأنَه، لقدرته على ما يقدر عليه أحدٌ سواه، فقال جلَّ من قائل عليمًا: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} (¬2). وكانت الحادثةُ تكريمًا وإيناسًا وتسريةً للنبي صلى الله عليه وسلم إذ أسري بجسده وروحه في ليلةٍ واحدةٍ من مكة بأرضِ الحجاز إلى بيت المقدسِ بالشام، وهيأ ذلك الجسدَ المادي حتى صار قابلًا لحياةِ الملكوتِ، وَرَفع له الحجبَ، ورقى به إلى الملأ الأعلى، وسار به من سماءٍ إلى سماء، وأري من آيات الله الكبرى ما أُري .. دل ذلك على التكريم من جانب والإيناسِ والتسريةِ من جانب آخر. إن من يتأملُ حديثَ القرآنِ عن هذه الحادثة يجدُ أن أعظمَ وأوجزَ ما ورد من تعليل لها هو قولهُ تعالى: {لنريه من آياتنا} (¬3). وقوله: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} (¬4). وهذه سنة اللهِ في الأنبياء-عليهم السلام- {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} (¬5). ¬

(¬1) السيرة في ضوء المصادر الأصلية 240. (¬2) سورة الإسراء، آية: 1. (¬3) سورة الإسراء، آية: 1. (¬4) سورة النجم، آية: 18. (¬5) سورة الأنعام، 75.

وقال لموسى- عليه السلام-: {لنريك من آياتنا الكبرى} (¬1). فإذا أبصر الأنبياءُ عليهم السلام- من آيات ربهم- ما لم يبصره غيرُهم، حصل لهم من علم اليقين ما لم يحصل لغيرهم، وتحملوا في ذات الله ما لا يتحملُه غيرُهم، وكان ذلك عونًا للأمة على تصديقهم والإيمانِ برسالاتِهم، والانقيادِ لدعوتهم، إنها رحلةٌ عجيبةٌ حقًّا لكنها تليقُ بمقامِ الأنبياء-عليهم السلام- وهاكم شيئًا من عجائبها لقد أُسري به يقظةً لا منامًا وبروحِه وجسدِه كما قرر العلماء. من مكة إلى بيت المقدس راكبًا البُراق، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابَة عند الباب، ودخل فصلى في قبلته تحيةَ المسجد ركعتين، ثم أتى المعراج وهو كالسُّلمِ ذو درج رقي فيه، فصعد إلى السماء الدنيا، ثم إلى بقية السماواتِ السبع فتلقاه من كلِّ سماءٍ مقربوها، وسلم عليه الأنبياءُ الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مرَّ بموسى الكليم في السادسة وإبراهيم الخليلِ في السابعة، ثم جاوز منزلتَهما صلى الله عليه وسلم وعليهما على سائرِ الأنبياء حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام أي أقلامَ القِدر بما هو كائن، ورأى سدرةَ المنتهى، وغشيَها من أمرِ اللهِ تعالى عظمةً عظيمة من فَراشٍ من ذهبٍ وألوانٍ متعددةٍ وغشيتها الملائكةُ، ورأى هناك جبريلَ على صورتِه، له ستمائةُ جناح ورأى رفرفًا أخضرَ قد سدَّ الأفق، ورأى البيتَ المعمور- وهو الكعبة السماويةُ يدخله كلَّ يوم سبعون ألفًا من الملائكة يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، ورأى الجنةَ والنار، وفرض اللهُ عليه هناك الصلوات خمسين، ثم خففها إلى خمس رحمةً منه ولطفًا على عباده وفي هذا اعتناءٌ عظيم بشرف الصلاة وعظمتها .. ثم هبط إلى بيتِ المقدس وهبطَ معه الأنبياءُ فصلى بهم لما حانت الصلاة، ويحتمل أنها صلاة الصبح- كما ساقه ابن كثير- وأظهر له من شرفه ¬

(¬1) سورة طه، آية: 23.

وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة .. ثم خرج من بيت المقدسِ وركب البراق وعاد إلى مكة بغلس (¬1). أيها المسلمون! هذا جزءٌ من عظمةِ حادثة الإسراء والمعراج التي تضافرت نصوص القرآنِ والسنةِ على ذكرها، وكما أن فيها كرامةً للنبي صلى الله عليه وسلم ففيها كرامةٌ لأمته أمةِ الإسلام، فالقيادةُ ينبغي أن تنتقلَ إليها حينما تخلت الأمم السالفة عن قيادتها، والمقدساتُ الإسلامية ينبغي أن تكون مسئولةً عنها حينما قصرت الأممُ الأخرى في رعايتها .. والمتأمل في سورة الإسراءِ يرى أن الله ذكر قصةَ الإسراءِ في آيةٍ واحدةٍ فقط ثم أخذ في ذكر فضائح اليهود وجرائمهم، ثم نبههم بأن هذا القرآنَ يهدي للتي هي أقوم، وربما ظنَّ بعضُ الناس أن الآيات ليس بينهما ترابط، والأمرُ ليس لذلك، فإن الله تعالى يُشير بهذا الأسلوب إلى أن الإسراءَ إنما وقع إلى بيت المقدسِ لأن اليهودَ سيعزلون عن منصب قيادةِ الأمةِ الإنسانية لما ارتكبوا من الجرائم التي لم يبق معها مجالٌ لبقائهم على هذا المنصب، وأن اللهَ سينقلُ هذا المنصب إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، ويجمع له مركزي الدعوة الإبراهيمية كليهما، فقد آن الأوانُ أن تنتقلَ القيادةُ من أمة إلى أمةٍ، من أمةٍ ملأت تاريخها بالغدر والخيانةِ والإثم والعدوان، إلى أمةٍ تتدفق بالبرِّ والخيرات، ولا يزال رسولُها يتمتع بوحي القرآنِ الذي يهدي للتي هي أقوم (¬2). أيها المسلمون! وليس بين اللهِ وبين أحدٍ من خلقِه نسبٌ، وأكرمُ الخلق عند الله أتقاهم، وحينما تتخلى أمةٌ-أي أمةٍ- عن رسالتها ومنهج ربَّها يُذِلُّها الله ويستبدلُها ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 5/ 40. (¬2) المباركفوري، الرحيق المختوم ص 160.

بغيرها- ويمتحنُ بالقيادةِ غيرَها ويظلُّ ممكنًا لها ما لم تنحرفْ عن المنهجِ أو تضعفْ في حمل الأمانة .. وإذا كان المسلمون بالأمس تولوا قيادةَ العالم بأسره، وكانوا الرَعاةَ والحماةَ للمقدسات فذلك لصدقهم مع ربهم وطاعتهم لنبيهم، وجدِّهم وجهادِهم في سبيل معتقداتِهم، وحين ضعفوا وتفرقوا، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، سلط اللهُ عليهم من يسومهم سوءَ العذاب، فشردوا في أوطانهم، وسيطر الغاصبون المعتدون على مقدساتهم .. ولن يزالوا كذلك حتى يفيئوا إلى دينهم، ويستمسكوا بكتاب ربِّهم وصدق الله القائل: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا * وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابًا أليما} (¬1). نفعني الله وإياكم بما نقول ونسمع. ¬

(¬1) سورة الإسراء، آيتان: 10، 9.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله وكفى، والصلاةُ والسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد أخوة الإيمان فكثيرةٌ هي المعاني التي ينبغي أن تعلمها الأمةُ المسلمةُ من حادث الإسراء والمعراج. ومن هذه المعاني أن الإسلام الذي كلفت به هذه الأمةُ هو دينُ الأنبياء-عليهم السلام-قبلها، بيانًا لقوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} (¬1)، وقوله: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} (¬2). فقد ربطت هذه الرحلة المباركةُ بين المسجدِ الحرامِ بمكة، حيثُ شهد دعوةَ محمد صلى الله عليه وسلم، ورفع قواعدَه إبراهيمُ وإسماعيلُ عليهما السلام وبين المسجدِ الأقصى الذي شهد دعوةَ كثير من الأنبياء-عيسى ويحيى وزكريا وغيرهم- عليهم السلام، وكان قبلةَ محمدٍ الأولى. فالإسلامُ هو الدين الذي يَضمُّ دعوةَ الرسلِ جميعًا، والأنبياء عليهم السلام إخوةٌ وإن تفاضلوا، ولذا صلى بهم الرسول صلى الله عليه وسلم جميعًا (¬3). أيها المسلمون! ينبغي أن تعلمَ الأمةُ من حادثةِ الإسراء والمعراج قيمة الذكرِ وأهميتَه، وأن تعيَ رسالةَ الخليلِ عليه السلامُ إليها وتعملَ بها، والرسولُ صلى الله عليه وسلم هو ناقلُ الرسالةِ ومبلغها، وفيها يقول: لقيتُ ليلَة أسري بي إبراهيم عليه السلام، فقال: يا محمد: ¬

(¬1) سورة آل عمران، آية: 19. (¬2) سورة الشورى، آية: 13. (¬3) أحاديث الإسراء والمعراج دراسة توثيقية، د. رفعت فوزي ص 84.

أقْرِئ أمتَك مني السلام، وأخبرهم أن الجنةَ طيبةُ التربةِ، عذبةُ الماء، وأنها قيعانٌ، وأن غراسَها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. فأين الزارعون، وأين المستثمرون لهذه الوصية العظمى؟ عبادَ الله! حريٌّ بالمسلمين قاطبةً أن يتذكروا قدرَ الصلاةِ ومنزلتَها عند الله في كلِّ آن، وكلما قرءوا أو سمعوا عن حادثةِ الإسراء والمعراج، أجل لقد فُرضتِ الصلاةُ ليلةَ الإسراءِ والمعراج أمرًا مباشرًا من الله تعالى وهو في السماء، أما بقية أوامرِ الإسلام فقد نزل بها جبريلُ عليه السلام على محمد عليه الصلاة والسلام وهو في الأرض، وفي ذلك دلالةٌ على أهميةِ هذا الركنِ من أركان الإسلام- بعد كلمةِ الإخلاص- أن الصلاة رحلةُ الأرواحِ إلى اللهِ في كل يوم خمس مراتٍ، وليست مجردَ حركاتٍ لا لبَّ فيها ولا خشوع .. إنها فواصلَ في رحلة العمرِ يقف بها العبدُ بين يدي اللهِ معلنًا عن عبوديتهِ بلسانه وقلبهِ وعملهِ ((إياك نعبد وإياك نستعين)) فإذا سها العبدُ عن هذه العبوديةِ في وقت من الأوقات، كانت الصلاةُ وسيلتَه للنظافة من هذه الأدرانِ التي علقت به (¬1). ألا ما أسعَد الذين يستشعرون هذه المعاني في الصلاة فيؤدونها في أوقاتِها، محافظين على أركانها وواجباتِها وسننها-وويلٌ لمن فرّط في هذه الصلاةِ وَأضاعها وهي فريضةُ اللهِ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأمتهِ وهو في السماء، وهي آخرُ وصيةٍ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم لأمته وهو يودع الدنيا ((الصلاة الصلاةَ وما ملك أيمانُكم)). معاشرَ المسلمين! لابد- رابعًا- أن تعيَ الأمةُ المسلمةُ قدرَ المعجزاتِ الربانية، وتدركَ أن في دينها قدرًا من المغيبات يستلزم الإيمانَ والتسليم، ويقفُ أبو بكرٍ ¬

(¬1) من معين السيرة، صالح الشامي ص 117.

الصديقُ في طليعةِ الأمةِ حاملًا مشعلَ الإيمان دون ترددٍ أو ارتياب، ضاربًا أروعَ الأمثلةِ في التصديق واليقين فحين بلغه خبرُ الإسراءِ والمعراج لم يمنعه من التصديقِ إلا التوثق من صحة نسبته للرسولِ صلى الله عليه وسلم ((والله لئن كان قاله لقد صدق، وما يعجبكم من ذلك؟ فو الله إنه ليخبرني أن الخبرَ يأتيه من السماءِ إلى الأرض في ساعةٍ من ليلٍ أو نهار، فهذا أبعد مما تعجبون منه))، ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألُه عن وصفِه، وكلما ذكر شيئًا قال: صدقت، أشهد أنك رسولُ الله، فقال صلى الله عليه وسلم وأنت يا أبا بكر الصديق، فيومئذٍ سماه الصديق (¬1). إنه الصديقُ لم يسبق الأمة بكثير صومٍ ولا صلاة، ولكن بشيءٍ وقر في قلبه، فأثمرَ الإيمان واليقين- واستحق به فضلَ الصحبةِ والقرب من النبيِّ الكريم، عرف ذلك له المسلمون، وأفصح عنها الرسولُ صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا)). ألا ما أحوجنا إلى إيمانٍ كإيمان أبي بكر يحمينا به اللهُ من الشكوكِ والارتياب ويدفعنا إلى عمل الصالحات بأنفس راضيةٍ مطمئنة. وحين نذكر هذا الموقف الكريم للصديق فلا ينبغي أن يغيب عنا موقفُ الملأ من قريش، حين اتخذت من حادثةِ الإسراء والمعراج فرصةً للسخريةِ والاستهزاء، والسعي لصدِّ الناسِ وفتنتهم عن دين الله، وهو نموذج يتكرر مع كلِّ مستكبر أثيم، يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يصر مستكبرًا كأن لم يسمَعها .. وإذا طويت صفحةُ المستهزئين وجعل اللهُ العاقبةَ للمتقين فينبغي أن يكون ذلك تسريةً وتسليةً للمؤمنينَ في كل زمان ومكان، فلا يضيقوا ذرعًا بالمستهزئين الساخرين ولا يزيدهم ذلك إلا ¬

(¬1) ابن هشام 1/ 399، والحاكم في مستدركه 3/ 62، معين السيرة ص 111.

ثباتًا على الحقِّ حتى يأتيهم اليقين. عبادَ الله .. تلك وقفاتٌ ومعانٍ عاجلةٌ من النظرِ في حادثةِ الإسراء والمعراج، وذلك ومثلهُ خيرٌ وأنفعُ من التعلقِ بأمورٍ بدعيةٍ ما أنزل الله بها من سلطان، إذ يعتقد بعضُ الناسِ أفضليةً لرجب ليست لسواه، لوقوع حادثةِ الإسراء والمعراج فيه- ولم يثبت ذلك بطريق صحيح، ولو ثبت لما كان هذا مبررًا لتخصيصه بأنواع من العبادات إذا لم يثبت شيء من ذلك عن رسولِ الهدى صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام وهم بمواطنِ الخير أدرى، ولربهم منا أحبُّ وأتقى، بل جاء البلاغُ محذرًا عن الابتداع في دين الله ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)). ألا فاستمسكوا معاشرَ المسلمين بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنةِ الخلفاءِ الراشدين المهديين من بعده، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل محدثةٍ في دين الله بدعة وكل بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار. عصمني الله وإياكم من الابتداع، وهدانا للاتباع، وألهمنا رشدنا، ونفعنا بما علمنا .. هذا وصلوا ..

الواقع المر

الواقع المرُّ (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدهُ ورسولُه، اللهم صلِّ وسلم عليه، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} (¬2). {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالا كثيرًا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا} (¬3). إخوة الإسلام! في مسارب الحياةِ وأطوارها المختلفة ينتقل المرء من امتحانٍ إلى آخر، ويتجاوز محنةً ثم تعترضه أخرى، ويزول عنه همٌّ ثم يواجه همًّا آخر .. وهكذا .. يبتلى الناسُ في السراءِ والضراء فتنة، ويُعرضون للخير والشر تارة وتارة .. ولا يدري المرءُ آلخيرُ في السراء التي وهبت له، أم في الضراء التي قدرها الله عليه. وهذه الهمومُ والنوازلُ الحاصلةُ للإنسان في هذه الحياة جزءٌ من الكبد الذي قدر ¬

(¬1) ألقيت هذا الخطبة يوم الجمعة الموافق 18/ 2/ 1419 هـ. (¬2) سورة التوبة، آية: 119. (¬3) سورة النساء، آية: 1.

الله خَلْقَ الإنسانِ فيه بقوله: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} (¬1). وهو منسجمٌ مع طبيعة هذه الحياة المتاع والموصوفة باللهو واللعب والتكاثرِ والمفاخرة، والمرادُ الامتحانُ، وبروزُ المجاهدة، ولتظهر فروقُ الصبر والمصابرة والمرابطةِ والتقوى لله من خلقه وإن كان غنيًّا بذاته عنهم، غير مفتقر إلى أعمالهم الصالحة .. ولا ينقصُ من ملكه شيء لو كانوا كلُّهم على أفجر قلب رجلٍ منهم. عبادَ الله! مع ما يمر به الإنسانُ من أطوار وأحوال فمن رحمةِ الله بخلقه أن الشدةَ- وإن وقعت- لا تدوم فالعسرُ يعقبه اليسر- ولن يغلبَ عسرٌ يسرين كما قال تعالى {فإن مع العسر يسرًا * إن مع العسر يسرًا} (¬2). وعُقدَةُ الذنبِ لا تلازم المسلم وتعوقه عن المسيرة في الخير، ومهما ظلم الإنسان نفسَه، ثم التفت إلى الله مستغفرًا تائبًا غفر الله له {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} (¬3). ومهما أسرف المرءُ على نفسهِ بالمعاصي فلا مجال في شريعة الإسلام للإحباط والقنوط .. بل يُفتح بابُ الأمل والرجاء على مصراعيه ويُدعى العباد إلى الإنابة لخالقهم والإسلامِ له. {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له} الآيات (¬4). عبادَ الله إذا ضاقت أرضٌ بشخصٍ أو أشخاص لضيق عيشهم الدنيوي فيها .. أو ¬

(¬1) سورة البلد، آية: 4. (¬2) سورة الشرح، الآيتان: 6، 5. (¬3) سورة النساء، آية: 110. (¬4) سورة الزمر، الآيتان: 53، 54.

لكثرةِ الفتنِ والمضايقات الواقعة لهم في دينهم، ففي أرض الله الواسعة الأخرى متسعٌ لتغير الحال وسعةِ الرزق وهدوء البال .. كذا وجه القرآنُ وهو يهدي للتي هي أقوم، ويقول تعالى: {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما} (¬1). إن هذه الآية الكريمة نزلت أول ما نزلت تحكي واقعَ العصبة الأولى في الإسلام- أولئك الذين ضيق عليهم المشركون في دينهم وحاصروهم في عيشهم .. فهاجر من هاجر منهم وبقي صابرًا محتسبًا من بقي منهم .. حتى أذن الله بالفرجِ وانتصر المسلمون، وشعّت أنوار الإسلامِ في كلِّ مكان ترى أيَّ شعورٍ كان يُخامر أفئدةَ المسلمين الذين هاجروا إلى أرض الحبشة فرارًا بدينهم، وكيف كان تفكيرُهم بمستقبلِ الإسلام وهم في أوج ظروف المحنة للإسلام والمسلمين؟ وتجيب الرواياتُ التاريخيةُ التي تحكي حالهم وحوارَهم وهم في أرض الغربة عن كلِّ معاني الثباتِ والثقةِ بالنصرِ إن عاجلًا أو آجلًا وقد كان .. وأكرمهم اللهُ برؤية الانتصار للدين الحقِّ وأفولِ نجمِ الباطل وهلاكِ المبطلين. وتبلغ العظمةُ والثقةُ بنصرة الدين ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم يذهب الطائف ملتمسًا النصرة من أهلها ومؤملًا استجابتها للدعوة التي أنكرها جيرانُهم .. فيكون الصدود والإعراض .. بل والمطاردة إلى حدٍّ أدميت عقبا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم .. حتى إذا عاد وكان قريبًا من مكة أرسل إليه ملكُ الجبال وعَرض عليه أن يُطبق على المكذبين المعاندين الأخشبين .. فلا يبقى لهم أثر فتكون الإجابة الواثقةُ بنصر الله من منظور متفائل يرى أسبابَ النصر من خلال سُحب الإيذاء وأنواع البلاء .. ويترقب ¬

(¬1) سورة النساء، آية: 100.

المستقبلَ والمبشر عن قريب إذ يقول: بل أرجو أن يخرج اللهُ من أصلابهم من يعبد اللهَ لا يشرك به شيئًا وقد كان .. وأكرم اللهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم والمسلمين برؤية جنود أفذاذٍ .. وقادةٍ أبطال أخرجهم اللهُ من حيث لم يحتسبوا هم .. أو يحتسب آباؤهم .. أو يحتسب المسلمون خروجهم بعد فترةٍ وجيزة من الصراعِ الدامِي والعداوة والبغضاء. أجل لقد أخرج اللهُ خالد بنَ الوليد وعكرمة بن أبي جهل، وعمرو بن العاص من أصلاب آباءٍ طالما فتنوا المسلمين وآذوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وماتوا وهم يحملون رايةَ الحربِ .. ويؤلبون الناسَ من حولهم على المضي قدمًا على دين الآباء والتمسك بشعارات الجاهلية، بل لقد شاركهم هؤلاء الأبناءُ مهمتهم حينًا من الدهر .. وأدركت السعادةُ بعضَهم فشملت الآباءَ مع الأبناء .. وكان من تباشير النصر للإسلام وفَرَحِ المسلمين أن ينخرط أبو سفيان (مثلًا) وابنُه معاويةُ في سلك قافلة المسلمين .. بعد حينٍ من الدهرِ تسلموا فيها راية المجابهة للمسلمين .. إنه المستقبلُ المُغيَّبُ يُخلف الظنون .. ويبدد الأوهام ويقضي على السلبية والإحباط .. وهو وعدٌ قائمٌ متجددٌ للمسلمين في كل زمان ومكان بشرط أن يصدقوا مع ربِّهم ويخلصوا في جهادهم .. لا أن يلزموا المسكنةَ والضعف ويتعلقوا بالمستقبل ويُمنُّوا أنفسهم بمستقبل زاهرٍ لم يعملوا له .. ولم يجاهدوا لتحقيقه. إن اللحظاتِ الحاضرة قد تأسرُ الإنسان، وقد تحجبه عن مجردِ التفكير في واقعٍ مستقبليٍ أحسنَ للإسلام والمسلمين وهو لا يرى في الأفق إلا مزيدًا من الفرقةِ والشقاق والضعفِ والخلافِ، وحرب الإبادةِ الفردية والجماعية توجه من اليهود أو النصارى أو من أهل النفاقِ والعلمنة لأهلِ الإسلام.

وبقدر ما يتألم المسلمُ لهذا الواقعِ المستهدفِ للمسلمين فعليه أن لا ييأس وأن لا يقعد عن الجهاد والدعوة فالحقُّ أصيلٌ في هذا الكون- والله أغيرُ لدينه، وأرحمُ بخلقه عمومًا .. والمسلمين منهم خصوصًا .. وأمره بين الكاف والنون .. ولكنه حكيم عليم خبير .. ومن حكمتِه وعلمه تقديرُ النصر في وقتِه، ورفعُ أو استِدامةُ المحنِ على خلقه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين* إنهم هم لمنصورون* وإن جندنا لهم الغالبون} (¬1). ¬

(¬1) سورة الصافات، الآيات: 171 - 173.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله ربِّ العالمين قدَّر الأرزاقَ والآجال، وكتب على ابن آدم من الفقر والغنى والسعادة والشقاء، وكلٌّ ميسرٌ لما خلق له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلُّ شيء في هذا الكون بأمره وتقديره، وما يعزب عنه مثقال ذرةٍ في الأرضِ ولا في السماء، يُديل على المسلمين تارة ويدليهم على غيرهم أخرى، وربك يخلق ما يشاء ويختار، ويحكم ولا معقب لحكمه، وهو الكبيرُ المتعال. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أبان للأمةِ طريقَ الرشدِ والهدى، وحذرهم من أسبابِ الغواية والعمى، وترك أمتَه على المحجةِ البيضاء .. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء. أيها المسلمون! حين نستحضر في مخيلتنا خريطةَ العالم الإسلامي يروعك الأمر، وتبصر عجبًا، فعدوٌّ غاشم يحتل رقعة مهمة من بلاد المسلمين، ويسئ إلى مقدساتهم وشعوبهم، وينظر إلى خصومه نظرة الغالب للمغلوب، ويتعامل مع قضيتهم تعامل الساخرِ المستكبر. وترى حربًا عقائديةً مسيسةً كلما انطفأت في بقعة من بلاد المسلمين اشتعلت في بقعة أخرى، والهدف منها طمسُ الهوية .. وإبادة الشعوب المسلمة وهي محاولاتٌ عابثة لتحجيم هذا الانبثاق الجديد للإسلام والمسلمين، في معقل الشيوعية والنصرانية، ويأبى الله إلا أن يتم نوره .. ومن البوسنا والهرسك إلى سربنا إلى كوسوفو حاليًا حيث الصرب النصارى والحرب الصليبية الجديدة ضد الشعوب المسلمة.

ومن قبلُ ومن بعدُ قضايا المسلمين في كشمير، والهند والفلبين، والصومال .. وما نسينا جرحَنَا في صبرا وشاتيلا، والخليل .. وغيرها. ولا تزال الكوارثُ تتوالى يومًا بعد يوم وفي مناطق مختلفةٍ من العالم حتى تجاوز عددُ المنكوبين ستين مليونًا مسلمًا، هم ضحايا الحروب من اللاجئين والنازحين .. وإذا كانت الأنظار متجهةً- هذه الأيام- نحو إقليم كوسوفو الألباني، فثمة وباءُ الكوليرا يتفشى في جمهورية جزر القمر وثمة زلازل شديدة في مناطق شمال أفغانستان أدت إلى مقتل أكثر من ستة آلافِ شخص، ودمرت أكثر من ستٍّ وثلاثين قرية، وإصابة ما يقرب من عشرين ألفِ شخص، وأصبح أكثر من خمسين ألف شخص بلا مأوى. يا أخا الإسلام! ما موقفك من هذا الأحداثِ المؤلمة والنكبات الموجعة النازلة بإخوانِك المسلمين، والواقعة في البلاد المسلمة؟ أي جُهدٍ قدمته لهؤلاء المنكوبين، فإن أعوزك المالُ، ففي اللسانِ والقلبِ متسعٌ للدعوة والدعاء والحبِّ والنصرة والولاء للمسلمين والبغض والمعاداة للكافرين، لا يسوغ لك بحال أن تسمع أخبار المسلمين وكأنها لا تعنيك .. بل ربما كنتَ في شغل عنها في رؤية القنوات المثيرة .. أو متابعة رياضيةٍ ملهيةٍ، أو فنٍّ رخيص. إن من المؤسف أن ينشغل المسلمون عن قضاياهم المصيرية ويُشغَلوا عن حروب الإبادة العقائدية التي يمارسها اليهود والنصارى ضد إخوانهم .. وعالمُ اليوم لغته القوة والمتفوق فيه من استخدم فكره وعقلَه، ولم تسيطرْ عليه الشهوة أو يغرقْ في الأنانية، واستثمارُ الوقتِ بما ينفع سباقٌ بين الأممِ، وإذا أردت تقييم جهدِ الأممِ والدول فانظر مدى الجديةِ في برامِجها المستقبلية .. وانظر كيف

يُخطط لشبابها وكيف يدار الوقتُ في مؤسساتها وبين شعوبها إنني أخاطبك أيها المسلمُ الغيور .. وكأني بك تتحسر على هذه الواقع المرِّ .. بل وكأني بك تنتظر النصرَ القريب فماذا أعددتَ له؟ وما نوعُ مساهمتِك في التغيير؟ بل ربما كنتَ في ذات نفسك مضيعًا للصلوات، متبعًا للشهوات، لا فرق عندك بين الحلالِ والحرام. وأقول لك بكل صراحة: ابدأ الرحلة بتغير ذاتِكَ، واعلم أن دنوَّ همتِك، أو ضعفَ سلوكياتك وإضاعة وقتِك بما لا ينفع، فضلًا عما يضر كلُّ ذلك يُثقل كاهلَ أمتِك فوق ما هي مثقلة، ويؤخر زمنَ النصرِ المرتقب، ويزيد في المآسي فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأنت عضو فاعلٌ في مجتمعك وأمتك، بحياتك وجديتك ترتفع هممُ الآخرين، وبموتِك- وإن كنت حيَّا- أو ضعفِ إرادتك وإن كنتَ خيِّرًا، يموت آخرون، ويتثاقل آخرون حاسبْ نفسك ولمها فأنت الملوم، ولا يكن شغلُك لومَ الآخرين، إن مجردَ التلاوم والتحسرِ على واقع المسلمين دون إرادة فاعلة وهمٌّ خادع، لا يُعبر عن صدق، ولا ينبئ عن عزيمة، ولا يؤهل لنصر .. ومأساة أن يعملَ غير المسلمين أكثر مما يتحدثون ويعرف المسلمون بالإنكار والشجب وكثرة اللقاءات والمؤتمرات، ثم تكون الجعجعةُ لهم، والطحنُ لغيرهم. وأعظمُ من ذلك أن تروّض الشعوب المسلمة على هذه السلوكيات المنهزمة الخادعة، وتعوزها القيادات الناصحةُ الحازمة التي تفكر في التغيير بوسائل أخرى أكثر جدية وفاعلية.

في أعقاب شهر الصيام

في أعقاب شهر الصيام (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم علن الصحابةِ أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد فاتقوا الله معاشر المسلمين، فإن تقوى اللهِ أقومُ وأقوى وتوكلوا على الله ومن توكل على الله كفاه وأغناه، وادعوا خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريب من المحسنين: {واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} (¬2). أيها المسلمون! في الأيام الماضية ودَّعنا شهرَ الصيام، ولكن ألسنتنا لا تزالُ طريةً بالقرآنِ، وقلوبنا عامرةً بالتقوى والإيمان .. أو هكذا ينبغي أن تكون آثارُ شهرِ الصيامِ والقيامِ وتلاوةِ القرآنِ، ومن المفترض أن لا تحيط الغشاوة بأبصارنا فتمنَعها من رؤية المحتاج وتُقبضَ أيدينا عن وجوهِ الإنفاقِ والبرِّ والإحسان، تُرى أتستطيعُ الشياطينُ بعد أن أطلقت قيودُها أن تحجبنَا عن حضورِ جماعات المسلمين أناءِ الليلِ وأطرافِ النهار، وقد كنا في رمضان من المبادرين إلى الصلوات وفي مقدمتها ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 7/ 10/ 1417 هـ. (¬2) سورة البقرة، آية: 281.

صلاةِ الفجرِ وصلاةِ العشاء، وإذا كان من فضل الله علينا في رمضان أن تبعدنا عن سماتِ المنافقين أفنتخبط في الظلمة في شوال أو غيره من أشهر العام، فننامُ عن بعض الصلوات المكتوبة ونُفرطُ في صلاة الجماعة. وإني سائل نفسي وإياك- يا أخا الإسلام- كم جزءًا من كتابِ اللهِ قرأنا بعد انقضاء شهر الصيام؟ وكم ركعةً للهِ من غيرِ الفريضة ركعناها بعد انقضاء شَهرِ القيام، وهل صمنا شيئًا من ستِ شوالِ التي جاء في فضلها ما نعلَم، بعد انقضاءِ شهر الصيام إلى غير ذلكم من أعمالٍ عَمرتْ بها قلوبنا واستقامتْ بها حياتنا في شهر رمضان .. فإن قلنا: إن تقصيرنا هذه الأيام لفرحةِ العيد وظروفِه وهو معوضٌ بصلة الأرحامِ وزيارةِ الأصحاب والإخوان .. ولا يزالُ في الشهر متسعٌ للصيام أو التلاوة أو غيره من الطاعات والإحسان فيرد السؤالُ الآخر عاجلًا .. وهل أضمرنا نيّةَ الخير ومواصلة الطاعةِ وعدم الركونِ للكسل بعد شهر رمضانَ؟ وهل سنأخذ أنفسنا بالعزيمةِ أم يمضي العمرُ بالأماني الفارغة وركوبِ بحرِ التّمني؟ وهو البحرُ الذي لا ساحل له، وهو ما قيل-مركبُ مفاليسِ العالم- وبضاعةُ ركَّابهِ مواعيدُ الشيطان وخيالاتُ المحالِ والبهتان، وهي كما يقول ابنُ القيم رحمه الله بضاعةُ كلَّ نفسٍ مهينةٍ خسيسةٍ سُفلية، ليست لها همَّةٌ تَنال بها الحقائقَ الخارجية، بل اعتاضت عنها بالأماني الذهنية (¬1). عبادَ اللهِ إذا كنا قد عزمنا على التوبة في شهر التوبة والغفران فمن الفهومِ الخاطئةِ أن نقصرَ التوبة على شهر رمضان ومن الخطأ كذلك أن نقصر التوبة على الإقلاعِ عن الذنبِ والندم عليه، وعدم الرجوعِ إليه مرةً أخرى فهذا جزءٌ من التوبة، وجزؤها الآخر يبسطه لنا الإمامُ ابن القيم رحمه الله من خلال نصوصِ الوحيين، فيقول ¬

(¬1) مدارج السالكين 1/ 491.

مجليًا للصورة وموضحًا لحقيقة التوبة- وهو كلام نفيسٌ فاعقلوه-: ((وكثيرٌ من الناسِ إنما يُفسر التوبة بالعزم على أن لا يعاودَ الذنبَ، وبالإقلاع عنه في الحالِ، وبالندم عليه في الماضي، وإن كان في حقِّ آدمي فلابد من أمر رابع وهو التحلل منه، وهذا الذي ذكروه بعضُ مُسمى التوبة بل شرطها، وإلا فالتوبةُ في كلامِ اللهِ ورسولهِ- كما تتضمن ذلك- تتضمن العزم على فعلِ المأمور والتزامهِ فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزمِ والندمِ تائبًا، حتى يوجدَ منه العزمُ الجازم على فعلِ المأمورِ، والإتيانِ به، هذا حقيقةُ التوبة، وهي اسمٌ لمجموع الأمرين .. ثم يقول فإن حقيقة التوبةِ الرجوعُ إلى اللهِ بالتزامِ فعلِ ما يُحِب، وترك ما يكره، فهي رجوعٌ من مكروه إلى محبوب، فالرجوع إلى المحبوبِ جزء مسماها، والرجوعُ عن المكروه الجزءُ الآخر، ولذا علّق سبحانه الفلاحَ المطلقَ على فعل المأمور وتركِ المحظورِ بها فقال: {وتوبوا إلى الله جميعًا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون} (¬1) فكلُّ تائبٍ مفلح ولا يكون مفلحًا إلا من فَعل ما أمر به وتركَ ما نهى عنه، وقال تعالى: {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} (¬2) وتاركُ المأمور ظالم، كما أن فاعلَ المحظور ظالمٌ، وزوالُ اسمِ الظلمِ عنه إنما يكون بالتوبةِ الجامعةِ للأمرين .. إلى أن يقول رحمه الله فالتوبةُ إذًا هي حقيقة دينِ الإسلام، والدين كلُّه داخلٌ في مسمى التوبة وبهذا استحق التائبُ أن يكون حبيبَ اللهِ، فإن الله يُحب التوابين ويحب المتطهرين، وإنما يُحب اللهُ من فعَل ما أُمر به وتركَ ما نُهيَ عنه، والتوبةُ هي الرجوعُ مما يكرهه اللهُ ظاهرًا وباطنًا إلى ما يحبه الله ظاهرًا وباطنًا، ويدخل في مسماها الإسلامُ والإيمانُ والإحسان. لهذا كانت غايةَ كلِّ مؤمن، وبدايةَ الأمر وخاتمتَه، ثم يختم حديثه بالقول: وأكثرُ ¬

(¬1) سورة النور، آية: 31. (¬2) سورة الحجرات، آية: 11.

الناسِ لا يعرفون قدرَ التوبةِ ولا حقيقتَها فضلًا عن القيام بها عملًا وحالًا .. ولولا أن التوبةَ اسمٌ جامعٌ لشرائع الإسلامِ وحقائقِ الإيمان لم يكن الربُّ تبارك وتعالى يفرح بتوبةِ عبده ذلك الفرحَ العظيم فجميعُ ما يتكلم فيه الناسُ من المقاماتِ والأحوال هو تفاصيلُ التوبةِ وآثارُها (¬1). أيها المسلمون! إذا كان هذا معنى التوبةِ وقدرِها، فاعلم أن التوبةَ محفوفةٌ بتوبةٍ من الله على العبد قبلها، وتوبةٍ منه بعدها، فتوبته بين توبتين من ربِّه سابقةٍ ولاحقةٍ، فإنه تاب عليه أولًا إذنًا وتوفيقًا وإلهامًا، فتاب العبدُ فتاب اللهُ عليه قبولًا وإثابةً وتأملوا قولَ الله سبحانه: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم} (¬2). فأخبر سبحانه أن توبَته عليهم سبقت توبتُهم، وإنها هي التي جعلتهم تائبين فكانت سببًا مقتضيًا لتوبتهم، فدل على أنهم ما تابوا حتى تابَ اللهُ عليهم، والحكمُ ينتفي لانتفاء علته (¬3). فبادر إلى التوبةِ بمفهومِها الشاملِ- يا أخا الإيمان- عاجلًا، واسأل الله أن يوفقَك إليها ابتداءً وأن يقبلها منك ويُثيبَك عليها انتهاءً والزم الاستغفار، وهو غيرُ التوبةِ، إذا ورد في موضع واحد فالاستغفارُ طلبُ وقاية شرِّ ما مضى، والتوبةُ الرجوعُ وطلبُ وقاية شرِّ ما يخافه في المستقبل من سيئاتِ أعماله، والاستغفارُ من باب إزالة الضرر، والتوبةُ طلبِ جلبِ المنفعة، ولهذا جاء الأمرُ بها مرتبًا بقوله: ¬

(¬1) ابن القيم، مدارج السالكين 1/ 331 - 333 باختصار. (¬2) سورة التوبة، الآيتان: 118، 117. (¬3) المدارج 1/ 339، 340.

{استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} فإنه الرجوعُ إلى طريقِ الحقِّ بعد مفارقةِ الباطل (¬1). أيها المسلمون! مداواةُ القلوبِ بهذه الأدوية الناجعة لا يتوقف على رمضان. فمصيبةٌ أن يفئ المسلمون إلى ربهم في رمضان ويظلوا شاردين عن هداه في سائر العام، مصيبة عظمى أن يقصرَ المسلمُ إجابته لداعي القرآن في شهر رمضان يظل هاجرًا للقرآنِ طوال العام. إن التوبة إلى الله إن فضلت في زمانٍ دون زمان فهي باقيةٌ صمامَ الأمانِ لمن ابتغى الأمنَ ورضا الرحمن، ولستَ تدري يا أخا الإيمان متى يحينُ الرحيلُ فتنتقلُ من دار الفناءِ إلى دار المقام. وإن الإنابة إلى الله ليست محدودةً بزمانٍ ولا مكان، بل دُعيت إليها قبل حلولِ العذاب، وحينها يعزُّ الناصرُ وتنتهي فترةُ الإمهال، وإذا أنبتَ بها صادقًا فأظهر من الذلِ والافتقارِ بين يديه ما يشهد بعبوديتك للواحدِ الديان، يُحكى عن بعض العارفين أنه قال: دخلتُ على اللهِ من أبوابِ الطاعاتِ كلها، فما دخلتُ من باب إلا رأيتُ عليه الزحام، فلم أتمكن من الدخولِ حتى جئتُ بابَ الذلِّ والافتقار، فإذا هو أقرب بابٍ إليه وأوسعُه فلا مزاحمَ فيه ولا معوّق. وكان شيخ الإسلامِ ابنُ تيمية رحمه الله يقول: ((من أرادَ السعادةَ الأبديةَ فليلزم عتبة العبودية)) (¬2). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ¬

(¬1) السابق 1/ 335. (¬2) مدارج السالكين 1/ 464.

ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون} (¬1). نفعني الله وإياكم بهدي القرآن وسنة محمدٍ صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) سورة الزمر، الآيتان: 54، 53.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد للهِ المستحق للعبادةِ على الدوام، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ربُّ الشهورِ والأعوام، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله جاءه الوحي من ربّه {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. أما بعد: إخوةَ الإسلام فقد عودكم شهرُ الصيام على الاقتصاد في الطعام والشراب، ومدرسةُ الصوم علمتكم الإقلالَ من الكلام الفارغ معوضين عن ذلك بكثرة الذكر وتلاوةِ القرآن، كما كان من نسماتِ رمضان التخلصِ من خلطةِ السوءِ التي لا يَسلمُ الصوم معها من اللغو والرفث والفسوق والعصيان، كما أحوجكم طولُ القيام إلى تقليلِ ساعات النوم حتى قلَّ معدلُ النومِ في شهرِ رمضانَ عنه في غيرِ رمضان .. تُرى أيُّ نَصيبٍ يُحافظ عليه من هذه بعد انقضاء شهر الصيام .. والعارفون يقولون: إن مفسداتِ القلب على الدوام خمسةُ أشياء هي: كثرةُ الخلطة، والتمني، والتعلقُ بغير اللهِ والشبعُ، والمنام، فهذه الخمسةُ من أكبر مفسداتِ القلب. فأما كثرةُ الخلطةِ فتملأُ القلبَ من دُخانِ أنفاسِ بني آدم حتى يَسودَّ، ويوجبُ له تشتتًا وتفرقًا، وهمًّا وغمًّا، وضعفًا، وحملًا لما يعجز عن حمله من مؤنةِ قرناءِ السوءِ، وإضاعة مصالحه، والاشتغالِ عنها بهم وبأمورهم، وتَقَسُّم فكرهِ في أوديةِ مطالبِهم وإرادتهم، فماذا يبقى منه للهِ والدارِ الآخرة؟ وكم جلبت خلطةُ الناسِ- من أجلِ الدنيا- من نقمةٍ ودفعت من نعمة. والضابطُ النافع في أمرِ الخلطةِ أن يخالطَ الناسَ في الخيرِ، كالجمعة والجماعة، والأعياد والحج، وتعلمِ العلم، والجهادِ والنصيحة، ويعتزلهم في الشرِّ

وفضولِ المباحات، فإن دعت الحاجةُ إلى خلطتهم في الشر ولم يمكنهُ اعتزالُهم فالحذرَ الحذرَ أن يوافقَهم، وليصبر على أذاهم، فإنهم لابد أن يؤذوه إن لم له قوةٌ ولا ناصر، ولكنه أذىً يعقبه عزٌّ ومحبةٌ له وتعظيم وثناءٌ عليه منهم ومن المؤمنين ومن ربّ العالمين، وموافقتُهم يعقبه ذُلٌّ وبغضٌ له ومقتٌ وذمٌ منهم ومن المؤمنين ومن ربِّ العالمين. أما المُفسدُ الثاني هو التعلق بغيرِ الله تبارك وتعالى، وهذا أعظمُ مفسداتِ القلب على الإطلاق، فإن من تعلق بغير اللهِ وكله اللهُ إلى ما تعلق بهِ، وخذله من جهةِ ما تعلقَ به، وفاته تحصيلُ مقصوده من اللهِ عز وجل، فلا على نصيبه من الله حصل ولا إلى ما أمَّله ممن تعلق به وصل، قال تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا* كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدًا} (¬1). قال تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون * لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون} (¬2). ومثلُ المتعلقِ بغير اللهِ كمثلِ المستظلِّ من الحرَّ والبرد ببيت العنكبوت، {وإن أوهن البيوت العنكبوت لو كانوا يعلمون}، وكيف لا يكون ذلك كذلك وأساسُ الشركِ وقاعدتهُ التي بُنيَ عليها التعلقُ بغيرِ الله، ولصاحبه الذمُّ والخذلان، كما قال تعالى: {لا تجعل مع الله إلهًا آخر فتقعد مذمومًا مخذولّا} (¬3). أيها المؤمنون! من مفسدات القلب كثرةُ الطعامِ، والمفسدُ له من ذلك نوعان: أحدُهما ما يُفسده لعينهِ وذاته كالمحرمات كالميتةِ والدم ولحم الخنزير، والمسروق ¬

(¬1) سورة مريم، الآيتان: 82، 81. (¬2) سورة يس، الآيتان: 75، 74. (¬3) سورة الإسراء، آية: 22.

والمغصوب ونحوها، والثاني ما يُفسده بقدره وتعدي حدِّه كالإسرافِ في الحلالِ والشبعِ المُفرطِ، فإنه يُثقله عن الطاعات، ويشغله بمزاولةِ مؤنةِ البطنةِ حتى يظفر بها، فإذا ظفر بها شغله بمزاولةِ تصرفها ووقايةِ ضررها، وقوى عليه موادَّ الشهوة، ووسع مجاري الشيطان، وقد قيل: من أكل كثيرًا، شربَ كثيرًا، فنام كثيرًا، فخسر كثيرًا، من مشكاة النبوة قبسٌ يهدي ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا من بطنه، فحسب ابنِ آدمَ لقيماتٌ يقمن صلبه، فإن كان لابد فاعلًا فثلثٌ لطعامه، وثلث لشرابه وثلثٌ لِنَفَسِه)). أيها المسلم والمسلمة أما المفسدُ الرابعُ من مفسداتِ القلب فهو كثرةُ النومِ، فإنه- كما قال العارفون- يميت القلب، ويثقل البدن، ويضيع الوَقت، ويورث كثرةَ الغفلةِ والكسل، ومنه المكروهُ جدًّا، ومنه الضارُّ غيرُ النافعِ للبدن، وأنفعُ النوم: ما كان من شدةِ الحاجةِ إليه، ونومُ أول الليلِ أحمدُ وأنفعُ من آخره، ونومُ وسطِ النهارِ أنفعُ من طرفيه، وكلما قربَ النومُ من الطرفين قلَّ نفعهُ، لا سيما نومَ العصرِ وأولِ النهارِ إلا لسهران، ومن المكروهِ عندهم النومُ بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقتُ غنيمةٍ، وللسيرِ ذلك الوقت عند السالكين مزيةٌ عظيمةٌ، لو ساروا طولَ ليلهم لو يسمحوا بالقعودِ عن السيرِ ذلك الوقتِ حتى تطلعَ الشمس، فإنه أولُ النهارِ ومفتاحُه، ووقتُ نزولِ الأرزاقِ، وحصولُ القسم، وحلولُ البركة، ومنه نشأ النهار .. كما قالوا: إن أعدلَ النومِ وأنفعه نومُ نصفِ الليلِ الأولِ، وسدسه الأخير، وهو مقدار ثمانِ ساعات، وذلك بعد أن تذهب فحمةُ العشاءِ وإذا كانت كثرةُ النومِ تورد هذه الآفات، فمدافعتهُ وهجره تورث آفاتٍ أخرى عظامًا من سوءِ المزاج وانحرافِ النفسِ، وجفافِ الرطوباتِ المعينةِ على الفهمِ والعملِ، وأمراضٍ أخرى، وما قام الوجودُ إلا بالعدل، وكلا طرفي قصد الأمورِ ذميم.

أما المفسدُ الخامسُ للقلب فهو التمني، وسبقت الإشارة إليه (¬1). عبادَ الله يا من روضتم أنفسكم خلال شهرِ الصوم على كثيرٍ من خلالِ الخير إياكم أن تعفوا أثرَها بعد، ويا من خرجتم من شهرِ رمضان وصحائفكم بيضاء إياكم أن تسودوها فيما تستقبلون من أيام، أجل لقد هذّب الصيامُ نفوسَكم وساهم قيامُ الليل في إصلاحِ قلوبكم، فلا تفسدوها بالبطر والأشرِ ولا تدنسوها بالفسادِ وسيءِ الأخلاقِ .. توسطوا في مطعمكم ومشربكم ومنامكم واعتصموا تعكم، وأديموا الصلةَ بكتابِ ربِّكم، ولا يقعدن بكم الشيطانُ عن الصلواتِ المكتوبة ويمسك بأيديكم عن النفقاتِ الواجبةِ أو المستحبةِ، استحضروا التوبةَ في كلِّ أوان وزمانٍ في حياتكم واعملوا بها بمفهومها الواسع (تركًا للمحظور، وفعلًا للمأمور) وأكثروا من الاستغفار فمن أكثر منه جعل الله له من كلِّ همٍّ مخرجًا، ومن كلِّ ضيقٍ فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب كذلك ورد الخبرُ عن نبيّكم صلى الله عليه وسلم (¬2). وأتبعوا السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مثلُ الذي عمل السيئاتِ ثم يعملُ الحسناتِ كمثلِ رجلٍ عليه درعٌ ضيقةٌ قد خنقته، فكلما عمل سنةً انتقضت حلقةٌ ثم أخرى حتى يخرج إلى الأرض)) (¬3). اللهم إنا نسألُك بأنا نشهدُ أنك أنت اللهُ الذي لا إله إلا أنت، الأحدُ الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد أن تتقبل صيامنا وقيامنا وتصلح فسادَ ¬

(¬1) مدارج السالكين 1/ 488 - 494 باختصار. (¬2) التوبة وسعة رحمة الله ص 124. (¬3) رواه أحمد والطبراني، وقال الهيثمي: وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح (السابق ص 124).

قلوبنا واحفظنا في سائر أيامنا وأحوالنا، وألا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وأن تفتح لنا خزائنك ما به تغنينا وتصلح أحوالنا، وأن تفيء على إخواننا المسلمين من جودك ما تفرج به همومهم وتطعم جائعهم وتكسي عراهم وتفك أسراهم.

بناء الأسرة المسلمة

بناء الأسرة المسلمة (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله ربِّ العالمين خلق فسوّى وقدّر فهدى، وخلق الزوجين الذكرَ والأنثى من نطفةٍ إذا تُمنى، وأن عليه النشأةَ الأخرى، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، آلاؤه لا تُعدُّ ولا تُحصى {وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} ومن آلائه جعل للناسِ من أنفسِهم أزوجًا ليسكنوا إليها وجعل بينهم مودةً ورحمةً، وأشهدُ أن محمدًا عبدهُ ورسولُه جاءت رسالتهُ بالخير والهدى وأقامت في المجتمعِ بناءً تقومُ أواصره على البرِّ والإحسان والمودةِ والتُّقى، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن آل بيته والمؤمنين وصحابته الخيرين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. فأما بعد فأوصي نفسي وإياكم-معاشر المسلمين- بتقوى الله، وتلك وصيةُ الله للأولين والآخرين {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} (¬2). {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} (¬3). أيها المسلمون! يُعنى الإسلامُ عنايةً عظمى ببناءِ الأسرةِ وصونِها من أي سهامٍ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 21/ 10/ 1417 هـ. (¬2) سورة النساء، آية: 131. (¬3) سورة النساء، آية: 1.

توجَه إليها، ذلكم أن الأسرةَ قاعدةُ المجتمعِ، ومدرسةُ الأجيال، وسبيلُ العفةِ وصونٌ للشهوةِ، والطريقُ المشروعُ لإيجاد البنين والأحفاد وانتشارُ الأنسابِ والأصهار فبالزواج المشروع تنشأ الأسرة الكريمة وتنشأ معها المودة والرحمة، ويتوفر السكنُ واللباس، إنها آيةٌ من آياتِ الله يُذكرنا القرآنُ بها ويدعونا للتفكرِ في آثارها وما ينشأ عنها {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} (¬1). وهى ما يتفرع منها نعمةٌ ومنةٌ ينبغي أن نشكر الله عليها {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزوجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون} (¬2). عبادَ الله إن الأسرةَ في الإسلام لوحةٌ مضيئةٌ ومرآةٌ عاكسةٌ لسموِّ تعاليمِ القرآنِ، وهي شاهدٌ ملموس على علوَّ شأنِ الإسلام تعجز الأنظمةُ البشريةُ- مهما بلغت- أن تبلغَ مبلغه، وأفلست الأديانُ القديمةُ والحضاراتُ المعاصرةُ أن تصل مستواه، والواقعُ يشهدُ بتفككِ الأسرِ وضياعِ المجتمعات في مشرقِ الأرضِ ومغربها حين يغيب عنها الإسلام أو تضلُّ عن توجيهات القرآن! أجل إن من هدي الإسلام في بناءِ الأسرةِ الأمرَ بالعشرةِ بالمعروف {وعاشروهن بالمعروف} (¬3). ويقول عز من قائل: {فإمساك بمعروف} (¬4). ¬

(¬1) سورة الروم، آية: 21. (¬2) سورة النحل، آية: 72. (¬3) سورة النساء، آية: 19. (¬4) سورة البقرة، آية: 229.

وخلاصةُ العشرةِ بالمعروف: تطييبُ الأقوال وتحسينُ الأفعالِ والهيئاتِ- حسب القدرة- واستدامة البشر ومداعبة الأهل وتوسيع النفقة دون إسراف وقيامُ كلٍّ من الزوجين بما يحبُّ أن يقوم له الآخر فيؤثر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إني أحبُّ أن أتزين لامرأتي كما أحبُّ أن تتزين لي (¬1). يا أخا الإيمان لا يقف هديُ الإسلام في العشرة بالمعروف عند حدودِ الأمرِ واعتبارها من المروءة والدين، بل يرتب عليها من الخيريةِ والجزاء ما يدعو للعناية بها والاهتمام، ويقول عليه الصلاةُ والسلام: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم)) (¬2). وفي مقابل ذلك تقلُّ خيريةُ من تشتكي منه النساء. وفي الخبر ((لقد أطافَ بآلِ محمدٍ نساءٌ كثير يشكون أزواجَهنَّ ليس أولئك بخياركم)) (¬3). وفي محمدٍ صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنة وهو القائل: ((خيرُكم خيرُكم لأهله وأنا خيرُكم لأهلي)) (¬4). أيها المسلمُ والمسلمةِ بناءُ الأسرةِ في الإسلام متينُ القواعدِ عميقُ الجذور، لا ينبغي أن يُهدمَ كيانُهُ لسببٍ يسير، حتى ولو شعرت النفسُ بالكره أحيانًا فلربما كان فيما تكره النفوسُ خيرًا، كثيرًا، وتأمل هديَ القرآنِ والله يقول: {فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا} (¬5). ¬

(¬1) تفسير القرطبي 5/ 97. (¬2) رواه الترمزي وابن حبان بسند صحيح (صحيح الجامع الصغير 1/ 392). (¬3) صحيح سنن أبي داود 2/ 403. (¬4) رواه الترمذي وابن ماجه والطبراني بسند صحيح (صحيح الجامع الصغير 2/ 129). (¬5) سورة النساء، آية: 19.

يقول القرطبي رحمه الله: ((فإن كرهتموهن أي لدمامةٍ أو سوءِ خلقٍ من غيرِ ارتكابِ فاحشةٍ أو نشوز، فهذا يُندب فيه إلى الاحتمال فعسى أن يؤول الأمرُ إلى أن يرزق اللهُ منها أولادًا صالحين)) (¬1). وقال مكحولٌ: سمعتُ ابنَ عمر (رضي الله عنهما) يقول: إن الرجلَ ليستخيرُ الله تعالى فيُخارُ له، فيسخطُ على ربِّه عز وجل فلا يلبث أن ينظر في العاقبةِ، فإذا هو قد خير له (¬2). وعقدُ الزوجية في الإسلامِ أكبرُ من النزوات العاطفية، وأجلُّ من ضغطِ الميلِ الحيواني المسعور، ولا يليقُ أن تعصفَ به الأمزجةُ الطارئة، فيتخلى الزوجُ عن زوجتهِ لمجرد خُلُقٍ كرهه منها، أو ناحيةٍ من نواحي الجمال افتقدها فيها، فعساه أن يجدَ أخلاقًا أخرى يرضاها، ولن يُعدم نوعًا من الجمالِ يتوفرُ فيها، وإلى هذا يرشد المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو ينهى عن استدامةِ البغضِ الكلى للمرأة ويقول: ((لا يفركْ مؤمنٌ مؤمنةً إن كره منها خُلُقًا رضي منها آخر)) (¬3). والمعنى: لا يبغضها بُغضًا كليًّا يحمله على فراقِها، بل يغفر سيئتها لحسنتِها، ويتغاضى عما يكره لما يُحب (¬4). أيها المسلمون! إذا كان هذا منطقَ الشّرع، فمنطقُ العقلِ يقول: إن الواقعَ يشهدُ بالعواقبِ الحميدةِ لأسرٍ تجاوزت الخلافاتِ في بدايةِ حياتِها، وتغلبت على المكارِه والمصاعبِ أولَ نشأتِها، ومن يتقِ اللهَ يجعل له مخرجًا، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل اللهُ فيه خيرًا كثيرًا. ¬

(¬1) تفسير القرطبي 5/ 98. (¬2) رواه مسلم ح 1469. (¬3) ذكره القرطبي في التفسير 5/ 98. (¬4) تفسير ابن كثير 3/ 708.

إخوةَ الإيمان! وإن في المسلمِ الحقِّ من المروءةِ والنبلِ والتجمُّلِ والاحتمالِ وسعة الصدرِ، وسموِّ الخلقِ ما يجعله يرتفع في تعامله مع زوجته التي يكرهها بعيدًا عن نزواتِ البهيمةِ وطمع التاجر، وتفاهةِ الفارغ. وإذا كانت المودّةُ أحدَ دعائمِ الزوجيةِ وسببًا كبيرًا لبقائها، فإن الرحمةَ هي الأخرى دعامةٌ مهمةٌ لبقاءِ الزوجين وارتباطهما، حتى وإن عُدم الحُبُّ أو قلت المودّةُ، هكذا يوجه القرآن ويدعو للتفكر {وجعل بينكم مودة ورحمة}. قال المفسرون: إن الرجلَ يُمسكُ المرأةَ إما لمحبته لها أو لرحمةٍ بها بأن يكون لها منه ولدٌ، أو محتاجةٌ إليه في الإنفاق أو للألفةِ بينهما وغير ذلك {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}. أيها المؤمنون! إذا كانت العشرة بالمعروف بين الزوجين من دعائم بناء الأسرة، فإن الإيمان بالله قمة المعروف وعمل الصالحات سبيل الوفاق بين الزوجين، فالإيمانُ وعملُ الصالحاتِ يشيعان في البيوتِ السكينة، وبهما تتحقق السعادة ويتطلعُ الزوجانِ بهما إلى منازل الآخرة، وتتوجه الهممُ عندها إلى رضوان الله والجنة، وهاكم نموذجًا لهذين الزوجين يترحم عليهما صلى الله عليه وسلم قال: ((رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)) (¬1). وينبغي أن تستمر جذوةُ الإيمان، ولباسُ التقوي بين الزوجين حتى وإن وقع ¬

(¬1) حديث صحيح رواه أحمد في مسنده 2/ 250، 436، وأبو داود (1308)، والنسائي، وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة (1148) والحاكم ووافقه الذهبي (1/ 309).

الطلاقُ وحصل الفراق، فلعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا، وتأملوا قول الله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرًا} (¬1). اللهم انفعنا بهدي القرآن ووفقنا للاقتداء بسيد الأنام، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم. ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآيتان: 2، 3.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالتعاون على البرِّ والتقوى ونهى عن الإثم والعدوان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خيرُ الناسِ للناس، وخيرُ الأزواجِ للزوجات، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. إخوة الإسلام! من دعائم بناء الأسرةِ المسلمة وقايتها من النار، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة} (¬1). عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: قوا أنفسكم، وأمروا أهليكم بالذكر والدعاءِ حتى يقيَهم اللهُ بكم، ويروى عن عمر رضي الله عنه أنه لما نزلت هذه الآيةُ قال: يا رسولَ الله: نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا، فقال: تنهونهم عما نهاكم الله وتأمرونهم بما أمر الله. وقال بعضُ المفسرين- تعليقًا على هذه الآية: علينا تعليمُ أولادنا وأهلينا الدين والخير، وما لا يُستغنى عنه من الأدب، وهو قوله تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} ونحو قوله: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (¬2). أيها الراعي مسئوليتك في الرعاية عظيمة يعنيك منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((والرجل راع في أهله ومسئولٌ عن رعيته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسئولةٌ عن رعيتها)) (¬3). أيها المسلمون! مع كلِّ ما سبق من دعائم لبناء الأسرة المسلمة فثمة دعامة رابعة تحتاج إليها الأسرة لتماسكها وضمان مسيرتها، الإصلاح حين نشوءِ الخلاف، ¬

(¬1) سورة التحريم، آية: 6. (¬2) القرطبي 18/ 194، 195. (¬3) متفق عليه، رياض الصالحين ص 151، م 1829.

ورأبُ الصدع قبل تصدع البنيان، وليس الناسُ وملائكةً معصومين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فكلُّ ابن آدم خطّاء، ولو قُدِّر لبيت أن يسلم من خلافٍ أو خطأ لسلم بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحين نزل قوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} الآيات (¬1)، علم المسلمون أن الخطأ من طبع البشر، وأن التوبة تطلب من أزواجه صلى الله عليه وسلم، وأن الطلاق قد يقع منه صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} ووقوعه من غيره من باب أولى. ومع اعتبار ذلك كله فيندب إلى الإصلاح بين الزوجين المتخالفين: {وإن امرأة خافت من بغلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير} (¬2). ويؤمر الأزواج ممن يخافون نشوزهن بالموعظة والهجر في المضاجع والضرب غير مبرح: {والتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا} (¬3). ولابد للزوجين المريدين للإصلاح أن يصلحا ويوفق اللهُ بينهما كما قال تعالى: {إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرًا} (¬4). ألا يا أيها الزوج المريد للفراق ترفق وتأمل في العواقب قبل أن تقدم على الفراق. ويا صاحب القرار رويدك حتى تهدأ النفس الثائرة، وتسكن العواطف ¬

(¬1) سورة التحريم، آية: 1. (¬2) سورة النساء، آية: 128. (¬3) سورة النساء، آية: 34. (¬4) سورة النساء، آية: 35.

المتأججة، وتنطفئ نيران الغضب المحرقة .. ويا أيتها النساء اتقين الله في طاعة أزواجكن، وإياكن أن تخرجن الأزواج عن أطوارهم بسلوك مشين أو منطق سقيم، وإياكن أن تفهمن حسن العشرة من الأزواج ضعفًا، والعفو عن الزلة غفلةً وبلهًا، والرفق بالقوارير جهلًا. كلا .. إنها أخلاق الكرماء، ومروءة النبلاء والحقوق الواجبةُ تؤدَّى .. وتضعها النساءُ العاقلاتُ موضعها اللائق بها، والصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله. أيها المسلمون! ليس من مستلزمات دعائم الأسرة أن تستنوق الجمال، ولا تترجل النساء، ولا أن تضيع قوامة الرجال على النساء، وكفى بالقرآن حكمًا: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} (¬1). ومصيبة أن تستلب النساء حقوق الرجال في الرعاية والتوجيه والأمر والنهي واتخاذ القرار، وتسترخي في حقوقها اللازمة لها من حسن العشرة أو واجباتها المنزلية، أو المساهمة في إصلاح الذرية. وهنا يطيب عرض نموذجين للأسرة المسلمة فيها عبرة وقدوة في الأسرة الأولى سيدة من سادات نساء العالمين وبنت سيد المرسلين وزوجها رابع الخلفاء الراشدين، أخرج ابنُ سعدٍ بسنده عن علي رضي الله عنه أنه قال يومًا لزوجته فاطمة بنتِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم: لقد سنوتُ حتى اشتكيتُ صدري، وقد جاء الله بسبي فاذهبي فاستخدمي، فقالت فاطمة: وأنا والله قد طحنتُ حتى مجلت يداي، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما جاء بكِ يا بنيَّة؟ )) فقالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله، ورجعت، فأتياه جميعًا، فذكر له عليٌّ حالهما، قال: ((لا والله لا أعطيكما وأدعُ أهل الصفة تتلوى بطونهم، لا أجد ما ¬

(¬1) سورة النساء، آية: 34.

أنفق عليهم، ولكن أبيع وأنفق عليهم أثمانهم)) فرجعا فأتاهما، وقد دخلا على قطيفتهما، إذا غطيا رؤوسهما بدت أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما انكشفت رؤوسهما، فثارا، فقال: ((مكانكما، ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ )) فقالا بلى، فقال: ((كلمات علمنيهن جبريل: تسبحان في دبر كل صلاة عشرًا، وتحمدان عشرًا، وتكبران عشرًا، وإذا أوتيما إلى فراشكما تسبحان ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين))، قال عليٌّ: فوالله ما تركتهما منذ علمنيهن، قيل له: ولا ليلة صفين، قال: ولا ليلة صفين (¬1). أما النموذج الآخر ففيه بنتُ الصديق، ذات النطاقين، وزوجها حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم أجمعين. أخرج ابن سعدٍ أيضًا بسنده عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: تزوجني الزبير وما له في الأرض مالٌ، ولا مملوك، ولا شيء غير فرسه قالت: فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤنته، وأسوسه وأدق لناضحه، وكنتُ أنقل النوى من أرض الزبير ... الحديث (¬2). هذه نماذج لأسر كريمة عاشت سعيدة وماتت كريمة، عرف الأزواج واجباتهم قاموا بها، وعلمت النساء ما عليهن فأدينها لم تلههم طغيانُ الدنيا عن الحياة الأخرى، ولم يستكبروا عن الخدمة وهم من خير البرية. أيها المسلمون! هناك مخاطرُ تحيط بالأسرة المسلمة وتهدد بخلخلة البناء العظيم، منها مخاطر من ذوات أنفسنا، ومنها ما هو من كيد أعدائنا .. ولأهميتها وحاجتنا إلى الوعي بها أستبقي الحديث عنها في الجمعة القادمة بإذن الله .. ¬

(¬1) الإصابة 13/ 76. (¬2) المصدر السابق

اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا وأصلحنا وأصلح لنا، وهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا .. هذا وصلوا.

مخاطر تهدد الأسرة

مخاطر تهدد الأسرة (¬1) الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وكان فيما أنزل قوله تعالى: {والله جعل لكم من بيوتكم سكنا} (¬2). أحمده تعالى وأشكره إذ جعل البيوتَ سكنًا نأوي إليها ونستتر بها وننتفع بها سائر وجوه الانتفاع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شاءَ وقدَّر أن تكون البيوتُ مكان ستر المرأة وصيانتها، فقال تعالى: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} (¬3)، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أخبر عن مسئولية الرجل في رعاية أهل بيته فقال: ((إن الله تعالى سائلٌ كل راع عما استراعاه، أحفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)) (¬4). اللهم صلَّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ألا فاتقوا الله عبادَ الله، وارعوا الواجبات التي استرعاكم الله إياها، وهو يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (¬5). عبادَ الله! حديثُ اليومِ استكمالٌ للحديث السابق، وإذا كان الحديث فيما مضى ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 28/ 10/ 1417 هـ. (¬2) سورة النحل، آية: 8. (¬3) سورة الأحزاب، آية: 33. (¬4) حديث حسن رواه النسائي، وابن حبان (صحيح الجامع الصغير 2/ 114). (¬5) سورة آل عمران، آية: 102.

عن بناءِ الأسرةِ المُسلمة، فحديث ليوم عن المخاطر التي تحيط بهذه الأسرة وسبل الوقاية منها. ولا شك أن هذه المخاطر منها ما نتسبب فيها لأنفسنا، ومنها ما هو من كيد أعدائِنا ويندرج ضمن محاربتهم لعقيدتنا وأخلاقنا، ولا يسوغ لنا دائمًا أن نبرر لأخطائنا، أو نحيل على عدونا في أمورٍ نعلم أن بإمكاننا علاجها والوقاية منها بقوة إرادتنا، كما لا يسوغ لنا أن نستسلم لكيد الأعداء وننفذ عالمين أو جاهلين مخططات المكر والفساد التي يصدرون لنا، ونحن أمة يفترض فينا أن نؤثر في الآخرين وأن نزرع فيهم الخير، بدل أن تكون بلاد المسلمين سوقًا تروج فيها البضاعة الكاسدة، أو تصدر إليها زبالات الأفكار، ونتن الحضارات الفاسدة. أيها المسلمون! من هذه المخاطر الداخلية ضعفُ الدين وتضييع الأمانة وإذا ضاع الإيمانُ فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي دينًا، وإذا كانت المرأة تنكح لعدةِ أغراضٍ: لجمالها ومالها، ولحسبها ولدينها، فوصية الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة لذات الدين، هو يقول: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) (¬1) والتحذير واردٌ من ((خضراءِ الدمن)) وهي المرأة الحسناءُ في منبت السوء. وقد ينبت المرعي على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هي (¬2) وضعف الدين، وتضييع الأمانة، والإعراض عن ذكر الله خطرٌ عظيم يهدد الأسرة بالضياع، وتضيع معه التربية النافعة للأسرة من بنين وبنات وننسى الأهداف الجليلة لقيام الأسرة المسلمة، وهو سببٌ لحياة الضنك والشقاء، سواء كان ذلك ¬

(¬1) متفق عليه. (¬2) المقاصد الحسنة، للسخاوي، وقد أشار إلى ضعف الحديث ص 135.

من قبل الرجال أو النساء: {ومن أعرض عن ذكري فإن له عيشة ضنكًا} (¬1) وتتحقق السعادة الأسرية بالإيمان وعملِ الصالحات، ذلك وعدٌ غيرُ مكذوب {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (¬2). وفي الخبر الصحيح: ((قلبٌ شاكر، ولسانٌ ذاكر، وزوجة صالحة تعينك على أمر دنياك ودينك، خير ما اكتنز الناس)) (¬3). أيها المؤمنون! إذا اجتمع إلى ضعفِ الدين توفير أسباب الفساد كان الخطر أعظم والبلية آكد، فالمجلة الوافدة الخليعة سهمٌ طائش موجه لهدم الأسر، والشريط الذي يحمل صورًا ماجنة، أو يحتوي على كلمات الحب والغرام لا يشك عاقل أو عاقلة في تدميرهما للخلق والفضيلة والحياء، وهاك تحذيرًا صادقًا من ابن القيم وهو يُعلق على أحاديث الغناء وأثره، مع فارق الصورة قديمًا وحديثًا، يقول رحمه الله: ((ولا ريب أن كلَّ غيورٍ يجنِّب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الرِّيب، ومن طرَّق أهله إلى سماع رقية الزنا فهو أعلم بالإثم الذي يستحقه)) (¬4). إلى أن يقول: أما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدفُّ، والشبابةُ والرقص بالتخنث والتكسر، فلو حبلت المرأة من غناءٍ لحبلت من هذا الغناء، فلعمر الله كم حُرَّةٍ صارت بالغناء من البغايا! وكم من حرٍّ أصبح به عبدًا للصبيان والصبايا، وكم من غيورٍ تبدل به اسمًا قبيحًا بين البرايا، وكم من ذي غني وثروة أصبح بسببه على ¬

(¬1) سورة طه، آية: 124. (¬2) سورة النحل، آية: 97. (¬3) رواه البيهقي في شعب الإيمان، وصححه الألباني في صحيح الجامع 4/ 142. (¬4) إغاثة اللهفان 1/ 370.

الأرض بعد المطارف والحشايا، وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد حلَّت به أنواعُ البلايا، وكم جرَّع من غصة، وأزال من نعمة، وجلب من نقمة، وذلك منه من أحدى العطايا وكم خبَّأ لأهله من آلام منتظرة، وغموم متوقعة، وهمومٍ مستقبلية .. (¬1). أيها المسلمون! تُشكل صويحبات السوء خطرًا تهدد الأسرة بالانهيار، وذلك بما تهديه من عطايا محرمة، أو تبثه من كلام مسموم وإن بدا ظاهره النصح، أو تبادل الهدايا، وسواء كان ذلك عبر صديقة العمل، أو زميلة الدراسة، أو مُفْسدة بالغيبة والنميمة وقالةِ السوء عبر سماعة الهاتف، فكل ذلك خطر لابد من الحصانة منه، كما يُشكل الهاتف خطرًا آخر حين يُساء استخدامه، وتضعف الرقابة عليه، وتترك الفرصة لأصحاب المعاكسات والمغازلات يتصلون كيف شاءوا، وربما اصطادوا المرأة البريئة عبر تسجيل حكاياتٍ فارغةٍ لم تتنبه لها فكانت سببًا في الضغط عليها وجرها إلى فسادٍ أكبر جرَّ عارًا على الأسرة كلها وصدَّع أركانها، فتنبهوا لهذا الخطرِ الغادر، وقوا نسائكم وأبناءكم وبناتكم آثاره المدمرة. عباد الله! خلاف الزوجين دون تبصر، وتحميل الأمور ما لا تحتمل وتعظيم الصغائر، وتوسيع دائرة الشقاق وإدخال أكثر من طرفٍ في الخلاف .. كل ذلك يهدم الأسر ولا يبنيها، ويعجل بانفراط عقدها وتشاحن أفرادها، والشديد ليس بالصرعة ولكن من يملك نفسه عند الغضبِ، والحلمُ والصفح والعفو أخلاق كريمة دعا إليها القرآن، وليست مؤشرًا للضعف أو دليلًا على الهزيمة في الخصومة كما قد يوسوس بها الشيطان. ¬

(¬1) المصدر السابق 1/ 371.

ألا وإن خير الناس بطيء الغضب، سريع الفيء، وشرهم سريع الغضب بطيء الفيء. ويسوءُ الخلاف ويشتد خطره إذا انتهى إلى كسر. أيها المسلمُ والمسلمة، ثمة داءٌ يهدد الأسر، إنه الإسراف الذي يثقل كواهل الرجال بكثرة طلبات النساء، أو البخل الذي تضيق به عاقلات النساء لشح القادرين من الرجال. وبشكل عام فإن شدة بعض الأزواج دون مبرر، أو عصيان بعض الزوجات وعدم قيامهن بحقوق الزوجية، كلّ ذلك يُفرق ولا يجمع، ويهدم ولا يبني. وتنساب الحياة الزوجية هادئة مطمئنة إذا عرف كلٌّ من الزوجين واجباته وحقوقه، فأدى ما عليه راضيًا محتسبًا وترفق في طلب حقِّه صابرًا مقتصدًا في هذه الجوِّ المتآخي يعترف بالقوامة للرجل دون أن تمتهن المرأة أو تحتقر .. أيها المؤمنون! إن الإسلام الذي طلب من الرجل أن يُحسن صحبة المرأة، ويستوصي بها خيرًا ويعاشرها بالمعروف، هو الذي أمر المرأة أن تسمع له وتطيع في حدود ما أحل الله- فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق- ولقد أكد الله هذه القوامة في القرآن، وبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم في تشديد طاعة الزوجة زوجها أن يقول: ((لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحدٍ، لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها)) (¬1). وفي حديث آخر: (( .. والذي نفسُ محمدٍ بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها كله، حتى لو سألها نفسها وهي على قَتبٍ لم تمنعه)) (¬2). أيها المسلمون! يُقال هذا عن أهمية قوامة الرجال على النساء وضرورة الطاعة ¬

(¬1) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير 5/ 68. (¬2) رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان بسند حسن، صحيح الجامع 5/ 69.

بالمعروف؛ لأن غياب القوامة من الرجال، وتفرد النساء بالأمر والنهي يحدث خللًا بيِّنًا في البيوت، وهو أحد المخاطر التي تهددها، ولا يفلح قومٌ ولوا أمرَهم امرأة، والنساءُ ناقصات عقلٍ ودين، وتحميلهن فوق طاقتهن ظلمٌ لهن وجناية على المجتمع من حولهن، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} (¬1). ¬

(¬1) سورة النساء، آية: 128.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله ربِّ العالمين نبّه المسلمين لعداوة الكافرين وخطرهم فقال: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} (¬1)، ونهى عن اتخاذهم أولياء فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء} (¬2). وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له أرشد إلى أن الصبر والتقوى مبطل لكيد الأعداء: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط} (¬3). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله حذر أمته من اتباع سنن من كان قبلهم من الأمم الكافرة حتى وإن دخلوا جحر ضبٍّ لدخلوه معهم، وأوحى الله إليه فيما أوحى: {ولتستبين سبيل المجرمين} (¬4). اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فمن المخاطر الداخلية التي تهدد الأسرة المسلمة إلى المخاطر الخارجية أحدثكم عن شيء من كيد الأعداء وسهامهم الطائشة لهدم كيان الأسرة بشكل عام، وإفساد المرأة المسلمة على الخصوص. فمن وسائلهم في ذلك وسائل الإعلام بكافة قنواتها وأجهزتها، ويأتي البث ¬

(¬1) سورة البقرة، آية: 120. (¬2) سورة الممتحنة، آية: 1. (¬3) سورة آل عمران، آية: 120. (¬4) سورة الأنعام، آية: 55.

المباشر والقنوات الفضائية في طليعتها، وبالله كم هدمت هذه البرامجُ الإعلامية المخربة من أسرةٍ! وكم حطمت من كيان! وكم سلخت من خلقٍ ووارت عفةً وحياءً! ولست أدري كيف رضي البعض منا باحتضان العدوِّ داخل عقر بيته، بل وفي غرفة نومه، وقد كنا عبر القرون نجالدهم بالسيوف ونفدي إسلامنا وقيمنا بأرواح آبائنا وأبنائنا، ونستشرف الدماء تراق من أجل الحفاظ على عقيدتنا وأصالتنا. فيا أيها المسلمُ والمسلمةُ! أيسركما أن يكون منزلكما مسرحًا يستقبل عبر الشاشة الكفر والإلحاد، وتشاهد من خلالها الأفلامُ الداعرة والقنوات المتحللة الساقطة، وتُعرض فيها كؤوسُ الخمر، وصورُ العاهرات الفاجرات من خلال المسلسلات وعرض الأزياء؟ أترضون بذلك لأنفسكما ومن تحت أيديكما من الذرية (¬1). إنني أذكركم الله في الأمانة التي تحملتموها وأبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها، وأذكركم الله في المسئولية التي استرعاكم الله إياها وسوف يسألكم عنها، وليس سرًّا أن يُقال لكم إن هذه البرامج المنتجة مدعومة من الكفار لإفساد أخلاقكم وهدم عقيدتكم، ودونكم الدليل: فقد عُقد مؤتمرٌ في دولة نصرانية ضم أكثر من مئةِ دولةٍ وحضره أكثر من ثمانية آلاف مُنصِّر، وكلّف أكثر من إحدى وعشرين مليون دولار؟ أتدرون لماذا؟ لدراسة كيفية الاستفادة من البث المباشر في تنصير العالم (¬2). وإذا كان هذا جهد النصارى فلا تسأل عن جهد اليهود هم أربابُ المالِ ¬

(¬1) جريدة الجزيرة، عدد 8774 في 24/ 5/ 1417 هـ. (¬2) جريدة الجزيرة، عدد 8774 في 24/ 5/ 1417 هـ.

وأصحابُ الإعلام؟ ولا تسأل عن النحل والملل والأيدولوجيات الفاسدة الأخرى وعلى سبيل المثال: فهذه ((جولد مائير)) رئيسة حكومة الكيان الصهيوني السابق تقول: ((تنتابني هواجسُ ويجتاحُني الذعر قبل نومي كلَّ ليلة عندما أتخيلُ عدد الأطفال الفلسطينيين الذين سيولدون في اليوم الثاني)) (¬1). إنها المؤامرة على العالم والرِّهان على إفساد القيم والأخلاق للشعوب، وليس يُلام الذئبُ في عدوانه .. ولكن المأساة حين تغيبُ عقول المسلمين عن مخططات الكافرين أو تأسرهم الشهوات ولو كانت على حساب العقائدِ والمكرمات. أيها المسلمون أما الخطرُ الخارجي الآخر على الأسرة المسلمة، فهو: تحديد النسل، هذا الداء الذي يسري فينا دون أن ننتبه له، ويُخطط له أعداؤنا ونحن في غفلةٍ عنهم، ولربما بلغ بنا الأثرُ مبلغه فتصور بعضنا أن قلة الأولاد تحضرًا، وأن تحديد النسل أسلوبًا راقيًا، وتضيع في زحمة الأفكار الدخيلة وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لنا: ((تزوجوا الودودَ الولودَ فإني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة)) (¬2). ولربما أرهبنا الأعداء، أو وسوس إلينا الشيطان بصعوبة النفقة أو خشينا الفقر مع كثرة الذرية، والله ينهانا عن ذلك، بل يقدم رزقهم على رزقنا، ويقول: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا} (¬3). عباد الله! إن كثرة المسلمين شبحٌ مخيفٌ للكافرين، وإن تحديد نسلهم وسيلة ¬

(¬1) الأهرام 12/ 3/ 1994، عن كتاب الغارة على الأسرة المسلمة، عبد القادر أحمد عبد القادر ص 21. (¬2) (إرواء الغليل 6/ 195) رواه أحمد بسند صحيح 3/ 245، المنجد، أربعون وسيلة ص 9. (¬3) سورة الإسراء، آية: 31.

من وسائل القضاء عليهم، سواء أكان ذلك بكثرة تعاطي الحبوب المانعة للحمل، أو بوسائل وعمليات أخرى لا تزال تُصدر إلى العالم الإسلامي، والمصيبة حين يسري هذه الداء في مجتمعات المسلمين، وهم في غفلة عن كيد الكافرين، وأسوق لكم شيئا من مخططاتهم في هذا السبيل. عقدت هيئة اليونسكو مؤتمرها الثالث عشر في ((سان فرانسيسكو)) بحضور مائةٍ من المفكرين لبحث مشكلة التضخم السكاني في الدول النامية للحدِّ منه، وكان من بين المقترحات مقترحٌ تقدم به (بولس أرليس) أستاذ في جامعة (ستانفورد) الأمريكية، ويقضي بوضع مُركبات منع حمل في الغذاء المرسل للدول النامية، وأعجب من ذلك أن أعلن الدكتور (لي دوبر يدج) المستشار العلمي للرئيس نيكسون في المؤتمر نفسه أن الولايات المتحدة تُفكر في قطع معونتها الاقتصادية عن الدول التي لا توقف تزايد سكانها، وقال إن استخدام مركبات منع الحمل في مياه الشرب والطعام قد يكون حلًّا لهذه المشكلة في الدول النامية (¬1). فهل يستيقظ النائمون .. وهل يرعوي المخدوعون، وهل يقتصد المروجون لأفكار الآخرين .. ، ومما يلفت النظر أن هذه الأفكار والمخططات التي تروج في بلاد المسلمين، يُحذِّر منها الكافرون، ويُشجعون أسرهم على تزايد النسل، فقد أعلن البابا (بولس السادس) أن استخدام وسائل تحديد النسل إثم، وإن مستخدميها آثمون)) أما الرئيس الفرنسي النصراني (ديستان) فقد ناشد شعبه ليزيد نسله، وأعلن عن مكافأة ماليةٍ للأسرة التي يزيدُ أفرادُها عن ثلاثة. إذا كان هذه شأن النصارى، فاليهود لا يعترفون بتنظيم النسل، بل إن ¬

(¬1) الغارة على الأسرة المسلمة، عبد القادر ص 24.

الحاخامات يمنحون أبناء الزنا ولو من غير اليهود الصفة اليهودية ويهتمون بهم، ويعتبر العقم عند اليهود لعنة كبيرة (¬1). وبالجملة فكم يخسر المسلمون وهم يجهلون تعاليم دينهم، وواقع عدوهم، ويجهلون مكرَ أعدائهم وينفذون بسذاجة مخططاتهم، فيساهمون معهم في المؤامرة على الأسرة المسلمة. أيها المسلمون! هناك وسائل أخرى من أعدائنا لهدم أسرنا، كعقد المؤتمرات المشبوهة والخروج منها بتوصيات فاجرة، وما مؤتمر الإسكان بالقاهرة وبكين إلا نماذج صارخة لهذه المؤامرة العالمية على الأسرة المسلمة. ومنها غزو الأفكار الوافدة وتغيير المفاهيم الصحيحة. فالحجاب الشرعي تخلفٌ ورجعيةٌ، والاختلاط في التعليم أو العمل تقدم وحضارة، وتعددُ الزوجات ظلمٌ للمرأة، وقرار المرأة في بيتها عودةٌ بها إلى القرون المظلمة، {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} (¬2)، وفي ظل هذه الفتنة العمياء، تصور المرأة الكافرة على أنها النموذج المحتذى، ويُسخر بالدين، وتنحر الفضيلة والحياء على مرأى ومسمع الغفلاء، وإلى الله المشتكى وهو وحده المُستعان. أيها المسلمون! برغم ذلك كله فكيدُ الشيطان ضعيف، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ولكن لابد أنت يصدق المسلمون مع ربهم ويحاسبوا أنفسهم، ويبدءوا بإصلاح بيوتهم فلابد لهم منها، ثم يتناصحوا فيما بينهم ويتواصوا بالحقِّ والصبر ¬

(¬1) الغارة على الأسرة المسلمة، ص 47، 48. (¬2) سورة الكهف، آية: 5.

على ما يصيبهم، حتى يصلح الله حالهم أو يتوفاهم وهو راضٍ عنهم، وصدق الله: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم} (¬1). وصدق الله إذ يقول: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (¬2). اللهم اصلح أحوالنا وبصرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، واكفنا شرَّ أعدائنا، وأصلح ذات بيننا. أيها المسلمون! وما دام الحديث عن المخاطر التي تهدد الأسر .. فلا شك أن مما يهددها في عصرنا الحاضر حوادث السيارات المفزعة، ولا شك أن من أبرز أسبابها السرعةُ المتهورة، أو التساهل في قطع الإشارة المرورية؛ وما ينجم عنه من حوادث مروعة، وإني أوصيكم ونفسي بأن نجنب أنفسنا هذه المخاطر بسبب سوء صنيعنا، فالسرعة الجنونية والاستهانة بالإشارات المرورية، كل ذلك طريق للهلاك وإهلاك الآخرين والله يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما}، {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، والانضباط في القيادة دليلُ العقلِ والرُّشدِ، واحترام قواعد السير المُنظمة دليلُ الوعي وحسن الذوق، وإذا استرخصت نفسك فاعلم أن أنفس الآخرين غالية، وكن قدوة صالحة لغيرك، واعلم أن الإسلام وضع آدابًا للطريق وحقوقًا للآخرين عليك أن ترعاها، وهذا لا ينبغي أن يكتفى بالتنبيه عليه في أسابيع المرور فحسب بل ينبغي أن يكون محلَّ اهتمام في كلِّ وقت. هذا وصلوا. ¬

(¬1) سورة الأنفال، آية: 53. (¬2) سورة الرعد، آية: 11.

أيام العشر وأحكام العيد والأضاحي

أيام العشر وأحكام العيد والأضاحي (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. اللهم لك الحمد إذ بلغتنا هذه الأيام الفضيلة، اللهم وكما بلغتنا فأعنا على استثمارها بعمل الصالحات، وتقبل منا ومن إخواننا المسلمين سائر الطاعات، وكفِّر عنا السيئات، وارفع لنا الدرجات. اتقوا الله وعظموا أمره أيها المسلمون، وأنتم في أيام يذكر فيها اسمُ الله، وتُعظم شعائره، ويفد الحجيجُ إلى بيته ابتغاء مرضاته. أيها المسلمون! كم نُضيِّع من الأوقات هدرًا، وسيندم كل مفرط غدًا، وإذا كنا قد فرطنا فيما مضى، فها هي فرصة سانحةٌ تُتاح لنا، ويُعظم الله فيها الأجور لنا، فهل من مسابقٍ للخيرات، والله تعالى يقول: {فاستبقوا الخيرات}. ودونكم هذا الحديث في فضل عشر ذي الحجة فاعقلوه، أخرج الإمام أحمدُ وغيره بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كنتُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذُكرت له الأعمال فقال: ((ما من أيام العمل فيهن أفضل من هذه العشر))، قالوا: يا رسول الله الجهاد في سبيل الله؟ فأكبره، فقال: ((ولا ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 4/ 12/ 1417 هـ.

الجهاد، إلا أن يخرج رجلٌ بنفسه وماله في سبيل الله ثم تكون مهجةَ نفسه فيه)) (¬1). يا أخا الإسلام! قف، وسائل نفسك: ماذا قدمت لآخرتك في هذه الأيام الفاضلة، وبماذا خَصَصتها؟ وهل أيام الدهر عندك سواء؟ هل صمت أو تنوي الصيام فيها؟ هل تصدقت؟ هل وصلت؟ هل أكثرت من ذكر الله؟ وتلاوة كتابه؟ هل ابتهلت إلى الله بالدعاء؟ وإني سائلك ونفسي، فاستحضر السؤال، وفكِّر في الجواب. أما السؤال فمهم وهو يقول: كيف يجتمع التصديق الجازمُ الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار، ويتخلف العمل، وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوبٌ غدًا بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشدَّ عقوبة، أو يكرمَه أتمّ كرامة، ويبيت ساهيًا غافلًا .. ؟ قال ابن القيم رحمه الله: هذه لعمرُ اللهِ سؤال صحيح واردٌ على أكثر هذا الخلق، فاجتماع هذين الأمرين (يعني التصديق بالمعاد، وعدم الاستعداد له) من أعجب الأشياء، ثم حدد يرحمه الله أسباب ذلك بعدةِ أمورٍ، فافهموها، وحاولوا الخلاصَ منها، قال: أحدُها: ضعف العلم ونقصان اليقين، فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدم استحضاره، وغيبته عن القلب في كثير من أوقاته وأكثرها لاشتغاله بما يُضاده، وانضم إلى ذلك تقاضي الطبع وغلبات الهوى، واستيلاء الشهوة، وتسويل النفس، وغرور الشيطان، واستبطاءُ الوعد، وطول الأمل، ورقدة الغفلة، وحب العاجلة، ورُخص التأويل، وإلف العوائد، فهناك لا يمسك الإيمان، إلا الذي يمسك ¬

(¬1) أحمد 10/ 67 تحقيق شاكر.

السماوات والأرض أن تزولا، ولهذا السبب يتفاوت الناسُ في الإيمان والأعمال، حتى ينتهي إلى أدنى مثقال ذرةٍ في القلب (¬1). أيها المسلمون! ومع عظمة هذه الأيام فقد أمر الرسولُ صلى الله عليه وسلم الأمة وحثها على كثرة الذكر والتسبيح والتهليل في هذه العشرة فقال: ((ما من أيامٍ أعظمُ عند اللهِ ولا أحب إليه العملُ فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)) (¬2). ومن الصفات المشروعة في التكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا اللهُ واللهُ أكبر، الله أكبر ولله الحمد (¬3) قال في سبل الإسلام: وفي الشرع صفاتٌ كثيرةٌ واستحساناتٌ عن عدة من الأئمة، وهو يدل على التوسعة في الأمر، وإطلاق الآية يقتضي ذلك، يعني قوله تعالى: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات} (¬4). فأحيوا هذه السنة، وليكن لكم في سلف الأمة أسوة فقد أخرج البخاري في صحيحه (معلقًا مجزومًا به) أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما (¬5). والمراد أنهما يذكران الناس فيتذكرون ويذكرون، ولا يعني التكبير بصوتٍ واحدٍ جماعي، فهذا غير مشروع، قال ابن الحجاج في المدخل: ((قد مضت السنة أن كل ¬

(¬1) ابن القيم: الداء والدواء ص 75، 76. (¬2) أخرجه أحمد وإسناده صحيح 7/ 224، 9/ 14. (¬3) إرواء الغليل 3/ 125. (¬4) سبل الإسلام 2/ 125، عبد الله الفوزان، المجالس ص 22. (¬5) الفتح 2/ 457.

واحد يكبر لنفسه ولا يمشي على صوت غيره، فإن ذلك من البدع، وفيه خرق حرمة المسجد والمُصلى، برفع الأصوات والتشويش على من به من العابدين والتالين والذاكرين)) (¬1). أيها المؤمنون! قال أهل العلم: فالتكبير مطلقٌ ومقيد، فالمقيد عقيب الصلوات، والمطلق في كل حال في الأسواق وفي كل زمان (¬2). وإذا كان التكبير المطلق يبدأ من دخول العشر، فإن المقيد- عقب الصلوات المكتوبة- يبدأ من فجر يوم عرفة إلى نهاية أيام التشريق، ومع أن الحافظ ابن حجر- يرحمه الله- قال: ولم يثبت في شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث، وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قولُ عليٍّ وابن مسعود أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى .. (¬3). إلا أن شيخ الإسلام ابن تيمية قال: ((أصح الأقوال في التكبير الذي عليه جمهور السلف الفقهاء من الصحابة والأئمة أن يكبر من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق عقب كلِّ صلاة)) (¬4). وقال ابن كثير: ((وهذا أشهر الأقوال وعليه العمل)) (¬5). وهناك من العلماء من يرى أن التكبير أيام التشريق ليس مقيدًا بأدبار الصلوات، بل هو مطلقٌ في سائر الأحوال .. (¬6). ¬

(¬1) المدخل 2/ 284، 290، عن مجالس عشر ذي الحجة، ص 23. (¬2) كذا ذكر صاحب المغني 3/ 256. (¬3) الفتح 2/ 462. (¬4) الفتاوى 24/ 220. (¬5) تفسير ابن كثير 1/ 358. (¬6) انظر: عبد الله الفوزان، مجالس عشر ذي الحجة ص 117.

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا. إخوة الإسلام! يومُ عرفة يوم عظيم فاضلٌ من أيام الله، يوم أكمل الله فيه الدين وأتم النعمة فيه على المسلمين، حيث أنزل فيه قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (¬1)، فيه يكثر العتق من النار، وفيه يكفر الله الخطايا والآثام، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من يوم أكثرُ من أن يُعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وأنه ليدنو ثم يُباهي الملائكة فيقول: ((ما أراد هؤلاء؟ )) (¬2). قال ابن عبد البر: ((وهذا يدل على أنهم مغفور لهم؛ لأنه لا يُباهي بأهل الخطايا إلا بعد التوبة والغفران والله أعلم)) (¬3). ومن فضائل يوم عرفة خيرية الدعاء فيه، وله فيه مزية على غيره، حتى قال عليه الصلاة والسلام: ((خير الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير)) (¬4). قال ابن عبد البر- معلقًا على هذا الحديث-: ((وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره، وفي ذلك دليلٌ على فضل يوم عرفة على غيره ... وفي الحديث ¬

(¬1) سورة المائدة، آية: 3. (¬2) رواه مسلم ح 1348. (¬3) التمهيد 1/ 120. (¬4) أخرجه مالك في موطئه، والترمذي والبيهقي في فضائل الأوقات، وقال هذا مرسلٌ حسن، وصححه الألباني (الصحيحة 4/ 6)، مجالس عشر ذي الحجة، الفوزان ص 75.

أيضًا دليلٌ على أن دعاء يوم عرفة مجابٌ في الأغلب .. )) (¬1). إخوة الإسلام! لا يُظن أن هذه الأفضلية بيوم عرفة خاصةٌ بالحجاج فالدعاء للحاج وغيرهم، بل ورد ما يخص غير الحجاج في يوم عرفة ألا وهو الصيام الذي ورد في فضله ((يكفر السنة الماضية والسنة القابلة)) (¬2). فإذا اجتمع أفضلية اليوم، وكان المرءُ صائمًا .. كان الداعي حريًّا بالإجابة، فاحرصوا على صيام هذا اليوم واحرصوا فيه على الدعاء وشاركوا الحجاج في دعائهم وابتهالهم عسى اللهُ أن يتقبل منكم ويغفر لكم ذنوبكم. أيها المسلمون! كما تحرصون على استثمار هذه الأيام الفاضلة بالأعمال الصالحة، فاحذروا المعاصي، وبادروا بالتوبة النصوح، وللتوبة في الأزمنة الفاضلة شأن عظيم، وإن كان باب التوبة مفتوحًا على الدوام، وإذا كان العقل السليم ينفر من المعاصي على الدوام، فنفرته منها في وقت المواسم والفضائل أشد. وقد ذكر بعض أهل العلم تغليظ عقوبة المعصية في الأيام المباركة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وقد سئل عن إثم المعصية وحدِّ الزنا هل تزداد في الأيام المباركة أم لا؟ فأجاب: نعم، المعاصي في الأيام المفضلة والأمكنة المفضلة تغلظ، وعقابُها بقدر فضيلة الزمان والمكان)) (¬3). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور} (¬4). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. ¬

(¬1) التمهيد 6/ 41. (¬2) رواه مسلم رقم 1662. (¬3) الفتاوى 34/ 180. (¬4) سورة الحج آية: 30.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين فضَّل الشهور والأيام، واسبغ على الخلق من آلائه ونعمه ما يشهد به أولو البصائر والأفهام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل من صلى وحج وصام، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. أيها المسلمون! كما هي فاضلة أيام العشر كلها، ويوم عرفة على الخصوص، فثمة يومٌ فاضلٌ من أيام الله، إنه يومُ الحجِّ الأكبر، يومُ النحر، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: «يومُ الحجِّ الأكبر يومُ النحر» (¬1)، وهو أفضل أيام العام لحديث عبد الله بن قرط رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعظم الأيام عند الله تعالى يومُ النحر ثم يوم القرِّ» (¬2). وبهذا كان يُفتي شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله، وقد سئل عن يوم الجمعة ويوم النحر أيهما أفضل؟ فأجاب: يومُ الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام، ووافقه ابن القيم فقال: «وغير هذا الجواب لا يسلم صاحبُه من الاعتراض الذي لا حيلة له في دفعه» (¬3)، «ولقد فضل العلماء عيد النحر على عيد الفطر» (¬4). إخوة الإسلام! إذا عُلم فضل هذا اليوم -أعني عيد الأضحى- أفيسوغ التكاسل ¬

(¬1) أخرجه أبو داود / 420، وابن ماجه 2/ 1016، بسند صحيح، وأخرجه البخاري تعليقًا 8/ 320 من الفتح. (¬2) أخرجه أبو داود بإسناد جيد. كما قال الألباني في تخريج المشكاة 8/ 810. (¬3) الفتاوى 25/ 289. (¬4) الفوزان ص 101.

فيه عن الطاعة، أم يسوغ فيه اللهو المحرم من الملة، إن بعض الناس يتراخون في حضور صلاة العيد وهي سنة مؤكدة لا ينبغي لمسلم قادرٍ تركُها، ومن أهل العلم من يرى وجوبها كابن تيمية وابن القيم، قال ابن تيمية: ((وقولُ من قال: لا تجبُ في غاية البعد، فإنها من أعظمِ شعائر الإسلام، والناس يجتمعون لها أعظمَ من الجمعة وقد شُرع فيها التكبير، وقول من قال: هي فرض على الكفاية لا ينضبط)) (¬1). وقال ابن القيم عن وجوبها: ((وهذا هو الصحيحُ في الدليل)) (¬2). وهناك غيرهم قال بالوجوب، واستدل العلامةُ صديق حسن خان على وجوب صلاة العيدين بأنها مسقطة للجمعة إذا اتفقتا في يومٍ وأحد، وما ليس بواجب لا يسقط ما كان واجبًا .. )) (¬3). يا أخا الإسلام! إذا كان رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم أمر النساء العواتق وذوات الخدور والحيض -مع اعتزالهن للصلاة- بالخروج لصلاة العيدين، أفيليق بك أن تتأخر عنها، أو تترك أهلك وأولادك عن حضورها مع المسلمين! إنها أعيادُنا المشروعة في الإسلام ((عيد الفطر وعيد الأضحى)) يعظم فيها ذكر الله، ويجتمع المسلمون توحدهم رابطة العقيدة وإن اختلفت بلادهم، أو تعددت لغاتهم، أو تباينت ألوانهم .. وإذا لزم إظهارُ هذه الشعيرة في كلِّ حالٍ، فهي في حال ضعف المسلمين وهوانِهم أحرى وأولى .. وكم فيها من غيظ للأعداء .. وكم في اجتماع المسلمين بشكلٍ عام من قوة تُرهب الأعداء لو عقل المسلمون قيمة اجتماعِهم ¬

(¬1) الفتاوى 23/ 161. (¬2) كتاب الصلاة لابن القيم ص 29، عن مجالس عشر ذي الحجة، الفوزان ص 105. (¬3) الموعظة الحسنة 43، 42، والروضة الندية، عن مجالس العشر ص 105.

وتوحدت قلوبهم كما اجتمعت أبدانهم. أيها المسلم! السنة أن تتنظف وتتطيب وتلبس أحسن ثيابك لصلاة العيد، وأن تخرج إليها مبكرًا، مُكبرًا، وألا تأكل شيئًا في عيد الأضحى قبل الصلاة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطعمُ في عيد الأضحى حتى يرجع من الصلاة فيأكل من أضحيته (¬1). عباد الله! الأضحية مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وقد اختلف العلماءُ هل هي واجبة أم سنة، والأكثرون على أنها سنة مؤكدة في حقِّ الموسر، ومن أهل العلم من قال بوجوبها .. (¬2). وقد جاء في فضلها ما يدعو إلى المسارعة والمسابقة فيها ابتغاء فضل الله، بل لقد جعل الله لكلِّ أمةٍ منسكًا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام كما في آية الحج (34) قال ابن كثير وحمة الله: يخبر تعالى أنه لم يزلْ ذبحُ المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعًا في جميع الملل (¬3). أيها المسلمون! اختاروا أضاحيكم وطيبوا بها نفسًا، وكلما كانت أغلى وأكمل فهي أحب إلى الله، قال ابن تيمية يرحمه الله: ((والأجرُ في الأضحية على قدر القيمة مطلقًا)) (¬4). وتحققوا من خلوها من العيوبّ المانعة للإجزاء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربع لا تجوز في الأضاحي -وفى رواية: لا تجزئ- العوراء البينُ عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها، والكسيرة التي لا ¬

(¬1) زاد المعاد 1/ 441. (¬2) الفوزان .. المجالس ص 71. (¬3) تفسير ابن كثير 420. (¬4) الاختيارات ص 120، عن المجالس ص 82.

تنقي)) (¬1)، ويقاس على هذه العيوب ما كان مثلها أو أشد. قال الإمام النووي: ((وأجمعوا على أن العيوب الأربعة المذكورة لا تجزئ التضحية بها، وكذا ما كان في معناها أو أقبح منها كالعمى، وقطع الرجل وشبهه)) (¬2). يا أيها المؤمنون! قال العلماء: والأصل في الأضحية أنها مشروعة في حقّ الأحياء، أما عن الأموات فهي على ثلاثة أقسام: الأولى أن يُضحى عنهم تبعًا للأحياء بأن يشركوا مع الأحياء في ثوابها- كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وعن أهل بيته ومنهم من مات قبله، الثاني: التضحية عن الأموات بمقتضى وصاياهم تنفيذاٌ لها، وقد قال تعالى عن الوصية: {فمن بدل بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه} (¬3)، الثالث: أن نضحي عن الأموات تبرعًا مستقلين عن الأحياء، فهذه جائزة كذلك، ولكن قال بعض أهل العلم: لا نرى أن تخصيص الميت بالأضحية من السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضح عن أحدٍ من أمواته بخصوصه، ولم يرد عن أحد! من أصحابه في عهده أن أحدًا منهم ضحى عن أحدٍ من أمواته، ومن الخطأ أيضًا ما يفعله بعض الناس ممن يضحون عن الميت أول سنة يموت أضحية يسمونها (أضحية المقرة)، أو يضحون عن أمواتهم تبرعًا ولا يضحون عن أنفسهم، وأضحية الرجل تكفي عنه وعن أهل بيته، الأحياء والأموات وذلك من فضل الله ورحمته (¬4). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود 7/ 505، والترمذي 5/ 81، والنسائي 7/ 214. (¬2) شرح مسلم 13/ 128. (¬3) سورة البقرة، آية: 181. (¬4) ابن عثيمين: تلخيص كتاب أحكام الأضحية والذكاة.

عباد الله! سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض .. وتعرضوا لنفحات الله في هذه الأيام الفاضلة، فإن الثواء قليل، والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب، والخطر عظيم، والناقد بصير وربك بالمرصاد ولا يظلم ربك أحدًا {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (¬1) اللهم اسلك بنا طريق المتقين الأبرار، وأعذنا من خزي الدنيا وعذاب النار .. وتقبل منا واغفر لنا يا كريم يا غفار. هذا وصلوا. ¬

(¬1) سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8.

مقاصد السفر في الإسلام

مقاصد السفر في الإسلام (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (¬2). {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (¬3). عباد الله! انقضت أيام الامتحانات، ونجح من نجح، وأخفق من أخفق .. وكما طويت هذه الصفحة من الحياة، وانتهت هذه المدة من العمر كلمح البصر، فستطوى صفحةُ العمرِ كلها وسيؤول الناس كلهم إلى امتحان صعب، الخسارة فيه لا تعوض .. والنجاح فيه خلود في النعيم إلى الأبد، وكم هم الذين تغرهم الأماني .. ويطول عليهم المد وتمتد بهم حبال الأمل والرجاء في هذه الحياة فينسون أو يغفلون عن هذه الحقائق الكبرى والمشاهد العظمى ليوم القيامة .. وإن يومًا عند وبك كألف سنة مما تعدون .. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 25/ 2/ 1419 هـ. (¬2) سورة آل عمران، آية: 102. (¬3) سورة الحشر، آية: 18.

أيها المسلم! أما وقد انتهت الامتحانات وابتدأت الإجازة فكأني بك تفكر بالرحيل وتحزم أمتعةِ السفر، ناويًا لرحلة هنا أو هناك .. بمفردك أو بصحبة عائلتك، وإنني بهذه المناسبة أخاطبك مذكرًا .. وأُسائلك ناصحًا لا مُشهرًا، وأقول: لماذا، وإلى أين السفر؟ فذانك سؤالان مهمان قبل السفر، ولابد من استصحابهما أثناء السفر، وإنني إذ أدعو الله أن يحفظك ومن بصحبتك في حال حلِّك وترحالك فإنني أدعوك للتعرف على شيء من مقاصد السفر وأنواعه كشفها العلماء قديمًا. قال أبو بكر بن العربي- رحمه الله- عند قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} (¬1). المسألة الرابعة: في السفر في الأرض، تتعدد أقسامه من جهات مختلفة، فتنقسم من جهة المقصود به إلى هربٍ أو طلب، وتنقسم من جهة الأحكام إلى خمسة: واجبٍ، ومندوب، ومباح، ومكروه، وحرام، وينقسم من جهة التنويع في المقاصد إلى أقسام، ثم ذكر أنواعًا ستةً- داخلة ضمن سفر الهرب- وهي كما ذكرها ابن العربي ونقلها محنه القرطبي: الأول: الهجرة، وهي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضًا في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهي باقية مفروضة إلى يوم القيامة. الثاني: الخروج من أرض البدعة، قال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول: لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يُسبُّ فيها السلفُ، قال ابن العربي: وهذا صحيح فإن ¬

(¬1) سورة النساء، آية: 101.

المنكر إذا لم تقدر أن تُغيره فزل عنه، قال تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} الآية (¬1). الثالث: الخروج من أرضٍ غلب عليها الحرام، فإن طلب الحلال فرض. الرابع: الفرارُ من الأذية في البدن، وذلك فضل من الله أرخص فيه، فإذا خشي على نفسه فقد أذن الله في الخروج عنه والفرار بنفسه لتخليصها من ذلك المحذور، وأول من فعله إبراهيم عليه السلام، فإنه لما خاف من قومه قال: {إني مهاجر إلى ربي}، وقال: {إني ذاهب إلى ربي سيهدين}، وقال مخبرًا عن موسى: {فخرج منها خائفًا يترقب}. الخامس: خوفُ المرض في البلاد الوخمة، والخروجُ منها إلى الأرض النَّزهة، فقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم للرعاة حين استوخموا المدينة أن يخرجوا إلى المسرح فيكونوا فيه حتى يصحوا، وقد استُثني من ذلك الخروج من الطاعون .. كما جاء في الحديث الصحيح. السادس: الفرارُ خوف الأذية في المال، فإن حرمة مالِ المسلم كحرمةِ دمه، والأهلُ مثلُه وأوكد. أيها المسلمون! وإذا كان ما مضى في أنواع قسم سفر الهرب فقد قال العلماء: وأما قسم الطلب فينقسم إلى قسمين: طلب دين وطلب دنيا، فأما طلب الدين فيتعدد بتعدد أنواعه إلى تسعة أقسام، وهي مهمة فتأملوها، هي: أولًا: سفر العبرة، قال الله تعالى: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} (¬2)، وهذا كثير في القرآن، ويقال إن ذا القرنين إنما طاف الأرض ليرى عجائبها، وقيل لينفذ الحق فيها، ¬

(¬1) سورة الأنعام، آية: 68. (¬2) سورة الروم، آية: 9.

الثاني: سفر الحج وهذا فرض، الثالث: سفر الجهاد وله أحكامه، الرابع: سفر المعاش، فقد يتعذر على الرجل معاشه مع الإقامة فيخرج في طلبه لا يزيد عليه، الخامس: سفر التجارة والكسب الزائد على القوت، وذلك جائز بفضل الله، فإذا كانت نعمة منَّ الله بها في سفر الحج فكيف إذا انفردت. السادس: السفر في طلب العلم وهو مشهور، السابع: قصد البقاع الكريمة، قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)) فك الله أسره من الاحتلال الصهيوني. الثامن: الثغور للرباط بها، وتكثير سوادها للذب عنها. التاسع: السفر لزيارة الإخوان في الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((زار رجل أخًا له في قرية فأرسل الله على مدرجته مَلكًا فقال: أين تريد؟ قال: أريد أخي في هذه القرية، قال: هل لك من نعمة تربها عليه؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) (¬1). يا أخا الإسلام! واسأل نفسك لأي من هذه الأغراض الطلبية تطلب السفر؟ ولا يفوتنك أن للنية أثرًا في ثواب السفر أو عقابه .. وفي كونه محرمًا أو واجبًا أو مندوبًا .. فقد يمكث الرجلُ في أرض بدعة أو مكان يطغى فيه الشر وينتشر ¬

(¬1) رواه مسلم وغيره.

الحرام .. ولكن قصده مدافعة الشر والدعوة للخير .. فذلك مأجور على مجاهدته ودعوته. ودونك هذا الحوار فتأمله، يقول أبو بكر بن العربي: قد كنت قلتُ لشيخنا الإمام الزاهد أبي بكر الفهري: ارحل عن أرض مصرَ إلى بلادك، فيقول: لا أحبُّ أن أدخل بلادًا غلب عليها كثرةُ الجهل، وقلةُ العقل، فأقول له: فارتحلْ إلى مكة أقم في جوار الله وجوار رسوله، فقد علمتَ أن الخروج عن هذه الأرض فرضٌ لما فيها من البدعة والحرام، فيقولُ: وعلى يدي فيها هدى كثير، وإرشاد للخلق، وتوحيد، وصدّ عن العقائد السيئة، ودعا إلى الله عز وجل. وتعالى الكلامُ بيني وبينه .. قال أبو بكر مبينًا أهمية النية في السفر إثر تعداده أنواع السفر: وبعد هذا فالنية تقلب الواجب من هذا حرامًا، والحرام حلالًا بحسب حسن القصد، وإخلاص السرِّ عن الشوائب (¬1). إخوة الإسلام! من عجب أنكم لا ترون عند هؤلاء الأئمة ذكرًا للسفر من أجل المتعة المحرمة، أو النزهة المتحللة .. أفكان في المسلمين شغل عنها في زمنهم؟ أم أن أحوال المسلمين لم تنحدر إلى ما نراه اليوم في الواقع المنظور .. وأغراض السفر عند نفرٍ من أبناء المسلمين كما تعلمون إلى حدٍّ باتت الإعلانات تشهر لسفر مجموعة من النساء لأغراض تجارية .. وفي ثنايا الخبر لا يُستحى من ذكر الاحتفالات لهن واللقاءات المختلطة معهن في أكثر بلاد الدنيا تحررًا من الفضيلة وتمرغًا في أوحال الرذيلة .. بل وفي أشهر المدن بكثرة الجرائم والسطو على ¬

(¬1) انظر: أحكام القرآن 1/ 484 - 487، تفسير القرطبي 5/ 349 - 351.

مستوى العالم، وإذا خرجتما النساءُ عن قيود السفر المباحة، فلا تسأل عن سفر فئة من الشباب والرجال .. اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا وإيماننا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (¬1). ¬

(¬1) سورة الحج: آية 46.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله القائل في محكم التنزيل {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب} (¬1). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين .. أيها الإخوة المؤمنون! إذا تعددت أغراض السفر واختلفت نوايا المسافرين، فالمسلمُ الحق هو الذي يعبد الله حيث كان، ويراقبه في اجتماعه خلواته وحيث حلَّ أو ارتحل؛ لأنه مدرك لعظمة الله وسعة علمه، ومحاسبته لعبده- يوم الحساب- وفي كتاب الله يقرأ المسلم: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم} (¬2). أخي المسافر استصحب في سفرك عظمة الله، وليكن قصدك من سفرك حسنًا، فقد تنتهي أيامُك من هذه الحياة قبل عودتك من السفر، فإن مِت مُت سعيدًا، وإن بقيت عشت حميدًا كريمًا. يا أخا الإيمان! في الأسفار تبدو عظمة الخالق من خلال رؤية ما خلق، والتأمل في الكون الفسيح، وتنوع الحياة وانتشار الأحياء .. وذلك ضمن إطار سفر العبرة التي تحدث عنه العلماء، وأفاضت في ذكره آيات الكتاب الحميد. أخي المسافر! لا تنس عبودية الشكر إن رأيت في سفرك أصحاب بلاء ومحنة أو فقر ومسغبة ومن الشكر المساهمة في دفع المكروه عن إخوانك المسلمين، ¬

(¬1) سورة الأنفال، آية: 25. (¬2) سورة المجادلة، آية: 7.

واستصحب وسيلة الدعوة علاجًا لما تراه من انحراف في المعتقد والأخلاق، أو جهلٍ في الفرائض والسنن المشروعة في الإسلام .. ولا يكن همُّك النقد للآخرين أو مجرد التأسف على واقع المسلمين! ! لا تحقرن من المعروف شيئًا بالكلمة الطيبة، والهدية المُفرحة، والكتيب أو الأشرطة المعلمة .. فكم يحتاج الآخرون إلى ما تراه أنت أمرًا عاديًّا. أخي المسافر! لك دعوةٌ مستجابة في السفر فلا تحرم نفسك وذويك والمسلمين منها .. وإذا أخلصت الدعاء ولم تتجاوز فيه .. فلا تستعجل الإجابة .. ولا يفوتنك هذا الخير العميم في الدعاء في ابتداء السفر حين تقول: «اللهم إني أسألك في سفري هذا البرَّ والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم هوّن عليَّ سفري هذا واطو عني بعده، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل .. ». ويا لها من دعواتٍ لو تأملها واعتصم بها المسافرون. أخي المسافر! احفظ نفسك ومن يصحبك في السفر من مقارفةِ المحرمات .. أو مشاهدة المنكرات .. أو تضييع الواجبات، ولا تنس أن السفر فرصة لتنفيذ البرامج المفيدة، فقد تتقبل النفوس في حال السفر والنزهة أكثر مما تتقبل في حالة الإقامة على القراءة النافعة لكتاب الله .. وسير الأعلام النبلاء .. والتأمل في أحاديث المصطفى أو نحو ذلك من أنواع المعرفة المفيدة، مما يبقى رصيدًا للمرء في هذه الحياة وبعد الممات. عباد الله! في هذا الصدد - كم نحن بحاجة إلى الوعي في أمور ديننا كما نحن بحاجة إلى الوعي في أمور دنيانا .. إننا نعيش اليوم في عالم يختلط فيه الحق بالباطل، وربما روّج للرذيلة باسم الفضيلة، ولا أظنك ممن تنطلي عليه وصف

الخيرين أهل الصلاح بالرجعية والتطرف أو نحوها .. وصف أهل الفساد بالتحرر والتنور ودعاة الإصلاح .. والله أعلم بما يكتمون .. إن الخداع والتزوير بات يملأ الكون فيه جعجعة أهل الريب والشهوة والنفاق ومن في قلوبهم مرض بشكل عام، وبدأ يتعاظم منه شأن المرأة في هذه الأيام، فكثرت المطالبة باسمهن .. وكثرت الأصوات المشبوهة الداعية إلى تحررهن من العفة والفضيلة والحياء. ويدرك العقلاء وأهل الغيرة والشهامة فضلًا عن أهل العلم والمعرفة .. أن المرأة بوابة واسعة للفساد يُراهن عليها الموتورون .. ويرونها أقصر الطرق لإفساد المجتمع بأسره .. فما من فتنة أضرَّ على الرجال من النساء .. وأول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء كذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم، وما ترك الإسلام في نظرته للمرأة وتكريمها مجالًا ينفذ منه المفسدون باسم الدين يتوقع أن تؤول إليه .. متمثلين قوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} (¬1). وحين تستغل المرأة بالمطالبة حينًا .. وبالدعوات المشبوهة حينًا فذلك مؤشر إلى أن وراء الأكمة ما وراءها .. وإذا هانت على فئة من أهل الريب أخلاقهم وكرامةُ نسائهم، وما تتميز به بلادهم ومجتمعهم عن الآخرين .. فينبغي أن يقف المجتمع بأسره سدًّا منيعًا تجاه أفكارهم ومخططاتهم .. فالفساد إذا بدأ ولم يُستنكر استشرى، ولا تقف آثاره عند مريديه، بل تحصل الفتنة للظالمين وغيرهم، ولا يقف مخطط الفساد وشهوات المفسدين عند حدٍّ، وصدق الله {وَيُرِيدُ الَّذِين يَتبِعُونَ الشهَوَاتِ أَن تِمَيلُوا مَيلًا عَظِيمًا} (¬2). عباد الله! ألا فتنبهوا، وقوموا بواجب الله عليكم، ولتكن غيرتكم لدينكم ¬

(¬1) سورة البقرة، آية: 251. (¬2) سورة النساء، آية: 27.

ومحارمكم وبلادكم والمسلمين من حولكم غيرة أساسها الدين .. ومبعثها الوعيُ بحقائق الأمور، وقد حان الأوان للتربية الجادة للأسرة عمومًا، وللمرأة خصوصًا وتذكيرها بتكريم الإسلام لها، وبالهدف الحقيقي من وجوده، وتبصيرها بما يخططه الأعداء لها .. كل ذلك بإذن الله سيقف سدًّا منيعًا وسيفشل خطط الماكرين ويرد مكرهم عليهم. عباد الله! تذكروا الآثار المترتبة على عدم إنكار المنكر، فالله حكم بنجاة الناهين عن السوء، وهلاك من سواهم فقال تعالى: {وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون * فبما نسوا ما ذكروا به نجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون} (¬1). اللهم احفظ بلادنا ونساءنا من كل مكروهٍ وفتنة، اللهم وفق ولاة الأمر للأخذ على أيدي السفهاء والمفسدين، اللهم أعن علماءنا ورجال الفكر فينا لقيادة الأمة لكل خير، والوقوف في وجه أهل الفساد والريب .. اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا، وأبق سلطان الدين حيًّا قويًّا في نفوسنا، اللهم ومن أراد تفريق جمعنا أو الإفساد في مجتمعنا فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره .. اللهم اجعل تدبيرهم تدميرًا عليهم يا حي يا قيوم .. هذا وصلوا. ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآيتان: 164، 165.

وباء المسكرات والمخدرات (تاريخ وتحذير)

وباء المسكرات والمخدرات (تاريخ وتحذير) (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله رب العالمين كرّم بنى آدم وفضلهم على كثير ممن خلق {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} (¬2). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نعمه ظاهرة وباطنة .. ومن أجلِّها- بعد نعمة الإسلام- نعمة العقل المبصر، فبه يميز المرءُ بين الخير والشر، والضار والنافع، وبه يرتقي العبد وتتقدم الأمم وتنتظم الحياة. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله جاءت شريعته لتخلص العقل من أوضار الجاهلية، وترتفع به من دركات التفكير وتعطيل القدرات .. إلى أسمى الغايات وأعلى المقامات .. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (¬3). {فَاتَّقُوا الله يا أولِي الأَلباب لَعَلَّكم تُفلحون} (¬4). أيها المسلمون وإذا كان العقل من أكبر نعم الله على الإنسان فالموفق من ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 2/ 3/ 1419 هـ. (¬2) سورة الإسراء، آية: 70. (¬3) سورة آل عمران، آية: 102. (¬4) سورة المائدة، آية: 100.

استثمر هذا العقل فيما يصلح دينه ودنياه، وإن المرء ينحدر عن مقام الأنعام حين لا يستثمر هذا العقل فيما خلق الله، قال الله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} (¬1). وإذا كانت الغفلة عن الهدف الذي من أجله خلق الإنسان واحدة من أنماط عدم استثمار العقل- وليس هذا موطن الحديث عنها- فثمة نمطٌ آخر أكثر سوءًا يُزهق به العقلُ، وتقتل به الإرادة الحية .. وينتحر المرءُ وإن كان بعدُ حيًّا، وذلكم بتعاطي المسكرات والمخدرات. لقد قيل: إن المخدرات ما هي إلا لُغمٌ يفجر حضارات الشعوب ويهدد قيمها بالزوال، وأخلاقها بالدمار. وقيل: إن إدمان المخدرات والمسكرات ما هو إلا وحشٌ كاسر، أنشب مخالب الموتِ في عنقِ مجتمعاتنا الإسلامية (¬2). وقالوا: إن خطر المخدرات على الأمم والشعوب، وتأثيرها المدمِّر عليها أشد من الحروب التي تأكل الأخضر واليابس، وتدمر الحضارات، وتقضي على القدرات، ولذا جندت حكومات العالم كل إمكاناتها لمحاربتها والحدِّ من انتشارها (¬3). أيها المسلمون! إن انتشار المسكرات والمخدرات سمةٌ من سمات الجاهلية قديمًا وحديثًا، ففي الجاهلية الأولى تغنى الشعراء بالخمرة، وصُدرت أعظم معلقات العرب في جاهليتهم بذكرها، وقال شاعرهم (عمرو بن كلثوم): ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 179. (¬2) عبيد العصيمي: المخدرات دمار للمجتمعات ص هـ، 6. (¬3) أحمد الغامدي، أثر المخدرات ص 7، 8.

ألا هُبي بصحنك فأصبحينا ... ولا تبقي خمورَ الأندرينا وكان ذلك من مفاخرهم، ومما أضاع عقولهم وأوقاتهم حتى شعَّ نور الإسلام في أرضهم، وجاء محمد صلى الله عليه وسلم محررًا لعقولهم، ومستدركًا لما بقي من طاقتهم، ومعلنًا لهم ولغيرهم «ألا إن كلَّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع» (¬1). جاء محمدٌ صلى الله عليه وسلم ليهدي الناس إلى فطرة الله التي فطرهم عليها .. وجاء ليُنهي عهد الغواية ويحفظ الطاقة، ثبتا في الصحيحين -في حادثة الإسراء- أنه صلى الله عليه وسلم قال: «وأُتيت بإنائين في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر قيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربت فقيل لي: هُديت الفطرة، أو أصبت الفطرة، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتُك». وإذا كانت تلك إطلالة على الجاهلية الأولى وكيف استنقذت منها، فالجاهلية الحديثة أعتى وأشد وهي جاهلية مقننة .. وذات خطط وأهداف بعيدة المدى .. وقد اتخذت من المخدرات والمسكرات وسيلةً للسيطرة والعدوان، واستلاب العقول والأموال فضلًا عن مصادرة الدين وما يتبعه من خُلق أو حياء، لقد قام المستعمرُ البريطاني بإدخال القاتِ وشجع زراعته باليمن، وكانوا ينقلونه فترة من الزمن يوميًّا من أثيوبيا والصومال إلى أرض اليمن السعيد كما قامت بريطانيا بالعمل على إيجاده بين مواطني الهند والصين. وقامت دول أخرى بإدخال المخدرات إلى بعض الدول لتحطيمها اجتماعيًّا واقتصاديًّا حتى تتم السيطرة عليها. وإذا كان هذا قبل عقودٍ من الزمن .. فلا يزال ¬

(¬1) أخرجه مسلم.

الخطرُ يستشري، والداء يُنقل، والحربُ قائمة حتى أضحت حربُ المخدرات أحدَ أنواع الحروب المعاصرة الخطيرة .. ولئن لم تتوقف الدول الكافرة الكبرى عن هجومها بالمخدرات لمن سواها، ولا سيما بلاد المسلمين .. فقد زادت الطين بلة، حين غرست في عمق بلاد المسلمين ربيبة لها تنفذ مخططاتها، وتستولي على جزء من مقدسات المسلمين، ويشرد شعوبهم وفوق ذلك كله تنشر وباء المخدرات في دول المنطقة المحيطة بها .. أجل إن إسرائيل عانت من عزلتها الاقتصادية زمنًا وكسْرُ هذا الطوق .. يمهد السبيل لتجارة المخدرات التي تراهن عليها إسرائيل في إفساد الشعوب العربية والإسلامية .. ولقد أثار تهريبُ إسرائيل للمخدرات قبل فترة قلقًا للشعوب المسلمة، وتنادت وسائل الإعلام كاشفة هذا الخطر، ويكفي أن أحد المقالات كان عنوانه: إمبراطورية الحشيش (¬1). وهذه لفتة ينبغي أن ندركها .. وإن نظمها إلى أهداف دولة بني صهيون في عمق العالم الإسلامي، وأن نعي أن تعاطي أحد أبناء المسلمين لوباء المخدرات، أو تهريبها إنما ينسجم ويخدم أهداف الدول الكافرة المستعمرة وهو قبل ذلك واقع في مصيدة الشيطان، ومغضب للرحمن. إخوة الإسلام! إذا كان من أبرز أسباب انتشار المسكرات والمخدرات وتعاطيها الفساد المستشري في سبل الحياة كلها، حتى ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، وزادت الهموم وانتشر القلق فظن البعض -مخطئًا- أن الخلاص من ¬

(¬1) إبراهيم الطخيس، المخدرات، ص 23.

نكد العيش وقسوة الحياة يكون في شرب كأسة خمرٍ، أو جرعةِ مخدر، أو استنشاق مسكر أو شرب مفتر .. فإذا السراب يزول، وإذا الهم يتجدد ويزداد، بل ويبدأ مسلسل القلق والضياع، ويبدأ المرء حينها طريق الانحراف. وظن آخرون أن في الكأس متعةً .. وفي المخدر راحةً وهدوء بال، وتجديدًا للحيوية والنشاط، وإذا بالإحصاءات تكشف وتفضح عن تزايد أعداد المجرمين، وكثرة المرضى والمصابين بالأزمات النفسية فضلًا عن الأمراض العضوية. وتردي الأوضاع الاقتصادية، والتشرذم وتفكك الأسرة .. وعاد العقلاء يدركون عظمة الإسلام فيما حرم، ويقفون متأملين في النص القرآني المحكم: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} (¬1). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآيتان: 90، 91.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله أحل الحلال وفضله، وبيّن الحرام وحذر منه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لم يجعل دواء الأمة وعافيتها وأنسها فيما حرم عليها، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بُعث بأكرم الأخلاق وأتمِّها .. ونهى عن السفاسف صغيرها وكبيرها، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. عباد الله! حين تتنادى الأمم والدولُ كلها مسلمها وكافرُها، غنيُّها وفقيرها محذرةً من وباء المخدرات، ومتخذة الوسائل في محاربتها، وحماية الشعوب منها -على اختلافٍ في صدقها وفي أهدافها- فإن ذلك واحدٌ من مؤشرات عظمة هذا الدين، وسمو رسالة محمد عليه الصلاة والسلام حيث نزل القرآن وجاءت السنة بالنهي والتحذير من وباء الخمر، وما يندرج تحته من مسكرٍ أو مفترٍ أو مخدر، قبل ما يقرب من ألف وخمسمائة عام. أيها المسلمون! لقد جاء حديث القرآن حريصًا عن الخمر في أكثر من آية، ولم يكن للمخدرات حينها وجود يذكر، وهذا يعني أن هذا الداءَ العُضال، والشبحَ المخيف لم يوجد في البيئة الإسلامية إلا متأخرًا، فابن كثير مثلًا يذكر في حوادث سنة (494 هـ) أربع وتسعين وأربعمائة، أن الحسن بن الصباح، زعيم الطائفة المعروفة بالحشاشين كان يستعمل مادتي الجوز والشونيز ممزوجتين بالعسل فيطعم بذلك من اتجه لدعوته من الناس حتى يحرق مزاجه ويفسد دماغه حتى يستجيب له، ويصير أطوع له من أمه وأبيه (¬1). ¬

(¬1) البداية والنهاية 12/ 159.

وهذا يعني أن نوعًا من المخدرات عُرف في ذلك الوقت الذي ظهرت فيه هذه الطائفة (¬1). ويرى ابنُ تيمية أن الحشيشة دخلت بلاد المسلمين حين اجتاح التترُ بلاد المسلمين ويقول: وهذه الحشيشة كان أول ما بلغنا أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة حين ظهرت دولة التتر، وكانت هذه الحشيشة الملعونة من أعظم المنكرات، وهي شرّ من الشراب المسكر من بعض الوجوه، والمسكرُ شرٌّ منها من وجه آخر .. (¬2) عبادَ الله! في زماننا المعاصر تفنن المجرمون في إنتاج أنواع المخدرات، واستُخدم العقلُ لتدمير العقل وكان تصديرُ المخدرات -بأنواعها المختلفة- أحدَ الوجوه الكالحة لجاهلية القرن العشرين؟ ومع ذلك كله يبقى النصُّ القرآني عظيمًا وشاملًا في حرمته لكلِّ ما خامر العقل وغطاه .. وإن لم يُذكر بنصه .. وجاءت نصوص السنة النبوية شاملة في التحريم للخمر وجميع أنواع المسكرات لقوله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ مسكر خمر، وكلُّ مسكر حرام» (¬3). ثم جاء كلام الأئمة الأعلام شاملًا في الحكم والتحريم لكل ما يندرج تحت مسمى الخمر، حتى قال ابن القيم يرحمه الله: «إن الخمر يدخل فيها كلُّ مسكرٍ مائعًا كان أو جامدًا عصيرًا أو مطبوخًا .. إلى أن قال: فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل مسكرٍ خمر، وصحِّ عن أصحابه الذين هم أعلم الأمة بخطابه ومراده أن الخمر: ما خامر العقل على أنه لو لم يتناول لفظه صلى الله عليه وسلم كلَّ مسكر، لكان القياس ¬

(¬1) أحمد الغامدي، أثر المخدرات وسبل الوقاية ص 18. (¬2) الفتاوى 34/ 205. (¬3) رواه أحمد ومسلم وغيرهما، صحيح الجامع 4/ 180.

الصريحُ الذي استوى فيه الأصلُ والفرعُ من كل وجهٍ، حاكمًا بالتسوية بين أنواع المسكر، فالتفريق بين نوعٍ ونوع تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه (¬1). يا أخا الإسلام يا من تُقاد بأمر الإسلام، وتنتهي عند حدوده كفاك تحذير القرآن وأنها رجس من عمل الشيطان .. وموقعة للعداوة والبغضاء بين الخلان .. ويكفي من شؤمها أنها تصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنت منتهي؟ يا أخا الإيمان! في السنة المطهرة بيان أن الإيمان وشرب الخمر لا يجتمعان: «فلا يشرب الخمرة حين يشربها وهو مؤمن». وهل ترضى أن تلقى الله كعابد وثن، قال صلى الله عليه وسلم: «مدمنُ الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن» (¬2). وهل ترضى بحرمان نفسك لذةً دائمة لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون، بلذة عابرة، بعضها حسرة وندامة في الدنيا، يقول صلى الله عليه وسلم: « .. ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتبْ، لم يشربها في الآخرة» (¬3). أم ترضى بسببها أن تسقى من عرق أهل النار، ففي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «كلُّ مسكر حرام، إن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال». قيل يا رسول الله: وما طينة الخبال؟ قال: «عرقُ أهل النار أو عصارة أهل النار». يا عبدَ الله! حين لا يهون عليك دينُك، فعقلك حريّ بالعناية، وهو جوهرة ثمينة لا أخالك تفرط فيها لأتفه الأسباب، قال الحسن البصري -يرحمه الله-: لو كان العقل يُشترى لتغالي الناس في ثمنه، فالعجب ممن يشتري بماله ما يفسده (¬4). ¬

(¬1) زاد المعاد. (¬2) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. (¬3) رواه أحمد ومسلم وغيرهما، صحيح الجامع 4/ 180. (¬4) الشريم، وميض من الحرم ص 67.

احذر يا عبد الله من كل ما يهضم الدين والعقل، قال الضحاك بن مزاحم يرحمه الله لرجلٍ: ما تصنع بالخمر؟ قال: يهضم من طعامي، قال: أما إنه يهضم من دينك وعقلكِ أكثر (¬1). أيها المسلمون! لا يقف الحديث عن المسكرات والمخدرات عند هذا الحد .. فثمة أسباب لتعاطيها وانتشارها، وثمة أضرار مختلفة لمتعاطيها ومروجيها .. وسبل لوقاية الفرد والمجتمع فيها، وأمور أخرى أرجئ الحديث عنها لخطبة لاحقة بإذن الله. أسأله تعالى أن يلهمنا رشدنا .. وأن يحفظ علينا ديننا ويصلح عقولنا .. وأن يجنبنا وإخواننا المسلمين مواطن الزلل ومواقع الخطر .. إنه ولي ذلك والقادر عليه .. ¬

(¬1) السابق ص 67.

(2) وباء المسكرات والمخدرات

(2) وباء المسكرات والمخدرات (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} (¬2). {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} (¬3). أيها المسلمون! حديث اليوم استكمال للحديث السابق عن وباء المسكرات والمخدرات، وتركيز أكثر على أسباب تعاطيها وانتشارها، وما شهد به الشرعُ والعقل والواقع من أضرارها وآثارها، وسبل الوقاية منها، ومشروبات أو مأكولات أخرى تعد مقدمة لها. إن من أعظم أسباب انتشار المسكرات والمخدرات وتعاطيها الأزمة الروحية التي يعيشها بعضُ المسلمين بعيدًا عن هدي الله وذكره مما سبب ضعفا في الوازع ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 9/ 3/ 1419 هـ. (¬2) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71. (¬3) سورة النساء، آية: 1.

الديني والمستوى الأخلاقي، إنها أزمةُ صلةٍ بين الخالق والمخلوق تهوّن على المرء ارتكاب أي محظور .. وترك أي واجب وعدم التفكير مليًّا في العواقب، وضعف التخوف من عذاب الله في الآخرة، إن سلم من عذابه في الدنيا. والمصيبة أن متعاطي المخدرات والمسكرات ينتقل من أزمة إلى أزمة أعظم منها، إلا أن يتداركه الله منه برحمةٍ وتوبةٍ صادقة. والفراغ القاتل سبب مهم آخر في الإطلال على نافدة المسكرات والمخدرات، ولاسيما عند فئة الشباب وتزداد المشكلة ويقترب الشاب أكثر من هذه المشكلة إذا اقترن برفقة سيئة، وأصدقاء سوء، يهونون عليه الأمر، ويدعونه إلى مجاراتهم في ورطتهم، أو يتهمونه بالجبن والبخل إذا لم يستجب لمطالبهم. وآفات صديق السوء كثيرة، ليست هذه إلا واحدة منها، وكثرة العمالة الوافدة ذات الأهداف السيئة في ترويج المخدرات .. سبب كبيرٌ في انتشارها عند من لا يستطيعون جلبها ولا السفر إليها، وتؤكد الإحصاءات المتعلقة بالمقبوض عليهم في جرائم التهريب والترويج على دور هذه العمالة في انتشار هذا الوباء، فكيف إذا انتشرت هذه العمالة في الأحياء السكنية وكانت الغالبية منهم عُزابًا، وتيسر لهم الاتصال والاختلاط بشباب أغرار، يسهل اصطيادهم والتأثير عليهم، إنها مشكلة لابد من التفطن لها. وفي السفر للخارج، مع توفر المادة، وضعف الرقيب وكثرة المغريات، ما يدعو ضعفاء النفوس لتعاطي المسكرات والمخدرات، في البداية بعيدًا عن الأهل والوطن .. ثم يستفحل الأمرُ، ويقود الإدمان إلى تعاطيها وجلبها في أي مكان وجدها بأي ثمن اشتراها (¬1). إخوة الإسلام! تأتي العوامل السياسية بين الدول نتيجة الاضطهاد والاستعمار ¬

(¬1) (1) إبراهيم الطخيس، المخدرات ص 50 - 54.

والرغبة في الإفساد سببًا مهما من أسباب انتشار المسكرات والمخدرات، وقد استخدم الفيتناميون سلاح المخدرات في إضعاف قوة الجنود الأمريكان في حرب فيتنام، ولعب الاستعمار الإنجليزي والفرنسي -فيما مضى- دورًا بارزًا في نشر المخدرات في العالم العربي، ثم استلمت الراية إسرائيل ولا تزال جاهدة في إفساد شعوب المنطقة بهذا الداء العضال، إلى غير ذلكم من أسباب، لا شك أن لوسائل الإعلام الفاسدة وكثرة القنوات الفضائية الغازية دورًا في الدعوة إليها وعدم التحذير منها. إخوة الإيمان! وتُخلِّف هذه المسكرات والمخدرات آثارًا سيئة على الفرد والمجتمع، وعلى دين المتعاطي ودنياه، كيف لا وقد حكم الإلهُ أنها موقعة للعداوة والبغضاء، صادةٌ عن ذكر الله وعن الصلاة .. وهذه الأهداف التي يريدها الشيطان أمور واقعة يستطيع المسلمون أن يروها في عالم الواقع بعد تصديقها من خلال القول الإلهي الصادق بذاته، وقد قيل: إن الخمرَ ينسي والميسر يلهي. ويقف الطب الحديث معترفًا بعظمة القرآن ومؤكدًا الآثار السيئة والأضرار الصحية لهذا الوباء، ومؤكدًا تأثيرها على المخِّ والجهاز العصبي، والهضمي، والكبد والبنكرياس، وعلى القلب والدورة الدموية، وحدوث الأورام الخبيثة، بل جاوز الأطباءُ أثره على الأجنة والمواليد. إن في ذلك لآية .. وما يعقلها إلا العالمون؟ وآثارها الأمنية لا تخفى، والعلاقة بين تفشي الجريمة وبين السكر وتعاطي المخدرات يكشفها نسبُ المقبوض عليهم وتؤكدها البحوث والدراسات التي كتبت عن صلة الجريمة بالمخدرات .. (¬1). ¬

(¬1) أثر المخدرات: أحمد الغامدي ص 37.

أما آثارها الاقتصادية. فيأبى الله أن يكون الثراءُ فيما حرم الله، ومع ارتفاع أسعار المخدرات فمروجُها من أفقر الناس .. أما المتعاطون فلا تزالُ يستنزف أموالهم حتى يضيقوا بالنفقة الواجبة لأهليهم وأولادهم، وربما أصبحت عوائلهم عالةً يتكففون الناس، نسأل الله السلامة والعافية لنا ولإخواننا المسلمين. وللمسكرات والمخدرات آثارها الاجتماعية المدمرة، فهي سبيل لانعدام الأخلاق، وتفكك الأسر، وهي طريق لانعدام القيم، وانتشار الكسل، وربما كانت نهايتها القتل من قبل سلطة رادعة .. بل قبل ذلك من الشخص المدمن أو من أقرب الناس إليه، ودونكم قصةً ذات مغزى (¬1)، وهي قصة أمٍّ انتهى النزاعُ مع ابنها المدمن على المخدرات، والذي كان يُلح عليها في الحصول على مبلغ يستطيع به أن يشتري جرعته المعتادة، إلى الانتحار بمسدس أمام نظر أمه، ولما رأته الأم لم يمت لتوه تناولت المسدس من يده المرتعشة وأطلقت على رأَسه ما تبقى من رصاصات، لترديه قتيلًا وتسارع بموته، ثم تذهب لتسلم نفسها (¬2). عباد الله! هل من قلوب تعي، أو عقول تفكر في النهاية الموحشة والآثار المدمرة لهذه المسكرات والمخدرات. كيف وقد ذكر أهل العلم .. أن الحشيشة -وهي نوعٌ من المخدرات- توجب الفتور والذلة، وفيها فساد للمزاج والعقل، وفتحُ باب الشهوة، وموجبة للدياثة .. (¬3)، بل قالوا: إنها رشوة الشيطان يرشو بها المبطلين ليطيعوه، وهي مورثة لقلة الغيرة -على المحارم- وزوال الحمية، وآكلها يعني الحشيشة -إما أن ¬

(¬1) أفول شمس الحضارة الغربية من نافذة المخدرات ص 29، 30. (¬2) أثر المخدرات ص 45. (¬3) الفتاوى 34/ 211.

يصير ديوثًا، أو مأبونا، أو كلاهما، كذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله (¬1). إخوة الإيمان! كفى بالمسكرات والمخدرات سوءًا أنها أمُّ الخبائث، خطب عثمان رضي الله عنه يومًا فقال: أيها الناس، اتقوا الخمر فإنها أمُّ الخبائث، وأن رجلًا مما كان قبلكم من العباد كان يختلف إلى المسجد فلقيته امرأةُ سوءٍ، فأمرت جاريتها فأدخلته المنزل فأغلقت الباب، وعندها باطية من خمر، وعندها صبي فقالت له: لا تفارقني حتى تشرب كأسًا من هذا الخمر، أو تواقعني، أو تقتل الصبي، وإلا صِحتُ وقلت: دخل عليَّ في بيتي فمن الذي يُصدقك؟ فضعف الرجل عند ذلك وقال: أما الفاحشة فلا آتيها، وأما النفس فلا أقتلها، فشرب كأسًا من الخمر، فقال: زيديني، فزادته، فوالله ما برح حتى واقع المرأة وقتل الصبي، قال عثمان رضي الله عنه: فاجتنبوها فإنها أمُّ الخبائث، وإنه والله لا يجتمع الإيمان والخمر في قلب رجل إلا يوشك أحدهما أن يذهب بالآخر (¬2). عباد الله! أرأيتم كيف تدعو هذه الفاحشة لغيرها من المنكرات .. فكيف وقد ذكر فيها أكثرُ من مائةٍ وعشرين مضرةً دينيةً ودنيوية. ألا فالتزموا حدود الله وقوا أنفسكم وأهليكم ومجتمعكم الشرور والآثام: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب} (¬3). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .. ¬

(¬1) الفتاوى 34/ 223. (¬2) رواه النسائي وابن حبان في صحيحه. (¬3) سورة الحشر، آية: 7.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله .. معاشر المسلمين! أما عن سُبل الوقاية من هذه الأوبئة الفتاكة لابد أولا من صدق العزيمة -بالنسبة للفرد المُبتلى- ولابد من تعاون فئات المجتمع على محاربة هذا الداء ومشاركة الجهات المسؤولة مهمتها .. فالداءُ يتجاوز الفرد إلى المجتمع إذا لم يُسارع بالدواء. ولابد من تكثيف التوعية بأضرار المسكرات والمخدرات والتركيز في ذلك على المناهج الدراسية، وفي وسائل الإعلام المختلفة، ولابد من تأكيد دور الأسرة في رعاية أبنائها والحفاظ عليهم، ولابد من الجدية في ردع المجرمين وتطبيق حدود الشرع في المتعاطين والمروجين والمهربين، ولقد كان للقرار الحكيم الذي صدر في هذه البلاد ويقضي بقتل المهربين، أو المروجين الذين يتكرر منهم ذلك أثره في الحدِّ من انتشار هذا الوباء، ونأمل المزيد من العناية به وتعميمه، ففي القصاص حياة، ويزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. ولابد -في سبيل وقاية الشباب من هذا الداء، من العناية بتربيتهم وملء وقت فراغهم بما يفيدهم ويفيد مجتمعهم وأمتهم. ولابد من رعايتهم وحفظهم عن قرناء السوء، وأبالسة الإنس، ووقايتهم من وسائل الدمار الخُلقي بكافة أنواعها (المرئي منها، والمقروء، والمسموع)، ولابد -في سبيل الوقاية من وباء المخدرات- من

التحذير من السفر للخارج ولاسيما للشباب المراهقين الذين لا هدف ولا منفعة لهم من وراء السفر. ومع ذلك كله فكم هو جميل لو درست حالات المتعاطين والمروجين وعرفت الأسبابُ والدوافع ثم قُدم العلاج المناسب لها، ووضعت الاحتياطات المستقبلية حتى لا يقع غيرُهم فيما وقعوا فيه -فالوقاية خير من العلاج-. إخوة الإيمان! حين يكون الحديث عن المسكرات والمخدرات فلابد من همسةٍ عن بعض المُفترات التي عمت البلوى بها إلا من رحم الله، وضررها على الدين والمال والبدن ظاهرٌ لا يحتاج إلى كثير عناء .. فمن يجهل آثارَ الدخان على المدخنين، ومن يشك في كونه هدر للمال، واعتداء على الصحة .. وحيث توجد عيادات للمدخنين فذلك شعور واعٍ من أهل الصحة لأضرارها وضرورة معالجة أصحابها، أما فتاوى العلمَاء، وأدلتهم على تحريمها فتلك تُجيب على أسئلة السائلين عن حكمها، وتوقظ بصائر الجاهلين بحكم الشرع ورأي أهل العلم في تحريمها. إن مشكلة التدخين -فوق ما فيها من أضرار لا تخفى- فهي سبيل لاختيار رفقة السوء، والوحشة من رفقة أهل الخير .. وتلك سيئة كبرى من مساوئها .. وسيئة أخرى أنها داعية للكسل عن الطاعات، وربما كانت مقدمةً لأنواع من المحرمات. وتلك سيئة أخرى، فإياك أيها الشهمُ وإياها، وبادر أيها المبتلى بالإقلاع عنها قبل أن يستفحل فيك خطرُها، وتعظم آثارُها. والحديث عنها محتاج لمزيد بسط وبيان وليس هذا موضعها -أما القاتُ- فهو بلية أخرى مفترٌ وملهٍ عن ذكر الله، ولها أضرار ومضاعفات ذكرها العارفون، وهي لا تخفى، ولكن انتشاره أقلُّ بكثير من انتشار التدخين، ومن مخاطره على المدى

البعيد سوءُ الهضم، وتليفُ الكبد، وإضعاف القدرة الجنسية والتعرض بسهولة لمرض السل .. (¬1) عباد الله! من الخمور الحسية إلى الخمور المعنوية أنقلكم، فللخمور الفكرية آثارٌ سيئة، وتلك هي التي تنشأ عن تعظيم العقل وإعطائه حجمًا أكبر مما أراده الله له، فيجعل أحيانًا مساويًا للنص، ولربما قُدم على النص، وذلك سبب ضلال المعتزلة فيما مضى، ومحلُّ فتنة العقلانيين في هذا الزمن .. وليت الآخرون يعتبرون بما انتهى إليه السابقون وأحدُهم يقول بعد طول تجربة وعناء في تعظيم العقل: نهاية إقدام العقولِ عقالُ ... وأكثر سعي العالمين ضلال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا قيل وقالوا إن الإسلام يقدر العقل ويعتني به، بل ويحرم كلَّ ما يؤثر عليه، ولكنه يجعل له حدودًا ينتهي عليها حتى لا يتيه أصحابه في بيداء مهلكة لا نهاية لها .. وكم زلت أقدامٌ ونشأت نحل ضلت وأضلت بسبب زيغ العقل .. وكم زل آخرون وهم يظنون أنهم أصحابُ فكرٍ مستنيرٍ، زعموا أنه لابد من تحرير العقول، فطالت آثارُهم النصوص الثابتة المحكمة فأولوها أو أنكروها. وعلماء الإسلام الربانيون لم يتجاهلوا دور العقل، ولكنهم لم يعتدوا على النقل، وكتب أحدهم كتابًا سماه «درء تعارض العقل والنقل» ثم خلفت خلوف رأت أن بإمكانها -وفى ديار المسلمين- أن تتخلص من أي تقييد على العقل، فراحوا يسخّرون بالدين ونالت سخريتهم الذات الإلهية ومقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وآخر ما أحدت ضجةً ذلك الرسمُ الكاريكتوري في جريدة القبس الكويتية، ويحمل نكتةً ساخرةً تقول: «إن آدم وحواء طردا من الجنة لأنهما لم يدفعا ¬

(¬1) المخدرات والعقاقير المخدرة ص 184، 185.

الإيجار» وأعوذ بالله مما قالوا .. وأستغفره وأنزهه عما يقول الظالمون، وأتذكر سخرية المنافقين في عصر الرسالة ونزول القرآن حاكمًا بكفرهم في قوله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} (¬1). عباد الله! حين صدر حكم بسجن رئيس التحرير ستة أشهر، وإيقاف الصحيفة عن الصدور لمدة أسبوع .. تنادت أقلام موتورة، تستغرب الحكم وتتخوف على مستقبل الحرية في الكويت، وجاءت عناوين مقالات بعض صحفنا تقول: لأول مرة في الكويت، ونسي هؤلاء أن يقولوا ليست هذه المرة الأولى التي يسخر بها من الدين، فقد سبق للسياسة سخرية أخرى .. وأين حرية الرأي من الاعتداء على الحرمات، بل والتطاول على قيم الإسلام الكبرى في بلد يحكم بالإسلام وتدين شعوبه بالإسلام .. إنها مأساة. بل زمن الوقاحة الإعلامية، كما عبر أحد كتابنا -وهو يتحدث عن تخوفنا من البث الإعلاني الغربي- وكيف نواجهه، حيث قال: غير أننا بعد أن هطلت علينا سحائب البث الفضائي الغربي وغمرتنا ذبذباته وموجاته اكتشفنا حقيقة مرةً مذهلة هي أن الخطر الذي كنا نظنه آتيًا من بعيد قد تفجّر من تحت أقدامنا، وأن ما كنا نظنه قادمًا من الغرب بصلفه الحضاري قد قام به أبناء جلدتنا، وبدل من أن نكون نحن وأبناءُ عمنا على الغريب -في هذا المجال- أصبح أبناءُ عمنا والغريبُ من خلالهم علينا جميعًا (¬2). ومن عجب أن هذا المقال كتبه د. أحمد الضبيب، قبل ما حصل من جريدة القبس، فماذا تراه يقول أو يقول غيره بعد ما حصل. ¬

(¬1) سورة التوبة، الآيتان: 65، 66. (¬2) د. أحمد الضبيب، الجزيرة، عدد 9394 في 24/ 2/ 1419 هـ.

10 ملاحظات في أيام الامتحانات

10 ملاحظات في أيام الامتحانات (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله خلق الموتَ والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملًا .. ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل هذه الدار دار امتحان وبلاء وعمل، والآخرة دار جزاء وقرار إلى الأبد .. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بلغ البلاغ المبين وجاهد في الله حتى أتاه اليقين .. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن أصحابه الغرِّ الميامين وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (¬2). {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم} (¬3). إخوة الإسلام! غدًا موعدُ الامتحان لمعظم الطلاب والطالبات .. وللامتحان رهبة وهيبة .. والنفوس بطبعها تخاف من مساءلتها .. وتقلق من غيبٍ لا تدري ما الله صانع فيه لها .. ولكن القلق أو التخوف الذي يعقبه الطمأنينة والنجاح سرعان ما ينتهي، وتشعر النفس معه بلذة الراحة بعد التعب، والسرور بعد الكبد. وما أتعس عيش الذين يتواصل كبدهم قبل الامتحان وبعده .. وأشدُّ تعاسة الذين يستمر كبدُهم في تلك الحياة الدنيا وفي الآخرة .. ألا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 11/ 2/ 1419 هـ. (¬2) سورة الحشر، آية: 18. (¬3) سورة الأنفال، آية: 29.

أيها الطلبةُ والطالبات .. وأولياء الأمور آباء كانوا وأمهات، إخوانًا كانوا أو أخوات .. وإليكم جميعًا أوجه هذه النصائح الملاحظات العشر بمناسبة أيام الامتحانات: الملاحظة الأولى: ومع رهبة الامتحان فمما يخفف من هذه الرهبة قوة اليقين والتوكل على الله بعد فعل الأسباب المطلوبة شرعًا من حسن المذاكرة والتركيز في الفهم. وكن واثقًا مطمئنا لقضاء الله وقدره، فما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك .. دافع القلق وكثرة الهموم فلربما كانت هذه وتلك أسبابًا لضياع معلوماتك وفشلك في الامتحان. الملحوظة الثانية: إياك وكثرة السهر المفضي إلى الإعياء وعدم القدرة على التركيز أثناء الإجابة .. وإياك أن يطول سهرُك إلى قرب الفجر ثم تنام عن الصلاة، وربما استيقظت متأخرًا فأتيت إلى قاعة الامتحان ولم تصلِّ فرض الله بعدُ، متأولًا أن الله غفور رحيم، وناسيًا أَن الله شديد العقاب .. ولا خير فيك إن فوَّتَ شيئًا من الصلوات أثناء الامتحانات، ولا خير أيضًا إن لم تصل إلا أيام الامتحانات. الملحوظة الثالثة: وهناك من يعمد من الطلبة أو الطالبات إلى تعاطي المنبهات أو المخدرات أيام الامتحانات، وذلك لدفع النوم -كما يظنون- ولكنها البداية النكدة لو كانوا يعلمون .. وهي مورثة لخلل التفكر وتعب الجسد فيما بعد .. الأمر الذي يدعو إلى كثرة النوم بعد وضياع أوقات مضاعفة .. لو كانوا يعلقون. الملحوظة الرابعة: وهى همسةٌ لأولياء الأمور، وتنبيه من لم يبتل بعد بهذا الداء .. ذلكم أنّ هناك أشرارًا يصيدون في الماء العكر، فيلقون سمومهم إلى غيرهم .. وربما فتنوا بالمخدرات شابًا أو شابة لا علم لهم بمثل هذه الأمراض الفتاكة، مستغلين ظروف الامتحانات .. ومُسوّلين للطالب أو الطالبة أن تعاطي حبةً

مخدرة كفيل بالحيوية والنشاط ومن ثمَّ النجاح في الامتحان .. ومن هنا تبدأ المشكلة ويتلوث الأبرياء بأدواء الخبثاء .. ولربما تطور الأمر إلى ما هو أعظم من ذلك، فراودوا المتعاطي عن نفسه، إذا اعتاد جسمه عليها ولم تتوفر في حينها .. فباعوها له بأغلى الأثمان .. وربما كان الثمن انتهاك العرض ووأد الفضيلة والحياء ولا حول ولا قوة إلا بالله .. فانتبهوا لهذه المخاطر وبداياتها في كل حين .. ولاسيما في أيام الامتحانات. الملحوظة الخامسة: وهى قريبة من سابقتها .. ولكنها بلون آخر من الإغراء .. فقد تخدع هذه الذئاب المفترسة شابًّا غِرًّا .. فتعرض عليه الركوب معهم في السيارة لسرعة إيصاله إلى بيت أهله أو إلى مدرسته .. فإذا استجاب وركب بدأ مسلسل الإغراء والعروض أولًا .. فإن لم يستجب الشابُّ بدأ مسلسل التهديد والوعيد .. ولربما كاد من وسائلهم تهديدُ الشاب بعدم تمكينه من الامتحان إن لم يستجب لمطالبهم الخبيثة .. ولربما استجاب الشاب المسكين في البداية خشية فوات الامتحان عليه ولوم الأهل له، ثم كانت هذه الفضيحة ورقةً يُهدد بها إذا لم يستجب لمثلها .. وكل ذلك يقع في غيبة ولي الأمر وغفلة المدرسة .. وسببها الأول الاستجابة للركوب مع هذه الشلل الفاسدة .. فاحذر أخي الشاب من الركوب مع من لا تعرفه معرفةً جيدةً وتثق بدينه وخلقه، وتنبه أيها الولي لمسيرة ابنك وذهابه وإيابه من المدرسة .. وعلى المدرسة ورجالات الشرطة والحسبة ثقل من المسؤولية ومتابعة هذه الحالات الشاذة. الملحوظة السادسة: وثمة ظاهرة يغفل عنها كثير من الناس، وهي مقلقة لرجالات الحسبة والدوريات وتحتاج إلى يقظة وحزم وحسم يقطع دابر الفتنة ويحفظ بنات المسلمين من أوغاد قل حياؤهم واستطار شرُّهم، وجعلوا مهمتهم

التحرش بالطالبات، إنها ظاهر مؤلمة تقع عند مدارس البنات -وتكثر أيام الامتحانات- والذئابُ ترصد خروجهن فتبدأ المضايقة بكلمة أحيانًا أو برسالة مختصرة أحيانًا أخرى وبرمي رقم هاتف تتم المحادثة والمهاتفة عليه فيما بعد .. وكم خَدع هؤلاء الذئاب بوسائلهم المختلفة عددًا من الفتيات فأصابهن من لوثة العرضِ ما دنَّس حياءَهن .. وجاء بالفضيحة على عوائلهن. أيها الأولياء! ربما كان الخلل من الفتاة أحيانًا .. فالطالبة مثلًا حين تُنهي امتحانها يكون هناك زمن بين نهاية الامتحان ووصولها إلى منزلها .. ويظن الأهل أنها في المدرسة، وتعتقد المدرسة أنها في بيت أهلها .. وهي خلال هذه المدة متعرضة للفتنة وربما ضربت مواعيد مع أولئك الفساق، فكانت بدايات النكدِ والشقاء لها ولأسرتها وللمجتمع من حولها. أيها الأولياء .. أباءً كنتم أو أمهاتٍ أو إخوانًا أو أخوات. هل تأكدتم من ذهاب الطالبة إلى المدرسة ومجيئها عن طريق النقل الرسمي، أو عن طريقكم؟ أم خاطرتم بذهابها على رجليها .. ولا تدرون ما يحدث لها؟ هل تنبهتم للمكالمات الهاتفية المثيرة من الفتيات، وهل احتطتم في مكان الهاتف .. وأكدتم على عدم استخدامه إلا للضرورة وفي مكان بارز .. وليس في غرفة مختصة؟ هل تسامحتم في مذاكرة الطالبة مع زميلتها .. ثم لا تعلمون ما يحدث في هذه المذاكرة؟ هل نتعاون جميعًا في معرفة من يدورون حول المدارس وبلغنا الجهات الرسمية بهم أو برقم سياراتهم .. إنها فتن يشيب لهولها الولدان .. وفضائح إذا ما وقعت -لا قدر الله- طأطأت رؤوس الرجال، وتسري الفتن لتعم الظالم وغيره، وصدق الله: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب} (¬1). ¬

(¬1) سورة الأنفال، آية: 25.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين .. وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين .. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. إخوة الإيمان! حين نذكر مظاهر سلبية فللحذر منها .. وحين نومئ إلى نماذج فاسدة فلا يعني أنها شاملة .. ولا يزال في الناس خير.، فتيانًا كانوا أم فتيات .. أولياء .. أو معلمين أو معلمات. ولكن الظاهرة إذا بدأت فلم تعالج سريعًا ولم يتنبه الناس لمخاطرها .. اتسعت رقعتها وكثرُ أعداد المتضررين بها، وصعب علاجُها، وبعض الناس يخلطون بين الثقة والاحتياط، فالثقة أصل والاحتياط مطلوب .. وبعض الناس لديهم ثقة زائدة .. وإن شئت فقل سطحية وإهمال، وقد تجري الأمور على غير ما يريدون وهم في غفلتهم وثقتهم يترددون .. فالتربية أمانة والمسئولية كبيرة، والوقاية خير من العلاج، والسعيد من وعظ بغيره، ومن عوفي فليحمد الله، ومن ابتلي فليستعن بالله وليسارع بالعلاج. أيتها المعلمات .. وقبل أن تذبل الزهرةُ، عليكن كفل كبير من المسؤولية -فتداول الصور، أو أرقام الهواتف، أو الأشرطة الماجنة -أو الرسائل المثيرة، أو غير ذلك من ممنوعات .. لابد من مراقبة الطالبات وأخذهن بالحزم .. ولابد من جولات تفتيشية مفاجئة أحيانًا .. ولابد من تكثيف المراقبة أيام الامتحانات خصوصًا. ولا بد من كلمات مضيئة تحذر من صديق أو صديقات السوء .. وتكشف لهن المخاطر المترتبة على ذلك مستقبلًا، ولابد من التحذير من سماعة الهاتف لغير حاجة، ومثل ذلك يُقال للمعلمين أو أزيد فحركة الشباب أكثر، وأبعدُ للريب من حركة الفتيات.

أيها المسلمون .. إنما أطلت في هذه الظاهرة لكثرة ما حدثت أو قرأت عن هذه الظواهر .. وكم حذر الخيرون من هذه المظاهر ورغبوا في التحذير عنها .. فلننتبه جميعًا .. ولنكن يدًا واحدةً في محاصرة الفساد والتضييق على المفسدين .. ولنتعاون مع الجهات الرسمية في المتابعة والعلاج، فالله أمر بالتعاون على البرِّ والتقى ونهانا عن التعاون على الإثم والعدوان .. الملحوظة السابعة: بعض البيوت مبتلاة بوجود عدد من وسائل الفساد عبر قناة مثيرة .. أو مجلة ساقطة -أو شريط ماجن- والعجب إنك تراهم يدركون خطر هذه الوسائل على الأبناء والبنات أيام الامتحانات، فيغلقون ما يغلقون منها، ويمنعون الأبناء والبنات من تداولها .. وحجتهم في ذلك حتى لا تؤثر هذه وتلك عن مذاكرتهم وتحصيلهم ونتائج امتحاناتهم، وهذا أمر يوافقون عليهم، ولكن السؤال المهم كيف يقتنع هؤلاء بضررها عليهم في أيام الامتحانات فقط؟ أوليس التأثير على المعتقد والدين والخلق أولى بالعناية وأحوج إلى الاستمرار .. هل نسينا أنهم قد ينجحون في امتحان الدنيا .. ولكنهم معرضون للإخفاق في الامتحان الأكبر .. ما حجتُك أيها الولي إذا وقفت بين يدي الله وأنت مدرك لأضرار هذه الوسائل الهادمة ولكنك اكتفيت بوقايتهم منها لغرضٍ زائل من أغراض الدنيا .. وأهملت وقايتهم منها في سائر الأيام، فلوثت فكرهم، وخدشت حياءهم، وجعلتهم كالأيتام على موائد اللئام .. ثم أنت بعدُ ترجو برَّهم وصلاحهم؟ إنها مسؤولية سترد على الله مسؤولًا عنها فأعد للسؤال جوابًا صوابًا. الملحوظة الثامنة: ويحدث عند بعض الطلاب والطالبات فصام نكد بين المفاهيم التربوية التي تعلموها، وبين الواقع السلوكي الذي يمارسونه .. فقد ربوا طويلًا على الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك،

وربوا على أن العبادة مفهوم شامل لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال .. وربوا على المراقبة الدائمة لله .. وعلى التوكل عليه، والخوف منه .. إلى غير ذلك من مفاهيم جليلة .. ولكن أين هذا مثلًا من ظاهرة الغش في الامتحان وبعض الطلبة قد لا يمنعهم من مزاولتها إلا عدم القدرة عليها. فإذا وجد فرصة سارع إليها، وأين هذه المفاهيم من مقارفة بعض السلوكيات الخاطئة وترك الواجبات .. وفعل المحرمات .. إن هذه المفاهيم وغيرها لا يُراد منها التلقين والأداء في الامتحان، وإنما القصدُ بناء شخصية الطالب عليها داخل المدرسة وخارجها وفي أيام الامتحانات وغيرها. وإذا ما نجحنا في التوفيق بين ما يحصله الطالب والطالبة من معلومات وبين التطبيق السلوكي لها .. فذلك المؤشر الحقيقي لنجاح العملية التربوية .. وإلا فلنبحث عن الخلل حيث يكون ولنسارع بالعلاج. الملحوظة التاسعة: ووصيتي إليكم معاشر الطلبة والطالبات ألا يبدأ الاستذكار عندكم أيام الامتحانات فقط، فهذه مع كونها سببًا للقلق، فالمحصلة العلمية فيها قليلة، والعلمُ ليس ثقلًا يرمى في ورقة الإجابة ثم ينسى، بل هو رصيد يستحق العناية والحفظ .. أما أنتم معاشر الأولياء فلا يسوغ لكم إهمال أبنائكم وبناتكم طوال العام، فإذا خرجت النتيجة على غير ما تشتهون كانت المخاصمة والسبابُ لإدارة المدرسة ومعلميها. الملحوظة العاشرة والأخيرة: -وهي أهمها- وهي موجهة للممتحَنين وللممتحِنين بل لنا جميعًا .. فليت هذه الامتحانات الصغرى تذكرنا بالامتحان الأكبر، وهناك لا فرصة للمحاولة بعد الفشل، ولا محيص للغش والتدليس، لا

واسطة ولا شفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ورضي له قولًا، النجاحُ هناك إلى الأبد، والمستقر في جنات ونهر ما دامت السموات والأرض، والعطاء غير مجذوذ، والنعيم لا يوصف، والسعادة لا تحد .. أما الخسران فخلود في النار إلى الأبد .. النهاية إلى الهاوية حيث الزفيرُ والشهيق والزقوم ومقامع الحديد، ولك أن تتصور هذا المشهد والجلود كلما نضجت أبدلوا غيرها ليستمر الإحساس بالعذاب، فماذا أعددنا لهذا الامتحان الصعب .. وليختر كلّ منا لنفسه إحدى المنزلتين .. {ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} (¬1). ¬

(¬1) سورة الكهف، آية: 49.

المحاسبة على مستوى المجتمع والأمة

المحاسبة على مستوى المجتمع والأمة (¬1) الخطبة الأولى. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أَعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} (¬2). {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (¬3). أيها المسلمون! مع في دورة الأفلاك، وتعاقب الليل والنهار وانصرام الشهر، ومجيء العام بعد العام، ومع تذكر الموت واستحضار الحشر والمعاد .. لابد من المحاسبة اليوم .. لأنه لا مفرَّ من المُساءلة غدًا، فالقرآن مذكر للأمة، لكن ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/ 4/ 1418 هـ. (¬2) سورة النساء، آية: 1. (¬3) سورة آل عمران، الآيتان: 102، 103.

سيسألون عنه: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} (¬1)، والسؤال شامل لمن أرسل إليهم والمرسلين: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} (¬2). وإذا كان الصادقون يسألون، فما الظنُّ بمن دونهم؟ {ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما} (¬3). وإذا لم تُنس الموءودة بالسؤال وهي لا تملك من أمرها شيئًا، فكيف سيكون السؤال لمن وأدها. {وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت} (¬4). لابد من المساءلة يا عباد الله عن النقير، والقطمير، ولابد من المجازاة على العمل ولو كان مثقال ذرة، ولا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء، حتى ولو كانت {مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير} (¬5). عباد الله! إذا سبق الحديث عن المحاسبة للنفس على مستوى الفرد، فثمة حساب ينبغي أن نعيه على حساب المجتمع والأمة. وإذا أعطى الله قومًا نعمةً حاسبهم علي شكرها أو كفرها. ومن أعظم النعم في مجتمع المسلمين نعمة اجتماع الكلمة، والألفة والمحبة، والقيام بحقوق الأخوة الإسلامية. هذه نعمة يُذكَّرُ بها المؤمنون، ويذكرون بما يُضادُّها من الفرقة والشحناء والبغضاء، وهذه النعمة أساسُها التقوى وعمادها ¬

(¬1) سورة الزخرف، آية: 44. (¬2) سورة الأعراف، آية: 6. (¬3) سورة الأحزاب، آية: 8. (¬4) سورة التكوير، الآيتان: 8، 9. (¬5) سورة لقمان، آية: 16.

الاعتصام بالكتاب والسنة، كما قال جلَّ من قائل عليمًا: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (¬1). وهذه النعمة لا يستطيع البشر أن يوفروها لأنفسهم مهما أوتوا من العلم، ومهما بلغت بهم الحضارة، إذا كانوا بمنأى عن تعاليم السماء، وهم عاجزون عن جلبها بأغراض الدنيا ولو أنفِقوا في ذلك ما أنفقوا، إنها منحة إلهية وكفى {وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم (63) يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} (¬2). تُرى كم يخسر المسلمون وهم يُفرطون في هذه النعمة الكبرى، حين تنشأ في صفوفهم الإحن، وتسود القطيعة، وتتسع دائرة الخلاف والفرقة، وكم تضعف المجتمعات المسلمة من قوتها حين يُساء الجوار، ويُتنابز بالألقاب، كم تهدر من طاقة وتهدُّ أركان بالحق قائمة، وتشل قوى متربصة، ويختلط النفاق بالإيمان، ويغيب الحقُّ أو يكاد، وتظلل الرؤية أصواتُ المبطلين، والله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم} (¬3). أيها المسلمون! لابد أن نحاسب أنفسنا على نعمة الأخوة واجتماع الكلمة حتى لا تتقطع أوصالنا، وتذهب ريحنا، ونكون محل شماتة الأعداء وفساد في ديننا، لا ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيتان: 102، 103. (¬2) سورة الأنفال، آية: 63. (¬3) سورة الأنفال، آية: 53.

بد من معرفة الداء ولابد من الدواء، وابدأ بنفسك أيها المسلم فعالج ما تجد فيها من بُغض أو نُفرة أو حقد أو حسد لأي من إخوانك المسلمين دون سبب مشروع. إخوة الإسلام! المسلمون أمة واحد، وقوة ضاربة في أعماق الزمن، لا يدانيهم في ذلك أمة من الأمم، كيف لا؟ والمسلمون مهما تباعدت ديارهم، واختلفت ألسنتهم وألوانهم، ومهما علت أو قلّت مراتبهم يلتقون تحت شعار (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وتمتد مسيرة الأمة الواحدة في أعماق الزمن لتشمل جموع المؤمنين من أتباع الأنبياء والمرسلين منذ بُعث أول نبي وحتى ختِمت الرسالات بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، كذلك أراد الله لنا، وكذلك قص القرآن علينا: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} (¬1)، {وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} (¬2). فهل يدرك المسلمون سرَّ هذه القوة، هذه الأمة أمة عقيدة ودعوة .. عقيدة صادقة صافية تعتز بها، ودعوة إلى الخير يتشرف كلُّ من انضوى تحت لوائها ومع خيرية الأمم السابقة، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم خيرها على الإطلاق .. ولكن هذه الخيرية مشروطة بعدة أمور، ومن أبرزها القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} (¬3). وهذه الخيرية مسؤولية ونعمة أخرى لابد أن يحاسب المسلمون أنفسهم عليها، ¬

(¬1) سورة الأنبياء، آية: 92. (¬2) سورة المؤمنون، آية: 52. (¬3) سورة آل عمران، آية 110.

هل قاموا بواجبها، ما العقبات التي تعترض سبيلها، ما أنسب الوسائل والطرق لتحقيقها. إن أمم الأرض كلَّها تنتظر من المسلمين أن يفيئوا عليهم من هذه الخيرية، وقد لجَّت بهم المذاهب والأفكار والنحل الباطلة فهل يقود المسلمون زمام السفينة وينقذوا أهلها من الغرق المحتمل بين عشية أو ضحاها. تلك -وربي- مسؤولية وتبعة، وسوف يسأل عنها المسلمون. أيها المؤمنون! مع خيرية أمة الإسلام فهي أمة وسط وهي شاهدة يوم القيامة على الأمم الأخرى .. يقول تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا} (¬1). والوسط هنا - كما قال أهلُ التفسير (¬2) الخيار والأجود، ووسطيتها تشمل المنهج والسلوك، فقد خصها اللهُ بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، فلا رهبانية في الإسلام، ولا حرج في الدين {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس} (¬3). أيها المسلمون! إن من الخزي والعار أن تشهد الأمم الكافرة في الدنيا على أمة الإسلام بالضعف والتفكك والتبعية، وكيف لأمة مغلوبة، ومهزومة نفسيًّا أن تقود ركب الأمم؟ وهذه الانهزامية ليست من طبيعة منهجها، وهذا التفكك والضعف ليس من سمات تاريخها .. فلقد ملكنا هذه الدنيا قرونًا ... وأخضعها جدودٌ خالدونا ¬

(¬1) سورة البقرة، آية: 143. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير 1/ 275. (¬3) سورة الحج، آية: 78.

وسطرنا صحائف من ضياءٍ ... فما نسي الزمان ولا نسينا عباد الله! هذه المعالم الثلاثة: الأخوةُ الإسلامية، وخيرية هذه الأمة بعقيدتها ودعوتها، ووسطيتها بمنهجها، مُسَلَّمات لابد أن تحاسب الأمة نفسها عليها بين الفينة والأخرى، ولئن أصابها شيءٌ من الضمور أحيانًا، أو تخلف أثرها في الواقع، أو قصر المسلمون في الوصول إلى مستواها حينًا من الدهر، فينبغي أن تكون حقائق مستقرة في الأذهان، وهدفًا يُسعى إلى تحقيقه في واقع الحياة، ومما يُسلِّي ويسرِّي أن الأمة المسلمة تمر أحيانًا بمراحل ضعف، لكنها لا تلبث أن تفيء إلى دينها، وتجدد ما اندثر من حضارتها، وتسدد ما أصابه الخللُ من قيمها، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز * الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور} (¬1). نفعني الله وإياكم. ¬

(¬1) سورة الحج، الآيات: 39 - 41.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثيل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بعثه الله بالحنيفية السمحة ليتمم مكارم الأخلاق فكانت بعثته رحمةً للعالمين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. إخوة الإسلام! من الأمور التي ينبغي للمجتمع المسلم أن يحاسب نفسه عليها، المسؤولية الخلقية والجزاء عليها، إذ إن الإسلام أمر بجملة من الأخلاق الفاضلة ورتب الجزاء لها، ونهى عن جملة من الأخلاق السيئة وشرع العقوبة عليها، ووضع الحدود لمرتكبيها، ويظن بعض الناس ظنًّا خاطئًا أن آثار الخلق الحسن لا يستفيد منها غير صاحبها، وأن شؤم المعصية لا تمتد إلى المجتمع، وآثار الخلق المشين لا يتضرر منها المجتمع من حوله، صحيح أن هناك مسؤولية فردية «فكل نفس بما كسبت رهينة»، {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (¬1). ولكن المسؤولية الجماعية تُعد امتدادًا للمسؤولية الذاتية فحينما نسأل عن أعمال غيرنا إنما نسأل عن انعكاسات مواقفنا الإيجابية أو السلبية، ولولا ذلك لما قام سوقُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولما مُيزت به هذه الأمة عن غيرها من الأمم وأُمرت به {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (¬2). ولولاه لما قام واجبُ الإصلاح بين أفراد المجتمع وجاء الأمر به بعد التقوى {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} (¬3). ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 164. (¬2) سورة آل عمران، آية: 104. (¬3) سورة الأنفال، آية: 1.

والإصلاح من صفات المؤمنين ومن لوازم الأخوة {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} (¬1). وتأملوا وقفة ابن العربي يرحمه الله حول تفسير قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وما فيها من إشارة وفهم للمسؤولية الفردية والجماعية يقول رحمه الله: «هذا حكمٌ من الله تعالى نافذٌ في الدنيا والآخرة وهو ألا يُؤاخذ أحدٌ بجرم أحدٍ، بيد أنه يتعلق ببعض الناس من بعض أحكام في مصالح الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .. إلى أن يقول: والأصلح في ذلك كله أن المرء كما يُفترض عليه أن يُصلح نفسه باكتساب الخير، فواجب عليه أن يصلح غيره بالأمر به، والدعاء إليه، والحمل عليه، وهذه فائدة الصحبة، وثمرة المعاشرة، وبركة المخالطة، وحسن المجاورة، فإن أحسن في ذلك كله كان معافًى في الدنيا والآخرة، وإن قصَّر في ذلك كلِّه كان معاقبًا في الدنيا والآخرة، فعليه أولًا إصلاح أهله وولده، ثم إصلاح خليطه وجاره، ثم سائر الناس بعده بما بيناه من أمرهم ودعائهم وحملهم، فإن فعلوا وإلا استعان بالخليفة لله في الأرض عليهم، فهو يحملهم على ذلك قسرًا، (ثم يقول): ومتى أغفل الخلقُ هذا فسدت المصالح وتشتت الأمر، واتسع الخرق، وفات الترقيع، وانتشر التدمير» (¬2). أيها المسلمون! ! خذوا على سبيل المثال لا الحصر، أمرين نهى عنهما الإسلام وحذر من آثارهما على الفرد والمجتمع، يتعلق أحدهما بحفظ الأنساب وسلامة الأعراض، ويتعلق الآخر بحفظ الأموال وصيانتها عن الحرام: الزنا، والربا. تضافرت نصوص الكتاب والسنة على تحريمهما، بما لا يخفى، ولكن السؤال ¬

(¬1) سورة الحجرات، آية: 10. (¬2) أحكام القرآن 2/ 300، المسؤولية الخلقية .. الحليبي ص 245، 246.

المهم: هل تتجاوز آثارُهما الفرد إلى المجتمع؟ يقول عليه الصلاة والسلام: «لا تزال أمتي بخير ما لم يَفشُ فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله عز وجل بعذاب» (¬1). وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: «إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله» (¬2). عباد الله! لا عجب أن تكون عقوبة الزنا حارسًا يحفظ أعراض الناس من أن تمس باطلًا، ويصون ألسنتهم من أن تقول زورًا، ويقي حياتهم من أن تعيش شقاءً وتمزقًا (¬3). ولا عجب أن يُعظم الله أمرَ الربا ويُعلن الحرب على من لم ينتهوا، ففيه دمار للبلاد والعباد، وفيه ظلم للمحاويج والفقراء، وبه تورم وهمي وتكثر ظاهري للأغنياء .. لكن عاقبته إلى قلةٍ كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكفى بإعلان الحرب من الله على مرتكبيه إثمًا مبينًا، وهل يرغب مسلم أن يخرج من دائرة الإيمان بسبب الربا، قفوا عند قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} (¬4). أيها المسلمون! كذلك ينبغي أن يحاسب المجتمع بعضه بعضًا، فيُعلَّمُ الجاهلُ، ¬

(¬1) رواه أحمد عن أمِّ المؤمنين ميمونة رضي الله عنها 6/ 33، وحسن إسناده المنذري (الترغيب والترهيب) 3/ 194. (¬2) المستدرك 2/ 37. (¬3) أثر تطبيق الحدود في المجتمع للشاذلي، عن المسؤولية الخلقية، للحليبي ص 463. (¬4) سورة البقرة، الآيتان: 278، 279.

ويُذكَّر الناسي، ويُردع المتطاول، فسلامةُ سفينة المجتمع هدفٌ أرشد إليه الإسلام، وحذّر المصطفى صلى الله عليه وسلم من آثاره السلبية وترك الأمر والنهي كما في حديث القوم الذين استهموا السفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، ولو ترك الجاهلون يخرقون السفينة من أسفلها لهلكوا وأهلكوا من فوقهم .. ألا فلنحافظ جميعًا على أمن وسلامة مجتمعنا، ولنكن أوفياء لأمتنا ونماذج صالحة لتعاليم ديننا، لنبادر إلى الخير بأنفسنا، ولنرغبه وندعوا إليه بالحسنى غيرنا، وننتهي عن الشر والفجور قدر طاقتنا ولنُحذِّر منه الآخرين، فذلك جزءٌ من مسؤوليتنا، وأمانة في أعناقنا {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} (¬1). ¬

(¬1) سورة العنكبوت، آية: 69.

البيوت الوهمية

البيوت الوهمية (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن آله المؤمنين وصحابته الميامين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. فأما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرًا، ومن يتق الله يُكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا. عبادَ الله! يظن بعض الناس ظنًّا خاطئًا أن الحياة الدنيا لهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر في المال والولد لا أكثر، ولئن جاء وصفها كذلك في كتاب الله فإنما جاء ذلك توهينًا لأمرها وبيانًا لحقارتها، ولكنها ليست كذلك بالنسبة للمسلم، والذي يراها مزرعةً للآخرة، ويعلمُ علمَ اليقين أن عاقبتها إما إلى مغفرة ورضوان أو عذاب شديدٍ ونيران {وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (¬2). وحين يُخيل لآخرين أن الحياة طيشٌ وعبث، وضياع للأوقات وانتهاك ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 3/ 8/ 1417 هـ. (¬2) سورة الحديد، آية: 20.

للمحرمات، وزهدٌ في العبادات والطاعات .. يراها آخرون ميدانًا للتنافس في الطاعات، وسُلَّمًا للجنان وأعالي الدرجات يراها العالِمون العبودية الحقة لربِّ العالمين، وقد جاءهم من ربهم اليقين {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (¬1)، ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {إلا ليعبدون} أي: إلا ليُقروا بعبادتي طوعًا أو كرهًا، وهذا اختيارُ ابن جرير رحمه الله (¬2). كما ورد في بعض الكتب الإلهية يقول الله تعالى: «ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفَّلتُ برزقك فلا تتعب، فاطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كلَّ شيء، وإن فتك فاتك كلّ شيء، وأنا أحب إليك من كلِّ شيء» (¬3). أيها المسلمون! يتسعُ مفهوم العبادة في الإسلام ليشمل أمور الدنيا والآخرة، ويدخل فيها مع حسن القصد والنية رعاية الأهل والولد، والبحث عن الأسباب المشروعة للرزق، وفي شريعة الإسلام يُسأل العبدُ عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه .. (¬4). وليس للمسلم أن يُطلق لعينيه النظر كيف يشاء، ولا لأذنيه السمع كيفما اتفق، فكل أولئك كان عنه مسؤولًا. عباد الله! نُذكر بهذا تنبيهًا وتحذيرًا من ظاهرة بدأت تسري في المجتمع، وانساق لها عدد من الشباب والرجال، تُهلك بها الأوقات، وتضيع فيها الحقوق والواجبات، ويغيب فيها القيِّمون على الأهل والأبناء والبنات. حديث اليوم عن ¬

(¬1) سورة الذاريات، آية: 56. (¬2) تفسير ابن كثير 4/ 386. (¬3) السابق 4/ 387. (¬4) حديث حسن رواه الترمذي، صحيح الجامع 6/ 148.

البيوت الوهمية لبعض الناس وعن العزلة عن الأهل والعشيرة -إنه حديث عن الجلسات المطوّلة في الأحواش وتحذير عن طول المكوث والسهر بلا فائدة في الاستراحات. إنها ظاهرة تستحق الوقفة والعلاج حين يُسرف فيها المسرفون، وتكون سلوكًا مستديمًا يحجب الزوج عن أهله وأولاده، أو يغيب فيها الابن طويلًا عن بيته وأبويه وإخوانه، أو تشلُّ الموظف عن إتمام عمله، أو تعيق المعلم عن الوفاء بمتطلبات وظيفته، أو تقطع المتسبب عن البحث عن مواطن رزقه أو تكون على الأقل مادةً للاجتماع على أمورٍ محرمة، إن الحديث موجه لأولئك الذين يقضون معظم أوقاتهم في هذه الاستراحات وبشكل مستديم دونما فائدة، ولا يعني الحديث أولئك الذين ربما خرجوا للاستجمام والنزهة أحيانًا، أو مصطحبين معهم أهليهم وأولادهم لمامًا وفي مناسبات معينة. أيها المسلمون! كم ضاعت أسرٌ حين غاب عنها القيِّمون وما ظنكم ببيت يغيب عنه الولي شطرًا من النهار، وزلفًا من الليل وإلى ساعاتٍ متأخرة في الليل .. أين القوامة وأين الشعور بالمسؤولية .. وهل يظن أولئك المفرطون أن البيوت مشتملة على قطعانٍ من المواشي والأنعام، ليس لها إلا أن يُوفر لها الماء والمرعى؟ كلا فالمسؤولية عظيمة ودور الرجل في البيت لا يُعوض، وكيف يطيب طول المكوث والأُنس بعيدًا عن الأهل والوالد والولد، ولو قُدر عليهم حادثٌ لضاقت بهم المهاجر .. وهل ترضى أيها العاقلُ الحرُّ الكريم أن يقضي الناس حوائج أهلك وأنت في سهر ولهو ولعب؟ وأسوأ من هذا لو وقع انحراف في بيتك لا قدر الله -نظرًا لطول غيبتك وضعفِ رقابتك- فهل ترى غيرك مسؤولًا أمام الله عنها؟ إننا كثيرًا ما نتحدث عن فساد الزمان وضياع الشباب، وانحراف الفتيات،

ونجيد في إلقاء اللوم على غيرنا، وننسى أننا نُسهم أحيانًا في هذا الفساد والضياع بضعف أدوارنا في بيوتنا وبين أبنائنا وأهلينا وعشيرتنا، وهل يستطيع العدو أن يخترق البيوت المحصَّنة؟ عباد الله! المسلم مسؤول أمام الله عن ضياع الأوقات بلا فائدة، فليس الوقت عبئًا ثقيلًا يلقيه المرءُ عن كاهله كيفما اتفق بل هو في حسِّ المسلم مزرعة للآخرة .. وطريق موصل إلى الجنة أو النار، ويرحم الله أقوامًا كانوا ولا زالوا يشحُّون بأوقاتهم أكثر من شحِّ أحدنا بماله، فلا يضيعونها بدون فائدة. وكيف يطيب لك يا أخا الإسلام أن تضيع زهرة شبابك أو دهرًا من عمرك فيما لا يعود بالأثر الحميد عليك وعلى مجتمعك وأمتك .. وإذا لم تستطع أن تسهم في حلِّ مشكلات إخوانك المسلمين فلا تكن على الأقل يدًا شلاء تُعيق المجتمع عن النهوض وبلوغ المبتغى من أمور الدين والدنيا .. وهل بلغ بك تبلدُ الإحساس وعدم الشعور بالمسؤولية إلى درجةٍ استطاع الأعداءُ فيها أن يشغلوك بسفاسف الأمور عن أوضاع أمتك؟ إخوة الإسلام! إنني أربأ بكم عن ضياع أوقاتكم سدى، سواء في هذه البيوت الوهمية أو في بيوتكم الحقيقية .. لكنني سائلكم عن رأيكم في هذا الموظف الذي أمضى سحابة ليلة ساهرًا أترونه يأتي لعمله مبكرًا، وإن كان فما نوع المعاملة التي سيتعامل بها مع مراجعيه؟ إنها مزيج من مدافعةِ السهر والإعياء، يرافقها ضيق في النفس وتقصير في الأداء، وتعطيل لمصالح الناس، وانشغال الفكر بأحاديث الصحبة وبرامج السهرة؟ وما ظنكم بالمعلم الذي اتخذ له من هذه البيوت الوهمية سكنًا أترونة يأتي للدرس مُحضرًا، وللطلبة موجهًا مربيًا، أم ترونه كسولًا مهملًا، يتوارى من القوم

من سوء ما صنع، يضيق ذرعًا بالطالب النجيب يسأله وبالحائر المتردد يتطلع إلى توجيهه، وضيقُه أشد مع المسؤول حين يكلفه بنوع من النشاط يسهمُ في تربية الجيل ويوسع مداركه ويعمق وعيه بقضايا أمته، والواجبات التي تنتظره. أيها المسلمون! ثمة ملحظ اقتصادي يخطئ فيها البعض منا وهو لا يشعر، وكم رأيت شابًا صعلوكًا لا يملك منزلًا يأوي به نفسه ويستر به أولاده. ولكنك تراه ينفق في الاستراحة كلَّ ما جمع ويظل يكدُّ ويكدحُ وتستوعب الاستراحة كلَّ ما جمع، وتنتهي مهمة هذه الاستراحةِ عند اجتماع الخلِّ والأصحاب بها، والسهر واللعب داخل أسوارها .. ويبقى الأهلُ والولد في مكانٍ ضيق، والمسكين يدفع الأجرة لمن أجر .. وهكذا يُصرف المالُ دون مواربة .. ولا غرو أن يضيع المال إذا ضاعت الأوقات، وماتت الهمم. وما لجرح بميت إيلام. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما (72) والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا (73) والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما (74) أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما} (¬1). ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآيات: 72 - 75.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين وفَّق من شاء لطاعته باغتنام الأوقات والمسارعة للخيرات، أحمده تعالى وأشكره وهو أهل للحمد والثناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين .. إخوة الإسلام! إذا كان التحذيرُ عن مجرد إضاعةِ الأوقات والتقصير في أداء الواجبات في هذه الأحواش والاستراحات فالأمرُ أعظم وأخطر حين يصاحبها المنكرات، ويكون الاجتماع على المحرمات من سماعٍ للغناء، أو مشاهدة لأفلام العُهر والخنا، أو شرب ما حرم الله أو مقارفة للفساد بأي لون من ألوان الفساد، وإن لم يكن هذا ولا ذاك لم تسلم هذه الاجتماعات المطوَّلة من غيبة أو نميمة تُنتهك بها الأعراض، وتحمل على الظهور الأوزار .. وكم هو عزيز أن يكون القرآنُ وسنةُ المصطفى صلى الله عليه وسلم والقراءة في كتب السلف وسير الصالحين، مادةً لهذه الاجتماعات وغيرها فتحف بالمكان الملائكة وتغشى المجتمعين السكينة وبذكرهم لله يذكرهم في الملأ عنده .. وكم هو عظيم أن تكون اجتماعاتنا تعاونًا على البرِّ والتقوى كما أمر بذلك ربُّنا لا تعاونًا على الإثم والعدوان وهو محذورٌ في ديننا. عباد الله! ما أتعس حياة الساهرين إذا كان السهر سبيلًا لقطعهم عن شهود الصلاة مع المسلمين، وهل ترضى يا أخا الإسلام أن تحشر نفسك في زمرة المنافقين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة الفجر والعشاء ولو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبوًا». وما أنكد حياة الخِلاَّن إذا كانت على الفسق والفجور، ومثلك خبير بلعن

بعضهم بعضًا، وهذا جزاء مقدم في الدنيا، أما في الأخرى فتذكر جيدًا قول ربِّنا {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (¬1). يا أخا الإيمان! إني مذكرك ونفسي برقابة الله إن كنت ممن يستترون بهذه البيوت الوهمية أو غيرها عن أعين الخلق ليمارسوا ما شاءوا من الفواحش والآثام -بعيدًا عن الرقيب في ظنِّهم، ورقابة الله فوق كلِّ رقابة، وهو الذي يعلم السرَّ وأخفى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬2). إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل ... خلوتُ ولكن قل عليَّ رقيب يا أخا الإيمان! أتُراك بعد هذا محتاجًا للفتوى في حكم الانعزال بهذه الاستراحات التي تزاول فيها المنكرات؟ استفت قلبك والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس، وإن أصررت على سماع الفتوى فهاك السؤال مقرونًا بالإجابة الشافية من فضيلة الشيخ محمد العثيمين رحمه الله: وقد سئل: فضيلة الشيخ الوالد: محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- كثرت في الآونة الأخيرة ظاهرة الجلوس في الأحواش والاستراحات والسهر بها لأوقات طويلة ويكون بعض هذه الاجتماعات على أمورٍ مفسدة كالاجتماع على الدخان والشيشة ورؤية السيء في القنوات الفضائية عبر جهاز الاستقبال (الدّش) فما حكم ذلك؟ وإذا كان يغلب على ظن صاحب الملكِ (المؤجِّر) أن استخدام حوشِه أو استراحته سيكون لهذه الأغراض السابق ذكرُها أو أن تكون وسيلةً لتجمعات بعض المراهقين فيها فهل يجوز له تأجيرُها. نرجو من فضيلتكم الإجابة والتوجيه مشكورين. ¬

(¬1) سورة الزخرف، آية: 67. (¬2) سورة المجادلة، آية: 7.

فأجاب فضيلته فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته: أولًا: ننصح إخواننا المسلمين عن طول السهر فيما ليس مصلحة دينية أو دنيوية، سواءٌ في هذه الاستراحات أو في بيوتهم؛ لأن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها، ولأن طول السهر يفضي إلى النوم عن قيام الليل لمن كان له حظٌّ من قيام الليل، ويفضي إلى ثقل صلاة الفجر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا». ولأن طول السهر في الليل يُفضي إلى أن ينامَ الإنسان في النهارَ طويلًا، ويقابل كدحه وعمله بفتور، ومن المعلوم عند جميع الناس أن نوم الليل أصحُّ وأقومُ للبدن؛ لأن الليل محل السكون والنهار وقت المعاش، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} (¬1)، وقال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2)، وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (¬3). ثانيًا: الاجتماع على أمور مُفسدة كالاجتماع على الدخان والشيشة وما يسمع من الأغاني الماجنة أو يشاهد من المرئيات السافلة التي تثير كوامن الشهوات وتدعو إلى الشَّهوات والمنكرات اجتماع محرمٌ، سواء كان في الأحواش والاستراحات أو البيوت. ¬

(¬1) سورة يونس، آية: 67. (¬2) سورة القصص، آية: 73. (¬3) سورة النبأ، الآيتان، 10، 11.

وتأجير الأحواش والاستراحات على من يُظن منه الجلوس فيها على هذه المنكرات تأجير محرم وأخذ الأجرةِ على ذلك حرام؛ لأنه أجرة على محرم، وأجرةُ المحرم حرامٌ وإعانة على الإثم والعدوان، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬1). أسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى المتناهين عن الإثم والعدوان، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين (¬2). يا أخا الإسلام! إياك أن يتلاعب بك الشيطان فتقول: أنا لا أجتمع وأسهر في هذه البيوت الوهمية، إذ أوفر جهاز الدّش في بيتي وأتحكم فيما يُبث فيه بنفسي، وتلك مخادعة للنفس، ونقل للمصيبة في البيت، وغشّ للرعية التي استرعاك الله إياها من النساء والذرية، وهاك الفتوى الأخرى صريحةً وموقظةً لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد، وذلك في سياق حديث الشيخ (محمد) عن الدشوش وحكمها. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: هذا مقطع من خطبة فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين، في التحذير من البث المباشر (الدش) وذلك في الخطبة الثانية من يوم الجمعة 25/ 3/ 1417 هـ. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» (¬3)، وهذه الرعاية تشل الرعاية الكبرى الواسعة والرعاية ¬

(¬1) سورة المائدة، آية: 2. (¬2) كتبه محمد الصالح العثيمين في 10/ 6/ 1417 هـ. (¬3) حديث صحيح.

الصغرى، وتشمل رعاية الرجل في أهله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته». وعلى هذا فمن مات وقد خلّف في بيته شيئًا من صحون الاستقبال (الدشوش) فإنه قد مات وهو غاش لرعيته وسوف يُحرم من الجنة كما جاء في الحديث. ولهذا نقول: إن أي معصية تترتب على هذا (الدش) الذي ركّبه الإنسان قبل موته، فإن عليه وزرها بعد موته وإن طال الزمن وكثُرت المعاصي. فاحذر أخي المسلم، احذر أن تُخلّف بعدك ما يكون إثمًا عليك في قبرك. وما كان عندك من هذه (الدشوش) فإن الواجب عليك أن تُكسِّره و (تحطمه) لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا على وجه محرم غالبًا، لا يمكن بيعه لأنك إذا بعته سلّطت المشتري على استعماله في معصية الله، وحينئذ تكون ممن أعان على الإثم والعدوان، وكذلك إن وهبته فأنت معين على الإثم والعدوان. ولا طريق للتوبة من ذلك قبل الموت إلا بتكسير هذه الآلة (الدش). التي حصل فيها من الشر والبلاء، ما هو معلوم اليوم للعام والخاص. احذر يا أخي أن يفجأك الموت وفي بيتك هذه الآلة الخبيثة، احذر .. احذر .. احذر. فإن إثمها ستبوء به وسوف يجري عليك بعد موتك. نسأل الله السلامة والعافية. وأن يهدينا وإخواننا المسلمين صراطه المستقيم، وأن يتولانا بعنايته، وأن يحفظنا من الزلل برعايته، إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين (¬1). أيها الآباء، أيها الأولياء الفضلاء! إني أُجلُّكم عن ضياع أوقاتكم في هذه ¬

(¬1) بسم الله الرحمن الرحيم، هذا المكتوب حول الدشوش جزء من الخطبة الثانية التي ألقيناها يوم الجمعة الخامس والعشرين من ربيع الأول عام 1417 هـ، ولا مانع عندي من نشرها لعل الله تعالى أن ينفع بها. كتبه محمد الصالح العثيمين في 28/ 3/ 1417 هـ.

البيوت الوهمية، وأترفع بكل عاقلٍ عن إضاعة الدين والدنيا في هذه الأحواش والاستراحات، ولكني أنبهكم ناصحًا مشفقًا على أبنائكم وإخوانكم الشباب فهل تأملتم في غيابهم حين يغيبون وهل تعرفتم على أصدقائهم حين يروحون ويجيئون .. إننا نخشى أن تكون بعض هذه الاستراحات والأحواش مصيدة للشباب، بها يَفسدون ويُفسدون، ومن خلالها يبدأ خط الانحراف الخُلقي في غياب من الموجه والرقيب، فتنبهوا رحمكم الله لمكمن الخطر، وصلوهم بالرفقة الصالحة التي تعينكم على تربيتهم، ورغبوهم في حلق التحفيظ، ومجالس العلماء، شاركوا رجالات الأمن والحسبة مسؤوليتهم في الرقابة وكشف أوكار الفساد أنَّى كانت وفي هذه الاستراحات أو غيرها، فالأمرُ جدُّ خطير، والمسؤولية عظيمة، وقد سمعتم أثر التهاون بها. وبعد إخوة الإيمان فهذا نداءٌ أخوي أوجهه للمبتلين بالجلوس طويلًا في هذه الاستراحات أذكرهم فيه برقابة الله أولًا فيما يعملون أو يدعون، وأذكرهم -إن كانوا متزوجين- بشكاوى نسائهم، وحنين أطفالهم وحاجة أبنائهم وبناتهم إلى توجيههم حين يمسون وحين يصبحون. وإن كانوا شبابًا عزبًا فبالبرِّ بوالديهم، وحفظ أوقاتهم، والاستعداد لمستقبل حياتهم .. أنصح الجميع بعدم الإسراف في المكوث في هذه البيوت الوهمية، والعودة إلى بيوتهم الحقيقية، فالعافية مطلب، والسلامة لا يعدلها شيء، والفضيحة -لا قدر الله- تسيء إلى البيوت الشريفة وإن كان لابد من الجلوس فيها للأنس والراحة فليختر الرفقة، وليكن ذلك أحيانًا، وبعد التأكد من سلامتها من كلِّ ما يخدش المروءة والدين. إنني على ثقة أن بعضًا من مرتادي هذه الاستراحات عقلاءُ في تصرفاتهم،

حريصون على دينهم، ولكنهم ربما في خضم القافلة ساروا، وإذا ذُكِّروا تذكروا وأنابوا، وفيها -كذلك- شباب أحداث غُرِّر بهم وبمشورة غيرهم انقادوا، والأمل معقود بعد الله على استجابتهم لنصح الناصحين ومشورة المربين وحنانيكم أيها الناصحون وأيها الآباء، والمربون .. حنانيكم الرفق والحكمة، ولا تنظروا لمن ابتلي على أنه عضوٌ فاسد لا يصلحُ الجسدُ إلا بقطعه .. كلا فبالكلمة الطيبة تنفتح المغاليق وبالهدية تتقارب القلوب وبالزيارة والنصيحة تُردم الفجوة .. والهداية أولًا وآخرًا بيد الله يعلم من يستحقها وهو لها أهل .. ومن هو في ضلال مبين. اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت، اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه .. اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا وبارك لنا في أعمارنا وتقبل أعمالنا.

عبر من قصص السابقين (1) المهاجر الطيار

عبر من قصص السابقين (1) المهاجر الطيار (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أوصي نفسي وإياكم معاشر المسلمين بتقوى الله، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب .. ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرًا. إخوة الإيمان! يروعك في قصص السابقين الأولين من المسلمين .. الصدق في إيمان أصحابها .. وعلوّ الهمم في حياتهم، والتضحية بالغالي والرخيص في سبيل نُصرة هذا الدين. وبين أيدينا اليوم أنموذج فذّ .. انخرط في سلك المؤمنين وهو بعدُ في ريعان الشباب، فعاش في مكة ظروف الدعوة الصعبة في أيامها الأولى ثم كانت الهجرة الأولى في الإسلام .. فكان في طليعة المهاجرين .. وأي غم بعد الشقة. وآلام الغربة .. فقد أمضى المهاجر الشهيدُ الطيار أربعة عشر عامًا في بلاد الحبشة .. أي ما يؤيد على ثلث عمره رضي الله عنه وأرضاه .. أو ما يقرب من نصف عمره على ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 1/ 11/ 1418 هـ.

القول بأنه استشهد يوم أن استشهد في مؤته وعمره ثلاث وثلاثون سنة (¬1)، عرفته بلاد الحبشة مهاجرًا دائمًا .. وعرفه الأحباش خطيبًا صادق اللهجة، قوي الحجة، داعيًا إلى الله، مدافعًا كذب الخصوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولِمَ يعجب المرء من قريش وقادتها وهم لا يكتفون بإخراج المؤمنين من مكة .. ويضطروهم للهجرة من ديارهم .. بل تظل مطاردتهم خارج بلادهم .. فما أن استقرَّ أصحابُ الهجرة في الحبشة حتى بعثت قريش في إثرهم وفدًا يشي بهم عند النجاشي، ويشوه صورتهم، قائلين: إن أناسًا من أرضنا رغبوا عن ديننا وهم في أرضك .. وقد بعثنا إلى الملك أشراف قومهم ليردوهم إليهم (¬2). ولكن الأعجب من ذلك موقف المؤمنين وثباتهم، وقناعتهم ودفاعهم عن عقيدتهم، وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه خطيبهم .. فلا يتلعثم ولا يتردد في شرح مفاهيم الدين الحق، ووصف الرسول المبعوث بالحق -حتى إذا أكمل جعفر حديثه لم يتمالك النجاشي نفسه من إظهار الإعجاب بحديثه، والاعتراف بصدق مقولته. وحين نجح المسلمون .. بقيادة -جعفر رضي الله عنه- في هذا الامتحان الصعب .. فثمة موقف أصعب .. وعمرو بن العاص داهية العرب، ومبعوث قريش حينها، يحاول جاهدًا إثارة الوقيعة بين الأحباش النصارى .. وبين وفد المهاجرين المسلمين في قضية عقدية، الخلاف فيها بين المسلمين والنصارى كبير جدًّا .. تلك هي: عقيدة المسلمين الحقة في المسيح عيسى ابن مريم .. وعقيدة النصارى الكافرة وعيسى ابن مريم .. كما قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} (¬3). ¬

(¬1) زاد المعاد 3/ 383. (¬2) السيرة لابن هشام 1/ 413، الحلية 1/ 114. (¬3) سورة المائدة، آية: 17.

وهنا دُعي المسلمون المهاجرون للسؤال عن هذا الأمر العظيم، وبلغ بهم من الشدة والكرب ما عبروا عنه بقولهم: «ولم ينزل بنا مثلها قط»، واجتمعوا يتشاورون فيمَ يقولون؟ وتتفق الروايات كلها على صدق المسلمين في حديثهم، وثباتهم على معتقدهم رغم الظروف الصعبة، ويتفقون على القول: ونقول -والله- ما قال الله عز وجل، وما جاءنا به نبينا كائنًا في ذلك ما كان (¬1). ومن يتق الله يجعل له مخرجًا .. وعجبك يشتد حين تعلمُ أن الحبشة النصرانية في معتقدها .. يُذعن قادتها للحق، ويقول النجاشي، على إثر سماعه مقولة جعفر في معتقدهم في المسيح بأنه عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .. وقد أخذ عودًا من الأرض فرفعه ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، ما تريدون ما يسوؤني هذا، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته فأكون أنا الذي أحمل نعليه وأوضؤه، ثم قال للمهاجرين: انزلوا حيث شئتم، وأمر بهدية الآخرين -من قريش- فردت عليهم ورجع وفد قريش مقبوحين (¬2). ورغم هذا النصر العظيم، ورغم الأنس بعدل النجاشي وجواره تظل الغربة عن الأهل والوطن هاجسًا للمهاجرين .. كيف لا وهم في منأى عن جوار الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، لا يسمعون حديثه، ولا يدرون عن حاله ولا يبلغهم في حينه ما يبلغ المسلمين من تشريعات نازلة، إلا ما تتناقله الرواة بعد حين من الدهر .. ومع ذلك كله ظل جعفر صابرًا محتسبًاه .. ويولد له في الحبشة عبدالله، ومحمد، وعون .. (¬3). ¬

(¬1) السيرة لابن هشام 1/ 416. (¬2) سير أعلام النبلاء 1/ 207. (¬3) الطبقات 8/ 281.

وتظل معه زوجته الوفية (أسماء بنتُ عميس رضي الله عنها) تشاركه المهمة .. وإن كانت تُحس بآلام الغربة، ولكنها وزوجها -والمهاجرين معهما- يحتسبون ذلك عند الله وتُعبر عن ذلك صراحة في حوارها مع الفاروق عمر رضي الله عنه قائلة: كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم يُطعم جائعكم ويعلم جاهلكم، وكنا في دار البعداء البغضاء وذلك في الله وفي رسوله (¬1). أخوة الإسلام! حين يمتد بنا الحديث عن جوانب من حياة المهاجرين عامة، وحياة جعفر خاصة .. لا نرى أثرًا سلبيًّا للغربة في حياتهم، بل نجد حياتهم تُقضى في العبادة والدعوة .. والعلم والتعليم وكم في حياة جعفر ومن معه في الجيش من دروس موقظة وعبر تستحق الوقفة .. والفرق كبير بين جعفر في أداء مهمته في بلاد الحبشة .. وبين أعداد من شباب الأمة يذهب الذاهبُ منهم فترة من الزمن لا أقول غريبًا عن وطنه بل بعيدًا بعض الشيء عن أهله وخلانه، فيشعر بالغربة ويتطلع دائمًا للعودة .. وأنى له وهو في هذا الشعور أن ينتفع أو ينفع اللهُ به في تعليم كتاب الله، أو في الدعوة لدين الله - كما صنع جعفر والمهاجرون معه من قبلُ. ويكفي المهاجرين فخرًا .. أن تصل دعوتهم إلى بلاط النجاشي .. وفي مجلسه كتاب الله يُتلى .. وأمر الإسلام يُعظَّم في هذه البلاد النائية والنجاشي يُعلن إسلامه .. أو يُسر به لمصلحة لا تخفى، وتظل جهودُ المهاجرين في الحبشة ثمارًا يانعة يقتات منها الأفارقة .. والأشجار التي غرسوها ذات ظلال وارفة لا يزال أهل تلك الديار وما جاورها يستظلون بظلها .. وفي جوانب العلم والتعليم تحدثنا الروايات أنهم كانوا يجتمعون في الحبشة ¬

(¬1) متفق عليه، البخاري 5/ 80، ومسلم 4/ 1946.

للفائدة .. وقد رُئي جعفر رضي الله عنه وهو بين أظهر أصحابه يُحدثهم .. أجل لا مكان للدعة .. ولا مجال للفراغ عند هؤلاء المهاجرين المجاهدين .. فإذا لم تكن الفرصة لدعوة غيرهم للإسلام فلتكن الفرصة للمهاجرين بينهم للاجتماع لتقوية إيمانهم والتواصي بينهم بالحق والصبر. وهكذا يظل جعفر ومن معه ينتظرون إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالعودة .. حتى إذا وضعت الحرب أوزارها مع قريش، وكانت هدنة الحديبية مؤشرًا لضعف قريش واعترافها بقوة المسلمين التفت المسلمون بقيادة محمد صلى الله عليه وسلم إلى تعميم الدعوة وإرساء قواعد الدولة -وهنا يحتاج المسلمون إلى كل طاقة- ولا يستغنون عن أي عنصر .. وحينها كتب الرسول صلى الله عليه وسلم للنجاشي في طلب جعفر وأصحابه فحملهم النجاشي على سفينتين -وحين وصلوا المدينة كان المسلمون قد فتحوا خيبر- فلم يتمالك رسول الله صلى الله عليه وسلم حينها أن يبدي سرورَه بمقدم جعفر وأصحابه وحين رآه قبّل ما بين عينيه وقال: «لا أدري بأيهما أُسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر». ورغم ما يمثله هذا الشعور الكريم من طيب خلقه صلى الله عليه وسلم وحسن معاملته ومكافأته لأصحابه -فجعفر ومن معه يستحقون الحفاوة والتكريم، وقد خلفوا آثارًا طيبة في الحبشة- ويكفيهم أن غربتهم استمرت من السنة الخامسة أو السادسة للبعثة إلى أن كانت السنةُ السابعة للهجرة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} (¬1). ¬

(¬1) سورة النحل، آية: 41.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها المسلمون! عاد جعفر من الحبشة وبلغت فرحةُ النبي صلى الله عليه وسلم بمقدمه مبلغها، ولم يشغله عنها فرحته بفتح خيبر وكسرِ شوكة عدوٍّ لدود للمسلمين، ألا وهم اليهود .. والاستيلاء على حصونهم المنيعة. فلماذا فرح رسول الهدى صلى الله عليه وسلم بجعفر هذه الفرحة- ألأن جهاده ودعوته تستحق كل هذه الفرحة والتقدير؟ أم لأن صبره وطول غربته تستحق العناية والتقدير؟ أم لأنه قدم يوم قدم وقد كسرت شوكة قريش من قبل ثم تلاها كسرُ شوكة اليهود من بعد .. وبمجيء جعفر ومن معه يلتئم شمل المسلمين، ويجتمع ما تفرق منهم بسبب المطاردة والإيذاء من قبل أعداء الدين؟ وأيًّا ما كان السبب هذا أو ذاك أو لأسباب أخرى فالذي لا شك فيه أن الدرس الذي ينبغي أن نعيه هو أن جعفرًا -رضي الله عنه- عاد يوم أن عاد من الحبشة إلى المدينة لا ليأخذ فترة نقاهة لطول غربته، ولا ليستلذَّ بالراحة - ولو لفترة من الزمن- إثر جهاده ودعوته في أرض الحبشة .. بل عاد جعفر ليواصل الجهاد والدعوة للدين الحق مع قافلةِ المؤمنين. فلم تمض سنة على مقدمه حتى كان أحد القادة الثلاثة في الجيش الإسلامي الذاهب لمنازلة الروم في مؤتة في السنة الثامنة للهجرة. وفي معركة غير متكافئة في العدد والعدة وقف المسلمون وعدتهم ثلاثة آلاف

بإزاء الروم وجمعتهم يبلغ مائتي ألف مقاتل، الأمر الذي جعل المسلمين -في البداية- يتشاورون أيقدمون على قتال العدو رغم قلة عددهم وكثرة عدوهم، أم يكتبون للنبي صلى الله عليه وسلم يخبرونه، فإما يمدهم بالرجال، أو يأمرهم بأمره .. ولكن أحدَ قادتهم شجعهما على القتال قائلًا: والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظفر وإما شهادة. فمضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم الجموع بقرية يُقال لها: مَشارف، فدنا العدو، وانحاز المسلمون إلى (مؤتة) فالتقى الناس عندها، ثم اقتتلوا، والراية في يد زيد بن حارثة -رضي الله عنه- فلم يزل يقاتل بها حتى شاط في رماح القوم وخرَّ صريعًا، وأخذ الراية جعفر - رضي الله عنه- فقاتل بها حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه فعقرها ثم قاتل حتى قتل، فكان جعفر أولَّ من عقر فرسه في الإسلام عند القتال، ويقال إن جعفرًا حين قطعت يمينه أخذ الراية بشماله، فقطعت يساره فاحتضن الراية حتى قتل (¬1)، ثم أخذ الراية عبدالله بن رواحة وتقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد، ثم نزل فقاتل حتى قتل -رضي الله عنه-. ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم -رضي الله عنه- فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجلٍ منكم -وقد استشهد الأمراءُ الثلاثة الذين عينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقالوا: أنت لها، قال ثابتٌ: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد سيف من سيوف الله -كما قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة فدافع القوم، وحاش بهم، ونازل الأعداء وأوقع بهم حتى ثبت أنه انكسرت في يده يومئذ تسعة أسياف، وما بقي في ¬

(¬1) رواه ابن هشام بسند منقطع 4/ 31، رزق الله 545.

يده إلا صفيحة يمانية (¬1)، ثم انحاز بالمسلمين وانصرف الناس .. (¬2). إخوة الإيمان! نعود إلى جعفر خاصة .. وليس ذلك بمقللٍ لجهود المسلمين عامة فلئن عرفته أرضُ الحبشة صابرًا محتسبًا، عابدًا داعيًا، معلمًا .. فقد عرفته أرضُ مؤتة مجاهدًا صادقًا وشجاعًا ثابتًا .. تثخنه الجراح فيثبت وهو يتطلع إلى النصر أو الشهادة وقد كان له ما أراد، ولقبه الرسول صلى الله عليه وسلم بلقب لم يعلمه في حياته الدنيا، وأخبر أن الله أبدله جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء (¬3). وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا سلم على عبد الله بن جعفر قال له: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين (¬4). ولكم معاشر المسلمين أن تعلموا شجاعة جعفر وثباته في معركة مؤتة من خلال نصٍّ أورده البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت في الغزوة (مؤتة) فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعًا وتسعين من طعنة ورمية. وفي رواية أخرى في الصحيح قال ابن عمر: «وقفت على جعفر يومئذ وهو قتيل، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دُبره يعني ظهره» (¬5). قال ابن حجر وهو يجمع بين هذه الأقوال: وفي قوله: ليس شيء منها في دبره ¬

(¬1) الصحيح مع الفتح 7/ 515. (¬2) ابن القيم: زاد المعاد 3/ 383. (¬3) أورده الهيثمي من حديث ابن عباس، وقال: رواه الطبراني بإسنادين وأحدهما حسن، مجمع الزوائد 9/ 272. (¬4) الصحيح مع الفتح 7/ 515. (¬5) الصحيح مع الفتح 7/ 510، ح (4260) (4261).

بيان فرط شجاعته وإقدامه (¬1). أيها المؤمنون! بقي أن نعلم من حياة جعفر بذله للخير وحبَّه للمساكين، وعنه حدَّث أبو هريرة رضي الله عنه فقال: وكان جعفر خير الناس للمساكين، وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، فإذا لم يجد لنا شيئًا أخرج إلينا عُكةً أثرُها عَسَلٌ فنشقها ونلعقها (¬2). ويكفيه فخرًا ومن أجل مناقبه أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في شأنه: «أشبهت خَلقي وخُلُقي» (¬3). رضي الله عن جعفر المهاجر الصابر، والمجاهد الصادق، والشهيد الطيار، والمنفق الجواد، أبي المساكين وأشبه الناس خَلقًا وخُلقًا بخير البرية أجمعين، اللهم إنا نشهدك على محبته ومحبة أصحابه وإن ضعفت هممنا عن اللحاق بهم، اللهم احشرنا معهم، واجمعنا بهم، وأكرمنا كما أكرمتهم، ووفقنا للخير كما وفقتهم. ¬

(¬1) الفتح 7/ 512. (¬2) البخاري ح (3708). (¬3) أخرجه البخاري في عدة مواضع ح (2698، 3769).

عبر من قصص السابقين (2) المهاجر الدائم

عبر من قصص السابقين (2) المهاجر الدائم (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (¬3). عباد الله! قَصصُ السابقين الأولين من المهاجرين لا تمل، بل وفيها تقوية للعزائم وتجديد للهمم. ومن المهاجر الطيار إلى المهاجر الدائم أتحدت إليكم عن رجلٍ عداده في السابقين الأولين من المؤمنين ومن أوائل المهاجرين، لا إلى الحبشة وحدها، بل وإلى المدينة أيضًا. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 8/ 11/ 1418 هـ. (¬2) سورة النساء، آية: 1. (¬3) سورة آل عمران، آية: 102.

شاء الله أن تكون حياته قصيرةً نوعًا ما، ولكنها مليئة بالجهاد والدعوة، وختامُها مسك، إذ كان في غزوة أحدٍ في طليعة الشهداء. كان يوم أن دخل في دين الله صعيرًا في سنه، ولكنه كبير في عقله، ارتضى الإسلام دينًا، وتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم مقتنعًا، وصبر في سبيل ذلك على الأذى من أقرب الناس إليه، قال ابن عبد البر: أسلم مصعب بن عمير قديمًا، والنبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفًا من أمه، فعلم به عثمان بن طلحة فأعلم أهله، فأوثقوه، فلم يزل محبوسًا إلى أن خرج مع من هاجر إلى الحبشة (¬1). صاغه الإسلام مجاهدًا صادقًا، ومهاجرًا دائمًا شغله في الجاهلية حسنُ الهندام، ونوع الحذاء، وأجود أنواع الطيب، وليس وراء ذلك هدفٌ إلا استكمال نضارة الشباب، والمفاخرة بأنواع الثياب والعطر. كان يوصف- قبل الإسلام- فيقال عنه: ما رؤي بمكة أحسنَ لمةً ولا أرق حُلةً، ولا أنعم نعمةً من مصعب بن عمير (¬2). فجاء الإسلام ليرفع من همته .. ويتعالى بطموحاته واهتمامه واستطاع محمد صلى الله عليه وسلم أن يستثمر طاقة الشباب فيه، وأن يوجه قدراته إلى حيث ينبغي أن توجه طاقات الشباب. لقد وجهه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكان أول من هاجر إليها، وذلك بعد أن قابل النبي صلى الله عليه وسلم بعض رجالات المدينة في العقبة، وطلبوا منه أن يبعث إليهم من يعلمهم الإسلام ويُقرءوهم القرآن .. فوقع الاختيار على مصعب بن عمير رضي الله عنه .. وكان رجل المهمة .. والغيث - بإذن الله- لأهل المدينة .. فتح الله عليه فيها ما ينوء ¬

(¬1) الاستيعاب بهامش الإصابة 10/ 252. (¬2) المصدر السابق 10/ 252.

بحمله الرجال، ولم يكن سلاحه الخيلَ والسيف- بل فتح الله عليه ما فتح .. وأسلم على يديه من أسلم بما معه من القرآن وهدي محمد عليه الصلاة والسلام، وبما وقر في قلبه من إيمان، وهمِّ لهذا الدين وأهل المدينة يعترفون له بالفضل. ويقرون له بالجهاد والصدق في الدعوة .. كيف لا؟ ولم يبق دار من دورهم إلا ودخل فيها الإسلام؟ هنيئًا لك يا مصعب بن عمير ما رأيت من ثمار الدعوة في حياتك، وحق لأهل المدينة أن يجلوك ويذكروك بالخير وإن لم ينصبوا لك ما يُخلد ذكراك .. فذاكرة التاريخ عبرَ القرون والأجيال .. والمسطور في الكتب قديمًا وحديثًا .. أعمق وأولى بالخلود من شكليات قد يراها جيل وتغيب عن أجيال أخرى. وأعظم من ذلك كله عظيم الجزاء عند الله- ورفعه الدرجات يوم يقوم الأشهاد- وأرواح الشهداء في حواصل طير تحوم بهم في الجنة .. {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (¬1). إخوة الإسلام! مصعب بن عمير رضي الله عنه .. ممن هانت عليه نفسه في سبيل الله، هاجر وجاهد في أيام الإسلام الأولى. حتى إذا استقر أمر الإسلام وأينعت الثمار للمسلمين .. كان مصعب قد رحل عن هذه الدنيا، فلم ينقص أجره شيئًا. حدّث خباب بن الأرت عن مصعب رضي الله عنهما فقال: «هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لسبيله لم يأكل مِن أجره شيئا، منهم: مصعب بن عمير قُتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرةَ، كنا إذا غطينا ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيتان: 169، 170.

رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((غطوا رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر))، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهد بها .. » (¬1). وبكى لذكره وذكرِ حمزة رضي الله عنهما عبدُ الرحمن بن عوف رضي الله عنه. ممن لم يوجد لهم ما يكفنون به. وهو يقول: أخشى أن تكون طيباتُنا عُجلت لنا في الحياة الدنيا .. (¬2). بل لقد ذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن رأى مصع بن عمير في بردةٍ له مرقوعة بفروة، وكاد قبل أنعم غلامٍ بمكة وأرفه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ما كان فيه من النعيم ورأى حالته التي هو عليها، فذرفت عيناه عليه، ثم قال: أنتم اليوم خير أم إذا غدي على أحدكم بحفنةٍ من خبز ولحم؟ فقلنا: نحن يومئذ خير، نكفى المؤنة ونتفرغ للعبادة، فقال: بل أنتم اليوم خير منكم يومئذ (¬3). وفي الحلية عن عمر رضي الله عنه قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلًا وعليه إهابُ كبشٍ قد تنطق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((انظروا إلى هدا الرجل الذي قد نوَّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حبُّ الله ورسوله إلى ما ترون)) (¬4). إخوة الإسلام! حين ينصرف مصعب بن عمير عن ملاذ الدنيا فليس تحريمًا لما أحله الله منها .. ولكنه الانشغال عنها بما هو أهمُّ منها .. لقد أخذت عليه الدعوة لدين الله كل اهتمام، وبدل نفسه رخيصة في سبيل إحراج الناس من الظلمات إلى ¬

(¬1) رواه البخاري وغيره (1286). (¬2) أخرجه البخاري (1274). (¬3) رواه الترمذي- في حال مصعب بن عمير بعد الإسلام- وقال: حديث حسن غريب، وضعف إسناده ابن حجر وغيره. سير أعلام النبلاء 1/ 147، الإصابة 9/ 209. (¬4) حلية الأولياء 1/ 108.

النور ولا يُنال ذلك براحةِ الجسد، ودونك نموذجًا لجهوده في سبيل الدعوة، وصبره على ما يلقاه من العنت والأذى في سبيلها، فقد روى أهل السير- بسند ليس سليمًا من الضعف- أن منزل مصعب في المدينة كان على أسعد بن زرارة رضي الله عنه، وكان له نعم العون في دعوة أهل المدينة .. وذات يوم خرج بمصعب يريد به دار بني عبد الأشهل وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ- سيدا بني عبد الأشهل، فقال سعدُ بن معاذ لأسيد بن حضير، لا أبا لك انطلق إلى هذين الرجلين -أسعد بن زرارة، ومصعب- اللذين قد أتيا ديارنا يُسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما، فلولا أن سعدًا مني حيث قد علمت- وكان ابن خالته- لكفيتك ذلك، فأخذ أسيد حربته، ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعدُ بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه، فوقف عليهما متشمتًا وهو يقول: ما جاء بكما إلينا تُسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إن كانت بكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كُفَّ عنك ما تكره؟ قال أسيد: أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، ثم عرفا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، فرق قلبه وحسن منطقه ثم سأل عن كيفية الدخول في الإسلام فعلماه فأسلم. ثم انصرف إلى صاحبه سعد بن معاذ، ورغب إليه أن يسمع منهما كما سمع ولم يشعره بإسلامه .. بل هيَّج سعدًا على الانتصار لابن خالته أسعد، فقام إليهما مغضبًا، فلما وصل إليهما عرف أنها حيلة من أسيد لكي يصل إليهما- فكلماه بالإسلام، وتلا عليه مصعب القرآن بمثل ما صنعوا مع صاحبه فدخل هو الآخر في دين الله- بل كانا فتحًا لقومهما، وهذا سعدُ بن معاذ- بعد أن أسلم- يأتي إلى قومه

داعيًا لدين الله- فما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجلٌ ولا امرأة إلا مسلمًا ومسلمة (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} (¬2). ¬

(¬1) السيرة لابن هشام 2/ 88 - 91. (¬2) سورة الأحزاب، آية 23.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين وفق من شاء لطاعته وتقواه .. وأضل آخرين، ومن يضلل الله فما له من هاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله وأصحابه ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. إخوة الإيمان! في سبيل صبر مصعب على الدعوة ومصابرته على الشدة واللؤى يحدثنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فيقول: كنا قبل الهجرة يصيبنا ظلفُ العيش وشدته فلا نصبر عليه، فما هو إلا أن هاجرنا، فأصابنا الجوع والشدة فاستضلعنا بهما وقوينا عليهما، فأما مصعب بن عمير فإنه كان أترف غلام بمكة بين أبويه فيما بيننا، فلما أصابه ما أصابنا لم يقوَ على ذلك، فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية، ولقد رأيته ينقطع به فما يستطيع أن يمشي فنعرض له القسي ثم نحمله على عواتقنا .. (¬1). عباد الله! أولئك أقوام هانت الدنيا في عيونهم، عظموا أمرَ الله وامتثلوا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وقدموه على من سواه كائنًا ما كان، ودونكم هذا الموقف من مصعب وما فيه من تقدير للنبي صلى الله عليه وسلم على أقرب الناس له. فقد روى ابن سعدٍ أن مصعب بن عمير قدم من المدينة إلى مكة مع السبعين من الأنصار الذين وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة الثانية ليبايعوه، وقد قدم مصعب أول ما قدم على منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره عن الأنصار وإسلامهم وأحوالهم، فعلمت أمُّه بمقدمه فأرسلت إليه تقول: يا عاق أتقدم بلدًا أنا فيه لا تبدأ بي؟ فقال: ما كنت ¬

(¬1) رواه ابن إسحاق وغيره وفيه انقطاع، سير أعلام النبلاء 1/ 148.

لأبدأ بأحدٍ قبل رسول الله ع صلى الله عليه وسلم، فلما سلم على رسول الله وأخبره خبره، ذهب إلى أمه فقالت: إنك لعلى ما أنت عليه من الصبأةِ بعد! قال: أنا على دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الإسلام الذي رضيه الله لنفسه ولرسوله قالت: ما شكرت ما ريثتُك مرة بأرض الحبشة ومرة بيثرب، فقال- رضي الله عمه- أفرُّ بديني أن تفتنوني (¬1). أيها المسلمون! استمر المهاجر الدائم يواصل رسالته النبيلة وغايته الجليلة .. وكان له القدحُ المعلى في الغزوات التي شهدها مع رسول الله ع صلى الله عليه وسلم، حتى قال ابنُ عبد البر: ولم يختلف أهل السير أن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ بدر، ويوم أحدٍ كانت بيد مصعب بن عمير (¬2)، حتى إذا كانت غزوة أُحد كان فيها المشهد الأخير لحياة هذا البطل المجاهد وكان استشهاده العظيم .. إذ استشهد وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتله ابن قَمِئة الليثي وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ رجع إلى قريش وهو يقول: قتلت محمدًا (¬3). ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رآه مقتولًا: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} (¬4). وإذا كان مصعب بن عمير رضي الله عنه في قائمة شهداء أحد .. فقد تأثر النبي صلى الله عليه وسلم لقتلهم، وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يُصلِّ عليهم، ولم يغسلوا وكان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحدٍ ثم يقول: أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟ فإذا أُشير له ¬

(¬1) الطبقات 3/ 119. (¬2) الاستيعاب 10/ 253 بهامش الإصابة. (¬3) ابن هشام 2/ 73، ابن سعد في الطبقات. (¬4) سورة الأحزاب، آية: 23.

إلى أحدٍ قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة (¬1). تلك عواقب التقوى .. يراها المسلم أو ترى له في الدنيا، وما عند الله خير وأبقى. عباد الله! كان مصعب بن عمير إلى جانب جهاده وصبره ودعوته للخير حسن الخلق، يذكره به من يعِرفه ويقول عامرُ بن ربيعة رضي الله عنه. كان مصعب بن عمير لي خِدنًا وصاحبا منذ يوم أسلم إلى أن قُتل -رحمه الله- بأُحد، خرج معنا إلى الِهجرتين جميعًا بأرضٍ الحبشة وكاد رفيقي من بين القوم، فلم أرَ رجلا قطّ كان أحسن خُلُقا ولا أقلَّ خلافًا منه (¬2). وكذلك ينبغي أن يُصلح الداعية نفسه إذا رام إصلاح الآخرين، وأن يكون قدوة طيبةً في أخلاقه وتعامله وشأنه كله. إخوة الإيمان! من سرد القصص إلى فقهها والعبر منها في الوقفات التالية: أولًا. كم هو عظيم أن يكون الوجل الواحد من المسلمين كالألف إن أمر عنى، وأعظم الجهود وأبركها ما وجه لخدمة دين الله، والله يقول: {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين} (¬3). وكم هو مؤلم أن ترى الغُثائية في مجتمعات المسلمين، وتهولك الأرقام والإحصاءات ولكن دون جدوى، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((الناس كإبل مائة لا تكاد تجدُ فيها راحلة)). ¬

(¬1) أخرجه البخاري (الفتح 7/ 374). (¬2) الطبقات 3/ 117. (¬3) سورة فصلت، آية: 33.

ثانيًا: ما هذا الوهن الذي أصابنا عن الدعوة لدين الله، والبشرية جمعاء ظمئى لهدي السماء .. ولا منقذ لهم إلا شريعة محمدٍ صلى الله عليه وسلم. ثالثًا: وإذا كان رجل واحد فتح الله به قلوب أمة من الناس كانت بعدُ سندًا لدين الله .. وكالت بلادهم منطلق الدعوة لدين الله، أفيعجز الجموع من المسلمين أن تفعل مثل ما فعله مصعب بن عمير في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ رابعًا: والمصيبة أعظم إذا كانت مجتمعات المسلمين هدفًا لدعوات الآخرين المضللة .. وأصبحت بلادهم مطمعًا لكل مستكبر وحاقد، واتحد العدو من فرقة المسلمين وخلافهم وسيلةً للتحريش بينهم وضرب بعضهم ببعص .. وأيًّا ما كانت النتيجة فالعدو كاسب بكل حال! . خامسًا: وإذا تساوى الناس في علمهم أو قدراتهم فهم متفاوتون في صدقهم وإخلاصهم وهممهم. وتلك هي التي امتاز بها السابقون، وفتحوا بها البلاد وقلوب العباد .. وهي التي يحتاجها اللاحقون إن راموا نصرًا ومجدًا كأسلافهم المسلمين .. وإلا سيظل التلاوم ديدنهم، والعدو ماض في تحقيق أهدافه، وتجديد وسائله في القضاء عليهم وستحل الفتن فيهم، وصدق الله {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} (¬1). اللهم لا تفتنا في ديننا، اللهم ارحم ضعفنا وألف بين قلوبنا، هذا وصلوا. ¬

(¬1) سورة الأنفال، آية: 73.

مثل الإسلام

مثل الإسلام (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ومن يضلل الله فما له من هاد وأشهد أن لا إله إلا الله، قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، أنزل عليه من ربه {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين} (¬2). اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء، وعلى آل بيته السادة النجباء، وارض اللهم عن أصحابه أولي الأحلام والنهى والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الملتقى وإلى ربِّك المنتهى. أما بعد: فأوصيكم أيها الناسُ ونفسي بتقوى الله وتعظيم أمره، {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}، {ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} (¬3). أيها المسلمون! نحتاج في سيرنا إلى الله إلى معرفة حقيقة الإسلام ومَثَله في الحياة، وأن نعلم حدود الله فلا نَهتك أستارها المُرخاة، وأن نتبين الداعي للحقِّ فنتبعه، وأن تستيقظ ضمائرنا لواعظ الله في أنفسنا فلا نلج الحرام وإن رغبته ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في يوم الجمعة الموافق 10/ 8/ 1417 هـ. (¬2) سورة القصص، الآية: 56. (¬3) سورة الحج، الآيتان: 1 - 2.

نفوسنا، ومالت إليه أهواؤنا، ولبيان ذلك كلِّه استمعوا وعوا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقول في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا، - وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مُفَتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تعوجّوا، وداعٍ يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله عز وجل، والداعي من فوقه واعظ الله في قلب كلِّ مسلم)). هكذا أخرج الحديث أحمد في مسنده، وبنحوه أخرجه الترمذي وحسنه وخرجه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم لا أعلم له علةً، ووافقه الذهبي في تلخيصه (¬1) وأخرج الحديث غير هؤلاء، وحسن إسناده ابن كثير (¬2). عباد الله! يدعونا هذا الحديث للتأمل في صراط الله، وكيف يُسلك وحدود الله ومحارمه كيف تُعرف وتُجتنب، وكتاب الله وكيف يهدي ويتَّبع، وواعظ الله في القلوب كيف يُنمى ويُستشعر. أما الصراط المستقيم فقد فسِّر بالإسلام وفسِّر بالقرآن، وفسِّر بالحقِّ، وفسر بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه من بعده، قال ابن كثير يرحمه الله: وكلُّ هذه الأقوال صحيحة وهي متلازمة، فإن من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وافتدى باللذين من بعده أبي بكر ¬

(¬1) المستدرك 1/ 73. (¬2) انظر: شرح حديث مثل الإسلام لابن رجب ص 14 وجامع الأصول 1/ 274، 275 وتفسير ابن كثير 1/ 43 ط الشعب.

وعمر، فقد اتبع الحق، ومن اتبع الحقَّ فقد اتَّبع الإسلام، ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن، وهو كتاب الله وحبله المتين وصراطه المستقيم، فكلّها صحيحة يُصدق بعضها بعضًا، ولله الحمد (¬1). وقد رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن الصراط المستقيم قال: تَرَكنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد، وعن شماله جواد، وثمَّ رجال يدعون مَن مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه} (¬2) أيها المسلمون! إنما سمي الصراط صراطًا: لأنه طريق واسع سهل يوصل إلى المقصود، وهذا مثل دين الإسلام في سائر الأديان، فإنه يوصل إلى الله وإلى داره وجواره مع سهولته وسعته، وبقية الطرق وإن كانت كثيرة فإنها كلَّها مع ضيقها وعُسرها لا توصل إلى الله، بل تقطع عنه وتوصل إلى دار سخطه وغضبه ومجاورة أعدائه، ولهذا قال تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (¬3). عباد الله! هذا الصراط المستقيمُ هو الذي يسأل المؤمنون ربَّهم صباح مساء أن يهديهم سلوكه، {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهن} (¬4). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 1/ 43. (¬2) أخرجه ابن جرير وغيره انظر: مثل الإسلام لابن رجب ص 18. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 85، وانظر: (مثل الإسلام: 18). (¬4) سورة الفاتحة، الآيتان: 6 - 7.

وهنا سؤال وجواب: فإن قيل: كيف يسأل المؤمن الهداية- للصراط المستقيم- في كلِّ وقت من صلاة وغيرها، وهو متَّصف بذلك، فهل ذلك من باب تحصيل الحاصل أم لا؟ والجواب- كما قال الحافظ ابن كثير يرحمه الله- أن لا ليس من تحصيل الحاصل، ولولا احتياجه ليلًا ونهارًا إلى سؤال الله الهداية لما أرشده الله إلى ذلك، فإن العبد مفتقر في كلِّ ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها، وتبصُّره، وازدياده منها، واستمراره عليها، فإن العبد لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله، فأرشده الله تعالى إلى أن يسأله في كلِّ وقت أن يمدَّه بالمعونة والثبات والتوفيق، فالسعيد من وفقه الله تعالى لسؤاله .. (¬1). يا عبد الله! مع سؤالك لله الهداية والثبات في كلِّ لحظة وحال فاشرح صدرك للإسلام، ووسع قلبك للتوحيد والإيمان، قال الله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} (¬2). أيها المسلمون! من عجب أن يضيق هذا الصراط المستقيم بأقوام على سعته واستقامته، وتتسع لهم- في ظنِّهم- طرق أخرى مع ضيقها وعوجها، فيؤثرون الهوى على الهدى، ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقد ورد في سعة صراط الله المستقيم أنه أوسعُ ما بين السماء والأرض (¬3). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 1/ 44. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 125. (¬3) تفسير ابن كثير.

ولكن صدق الله- وهو أصدق القائلين: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون} (¬1). إخوة الإيمان! حاذروا الشيطان فإنه قاعدٌ لكم- بإغوائه ووسوسته- عن سلوك الصراط المستقيم {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين * قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين} (¬2). وصحَّ عن ابن مسعود رضمي الله عنه أنه قال: ((إن هذا الصراط مُحتضر تحضره الشياطين، ينادون: يا عبد الله هذا الطريق، هلمَّ إلى الطريق ليصدوا عن سبيل الله، فاعتصموا بحبل الله، فإن حبل الله هو القرآن) (¬3). عباد الله! جاهدوا أنفسكم على سلوك الصرِاط المستقيم، وروضوها على اتباعه .. فبذلك أمر ربُّكم وكذلك وصى، {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} (¬4). ولا تستوحشوا من الحق لقلة السالكين، ولا تغتروا بالباطل لكثرة الهالكين، فمن صبر اليوم ظفر غدًا، ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه، والله غني عن العالمين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم * وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} (¬5). ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية 8. (¬2) سورة الأعراف، الآيات 16 - 18. (¬3) مثل الإسلام 22. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 153. (¬5) سورة الزخرف، الآيتان 43، 44.

نفعني الله وإياكم بهدي القرآن وسنة محمد عليه الصلاة والسلام، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. أما بعد أيها المسلمون، فإن حدود الله هي أحكام الشرع، فكأن حدود الشرع فواصل بين الحلال والحرام (¬1). وقد جاء في الحديث السابق: ((وعلى جنبتي الصراط سوران)) ثم فسَّرها بحدود الله، والمراد أن الله تعالى حدَّ حدودًا ونهى عن تعديها، فمن تعداها فقد ظلم نفسه، وخرج عن الصراط المستقيم الذي أُمر بالثبات عليه، ولما كان السور يمنع من وراءه من تعديه ومجاوزتة سمّى حدود الله سورًا؛ لأنه يمنع من دخله من مجاوزته، وتعدي حدوده .. قال تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} (¬2)، وقال تعالى: {تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} (¬3). يا أخا الإسلام! هكذا تُشبه حدود الله بالأسوار، وهذه الأسوار مع عظمتها وكفايتها للمنع عن الوقوع في المحرمات لمن عقل، فقد جعل الله فيها أبوابًا مفتحة ¬

(¬1) جامع الأصول 1/ 274، 275. (¬2) سورة البقرة، الآية: 229. (¬3) سورة النساء، الآيتان: 13 - 14، (مثل الإسلام لابن رجب ص 27).

وعليها ستور مرخاة، فيها مزدجر لمن أحيا الله قلبه فلا يَلجها، وفيها متسع للولوج لمن طغى وآثر الحياة الدنيا. وهكذا يُمتحن الناس بولوج هذه الأبواب ذات الستور المرخاة، أو الامتناع عن دخولها طمعًا في ثواب الله ورجاء موعوده، وكذلك تكون الشهوات المحرمة فإن النفوس متطلعة إليها وقادرة عليها، وإنما يمنع منها مانع الإيمان خاصة، قال العارفون: والمحرمات أمانة من الله عند عبده، والسمع أمانة، والبصر واللسان أمانة، والفرج أمانة وهو أعظمها، وكذلك الواجبات أمانات، كالطهارة والصلاة، والصيام وأداء الحقوق إلى أهلها (¬1). ومع ثقل هذه الأمانات وصعوبتها على النفس أحيانًا، إلا أن الله جعل الجزاء عليها عظيمًا والمغنم كبيرا {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى} (¬2). يا أخا الإسلام! في ظل هذه المعركة والجهاد مع النفس والهوى فقد أمدك الله بداعيين هما لك عون على الاستقامة على الصراط المستقيم، هما: القرآن وواعظ الله في قلب كلِّ مسلم- كما جاء بيان ذلك في الحديث السابق-. وكم في كتاب الله من موعظة وذكرى وترغيب وترهيب، وزواجر ونواهٍ، وأمثال مضروبة وقصص فيها عبرة ومثانٍ، تقشعر منه جلود الذين يخشون ربَّهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، ولو نزِّل على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله، قال بعض السلف: من لم يردعه القرآن والموتُ لو تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع. ¬

(¬1) المرجع السابق، 36، 37. (¬2) سورة النازعات، الآيتان: 45، 41.

وقال مالكٌ: فُتحت المدينة بالقرآن، والمعنى: أن أهلها إنما دخلوا في الإسلام بسماع القرآن (¬1). ألا فاتعظوا بالقرآن، واستمعوا لندائه حين يناديكم: {ياأيها الذين آمنوا} فإما خير تؤمرون به، أو شرّ تنهون عنه، تذكروا واعظ القرآن في مثل قوله تعالى: {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا * وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا * ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} (¬2). أيها المسلمون! عظموا واعظ الله في نفوسكم راقبوه في حال خلوتكم أو اجتماعكم، واجعلوا من أنفسكم عليكم رقيبًا، فالإسلام نقى فلا تدنسوه بآثامكم، والكرام الكاتبون شهود فلا تشهدوهم على سوآتكم والألسن والأيدي والأرجل ستنطق بما كسبتم فلا تفضحوا أنفسكم بأنفسكم ولا تظنوا أن الله غافل عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار. يا أخا الإسلام! يضعك هذا الحديث وأمثاله أمام رقابة ذاتية لله، وإن فتحت لك أبواب الشهوات والمحرمات -لكن المسلم- يتصور داعي الله يهتف به، ويستشعر واعظ الله في نفسه يردعه كلما ضعفت نفسه، فلا يهتك أبواب الحرام وإن لم يكن بينه وبينها إلا ستور مرخاة. يا أخا الإسلام! بإمكانك أن تعلم منزلة القرآن في قلبك إن كنت ممن استجاب لدعوته في سلوك الصراط المستقيم، وإن كانت الأخرى فعالج نفسك واستقم على ¬

(¬1) مثل الإسلام 43. (¬2) سورة الكهف، الآيات: 47 - 49.

أمر ربك، وإذا أردت امتحان واعظ الله فيك فانظر مدى وقوفك عند حدود الله معظما حتى وإن أتيحت لك الفرصة وخلا لك الجو أمنا. يا أخا الإيمان! إني أعظك ونفسي بلزوم الصراط المستقيم في هذه الحياة حتى وإن خيل لك الشيطان صعوبته أحيانا وضيقه أحيانا أخرى فذلك ضمان بإذن الله لمجاوزة الصراط الدقيق غدا. قال سهل التستري: من دق على الصراط في الدنيا عرض له في الآخرة، ومن عرض له في الدنيا الصراط دق عليه في الآخرة. والمعنى: أن من صبر نفسه على الاستقامة على الصراط، ولا كف شيئا من الستور المرخاة على جانبيه، وعبَّ من الشهوات ما شاءت نفسه دق عليه الصراط في الآخرة، فكان عليه أدق من الشعر. اللهم احفظنا بحفظك، واكلأنا برعايتك، واسلك بنا صراطك المستقيم يا رب العالمين.

العمالة الوافدة حقوقها وواجباتها

العمالة الوافدة حقوقها وواجباتها (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله رب العالمين يثيب العاملين المخلصين، ويجزي المتصدقين والمحسنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قسم المعيشة بين خلقه ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًّا ورحمة ربِّك خير مما يجمعون. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله جاءت شريعته بالرأفة للمؤمنين، وأوصى بحسن المعاملة مع الخدم والمستأجرين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اتقوا الله عباد الله في ذوات أنفسكم وفيمن ولاكم الله أمرهم، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا، إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. إخوة الإسلام! سبق حديث خاص ولفئة خاصة من العمالة الوافدة، أما حديث اليوم فيتناول قطاعًا كبيرًا من العمالة الوافدة، إلى هذه البلاد المباركة، ولا شك أن وجود الحرمين الشريفين، ومناسك الحج والعمرة، وما أنعم الله به على أهل هذه البلاد من رغد العيش، وتوفر فرص العمل، وظلال الأمن ونحو ذلك. كل ذلك جعل هذه البلاد مأوى لأفئدة كثير من أبناء العالم الإسلامي، بل ولغيرهم. ولئن أحوجتهم ظروف الحياة إلى المقام معنا فترة من الزمن فلا شك أن من هؤلاء أصحاب شهادات عالية وتخصصات نادرة، ونفوس كبيرة، وقدرات علمية ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في يوم الجمعة الموافق 18/ 5/ 1418 هـ.

في شتى الحرف والصناعات، لا يسوغ لنا بحال أن نذلهم أو نغمطهم حقَّهم، ما بقوا مساهمين معنا في مساهمين التربية والتعليم، والصحة والهندسة، والزراعة والعمران، والصناعة والصيانة والنظافة. وغيرها من مجالات العمل. وقبل الحديث عن حقوقهم وواجباتهم، لابد من التفريق بين نوعين من العمالة (الأجنبية، وغير الأجنبية) وحتى نحرر المصطلح شرعًا، ونصحح مفهومًا خاطئًا يرد على ألسنتنا كثيرًا نقول: إن الأجنبي هو الكافر ولو كان من بلاد عربية أو إسلامية، أما المسلم فليس أجنبيًّا وإن وفد إلينا من بلاد كافرة وغير عربية. ففي شريعة الإسلام المسلمون أمة واحدة، ولو كانوا من آمم شتى، فكيف إذا كانوا جميعًا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى -في سياق الحديث عن الأنبياء عليهم السلام- {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} (¬1)، وقال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} (¬2). وقال عليه الصلاة والسلام (المسلم أخو المسلم) وإذا نجح المستعمر في تقطيع أوصال المسلمين وتفريق دولتهم، واختلاف كلمتهم على المستوى السياسي، فينبغي أن يستمر الشعور بين أبناء المسلمين برابطة العقيدة، وأخوة الإيمان مهما تباعدت أوطانهم، واختلفت ألوانهم أو لغاتهم، فاجتماع المسلمين سرُّ قوتهم، وتفرقهم بداية ضعفهم، ومفهوم أمة المسلمين ينبغي أن يتجاوز الحدود المصطنعة وألا تعيقه السدود الوهمية، يقال ذلك حتى نحرر المصطلح الأجنبي من جانب، ونفرق بين حقوق المسلم والكافر، ونحرص قدر الطاقة على استقدام العمالة المسلمة، لهذه البلاد الطاهرة فلا ينبغي أن يجتمع في جزيرة العرب دينان. ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 92. (¬2) سورة الحجرات، الآية 10.

ففي صحيح مسلم عن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أدع فيها إلا مسلمًا)) (¬1). وفي البخاري ومسلم: ((أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجا)) (¬2) تنفيذا لوصية النبي صلى الله عليه وسلم، التي ورد في بعضها ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب .. )) (¬3). أيها المؤمنون! أما حقوق العامل المستقدم، فيجمعها حسن التعامل معه، والرفق به، وعدم تكليفه ما لا يطيق، ومراعاة مشاعره، وإعطاؤه حقه قبل أن يجفَّ عرقه، والوضوح معه في نوع العمل، ومقدار الأجرة، وعدم التلبيس عليه، أو المماطلة في حقوقه، وألا نشعره بنوع من التفرقة في المعاملة لا داعي له .. وبذلك جاءت نصوص الشرع: سواء كان المستقدم مملوكًا أو مؤجرًا. ففي حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)) (¬4). وفي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتى أحدكم خادمه بطعام فإن لم يجلسه معه فليناوله لقية أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي علاجه أي تعب في إعداده وتحضيره، فمن الأدب ألا يحرم من تذوقه إن لم يسمح له بالأكل منه (¬5). ¬

(¬1) ح 1767. (¬2) جامع الأصول 9/ 346. (¬3) رواه أبو داود 9/ 345. (¬4) متفق عليه، صحيح البخاري 1/ 30، ومختصر مسلم للمنذري 1/ 904. (¬5) د. سليمان الفيفي، العمالة المستقدمة ما لها وما عليها 34.

أيها المستأجرون! ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) كذا أمركم المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن الذي أخرجه ابن ماجه، وأبو يعلى، والطبراني (¬1) وإياكم أن تستوفوا منهم عملهم ولا توفوهم أجرهم، فالله خصمهم يوم القيامة، فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجلٌ أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا واستوفى منه العمل ولم يوفّه أجره)) (¬2). أيها المستأجرون والأجراء وضِّحوا- فيما بينكم- نوع العمل ومقدار الأجر، واتقوا الله جميعًا في الوفاء، وليكن هديكم هدي الأنبياء عليهم السلام ومن تبعهم بإحسان وضوحا ووفاء، ورفقًا. قال تعالى: {قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين * قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل} (¬3). أيها المستأجرون! أنصفوا العمال وإياكم وظلمهم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وإذا سوّلت لك نفسك أنك قادر على ظلم العامل أو بخسه حقَّه فتذكر رقابة الله عليك، وإياك أن تسيء إلى الإسلام من حيث تشعر أو لا تشعر، فيتصور الجهلة أن هذه الأخلاق أخلاق الإسلام، وأن تلك سمات المسلمين، والواقع أنه خطؤك والإسلام منه براء، وليس كلُّ المستقدمين يدرك هذا. ¬

(¬1) صحيح الجامع 1/ 349. (¬2) كتاب البيوع 4/ 346، جامع الأصول 11/ 708. (¬3) سورة القصص، الآيتان: 27 - 28.

ويتعاظم الخطأ ويكبر الخطر إذا ألزمت العامل بالعمل وقت الصلاة أو أرهقته بالعمل وقت الصيام، أو كنت السبب في منعه من أداء فرض الحج والعمرة، أو حملته مفاهيم خاطئة عن الإسلام وسلوكيات المسلمين، فأضعفت صلته بربه، أو أفسدت عليه شيئًا من دينه ولربما كنت حجر عثرة في سبيل اعتناقه للإسلام إن كان كافرًا. وفرق بين هؤلاء وبين فئة أخرى من الكفلاء، اهتدى مكفولوهم إلى الإسلام على أيديهم، وذلك لحسن أخلاقهم وطيب تعاملهم، وكما قسم الله أرزاق العباد بينهم، فقد قسم أخلاقهم، وفضل الله يؤتيه من يشاء. إنني أذكِّر وأحذر كلَّ مسلم أن تقع الفتنة في الدين على يديه، ولا سيما مع نوعية من العمالة قد لا تفهم الإسلام إلا من خلال سلوكيات المسلمين بشكل عام، وسلوكيات الكفيل على الخصوص، فهل نقدر هذه المسئولية حقَّ قدرها؟ وهل نرعى الأمانة التي استرعانا الله إياها، فيعود هؤلاء الوافدون إلى بلادهم وقد انشرحت صدورهم للإسلِام، وتأخذون على عاتقهم دعوة بني قومهم لهذا الدين ويعود الاستقدام فرصة لتأليف المسلمين وتعارفهم، ودعوة غير المسلمين للدخول في دينهم، ذلك نوع من إيجابيات الاستقدام، وهناك غيرها لو تأملناها. والمهم ألا تكون الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، اللهم اهدنا واهد بنا، اللهم احفظنا واحفظ لنا، اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، أقول كما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين. وبعد .. إخوة الإسلام: فإذا أخذ العامل أجره غير منقوص ووفَّى له المستقدم حقَّه دون تدليس .. كان، عليه عدد من الواجبات لابد له عن الوفاء بها، وفاءً بالأمانة التي أمر الله بها {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} (¬1)، ورعاية للعهد {والذين هم لأماناتهم راعون} (¬2)، ووفاءً بالعقود {ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} (¬3)، وتحقيقًا لأداء التقوى {فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه} (¬4). أيها الأجير المسلم أيًّا كان موقعك، ومهما كان حجم مسئوليتك لابد من رعاية الأمانة التي اؤتمنت عليها، وأشفقت من حملها السموات والأرض، سواء كان ذلك في حال رقابة الناس أو غفلتهم، فرقابة الله أولى وأعظم من رقابة البشر .. وإذا خلوت يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب. وليكن هذا شأنك في حقوق الله أو حقوق الخلق، وتلك مسألة نحتاجها جميعًا .. مستأجرين وأجراء، كفلاء ومكفولين، ومن الواجبات المناطة بك في العمل .. الإتقان، فإن الله يحبُّ إذا عمل العبد عملا أن يتقنه، فالإنهاء شيء ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 58. (¬2) سورة المؤمنون، الآية: 8. (¬3) سورة المائدة، الآية: 1. (¬4) سورة البقرة، الآية: 283.

والإتقان شيء آخر، والإخلاص في العمل سبيل لرضاء الله أولًا، وطريق لإتقانه ثانيًا. أيها العامل هل تعلم أنك مسئولٌ عما استرعيت عليه، وفي حديث ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) قال عليه الصلاة والسلام: ((والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته)) (¬1). أيها المستَقْدَمون المسلمون! حين نتحدث عن أخوَّة الإسلام وحقوقكم فيها، فلابد أن تشملكم الواجبات، فأنتم شركاء لأهل البلد الذي تفدون إليه في المسئولية، وينبغي أن تكونوا أعضاء مساهمين في كلِّ ما يحقق الخير لمجتمعكم الثاني، فتساهمون في نشر الفضيلة وتساهمون في كشف أوكار الفساد والرذيلة، وتنظرون إلى العمل الذي تقومون به على أنه عمل في بلد من بلادكم ولإخوة لكم. وأعيذكم من طغيان الأنانية المفرطة، فلا يبقى لأحدكم هم إلا جمع بضع دريهمات في جيبه، دودت النظر إلى حجم ونوعية العطاء الذي قدمه لمجتمع المسلمين؟ وإياك إياك أيها العامل المسلم أن تعطي الفرصة لأحد أن يتهم العمالة المسلمة بالتقصير من خلال سلوكياتك أو ترسخ بسلوكياتك الخاطئة مفهومًا خاطئًا عند بعض الناس بأن استقدام غير المسلمين أجدى من استقدام المسلمين. أيها العامل المسلم! وأنت مأجور في بحثك عن لقمة العيش لتستغني بها وتغني من وراءك، فهلا سألت نفسك عن حجم العوائد لك .. لاسيما إذا يسر الله لك المكوث حينًا من الدهر في أرض الحرمين، ومنبع الرسالة؟ إن بإمكانك أن تضيف إلى رصيدك المالي أرصدة أخرى لا تقل أهمية عن ¬

(¬1) متفق عليه.

غيرها، وليس مستحيلًا ولا صعبًا أن تشمل رغبتك في طلب الرزق الهجرة في سبيل الله لطلب العلم ومعرفة العقيدة الحقة، وتصحيح الأخطاء الماضية، وليس عيبًا أن تصحح مفهومًا خاطئًا، أو تعدّل سلوكًا معوجًا، إنما العيب أن تعلم الخطأ وتستمر عليه، أو يبدو لك الحقُّ ثم تحيد عنه! أيتها العمالة المسلمة! ما جمعتموه من عرق الجبين يعد من أطيب الكسب الحلال، وأعيذكم والمسلمين أن تفسدوا هذا الكسب الحلال بكسب محرمٍ بأي شكل من الأشكال؟ أيها الوافد المسلم! رسالتك لا تنتهي عند استفادتك في ذات نفسك، فلإخوانك الوافدين معك حقُّ الدعوة إلى الخير، وظروف الغربة وطول الوقت، ووجودك في بلد تُرعى فيه الآداب الإسلامية، وتغيب فيه مظاهر الرذيلة- أكثر من غيره- قد يعينك على تقديم الخير والنهي عن الشر، ((ولأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم)). أيها الوافد المسلم! أنصحك بالصبر على مشاق العمل، وظروف الغربة وتقوى الله خير معين لك على تجاور العقبات كلها {ومن يتق الله يجعل له مخرجا}، احفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، احفظ الله في نفسك يحفظك في أهلك، وأدِّ للناس الذي ترغب في أن يؤدوه لك، ولا تغترَّ بستر الله عليك في الدنيا، فالفضيحة يوم القيامة على الملأ أشد وأنكى، وتذكر بسفرك في الدنيا السفر إلى الله، ولم يُكتب الخلود لأحد في الدنيا، ولكن الشأن في نوعية ومقدار الزاد الذي يرحل به المسافرون. أخي كلنا مسافرون .. والسفر بعيد، والعقبة كؤد، والناقد بصير. فلنرحل بخير زاد، ولنتخفف من الأوزار، ولنحذر الفساد أو الإفساد .. ومن عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها.

الوفاء بالعهود

الوفاء بالعهود (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أما بعد .. عباد الله، فإن خير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله. {ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} (¬2). {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون} (¬3). أيها المسلمون! الأخلاق الفاضلة عماد الأمم وأساس قيام الدول، ويكتب على الأمة الفناء إذا تهاوت أخلاقها .. وتلاشت فضائلها وقيمها .. وإن عُمرت حينًا من الدهر. فالأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا وإذا تباهت الأمم بأخلاقها كان لأمة الإسلام قدحها المُعلى في فضائل الأعمال ومكارم الأخلاق. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في يوم الجمعة الموافق 1/ 6/ 1418 هـ. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 13. (¬3) سورة المائدة، الآية: 35.

وحين تتأكد حاجة المجتمعات إلى مكارم الأخلاق في كل حين فحاجتها لذلك أشد حين يقلُّ الوفاء، وتطغى الماديات وتسود الإحن، وتظهر الخلافات، وتبرز الأنانيات وتكثر الخيانات، ويصبح الغدر والمكر سياسة ودهاء. وليس بخافٍ أن الحياة الكريمة تبنى على أساس من الصدق والعدل والمروءة والكرم، والبرِّ، والوفاء والإحسان. ويوم يتباهى الناس بالمكر والخديعة، ويروج الغدر والكذب، ويسود البخل ويطوى بساط المروءة والحياء، ولا يكاد يذكر الوفاء إلا نزرًا. تصبح الحياة جحيمًا لا يطاق .. وتقود هذه الخلال إلى طريق الهاوية في الدنيا والجزاء من جنس العمل يوم المعاد. إخوة الإيمان! خُلُقُ الوفاء واحد من مكارم الأخلاق جاءت نصوص الشرع حاثة عليه، ومؤكدة الوفاء بالعقود والعهود. {ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} (¬1)، {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} (¬2). إن الوفاء بالعهد أمر ومسئولية، والوفاء بزّ وإحسان {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} (¬3)، ومن صفات المؤمنين {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} (¬4). أما الغدر والتنكر للجميل والخلف في المواعيد، فتلك من سيما المنافقين {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 1. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 34. (¬3) سورة البقرة، الآية 177. (¬4) سورة المؤمنون، الآية: 8.

آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} (¬1) وفي الحديث من صفات المنافق ((وإذا عاهد غدر)). إخوة الإسلام! لابد من الوفاء بالعهود مع البرِّ والفاجر، ولقد كان الوفاء بالعهود والعقود خُلُقًا كريما من أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم. عرفه له العدو والصديق والتزم هو به مع المسلمين والكفار .. وما وفاؤه صلى الله عليه وسلم بصلح الحديبية إلا نموذج للوفاء مع غير المسلمين .. فما الظنّ بوفائه مع المسلمين. ولقد تعلم أصحابه منه الوفاء. والتزموه في حياتهم ومع غير أبناء ملتهم، فهذا حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما يحدثنا عن عدم شهوده بدرًا ويقول: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي، فأخذنا كفارُ قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريد إلا المدينة، فأخذوا العهد علينا لننصرفنَّ إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم)) (¬2). ولذا فلا بد للمسلم إذا أبرم عقدًا أن يحترمه، وإذا أعطى عهدًا أن يلتزم به، وقد قيل. إن الوفاء بالعهد يحتاج إلى عنصرين إذا اكتملا في النفس سهُل عليها أن تنجز ما التزمت به: الذكر الدائم للعهد، والعزيمة المتجددة على الوفاء به، أما ضعف الذاكرة وضعف العزيمة فهما عائقان كثيفان عن الوفاء بالواجب. قال تعالى في قصة أكل آدم عليه السلام من الشجرة: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما} (¬3). ¬

(¬1) سورة التوبة، الآيات: 75 - 77. (¬2) أخرجه مسلم في صحيحه في الجهاد: باب الوفاء بالعهد ح 1778، وأخرجه أحمد والحاكم في مستدركه 3/ 379، سير أعلام النبلاء 2/ 264. (¬3) سورة طه، الآية 115. (الغزالي: خلق المسلم 264).

أيها المسلمون! العهود التي يرتبط بها المسلم درجات وأعلاها وأهمها العهد الذي بين العبد وربِّه، فإن هذا إذا صلح فهو كفيل بإصلاح ما بعده، من عهود بينه وبين نفسه، أو بينه وبين الخلق من حوله، إن العبودية الحقة لله ربِّ العالمين هي أساس العهد، ولا يحصل النقض في العهود إلا نتيجة ميل الإنسان لهواه، أو طاعته للشيطان. والله تعالى يذكرنا بهذا العهد في قوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} (¬1). والعبودية الحقة تعني الطاعة والتسليم والرضى بما أمر الله أو عنه نهى، وهل تخرج العهود عن هذه؟ ومن الوفاء بالعهد مع النفس أن يظل المرء يتذكر ماضيه الذاهب لينتفع به في حاضره ومستقبله، فإن كان معسرًا فأغناه الله، أو مريضًا فشفاه الله، أو ضعيفًا فقواه الله، فليس يسوغ له أن يفصل بين أمسه ويومه وغده بسورٍ غليظ، فينسى الماضي ويستقبل الحاضر والمستقبل بمسلك الفظاظة والجحود، ولربما كان وهو في أحوال الضعف والبؤس يتمنى زوالها، ويأخذ على نفسه العهود على التزام الشكر والذكر والإحسان لو تغيرت الأحوال وتحسنت الأوضاع، ودونكم نموذجًا للوفاء وعكسه مع النفس في قصة الثلاثة الذين ابتلاهم الله بالبرص والقرع والعمى، فبعث إليهم ملكًا، فأتى الأبرص فقال: أيُّ شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن ويذهب عنِي الذي قذرني الناس، فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لونًا وجلدًا حسنًا، فقال أيّ المال أحب إليك؟ قال: الإبل، فأعطاه ناقة ¬

(¬1) سورة يس، الآيتان: 60، 61.

عشراء وقال بارك الله لك فيها .. ثم أتى الأقرع فقال: أي شيءُّ أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس، فمسحه فذهب عنه، وأعطي شعرًا حسنًا، قال: فأي المال أحبُّ إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرة حاملًا، وقال: بارك الله لك فيها. ثم أتى الأعمى فقال: أي شيء أحبُّ إليك؟ قال: أن يرد الله عليّ بصري، فمسحه، فرد الله عليه بصره، قال: فأي المال أحبُّ إليك قال. الغنم، فأعطي شاةً والدًا .. فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا واد من الغنم. ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته وسأله بالذي أعطاه اللون الحسن والجلد الحسن بعيرًا يتبلغ به سفره، فاعتذر قائلًا: الحقوق كثيرة، ثم قال له كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرًا فأعطاك الله؟ (فأنكر) وقال: إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر .. ثم قال له: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت، وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ذلك، ورد عليه مثل ما ردَّ على الأول، فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت. ثم أتى الأعمى في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال لصاحبيه، فرد الأعمى. لقد كنت أعمى فردَّ الله عليّ بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم لشيء أخذته لله؟ فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك (¬1). فهل رأيتم عاقبة نقض العهد، وأثر الوفاء ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين، نفعني الله وإياكم بهدي القرآن. ¬

(¬1) أخرجه البخاري.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين صاحب الفضل والإحسان، يعطي ويمنع ويقبض ويبسط، ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الأولى والآخرة وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها المسلمون! كما يحتاج المرءُ إلى الوفاء بعهده مع الله ومع نفسه، فهو محتاج للوفاء مع الآخرين، وأولى الناس بالوفاء الوالدان وحقهما مقرون بالعبودية لله والإحسان إليهما جاء في أكثر من آية في كتاب الله، وتضافرت نصوص السنة على تأكيده- وليس هذا موضع البيان- ومن أعظم اللؤم والعقوق أن يتنكر الإنسان لوالديه أو لأحدهما إذ أغناه الله، أو أصبحا شيخين عاجزين وهما أشد حاجة إليه .. ومن كان له فضل عليك من الأقربين أو الأبعدين فلابد من الوفاء معه وردِّ الجميل إليه فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، ومن اللؤم أن تتعرف على الناس حال حاجتك وتتنكر لهم حين غناك وعلوِّ منزلتك، ولقد كان من نهج الصالحين الوفاء مع أهل السابقة والفضل ولو كان فضلهم لغيرهم، فهذا ابن عباس وضي الله عنهما يتمثل الوفاء لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما لقاء وفائه مع النبي صلى الله عليه وسلم، فحين قدم أبو أيوب البصرة على ابن عباس، فرّغ له بيته وقال: لأصنعنَّ بك كما صنعت برسول الله صلى الله عليه وسلم، كم عليك؟ قال: عشرون ألفًا، فأعطاه أربعين ألفًا، وعشرين مملوكًا، ومتاع البيت (¬1). ¬

(¬1) أخرجه الطبراني (3877) ورجاله ثقات، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي في المستدرك (3/ 461، 462)، ومجمع الزوائد (9/ 323)، وسير أعلام النبلاء (2/ 4101).

أما شاعر الأندلس ابن عمار المهْري فيذكر أنه مدح فلاحًا فأعطاه مخلاة شعير لحماره، فلما آل بابن عمارٍ الحال إلى الإمرة ملأ للفلاح مخلاته دراهم وقالط: لو ملأها برًّا لملأناها تبرًا (¬1). أيها المؤمنون! تطيب الحياة ويسعد الأحياء مع الوفاء، ويبين حجم الوفاء عن معدن الرجال .. وإذا كان الوفاء مطلبًا في كلِّ الأحوال فهو يطيب في ظروف المحن والشدائد حين يتنكر الناس، ويبلغ الضعف والهوان مبلغهما ويقل الناصر ويندر المعين وهنا يسود في المجتمع أصحاب الجود والإقدام، حين يبخل الآخرون ويتراجعون: لولا المشقة ساد الناس كلُّهم ... الجود يفقر والإقدام قتال عباد الله! حين يأمر الله بالوفاء بالعهد يبين الآثار السيئة المترتبة عليه فيقول تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون * ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون} (¬2). قيل في آثار الغدر أنه ينزع الثقة، ويثير الفوضى، ويمزق الأواصر، ويرد الأقوياء ضعفاء واهنين، ويصد عن الدخول في الدين، والدِّين الحق يكره أن تُداس الفضائل في سوق المنفعة العاجلة، كما يكره أنه تنطوي دخائل الناس على نوع من النيات المغشوشة، ويوجب الشرف على الفرد والجماعة حتى تصان العقود على الفقر والغنى، وعلى النصر والهزيمة. ¬

(¬1) تهذيب سير أعلام النبلاء 3/ 1321. (¬2) سورة النحل، الآيتان: 91، 92.

ولذا قال تعالى بعد الأمر بالوفاء بالعهد {ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم * ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون} (¬1). احذروا عباد الله أن تشتروا بعهد الله ثمنًا قليلًا، والله يذكرنا أن ما عنده خير وأبقى، وإياكم أن تتخذوا الأيمان بينكم دخلًا، أي خديعة ومكرًا فتزل الأقدام بعد ثبوتها وينتكس الغادر ويصد بهذه الأخلاق عن الدخول في دين الله (¬2). أمة الإسلام! ومن آثار التخلي عن العهود فناءُ الأمم، وإهلاك القرى الظالمة كما في قوله تعالى: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} (¬3). ومما يجدر التنبيه إليه الغدر في أداء الحقوق المالية سواءً كانت قرضًا أو دينًا .. (ولأهميتها سأفردها بحديث خاص بإذن الله تعالى). أيها المسلمون اتقوا الله في عهودكم ومواثيقكم وأيمانكم، ولا تفتنكم الحياة الدنيا وتنسوا عقاب الآخرة. تمثلوا الوفاء في حياتكم كلِّها وروّضوا أنفسكم على ذلك، تذكروا عظيم نعمةِ الله عليكم فقابلوها بالشكر والطاعة والإحسان، وتذكروا فضل من له فضل عليكم فجازوهم بالشكر والإحسان .. ولا تَمُتْ فيكم مشاعر الوفاء والرحمة .. وتطغى عليكم الأنانية والغفلة. على الوالدين أن يربوا أولادهم على الوفاء، وعلى المعلمين والمعلمات أن يعلموا الطلاب والطالبات معاني الوفاء، إن الشكر للناس ¬

(¬1) سورة النحل، الآيتان: 94، 95. (¬2) تفسير ابن كثير 4/ 520. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 102.

أدب إسلامي، وهو الطريق للشكر لله، وفي الحديث: ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس)) (¬1). والدعاء باب من أبواب الوفاء لمن لم يستطع غيره ((ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه)) (¬2). وفي الحديث الآخر ((من صنع إلية معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا. فقد أبلغ في الثناء)) (¬3). كذا علمنا الإسلام وأدبنا القرآن فلتحافظ على الوفاء بالعهود ولتذكر لأهل الفضل فضلهم. والله يحب الشاكرين ويحب المحسنين. ¬

(¬1) أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما بإسناد صحيح (صحيح الجامع 6/ 237). (¬2) أخرجه أبو داود والنسائي بسند صحيح (جامع الأصول 11/ 692). (¬3) رواه الترمذي وغيره بسند صحيح (صحيح الجامع 6/ 8).

(2) حسن الوفاء وقضاء الحقوق

(2) حسن الوفاء وقضاء الحقوق (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (¬2) {ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم} (¬3). إخوة الإسلام! لا يزال الحديث متصلًا عن الوفاء بالعهود واحترام العقود، فتلك الشعيرة من شعائر الدين، والخلق النبيل من أخلاق أهل المروءة والدين، أجل لقد كان الوفاء وصدق الوعد واحدًا من أخلاق الأنبياء عليهم السلام {وذاكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا} (¬4). والوفاء جزء من الإيمان، فقد جاء في الحديث الذي رواه الحاكم وصححه وأقره الذهبي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال. ((إن حسن العهد من الإيمان)). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 8/ 6/ 1418 هـ. (¬2) سورة آل عمران، آية: 102. (¬3) سورة الأنفال، آية: 29. (¬4) سورة مريم، الآية: 54.

وجاء في كلام العرب: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت إخوته (¬1). ويظل الوفاء يلازم المؤمنين وهم يُحتضرون، فقد ورد أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، حين حضرته الوفاة قال: إنه خطب إليَّ ابنتي رجل من قريش، وقد كان مني إليه شبه الوعد، فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق، أشهدكم أني قد زوجته ابنتي. وهو بذلك يشير إلى حديث: ((ثلاث من كن فيه فهو منافق .. )) (¬2). أيها المسلمون! هذا ومما مضى هو ميزان الحقِّ والدين في الوفاء بالعهود واحترام العقود، وإن وجد في دنيا الناس أن الغدر والمماطلة ونقض العهود نوع من الحنكة والدهاء والألمعية والشطارة؟ ولكن يظل الحقُّ مطلبًا، والأوفياء نماذج تُحتذى. عباد الله! هناك ممارسات خاطئة في أدب المعاملة، فقد تجد جاهلًا يحسب أن الدين علاقة بين العبد وربِّه فحسب، فتراه يُقيم الفرائض وربما أتبعها النوافل، لكنه لا يقيم وزنًا للتعامل مع عباد الله، لا يرعى حقوقهم، ولا يؤدي لهم واجباتهم، يعتدي على حقِّ هذا، ويُماطل في حقِّ آخر، ويشتم ثالثًا، ويضرب رابعًا .. الحلالُ ما حلَّ بيده، والحرام عنده ما عجز عن الحصول عليه ذلك صنف حُكم عليهم بالإفلاس وسماهم الر سول صلى الله عليه وسلم بالمفلسين، كما جاء في حديث: ((أتدرون من المفلس؟ )) إنها مفاهيم خاطئة لا يسأل عنها الدين، وسلوكيات منحرفة من الظلم أن يشوه بها تاريخ المسلمين. ¬

(¬1) فقه السنة، سيد سابق 2/ 699. (¬2) المرجع السابق 2/ 701.

أين هؤلاء من قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} (¬1)، والخطاب بهذه الآية- كما يقول القرطبي يرحمه الله- يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق، فيدخل في هذا: القمار، والخداع، والمغصوب، وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، وما حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه، كمهر البغي، وحُلوان الكاهن، وأثمان الخمور والخنازير، وغير ذلك (¬2). أيها المسلمون .. من الفهوم الخاطئة في المعاملات والحقوق الآدمية ظنُّ بعض الناس أن حكم القاضي له على خصمه يُصيِّر الحرام حلالًا، والباطل حقًّا، وليس الأمر كذلك. قال العلماء: ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالًا بقضاء القاضي؛ لأنه يقضي بالظاهر، فقد يكون أحدُ الخصمين ألحن بحجته من الآخر، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحذر من هذا المسلك الخطر ويقول: ((إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع، فمن قطعت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار))، وفي رواية: ((فليحملها أو يذرها)). قال القرطبي: وعلى القول بهذا الحديث جمهور العلماء، وأئمة الفقهاء (¬3). عباد الله! أين المتأكلون للأموال بالباطل من قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 188. (¬2) تفسير القرطبي 2/ 338 (¬3) المرجع السابق 2/ 338.

لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} (¬1). إن هذه الآية كما ترد على من أنكر طلب الأقوات بالتجارات والصناعات المباحة كالمتصوفة الجهلة. ففيها كذلك حد لأولئك الشرهين الآكلين للأموال بالباطل وهل يقتل العقلاء أنفسهم؟ ذلك شأن الذين يتجاوزون الحلال إلى الحرام، ويقتلون أنفسهم بالحرص على الدنيا وطلب المال بطرق غير مشروعة (¬2). عباد الله! لأهمية المعاملة بالحسنى في البيع والشراء والقضاء والاقتضاء، ورد الثناء على التجار الصادقين الأمناء وجاء الذم للتجار الفجار، الآثمين في حلفهم، الكاذبين في حديثهم، روى الترمذي، والدارقطني عن أبي سعيد، وابن عمر رضي الله عنهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة))، والحديث وإن كان فيه ضعف فقد قواه العلماء بأحاديث أخرى (¬3). وروى الإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن شبل مرفوعًا ((إن التجار هم الفجار))، قالوا: يا رسول الله: أليس الله قد أحلَّ البيع؟ قال. ((بلى؟ ولكنهم يحلفون فيأثمون، ويحدثون فيكذبون)) (¬4). وجاء الدعاء لأهل السماحة في البيع والشراء بقوله صلى الله عليه وسلم ((رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى)) (¬5). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 29. (¬2) تفسير القرطبي بتصرف (5/ 156). (¬3) شرح السنة للبغوي 8/ 4، تفسير القرطبي 5/ 156، جامع الأصول 1/ 431. (¬4) وقد جوّد المنذري إسناده وصححه الحاكم، جامع الأصول 1/ 432. (¬5) رواه البخاري وابن ماجه (صحيح الجامع 3/ 175).

أيها التاجر! اختر لنفسك ما تشاء، وأنت خليق بأن تكون من التجار الأمناء، ويكفيك فخرًا رفقة الأنبياء، وإياك أن تبخل على نفسك بالأجر، وإن احتاج الأمر منك إلى مجاهدة وذلك بأن تنظر المعسر وتُقيل المستقيل، وتيسر على الموسر، فقد أخرج البخاري ومسلم عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن رجلا ممن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض روحه فقال: هل عملت من خير؟ قال. ما أعلم، قيل له: انظر، قال: ما أعلم شيئًا، غير أني كنت أُبايع الناس في الدنيا فأنظر الموسر، وأتجاوز عن المعسر، فأدخله الله الجنة)) (¬1). أما فضل الإقالة والتفريج على من ندم على اتفاق أبرمه ورغب بالحسنى إقالته، ففد أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أقال مسلما أقال الله عثرته)) (¬2). أيها المسلمون! أغنياء أو فقراء كنتم، ودونكم وصية محمد صلى الله عليه وسلم فاعلموها واعملوا بمقتضاها، وهو القائل: ((أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حلَّ ودعوا ما حرَّم)) (¬3). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {ياأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} (¬4) نفعني الله وإياكم بما سمعنا، وأستغفر الله لي ولكم. ¬

(¬1) جامع الأصول 1/ 438. (¬2) جامع الأصول 1/ 440. (¬3) رواه ابن ماجه وغيره بسند صحيح (صحيح سنن ابن ماجه 2/ 6). (¬4) سورة الأنفال، الآية: 27.

الخطبة الثانية.

الخطبة الثانية. الحمد لله ربِّ العالمين، أحمده تعالى على نعمه التي لا تعد ولا تحصى وأشكره وهو أهل الفضل والثناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء. عباد الله! لقد أثنى الله على الموفين بعقودهم وعهودهم ووعدهم بجنات عدن فقال تعالى: {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب * والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرأون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار} (¬1). وفي المقابل حذّر من نقض العهود، ورتب الخسران عليها، واللعنة وسوء الدار فقال تعالى: {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون} (¬2). وقال في الآية الأخرى: {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} (¬3). أيها المؤمنون! من الأمور التي تساهل بها كثير من الناس الديون والقروض (أيا كانت هذه ما دامت مباحة)، فتراهم يتسامحون في الاستدانة والاستقراض، ويتساهلون في الأداء والوفاء، وقد جاءت نصوص الشريعة محذرة، من التلاعب والتهاون بحقوق الغير. ¬

(¬1) سورة الرعد، الآيات: 20 - 24. (¬2) سورة البقرة، الآية 27. (¬3) سورة الرعد، الآية 25.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)) (¬1). وعن صهيب الخير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيُّما رجل تدين دينًا، وهو مجمع ألا يوفيه إياه، لقي الله سارقًا)) (¬2). يا ابن آدم! أليست الجنة مبتغاك. إذ خلو الذمة من الدين سبب من أسباب دخول الجنة. فقد ورد عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من فارق الروح الجسد وهو بريء من ثلاث دخل الجنة: من الكبر، والغلول، والدين)) (¬3). ومن أين لك الوفاء يا عبد الله إذا فارقت الروح الجسد وأنت مصر على المماطلة وحبس حقوق الآخرين، وهل ترضى أن يكون القضاء من الحسنات في وقتٍ أنت أشدَّ ما تكون حاجة إليها؟ فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((من مات وعليه دينار أو درهم قُضي من حسناته، ليس ثمَّ دينار ولا درهمٌ)) (¬4). وليس يخفى أن: ((نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يُقضى عنه)) ويكفي في عظم الدين أن رسول الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم لا يُصلي على من مات وعليه دين لم يترك له قضاء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: إذا توفي المؤمن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه الدين فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هل ترك لدينه من قضاء؟ )) فإن قالوا: نعم صلى عليه، وإن قالوا: لا، قال: ((صلوا على صاحبكم)) (¬5). ¬

(¬1) رواه ابن ماجه بسند صحيح، صحيح سنن ابن ماجه (2/ 52). (¬2) حديث حسن صحيح (صحيح سنن ابن ماجه 2/ 52). (¬3) رواه ابن ماجه بسند صحيح (2/ 52). (¬4) صحيح سنن ابن ماجه (2/ 53). (¬5) رواه ابن ماجه (2/ 53).

ولذا ينبغي على أهل الميت أن يولوا هذا الأمر ما يستحق من العناية والوفاء فيبدأون- أول ما يبدأون- بسداد دينه، وفكاك ذمته. أيها المسلمون! مع التأكيد على أن لا يستدين المسلم أو يقترض إلا لحاجة، فقد يضطر المسلم للدين أو للقرض، وهنا ينبغي أن يأخذ ما يكفي حاجته وأن يقدم نية الوفاء وألا يطلع الله منه على نية الغدر وإتلاف الأموال. إن الذي يقدم نية الخير على الوفاء يعينه الله في الدنيا، وقد صحّ الخبرُ عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يدَّان دينًا، يعلم الله منه أنه يريد أداءه إلا أداه الله عنه في الدنيا)) (¬1). وإن نوفي المدين وهو على نية الوفاء لكنه عاجز عن التسديد فاعل للأسباب المشروعة للأداء لكنه لم يقدر، فالرسول صلى الله عليه وسلم وليُّه، ولم يبخس الله من حسناته بعد مماته. روى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((الدَّين دينان، فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليُّه، ومن مات ولا ينوي قضاءه فذاك الذي يؤخذ من حسناته، ليس يومئذ دينار ولا درهم)) (¬2). عباد الله! ماذا بعد هذه النصوص وأمثالها؟ إن علينا جميعًا أن نتحرز من الدَّين، وأن نسلِّم ذممنا في الحياة قبل الممات، وإذا استدنا واستقرضنا بالحسنى- ومن أي جهة كانت- أن نردَّ الدين أو القرض بالحسنى، وأن نؤدي للناس الذي نرغب أن يؤدوه إلينا، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، وأذكِّرك يا أخا الإسلام وأحذرك ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 53. (¬2) صحيح الجامع الصغير 3/ 153.

أن تكون سببًا لقطع الإحسان عن غيرك بسبب سوء سلوكك ومماطلتك، بل ومن أدب الإسلام أن تدعو لمن استلفك، ولست خيرًا من محمد صلى الله عليه وسلم، وقد استلف من رجل سلفًا- يوم حنين- فلما قضاه قال له: ((بارك الله لك في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الوفاء والحمد)) (¬1). أيها المسلم! تأمل في أدب الرسول صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه ووفائه، وحقُّه على الأمة كبير، والسلف الذي يستلفه لا لمصلحته الخاصة، بل لمصلحة المسلمين والجهاد في سبيل الله .. ومع ذلك لا يؤخر ردَّ السلف بل لما قدم من الغزوة قضى لصاحب السلف، وأعظم من ذلك كلِّه دعاؤه لمن أسلفه، ((بارك الله لك في أهلك ومالك)) ثم يضع معلمًا بارزًا للأمة في الوفاء ورد الحقوق حين يقول: ((إنما جزاء السلف الوفاء والحمد)) فهل نتمثل هذه الأخلاق في حياتنا ومعاملاتنا ونتخذه صلى الله عليه وسلم قدوة لنا في أمورنا كلها، إن ذلك من علائم الإيمان ومن سيما الذين يرجون الله واليوم الآخر، ويذكرون الله {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (¬2). ¬

(¬1) حديث حسن أخرجه ابن ماجه: صحيح سنن ابن ماجه 2/ 55. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 21.

(1) من مظاهر الإسراف في حياتنا

(1) من مظاهر الإسراف في حياتنا (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها الناس! اتقوا الله واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس بما كسبتما وهم لا يظلمون. {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (¬2) {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} (¬3). عباد الله! حديثي إليكم اليوم عن موضوع نشترك جميعًا في كُرهه، ونشارك معًا في بقائه، نعترف فيه بخطئنا، وتغلبنا عليه عوائدنا وشهواتنا، يُمارس الخطأ فيه من قبل الرجال والنساء والفقراء والأغنياء، وتسري آثاره في الحضر والبوادي، نزاوله ونحق له كارهون، وننتقده ونحن له فاعلون؟ ! ينهى عنه ديننا، وتعجُّ به دنيانا، نحمل أثقاله على كواهلنا، ونظل بعده في حيرة وقلق مما صنعنا؟ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في يوم الجمعة الموافق 28/ 3/ 1418 هـ. (¬2) سورة آل عمران، آية: 102. (¬3) سورة التوبة، الآية: 119.

تُرى أي ظاهرة تلك التي بلغت مبلغها من الحرج في حياتنا، ولربما تراكمت الديون- بسببها- في ذممنا؟ إنه الإسراف، والإسراف في أكثر من مظهر: في المطعم والمشرب، والملبس والمسكن، في الكلام أو الصمت، وفي المدح أو الذم، في السهر والنوم، وفي المناسبات والأفراح، الإسراف في إهدار الطاقات وليس الماء إلا نموذج لها، وإضاعة الأوقات، وهي من أغلى ما نملكه في هذه الحياة، والإسراف في نقد الآخرين، أو تزكية الذات، إسراف حسي، وإسراف معنوي، وظاهر وخفي .. إلى غير ذلكم من مظاهر الإسراف الأخرى. وما من شك أن الإسراف في العنف يولد أضرارً وآثارًا سيئة أول من يتضرر منها المسرفون أنفسهم. وفي أرض فلسطين المحتلة خلصها الله من ظلم المحتلين تشهد الساحة إراقة الدماء على أيدي اليهود ونتيجة إسرافهم في ظلم الآخرين. والمصيبة أن مثل هذه الظواهر، أو بعضها يقع فيها المتعلم والأمي، ولا يكاد ينجو منها العالم، وغيره من باب أولى، وتتحدث عنها وسائل الإعلام محذرة ولربما ساهمت مساهمة فاعلة في انتشارها. ويتحسر لها العقلاء ولكنهم واقعون في شراكها، ويبلغ الحرج مبلغه فيها حين يتحدث المتحدثون محذرين وهم- كغيرهم من الناس- في المحذور واقعون، ولكنها قضية لابد أن نصارح أنفسنا بها، ولابد أن نتعاون جميعًا في تشخيصها وعلاجها، ونرفع أكفَّ الضراعة لمولانا للعفو عن أَخطائنا، وإعانتنا على إصلاح أحوالنا {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (¬1)، {ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا} (¬2). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية 286. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 147.

إخوة الإسلام! المتأمل في نصوص شريعتنا الغرَّاء يجدها ناصعة البيان في النهي عن الإسراف والتبذير والأمر بالتوسط والاعتدال، فلا تُغلُّ الأيدي إلى الأعناق بُخلًا وتقتيرًا، ولا تُبسط كلَّ البسط إسرافًا وتبذيرًا {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا} (¬1). {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} (¬2). ومشكلتنا- أحيانًا- عدمُ التفريق بين ما أمر به الإسلام، وما عنه نهى، وتختلط الأمور في حساباتنا فلا نكاد نُفرق بين كرم الضيافة، والرياء، وبين أخذ الزينة والخيلاء، وبين ما ينبغي أن يتسابق فيه المتسابقون من أعمال الخير ابتغاء مرضات الله، وبين ما ينفق وهو يحمل المنَّ والأذى؟ فرق بين من يقف عند المباحات في الدين، ومن يتجاوزها إلى المحرمات، {كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} (¬3). أيها المسلمون! هذه وقفة عند مظهر من مظاهر الإسراف، ربما يكون من أكثرها شيوعا .. وإن كان غيرها لا يقل عنها خطرًا، إنه الإسراف في حفلات الزواج وما يسبقها وما يعقبها. ويعلم الله كم يفرح المسلم بإعلان الزواج فذاك فرق بين النكاح المشروع، وفاحشة الزنا الممنوع. وكم يُسرُّ المسلم لوليمة النكاح تُحقق بها السنة، ويتقارب بها الأرحام، وإطعام الطعام من الإسلام، وهو طريق موصل إلى الجنة بسلام لمن رضي الله عنه وقبله، ولكن المأساة حين يدخل الإسراف أفراحنا، ويعكر علينا صفو حياتنا. وهاكم نماذج من الإسراف في الزواج، فالمغالاة في المهور وإثقال كواهل الشاب بالديون إسراف ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 29. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 67. (¬3) سورة يونس، الآية 12.

لم يأذن به الله، وهو خلاف سنة محمد صلى الله عليه وسلم، الذي قال: ((إن من يُمن المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صداقها، وتيسير رحمها)) (¬1). وفي سنن الترمذي وغيره قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ((ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإن ذلك لو كان مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها نبي الله صلى الله عليه وسلم، ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح شيئًا من نسائه، ولا أنكح شيئًا من بناته على أكثر من ثنتي عشرة أوقية)) (¬2)، قال الترمذي: والوقية عند أهل العلم أربعون درهمًا وثنتا عشرة وقية: هو أربعمائة وثمانون دوهما (¬3). وزاد النسائي: ((وإن الوجل ليُغلي بصدقة المرأة، حتى يكون لها عداوة في نفسه .. )) (¬4). ومن الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكح رجلا امرأة بما معه من القرآن (¬5). وقال لرجل يحفظ البقرة والتي تليها، ((قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك)) (¬6). إخوة الإيمان! يعقب الإسراف في المهر- عند فئة من الناس- إسراف في وليمة العُرس والدعوة لها، ويبدأ المسلسل هكذا: طباعة أعداد كثيرة من البطاقات، وأحيانًا بأشكال غريبة وقيمة عالية، وربما تنافس أهل الزوجين في نوعيتها مهما غلا ثمنها، ثم يضطر الناس إلى توزيع ما طبعوا. فإذا امتلأت بيوت الأقارب ¬

(¬1) رواه أحمد، والحاكم، والبيهقي بإسناد حسن (صحيح الجامع الصغير 2/ 251). (¬2) انظر صحيح سنن الترمذي 1/ 324، جامع الأصول 7/ 8. (¬3) صحيح سنن الترمذي 1/ 324. (¬4) جامع الأصول 7/ 8. (¬5) جامع الأصول 7/ 3، 4، 5. (¬6) أخرجه أبو داود وحسنه غيره (جامع الأصول 7/ 6).

والجيران والأصحاب والأحباب، وزملاء الدراسة، والوظيفة وبقي في العدد بقية وزعت على هؤلاء ليدعو كل منهم من شاء! وعلى قدر عوائل هذه الدعوات يبدأ الاستعداد للطعام والفاكهة والحلوى، والمقبلات والمشروبات .. ولا تسأل عن الإسراف في هذه الولائم وكثرة الإنفاق عليها وما يضيع منها هدرًا، وإن أحسن أهل المناسبة فدعوا لبقاياها جمعيات البر لتوزيعها على المحتاجين، وإلا كان مصيرها معروفًا .. ولله كم يخشى العقلاء وفي ديار المسلمين من يتضور جوعًا- وفيه من يمرض تخمة وإسرافًا؟ ! . فإذا ضاع بسبب هذه الوليمة ما يزيد على عشرين ألفًا على الأقل، فلك أن تعجب حين تعلم أن الشاب قد يمكث في جمع مادة هذه الوليمة ما يقرب من عام، وربما استدانها أو استلفها وقد حضرها من جاء إليها (مجاملة)، وحضرها من الأغنياء من لم يطعمها، ومنعها الفقراء فلم يدع إليها آصلا، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((شر الطعام طعام الوليمة، يُدعى لها الأغنياء ويمنعها المساكين، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله)) (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (¬2). ¬

(¬1) رواه مسلم وغيره. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 31.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أهلك المسرفين، وأمر ألا يُطاع أمرُهم وأنزل في كتابه: {وأن المسرفين هم أصحاب النار} (¬1). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، جاءت سنته القولية والفعلية بعدم الكُلفة، والنهي عن الإسراف، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين. إخوة الإسلام! تُسرف بعض النساء في زينة اللباس التي أمر الله بها، وسواء بارتفاع قيمتها أو في حرمتها، وما يسمى بـ (طرحة العروس) أو (التشريعة) نموذج لذلك، إذ تدفع لهذا الثوب مبالغ طائلة ثم لا يُستخدم بعد هذه الليلة، وربما أنفت بعض النساء من استعارة هذا الثوب من غيرها. وإذا كان هذا للعروسة فلا تسأل عن لباس الحاضرات، وفيه ما غلى ثمنه وضاق ملبسه، وفيه ما بدا عند المرأة كاسيًا وهو في الحقيقة عاريًا، أظهر لقصره الساقين، وأعلاه يكشف ما فوق المرفقين، وفتحاته تكشف النحر والظهر، وهو من الضيق بحيث يكشف ملامح المرأة ومفاتنها .. فماذا بقي من الحياء. ولربما تسامحت بعض الأسر في لباس البنطلون للمرأة .. وكذلك يتلاعب الشيطان بالنساء، ويتوارى الحياء، وللعلماء في أنواع هذه الملابس وحكمها (فتاوى) لا تخفى، والإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس، ومن ¬

(¬1) سورة غافر، الآية 43.

وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى، ولا بارك الله في امرأة تلبس ثيابًا ساترة أمام زوجها، وتخفي ملابس أخرى، فإذا وصلت مكان الحفل استبدلت هذه بتلك، والله يعلم السرَّ وأخفى. ومن مظاهر الإسراف في ملابس النساء تلك النظرة عند بعضهن بأن ما رأته النساء لا ينبغي أن يكرر مرة أخرى .. وعلى النساء العاقلات- أن يقمن- بسلوكهن بتحطيم هذه النظرة الخاطئة المسرفة. أيها الرجال .. أيتها النساء! ثمة مظهر من مظاهر الإسراف في الحفلات أو المناسبات يتمثل بالمبالغة في اتخاذ الزينة والمكيجة وتسريح الشعور .. وسل (الكوفيرا) تنبئك عن أخبار النساء، وهناك يهدر الوقت، وتسلب الأموال، وتعترف النساء أنفسهن بالغبن .. ولكن قاتل الله التقليد الأبله، وغابت أو ضعفت قوامة الرجال على النساء، وإلى الله المشتكى؟ ! إن أخذ الزينة في الإسلام مطلب، وإن إعداد المرأة لزوجها كأحسن ما تكون النساء شكلًا، ورائحة، وأدبًا، كلُّ ذلك جاءت به شريعة الإسلام، لكن دون إسراف في المال أو هدر في الأوقات، أو تغيير لخلق الله. إخوة الإيمان! لا بأس بإعلان النكاح بالدُّف والصوت، فقد روى الترمذي بسند حسن عن محمد بن حاطب الجحمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فصل ما بين الحرام والحلال الدُّف والصوت)) (¬1)، وزاد النسائي ((في النكاح)) (¬2). وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: زففنا امرأة من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا عائشة أما يكون معكم لهوٌ، فإن الأنصار تعجبهم اللهو)) (¬3). ¬

(¬1) صحيح سنن الترمذي 1/ 316. (¬2) د. صالح السلطان، في صالة الأفراح ص 11 (¬3) انظر صحيح سنن الترمذي 1/ 316 ح 1102.

وفي البخاري -أيضًا- وغيره عن الرُّبيع بنت معوذ قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليَّ غداة بني بي، فجلس على فراشي وجويرات لنا يضربن بدفوفهن ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إلى أن قالت إحداهن ((وفينا نبي يعلمُ ما في غدٍ)) فقال لها: ((اسكتي عن هذه، وقولي الذي كنت تقولين قبلها)). وروى النسائي بسند حسن عن عامر بن سعدٍ رضي الله عنه أنه قال: دخلت على قرضة بن كعب، وأبي بن مسعود الأنصاري في عُرس، وإذا جوارٍ تُغنين فقلت: أيَّ صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بدر يُفعل هذا عندكم؟ فقالا: اجلس إن شئت فاسمع معنا وإن شئت فاذهب، فإنه قد رُخص لنا في اللهو عند العُرس)) (¬1). ولكن الملاحظ هنا أن إشهار الزواج إنما هو بالدُّف، وأن اللائي يُغنين جوارٍ صغيرات، ثم هن إماء ليس فيهن عورة، أما الذي نسمعه هذه الأيام فشيء عجيب (والإسراف فيه ظاهر) توضع مكبرات الصوت، ويؤتى بالمطربات أو بالمغنيات ومعهن الطبول والمزامير والعود وتدفع لهن المبالغ، وإذا تعبت أو بُح صوتها فإلى جانبها آلة التسجيل تفتحها وتضعُ الموسيقى والأغاني الماجنة، وقد حرم الله لهو الحديث، كما في قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين * وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم} (¬2). والأحاديث في تحريم الغناء معلومة -وليس هذا موضع بسطها-. ومن هنا يتبين لك وسطية الإسلام في اللهو المباح في العُرس، بين المانعين لكل شيء، والمسرفين في كل شيء؟ ! . ¬

(¬1) د. صالح السلطان: في صالة الأفراح ص: 12. (¬2) سورة لقمان، الآيتان: 6، 7.

إخوة الإسلام هذه بعض مظاهر الإسراف في حفلات الزواج، وفي سبيل علاجها لابد أن تتضافر الجهود لمنعها، ولابد أن نستشعر تقوى الله في نسائنا وأموالنا، لابد من مزيد وعي المرأة بمضار الإسراف، ولابد من تخويفها عذاب الله حين تتجاوز حدود الله، لابد أن نشكر أنعم الله علينا، وأن نستحضر أحوال المسلمين الآخرين من حولنا، (¬1) وأن هذا المال مسئولية في أَعناقنا، لابد أن نشجع ونثني علي المقتصدين، ونلوم ونؤاخذ المسرفين، اقتصدوا في دعواتكم وضعوا ما يكفي لأضيافكم، وضعوا لطلبات النساء حدًّا، وأطروا السفهاء على الحقِّ أطرًا، ورحم الله أسرة كان لها فضل في السبق في الاقتصاد وتخفيف تكاليف الزواج في رجالها ونسائها، وتحية لأولئك الأغنياء الذين ضربوا مثالًا رائعًا في عدم الكلفة رغم قدرتهم عليها، وبارك الله في أم أو بنت ساهمت مع وليها في تخفيف الأعباء على الشباب أو بت في لباسها مثالا للحشمة والحياء أمام بنات جنسها؟ ويا ليت الجمعيات الخيرية لمساعدة المتزوجين، والموسرين الباذلين يشترطون مساعداتهم للشباب عدم الكلفة والإسراف في الزواج. اللهم اهدنا واهد بنا، اللهم أَعنا على أنفسنا وأَكفنا شرَّ شرارنا. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في يوم الجمعة الموافق 5/ 4/ 1418 هـ.

(2) من مظاهر الإسراف في حياتنا

(2) من مظاهر الإسراف في حياتنا (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. فأما بعد فأوصيكم ونفسي بتقوى الله {ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا} (¬2). {ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم} (¬3). {ياأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}. أيها المسلمون! حديث اليوم استكمال للحديث قبله، عن الإسراف، وتعدد مظاهره في حياتنا، وآثاره في سلوكياتنا. وحيث مضى الحديث عن الإسراف في الأفراح والمناسبات، فليت الأمر كان قصرًا على هذا- مع سوئه- فأفراحنا موسمية ومناسباتنا عارضة .. مع ضرورة العلاج والكفِّ عن الإسراف فيه، ولكن أمر الإسراف أعظم من هذا وأكبر، وهو يستحوذ على جزءٍ كبير من حياتنا، وهاكم بعض مظاهره. ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآية: 4. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 29. (¬3) سورة لقمان، الآية: 33.

وقبل هذا لابد أن يحرر مفهوم الإسراف، والعلماء يقولون: إن بذل المال في سبيل الخير والحق لا يعد إسرافًا ولو أنفق ماله كله، وبذله في غير وجه الحق يعد إسرافًا ولو كان المنفق قليلًا. فلدينا إسراف في المطعم والمشرب، فتجاوز اللقيمات اللاوتي يقمن الصلب، ونتعدى في الأنْصبة التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم للطعام والشراب والنفس والراحة، حتى يستطيع المرء أن يذكر ربَّه وينشط لعبادته بيسر وراحة، قال عليه الصلاة والسلام: ((ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محاله فثلث لطعامه، وتلث لشرابه، وثلث لنفسه)). ونبالغ- أحيانًا- في اتباع ذلك لكميات من المشروبات، فتجتمع كلُّها في المعدة فتتعب في هضمها، ويطير منها ما يطير إلى الدماغ فيثقله عن التفكير ويسلمه للكسل والخمول، وإلى القلب فيقسيه. ومع ما في هذا الإسراف- في المطعم والمشرب- من أضرار، فالمصيبة أعظم حين يتجاوز المسلم في أكله وشربه الحلال إلى الحرام، ((وكل جسد نبت من سحت فالنار أولى به)) (¬1). ونسرف في الملبس حين نبالغ في جمع كمية من الملابس نلبس بعضها ولا نحتاج لبعضها الآخر، ولئن لم يسلم الرجال من الإسراف في الملبس، فالأمر عند النساء أعظم وأخطر، وبعضهن مشغوفة بكل موضة جديدة، وعلى علم بأحدث الموديلات الوافدة. ومحلات عرض الأزياء نموذج للإسراف في حياتنا، واعتقاد بعض النساء بضرورة الجديد الذي لم يُر من قبل لكل مناسبة- لا أساس له في ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير 4/ 172.

الشرع، ولا مكان له في العقل؟ وقع ذلك فالإسراف في تجاوز الحلال إلى الحوام في الملبس أدهى وأمر- وهو في حقّ الرجال والنساء- فإسبال الثياب، والتختم بالذهب، ولباس ثياب الشهرة، كلُّ ذلك منهيّ عنه في حق الرجال. وفي حقِّ النساء ما وصف أو شفّ، وما شابهت المرأة فيه الرجال، أو قلدت به أهل الكفر والضلال. عباد الله ونُسرف- أحيانا في اتخاذ الزينة وتجميع الأثاث فنتخذ من التحف أغلاها، وتمتلئ بها أركان البيوت، ونظل نكدِّس من الأثاث والفُرُش ما نحتاج وما لا نحتاج. وقد لا يمضي عليها طويل وقت حتى نملَّ منها ونفكر في تغييرها، ولدى البعض نزعة موسمية لتغيير الأثاث ما أنزل الله بها من سلطان- فآلات التبريد، أو غرف النوم، أو نوع المفروشات تغير لا لفسادها وعدم صلاحها .. بل لتقادمها، والحاجة إلى التجديد فيها .. {إنه لا يحب المسرفين}. والمصيبة أعظم حين يدخل الحرام في الزينة، فتُستخدم آنية الذهب والفضة، أو ما يطلى بشيء منهما في الأواني المستخدمة في بيوتنا ويكفينا أن نتذكر سويًّا قوله صلى الله عليه وسلم ((الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)) (¬1). قال العلماء: والنهي يعمُّ ما كان من الذهب والفضة، وما كان مطليًّا بشيء منها (¬2). إخوة الإسلام! إسرافنا في الماء ظاهر حين نستنزف كميات من الماء تفوق ¬

(¬1) أخرجه مسلم. (¬2) الشيخ ابن باز: التحذير من الإسراف والتبذير ص 30.

حاجتنا، ولا نتواصى في الاقتصاد من الماء قدر ما يكفينا، ولربما كانت رقابتنا للبشر وخوفنا منهم أشدَّ من رقابتنا لله حين طغى الإسراف في حياتنا. ومع ذلك فثمة إسراف في الماء قد يغيب عن أذهان البعض منّا، وتضافرت مدونات العلماء على تجليته لنا، إنه الإسراف في الوضوء والطهارة. وقد عقد الترمذي- يرحمه الله- في سننه بابا في كراهية الإسراف في الوضوء (¬1). وفي سنن ابن ماجه ((باب ما جاء في القصد في الوضوء وكراهية التعدي فيه)) وبه ساق حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: ((هذا الوضوء، فمن زاد على هذا، فقد أساء أو تعدى أو ظلم)) (¬2) حسنه ابن حجر وقال: ولكن عدَّه مسلم في جملة ما أنكر على عمرو بن شعيب لأن ظاهرها ذمُّ النقص من الثلاث، وأجيب. بأنه أمر سماوي والإساءة تتعلق بالنقص، والظلم بالزيادة. وقيل: فيه حذف تقديره (من نقص من واحدة) ويؤيده ما رواه نعيم بن حماد من طريق المطلب بن حنطب مرفوعًا: ((الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، فإن نقص من واحدة أو زاد على ثلاث فقد أخطأ)) (¬3). وقال البخاري- في صحيحه- في كتاب الوضوء: وكره أهل العلم الإسراف فيه وأن يُجاوز فعل النبي صلى الله عليه وسلم (¬4). ¬

(¬1) صحيح سنن الترمذي 1/ 18، ولم يصحح الألباني شيئًا من أحاديثه. انظر: الفتح 1/ 232. (¬2) حسنه الألباني وجود إسناده ابن حجر (صحيح سنن ابن ماجه 1/ 72، الفتح 1/ 234). (¬3) الفتح 1/ 332. (¬4) انظر: الفتح 1/ 232.

وعد العلماء الإسراف في الوضوء من (الوسوسة) المنهي عنها، ومن (مصايد الشيطان) للإنسان، وساق ابن القيم يرحمه الله في فصل (الإسراف في الوضوء والغسل) أكثر من حديث في ذلك، فليراجعه من شاء (¬1). يا أخا الإيمان! ناهيك عن الإسراف في الشهوة، وتفريغ الطاقة في غير موضعها التي أمر الله بها، سواء كان ذلك عن طريق الزنا، أو اللواط .. عافانا الله والمسلمين من أسباب الردى، ومن صفات المؤمنين أنهم {لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} (¬2). وليس يخفاك مصير قوم لوط، وقد سمى الله جُرمهم إسرافًا، كما في قوله تعالى: {أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون} (¬3). ونهى الله عن (الزنا) واعتبره {فاحشة وساء سبيلا} (¬4). أيها المسلمون! ثمة إسراف عند فئة من الناس يحسن التنبيه عليه، إنه الإسراف في العزاء، حين يتكلف أهل الميِّت بإقامة الولائم للمعزين وربما خصوا اليوم الأول أو الثالث، أو الرابع، أو في الأربعين .. وكلُّ ذلك بدع منكرة لا أصل لها في شريعة الإسلام. قال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: ((كنا نعدُّ الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة ¬

(¬1) إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان 1/ 217. (¬2) سورة المؤمنون، الآيات: 5 - 7. (¬3) سورة الأعراف، الآيتان: 80، 81. (¬4) سورة الإسراء، آية: 32.

الطعام بعد الدفن من النياحة)) (¬1). والسُّنة أن يُصنع لأهل الميت طعامًا، لانشغالهم بميتهم، وليس العكس، فعليكم بالسنَّة واحذروا البدعة يرحمكم الله. ألا فالتزموا شرع الله- معاشر المسلمين- ودعوا الإسراف والمخيلة والبدع المنكرة {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين} كذا أمر ربُّكم، وحذركم من الإسراف وعواقبه في الدنيا والآخرة، فقال جلّ قائلًا عليمًا: {وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} (¬2). وقال عليه الصلاة والسلام: «كلوا وتصدقوا، والبسوا في غير سرفٍ ولا مخيلة» (¬3). نفعني الله وإياكم. ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد بإسناد حسن (ابن باز: التحذير من الإسراف والتبذير 24). (¬2) سورة طه، الآية: 127. (¬3) أخرجه النسائي، وبنحوه البخاري تعليقًا ووصله ابن حجر (جامع الأصول 11/ 717، 718).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين يقص الحقَّ وهو خير الفاصلين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كلَّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين. إخوة الإسلام! إذا كان لدينا إسراف حسي، فلدينا إسراف معنوي، وهو لا يقل عن سابقه خطرًا .. ومن مظاهر إسرافنا المعنوي، الإسراف في الحديث، والإسراف في الصمت. أما إسرافنا في الحديث فيتمثل في كثرة الحديث فيما لا يعنينا ((ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه». وفي الرغبة في الحديث بكل ما نسمع «وكفى بالمرء كذبًا أن يحدث لكل ما سمع» (¬1). وفي رواية أبي داود والحاكم «كفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع» (¬2). ونتساهل في رواية الأخبار، وبضاعاتنا: (يقولون) أو (زعموا) «وبئس مطية الرجل زعموا» كما قال عليه الصلاة والسلام بسند صحيح (¬3). والمصيبة أدهى حين يكون حديثنا غيبة أو نميمة أو سخرية، أو ظلمًا وعدوانًا، أو منكرًا وزورًا، أو كذبًا. وليست تخفى آيات القرآن، ونصوص السنة، نهيًا وتحذيرًا عن كل هذا. ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) صحيح الجامع الصغير 4/ 164. (¬3) رواه أحمد وأبو داود (صحيح الجامع الصغير 3/ 11).

ونسرف في الصمت حين يقل ذكر الله على ألسنتنا، ويندر تعطير أفواهنا بكتاب ربِّنا، نرى المنكر ونغتاظ له، فلا ننكره بألسنتنا مع قدرتنا على ذلك، ونحبَّ المعروف ولا نأمر به مع قدرتنا عليه، {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}. وقد عقد ابن القيم يرحمه الله فصلًا في (الهدي) فيما يكره من الألفاظ مثل: زعموا، وذكروا، وقالوا .. ونحوه. تم عقد فصلًا آخر حذَّر فيه كلَّ الحذر من طغيان «أنا» و «لي» و «عندي» فإن هذه الألفاظ الثلاث ابتُلي بها: إبليس، وفرعون، وقارون، كما ورد في كتاب الله {أنا خير منه} و {لي ملك مصر} و {إنما أوتيته على علم عندي}. ثم قال: وأحسن ما وضعت له ((أنا)) قول العبد: أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر ... ، و ((لي)) في قوله: لي الذنب ولي المسكنة ونحوه، و ((عندي)) في قوله: اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكلُّ ذلك عندي (¬1). أيها المسلمون! نسرف في المدح أحيانًا ونزيد في الثناء بما هو واقع وغير واقع، ونقطع أعناق من نمدح من حيث نشعر أو لا نشعر، ويسري المدح فينا إلى درجة تنسينا أخطاءنا، ولربما اتهمنا من اقتصد في الثناء علينا، وأنّى لنا أن نجترئ على رمي الحجارة في وجوه المدَّاحين، أو قطع النول عنهم، كما أرشدنا إلى ذلك ديننا، وجاء الهدي عن نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب)) (¬2). قال ابن الأثير في النهاية 1/ 339 - المعنى: أي ارموا، يقال حثا، يحثو، حثوًا ¬

(¬1) زاد المعاد 2/ 274، 275. (¬2) رواه أحمد ومسلم وغيرهما (صحيح الجامع الصغير 1/ 215).

ويحثي حثيًا يريد به الخيبة، وألا يُعطوا عليه شيئًا، ومنهم من يجريه على ظاهره فيرمي فيها التراب. كما نسرف في الذم أحيانًا إلى درجة نتناسى معها كل فضيلة، ولا نذكر للمذموم أيّ منقبة، وهذا خلاف العدل الذي أرشدنا الله إليه، وهذا خلاف العدل الذي أمرنا الله به في القول مع الأقربين: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} (¬1) ومع ذوي الشنآن الأبعدين بقوله: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} (¬2). إخوة الإيمان! نسرف في إهلاك الأوقات دون فائدة، ولربما مضى الوقت بما فيه مضرة، وهذا إسراف في إهدار الأوقات وسوف نسأل عنه. وكم تشهد بعضُ جلساتنا داخل أو خارج بيوتنا على إهدار قيمة الوقت سدى، والغرم أكبر حين يكون على مشاهدة أو سماع ما حرم الله علينا. يا أخا الإسلام! نسرف في السهر أحيانًا -ودونما فائدة ترتجى- حتى تحمرَّ مقل أعيننا، وتضعف قوانا، وليته كان لتحصيل علمٍ، أو لمصلحة مجتمعنا أو أمتنا المسلمة. ومن أسرف في السهر أسرف في النوم بعده، ولربما فوّت شيئًا من أوقات الصلاة، ومن باب أولى تضييع واجبات أخرى، وكم هو مؤلم أن ترى من يشهدون صلاة الفجر عددًا يسيرًا مقارنًا بالصلوات الأخرى، أو ليس ذلك بسبب الإسراف في السهر ثم الاستغراق والإسراف في النوم، وما أعظم الخطب إذا غزت هذه الظاهرة الأخيار، فتخلف البعض منهم عن الصلاة مع الجماعة، وجاء البعض ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 152. (¬2) سورة المائدة، الآية: 8.

الآخر ثقالًا من السهر والإعياء! يا أخا الإيمان! عدِّد ما شئت من مظاهر الإسراف في حياتنا حِسًّا أو معنى، فليس ذلك حصرًا لها، بقدر ما أردت الإشارة إلى ظاهرة تفشّت بيننا، والمهم: كيف نعالجها؟ وهاك بعض طرق العلاج لا بد -أولا- من الشعور بالمشكلة، ولابد من تهيئة النفوس للخلاص منها. وتقوى الله وطاعته فيما أمر أو نهى سبيل للخلاص من الإسراف والله يقول: {فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون} (¬1)، كذا قيل لمن ينحتون من الجبال بيوتًا فارهين، ويعيشون في جنات ونعيم، وزروع ونخل طلعها هضيم. ثالثًا: ولابد من اليقين بأن هذا المال مال الله استودعنا إياه، وسيحاسبنا عليه. والذي تكبر وتجبر وطغى وأفسد وخرج على قومه في زينته وقال {إنما أوتيته على علم عندي} خسف الله به الأرض وما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين. رابعًا: ولو استشعر المسرف أنه بإسرافه يشابه الشياطين ويشاكلهم لتوقف في إسرافه، قال تعالى: {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا} (¬2) قال المفسرون: إخوان الشياطين: أي في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته (¬3). خامسا: ولابد من الأخذ على أيدي السفهاء المبذرين للأموال {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما} (¬4). ¬

(¬1) سورة الشعراء، الآيات: 150 - 152. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 27. (¬3) تفسير ابن كثير: 3/ 62. (¬4) سورة النساء، الآية: 5.

سادسًا: تقييد النعمة وشكر المنعم يمنع الإسراف، ويزيد النعم {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} (¬1) {اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور} (¬2). سابعا: ومما يعينك -يا أخا الإسلام- على الاقتصاد وترك الإسراف تذكرُ حال إخوانك المحتاجين، وهل يطيب لك الإسراف وغيرك يبحث عن الكفاف؟ ثامنا: ولابد من تضافر جهود العلماء والدعاة والخطباء ووسائل الإعلام على مقاومة هذه الظاهرة السلبية. تاسعًا: ولابد من سماع قول الناصحين والبدء بأنفسنا قبل الآخرين. ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 7. (¬2) سورة سبأ، الآية: 13.

من المغتصبون

من المغتصبون (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (¬2). أيها المسلمون! في سبيل تحقيق الذات وانتصار المبادئ والانتقال من الذُّل والعبودية إلى العزة والتمكين، لابد من عقيدة ينطلق المرءُ من تعاليمها، ولابد من قوة تحمي هذه العقيدة وتُهيء الطريق لها، وعلى قدر توفر القوتين الروحية والمادية تكون الغلبة، ويأذن الله بالتمكين {إن تنصروا الله ينصركم} {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة .. }. وعالم اليوم، بل وعالم الأمس، وغدا .. عالم صراع الحضارات بمقوماتها المادية والمعنوية. إذ فهم اليهود والنصارى هذه الحقائق أكثر من فهم المسلمين لها، فأشادوا بناءهم الحضاري المادي على أحدث وسائل العلم والتقنية، ولم ينسوا الاعتماد على كتبهم المقدسة -وإن كانت محرفة- في حربهم للمسلمين. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في يوم الجمعة الموافق 13/ 5/ 1419 هـ. (¬2) سورة الحشر، الآية: 18.

فالمصيبة أن يظل المسلمون في سُبات نوم عميق فلا هم في ميدان الحضارة والتقدم المادي حققوا شيئًا يذكر، ولا هم في الجانب الروحي تمسكوا بعقيدتهم الحقة، وانطلقوا من تعاليمها يوالون ويعادون ويتعلمون ويعلمون، ويستعدون للمواجهة في حينها. عباد الله! لقد مرت بالمسلمين فترة خدعهم عدوُّهم حين رسَّخ في أذهان بعض المسلمين أن التمسك بالدين والانتماء للعقيدة سبب في ضعف المسلمين وتأخرهم، وأن العلمنة والتحرر من المبادئ سبيل التقدم والرقي. ومنذ راجت هذه الأفكار، والمسلمون يسيرون في بيداء مهلكة يتمرغون في أوحال الهزيمة، وينتقلون ما بين الذُّل والفرقة، والضعف والقطيعة، وعدوُّهم يسومهم سوء العذاب، يستعمر بلادهم، ويعبث بمقدساتهم، ويتلاعب بمقدراتهم، ويفتعل الحروب، ويذكي الخلاف بينهم. إخوة الإسلام! حتى يظل المسلمون في وهدتهم وضعفهم، عمد الغرب ولا يزال يعمد إلى وصف المسلمين بالتعصب ويشوه -في إعلامه- صورة دينهم، ورُمي بالتطرف والأصولية ونحوها من الألقاب، أبناء الأمة المسلمة. والحقُّ أنهم هم المتعصبون، وهم المتطرفون في أخلاقهم وأفكارهم، هذا ويعترف ساستهم ومفكروهم بهذا التعصب ويقول غوستاف وبون ((لقد تجمعت العقدُ الموروثة، عقدُ التعصب التي ندين بها ضد الإسلام ورجاله، وتراكمت خلال قرون سحيقة حتى أصبحت ضمن تركيبنا العضوي)) (¬1). أيها المؤمنون! يشهد الواقع المعاصر على تعصب الغرب الكافر وتطرفه، ¬

(¬1) وجهة العالم الإسلامي: 38.

وتعترف كاتبة أمريكية بهذا حين تقول: ((إن وزراء الثقافة في المجموعة الأوروبية يتسترون على أكبر جريمة قتل جماعي في أوربا، تقع تحت سمع وبصر الجميع، إن أجهزة التلفزيون تنقل كل ما يحدث بسراييفو لحظة بلحظة، ومع ذلك لم يتحرك أحد لمنع هذه الجريمة التي تقع في أوربا)) (¬1). ثم تتكرر الشهادة من كاتب أسباني، وهو يعلق على أفعال الصرب الإجرامية بمجاوزة القتل إلى تدمير المكتبات والمساجد فيقول: ((بعد خمسة قرون تقريبًا على حرق المخطوطات العربية الغرناطية في باب الرملة .. تكرر المشهد بشكل أعنف حين حقق الصربُ أحلام انتقام أسلافهم بإحراق (5203) مخطوطة عربية وتركية وفارسية تبخرت إلى الأبد، هذا الكنز الذي تمَّ تدميره بهذه الطريقة البشعة يضم أعمالًا في التاريخ والجغرافيا والرحلات والفقه والفلسفة والعلوم الطبيعية .. إلى أن يقول: اليوم لا يبقى من المكتبة إلا حيطانها الخارجية، وفي الحقيقة فإن تلك الجريمة يمكن وصفها بدقة بأنها (اغتيال للذاكرة)؛ لأن المطلوب هو إزالة أي أثرٍ إسلامي من أرض صربيا الكبرى)) انتهى (¬2). هكذا يعترف أبناء الغرب على تعصب قومهم وتطرفهم ضد المسلمين. إخوة الإسلام! من يمعن النظر في تصريحات اليهود والنصارى يجد المنطلقات العقائدية حاضرة في أذهانهم، يرى البعد الديني واضحًا في سياستهم، وإليكم هذا التصريح من (مجلس حكماء التوراة) وقد جاء فيه: ((إن العالم ما خلق إلا من أجل إسرائيل، وواجب إسرائيل ومصدر جدارتها أن تعمل بالتوراة وتنفذها، والمكان الذي قضى الله بأن تعيش فيه إسرائيل وتحقق ¬

(¬1) جريدة الحياة 14/ 11/ 1393. (¬2) ص 11، 12 من تعليق على التعصب الأوروبي أم التعصب الإسلامي/ محمد العبدة).

التوراة هو أرض إسرائيل، وهذا يعني أن مبرر وجود العالم واستمرار لقائه هو إقامة النظام التوراتي على أرض إسرائيل)) (¬1). أيها المسلمون! تقوم العلاقة بين الغرب النصراني واليهود في إسرائيل على جذور تاريخية، ومنطلقات عقائدية، وهذا سرُّ الدعم اللامحدود من قبل الدول الكبرى لإسرائيل، ودونكم الحقيقة بجلاء يُصرح بها أحد قادة أمريكا السابقين يقول الرئيس الأمريكي جيمي كارتر أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1979 م: ((إن علاقة أمريكا بإسرائيل أكثر من مجرد علاقة خاصة، لقد كانت ولا تزال علاقة فريدة، وهي علاقة لا يمكن تقويضها؛ لأنها متصلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه)). وفي خطاب آخر قال كارتر: ((إن إنشاء دولة إسرائيل هو إنجاز النبوءة التوراتية وجوهره)) (¬2). ثم يكشف مستشار كارتر للأمن القومي (بريجنسكي) الحقيقة للعرب المخدوعين بأمريكا ويقول: ((إن على العرب أن يفهموا أن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية لا يمكن أن تكون متوازنة مع العلاقات الأمريكية العربية؛ لأن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية علاقات حميمة مبنية على التراث التاريخي الروحي .. )). فهل يا تُرى يقرأ العرب والمسلمون هذه التصريحات ويفقهوا ما وراءها؟ إن القادة أو المفكرين أو الإعلاميين من العرب والمسلمين الذين يصورون لأمتهم الغرب بغير هذه الصورة الواضحة بشهاداتهم هم ظالمون لأنفسهم، ¬

(¬1) المسيحية والتوراة .. شفيق مقار ص 12. (¬2) أمريكا وإسرائيل .. معروف الدواليبي، المقدمة ص 23.

ومضللون لأمتهم، وهم عناصر تعويق سبيل تقدم أمتهم ووعيها بحقيقة الصراع مع أعدائهم، ومؤلم أن يتقي الغربُ بهم ويُصدِّر أفكاره العلمانية عن طريقهم! ! ومؤلم أكثر أن يتكئ الغرب في صراعه مع العرب والمسلمين على كتب مقدسة -في زعمهم- والواقع أنها قد عبثت بها أيدي التحريف والتغيير. ويظل أهل القرآن -وهو الكتاب الحق- بمنأى عن تعاليمه .. ولربما حُرموا الحكم بشرعه، ولم يهتدوا للانطلاق منه، ومما صحَّ من سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وتلك وربي ضمانة الإيمان وشرطُه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (¬1) ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 65.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين وسيد ولد آدم أجمعين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. عباد الله! لا يقف تعصب اليهود والنصارى لعقائدهم المحرفة عند حدود التصريحات المجردة، بل جاوزوه إلى العمل بما يعتقدون، وسأسوق لكم نماذج لجماعات أصولية متطرفة، تتخذ من أمريكا وإسرائيل مقرًّا لها، وربما امتدت فروعها في دول أخرى، ومن عجبٍ أن تلقى هذه الجماعات الأصولية المتعصبة دعمًا ومساندة لها من الدول التي توجد فيها: 1 - فهناك منظمة السفارة المسيحية الدولية، وهي منظمة صهيونية مسيحية، أُعلن تأسيسها في مدينة القدس المحتلة عام ثمانين وتسعمائة وألف للميلاد، وبحضور أكثر من ألف رجل دين نصراني، يمثلون ثلاثًا وعشرين دولة، وبحضور عدد من كبار المسئولين الإسرائيليين، وقد افتتحت لها فروعًا في سبع وثلاثين دولة في كل من أوربا الغربية، وأفريقيا، وكندا، واستراليا. أما في الولايات المتحدة وحدها، فقد بلغ عدد فروعها عشرين فرعًا، ويدير هذه الفروع كلَّها أصوليون متعصبون، وقد اختصر مؤسس هذه السفارة ومديرُها أهدافه بقوله: ((إننا صهاينة أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، وإن القدس هي المدينة الوحيدة التي تحظى باهتمام الله، وأن الله قد أعطى هذه الأرض لإسرائيل إلى الأبد)) (¬1). وتهدف هذه المنظمة النصرانية -كما جاء في منشورها- إلى تحقيق الراحة لبني ¬

(¬1) انظر: البعد الديني في السياسة الأمريكية .. يوسف الحسن 130.

صهيون، ولها مشاريع وأنشطة لخدمة إسرائيل في المنطقة- لا يتسع المقام لتفصيلها (¬1). 2 - المائدة المستديرة الدينية، وهي منظمة نصرانية أخرى داعمة لإسرائيل، وأبرز نشاطاتها حفلات الإفطار السنوية التي تقيمها للصلاة من أجل إسرائيل، ودعم سياستها وأغراضها، ودرجت على إصدار بيان عقب الصلاة تُبارك فيه إسرائيل باسم ما يزيد على خمسين مليون نصراني يؤمنون بالتوراة في الولايات المتحدة الأمريكية (¬2). 3 - مؤسسة جبل المعبد، وهي منظمة صهيونية نصرانية، تتخذ من لوس أنجلوس مقرٍّ لها، وتتركز أهدافها على إنشاء المعبد في القدس وإقامة هيكل سليمان المزعوم؟ وقد دافعت هذه المنظمة المتطرفة عن المعتقلين الإسرائيليين المتطرفين، الذين قاموا بتخريب وإتلاف أجزاء من المسجد الأقصى عام ثلاثة وثمانين وتسعمائة وألف، وتتحدث كاتبة أمريكية عن الخطط اليهودية والنصرانية الأصولية لتدمير المسجد الأقصى وبناء المعبد اليهودي فتقول: إن الزائر لمدينة القدس يسمع المتطرفين من اليهود وهم يتحدثون بصراحة وعلانية عن خططهم لهدم المسجد وبناء هيكل سليمان مكانه ... ثم تقول على لسان عالم آثار أمريكي يعيش في القدس: ويوجد مسيحيون متعصبون يشاركون اليهود القول بهدم المسجد الأقصى، كما شكل الصهاينة من ¬

(¬1) انظر لتفاصيلها في (البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاة الصراع العربي الإسرائيلي 129 - 136). (¬2) المرجع السابق ص 136، 137.

المسيحيين واليهود مؤسسة هدفها بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى - كما يقول الكتاب (¬1). إخوة الإسلام! هناك منظمات وجماعات أصولية متطرفة أخرى، وأكتفي بذكر مسمياتها، ولعلها تشعر بأهدافها. 4 - هناك مؤتمر القيادة المسيحية الوطنية لأجل إسرائيل. 5 - مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل. 6 - المصرف المسيحي الإسرائيلي لأجل إسرائيل. 7 - وهناك غيرها، وهذه المنظمات النصرانية المساندة لليهود تتخذ من ولايات أمريكا مقرًّا لها ومركزًا لمناشطها، وهي تلقى كل دعم وتأييد من الساسة، حتى وجدت منظمة باسم منظمة الكونجرس المسيحي الوطني (¬2). وهذا كله يفسر سر العلاقة والدعم من دول الغرب عامة، وأمريكا خاصة لسياسة إسرائيل التوسعية في المنطقة، فأين يكون التعصب؟ ومن هم المتعصبون والمتطرفون حقًّا؟ إن من المؤسف أن تغيب عن أذهان المسلمين هذه الأنماط الأصولية المتطرفة من اليهود والنصارى في بلاد الغرب، ثم يحاول الغرب الماكر أن يتناسى هذه الجماعات المؤثرة ويتهمنا نحن المسلمين بالتعصب والتطرف، ليرمينا بدائه ثم ينسل، والمؤسف أكثر أن يستجيب لهذه التهم المفتعلة بعض أبناء جلدتنا، وتسير بها بعض وسائل إعلامنا، ونشارك من حيث نشعر أو لا نشعر في التستر على أصوليتهم المنحرفة وجماعاتهم المتطرفة، ونكون ¬

(¬1) المرجع السابق ص 140. (¬2) المرجع السابق ص 149.

مع أعدائنا على أبناء عمومتنا وجيراننا، بدل أن نكون معهم على عدوهم وعدونا. إخوة الإيمان! لعلنا بهذه الإشارات الموجزة ندرك مواقع الأصولية والتطرف، وندرك كذلك منشأ المصطلحات وكيف تصدر، وقد وُفق الشيخ الدكتور بكر أبو زيد -حفظه الله- وأجاد في حديثه عن الأصولي والأصولية، ومما قاله: فهذا اللقب (أصولي) أصيل في مبناه طريٌّ في معناه، بل فاسد تسربل هذا المبنى حتى يسهلَ احتضانه والارتماء في حبائله. لكن ماذا تحمل من معنى في محلها الذي ولدت فيه (أمريكا)؟ إنها تعني ديانة نصرانية كهنوتية ترفض كلَّ مظهر من مظاهر الحياة وتراه خروجًا على الدين. ولهذا فإن النصارى ومن في ركابهم من أمم الكفر في عدائهم العريق لملة الإسلام سحبوا هذا اللقب على كل مسلم مرتبط بدينه الإسلام: قولًا، وعملًا واعتقادًا فسربلوه بهذا اللقب الأصولي، وما يتبناه هو (الأصولية). ثم قال: ولهذا فكم رأينا من أغمار استملحوه فأطلقوه وامتحنوا الأمة به، ثم أوجد الحداثيون في عصرنا ألقابًا أخرى في هذا المعنى لمن تمسك بالإسلام، منها: الماضوية، التاريخانية، الأممية. ثم نقل الشيخ كلامًا جميلًا آخر لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز (رحمه الله): ومصطلح الأصولية وكيف خدمت وكالات الأنباء العالمية مخططات الأعداء بترويج نداء المصطلح على المتمسكين بالإسلام، وكيف وقع بعض الإعلاميين في مصيدة الأعداء إما عن جهل بمقاصد أصحابها، أو لغرض في نفوسهم .. الخ كلامه. هكذا نقل الشيخ (¬1). ¬

(¬1) د. بكر أبو زيد: معجم المناهي اللفظية ص 103، 104.

اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، اللهم أظهر الهدى ودين الحق الذي بعثت به نبيك على الدين كله ولوه كره الكافرون والمنافقون.

هل من مدكر؟

هل من مدَّكِر (¬1)؟ الخطبة الأولى: الحمد لله رب العالمين، جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكَّر أو أراد شكورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قضى أجلًا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أوحى إليه ربُّه {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون * كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} (¬2). اللهم صلِّ وسلم علية وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. فأما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون لعلكم تفلحون {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} (¬3). {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} (¬4). أيها المسلمون! يتعاقب الليل والنهار، ويجيء العام بعد العام، وتتعاقب الأجيال إثر الأجيال، وتفنى أمم وتنشأ دول، واندثرت في غابر الزمن حضارات، والوليد منها الآن في طريقها إلى الزوال، وهكذا الحياة والأحياء لا يدوم لها ولهم ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في يوم الجمعة الموافق 3/ 1/ 1418 هـ. (¬2) سورة الأنبياء، الآيتان: 34، 35. (¬3) سورة الحج، الآية: 1. (¬4) سورة لقمان، الآية: 33.

حالٌ على شأن، وصدق الله إذ يقول: {كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} (¬1). سبيل الخلق كلِّهم الفناء ... فما أحد يدوم له البقاء يقربنا الصباح إلى المنايا ... ويدنينا إليهن المساء فلا تركب هواك وكن مُعَدًّا ... فليس مقدَّرًا لك ما تشاء يقول الربيع بن برَّة: عجبت للخلائق كيف ذهلوا عن أمرٍ حقٍّ تراه عيونهم، تشهد عليهم معاقد قلوبهم إيمانًا وتصديقًا بما جاء به المرسلون، ثم ها هم في غفلة عنه سكارى يلعبون! . ثم يقول: وايم الله ما تلك الغفلة إلا رحمة من الله لهم ونعمةً منَّ الله عليهم، ولولا ذلك لأُلفي المؤمنون طائشة عقولهم طائرة أفئدتهم، منخلعة قلوبهم، لا ينتفعون مع ذكر الموت بعيش أبدًا (¬2). ابن آدم إنما أنت جثة منتنة طيّب نسيمك ما ركب فيك من روح الحياة، ولو قد نزع منك روحك ألفيت نفسك جثة ملقاة منتنة وجسدًا خاويا، ومهما تطاولت فلن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا، أتراه عمَّر من قبلك، أم كانوا أحاديث وعبرة للمعتبرين {فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} (¬3). تُرى ما قيمة الحياة في نظرك؟ أيكفي أن تعيش نهارك هائمًا على وجهك بلا هدف نبيل، وتقضي ليلك نائمًا دون ذكر وتفكر في ساعة الرحيل؟ إنها عيش ¬

(¬1) سورة الرحمن، 1 الآيتان: 26، 27. (¬2) ابن الجوزي، صفة الصفوة 3/ 353. (¬3) سورة سبأ، الآية: 19.

البهائم، وحلية غير المؤمنين، {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم} (¬1). لقد خلق الله الحياة والموت لغاية سامية عرفها المؤمنون، فسعوا للآخرة سعيها، ولم ينسوا نصيبهم من الدنيا، حسَّنوا أعمالهم لملاقاة ربِّهم، واستوقفتهم توجيهات القرآن {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور} (¬2). أيها المسلمون! بالأمس القريب بدأت ورقة تقويم جديد، وقبله انتهت آخر ورقة في التقويم القديم، أفلا يذكرك ذلك بقيمة الحياة وسرعة الزمان .. وأمدُ الحياة الدنيا مهما طال في نظرك فهو في حساب الله قليل {وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون} ولئن غفل الإنسان عن هذه الحقيقة في الدنيا فهو متذكر ذلك لا محالة يوم يلقى الله {ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين} (¬3). {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها} (¬4). إنها نهاية شهر ذي الحجة وبداية شهر الله المحرم تعني انقضاء ثلاثمائة وستين يوما، وتعني مرور ما يزيد على ثمانية آلاف ساعة؟ ! . ترى أيها المسلم! كم أفاء الله عليك -خلال هذه المدة- من نعمة؟ وكم دفع عنك من نقمة؟ كم فتنة وقعت من حولك ووقاك الله شرها؟ {أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 12. (¬2) سورة الملك، الآية: 2. (¬3) سورة يونس، الآية: 45. (¬4) سورة النازعات، الآية: 46.

يذكرون} (¬1). فهلا تبت وتذكرت كم مصيبة حلت بنا بما كسبت أيدينا؟ وكم عفى الله وتجاوز عنا؟ {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير} (¬2). فهل آمنا وصبرنا واحتسبنا؟ . عباد الله! إن شأن الناس في الدنيا عجيب يلهون ويلعبون والكرام الكاتبون لهم حافظون يعلمون ما يفعلون، وينسون وكلُّ ذرة من أعمالهم محسوبة، وسوف يسألون {يوم يبعثهم الله جميعا فينبؤهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد} (¬3). تُرى يا عبد الله! أيغيب عن ربِّك أعمالٌ استحييت أن يراها الناس؟ فتواريت عن أعينهم في عام مضى، وستر الله عليك في هذه الحياة أتراك تتمادى هذا العام؟ أم تتوب إلى الله وأنت تُدرك أنه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب؟ أفلا تخشى الفضيحة على رءوس الأشهاد، حين يتخلى عنك القريب، وتشهد عليك الجوارح {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} (¬4). فيا أخا الإسلام! إياك والغفلة عما أمامك من أهوال يوم القيامة، فذاك يوم يشيب له الولدان، وتضع الحوامل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، وإياك والاغترار بهذه الحياة، ومجالسة من يؤمنونك دائمًا وإن كنت على شفير يكاد ينهار، واستمسك بصحبة الأخيار وإن ذكروك المصائب ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 126. (¬2) سورة الشورى، الآية: 30. (¬3) سورة المجادلة، الآية: 6. (¬4) سورة يس، الآية: 65.

والأهوال، قيل للحسن: يا أبا سعيد كيف نصنع نجالس أقوامًا يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله إنك إن تخالط أقوامًا يخوفونك حتى يدركك أمن، خير من أن تصحب أقوامًا يؤمنونك حتى يدركك الخوف (¬1). يا أخا الإيمان! لا يغرنك الشباب والصحة والأمان، فقد يفجأك ما ليس في الحسبان، قال عبد الله بن شُميط: سمعت أبي يقول: أيها المغترُّ بطول صحته! أما رأيت ميتًا قطُّ من غير سقم؟ أيها المغترُّ بطول المهلة أما رأيت مأخوذًا قطُّ غِرّة؟ أبالصحة تغترون؟ أم بطول الأمل تأمنون؟ أم على ملك الموت تجترءون؟ (¬2). إن من السفه والخسران المبين أن ينسى المرء لقاء ربِّه، ويرضى بالحياة الدنيا ويطمئن إليها {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} (¬3). عباد الله .. من الاتعاظ بالزمن أن تهذب المرء التجارب، وتقوِّم عوجه الأيام، وهل المصائب والنوازل إلا دروس يتعلم منها الجاهل، ويصحو الذاهل، ويتوب إلى الله من نأى عنه، قال الله تعالى. {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون * فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون} (¬4). وإذا كان من طبيعة البشر أن يعرفوا ربهم ساعة الشدة، ويلجأوا إليه عندما تستحكم الأزمة، فعقلاء البشر هم الذين إذا أصابتهم ضائقة فعطفتهم على الله ¬

(¬1) الإحياء 4/ 170. (¬2) عبد الملك القاسم، لحظات ساكنة 15، 16. (¬3) سورة يونس، الآيتان: 7، 8. (¬4) سورة الأنعام، الآيتان: 42، 43.

استبقوا هذه الصلة قوية متينة بعدما تزول الضائقة، ويستجدُّ العافية، فإن من الخسَّة جحد فضل الله مظنة الاستغناء عنه، وهاكم نموذجًا لسيرة طائشة لا يليق أن يسلكها امرؤ نبيل مع ولي نعمته، يذكِّرنا بها القرآن ويصف الله أصحابها بالإسراف فيقول: {وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} (¬1). وبعد يا أخا الإسلام! إذا اختلت الموازين فما أحراك أن تعلم الميزان الحقَّ فتزن به، وتحاسب نفسك عليه، والحقُّ تبارك وتعالى يقول: {وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون * أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين} (¬2). نفعني الله وإياكم بهدي القرآن، ووفقنا لاتباع سنة خير الأنام، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم. ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 12. (¬2) سورة القصص: الآيتان 60، 61.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقلب الليل والنهار، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، كان يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة، وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقام من الليل حتى تفطرت قدماه، ولما قيل له في ذلك قال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا)). اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. يا أخا الإسلام! إني سائلك ونفسي: بم نودع العام المنصرم، وكيف نستقبل العام الجديد؟ . إن مما يليق بالعقلاء، ويفقهه أهل الديانة النبلاء أن يودع العام المنصرم بالتوبة الصادقة من الذنوب. والتوبة أمر ودعوة دعا الله إليها المؤمنين وعلق عليها الفلاح، فكيف بمن دونهم من المسلمين، فقال تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} (¬1). ووعد بالقبول عليها فقال: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} (¬2). وإذا علم أن التوبة للجميع فكلّ ابن آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون، فينبغي أن تعلم كذلك أن التوبة كما تكون من فعل السيئات وارتكاب المحرمات، تكون أيضًا من ترك الحسنات ولم يستزد من الطاعات، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عمن لا يواظب على السنن الرواتب فأجاب: ((من أصرَّ على تركها دلّ ذلك على ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 31. (¬2) سورة الشورى، الآية: 25.

قلة دينه، ورُدَّت شهادته في مذهب أحمد والشافعي وغيرهما)) (¬1). وابن تيمية وهو يؤكد هذا المعنى للتوبة يرى أن التوبة من ترك الحسنات المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهيِّ عنها، ويقول مصححًا لفهم الجهلة ((وليست التوبة من فعل السيئات فقط، كما يظن كثير من الجهال، لا يتصورون التوبة إلا عما يفعله العبد من القبائح كالفواحش والمظالم، بل التوبة من ترك الحسنات المأمور بها أهمُّ من التوبة من فعل السيئات المنهي عنها، فأكثر الخلق يتركون كثيرًا مما أمرهم الله به من أقوال القلوب وأعمالها، وأقوال البدن وأعماله وقد لا يعلمون أن ذلك مما أمروا به أو يعلمون الحقَّ ولا يتبعونه فيكونون إما ضالين بعدم العلم النافع، وإما مغضوبًا عليهم بمعاندة الحقِّ بعد معرفته)) (¬2). يا أخا الإيمان! إذا أجمعت التوبة والندم بقلبك على ما فرطت فيه من عمل السيئات أو الزهد من عمل الحسنات، فعوّد لسانك على كثرة الاستغفار فقد صحَّ في الخبر ((من أكثر الاستغفار جعل الله له من كلِّ هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب)) (¬3). أيها المسلم .. وكلما تذكرت نعمةً أنعم الله بها عليك في عامك المنصرم فاشكر الله عليها، فالله تعالى يحب الشاكرين ويجزيهم وهو القائل: {وسنجزي الشاكرين} (¬4). واعلم أن أعظم نعمة منَّ الله بها عليك نعمة الإسلام والإيمان، وإن تذكرت مصابًا أو حزنًا أو شدة مرت بك وعافاك الله منها فلا تنس فضل الله ¬

(¬1) الفتاوى 23/ 127. (¬2) التوبة لابن تيمية ص 42، عن د. صالح السدلان: التوبة إلى الله 36. (¬3) رواه ابن ماجه وأحمد وغيره، وحسنه ابن حجر في الأمالي/ 45. وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند (2234) التوبة وسعة رحمة الله لابن عساكر 124 ص 16. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 145.

عليك، إذ عافاك واحتسب أجر ما أصابك عند الله .. أيها المسلم الصادق مع نفسه ومع ربِّه، حريّ بك أن تستقبل العام الجديد بهمة نشطة، وعزيمة على الخير صادقة، متحريًا في عملك الإخلاص لربِّك، والمتابعة لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، تذكر وعد الله وغرور الدنيا {ياأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}، وتنبه لمعركة الشيطان معك وعداوته لك وإياك أن تكون من أصحاب السعير {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير}. جدد حياتك وانس ماضيك السيء، وعاهد نفسك وأشهد ربَّك على فتح صفحة جديدة في الحياة، ملؤها العبودية الحقة لله بلا إفراط ولا تفريط، وخذ من عمل الصالحات ما تطيق، فإن الله لا يملُّ حتى تملَّ، وفي الحديث الآخر: ((خذوا من العبادة ما تطيقون فإن الله لا يسأم حتى تسأموا)) (¬1). أرِ الله من نفسك خيرًا، وتصور مسيرة الناس على الصراط وقد نُصب على متن جهنم وهو أدق من الشعرة وأحدّ من السيف، والناس فيه يسيرون على قدر أعمالهم فمنهم من هو كالبرق ومنهم كالريح ومنهم كأجاود الخيل، ومنهم من يسرع، ومنهم من يزحف ويحبو، ومنهم من يخردل في النار .. هناك في هذا الموقف لا ينفعك النسب ولا يغني عنك الحسب وتضيع عنك مقامات الدنيا كلُّها، وتبقى كلُّ نفس بما كسبت رهينة، وإليك هذا المشهد من مشاهد القيامة معجلًا لك وصفه في الدنيا للذكرى فتذكره جيدا وأعد للسؤال جوابا يقول تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون * فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت ¬

(¬1) رواه الطبراني بسند صحيح (صحيح الجامع 3/ 108).

موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون * تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون * ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون * قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون * قال اخسئوا فيها ولا تكلمون * إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين * فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون * إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون} (¬1). احذر الفضيحة على رءوس الأشهاد، وإياك أن تكون حيًّا جسديًّا لكن قلبك في عداد الموتى، أترغب أن تكون في مجتمعك عبئًا ثقيلًا؟ أم تراه يليق بك أن تكون في أمتك رقمًا هامشيًّا، افعل الخير لنفسك، وساهم في استصلاح مجتمعك وأمتك، فكّر مليًّا في مدخل مالك ومخرجه، وسائل نفسك عن رعايتك للأمانة التي استرعاك الله إياها من أهل وبنين وجيران ومحتاجين، كيف محافظتك على الواجبات وكيف امتناعك عن المحرمات؟ إلى غير ذلك من أسئلة أنت أدرى بها في محاسبة نفسك، وليكن مما يعينك على ذلك كلِّه ألا يطول أمد الحياة في ذهنك، ((فإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك)) (¬2). ولا تتوقف عن العمل الخيِّر والعطاء المثمر حتى تتوقف أنفاسك ويأتيك الموت، ومما يعينك كذلك على مسيرة الخير أن تتبع السيئة بالحسنة تمحها، وفي التنزيل قال ربنا: {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين}. وهل تعلم أن الحسنة تفك خناق السيئة؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((مثل الذي يعمل السيئات ثم ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآيات: 101، 111. (¬2) الفتح (11/ 232).

يعمل الحسنات كمثل رجلٍ عليه درع ضيقة قد خنقته، فكلما عمل حسنة انتقضت ثم أخرى حتى يخرج إلى الأرض)) (¬1). ولا شك أن اختيار الرفيق الصالح خيرُ معين على تجاوز هذه الحياة، فالمرء على دين خليله، والمرء مع من أحب، والأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين. أيها المسلمون تلك لمحات سريعة لمحاسبة النفس على مستوى الفرد مع إطلالة العام الجديد، ويتبع بعد ذلك محاسبة على مستوى المجتمع والأمة أرجئ الحديث عنها. ¬

(¬1) رواه أحمد في المسند والطبراني في الكبير وصححه الهيثمي في المجمع.

الشباب والإجازة

الشباب والإجازة (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. فأما بعد فاتقوا الله أيها الناس، ولا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (¬2). {ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} (¬3). أيها المسلمون! ابتدأت امتحانات الطلبة والطالبات وانتهت أو كادت، وللحديث على أبواب الإجازة أهمية ووقفة، بل وقفات، يسأل فيها عن الأوقات كيف تقضى، وعن الطاقات كيف تُحفظ وتستثمر، وعن الأموال كيف وأين تنفق؟ وكأني بأسئلة تدور في أذهان الكثيرين - أين ستقضى الإجازة؟ وبم يستثمر الوقت؟ ¬

(¬1) هذه الخطبة ألقيت في يوم الجمعة الموافق 15/ 2/ 1418 هـ. (¬2) سورة الحشر، الآية: 18. (¬3) سورة النساء، الآية: 1.

وما الهدف من الرحلة والنزهة؟ وما حجم النفقة المبذولة؟ وما هي الفوائد المرجوّة والمخاطر المتوقعة من الرحلة هنا أو هناك؟ وأبادر الإجابة قبل اكتمال الأسئلة الكثيرة فأقول: لابد أن يتذكر المسلم -بادئ ذي بدء- مسئوليته أمام الله عن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه، وعن علمه ما عمل به، كذلك صح الخبر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. ولا بد من التذكير بأن المال والسؤدد، والصحة والولد نعمة ومسئولية، فمن رعاها حقَّ رعايتها أفلح وأنجح، ومن أهملها وتخوّض فيها بغير علم وحق ونسي حقَّ الله فيها خاب وخسر، ونسيه الله يوم يلقاه، والجزاء من جنس العمل. قال عليه الصلاة والسلام: ((يُؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول له (ربُّه) ألم أجعل لك سمعًا وبصرًا، ومالًا وولدًا، سخرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وتربع، فكنت تظنُّ أنك ملاقيَّ يومك هذا؟ فيقول: لا، فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني)) (¬1). يا صاحب الشأن توقف إن كنت عازمًا على شيء يغضب ربَّك، ويا صاحب الأسرة رويدك وسائل نفسك ماذا قدمت لأسرتك من أساليب التربية للخير وطرق الوقاية من الشر .. وليس يخفاك أنك تعيش في عالم تتضارب أمواجه، وكلّ يقدم إليك بضاعته، ومن قديم الزمان يوجد في البضائع ما يشترى بأغلى الأثمان، ومنها ما فيه حتف الإنسان وهلكته ولو عُرض بأبخس الأثمان؟ أيها الآباء والمربون! دوركم كبير ومسئوليتكم عظيمة مع الأبناء، ولئن كانت ¬

(¬1) أخرجه الترمذي بإسناد حسن، وبنحوه عنده مسلم (جامع الأصول 4/ 437، 439).

المدرسة -حين الدراسة- تشارككم مسئولية التربية، فها أنتم في الإجازة تنفردون وحدكم في مسئولية أبنائكم، فما أنتم صانعون؟ أيظل الوضع كما كان وتسير الأمور من حسن إلى أحسن ولا يشعر الطالب بفارق التربية بين المنزل والمدرسة، وتظل أوقاته بما ينفع مستثمرة، وسلوكياته منضبطة، أترونه ينكشف الإهمال، ويبدو ضعف المتابعة، وتبدو على الشباب سلوكيات منحرفة، واجتماعات غير معلومة، وسهرات صاخبة، وينكشف لك أن جزءًا كبيرًا من استقامة ابنك وصلاحه يعود الفضل فيه بعد الله إلى مدير مدرسة حليم حازم، ومعلم فهم دوره ومارسه في التربية والتوجيه، ومرشدٍ زاول الإرشاد بكلِّ أمانة وإخلاص فتعرف على مشكلات الطلاب الاجتماعية والخلقية واقترح لها من الحلول ما ظهرت آثاره على الطالب خُلُقًا حميدًا ومستوى دراسيًّا متفوقًا. أيتها الأمهات! أنتن شريك مهمٌّ في التربية، وقد يخفى على الآباء ما يكشفه الأبناء والبنات لكُنَّ، فقدرن مسئوليتكن وكنَّ عونًا للآباء في مسئولياتهم، ولا شك أن دوركن مع البنات أكبر، وأنتن بهنَّ من الآباء ألصق ولأمورهن الخاصة أدرى وأعرف، فعلموهن ما يجهلن وهيئوهنّ للحياة الأسرية القادمة، ورحم الله امرأة أخرجت بنتها للحياة الزوجية بأبهى حُلَّة، وأكبر تجربة، وأكرم تربية، لا تُعاب في عملها، ولا مطعن عليها في دينها وخلقها، ولا ينفر الآخرون من سوء أدبها وتعاملها، وإذا خُشي على الأبناء من صاحب السوء، ونافخ الكير، ومجموعة الشلل الضائعة، ورؤية المشاهد المحرمة - كانت الخشية على الفتيات من الأفكار المعلبة المصدرة، والصور الخليعة الفاضحة، والمكالمة الهاتفية المثيرة، والصوت الغنائي الماجن، وهواجس النفس المتخيلة، والخروج للأسواق بلا حاجة .. إلى غير ذلك من أمور قد تزيد فيها الفتاة على الفتيان نظرًا لكثرة الفراغ عندها.

عباد الله! قد اعتاد بعضُ الناس على السفر في الإجازة لصلة قريب، أو زيارة صديق، أو زيارة الرحاب الطاهرة، وأداء مناسك العمرة، أو للمتعة البريئة والراحة، وتجديد طاقة النفس بعد كلالها، والسير في مناكب الأرض، والتفكير في مخلوقات الله فيها. وكل ذلك مشروع ومرغوب .. ولكن الذين عليهم أن يفكروا قبل أن يسافروا أولئك الذين اعتادوا السفر للخارج وما فيه من مخاطر ومأثم، وابتزاز للأموال وخدش للحياء والدين، أولئك الذين لا يتورعون عن الذهاب لأماكن الخنا ولا يلتزمون آداب الإسلام وحدوده حين الغربة والخفا، لقد حبانا الله في هذه البلاد المباركة نعمًا لا تعد ولا تحصى، وقيمًا ومآثر نفاخر بها حتى نبلغ الجوزاء. فالحرمان الشريفان لا يستكثر لهما زيارة، ولهما وللمسجد الأقصى (حرره الله من أوغاد اليهود) تشدُّ الرحال. وفي بلادنا يتوفر السهلُ والجبل، والبرُّ والبحر والمناطق الباردة صيفًا، والدافئة شتاء .. أفنزهد في ذلك كلِّه وتستهوينا الدعايات المضللة للسفر للخارج؟ أيها المسلمون! ثمة ما يستحق التنبيه ويستوجب الحذر إذ تصدر بعض المؤسسات الأجنبية مستندات تندرج تحت بادرة النصب والاحتيال، مثل ما يُسمى بمسابقات لعبة الدولار الصاروخي التي تجريها بعضُ الشركات والمؤسسات وتشتمل على أكل أموال الناس بالباطل والتغرير بهم. لذا فإنني أحذر كلَّ مسلم من هذه المستندات المشبوهة، وأوصيه بالابتعاد عن المعاملات المحرمة وما شابهها، فإنها من أعظم كبائر الذنوب، لما تشتمل عليه من ربا الفضل وربا النسيئة، وكلاهما محرم بإجماع المسلمين، وفي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من تحريم الربا والميسر والقمار ما هو حاضر ومعلوم للعامة والخاصة (¬1). ¬

(¬1) انظر: تعميم الأوقاف رقم 82/ 1 وتاريخ 13/ 1/ 1418 هـ.

يا أخا الإسلام! حريّ بك أن تحفظ نفسك ومن تحت رعايتك من الحرام، وأن ترعى الأمانة التي تحملتها، واسمع هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وليكن منك دائمًا على البال، فقد أخرج الإمام أحمد وغيره بأسانيد حسنة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ الأمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة)) (¬1). كن طيبا أيها المسلم في حديثك ومطعمك، وفي صدورك وورودك وفي شأنك كلِّه فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، ويوم القيامة تكون حسن العاقبة للطيبين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {الذين تتوافهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} (¬2)، نفعني الله وإياكم بهدي القرآن. ¬

(¬1) انظر: صحيح الجامع الصغير 1/ 351، وسنن الترمذي 4/ 577 واللفظ له. (¬2) سورة النحل، الآية: 32.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله بكل حال والمعبود على الدوام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تفرد بكل كمال، وتفضل على عباده بجزيل النوال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث بكريم الصفات، وجميل الخصال، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المبعوثين قبله، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم المعاد. أيها المسلمون! أعودُ إلى الشباب ثروة الأمة المنتظر، عنصر حركتها، ومصدر طاقتها .. ودليل حيويتها، وسبب نهضتها، أعود إليهم مذكرًا -وهم على أبواب الإجازة- بقيمة الوقت، وعلو الهمة، وأقول كما قال مَنْ قبلي: ((أيها الشباب إن الشهوات والعواطف، وحبَّ الراحة، وإيثار اللذات، هو الذي يسقط الهمم ويُفتِّر العزائم، فكم من فتيان يتساوون في نباهة الذهن، وذكاء العقل، وقوة البصيرة، ولكن قويَّ الإرادة فيهم، وعالي الهمة منهم، ونفّاذ العزيمة فيهم هو الكاسب المتفوق، يجد ما لا يجدون، ويبلغ من المحامد والمراتب ما لا يبلغون، بل إن بعض الشباب قد يكون أقلَّ إمكانيات، وأضعف وسائل ولكنه يفوق غيره بقوة الإرادة وعلوِّ الهمة، والإصرار على الإقدام .. )) (¬1). إن من المؤسف حقًّا أن يعيش شباب في عمر الزهور، واكتمال القُوى لا يُبالون في إضاعة أوقاتهم سُدى، بل إنهم يسطون على أوقات الآخرين ليقطعوها باللهو الباطل، والشئون الساقطة والأمور المحتقرة. يجب أن يُنقذ شباب الأمة من هذا الذهول المهلك والغفلة عن الغد، واستغراق مميت في الحاضر. ¬

(¬1) صالح بن حميد، توجيهات وذكرى م 2/ 206، 207.

ومن الغفلة والحرمان وسبيل فناء الأمم أن يألف شباب أصحاء النوم حتى الضُحى، تطلع عليهم الشمس وتتوسط كبد السماء وهم يغطون في نوم عميق، قد بال الشيطان في آذانهم، وإذا قام أحدهم فإذا هو ثقيل النفس، خبيث النفس، هزيل القوى، كسلان، على حين تطلع الشمس على قوم آخرين من غير أهل الإسلام وهم منهمكون في وسائل معاشهم وتدبير شئونهم وسنن الله تأبى إلا أن يُعطى كلُّ امرئ حسب استعداده وعمله وجدِّه. والسماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة (¬1). أيها الشاب! لا يستوي منكم من حفظ وقته، واستفاد من سني عمره، وقدَّر الشباب حقَّ قدره، فجدَّ واجتهد وسارع للعلياء بهمة ودأب .. ومن فرّط وسوّف وظن أن المستقبل سيكون أكثر فراغًا من الحاضر، فما هذا إلا وهم وسراب، والواقع يشهد أنه كلما كبُرت سِنُّ المرء كثرت مسئولياته وضاقت أوقاته، وضعفت طاقاته، فالوقت في الكِبَر أضيق، والجسم فيه أضعف، والصحة هزيلة، والنشاط كليل. فبادروا ساعتكم واستثمروا شبابكم، ولا تهدروا طاقتكم وإياكم والتعلق بالغائب المجهول، وما التسويف إلا تفويتٌ للحق، وخسران لليوم، وتضييع للغد. معاشر الشباب! لن يُحسَّ بالفراغ، أو يشعر بطول الوقت وثقل الأيام من كان على وقته حريصًا ولآخرته ساعيًا وفي دنياه عاملًا .. ولقد كان السلف الصالحون يمقتون المرء لا هو في عمل للآخرة ولا شغل للدنيا. ألا وإن الأعمال التي يمكن أن يستثمر الشابُّ فيها وقته على الدوام -وفي أيام الإجازة خصوصًا- كثيرة متنوعة، وأذكر بشيء منها على سبيل التنبيه لا الحصر. فكتابُ الله خير ما قضيت به الأوقات، واستنفدت له الأعمار حفظًا، ¬

(¬1) ابن حميد، المرجع السابق ص 136.

ومراجعة، وتدبرًا، ومن التحدث بنعم الله أن فئات من الشباب الصالح هذا شأنهم، والأمل في الله كبير أن يلحق بهم غيرهم .. بل تجاوزت همم بعض الشباب إلى حفظ متون السنة، وكثرة القراءة في كتب العلم دون أن يقعدهم ذلك عن معرفة واقعهم والمتابعة لأحوال أمتهم، وما أجمل الشباب يعيدون للأمة سالف مجدها، ويحيون تراثها، ويجددون ما اندثر من كنوز العلم وجمهور العلماء السابقين في تاريخها، ويُسرون لأفراح أمتهم ويشاركونها أحزانها دون أن يداخلهم شيء من الغرور والكبرياء، أو يصدروا أحكامًا أو يتصدروا للفتيا وهم بعدُ في رحلة الطلب، ولهم في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وقد كانوا يتدافعون الفتيا، وهم مَنْ هُم علمًا وعملًا. أيها المسلمون! إذا كان لجماعات تحفيظ القرآن الكريم دورٌ يذكر فيشكر وحلقهم تملأ المساجد والمدن والقرى، وتفتح أبوابها للراغبين وتنفق على المعلمين والمتعلمين فلجمعيات البر الخيرية، وللمعاهد الفنية دورها في افتتاح الدورات المتخصصة وإسعاف الشباب بالمهارات المختلفة، فضلًا عن مناشطها الثقافية وخدماتها المختلفة. وترعى وزارة المعارف -مشكورة- المناشط اللامنهجية طوال العام، وتُعنى بالمراكز الصيفية في الإجازات الصيفية ومنتصف العام، وهي مراكز تُعنى بحفظ أوقات الشباب ورعاية مواهبهم واستثمار طاقاتهم إذا توفر لها العاملون الأمناء والمشرفون الأكفاء، وتفتح النوادي الأدبية أبوابها للشباب يقرءون ويقترحون وفي المسابقات الثقافية والأدبية يتنافسون، وهم على كلِّ عمل خير مشكورون وكم هي لفتة طيبة حين تُعنى مكاتب الخدمة المدنية، أو شركات القطاع الخاص بتوفير فرصٍ وظيفية للشباب في الإجازات يقضون بها فراغهم ويسدون بها حاجاتهم.

أيها الشباب! ثمة فرصة يزهد بها البعض منكم رغم أهميتها .. إنها الجلوس بعض الوقت مع الشيوخ المجربين، والاستماع إلى أحاديثهم، والاستفادة من خبراتهم، لقد قيل: إن الشيوخ أشجار الوقار ومناجع الأخبار لا يطيش لهم سهمٌ، ولا يسقط لهم وهمٌ، إذا رأوك في قبيح صدُّوك، وإن أبصروك على جميلٍ أيدوك وأمدوك، كما قيل: عليكم بآراء الشيوخ فإنهم إن فقدوا ذكاء الطبع فقد مرّت على عيونهم وجوه العبر، ووردت على أسامعهم آثار الغَير، ومن طال عمره نقصت قوة بدنه، وزادت قوة عقله، والأيام لا تدع جاهلًا إلا أدبته، وكفى لأولي الألباب ما جربوا (¬1). أيها الشباب .. استفيدوا من تجارب من سبقكم، وأضيفوا إلى رصيد معارفكم خبرات ومعارف من سبقكم - برّوا بوالديكم، وإياكم أن تنظروا إليهم على أنكم عالمون وهم جاهلون .. وقدموا طاعتهم على طاعة غيرهم بالمعروف، وعاملوهم بالرأفة والإحسان، فذلك هدي القرآن وطريق الجنان، وصلوا أرحامكم، وقدموا لهم الخير فهم أولى من غيرهم بالدعوة والإحسان، وكونوا عناصر خير في مجتمعكم، ورجالًا أوفياء لأمتكم، ومصابيح دجى تضيئون حين تكونون، وتُفتقدون حين تغيبون، ولا تملُّ منكم أو يضيق بتصرفاتكم الأقربون والأبعدون، وإياكم والاغترار بالفكر الدخيل، أو التلبيس بشيء من جنوح الفكر، وبعد هذا فلا يرجفن بكم المرجفون، ولا يستخفنكم الذين لا يوقنون. سددكم الله، وألهمكم رشدكم وجعلكم قرة عين لوالديكم، وثبتكم على الحقِّ ونفع بكم، وصدق الله وهو أصدق القائلين {ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة ¬

(¬1) ابن حميد، المرجع السابق ص 143 مجموعة 2.

إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير} (¬1). اللهم اهدنا وثبتنا شيوخًا وشبابًا ذكرانًا وإناثًا .. اللهم ادفع عنا وعن مجتمعنا وأمتنا كلَّ فتنة ومكروه. ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 18.

لماذا نستبشر برمضان؟

لماذا نستبشر برمضان؟ (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله رب العالمين جعل الصيام جنة للصائمين، وجعل شهر رمضان طريقًا إلى الجنة، أحمده تعالى يسر مواسم الخيرات للراغبين، وعظّم أجور هذه الأمة بأيام وليالي محدودة، فحازوا قصب السبق على الأمم أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قضى بحكمته بالموت على أناسي وعمَّر آخرين، والميِّت المغبون حقًّا من عاش حياة البهائم وكان نصيبه التفريط حين يُشمر العاملون. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل من صلى وصام وزكى وقام، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آل محمد المؤمنين وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اتقوا الله معاشر المسلمين واعلموا أن الصيام وسيلة للتقوى. {ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} (¬2). إخوة الإسلام! ينتظر المسلمون الصادقون شهر الصيام بشوق وفرحة، ويسأل العارفون ربَّهم أن يبلغهم إياه ويعينهم على المسارعة في الخيرات، والتخفف من السيئات. وما بالهم لا يفرحون ورمضان رحمة من الله لعباده مهداة، ونعمة كبرى يقدِّرها ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في يوم الجمعة الموافق 28/ 8/ 1416 هـ. (¬2) سورة البقرة، الآية: 183.

حقَّ قدرها أولو الأحلام والنّهى. لماذا لا تنشرح لك الصدور يا رمضان وفيك للفقراء فرصة، وللمساكين بلغة وللمسافرين رخصة، وللمرضى شفاء وصحة، وللمذنبين توبة، وللمبتلين عافية، وللمهتدين مغنم ووفرة. ولم لا تنشرح الصدور بمقدم شهر الخيرات والمساواة، وتلاوة القرآن وكثرة الصدقات؟ لماذا وأيامُك مشرقة بالضياء والنور، ولياليك تُعطَّر بترتيل الكتاب المنزل، وتُطهر الأرضُ بدموع الرُّكع السُّجد. وفي كل ليلة تعانق السماء دعوات تصل الخلق بخالقها، فتحيا القلوب بعد مواتها .. وتصحُّ الأجساد إثر عللها. ولماذا لا تنشرح صدور المؤمنين في رمضان وفي كل ليلة تعتق أنفس استوجبت دخول النار، وتفتح أبواب الجنان ويكثر روَّاد الريّان؟ لماذا لا يغتبط العقلاء بالصيام، والجبارُ جل جلاله يقول: ((كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، وخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك)) (¬1). وهل تظنُّ لربِّك الكريم إلا خيرًا، وتأمل كيف فهم العلماء كرم الكريم، سُئل سفيان بن عيينة عن قوله: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي))، فقال رحمه الله: إذا كان يوم القيامة يُحاسب الله عز وجل عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله حتى لا يبقى إلا الصوم فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم ¬

(¬1) متفق عليه

الجنة (¬1). وقال أيضًا: لأن الصوم هو الصبر، يصبر الإنسان عن المطعم والمشرب والمنكح، وثواب الصبر ليس له حساب، ثم قرأ: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} (¬2). ألا ما أحوجك إلى الصوم يا أخا الإسلام في يوم تزلُّ فيه الأقدام، ويُنصب فيه الميزان، ويدقق الحساب، فافرح بالصيام وقدره حق قدره، وحافظ عليه من الثلم والنقصان. عباد الله! ((في الصيام تنجلي عند الصائمين القوى الإيمانية والعزائم التعبدية، يدعون ما يشتهون ويصبرون على ما يشتهون في الصيام يتجلى في نفوس أهل الإيمان الانقياد لأوامر الله، وهجر الرغائب والمشتهيات، يدعون الرغائب حاضرة لموعد غيب لم يروه، إنه قياد للشهوات وليس انقيادًا لها. في النفوس- معاشر المسلمين نوازع شهوة وهوى، وفي الصدور دوافع غضبٍ وانتقام، وفي الحياة تقلّب في السراء والضراء، وفي دروب العمر خطوب ومشاق، ولا يدافع ذلك إلا بالصبر والمصابرة ولا يتحمل العناء إلا بصدق المنهج وحسن المراقبة)). وهذه وتلك سرٌ من أسرار الصيام لمن عقل ووعى، وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظٍّ عظيم (¬3). أيها المسلم والمسلمة كيف لا نستبشر بشهر رمضان، وفيه فرصه للشفاعة يوم لا ¬

(¬1) شرح السنة للبغوي 6/ 224. (¬2) سورة الزمر، الآية: 15 ط (المصدر السابق 6/ 224). (¬3) توجيهات وذكرى/ ابن حميد/ 211.

يُعْني مولى عن مولى شيئًا {يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا} (¬1)، أتدري كيف تكون هذه الشفاعة؟ إنها في الصيام وتلاوة القرآن، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربِّ، إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن أي ربِّ منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيُشفَّعان)) (¬2). ولم لا يستبشر الصائمون برمضان وأبواب السماء تُفتح للسائلين ويستجيب الله للداعين الصادقين بشكل عام، كما قال تعالى إثر آيات الصيام: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} (¬3). ولشهر رمضان على الخصوص دعوة مستجابة، كما روى الإمام أحمد بسند جيد عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لكل مسلم دعوة مستجابة يدعو بها في رمضان، وللصائم عند فطره دعوة لا ترد)) (¬4). ولماذا لا يفرح المسلمون بشهر رمضان وهو سبب لمغفرة الذنوب، وفي الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه)). وكيف لا يغتبط المسلم ويسعد بالصيام وهو طريق إلى عدم الظمأ في يوم يساق فيه المجرمون إلى جهنم وردًا، ويلجم الناسَ العرقُ إلجامًا، وهم في تلك ¬

(¬1) سورة طه، الآية: 109. (¬2) أحمد والطبراني والحاكم وغيرهم عن ابن عمرو، صحيح الجامع الصغير 3/ 268. (¬3) سورة البقرة: الآية: 186. (¬4) انظر دروس رمضان، للشيخ: سلمان العودة.

اللحظات أحوج ما يكونون إلى شربة ماء، أجل لقد صحّ الخبر عن المعصوم عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((للصائمين بابٌ في الجنة يقال له الريَّان، لا يدخل منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخل آخرهم أُغلق، من دخل فيه شرب، ومن شرر لم يظمأ أبدًا)) (¬1). أمة القرآن وفضائل الصوم، ومناقب رمضان كثيرة ليس هذا مجال حصرها، وإنما أردت التنبيه على شيء منها وتسمعون الكثير، ولكن هذه الفضائل وغيرها لشهر الصيام لابد لاكتمال الأجر فيها، وتحقيق المقصود منها من مراعاة أمرين هامين جاءت نصوص الشرع بإيضاحهما، ويقعُ الخطأ كثيرًا فيهما. الأمر الأول: الإيمان والاحتساب، قال صلى الله عليه وسلم: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه)) (¬2). قال العلماء: النيةُ شرط في وقوع الأعمال قربة، والمراد بالإيمان الاعتقاد بحقِّ فرضية صومه، وبالاحتساب طلبُ الثواب من الله تعالى، وقال الخطابي: احتسابًا أي عزيمة، وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه، طيبةً نفسه بذلك، غير مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه (¬3). فصوموا أيها المسلمون وأنتم مؤمنون محتسبون، ولا يكن الصيام عندكم مجرد عادةٍ، أو مجاراة للآخرين، وليس يخفاكم أن تبييت النية من الليل شرطٌ للصيام ¬

(¬1) رواه النسائي وغيره بسند صحيح (صحيح الجامع الصغير 5/ 41) وانظر الرواية باختلاف يسير في شرح السنة 6/ 22 وحسن إسناده المحقق. (¬2) رواه البخاري، الفتح 4/ 115 باب من صام رمضان إيمانا واحتسابا. (¬3) الفتح: 4/ 115.

الواجب، أما صيامُ النفل فلا يستدعي تبييت النية قبل الفجر (¬1). الأمر الثاني: حفظ الصيام من الرفث وقول الزور، وتلك وربي آفة والسعيد من حفظ صيامه عنها، يقول عليه الصلاة والسلام: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) (¬2). إنها التربية المتكاملة بالصيام، وإنه المفهوم الخاطئ للصيام يصححه الإسلام، وكيف يعد نفسه صائمًا من لم يدع قولا الزور والعمل به؟ قالا البيضاوي رحمه الله: ((ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش، بل ما يتعبد من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر القبول)) (¬3). الصائم الصادق يصوم لسانه عن الكذب والغيبة والنميمة وقول الزور، ويصوم سمعه عن الغنا والخنا والفجور، وتصوم عينُه عن النظرة المحرمة والصائم الصادق لا ينعقد قلبه على إثم أو خطيئة أو غلٍّ وحقد للمسلمين، والصائم الصادق لا يظلم ولا يحقر، ولا يغش ولا يفجر. ويا تعاسة وحرمان من فاتت عليه هذه المعاني العظيمة في الصيام والقيام، فكان حاله كما قال عليه الصلاة والسلام: ((ربَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر)) (¬4). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا وهو خير ¬

(¬1) انظر للمزيد: شرح السنة 6/ 269. (¬2) انظر: الفتح 4/ 116. (¬3) الفتح 4/ 117. (¬4) رواه أحمد والبيهقي والحاكم والدارمي وابن ماجه بسند قوي (شرح السنة للبغوي 6/ 274).

مما يجمعون} (¬1). اللهم انفعنا بهدي القرآن، وتوجيهات المصطفى صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 58.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، منَّ على عباده بمواسم الخيرات ليغفر لهم الذنوب ويكفر عنهم السيئات، ويضاعف لهم الثواب ويرفع لهم الدرجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها النجاة يوم ألقاه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أبان للأمة طريق النجاة وحذرها عن أسباب الهلكات فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى كلِّ من بعثه الله بشيرًا ونذيرًا. عباد الله! هناك عدد من الأمور تدعو الحاجة إلى بيانها لاستقبال شهر رمضان- بلغنا الله إياه وأعاننا فيه على فعل الخيرات واجتناب السيئات، ومن هذه الأمور: أولًا: أن نستقبله بعزيمة صادقة على فعل الخيرات، وتوبة صادقة يكفِّر الله بها السيئات، وفي رمضان عون بإذن الله على هذا وذاك لمن صدق الجهاد {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} (¬1). ثانيًا: ألا نستقبله بصوم يوم أو يومين قبله، قال عليه الصلاة والسلام: ((ولا تصلوا رمضان بيوم من شعبان)) (¬2). وفي الحديث المتفق على صحته قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقدَّموا شهر ومضان بصيام يومٍ ولا يومين إلا رجل كان يصومُ صومًا فليصمه)) (¬3). ثالثا: والإقبال على الله في بداية الشهر ظاهرة تلفت نظر المتأمل، وهي مؤشر لأصالة الخير في النفوس يُسَرَّ لها المسلم ويستبشر، ولكن الانجفال بعد ذلك ¬

(¬1) سورة العنكبوت، آية: 69. (¬2) شرح السنة 6/ 232. (¬3) انظر المصدر السابق 6/ 237.

والتقهقر علامة الردى، وهو انتصار للشيطان في معركة الشهوات ومردته مصفدون فكيف بمقاومته إذا فُكت الأغلال وأطلق المصفدون إنه مظهر يحزن القلب له وحُق للعين أن تدمع- فإياك إياك يا أخا الإسلام أن تكون من هذا الصنف فتُحرم. رابعًا: والعُمرة في رمضان مكسب ولها مزيّة وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار: ((ما منعك أن تحجي معنا؟ )) قالت: لم يكن لنا إلا ناضحان، فحج أبو ولدها وابنها على ناضح وترك لنا ناضحًا ننضح عليه، قال: ((فإذا جاء رمضان فاعتمري، فإن عمرة فيه تعدل حجة)) (¬1). وفي حديث آخر صحَّ سنده: ((عمرة في رمضان كحجة معي)) (¬2)، وهذا لا شك فضل عظيم وثواب كبير فكيف إذا انضاف إليه فضل الصلاة ما شاء الله في المسجد الحرام، والصلاة فيه عن مائهّ ألف صلاة، كما صحّ بذلك الحديث، وهكذا مضاعفة الذكر وتلاوة القرآن وأنواع الطاعات. ولكن البلية كلَّ البلية فيمن يذهبون لهذا العمل الخيّر ويضيعون أبناءهم وبناتهم وأهليهم ومن ولاَّهم الله عليه، وسواء كان هذا الضياع في تركهم حين السفر بلا رقيب أو حسيب، أو اصطحابهم إلى البقاع الطاهرة دون العناية بهم، فيتسكعون في الشوارع والأسواق وتفتن النساء الرجال بزينتهن وتبرجهن، ويؤذي الشباب النساء بمضايقتهن أو الاعتداء عليهن .. مصيبة أيها المسلم أن تكون في عداد الراكعين الساجدين في المسجد الحرام، وأهلُ بيتك يفتنون الناس ويؤذونهم، ألا فانتبهوا معاشر المسلمين لهذا المزلق الخطر، واهتموا بأبنائكم وبناتكم وإخوانكم وأخواتكم في حال سفركم أو إقامتكم رغِّبوهم في الخير وحذروهم من الشرِّ، ¬

(¬1) متفق عليه من حديث ابن عباس (انظر صحيح البخاري مع الفتح 3/ 603). (¬2) صحيح الجامع الصغير 4/ 54.

استصحبوهم معكم واسألوا عنهم حين يغيبون عن أنظاركم. خامسًا: أما الذين يكثرون الأسفار والإنفاق وعليهم ديون للخلق وحقوق، فيكفي أن يذكَّر هؤلاء بقول النبي صلى الله عليه وسلم ((يغفر للشهيد كلُّ ذنب إلا الدَّين)) (¬1)، وفي الحديث الآخر: ((والذي نفسي بيده لو أن رجلًا قُتل في سبيل الله ثم أحيي، ثم قتل ثم أحيي، ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يُقضى عنه دينه)) (¬2)، ألا فتخففوا من حقوق الخلق، وأدوا الحقوق إلى أهلها تسعدوا في محياكم ومماتكم. سادسًا: وحقُّ الله أحق ((فمن مات وعليه صوم صام عنه وليُّه)) كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أختي ماتت وعليها صوم شهرين متتابعين، وفي رواية: وعليها صوم شهر- قال: ((أرأيت لو كان على أختك دين أكنت تقضينه؟ )) قالت: نعم، قال: ((فحق الله أحق)) (¬4). ويتأكد هذا أكتر في حقِّ صيام النذر الذي أوجبه الإنسان على نفسه ولم يف به، أو في الفرض الذي تمكن فيه من القضاء فلم يقض حتى مات، قال البغوي رحمه الله: ((واتفق عامة أهل العلم على أنه إذا أفطر بعذر أو سفر أو مرض، ثم لم يُفرط في القضاء بأن دام عذره حتى مات لا شيء عليه، غير قتادة، فإنه قال: يُطعم عنه)) (¬5). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: ((إذا أتصل به المرض ولم يمكنه ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه النسائي بسند حسن، تنبيه هام للشيخ العلوان 1415 هـ. (¬3) متفق عليه انظر: شرح السنة 6/ 324. (¬4) متفق عليه وانظر: شرح السنة للبغوي 6/ 325. (¬5) شرح السنة 6/ 327.

القضاء، فليس على ورثته إلا الإطعام عنه .. )) (¬1). سابعًا: ومن أصبح جنبًا من جماع أو احتلام صام ذلك اليوم ولا شيء عليه، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يصبح جنبًا من جماع ثم يصوم ذلك اليوم (¬2). ثامنًا: ((ومن أكل أو شرب ناسيًا، فليتمَّ صومه فإنما أطعمه الله وسقاه)) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (¬3). تاسعًا: ((ومن ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقض))، كذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم (¬4). عاشرًا: والسواك سنة للصائم في أول النهار وآخره ((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم)) (¬5)، ثم قال: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم لم يروا بأسًا بالسواك للصائم أول النهار وآخره، إلا أن قومًا كرهوا له أن يستاك بالعود الرَّطب (¬6). إخوة الإسلام .. بادروا بعمل الصالحات واستعينوا بالصبر والصلاة، وأكثروا من الذكر وتلاوة القرآن، وسابقوا إلى الصدقات، وتحسسوا حاجة إخوانكم المسلمين، فرمضان شهر البِّر والإحسان والمواساة، أسأل الله أن يهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، وأن يجعله هلال رشد وخير، وأن يجعله عونًا على إصلاح أحوال المسلمين وجمع كلمتهم على الحق والدين، هذا وصلوا وسلموا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ¬

(¬1) الفتاوى 25/ 296. (¬2) متفق عليه شرح السنة 6/ 279. (¬3) متفق عليه، السابق 6/ 291. (¬4) صححه ابن حبان والحاكم (السابق 6/ 293). (¬5) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن. (¬6) شرح السنة 6/ 298.

1 - صراط الله 2 - طرق الضلال

1 - صراط الله 2 - طرق الضلال (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا قيمًا لينذر بأسًا شديدًا من لدنه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا، وأشهد أن لا إله إلا الله خلق الإنسان وعلمه البيان، وابتلاه بسلوك طريق الحقِّ وحذَّره من طرق الضلال، {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا * إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} (¬2). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ما فتئ يبين للأمة طريق الخير والهدى، ويحذرها من طريق الغواية، فأبصرت بنور الله بعد الضلالة والعمى اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء، وارض اللهم عن صحابته الذين ما فتئوا يسألونه عن الخير متزودين وعن الشرِّ مخافة الفتنة في الدين، حتى بقي الناسُ على محجة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك. ألا فاتقوا الله عباد الله، واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون- ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرًا. أيها المسلمون وإذا اتضحت لنا معالم الصراط المستقيم وأسواره وستوره المرخاة ودعاته -كما في حديث النواس السابق- فإن حديث اليوم عن مخالفة ¬

(¬1) هذه الخطبة ألقيت في يوم الجمعة الموافق 17/ 8/ 1417 هـ. (¬2) سورة الإنسان، الآيتان: 2، 3.

الصراط المستقيم وسُبل الضلال، ونماذج لأصحاب الجحيم. عباد الله! وكم هو عظيم كتاب الله، وكم هي موقظة أمثال القرآن، وفيه من أمثال قوله تعالى: {قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين} (¬1). عن ابن عباس رضي الله عنهما قال -في تفسير هذه الآية- هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها، والدعاة الذين يدعون إلى هدى الله عز وجل، كمثل رجلٍ ضلَّ عن طريق تائهًا، إذ ناداه منادٍ يا فلان ابن فلان هلمَّ إلى الطريق، وله أصحاب يدعونه، يا فلان هلم إلى الطريق، فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة، وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق، وهذه الداعية التي تدعو في البرِّية من الغيلان، يقول مثل من يعبد هذه الآلهة من دون الله، فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت. فيستقبل الندامة والهلكة (¬2). ألا ما أشدَّ الحيرة وأعظم الظلمة لمن تاه عن صراط الله المستقيم فاحتوشته شياطين الإنس أو الجن، فاجتالته وأبعدته عن فطرة الله التي فطر الناس عليها. أيها المؤمنون! إذا كان الفرق كبيرًا بين الأحياء والأموات حِسًّا فكذلك الفرق بين الأحياء والأموات معنًى، تلك حياة العلم والإيمان، وهذه موتة الجهل والكفر والعصيان، ولقد فرّق الله بينهما في محكم التنزيل فقال: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 71. (¬2) تفسير ابن كثير 2/ 241.

للكافرين ما كانوا يعملون} (¬1). إنها حياة القلوب أو موتها - وإنها أنوار الإيمان أو ظلمات الكفر .. قال العارفون: فالقلب الحيُّ المستنير هو الذي عقل عن الله، وأذعن وفهم عنه وانقاد لتوحيده، ومتابعة ما بُعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقلب الميتُ المظلم الذي لم يعقل عن الله ولا انقاد لما بُعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا يصف سبحانه هذا القرب من الناس بأنهم أموات غير أحياء، وبأنهم في الظلمات لا يخرجون منها، ولهذا كانت الظلمة مستولية على جميع جهاتهم فقلوبهم مظلمة ترى الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وأعمالهم مظلمة وأقوالهم مظلمة وأحوالهم كلُّها مظلمة، وقبورهم ممتلئة عليهم ظلمة، فإذا قسمت الأنوار دون الجسر للعبور عليهم بقوا في الظلمات، ومدخلهم في النار مظلم (¬2). إخوة الإيمان! هل علمتم أن الله خلق الخلق أولا في ظلمة فمن أراد الله له الهداية أسبغ عليه من نوره، ومن أراد به الشقاوة بقيت الظلمة ملازمة له، فقد روى الإمام أحمد وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضلّ، فلذلك أقول: جف القلم على علم الله)) (¬3). أيها المسلمون! ولا تغرنكم الأنوار المصطنعة للخارجين عن طاعة ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 122. (¬2) اجتماع الجيوش الإسلامية- لابن القيم ص 39. (¬3) المسند 2/ 176، 197، ورواه الترمذي وقال: حديث حسن، وصححه الألباني (صحيح سنن الترمذي 2/ 334).

الرسول صلى الله عليه وسلم، فالحقُّ أنهم يتقلبون في ظلماتٍ وإن لم يحسوا بها، بل لقد قيل: إنهم يتقلبون في عشر ظلمات: ظلمة الطبع، وظلمة الجهل، وظلمة الهوى، وظلمة القول، وظلمة العمل، وظلمة المدخل، وظلمة المخرج، وظلمة القبر، وظلمة القيامة، وظلمة في دار القرار، فالظلمة لازمة لهم في دورهم الثلاث (¬1). وفي التنزيل: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} (¬2). وفيه أيضا: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب * أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} (¬3). أما المؤمنون، أما المتابعون لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فالنور يحيط بهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم وفي محياهم وبعد مماتهم، وإن خيِّل للآخرين أنهم في ظلمات وضيق، ولئن غاب هذا النور عن بعض من يراهم في الدنيا فهو مكشوف غدًا أمام الخليقة كلها {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير} (¬4)، وتبقى بعد ذلك الدعوة لمن شاء أن يؤتى هذا النور مرهونة بالتقوى والإيمان {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل ¬

(¬1) اجتماع الجيوش- لابن القيم 43. (¬2) سورة البقرة، الآية: 257. (¬3) سورة النور، الآيتان: 39، 40. (¬4) سورة التحريم، الآية: 8.

لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم} (¬1). قال ابن القيم رحمه الله: وفي قوله تعالى: {تمشون به} نكتة بديعة وهي: أنهم يمشون على الصراط بأنوارهم، كما يمشون بها بين الناس في الدنيا، ومن لا نور له فإنه لا يستطيع أن ينقل قدمًا عن قدم على صراط الله فلا يستطيع المشي أحوج ما يكون إليه (¬2). أيها المؤمنون! احذروا سبل الشيطان، فسبيل الله واحد مستقيم، وسبل الشيطان متفرقة معوجة، خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال: ((هذا سبيل الله مستقيما))، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: ((وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه))، ثم قرأ {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السل فتفرق بكم عن سبيله} (¬3). قال المفسرون: إنما وحّد سبيله لأن الحق واحد، ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها (¬4). عباد الله! عصمني الله وإياكم والمسلمين من فتن الأهواء، وحفظنا من الابتداع في الدين، أو الانخداع بالمضلين والمنافقين ودونكم هذا الأثر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه -أعلم الناس بالحلال والحرام- فاعقلوه، قال معاذ يوما: إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والعبد والحر والصغير والكبير فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ¬

(¬1) سورة الحديد، الآية: 28. (¬2) اجتماع الجيوش 44. (¬3) رواه أحمد والنسائي والدارمي والحاكم وصححه. انظر تفسير ابن كثير 2/ 315. (¬4) تفسير ابن كثير 2/ 317.

وما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع، فإنما ابتدع ضلالة وأحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلال على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق. قال الراوي: قلت لمعاذ: وما تدري رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق يقول كلمة الحق. قال: بلى اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال ما هذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه فإنه لعله يراجع وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نورا (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا} (¬2). نفعني الله وإياكم بهدي القرآن. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، وإسناده صحيح (جامع الأصول 10/ 43، 44). (¬2) سورة النساء، الآية: 115.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خيرةُ الخلق أجمعين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين. أيها المسلمون! كما هدى الله المؤمنين لصراطه المستقيم، فقد أضلَّ عنه اليهود والنصارى ومن سارَ على سنتهم واتبع ملتهم، والموفق من وفقه الله لاتباع الحقِّ والهدى. قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فقال القوم: هذا عدي بن حاتم، وجئت بغير أَمان ولا كتاب، فلما دفعت إليه أخذ بيدي، وقد كان قبل ذلك يقول: إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي، حتى أتى بي داره، فألقت له الوليدة وسادةً، فجلس عليها وجلست بين يديه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((ما يُفرُّكَ؟ أيفرُّك أن تقول لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله سوى الله؟ )). قال: قلت: لا، ثم تكلم ساعة، ثم قال: ((إنما يفرك أن تقول: الله أكبر، وتعلمُ شيئًا أكبر من الله؟ )) قال: قلت: لا، قال: ((فإن اليهود مغضوبٌ عليهم، وإن النصارى ضُلّال))، قال: قلتُ: فإني حنيفٌ مسلم، قال: فرأيت وجهه منبسطًا فرحًا .. (¬1). عباد الله! سببُ الغضب على هؤلاء وضلال أولئك، أن اليهود مقصِّرون عن الحق، والنصارى غالون فيه، فكفر اليهود أصله من جهة عدم العمل بعلمهم، فهم يعلمون الحقَّ ولا يتبعونه عملا أو لا قولا ولا عملا، وكفر النصارى من جهة ¬

(¬1) الحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب (الاقتضاء 1/ 65).

عملهم بلا علم فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله، ويقولون على الله ما لا يعلمون. أيها المسلم! هذان الصنفان لأصحاب الجحيم نموذجان للبعد عن الصراط المستقيم، وسلوكهما يؤدي إلى سلوك السُّبل المعوجة، أعني: عدم العمل بما يُعلم، أو العمل دون علم بما يعمل، ولهذا جاوز السلف هذا الانحراف لغير اليهود والنصارى لمن شابههم في مسالكهم، فقالوا: إن من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبَّادنا ففيه شبهٌ من النصارى (¬1). وآيات الكتاب المبين تركز كثيرًا على حسد اليهود وبُخلهم ليس بالمال فقط بل بالعلم -وهو أهم- وهو المقصود الأكبر بالبخل في آية النساء {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله} وقد وصفهم الله بكتمان العلم في غير آية تارة بخلًا به، وتارة اعتياضًا عن إظهاره بالدنيا، وتارة خوفًا أن يُحتج عليهم بما أظهروه منه (¬2). وإذا كانت تلك مصيبة، فالأعظم منها أن تصاب الأمة المسلمة بما أصيبت به الأمم الأخرى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: ((وهذا قد يبتلى به طوائف من المنتسبين للعلم، فإنهم تارة يكتمون العلم بخلًا به، وكراهة لأن ينال غيرهم من الفضل ما نالوا، وتارة اعتياضًا عنه برئاسة أو مال، فيخاف من إظهاره انتفاء رئاسته أو نقص ماله، وتارة يكون قد خالف غيره في مسألة أو اعتزى إلى طائفة قد خولفت في مسألة، فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفه، وإن لم يتيقن أن مخالفه مبطل)). ¬

(¬1) ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم (67، 68). (¬2) الاقتضاء 1/ 72.

وبكل حال فليس هذا من منهج العلماء الربانيين، قال عبد الرحمن ابن مهدي يرحمه الله وغيره: أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم (¬1). أيها المسلمون! في سياق الخير حذر النبي صلى الله عليه وسلم من اتباع سنن هؤلاء فقال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا حجر ضبِّ لدخلتموه)). قالوا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: ((فَمَن؟ )) (¬2). وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرًا بشبر وذراعًا بذراع)). فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ قال: ((ومن الناس إلا أولئك)) (¬3). قال ابن تيمية يرحمه الله، فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى -وهم أهل الكتاب- ومضاهاةٌ لفارس والروم وهم الأعاجم. أيها المؤمنون! إذا كان الله قدر وهو أعلم وأحكم، وأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم ووقع كما أخبر بتفرق الأمة واتباع سنن السابقين فقد اقتضت مشيئة الله وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربِّه ببقاء طائفة ثابتة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة -كما في الحديث المتفق على صحته- وأخبر عليه الصلاة والسلام: ((إن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة)) (¬4). ويظل الخير في هذه الأمة يتنامى وغرس الخيرية يتتابع، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 73، 74. (¬2) متفق عليه. (¬3) كتاب الاعتصام من الصحيح ح 7319. (¬4) رواه الترمذي وغيره بسند صحيح (صحيح الجامع ح 1844).

((مثل أمتي مثل المطر لا يُدرى آخره خيرٌ أم أوّلهُ)) (¬1). وورد في حديث آخر ((إن الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعته)) (¬2). أيها المسلمون! كما تُحذر طرائق اليهود والنصارى، وفارس والروم -لمن أراد سلوك الصراط المستقيم، والبعد عن أصحاب الجحيم- فينبغي الحذر من صنف آخر هم من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، ولكنهم دعاة على أبواب جهنم، كشف شرورهم حذيفة رضي الله عنه وهو يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرِّ مخافة أن يدركه، في وقت كان الناس فيه يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، ويقول: يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشرٍّ فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم))، قلت: وهل بعد ذلك الشرِّ من خير؟ قال: ((نعم، وفيه دَخَن))، قلت: وما دَخَنَه؟ قال: ((قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هدي، تعرف منهم وتنكر))، فقلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم: دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)). فقلت: يا رسول الله فما ترى؟ وفي رواية: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم؟ )) قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلَّها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) (¬3). اللهم اعصمنا من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطن، واسلك بنا صراطك ¬

(¬1) أخرجه الترمذي وحسنه ورواه أحمد في مسنده، وهو حديث حسن صحيح بطرقه (جامع الأصول 9/ 251). (¬2) رواه ابن ماجه، وأحمد بنحوه. انظر: تعليق محقق الاقتضاء لابن تيمية 1/ 70. (¬3) أخرجه البخاري ومسلم، (جامع الأصول 10/ 45).

المستقيم، وارفع درجاتنا في المهديين، ووفقنا لمخالفة أصحاب الجحيم، ولا تخزنا يوم يبعثون، واجعلنا من ورثة جنة النعيم .. هذا وصلوا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الإيدز .. الشبع المخيف

الإيدز .. الشبح المخيف (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آله المؤمنين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. فأما بعد: فأوصي نفسي وإياكم معاشر المسلمين بتقوى الله، فتلك وصية الله للأولين والآخرين {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}. أيها المسلمون .. قضت سنة الله تعالى أن الأمم لا تفنى ولا تُدمَّر والديار تُنهى، إلا حين تسقط الهمم، وتستسلم الشعوب لشهواتها، فتتحول الأهداف من مثل عليا إلى شهوات دنيئة، فتسود فيها الرذائل وتنتشر الفواحش، وتفتك بها الأمراض الخبيثة، فلا تلبث أن تتلاشى وتضمحل، وتصيبها السنة الإلهية في التدمير {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} (¬2). ولقد قصَّ الله علينا من أنباء السابقين ما فيه عظة وزجر للآخرين، ونشهد اليوم من أحوال الزائغين التائهين ما يؤكد العبرة عبر القرون. أجل لقد حاق العذاب ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في يوم الجمعة الموافق 18/ 7/ 1417 هـ. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 16.

الأليم بقوم لوط عليه السلام حينما انحرفت فطرُهم، وانتكست أخلاقهم وشاع المنكر في ناديهم، فتحولت قراهم إلى خراب بلقع، وجعل الله عاليها سافلها وأمطر على أصحابها حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد. إنها الفاحشة المستقذرة، والاستجابة لدواعي الشهوة، تُهتك بها أستار الحلال ويُستمرأ بها الحرام .. تُجلب بها النقم خرابًا في البلاد، وفسادًا وأمراضًا مستعصية في العباد. ولا يقل الزنا أثرًا وخطرًا .. فبه تختلط الأنساب، وتُهتك الأعراض، وتقتل الذرية، ويهلك الحرث والنسل، عارُه يهدم البيوت، ويسوّد الوجوه، ينْزع ثوب الجاه مهما اتسع، ويخفض عالي الذكر مهما علا .. نسأل الله السلامة لنا ولإخواننا المسلمين. بالزنا يكثر اللقطاء، ويتقلص العفاف، وتسودُ الفوضى، وتنتشر الأمراض المخيفة، وتُحطم أسوار البيوت المنيعة، وتروج الفاحشة، وتنزع عن مرتكبيه الفضيلة، حرمه الله على المؤمنين وقال: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} وفي آية أخرى قرينًا للشرك في سفالة المنزلة والعقوبة والجزاء {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} (¬1). {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا} (¬2). وحرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر من عقوبته فقال: «ما ظهر في قوم الربا ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 3. (¬2) سورة الفرقان، الآيتان: 68، 69.

والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله» (¬1). أيها المسلمون .. يقال هذا وأكثر بمناسبة اليوم العالمي لمواجهة مرض الإيدز، والمصادف للعشرين من هذا الشهر (رجب). إنه الشبح المخيف والمرض المرعب واللوحة السوداء لحضارة الرجل الأبيض إنه ثمرة الانحراف الخلقي ونتيجة الزهد في القيم، وهو نموذج مشين لأي حضارة لا يرعاها الإسلام ولا يتولى دفتها المسلمون. أجل لقد بلغ الغرب مبلغا من التطور والتقنية المادية وبلغ حدا لا يجارى في الصناعة والتقدم التكنولوجي، ولكنه أفلس في قيادة العالم في المضمار الحضاري بمفهومه الصحيح برعاية القيم، واعتبار الخُلق والمحافظة على الطهر والعفاف. إن انتشار مرض الإيدز وإعلان العجز عن مقاومته مؤشر لهذا الإفلاس الحضاري ومانع من القيادة الراشدة لركب سفينة العالم. إخوة الإسلام .. مرض الإيدز أو نقص المناعة المكتسبة، هو وباء آت من فساد الأخلاق، وإن الطريق الوحيد الذي يسلكه فيروس هذا المرض نحو جسم الإنسان يمر عبر بوابةٍ واحدة فقط هي: بوابة الرذيلة والفساد (¬2). وعلى الرغم من مرور حوالي خمسة عشر عامًا على اكتشاف هذا المرض، إلا أن العلم الحديث بكل إمكاناته التقنية ما زال يقف قاصرًا معلنًا عجز كلِّ محاولاته التي لم تتوقف طوال السنوات الماضية أمام علاج هذا المرض - بل إن خيبة الأمل في التعامل مع هذا الفيروس قد تعددت إلى عدم التوصل إلى لقاح ((أي تطعيم)) ضد ¬

(¬1) رواه أحمد بسند حسن (صحيح الجامع الصغير 5/ 146). (¬2) مجلة المجتمع.

هذا المرض- ولسان حال الأطباء العاجزين عن الوقاية أو العلاج يقول: إن نتيجة الإصابة بهذا المرض هي: الوفاة وحتى إشعار آخر (¬1). عباد الله وتُشير الإحصاءات -من بلاد هذا الداء- أن نسبة 73% (ثلاث وسبعين بالمائة) من جميع حالات الإيدز المعروفة هي للمخنثين أي الشاذين جنسيًّا، وأن خمسة عشر إلى سبعة عشر بالمائة من الحالات هي لمدمني المخدرات، وعشرة بالمائة ناتجة عن عمليات نقل الدم الملوث، وأسباب أخرى لا زالت مجهولة. وخلاصة القول .. والمرعب في هذا المرض أنه مهلك لمن هم في زهرة الشباب واكتمال القوة، إذ إن خمسة وتسعين بالمائة من جميع حالات الإيدز هي إصابات في الذكور الذين تتراوح أعمارهم ما بين خمس وعشرين، وخمس وأربعين سنة، وهؤلاء هم النشطون جنسيًّا، أو مدمنو المخدرات. وتشير الإحصاءات والتقارير أن النساء لم تسلم من هذا المرض الخبيث، وأن ثمانين بالمائة من المصابات هنَّ في سنِّ الإنجاب، ما بين الثالثة عشر، والتاسعة والثلاثين عامًا -في الولايات المتحدة- ولقد أصبح الإيدز في تلك البلاد السبب التاسع المؤدي للموت عند الأطفال، وإذا سلم طفل المصابة بالإيدز أصبح البعض منهم حاملا للمرض إلى غيره. وحول انتشار هذا المرض قيل: إن هذا الفيروس المتناهي في الصغر قد أصاب أكثر من ربع مليون شخص فيما يقرب من اثنتين وخمسين ومائة دولة، في حين أن ما يقرب من عشرة ملايين شخص حاملون لهذا الفيروس ولا يظهر عليهم، وهم ¬

(¬1) مجلة المجتمع الكويتية العدد 1224، 24/ 6/ 1417 ص 62.

الأشدُّ خطورة على المجتمعات التي يعيشون فيها. والمفزع لهذا العالم الموبوء أن أرقام منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن المجموع التراكمي لحالات الإيدز قد يتضاعف أكثر من عشرين مرة منذ بدأ التبليغ عن حالات الإيدز عام واحد وثمانين وتسعمائة وألف للميلاد (¬1). أيها المؤمنون! لا غرابة بعد هذا وبعد سيل التقارير وزيادة الإحصاءات. أن يصاب العالم بالذعر والخوف من انتشار هذا المرض والإصابة به، وأن يكون الإيدز هو الشاغل الأول لوزارة الصحة في أمريكا، كما صرحت بذلك وزيرة الصحة عام ثلاثة وثمانين وتسعمائة وألف للميلاد، وأن تخصص الحكومة الأمريكية أربعة وعشرين مليون دولارا للأبحاث المتعلقة بهذا المرض، ثم تضيف إليه اثني عشر مليونًا أخرى كما ذكرته مجلة التايمز في نشرة خاصة بالإيدز. أجل لقد بلغ الرعب بالقوم نهايته، وقد نشرت إحدى مجلاتهم خبر وفاة امرأة أمريكية بلغت من العمر خمسة وخمسين عامًا وقد أصيبت بالإيدز، فرفض الحانوتي الذي يجهز الموتى للدفن أن يستلمها، أما الطبيب فقد قام بإحراق قفازاته وأدواته وثيابه التي استعملها أثناء التشريح (¬2). أرأيتم كيف حل الرعب فيهم .. إنها العقوبة المعجلة في الدنيا، وهي واحدة من ضرائب الفساد الخلقي - وعذاب الآخرة أشدُّ وأبقى، أما الإسلام فتحذيره من هذه المفاسد لا يخفى .. وهاكم حديثًا محذرًا من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. وهو شاهد على النبوة وأنه لا ينطق عن الهوى، يقول عليه الصلاة والسلام محذرًا متعوذًا ((يا معشر المهاجرين: خمس خصال إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن ¬

(¬1) مجلة المجتمع 63. (¬2) الأمراض الجنسية، سيف الدين حسين ص 101.

تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا .. )) (¬1). اللهم احفظنا واحفظ أمتنا، وأنزل بلاءك وعقابك على أعدائنا. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين * إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون * ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون} (¬2). ¬

(¬1) الحديث رواه ابن ماجه والحاكم عن ابن عمر بسند صحيح، صحيح الجامع 6/ 306. (¬2) سورة العنكبوت، الآيات: 33 - 35.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الفحشاء والمنكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يمهل ولا يهمل، وإذا أخذ فإن أخذه أليم شديد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، مثال الطهر والعفاف، وفي بيته نموذج يحتذى للبيوت المسلمة {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} (¬1). اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه، وأزواجه، وآله المؤمنين. أما بعد .. إخوة الإسلام! فليس يخفى أن هذا العالم المضطرب لم يصل إلى ما وصل إليه من تدني في القيم وفساد في الأخلاق فجأة .. ولا مصادفة. بل كان نتيجة تراكمات من الفساد والانحراف عن منهج الله .. وتغليب الشهوة ... وتهييج الغرائز ووأد الكرامة والحياء .. وإشاعة الفاحشة، وترويج المخدرات، ونشر المسلسلات، وإطلاق عنان الحرية المزعومة، حتى عمَّ البلاء وانتشر الوباء، والخوف قائمٌ من تصديره خارج منطقة الداء. ونحن معاشر المسلمين مطالبون بحماية أنفسنا ومجتمعاتنا من هذا الوباء أو غيره من الأوبئة الأخرى. والحماية لا تكون بمجرد العلاج إذا وقع الداء وتفشى المرض، وإنما تستلزم الوقاية أولا .. والوقاية خير من العلاج وأجدى. إن علينا بشكل عام ألا نفكر في ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 33.

دخول النفق المظلم الذي دخله هؤلاء، ونحن نرى بأم أعيننا كيف كان المنتهى .. وأن ننظر إلى دعوات التقليد البلهاء على أنها صوت من أصوات السفهاء، وعلى العقلاء أن يأطروهم على الحقِّ أطرًا. علينا أن ندرك مسئوليتنا تجاه الناشئة، ونجنبهم مواطن الردى، إن التربية الجادة للشباب، وتوفير المحاضن الصالحة، وابتكار البرامج المفيدة، كلُّ ذلك يُسهم في إصلاح المسيرة، ويجنب أمة الإسلام ما وقعت فيه الأمم الأخرى. ويا ويح أمةٍ يغرق شبابها بالمخدرات، ويُفتنون بما تعرضه الشاشات من زُبالات. ويح أمةٍ يتعلق شبابها برخيص الفن، وتكون الرياضة همَّه الأول والأخير .. إن توفر الصورة الهابطة عند الشباب عن طريق المجلة أو الشاشة أسلوب من أساليب الإثارة والإغراء، وهو وأدٌ للكرامة واستهلاك للحياء، وربما كان في النهاية طريقًا للفاحشة، وإن إغراق الشباب بسيل المسلسلات الفاتنة والمعتمدة أساسًا على إثارة الغرائز، هو انتحار للقيم، وخطوات في طريق تفريغ طاقات الشباب بما يضر ولا ينفع. وإن سفر الشباب للخارج دون حسيب أو رقيب، ودون تنظيم يحقق المصالح ويمنع المفاسد هو رميٌ لهؤلاء الشباب في أتون معركة قلَّ أن يخرج أحدٌ منها دون أن يُصاب بشيء من لهيبها، إنها مخاطرة مع هؤلاء الفتية في مجتمعات تكره المسلمين من جانب ويتوفر فيها من الإغراءات والإباحية ما يُثير الغرائز ويخاطب الشهوات .. ومن يرضى لفلذات الأكباد أن يكونوا ضحايا للفساد، أو يكونوا نقلة فيروسات الدمار لبني الإسلام. ليس من المنطق السليم أن نطالب الشباب بالعفة والطهر ونحن نواصل

إغراءهم، ونهيئ لهم من الوسائل ما يثير غرائزهم، لابد أن نُسهم جميعًا في حمايتهم، ونشارك في تربيتهم. إن بقاء الشباب دون عمل، أو المغالاة معه في المهر. كل ذلك ربما أسهم في دفع أصحاب الأنفس الضعيفة إلى اقتراف المحرمات والوقوع في حمأة الرذيلة. عباد الله! أما المرأة فهي وسيلة للفتنة إذا لم تُصن وتحترم، وهل كانت فتنة بني إسرائيل إلا في النساء، وفي هذه الأمة حذر المصطفى صلى الله عليه وسلم من الفتنة بهن فقال: ((ما تركت بعدي فتنة هي أضرَّ على الرجال من النساء)) (¬1)، ألا فاستوصوا بالنساء خيرًا، امنعوا إماء الله عن التعرض للبلاء، وتنبهوا للدعوات المحمومة التي تريد بهنَّ وبمجتمعهن الشرور والأذى، فما لنا نسمع أحيانًا دعوات للاختلاط بين الذكر والأنثى ولو كانت في الصفوف الأولى؟ ويرتفع الصوت حينًا للمطالبة بقيادة المرأة للسيارة علنًا، ثم تحشد الأقلام للمطالبة ببطاقة المرأة، ثم يتوسع الكاتبون بالمطالبة بإيجاد فرص كثيرة لعمل المرأة ولو أدى ذلك إلى الاختلاط، بل ولو لم يتوفر من الفرص الوظيفية ما يكفي الذكور؟ وهل يرضى عاقلٌ حرّ كريم أن تعمل ابنته أو أخته أو زوجته في مجتمع الأصل في نزلائه من الرجال؟ إنها خطوات ومقدمات لها ما بعدها، فلنتق الله ولنتعاون جميعًا على البرِّ والتقوى، ولنحمي مجتمعنا من أسباب الأمراض التي حلت في الأمم من حولنا .. إنها مسئولية الآباء والمربين، والعلماء والأمراء، ورجالات الفكر والإعلاميين. يا قوم ألا نفيق على صُراخات المتأوهين .. ألا يكفينا واعظًا ما حلَّ بالآخرين، أين نحن من هدي السماء، وكتاب الله فينا يتلى صباح مساء، وفيه ما يقطع دابر ¬

(¬1) متفق عليه (رياض الصالحين 146).

الفتن لمن أبصر واهتدى، وقد قيل لخير بيوتات النساء {يانساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا * وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} (¬1). يا قوم أيخفى ما يريده العلمانيون وهم يرون المرأة بابًا مشرعًا لإيجاد الخلل والفساد في هذا المجتمع الآمن الخيّر؟ وهل ننخدع بأساليب النفاق والمنافقين في دعاوى الإصلاح والتحضر-فيما يزعمون- والله أعلم بما يبيتون .. ونسأل الله أن يكشفهم كما كشف أسلافهم {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا * سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} (¬2). اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا. ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآيتان: 32، 33. (¬2) سورة الأحزاب، الآيات: 60 - 62.

اختيار الرفيق

اختيار الرفيق (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله ربِّ العالمين، خلق فسوى، وقدّر فهدى، وله الحمدُ في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده مقاليد السماوات والأرض، وما من دابة في الأرض إلا هو آخذ بناصيتها. إخوة الإيمان .. كتب أخٌ ناصحٌ إلى أخ له في الله يقول: إن الدنيا حُلُمٌ والآخرة يقظة، والموت متوسط، ونحن في أضغاث أحلام .. من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن نظر في العواقب نجا، ومن أطاع هواه ضلَّ، ومن حلم غنم، ومن علم عمل، فإن زللت فارجع، وإذا ندمت فأقلع، وإذا جهلت فاسأل، وإذا غضبت فأمسك. هكذا -إخوة الإيمان- يكون الخليل الناصح، وبمثل هذا النوع من القرناء فليستمسك فيهم -بعد الله- عزاء عند المصيبة، وتسرية حين الكروب والشدة، وسلوةٌ وفائدة حين اللقاء والصحبة. إخوة الإيمان .. قد جاء في القرآن والسنة ذكرُ القرين والرفيق والخليل مصحوبا ذلك بتوجيهات نافعة، وإشارات تربوية هامة، وإذا كان المرء في هذه الحياة لابد له من صاحب يتحدث معه يشكو له ويسليه وينصح له .. فشأنُ اختيار الصاحب من الأهمية بمكان .. ولابد من الاجتهاد في اختيار من تحب وتخالل .. فالمرءُ على دين خليله .. والمرء مع من أحب .. وكلُّ قرين بالمقارن يقتدي؟ والصاحب ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في يوم الجمعة الموافق 4/ 2/ 1419 هـ.

ساحب. قال أهل العلم: ولا ينبغي للمرء أن يهمل اختيار من يصلح للصحبة؛ لأن للصحبة تأثيرها البالغ على المرء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)) (¬1). ويحدد العلماء الخصال التي ينبغي توفرها في الصاحب، ويقول ابن الجوزي: ينبغي أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمس خصال: أن يكون عاقلًا، حسن الخلق، غير فاسقٍ، ولا مبتدع، ولا حريص على الدنيا .. (¬2). قالوا: ومن اجتمعت فيه تلك الخصال فإن صحبته لا يُنتفع بها في الدنيا فحسب، بل ينتفع بها في الآخرة وعلى هذا يُحمل كلام بعض السلف: (استكثروا من الإخوان، فإن لكلِّ مؤمن شفاعة يوم القيامة) (¬3). يا أخا الإسلام ومما يزيدك استمساكًا بالقرين الخيِّر والصاحب الصدوق .. أنك قد ترى أثره وذوده عنك في أشدّ أوقات الحرج .. وهل أعزُّ وأغلى من أخ لك لم تلده أمُّك يكون سببًا في الشفاعة لك وإنقاذك من النار .. وقد جاء في الصحيحين إثبات شفاعة المؤمنين .. ((فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون .. )) (¬4). وجاء في حديث آخر كيف يجادل المؤمنون عن إخوانٍ لهم وقعوا في النار، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا خلّص الله المؤمنين من النار وأمنوا، فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا، أشدَّ مجادلة من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار، قال يقولون: ربنا إخواننا كانوا يُصلون معنا، ¬

(¬1) رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (4046) (3/ 917). (¬2) مختصر منهاج القاصدين ص (91، 92). (¬3) الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله، عبد العزيز مصطفى 145. (¬4) البخاري 7439، ومسلم 302.

ويصومون معنا، ويحجون معنا، فأدخلتهم النار! فيقول: اذهبوا فأخرجوا من عرفتم فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم لا تأكل النار صورهم، فمنهم من أخذته النارُ إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى كعبيه فيخرجونه)) (¬1). أيها الشاب قل لي من تصادق أقل لك من أنت؟ أيها الرجلُ صاحب الأشد تذكّر من صاحبت في الصبا وستجدُ شيئًا من أثره عليك الآن وعلى نوع الأثر فاختر رفيق الغد، أيها الشيخ الشمط اختر لنفسك خير الأصحاب في خريف العمر .. فالأعمال بالخواتيم. عباد الله! كم ضل من ضل بسبب قرين فاسد أو مجموعة من القرناء الأشرار، وكم أنقذ الله بقرناء الخير من كان على شفا جرف هار فأنقذه الله بهم من النار، وانتقل من حالٍ إلى حال، فأبصر بعد العمى، واهتدى بعد الضلالة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وتلك واحدة من آثار الرفقة الصالحة. ولهم آثار أخرى أبان عنها العلماء، وهذا عمر رضي الله عنه وهو يعدد شيئًا من آثارهم ويقول: عليك بإخوان الصدق، تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء، وعدة في البلاء، وابن القيم ينقل عن العلماء ست خصال ومنافع تستفاد من مجالسة الصالحين وهي: أنها تنقل من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة، ومن الكبر إلى التواضع، ومن سوء الطوية إلى النصيحة (¬2). أيها المسلمون! من قرأ كتاب الله وتدبره وجد فيه بلسمًا شافيًا، ودعوة ¬

(¬1) رواه ابن ماجه في المقدمة، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه ح 51، 1/ 16. (¬2) شرح الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله ص 146.

لمصاحبة الأخيار، والحذر من الأشرار يقول تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} (¬1). وإذا كانت هذه دعوة وتحذيرًا في الدنيا .. فالأمر في الآخرة أشد وأدهى، يقول تعالى: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * ياويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا} (¬2). عباد الله! ما أعظم الفتن في اختيار الخليل بين فئتين، قال الله عنهما: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} (¬3). وكيف يزهد في اختيار الرفقة الصالحة من يسمع نبيَّ الهدى والرحمة يقول: ((إن من عباد الله أناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله عز وجل)). قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: ((هم قومٌ تحابُّوا بروح الله على غير أرحامٍ بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس)). ثم تلا هذه الآية: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (¬4). يا أخا الإسلام! إن من البلاء والفتنة والخيبة والخسران أن تتخذ لك في الدنيا ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 28. (¬2) سورة الفرقان، الآيات: 27 - 29. (¬3) سورة الزخرف، الآية 67. (¬4) سورة يونس، الآية: 62. والحديث رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني في المشكاة (5012) 3/ 1396.

قرينًا سيئًا .. وخِلًا فاسدًا، إن هممت بأمر خير ثبطك .. وإن تباطأت عن أمر سوء، أو استحييت من عمل منكر .. سارع بك وشجعك وسوّل لك ومناك، يُبعدك عن مجتمع الأخيار .. يُحسن لك الجلوس على موائد الشرِّ والانضمام لقافلة الأشرار، لا تأمن غدرهم، ولا تسرُّ إذا رُؤيت معهم، وإنها لنعمة ومنة أن يهديك الله لرفقة صالحة، إن وجدوا فيك خيرًا شجعوه، وإن وجدوا عليك عيبًا نصحوك وستروك، تأمن سريرتهم، وتُعجبك علانيتُهم، وتستلذ بحلو منطقهم، وتستفيد من أطايب كلامهم .. وتفخر إذا رأيت نفسك أو رآك غيرُك معهم. وأختر لنفسك ما تشاء واعلم أن اختيارك لقرين السوء دليل بعدك على ذكر الله وطاعته. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون * حتى إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين} (¬1). ¬

(¬1) سورة الزخرف، الآيات: 36 - 38.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، يسر من شاء لليسرى، وجعل نصيب آخرين العسرى، وهو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يمتحن الناس في هذه الدنيا وعنده يوم القيامة الجزاء الأوفى. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نظر ربُّه في قلوب الرجال فوجد قلبه أزكاها وأتقاها فاختاره لرسالته، ونظر في قلوب الرجال من بعده فوجد قلوب الصحابة الهدى والتقى فاختارهم أصحابًا له .. وبهم يقتدى .. اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى سائر النبيين والمرسلين. أيها المسلمون! إذا كانت القلوب تموت بمصاحبة الأشرار، أو تُصاب بالعلل الكبرى، فإن في مصاحبة الأخيار دواءً للقلوب وحياةً لها، وقد نقل النووي رحمه الله عن الزاهد العابد إبراهيم الخواص أنه قال: دواءُ القلب خمسة .. وذكر منها: مجالسة الصالحين (¬1). أيها المسلم! قد تستهويك رفقة الأخيار لما جاء في فضلها وآثارها، ولكنك قد تجد من نفسك تثاقلا أو حياءً، أو حواجز نفسية ووهمية عن اللقاء بالخيرين والانبساط إليهم، فجاهد نفسك في البداية تجدها منقادة لك في النهاية .. واعلم أن العتبة الأولى لقربك من الخير وأهله كثرة صلتك بالله، واستدامتك لطاعته وإخلاصُك في عبوديته .. وهجرُ الفساد والانقطاع عن مجتمع الفاسدين .. فتلك عون لك بإذن الله على الانخراط في سلك الخيرين، والفرار من مجتمع البطالين. ¬

(¬1) التبيان في آداب حملة القرآن ص 46، عن أسباب العشرة 148.

أيها الأخيار .. وإذا جاءكم المرءُ مقبلًا على الخير ملتمسًا طرق النجاة صادقًا في عزمه، مخلصًا في ظاهره، فإياكم أن تكفهروا في وجهه، ولو رأيتم عليه بقايا من آثار المعاصي، أو لوثات فكرية من بقايا الماضي .. فحقُّ من وضع رجله في الطريق الصحيح أن يُقابل بالودِّ والترحاب، وحق على من استغاث بأهل الخير أن يغيثوه ويقفوا معه، إن من الخطأ أن ينغلق أهل الخير على أنفسهم، أو تكون الريبةُ هي الأصل في تعاملهم .. والمسلم -وإن كان مطلوبًا أن يكون كيِّسًا فطنًا- ليس بالخب ولا الخبُّ يخدعه، فالأصل أن يتعامل بالظاهر ويدع البواطن لعلاَّم الغيوب .. ومن رام خداع الناس فسيكشفه الله، والمنافقون حين ظنوا أنهم يخادعون الله والذين آمنوا، قال الله عنهم: {وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون}. يا أيها التائب والراغب في مجتمع الخيرين، إياك أن تتخذ من الخطأ الصادر من أي بشر كان سبيلًا للانتكاس مرةً أخرى، ووسيلة لإقناع النفس بسلامة ما أنت عليه أولا .. فأخطاء الناس لا تحسب على الإسلام ولا يُلام الإسلام إذا ما جهل أبناؤه، فكن متنبهًا لهذا الأمر جيدًا، وفرق بين ما يأمر به الإسلام والأخطاء التي يمارسها المسلمون. وإذا انغلق أمامك طريق فاسلك طريقًا آخر، وإذا لم تجد الراحة عند شخص أو أشخاص فابحث عن آخرين .. وهكذا والمهم ألا تعود إلى النار بعد أن أَنقذك الله منها، وإلى مجتمع السافلين وقرناء السوء بعد إذ نجاك الله منهم. يا أخا الإيمان! نصيحتي لك أن تفرَّ من المجذوم في هذه الحياة فرارك من الأسد، ولا تسلم فكرك للآخرين يقودونك حيث شاءوا، ويوقعون بك من مصائب الدنيا ما يظل خزيه يلاحقك ما حييت .. والفضيحة على رءوس الأشهاد أنكى وأخزى .. وهذا كتاب الله يقُص عليك حوارًا معبرًا عن أثر القرين، إلا من حمى

الله ووقى، يقول تعالى: {قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدقين * أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون * قال هل أنتم مطلعون * فاطلع فرآه في سواء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين} (¬1). إن القرناء يستلبون عقول من يقارنون، ويوجهونهم حين يشاءون، فمن وفق لقرين صالح فليحمد الله ولا يغترّ ولا يستكبر .. ومن بُلي بقرين سوءٍ فليسارع بالخلاص قبل أن يستفحل الداءُ ويصعب الدواء. وكم هو مشهد مؤثر وكاشفٌ لتلاوم قرناء السوء، وكلّ يتهم صاحبه وقد قضي الأمر، واشترك الجميع في الذل والخزي، اسمع إلى مجادلتهم في قوله تعالى. {وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} (¬2). اللهم إنا نسألك خير الأصحاب، ونعوذ بك من الأشرار، اللهم احشرنا مع المتقين الأبرار، اللهم أنلنا شفاعتهم، وبلغنا منازلهم بحبهم وإن قصرت أعمالنا عنهم. ¬

(¬1) سورة الصافات، الآية: 51 - 57. (¬2) سورة سبأ، الآيات: 31 - 33.

اليقين

اليقين (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله ربِّ العالمين، خلق فسوى، وقدّر فهدى، وله الحمدُ في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده مقاليد السماوات والأرض، وما من دابة في الأرض إلا هو آخذ بناصيتها، وما في السماء موضع شبر إلا وفيه ملك ساجد أو راكع لله. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بعثه الله على حين فترة من الرسل، فأحيا الله به القلوب بعد موتها، وجدد به الملة الحنيفية بعد مزاحمة الشرك والوثنية لها. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين {ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} (¬2). {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون} (¬3). وبعد إخوة الإيمان فلله الحمدُ والمنّة إذ يسر للحجاج حجهم وأعانهم على قضاء مناسكهم، فعاد من عاد منهم سالمًا غانمًا إن شاء الله، واختار لبعضهم ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في يوم الجمعة الموافق 21/ 12/ 1418 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 1. (¬3) سورة المائدة، الآية: 35.

الرحيل عن هذه الدار قبل إتمام حجِّهم، أو قبل أن يصلوا إلى أهليهم، والله يحكم ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة من أمرهم، ونسأل الله أن يتقبل من الحجاج حجتهم ويمتعهم متاعًا حسنًا، وأن يغفر للموتى ويُجزل مثوبتهم، ويجبر مصابهم وأهلهم. وكذلك تكون الحياةُ الدنيا وكذلك يفعل الله ما يشاء بالأحياء، وحكم المنية في البرية جاري ما هذه الدنيا بدار قرار {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير} (¬1). ولله الحمد والمنة إذ أفاء على الحجاج وغير الحجاج من بركات عشر ذي الحجة ومتعهم حتى عاشوا يوم العيد وأيام التشريق وهي أَيام عظيمة فاضلة. ولك الحمد ربّنا إذ جعلت الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس وأمنًا، فعبدوك آمنين مطمئنين، اللهم زد بيتك تعظيمًا وتشريفًا، وأجزل المثوبة لكل من ساهم في أمن الحجاج والمعتمرين، وطهر بيت الله للطائفين والعاكفين والركع السجود، اللهم ومن أراد بيتك أو حجاجه وعماره أو المسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا رب العالمين. اللهم عظم للعاملين أجورهم، ولا تحرم المقصرين فضلك، واجعلهم فيما يستقبلون من أيامهم خيرًا مما مضى من أعمارهم. واختم بالصالحات أعمالهم، ولا تضلهم بعد إذ هديتهم، فما أسوأ الحور بعد الكور، والضلالة بعد الهدى، ومن يُضلل الله فما له من هاد. أيها المسلمون! من فضل الله علينا أن المسلم ينتقل من عبادة إلى عبادة ومن موسم للخيرات إلى آخر، وهذه العبادات منها ما يتكرر كلَّ عام، ومنها ما يتكرر ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 11.

كلَّ شهر، ومنها ما يتكرر كلَّ أسبوع، ومنها ما يلازم المسلم كل يوم، بل ربما تكرر في اليوم خمس مرات أو أزيد، ولو شاء المرءُ لعبد ربه مع كل نفس يخرج، قائمًا وقاعدًا وعلى جنب .. فالصلاة والصيام والذكر وتلاوة القرآن والصلة والإحسان، ونحوها من العبادات لا تحد بزمان أو مكان، أو هيئة محدودة للإنسان. يا أخا الإسلام .. وكما تتعاظم العبادة في الأزمنة والأمكنة الفاضلة -فثمة أمر آخر يتعاظم فيه أجرُ العبادة، ويحتاج العباد إلى معرفته والعمل به- إنه تعظيم أمر الله في النفوس واستشعار لذة العبادة من خلال اليقين والإخلاص والمتابعة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم. أجل إن العبادة يتعاظم أجرُها بقدر ما يوجد في قلب العابد من عبودية وإخلاص وتعظيم لأمر الله، ويقين لا يخالطه شك. فما معنى اليقين؟ وما أثره؟ وبم يُحصل عليه؟ وما مظاهر ضعفه؟ قال العالمون: اليقينُ طمأنينة القلب، واستقرارُ العلم فيه، ولهذا قالوا: ينتظم من اليقين أمران: علمُ القلب، وعملُ القلب، فإن العبد قد يعلم علمًا جازمًا بأمر، ومع هذا يكون في قلبه حركة واختلاج من العمل الذي يقتضيه ذلك العلم، كعلم العبد أن الله رب كلِّ شيء ومليكُه، ولا خالق غيره، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فهذا قد تصحبه الطمأنينة إلى الله والتوكلُ عليه (فيكون صاحبه من الموقنين) وقد لا يصحبه العملُ بذلك، إما لغفلة القلب من هذا العلم، وإما للخواطر التي تسنح في القلب كالاعتماد على الأسباب .. وإما لغير ذلك فلا يكون صاحبه مطمئنًا ولا مستيقنًا (¬1). ¬

(¬1) فتاوى ابن تيمية (3/ 329).

يا أخا الإيمان! وإذا أردت أن تتبين أثر الإخلاص واليقين في الأعمال فتأمل حديث صاحب البطاقة، فقد روى الترمذي وحسنه، والنسائي وابن حبان والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا: ((يُصاح برجلٍ من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فيُنشر له تسعة وتسعون سجلًا، كلُّ سجل منها مد البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا ربِّ، فيقال: أفلك عذرٌ أو حسنة؟ فيهاب الرجلُ، فيقول: لا، فيقال: بلى، إن لك عندنا حسنةً وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: يا ربِّ ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تُظلم، فتوضع السجلاتُ في كفة، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة)) (¬1). قال ابن تيمية معلقًا على هذا الحديث: (والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجهٍ يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله، فيغفر الله به كبائر كما في حديث البطاقة. ثم ذكر ابن تيمية حديث البغي التي سقت كلبًا فغفر الله لها. والرجل الذي أماط الأذى عن الطريق فغفر الله له، ثم قال: فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغُفر لها، وإلا فليس كلُّ بغي سقت كلبًا يُغفر لها، فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإجلال .. ) (¬2) اهـ. ويقول تلميذه ابن القيم رحمه الله: فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما من التفاضل ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير 6/ 343، فتح المجيد في شرح كتاب التوحيد ص 46. (¬2) منهاج السنة 6/ 218.

كما بين السماء والأرض، قال: وتأمل حديث البطاقة وكيف ثقلت بتسعة وتسعين سجلًا كلُّ سجل مدّ البصر، فلا يُعذب صاحبُها، ومعلوم أن كلَّ موحدٍ له هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه (¬1). أيها المسلمون! في مقابل هذا فقد يعمل الإنسان أعمالًا عظيمة في ذاتها، ولا يقبلها الله منه، بل ربما تعرض للوعيد الشديد وكان مصيره النار بسبب فعلها، وذلك لخلوها من الصدق والإخلاص واليقين، كما في حديث الثلاثة الذين هم أول من يُقضى يوم القيامة، وأحدُهم قاتل الكفار حتى قتل، والآخر تعلم العلم وعلّمه، وقرأ القرآن، والثالث: كان ينفق ماله في وجوه الخير .. ويوم القيامة يُسحب على وجهه حتى يُلقى في النار .. لأن العمل لم يمكن خالصًا، بل كان للرياء والسمعة، ونيل الشهرة، وحتى يقال: جريء، وعالم، ومنفق. وقد قيل ذلك في الدنيا، أما في الآخرة فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان له خالصًا. كما قال تعالى لنبيه وللمؤمنين: {فاعبد الله مخلصا له الدين * ألا لله الدين الخالص} (¬2). ألا فعظموا ربكم، وأخلصوا له عبادتكم، واستيقنوا لقاء ربكم، واحذروا الآخرة، وارجوا رحمة الله. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أممن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} (¬3). ¬

(¬1) فتح المجيد 46، 47. (¬2) سورة الزمر، الآيتان 2، 3. (¬3) سورة الزمر، الآية: 9.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، فاضل بين الناس في أعمالهم وإيمانهم، فمنهم المسارعون للخيرات، والمكثرون من عمل الصالحات، وهم آمنون مستيقنون، ومنهم الظالمون لأنفسهم المعرضون عن ذكر ربهم، وهم في ريبهم يترددون. أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كلَّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. عباد الله! منزلة اليقين من الإيمان كما قال ابن مسعود رضي الله عنه (اليقين الإيمان كلُّه، والصبر نصف الإيمان). ولليقين أثرٌ كبيرٌ في الإيمان بالقضاء والقدر. كما قال ابنُ عباس رضي الله عنهما يرفعه: ((فإن استطعت أن تعمل بالرضى في اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا))، وفي رواية: قلت: يا رسول الله كيف أصنع باليقين؟ قال: ((أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك)) (¬1). أيها المسلمون! لمنزلة اليقين وحاجة الناس إليه جاء في الحديث المشهور: ((سلوا الله اليقين والعافية فما أعطي أحد بعد اليقين شيئًا خيرًا من العافية، فسلوهما الله)) (¬2). أما أهل اليقين فهم الأئمة والقادة، وهم أهل الصبر والهداية إذا ابتلوا ثبتوا، وإذا أذنبوا استغفروا، ويشكرون على السراء، ويصبرون على البلاء، لا يخشون إلا الله، ولا يرجون أحدًا سواه، خصهم الله بالذكر في قوله: {وجعلنا منهم أئمة ¬

(¬1) فتح المجيد ص 305. (¬2) فتاوى ابن تيمية 3/ 330.

يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا باياتنا يوقنون} (¬1). وأثنى عليهم وما يتقلبون فيه من نعمة بقوله: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم} (¬2). يا أخا الإيمان! إن قلت: إذا كانت هذه بعض مزايا وقدر أهل اليقين، فكيف السبيل إلى تحصيل اليقين؟ فالجواب كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بقوله: وأما كيف يحصل اليقين فبثلاثة أشياء: أحدها: تدبر القرآن، والثاني: تدبر الآيات التي يحدثها الله في الأنفس والآفاق التي تبين أنه حق، والثالث: العمل بموجب العلم، قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} (¬3). عباد الله! إذا كان في كتاب الله من الآيات ما يدعو للإيمان واليقين من أخبار الوعد والوعيد، وقصص الماضين، وأخبار الهالكين، وسُبل نجاة المؤمنين، وما تضمنته آياته من آيات في الأنفس والآفاق. فإن في صفحةِ كون الله المفتوح ما يدعو كذلك للإيمان واليقين، فسماءٌ ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات خلق وأمواج، وجبال ذات جُدد بيض ¬

(¬1) سورة السجدة، الآية: 24. (¬2) سورة آل عمران، الآيتان: 173، 174. (¬3) الفتاوى 3/ 330، 331.

وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سُود، ومخلوقات تختلف أشكالها وأحجامها وهيئاتها، وكلها خلق من ماء فمنها ما يمشي على بطنه، ومنها ما يمشي على رجلين، ومنها ما يمشي على أربع، يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير، بل لو أبصر المرء في ذات نفسه وتأمل قدرة الله في خلقه لزاد إيمانه وامتلأ قلبه يقينًا بخالقه. ألا ما أحوج الأمة المسلمة بأفرادها وقادتها إلى مزيد الإيمان واليقين ترتفع به من كبوتها .. وتستنقذ به نفسها والأمم من حولها من هاوية الحيرة والضلال والشك والريب، وتسير بالإيمان واليقين تفتح مغاليق القلوب بإذن الله، وتنشر دين الله الحقَّ في أصقاع المعمورة، وكذلك كان أسلافنا قممًا عالية في الإيمان واليقين، ومن طريف ما يُروى في الإيمان واليقين، أن المسلمين حين افتتحوا مصر جاء أهلُها إلى عمرو بن العاص وكان أميرًا لها حين دخل بؤونة من أشهر العجم، فقالوا: أيها الأمير: إن لنيلنا هذا سُنَّةً لا يجري إلا بها، قال: وما ذاك؟ قالوا: إذا كانت ثنتا عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحُلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا بؤونة والنيلُ لا يجري حتى هموا بالجلاء، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بذلك، فكتب إليه عمر: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وقد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا، فألقها في النيل، فلما قدم كتابُه أخذ عمرو البطاقة ففتحها فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر، أما بعد، فإنك إن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجري، وإن كان الله الواحدُ القهار هو الذي يجريك فنسأل الله أن يجريك. قال: فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يوم السبت

وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعًا في ليلة واحدة، وقد قطع الله تلك السُّنة عن أهل مصر إلى ذلك اليوم (¬1). أيها المسلمون! من مظاهر ضعف اليقين: أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، وإن الله بحكمته جعل والروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهمَّ والحزن في الشك والسخط. هكذا ورد في حديث عن أبي سعيد، والحديث وإن أعله العلماء وضعفوه، فمعناه صحيح، كما قال المحققون (¬2). اللهم إنّا نسألك اليقين والعافية، ونعوذ بك من الشكِّ والتسخط والهم والحزن. اللهم إنا نسألك إيمانًا يباشر قلوبنا، ويقينًا يلازمنا ما أبقيتنا حتى تتوفانا وأنت راضٍ عنا. وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ¬

(¬1) رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائي الطبري في كتاب السنة له، وعنه نقله ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز}. انظر: تفسير ابن كثير، 3/ 767. (¬2) فتح المجيد ص 305 بتحقيق ومراجعة ابن باز.

العشر الأخير وفضل التهجد والدعاء

العشر الأخير وفضل التهجد والدعاء (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله ربِّ العالمين، خلق فسوى، وقدّر فهدى، وله الحمدُ في الآخرة والأولى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده مقاليد السماوات والأرض، وما من دابة في الأرض إلا هو آخذ بناصيتها وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اتقوا الله معاشر المسلمين وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، ولباسُ التقوى خير وأبقى، واصدقوا مع ربكم في العلانية وما يخفى، فإن ذلك من علائم التقوى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}. عباد الله! بشراكم اليوم حيث تدركوا ليالي العشر الأخير من رمضان، وهي شامة العام، وغرّة في جبين الزمان، يقدرها حقَّ قدرها العالمون العابدون، ويتهاون بشأنها ويفرط في مغانمها الجاهلون العاجزون، إنها الموسمُ يتنافس فيها المتنافسون، وإنها التجارةُ المنجية من عذاب الله لمن وفقه الله، إنها فرصٌ تبتلى فيها الهمم، ويتبين فيها مريدو الآخرة، والمتعلقون بالدنيا. إنها الفرصة الأخيرة في الشهر تحلُّ لتكون العزاء لمن فرّط في أول الشهر، أو التاج الخاتم لمن أصلح ووفَّى فيما مضى. أجل لقد كان خيرُ البرية محمد صلى الله عليه وسلم يجتهد في هذه العشر فوق ما يجتهدُ في غيرها، وقد روى الإمام مسلم رحمه الله عن أم ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في يوم الجمعة الموافق 20/ 9/ 1416 هـ، وأعيدت في 22/ 9/ 1417 هـ دون الثانية.

المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره)) (¬1). كان يحيي الليل، ويوقظ أهله، ويشد مئزره، وهو الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما بال أقوام تثقلهم الذنوبُ، ويحتاجون إلى رحمة علام الغيوب، ثم هم يُفرّطون، وعن مواسم الخيرات يتأخرون؟ ! إنها النفوس الأمارة بالسوء تقعد بأصحابها حين تكون المغانم، وإنها الهمم الضعيفة تستثقل القيام في أيام وليالي معدودة .. أين نحن من قومٍ ديدنهم القيام طوال العام، وسيماهم التضرع والتجافي عن المضاجع في رمضان وغير رمضان، بل كانوا يتلذذون بالقيام ويسعدون وهم يناجون الملك العلام، يقول أحدهم: لولا قيام الليل ما أحب البقاء في الدنيا. وقال عاصم بن أبي النجود يرحمه الله: أدركت أقوامًا كانوا يتخذون هذا الليل جملًا (¬2). أولئك الذين أثنى الله عليهم ووعدهم، وربك لا يخلف الميعاد، {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون} (¬3)، ذلك واقعهم، أما جزاؤهم، {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} (¬4). أهل التجافي في جنح الظلام هم أهلُ التقوى والمتقون في جناتٍ وعيون، أحسنوا في الدنيا فأحسن الله إليهم في الآخرة {إن المتقين في جنات وعيون * ¬

(¬1) صحيح مسلم 2/ 832 ح 1175. (¬2) المختار للحديث في رمضان 76. (¬3) سورة السجدة، الآية: 16. (¬4) سورة السجدة، الآية: 17.

آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلا من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون} (¬1). قيام الليل هدي محمد صلى الله عليه وسلم {ياأيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا} (¬2). وهو هدي خيار الأمة معه: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة} (¬3). وقيام الليل مفخرة لأهله، وامتدح الشعراء به أهله، وهذا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذ انشق معروف من الصبح ساطع يبيت يُجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع وذكروا المتقاعس أو المتباطئ فيه فقالوا: أمامك يا نومانُ دارُ سعادة ... يطول الثوى فيها ودارُ شقاء خُلقت لإحدى الغايتين فلا تنم ... وكن بين خوفٍ منهما ورجاء (¬4) ((نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)) (¬5). هكذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدعو أصحابه لقيام الليل ويرغبهم فيه، ولقد وضع صلى الله عليه وسلم الزرع في منبته، فاستجاب الرجال للنداء، وأجابوا الدعوة والداعي، وكانوا رهبانًا ¬

(¬1) سورة الذاريات، الآيات: 15 - 18. (¬2) سورة المزمل، الآيات: 1 - 4. (¬3) سورة المزمل، الآيات: 20. (¬4) تفسير القرطبي 14/ 100. (¬5) رواه أحمد، متفق عليه، صحيح الجامع الصغير 6/ 31.

بالليل فرسانًا بالنهار، تتجافى جنوبهم عن المضاجع فلا تجف لهم دمعة، ولا تقعد بهم الدنايا عن طلب المنازل العليّة. قيام الليل أيها المسلمون من أَبواب الخير، عن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((ألا أدلُّك على أبواب الخير؟ الصومُ جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النارَ، وصلاةُ الرجل من جوف الليل)) قال؟ ثم تلا: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} حتى بلغ {يعلمون} (¬1). عباد الله! وفي فضل التجافي ذكر ابن المبارك يرحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الحامدون لله على كل حال، فيقومون فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادي ثانية: ستعلمون من أصحاب الكرم، ليقُم الذين كانت جنوبهم تتجافى عن المضاجع {يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون}. قال: فيقومون فيسرحون إلى الجنة .. الحديث (¬2). أَيها المسلمون! حريٌّ بنا أن نجاهد أنفسنا على قيام الليل وهذا بعض فضله، وأن نتخذ من رمضان فرصة للقيام في سائر العام، وإن قصرت بكم الهمم في بعض الشهور والأيام عن قيام الليل والناس نيام، فدونكم هذه الليالي الفاضلة فلا تغلبنكم أنفسكم، ولا يصدنكم الشيطان عنها، فهي والله العز في الدنيا، والمغنم في الآخرة. وإليكم واحدًا من بشاراتها وثوابها، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن في الجنة غرفًا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام وأفشى السلام وصلّى بالليل والناس نيام)) (¬3). ¬

(¬1) أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. انظر: تفسير القرطبي 14/ 100. (¬2) ذكره الثعلبي مرفوعًا عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها (تفسير القرطبي 14/ 102). (¬3) رواه ابن حبان في صحيحه وصححه الألباني: صحيح الترغيب 1/ 254.

تأملوا عباد الله الليل إذا سجى، وادعوا ربكم خوفًا وطمعًا وسبحوه بكرة وأصيلا، واستمتعوا بالقرآن إذ يتلى، ولا يكن همكم نهاية الصلاة إذ تقضى، ولا يكن حديثكم ومحل اهتمامكم أقصّر الإمام في الصلاة أم وفّى، فإنّ من قام لله قانتًا واحتسب الأجر على الله قائمًا وراكعًا وساجدًا، تشاغل بذكر مولاه، وبكى على خطيئته وخاف ربَّه ورجاه، واستشعر اللذة في حال قيامه أو ركوعه أو دعاه. أيها المسلمون! ليالي العشر مغنم يستحق التهنئة والبشرى، وفيها ليلة خير من ألف شهر كما أنزل العليُّ الأعلى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلام هي حتى مطلع الفجر} (¬1). وتأمل يا أخا الإسلام كم في هذه الليلة من فضائل ومزايا، ففيها أنزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، والعمل فيها لمن وفقه الله وقبله خير من العمل في ألف شهر، وتلك رحمة من رحمات الله بهذه الأمة التي تقلّ أعمارها عن أعمار الأمم قبلها، فأعطيت هذه الليلة لتعويض قصر أعمارها. وفيها يكثر تنزل الملائكة، وهم يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، والله أخبر عن بركة هذه الليلة فقال: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} (¬2). ووصفت بأنها سلام أي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا أو أذى كما قال مجاهد رحمه الله (¬3). أو يكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب بما يقوم به العبدُ من طاعة ¬

(¬1) سورة القدر. (¬2) سورة الدخان، الآية: 3. (¬3) تفسير ابن كثير 4/ 531.

الله عز وجل (¬1)، وفي ليلة القدر يُفرق كلُّ أمرٍ حكيم، وهو ما يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة من أمر السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق. وفوق ذلك كلِّه، فمن قامها إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه كما في الحديث المتفق على صحته. فهل ترضى أيها اللبيبُ أن تفوّت على نفسك هذه الفرصة، وأنت تضمنها في ليالٍ عشر، ألا ما أحوجني وإياك والمسلمين إلى فضل ربِّنا فهذه نفحات جوده تغشانا. وما أحوجنا إلى مغفرة الذنوب التي أثقلت كواهلنا، وفي هذه الليالي فرصة للتخفف والتوبة والاستغفار فما أحرانا، ولا يفوتنك الاستغفار بالأسحار فهو سيما المتقين وزاد إلى جنة النعيم {وبالأسحار هم يستغفرون} (¬2). ولي ولك حوائج في الآخرة والأولى .. وفي جنح الظلام يسمع الدعاء، ولنا جميعًا معاشر المسلمين هموم ومآسي، وليس إلا الله يرفع عنا الضراء، فلنبتهل إليه ولنصدق المسألة لنا ولإخواننا والجنة جميعًا مبتغانا، ونسأل الله ليلًا ونهارًا أن يرزقنا إياها وقيام الليل عامة، وإحياء ليال العشر خاصة طريق إلى الجنة، إذا صحت النوايا وخلصت الأعمال لله جلّ وعلا، وأذن الربُّ بالقبول - وربنا رءوف رحيم يعطي الجزيل، ويتجاوز عن التقصير، فهل نلج الباب ونفعل الأسباب؟ إنها دعوة للمسابقة للخيرات، وتذكير ببعض الفضائل والمكرمات، ومن تذكر فإنما يتذكر لنفسه، ومن عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها. أعوذ بالله من ¬

(¬1) المجالس لابن عثيمين 105، المختار 237. (¬2) سورة الذاريات، الآية: 18.

الشيطان الرجيم {ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا * إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا} (¬1). اللهم انفعنا بالقرآن ووفقنا لصالح الأعمال، وأعنا على الصيام والقيام وتقبل منا يا كريم يا منان .. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم .. ¬

(¬1) سورة الإنسان، الآيتان: 26، 27.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، أوحى إلى عبده فيما أوحى: {ومن الليل فسبحه وأدبار السجود} (¬1). قال ابن جرير رحمه الله: هي الصلاة بالليل من أي وقت صلى. وأنزل على نبيه فيما أنزل {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} (¬2). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محَمدًا عبده ورسوله وفيما أنزل عليه: {فإذا فرغت فأنصب * وإلى ربك فارغب} (¬3)، قال القرطبي: قال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه. إخوة الإيمان! في الهزيع الأخير من الليل يُستجاب الدعاء، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((إن الله يُمهل حتى إذا ذهب ثلث الليل الأول نزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر، هل من تائب، هل من سائل، هل من داع، حتى ينفجر الفجر)) (¬4). وفي الدعاء يجاب المضطر، ويكشف السوء، وتستمر الحياة على وجه الأرض: {أممن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون} (¬5). قال المفسرون: ينبه تعالى أنه المدعو عند ¬

(¬1) سورة ق، الآية: 40. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 79. (¬3) سورة الشرح، الآيتان: 7، 8. (¬4) رواه مسلم ج 758/ 172. (¬5) سورة النمل، الآية: 62.

الشدائد، والمرجو عند النوازل (¬1). أمة الإسلام! كم في المسلمين من شدة، وكم تحيط بهم من نازلة وليس لهم إلاّ الله يرفع عنهم الضرَّ، ويكشف ما بهم من كرب، فهل يا ترى يستفيد المسلمون من هذه الليالي الفاضلة فيرفعون أكف الضراعة لجلاء الغمة، وإزالة أسباب التشرذم والفرقة، لقد عادت غربة الدين في أنحاء واسعة من بلاد المسلمين، وأصبح الغيورون على دين الله غرباء، وأصبحت نُخب العلمانيين تصدِّر للناس من المفاهيم الملوثة ما تشاء، وحلت في ديار المسلمين الفتن والشحناء، وغاب صوتُ الحقِّ أو كاد، لمخالفته الهوى، فإلى الله المشتكى، وفي قصص القرآن سِلوة وعزاء {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} (¬2) احرصوا على الدعاء معاشر المسلمين، وادعوا دعاء المضطر إلى الله الموقن بالإجابة، مستحضرين آداب الدعاء، ومتفطنين لأسباب القبول، وموانع الإجابة، ومتحرين لأوقات سماع الدعاء، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الدعاء أسمع؟ قال: ((جوف الليل ودبر الصلوات المكتوبة)) (¬3). إخوة الإيمان! وها هنا يحسن التنبيه على خطأ يقع فيه بعض الداعين أئمة كانوا أو مأمومين، ألا وهو الاعتداء في الدعاء، وذلك برفع الأصوات، أو بالدعاء بغير المأثور من الدعوات، أو بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من المعونة على ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 3/ 612. (¬2) سورة القصص، الآيتان: 5، 6. (¬3) رواه الترمذي وحسنه (رياض الصالحين/ 475).

المحرمات، أو المستحيلات كالتخليد في الدنيا، أو الاطلاع على الغيب، أو غير ذلك من صور الاعتداء التي تذهب بالخشوع وتفقد الاقتداء بهدي المرسلين، والله يقول مادحًا لأوليائه وأصفيائه: {فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} (¬1)، وينهى عن الاعتداء في الدعاء ويقول: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين} (¬2). ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام جزل طيب في إخفاء الدعاء وعدم الاعتداء فيه، وقد ذكر له فوائد عديدة وأحصى منها عشرًا هي باختصار: أولها: أنه أعظم إيمانًا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي. ثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم، فإذا كانت الملوك لا ترفع الأصوات عندها، فملك الملوك أحرى. وثالثها: أنه أبلغُ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبُّه ومقصوده. ورابعها: أنه أبلغ في الإخلاص. وخامسها: أنه أبلغ في جمعية القلب على الذلة في الدعاء، فإن رفع الصوت يفرقه. وسادسها: وهو من النكت البديعة جدًّا أنه دال على قرب صاحبه للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد، ولهذا أثنى الله على زكريا بقوله عز وجل: {إذ نادى ربه نداء خفيا} فلما استحضر القلب قرب الله عزّ وجل، وأنه أقرب إليه من كل قريب أخفى دعاءه ما أمكنه. ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 90. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 55.

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله للصحابة: ((أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)). وسابعها: أنه ادعى لدوام الطلب واللسان، فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته. وثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات؛ لأنه إذا أخفى لم يدر به أحد بخلاف إذا جهر فطرت له الأرواح البشرية، ولابد فأفسدت عليه دعاءه بخلاف إذا أسر. وتاسعها: أن أعظم النعمة الإقبال والتعبد، ولكل نعمة حاسد على قدرها، ولا نعمة أعظم من هذه وبالإسرار يسلم من حسد الحاسدين بإخفاء هذه النعمة التي منحه الله إياها. وعاشرها: أن الدعاء هو ذكرٌ للمدعو سبحانه وتعالى، متضمن للطلب والثناء عليه بأوصافه وأسمائه فهو ذكرٌ وزيادة .. وإذا كان ذلك كذلك فالله قال في شأن الذكر {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة} والتمسكن والانكسار هو روح الذكر والدعاء. ومن رام المزيد والتفصيل فليرجع للفتاوى في جزئها الخامس عشر (¬1). أيها الصائمون! ثمة سُنَّة نبوية يحسن التذكير بها هذه الأيام، إنها الاعتكاف، وحقيقتها لزوم مسجد لطاعة الله والانقطاع عن الدنيا وعلائقها، والإقبال على الله وقصر القلب عليه وحده دون سواه، والتبتل إليه وسؤاله ورجاؤه. قال الإمام الزهري رحمه الله: عجبًا للمسلمين تركوا الاعتكاف مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ¬

(¬1) الفتاوى 15/ 15 - 22.

تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل. أجل لقد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأول من رمضان، ثم العشر الأواسط يلتمس ليلة القدر، ثم تبين له أنها في العشر الأواخر فداوم على اعتكافها، عجبًا لمن يبحثون عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم هم لا يكترثون بسنة الاعتكاف ولو حينًا من الدهر، وعجبًا لمن يبحثون عن الخير مظانه ثم هم يقصرون عن سنة الاعتكاف ويعللون أنفسهم بالمشاغل وارتباطات الحياة، وهل يبلغون معشار ما لدى النبيِّ صلى الله عليه وسلم من مهام ومسئوليات، ومع ذلك داوم على الاعتكاف حتى لقي الله، بل لقد اعتكف أزواجه من بعده، اقتداء بسنته كما ثبت في الحديث المتفق على صحته، وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مستحاضة من أزواجه فكانت ترى الحمرة والصفرة، فربما وضعنا الطست تحتها وهي تصلي)) قال الشيخ الألباني: وفي هذه الأحاديث دليل على جواز اعتكاف النساء ولا شك أن ذلك مقيد بإذن أوليائهن لذلك، وأمن الفتنة والخلوة مع الرجال للأدلة الكثيرة في ذلك، والقاعدة الفقهية: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. فإذا كان الأمر واردًا بالنسبة للنساء -مع توفر الشروط وانتفاء الموانع- فما بال الرجال يزهدون في هذه السنة الثابتة. إن في الانقطاع عن الدنيا لذة وراحة، وفي الخلوة برب العالمين أنس وطمأنينة يحس بهما من انقطع في معتكفه مخلصًا لربه، وما أحوج النفوس لترويضها على الخير، وتربيتها على البرِّ والتقوى، وما أحوج الأمة إلى دعوات مخلصة يعلمُ الله صدق الداعين بها فيبلغ بها عنان السماء ويستجيب لأصحابها، كم فينا من أدواء، وكم في أمتنا من جرح يثعب دمًا، وسل أرض البوسنة والشيشان، وطوّف بكشمير

وبورما وبلاد الأفغان، وفي القرن الأفريقي أحداث ومآس تترى، وطغيان الصهاينة المتعدين في أرض الإسراء ليس يخفى. أيها المسلمون! ليس يُجدي التلاوم شيئًا، ولن يغير الله ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا، ومصيبة عظمى أن يستسلم المسلمون لواقعهم ويستشعروا إلى الأبد هزيمة الأعداء، أو يصابوا بالإحباط، فيظنوا فوات الفرص كلها، وقد وعد الله باليسر بعد العسرى، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا، فهل يستثمر المسلمون هذه الأيام والليالي الفاضلة باستصلاح أحوالهم والتضرع لخالقهم، أم ترانا ننوح على أمتنا ونحن جزءٌ من هذا الواقع المتردي .. اللهم أصلح أحوالنا واجمع شمل أمتنا، واكفنا شرِّ أعدائنا .. هذا وصلوا وسلموا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

هم العدو الخفي كثرتهم وخطرهم

هم العدو الخفي (¬1) كثرتهم وخطرهم الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}. إخوة الإيمان! لقد تحدث القرآن الكريم عن طوائف من الأعداء ليحذر المسلمون صنيعهم، ولتتقوا شرورهم، ولتستبين سبيل المجرمين، لكنه خصَّ بالعداوة قومًا، وحذّر وأنذر واستوعب الحديث فئة اندست قديمًا .. ولا تزال تندس بين صفوف المؤمنين حديثًا خداعًا وكذبًا وتزويرًا. قال الله فيهم: {هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون} (¬2)، وحذّر النبي صلى الله عليه وسلم منهم، واشتدّ خوفه على أمته منهم فقال: ((أخوف ما أخاف على أمتي كلُّ منافق عليم اللسان)) (¬3). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في يوم الجمعة الموافق 24/ 1/ 1418 هـ. (¬2) سورة المنافقون، الآية: 4. (¬3) أخرجه ابن عدي في الكامل وغيره بسند صحيح (صحيح الجامع الصغير 1/ 127).

والحديث أيها المسلمون عن النفاق والمنافقين حديث يبدأ ولا ينتهي، كيف لا وقد جاء الحديث عنهم في أكثر من نصف سور القرآن المدنية، إذ ورد الحديث عنهم في سبع عشرة سورة مدنية من ثلاثين سورة، واستغرق ما يقرب من ثلاثمائة وأربعين آية من كتاب الله العزيز (¬1)، حتى قال ابن القيم رحمه الله: كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم (¬2). إخوة الإيمان! بلية الإسلام بالمنافقين شديدة جدًّا؛ لأنهم منسوبون إليه وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كلِّ قالب يظن الجاهل أنه علمٌ وإصلاح وهو غاية الجهل والإفساد، فلله كم من معقل للإسلام هدموه، وكم من حصن له قلعوا أساسه وخربوه، وكم من علم له قد طمسوه، وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه، وكم ضربوا بمعاول الشّبه في أصول غراسه ليقلعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبليَّه، ولا يزال يطوقه من شبههم سريَّة بعد سريّة، ويزعمون بذلك أنهم مصلحون {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} (¬3)، كذلك قال العارفون في وصفهم (¬4). أيها المسلمون تُصاب الأمة في مقتلها إذا أتيت من قبل أبنائها، وينجح الأعداء ويتبجحون إن استطاعوا أن يوظفوا من أبناء المسلمين من يحارب الإسلام وقيمه، ويشكك في الانتماء له، ويسخر من المنتسبين له، والمصيبة أعظم حين يمتطى الدين في سبيل تشويه سمعة المتدينين. ¬

(¬1) حديث الإفك، عبد الحليم العبد اللطيف، 40، 41. (¬2) مدارج السالكين 1/ 388. (¬3) سورة البقرة، الآية: 12. (¬4) المصدر السابق: 1/ 377.

وما أصعب الحياة حين يبدأ الناس يتوجسون من حولهم خيفة، وحينها تكون الريبة محلَّ الثقة، ويحلُّ الشك محل اليقين، وما ذاك من أخلاق الإسلام ولا من سمات مجتمع المسلمين، ولكنها بلية النفاق وآثار المنافقين. عباد الله! أعداء الأمة الإسلامية كثر، ولكنَّ حصر العداوة بالمنافقين في قوله تعالى: {هم العدو فاحذرهم} يُراد به إثبات الأولوية والأحقية للمنافقين في هذا الوصف ولا يراد منه أنه لا عدوَّ لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدوًّا من الكفار المجاهرين بكفرهم، فإن الحرب مع أولئك ساعة أو أيامًا ثم تنقضي، ويعقبها النصر والظفر. وهؤلاء -يعني المنافقين- معكم في الديار والمنازل، صباحا ومساءً، يدلّون العدوَّ على العورات، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر، ولا يمكن بل يصعب مناجزتهم (¬1). قاتل الله المنافقين، وأبعد النفاق عن مجتمعات المسلمين، وكم يعصر الفؤاد أن تتعامل مع شخص وأنت تظنه من الأخيار، فإذا به سبع كاشر وهو في دخيلته من الأشرار، بلية وسوء طوية، ودناءة أن يتظاهر المرء بالصلاح والتقى خداعًا ونفاقا، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، ويح المنافقين يظنون أنهم يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون .. وخابوا وخسروا وإن زعموا الإصلاح فهم مفسدون بشهادة العليم الخبير: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} (¬2). ومهما تطاولوا على أهل الإيمان، ورموهم بالسفاهة أو غيرها من رديء الألفاظ ¬

(¬1) بتصرف عن طريق الهجرتين، لابن القيم ص 402 - 404. (¬2) سورة البقرة، الآيتان: 11، 12.

فهم أهلُ السفاهة بشهادة القرآن {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} (¬1). أيها المسلمون! لا يغترُّ المؤمنون بنصح المنافقين وإن زعموا، ولا يغير من واقعهم شيئا وإن علوا المنابر وباسم الإسلام تحدثوا .. وعن قضاياه أحيانًا نافحوا، والله أعلم بما يكتمون. ولله درُّ المؤمنين السابقين حين أسكتوا زعيمهم الأول وعن حقيقته كشفوا، فقد روى ابن إسحاق في السيرة قال حدثني الزهري قال: ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة -مرجعه من أحد- وكان لعبد الله بن أُبي -زعيم المنافقين- مقام يقومه كلَّ جمعة لا يُنكر، شرفًا له من نفسه ومن قومه، وكان فيهم شريفًا إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال: أيها الناس: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم، أكرمكم الله به، وأعزكم به، فانصروه وعزروه، واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس، حتى إذا صنع ابن أبيّ يوم أحد ما صنع -يعني مرجعه بثلث الجيش- قام يفعل ذلك كما كان يفعله، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا: اجلس، أي عدوَّ الله، لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت، فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلتُ بَجْرًا: أي أمرًا عظيمًا. إلخ الرواية (¬2). عباد الله .. ما أكثر المنافقين وهم الأقلون، وما أجبرهم وهم الأذلون، وما أجهلهم وهم المتعالمون، وما أغرّهم بالله إذ هم بعظمته جاهلون {ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} (¬3). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 13. (¬2) انظر السيرة لابن هشام 2/ 105، وتفسير ابن كثير 8/ 153. (¬3) سورة التوبة، الآية: 56، المدارج 1/ 384.

لا يرتفع بهم شأن الإسلام مهما قالوا، ولا يزداد بهم الصفُّ الإسلامي إلا ضعفًا وخبالًا مهما كثروا {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين} (¬1). البلية بهم عامة، وسوادهم ينتشر في أوساط المتعلمين والعامة، والأمر أدهى وأمر حين يتوفرون في صفوف النخب، ويحسبون على أهل العلم والديانة، وبتقرير كثرتهم قال المتقدمون. قال الحسن البصري يرحمه الله: لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرقات (يعني لكثرتهم) (¬2). وسمع حذيفة بن اليمان رضي الله عنه رجلًا يقول: اللهم أهلك المنافقين، فقال: يا ابن أخي: لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك (¬3). أيها المسلمون! لكثرة المنافقين وسهولة الانخداع بهم يجهل حالهم كثير من الناس، بل لقد خفي بعضهم على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وأوحى الله إليه فيما أوحى {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} (¬4). قال الإمام الذهبي رحمه الله: فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم ببعض المنافقين وهم معه في المدينة سنوات، فبالأولى أن يخفى حالُ جماعةٍ من المنافقين ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 47. (¬2) أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى 2/ 698، عن النفاق والمنافقون، د. عبد العزيز العبد اللطيف، مقال في مجلة البيان، عدد 109 رمضان سنة 1417 هـ. (¬3) المدارج 1/ 388. (¬4) سورة التوبة، الآية: 101.

الفارغين عن دين الإسلام بعده عليه السلام على العلماء من أمته (¬1). وإذا خفي ذلك على العلماء كان خفاؤه على العامة والدهماء من باب أولى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم * ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم} (¬2). ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 14/ 343. (¬2) سورة محمد، الآيتان: 29، 30.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، يعلم السرَّ وأخفى، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته ولا يظلم ربُّك أحدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ومع كمال رسالته وحسن خلقه لم يسلم من أذى المنافقين حتى أتهموه في عرضه وآذوا أهله فبرأه الله مما قالوا، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. أيُّها المسلمون! حركة النفاق بدأت بعد انتصار الإسلام في معركة بدر، وحينها شرق المنافقون بالإسلام ولم يكن بإمكانهم مواجهته صراحة، وليس لديهم الاستعداد للدخول فيه عن قناعة وطواعية، فاختاروا طريق النفاق وبئس الخيار وكفاهم خزيًا وعارًا أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، واستمرت هذه النبتة الخبيثة عبر تاريخ الإسلام تختلف أسماؤها ومسمياتها ووسائلها وتتفق في أهدافها وغاياتها، أما بواعث النفاق فهي أغراض نفسية، ومطامع دنيوية، وحب للشهوات، وتفضيل مراد النفس على مراد الله، فهذه الأشياء تمنع أهلها من قبول الحقِّ وتحملهم على معاداة أهله، وإبطان السوء، وكراهية الحقِّ، والتربص بالمؤمنين الدوائر (¬1). والمنافقون -كما قال العالمون- عُشّاق زعامة، وعبيدُ مصالح، لا يُقصِّرون في امتطاء كلِّ مركب يضمن لهم السيادة والقيادة، ومن أجل هذا يؤمنون أوّل النهار ويكفرون آخره .. ويخاطبون كلَّ إنسان بالأسلوب الذي يحبه ويرضاه {وإذا لقوا ¬

(¬1) د. عبد الحليم العبد اللطيف، حديث الإفك ص 39.

الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون} (¬1). البنيان الذي يقام بهم أوهى من بيت العنكبوت، والآمال التي تعلَّق عليهم تتلاشى كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يعتد بهم في الخطوب، ولا يعتمد عليهم حين الشدائد، وإذا كانوا لا يتمالكون أنفسهم حين الفزع ويحسبون كلَّ صيحة عليهم، وإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت، فأنى لهم أن يسعفوا من ركن إليهم أحوج ما يكون إليهم، وحريٌّ بمن رام التعامل معهم أن يقرأ شيئًا من صفاتهم في كتاب الله المعجز، ولا ينبئك مثل خبير. إخوة الإسلام .. وهاكم أركان النفاق الأربعة كما يصورها ابن القيم يرحمه الله إذ يقول: زرع النفاق ينبت على ساقيتين، ساقية الكذب، وساقية الرياء، ومخرجهما من عينين: عين ضعف البصيرة، وعين ضعف العزيمة، فإذا تمت هذه الأركان الأربعة استحكم نبات النفاق وبنيانُه. ولكنه بمدارج السيول على شفا جُرُفٍ هارٍ، فإذا شاهدوا سيل الحقائق يوم تبلى السرائر، وكشف المستور، وبعثر ما في القبور، وحُصِّل ما في الصدور، تبين حينئذ لمن كانت بضاعته النفاق: أن حواصله التي حصَّلها كانت كالسراب {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} (¬2). إخوة الإيمان! وزعُ النفاق، ونماذج المنافقين كما وجدت في عهد النبوة استمرت في العصور الإسلامية، فهي موجودة في زماننا هذا، ولا يكاد يخلو منها ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 14، (عبد الرحمن الدوسري رحمه الله، النفاق وآثاره ومفاهيمه 112). (¬2) سورة النور، الآية: 39. انظر: مدارج السالكين 1/ 389.

عصر أو مصر، لا ينكر ذلك إلا جاهل أو مكابر، بل لقد نص العالمون أن النفاق بعد عهد النبوة أشرُّ وقال حذيفة بن اليمان رَضي الله عنه: المنافقون الذين فيكم شرّ من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال: إن أولئك كانوا يُسرُّون نفاقهم، وإن هؤلاء يعلنون (¬1). وذلك يدعونا جميعًا للحذر من النفاق والخوف على أنفسنا منه، وليس لأحدٍ أن يزكي نفسه بعد اتهام خيار الأمة لأنفسهم وخشيتهم من النفاق، ففي صحيح البخاري معلقًا قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه .. (¬2). تالله لقد قطع خوفُ النفاق قلوب السابقين الأولين، لعلمهم لدقِّهِ وجِلِّه، وتفاصيله وجُمَله، ساءت ظنونهم بنفوسهم حتى خشوا أن يكونوا من جملة المنافقين، قال عمرُ بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما: يا حذيفة نشدتك بالله هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم؟ قال: لا، ولا أزكي بعدك أحد (¬3). يا عبد الله كيف تأمن على نفسك وقد خاف هؤلاء، وكيف تزكيها وقد اتهمها من هو خيرٌ منك، إن من علائم الإيمان أن يتهم المرء نفسه، قال الحسن البصري رحمه الله: ما خاف النفاق إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق (¬4). إخوة الإيمان! لشدة خوف السلف من النفاق كانوا يتعوذون بالله منه في الصلاة، فهذا أبو الدرداء رضي الله عنه إذا فرغ بعد التشهد -في الصلاة- يتعوذ بالله من ¬

(¬1) الفريابي: صفة المنافق 53، عن: عبد العزيز العبد اللطيف، مجلة البيان 23. (¬2) انظر الفتح 1/ 111، وبه تعليق وتوضيح من ابن حجر. (¬3) ابن القيم: مدارج السالكين 1/ 388. (¬4) أخرجه البخاري تعليقًا.

النفاق ويكثر التعوذ منه، فقال له أحدهم: ومالك يا أبا الدرداء - أنت والنفاق؟ قال: دعنا عنك، فوالله إن الرجل ليُقلب عن دينه في الساعة الواحدة فيُخلع منه (¬1). هذه وتلك مدعاة للحديث عن النفاق، إذ مع ضعف الإيمان في هذه الأزمان، وغلبة الهوى والجهل تجدُ الأمن من النفاق والغفلة عنه ولمزيد البيان والتحذير، سأقف في الجمعة القادمة -إن شاء الله- على سمات المنافقين وصفاتهم كما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. اللهم علمنا ما ينفعنا، اللهم أعذنا من النفاق، وطهر بلاد المسلمين من المنافقين. هذا وصلوا. ¬

(¬1) أخرجه الفريابي: صفة المنافق ص 69، وصحح إسناده الذهبي: السير 6/ 382.

هم العدو صفاتهم وملامحهم

هم العدوُّ صفاتهم وملامحهم (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله رب العالمين كتب العزة له ولرسوله وللمؤمنين، وجعل الذِّلة والصغار لأعدائه من الكافرين والمنافقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أرسل رسوله بالهدى ودين الحقِّ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله جاهد الكفار والمنافقين حتى نصره الله عليهم، وليس لأمته أن يتخلفوا عن سنته، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا. {ياأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور} (¬2). {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون} (¬3). {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط} (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 1/ 2/ 1418 هـ. (¬2) سورة لقمان، الآية: 33. (¬3) سورة المائدة، الآية: 35. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 120.

عباد الله! وقد سبق بداية الحديث عن المنافقين وخطرهم وكثرتهم وبلية الإسلام بهم، ومحنة المسلمين معهم، وانخداع البعض بهم، وخوف المؤمنين على أنفسهم من النفاق لخفائه وتشعبه، ووعدت في هذه الخطبة بالحديث عن سماتهم وصفاتهم في الكتاب والسنة. والحديث عن صفات المنافقين وعلاماتهم يكشف لنا طرفًا من إعجاز القرآن الكريم حين فضح السابقين منهم رغم خفائهم وتسترهم بنفاقهم. وبقيت آيات القرآن وستبقى هادية لمعرفة المنافقين في كل زمان ومكان لمن تأمل ونظر بنور الله، ولا يزال المؤمنون يدركون عظمة القرآن ودقة تعبيره كلما أطلَّ النفاق برأسه، وبرزت طوائف من المنافقين، نعم أيها المسلمون ليست ظاهرة النفاق مرحلة مرَّت في التاريخ وانتهت .. كلا وقد سمعتم قول صاحب سرِّ المنافقين حذيفة رضي الله عنه وهو يقول: المنافقون الذين فيكم شرٌّ من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقول الإمام مالك رحمه الله: النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم، وإذا توسع مصطلح النفاق وتعددت مسميات المنافقين في عهد الإمام مالك رحمه الله، أمكن أن يطلق على المنافقين أكثر من مسمى في هذا الزمان إذا توفرت فيهم سيما المنافقين (¬1). ويقول ابن تيمية رحمه الله: والمنافقون ما زالوا ولا يزالون إلى يوم القيامة (¬2). وكذلك قال ابن القيم رحمه الله معللا ذكرهم في القرآن حيث قال: واعلم أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم، فذكر أوصافهم لأوليائه ليكونوا منها على حذر .. (¬3). ¬

(¬1) تفسير القرطبي 1/ 199، حديث الإفك 103. (¬2) الفتاوى 7/ 212. (¬3) مدارج السالكين 1/ 386.

عباد الله! إذا تقرر منحة الإسلام والمسلمين بالمنافقين قديما وحديثا كان لا بد من بيان سماتهم والتعرف على علاماتهم حتى يحذر المسلمون شرورهم ولا يتورطوا بشيء من خلال النفاق وصفات المنافقين على أن حصر جميع صفاتهم والإحاطة بكل علاماتهم ومواقفهم أمر يصعب ويطول وحسبي الإشارة إلى شيء منها. إخوة الإيمان! أما وصف جوارح المنافقين، فأسماع قلوبهم قد أثقلها الوقر فهي لا تسمع منادي الإيمان، وعيون بصائرهم عليها غشاوة العمى فهي لا تبصر حقائق القرآن، وألسنتهم بها خرس عن الحق فهم به لا ينطقون {صم بكم عمي فهم لا يرجعون} (¬1). لقد حكم القرآن بكذب ألسنتهم ومرض قلوبهم وجاءت السنة ببيان قلوبهم المنكوسة، فقال تعالى: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} (¬2). وقال تعالى: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} (¬3). وقال عليه الصلاة والسلام: ((القلوب أربعة .. )) فذكر منها القلب المنكوس وهو قلب المنافق - لأنه عرف الحقّ ثم أنكره (¬4). والمنافقون مع كذبهم يخلفون الميعاد، ويخونون الأمانة، ويغدرون حين يعاهدون، ويفجرون حين الخصومة، كذلك ثبت عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم علاماتهم، ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 18، انظر ابن القيم، المدارج 1/ 380. (¬2) سورة المنافقون، الآية: 1. (¬3) سورة البقرة، الآية: 10. (¬4) رواه أحمد بسند جيد حسن. كما ذكر ابن كثير في تفسيره 1/ 56.

وجاء في بعض الروايات ((وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم)) (¬1). أيها المسلمون! من علامات المنافقين التكاسل عن الطاعات والمراءات حين يؤدون الواجبات، ومن المحكَّات التي تكشفهم الصلوات المكتوبة إذ هي أعظم شعيرة في الدين وثاني أركان الإسلام بعد الشهادتين، والله يقول عن المنافقين {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} (¬2). وقال تعالى: {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} (¬3). فالقيام للصلاة من قبلهم بكسل، ولولا مراءات الناس ما قاموا، ولذا تراهم لا يذكرون الله فيها إلا قليلًا، وينكشف المنافقون أكثر في صلاتي العشاء والفجر - حيث تقلُّ الرقابة وتثقل عليهم الطاعة: ((أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما ولو حبوًا)). يؤخرون الصلاة عن وقتها، وينقرونها نقر الغراب، ويلتفتون فيها التفات الثعلب، وقلِّ ما يشهدون الصلاة مع جماعة المسلمين، ألا فاحذر أيها المسلم مشابهة المنافقين، وأخرج نفسك من دائرة النفاق، وإذا كان هذا شأنهم في الصلاة فلا تسأل عن حالهم في الصيام، أما في الزكاة والصدقات، فقد شهد القرآن ببخلهم وقبض أيديهم، وقال فيما قال عنهم: {ولا ينفقون إلا وهم كارهون} (¬4). عباد الله! حين يتفق العقلاء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمانة بقاء ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) سورة النساء، الآية: 142. (¬3) سورة التوبة، الآية: 54. (¬4) سورة التوبة، الآية: 54.

وصلاح للمجتمع، فيه تحيا الفضيلة وتُرعى، وتحاصر الرذيلة وتُستنكر، ينتكس المنافقون في فهمهم، وتراهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء، يشتركون في السمة والأداء، كما يشتركون في العقوبة والجزاء. قال تعالى: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف} (¬1)، وقال تعالى: {ليعذب الله المنافقين والمنافقات} (¬2). ويبلغ بهم الانتكاس غايته وهم يحسبون الفساد إصلاحًا ويشترون الضلالة بالهدى، وتلك تجارة غير رابحة، وما أولئك بالمهتدين. أجل إن المنافقين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ولا يتورعون في التهم الباطلة، وإن قومًا تطاولوا في تهمهم على مقام بيوت الأنبياء عليهم السلام، لن يتورعوا في إلصاق التهم زورًا وبهتانًا على غيرهم من باب أولى. ولو أن كلَّ ذئب عوى ألقمته حجرًا ... لأصبح الصخر مثقالًا بدينار أيها المسلمون! تاريخ المنافقين حافل بالسخرية بالدين والاستهزاء واللمز بالمتدينين، وتلك طامة كبرى كشف القرآن فيها دخيلة المنافقين وحكم بكفرهم عليها رب العالمين حتى وإن اعتذروا فيها ظاهرًا أمام المسلمين {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} (¬3). ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 67. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 73. (¬3) سورة التوبة، الآيتان: 65، 66.

وكشف عورهم مرة أخرى بالسخرية بالمتطوعين من المؤمنين ووعدهم العذاب الأليم فقال تعالى: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم} (¬1). تُرى أيضيق المستهزئون اللاحقون بالدين والمتدينين على قوارع القرآن بأسلافهم السابقين، أم تُراهم -لشدة جُرمهم- لا ينتفعون بواعظ القرآن وإن سمعوه، كما طُبع على قلوب من سبقهم {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم} (¬2). ويح المنافقين وهم يظنون أنهم يخدعون أهل الإيمان بادعاء الإيمان، ويصرحون لشياطينهم بصدق المودة: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون}. عباد الله! من سيما المنافقين أن ولاءهم للكافرين وإن عاشوا بين ظهراني المسلمين، وقلوبهم مع أعداء الدين، وإن كانوا بألسنتهم وأجسامهم وعدادهم في المسلمين، يخشون الدوائر فيسارعون للولاء والمودة للكافرين، ويسيئون الظن بأمتهم فيرتمون في أحضان أعدائهم ويزعمون إبقاء أيادٍ عند الكافرين تحسبًا لظفرهم بالمسلمين {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين} (¬3). والمنافقون حين الوقيعة أشدُّ خوفًا وأعظم هلعًا، تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت، وودّ المنافقون إذا حلَّ بالمسلمين عدوّ أنهم بعيدون عن مواقع النزال، ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 79. (¬2) سورة محمد، الآية: 16. (¬3) سورة المائدة، الآية: 52.

أشتاتٌ في البوادي القفار من بعد يتخذون الأخبار {يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا} (¬1). أيُستكثر بهؤلاء من قلة؟ أم يُتقوى بهم من ضعف؟ كلا .. إنهم معوِّقون ومخلفون ومفتونون ومبطئون، ولا يأتون البأس إلا قليلا: {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا} (¬2). إنهم جسم غريب في الأمة، وهم نشاز في أمانيهم ومشاعرهم تجاه أهل الملة فإن أصاب المسلمين عافية ونصر وظهور ساءهم ذلك وغمهم، وإن أصابهم ابتلاء وامتحان يمحص الله به ذنوبهم ويكفر به عن سيئاتهم أفرحهم ذلك وسرهم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط} (¬3). نفعني الله وإياكم بهدي القرآن. ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 20. (¬2) سورة التوبة، الآية: 47. (¬3) سورة آل عمران، الآية 120.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين أغاث قلوب المؤمنين بالإيمان، فكان بها مثل السراج يُزهر، وكان كالبقلة يمدها بالماء الطيب، ونكس قلوب المنافقين فكان النفاق فيها كمثل القرحة يمدها القيح والدم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولئن كان ذهاب نور العينين يسمى عمى، فأشدُّ منه أن تعمى القلوب التي في الصدور، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ما فتئ يجاهد المنافقين حتى أظهره الله عليهم، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها المسلمون! من سيما المنافقين وعلاماتهم أنهم يكرهون التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم باطنًا وإن زعموا أن الإيمان بهما ظاهرًا ويميلون إلى حكم الطاغوت وإن لم يقولوا به جهارًا، ولربما ألصقوا التهم الباطلة بمن يدعون إلى الكتاب والسنة مخادعة وتنفيرًا، ولربما خرجت على فلتات ألسنتهم كلماتُ الإطراء للكافرين زورًا وبهتانًا؟ ويح المنافقين {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا} (¬1). {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين * وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون} (¬2). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 61. (¬2) سورة النور، الآيات: 47 - 50.

عباد الله! سياسة التجويع عند المنافقين منهج وطريقة ابتدعوها، وهم يقصدون منها إضعاف انتماء المؤمنين لدينهم وإبعادهم عن هدي نبيهم، وغاب عنهم أن خزائن السماوات والأرض بيد الله، وذلك من قلة فقههم كما حكى الله عنهم {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون} (¬1). والمنافقون أصحاب مصالح وهوى ليس لهم قرار واضح ولا قاعدة ثابتة، فتراهم مع المؤمنين تارة، ومع الكافرين تارة أخرى {الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} (¬2). {وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا * ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ياليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما} (¬3). وما أصعب التأرجح والتذبذب على نفسية الكبار، ولكنها نفسية المنافقين الدنيَّة وسلوكياتهم الهابطة {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا} (¬4). وقال عليه الصلاة والسلام: ((مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى ¬

(¬1) سورة المنافقون، الآية: 7. (¬2) سورة النساء، الآية: 141. (¬3) سورة النساء، الآيتان: 72، 73. (¬4) سورة النساء، الآية: 143.

هذه مرة وإلى هذه مرة)) (¬1). والشاة العائرة -كما في النهاية- هي المترددة بين قطيعين لا تدري أيهما تتبع (¬2). فلا يغرنكم ولاؤهم المتردد فهم مع من غلب، حتى وإن مدحوا ظاهرا لتحقيق مصالح ومطامع من يرجون، فهم يتكلمون بخلافه حين يَخْلون، وذلك ضرب من ضروب النفاق. أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال ناسٌ لابن عمر: إنا لندخل إلى سلطاننا أو أمرائنا فنقول لهم بخلاف ما نتكلم به إذا خرجنا من عندهم، فقال: كُنَّا نعدُّ هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3). ولا يغرركم حديثهم عن الإسلام وهم كاذبون، وبأحكامه لا يعملون، سئل حذيفة رضي الله عنه ما النفاق؟ فقال: أن تتكلم بالإسلام ولا تعمل به (¬4). ألم يقيموا في المدينة مسجدًا قرب مسجد قباء، زعموا أنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية، فهدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه الله مسجد الضرار، وأوحى إلى عبده أن عملهم هذا كفرٌ وتفريق بين المؤمنين، وإن حلفوا أنهم ما أرادوا به إلا الحسنى فهم كاذبون {والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون} (¬5). ¬

(¬1) أخرجه مسلم والنسائي (جامع الأصول 11/ 571). (¬2) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 3/ 328. (¬3) البخاري 13/ 149 في الأحكام، باب ما يكره من ثناء السلطان وإذا خرج قال غير ذلك، جامع الأصول 11/ 571. (¬4) سير أعلام النبلاء 2/ 363. (¬5) سورة التوبة، الآية: 107، وانظر تفسير ابن كثير على هذه الآية.

إخوة الإسلام .. هذه بعض صفات القوم، وتلك بعض ملامحهم وأماراتهم ومن رام المزيد فكتاب الله حافل بذكر صفاتهم وفضائحهم، وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرته زاخرة بكثيرٍ من مواقفهم وعدوانهم وحيلهم. وخلاصة القول فإذا رأيت من يسخر بالدين ويستهزئ بالمتدين، ويقول بالمنكر ويضيق بالمعروف، ويصدُّ من يقر بالتحاكم لكتاب الله، ويدندن حول أحكام الطواغيت، يوالون الكافرين ويتبرمون من المسلمين الصادقين، يضيقون بالخير يحصل للمسلمين وتفرحهم المصيبة تحل بهم، يتكلم بالإسلام ولا يعمل به، يتكاسل عن أداء الواجباب، ويرائي الناس حين يؤدي شيئًا من الطاعات، يتحدث ويكذب، ويعد ويخلف، ويخون حين يؤتمن، يظن الفساد إصلاحًا ويزعم بإشاعة المنكر أنه يسعى للمجتمع إصلاحًا متذبذبون في ولائهم، كاذبون في نصحهم، منافقون في طاعاتهم. إذا رأيت هؤلاء فاعلم أنهم أهل نفاق وعدادهم في المنافقين، وإن صلوا وصاموا وزعموا أنهم مسلمون، فلن نجيز لوحة كتب عليها المنافقون، ولن تجد من يرضى أن يوصم بالنفاق ولو كان من شرار الخليقة لكنها الأعمال تكشفهم والسمات تميزهم. وإيضاح ذلك، والموقف من المنافقين بشكل عام يحتاج إلى حديث آخر، أعان الله ويسر، وسدد وكفى، ووقانا شرَّ الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم طهّر ألسنتنا من الكذب وقول الزور، وأعيننا من الخيانة والفجور، وقلوبنا من الشكِّ والشرك والنفاق، اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولا تخزنا يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، هذا وصلوا.

هم العدو (أنواع النفاق والموقف من المنافقين)

هم العدو (أنواع النفاق والموقف من المنافقين) (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} (¬2). {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} (¬3). اتقوا الله عباد الله واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفّى كلَّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون. أيها المسلمون أستكمل اليوم حديثًا بدأته عن خطر النفاق والمنافقين وكثرتهم، والحذر من الانخداع بهم، وأبرز ملامح المنافقين وصفاتهم، وليس يخفى أنك لن تجد لوحة كتب عليها (المنافقون)، ولن تجد من يرضى أن يُوصم بالنفاق أو يُعد ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 8/ 2/ 1418 هـ. (¬2) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71. (¬3) سورة التوبة، آية: 119.

في المنافقين، ولو كان من شرار الخليقة وكبار المستهزئين والمناوئين للدين والمتدينين الصادقين .. لكنها الأعمال تكشف أهل النفاق. ولحنُ القول يحدد هوية المنافقين، والله يقول وهو أصدق القائلين {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول} (¬1). قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: ((فمعرفة المنافقين في لحن القول ثابتة مُقسم عليها، لكن هذا يكون إذا تكلموا، وأما معرفتهم بالسيما فهو موقوف على مشيئة الله)) (¬2). عباد الله! النفاق كلُّه شرٌّ وبليّة، ولكنه نوعان كما قال ابن كثير: اعتقادي: وهو الذي يخلد صاحبه في النار (وهو الذي يُظهر صاحبه الإسلام ويبطن الكفر) وعملي وهو منْ أكبر الذنوب (وهو التلبس بشيء من علامات المنافقين كالكذب في الحديث، والخُلف في الوعد، ونحوها) (¬3). والنفاق أكبر وأصغر -كما قال ابن تيمية- كالكفر، نفاق دون نفاق، ولهذا كثيرًا ما يقال: كفرٌ ينقل عن الملة، وكفرٌ لا ينقل عن الملة، ونفاق أكبر، ونفاق أصغر .. كما يؤكد شيخ الإسلام أن المنافقين ليسوا بدرجة واحدة ويقول: لم يكن المتهمون بالنفاق نوعا واحدا، بل فيهم المنافق المحض، وفيهم من فيه إيمان ونفاق، وفيهم من إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق (¬4). إخوة الإسلام! ذلك مؤشر على كثرة النفاق وتعدد شعبه حتى إنه ليُداخل أهل ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 30. (¬2) الفتاوى 17/ 118. (¬3) انظر ابن كثير في التفسير مختصرًا 1/ 72. (¬4) الفتاوى 7/ 523، 524.

الإيمان في حال ضعفهم، ويكون تهمة تُوجه إليهم، ألم يقل عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه في شأن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه: ((دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق)). وذلك حين كاتب حاطب المشركين بمكة ببعض أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وحين احتملت سعد بن عبادة رضي الله عنه الحمية وانتصر لابن أبيّ في قصة الإفك، قال له أسيد بن حضير رضي الله عنه: إنما أنت منافق تجادل عن المنافقين. وكذلك قول من قال من الصحابة عن مالك بن الدُّخشم: منافق، وإن كان قال ذلك لِما رأى فيه من نوع معاشرة ومودةٍ للمنافقين (¬1). أيها المؤمنون! هذا يدعو إلى الحذر من النفاق صغيره وكبيره، دقِّه وجلّه، العملي منه والاعتقادي، فقد يؤول النفاق الأصغر بصاحبه إلى النفاق الأكبر، وفي هذا يقول ابنُ رجب رحمه الله: ((والنفاق الأصغر وسيلة وذريعة إلى النفاق الأكبر، كما أن المعاصي بريدُ الكفر فكما يُخشى على من أصرَّ على المعصية أن يسلب الإيمان عند الموت، كذلك يُخشى على من أصرَّ على النفاق أن يُسلب الإيمان فيصير منافقًا خالصا)) (¬2). أيها المسلمون! إذا كان الرياءُ أحد شعب النفاق، وهو شرك أصغر، وهو كما قال عليه الصلاة والسلام: ((أخفى من دبيب النمل)). حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: وكيف ننجوا منه وهو أخفى من دبيب النمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقَه وجلِّه؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)) (¬3). ¬

(¬1) الفتاوى 7/ 523. (¬2) جامع العلوم والحكم، 2/ 492. (¬3) رواه أبو حاتم في صحيحه وغيره (الفتاوى 7/ 524).

فإن الكذب كذلك أحدُ شعب النفاق، وهو يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا، وهكذا بقية شعب النفاق العملية، قد نتساهل بها أحيانًا وهي طريق إلى الضلال والنفاق الأكبر، ألا فليحذر العاقل من شعب النفاق كلِّها، ويتهم نفسه كما اتهم السابقون أنفسهم، وليطيب أعماله كما طيبها السابقون، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، ومن راءى راءى الله به، ومن سمّع سمّع الله به، واحذروا ذا الوجهين فهم شرارُ الخلق كما قال عليه الصلاة والسلام: ((تجدون شرَّ الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه)). وهذا الصنيعُ إن كان في عرف المتأخرين دهاءً ولباقة ومرونةً، فهو في عرف السابقين كذبٌ ونفاق وخيانة. قال القرطبي: ((إنما كان ذو الوجهين شرَّ الناس لأن حاله حالُ المنافق، إذ هو متعلقٌ بالباطل وبالكذب مدخلٌ للفساد بين الناس، وقال النووي -يرحمه الله: هو الذي يأتي كلَّ طائفةٍ بما يُرضيها، فيُظهر لها أنه منها، ومخالفٌ لضدها، وصنيعه نفاق، ومحض كذب)) (¬1). إخوة الإسلام! مع كثرة النفاق وتشعب خصاله، وأهمية الحذر من الوقوع في شيء من ذلك، فأنبه إلى أمرين قد يُظنان من النفاق وليسا كذلك: الأمر الأول: ما يعرض للقلب -أحيانا- من ضعفٍ وغفلة وتغير واشتغال بالأهل والولد والمال بعد سماع الذكر والخشوع والإنابة، وهذا ما عرض للصحابة وخشوا أن يكون نفاقًا، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس نفاقًا، ففي صحيح مسلم عن حنظلة الأسيدي أنه مرَّ ¬

(¬1) انظر: الفتح لابن حجر 10/ 475، مجلة البيان 26/ 9/ 1417.

بأبي بكر الصديق رضي الله عنهما فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله؟ ما تقول؟ قال: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يُذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرًا فقال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره حنظلة بحاله فقال -عليه الصلاة والسلام- ((والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة على فُرُشكم وفي طرِقكم، ولكن يا حنظلة ساعةً وساعةً)) (¬1). إن الإسلام دين واقعي لا يُحرم التمتع بملاذ الدنيا، ولا يمنع من إيناس الناس في حدود ما أحل الله، ولا يعدُّ هذه الغفلة من النفاق ما دامت سريرة الإنسان وعلانيتة طيبة سليمة على حدٍّ سواء. أيها المسلمون! أما الأمر الثاني الذي لا يُعد من النفاق فهو المداراة (والمداراة من أخلاق المؤمنين وهى خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة). ولا سيما مع من بهم فسق أو نفوز عن الحق، فتأليف قلوبهم، والتلطف لهم في المعاملة والانبساط إليهم، والإنكار عليهم بلطف. كل ذلك لا يُعد نفاقًا لكنه أسلوب من أساليب الدعوة، ونوع راقٍ في أدب المعاملة. أما المداهنة فهي المنهي عنه، وهى من خصال المنافقين وشعب النفاق، وهي مجاراة الكافر أو الفاسقّ في باطلهم والانبساط معهم والرضا بحالهم دون الإنكار عليهم، والمداهنة باختصار: تركُ الدين لصلاح الدنيا (¬2). ¬

(¬1) صحيح مسلم بشرح النووي 17/ 67. (¬2) انظر: الفتح لابن حجر 10/ 528، 454.

وإذا علم الفرقُ بين المداراة والمداهنة أمكن العمل بهذه والحذر من تلك، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا * ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا} (¬1). ¬

(¬1) سورة النساء، الآيتان: 88، 89.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وهو العليم الخبير بالمنافقين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين والمبعوث رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم على سائر أنبياء الله والمرسلين. أما بعدُ: في نهاية الحديث عن المنافقين يرد السؤال المهم: وما الموقف الشرعيُّ من المنافقين؟ والمتأمل في كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته، وسير أصحابه، يجدُ الإجابة عن الموقف المشروع من المنافقين في الأمور التالية: أولا: الحذر من المنافقين، قال الله تعالى: {هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون}. ولم لا يكون الحذر من المنافقين وهم يظهرون ما لا يبطنون، ويُسرون ما لا يعلنون، ولربما تحدثوا باسم الدين، وقد يُغترّ بهم فيُحسبون من الناصحين، والله أعلم بما يكتمون، وما أجمل ما نقله القرطبي في الحذر منهم، قال القرطبي رحمه الله: والمعنى احذر أن تثق بقولهم، أو تميل إلى كلامهم واحذر مما يلتهم لأعدائك، وتخذيلهم لأصحابك (¬1). ثانيا: ومع الحذر من المنافقين لابد من كشف خُططهم وفضح أساليبهم، فالمنافقون جُبناء لا يجرأون بالتصريح بما يريدون، بل هم أصحاب حيل، وأرباب مكر وخديعة، وأصحاب ظواهر لا بواطن، فلربما سعوا إلى التدمير باسم التطوير، ولربما سعوا في الأرض فسادًا. هم يزعمون أنهم مصلحون {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}. ¬

(¬1) تفسير القرطبي 18/ 126.

ثالثًا: مجاهدتهم والغلظة عليهم امتثالا لقول الله تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم}. قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتدخل فيه أمته من بعده .. ثم نقل عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، مجاهدة المنافقين باللسان، وشدة الزجر والتغليظ، وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: جاهدوا المنافقين بأيديكم، فإن لم تستطيعوا فبألسنتكم، فإن لم تستطيعوا! إلا أن تكفهروا في وجوههم فافعلوا (¬1). أما الغلظة مع المنافقين -فهي كما حكاها المفسرون- نقيض الرأفة، وهي شدةُ القلب على إحلال الأمر بصاحبة، وليس ذلك في اللسان، واعتبر القرطبي هذه المجاهدة والغلظة مع المنافقين والكفار آخر تشريع حيث قال: وهذه الآية نسخت كلَّ شيء من العفو والصلح والصفح (¬2). رابعا: عدم موالاة المنافقين واتخاذهم بطانة للمؤمنين والحكمة ظاهرة في النص القرآني، قال الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون * هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور} (¬3). ولا أظن الآية تحتاج إلى تعليق. خامسا: عدم الدفاع أو المجادلة عنهم، كما أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فيهم {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين ¬

(¬1) تفسير القرطبي 8/ 204، سير أعلام النبلاء 1/ 497. (¬2) تفسير القرطبي 8/ 205. (¬3) سورة آل عمران، الآيتان: 118، 119.

خصيما * واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما} (¬1). سادسا: تحقيرهم وعدم تسويدهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تقولوا للمنافق (سيد) فإنه إن يك سيدا فقد أسخطتم ربكم عزّ وجل)) (¬2). سابعًا: وعظ المنافقين وتذكيرهم برقابة الله، قال تعالى: {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} (¬3). أيها المسلمون! كفى بالقرآن واعظًا، ولو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعًا من خشية الله، {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد} (¬4). ألا ما أحرى المنافقين أن يتعظوا بالقرآن، ويتذكروا رقابة الملك الديان، ولئن خفيت حيلهم على الخلق في الحياة الدنيا، فسينكشفون غدا، يوم تُبلى السرائر، ولا تخفى منهم ومن غيرهم خافية، هناك يُختم على الأفواه وتشهد الجوارح في هذا الموقف الرهيب أيُّ صاحبٍ ينقذ؟ وأيُّ جهد مهما كان يُسعف من عذاب الله؟ ¬

(¬1) سورة النساء، الآيتان: 105، 107. (¬2) أخرجه أبو داود والنسائي بسند صحيح (صحيح الجامع الصغير 6/ 170). (¬3) سورة النساء، الآية: 63. (¬4) سورة الرعد، الآية: 31.

وأيُّ جسدٍ يُطيق الصبر على النار ولو لحظة من الزمان فكيف بقوم خُلدوا في الدرك الأسفل من النار؟ إن باب التوبة مفتوح، وتثريب النفس ومراجعة الحساب اليوم أهون وأسلم من وقوعها في الحرج والعذاب غدا، وليست أيام الدنيا بالنسبة للآخرة شيئا. أما إن تطاول المنافقون وتجبروا ومردوا في نفاقهم فإن سنة الله في الأولين ماضية في الآخرين، وسيسلط الله عليهم أهل الإيمان ويقهرونهم تحقيقًا لقوله تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا * سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} (¬1). اللهم أنر بصائرنا، وألهمنا رشدنا، واحفظ علينا ديننا، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا. ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآيات: 60 - 62.

الجزء السادس

شعاع من المحراب الجزء السادس إعداد د. سليمان بن حمد العودة

المرأة المسلمة نماذج ووسائل

المرأة المسلمة نماذج ووسائل (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا .. أما بعد: فيتساءل بعضُ الناس عن دور المرأة المسلمة عمومًا وفي أزمنة الأزمات والفتن خصوصًا ولا أبلغ في إجابة هؤلاء من قراءة السيرة النبوية؛ إذ هي محلُّ الأسوة والقدوةِ من جانب، وفيها - من جانب آخر - قدمت المرأة المسلمة عطاءً طيبًا ومميزًا، وخلَّدت ذكرى عطرةً في سبيل خدمة دين الله، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، والسير على هداه، ومجانبة الشرور، والترفُّع عن دنايا الأمور. مما لا يمكن الإحاطة به، ولعل في الإشارة ما يُغني عن الإطالة، وفي النوع ما يكفي عن الكم، وهكذا. أيها المسلمون والمسلمات: وتبقى خديجةُ بنتُ خويلد رضي الله عنها تاجًا على رؤوس النساء، إذ هي أولُ خلق الله أسلم بإجماع المسلمين - كما قال ابنُ الأثير رحمه الله (¬2). وهي سيدةُ نساء العالمين في زمانها، وأول من آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه، وثبَّت جأشه، كما نقل الذهبيُّ رحمه الله (¬3). لله أنتِ يا أم المؤمنين وإيمانُكِ وثباتُك، بل وتثبيتك لرسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يظل منقبةً ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 19/ 10/ 1419. (¬2) أسد الغابة 7/ 78. (¬3) السير 2/ 109.

للنساء، وهو مسطورٌ في أصح الكتب بعد كتاب الله ففي «صحيح البخاري» وفي أول كتاب منه (بدء الوحي) جاء حديث خديجة حين جاءها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يرجفُ فؤاده ويقول: «زمِّلوني زمِّلوني»، فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوع، ثم قال لخديجة: «لقد خشيت على نفسي» وأخبرها بنزول الوحي عليه لأولِ مرة، فكان ردُّ خديجةَ رضي الله عنها: كلا والله ما يخزيك اللهُ أبدًا، إنك لتصلُ الرحمَ، وتحمل الكلَّ، وتكسبُ المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان على صلةٍ بأهلِ الكتابِ ومعرفةٍ بالنبوات .. فزاد من طمأنينة النبي صلى الله عليه وسلم .. الحديث (¬1). أجل، لقد احتفظ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمكارم خديجة وقدَّرها حقَّ قدرها، وعبَّر عن ذلك بقوله: «والله لقد آمنتْ بي إذ كذّبني الناسُ، وآوتني إذ رفضني الناسُ، ورُزقتُ منها الولدَ .. » الحديث وإسناده حسن (¬2). ولم يكن الإيمانُ والثباتُ وحسن العشرة والسابقةُ في الدين هي المناقب الوحيدة للمرأة الأولى في الإسلام، بل كان بذلُ المال في سبيل نشرِ الخير ونصرةِ الدين والإيناسُ والمواساةُ وتخفيفُ آلامِ المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم، كذلك في عداد مناقب هذه السيدةِ الجليلة. أيتها المرأة المسلمة: ولا تظني أن الالتزامَ بالدين في ظروفه الصعبة والانضمام إلى قافلةِ المؤمنين وهم يؤذون ويشردون، خاصٌّ بخديجة رضي الله عنها - رغم تفوقها وتقدمها في ذلك، فقد انضمّ إلى خديجة مجموعةٌ من النساء سبقن في إسلامهن، وصبرن على ما أصابهن في أيام الإسلام الأولى، ويكفي أن يُعلمَ أن عمرَ بن ¬

(¬1) الفتح 1/ 22. (¬2) سير أعلام النبلاء 2/ 112، الإصابة 12/ 217.

الخطاب رضي الله عنه أسلم بعد أربعين رجلًا وعشرٍ من النسوة، كما ذكر ابنُ سعد في «الطبقات». وهذا مؤشرٌ إلى دخولِ عددٍ من النساءِ في الإسلام في مراحله السرية الأولى، واستجابةِ المرأة لنداءِ الخير مبكرًا. أيها المسلمون والمسلمات، وحين احتاج الإسلامُ إلى الدعوةِ علنًا، والهجرة عن الأهل والوطن فرارًا بالدين وإسهامًا في تبليغه لأقوام آخرين، كان للمرأة المسلمةِ وجودٌ وأثرٌ لا ينكر، وفي هجرة الحبشة أسماءُ خيرِّات من النساء من أمثال رقية بنتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسماء بنت عميس، وليلى بنتِ حثمة رضي الله عنهن بل منهن من خرجت مراغمةً لأهلها إذ كانوا حينها من صناديد الكفر، من أمثال أُمِّ حبيبة بنتِ أبي سفيان، وفاطمة بنتِ صفوان بن أمية، وأم كلثوم بنت سهيل بن عمرو (¬1). أفلا تفخر المرأة المسلمةُ المعاصرةُ بهذه النماذج السابقة من النساء، وتتخذ منهن نموذجًا يُحتذى؟ أختاه في الإسلام! ولا تقفُ نماذجُ التمسكِ بالإسلام وإثبات الذات عند المرأة في أرض مكة وحيث يوجدُ بينهن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجههن ويسليهن؛ بل ثبت في كتب التراجم ما يشير إلى حرص المرأة المسلمة على دينها وثباتها على عقيدتها خارج أرضِ مكة، وفي ظروف صعبة وزوجُها لم يُسلمْ معها، بل كان يؤذيها. وفي ترجمة «حواء بنتِ يزيد بن سنان الأنصارية» أنها أسلمت وكانت تكتم زوجها «قيس بن الخطيم، الشاعر» إسلامها، وحين علم بذلك كان يصدها عن الإسلام ويعبثُ بها حين تقومُ لصلاتِها - وهي صابرةٌ ثابتة حتى بلغ خبرُها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأوصاه بها خيرًا .. رضي الله عنها (¬2). ¬

(¬1) السيرة لابن هشام 1/ 400، 401، 406. (¬2) الإصابة 12/ 204.

أيها المسلمون والمسلمات! وما تأخرت المرأة المسلمة في عصر النبوة، عن الدعوة والبيعة، والهجرة والجهاد وتعلُّمِ العلمِ النافعِ وتعليمه وتربية النَّشءِ على الخير والفضيلة، وساهمت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل كانت تُستَشار وتُشير، وبرز منهن العابدةُ والصابرةُ المحتسبة. لكن ذلك كلَّه وفق تعاليمِ الدين، ولم يخرج بهن عن الحشمة والحياء. فأين تعطيل المرأة من المشاركة في الحياة، كما يزعم المرجفون؟ وكتبُ الطبقاتِ والتراجمِ مليئةٌ بمشاركتها الإيجابية في الحياة! ألا وإن من الانتكاس في المفاهيم أن يظنَّ رجال أو نساءٌ أن تفعيل المرأةِ في المجتمع إنما يكون في الغناء والتمثيل ونزع الحجاب، والخلطة بالرجال، والسفرِ دون محرم، ومزاحمةِ الرجل في كل موقع، وتحطيم حواجز الحياء، والسعي الحثيث لإخراج المرأة من بيتها بأي شكل من الأشكال، ولأدنى هدف، ومتابعة الموضة، واتّخاذ النساء الساقطات مثلًا، والتقليد الأبلَه، إلى غير ذلك .. ، ويأبى الله ذلك ورسولُه والمؤمنون. ولئن روَّج لهذه الأفكار الرديئة أعداءٌ من الخارج وفتن بها مفتونون من الداخل، فخرجت المرأةُ المسلمةُ عن طورها في البلاد الإسلامية، وأُنسيت الهدف من وجودها - فما ينبغي للمرأة المسلمة في جزيرة الإسلام وبلاد الحرمين أن تخدع بهذه الصيحات المغرضة - بل ينبغي أن تقدم النموذجَ الأمثلَ للإسلام في ظروفه الراهنة، كما قدمته أخواتُها المسلماتُ في عصر النبوة وما بعده من عصور الإسلام الزاهية .. وليس التحدي في تقليد أصحاب الهِمَم الدنيئة ونزع الحجاب والارتكاس في حمأة الرزيلة، ومجاراة النساءِ الساقطات. ولكن التحدي في الثبات على المبدأ الحق إذا زلت أقدامُ آخرين، واستشعار العزة الإيمانية إذا راجت أفكارُ العلمنة والتغريب. التحدي الحقُّ في

الالتزام بالهوية الإسلامية الصافية، في زمن بات الأممُ تدرك أن من عوامل البقاء أمام غزو الآخرين صدق الانتماء، ونزاهة الولاء، والتحصن بالفكرِ السَّليم، والتسلح بسلاحِ العقيدةِ الحقة في زمن حربِ العقائد وصراع الأفكار، وإثبات الهوية، وتحقيق الذات. وما أسهل السيطرة على أي أمة إذ سُلبت مقوماتُ ثباتِها وكانت تبعًا لغيرها في أفكارها وسلوكياتها، فلا بُدَّ من اليقظة والتذكُّر، أما الغفلة عن التذكير فتورث الانفتاح والفرح الوهمي ثم يعقبه الإبلاس والإفلاس، أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة الأنعام: الآية 44.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين خلق فسوى وقدَّر فهدى، وإليه المنُتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدهُ ورسوله، ترك الأمة على المحجة البيضاء، لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. إخوة الإسلام ولا غرابة أن يوجِّه الإسلامُ عنايته بالمرأة تكريمًا وتحذيرًا، فهنَّ شقائقُ الرجال، وهي - كما يقال - نصفُ المجتمع، وإذا قامت بدورها المطلوب في الرعاية، فهي تتشكل مع المجتمع كلِّه، وربما بالغ بعضُهم فقال: إذا وجهت رجلًا فإنما توجه فردًا، وإذا وجهت امرأةً فإنما توجه أسرة. وبكلّ حال، فلا ينبغي للمرأة المسلمة أن تكون في مهبِّ الرياح .. يأخذ بناصيتها كلُّ ناعق وناعقة، بل عليها أن تستشعر العزة بإيمانها، وأن تعضَّ بالنواجذِ على إسلامها وقيَمِها، وينبغي ألا تُنيب الخيِّرين في الدفاع عن أصالتها وإبطالِ كيدِ الكائدين لها، وفضح المحاولاتِ العابثة لطمس هويتها، وجعلها رقمًا هامشيًا، تابعًا للمرأة الغربية في مسيرتها! حتى ولو كانت النهاية جُحرَ الضبِّ الخَرِبِ، ولا ينبغي لها كذلك أن تتيح الفرصة للأشرار للتقوّل عليها. أيتها المرأة المسلمةُ! وهناك وسائل كثيرة لإسهام المرأة في الدعوة والإصلاح، وأعرض نماذج للتذكير لا الحصر، منها: أن تتواصل المرأةُ المسلمةُ مع القضايا المحيطة بها، من خلال القراءة النافعة، والوعي بالواقع، وبالطرق المشروعة. وثمةَ مجلاَّتٌ إسلامية نافعة، ومطويات مفيدة، وأشرطةٌ حافلة بالمفيد. وهذه وتلك لا ينبغي الزهدُ فيها، بل المشاركةُ فيها قراءةً وكتابةً ودعمًا وتشجيعًا. وفي

محيط البيت تُسألُ المرأةُ عن المساهمة الإيجابية في البرامج المفيدة للأسرة، ولا مجال للسلبية، أو الشعور بالنقص، أو التواضع المرفوض، بل ويسأل الوليُّ: ماذا أعدَّ في بيتهِ من برامج؟ وأوسع من ذلك محيطُ الأسرة الأكبر غير اللقاءات العائلية ومناسبات الأعياد والأفراح .. فأين أثرُ المرأةِ المسلمةِ في هذه اللقاءات، والكلمةُ الطيبة صدقة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «بلِّغوا عنِّي ولو آيةً». وأضعفُ الإيمان أن تكون المرأة في ذاتها قدوةً حسنة لبناتِ جنسها؛ في هيئتها، ولباسها، وعلوِّ همِّتها، لا أن تكون سوقًا حُرةً يُروج فيها ما يُصدر من البيئات الموبوءة، وتتلقف كلَّ جديد مطروح ولو كان فيه حتفُها. أيتها النساءُ، أيُّها الأولياء: وفي الحديث عن وسائل الإصلاح تُسأل الطالبةُ - ما دون الجامعة - ما أثرها في نشر الخير في مدرستها، والأمرُ أهم بالنسبة لطالبات الجامعة، وربما ظنت بعضُ الخيرِّات منهن أن دورهن ينتهي عند حدِّ الالتفاف مع مثيلاتهن، وقضاء الوقت في النقد دون تقديم الحلول، وربما صَعُبَ على بعضهن الخلطةُ مع غيرهن، وأنَّى لهؤلاء أن يساهمن في تقويم ما انحرف من سلوك أو تلوث من فكر؟ ! والمؤمن يألف ويؤلف، ويؤثر وينفع. وتسأل المعلمةُ والمسؤولة عن دورها في تربية الطالبات وتوجههن للخير، ومعالجة ما ترى من سلوكيات شاذة بالأسلوب الأمثل والطريقة التربوية البناءة. أيتها المرأة الموهوبةُ في الكتابة! أين أنتِ من جهاد الكلمة عبر قنواتِ التأثيرِ واسعة الانتشار؟ !

أيتها المرأة القادرةُ على التأليف! أنتِ أقدرُ الناسِ على الكتابة في قضايا المراة وفق رؤية أصيلة، تعتمد على البرهان وتختار العبارة المناسبة، وتتحرَّى الأسلوبَ الأمثل في التأثير. معشر النساءِ: أين أنتنَّ من حِلَق تحفيظ القرآن النسائية تعلمًا أو تعليمًا، ومن الدورات النسائية الصيفية مشاركةً وتوجيهًا، ورصد الظواهر النسائية السلبية وعلاجها كتابةً أو محاضرة ونحوها؟ أيتها الشقائق! وفي سبيل الحماية من الأخطار لا بد من شعور المرأة المسلمة أنها مستهدفةً من قبل الأعداء بالإفساد، فذلك يدعوها للاحتراز والاحتياط وعدم الانخداع. ولا يكفي أن ينتهي دورُها عند حدود ردِّ الهجمات الغازية، بل لا بد لها - مع ذلك - من تقديم البرامج المفيدة وطرح المفاهيم الإسلامية بكل عزةٍ وافتخار. أيتها المرأة المسلمة! وفي سبيل المقارنة بين ما يُريده لك دعاة الإسلام وما يريده لك أدعياء التحرر .. اقرئي التاريخ بعناية، وتأمّلي نتائج الدعوتين والفرق بين المنهجين، والفصل في قوله تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (¬1). وفي قوله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (¬2). أيتها المرأة المسلمة! لا مجال للكسل والتواني، ولا يسوغ لك التفرج في وقت تتصارع فيه الأفكار، ويجلب عليك الأعداءُ بخيلهم ورجلهم. ¬

(¬1) سورة المائدة: الآية 100. (¬2) سورة الرعد: الآية 17.

فكري واعملي ... واجتهدي توفقي ... ولا تحقري من المعروف شيئًا، ولا يخيفنك الذين لا يوقنون، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. وكيد الشيطان ضعيف، ولا يحيق المكرُ السيئُ إلا بأهله.

الموتة الصغرى

الموتة الصغرى (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله صاحب الفضل والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده مقاليدُ السماوات والأرض ... وأمرُ الخلق إليه في الليل والنهار، وفي اليقظة والمنام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، جاءت سنته شاملةً لكل شيءٍ. والموفَّق من كان له في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنة. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬3). إخوة الإيمان! نِعَمُ الله علينا كثيرة لا تحصى {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (¬4)، ومن بين هذه النعم نعمةٌ أنعم الله بها علينا، ونتلبس بها جميعًا، بل لا يكاد يمرُّ يومٌ إلا ونحن تحت تأثيرها، وقلَّ أن يُحسب لهذه النعمة حسابُها. وفينا من يشكر الله عليها .. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 17/ 11/ 1419. (¬2) سورة النساء: الآية 1. (¬3) سورة الحشر: الآية 18. (¬4) سورة النحل: الآية 18.

ومنا من هو غافلٌ عن شكره فيها، كما هو غافلٌ عن الشكر في نعمِ أخرى مثيلة لها .. إنها نعمةُ النوم .. نعمةٌ مجهولٌ قدرُها، فإذا ما أصيب المرءُ بمرض، أو أرق، أو مسَّه شدةُ جوع أو بردٍ، أو حالت هموم دون نومه؛ أدرك قيمة هذه النعمة. وما أطول ليل الأرقين! وما أقضَّ مضاجع المرضى والمهمومين! وفي المقابل، فما ألذَّ النومَ بعد الإعياء والتعب وطول الكَدِّ والبحث في سبل الحياة في مسارب النهار دون أن يكدره مرض أو هموم. عباد الله: والنوم - كما هو نعمةٌ - فهو آية من آيات الله، ألا ترى الخالق - جلَّ جلالُه - يُغشي الليل النهار، فيظلم الكونُ، وتسكن الحياةُ، وينكفِئ الأحياء، وتقلُّ الحركة، ويهدأ الناس، فيطيب المنام، وتسكنُ الأعضاءُ بعد كللها، وتستريحُ بعد تعبها، وصدق الله إذ يقول: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} (¬1). تفكَّر أيها العبدُ - وأنت مدعوٌّ للتفكُّر - وتأمل قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬2). وتأمل في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (¬3). أيها المسلمون .. تلك رحمةٌ من رحمات الله على عباده تستوجب الشكر: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬4). ¬

(¬1) سورة الفرقان: الآية 47. (¬2) سورة النمل: الآية 86. (¬3) سورة الروم: الآية 23. (¬4) سورة القصص: الآية 73.

ترى أيُّ قوة في هذا الكون - سوى قوة الله - تستطيع أن تجعل من الليل هادئًا ساكنًا للمنام، والنهار مبصرًا للحركة وانتشار الأنام؟ ! وأيُّ قوة - مهما بلغت - تستطيع أن تتصرف لو استمر الزمان ليلًا سرمديًا .. أو نهارًا أبديًا؟ ! لا أحد إلا الذي خلق الخلق وقدَّره تقديرًا، وكم هي آياتٌ عظيمة، والتفكرُ فيها يدعو لمزيد الإيمان، ألا وهي قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (¬1). عباد الله وفي النوم سرٌّ من أسرار الله في هذا الكون لا يقدر عليه إلا الله .. أليس في النوم موتٌ ووفاة؟ بلى .. لكنها موتة صغرى، ووفاةٌ إلى أجل .. {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬2). إن الأنفس في المنام يتوفاها الله جميعًا .. فمن شاء أن يُفسح لها في الأجل، أعادها إلى الحياة مرة أخرى، ومن قَدَّر عليها الوفاة، أمسكها فلا يقظة بعد النومة - فمن ذا الذي يُقدِّر هذا ويقدر عليه؟ لا أحد إلا الله، تأمل الآية في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬3). سرٌّ عجيبٌ في النوم يتكرر ولا يكاد يوقظ قلوب الغافلين، أو يستدعي تفكر ¬

(¬1) سورة القصص: الآية 71، 72. (¬2) سورة الأنعام: الآية 60. (¬3) سورة الزمر: الآية 42.

المتفكرين .. وفي لحظة سريعة يغيب المرءُ عن الحياةِ والأحياء .. وفي أخرى يستيقظ، فإذا هو يعيش الحياة ويبصر الأحياء. تُرى، أيُستدل بالنومِ (الموتة الصغرى) على الوفاةِ الكبرى؟ وبالاستيقاظ على البعث والنشور؟ إي وربي لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون. وهناك في أرض المحشر ينكشف ليل المفسدين وتُكشف سوءاتُ الذين ينتشرون بجنح الظلام على فسقهم وفجورهم .. وينسون أنهم، وإن غابوا عن أعين الخلق فهم في رقابة الخالق الذي لا تخفى عليه منهم خافية. هناك ينكشف الفرق بين قوم كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون، صلاةً وتلاوةً وذكرًا ودعاءً، وبالأسحار هم يستغفرون، وبين من يُحيون الليل بسهراتٍ صاخبة، ومجونٍ وفواحش وهم يظنون أنها ليالي حمراء، وغدًا تبدو لهم ولغيرهم لياليَ سوداء وحسرةً وندامةً.؟ وخلاصة القول: فلا ينبغي للعاقل أن يتخذ من هدأة الليل مجالًا للفجور والفسوق .. بدل أن يشكر الله على هذه النعمة، ويأوي إلى فراشه ذاكرًا شاكرًا، مستودعًا ربَّه نفسه إن أمسكها رحِمَها، وإن أرسلها فليحفظها بما يحفظ به عباده المؤمنين .. وكذلك كان يُعلِّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه؛ أن يقول أحدُهم إذا أوى إلى فراشه: «باسمك اللهم ربي وضعتُ جنبي، وباسمك أرفعه، إن أمسكتَ نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادَك الصالحينَ» وما أجمل هذا الدعاء لو تعلمناه وعملنا به! عباد الله: وكما أن النوم نعمةٌ وعبادةٌ يُستعان بها على طاعة الله، فهو ليس كذلك إذا حال بين العبد وبين طاعة ربه، فالصلاةُ خيرٌ من النوم، وهو نداءٌ يطلقه المؤذنون مع انبلاج فجر كلِّ يوم، والخيرون من الناس هم الذين يستجيبون لهذا

النداء، ومن تكرر نومه عن صلاة الفجر دون عذر شرعي، فذلك الذي بال الشيطانُ في أذنه .. وإذا كان هذا في الصلاة، فالنوم كذلك من ضعف النفس ونزغ الشيطان إذا حال بين المرء وطلب علم نافع .. أو داعبَ الأجفان في خطبة الجمعة، أو حال بين المرء وعملٍ صالح .. وهو رحمةٌ وأَمَنَةٌ في حال الجهاد، وقد أصاب المسلمون ومعهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم منه شيءٌ في بعض ملاحمهم مع المشركين كما قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} (¬1). أعوذ بالله من الشطان الرجيم: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} (¬2). ¬

(¬1) سورة الأنفال: الآية 11. (¬2) سورة غافر: الآية 61.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (¬1) وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} (¬2) {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} (¬3). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، كان نومه أعدل النوم، وهو - كما قال ابن القيم رحمه الله -: أنفع ما يكون من النوم، والأطباء يقولون: هو ثلث الليل والنهار ثمان ساعات (¬4). اهـ. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. إخوة الإسلام: وللمصطفى صلى الله عليه وسلم هديٌ في النوم حريٌّ بنا أن نعلمه ونعملَ به، فكان إذا أوى إلى فراشه للنوم قال: «باسمكَ اللهمَّ أحيا وأموتُ» (¬5). وكان من هديه أن يجمع كفيه ثم ينفث فيهما ويقرأ فيهما: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬6)، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (¬7)، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} (¬8)، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده - يفعل ذلك ثلاث مرات (¬9). وكان صلى الله عليه وسلم ينام على شقِّه الأيمن، ويضع يدَه اليمنى تحت خده الأيمن، ثم ¬

(¬1) سورة الأنعام: الآية 96. (¬2) سورة هود: الآية 56. (¬3) سورة هود: الآية 6. (¬4) زاد المعاد 1/ 159. (¬5) رواه البخاري: 7/ 84. (¬6) سورة الإخلاص. (¬7) سورة الفلق. (¬8) سورة الناس. (¬9) رواه البخاري وغيره.

يقول: «اللهمَّ قِنِي عذابَك يوم تبعثُ عبادَك». رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بإسنادٍ صحيح (¬1). ومن دعائه - كذلك إذا أوى إلى فراشه: «الحمدَ لله الذي أطعَمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي» (¬2). وهذا الحديث يذكرنا بجموع من المسلمين في زماننا هذا تسلط عليهم الأعداء فأخرجوهم من ديارهم، فهاموا على وجوههم بحثًا عن الزاد والمأوى، ونسأل الله أن يردهم إلى بلادهم ويمكّن لهم في أرضهم ويهلك عدوّهم، ومن أصبح آمنًا في سربه معافىً في بدنه، وعنده ما يقيته ويؤويه فليشكر ربه. وكان من هديه - عليه الصلاة والسلام - ذكر الله حال النوم، كالتسبيح والتحميد والتكبير، فتلك وصيته لأقرب الناس له، فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، حينما سألاه الخادم فقال: «إذا أَويتما إلى فراشِكُما فسبِّحا اللهَ ثلاثًا وثلاثين، واحمدَاه ثلاثًا وثلاثين، وكبِّراه أربعًا وثلاثين، فذلكم خيرٌ لكُمَا من خادم» رواه الشيخان وغيرهما (¬3). ومن هديه صلى الله عليه وسلم - حال النوم - الوضوء وفي هذا يقول: «طهِّروا هذه الأجساد طهَّركم الله، فإنه ليس عبدٌ يبيت طاهرًا إلا بات معه مَلَك في شغاره، لا ينقلب ساعةً من الليل إلا قال: اللهمّ اغفرْ لعبدك فإنه بات طاهرًا» (¬4). ومن هديه قراءة آية الكرسي، فلا يزال على قارئها من الله حافظ، ولا يقربه ¬

(¬1) زاد المعاد 1/ 156. (¬2) رواه مسلم في «صحيحه» ح 2715. (¬3) انظر: جامع الأصول 4/ 253 - 255. (¬4) رواه الطبراني بسند حسن عن ابن عمر. «صحيح الجامع»: 4/ 15.

شيطان حتى يصبح - كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أبا هريرة رضي الله عنه. وبالجملة: فـ «من اضطجع مضجعًا لا يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله تِرة». رواه أبو داود بإسناد حسن (¬1). وإذا كان من هديه الاضطجاع على الشق الأيمن، فهناك صفة ذميمة في النوم، أيقظ النبيُّ صلى الله عليه وسلم صاحبها؛ ألا وهي النوم على البطن. عن ابن طخفة الغفاري رضي الله عنه قال: قال أبي: بينما أنا مضطجع في المسجد على بطني إذا رجلٌ يحركني برجله فقال: «إنَّ هذه ضِجعة يبغضها الله»، فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح (¬2). وفي بعض الروايات: «تلك نومة أهلِ النَّارِ». ومن أدب الإسلام ألا ينام المرءُ وبيده بقايا من أثر الطعام حتى يغسلها؛ قال عليه الصلاة والسلام: «من نام وفي يده غمرٌ ولم يغسله، فأصابه شيء، فلا يلومنَّ إلا نفسَه». رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح (¬3). ومن آداب النوم أن ينفضَ الإنسانُ فراشَه احتياطًا لما قد يخلفه فيه من بعده، فقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أوى أحَدُكم إلى فراشِه فلينفضْهُ بداخِلَة إزارِه فإنه لا يدري ما خلَّفَه عليه، ثم ليضطجعْ على شقِّه الأيمن، ثم ليقل: باسمِكَ ربِّي وضعتُ جنْبِي، وباسمِكَ أرفعُه، إن أمسكتَ نفسي فارحمْهَا، وإن أرسلتهَا فاحفظْها بما تحفظُ به عبادَك الصالحين (¬4)». ¬

(¬1) رياض الصالحين: 357، 358. والتِّرة: النقص، أو التبعة. (¬2) رياض الصالحين: 357. (¬3) صحيح الجامع: 6/ 361. (¬4) صحيح الجامع الصغير: 1/ 170، 171.

أيها المسلم والمسلمة: وإذا كنت لا تدري إذا صعدت روحُك إلى بارئها - حال النوم - أتكون ممن تُمسك روحه فلا تعود، أم ممن ترسلُ لتستكمل بقية أجلِها .. فليس يليق بك أن تودّع الدنيا بالفجور والعصيان، أو يكون آخر ما يقرع سمعَك ألحان الغناء، وأصوات الموسيقى والتخيلات الباطلة، بل ودِّع الدنيا بخير ما ينبغي أن تودع به؛ نم على ذكر الله، واشكره على عافيته وكفايته، وإيوائه لك، ونم وأنت عازم على القيام للصلاة المكتوبة، وإذا استيقظت فاحمد الله، وقل كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «الحمدُ لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النُّشورُ». رواه البخاري ومسلم. وإذا تعاريت من الليل - أي استيقظت - فقد أرشدك النبي صلى الله عليه وسلم أن تقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يُحيي ويميت بيده الخير وهو على كلِّ شيء قدير، سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر»، فإذا قلت: اللهم اغفرْ لي، أو دعوت استجيب لك، وإن قمت فتوضأت ثم صلِّيت، قُبلت صلاتُكَ. رواه أحمد والبخاري وغيرهما (¬1). أيها المسلم! أما إن أصابك أرق أو فزع أو وحشة، فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلِّم أصحابه من الفزع أن يقولوا: «أعوذُ بكلماتِ الله التَّامة من غضبه ومن شرِّ عباده ومن شرِّ همزات الشياطين وأن يحضرون». حديث حسن أخرجه أحمد وغيره (¬2). وورد أن رجلًا شكى للنبي صلى الله عليه وسلم الأرق، فقال له: «قل: اللهم غارت النجومُ، وهدأتِ العيونُ، وأنت حيُّ قيوم، يا حيُّ يا قيّوم أَنِمْ عيني، وأهدئ بالي» فقالها الرجل، فذهب عنه الأرق (¬3). ¬

(¬1) صحيح الجامع: 6/ 271. (¬2) زاد المعاد: 2/ 468. (¬3) تفسير ابن كثير عند الآية 23 من سورة الروم: 4/ 709.

وهكذا إخوة الإسلام يبدو الإسلام عظيمًا في كل تشريعاته، ينظم أمور الحياة في الليل والنهار، ويرعى المسلم في حال اليقظة وحال المنام، وصدق الله {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (¬1). اللهم فقهنا في ديننا، وارزقنا شكرك وذكرَك وحسنَ عبادتك ... اللهم لك الحمدُ كما آويتنا وكفيتنا ... اللهم اكفِ وأوي من لا كافي له ولا مؤوي من المسلمين. ¬

(¬1) سورة الأنعام: الآية 38.

الجهاد في سبيل الله

الجهاد في سبيل الله (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وكان فيما أنزل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حكم بأن الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله أعظم تجارة تحصل بها النجاة من عذاب الله، وهي سبيل لمغفرة الذنوب، ودخول الجنان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). وأشهد أن محمدًا عبدهُ ورسوله، رغَّب في الجهاد وجعله ذروة سنام الإسلام، وجاءت شريعتُه معلية لمنازل المجاهدين في سبيل الله فقال: «وأخرى يُرفع بها العبدُ مئة درجة في الجنة، ما بين كلِّ درجتين كما بين السماءِ والأرض»، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: «الجهادُ في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله» (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 16/ 5/ 1420 هـ. (¬2) سورة التوبة: الآية 111. (¬3) سورة الصف: الآيات 10 - 13. (¬4) رواه مسلم: «مختصر المنذري» رقم 1071.

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى سائر أنبياء الله ورسله، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬2). أيها المسلمون: الحديث عن الجهاد في سبيل الله حديثٌ عن معالي الأمور، وإن كرهته النفوس كما قال ربنا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬3). إنه حديث عن تحرير الفرد والأمة من عبودية الشهوات، واستنقاذٌ للنفوس من الوَهْنِ والجبن والخور، وهو طريقٌ إلى نشر الدين وإرهاب العدوِّ، ومَدِّ رواق الإسلام في أنحاء المعمورة، وتخليص الأمة من ذُلِّ التبعية، وبه يتميز أهل الإسلام والكفر، وينكشف المنافقون وأهل الريب ومن في قلوبهم مرض. وما فتِئ القرآنُ ينزل معظِّمًا للجهاد وتحذر آياتُه من التباطُؤ عن الخروج لسبب من الأسباب، أو عائق من العوائق الأرضية، ويقول جل ذكره: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬4). ¬

(¬1) سورة المائدة: الآية 35. (¬2) سورة التوبة: الآية 119. (¬3) سورة البقرة: الآية 216. (¬4) سورة التوبة: الآية 24.

ونظرًا لتأخر النفوس أحيانًا عن الجهاد لسببٍ من أسباب الدنيا، فقد جاء العوضُ - في روحةٍ أو غدوةٍ - في سبيل الله كبيرًا وغير متكافئ مع متاع الدُّنيا، وقال صلى الله عليه وسلم: «لغدوةٌ في سبيل الله أو روحةٌ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها» رواه البخاري (¬1). فإذا كان هذا في الغدوة والروحة، فما الظنُّ بما هو أعظم من ذلك من درجات الجهاد؟ أجل، لقد أعلنها محمدٌ صلى الله عليه وسلم على الملأ، وأقسم، وهو الصادق الأمين، برغبته في الجهاد وفضل الشهادة في سبيل الله يوم أن قال: «والذي نفسي بيدهِ لولا أنَّ رجالًا من المؤمنين لا تطيبُ أنفسُهم أن يتخلَّفوا عنِّي ولا أجدُ ما أحملُهم عليه، ما تخلَّفتُ عن سريةٍ تغدو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددتُ أنِّي أُقْتَلُ في سبيل الله، ثم أحيا ثم أُقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل» رواه البخاري (¬2). وفي «صحيح» البخاري ومسلم، واللفظ له، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أحدٍ يدخلُ الجنة يحبُّ أن يرجعَ إلى الدنيا، وأن له ما على الأرض من شيءٍ، غيرُ الشهيد، فإنه يتمنَّى أن يرجعَ فيُقتل عشر مراتٍ، لما يرى من الكرامةِ» (¬3). عباد الله: لا بد من إحياء شعيرة الجهاد في النفوس، ولا بد من العلم أن الجهاد أفضل ما تطوع به الإنسان، وتطوعه بالجهاد في سبيل الله أفضل من تطوع الحج والعمرة وعمارة المساجد، قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ ¬

(¬1) الصحيح مع الفتح: 6/ 13. (¬2) الصحيح مع الفتح: 6/ 16. (¬3) مختصر المنذري: ح 1079، «الفتح» 6/ 32.

الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (¬1) ومن هنا تسابق المؤمنون إلى ميادين الجهاد، ورغبوا في الشهادة، ولا غرابة أن يُلقي أحدُهم بتمرات كانت معه ويقول: لئن أنا بقيت حتى آكل هذه إنها لحياة طويلة! ! ولا غرابة كذلك أن يتسابقوا إلى المرابطة في الثغور وهم يسمعون المصطفى يقول: «رباط يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صيام شهرٍ وقيامِه، وإن مات جرى عليه عملُه الذي كان يعمله، وأُجري عليه رزقُه، وأمِنَ الفتَّان» (¬2). ولهذا قال أبو هريرة رضي الله عنه: لأن أُرابط ليلةً في سبيل الله أحبُّ إليَّ من أن أقوم ليلة القدرِ عند الحجرِ الأسودِ (¬3). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولهذا كان الرباط في الثغور أفضل من المجاورة بمكة والمدينة، والعمل بالرمح والقوس في الثغور أفضلُ من صلاة التطوع (¬4). اهـ. أيها المسلمون: حقًا إن الجهاد في سبيل الله رفعًا لذُلِّ الأمةِ المسلمة، وما فتئ المسلمون، ومنذ غابت عنهم هذه الفريضةُ الإسلامية يتمرغون في أوحال الذلِّ والتبعية، ويسومهم العدوُّ سوء العذاب، وتلك وربي واحدة من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهو القائل: «إذا تباعيتم بالعينة - وهي نوع من الربا - وأخذتم بأذنابِ البقرِ، ورضيتُم بالزَّرع، وتركتم الجهادَ، سلَّط اللهُ عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجِعُوا ¬

(¬1) سورة التوبة: الآية 19، 20. (¬2) رواه مسلم، مختصر المنذري: ح 1075. (¬3) الفتاوى: 28/ 12. (¬4) الفتاوى: 28/ 12.

إلى دِينكم» رواه أحمد وأبو داود بإسنادٍ صحيح (¬1). ومن هنا يَفْرُقُ أعداءُ الملةِ من الجهاد، ويتخوفون كثيرًا من المجاهدين الصادقين، ولذا يَعمدون إلى تشويه صورة الجهاد، ورمْي المجاهدين بأبشع الألقاب، وتكاد صيحاتُ المجاهدين وتكبيرهم تقطع أنياط قلوبهم، وإن كان استعدادهم ضعيفًا. وإذا لم يُستغرب هذا من الأعداء، فإن المؤسف والمستغرب حقًا أن تروج مثلُ هذه الشائعات في بلاد المسلمين، وتتسلل هذه الأفكار المحيطة للجهاد والمشوهة لصورة المجاهدين عند بعض أبناء المسلمين، ويتردد في الإعلام العربي والإسلامي مفاهيم خاطئة عن الجهاد وأهدافه، وعن المجاهدين وصولاتهم. عباد الله: والجهادُ في سبيل الله طريقنا إلى العز والتمكين في الدنيا، وهو طريقٌ موصل للجنة ونعيمها في الآخرة فـ «الجنَّةُ تحت بارقةِ السُّيوفِ» و «الجنّةُ تحت ظلالِ السيوفِ» رواه البخاري (¬2). تُرى، كم نُحدث أنفسنا بالجهاد، وهل نتخوف على أنفسنا من النفاق حين لا نغزو ولا نحدث أنفسنا بالغزو؟ وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم «من مات ولم يغزُ ولم يُحدِّث به نفسَه، مات على شعبةٍ من نفاقٍ». قال عبد الله بنُ المبارك: فنرى أن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3). وقال غيره: والظاهر الموافق للسنة الصحيحة عمومُ ذلك، ولا دليل على هذا التخصيص (¬4). ¬

(¬1) صحيح الجامع: 1/ 175 ح 416. (¬2) الفتح: 6/ 33. (¬3) مسلم، «مختصر المنذري» ح 1073. (¬4) حاشية المنذري: 3.

ومن هنا -معاشر المسلمين- تبدو خطورة تناسي الجهاد، وعدم تحديث النفس به، ويرحم الله أقوامًا وأممًا كانت تنام وتستيقظ على أخبار الجهاد، وترابط الشهور، بل الأعوام، في الثغور لحماية أمة الإسلام، ونشر دين الله ما بلغ الليل والنهار. وفي سنن المرسلين وسِيَرهم - عليهم السلام - هممٌ عالية للجهاد، وفي «صحيح البخاري»: باب من طلب الولد للجهاد، وفيه ساق الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال سليمانُ بنُ داودَ عليهما السلام: لأطوفنَّ الليلةَ على مئة امرأةٍ، أو تسعٍ وتسعين، كلهنَّ يأتي بفارس يجاهدُ في سبيلهِ، فقال له صاحبُه: قل: إن شاء الله، فلم يقل: إن شاء الله، فلم تحمل منهن إلا امرأةٌ جاءت بشقِّ رجلٍ، والذي نفسُ محمدٍ بيده لو قال: إن شاءَ الله؛ لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون» (¬1). وهنا فائدة حيث قال الحافظ ابن حجر: قوله (باب من طلب الولد للجهاد) أي: ينوي عند المجامعة حصول الولد ليجاهد في سبيل الله، فيحصل له بذلك أجرٌ، وإن لم يقع ذلك (¬2). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (¬3). نفعني الله وإياكم. ¬

(¬1) الفتح 6/ 34. (¬2) الفتح 6/ 34. (¬3) سورة النساء: الآية 95، 96.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، جاهد في الله حق جهاده بالقلب واللسان، وبالسيف والسنان، حتى أتاه اليقين، وأقرَّ الله عينه بنصرة الدين، اللهمَّ صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. عباد الله: ولا ريب أن الجهاد يكون بالنفس، والمال، والقلبِ، واللسان. قال ابنُ القيم رحمه الله: والتحقيقُ أن جنس الجهاد فرضُ عين، إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمالِ، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع (¬1). اهـ. أيها المسلمون وليس يخفى أن الإخلاص شرط في قبول الأعمال كلها، وقد جاء النص عليه في الجهاد، قال صلى الله عليه وسلم: «والله أعلم بمن يجاهد في سبيله» (¬2). وجاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم والرجلُ يقاتل للذِّكر، والرجلُ يقاتل ليُرى مكانُه، فمن في سبيل الله؟ قال: «مَنْ قاتل لتكونَ كلمةُ اللهِ هي العُليا، فهو في سبيلِ الله» (¬3). ومن هنا يكون الحديث عن الجهاد الذي ترفع به راية الإسلام وينشر به العدل، ويحقَّق به حكمُ الله في الأرض، ويُذلُّ به الكفار، وتطهر به الأرضُ من الظلم ¬

(¬1) عن الفوزان: الخطب المنبرية. (¬2) البخاري، الفتح 6/ 6. (¬3) رواه البخاري، «الفتح»: 6/ 28.

والجور، ويُخلى بين الناس وعبوديتهم لرب العالمين. وليس الجهادُ الذي تُزهق به الأرواح بغير حق، أو تُدمر به الممتلكات بغير علم ودون فائدة، أو تُرفع به الرايات العميَّة، أو يكون ميدانًا للشهرة، أو تبرز فيه العصبيات والإقليميات الضيقة. أيها المؤمنون، وفي فترات العز والقوة للمسلمين ترفع راياتُ الجهاد، ويبرز القادة المجاهدون، وكلما خيم الضعف في الأمة توارت رايات الجهاد وقلَّ المجاهدون. ومنذ أن بدأ محمدٌ صلى الله عليه وسلم جهاده للأعداء، وراية الجهاد مرفوعةٌ على أيدي خلفائه الراشدين من بعده حتى انساح الإسلام في مشرق الأرض ومغربها، وجاءت الدولة الأموية والعباسية، لتكملا مسيرة الفتح الإسلامي، وهكذا الدولة الأيوبية والمماليك وغيرها من دول الإسلام. وحينها كان الإسلام عزيزًا، والعدوُّ مقهورًا، وأهل الكتاب الذين لا يدينون دين الحقِّ يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون. ومع قوة المسلمين وغلبتهم وتحريرهم البلاد وقلوب العباد كان العدلُ قائمًا، والناس يدخلون في دين الله أفواجًا. ومن روائع عدل المسلمين ما تناقلته كتب التاريخ؛ أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله حين استُخلف وفدَ عليه قومٌ من أهل سمرقند ورفعوا إليه أن قتيبة دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين على غدر، فكتب عمرُ إلى عامله أن ينصِّب لهم قاضيًا ينظرُ فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج المسلمين أخرجوا، فنصب لهم جُمَيع ابن حاضر الباجي، فحكم بإخراج المسلمين على أن ينابذوهم على سواء، فكره أهل سمرقند الحرب، وأقرُّوا المسلمين، فأقاموا بين أظهرهم. اهـ (¬1). ولا عجب أن يؤدي هذا العدلُ من المسلمين إلى انتشار ¬

(¬1) فتوح البلدان: 411.

الإسلام فيما وراء النهر وغيرها من بلاد الله (¬1). تُرى ما الذي حلَّ بالمسلمين حتى تراجعوا عن مراكز القيادة، ولم يتركوا الجهاد فقط، بل تخطفهم العدوُّ وغزاهم في قعر دارهم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬2). ومن لم يَغْزُ غُزي، ومن لم يدع إلى الخير دُعي للشر. أمة الإسلام، ومع فترات الضعف التي تمر بها الأمة المسلمة أحيانًا - فهي أمة خير، وذات رحم ولودَ، بل وذات رسالةٍ خالدةٍ، وقد يفتر جيلٌ أو يتراخى أهلُ عصرٍ ثم يبعث الله جيلًا آخر أكثر قوة وشجاعة، فينصر الله بهم الدين، ويَكبت الأعداء، ويفضح المنافقين. ومن سمات هذه الأمة أن الجهاد فيها ماضٍ إلى يوم القيامة، ومع البَرِّ والفاجر، وذلك بخبر الذي لا ينطق عن الهوى حين قال: «الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ إلى يوم القيامة؛ الأجرُ والمغنم» (¬3). واستنبط العلماء من الحديث: بشرى بقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة؛ لأن مِنْ لازم بقاءَ الجهاد بقاء المجاهدين وهم مسلمون (¬4). أيها المسلمون: ونحن نرى اليوم كم أَرهبت حركات الجهاد -وإن كانت متواضعة - أعداء الله، فأطفال الحجارة في فلسطين، هددوا كيان العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة، وكم أَرعب الأفغان والشيشان من بعدهم روسيا الشيوعية -على الرغم من فارق العددِ والعُدَّة، وهكذا الأمر في البوسنة والهرسك وكوسوفا، ¬

(¬1) البلدان الإسلامية والأقليات، محمود شاكر وزملاؤه ص 328، 329. (¬2) سورة الرعد: الآية 11. (¬3) رواه البخاري، «الفتح»: 6/ 56. (¬4) ابن حجر، «الفتح»: 6/ 56.

وكشمير والفلبين وغيرها من بلاد المسلمين، واليوم في داغستان جهادٌ يثير مخاوف الروس ومَنْ حولهم. ونسأل الله أن يُمكِّن للمسلمين وينصر المجاهدين الصادقين، ويذلَّ الكفرة ويهزمهم أجمعين. عباد الله: والجهادُ بالمال معناه أن تدفع مالًا يستعين به المجاهدون في سبيل الله في نفقتهم ونفقة عيالهم، وفي شراء الأسلحة وغيرها من معدات الجهاد، وفضله عظيم، وقد ذكره الله في كتابه مقدمًا على الجهاد بالنفس، مما يدل على أهميته ومكانته عند الله (¬1). وفي «سنن ابن ماجه»: باب التغليظ في ترك الجهاد، ساق الحديث عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ لم يغزُ، أو يجهِّزْ غازيًا، أو يخلُف غازيًا في أهلهِ بخيرٍ، أصابَهُ اللهُ سبحانه بقارعةٍ قبلَ يومِ القيامةِ» (¬2). ألا فحدثوا أنفسكم معاشر المسلمين بالجهاد، وربُّوا ناشئتَكُم على حُبِّه، وعلِّموهم الرماية وركوب الخيل، وأعينوا المجاهدين الصادقين بأموالكم ودعواتكم. اللهم ارفع راية الجهاد وأزل به ما انتشر من البلاء والفساد. ¬

(¬1) الشيخ صالح الفوزان، «الخطب المنبرية»: 1/ 174. (¬2) إسناد حسن، «صحيح سنن ابن ماجه» 2/ 123 ح 2231.

(1) عداوة الشيطان

(1) عداوة الشيطان (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله وراقبوه واحذروا عداوة الشيطان وجاهدوه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} (¬3). عباد الله: وهناك حقيقة نعترف بها جميعًا، ونحسُّ بأثرها كلما زلَّت بنا القدم عن صراط الله المستقيم، إنها حقيقة من حقائق القرآن، وهي بليةٌ من بلايا بني آدم، تنتقل من الأجداد إلى الآباء إلى الأحفاد، وستظل إلى يوم يبعثون، كذا قدر الله وأراد ليمتحن الناس -وهو بهم أعلم - فيتميّز حزب الله عن حزب الشيطان. والمصيبة -يا عباد الله - أننا نعلم الداء، وربما صعب علينا الاستمرارُ على ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 9/ 10/ 1418 هـ. (¬2) سورة المائدة: الآية 35. (¬3) سورة التوبة: الآية 119.

تعاطي الدواء، تُرى أَيُنَا يُنكر عداوة الشيطان للإنسان، والله يقول مؤكِّدًا: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} (¬1). فالعداوةُ حقٌ لا مرية فيها، تُقرِّرُها هذه الآية ومثيلاتها في القرآن، والهدف منها واضح لا غموض فيه: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}. وبداية العداوة قديمة تتصل بأبينا آدم عليه السلام حين أُمر الملائكة بالسجود له، فسجدوا إلا إبليس خانه أصله ساعة الابتلاء، فأبى أن يسجد لآدم متعللًا بأنه أشرف منه، فقارن بين الأصول ولم يلتفت إلى الأمر بالسجود فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (¬2). ومن عجب أن إبليس وهو يتكبر يعترف ويقرُّ بأن الله هو الخالق، بل يُقر بالبعث والجزاء - وهو القائل: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}: {أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬3). ومن عجب أيضًا أن إبليس -لعنه الله - يطلب النظرة إلى يوم البعث، لا ليندم على خطيئته، ولا ليتوب إلى الله ويرجع ويكفِّر عن إثمه الجسيم، ولكن لينتقم من آدم وذريته جزاء ما لعنه اللهُ وطرده، يربط لعنَةَ الله له بآدم ولا يربطها بعصيانهِ لله (¬4). أيها المسلمون: وإذا كانت هذه بداية العداوة الأولى للشيطان مع الإنسان بشكل عام، فله بدايةٌ مع كل مولودٍ بشكل خاص. روى مسلم في «صحيحه» عن ¬

(¬1) سورة فاطر: الآية 6. (¬2) سورة الأعراف: الآية 12. (¬3) سورة الأعراف: الآية 14. (¬4) الظلال 4/ 2141.

أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صياحُ المولودِ حين يقعُ نزغةٌ من الشيطان» (¬1). وروى البخاري ومسلم في «صحيحيهما» عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مولودٍ يولد إلا نخسَه الشيطانُ فيستهلُّ صارخًا من نخسةِ الشيطان، إلا ابنَ مريمَ وأُمَّه»، ثم قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬2). قال النووي -يرحمه الله -: قال القاضي عياض: إن جميع الأنبياء عليهم السلام يشاركون عيسى في هذه الخصوصية (¬3). إخوة الإيمان: ولا بد من مراغمة الشيطان، والاستعداد للمعركة معه في كل ميدان، إذ من الناس من يبيت معهم الشيطان حيث باتوا ويقبل معهم حيثما قالوا .. يحلُّ معهم ويرتحل، يُحسِّن لهم القبيحَ، ويُكرِّه لهم الحسن، وكفى بما جاء في كتاب الله وصفًا دقيقًا: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} (¬4). وَرَدَ عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}: أي: من قِبَل دنياهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}: أمر آخرتهم، {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} أي: من قبل حسناتهم، {وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} أي: من قِبَل سيئاتهم. وقيل غير ذلك. ¬

(¬1) الفضائل حديث 148. (¬2) سورة آل عمران: الآية 36. (¬3) شرح النووي لمسلم 15/ 121. (¬4) سورة الأعراف: الآية 16، 17.

واختار ابن جرير رحمه الله؛ أن المراد جميعُ طرقِ الخير والشر، فالخيرُ يصدهم عنه، والشرُّ يحبِّبُه لهم (¬1). وقد ثبت في صحيح السنة أن الشيطان يبيت مع الإنسان، فأين يبيت يا ترى؟ في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ لمسلِم؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استيقظ أحدُكم من منامِه فليستنثرْ ثلاث مراتٍ، فإنَّ الشيطانَ يبيتُ على خياشيمه» (¬2). قال الحافظ ابن حجر: ظاهرُ الحديث أن هذا يقع لكل نائم، ويُحتمل أن يكون مخصوصًا بمن لم يحترز من الشيطان بشيء من الذِّكر، كحديث أبي هريرة وفيه: «فكانت له حِرْزًا من الشيطان». وحديث آية الكرسي وفيه: «ولا يقربُكَ شيطانٌ». ويحتمل أن يكون المراد بنفي القرب هنا أنه لا يقرب من المكان الذي يوسوسُ فيه، وهو القلب، فيكون مبيتُه على الأنف ليتوصّل منه إلى القلب إذا استيقظ (¬3). وقال القاضي عياض يرحمه الله: يحتمل أن يكون المبيتُ على حقيقته، فإن الأنف أحدُ منافذِ الجسم التي يُتوصل إلى القلب منها، ويُحتمل أن يكون على الاستعارة، فإن ما ينعقد من الغبارِ ورطوبةِ الخياشيم قذارةٌ توافق الشيطان (¬4). كما ثبت أيضًا أن الذكر وتلاوة القرآن طاردٌ للشيطان. ويكفي أن تقف على قوله صلى الله عليه وسلم، وتعمل به إذا أردت السلامة من الشيطان، فقد ثبت في «صحيح مسلم» من حديث جابرٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا دخل الرجلُ بيتَهُ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير لآية الأعراف: 3/ 390، 391. (¬2) شرح النووي لمسلم 3/ 127. (¬3) الفتح 6/ 343. (¬4) شرح مسلم 3/ 127.

فذكَر اللهَ عند دخولِه وعند طعامِه قال الشيطانُ: لا مَبيتَ لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكرِ الله تعالى عند دخولِه قال الشيطان: أدركتمُ المبيتَ، وإذا لم يذكرِ اللهَ تعالى عند طعامِه قال: أدركتم المبيتَ والعَشاءَ» (¬1). أيها المسلمون: وهناك فرق بين عداوة الشيطان للإنسان، وعداوة الإنسان للإنسان، أبانَ الله عنها في ثلاث آيات لا رابع لهن، فتأملوهن وتأملوا ما فيهن من توجيه وفرق، قال في الأولى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} (¬2)، وقال في الثانية: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ (98)} (¬3)، وقال في الثلاثة: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، إلى قوله: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬4). قال الحافظ ابن كثير يرحمه الله: فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها، وهو أن الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي، والإحسان إليه ليرده عن طبعه الطيب الأصل إلى الموالاة والمصافاة، ويأمرُ بالاستعاذة من العدو الشيطاني لا محالة، إذ لا يقبل مصانعة ولا إحسانًا، ولا يبغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل. فهل نتنبَّه لطبيعة العداوة مع الشيطان، وهل نراغمه في الإصلاح فيما بيننا؟ ¬

(¬1) شرح النووي 13/ 190. (¬2) سورة الأعراف: الآية 199، 200. (¬3) سورة المؤمنون: الآية 96 - 98. (¬4) سورة فصلت: الآية 34 - 36.

عباد الله! ونحن نشهد آثار عداوة الشيطان ومكره كلما امتد الزمان أو اختلف المكان. فإذا رأيت القتل بغير حق فثَمَّ الشيطان، وإذا رأيت التفريق بين المؤمنين، وشيوع الحسد والبغضاء والقطيعة والشحناء فهناك تُنصب رايةُ الشيطان، وإذا رأيت شيوع الفواحش وانتشارَ المنكرات، ففي أجوائها يطرب الشيطان ويجتمع، وعلى موائد الحرام وأماكن اللهو المحرم يحضر الشيطان وجنده، وكلما قلَّ ذكرُ الله احتوشت الشياطينُ وأحاطت. إلى غير ذلك من وسائل الشيطان وخطواته فاحذروها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208)} (¬1). ¬

(¬1) سورة البقرة: الآية 208.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، حفظ أولياءه المخلصين من كيد الشيطان، وجعل سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مؤمنون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلٍّ وسلم عليه وعلى إخوانه وآله وأصحابه. إخوة الإسلام: وقد ذكر ابنُ القيم -رحمه الله - أن عداوة الشيطان للإنسان تتمثل في ست مراتب، فتأملها وانظر فيما أنت منها، وجاهد نفسك على الخلاص منها: (1) المرتبة الأولى: الكفرُ والشرك، ومعاداةُ الله ورسوله -عياذًا بالله من ذلك - فإذا ظفر الشيطان بذلك من ابن آدم بردَ أنينُه، واستراح من تعبه معه، وذلك أول ما يريد من العبد، فإن ظفر به صيَّره من عسكرِه ونوابه، فصار من دعاته. فإن يئس من ذلك نقله للمرتبة الثانية من الشرِّ وهي: (2) البدعة؛ لأنها أحبُّ إليه من الفسوق والعصيان؛ لأن ضررها متعدٍّ في الدين، وهي مخالفة لدعوة الرسل عليهم السلام. فإن كان الشخص ممن يعادي أهل البدع نقله إلى المرتبة الثالثة وهي: (3) الكبائر على اختلاف أنواعها، فيحرصُ أن يوقعه فيها، خاصة إذا كان عالمًا متبوعًا، لينفر الناس عنه، فإن عجز عن هذه نقله إلى التي بعدها وهي: (4) الصغائر التي إذا اجتمعت ربما أهلكت صاحبها، ولا يزال يسهلها عليه حتى يستهين بها، فيكون صاحب الكبيرة الخائف أحسن حالًا منه. فإن أعجزه العبدُ عن هذه نقله للخامسة وهي: (5) إشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب، بل عاقبتها فوتُ الثوابِ

الذي ضاع عليه باشتغاله بها. فإن أعجزه العبدُ عن هذه بأن كان حافظًا لوقته شحيحًا به نقله للتي بعدها وهي: (6) إشغاله بالعمل المفضول عن الفاضل ليزيح عنه الفضيلة ويفوته ثواب العمل الفاضل، ويفتح له أبواب خير كثيرة، كما ورد أنه يأمرُ بسبعين بابًا من أبواب الخير، إما ليتوصل إلى باب واحدٍ من الشر، أو ليفوت بها خيرًا أعظم من تلك السبعين وأجلَّ وأفضل، وهذه المرتبة لا يتوصلُ إلى معرفتها إلا بنور الله يقذفه في قلب العبد، يكون سببه تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله وأحبها إليه وأرضاها له، وهذا لا يعرفه إلا من كان من ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم ونوابه في الأمة وخلافئه في الأرض، والله يمن بفضله على من يشاء من عباده. اللهم مُنَّ علينا بفضلك ولا تجعل للشيطان علينا سبيلًا (¬1). يا أخا الإيمان: وسائِلْ نفسَك مع أيِّ الأصناف أنت في المعترك مع الشيطان، فقد رُوي أن الشيطان تبدَّى ليحيى بن زكريا عليه السلام بهيئة الناصح، فكذبه يحيى، وطلب منه أن يخبره عن بني آدم، فقال: هم عندنا على ثلاثة أصناف: أما صنفٌ منهم، فهم أشدُّ الأصناف علينا، نُقبل عليه حتى نفتنه ونستمكن منه، ثم يتفرغ للاستغفار والتوبة، فيفسد علينا كلَّ شيء أدركنا منه، ثم نعود فيعود، فلا نحن نيأسُ منه، ولا نحن ندرك منه حاجتنا، فنحن من ذلك في عناء. وأما الصنف الآخر: فهم في أيدينا بمنزلة الكرة في أيدي صبيانكم، نتلقفهم كيف شئنا، قد كفونا أنفسهم. ¬

(¬1) بدائع الفوائد: 2/ 260، 262 باختصار.

وأما الصنف الآخر فهم مثلك -يعني يحيى - معصومون لا نقدر منهم على شيء (¬1). أيها المسلمون! وللشيطان مداخل ومنافذ على الإنسان، ووسائل للإغراء والإضلال، ولا شك أن القلب أعظمُ مداخله وأوسع منافذه. يقول ابن القيم في «إغاثة اللهفان»: ولما علم عدوُّ الله إبليس أن المدار على القلب والاعتماد عليه، أجلب عليه بالوساوس، وأقبل بوجوه الشهوات إليه، وزين له من الأحوال والأعمال ما يصدُّه عن الطريق، وأمدَّه من أسباب الغَيِّ بما يقطعه عن أسباب التوفيق، ونصب له من المصائد والحبائل، فإن سلم من الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق، فلا نجاة من مصايده ومكايده إلا بدوام الاستعانة بالله تعالى، والتعرض لأسباب مرضاته، والتجاء القلب إليه وإقباله عليه في حركاته وسكناته، والتحقق بِذُلِّ العبودية للدخول في ضمان: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (¬2). ويصوّر ابن الجوزي رحمه الله في «تلبيس إبليس» أسوار القلب المنيعة، وجنود الشيطان المتسللة من أي ثغرة، والمعركة الدائرة؛ فيقول: واعلم أن القلب كالحصن، وعلى ذلك الحصن سورٌ، وللسور أبواب وفيه ثُلَمٌ -أي نوافذ - وساكنهُ العقل، والملائكة تتردد إلى ذلك الحصن، وعلى جانبه رُبضٌ فيه الهوى، والشيطان يختلف إلى ذلك الربض من غير مانع، والحربُ قائمة بين أهل الحصن وأهل الربض، والشياطين لا تزالُ تدور حول الحصن تطلبُ غفلة الحارس والعبور من بعض الثلم، فينبغي للحارس أن يعرف جميع أبواب الحصن ¬

(¬1) وقاية الإنسان من الجن والشيطان، وحيد بالي ص 125. (¬2) سورة الإسراء: الآية 65، «إغاثة اللهفان» 1/ 6.

الذي قد وُكِّل بحفظه، وجميع الثُلَمِ، وأن لا يفتر عن الحراسة لحظةً، فإن العدو ما يفتر ... إلى أن يقول: وللعدو حملاتٌ؛ فتارة يحمل فيدخل الحصن فيكرُّ عليه الحارس فيخرج، وربما دخل فعاث وأفسد، وربما أقام لغفلة الحارس، وربما جرح الحارس لغفلته وأسر واستخدم .. ثم يختم حديثه ببيان أسباب تمكُّنه من الإنسان، ودخوله القلب ويقول: وأقوى القيد الذي يوثق به الأسرى: الجهل، وأوسطه في القوة: الهوى، وأضعفه: الغفلة، وما دام درعُ الإيمان على المؤمن فإنَّ نبل العدوّ لا يقع في مقتل .. (¬1) إخوة الإيمان: ويبقى حديثٌ عن وسائل الشيطان للإغراء والإغواء، وطرائق الوقاية وسبل التحصين أرجئ الحديث عنها لخطبةٍ لاحقةٍ بإذن الله تعالى، اللهم اعصمنا من كيد الشيطان .. اللهم إنا نعوذ بك من همزات الشياطين، ونعوذ بك ربَّنا أن يحضرونا. ¬

(¬1) «تلبيس إبليس» ص 38، «وقاية الإنسان»: 169.

(2) عداوة الشيطان

(2) عداوة الشيطان (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} (¬2). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} (¬3). إخوة الإسلام: ولا يزال الحديث متصلًا عن عداوة الشيطان وكيده وإضلاله للإنسان، فإذا سبق ما يكشف عداوتَه ومراتب كيده، فحديث اليوم عن وسائله وطرائقه ومداخله على الإنسان. أيها المسلمون: وإذا كان الشرُّ والباطلُ مستقبحًا للنفوس السوية في صورته الطبيعية، فمن وسائل الشيطان في إغواء الإنسان: ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 16/ 10/ 1418 هـ. (¬2) سورة الحشر: الآية 18. (¬3) سورة النساء: الآية 1.

1 - تزيين الباطل وإظهاره بصورةٍ حسنةٍ، عُلم ذلك من قول الشيطان نفسه لربه: {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (¬1). ويصف ابن القيم هذه المكيدة للشيطان ويقول: ومن مكايده أنه يسحرُ العقل دائمًا حتى يكيده، ولا يسلمُ من سحره إلا من شاء الله، فيزينُ له الفعلَ الذي يضره حتى يُخيل إليه أنه من أنفع الأشياء، ويُنفرُ من الفعل الذي هو أنفع الأشياء، حتى يُخيل له أنه يَضره، فلا إله إلا الله! كم فتن بهذا السحر من إنسان! ! وكم حال به بين القلب وبين الإسلام والإيمان والإحسان! وكم جلا الباطل وأبرزه في صورةٍ مستحسنة، وشنَّعَ الحقَّ وأخرجه في صورة مستهجنة! (¬2). 2 - ويندرج تحت هذا وسيلةٌ أخرى للشيطان في إضلال الإنسان ألا وهي تسمية المعاصي بغير اسمها وبأسماء محببة للنفوس، ألم يقل لأبينا آدم عليه السلام: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى} (¬3)؟ وقد ورثَ أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تُحب النفوسُ مسمّياتها، فسمَّوا الخمر بـ «أُمِّ الأفراح» كما قال ابن القيم رحمه الله في «إغاثة اللهفان». ولا يزال الشيطانُ يوحي إلى أوليائه تسمية الأمور المحرمة بغير مسمياتها؛ فتسمع الفائدة بدل الربا، ويسمى التبرج الفاضح بحرية المرأة، ويسمون الاختلاط المستهتر بالتقدم والتمدن، ويسمون المغنية الفاسقة الفاجرة بالفنانة والشهيرة .. وهكذا (¬4). ¬

(¬1) سورة الحجر: الآية 39. (¬2) إغاثة اللهفان: 1/ 110. (¬3) سورة طه: الآية 120. (¬4) وحيد بالي «وقاية الإنسان»: ص 178.

3 - ومن وسائله في الإضلال -من قبيل ذلك - تسمية الطاعات بأسماء منفرة، ووصف أهل الخير بصفات مشينة، وقديمًا أوحى الشيطان إلى أوليائه من قوم عادٍ أن يقولوا لنبيهم هود - عليه السلام: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (¬1)، وأوحى إلى كفار مدين أن يقولوا لشعيب عليه السلام: {لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} (¬2). ووصف موسى وهارون عليهما السلام بالسحر، وقال قوم فرعون: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} (¬3). ولم يسلم محمد صلى الله عليه وسلم من هذا الأذى وتلك التسميات المنفرة من الظالمين؛ {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَّسْحُورًا} (¬4). وما يزال الشيطان ينفخ في سحر المجرمين ليشوهوا صورة الدين والمتدينين ويطلقوا عبارات مشينةً مستهترة لينفرَ الناس من الخير وتُشوَّه صورة الخيرين .. ويأبى الله إلا أن يتم نوره ويكشف للناس الحقيقة .. ولو كره المبطلون. 4 - ومن وسائل الشيطان وطرقه في الإضلال: التدرجُ في الإضلال، إذْ لا يأتي الشيطان للإنسان مباشرة ويقول له: افعل هذه المعصية، أو اترك هذه الطاعة الواجبة، بل يأتيه خطوةً خطوةً حتى يقع في المحظور، ويترك الواجب المشروع، ولهذا حذرنا ربُّنا تبارك وتعالى من اتباع خطوات الشيطان فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (¬5). ¬

(¬1) سورة الأعراف: الآية 66. (¬2) سورة الأعراف: الآية 90. (¬3) سورة طه: الآية 63. (¬4) سورة الفرقان: الآية 8. (¬5) سورة النور: الآية 21.

والحازم الموفق مَنْ يكتشف خطوات الشيطان، ويُغلق منافذه من أول الطريق. 5 - والشيطانُ في إغوائه يظهر بمظهر الناصح الأمين للإنسان: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} (¬1). ولذا حذر اللهُ من فتنته: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} (¬2). 6 - أيها المسلمون: وإذا شعر الشيطان أن الإنسان سيفوت عليه وسينُصر عليه في معركة الإغواء، عمد إلى شياطين الإنس يستنجد بهم ويستعينهم ليعينوه في مهمته، وصدق الله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} (¬3). وكم أثر شياطين الإنس من دعاة الباطل وقرناء السوء على عباد الله بما لم يستطع الشيطان إليه سبيلًا، وقد كان السلفُ يتخوفون من شياطين الإنس، وهذا مالك بن دينار عليه رحمة الله يقول: إن شيطان الإنس أشدُّ عليَّ من شيطان الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانًا (¬4). إخوة الإسلام .. وإذا عرفتم شيئًا من وسائله، فاعلموا شيئًا من مداخله. ألا وإن من أكبر مداخله: الجهل، والغضب، وحبَّ الدنيا، وطول الأمل، والبخل، والكبر، والرياءَ، والعجب والجزع، والهلع، واتباع الهوى، وسوء ¬

(¬1) سورة الأعراف: الآية 21، 22. (¬2) سورة الأعراف: الآية 27. (¬3) سورة الأنعام: الآية 121. (¬4) تفسير القرطبي 7/ 67.

الظن، واحتقار المسلم، واحتقار الذنوب، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمته (¬1). 1) أما الجهل: فهو باب عظيمٌ للانحراف عن صراط الله المستقيم ومدخل واسعٌ من مداخل الشيطان، كيف لا والجاهلُ يفعل الشرَّ وهو يظنُّه خيرًا، وينأى بنفسه عن الخير وهو يحسبه محسنًا. وخسارة الجهل فادحة، وفتقه لا يُرتق إلا بنور العلم والإيمان، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (¬2). وقد قيل: وفي الجهل قبلَ الموتِ موتٌ لأهلهِ ... فأجسامُهمْ قبلَ القُبور قبورُ وإنَّ امرءًا لم يَحْيَ بالعلمِ ميتٌ ... فليس له حتى النشورِ نشورُ 2) أما الغضب فهو داءٌ عضال ومدخل عظيمٌ من مداخل الشيطان، ومن خلاله يتلاعب الشيطانُ بالإنسان كالكرة في يد الغلمان. وليس عبثًا أن يقولَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم للرجل الذي جاء إليه يقول: أوصني، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تغضبْ»، فردَّد الرجلُ مرارًا، والرسول يقول: «لا تغضب» (¬3). زاد أحمد في رواية: قال الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فإذا الغضب يجمع الشرَّ كلَّه (¬4). ¬

(¬1) وحيد بالي «وقاية الإنسان من الجن والشيطان». (¬2) سورة الكهف: الآية 103، 104. (¬3) رواه البخاري «الفتح»: 10/ 519. (¬4) «وقاية الإنسان» ص 195.

إن الغضب مادةٌ للشيطان تُجرِّئه، على فعل القبيح، وتجاوز الحدود، ولو سكن غضبُه لانتقدَ تصرُّفَه، ولما أقدم على ما أقدم عليه، إنه حالةُ ضعفٍ، تحكم الإنسانَ فيها عواطُفه، وتخف سيطرة عقله، ويغيب حلمُه، وكم أوقع الشيطان الغضبان في حبائل من السوء وأنواع من الشرِّ، ما كان له أن يقع فيها لو كان هادئ الطبع، مستعيذًا بالله من الغضب. يقول الغزالي واصفًا حالة الغضبان: يتصاعد عند شدة الغضب من غليان دم القلب دخانٌ مظلم إلى الدماغ يستولي على معادن الفكر، وربما يتعدى إلى معادن الحسِّ فتظلم عينه حتى لا يرى بها، وتسود عليه الدنيا بأسرها، ويكون دماغه مثل الكهف الذي اضطرمت فيه نارٌ فاسودَّ وجهُه، وحمي مستقرُّه، وامتلأت بالدخان جوانبه، وربما تقوى نار الغضب فتغلي الرطوبة التي بها حياة القلب، فيموت صاحبه غيظًا ... إلى أن يقول: ولو رأى الغضبان في حالة غضبه قبح صورته لسكن غضبه حياءً من قبح صورته واستحالة خلقتِه، وقبحُ باطنه أعظم من قبح ظاهره (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} (¬2). ¬

(¬1) إحياء علوم الدين 2/ 643. (¬2) سورة يس: الآيات 60 - 62.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين أشار في كتابه إلى حزبين: حزب الله، وحزب الشيطان، وذكر ما بينهما من المنازل فقال: {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1). وقال: {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (¬2). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالاستعاذة كلما أحسَّ المرءُ بنزغة الشيطان: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)} (¬3). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أوحى اللهُ إليه، فيما أوحى، أنّ من سمات المتقين التذكرُّ والإبصار عند مسِّ الشياطين: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (¬4). اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. عباد الله: وإذا كان الغضبُ داءً ومدخلًا للشيطان فدواؤه وتسكينه بالاستعاذة بالله من الشيطان، كما ورد ذلك في القرآن، وفي صحيح السنة: استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب أحدهما واحمرَّ وجهُه وانتفخت أوداجُه، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إنِّي لأعلمُ كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجدُ: أعوذ بالله من الشيطانِ الرَّجيم»، رواه البخاري ومسلم (¬5). ¬

(¬1) سورة المجادلة: الآية 22. (¬2) سورة المجادلة: الآية 19. (¬3) سورة فصلت: الآية 36. (¬4) سورة الأعراف: الآية 201. (¬5) الفتح 10/ 519، و «مسلم بشرح النووي»: 16/ 163.

وعلى الغضبان أن يغير حالته التي هو فيها؛ فإن كان واقفًا جلس، وإن كان جالسًا اضطجع، وقد ورد عن أبي ذر مرفوعًا: «إذا غضِبَ أحدُكم وهو قائمٌ فليجلسْ، فإن ذهبَ عنه الغضبُ، وإلا فليضْطَجِعْ» رواه أحمد وجوَّد إسناده العراقي. وعليه أن يتوضأ، فالغضب جمرة مُتَّقدة يُطفئها ماء الوضوء بإذن الله. أيها المؤمنون: أما المدخل الثالث من مداخل الشيطان على الإنسان فهو: 3) حبُّ الدنيا - وقد ورد عن الحسنِ مرسلًا: «حبُّ الدينا رأسُ كلِّ خطيئة» (¬1). ومن مأثور حِكَم الحسن البصري يرحمه الله قوله عن الدنيا: رحم اللهُ أقومًا كانت الدنيا عندهم وديعة، فأدوها إلى من ائتمنهم عليها، ثم راحوا خفافًا. وأبلغ من ذلك وأجلُّ قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬2). وقوله صلى الله عليه وسلم: «موضعُ سوطٍ في الجنة خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، ولَغَدْوَةٌ في سبيل الله أو رَوْحةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها» (¬3). ألا وإن الدنيا حين تستحكم في القلوب فهي منفذٌ واسع للشيطان، فبسببها يكون الخصام والتقاطع، وربما وقع القتل وسفك الدماء، هذا فضلًا عن العداوة والشحناء .. وفضلًا عن الغفلة عن ذكر الله وإقامة الصلاة، والغفلة عن الآخرة بنعيمها المرغوب، أو بعذابها المرهوب، والدنيا أقلُّ من هذا وأذل، ويرحم الله الإمام الشافعي حين قال واصفًا الدنيا: الدنيا دارُ مذلةٍ، عمرانُها إلى الخراب ¬

(¬1) ذكره الألباني في «ضعيف الجامع الصغير»: 3/ 90. (¬2) سورة آل عمران: الآية 185. (¬3) رواه البخاري «الفتح»: 11/ 232.

صائر، وساكنها إلى القبور زائر، شملُها على الفرقة موقوف، وغناها إلى الفقر مصروف، الإكثار فيها إعسار، والإعسار فيها يسار، فافزع إلى الله، وارْضَ برزق الله، لا تتسلف من دار فنائك إلى دار بقائك، فإن عيشك ظلٌّ زائل، وجدار مائل، أكثِرْ من عملك، وأقصر من أمَلِكَ (¬1). يا أخا الإيمان: وتأمل كلمات الذي لا ينطق عن الهوى وهو يحذر من حب الدنيا ويقول: «من أُشرب حبَّ الدنيا التاط منها بثلاث: شقاءٌ لا ينفذُ عناه، وحرصٌ لا يبلغ غناه، وأملٌ لا يبلغ منتهاه، فالدنيا طالبة ومطلوبة فمن طلب الدنيا طلبته الآخرة حتى يدركه الموت، ومن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه». قال المنذري: رواه الطبراني (¬2). 4) ومن مداخل الشيطان: الكِبْرُ، وهو بطرُ الحقِّ وغمط الناس، وبه يتعاظم المتكبر نفسَه، وينسى عظمة من خلقَه، بل يُذلُّ نفسه ويجهلُ نهي ربه وتوجيهه للمتكبرين: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} (¬3). {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (¬4). وأين المتكبرون من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخلُ الجنةَ من كان في قلبِه مثقال ذرةٍ من كِبْرٍ» رواه مسلم (¬5) والترمذي. قال النعمان بن بشير على المنبر: إن للشيطان مصالي وفخوخًا، وإن من مصالي ¬

(¬1) وقاية الإنسان .. وحيد بالي: ص 205. (¬2) رواه الطبراني بإسناد حسن «الترغيب والترهيب»: 6/ 17. (¬3) سورة الإسراء: الآية 37. (¬4) سورة غافر: الآية 35. (¬5) مسلم مع النووي: 2/ 89.

الشيطان وفخوخه البطر بأنعم الله، والفخر بإعطاء الله، والكِبْرُ على عباد الله، واتباع الهوى في غير ذات الله. وأنى للإنسان أن يتكبر وأوله نطفةٌ مذرة، وآخره جيفةٌ قذرة، وحشوه فيما بين ذلك بولٌ وعذرة ... ! (¬1). أيها المؤمنون: 5) واتّباعُ الهوى مدخلٌ عظيمٌ من مداخل الشيطان، وطريقٌ للعقوبة والضلال، وكفى بالقرآن واعظًا: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2). قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ذكر الله عز وجل هوىً في القرآن إلا ذَمَّهُ. ثم استشهد لذلك بعدد من الآيات (¬3). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: أنتم في زمانٍ يقود الحقُّ الهوى، وسيأتي زمانٌ يقودُ الهوى الحقَّ (¬4). قال بعض العلماء: ركَّب الله الملائكة من عقل بلا شهوة، وركَّب البهائم من شهوة بلا عقل، وركب ابن آدم من كليهما، فمن غلب عقله على شهوته فهو خيرٌ من الملائكة، ومن غلبت شهوته على عقله فهو شرٌّ من البهائم (¬5). وقال بعض الحكماء: العقلُ صديق مقطوع، والهوى عدوّ متبوع. عباد الله: إياكم أن يتلاعب بكم الشيطان عن طريق الهوى والشهوة. يروى أن ¬

(¬1) وقاية الأنسان ص 216. (¬2) سورة ص: الآية 26. (¬3) تفسير القرطبي 16/ 167. (¬4) تفسير القرطبي 19/ 280. (¬5) أدب الدنيا والدين ص 13، 16.

إبليس قال: أهلكت العباد بالذنوب، فأهلكوني بالاستغفار، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء، فهم يحسبون أنهم مهتدون فلا يستغفرون (¬1). أيها المسلمون: 6، 7) والأمن من مكر الله، أو القنوط من رحمة الله كلاهما مدخلٌ للشيطان، فالأمن من مكر الله يورث الغفلة، والغفلة تورث التهاون، والتهاون سُلَّم الشيطان وسبب الخسران: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (¬2)، ومكرُ الله استدراجُه بالنعمة والصحة (¬3). وإذا لم يستطع الشيطان أن يدخل من باب الأمن من مَكْرِ الله شدد عليه الأمر حتى ييأس ويقنط من رحمة الله، والله يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬4). وإذا أردت السلامة من كيد الشيطان، فلا تأمن مكر الله، وتسرفْ على نفسك بالمعاصي، ولا تقنط من رحمة الله وتُبْ إليه واستغفره مهما عظمت ذنوبك، كن بين الخوف والرجاء، واخش الله واتَّقِه، وقل كما قال القائل: يا ربِّ إنْ عظمتْ ذنوبي كثرةً ... فلقد علمتُ بأنَّ عفوَك أعظمُ إنْ كان لا يرجوكَ إلا محسنٌ ... فبمن يلوذُ ويستجير المجرمُ ما لي إليك وسيلةٌ إلا الرَّجا ... وجميلُ عفوكَ ثم أنِّي مسلمُ قال تعالى في الحديث القدسي: «يا ابنَ آدم إنك ما دعوتَني ورجوتَنِي غفرتُ لك ¬

(¬1) وقاية الإنسان: ص 243. (¬2) سورة الأعراف: الآية 99. (¬3) تفسير القرطبي: 7/ 254. (¬4) سورة الزمر: الآية 53.

على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ لو بلغتْ ذنوبُكَ عَنَانَ السَّماءِ ثم استغفرتني غفرتُ لك ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ إنك لو أتيتني بِقُرابِ الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتُكَ بقُرابها مغفرةً» (¬1). أيها المسلمون: هذا ما اتسع المقام لذكره من وسائل الشيطان ومداخله على الإنسان .. وهناك غيرُها أحصاها العلماء وضبطوها. أما طرق الوقاية وسبل الخلاص من كيد الشيطان فلأهميتها ساُفرد لها حديثًا خاصًا بمشيئة الله. اللهم جَنِّبنا الأهواء المضلة والأدواء المهلكة، واسلك بنا سبل الخير والسلام، فأنت السلامُ ومنك السلام. ¬

(¬1) رواه الترمذي وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه: 5/ 208. وصحح إسناده الألباني «صحيح سنن الترمذي»: 3/ 176.

(3) عداوة الشيطان وسائل وتحصينات الإنسان من الشيطان

(3) عداوة الشيطان (¬1) وسائل وتحصينات الإنسان من الشيطان الخطبة الأولى: الحمد لله رب العالمين، قضى أن الشيطان ليس له سلطانٌ على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، استثنى عباده المخلصين من إغواء الشياطين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، حصَّن أمته بالأوراد والأذكار، فلا سبيل للشيطان على من اتبع هداه وعمل بسنته. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه الميامين، والتابعين ومَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3). إخوة الإسلام! وحريٌّ بمن عرف عداوة الشيطان ومكائِده ومداخله على الإنسان، ووسائله في الإغواء والإضلال؛ أن يعلم السُّبلَ والوسائلَ والحصون التي تحميه بإذن الله من كيد الشيطان .. وكيدُ الشيطان ضعيفٌ كما قال ربُّنا .. وقبل أن ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 23/ 10/ 1418 هـ. (¬2) سورة المائدة: الآية 35. (¬3) سورة الأحزاب: الآية 71.

آتي على بيان شيءٍ من هذه الوسائل المخلِّصةِ من كيده .. أُثير سؤالًا مهمًا يعنى بالدرجة الأولى الأخيار وطلبة العلم، ويعنى غيرهم من باب أولى، والسؤال يقول: هل يعرض الشيطانُ بوساوسه لطلبة العلم وأهل الديانة، أم يكتفي بأهل الجهل والغواية؟ وهل يكثر تعرضه للعبد في حال إنابته إلى ربِّه، أم في حال غفلته واتباع هواه؟ ويجيب شيخُ الإسلام ابن تيمية -عليه رحمة الله - في معرض حديثه عن شكوى الصحابة رضوان الله عليهم للرسول صلى الله عليه وسلم عن ما يجدونه في صدورهم من وسوسة الشيطان حتى قالوا: يا رسول الله! إن أحدنا ليجد في نفسه ما لئن يخرّ من السماء إلى الأرض أحبُّ إليه من أن يتكلم به. -وفي رواية: ما يتعاظم أن يتكلم به؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك صريحُ الإيمانِ»، وفي رواية قال: «الحمدُ لله الذي ردَّ كيدَه إلى الوسوسةِ». ثم يشير الشيخ إلى أن مدافعة الشيطان على هذه الوساوس أعظمُ الجهاد، وإنما صار الإيمان بعدها صريحًا، لما كرهوا هذه الوساوس ودفعوها، فخلص الإيمان فصار صريحًا. ثم يقول الشيخ: ولا بد لعامة الخلق من هذه الوساوس، فمن الناس من يجيبها فيصير كافرًا أو منافقًا، ومنهم من غمر قلبه الشهوات والذنوب فلا يحس بها إلا إذا طلب الدين، فإما أن يصير مؤمنًا، وإما أن يصير منافقًا، ولهذا يعرض للناس من الوساوس في الصلاة ما لا يعرضُ لهم إذا لم يصلُّوا؛ لأن الشيطان يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه والتقرب إليه والاتصال به، فلهذا يعرض للمصلِّين ما لا يعرض لغيرهم، ويعرض لخاصة أهل العلم والدِّين أكثر مما يعرض للعامة، ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من الوساوس والشبهات ما ليس عند

غيرهم؛ لأنه -أي غير طلاب العلم والعبادة - لم يسلك شرع الله ومنهاجه، بل هو مقبلٌ على هواه في غفلةٍ عن ذكر ربه، وهذا مطلوبُ الشيطان، بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة، فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله (¬1). هذه -معاشر العلماء والعباد - لفتةٌ حريةٌ بالتأمل والمجاهدة، ولكن مما يُسري عن هؤلاء أن انتصارهم في معركة وسوسة الشيطان يُعظِّم قدرَهم ويرفع درجاتهم، وخسارتهم لا شك أعظم إن تمكن الشيطان منهم. يقول الشيخ -في تتمة حديثه السابق: وكلما كان الإنسان أعظم رغبة في العلم والعبادة، وأقدر على ذلك من غيره بحيث تكون قوته على ذلك أقوى، ورغبته وإرادته في ذلك أتمَّ، كان ما يحصل له إن سلَّمه الله من الشيطان أعظم، وكان ما يفتتن به إن تمكَّن من الشيطان أعظم، ولهذا قال الشعبي: كل أمةٍ علماؤها شرارها، إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم (¬2). عباد الله: وإذا تبين شمول الشيطان بالإغواء والوسوسة الأخيارَ ومن دونهم، والعلماء ومن سواهم -على درجات وطرائق - تأكد أهمية الخلاص منه، والتحصين ضده بالوسائل المشروعة، وأول التحصينات ضد الشيطان وأهمها: 1 - إخلاص العبادة لله، فالشيطان نفسه يعترف ألاَّ سبيل له على المخلصين: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (¬3). والمخلِص هو الذي يعمل ولا يحبُّ أن يحمَدَه الناسُ، وقيل: هو من يكتم ¬

(¬1) الفتاوى: 7/ 282. (¬2) الفتاوى: 7/ 284. (¬3) سورة الحجر: الآية 39، 40.

حسناته كما يكتم سيئاته (¬1). والإخلاص دوام المراقبة ونسيان الحظوظ كلها، وهو شرط في قبول العمل، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل لا يقبلُ من العمل إلا ما كان خالصًا وابتُغي به وجهُه» (¬2). وكلما كان الإخلاص أقوى، كلما كان كيد الشيطان ضعيفًا -والعكس بالعكس. 2 - ولا بُدَّ مع الإخلاص من علمٍ يعبد المرءُ به ربَّه على بصيرة، وبه يعلم منافذ الشيطان ووساوسه فيبطلها، وبه يعلم سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فيتَّبعها .. ولذا فعالمٌ عاملٌ ناصحٌ لنفسه وللأُمة أشدُّ على الشيطان من مئةِ جاهل أو يزيدون. 3 - ولزوم المسلمين بالحق من وسائل صَدِّ الشيطان. قال عليه الصلاة والسلام: «من أراد بحبوحةَ الجنةِ فليلزم الجماعة، فإن الشيطانَ مع الواحد، وهو من الاثنين أبعدُ» (¬3). ولا شك أن الجماعة المقصودة ما وافق الحقَّ، فهؤلاء ينبغي لزوم طريقتهم في المعتقد والسلوك، فَيَدُ الله مع الجماعة. 4 - والعبادات المشروعة كلها وسائل لصدِّ الشيطان، وإذا كانت الصلاة من أهمها فتأملوا حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في إقامتها ومدخل الشيطان حين التهاون بها، قال عليه الصلاة والسلام: «ما مِنْ ثلاثةٍ في قريةٍ ولا بَدْوٍ لا تقام فيهم الصلاةُ، إلا قد استحوذَ عليهمُ الشيطانُ، فعليك بالجماعةِ فإنما يأكلُ الذئبُ من الغنمِ القاصيةَ» (¬4). ¬

(¬1) تفسير القرطبي: 10/ 28. (¬2) رواه النسائي بسند صحيح، «صحيح الترغيب»: 1/ 6. (¬3) رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح. (¬4) رواه أبو داود بسند حسن 1/ 150، وانظر «صحيح الجامع».

وإذا كانت الصلاة المفروضة مع الجماعة طاردة للشيطان، فصلاة النَّفل في البيت سبيلٌ لنفرة الشياطين، وفي الحديث المتفق عليه: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتِكم ولا تَتَّخذوها قبورًا». قال النووي: حث على النافلة في البيت لكونه أخفى وأبعد من الرياء، وأصون من المحبطات، وَلِيَتَبرك البيتُ بذلك، وتنزل فيه الرحمة والملائكة، وينفر منه الشيطان (¬1). وليس يخفى أن الوضوء والأذان والصلاة كلها وسائل منفِّرة للشيطان. 5 - ومن وسائل طرد الشيطان: الاستعانة بالله والاستعاذة به منه، قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬2). وأوحى الله إلى عبده فيما أوحى: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} (¬3). قال ابن كثير رحمه الله: ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أي: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم، أن يضرَّني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثَّني على فعل ما نهيت عنه، فإن الشيطان لا يكفُّه عن الإنسان إلا الله، ولهذا أمُر بالاستعاذة من شيطان الجنِّ؛ لأنه لا يقبلُ رشوةً ولا يؤثر فيه جميلٌ؛ لأنه شريرٌ بالطبع، ولا يكفُّه عنك إلا الذي خلقه (¬4). وليس عبثًا أن يؤمر المسلم بالاستعاذة بالله من الشيطان في أكثر من موضع، ¬

(¬1) شرح النووي على مسلم: 6/ 68. (¬2) سورة الأعراف: الآية 200. (¬3) سورة المؤمنون: الآية 97، 98. (¬4) تفسير ابن كثير: 1/ 15.

عند الإحساس بنزغِهِ، وعند تلاوة القرآن، وعند افتتاح الصلاة، وعند إتيان الرجل أهلَه، وعند دخول الخلاء، وعند الغضب، وعند نهيق الحمير، ونباح الكلاب (¬1). وبالجملة فالعبد مأمورٌ بالاستعاذة بالله من الشيطان عند حصول الخير، أو وقوع الشر. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أمر سبحانه بالاستعاذة عند طلب العبد الخير؛ لئلا يعوقه الشيطان عنه، وعندما يعرض عليه من الشرِّ ليدفعه عنه عند إرادة العبد للحسنات، وعندما يأمره الشيطان بالسيئات، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزالُ الشيطانُ يأتي أحدَكم فيقول: مَنْ خلق كذا؟ مَنْ خلق كذا؟ حتى يقولَ: من خلق اللهَ؟ فمن وجد ذلك فليستعذ بالله وَلْيَنْتَهِ». فأمر بالاستعاذة عندما يطلب الشيطان أن يوقعه في شرٍّ أو يمنعه من خير، كما يفعل العدوُّ مع عدوه (¬2). 6 - أيها المسلمون: والدعاء سلاحٌ يحفظ الله به المسلم من كيد الشيطان، وقد قال صدِّيق الأمة رضي الله عنه: يا رسول الله علمني شيئًا أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيتُ، قال: «قل: اللهمَّ عالم الغيب والشهادة، فاطر السماوات والأرض، ربَّ كل شيءٍ ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شرِّ نفسي ومن شرِّ الشيطان وشِرْكِه». وفي رواية: «وأن اقترفَ على نفسي سوءًا أو أجرَّه إلى مسلم، قُله إذا أصبحتَ وإذا أمسيتَ، وإذا أخذت مضجعَك» (¬3). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} (¬4). ¬

(¬1) وقاية الإنسان 281 - 285. (¬2) الفتاوى: 7/ 284. (¬3) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسنٌ صحيح، وصححه الألباني (تخريج الكَلِم الطيب) تعليق 9. (¬4) سورة الناس.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا طاهرًا مباركًا فيه، كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته والأسماء والصفات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. إخوة الإيمان: والذَّكر عمومًا والأوراد الشرعية خصوصًا حصونٌ مانعةٌ من الشيطان بإذن الله، والغفلة والإعراض عنهما سبب لتكاثر الشياطين، قال اللهُ تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (¬1). ومثل الذي يذكر الله كمثل رجل طلبه العدو سراعًا فاحتمى ببيت عظيم الأبواب منيع الأسوار، ومن رام هذه الأذكار والأوراد وجدها مجموعةً معتنىً بها من قبل العلماء -عليهم رحمة الله - ومع كثرة انتشار المختصرات لها في المساجد أو في البيوت أو غيرها .. وقد لا تتجاوز الصفحة أو الصفحتين، فقلَّة من الناس هم الذين يهتمون بها ويحفظونها ويرددونها آناء الليل وأطراف النهار على الرغم من أهميتها وعظيم أجرها، وحاجة الإنسان لها للحفظ من كل مكروه. وأسوق نموذجًا لها: روى البخاري ومسلم رحمهما الله، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيء قديرٌ، في يوم مئة مرة، كانت له عدْلُ عشرِ رقاب، وكتبتْ له مئة حسنةٍ، ومُحيتْ عنه مئة سيئةٍ، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذاك حتى يُمسي، ¬

(¬1) سورة الزخرف: الآية 36.

ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاء به إلا رجلٌ عَمِلَ أكثرَ منه» (¬1). وصحّ الخبر «مَنْ قال: أعوذُ بكلماتِ الله التاماتِ من شرِّ ما خلقَ ثلاثًا، لم يضرّه شيءٌ» (¬2). أيها المؤمنون: وفي كتاب الله شفاءٌ ودواء، وفي تلاوته أجرٌ ومَغنم، وبه يُحفظ القارئُ المتمعِّنُ من شياطين الجن والإنس، وقد قال الله لنبيه: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا} (¬3). أجل إن الشاطين تنفر من المكان الذي يتلى فيه القرآن، ولذا جاء الحث على تلاوة القرآن عمومًا، وعلى تلاوة سور مخصوصة طاردة للشيطان من مثل سورة البقرة والمعوذات، وآية الكرسي، والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة. فطيبوا أفواهكم -عباد الله - بتلاوة كتاب الله، وحصِّنوا بيوتكم من الشياطين بالإكثار من تلاوة كتاب الله فيها، وعطِّروا مجالسكم، كما كان السلف يفعلون، بتلاوة كتاب الله، وأحدهم يقول للآخر: ذكِّرنا ربنا. 9 - يا أخا الإسلام: ومما يعينك على الحفظ من الشيطان أن تحفظ جوارحك عما حرم الله عليك، وأن تتذكر أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهاك مؤشرًا لجارحتين تكلَّم العلماء عن أثرهما ومدخل الشيطان من خلالهما؛ يقول ابن القيم رحمه الله عن اللسان والعينين: وأكثر المعاصي إنما يولدها فضول الكلام والنظر، وهما أوسع مداخل الشيطان، فإن جارحتيهما لا يملاَّن ولا يسأمان .. ¬

(¬1) البخاري مع الفتح: 6/ 388، مسلم مع النووي: 17/ 17. (¬2) رواه ابن السني، وفي رواية لمسلم 17/ 31 النووي. (¬3) سورة الإسراء: الآية 45.

وجنايتهما متّسعة الأطراف، كثيرة الشُّعب، عظيمة الآفات (¬1). 10 - عباد الله: وتطهير البيوت من كل وسيلة يجتمع عليها الشياطين من أقصر الطرق لحفظها وحفظ ساكنيها من نزغات الشياطين .. كآلات اللهو المحرم والغناء والأجراس، والتصاليب، والتصاوير المحرمة والتماثيل والكلاب .. مما جاءت النصوص الشرعية ناهية عنه (¬2). 11 - إخوة الإسلام: وحرِيٌّ بمن رام الحفظ من الشيطان ألا يتشبَّه به، فلا يأكل ولا يشرب بشماله، ولا يأخذ ولا يعطي بالشمال، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ويعطي بشماله ويأخذ بشماله، رواه ابن ماجه وصححه المنذري (¬3). وكم هي عوائد سيئة، وعادات مستوردة حين يُستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. ولربما ظن البعض أن استخدام الشمال بدل اليمين في الأمور الكريمة تقدم وحضارة، والحق أنها تبعية مستهجنة، ونزغات شيطانية، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيامن، في شأنه كله فليكن لكم فيه أسوة حسنة. 12 - عباد الله: وإذا كان التثاؤب مدخلًا للشيطان، فإن ردَّه ما استطاع المرءُ، أو وضْعَ يدهِ على فيه يمنعه من الدخول بإذن الله، يقول عليه الصلاة والسلام: «وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فليردَّه ما استطاعَ، فإذا قال: ها، ضحكَ منه الشيطان» (¬4). ¬

(¬1) التفسير القيم ص 627. (¬2) انظر: «وقاية الإنسان من الجن والشيطان» بالي: 365 - 368. (¬3) الترغيب والترهيب: 4/ 191. (¬4) رواه البخاري: 10/ 607 فتح.

وفي الحديث الآخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تثاءبَ أحدُكم فليمسكْ بيدهِ على فيه، فإن الشيطانَ يدخلُ» رواه مسلم. 13 - وإذا كان رديءُ الكلام مدخلًا للشياطين، ففي الكلام الحسن وقاية من نزغات الشياطين، كذلك جاء توجيه خالقنا: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} (¬1). إخوة الإيمان: وثمة عادات ربما مارسها بعض الناس جهلًا منهم أو ضعفًا، وهي من عادات الشيطان، وأولى لهم أن يجتنبوها، فالجلوس بين الظل والشمس جاء النهي عنه، وعُلِّلَ بأنه مجلس الشيطان (¬2). والعجلة من الشيطان .. والمبذِّرون إخوان الشياطين. وتذكر حين تستكبر أنك تشابه الشيطان {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} (¬3). احرص على أن تَتَحلى بكل خُلق كريم .. فذاك سرور وتوفيق في الدنيا ومغنم عظيم في الآخرة. أيها المسلمون: هذا ما تيسر ذكره من وسائل وأعمالٍ تُحصِّن المسلم من كيد الشيطان، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (¬4)، ولا يكفي التّحسُّر والتلاوم على كلِّ نَزغةٍ من نزَغات الشيطان بأنه مسلط على الناس وبأن النفس ضعيفةٌ والربُّ غفور. لا بد من فعل الوسائل وتلمس الأسباب التي يحمي بها المرءُ نفسَه وأهله من كيد الشياطين. ¬

(¬1) سورة الإسراء: الآية 53. (¬2) رواه أحمد في «مسنده»، وجودَّ إسناده المنذري «الترغيب»: 4/ 191. (¬3) سورة البقرة: الآية 34. (¬4) سورة الطلاق: الآية 2.

ولا بد مع ذلك كله من سدِّ جميع المداخل التي يدخل منها الشيطان والتي سبق بيانها. اللهم اصرف عنا كيد الشيطان، اللهم احفظنا بحفظك واكلأنا برعايتك وأعِنّا على أنفسنا.

الفرح المشروع والمذموم

الفرح المشروع والمذموم (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارْضَ اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين وَمَنْ تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3). عبادَ الله: وهذه الأيام، أيامُ أفراحٍ ومناسبات وزواجات ولقاءات، وإجازات وسفريات ونحوها ... وأفراحنا -معاشر المسلمين - لا تُحدُّ بزمان، ولا تُقيَّدُ بمكانٍ، فكلُّ فرحٍ مشروع لأي مسلم، هو فرحٌ لنا جميعًا، وأيُّ نازلةٍ تصيب أحدًا من المسلمين نألم لها جميعًا، ولا غرابة في هذا، فالمؤمنون إخوة، بل تتجاوز أفراحنا مسرح الحياة الدنيا لتتَّصل بالآخرة لمن وفَّقه اللهُ لعمل الصالحات، فهناك ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 4/ 4/ 1420. (¬2) سورة النساء: الآية 1. (¬3) سورة المائدة: الآية 35.

الحُبور والسرور، والأُنس والنعيم المقيم، قال تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا} (¬1). أيها المسلمون: وتجري عوائد الناس في هذه الحياة بالفرح لشفاء مريض، أو عودة غائب، أو انفراج كربة عن مكروب، أو ولادة مولود، أو مناسبة زواج أو نجاحٍ أو ترقيةٍ أو نحو ذلك من أسباب الفرح، وهذا أمرٌ جِبلّيٌّ في بني الإنسان، وقد يُؤجر الإنسان على ذلك الفرح، وقد يأثم إذا جاوز الحدَّ المشروع، والمتأملُ في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجد فيهما الفرح المشروع والممنوع، وما يؤمر به من الفرح وما ينهى عنه، ويجد ألوانًا من الفرح مختلفة في أسبابها ومختلفة كذلك في عواقبها، أجل إنّ فرح المؤمنين، غير فرح الكافرين، وغير فرح المنافقين .. وكل هذه الأفراح جاء القرآن الكريم مبينًا لها، وجاءت سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم مفصلة فيها. عباد الله: أما أفراح المؤمنين فبنصر الله، وبفضله ورحمته، وبالهجرة والجهاد والدعوة في سبيله، وبالخير يقع لأحد من المسلمين؛ يقول تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (¬2). ويقول تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬3). ¬

(¬1) سورة الإنسان: الآية 11 - 13. (¬2) سورة الروم: الآية 4، 5. (¬3) سورة آل عمران: الآية 169، 170.

ويقول تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (¬1). أيها المسلمون: وأَشرف الخلق وأكرمهم على الله كان يُسَرُّ لفتوحات الإسلام ويفرح بسلامة المسلمين وعودة غائبهم، وفي «سُنن أبي داود» والسِّيرة قوله صلى الله عليه وسلم حين فتح الله عليه خيبر، وقدم عليه جعفر ومن معه من المسلمين من أرض الحبشة، قال عليه الصلاة والسلام: «ما أدري بأيِّهما أنا أسَرُّ؛ بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر؟ » (¬2). بل يصل الأمر بالمسلمين إلى أن يبكي أحدُهم من شدة الفرح لخبر بلغه وخير حظي به دون غيره، وهذا هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين جاءه الرسول صلى الله عليه وسلم مُخبرًا عن إذن الله له بالهجرة، وأن أبا بكر سيكون صاحبه بالهجرة، ورفيقه في الطريق إلى المدينة، بكى من شدة الفرح حتى قالت ابنته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: وما كنت أحسب أن أحدًا يبكي من الفرح (¬3). يا أخا الإسلام: وهاك نموذجًا آخر لفرح المسلم بإسلام أقرب الناس إليه؛ أبو هريرة رضي الله عنه كان برًّا بأُمِّه، ولكنها قبل إسلامها كانت تُسمع ابنها في الرسول صلى الله عليه وسلم ما يكره وما فتئ الابن يدعوها إلى الإسلام، حتى طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهمَّ اهدِ أُمَّ أبي هريرةَ» فاستبشر أبو هريرة بهذه الدعوة، وما وصل البيت حتى وجد أمه تغتسل -وقد أجافت الباب - وقالت: مكانك يا أبا هريرة، فلبست درعها وعجلت عن خمارها، ففتحت ¬

(¬1) سورة يونس: الآية 58. (¬2) السيرة لابن هشام: 4/ 7، و «سنن أبي داود»: 5/ 392، وحسنه الألباني في «فقه السنة»: 5/ 367. (¬3) رواه ابن إسحاق، وانظر «الفتح»: 7/ 235.

الباب وقالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. قال أبو هريرة: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من الفرح. الحديث رواه مسلم في «صحيحه» (¬1). تلك نماذج من فرح المؤمنين -وهي بكل حال متعلقة بمعالي الأمور، وخدمة الدين، ومصالح المسلمين، وفرحتهم في الدنيا موصولة بفرحهم في الآخرة: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} (¬2). أيها المؤمنون: أما أهل الكفر والكبر والخيلاء فهم يفرحون، لكن بم يفرحون؟ وما عاقبة فرحهم؟ إنه فرح بمتاع الدنيا والله يقول: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} (¬3). وهو فرح يعقبه الحسرة والندامة والإبلاس {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬4). وقارون من نماذج الفرحِين البطرين، وقد قال له الناصحون: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (¬5). وحين استمر في كبريائه وفرحه المذموم، خسف الله به وبداره الأرض: {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ} (¬6). وليس له وأمثاله في الآخرة من خلاق {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا ¬

(¬1) النووي 16/ 51 - 52. (¬2) سورة الانشقاق: الآية 7 - 9. (¬3) سورة الرعد: الآية 26. (¬4) سورة الأنعام: الآية 44، 45. (¬5) سورة القصص: الآية 76. (¬6) سورة القصص: الآية 81.

فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬1). عباد الله: ولأهل الريب والنفاق -قديمًا وحديثًا - فرحهم .. ولكن فرحهم بمصائب المسلمين ونوازلهم، والتخلف عن الجهاد والدعوة، وبالأذى يصيب الرسول أو أحدًا من المسلمين، وقد فضحهم الله وكشف سريرتهم: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2). أجل لقد كانوا يفرحون بالمصيبة تقع على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على أحدٍ من المسلمين، وتسوؤهم الحسنة والخير الحاصل لهم: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ} (¬3). إنهم متربصون، وساخرون وساخطون، وكاذبون، ومستكبرون، لا تكاد تجد لهم موقفًا واضحًا ومحددًا، بل يدورون مع الحدث كيف دار، ويتخلصون من المواقف الصعبة المحرجة بالكذب والأعذار، وصدق الله: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (¬4). ألا بئست البضاعة وخاب المنافقون وخسروا، وفرحتهم الظاهرة القليلة سيعقبها البكاء طويلًا، كما في محكم التنزيل: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬5). ¬

(¬1) سورة القصص: الآية 83. (¬2) سورة التوبة: الآية 81. (¬3) سورة التوبة: الآية 50. (¬4) سورة النساء: الآية 141. (¬5) سورة التوبة: الآية 82.

اللهم انفعنا بواعظ القرآن، وارزقنا العمل بسنة خير الأنام، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، أسبغ علينا من نعمه الظاهرة والباطنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، وإن عليه النشأة الأخرى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أعطاه ربه حتى رضي، وقال له: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى} (¬1). اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: إخوة الإيمان، فمن أعظم مقامات الإيمان الفرحُ بالله، والسرورُ به، فيفرح العبدُ بخالقه، إذ هو عبدُه ومحبُّه، يفرح به سبحانه ربًا، وإلهًا، ومنعمًا، ومربِّيًا، أشدُّ من فرح العبدِ بسيده المخلوق المشفق عليه، القادر على ما يريده العبدُ ويطلبه منه، والمتنوع في الإحسانِ إليه والذبِّ عنه (¬2). والفرح بالله وبرسوله وبالإيمان والسنة، والعلم والقرآن من أعلى مقامات العارفين، قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (¬3). وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} (¬4). قال صاحب «المدارج»: فالفرح بالعلم والإيمان والسنة دليل على تعظيمه عند ¬

(¬1) سورة الضحى: الآية 4. (¬2) مدارج السالكين: 3/ 111. (¬3) سورة التوبة: الآية 124. (¬4) سورة الرعد: الآية 36.

صاحبه، ومحبته له، وإيثاره له على غيره .. والفرح تابعٌ للمحبة والرغبة (¬1). يا أخا الإسلام: سائل نفسك حين تفرح، مم تفرح ولماذا تفرح؟ وما صلة فرحتك بالإسلام وأفراح المسلمين، وبالخير والخيِّرين؟ إن من علامات الخير في المجتمع الفرح بالخير يحصل للمسلمين، ومن علامات وعي المجتمع أن يشترك في فرحة الخير للإسلام وأهل الإسلام الكبار والصغار، والذكران والإناث .. في زمن باتت مغريات الحياة الدنيا كثيرة، وبات الفرحُ بسفاسف الأمور ومغريات الحياة الدنيا يسيطر على عقول عددٍ من أبناء المسلمين. ومن علائم الخير -كما قال العلماء - أن يفرح المرء بالحسنة إذا عملها، ويُسرُّ بها، فذاك فرحٌ بفضل الله، حيث وفَّقه الله لها وأعانه عليها ويسَّرها له. أيها المسلمون: ومن الفرح المذموم أن يطغى المسلم للنعمة يؤتاها: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (¬2). وقد ينسى الفرحُ بالنعمة - أحيانا - شُكرَ المُنعِم، وكفى بالقرآن واعظًا والله يقول: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬3). وقد كان السلفُ يحذرون من الاغترار بالنعمة والتجاوز في الفرح، ويرون الفرح من أسباب المكر، ما لم يقارنه خوفٌ من الجليل سبحانه (¬4). عباد الله: قيِّدوا أفراحكم بشرع الله، وإياكم والتجاوز فيه بالقول أو بالعمل، ¬

(¬1) 3/ 165. (¬2) سورة العلق: الآية 6، 7. (¬3) سورة النحل: الآية 53. (¬4) المدارج: 3/ 111 - 114.

وإياكم أن تأسوا على ما فاتكم أو تتجاوزوا المشروع في الفرح بما آتاكم، فالله يقول: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬1). أي مختال في نفسه، متكبِّر فخورٍ على غيره، وتأملوا قول عكرمة واعملوا به؛ قال: ليس أحدٌ إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكرًا، والحزن صبرًا. فتلك قاعدةٌ حَرِيَّة بالتأمل (¬2). وليس يخفى أن المكروه للنفس قد يكون فيه خيرٌ كثير، وقد يكون في المحبوب لها شرٌّ وفتنة: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (¬3). يا أخا الإسلام: وحين يكون الحديث عن الفرح فثمة أسئلة حَرِيٌّ بك أن تسألها نفسك، فما مدى فرحتك بانتصار الدعوة إلى الله وظهور الحق؟ وما مدى سرورك بعزِّ الإسلام وغلبة المسلمين؟ وما مدى حُزنك حين يظهر الفساد، ويفشو الباطل، ويكثر المبطلون، ويغلب الكفار، ويتنامى النفاق، ويكثر المنافقون .. إنها أسئلة تحدد نوع فرحك وحزنك، وهل هو في ذات الله ولصالح الإسلام والمسلمين، أم لأهوائك وشهواتك، كما تُحدد هذه الأسئلة صدق انتمائك للإسلام، وشعورك بأخوِّة المسلمين، واهتمامك بقضاياهم. وهذه الأسئلة ميزان لعمق فرحك ونُبل مشاعرك، وعلوّ همتك، وبكل حال ومهما بلغت أفراحك في الدنيا فلا تنسَ فرحة الآخرة، وأنت واجدٌ في القرآن ¬

(¬1) سورة الحديد: الآية 23. (¬2) تفسير ابن كثير للآية 4/ 514. (¬3) سورة البقرة: الآية 216.

تذكيرًا بها، وها هو المصطفى صلى الله عليه وسلم يذكِّرك بها في فرحة الفطر من الصيام ويقول: «للصائم فرحتان؛ فرحةٌ عند فطرِه، وفرحةٌ عند لقاء ربِّه». اللهم لا تحرمنا فضلك، واجعل أفراحنا في ذاتك ولأوليائك ونصرة دينك، ولا تحرمنا فرحة الآخرة وسرورها.

الإخلاص: معاني وآثار وعلامات ووسائل

الإخلاص: معاني وآثار وعلامات ووسائل (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النيين والمرسلين، ورضي الله عن أصحابه أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬3). أيها المسلمون: حديثي إليكم عن أمر يهمنا جميعًا، ونقصِّر في شأنه كثيرًا، نتحدث به كثيرًا ولا نعمل به في حياتنا إلا قليلًا، هو أمر الله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬4). وهو الدين الذي يرضاه الله ويقبله: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (¬5). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 15/ 2/ 1421 هـ. (¬2) سورة الحجرات: الآية 13. (¬3) سورة آل عمران: الآية 102. (¬4) سورة البينة: الآية 5. (¬5) سورة الزمر: الآية 3.

إنّنا في زحمة الحياة، وغلبة الشهوات، وطغيان المجاملات نفرِّط في أغلى شيء، وننسى أو نتناسى أنفس شيء، نلتفت إلى عدد من أعمالنا وممارستنا في الحياة اليومية، فلا نكاد نجدُ الإخلاص لها رائدًا .. وحين نصدق مع أنفسنا نعترف بأن الدافع لعدد من تصرفاتنا ومواقفنا حظوظ النفس، وغلبةُ الأهواء، والرغبة في مطامع الدنيا، ومن هنا قلَّت البركة في أعمالنا، وضعف إنتاجنا، وتعبت أجسادنا، ولم تطمئن قلوبنا، وَوُجِدت الخصومات والتنافر بيننا. إن الحديث عن الإخلاص صعب على النفس، ولولا أمانة الكلمة ومسؤولية البلاغ ما حدثتكم، فأنا أحوج للحديث منكم .. ولا تَقِلُّ حاجتي عن الإخلاص عن حاجتكم .. لكنني أخاطب نفسي إذ أخاطبكم، وألوم نفسي قبل أن ألومكم .. وكلّنا خطَّاء، وخير الخطائين التّوابون، ولنسمع الحديث، وليس منا مبرّأٌ من النقص والخطأ. حديثي إليكم عن شيءٍ من معاني الإخلاص وآثاره، وعلامات الإخلاص وأمارات المخلصين، ألا ما كان الإخلاص في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه. إن صلاح النية وإخلاص الفؤاد لرب العالمين يرتفعان بمنزلة العمل الدنيوي البحت، فيجعلانه عبادة متقبلة. وإن خُبث الطَّوية، وظهور الرياء يهبطان بالطاعة المحضة، ويقلبانها إلى معاصٍ شائنة لا ينال المرء منها بعد التعب في أدائها إلا بالفشل والبوار. أرأيتم كيف بلغ سقي الكلب الذي يأكل الثرى من العطش بصاحبه إلى مغفرة الرب؟ ! والرجل يزرع الزرع ويغرس الغرس ليتكسب من وراء ذلك، فإذا رافقته النية الطيبة، واحتساب الأجر لمن أكل منه، لم يأكل منه طيرٌ أو إنسان أو حيوان إلا كان له به صدقة.

بل إن شهوة المرء التي يتلذذ بفعلها تنقلب إلى عبادة مع حسن النية وعلُوِّ المقصد، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوته ويكون له فيها أجرٌ؟ قال: «نعم، أرأيتم لو وضَعَها في حرامٍ أما يكون عليه وزرٌ؟ » قالوا: بلى، قال: «وكذلك إذا وضعها في حلال»؛ يعني يكون له بذلك أجر، فكيف إذا صاحب ذلك إصلاح الذرية، وتكثير نسل المسلمين، وإعفاف النفس والآخرين؟ ! إخوة الإسلام: وفي مقابل ذلك قال تعالى عن فئة من المصلين {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (¬1). وقال عن فئة من المتصدقين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (¬2). أيها المسلمون: إن توفر الإخلاص واستحضار النية الطيبة تجعل من المعدوم موجودًا، فقد يهمُّ المسلم بعمل الخير، ويرغبُ في أدائه، ولكنه قد لا يستطيعه، أو تعجز وسائله عن إدراكه .. فيكتب الله له أجر ذلك العمل -وإن لم يقم به -؛ لأن الله علم ما في قلبه. أرأيت من يتطلع إلى جهاد الأعداء، ولكن يقعد به ضعفه عن ذلك، ومن يغبط المتصدقين فيَودُّ لو كان له مال فينفقه في سبيل الله، ومن يتطلع إلى عمل الصالحات، لكن يقعد به المرض، كلُّ أولئك وأمثالهم بنواياهم وأجرُهم على الله، وفي حديث: «إنما الدنيا لأربعة نفر .. » درس وعبرة. ¬

(¬1) سورة الماعون: الآية 4 - 7. (¬2) سورة البقرة: الآية 264.

وحين تخلَّف نفرٌ من المسلمين عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شدة رغبتهم في الخروج، لكن حبسهم العذر، حينه نوَّه الرسول صلى الله عليه وسلم بفضلهم، وشملهم بعظيم الأجر من ربهم، وقال عنهم: «إن أقوامًا خَلْفنا بالمدينة، ما سَلَكنا شِعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا، حَبَسَهُمُ العذرُ» رواه البخاري. وهكذا سُجِّل هؤلاء المخلصون مع المجاهدين؛ لأنهم قعدوا راغمين معذورين (¬1). وفي المقابل استحقَّ نفرٌ -ممّن خرجوا مع المسلمين - التقريع والفضيحة، بل ووصمة الكفر والإجرام؛ لأنهم خرجوا نفاقًا، وكان شغلهم -حين خرجوا - الإرجاف والاستهزاء بالمؤمنين: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} (¬2). عباد الله: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكلِّ امرئ ما نوى» حديث من أحاديث الذي لا ينطق عن الهوى، وهو أصل من أصول الإسلام، كان كثير من العلماء يفتتحون به مؤلفاتهم لأهميته وأثره على الأعمال قبولًا أو ردًا .. فهل نضع هذا الحديث أمام أعيننا في كل حركة نتحركها أو قولٍ نقوله، أو عمل نعمله. إن الله لا يرضى أن يُشرك معه غيره في العبودية والطاعة: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬3). وفي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، ¬

(¬1) الغزالي: «خلق المسلم» ص 81. (¬2) سورة التوبة: الآية 65، 66. (¬3) سورة الكهف: الآية 110.

من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركتُه وشركَه» (¬1). ألا ويح الذينَ يغرون الناس بهيئاتهم أو أقوالهم، والله يعلم ما يكتمون. وهم أبعد ما يكونون عن الإخلاص، وأولئك حَريُّون بالفضيحة في الدنيا، أو في الآخرة، أو بهما جميعًا. وفي الحديث الذي أخرجه الترمذي وحسَّنه غيره، قال صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر الزمان رجالٌ يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللِّين، ألسنتُهم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوبُ الذئابِ، يقول الله تعالى: أبي يغترُّون، أم عليَّ يجترئون؟ ! فبي حلفتُ لأبعثن على أولئك منهم فتنةً تَدَعُ الحليمَ حيرانَ» (¬2). وفرق بين هؤلاء وبين الأخفياء الأتقياء الذين يعملون الصالحات -طاعة لله، وإحسانًا إلى الخلق - ثم يتوارى أحدهم بعمله ويكره أن يطلع عليه الناس - لكن أولئك يرجون لقاء الله وعظيم أجره و {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬3). إن الناس -كلَّ الناس - يلجؤون إلى الله بالإخلاص في حال الشدائد والضراء إذ يشعرون حينها ألاَّ ملجأ من الله إلا إلى الله، وهنا يدعونه تضرعًا وخفية، ولكن تلك حالات طارئة لا يقاس بها الإخلاص الحقّ -وإنما يقاس الإخلاص في أحوال السراء حين تتطلَّعُ النفوسُ إلى أعراض الدنيا من الشهوة والشُّهرة وحب الثناء والتطلع إلى الجاه وبُعد الصيت، فتؤثر ما عند الله على ما عند خلقه، وتُغلِّبُ نعيم الآخرة على متاع الدنيا الزائل. ¬

(¬1) أخرجه مسلم: 2985، «جامع الأصول» 4/ 545. (¬2) رقم 2406، .. جامع الأصول 4/ 545. (¬3) سورة العنكبوت: الآية 5.

إن الإخلاص يستدعي -فيما يستدعي - نفوسًا كبيرةً لا يأسرها التفكير باللحظة الحاضرة، بل تتطلع إلى الثمرة المستقبلية للإخلاص، ويستدعي كذلك ضبط النفس عن مزالق الفتن والشهوات، ويستدعي الثبات على الحق في الملمات، حتى وإن نال النفس شيءٌ من المصاعب والمتاعب. ولقد كان سحرةُ فرعون نموذجًا لهذا حين خالط الإيمان قلوبهم، وانطلقوا من قاعدة الإخلاص واليقين يقولون لفرعون: {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (¬1). ¬

(¬1) سورة طه: الآية 72، 73.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فاوت بين عباده في الهمم، وفاوت بينهم في حسن القصد وصلاح العمل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أخبر -وهو الصادق الأمين - عن مصير الثلاثة الذين انتهى بهم الأمر إلى أن يسحبوا على وجوههم حتى يلقوا في النار؛ لأنهم عملوا من أجل الناس حتى ولو كان الأمر -في ظاهره - جهادًا في سبيل الله، أو تعلُّمًا للعلم وتلاوة للقرآن، أو نفقة في وجوه الخير (¬1). اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. عباد الله: وإذا كان أمر الإخلاص عظيمًا عند الله فليس سهلًا على النفوس -إلا من وفَّقه الله وجاهد نفسه على ترويض النفس على الإخلاص. قال أحدُ العارفين: ليس على النفس شيءٌ أشقَّ من الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب (¬2). وقال آخر: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر (¬3). أيها المسلمون: إن المتأمل في واقعنا يرى كيف يعزُّ الإخلاص ويقلُّ المخلصون .. أين إخلاص العامل في عمله، وأين إخلاص المربي في تربيته، هل يخلص رجال الأعمال في أعمالهم؟ وهل تظهر على الطلاب سيما الإخلاص في دراستهم وتحصيلهم؟ وفي مجال الطب والهندسة، أو غيرهما من الوظائف ¬

(¬1) أخرجه مسلم. (¬2) هو سهل بن عبد الله. (¬3) هو يوسف الرازي، «جامع العلوم والحكم» 15.

والحرف، ما نَصيبُ الإخلاص لدى المختصين والعاملين فيها؟ في مجال طلب العلم - عمومًا - والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي القضاء، بل وفي سائر الولايات الدينية والدنيوية .. كيف يكون الإخلاص؟ وكم هي نسب المخلصين؟ عباد الله: ولئن كان الإخلاص من أعمال القلوب، وتلك لا يعلم حقيقتها إلا علاَّم الغيوب، إلا أن للإخلاص أماراتٍ وللمخلصين علامات يمكن أن يُستدل بها عليهم، ومن علامات الإخلاص: الجدية في العمل وحسن الإنتاج، وأن يستوي عند العامل شهود الناس لعمله أو غفلتهم عنه. ومن علامات المخلصين أنهم لا يرغبون في مدحهم ولو عملوا، بعكس غيرهم ممن يُحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا. المخلصون يخشون الله بالغيب ويراقبونه في حال السرِّ، كما يخشونه في الشهادة، ويراقبونه في حال العلانية، شأن المخلصين وهدفهم رضى الله، وليس هدفهم أن يرضى الناس عنهم ولو سخط الله. المخلصون لا يأنفون أو يتضايقون إذا رموا بما ليس فيهم، فقد يكون أحدهم جوادًا ويُرمى بالبخل، أو عالمًا وداعيةً ويرمى بالجهل والإفساد -وهو ليس كذلك في ظاهره وباطنه - بل ربما أزرى المخلصون بأنفسهم وحمدوا المتَّهمين لهم بما ليس فيهم. ومن روائع مواقف السلف أن رجلًا زاحم سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم في منىً، فالتفت الرجل إلى سالم -وهو لا يعرفه - فقال له: إنّني لأظنُّك رجل سوءٍ، فأجابه سالمٌ -وهو من خيار التابعين - بقوله: ما عرفني إلا أنت (¬1). ¬

(¬1) «صفة الصفوة» 2/ 90، «الأتقياء» إبراهيم الدويّش 41.

أهلُ الإخلاص تهون عليهم أنفسهم فلا ينتقمون لها، وتعظم في صدورهم حرماتُ الله فيغضبون لانتهاكها، ويقومون بما أوجب الله عليهم حيال المنتهكين لها. المخلصون يهتمون بإخلاص العمل وموافقته للصواب والسنة وديمومته -وإنْ قل عملُهم - وغيرُ المخلصين يهتمون بكثرة العمل حتى وإن خالطه الرياءُ، وأفسدته الخرافات والبدع. أيها المسلمون: وهناك أمور تعين المسلم والمسلمة على الإخلاص، ومنها: إدامة النظر في كتاب الله عمومًا، والتأمل في آيات الإخلاص وثواب المخلصين خصوصًا. ومن مثل قوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (¬1). وأَلاَّ يعمل المرءُ حين يعمل وغاية أمانيه حظوظ الدنيا ومتاعُها، بل عليه أن يتطلع إلى نعيم الآخرة وثوابها، وفي القرآن الحكيم: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬2). وألاَّ يجعل رضى الناس غايته، فمن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس. ¬

(¬1) سورة الإسراء: 18. (¬2) سورة النساء: الآية 138.

وتدريب النفس على الإخلاص ومجاهدتُها على التخفي عن أَعْيُنِ الناس فيما لا حاجة بالاطلاع عليه يعين على الإخلاص، وقد روي عن عبد الله بن المبارك، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن -رحمهم الله - أن الحسن قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فَقِهَ الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد أدركت أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدًا، لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (¬1). والنظر في سير الأنبياء عليهم السلام، والصالحين المخلصين من بعدهم، ومعرفة عواقب الإخلاص في حياتهم يُعين كذلك على الإخلاص، وليس يخفى أن الإخلاص سبب لصرف السوء والفحشاء عن يوسف عليه السلام، وهذا من حفظ الله له: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (¬2). ومما يعين على سلوك الإخلاص أن يتصور المرءُ -وهو بَعْدُ في الدنيا - رقابةَ الله، ودقةَ الحساب يوم القيامة، وما أتعس العامل إذا وفد على الله بأعمال كثيرة، لكنها غير خالصة لله، فطرحت ثم طرح صاحبها في النار، وقيل لهؤلاء المرائين: اذهبوا إلى من كنتم تُراؤون في الدنيا فليشفعوا لكم .. وهناك يفرُّ المرء من أخيه، وأُمّه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وأنّى له أن يلتفت إلى من كان يرائيه؟ هذا فضلًا عن أن المرائي قد ينكشف في الدنيا ويفضح حيًّا، قبل أن تكون ¬

(¬1) سورة الأعراف: الآية 55. (¬2) سورة يوسف: الآية 24.

الفضيحةُ الكبرى، فليحذر العقلاءُ من سوء العواقبِ عاجلًا أو آجلًا. عباد الله: ثمِّنوا الإخلاص في حياتكم، وقدِّروا من تتعاملون معه حقَّ قدره، فهو العالم بسرِّكم وجهركم، واعلموا أن الله لا ينظرُ إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظرُ إلى قلوبكم، وأنه خلق السماواتِ والأرضَ، والموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسنُ عملًا. ومع الاجتهاد في كل وسيلة تبلغكم الإخلاص فعليكم بالدعاء، ولا تنسوا أن تقولوا: اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك شيئًا أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه. واسألوا ربكم قبول الأعمال، فإنما يتقبل الله من المتقين. جعلني الله وإياكم والمسلمين من الأتقياء، الأنقياء، الأخفياء. ومن عباد الله المخلصين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

(1) التفاؤل في زمن الشدائد

(1) التفاؤل في زمن الشدائد (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وإخوانه من الأنبياء، وارضَ اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أوصيكم ونفسي -معاشر المسلمين - بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (¬2). وبها أمر الله: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} (¬3). وفيها المخرج من الشدائد، والرزق من حيث لا يحتسب المرزوق: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (¬4). أيها المسلمون! في زمن الشدائدِ والمحن يُصاب بعض الناس باليأس والقنوط. وحين تتوالى ضرباتُ الأعداءِ على المسلمين وتكثر الخطوبُ المفزعة يُصاب بعضُ المسلمين بالإحباط والضعف، ولله في خلقه شؤون، والأيامُ يداولها بين ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/ 11/ 1420. (¬2) سورة النساء: الآية 131. (¬3) سورة الزمر: الآية 16. (¬4) سورة الطلاق: الآية 2، 3.

الناس، وكما يُبتلى الناسُ بالسراء يبتليهم اللهُ كذلك بالضراء، ليستخرج عبوديتَهم في الحالتين، ويعلم -وهو العليمُ الخبيرُ - كيف يشكرون وكيف يصبرون. والمتأمل اليوم في واقع المسلمين؛ يرى ضعفًا وفُرقة، وذلةً ومسكنةً، وفتنًا ومصائب يتلو بعضُها بعضًا، وكلما تجرَّع المسلمون كؤوس بليةٍ، انبعثت لهم أخرى، وهكذا، وفي مقابل ذلك كلما أوشكت لهم راية أن ترتفع، وإذا بالسهام تُسدد نحوها، ضربٌ وتطويق وسلبٌ للثمار، وخطفٌ للنتائج دون المسلمين. هذا فضلًا عن غزو الأفكار، وحرب القيم عبر الفضائيات والقنوات، وفضلًا عن المشروع الأكبر في حصار العالم، وفي طليعتهم المسلمون في عقائدهم واقتصادهم وقيمهم -عبر مشاريع العولمة والنظام العالمي الجديد! عباد الله! وهذه المؤثراتُ كلُّها، وما ينضاف إليها من مِحَن وإحَنٍ وانحراف عن صراط الله المستقيم بين المسلمين أنفسهم، وشيوعٍ للنفاق، وكثرة المنافقين، وما يستتبعُ ذلك من محاولاتٍ للفساد والإفساد. هذه وتلك تشكّلُ ضغطًا على النفوس، وتضيق لها الصدور، وربما سببت اليأس والقنوط أو الضعف والإحباط عند بعض المسلمين. وهنا ترد الأسئلة التالية: ما مظاهرُ الإحباط والضعف؟ وكيف كان هدي المرسلين -عليهم السلام - في ظل هذه الظروف زمن الشدائد والكروب؟ ما هي أخطاؤنا في ظل هذه الظروف؟ وما المطلوبُ مَنّا حتى نخرج من هذه الأزمات؟ هل من نماذج تقوي عزائمنا -في ظروف المحن والكروب -؟ ما دور العلماء

والدعاة؟ وما أثر المرجفين والمثبطين؟ ما هي الدروسُ والحكمُ في زمن الشدائد؟ وكيف تُستخرج عبودية الضراء لله رب العالمين؟ إلى غير ذلك من أسئلة قد تثور، وما أحوجنا إلى معرفتها والإجابة عنها. يا أخا الإسلام: حديثي إليك عن: التفاؤل في زمن الشدائد، ولكن الحديث عن هذا لا ينفك عن تقدمةٍ تشخِّص الداء وترشد للدواء. أيها المسلمون: أما مظاهرُ الإحباط فمنها ضعفٌ في السلوكيات وتراجعٌ في القيم، تبرز عند بعض المسلمين والمسلمات، وربما وصل الأمر إلى اهتزازٍ في القناعات والمسلَّمات -يقلُّ هذا الأثرُ أو يكثر على حسبِ قوةِ التأثرِ بالموجات الغازِيَة، وعلى حسب قوة اليقين أو ضعفه بما وعد اللهُ المتقين والفجار. ومن مظاهر الإحباط كذلك الانهزاميةُ والشعورُ بالنقص، وربما تطور الأمرُ إلى الإعجابِ والفتنةِ بالكفار والموالاة لهم. ومن مظاهر الإحباط القعودُ عن العمل المثمر، والضعفُ في الدعوة إلى الله، والشعورُ الخاطئ بأن منافذ الإسلام أُغلقت، وفرص الدعوة قد حُجّمت، وأخطرُ من ذلك أن تُمارس الدعوةُ بمناهجَ منحرفةٍ، وأساليب خاطئة، بها تُشوَّه صورةُ الإسلام، ويُحطَّم سياجُ الحلالِ والحرام! وتُخلِّف هذه الوسائلُ الخاطئةُ آثارًا سلبيةً على الدعوة والدعاة. عباد الله: أمَّا رسولُ الهدى والمرسلون من قبله -عليهم جميعًا أفضلُ الصلاة وأزكى التسليم - وأتباعُهم من المؤمنين -عليهم رضوان الله - فما وهنوا لما أصابهم في سبيل اللهِ، وما ضعفوا وما استكانوا ولا يئسوا ولا قنطوا من رحمةِ الله، بل كان الفألُ شعارهم والوعدُ بنصر الله حديثَهم، يتخطون بذلك ظروف الزمن الحاضرة، وينظرون بنورِ الله إلى نصرهِ في الأيام المستقبلة.

أجل، أيُّ وضع كان يعيشه بنو إسرائيل في زمن فرعون! ومع ذلك قال لهم موسى واعدًا ومبشرًا: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬1)، وحين اعترضوا عليه بالأذى الذي لحقهم، وكأنهم استبعدوا تَغيُّر حالهم -قال لهم نبيهم: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (¬2). وتحقق وعدُ الله وانتصر المُستضعَفون، وأهلك اللهُ الظالمين: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (¬3). وتأمل في قصةِ العنتِ والأذى، ورحلةِ الإضعافِ والاستذلال، ثم ما أعقبها من نصر وتمكين، يُخبر عنها الرحمن الرحيم، ويسوقها القرآنُ في بضع آياتٍ تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وللمؤمنين من بعدهم، ويقول تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (¬4). وحين بُعث المصطفى صلى الله عليه وسلم وأشرق نور الإسلام في مكة، لم يكن طريقهُ محفوفًا ¬

(¬1) سورة الأعراف: الآية 128. (¬2) سورة الأعراف: الآية 129. (¬3) سورة الأعراف: الآية 137. (¬4) سورة القصص: الآيات 4 - 6.

بالورود والرياحين، ولم تُسلمِ العربُ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم -وهم أقرب الناس إليه - بل آذوه واتهموه، وأخرجوه وحاربوه، وعاش والمؤمنون الأوائلُ معه في مكة فترةً عصيبةً، واستشهد بعضهم تحت وطأةِ التعذيب، وفرَّ بعضُهم بدينه تاركًا أهله ووطنه وأمواله، وبقيت آثارُ التعذيب في أجسادِ بعضهم تحكي ظروف المحنة، وتُعتبرُ أصدق لسانٍ يُعبر عنها: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (¬1). ويكفي من ذلك أن تعلم ما رواه ابن سعدٍ في «طبقاته»، وابن ماجه في «سننه»: أن خباب بن الأرت رضي الله عنه جاء يومًا إلى عمرَ رضي الله عنه فأدناه من مجلسه وهو يقول له: لا أحدَ أحقَّ بهذا المجلسِ منك إلا عمار، فجعل خبابٌ يُري عمرَ آثارًا بظهره مما عذبه المشركون (¬2). أما بلالُ بنُ رباح رضي الله عنه فأخبارُه في البلاء والصبر أشهرُ من أن تذكر، ويكفي أن أبا بكر رضي الله عنه حين جاء ليشتريه وجده مدفونًا بالحجارة، كما رواه ابن أبي شيبة وغيره بإسناد صحيح (¬3). ومع هذه الشدائد والمحن التي مرت بالمسلمين كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واثقًا بنصر ربِّه، متفائلًا بنصرة دينه والمسلمين، حتى وإن لم يملك للمسلمين حينها حلًا عاجلًا لِمَا هُمْ فيه من بلاءٍ ومحن، ودونك حديث البخاري فتأمله واعقل ما فيه من شدةٍ وما يحمله من بشرى وتفاؤل ونهي عن الاستعجال في النتائج؛ يقول خبابٌ رضي الله عنه: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسدٌ بردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصرُ لنا؟ ألا تدعو لنا؟ قال: «كان الرجلُ فيمن قبلَكُم يُحفر له في الأرض ¬

(¬1) سورة البروج: الآية 8. (¬2) «الطبقات» 3/ 165، صحيح سنن ابن ماجة: 1/ 31. (¬3) سير أعلام النبلاء 1/ 353.

فيجعلُ فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشقُّ باثنتين وما يصدُّه ذلك عن دينهِ، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمهِ من عظمٍ أو عصب، وما يَصدُّه ذلك عن دينه، والله ليُتَمَّنَّ هذا الأمر حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضر موتَ، لا يخاف إلا اللهَ، أو الذئبَ على غنمهِ، ولكنكم تستعجلون» (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (¬2). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. ¬

(¬1) البخاري ح 3612. (¬2) سورة البقرة: الآية 214.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، يُعزُّ من يشاء ويُذلُّ من يشاء، لا رادَّ لقضائه، ولا معقب لحُكمِه وهو سريعُ المحال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وهو القوي العزيز، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. إخوة الإسلام: وحين نستقرئ نصوص السيرة النبوية نجد محمدًا صلى الله عليه وسلم متفائلًا بكل حال، واعدًا أصحابه بالنصرِ والغلبة على الأعداء، حتى وإن لم تَلُحْ في الأفق بوادرُ نصر حينها، لكنه نور الله، والثقة بنصره، يراها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خلف السدود والسنين، وهي جزءٌ من إطلاعه على غيب الله، وما نزل عليه في كتاب الله .. ألا تراه يُخبر -صلى الله عليه وسلم - عن هزيمة مرتقبةٍ لقريش في بدر وهو بَعْدُ في مكة؟ وينزل عليه في أحد السور المكية {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (¬1). قال الطبريُّ رحمه الله: والمرادُ هنا هزيمةُ جمعِ قريش، وقد أنجز اللهُ ذلك الوعدَ، فهُزم المشركون في بدر (¬2). ويعلق ابنُ تيمية على ذلك بقوله: وهذا مما أنبأه اللهُ من الغيب في حال ضعفِ الإسلام واستبعاد عامةِ الناس ذلك، فكان كما أخبر (¬3). ثم لا ينفك هذا الشعورُ المتفائلُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وأهلُ مكة يخرجونه وأهلُ الطائفِ يؤذونه، وفي «طبقات ابن سعدٍ»: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد من ¬

(¬1) سورة القمر: الآية 44، 45. (¬2) تفسير الطبري 11/ 27، 64. (¬3) النبوات: ص 249.

الطائف أقام بنخلةَ أيامًا، فقال له زيدُ بنُ حارثة رضي الله عنه: كيف تدخل عليهم وهم قد أخرجوك؟ فقال: «يا زيد إن الله جاعلٌ لما ترى فرجًا ومخرجًا، وإن الله مظهرُ دينه وناصرُ نبيِّهُ .. » (¬1). ويستمر هذا الشعورُ الواثقُ بنصر اللهِ ومعيَّته، وأقدامُ المشركين تطأ فم الغار الذي يختبئ فيه وصاحبهُ، وحين قال أبو بكر: يا نبي الله! والله لو أن أحدهم أبصر موطن قدمه لرآنا، أجابه الرسولُ صلى الله عليه وسلم بكل ثقة: «يا أبا بكر ما ظنُّكَ باثنين اللهُ ثالثُهما»؟ ! ، وصدق الله: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (¬2). وفي طريق الهجرة وقريشٌ تلاحق محمدًا صلى الله عليه وسلم وتضع الجوائز لمن يجيء به، يُدرك سراقةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ويقول أبو بكر: قد لحقنا يا رسولَ الله! فيقولُ لأبي بكر -مرة أخرى -: «لا تحزن إن الله معنا» (¬3). فإن قلتَ -يا أخا الإسلام -: ذاك رسولُ الله المؤيدُ بوحيه والمُطلع على غيبه! قيل لك: ذاك حقٌ .. ولكنا مكلفون بالاقتداءِ به: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (¬4). وحفظُ اللهِ ومعيتُه، والثقة بنصرهِ، وتمامُ التوكل عليه، ليست خاصة بالمرسلين: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (¬5). ¬

(¬1) 1/ 216. (¬2) سورة التوبة: الآية 40. (¬3) رواه البخاري ح 3652. (¬4) سورة الأحزاب: الآية 21. (¬5) سورة النحل: الآية 128.

{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (¬1). {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬2). {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3). عباد الله: تلك وأمثالها من النصوص والمواقف نعلمها جميعًا، ويكاد يكون إيمانُنا بها متساويًا في حال الرخاء -لكن التفاوت حاصلٌ في حال الكروب والضراء، فمن الناس من لا تزيده المحنُ والنوازل إلا قوة في معتقده وتماسكًا في أخلاقه وثباتًا على الحق، ودعوةً للخلق، ومن الناس من يهلع ويجزع، ويخور ويضعف، ينحرف في سلوكياته، وتهتز قناعاته، وتحيط به الظنون السيئة بربه ودينه! بل ربما تشكك في الوعدِ الحقِّ الواردِ في كتاب ربِّه لنصرِ المؤمنين وكون العاقبةِ للمتقين، أو ربما ظن أن هذه الوعودَ للمؤمنين في الآخرة دون الدنيا، أو توهم أن النصوص الواردة لأمم سلفت، أما من بلغ بهم الفسادُ مبلغه، وبلغ بهم من الفرقةِ والضعف ما بلغ، فصعبٌ أن ينتصروا، ومستحيلٌ أن يجتمعوا في ظنه. وتلك واحدةٌ من أخطائنا في حال الشدائد والضراء. أما الأخرى من أخطائنا -في ظل تلك الظروف - هي أننا ربما أحسَنَّا الظنَّ بأنفسنا أكثرَ مما ينبغي، ولربما أسأنا الأدب مع ربنا. ولربما تساءل بعضنا: ولماذا لا ننتصر ونحن المسلمون؟ ولماذا تكون الغلبةُ لغيرنا وهم الكافرون؟ وفي ذلك تزكيةٌ للنفس، وغفلةٌ عن الأخطاء، وإصلاح للعيوب؟ ولن يتمَّ لنا النصرُ والتغييرُ حتى نغيِّرَ ما بأنفسنا: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ ¬

(¬1) سورة غافر: الآية 51. (¬2) سورة الطلاق: الآية 3. (¬3) سورة الأنفال: الآية 64.

حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬1). أما غير المسلمين فقد أخبر الله أنهم حين ينسون ما يذكرون به يفتح الله عليهم أبواب كل شيء، ولكن العاقبة وخيمة، والأخذ بغتة: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} (¬2). ومن أخطائنا -زمن الشدائد - أننا تأسرنا اللحظة الحاضرة، دون أن نتطلع إلى مستقبل مشرق للإسلام والمسلمين، وهذا الشعور الخاطئ ضعفُ ثقةٍ بربِّنا، وعجزٌ عن قراءة تاريخ أسلافنا، وعدمُ إدراك لسنن الله في الكون ومداولة الأيام بين الناس، والمصيبة إذا قادنا هذا الشعورُ الخاطئ إلى القعود والكسل والهزيمة والاستسلام للواقع السيّئ دون محاولة للإصلاح والتغيير. وحين نقول: ينبغي ألا تأسرنا اللحظة الحاضرة .. نستشهد بأحداث السيرة، فليس بين أحداث الهجرة ومطاردة الرسول والمؤمنين معه وبين فرقان بدر إلا سنتان. وليس بين معركة الأحزاب، التي ابتلي فيها المؤمنون وزلزلوا زلزالًا شديدًا، وبين فتح مكة، التي انتشر فيها الإسلام وتحطمت قريش وكبرياؤها -إلا ثلاث سنوات. واقرأوا التاريخ الماضي والحاضر وستجدون أن الفرق بين زمن الهزيمة والنصر قد يكون محدودًا. ويقابل هذا الخطأ خطأٌ آخر، لا يختلف عن سابقه، بل قد تكون نتائجه أسوأ؛ وذلك حين نستعجل الخُطا، ونظن أننا نتجاوز مراحل الزمن دون عمل مدروس، ثم يحصل التهور في اتخاذ الوسائل للوصول إلى الهدف .. وإذا كان أصحاب الخطأ الأول يحبطون أنفسهم بأنفسهم، فأصحاب الخطأ الثاني يصطدمون بالواقع ¬

(¬1) سورة الرعد: الآية 11. (¬2) سورة الأنعام: الآية 44.

ثم يحطمون أنفسهم، وربما طال غيرَهم شيء من نتائج استعجالهم. والوسطية في ذلك تقضي أن نظل نعمل لديننا متفائلين جادين، لا تأسرنا اللحظة الحاضرة، ولا نستعجل الخطا، ولا ننس سنن الله في كونه، فإن تحقق الخير على أيدينا وعزّ الإسلام في حياتنا فذاك نورٌ على نور أو تحقق ذلك على أيدي أبنائنا من بعدنا فحسبنا أن لنا سهمًا في هذا النصر محفوظ أجرُه عند رَبِّنا، وحسبنا أن يتوفانا الله ونحن مستمسكون بشرعه داعون إلى دينه، ولقد قيل لمن هو خيرٌ منا: «إن عليك إلا البلاغ». وقال من هو خيرٌ منا {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ} (¬1). ¬

(¬1) سورة هود: الآية 88.

(2) التفاؤل في زمن الشدائد

(2) التفاؤل في زمن الشدائد (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله ربِّ العالمين، أمر بالصبر عند البلاء، والشكر حين السراء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، توعَّد قريشًا بالذّبح وهو محاصرٌ في مكة حين قال: «أتسمعون يا معشر قريش، أمَا والذي نفسي بيدهِ لقد جئتكم بالذّبح» (¬2) فصدق الوعدُ، وقطع دابرُ المشركين -وإن فصل الزمانُ بين الوعد والإنجاز. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬3). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬4). عباد الله: هذا حديثٌ متممٌ للحديث قبله عن (التفاؤل في زمن الشدائد). وقد سبق بيان هدي المرسلين عليهم السلام لقومهم ووعدهم لهم بالنصر وهم في الضيق ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 20/ 11/ 1420. (¬2) دلائل النبوة للبيهقي 2/ 276. (¬3) سورة النساء: الآية 1. (¬4) سورة التوبة: الآية 119.

والكُربات، وكيف تحقق وعدُ الله وانتصر المُستضعفون، كما سبق بيانُ شيءٍ من الأخطاءِ التي قد تلازم بعض الناس في حال ضعف الإيمان واليقين، وغلبة الكافرين، وشيوع الفساد وكثرة المفسدين، وشيء من مظاهر الإحباط والضعف عند فئامٍ من المسلمين. أيها المسلمون: إن من العيوب والأخطاء أن يخطئَ المرءُ ولا يدرك خطأه، بل يظل يُزكّي نفسه ويستغرب لماذا يبطئُ النصر، وإليكم نموذجًا من أخطائنا يقررها ابن القيم رحمه الله في «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان» (¬1)، يقول: إن العبد كثيرًا ما يترك واجباتٍ لا يعلمُ بها ولا بوجوبها، فيكون مقصِّرًا، في العلم، وكثيرًا ما يتركها بعد العلم بوجوبها إما كسلًا أو تهاونًا، وإما لنوع تأويلٍ باطل، أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغلٌ بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك، فواجبات القلوب أشدُّ وجوبًا من واجبات الأبدان، وآكدُ منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثيرٍ من الناس. اهـ. إخوة الإيمان: والمطلوب مِنّا -في كل حال - ولا سيما في زمن الشدائد والكروب -أن نفتش عن عيوبنا، ونعالج أخطاءنا، ونصدق الله في التماس أسباب النصر، وأن نملأ قلوبنا من الثقة بنصره، وعلوِّ دينهِ، وأن نُخلصَ في ولائنا لله، ونجرد الاستعانة بالله وحده بعد تجريد العبودية له، تحقيقًا لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬2)، كيف نتخذ من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة (أي: بطانةً ودخيلة) (¬3)؟ والله يقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ ¬

(¬1) 2/ 260. (¬2) سورة الفاتحة: الآية 5. (¬3) تفسير ابن كثير.

جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬1). وكيف نطلب النصر من غير الله؟ والله يقول: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (¬2). وكيف نزكي أنفسنا؟ والله يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (¬3). عباد الله: لا بدَّ قبل أن ننتصر على الأعداء أن ننتصر على أنفسنا، والانتصار على النفس بحملها على طاعة الله، والبعد بها عن ما حرم الله. وهذه مرتبة من الجهاد تُبتلى بها النفوس وتمتحن بها الهمم، وقد يضعف فيها كثيرٌ من الناس، وتراهم ينشغلون بالعدو الخارجي أكثر من انشغالهم بالعدو الداخلي، وذلك لتسلية أنفسهم وتبرير أخطائهم، وكان من وصية أسلافنا لقادة الجهاد أن ذنوب الجيش أشد عليهم من أعدائهم. إن تربية النفوس على الانتصار لشرع الله ودينه، ومجاهدة النفس على التعلق بمعالي الأمور، وترك السفاسف والفواحش هو طريق وسبب لنصر الله، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (¬4). يا أخا الإيمان: إن هذه المعاني التي نحتاجها في كل حين، لا سيما في وقت الشدائد؛ من الإيمان واليقين والتسليم وصدق الولاء والصبر والتضرع لله وحسن المجاهدة، وتهذيب النفوس وتصفيتها من الشوائب، وتجريد الاستعانة والعبودية لله، والنظر في الأخطاء وإصلاحِ العيوب، والعمل بجدًّ لتجاوز النفق المظلم بروية ¬

(¬1) سورة التوبة: الآية 16. (¬2) سورة آل عمران: الآية 126. (¬3) سورة النجم: الآية 32. (¬4) سورة محمد: الآية 7.

وتخطيط وإنجاز وإنتاج دون ملل أو كلل، حتى يأتي نصرُ الله أو نهلك في سبيله -كل ذلك مارسه المؤمنون السابقون وتركوا لنا نماذج تُسلي وتُؤنس، وتقوي الهمم وتشحذُ العزائم. وإليك نماذج من الشدّة والبأساء وقعت لخير القرون: لقد زُلزل المؤمنون في غزوة الأحزاب زلزالًا شديدًا وبلغت القلوب الحناجر، وزاغت الأبصار، كما قال ربُّنا: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (¬1). وكيف لا يقع ذلك والمدينة لأول مرة في تاريخ الإسلام يطوقها ما يقرب من عشرة آلاف من قريش وأحلافها والمتحزبين معها، واليهود ينقضون عهدهم في المدينة، والمنافقون من داخل الصّف يرجفون بالمسلمين ويظنون بالله الظنونا؟ ! ومع ذلك كلِّه صدق المسلمون مع ربِّهم وجلى اللهُ موقفهم بقوله: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (¬2). ومن قبل وقع أُحد من الشدة والبلاء على الرسول والمؤمنين ما الله به عليم. وفي قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (¬3). أخرج البخاري في «صحيحه» عن أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي أنسُ بن النَّضْرِ عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبتُ عن أولِ قتالٍ قاتلت المشركين، لئن اللهُ ¬

(¬1) سورة الأحزاب: الآية 10، 11. (¬2) سورة الأحزاب: الآية 22. (¬3) سورة الأحزاب: الآية 23.

أشهدني قتال المشركين ليَرَينَّ اللهُ ما أصنع، فلما كان يومُ أحدٍ وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه - وأبرأُ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين - ثم تقدم فاستقبله سعدُ بنُ معاذ فقال: يا سعد بنَ معاذ! الجنةَ وربِّ النَّضْر إني أجدُ ريحها من دون أُحد، قال سعدٌ: فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع (¬1)، قال أنسٌ: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربةً بسيف، أو طعنةً برمح، أو رميةً بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثَّل به المشركون، فما عرفه أحدٌ إلا أختُه ببنانه، قال أنس: كُنَّا نرى -أو نظن - أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (¬2) إلى آخر الآية (¬3). إخوة الإسلام: وفي ظل ظروف المِحَنِ واللأُواء والشدائد يظهر دور العلماء، وتحتاج الأمة إلى أصوات المستيقنين المثبتين لقلوب الناس، والواعدين بنصر الله وفق سنن الله وعوامل النصر المشروعة. أجل لقد مرت الأمةُ المسلمةُ بعواصفِ الردةِ، فكان أبو بكر لها. وطوفانِ المحنة فكان ابنُ حنبلٍ جبلها، ثم طارت في الأمة تيارات المذهبية والآراء والنحل الفاسدة، فتصدى العلماء لها وكشفوا عن زيفها وفساد معتقد أصحابها، وربما حملوا السلاح لمجاهدة أصحابها، ثم انساح الصليبيون في بلاد المسلمين واستولوا على مقدساتهم، وبرغم الهزائم التي لحقت بهم، فلم تلحق الهزيمة قلوبهم، ولم تتخلخل قناعاتهم، هزموا في ميدان المعركة، لكنهم لم ينهزموا في ¬

(¬1) سواء أكان المقصود بقول سعد: ما استطعت أن أصفَ كلَّ ما عمل، أو: ما استطعت أن أقدم إقدامه. «الفتح» 6/ 23. (¬2) سورة الأحزاب: الآية 23. (¬3) ح 2805 الفتح 6/ 121.

القيم، كانت هزيمتهم حسّية ولم تكن معنوية، حتى إذا جاء صلاح الدين الأيوبي وَمَنْ قبله من القادة الصالحين، وجمع شملهم ووحد صفوفهم، وجد عندهم من القوة والعزيمة على الجهاد ما شجّع القادة على دحر الصليبين وإخراجهم من بلاد المسلمين خاسئين، ثم ابتليت الأمة بغزو التتر، وبلغ الكربُ بالمسلمين مبلغه، حتى قال أحدُ المؤرخين المعاصرين لها: «فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها؛ لكان صادقًا، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها» (¬1). وكما وصف ابن الأثير طرفًا من أحداثها، فقد وصف شيخ الإسلام طرفًا آخر يشير إلى أن أحداث التتر في بلاد الشام وما حولها: «طبق الخافقين خبرُها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاقُ ناصية رأسه، وكشَّر فيها الكفرُ عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمودُ الكتاب أن يجتَثَّ ويخترم، وحبلُ الإيمان أن ينقطع ويصطلم .. وفيها فرّ الرجل من أخيه وأمه وأبيه، إذا كان لكل امرئٍ منهم شأن يغنيه .. » إلى آخر ما جاء في وصف أحوال المسلمين في هذه الفترة العصيبة (¬2). ومع ذلك برز العلماء يُهدّئون ويسكنون الناس ويثبتونهم ويعدونهم ويبشرونهم بالنصر .. وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك قدحٌ معلّى .. حتى كشف الله الغمة عن المسلمين، بعد أن تحزَّبَ الناسُ وانقسموا إلى ثلاثة أحزاب: حزبٍ مجتهدٍ في نصر الدين، وحزبٍ خاذلٍ له، وآخر خارجٍ عن شريعة الإسلام. عباد الله: ولم تكن فتنة التتر آخر البلايا والمحن على المسلمين، بل وافتهم ¬

(¬1) ابن الأثير: «الكامل في التاريخ» 12/ 358. (¬2) الفتاوى 28/ 427، 428.

بعدها محنٌ وخطوب واستعمارٌ وحروب، ولا تزال المؤمرات وأساليب الغزو والتدمير ماضية. وحربُ الأعداء للمسلمين اليوم استمرارٌ لحروبهم بالأمس .. وعلى مسلمي اليوم أن يقرؤوا تاريخ أسلافهم، ويستفيدوا من تجاربهم، ويتعرفوا على طبيعة أعدائهم، ويتمعنوا في قول ربهم: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (¬1). نفعني الله وإياكم. ¬

(¬1) سورة البقرة: الآية 120.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله القوي العزيز، ذي القوة المكين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له جنودُ السماوات والأرض - {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} (¬1) {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (¬2)، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولهُ، نصره ربُّه بعد أن آذاه المشركون والمنافقون، ووعد أمته بالنصرِ، وخصَّ الطائفة المنصورة بالظهور على الحقِّ إلى يوم القيامة فقال: «لا تزالُ طائفةٌ من أمتي قائمةً بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتي يأتي أمرُ الله وهم ظاهرون على الناس» (¬3). اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها المسلمون: وإذا كان أثرُ العلماء الربانيين ظاهرًا في تسكين الناس وتثبيتهم على الحق حين الشدائد، وفتح الآفاق لهم للعمل والدعوة والإنتاج، فثمة مرجفون يشككون الناس في عقائدهم، ويروجون للباطل بأقوالهم وكتاباتهم وأعمالهم، يسهمون في هدم القيم، ولا يأنفون من إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، يسخرون بالدِّين، ويلمزون المطوعين من المؤمنين، وهم حريصون على تغريب المسلمين وتحطيم حواجز الولاء والبراء مع الكافرين، إلى غير ذلك من مناحي الفساد والمساهمة في إحباط الأمة وتخاذلها على مستوى الرجل والمرأة والشاب والكهل والغني والفقير. وهؤلاء المرجفون المفسدون يجدون في فرص ضعف الأمة وتكالب الأعداء ¬

(¬1) سورة المدثر: الآية 31. (¬2) سورة فصلت: الآية 46. (¬3) رواه أحمد واتفق عليه الشيخان. «صحيح الجامع 6/ 146.

عليها وغياب الصوت القوي الفاضح لخُبثهم فرصةً لترويج باطلهم، وفي ظل هذه الظروف الحرجة كذلك يجدون من يسمع لهم ويتأثر بهم، إذ في فترات ضعف المسلمين يروجُ الفساد ويتنمّر المبطلون وتضعفُ مناعةُ رفض الفساد، إلا من رحم الله وعصم وثبت وقاوم، وميّز بين دعاة الحق ودعاة الباطل. إخوة الإيمان: وحين نعي المطلوب منا في أوقات الشدائد، وعَلِمْنا نماذج من الكروب التي مرت بأسلافنا، وكيف تجاوزوها، ووقفنا على نماذج من مواقف أهل العلم واليقين في تسلية المسلمين وشدِّ أزرهم، ويقابلهم أهلُ الإرجافِ والريب ومن في قلوبهم مرض. بقي أن نقف على شيء من دروس أزمنة الشدائد، ولن نستفيد من الشدائد والنوازل الواقعة حتى نأخذ العبرة لحاضرنا ومستقبلنا. إن من أبرز الدروس أن فترات الضعف والكروب هذه يتميز فيها الصادقون من الكاذبين كما قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (¬1). وفي الشدائد يتميز الخبيث من الطيب {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (¬2). أجل، إن الانتساب للإسلام سهلٌ في أوقاتِ الرخاء .. لكنه ليس كذلك في أوقات الضراء .. وكثيرون هم الذين يعدُّون أنفسهم مع المسلمين الملتزمين في حال المغانم، ولكنهم قلةٌ حين تكون المغارم. ¬

(¬1) سورة العنكبوت: 3. (¬2) سورة آل عمران: الآية 179.

ومن دروس المحنة والشدائد استخراج عبودية الضراء، والتضرع لله بكشف النوازل، فهل رفعنا أكفَّ الضراعة لله صادقين خاشعين؟ وهل بكت منَّا العيون لما حلَّ ويحل بالمسلمين؟ لقد جاء في كتاب ربِّنا {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1). وفيه أيضًا: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (¬2). إن التضرع لله افتقارٌ إليه ومسكنة وإيمانٌ بإنه وحده الكاشفُ للضراء، ويقين بقدرته على رفع البلاء، أما الذين تقسو قلوبُهم ويزيد انحرافُهم -حين الشدائد - فما استفادوا من دروس المحن، وما عقلوا حكمة الله في فتنةِ البلاء! ومن دروس الشدائد أنها كاشفاتٌ لأصحابِ النفوس الكبيرة، الذين لا تزيدهم الشدائد إلا صبرًا ويقينًا، أولئك يواجهون الشدة بالحزم والعزم والتفكير الإيجابي للخروج من المأزق. كما أنها كاشفاتٌ لضعافِ النفوس، الذين تهزهم حادثاتُ الزمن وإن صَغُرت، وتؤثر فيهم الصيحاتُ المريبةُ، وإن عُلمَ الخبثُ فيها وفيمن وراءها! ومن دروس الشدائد استخراج ما في النفوس من بطرٍ وأشر وكبرياء لو استمر لها النصرُ، وعاشت دائمًا في السراء، وتكتمل عبوديةُ المسلم لله في حال السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي صحيح السنة: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن». ¬

(¬1) سورة الأنعام: الآية 43. (¬2) سورة المؤمنون: الآية 76.

فهل يحقق المسلمُ عبوديته لله في كل حال؟ أم تراه يجزعُ إن مسه الشرُّ ويهلعُ إن مسه الخير؟ وما تلك سماتُ المؤمنين المصدقين. إخوة الإيمان! يا من أفاء اللهُ عليهم بنعمة الأمن والإيمان ارعوا ما أنتم فيه من نعمة، قيدوها بالشكر، وخذوا على أيدي السفهاء، وأطروهم على الحقِّ أطرًا، ولا ينِسكم ما أنتم فيه من نعمة ما يعيشه بعضُ إخوانكم المسلمين من بلاءٍ ومحنة، فالمؤمنون إخوة، والمسلم للمسلم كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا، وتذكروا أنه ما يمسُّ أحدًا من المسلمين من بلاءٍ وشدة إنما هو بلاءٌ وشدةٌ على المسلمين كلهم، وما يحقّقه الله من نصرٍ لأحدٍ من المسلمين فإنما هو نصرٌ للمسلمين كلِّهم، فالأعداء جميعًا إنما يقاتلون المسلمين من أجل هذا الدين، وصدق الله: {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} (¬1). ومن الذلة والهوان أن يتخلف المسلمون عن نصرة إخوانهم المسلمين على حين يتنادى الكافرون من كل حدب للدفاع عن أبناء ملتهم، بل ولأهل الكفار جميعًا وإن اختلفت دياناتُهم، أما المسلمون المستضعفون فيظلون يستصرخون، وربما بُحت حناجرُهم أو انقطعت أنفاسهم، بل أزهقت أرواحهم وطردوا من بلادهم واستبيحت نساؤهم، ولم تحرك صيحاتُ النساء الأيامى وأنّات الأطفال اليتامى، وبرك الدماء، وتناثر الجثث والقتلى، كل ذلك لا يحرك ساكنًا في المسلمين، ويظل الصمتُ الرهيب يخيم عليهم حتى بلغت القلوب -من المسلمين - الحناجر وزلزلوا زلزالًا شديدًا، وها هم مسلمو الشيشان يوجهون النداء لأمة المليار مسلم ويقولون: لقد حمي الوطيس وبلغت القلوب الحناجر، واشتد الأمر، وتكالب ¬

(¬1) سورة الممتحنة: الآية 2.

العدو، وتواطأ الكفار علينا من كل جانب؛ الطائرات تقصف بأنواع القذائف المدمرة، والراجمات تقذف بأنواع الصواريخ، والجليد يطاول الجبال، حتى ذكرنا حال إخواننا، ثم يقولون: أيتها الأمة ألا يوجد فينا من لو أقسم على الله لأبره، ألا يوجد فينا من يرفع أكفَّ الضراعة لله فيستجيب له .. ثم يختمون نداءهم بالقول: أيتها الأمة المسلمة لا تنسونا من دعائكم ودعمكم، فإنما يأتي الفرج بعد الشدة (¬1). اللهم وفقنا لهداك وثبتنا على شرعك، واجعلنا هداة مهتدين وهيّئ لأمّتنا أمرًا رشدًا يُعَزُّ فيه أهل الطاعة. ¬

(¬1) نداء الثلاثاء 17/ 11/ 1420 هـ بتصرف.

هكذا الدنيا ونهاية العام وتذكير بموت العظماء

هكذا الدنيا ونهاية العام وتذكير بموت العظماء (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله رب العالمين، جعل الليل والنهار خِلْفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسنُ عملًا وهو العزيز الغفور، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ضرب مثلًا للمؤمن والفاجر في البلاء في الدنيا ونوعية النهاية -فقال: «مثلُ المؤمن كمثل خامة الزرع من حيثُ أتتها الريحُ كفأتها، فإذا سكنت اعتدلت، وكذلك المؤمنُ يُكفأ بالبلاء، ومثلُ الفاجرِ كالأرزةِ صماء معتدلة حتى يقصمها الله تعالى إذا شاء» (¬2). اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلِّم تسليمًا كثيرًا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬3). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 2/ 1/ 1421 هـ. (¬2) الحديث متفق عليه، «صحيح الجامع» ح 5719. (¬3) سورة الحشر: الآية 18، 19. (¬4) سورة لقمان: الآية 33.

عباد الله: ونحن في هذه الدار مبتلون، نَظنُّ بها الإقامة ونحن مسافرون، ويُخيل لنا -أحيانا - طولُ البقاء ونحنُ عن قريبٍ مرتحلون، تُداهمنا الخُطوب، وتتوالى علينا النُّذر، وتُدركنا الأقدارُ، ولا مفرَّ من الموت والنهاية، ولو كنتم في بروج مشيدة. والمتأمل في أحوال الدنيا وأهلها لا يكاد يرى يمنةً إلا ويبصر محنةً، فإذا عطف عن يساره أبصر حسرة، ولو فَتَّشت العالمَ كلَّه لم تر فيهم إلا مُبتلىً، إما بفواتِ محبوبٍ، أو حصولِ مكروهٍ، وفي كلِّ وادٍ بنو سعدٍ -كما قيل -. الدنيا أحلامُ نومٍ، وظلّ زائل، إن أضحكت قليلًا أبكت كثيرًا، وإن سرّت يومًا ساءت دهرًا، وإن متَّعت قليلًا منعت كثيرًا، وما ملأت دارًا خيرةً إلا ملأتها عَبْرةً، ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور. قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: لكل فرحةٍ ترحة، وما مُلئ بيتٌ فَرَحًا إلا مُلئ ترحًا. وقالت هندُ بنتُ النعمان: لقد رأيتُنا ونحن من أعزِّ الناس وأشدهم مُلكًا، ثم لم تَغِبِ الشمسُ حتى رأيتُنا ونحن أقلُّ الناس، وإنه حقٌ على الله ألا يملأ دارًا خيرة إلا ملأها عَبْرة. وسألها رجلٌ أن تحدثه عن أمرها فقالت: أصبحنا ذا صباح وما في العربِ أحدٌ إلا يرجونا، ثم أمسينا وما في العرب أحدٌ إلا يرحمنا (¬1). تلكُم معاشر المسلمين طبيعةُ الدنيا؛ غدّارة مكَّارة، لا يؤمن جانُبها، ولا ينخدع العقلاءُ بغرورها وأمانيها. خطب الإمامُ الأوزاعي رحمه الله ووعظ الناس يومًا؛ فقال: أيها الناس: تقوَّوا بهذه ¬

(¬1) ابن القيم: زاد المعاد 4/ 190، 191.

النعم، التي أصبحتم فيها، على الهرب من نار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة، فإنكم في دارٍ، الثواءُ فيها قليل، وأنتم مرتحلون، وخلائفُ بعد القرون، الذين استقالوا من الدنيا زهرتها، كانوا أطولَ منكم أعمارًا، وأجدَّ أجسامًا، وأعظم آثارًا، فجدَّدوا الجبالَ وجابوا الصخورَ، ونقَّبوا في البلاد، مُؤَيَّدين ببطش شديد، وأجسامٍ كالعماد، فما لبثت الأيامُ والليالي أن طوَتْ مدتهم، وعفت آثارَهم، وأخْوت منازلهم، وأنست ذِكرَهم، فما تُحِسُّ منهم من أحدٍ، ولا تسمعُ لهم ركزًا، كانوا بِلَهْوِ الأمل آمنين، ولميقات يوم غافلين ... إلى أن قال: وأصبحتم أنتم في أجل منقوص، ودنيا مقبوضة، في زمان قد ولّى عفوُه، وذهب رخاؤه، فلم يبق منه إلا حُمَةُ شرٍّ، وصُبَابةُ كَدَرٍ، وأهاويلُ غِير، وأرسالُ فتنٍ، ورذالةُ خلف (¬1). إذا كان هذا ما يحدث به الأوزاعي أهل زمانه -وهم في القرن الثاني الهجري - فماذا تراه سيُحدث أو يحدثُ غيره عن الناس في القرن الخامس عشر؟ وقد تلاطمت أمواج الفتن، وانتشرت البلايا، وراج سوقُ الغفلة، وأُصيب الناسُ بالذلِ والتبعية، وطاشت أسهمُ الدنيا، وخفّ ميزانُ الآخرة .. إلا من رحم اللهُ، ولو خلت لانقلبت. أيها المسلمُ والمسلمة: وإذا عرفت طبيعةَ الدنيا وتقَلُّبها، فلا تعتقد أن البلاء إذا نزل بك إهانة، والمُصَاب جريمة، بل قد يكون هذا وذاك كرامة ونعمة، وأنت ممتحن بالصبر أو الجزع. يقول ابنُ تيمية رحمه الله: فمن ابتلاه اللهُ بالمُرِّ، بالبأساء والضراء وقدر عليه رزقه، فليس ذلك إهانةٌ له، بل هو ابتلاء وامتحان، فإن أطاع الله في ذلك كان سعيدًا، ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 7/ 117، 118.

وإن عصاه في ذلك كان شقيًا، كما كان ذلك سببًا لسعادة الأنبياء، وشقاوة الكفار والفجار (¬1). وتأمل قوله كذلك: مُصيبة تقبل بها على الله، خيرٌ لك من نعمة تنسيك ذكر الله (¬2). ويقول ابن المعتز رحمه الله: الحوادث الممضَّةُ مكسبةٌ لحظوظٍ جزيلة، منها: ثوابٌ مُدّخر، وتطهيرٌ من ذنب، وتنبيه من غفلة، وتعريفٌ بقَدْرِ النعمة، وعون على مقارعة الدهر (¬3). أرأيت كيف تتحول المصيبة أحيانًا إلى نعمة؟ قال الشاعر: قد يُنْعِم اللهُ بالبلوى وإن عظمتْ ويبتلي اللهُ بعض القومِ بالنِّعَمِ يا عبد الله: لا يتعاظمْ فرحُك لنعمةٍ نزلت بك، فقد يكون فيها ما ينغص عليك عيشك فيما بعد، ولا تحزنْ لبلية ابتلاك الله بها، فقد تكون من أسباب سعادتك، ولا تغترَّ أو تحسد صاحب نعمة أنت تراها كذلك، وقد تكون عنده بخلاف نظرتك. ومن عيون الحكم: ربَّ محسودٍ على رخاءٍ هو شقاؤه، ومرحومٍ من سُقمٍ هو شفاؤه، ومغبوط بنعمة هي بلاؤه (¬4). قال الشاعر: تجري الأمورُ على حُكمِ القضاء وفي ... طيِّ الحوادثِ محبوبٌ ومكروهُ وربما سرّني ما كنتُ أحذرُه ... وربّما ساءني ما بِتُّ أرجوهُ ¬

(¬1) قاعدة في المحبة -بتصرف - ص 167. (¬2) تسلية أهل المصائب ص 226، عن «تحفة المريض»: عبد الله الجعثين ص 23. (¬3) جنة الرضا 2/ 139 السابق. (¬4) العقد الفريد 3/ 145.

يا ابن الإسلام: هل تظن بربك -حين يبتليك - الظلم؟ ! وبعدله قامت السماوات، وهل يَرد بخاطرك -حين يقدر عليك رزقك - البخلُ؟ ! وهو الجوادُ الكريم. اسمع ما قاله العارفون في حكم البلايا: قال ابن القيم رحمه الله: من تمام رحمة أرحم الراحمين تسليطُ أنواعِ البلاءِ على العبد، فإنه أعلمُ بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانُه ومنعُه من كثير من أغراضه وشهواتهِ من رحمتهِ به، ولكن العبد لجهله وظلمه يتَّهم ربَّه بابتلائه، ولا يعلم إحسانَه إليه بابتلائه وامتحانه، فهذا من تمام رحمته به، لا من بخله عليه، كيف؟ وهو الجوادُ الماجد الذي له الجودُ كلُّه، وجودُ جميع الخلائق في جنب جودِه أقلُّ من ذرَّة في جبال الدنيا ورمالها، ومن رحمته سبحانه بعباده أنْ نغّص عليهم الدنيا لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها، ويرغبوا في النَّعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم (¬1). أيها المسلمون: وما يزال البلاءُ بالمسلم أو المسلمة حتى يدعه يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة. وإذا كان الموتُ من المصائب وداعيًا للحزن والألم، فالعين به تدمع، والقلبُ يحزن، والرحمات تنهمر لها العبرات .. فقد يكونُ في الموت راحةٌ للميت، وقد يبدأ من الموت أنسُ الميت وراحته وسعادته، فمن أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءَه، والمؤمن بالموت ينتقل من ضيق الدنيا وكدرها إلى سعةِ الآخرة وحبورها، وكم يغبط الناس عظماء الرجال لموتهم حين يموتون معظمين لكتاب الله مستمسكين بسنّته، داعين الناس للخير ومحذرين من الشر، ينشرون العلم النافع، ويدعون الخلق للعمل الصالح، أولئك نجوم تفتقدهم الأمة، ويحزن ¬

(¬1) إغاثة اللهفان 2/ 174 - 175.

الناسُ لموتهم، ويتسابقون لتشييع جنائزهم، يتدافعون بالمناكب ويطأ بعضهم أعقاب بعض، ونرجو أن تكون تلك عاجل البشرى لهم، وأن يعوّض المسلمين بفقدهم خيرًا. إن العالِم العامل والمجاهد الصادق لا يموت ذكره بين الناس وإن رحل عن الحياة الدنيا -فلا يزال الناس يعددون مناقبه، ويحيون ذكره، ويترحمون على فقده. فرق بين من يُذكر بخير وإن رحل، ومن يُنسى وهو بعدُ حيٌّ، أو يستبشر الناسُ لهلاكه، وإن الناس قد يُجاملون شخصًا في الحياة الدنيا ابتغاء نوله أو اتّقاء فحشه .. ولكن الموعد يوم الجنائز، فأيُّ شيء يبتغيه المشيِّع لجثة هامدة لا تملك لنفسها شيئًا؟ ! وأنّى لها أن تنفع الآخرين؟ ! لكنها المحبة والتقدير، والتعبيرُ عن حقِّ هذا العالم أو ذاك أو ذاك المجاهد المصلح، ولا تزال الأمة بخير ما بقيت تقدر الرجال وتشيدُ بمكانتهم، وتقدر جهادهم، وتثمِّن جهودهم. أيها المسلمون: إن في مشاهد الجنائز المشهودة للعلماء أو العظماء من الرجال والنساء تذكيرًا للأحياء بقيمة الجهاد في الحياة الدنيا، وتحريكًا للهمم لعمل الصالحات، وبذل الخير، وإسداء النصح، ودعوة الخلق لما يحييهم -فتلك وأمثالها من أعمال صالحة هي باعثات القبول والمحبة بين الناس. والناس شهود الله في أرضه، وهم شافعون ومُشفَّعون لمن حضروا جنازته -كما قال عليه الصلاة والسلام: «ما من ميت يُصلي عليه أمةٌ من المسلمين، يبلغون أن يكونوا مئة -فيشفعون له إلا شُفعوا فيه» رواه أحمد ومسلم والنسائي (¬1). اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين، اللهم ارفع درجتهم في المهديين، واخلفهم ¬

(¬1) صحيح الجامع 5/ 184.

في عقبهم في الغابرين، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر اللهم لنا ولهم يا رب العالمين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬1). ¬

(¬1) سورة آل عمران: الآية 185.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله المتفرد بالجلال والبقاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ما من غائبة في السماء والأرض إلا عنده في كتاب مبين، يقضي بالحق، ويحكم بالعدل، وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اختار لقاء ربِّه على البقاءِ وزينة الحياة الدنيا، والآخرةُ عند ربِّك للمتقين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. عباد الله: ونحن في هذه الأيام نقف على نهاية عام هجري وبداية عام جديد، تُرى كم خَلَّفنا من أفراحٍ وأتراح، وما الدروس التي ينبغي أن نَعيَها من أحوالنا في السراء والضراء، كم كسبت أيدينا من حسناتٍ أو سيئات، وكم لله علينا من فضلٍ في صحة الأجسام وسعة الأرزاق، والأمن في الأوطان؟ وهل استثمرنا هذه النعم بما يقربنا لمولانا، أم كانت سببًا لغفلتنا وطغياننا؟ أيها المسلمُ والمسلمة: ماذا تعني نهايةُ أوراق التقويم عندك؟ وبماذا يذكرك التاريخُ الجديد للسنة الجديدة إحدى وعشرين وأربع مئة وألف للهجرة؟ هل تذكرت أن سني عمرك تسير إلى النهاية؟ كما تقْلب كلَّ يوم ورقة ... وإذا استيقنت الممات فغبرُك من أبناء الملل الأخرى يستيقن ذلك {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (¬1) ... لكن ماذا بعد الممات؟ وذاك الذي يميزك عن غيرك. فكم يأخذ من حيّز تفكيرك البعثُ والمعاد، والجنة والنار، والقبرُ والحشر، والعرضُ والنشور؟ {وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬2). ¬

(¬1) سورة آل عمران: الآية 185. (¬2) سورة الجاثية: الآيات 27 - 29.

يا عبد الله: وهل يكفي منك مجردُ التفكير في هذه الأحداث الجسام المُقبلة، أم أن الأمر محتاجٌ فوق هذا إلى عملٍ وقوة إرادة، تحيل التفكير إلى برامج عمل تُدلّل بها على خوفك من الجليل واستعدادك للرحيل وما بعده؟ كم نقفُ مع أنفسنا صرحاء محاسبين؛ في كل يوم؟ أم على مدى الأسبوع؟ أم في الشهر مرة؟ أم على مستوى العام؟ ومن ألوان المحاسبة الجادة أن تسأل نفسك عن قوة الإيمان أو ضعفه، وعن الصلاة المفروضة في الحفاظ عليها، أو التهاون فيها، وعن المال، من أين تجمعه؟ وفيم تنفقُه؟ وعن اللسان ماذا تقول، وعما تمتنع؟ وعن السمع والبصر ماذا تسمع وتبصر؟ وعن الهموم والمشاعر، فلأي شيء تهتم، وماذا يدور في مشاعرك؛ هل تسعى لنشر الخير وتسرُّ له، وهل يسؤوك وجود الشر وتسعي جاهدًا لدفعه؟ هل يتجاوز تفكيرُك إلى هموم الأمة المسلمة ومستقبلها، أم تظل اهتماماتك قاصرةً على أهلكِ وأولادك؟ ما مقدار زهدك في الدنيا وإقبالك على الآخرة؟ هل تُحب للناسِ الذي تُحب أن يأتوا به إليك؟ هل يغلب عقلُك أم عاطفتك مع مواطن الشهوات والشبهات والفتن؟ هل تسؤوك السيئةُ إذا ابتُليت بها، وهل تفرح للحسنة إذا وفقك الله لها؟ إلى غير ذلك من أسئلة محاسبية نافعة. ألا ويح أمةٍ أو فردٍ تحيط بهم الغفلة، وتتقاذفهم أمواج الفتن، ويغيب عنهم الهدف من هذه الحياة، حتى إذا جاءت سكرة الموت بالحق عادت السكرة إلى فكرة، ورجع القلب المعنى إلى التفكر والذكرى، ولكن هيهات، وقد صاح به المنادي: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} (¬1). ¬

(¬1) سورة فاطر: الآية 37.

يا أخا الإيمان: وإني مذكرك وموصيك -ونفسي - مع نهاية عام وبداية عام بأمور، منها: 1 - اختم عامك المنصرم بالتوبة والاستغفار، فالتوبة تَجُبُّ ما قبلها ومن يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا، وطوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا. 2 - ابدأ عامك الجديد بالعزيمة على الخير، والجدية في عمل الصالحات مع استحضار التقوى والإخلاص والمتابعة، فالبدايات الطيبة القوية تقود إلى نهايات مُفرحةٍ بإذن الله، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (¬1)، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (¬2). 3 - حاول أن تتذكر نقاط الضعف عندك في العام المنصرم فعززها وتخلص من آثارها، ونقاط القوة فاستمسك بها، وحافظ عليها، وزد عليها ما استطعت. 4 - تذكر أهمية المداومة على العمل وإن قلَّ، واحذر الفتور المؤدي إلى الشرور والفتن. 5 - استمسك بهدي الوحيين -الكتاب والسنة - وإياك وتلاعب الأهواء، أو الانخداع بأهل الفتن والأهواء، ولا تنخدع بزخرفة الباطل، ولا يقعد بك عن اتباع الحق قلةُ الأتباع أو صعوبة الطريق، واسأل ربَّك أن تلقاه -يوم تلقاه - وهو راض عنك. 6 - تذكر أن عامك الماضي نقص من أجَلِكَ، وأن عامك الحاضر مُقربٌ لآخرتك، وأنت لا تدري أتستكمل هذا العام أو تطوى صحائفك في أثنائه، فكن ¬

(¬1) سورة العنكبوت: الآية 69. (¬2) سورة الطلاق: الآية 2.

دائمًا على حذر، واستعد للرحيل، وعظم أمر الآخرة. 7 - العالَمُ الكافرُ باتَ يُفكر تفكيرًا كونيًا، ويصدِّر أفكاره عالميًا -عبر عدة وسائل - فهل يدعوك ذلك إلى التفكير العالمي في هموم أمتك والمساهمة في الدعوة لدينك بكل وسيلة ممكنة؟ وهل تسهم في الحماية من الأفكار المتسللة الخبيثة، وتحمي نفسك وأسرتك أولًا من أساليب الفساد العالمية؟ 8 - وأخيرًا اعتبر -يا أيها الحيُّ - بمن رحل، كيف وبما ارتحل؟ وماذا بقي له بعد الرحيل؟ فأنت اليوم مُخبر، وغدًا ستكون الخبر.

الاتباع المحمود والمذموم

الاتباع المحمود والمذموم (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر أنبياء الله ورسله، ورضي الله عن الصحابة أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، فهي طريق الهدى، وأمان من الزيغ والهوى، وسبيل إلى الرزق، وسبب لتكفير السيئات، ورفعة الدرجات: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (¬2). {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (¬3). معاشر المسلمين: خطب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين فقال: «إن أحسن الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ}» (¬4). أخرجه البخاري (¬5). إنها كلمات جامعة في الاتِّباع والابتداع، والمتأمل في كتاب الله يجد حديثًا ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 9/ 5/ 1420 هـ. (¬2) سورة الطلاق: الآية 2، 3. (¬3) سورة الطلاق: الآية 5. (¬4) سورة الأنعام: الآية 134. (¬5) في الاعتصام، والأدب، «جامع الأصول»: 1/ 289.

مطولًا عن الاتّباع، ويقف على آيات كثيرةٍ في هذا الباب، ويلفت نظره تنوعُ الاتباع بين محمود ومذموم، وضارٍّ ونافع، بين اتباعِ الهدى والهوى، وبين اتباعِ سُنن المرسلين، وسبيل الذين لا يعلمون. كما يدرك أثر وعواقب الاتباع لهدي الله، وأثر وعواقب اتباع خطوات الشيطان .. ويعرض القرآنُ صورًا للمجادلة بين الأتباع، والمتبوعين، وكيف يحاول بعضهم البراءة من بعض، ويُلقي كلُّ طرفٍ باللائمة على الطرف الآخر، وفي النهاية قالوا: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} (¬1). عباد الله: وأصلُ الاتباع وأنفُعهُ ما كان لهدي الله وصراطه المستقيم، وذلك أمان -بإذن الله - من الضلالة والشقوة، كما قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} (¬2)، ولا خوف ولا حُزْن عليهم في اتباع هدى الله: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬3). وفي اتباع صراط الله كذلك، أمانٌ من الضياع والفُرقة، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (¬4). وكيف لا يتبعُ العبدُ سبيل الله وهو الذي خلقه وهو أعلمُ بما يُصلحه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬5). ولا يستوي من يتبعُ رضوان الله فيما شرعه، ومن يستحق غضب الله بإعراضه: ¬

(¬1) سورة غافر: الآية 48. (¬2) سورة طه: الآية 123. (¬3) سورة البقرة: الآية 38. (¬4) سورة الأنعام: الآية 153. (¬5) سورة الملك: الآية 14.

{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاءَ بِسَخْطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬1). فإن قلت: فما الطريقُ الموصلةُ لاتباع هدى الله؟ فالجواب: أنها حاصلة باتباع القرآن {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} (¬2). وباتباع المرسلين: {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ} (¬3). {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬4). وبالجملة فالاتباعُ بالمعروف، والإحسان سيما المؤمنين، وهو في دائرة الاتباع المشروع المحمود. وما أحوج البشرية إلى هذا النوع من الاتباع، إنْ في الحياة الدنيا، أو في الآخرة ويوم يقوم الأشهاد. أما الاتباع المذموم فتتنوع سبلُه، ويتعاظم خطره ويصابُ أصحابهُ بالخسارة في الدنيا والآخرة. ومنه اتباع الشيطان، قال تعالى: {وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (¬5). وخطوات الشيطان يدخل فيها سائرُ المعاصي المتعلقة بالقلب واللسان، والبدن، كما قال المفسرون (¬6). ومهما بلغ الشيطانُ في الوسوسة والإغراء والإغواء، فيظلُ أثره وكيده ضعيفًا على أهل الإيمان والتُّقى، ويتعاظم أثرُه كلما قلَّ الإيمان. ¬

(¬1) سورة آل عمران: الآية 162. (¬2) سورة الأنعام: الآية 155. (¬3) سورة يس: الآية 20، 21. (¬4) سورة آل عمران: الآية 31. (¬5) سورة النور: الآية 21. (¬6) السعدي، «تفسير كلام المنان»: 5/ 401.

ومن الاتباع المذموم اتباعُ الهوى، قال تعالى محذرًا: {فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا} (¬1). وقد يصلُ بالمرء إلى أن يتخذ الهوى إلهًا من دون الله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (¬2). وكم يُعمي الهوى ويُصمُّ، ويُضلُّ صاحبه في العبادات والمعاملات، وفيما بينه وبين ربِّه، أو بينه وبين خلقه، والعدلُ مطلوب، والإنصافُ للنفس وللآخرين منهج مشروع، ولكنه يحتاج إلى تقوى وصدقٍ وعزيمة. ومن الاتباع المذموم اتباعُ الشهوات والمغريات دون النظر في عواقبها، وترك النفس ترتع فيها كما ترتع البهائم في مرعىً قد يكون فيه حتفُها، بل يوجد في بعض نباته موادُّ سامةٌ مهلكةٌ لها. أجل، كم انحرف من البشر بسبب اتباع الشهوات المحرمة، فالنفسُ مولعةٌ بحب العاجل، وفي فِطر الناس حبٌ وميلٌ للشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث .. ونحوها. ولكن فيما أحلَّ الله غنية عن ما حرم، وفي الطيبات كفايةٌ عن الخبائث، وليست هذه الدنيا نهاية المطاف حتى يَعُبَّ المسلم من الشهوات ما شاء، ونصيبُ المؤمنين من هذه الملاذ في الآخرة يفوق أضعافًا مضاعفة، ما يحصل عليه أهلُ الشهوات في الدنيا: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬3). ¬

(¬1) سورة النساء: الآية 135. (¬2) سورة الجاثية: الآية 23. (¬3) سورة السجدة: الآية 17.

وإذا لحق الوعيد للمتبعين للشهوات -كما قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (¬1) - فقد أخبر الله عن الوسيلة الواجبة وحكم بالنتيجة فقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (¬2). وللعلماء العارفين حديثٌ مستفيض عن آثار الشهوة المحرمة وعواقبها المُرّة على صاحبها في الدنيا، وما ينتهي إليه عبيد الشهوات في الآخرة أشدُّ وأنكى. عباد الله: ولجهل الإنسان وقصور علمه أحيانًا، أو تغليب هوى النفس على مراد الله أحيانًا أخرى، فقد يتبع المرءُ الظنون ويتخلى أو يضعف استمساكهُ بالحقِ اليقين، واتباعُ الظنِّ من أنواع الاتباع المذموم، قال تعالى حاكيًا عن المشركين: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} (¬3). والظنُّ لا ينفُع من الحقِّ شيئًا، ولا يقوم مقامه، كما قال تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (¬4). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه. ¬

(¬1) سورة مريم: الآية 59. (¬2) سورة النازعات: الآية 40، 41. (¬3) سورة النجم: الآية 23. (¬4) سورة النجم: الآية 28.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، وفَّق من شاء من عباده لاتباع صراطه المستقيم، وتفرقت السبلُ بأقوام ضلوا السبيل، أحمده تعالى وأشكره وأُثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله. أيها المسلمون: ومن الاتباع المذموم التعلقُ بعادات الآباء وتقاليد الأجداد، وإن كانت مخالفة لشرع الله، والتحاكم إلى السلوك والعوائد الموروثة واعتبارها فيصلًا في القضايا والخصومات -كلُّ ذلك ضربٌ من ضروب الجاهلية، ونوع من الاتباع المذموم، وقد ذم القرآن أولئك الذين تعلقوا بما عليه آباؤهم وحالت بينهم وبين التسليم والاتباع لشرع الله، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} (¬1). ولقد شكَّل الاقتداءُ بما عليه الآباء حاجزًا دون اتباع المرسلين، وقبل لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يعاني من هذه التبعية الممقوتة: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (¬2). وهكذا -إخوة الإيمان - ينبغي أن نفرق بين العوائد والموروثات، وبين العبادات والأحكام المشروعة في التحليل أو التحريم، وبين الطاعة بالمعروف للآباء ¬

(¬1) سورة البقرة: الآية 170. (¬2) سورة الزخرف: الآيات 23 - 25.

والأمهات، وبين العصبية لهم، وإن كانوا على خلاف شرع الله. إخوة الإسلام: ومن التبعية المذمومة على مستوى الأفراد إلى التبعية المذمومة على مستوى الدول والأمم، وفي القرآن والسنة تحذير من تبعية الأمة المسلمة للأمم الكافرة وبخاصة اليهود والنصارى، قال تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (¬1). إن التبعية على مستوى الدول والأمم ممقوتة شرعًا وعقلًا، وهي سبيل للضعف والامتهان، بل طريق إلى الاضمحلال والزوال، فكيف إذا كانت المتبوعة كافرةً، والتابعة مسلمة، فذلك إزراء بالإسلام وأهله، وشك بهيمنة القرآن وحكمه، وإذا لم تُغن هذه الأمم الكافرة عن نفسها شيئًا، فكيف تدفع عن غيرها؟ ! ، ويوم القيامة يتبّرأ المتبوعون من التابعين، ويحمل كلٌّ منهم وزره على ظهره، كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} (¬2). وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (¬3). إخوة الإيمان: لقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أُمته من متابعة الكفار عامّة، والتبعية لأهل الكتاب خاصة، وتحققت نبوأته في فئام من المسلمين حين قال: «لتَتَّبِعُنَّ سَنن الذين منْ قبلكم شبرًا بشبر، أو ذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جُحر ضبٍّ لسلكتموه» ¬

(¬1) سورة البقرة: الآية 120. (¬2) سورة البقرة: الآية 166. (¬3) سورة العنكبوت: الآية 12، 13.

قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟ ! » (¬1). عباد الله: أما المخرج من هذه التبعيات المذمومة فهو بالاعتصام بالكتاب والسنة، ولزوم الصراط المستقيم، واتباع هدي المرسلين، والسير على منهج سلف الأمة المهديين، ولزوم سبيل المؤمنين، واتخاذ الشيطان عدوًا، ومجاهدة النفس عن الوقوع في الشهوات المحرمة، والبعد عن المحدثات المبتدعة في الدين. وبين أيديكم -عباد الله - وصيةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قال: «أُوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، وإنه مَنْ يعشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنّتي وسنةِ الخلفاءِ الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كلَّ بدعة ضلالة». رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح (¬2). يا أهل القرآن: وأختم الحديث هنا بمحاورة عُجلت لنا مشاهدُها مع تأخرِ وقوعها لنقف منها على تنازع وتلاوم الأتباع والمتبوعين ونهايتهم، يقول تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬3). ألا فاعتبروا يا أولي الأبصار، وَقُوا أنفسكم الحسرة والعذاب ما دمتم في زمن العمل. ¬

(¬1) متفق عليه، صحيح الجامع: 5/ 12. (¬2) رياض الصالحين: 87. (¬3) سورة سبأ: الآيات 31 - 33.

رجال القرآن

رجال القرآن (¬1) الخطبة الأولى: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} (¬2). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق وبايَنَ بينهم في الخلْقِ والخُلُق، وفَضْلُ الله يؤتيه من يشاء، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولهُ أخبر وهو الصادق الأمين: «إن الناسَ معادن، خيارُهم في الجاهلية خيارُهم في الإسلام إذا فقهوا»، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬3). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (¬4). عباد الله: الرجولة مصطلح تتطاول إليه الأعناق، وأكرم بالمرء يقال له: ذاك رجل، ولكن الرجولة ذات تبعات ومسؤوليات. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبيوم الجمعة الموافق 23/ 1/ 1421 هـ. (¬2) سورة الأنعام: الآية 1. (¬3) سورة النساء: الآية 1. (¬4) سورة لقمان: الآية 33.

الرجولة غير الذكورية، فليس كلُّ ذكر رجلًا، فثمة ذكورٌ في عالمِ الحيوان والطير والدواب، بل وفي عالم الإنس والجن ذكورٌ تقعد بهم همم الضعيفة، وصفاتهم الذميمة عن بلوغ معنى الرجولة الحقة. إذن فالرجولة الحقَّة مصطلح يحمل معاني كريمة، وصفاتٍ حسنةً من الصدقِ والإخلاصِ والشهامة والشجاعة والكرم والنجدة، والبرِّ والإحسان، والصبر والعفة، والدعوة للخير، والنصح للخلق، والوفاء بالعهود، وأداء الحقوق ونحوها من كريم الأخلاق وجليل المواقف. والرجولة بشكل عام وعاءٌ يحتوي عددًا من الأخلاق والشيم الفطرية والمكتسبة، تدور رحاها حول العبودية للخالق ونَفْعِ الخلق، وتنأى بصاحِبها عن سفاسف الأمور ومواطن الريب. وليس من الرجولة الحقَّةِ الغدرُ والخيانة، والكذبُ والجبنُ والبخل، وفحش القول والعمل، وفساد الظاهر أو الباطن، وما يندرج في النفاق العملي أو الاعتقادي، أو غير ذلك من صفاتٍ مستقبحة، وعوائد سيئة ومواقف يُستحى من ذكرها. أيها المسلمون: ومن تأمل في كتاب الله، وجد تأكيدًا على الرجولة وإشادة برجال ذوي صفات ومواقف جليلة، خلّد القرآنُ ذكرهم وترك صفاتهم محلًا للعبرة والذكرى، ودونكم شيئًا من نماذج هؤلاء الرجال ومواقفهم. النموذج الأول: وبه تتجلى شجاعة الرجال، وتقويةُ العزائم، والتهوين من شأن الأعداء، وإن كانوا ظلمةٌ جبارين، إذا توفر الإيمانُ والتوكل على رب العالمين، ويمثل هذا الموقف «الرجلان» في قوله تعالى: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ

اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (¬1). والقرآن -في هذا النموذج - يقص علينا خبر موسى عليه السلام مع بني إسرائيل حين حرضهم على الجهاد لتحرير بيت المقدس من العمالقة الجبارين، فاعتذر بنو إسرائيل لموسى عليه السلام من الدخول على هؤلاء القوم الأشداء الجبارين، وإن كان وعدهم بالنصر والظفر، فالأرض المقدسة كُتبت لهم، والتنازلُ عن ذلك ردةٌ توردهم المهالك، وقد كان، فعوقبوا بالتيه في الأرض أربعين سنة -حتى هلكوا ونشأ جيل غيرُهم. أما الرجلان فقد قال الضحاك أنهما كانا في مدينة الجبارين، ولكن على دين موسى عليه السلام، وكانا ناصحين لموسى ومن معه، ولكنهما كانا يخافان من العمالقة أن يطلعوا على إيمانهما فيفتنوهما، ومع ذلك وثقًا بالله وقاما بالنصح للمؤمنين والتّهوين من شأن الجبارين. وقيل في معنى {يَخَافُونَ}: إنهما كانا يخافان ضعْفَ بني إسرائيل وجبنهم. وقرأ بعضُهم (يُخافون) وهذا يقوي أنهما من غير قوم موسى، ولكن أنعم الله عليهما بالإسلام واليقين والصلاح (¬2). ومن دروس هذا النموذج أن الذّلة والمهانة والتمرد والسخرية والتخلي عن معالي الأمور تُفْضي إلى نهاية مؤلمة، ويُوصف أصحابها بالردة والفسوق. أما الشجاعة في سبيل الحق فتورث العزة والكرامة، ويستحق أصحابها نعمة الله ورضوانه. ¬

(¬1) سورة المائدة: الآية 23. (¬2) تفسير القرطبي 6/ 127.

النموذج الثاني: ومن قوم موسى عليه الصلاة والسلام إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نجد نموذجًا للرجال حقق معنى الرجولة في أعلى معانيها، وعن هذا النموذج الثاني قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (¬1). إنه نموذج للثبات على المبدأ، والإخلاص في الجهاد والطاعة والصدق مع الله في العهد، والوفاء للرسول صلى الله عليه وسلم بالوعد حتى يقضي الرجال نحبهم. أخرج البخاري في «صحيحه» عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بنُ النَّضْر عن قتال بدرٍ، فقال: يا رسول الله! غِبتُ عن أول قتالٍ قاتلتَ المشركين، لئن اللهُ أشهدني قتال المشركين ليَرَيَنَّ اللهُ ما أصنع، فلما كان يومُ أُحدٍ وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين. ثم تقدم فاستقبله سعدُ بن معاذ فقال: يا سعدُ بنَ معاذ! الجنّةَ وربِّ النّضْر إني أجد ريحها من دون أُحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صَنع، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنةً برمح، أو رميةً بسهم، ووجدناه قد قُتل، وقد مثَّل به المشركون، فما عرفه أحدٌ إلا أختهُ ببنانه، قال أنسٌ: كُنَّا نرى -أو نظن - أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهِه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (¬2)، إلى آخر الآية (¬3). إنهم حقًا نماذجُ للرجال في صدقهم وجهادهم في سبيل نشر دين الله ومقارعِة ¬

(¬1) سورة الأحزاب: الآية 23. (¬2) سورة الأحزاب: الآية 23. (¬3) البخاري ح 2805، الفتح 6/ 21.

الأعداء، تهون عليهم أرواحُهم وهو يتطلعون إلى الجنان. إخوة الإيمان: ومن قوم موسى وأصحاب محمد صلى الله عليهما وسلم إلى صاحب (يس) حيث النموذج الثالث لرجال القرآن، وبه يتجلى النصحُ للخلق والدعوى بالحسنى لاتباع المرسلين: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ} (¬1). وحين تجبّر أهلُ قريته وهمّوا بقتل رسلهم ولم يُفدْ نصحُه لهم أعلنها صريحةً في وجوههم: {إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} (¬2)، أو قالها مخاطبًا رسل الله ليشهدوا له بالبلاغ لقومه عند الله. وعلى الرغم من سوء صنيع قومه به -فقد ورد أنهم وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه، أو رموه بالحجارة حتى أقعصوه وقتلوه - فما زال ناصحًا متمنّيًا الخير لهم، متحسرًا على جهلهم وعنادهم بعد مماته وانتقاله إلى الدار الآخرة: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} (¬3). وهكذا لا تلقى المؤمن إلا ناصحًا ولا تلاقه غاشًا، قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: نصح قومه في حياته بقوله: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} (¬4)، وبعد مماته في قوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} (¬5) 4 - أيها المسلمون ويتكرر نموذج الرجل الساعي للخير مع موسى عليه السلام حين ¬

(¬1) سورة يس: الآيتان 20، 21. (¬2) سورة يس: الآية 25. (¬3) سورة يس: الآيتان 26، 27. (¬4) سورة يس: الآية 20. (¬5) تفسير ابن كثير: 3/ 904، 905.

تآمر الملأُ على قتل موسى عليه السلام، فيتحرك الإيمانُ في قلوب الرجال دفاعًا عن الحق وحفاظًا على نفوس أهل الحق، ويتغلب الرجلُ هنا على بُعد المسافة -حيث جاء من أقصى المدينة، وعلى خطورة الموقف وضيق الوقت، فيأتي مسرعًا (يسعى) مُتخفيًّا عن القوم الماكرين، وعنه يقول تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} (¬1). وهكذا حين يتحرك الإيمان في الضمير يُلِحُّ على صاحبه بفعل الجميل، حتى وإن انتهى به الموقفُ إلى مفارقة الحياة، فذلك نقلةٌ له من عالم الفناءِ إلى عالم البقاء، وخطوةٌ يخلصُ بها المؤمن من ضيق الأرض إلى سعة الجنة، ومن تطاول الباطل إلى طمأنينة الحقّ، ومن تهديد البغي إلى سلام النعيم، ومن ظلمات الجاهلية وبطش الجبارين إلى نور اليقين ورحمة أرحم الراحمين (¬2). هذا فضلًا عما يحصل له في الدنيا من العز والكرامة والحبِّ والود. وما يحصل لأعدائه من الذل والمهانة والخزي والندامة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} (¬3). ¬

(¬1) سورة القصص: الآية 20. (¬2) «في ظلال القرآن» سيد قطب، بتصرف يسير، تفسير يس ص 2964. (¬3) سورة مريم: الآيات 96 - 98.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل كتابه ليدَّبر الناسُ آياته، وليتذكر أولو الألباب، وجعل في قصصه عبرةً وذكرى وتصديقًا للنبي المجتبى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (¬1). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سلاَّه ربُّه بقصص الماضين، واستفاد أصحابه من مواقف المؤمنين، فجددوها فاتصلت قوافل الإيمان، واستمرت نماذج الرجال عبر رسالات المرسلين .. اللهم صلِّ وسلم عليهم أجمعين. عباد الله: أما النموذج الخامس فهو رجلٌ عاش إلى جانب فرعون الطاغية. ولم ترهبْه قوة فرعون وجبروتُه عن قول الحق والدفاع عن أصحاب الحق، بدأ أمره وهو يكتم إيمانه، ثم أظهر إيمانه حين اشتد الأمرُ وأراد المجرمون قتل موسى عليه السلام، وعنه قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (¬2). ثم يتابع الرجلُ المؤمنُ من آل فرعون جهوده ودعوته لقومه مذكّرًا تارة، ومحذرًا أخرى، ومخوفًا ثالثةً من بأس الله وشدته إن استمروا في كفرهم وعنادهم، مع ضرب الأمثلة والتذكير بمصائر الغابرين. ولكن هيهات أن يفيق السُّكارى أو يرعوي المجرمون المتكبرون. وأخيرًا يبلغُ ¬

(¬1) سورة يوسف: الآية 111. (¬2) سورة غافر: الآية 28.

الإعذار ويُذكّرهم بمستقبل الأيام، إذ لا يملك هدايتهم، ويفوّض أمره إلى الله، ويتوكل عليه بعد أنْ هددوه بالقتل ويقول: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (¬1). ويفيد بقيةُ السياق أن الله حفظه مما كادوا له، وأوقع بهم سوء العذاب: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} (¬2). أيها المؤمنون: ثم تُطوى صفحة الأيام على إثر هزيمة الباطل وأهله، وانتصار الحقِّ وأصحابه، ويتجدد الموقفُ بعد القرون في شخص أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو يدافع المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -إذ خنقوه خنقًا شديدًا، ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ} (¬3)؛ في قصة رواها أهل السير وأخرجها البخاري ومسلم. وقال علي رضي الله عنه: والله ليوم أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون، إن ذلك رجلٌ كتم إيمانه، فأثنى الله عليه في كتابه، وهذا أبو بكر أظهر إيمانه وبذل ماله ودمه لله عز وجل وجل. خرجه الترمذي الحكيم في «نوادر الأصول» (¬4). وما أشدَّ هذه الرواية أو مثيلاتها على الشّانئين لأبي بكر، والغالين في علي رضي الله عنهما، وكلاهما خيار، واللاحقُ يشهدُ بالفضل للسابق، وصدّيقُ الأُمةِ ملءُ السمعِ والبصر، وفضله وسبقُه وجهادُه لا ينكره إلا مكابرٌ أو حاقدٌ أو جاهلٌ. أيها المؤمنون: وحين نواصل المسير في تتبع رجال القرآن، نجد نماذج للرجال ¬

(¬1) سورة غافر: الآية 44. (¬2) سورة غافر: الآية 45. (¬3) سورة غافر: الآية 28. (¬4) تفسير القرطبي 15/ 309.

في صدق العبودية، والتحرر من الدنيا، والخوف والاستعداد ليوم المعاد .. أولئك الذين قال الله عنهم وأثنى عليهم بقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬1). إخوة الإسلام: إن الحديث عن رجال القرآن حديثٌ تستعذبه النفوس وتتقوى به الهمم، ويؤصل معاني الرجولة الحقة. يا قارئ القرآن: كم تشُدُّك مواقفُ رجال القرآن؟ وماذا تملك من خصالِ رجال القرآن؟ هل تنتصر للحقِّ كما نصره رجال القرآن؟ وهل تدعو الخلق إلى الحق كما دعا من قبلُ رجالُ القرآن؟ هل تحبُّ أهل الحقِّ وتُدافع عنهم وتنصح لهم كما فعل رجالُ القرآن، وهل تستهين بالباطل وتكشف خطط المبطلين كما صنع رجال القرآن؟ أين أنت من رجال القرآن؟ الذين لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار. إن قصص رجال القرآن تُتلى للعظة والاعتبار، ويُذكَّر بها المسلمون في كل زمانٍ ومكان ما بقي قارئٌ للقرآن. وهنا نطرح السؤال وندعُ لكل مسلم ومسلمةٍ الإجابة على السؤال .. والسؤال يقول: ماذا تثير فينا قراءة مواقفِ رجالِ القرآن؟ وهل نُعيد قراءتها اليوم نحن أحوجُ ما نكونُ إلى هدي القرآن؟ عباد الله: ألا ما أحوج الأمة إلى من يصيح بها قائلًا: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ ¬

(¬1) سورة النور: الآيات 36 - 38.

الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (¬1). ثم يصيح بها آخر صيحة أخرى قائلًا: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (¬2). وما أحوج الأمة إلى الأستجابة للنداء المنادي {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ} (¬3) رجال ينفضون عنها غبار الذُّل والهوان، ويقتلعون من القلوب مهابة الأعداء، ويرسّخون فيها خشية الله والتوكّل عليه وحده في حروبهم مع الأعداء، ويقولون لهم: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (¬4)، ويقولون لهم: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (¬5). ما أحوج الأمة في أزمان التشرد والضياع والغفلة والفساد إلى تجديد العهد مع الله وتحقيق العبودية له، وهنا ينعم الوجود بنماذج لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. تِلْكُم معاشر المسلمين من صيحات ونداءات رجال القرآن، وهي ومثيلاتُها إرثٌ لنا، وكنوزٌ من كنوز قرآننا، ودواءٌ لأسقامنا، وصدق الله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (¬6). {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (¬7). اللهم انفعنا بهدي القرآن، واشفنا بشفاء القرآن، واجعلنا من أهل القرآن. ¬

(¬1) سورة غافر: الآية 39. (¬2) سورة غافر: الآيتان 32، 33. (¬3) سورة يس: الآيتان 20، 21. (¬4) سورة المائدة: الآية 23. (¬5) سورة المائدة: الآية 21. (¬6) سورة الإسراء: الآية 9. (¬7) سورة الإسراء: الآية 82.

بناء العلاقات في الإسلام

بناء العلاقات في الإسلام (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3). أيها المسلمون: هل نكون عاطفيين حين نقول: إن الإسلام يبني ولا يهدم، ويجمع ولا يفرق، ويؤلف ولا ينفر؟ كلا. ولا نكون مجازفين حين نُصدر حكمًا بأن تشريعات الإسلام كلَّها تُعنى بإقامة العلاقات الإنسانية في كافة المجالات؛ الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وفي حالات الحرب أو السلام، فضلًا عن المجالات الدينية التي ترعى هذه العلاقات وتوجِّهها. بل يمكننا القول -مطمئنين - أن بناء العلاقات في الإسلام تتجاوز المسلمين إلى غير المسلمين، فماذا نقصد بهذه العلاقات، وعلى أي أساس تقام في الإسلام، ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 4/ 8/ 1420 هـ. (¬2) سورة النساء: الآية 1. (¬3) سورة المائدة: الآية 35.

وما وسائل ذلك وصوره؟ تعالوا بنا -عباد الله - لنتعرف على هذه الحقيقة في بناء الإسلام للعلاقات. ونستهل ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬1)، أليس في هذه الآية دعوة للتعارف والتآلف بين الناس؟ .. ولكن الآية لا تنتهي حتى تضع معيارًا للتفاضل، والقرب من الله، ذلكم معيارُ التقوى وليس شيئًا آخر. وفي آية أخرى من كتاب الله يُحدد الإيمان أساسًا للأخوة والتعاون وإصلاح ما قد يطرأ على بناء العلاقة بين المسلمين ويقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬2). وفوق ما في هذه الآيات من إشارات لبناء العلاقات، ففيها تأكيدٌ على معلمٍ واضح من معالم بناءِ العلاقات في الإسلام؛ ألا وهو التقوى والإيمان. وفوق ما سلف تأمل قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (¬3). أيها المسلمون: ولا يقف الإسلام في بناء العلاقات بين المسلمين عند التنظير، بل يدعو إلى تطبيق ذلك في عالم الواقع. أرأيتم السلام تحية أهل الجنة -أليس نموذجًا لبناء العلاقات، ونشر المحبة؟ يقول عليه الصلاة والسلام: «أولا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلامَ بينكم». ¬

(¬1) سورة الأنفال: الآية 13. (¬2) سورة الحجرات: الآية 10. (¬3) سورة الأنفال: الآية 1.

أو ليس إطعام الطعام صورةً أخرى من صور بناء العلاقات وإيجاد الألفة، فضلًا عما فيه من سد للحاجة؟ تأملوا ثناء الله على من يطعمون الطعام، فهم في قائمة الأبرار، وهم من عباد الله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} (¬1). وإطعام الطعام سبيل لاقتحام العقبة: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (¬2). إنها شبكة من العلاقات يقيمها الإسلامُ بإطعام الطعام لتشمل المسكين واليتيم والأسير، القريب والبعيد. وقولوا لي بربكم أي نظام في الدنيا يمكن أن يبلغ ما بلغه الإسلام في دعوته لإفشاء السلام، أو إطعام الطعام؟ إنها أعمالٌ وحركاتٌ يسيرةٌ نمارسها يوميًا، وقد لا نشعر بقيمتها في ربط العلاقات، وإفشاء الخير في المجتمعات. فكيف إذا أفشيتَ السلام على صغير، أو عُدت مريضًا، أو أعنت ضعيفًا، أو قضيت حاجةَ معوز، أو شفعت لصاحب حاجة، أو تبعت جنازةً، أو أهديت لقريب أو بعيد هديةً، أو دعوت لمسلم بظهر الغيب .. أو نحو ذلك من أنماطٍ وسلوكياتٍ حث الإسلامُ عليها ورغب في فضلها .. وهي تبني العلاقات وتستجيب لها القلوبُ وتُسرُّ بها النفوس. إخوة الإسلام: وفي بناء الأسرة كذلك تظهر عظمة الإسلام في بناء العلاقات، فالأرحام توصل والقريب يُعتنى به ويكرم .. والصدقة على القريب صدقة وصلة، ¬

(¬1) سورة الإنسان: الآيتان 8، 9. (¬2) سورة البلد: الآيتان 11 - 16.

والرحمن يصل من وصل، ويقطع من قطع الرحم. وإذا كان الأبوان في أعلى قائمة الرحم، فالوصية بهما إحسانًا وتكريمًا ورحمة ودعاءً لهما، والنهي عن إيذائهما حركةً أو تعبيرًا: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} (¬1). وفي آية أخرى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (¬2). ترون معاشر المسلمين كم تبني هذه القيمُ والمكارم من علاقات .. وكم فيها من وفاءٍ ورحمات ودعوات! وبين الزوجين مودةٌ ورحمة، وبيتُ الزوجيّة سكن حسيٌ ومعنوي: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬3). وحين يُعكر صفو هذه العلاقات مكدرٌ، أو يطرأ ما يخدش سكن الزوجية، يجيء تأكيد الإسلام على الصبر والتحمل والعفو والصفح، فقد يكره الزوج من زوجه خلقًا ويرضى خلقًا، وقد تكون نزغةً من النزغات ينبغي على الزوجين ألا يستجيبا لها، يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر» رواه مسلم، ومعنى «لا يَفرِك» أي: لا يبغض (¬4). ومثلُ هذا يُقال في الحفاظ على ¬

(¬1) سورة الأحقاف: الآية 15. (¬2) سورة الإسراء: الآيتان 23، 24. (¬3) سورة الروم: الآية 21. (¬4) رياض الصالحين.

العلاقات الأسرية بشكل عام، حتى وإن قوبل الإحسانُ بالإساءة، والوصل بالقطيعة، قال رجلٌ: إن لي قرابة أصِلُهم ويقطعوني، وأحسنُ إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فأقره صلى الله عليه وسلم وقال: «إن كنتَ كما قلتَ فكأنما تسفُّهم الملّ، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمت على ذلك» رواه مسلم. وفي التوجيه النبوي الآخر، قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الواصلُ بالمكافئ ولكن الواصلَ الذي إذا قُطعت رحمهُ وصلَها» رواه البخاري. عباد الله: وإذا كان هذا جانبًا من بناء العلاقات الاجتماعية في الإسلام .. فالأمر كذلك في جوانب المال والاقتصاد، فالعلاقةُ بين الغني والفقير تُبنى على أساس من العطف والرحمة والإيثار والمواساة، وإنظار المعسر، وحسن القضاء، فالفقير يُعان ويُتصدّق عليه، أو تدفع الزكاة له، ويُقرض قرضًا حسنًا، ولا يُلح عليه في الأداء إن كان معسرًا {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬1). {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (¬2). «اتقوا الله ولو بشق تمرة» إلى غير ذلك من نصوص تحث على البذل والصدقة والإحسان. وبكل حالٍ فلا ينبغي أن يكون المال دولة بين الأغنياء، ويحرم منه أصحاب الحاجات والفقراء. قال تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} (¬3). ¬

(¬1) سورة البقرة: الآية 280. (¬2) سورة المعارج: الآيتان 24، 25. (¬3) سورة الحشر: الآية 7.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كلَّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. عباد الله: ويظهر الفرق جليًا بين الإسلام وغيره من النظم البشرية، في بناء العلاقات من بوابة الاقتصاد، ولنأخذ نموذج الربا والاحتكار الذي حرمه الإسلام، وهو يشكل حجر الزاوية في اقتصاد الأمم الأخرى .. ترون هل يبني الربا والاحتكار العلاقات الإنسانية أم يهدِّدها ويقوّض بنيانها إذا كانت فئة قليلة من الناس تتورم عندها الأموال، وتحتكر الإعانة إلا بفائدة -بينما تظل فئةٌ كبرى من الناس تعاني من سداد الديون وتظل تكدح حتى تحصل على لقمة العيش بأي شكل من الأشكال؟ فكيف سينظر الفقير إلى الغني وتلك حالهما؟ وما نوع العلاقة التي ستخلفها الأثرةُ والأنانية، والشحّ والبخل، وسحقُ الفقراء في مجتمع الأغنياء؟ لا شك أنها علاقات كره لا تستقيم معها الحياة السعيدة. بل يُقال غير ذلك وعكس ذلك في بناء العلاقات في الإسلام عبر وسيلة البيع والشراء التي لا غش فيها ولا خداع ولا غُبن ولا نجش ولا كذب ولا احتكار للسلعة ولا مغالاة في الثمن، بل تُصحب بالسماحة واليسر وإنظار المعسر، وشعارنا -أهل الإسلام -: «رحم الله امرءًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى وإذا اقتضى». أيها الناس: ويمتد بناءُ العلاقات في الإسلام في حال السلم أو الحرب .. ففي السلم: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (¬1). ولكنه السلمُ الذي يقوم على تقدير ¬

(¬1) سورة الأنفال: الآية 61.

الحقوق، ورعاية العهود والوفاء بالمواثيق، لا يُعتدى فيه على كرامة الأمة المسلمة، ولا يُنقص من دينها، ولا تنكر فضائلها، ولا يعتدى على حرماتها، أو يعبث بمقدساتها. وفي حال الحرب هناك تشريعات وآداب للجهاد تضمن بقاء الجهاد في سياق بناء العلاقات، فالجهاد أساسًا لإعلاء كلمة الله، وهو لدفع الظلم، وإزالة الطواغيت التي تصد الناس عن الدخول في السّلم كافة، وهو لإقرار حكم الله وشرعه في الأرض، بدل شريعة الغاب وقوانين البشر، وتلك -وربي - ونحوُها من أهداف الجهاد في الإسلام، بناء للعلاقات الإنسانية في مضامينها وأهدافها وآثارها، وأن بدت ظاهرًا وكأنها من مظاهر الشدة وسفك الدماء، وإعمال السيف في الرقاب عند من يجهلون حكمة التشريع، أو يريدون تشويه صورة الجهاد في الإسلام. أيها المسلمون: وحين نتحدث عن بناء العلاقات في الإسلام ينبغي أن لا يغيب عن بالنا الإشارة إلى المؤلفة قلوبهم، أولئك القوم الذين جاء النصُّ القرآني باعتبارهم أحد الأصناف الثمانية الذين تدفع لهم الزكاة، وسواء كان المؤلفة قلوبهم مشركين ليسلموا، أو مسلمين ليحسن إسلامهم وتثبت قلوبهم، أو ليسلم نظراؤهم، أو ليدفعوا عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد .. أو غير ذلك من أغراض التأليف التي تَصُبُّ كلُّها في تأليف القلوب وترغيبها في الإسلام .. ثم هي في النهاية بناءٌ للعلاقات وتوسيع لدائرة المحبة، وتضييق لهوَّة الخلاف والعداوة. وفي سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تطبيقاتٌ عالية ونتائج بالغة الأثر في التأليف، وهذا نموذج لها: عن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس

إليَّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأَحَبُّ الناسِ إليَّ. رواه أحمد ومسلم وغيرهما (¬1). بل ويبلغ محمد صلى الله عليه وسلم بالتأليف مبلغًا عاليًا، إذ لا يقتصر تأليفه على المال، بل يؤلف بالنظرة الهادفة، وبالكلمة الطيبة، وبالموقف اللطيف، وبإنزال الناس منازلهم، حتى ملك القلوب وانصاع له الأعداء. وكان في سيرته نموذجًا لبناء العلاقات وبكل حال، فمقام التأليف في القرآن والسنة والسيرة يحتاج إلى وقفة متأملة، لا يتسع المقامُ الآن لبسطها أكثر من ذلك. عباد الله: ومَدُّنا الحضاري وإسهامنا في بناء العلاقات يصل إلى أهل الكتاب. ولكنه مصحوب بالعزة، مشروط بالتزام العقيدة الحقة: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬2). وفي هذا الصدد وفي سبيل بناء الإسلام للعلاقات مع الآخرين يرشد إلى العدل مع البعيد والقريب: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (¬3). ويأمر بالعدل حتى مع وجود الخلاف مع الطرف الآخر: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (¬4). إخوة الإسلام: تلك خطوط عامة وإشارات سريعة إلى عظمة الإسلام في بناء العلاقات، ويبقى بعد ذلك السؤال المهم: لماذا، وما الهدف من الحديث عن هذه العلاقات؟ ¬

(¬1) انظر: تفسر ابن كثير لآية التوبة: 60. (¬2) سورة آل عمران: الآية 64. (¬3) سورة الأنعام: الآية 152. (¬4) سورة المائدة: الآية 8.

ويمكن الإجابة بعدة أهداف: منها: المعرفة بوسائل بناء العلاقات في الإسلام ليتمثلها المسلمُ في حياته ويساهم في بناء العلاقات في مجتمعه -الصغير والكبير - وليكون عنصرًا إيجابيًا في غرس بذور المحبة والصفاء، وعضوًا فاعلًا في محاربة القطيعة والنزاع. هذا من جانب، ومن جانب آخر ليعلم الناس عظمة ديننا من خلال سلوكياتنا، فتدعوهم أخلاقنا وسلوكياتنا للإسلام قبل أن تصل إليهم كلماتنا. وأمرٌ ثالث: لتؤكد في معترك الصراع بين الحضارات أن ديننا الإسلام أعظم دين عرفته البشرية في بناء العلاقات بين بني الإنسان على أسس من المحبة والعدل، وبيان ذلك يكشف عن عور الأنظمة الأخرى التي تعتمد القوة وسلطان المادة، وتتخذ من مصطلحات العولمة والحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية شعارات زائفة لتحقيق أغراضها الخبيثة، فإذا الناس يكتشفون ما بها من ظلمٍ وجورٍ وأنانية وتسلط. وحين يتأخر الإسلام في قيادة البشرية فإنما يُلام المسلمون لضعف انتمائهم للإسلام، وتبقى تعاليم الإسلام تنتظر من يستثمرها ويفتح بها القلوب والبلاد. اللهم ردّ المسلمين إليك ردًا جميلًا، وهيئ لهم من أمرهم رشدًا.

تربية القادة

تربية القادة (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له. إخوة الإسلام: الأبوان سيدان في بيتهما، ولهما حقُّ التقدير والإكرام من أولادهما، والمعلمُ والمعلمةُ بين طلابهم، لهم المسؤولية الكبرى في التعليم والتربية، وعلى طلابهم أن يحترموا علمهم ويقدروا جهودهم، وكذا المسؤول في دائرته، والتاجر بين أجرائه، وكلُّ صاحبِ مسؤولية مهما كبرت أو صغرت مسؤوليتهم، كل هؤلاء يمكنهم أن يفرضوا على الآخرين احترامهم بحسن خُلقهم، وتقدير مشاعر الآخرين الذين يتعاملون معهم -ولو كانوا أقلَّ منهم منزلة. وبإمكانهم -كذلك - أن يفرضوا شخصياتهم بالقوة والقسر على من دونهم، ويلزموهم بطاعتهم ظاهرًا، وإن كرهوهم أو خالفوهم باطنًا. هذان -معاشر الإخوة - نمطان وأسلوبان مختلفان في أسلوب تعامل الكبير مع الصغير، أو المعلم مع الطالب أو الرئيس مع المرؤوس، وكما الفرق كبيرٌ في أسلوب التعامل، فالفرق كبيرٌ في النتائج والآثار. فالأبوان اللذان يتعاملان مع الأولاد بروح الأبوة الحانية المعلمة، فيعلمان أولادهما بالحسنى، ويتيحان لهم فرصة النقاش فيما يشكل عليهم، أو تخفى عليهم ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 25/ 10/ 1419 هـ.

أسرارُه وآثاره، ويتركان للأبناء والبنات فرص التعبير عن وجهات النظر، ثم يُعْقبان بالقبول على ما يُستحسن من رأي، ويبينان لهم ما في الرأي الآخر من أوجه نقصٍ وتقصير. هذان الأبوان المربيان يخرج لهما -بإذن الله - أولادٌ ممارسون في الحياة، عارفون بالصواب والخطأ، قادرون على النقاش مع الآخرين، بل ولديهم أداةٌ لتمييز الضارِّ من النافع، وهم مؤهلون للقيادة أكثر من غيرهم. الأبوان القسريان اللذان لا يتيحان أيَّ فرصةٍ للنقاش، ولا يقبلان أيَّ وجهة نظر ممن هو دونهم، ولو كانت أسلم من وجهة نظرهم، هؤلاء الآباءُ «العنتريون» يمكن أن يستسلم لهم الأولادُ فترة، لكنهم ربما انفجروا من شدتهم قبل تمييزهم، فتكونُ النتيجة مرةً، وربما خرج من تحت أيديهم أبناء غيرُ قادرين على مواجهة مصاعب الحياة، أو على تحمل المسؤولية بكفاءة عالية؛ لأن شخصياتهم لم تنمُ، ومواهبهم لم تستثمر فترة من الزمن. وهكذا الشأن بالنسبة للمعلمين مع الطلاب، أو المسؤولين مع من تحت أيديهم في أي مهنة .. وأيًا كان حجمُ المسؤولية، إذ الفرق كبير بين من يُقدر للآخرين رأيهم، ويحترم ذواتهم، وينمي فيهم، حبَّ العلم أو العمل، ويزرع فيهم بذور الرقابة الذاتية، ويريبهم على الثقةِ، تربية السادة والقادة، لا تربية العبيد التابعين. وبين من شأنه الصلفُ والتعسفُ، وإصدارُ الأوامرِ، والمطالبةُ بسرعةِ الأداء، مهما كان نوعُ الأمر، وقدرةُ المأمور وظروفه. إن هذا النوع الأخير من التربية لا يصنع قادةً ولا يُصلح مجتمعًا، ولا يؤهل أمة للريادة والقيادة. وما أحوجنا في بيوتنا، ومدارسنا، ومؤسساتنا ومجتمعنا وأمتنا، إلى إخراج قادةٍ يقتنعون بتربيتنا بالقدوة، وتبنى فيهم القدراتُ الذاتية على التفكير،

والإيجابية في العطاء، لا أن نخرج نسخًا كربونية، لا تتحرك إلا حين تُحَرَّكُ، ولا تُعطي إلا بقدر ما أَخَذَتْ، وتظل دائمًا تنتظر الآخرين ليقدموا لها كلَّ ما تحتاج إليه. أجل؛ إن تكريم بني آدم فطرة الله، وتفضيلُهُمْ منسجمٌ مع تقدير الله في خلقه، يقول جلَّ شأنه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (¬1). والآيات التي تدعو للتفكير والتأمل والعمل والإنتاج كثيرة في كتاب الله، وفي المقابل فالله تعالى ينهى عن السلبية والجمود، والاتكال والقعود في أكثر من آيةٍ وأكثر من مثلٍ في كتابه، ويكفي أن تقف من ذلك على قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬2). وفي سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، نماذج رائعة لطرائق عاليةٍ في التربية على يديه، وبمثل هذه التربية تخرجت نماذج فريدة في القيادة. فمصعبُ بنُ عمير رضي الله عنه -الشابُّ - يُبعث للمدينة لمهمةٍ كبرى، وبعد أن علَّمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ورباه، أعطاه الثقة في العمل والدعوة، وكان الشاب عند حسن الظنِّ به، فما لبث غير يسير حتى أدخل الله الإسلام على يديه إلى كل بيت من بيوت أهل المدينة، ثم تستمر الثقة به، ويسقط شهيدًا في أحد وهو يحمل راية المسلمين، ولا شك أن هناك من يكبره سنًا من المسلمين لكنها تربية القادة، وأسلوب الثقة التي يغرسها النبيُّ المعلُمِ في هؤلاء الشباب الذين أصبح من بقي منهم على قيد الحياة رجال المستقبل وأصحابَ الشأن. ¬

(¬1) سورة الإسراء: الآية 70. (¬2) سورة النحل: الآية 76.

ويستمر صلى الله عليه وسلم في إعطاء الثقة بأصحابه، ولو كانوا شبابًا أحداثًا حتى آخر لحظة من حياته، إذ أمر شابًا آخر بقيادة جيش فيه أمثال أبي بكر وعمر، وأبي عبيدة وطلحة وسعدٍ، وعبد الرحمن بن عوف وسواهم، وذلك لملاقاة الروم بالشام. ويشاء الله أن يتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيش أسامة معسكرٌ بالجرف من نواحي المدينة، فيصر الخليفة الأول على إنفاذ الجيش الذي عقد لواءه الرسولُ صلى الله عليه وسلم، ولو سُمِعَ من أفراد الجيش من يقترح تولية من هو أسن من أسامة. ولو قيل له: إن ظروف المدينة لا تسمح بخروج الجيش منها. إلا أن أبا بكر يُصر، ثم يشرح الله صدر المسلمين لما رآه، ويسير جيش أسامة، ويسير بإزائه الخليفة الصديق ماشيًا، وأسامة راكبًا، فيتحرج الشابُّ من صنيع الخليفة ويقول: يا أمير المؤمنين لتركبَنَّ أو لأنزلن، فيرد أبو بكر: والله لا تنزل، ووالله لا أَركب، ثم يستأذنه في إبقاء عمر إلى جانبه في المدينة (¬1). أيُّ تربية هذه خطها رسولُ الله، وقفّى أثرها صحابته من بعده (¬2)، فأَنتجت جيلًا فَريدًا شهد العالم له بالتميز والصدق! وقد اصطفاه ربُّهُ وأدبه فأحسن أدبه، وأوحى إليه أسلوب التعامل مع أصحابه فقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (¬3). ¬

(¬1) انظر البخاري مع الفتح 8/ 152. (¬2) انظر موقف عمر مع ابن عباس رضي الله عنهما، الصحيح مع الفتح 8/ 130. (¬3) سورة آل عمران: الآية 159.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا طاهرًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، وخيرتُه من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. إخوة الإيمان: تقدير الذات، واحترام رأي الآخرين، والثقة المتبادلة، والإيجابية البناءة في الأخذ والعطاء، ورعاية الحقوق العامةِ والخاصة، والتفاهم بالحسنى .. كل هذه مفرداتٌ مهمةٌ للحياة الكريمة المنتجة. أما التربية بالقسر، والإقناع بالقوة، وإسكات الطرف المقابل قبل سماع ما لديه، فتلك، وإن خيل لك -أيها المربي - أنها أسلوبٌ أمثل في التفوق وإقناع الآخرين .. ، فليست كذلك، وهي، وإن عالجت الموقف عاجلًا، فلها آثارُها السيئة مستقبلًا، ويكفي أن فيها هدرًا للكرامة، وقتلًا للمواهب، وسحقًا للذاتِ، وخسارة لرأي قد يكون هو الأصوبَ والأنجحَ. أيها المربي: إنك قد تحتقر رأي الصغير، أو الضعيف، ولكن ثق أن مجرد تعويده على المشاركة وطرح الرأي طريقٌ لتربيته ووصله إلى الرأي الصائب مستقبلًا، واحتمالك للخطأ، في سبيل تدريب الناشئة على الرأي والتفكير كسبٌ كبير. أيها المسلمون: وكما تسري هذه المفاهيم على الأفراد تسري -كذلك - على الدول والمجتمعات، فالعدل أساسُ في قيامها، وتقديرُ الشعوب، واحترامُ الرأي، وتوفيرُ الحرية المنضبطة بحدود الشرع، وصيانةُ الحقوق لكافة الأفراد، وإعطاء الثقة مع المراقبة؛ كل ذلك يُسهم في تعميرِ الدول، وإصلاح الراعي والرعية،

واشتراك الجميع في المسؤولية، ولا تتيحُ الفرصة لتعطيل أي طاقة. أما الظلمُ والتسلط، وإغفالُ رأي الآخرين، وهدرُ كراماتهم، وسلبُ حقوقهم، واعتبار الريبة محل الثقة، وتعطيل الطاقات، وفشو الأنانيات فذلك معجلٌ بالنهاية، مؤذن بالزوال. وهنا قاعدةٌ نقلها وقررها شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله - وهي جديرةٌ بالتأمل، إذ يقول: وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم. ثم قال: ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلَةَ وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام (¬1). وهذا الكلام النظري الذي ساقهُ ابن تيميَّة في آثار العدل والظلم، يُصدقه الواقعُ العملي للدول قديمًا وحديثًا، فكم من دولة حكمت بالحديد والنار، وظلم الناسِ وأهدرت كراماتهم وسلبت حقوقهم، ثمَّ لم تلبث هذه الدول الظالمة أن تهاوتْ عروشُها، وأصبحت عبرة للمعتدين! والعكس بالعكس. إخوة الإيمان: إن الإسلام سابقٌ في تقرير هذه المعاني الكريمة، حاثٌ على العدل، ناه عن التسلط والظلم، مقدرٌ للآراء، حافظ لكرامة بني الإنسان. ومن المؤسف أن يتخلف المسلمون عن تطبيق هذه المعاني أو بعضها، ثمّ تظهَرَ عند الدول الكافرةِ أنماط من العدل، وتقدير الكرامة، وحفظ الحقوق، واحترام الرأي فيظن بعض الجهلة ذلك تقصيرًا من الإسلام، والحقُّ أنه من تخلف المسلمينَ وتقصيرهم، وفوق ما سلف من نصوص تؤكد عناية الإسلام بهذا الجانب، فيكفي ¬

(¬1) الفتاوى 28/ 146.

أن تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل شفاعة وجوار امرأةٍ وأعلن ذلك على الملأِ بقوله «لقد أجرنا من أَجرتِ يا أم هانئ»، وقبل مشورةً أخرى يوم الحديبية، حين تأخرَ المسلمون في الحَلْق -إذ لم يعتمروا - فأشارت عليه أحدُ نسائه بأن يبدأ في الحلق أمام المسلمين، ففعل وتتابع المسلمون يحلقون. وفي سيرته صلى الله عليه وسلم عمومًا، كان يُقَدِّرُ الشبان ويأذن لهم بحضور مجالس الكبار. وفي سيرة ابن عمر، وابن عباس وأمثالهما .. نماذج لا تُدانى في تقدير آراء الصغار، وإشراكهم في المهمات مع الكبار. وإذا كان هذا صنيعَه مع النساء والصغار .. فلا تسأل عن هديه وأسلوب تعامله مع الرجال والكبار. والسؤال المهم: كيف ننمي هذه المعاني، ونسهم في تربية القادة ونفسح المجال للقدرات، ونحافظ على الحقوق والكرامات؟ لا بد في هذا الصَّدد من شعور المربين بهذا النوع من التربية، ولا بد من الممارسة العملية لمن يربون، والآباء والأمهات والمعلمون والمعلمات والمسؤولون والرؤساء كل أولئك مسؤولون عن تحقيق هذه المعاني وغيرها فيمن تحت أيديهم، واقعًا لا تنظيرًا، إذ لا بد من قراءة السيرة النبوية، وسير الأعلام والنبلاء. والمناهج التعليمية لا بد من صياغتها بشكل يحقق هذا الغرض للدارسين، وقبل هذا وذاك، لا بد من وعي المعلمين واستشعارهم، ولا بد من قيام السياسة الإعلامية على أساس من الصدق في الطرح، والثقة في النقل، وإعطاء الفرصة لكل رأي بناء، ولا بد من ضرب النماذج العادلة التي تدعو للإعجاب والاقتداء، أما التعتيمُ في النقل، وحجبُ الرؤية الصحيحة، والإسراف في الثناء، وإغفالُ القيم الكبرى، وبروزُ المهرجين، واختفاء العلماءِ والمفكرين الجادين عن هذه الوسائل الإعلامية، فكل ذلك يؤخر الوعي، ويُسهم في نقل

الغثاء، ولا يعين على استثمار الطاقات. ومن الأمور المعينة كذلك: إفشاءُ الشورى وتشجيعُ المؤسسات الشورية، والكتابةُ في هذا الميدان، واستخدام الاستبانة في الآراء، والعملُ بنتائجها، ولا بد من شعور العلماء بقدرهم، ولا بد من استفادة الصغار من تجارب الكبار، وتقدير الكبار لهمم وآراء الصغار. وهكذا تتكامل القدرات، ويستفاد من كافة الإمكانات، ولا يغدو في المجتمع عاطل، ولا تهدر طاقة، ولا يستخف برأي أو مشورة وحينها نبلغ بتربيتنا تربية القادة، وتثمر الخطوة ثمارها في العاجل والآجل. اللهم سدّدْنا في أقوالنا وأفعالنا.

قصة ذي النون عليه السلام

قصة ذي النون عليه السلام (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أعطى كلَّ شيء خلقه ثم هدى، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬2). وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله فضَّله بالنبوة، وعلَّمه بالرسالة ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيمًا. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬3). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬4). عباد الله: في القصَص بشكل عام سلوةٌ وعبرة، وأحسنُ القصص قصص ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 23/ 12/ 1419 هـ. (¬2) سورة الحديد: الآية 4. (¬3) سورة الحجرات: الآية 13. (¬4) سورة المائدة: الآية 35.

القرآن: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬1). وسأورد لكم -في هذه الخطبة - طرفًا من قصة نبيٍّ رسول دعا قومه فلم يستجيبوا له أول الأمر، فذهب مُغاضبًا لهم، وركب البحر وشاء الله أن تقف به وبمن معه السفينة في لجِّ البحر، أو تهيج بها الرياحُ العاتية، مما أحوج إلى الاقتراع وإنزال أحدِ ركابها، فوقع السَّهم على هذا النبي، فكان من المدحضين، فالتقمه الحوتُ وهو مليم، ولذا نسُب إلى الحوت فقيل له: (ذو النون)، وعاش فترة في بطن الحوت، لا يهشم له لحمًا، ولا يكسر له عظمًا، لكنه في ظلمات موحشة، أنقذه الله منها -وإن خرج سقيمًا ضعيفًا - بسبب تعرُّفِه على الله في الشدة كما كان يعرفه في الرخاء، وإذا احتمى الأنبياءُ بحمى الله واعترفوا له بالخطيئة، ودعوه بالفرج فغيرهم أولى بذلك. إنه يونس بن متّى صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء، عاش في أرض الموصل، وبعثه الله إلى أهل نينوى، وسمَّى في القرآن سورة باسمه، وذكره في معرض قصص الأنبياء؛ فقال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). وفي «الصافات» عرضٌ وتفصيلٌ لبعض ما أجمل في قصته (¬3)، وفي سورة ¬

(¬1) سورة يوسف: الآية 111. (¬2) سورة الأنبياء: 87، 88. (¬3) الآيات من 139 - 148.

«القلم» تذكير لمحمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقصة يونس، وأخذ العبرة منها (¬1). وفي قصة يونس -بشكل عام - درس وعبرة للأمة التي نزل عليها القرآن، وفيها حكمٌ وآداب ودعاءٌ مستجاب يتجاوز يونس إلى غيره من المؤمنين -كما سيأتي البيان. أيها المسلمون: وقبل أن أقف على شيء من دروس قصة يونس عليه السلام -أسوق لكم تفصيلًا أكثر لقصته وردت في السنة، رواها ابن أبي شيبة في «مصنفه» وعزاها صاحب «الدرر المنثور» إلى أحمد في «الزهد»، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم وغيره، ونقل الحافظ ابن حجر مقطعًا منه وحكمَ بصحة رواية ابن أبي حاتم كما في «الفتح» (¬2) وصحّحها غيره (¬3). والرواية بنصِها عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «إن يونس عليه السلام كان وعد قومه العذاب، وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام، فتفرقوا بين كل والدةٍ، وولدها، ثم خرجوا فجأروا إلى الله واستغفروه، فكفَّ الله عنهم العذاب، وغدا يونس عليه السلام ينتظر العذاب فلم ير شيئًا، وكان مَنْ كَذَبَ ولم يكن له بيِّنة قُتل، فانطلق مغاضبًا، حتى أتي قومًا في سفينةٍ، فحملوه، وعرفوه. فلما دخل السفينة ركدت، والسفن تسير يمينًا وشمالًا، فقال: ما بال سفينتكم؟ قالوا: ما ندري. قال: ولكني أدري، إن فيها عبدًا أَبِقَ من ربه، وإنها والله لا تسير حتى تُلقوه، قالوا: أما أنت والله يا نبي الله فلا نلقيك. فقال لهم يونس عليه السلام: اقترعوا فمن قرع فليقع، فاقْتَرَعوا، فقرعهم يونس عليه السلام ثلاث مرار، فوقع وقد وُكِّل به الحوت، فلما وقع ابتلعه فأهوى به إلى قرار الأرض، فسمع يونس عليه السلام تسبيح الحصى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ ¬

(¬1) الآيات من 48 - 50. (¬2) 6/ 452. (¬3) صحيح القصص النبوي، الأشقر 123.

سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬1). قال: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل. قال: {لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} (¬2). قال كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين، فكان يستظل بها أو يصيب منها فيبست، فبكى عليها حين يبست، فأوحى الله إليه: أتبكي على شجرة أن يبست، ولا تبكي على مئة ألف أو يزيدون، أردت أن تهلكهم؟ ! فخرج فإذا هو بغلام يرعى غنمًا، فقال: ممن أنت يا غلام؟ قال: من قوم يونس، قال: فإذا رجعت إليهم فأقرئهم السلام، وأخبرهم أنك لقيت يونس. فقال الغلام: إن تكن يونس فقد تعلم أنه من كذب ولم يكن له بينة قتل، فمن يشهد لي؟ قال: تشهد لك هذه الشجرة، وهذه البقعة. فقال الغلام ليونس: مُرْهما، فقال لهما يونس عليه السلام: إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا له، قالتا: نعم. فرجع الغلام إلى قومه، وكان له إخوة، فكان في منعة فأتى الملك، فقال: إني لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام، فأمر به الملك أن يقتل، فقال: إن له بينة، فأرسل معه، فانتهوا إلى الشجرة والبقعة، فقال لهما الغلام: نشدتكما بالله هل أشهدكما يونس؟ قالتا: نعم، فرجع القوم مذعورين يقولون: تشهد لك الشجرة والأرض! فأتوا الملك، فحدثوه بما رأوا فتناول الملك يد الغلام فأجلسه في ¬

(¬1) سورة الأنبياء: الآية 87. (¬2) سورة القلم: الآية 49.

مجلسه، وقال: أنت أحق بهذا المكان مني، وأقام لهم أمرهم ذلك الغلام أربعين سنة. إخوة الإيمان! ومن دروس القصة: أهمية الصبر والحاجة إلى التواصي به، إن في دعوة النفس إلى الخير وترويضها عليه أو دعوة الآخرين لذلك، ولهذا جاء تأنيسُ محمد صلى الله عليه وسلم به وتذكيره بقصة يونس في سبيل دعوة قومه: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬1). ثانيًا: وما قدَّره الله على يونس لحكمةٍ بالغة، لا يقلِّل من شأنه ولا ينبغي لأحدٍ أن يقولَ عنه أنه أفضل منه، ولذا ورد في «الصحيحين» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى» (¬2). قال الحافظ ابن حجر: وقيل: خصَّ يونس بالذكر، لما يُخشى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيصٌ له، فبالغ في ذكر فضله لسدِّ هذه الذريعة (¬3). ثالثًا: قدرةُ الله عظيمة في كل شيء، وهي واضحة المعالم في قصةِ صاحب الحوت، فيونسُ يظل حيًا، وإن غيب في ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل، والحصا يسبح الله في قاع البحر، والله أقدر الشجر والحجر وأنطقها على الشهادة للغلام المخبر بخبر يونس عليه السلام، والله وحده هو الذي يسكن الرياح فتظل السفنُ رواكد على ظهر البحر، أو يهيجها فتضطرب، وربما غرقت وأغرقت من ¬

(¬1) سورة القلم: الآيات 48 - 50. (¬2) البخاري 3416 (¬3) الفتح 6/ 452.

فيها، ولا خير فيمن يدعو ربَّه مخلصًا إذا رأى الهول في البحر، فإذا نجاه الله إلى البر إذا هو من المشركين الجاحدين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} (¬1). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. ¬

(¬1) سورة الإسراء: الآية 67 - 69.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، جعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، كاشف الضر، ومزيل الغمِّ والهم، ومُنجي المؤمنين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ترك الأمة على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. إخوة الإسلام: وما أحوج الأمة المسلمة في ظروفها الراهنة، وكروبها المتلاحقة والظلمات المحيطة بها، أن تعي الدرس في قصة صاحب الحوت، فتتجه إلى الله وحده، وترغب إليه وتدعوه دعاء المكروب، دعاء المعترف بخطئه والواثق بنصرة خالقه، واللهُ لا يخيب الرجاء، ولا يقطع حبل السماء، والله قريبٌ لمن دعاه .. وكم هو عظيمٌ دعاءُ ذي النون! وأعظم منه سماعُ النجوى واستجابة الله للنداء: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). عباد الله: كم تغيب عنا هذه الدعوة واسمُ الله الأعظم وهما مفتاح للإجابة وسبيل للنجاة. روى الإمام أحمدُ والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دعوة ذي النون: {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬2) فإنها لا يدعو بها مسلم ربَّه في شيء قط إلا استجاب له». ورجال ¬

(¬1) سورة الأنبياء: الآيتان 87، 88. (¬2) سورة الأنبياء: الآية 87.

أحمد رجال الصحيح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي (¬1). وفي رواية: «اسم الله الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، دعوةُ يونس بن متّى»، قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: «هي ليونس بن متّى خاصة، ولجماعة المؤمنين عامة، إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله عز وجل: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} (¬2)»؟ هكذا جاء في هذه الرواية عن اسم الله الأعظم (¬3). وورد في رواية صحيحة: «اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث سور من القرآن، في البقرة وآل عمران وطه». رواه ابن ماجة والطبراني والحاكم وسنده صحيح (¬4). فهل يتذكر المسلمون قيمة هذه الدعوة؟ وهل يدعون بها في حال كربهم وهم موقنون بإجابة ربِّهم ونجاته ونصره لهم؟ إخوة الإيمان: ومن قصة يونس عليه السلام وقومه يتبين صدق التوجه إلى الله، والتضرُّع إليه، وبالصدق والتوبة والدعاء، يرفع الله الضراء ويكشف البلوى، وتأملوا ما خصَّ الله قوم يونس بقوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (¬5). والمعنى: لم توجد قريةٌ آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى إلا قوم ¬

(¬1) المستدرك 2/ 382، تفسير ابن كثير عند آية الأنبياء، «سير الذهبي»: 1/ 95. وهو في «صحيح الجامع» 3/ 145. (¬2) سورة الأنبياء: الآية 88. (¬3) تفسير ابن كثير 3/ 320. (¬4) صحيح الجامع 1/ 329. (¬5) سورة يونس: الآية 98.

يونس، وما كان إيمانهم إلا تخوفًا من عذاب الله الذي أنذرهم به نبيهم يونس -عليه السلام - فخرجوا إلى الصحراء وجأروا إلى الله بالدعاء ومعهم نساؤهم وأطفالهم ودوابهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، حتى تضرعوا إلى الله وجأروا إليه، وصدقوا في توبتهم ودعائهم، ورغت الإبل وفصلانُها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنمُ وسخالها، فلما علم الله صدقهم رفع عنهم العذاب ومتعهم إلى حين (¬1). أيها المسلمون: وفي قصة يونس من العبر: عِظَم جريمة الكذب، وقد كانت في الأمم الغابرة جريمة كبرى يستحق مرتكبها القتل. كما أنّ في القصة أن مُلك الله يؤتيه من يشاء، وهو المعزُّ لمن شاء، وقد رفع الله قدر الغلام من راعي غنم إلى ملكٍ يسوس الناس بالحسنى فترة من الزمن. وفي القصة: أن عظم الجزاء مع عظم البلاء، ويبتلي اللهُ عباده على قدر إيمانهم، والأنبياء أكثرُ الناس بلاءً، ومع ما وقع ليونس عليه السلام من البلاء فقد كان في نجاته درسٌ له ورفعة وذكرى للمؤمنين من بعده، وصدق الله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). عباد الله: خلاصة دعوة ذي النون صدق في التوجه إلى الله، وتسبيح بحمده وحده، وطلب الغوث والنجاة منه، وإذا وصلت الأمة والأفراد هذا المستوى فسيأتيهم ما يوعدون. أيها المؤمنون وتظل قصةُ ذي النون درسًا وموعظة لكل مغموم، ومهما اشتطّت بالمرء الدروب، أو لاحقته الهموم، أو أحاطت به الكروب، فخلاصه الوحيدُ ¬

(¬1) انظر: «تفسير ابن كثير» لآية يونس، والأنبياء 2/ 700، 3/ 317. (¬2) سورة الأنبياء: الآية 88.

مناجاة ربِّه، والتضرُّع إليه، وسؤاله الفرج وصدق الله: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} (¬1). وحاجة المرءِ للتوبة والاستغفار مستمرة، وفيها خلاصٌ من الذنوب، وانتقالٌ من حالٍ إلى حال: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (¬2). هذا على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الأمة، فمهما أطلقت الأمة من نداءات فسيظلّ النداءُ المنقذ: {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ} (¬3)، ومهما تلبست به من شعارات براقة زائفة، فيظل شعارُ التوحيد هو الشعار الحق. كم تصيب الأمة من أزمات ولكنها لا تحسن المخرج منها، فتتوالى عليها النكبات، وتتضاعف الأزمات، وكم تملك من أسباب القوة الإلهية ولكنها -مع الأسف - تهمشها وتظل تلهث وراء السراب مستجديةً من لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، وتقرأ في كتاب ربها أن الولاء الحقَّ لله ولرسوله وللمؤمنين، ثم هي تستمرئ ولاء الكافرين وتناشد المنافقين، وما لم يصح المعتقدُ، ويتوحد الاتجاه لله الحقِّ، فستظل المسيرة متخبطة، والعدوُّ غالبًا، والنصرُ بعيدًا. ألا ويح الأمة في صدودها عن كتاب ربّها، وبعدها عن هدي أنبيائها والله يقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (¬4). ويقول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} (¬5). ¬

(¬1) سورة الأنعام: الآية 17. (¬2) سورة التحريم: الآية 4. (¬3) سورة الأنبياء: الآية 87. (¬4) سورة الإسراء: الآية 9. (¬5) سورة يوسف: الآية 111.

وقصة يونس عليه السلام واحدة من قصص القرآن، فهل تُقرأ للعبرة والاتعاظ أم تُهذُّ كغيرها من آي الكتاب هَذَّ الشعر .. ؟ ! اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، اللهم علِّمنا منه ما جهلنا، وذكّرنا منه ما نسينا وانفعنا به.

موعظة واستدامة الطاعة

موعظة واستدامة الطاعة (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسنُ عملًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحاط بكل شيءٍ علمًا، وأحصى كلَّ شيءٍ عددًا، لا يعزب عنه مثقالُ ذرةٍ في السماوات ولا في الأرض، كلٌّ في كتاب مبين. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، بعثه الله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، فبلَّغ البلاغ المبين، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (¬3). عباد الله: ما حالُ تقوى الله بعد شهر التقوى؟ وما الذي خلَّفه في نفوسنا شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن؟ إن العهد بشهر رمضان قريبٌ، فهل لا تزال المساجدُ تمتلئُ بالمصلين كما كانت كذلك في شهر رمضان؟ وهل استمرَّت الصلةُ بكتاب ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 22/ 10/ 1420 هـ. (¬2) سورة التوبة، الآية: 119. (¬3) سورة لقمان، الآية: 33.

الله؟ أم بدأ يظهر على البعض هجرُ القرآن؟ يا من حفظتم أسماعكم وأبصاركم عن الحرام في شهر رمضان، هل يسوغ إطلاقُ العنانِ لها في شهر شوال؟ ويا من صبَّرتم أنفسكم عن تعاطي المشروبات المحرمة في شهر الصيام، هل كان ذلك حافزًا لكم على الاستمرار على مجاهدة النفس فيما بعد شهر الصيام؟ أيها المسلمون: وهنيئًا لمن أحسَّ بتقوى الصيام بعد انقضاء شهر رمضان، هنيئًا لمن أتمَّ صيام رمضان، ثم أتبعه ستًا من شوال، وهنيئًا لمن تعلق قلبُه بالمساجد بعد ملازمتها في شهر رمضان، هنيئًا لمن واصل تلاوة كتاب الله وتدبَّره بعد انقضاء شهر الصيام، وهنيئًا لمن دأبُه قيامُ الليل في سائر العام، وهنيئًا لمن لم يفترْ عن متابعةِ أصحابِ الحوائج والمساكين، فيسد حاجتهم، ويفرّج شيئًا من كروبهم، ويدخل السرور عليهم. هنيئًا لمن أورثه الصيام التقي والخشوع والإنابة لربِّ العالمين، وحالُهم كما قال الشاعر: يمشون نحو بيوت الله إذ سمعوا ... (اللهُ أكبرُ) في شوقٍ وفي جذلِ أرواحُهم خشعتْ لله في أدبٍ ... قلوبُهم من جلالِ اللهِ في وَجَلِ نحواهمُ: ربَّنا جئناك طائعةً ... نفوسُنا، وعصينا خادعَ الأملِ إذا سجى الليلُ قاموه وأعينُهم ... من خشيةِ الله مثلُ الجائد الهطلِ همُ الرجالُ فلا يلهيهمُ لعبٌ ... عن الصلاة ولا أكذوبةُ الكَسلِ يا أخا الإيمان: أين أنت من قومٍ كانوا يحرصون على السُّنن جهدَهم؟ فكيف ترى حرصَهم على الواجبات؟ ! وأراك ونفسي نقحم أنفسنا أحيانًا في المحرمات، وقد تتقاصر هممُنا عن الواجبات، فضلًا عن المستحبات، ودونك هذا النموذج في المسارعة للخيرات:

أخرج ابنُ عبد البر بسند جيد - كما قال الحافظ في «الفتح» - عن أبي داود صاحب «السنن»؛ أنه كان في سفينةٍ فسمع على الشطِّ حَمْدَ عاطسٍ، فاستأجر قاربًا بدرهم حتى جاء إلى العاطس فشمّته، ثم رجع، فسُئل عن ذلك، فقال: لعله يكون مجابَ الدعوة، فلما رقدوا سمعوا قائلًا يقول في أهلِ السفينة: إن أبا داود اشترى الجنةَ من الله بدرهم. وذكره الذهبيُّ في «سير أعلام النبلاء». يا عبد الله: أللقوم غايةٌ غير غايتك، أم أنك لا تخافُ مما يخافون، أم أنك زاهد في الجنان والنعيم الذي يطلبون؟ أم لديك شكٌّ في الوعد الحق الذي أخبر عنه الحقُّ بقوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬1). يا ابن آدم: تأمل من أين جئت وإلى أين ستنتهي: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} (¬2). يا عبد الله: أتغترُّ بالله أم تنكر خلقه .. أم تستهين بالحفظة الكاتبين؟ ألا فاعمل صالحًا واتخذ من دار المهلة زادًا لدار النُّقلة، فالفرقُ كبير في المنازل بين الأبرار والفُجّار، ودونك كتاب الله فهو لك موقظ ومذكِّر: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ ¬

(¬1) سورة يس، الآية: 51 - 54. (¬2) سورة عبس، الآية: 17 - 23.

تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (¬1). أيها المسلمون: ليس لعمل المسلم غايةٌ دون الموت: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (¬2). وما خلق اللهُ الناس عبثًا، بل وما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما باطلًا، لكن ذلك لحكمة عظيمة، ألا وهي تحقيقُ العبودية لله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬3). وينبغي للمسلم أن يعبد الله في كل حال؛ في حال نومه ويقظته، وفي حال قوتهِ وضعفه، وهو في المسجد أو بيته أو مكان عمله، حين يراه الناس وحين لا يراه إلا الذي يعلم السرَّ وأخفى. ويمكن للمسلم أن يراوح بين أنواع من العبادة حتى تتعود نفسُه على العبادة، والدعوة، والإحسان. وكم تحتاج النفسُ في هذا الطريق إلى مجاهدةٍ ومكابدةٍ .. لكنها مع الصدق والإخلاص تُسلم القيادَ ويقودها صاحبُها إلى ما فيه صلاحُها عاجلًا وآجلًا. ويرحم اللهُ أقوامًا جاهدوا أنفسهم حتى ذللوها للخير، ونأوا بها عن مواطنِ السوءِ والريب. لكنهم استسهلوا الصعب، ولم ينقطعوا في ثنايا الطريق وبُنياتِه الأولى، فهذا محمدُ بنُ المنكدر رحمه الله يقول: ¬

(¬1) سورة الانفطار، الآيات: 6 - 19. (¬2) سورة الحجر، الآية: 99. (¬3) سورة الذاريات، الآية: 56.

«كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت» (¬1). وكان من معادن الصدق، ويجتمع إليه الصالحون، كما وصفه سفيانُ الثوري يرحمه الله. وهذا «طلقُ بنُ حبيب» اشتهر بكثرة العبادة، حتى كان المتمني بالبصرة يقول ويتمنّى عبادة طلق بن حبيب (¬2). أما «مُسلم بنُ يسار» فكان إذا صلى كأنه ثوبٌ مُلقًى من خشوعه (¬3). أما «إسماعيل بنُ عبيد الأنصاري» فكان يُلقب بـ (تاجر الله)؛ لأنه جعل ثلث كسبه لله ينفقه في وجوه الخير (¬4). أما «زبيدُ بنُ الحارث اليامي» فيكفيه أن يقول عنه سعيدُ بنُ جبير رحمهما الله: لو خُيرت مَنْ ألقى الله تعالى في مسلاخه لاخترتُ زبيدًا اليامي. ومع ذلك كان الرجلُ إلى علمه وعبادته متواضعًا، وكان يخدم العجائز والأرامل، فإذا كانت الليلةُ المطيرة طاف على عجائز الحي يقول: ألكنّ في السوقِ حاجة (¬5)؟ عباد الله: تلك خلالٌ وخصالٌ كريمة، وضروبٌ من المجاهدة والبر والإحسان، لم يكن أصحابُها يقصرونها على شهر رمضان، بل كانت تلك سجاياهم وهممُهم على الدوام، وما أروع الحكمة القائلة: «أيها المؤمن إن كنت أصبت في الساعات التي مضت، فاجتهد للساعات التي تتلو، وإن كنت أخطأت فكفّر، وامح ساعةً بساعة» (¬6). ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 5/ 355. (¬2) سير أعلام النبلاء 4/ 601 - 603. (¬3) الطبقات لابن سعد 7/ 186، الفسوي: المعرفة والتاريخ 2/ 85. (¬4) طبقات علماء أفريقية 84، 85، عن عبد الله الخرعان. أثر العلماء في الحياة السياسية، ص 136. (¬5) سير أعلام النبلاء 5/ 297. (¬6) وحي القلم 1/ 359، 364.

وردد مع الشاعر قوله: أنامُ على سهوٍ وتبكي الحمائمُ ... وليس لها جرمٌ ومني الجرائمُ! كذبتُ لعمر الله لو كنتُ عاقلًا ... لما سبقتني بالبكاءِ الحمائمُ وبعدُ - يا أخا الإسلام - إن من جدَّ وجد، وليس من سهر كمن رقد. والموتُ منك قيدُ شبر الشابر، وهذا دبيبُ الليالي يُسارق نفسك ساعاتِها، وإنَّ سِلَع المعالي غالياتُ الثمن، وإن الطريق مخوف والاغترار غالب، والخطر عظيم، والناقد بصير (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (¬2). ¬

(¬1) الرقائق 136، 137. (¬2) سورة النازعات: الآية 40 - 41.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكَّر أو أراد شكورًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه وآله، ورضي الله عن أصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: اصطفاكم اللهُ من بين الأمم، وأورثكم خير الكتب، وبعث إليكم خاتم الرسل، وقسَّمكم بحسب الهمَّة والمسارعة للخيرات - أصنافًا ثلاثة، فلينظر كلٌّ منكم في نفسه من أيِّ هذه الأصناف يكون، ولا زال في الأمر مُهلةٌ، والسعيدُ من انتقل - قبل الموت - من منزلة دونية إلى منزلة عليَّة. يقول تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (¬1). وإذا أردت المنافسة والانتقال من حالٍ إلى حالٍ أحسن فتأمل فرق المنازل، والفرق بين الحبور والصراخ والعويل، والنماذج تُعرض أمام ناظريك اليوم، ولديكَ فرصةٌ للاعتبار والتغيير، لكنها في يوم المعاد حسراتٌ وتبكيتٌ ما لها من سامعٍ أو مجير. قال تعالى مستكملًا جزاءَ الدرجات وثواب العاملين من الأبرار والفجار - مبتدئًا بثواب الخيرين {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} (¬2). ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 32. (¬2) سورة فاطر، الآيات: 33 - 35.

أما الأشرار الكفّار فقال عن مصيرهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (¬1). يا أخا الإيمان جدّد عزيمتك، واصدق في قصدك، وارتفع بهمَّتك. قال العارفون: «فالكيِّسُ يقطع من المسافة بصحة العزيمةِ، وعلوِّ الهمةِ، وتجريد القصد، وصحة النيةِ مع العملِ القليل - أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغُ من ذلك مع التعب الكثير والسفرِ الشاقِ، فإن العزيمة والمحبة تُذهب المشقَّةَ وتطيب السيرَ. والتقدمُ والسبق إلى الله إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدمُ صاحبُ الهمةِ مع سكونه صاحبَ العمل الكثير بمراحل» (¬2). يا أخا الإسلام وإن كنت حريصًا على تأمين مستقبلك الدنيوي بوظيفةٍ تقتات منها، أو بتجارة تكتسب عيشك وأولادك منها، فالبدار البدار بتأمين مستقبلك الأخروي بعملِ صالح تحافظ عليه وتلقى الله به فـ {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (¬3). وقل لنفسك: ما سهمُك في الصلاة، ما سهمُك في تلاوة القرآن، ما سهمُك في الصِّلة والإحسان، ما سهمك في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما سهمُك في الخوف، وما سهمك في الرجاء، ما سهمك في الصبر، وما سهمك في الشكر، ما سهمك في الذكر والدعاء والاستغفار؟ ¬

(¬1) سورة فاطر: الآيتان 36، 37. (¬2) الفوائد لابن القيم 140. (¬3) سورة الكهف، الآية: 46.

كيف أنت والإخلاص، وما القدرُ الذي ظلمت به نفسك من خصال النفاق، كيف علاقتُك بخالقك عمومًا، وما نوعُ علاقتك بالمخلوقين جميعًا؟ إلى غير ذلك من خصال الخير - وما أكثرها - واعلم أنك بهذه الأعمال الخيّرة تتقربُ إلى مولاك، وتشكرُ أنعمَه عليك. وهل تعلم أن بك ثلاث مائة وستين مفصلًا .. كلُّها معينةٌ لك في الحركة والعمل؟ ولو آلمك واحدٌ منها لضاقت بك الدنيا على سعتها. أخرج مسلم في «صحيحه» عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنه خُلق كلُّ إنسانٍ من بني آدم على ستين وثلاث مئة مفصل، فمن كبَّر الله، وحَمِد اللهَ، وهلَّل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعزل حجرًا عن طريق الناس، أو شوكةً، أو عظمًا، أو أمر بمعروفٍ أو نهى عن منكرٍ، عدد تلك الستين والثلاث مئة السُّلامى، فإنه يُمسي يومئذٍ وقد زحزح نفسَه عن النار» (¬1). زاد غيرهُ: «أو علَّم خيرً أو تعلَّمه» (¬2). وفي رواية أخرى عند مسلم وغيره - في حديث السُّلامى - «ويجزي من ذلك كلِّه ركعتان يركعهما من الضحى» (¬3). ألا ما أعظم فضلَ الله، وما أيسر الطاعة - لمن وفقه ربُّه وهداه - {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (¬4)، وفي الصِّديق رضي الله عنه نموذج للمسارعة، فانظر في مسارعته، وانظر في عظم الجزاء له، ولمن شاكله، فقد سأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومًا: «من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ » قال أبو بكر الصديق: أنا، قال: «فمن تبع منكم اليومَ جنازةً؟ » ¬

(¬1) مسلم رقم 1007 في الزكاة. (¬2) جامع الأصول: 9/ 561. (¬3) مسلم رقم 720، وأبو داود .. جامع الأصول 9/ 436. (¬4) سورة المطففين، الآية: 26.

قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن أطعم اليوم مسكينًا؟ » قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟ » قال أبو بكر: أنا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمعنَ في رجلٍ إلا دخلَ الجنةَ» (¬1). هل يصعب عليك عملُ هذه الأعمال الأربعة مجتمعةً في يوم، وهل تحاول ممارستها مجتمعةً - ولو حينًا - مبتغيًا بذلك عظيم الأجر؟ وهل يشقُّ عليك ممارسةُ الذِّكر؟ وهو من أسهل العبادات وأعظمها أجرًا، وما أعظم ركعتين تركعهما من الضحى ويكفيانك شكر المفاصل كلّها! يا أخا الإيمان .. وإذا أقدرك اللهُ على شيءٍ من هذا فاشكره أولًا إذْ هداكَ ووفقك ثم اسأله القبول، فإنما يتقبل الله من المتقين، وإياك أن تَمُنَّ على الله بطاعتك، فقد قيل لمن قبلك: {قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬2)، واسأل ربك الثبات حتى الممات، فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبها كيف شاء، ومن دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (¬3). ومن الدعاء المأثور «اللهم إني أسألُكَ فِعْل الخيرات، وترك المنكرات، وحبَّ المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين» (¬4). ¬

(¬1) أخرجه مسلم في «صحيحه» 1028، في الزكاة، وفي فضائل الصحابة. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 17. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 8. (¬4) (جامع الأصول 9/ 548)

وقفات للصائمين والشيشان

وقفات للصائمين والشيشان (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله ربِّ العالمين، أهلَّ علينا هلال رمضان بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، منَّ على عباده بمواسم الخيرات ليجزل لهم الهبات، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه أفضلُ من أفطر وصام، وصلى بالليل والناسُ نيام، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬3). عباد الله: وحلَّ الضيف الكريمُ في ربوع المسلمين يحمل صحائف بيضاء مشرقةً، يمكن لكل مسلم ومسلمة أن يكتب فيها ما شاء، والبذرُ محفوظ، والسعيُ مشكور، وربُّنا تبارك وتعالى يقول: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 2/ 9/ 1420 هـ. (¬2) سورة الحج، الآيتان 1، 2. (¬3) سورة الحشر، الآية: 18. (¬4) سورة الأنبياء، الآية: 47.

وهنا وقفات للصائمين والصائمات أقفُ بها مذكرًا، والذكرى تنفعُ المؤمنين. الوقفة الأولى: وأكادُ أقرأ الفرحة في وجوهكم - معاشر المسلمين - بدخول شهر الصيام والقيام، وكم في الصيام والقيام من فضائل ومغانم، وكم يُرجى للمسلم والمسلمة من عظيم الأجر ومغفرة الذنوب إن هو صلى وصام، وتصدق وصبر، وخشع وقنت، وحفظ فرجه، وذكر ربَّه! والبُشرى تُزف إليكم وأنتم بعدُ في الدنيا: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). الوقفة الثانية: أعقل صيامك - يا أخا الإيمان - عن اللغو والرفث وقول الزور، ولتصم منك الجوارحُ عمَّا حرم الله، وما أروع الصوم تحيي به القلوب، وتزكو به النفوس، يُهذِّب الأخلاق، وينضبط له السلوك، وأخيرًا يورث التقوى، وهي الحكمةُ الربانية للصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬2). ترى - يا أخا الإيمان - أللهِ حاجة أن تدع طعامك وشرابك أو تُضمِئ نهارك وتُسهر ليلك في طاعة الله. إلا ليبلغك جنته ويفيض عليك من عطائه ورحماته؟ فكن لصومك حافظًا، ولجوارحك مؤدبًا. الوقفة الثالثة: كم نرثي لأنفسنا أو لغيرنا من المسلمين حين نرى الصوم لم يحرك فيهم ساكنًا، ولم يُحدث فينا تغيرًا إلا الأحسن! فتلك مجموعةٌ من الصائمين ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 35. (¬2) سورة البقرة، الآية: 183.

جلست بعضها إلى بعضٍ لتأكل في لحوم الناس وتنتهك أعراضهم بالغيبة والنميمة - ومجموعةٌ أخرى حبست نفسها على مسلسلات هابطة، أو فتحت آذانها لسماع أصوات غنائية منكرة، وتلك مجموعة حين تنفس الصبحُ قطعت هي أنفاسها واستكانت للنوم، لا يوقظها تكبيرُ المآذن، ولا يبعثها من مرقدها النداءُ الواجبُ للصلاة، حتى إذا قارب الغروب وحان الإفطار - بدأت تستجمع قواها، لمواصلة السهر ليلًا لا في المحاريب وأماكن العبادة وإنما في اجتماعات الشِّللِ، وحيث توجد المسلسلاتُ والقنوات وتضاع الأوقات. أيُّ صومٍ هذا، وأيُّ مفهوم للعبادة في رمضان هذا المفهوم، تُضاع فيه الصلوات، وتُهدر الأوقات، وترتكب المحرمات؟ ! الوقفة الرابعة: وهناك وقتان ثمينان، وفرصتان لا تعوضان للصائمين والصائمات .. وقد يغفلُ البعضُ عنهما منشغلًا بغيرهما، أو ناسيًا فضلهما واختصاصهما؛ إنهما وقت السَّحر، ووقت الإفطار .. فرصتان كبيرتان للاستغفار والدعاء. أما علمت أيها الصائمُ أنك حين تستيقظُ للسحور توافق ساعةَ استجابة يقول فيها الغني الكريم: «هل من سائل فأعطيه، هل من داعٍ فأستجيب له، هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ » وأين أنت في ساعات الأسحار من قوله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (¬1). هل يكون همُّك حين تقوم نوع السحور - مع ما في السحور من بركة وتحقيق للسنة - أم تتذكر مع ذلك قيمة الوقت؟ .. فتخلصُ في الدعاء، وتخصُّ هذا الوقت بالاستغفار. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 17.

أما حين الغروب - حين يحين الإفطار .. فثمّة دعاءٌ ودعوةٌ للصائم لا تُرَدُّ عند فطره. فانظر في قيمة الدعاء والاستغفار، وانظر ماذا أنت داعٍ، واعلم أن فضل الله واسعٌ، وأنك تطلب من غني كريم، فلا تنس غيرك من المسلمين في الدعاء، بل ولا تنسَ الأموات من الدعاء بعد أن تخصَّ نفسك ووالديك وأهلك وأولادك. الوقفة الخامسة: وأهلونا وأولادنا أمانةٌ في أعناقنا، واسأل نفسك - أيها الصائم - ماذا صنعت لأهلك وأولادك في رمضان .. كيف حالُهم مع الصيام والقيام وتلاوة القرآن، وأين يقضون أوقاتهم .. وفيم يقضونها؟ إن الهداية بيد الله .. لكن فعل الأسباب مطلبٌ شرعي، وقد كلفنا الله بوقايتهم من النار. وهنا اسمحوا لي أن أعرض مذكرًا ومنبهًا لبعض الحالات التي يُرجى برؤها، ومن الضروري التنبُّه لها وعلاجُها. فهل يشهد أبناؤك وبناتُك الصلاة مع المسلمين، أم يصلون وهم في فرشهم نائمون؟ ! وحين يستيقظون، ماذا يعملون ويشاهدون ويسمعون؟ هذا السيلُ الجرارُ من النساءِ المتسوقات ليلًا ونهارًا ما هو نصيبك منهن .. وهل يليق أن تبقى في محرابك خاشعًا وبناتُك يفتنَّ الرجال .. أو أبناؤك يؤذون المسلمين والمسلمات بالمعاكسات تارة، وبالأصوات المزعجة للمصلين أخرى، وبالسهر على الخنا والفجور تارةً ثالثة، إنها مشاهد تتكرر في كلّ رمضان، فمن المسئول عنها؟ وثمة ظاهرة تستحق الاهتمام والتنبيه؛ إنها ضياعُ الأبناء أو البنات حين السفر إلى مكة أو غيرها .. وكم هو مؤلمٌ أن تسمع أخبارًا لا تسر بجوار بيت الله المحرم، ذلك بسبب الإهمال أو ما يُسمى بالثقة، والواقعُ أنه ضعفٌ في الرقابة،

وتهاون في المسؤولية .. نعم إن العمرة في رمضان تعدل حجة. ولكن اللبيب من يحافظ على المكاسب دون خسارة، ويعبد ربَّه دون أن تكون عبادته سببًا للفتنة .. أجل إن رجالات الهيئة يشكون من إهمال عددٍ من الآباء لبناتهم، ويتحدثون بلغة الأرقام عن مئات من حالات الخلوة مع رجال أجانب .. وما ظنك برجلٍ وامرأةٍ تحققت الخلوة بينهما؟ .. فكيف إذا كانوا جميعًا في مرحلة الفتوة والشباب؟ ! إنها تحذيرات متكررة، ونداءات محذرة يطلقها الغيورون من رجالات الهيئة .. ونحن نبلغها لكم، وكم هي كلمةٌ معبرة قالها أحدُ أصحاب الفضيلة العلماء يصف بها حال هؤلاء الذين يذهبون بصحبة أولادهم أو بدونهم، قال: صنفان مأجوران، وصنفان مأزوران، أما المأجوران: فهما من سافر وحافظ على من معه، أو بقي ولم يسافر وحافظ على أهل بيته في محله. وأما الصنفان المأزوران: فأحدُهما من سافر وأهمل أهله وهم مسافرون معه .. أو منعهم من السفر معه، لكنه أهملهم في محلهم ولم يدر ما هم صانعون .. تلك حالاتٌ ومسؤولياتٌ تستدعي الرعاية والتنبه والاهتمام .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (¬1). ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 72.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله قال في محكم التنزيل: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (¬1). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حكم أنّ بذكره تطمئن القلوب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله دلَّ أمته على كل خير، وحذرهم من كل شر .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين. الوقفة السادسة: وقفة محاسبة مع النفس، فرمضان في أيامه الأولى، فهلا تعهدت نفسك - أيها الصائم - بجملة من أعمال البر، وقرب الطاعات، من تلاوة للقرآن، وإحسان للفقراء، ودعوة بالحسنى، وذكر لله واستغفار واستجماع وإخلاص في الدعاء، وقيام ليل، وصيام نهار على الوجه الأكمل، وتبكير للصلوات وخشوع فيها .. إلى غير ذلك من أنواع الطاعات التي تحاسب نفسك على الإقلال منها أو الإكثار في نهاية الشهر. وتجري العوائدُ أن من يحسبون للمستقبل بدقةٍ، يحسنون العمل في اللحظات الحاضرة، والموفّق من وفّقه الله، وكلُّ نفس بما كسبت رهينة. الوقفة السابعة: بين يسر الإسلام وعدم التهاون في ترك الصيام، فمن أرهقه جوعٌ مفرط، أو عطش شديدٌ، فخاف على نفسه الهلاك، أو ذهاب بعض الحواس ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 29، 30.

بغلبة الظنِّ لا الوهم، أفطر وقضى، وليست امتحانات الطلاب عذرًا يبيح الفطر في رمضان (¬1). الوقفة الثامنة: وهذا أوان الخلاص من كثير من الذنوب والخطايا والعوائد السيئة والبلايا .. فأيام رمضان بالصيام «والصوم جُنّة»، ولياليه بالقيام {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (¬2)، مع ما فيه من قبول الدعاء .. كل ذلك فرصةٌ للمبتلى ليعود إلى ربِّه تائبًا خاشعًا نادمًا. إليك - أيها المتهاون بالصلاة - وإليك، أيها المفتون بالدخان أو المخدرات أو المسكرات، أو بألحان الغناء .. وإليك أيها المفتونُ بالنظر إلى النساء، أو أكل الربا، أو الغش في البيع والشراء .. إليكم وإلى غيركم ممن فُتن وتعلق قلبه بمعصية .. إليكم جميعًا يوجه النداء .. والباب للتوبة يُفتح على مصراعيه في شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، وأنت لا تدري أتدرك رمضان القادم .. أم تكونُ في عداد الموتى؟ فبادر بالتوبة قبل ساعة الندم والحسرة. الوقفة التاسعة: وهذا - كذلك - أوان الخلاص من شح النفس، وبُخلها، وشهر رمضان شهرُ النفقة والإحسان، والله تعالى يدعوكم في كل حين للنفقة ويقول: {هَأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (¬3). أيها المنفق والمتصدق: احمد الله أن جعل لك يدًا تعطي لا تأخذ، واليدُ العليا ¬

(¬1) المنجد: مختصر سبعين مسألة في الصيام 27. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 45. (¬3) سورة محمد، الآية: 38.

خيرٌ من اليد السفلى، وأعلم أن صنائع المعروف في الدنيا تقي مصارع السوء، والصدقة تطفئ غضب الرب، وأهلُ المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة - كذا صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم (¬1). وإذا كانت الصدقةُ يُضاعف الله أجرها أضعافًا مضاعفة، فضلًا من الله ومنّة في كل حين، فالصدقةُ في رمضان لها مزيتها وفضلها لا سيما وأهلُ الحاجات يتطلعون إلى هذا الشهر الكريم لمزيد مواساتهم وتخفيف آلامهم، وقضاء ديونهم، فكونوا عند حسن ظن الفقراء بكم واستجيبوا لربكم، واعلموا أن المال مالُ الله، وهو عاريةٌ عندك أيها المسلم، وأنت ممتحن فيما أنت صانع فيه، واعتبر بما قال الأول: وما المرءُ إلا مضمراتٌ من التقى ... وما المال إلا عارياتٌ ودائعُ أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا تُحنى عليها الأصابعُ وكن على ثقة من وعد الله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (¬2). ووعد رسوله صلى الله عليه وسلم ودعائه: «اللهم أعطِ منفقًا خلفًا، وأعطِ ممسكًا تلفًا». أيها المسلمون: وخصوا المجاهدين الصادقين من المسلمين بشيء من صدقاتكم، فقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬3)، قولهُ: «الجهادُ والحج يُضعَّف ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير 3/ 24. (¬2) سورة سبأ: الآية: 39. (¬3) سورة البقرة، الآية: 261.

الدرهمُ فيهما إلى سبع مئة ضعفٍ». وعن مكحول: يعني من الإنفاق في الجهاد، وإن كان ورد أن الأجر أعمُّ من ذلك إذ يشمل كلَّ إنفاقٍ في طاعة الله (¬1). الوقفة العاشرة: ولا يعني تأخيرُها التقليل من شأنها - لكنها إنما وصلت إليَّ مجموعةٌ من أخبارها متأخرة (¬2)، إنها وحشية الروس، وصمودُ الشيشان، وقبل يومين تقريبًا - نقلت جريدة الرياض تصريحًا لأحد المسئولين في الشيشان أفاد فيه أن روسيا تجرأت وضربت (قروزني) بالأسلحة الكيماوية، وهذه الأسلحة المحرمة - دوليًا - تحدث آثارًا في الجسم مؤلمة قبل أن تنتهي به إلى الموت، وأغلب المتضررين منها النساءُ والشيوخ والأطفال، الذين لا يستطيعون الفرار والخلاص منها، وإلى الآن أحصي من عدد الوفيات منها ثلاثون حالة - والشيشان بصدد مزيد جمع معلومات لتقديمها للعالم! وبلغت حدة الروس - كما نقلت وكالات الأنباء، ومنها (رويتر) درجة استنكر فيها العالم الغربي أفعالهم - وإن كان حليفًا لروسيا - فالاتحادُ الأوروبي قال بأنه سوف يوقف التعاون مع روسيا إذا هي استمرت في أعمالها البربرية في الشيشان، والحكومات الغربية تهدد باتخاذ مواقف سياسيةٍ واقتصادية ضد روسيا لارتكابها أعمالًا شنيعةً، وللعنف الشديد المستخدم ضد الشيشانين، وذلك على أثر سيطرة الروس على (شالي) و (عروس مارتان) والأولى بعد عشرين كيلًا من قروزني العاصمة - ولهذه التطورات أصرّت بريطانيا أن تكون قضية الشيشان في أعلى قائمة الموضوعات المبحوثة في مؤتمر الدول الصناعية الثمان، والذي سيعقد قريبًا في ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 1/ 467. (¬2) من أخبار الخميس 1/ 9/ 1420 هـ.

(برلين)، وكان يُفترض فيه تقديمُ قروض لروسيا! ولا تدري ممَّ العجب؛ أمن تقديم القروض، أم من الاستنكار؟ ! ولا ندري ما النتائج أتكون إيجابية .. أم هي لذرِّ الرماد في العيون؟ وبكل حال فالأخبارُ المأسوية هناك بوضع اللاجئين والمشردين تحكي شناعة وإجرام الروس ومن وراءهم، وتشي بضعف الصلة والانتصار للمظلومين من قبل المسلمين لإخوانهم .. وأين الاجتماعات والقراراتُ الحازمةُ لإيقاف صلف الروس من قبل الدول الإسلامية؟ ولكَ أن تتصور (أُمًّا) تسافر هائمة على وجهها بين قمم الثلوج وقلة الطعام، وأزيز الطائرات، ثم هي بعد ذلك تحمل معها ستة أطفال! وأبشع من ذلك أن تتصور فتاة عذراء مسلمة يهتك الروس عرضها، ثم إذا انتهوا منها أنهوا حياتها. ولك أن تتصور أطفالًا يهجرون ويطعمون النصرانية أو اليهودية أو غيرها من المعتقدات الفاسدة، مع رضعات اللبن أو كسرة الخبز. «وا إسلاماه» لم تلامس نخوة المسلمين كما ينبغي، وعسى الله أن يجعل لهؤلاء المسلمين فرجًا من عنده، وأن يكون في شدة هذه الضربات ما يوقظ هِمَمَ المسلمين، فيهبُّوا لنصرة إخوانهم، والقوات الروسية تقول إنها سوف تنتهي من قصة الشيشان قبل نهاية ديسمبر الحالي، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} (¬1). ¬

(¬1) سورة الأنفال: الآية 30.

رعاية المسن في الإسلام

رعاية المُسنِّ في الإسلام (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. أيها المسلمون: من طبائع الأشياء أن الإنسان في هذه الحياة يمر بمرحلة الضعف، ثم القوة، ثم الضعف المؤدي إلى النهاية: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (¬2). ومن عظمة الإسلام اهتمامُه بالإنسان في مراحله كلها، وفي كلِّ مرحلةٍ لون من الاهتمام وأسلوب من الرعاية. وحديث اليوم عن الإنسان في مرحلته الأخيرة (الضعف والشيبة)؛ كيف قدَّرها الإسلام؟ وما ألوانُ رعايته لها؟ وكيف ينبغي أن يُعامل المسنّ؟ إنها مرحلة صعبةٌ وعصيبة، ولا عجب أن يتعوذ الرسولُ صلى الله عليه وسلم منها حين يقول: «وأعوذ بك أن أردَّ إلى أرذلِ العُمر» (¬3). كيف لا وبعضُ من يُردُّ إلى أرذل العمر لا يعلم من بعد علم شيئًا، وقد يعيش فترةً من عمره في حكم الأموات، وإن كان في عداد الأحياء. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 11/ 8/ 1420 هـ. (¬2) سورة الروم، الآية: 54. (¬3) صحيح البخاري 3/ 1039.

ولا أدق من وصف المسنِّ لنفسه، وقد سأل الحجاجُ رجلًا من بني ليثٍ قد بلغ سنًا كبيرةً، قال: كيف طُعْمُك؟ قال: إذا أكلتُ ثَقُلتُ، وإذا تركت ضَعُفتُ، قال: كيف نكاحُك؟ قال: إذا بُذل لي عجزت، وإذا مُنعت شرهت، قال: كيف نومُك؟ قال: أنام في المجمع، وأسهر في المضجع، قال: كيف قيامُك وقعودُك؟ قال: إذا أردت الأرض تباعدت منّي، وإذا أردت القيام لزمتني، قال: كيف مشيتُك؟ قال: تعقلني الشعرة، وأعثر بالبعرة. هذه صفة أرذلِ العمر (¬1). وأرذل العمر أخسُّه وأدونُه وآخره - كما ذكر المفسرون - قالوا: وإنما خصّه اللهُ بالرذيلة؛ لأنه حالةٌ لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد (¬2). وهنا لفتةٌ تستحق الانتباه، فقد قيل: إن الإيمان وعمل الصالحات في الصغر قد يمنع الردَّ إلى أرذل العمر في الكبر. قال القرطبي رحمه الله: إن هذا لا يكون للمؤمن - يعني الخرف والرد إلى أرذل العمر - لأن المؤمن لا يُنزع عنه علمه (¬3). وقال الشنقيطي رحمه الله: إن العلماء العاملين لا ينالهم هذا الخرفُ وضياعُ العلمِ والعقل من شدة الكبر، ويستروح لهذا المعنى من بعض التفسيرات في قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (¬4). إلى قوله: وقد تواتر عند العامة والخاصة أن حافظ كتاب الله المداوم على تلاوته لا يُصاب بالخرف ولا بالهذيان (¬5). ¬

(¬1) بهجة المجالس وأنس المجالس ج 2/ 227، 232. (¬2) تفسير ابن كثير، والشوكاني، والشنقيطي. (¬3) الجامع لأحكام القرآن 10/ 141. (¬4) سورة التين، الآيتان: 5، 6. (¬5) أضواء البيان 9/ 334.

ونقل السيوطي عن عكرمة عند تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أنه قال: ولا ينزلُ تلك المنزلة أحدٌ قرأ القرآن - أي حفظه - (¬1). وعلى كل حال فالضعف من سيما هذه المرحلة، والإنسانُ في هذا السِّن أحوجُ ما يكون للرعاية والمساعدة، ومن هنا جاءت نصوصُ الشريعة بالاهتمام بالكبير وتقديره بدءًا بالوالدين إحسانًا، وشمولًا لكبار السن رجالًا ونساءً، وعطفًا على الضعفةِ منهم والمحتاجين للمساعدة تقديرًا وإجلالًا. إنها العظمةُ في تعاليم الإسلام، لا ترمي الكبار في المزابل، ولا تنساهم وتودعهم المستشفيات أو دور الرعاية دون تقدير لمشاعرهم، بل هي الرعايةُ والحنوُّ والعطفُ تقديرًا لماضيهم، ووفاءً لجهودهم وحقوقهم. إن رعاية الوالدين والإحسان إليهما جاءت بها شريعةُ الإسلام والشرائعُ السماوية قبلها، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬2). وحرم الإسلام عقوقهما - بأي شكل من الأشكال - وإن قلَّ في عين العاق، كالتأففِ مثلًا، وقد نُقِل عن الحسن بن علي قوله: لو علم اللهُ شيئًا من العقوق أدنى من أفٍّ لحرَّمه (¬3). وإذا كان الأبوان في أعلى قائمة المسنين رعاية وتقديرًا واحترامًا، فقد شملت رعاية الإسلام للمسنين عمومًا، واتخذت هذه الرعاية أشكالًا وأساليب كثيرة، ¬

(¬1) الدرّ المنثور: 8/ 558. (¬2) سورة البقرة، الآية: 83. (¬3) الدرّ المنثور 5/ 258.

ومنها: البدءُ بالتحية للكبار، فقد أمر صلى الله عليه وسلم أن يُسلم الصغيرُ على الكبير، ومن الرعاية والتقدير: ألا يتكلم الصغير في أمرٍ دون الكبير، وقد وجه النبيُ صلى الله عليه وسلم بهذا حين قال لصغير تحدث عنده: «كبر الكُبر» يعني: لِيَلي الحديث الأكبرُ (¬1). وكذلك يُقدم الأكابرُ في الشرب، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا سُقي قال: «ابدأ بالكبراء»، أو قال: «بالأكابر» (¬2). وبلغت عناية الإسلام بالمسنين استثناءهم من القتل وإن كان ذووهم محاربين، فقد كان من وصيته لقواده: «ولا تقتلوا وليدًا ولا شيخًا كبيرًا» (¬3). وفي أحكام الإسلام تيسيرٌ ومراعاة لأحوال المسنين، فالصلاة تخفف لأجلهم: «إذا صلى أحدُكم للناسِ فليخفِّفْ، فإنَّ منهم الضعيفَ والسقيمَ والكبيرَ .. » الحديث متفق عليه. وفي الصيام لهم رخصة في الإفطار حين عجزِهم، ويكفيهم أن يُطعِموا عن كل يوم مسكينًا. وفي الحجِّ يُرخص لهم في إنابة من يحجُّ عنهم، وفي حديث المرأة الخثعمية وإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لها ما يشهد لذلك (¬4). والحجابُ المشروع يؤذن للمرأة المسنة في تركه، وإن أُمرت به صغيرة: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاري في «الأدب»، ومسلم. (¬2) رواه أبو يعلى، وهو في «السلسلة الصحيحة» 4/ 381. (¬3) المعجم الأوسط للطبراني: 2/ 255. (¬4) متفق عليه. (¬5) سورة النور، الآية: 60.

عباد الله: وفوق ما مضى، فقد جاء في جملة آداب الإسلام توقيرُ الشيخِ الكبير، والرحمةُ بالمرأة المسنة، فذلك من إجلالِ الله. أخرج البخاري في الأدب المفرد: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم» (¬1). بل جاء النهي والوعيد عن عدم توقير الكبار، ففي «سنن الترمذي» و «الأدب المفرد» للبخاري: «ليس منَّا مَنْ لم يرحمْ صغيرَنا، ويوقِّرْ كبيرَنا» (¬2). ومن النصوص النظرية إلى الواقع العملي في المجتمع الإسلامي نرى عجبًا في تقدير الكبار واحترامهم وقضاء حوائجهم، وحين كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم القدوة في هذا الأدب تسارع المسلمون للعناية بالكبار، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون. وفي «تاريخ عمر» لابن الجوزي أن عمر رضي الله عنه خرج في سواد الليل، فرآه طلحةُ، فذهب عمرُ، فدخل بيتًا ثم دخل بيتًا آخر، فلما أصبح طلحةُ ذهب إلى ذلك البيت، فإذا عجوزٌ عمياءُ مقعدة، فقال لها: ما بالُ هذا الرجل الذي يأتيك؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يُصلحني ويُخرج عني الأذى (¬3). وفي معارك المسلمين تمثل قادتُهم الأدب والرحمة بالكبار، وهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه يُدرج في صلحه لأهل الحيرة رعاية المسن، وقد جاء في صلحه معهم: «وجعلتُ لهم أيُّما شيخ ضَعُفَ عن العمل، أو أصابته آفةٌ من الآفات، أو كان غنيًا فافتقر، وصار أهلُ دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته، وعيلَ من بيت مال ¬

(¬1) وهو في «صحيح الأدب المفرد». (¬2) عارضة الأحوذي: 8/ 107، والأدب المفرد: 130. (¬3) ابن الجوزي: «تاريخ عمر» ص 86.

المسلمين» (¬1)، وقد قرَّر أبو يوسف في كتابه «الخراج» أن الجزية لا تؤخذ من الشيخ الكبير الذي لا يستطيع العمل، ولا شيء له (¬2). الله أكبر .. هكذا شمل أسلافُنا رعاية المسنّ في حال السلم والحرب، ومع المسلمين وغير المسلمين، ومع القريب والبعيد، والرجال والنساء - فهل ندرك عظمة هذا الأدب، وهل نتمثل هذه الرعاية وتلك الآداب للمسنين؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (¬3). ¬

(¬1) أبو يوسف «الخراج» ص 290. (¬2) الخراج ص 254. (¬3) سورة الرحمن، الآية: 60.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، أمر بالإحسان وأخبر أنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالرحمة وهو أرحم الراحمين، ورحمتُه وسعت كلَّ شيء. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله أخبر أن «الراحمين يرحمهم الرحمن»، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. معاشر المسلمين عامة، ومعشر الشباب خاصة، كيف تتعاملون مع المسنِّ، وكيف تنظرون لكبار السنِّ؟ إن دينكم أمركم بالرعاية والإحسان، وعلمكم الأدب مع الكبار، وما أروع المجتمع يرحم الكبيرُ فيه الصغيرَ! ويوقر الصغيرُ الكبيرَ! وما أجمل الشاب يأخذ بناصية الكبير يُقبله، ويأخذ بيد الضعيف والأعمى يوجِّه مسيرته ويجنبه المزالق وآفات الطريق، وكم هو أدبٌ جميل أن يستمع الصغارُ أثناء وجود الكبار وحديثهم، يوقرونهم في الحديث ويستمعون لآرائهم ويحفظون رصيد تجاربهم في الحياة، وكم هو أدبٌ رفيع أن يُنادي الكبيرُ بأحبِّ الأسماء إليه، وأن يكنى بدل أن يسمى، وأن لا يُتقدّم قبله في الأكل والشرب والمشي .. وأجملُ من ذلك أن تُعفى زلتُه، وأن يتجاوز عن خطئه، وأن لا يؤاخذ ببعض تصرفاته .. فَللِكِبَرِ دوره، وللكبارِ نفسياتُهم وطبائعهم، وتقدير هذا وذاك من آداب الإسلام، ومن جميل المكارم ومعالي الأخلاق. يا معشر الشباب: وبتوقير الكبار ورعاية المسنين عمومًا وبأي شكل من الأشكال تصفو الحياة، وتتحقق السعادة، ويتمثل الناسُ حالةً من البرِّ والوفاء،

ويشيع الإحسان وتطمئن نفوسُ الأكابر. وفوق ذلك فالبرُّ سلف، والإحسان محفوظ، و «من يفعل الخيرَ لا يعدم جوازيه»، وقد ورد عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أكرمَ شابٌّ شيخًا لسِنِّه إلا قيّضَ اللهُ له من يُكرِمُه عند سِنِّه» رواه الترمذي. قال أحد العلماء: إن في الحديث دليلًا على إطالة عمرِ الشابّ الذي يُكرم المسنين؛ لقوله في الحديث: «قيّض اللهُ له عند سِنّه» (¬1). وكم هي لمسةُ وفاء من ذلك الابن لأبيه الذي قال لإخوته الثلاثة حين مرض أبوهم، قال: إمّا أنْ تُمرّضوه وليس لكم من ميراثه شيء، وإما أن أمرضه وليس لي من ميراثه شيء، قالوا: بل مَرِّضه وليس لك من ميراثه شيء، فمرّضه حتى مات، ولم يأخذ من ماله شيئًا (¬2). أين هذا ممن يتبرّمون بإعالة آبائهم إذا طال مكثُهم عندهم، وإذا لم يستطع أحدُنا أن يتنازل عن ميراثه من أبيه في مقابل خدمته وتمريضه، فلا أقلّ من واجب الإحسان والرعاية وإن لم يتنازل عن شيء من المال. معاشر المسلمين: ولربما دلّس الشيطان على بعض الأبناء، فأوحى لهم أن الرعاية التي تقدمها الدولة أو الجمعيات الخيرية من خلال دور رعاية المسنين، أفضلُ وأشملُ من رعاية الأبناء، وسوّغ لهم ذلك سهولة إدخالِهم في هذه الدور وظنوه بهم برًا وإحسانًا. وقد صدرت الفتوى بعدم جواز التخلي عن الوالدين أو أحدهما بالحجة ¬

(¬1) عارضة الأحوذي 8/ 109، 110. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» عن طاووس 11/ 133.

السابقة. لأن ولاية الدولة ولاية عامة، وولاية الولد ولايةٌ خاصة، وهذه الولاية (الخاصة) أوجبُ وألزم من الولاية العامة (¬1). وإذا شُكرت الدولةُ أو الجمعيات الخيرية على رعايتها وعنايتها بالمسنين .. فإنما أقيمت هذه الرعاية أصلًا لمسنٍّ لا عائل له لظرف أو لآخر، ولا ينبغي أن يتسابق الناسُ ويتخلصوا من مسنيهم لأدنى سبب من الأسباب .. فليس هذا جزاء الإحسان. معاشر الشباب: ورعايتكم للكبار وتقديركم للمسنين ينبغي أن تنبع من ذوات أنفسكم، مدركين حكمةَ التشريع، ومبتغين الأجر من الله، ولا ينبغي أن يسوقكم لذلك ضغطُ المجتمع عليكم، أو مجاملةُ الآخرين من حولكم، وقد كان المسلمون فيما مضى ولا زالوا يأخذون على يد من لم يوقر الكبير. وفي «الآداب الشرعية والمنح المرعية»؛ أن إبراهيم بن سعد رأى شبابًا قد تقدموا على المشايخ، فقال لهم: ما أسوأ أدبكم! لا أحدثكُم سنة، (¬2) .. ويروى في ذلك عن إمام السنة أحمد ابن حنبل أنه كان من أشدّ الناس توقيرًا لمن هو أسنُّ منه من الشيوخ. وعن ليث، قال: كنت أمشي مع طلحة بن مصرف فقال: «لو كنت أسنَّ مني بليلة ما تقدمتك» (¬3). على أن رعاية الكبار وتقدير المسنين - فوق أنها مطلبٌ شرعي وأدب إسلامي هي كذلك ذوق وجمال، وهي تعبيرٌ عن كريم الخلق وطيب النفس، ومؤشرٌ للوفاء ¬

(¬1) كذا جاء في مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد العاشر سنة 1412/ محرم. (¬2) رعاية المسنين في الإسلام، عبد الله السدحان 67. (¬3) الحدائق في علم الحديث والزهديات، ابن الجوزي 3/ 105.

والإحسان، وهي تنمُّ عن معدن طيب، تتخلى عن الذات في سبيل إكرام ذوي الشيبات. أيها المسلمون: إننا مطالبون جميعًا برعاية المسنين وتقدير الشيوخ، ومراعاة أحوال ونفسيات الكبار .. فهل نستشعر ذلك في واقعنا العملي، وهل نتنافس في الإحسان .. وهل نشيع ذلك في المجتمع كلِّه عبر وسائل عدة .. بالمحاضرات والندوات والخطب، وبحديث المجالس، وبطباعة المطويات المختصرة التي تعنى بهذا الجانب، وتأليف الكتب التي تدرس الظاهرة وتؤصلها، ويمتد ذلك إلى وسائل الإعلام في برامج مسموعة ومرئية، وفي أعمدة الصحف والمجلات، وفي القنوات الفضائية فرصة لعرض هذا الجانب المضيء من حضارتنا؟ وما أجمل أن تساهم مناهجُ تعليم البنين والبنات بالعناية بهذه القضية، فينشأ ناشئُ الفتيان والفتيات مغروسًا في قلبه تقدير المسن واحترام الكبير، والإحسان للوالدين. وكم هو جميل أن تُزود الملتقياتُ العامة، كالمدارس والمستشفيات والطرقات، بملصقات تحمل عبارات التقدير والعطف على المسن وإعطائه الأولية فيما يحتاج فيه للمساعدة، إشعارًا بقدره وتقديرًا لسنه. عباد الله: وأخيرًا يحق لنا أن نفاخر بعظمة ديننا وشمولِ وسموِّ آدابنا، في مقابل ما يُسمى بالحضارة الغربية أو الشرقية الكافرة، وفيها - فيما نحن بصدده - سلوكياتٌ يترفع عن سلوكها الحيوانُ الذي لا يعقل، ووقع فيها الإنسانُ حين غابت عنه شريعةُ السماء، وقد جاء في إحدى صحفنا المحلية من نماذج هؤلاء: مسنٌّ يبقى متوفيًا داخل شقته لمدة أربع سنوات ولم تكتشف جثته إلا صدفة (¬1). وعجوزٌ ¬

(¬1) الجزيرة 5/ 7/ 1414.

تموت جوعًا في شقتها بسبب ابنها الذي قطع عنها الماء والكهرباء والغاز حتى اكتشف الجيران أمرها! (¬1) وثالثة الأثافي - في هذا المجتمع البهيمي - أن هرمًا جاوز التسعين مات في دار خاصة بالمسنين، ولم يعلم بموته إلا بعد خمسة أيام (¬2). ¬

(¬1) الشرق الأوسط 13/ 3/ 1417. (¬2) اليوم السعودية 22/ 6/ 1417 هـ عن السدحان «رعاية المسنين» ص 60، 61. وهو بحث جميل في بابه وقد أفدت منه في إعداد هذه الخطبة.

النخب الثقافية

النُّخَب الثقافية (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. أيها المسلمون: على مدار التاريخ الإسلامي يظل للعلماءِ الربانيين مكانتهم السامية ومنزلتهم الرفيعة، كيف لا والله فضلهم على غيرهم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2). ورفعهم فوق مَنْ سواهم: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (¬3). وأحال الأمةَ إليهم لسؤالهم والأخذ عنهم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬4). وجعل المصطفى صلى الله عليه وسلم غيابهم عن الوجود سببًا للضلال والإضلال: «إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جُهَّالًا، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضلوا» رواه أحمد واتفق عليه الشيخان وغيرهم. ولكن من المقصود بهؤلاء العلماء؟ وما الفرقُ بينهم وبين حملة المصطلح ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 8/ 2/ 1421 هـ. (¬2) سورة الزمر، الآية: 9. (¬3) سورة المجادلة، الآية: 11. (¬4) سورة النحل، الآية: 43، والأنبياء، الآية: 7.

الجديد (المثقفون) أو (النخب الثقافية)؟ وما أثر العلماء، وما تأثير المثقفين على مسيرة الأمة المسلمة وتقدمها، أو تخلفها وتبعيتها؟ وهنا أسوق كلامًا جميلًا للإمام أحمد رحمه الله بيّن فيه مكانة العلماء وأثرهم، ومن يقولون على الله بغير علم، وكيف يخدعون الناس. قال رحمه الله في كتابه «الرد على الزنادقة والجهمية»: الحمدُ لله الذي جعل في كل زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويُبصرون بنور الله أهلَ العمى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍّ تائه قد هَدَوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثرَ الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عِنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقةِ الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جُهَّالَ الناسِ بما يُشبِّهون عليهم، فنعوذ بالله من فتنةِ المُضلين (¬1). إخوة الإسلام: وحديثُ اليوم ليس عن العلماء الربانيين، بل له علاقة بالفئة التي حَذَّر منها الإمام أحمد في زمنه، وهي ظاهرة تتكرر في كل زمان، لكن بأشكالٍ مختلفةٍ، وأسماء متباينة، إنها فئاتٌ قديمةٌ تتجدد، تفتن الناس عن دينهم وتدعوهم إلى التمردِ على قيمهم، وتحاول الفصلَ بين الأمة المسلمة وتاريخها المجيد، وتنظر إلى أصالتهم على أنها نوعٌ من الجمود والرجعية والتطرف والأصولية، ¬

(¬1) أعلام الموقعين 1/ 9.

وأرباب هذه الفئة يُطلق عليهم أحيانًا اسم (النخب الثقافية)، وهذه النُّخب من أبرز ملامحها: أنها مشدودة إلى الفكر الخارجي - من الغرب أو الشرق - وحسب هيمنةِ هذا الفكر أو ذاك، وهي مولعة باجترار (ثقافة الاغتراب) في مختلف الأفكار والمذاهب السياسية والاقتصادية والأدبية، ونظرًا لغُربتها (الثقافية) فبينها وبين مجتمعاتها المسلمة نوعٌ من النفرة والجفوة. ولذا فهذه الفئة كما تعيش غُربةً فكرية - هي كذلك تعيش عُزلةً شعوريةً .. إذْ لها همومها وأهدافها، وللمجتمع من حولها همومٌ وأهدافٌ تخالفها. هذه النخب حين تُخطط للمجتمع أو تكتب عن سُبل نهضته، فإنما تتحدث بعقول غيرها، وتتحدث - حين تتحدث - كما لو كانت تتحدث عن أمة أخرى، وديار أخرى، غير أمةِ الإسلام، وديار المسلمين. إن هذه الفئة المستغربة يمكن أن توصف بالرائد الذي كذب أهله. فقد نهل عدد منهم من معين الثقافة المستوردة، فأشربوا حبَّها، وذهب البعض منهم إلى ديار الغرب ليكون سفيرًا لأمته في نقل حضارتها الإسلامية المشرقة، والقادرة على الانقاذ لمن تَرَدَّوا في الهاوية، فإذا بهم يعودون أُجراءَ يرددون بوعي أو بغير وعي ما يريده أعداءُ الأمة، من أساتذتهم الذين باتوا يسخرون من تبعيتهم لهم، ويعترف هؤلاء الأسيادُ أنهم جعلوا من هؤلاء عبيدًا وخدمًا لنقل أفكارهم، بل أسموهم (دليل الطريق)، حيث قام هؤلاء المنهزمون بنقل الفكر الرديء والثقافة المستوردة إلى بلاد المسلمين نيابة عن هؤلاء الغزاة .. بل كفوهم مؤنة السلاح، وكانوا بديلًا عن الاستعمار المكروه للشعوب المسلمة والمكلفِ للدول المُستعمرة. إخوة الإيمان: وأسوق لكم نموذجًا يؤكد به الغربُ سُخريته، يسخر به الغربيون من أتباعهم من أبناء المسلمين .. يقول سارتر: كُنّا نُحضر رؤساء القبائل وأولاد

الأشراف، والأثرياء والسادة من أفريقيا وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيام في: أمستردام، ولندن، والنرويج، وبلجيكا وباريس، فتتغير ملابسهم ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة .. ويتعلمون منا طريقةً جديدة في الرواح والغدو، والاستقبال والاستدبار، ويتعلمون لغتنا وأساليب رقصنا .. وكنا نُدبِّر لبعضهم أحيانًا زيجةً أوروبية، ثم نُلقنهم أسلوب الحياة على أثاث جديد، وطراز جديد من الزينة .. كما نضع في أعماق قلوبهم الرغبة في (أورُبة)، ثم نرسلهم إلى بلادهم وأي بلاد؟ بلاد كانت أبوابها مغلقةً دائمًا في وجوهنا، لم نكن نجد منفذًا إليها، كنا بالنسبة لها رجسًا ونجسًا، وخنا، كنا أعداءً يخافون منا وكأنهم همج لم يعرفوا بشرًا، لكنا بمجرد أن أرسلنا المفكرين -الذين صنعناهم- إلى بلادهم، كُنا بمجرد أن نصيح من أمستردام، أو برلين، أو بلجيكا أو باريس قائلين: (الإخاء البشري) نرى أنَّ رجعَ أصواتِنا يرتدُّ من أقاصي أفريقيا، أو فج من الشرق الأوسط، أو الأدنى، أو الأقصى، أو شمال إفريقيا. ثم يقول: إننا كنا واثقين من أن هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمةً واحدةً يقولونها غير ما وضعناهُ في أفواههم، ليس هذا فحسب بل إنهم سُلبوا حقَّ الكلام من مواطنيهم. إلى أن يقول (سارتر): هذا هو دورُ المفكرِ الذي يتشكل بالشكل الأوروبي، ويلعب في الدول الإسلامية دور (دليل الطريق) للاستعمار في البلاد التي لم يكن يعرفها أو يعرف لغاتها، وهو السوس الذي عمل في الشرق من أجل تثبيت هذه المادة الثقافية والاقتصادية والأخلاقية والفلسفية والفكرية المسمّمة للاستعمار الغربي، داخل هذه الأشجار الوارفة الأصيلة، هذا هو السوسُ الذي كنا قد صنعناه وسميناه بالمفكرين. ثم اسمع إلى هذا الغربي كيف يسخر من أذنابهم -حين يقول: كانوا عالمين

بلغاتنا، وكان قُصارى همهم ومنتهى أملهم أن يصبحوا مثلنا، في حين أنهم أشباهُنا وليسوا مثلنا، إنهم نخروا من الداخل ثقافة أهليهم وأديانهم (القومية) التي تصنع الحضارات، ومُثُلهم وأحاسيسهم وأفكارهم الجميلة وأصالتهم الأخلاقية والإنسانية، وتحت أي شعار؟ وبأي اسم؟ باسم مقاومة الخرافات أو مكافحة الرجعية، أو الوقوف ضد السلفية. انتهى وهنا وبإزاء هذه الاعترافات من الأعداء أردد مع الكاتب المسلم (¬1) قوله: إنني كعربي مسلم أشعر بالخزي من مثل هذه الحقيقة، فهل يشعر بمثل ذلك نُخبُنا الفكرية، التي مارست وما زالت تمارس الدور الذي سماه (سارتر) (دليل الطريق)؟ (¬2) إخوة الإيمان: إن المؤسف أن هذه النُّخب وجدت وتكاثرت في البلاد العربية والإسلامية، وقطارها يتحرك مؤثرًا في بلد، ثم يتوجه القطار بعرباته إلى بلد آخر، وفيهم القادة والأتباع، وهكذا غُربت الأمة وحصلت لها الانتكاسة إثر الانتكاسة، واكتفى الأعداء بهذه العقول المنهزمة والأفكار الغازية والرواد الكذبة عن الحروب المسلحة، واستنفاذ الجنود والمعدات الحربية. وهذه النخب المنحرفة يتسللون لإفساد فكر الأمة عبر الكتاب المؤلف، والرواية والقصة، والمقالة الصحفية، وعبر وسائل الإعلام بقنواته المختلفة، وربما غلفوا طروحاتهم بمصطلحات التجديد والتحديث والمصلحة الوطنية، وهم إنما يخدعون الأغرار من الرجال والنساء، يرمون بالعلمنة حينًا، وبالحداثة حينًا، وقد يكون من بينهم أصحاب بدع وانحرافات في المعتقدات، وعلى المجتمع بأسره مسؤولية ¬

(¬1) صاحب كتاب «دفاعٌ عن ثقافتنا». (¬2) جمال سلطان: دفاع عن ثقافتنا ص 43، 44.

فضحهم وتحذير الأمة من شرورهم، وعلى الدول المسلمة أن تحذرهم فهم بوابات للنفوذ الأجنبي، ولو تسلل العدوّ إلى أحدِ بلادِ المسلمين لوجدت هؤلاء المنحرفين أول مصفق لهم ومرحبٍ بمقدمهم. وإذا قيل للمنافقين في زمن النبوة: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} (¬1)، فكيف الحالُ في زمن ضعف الأمةِ، وغلبة الأعداء؟ وكلما تأخرت الأمة في كشفهم كلما استفحل شرُّهم، ودفعت ضريبة هذا التأخر الأجيال اللاحقة. اللهم احفظ المسلمين وبلادهم من كلِّ سوءٍ ومكروه، واجعل كيد الأعداء في نحورهم. ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 47.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، يقصُّ الحق وهو خيرُ الفاصلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نوّر قلوب عباده بالإيمان واليقين، ومن زُين له سوءُ عمله فرآه حسنًا، فإن الله يُضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولهُ، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. إخوةَ الإسلام: وهذه (النُّخبُ الثقافية) المنهزمةُ من داخلها، يزعمون أنهم في طروحاتهم مجددون، وهم في الحقيقة مقلدون، ويزعمون التحرر، ويرمون غيرهم بالرجعية والتقليد، والواقعُ يشهدُ على تبعيتهم لغيرهم، وإذا اعتزّ المسلم بتبعيته للنص الشرعي وبالاقتداء بالنبي العربي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فأولئك معروفة هوياتهم، ولمن يتبعون. إنهم معوقون للأمة المسلمة عن التقدم، فهم مشغِلون لها بمعارك جانبية تهدم أكثر مما تبني، وتفرق ولا تجمع، وتشكك ولا تبعث اليقين، وأين حضور هذه النخب في تعرية الاستعمار وأهدافه الحديثة وآثاره المستقبلية على الأمة، وأين مشاريعُ هذه النخب في سبيل وعي الأمة واستعادة مكانتها وتحرير شبابها من الوهم والوهن، وانتشالهم من الشهوات التي تقعد بهم عن مراقي العز والشرف؟ أين هم من نُصرة المظلومين والمشردين من أبناء العالمِ الإسلامي على أيدي المستعمرين الجدد؟ أين هم من ردّ الهجمات الإعلامية على الإسلام وأبناء المسلمين من أصحاب الملل الكافرة والنحل المحرفة؟ إن المتأمل في معظم طروحات هذه (النُّخب) المنهزمة يراها تتركز على الشهوات أو إثارة الشبهات، وتتخذ من المرأة وسيلة لإفساد المجتمع وتميعه، فتراهم يسخرون من الحجاب حينًا، ويدعون للاختلاط حينًا، ويرون في المرأة الغربية الكافرة نموذجًا يحتذى.

لا يكادون يذكرون الله في كتاباتهم إلا قليلًا، ويستحي بعضُهم من الاستشهاد بآية قرآنية أو حديث نبوي، ويفخر إذ يُدبج كلامه مستشهدًا بكلام فلانٍ أو فلان -من غير أبناءِ الملة- وكأننا أمة لا تاريخ لها ولا رجال ولا رصيد من التجارب يستحق أن يُنشر ويُشهر، وبه يفخر هؤلاء النخب أو بعضُهم على الأقل. اختلط عليهم ما ينبغي نقله والاستفادة منه من حضارات وتجارب الآخرين المادية مع الشعور بالعزة والاستعلاء، وما ينبغي طرحُه ونقده من قيمٍ فاسدة وثقافاتٍ مستوردة، نجد في قيمنا وثقافتنا الإسلامية غنًى عنه. وليت هؤلاء يستفيدون من تجارب السابقين لهم ممن تورط في جلب الثقافة الغربية إلى أبناء أمته، فعاد بعد حين يندب حظَّه ويعلن لبني قومه فشل تجربته، بل يحذر ويفرق بين ما ينبغي أن ينقل أو يهمل. ويقول (هيكل) في تقييم تجربتهِ: وقد حاولتُ أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية، وحياته الروحية لنتخذهما جميعًا هدى ونبراسًا، ولكننِي أدركتُ بعد لأي أنني أضعُ البذر في غير منبته، فإذا الأرضُ تهضمه ثم لا تتمخضُ عنه ولا تبعثُ الحياة فيه، وانقلبت ألتمس في تاريخنا البعيد، وفي عهد الفراعين موئلًا لوحي هذا العصر يُنشئ فيه نشأةً جديدةً، فإذا الزمنُ، وإذا الركودُ العقلي قد قطعا ما بيننا وبين ذلك العهد من سبب قد يصلح بذرًا لنهضةٍ جديدة، وروأت فرأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذرُ الذي يُنبت ويُثمر (¬1). أيها المسلمون: أما الرسالةُ التي ينبغي أن نحملها (النُّخب المثقفة) بل عمومُ المثقفين -من الجنسين- فهي استشعارُ أمانة الكلمة ومسؤولية البلاغ للناس بصدقٍ ونزاهة، فالرائدُ الجادُّ لا يكذب أهله -ولا بدَّ أن يُدرك المثقفون وسواهم أن الثقافة ¬

(¬1) في منزل الوحي ص 24، 25.

الإسلامية ليست مجرد معارف ومعلوماتٍ مجردة، وليست ثقافة ترفيه وتسلية، وإنما هي قيمٌ سلوكية تُمارس في الحياة، وأفكارٌ وتصورات تحدد هدف المسلم في الوجود ودوره المنشود. وعلى المثقف المسلم أن يعتزَّ بهذه الثقافة، ولا يسوغُ له بحال أن يكون علماني التفكير، غربي أو شرقي الهوى. وإذا كان في الأديان المحرفة ما يستحي أتباعُها من ذكره، أو لا يؤهل للإتِّكاء عليه، فليس في الإسلام الدين الحق من ذلك شيء، فنحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله. وعلى المثقفين المعتزين بالإسلام، والمدركين لمعنى الثقافة الإسلامية أن يقوموا بنقلها وتعميقها في المجتمع بأنماطها السلوكية وتصوراتها الصحيحة، حتى ولو كان المجتمعُ الذي تُنقل له مجتمعًا أميًا، فليست الأمة عيبًا إذا تمثل المجتمعُ أخلاق الإسلام، وليس بخفي أن مجتمع خير القرون كان أميًا، ولكن هذه الأميّة لم تقعد بهم عن حمل رسالة السماء وتبليغها للعالمين: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬1). أيها المثقفون: وفي سبيل صراع الحضارات على المثقف المسلم أن يُحذِّر من آثار الثقافات الوافدة، وأن يقوم بدوره في كشف صراع الحضارة الغربية للإسلام، ففي ذلك تحصينٌ لأبناءِ الأمةِ من آثارِها المدمرة، وفيه حمايةٌ للأمة من الذوبان في حضارات وثقافات الآخرين. ونحن اليوم في مرحلة صراع قيمي وأخلاقي وغزو فكري رهيب، والبقاءُ للأصلح والأقوى. ¬

(¬1) سورة الجمعة، الآية: 2.

وينبغي أن يعلم أن الصراع مع أي ثقافةٍ وافدةٍ منحرفةٍ لا يعني الصراع مع الإنسان، إذ الصراع مع مظلة القيم وليس مع الإنسان ذاته، بل قد يكون هذا الصراع سببًا لحياة أفراد أو مجتمعاتٍ كانت في عداد الموتى. إن صراعنا -نحن معاشر المسلمين- مع الآخرين ليس الهدف منه فرض الجبروت وإذلال الشعوب، وإنما يهدف إلى تعبيد الناس، والكون لله ربِّ العالمين، وتخليصهم من العبودية لبعضهم، وحمايتهم من التشرد والضياع. عباد الله: وهنا كلمةُ حقٍ وإنصاف تقال -في الحديث عن الثقافة والنُّخب الثقافية، فليست كلُّ النخب الثقافية معاول هدمٍ، أو تابعين أجراءُ، بل فيهم فئةٌ صالحون أصلاء، يحملون هموم الأمة ويعالجون قضاياها ويُعدُّون في طلائع الرواد الذين لم يكذبوا أهليهم، ولم يخونوا أماناتِهم، ولهؤلاء يُقال: أنتم مكانُ تقدير الأمةِ وثقةِ أبنائها، وإلى مزيد من تفعيل الثقافة الإسلامية الأصيلة في المجتمع، وفضح الثقافات الواردة والحوار مع النخب المنهزمة، وعسى الله أن يكتب الخير على أيديكم. فإما أن يهدي الله بكم من ضل، أو تكونوا سياجًا مانعًا عن ضلال آخرين، وحسبكم أن تؤدوا الأمانة، وأن تكونوا خلفاء الأنبياء -عليهم السلام- في البلاغ الحق للناس، بما شرع وأوحى.

فرص استثمارية ودعوية في الإجازة

فرص استثمارية ودعوية في الإجازة (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: اتقوا الله وراقبوه، واسمعوا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3). أيها المسلمون: متقررٌ عند العقلاء- بله المسلمين -أن الحياة دقائقُ وثوانٍ، وأن الوقت عمارٌ أو دمارٌ، وأن عملية الزمن لا تتوقف بانتظار الكسالى والمبطئين، وأن من زرع اليوم حصد غدًا. وفرق بين من يحصد الشوك ومن يحصد العنبا. عباد الله: وفي عقيدة المسلمين متقررٌ أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الزمن وعاءٌ لعمل الصالحات، أو سبيلٌ لارتكاب الموبقات، ومن وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 27/ 2/ 1420 هـ. (¬2) سورة الحشر، الآية: 18. (¬3) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71.

وتوجيهاته أن إضاعة الوقت غبنٌ، كما أن عدم استثمار الصحة- فيما يعود على المرء بالنفع -غبن آخر، ومما يلفت النظر أنّ الكثير من الناس مغبونٌ في هاتين النعمتين؛ كذا قال الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ». ولهذا وغيره فطن العارفون لأهمية الوقت، وسارت حياتُهم وانتهت بجلائل الأعمال، حتى إذا رحل أحدهم عن هذه الحياة عجب الناس كيف قاموا بهذه الأعمال كلها، وكيف خلَّفوا هذا التراث الضخم من العمل والعلم، والإنجاز والإنتاج، والدعوة والإحسان، والصلة والصلاة، والذكر وتلاوة القرآن، ونفعِ الخلق وإرضاء الخالق. إنه شعورٌ بالمسؤولية أولًا .. يتبعه همةٌ عالية، تذلل الصعاب وتقهر النفس عن شهواتها الدنيئة، وتحجبها عن سفاسف الأمور، وتطوعها لاستثمار الأوقات. وقد استشعر هؤلاء العارفون قيمة الزمن، فقال أحدهم: إضاعةُ الوقت أشدُّ من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموتُ يقطعك عن الدنيا وأهلها. يا أخا الإسلام: هل فكرت أيَّ شيءٍ صنعتَ اليوم، وماذا ستعمل غدًا، وهل غَدُك أحسن من يومك. وهكذا حتى تلقى ربَّك، مطمئنًا لعمل الصالحات، واستثمار الأوقات. وإليك نموذجًا من استثمار الوقت يشهد به العدول، يقول إبراهيمُ الحربي رحمه الله: لقد صحبتُ الإمام أحمدَ بن حنبَل عشرين سنةً صيفًا وشتاءً، وحرًا وبردًا، وليلًا ونهارًا، فما لقيته في يوم إلا وهو زائدٌ عليه بالأمس (¬1). ¬

(¬1) الوجازة في استثمار الوقت والإجازة، مقبل العصمي ص 25.

«إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما» كذا قال عمرُ بن عبد العزيز رحمه الله، وقبله قال ابنُ مسعود رضي الله عنه: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسُه؛ نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي. أيها الناس: واستثمار الوقت ليس خاصًا بزمن دون زمن، ولا بجنس دون جنس، ويدور الزمان ويدور معه البطّالون، ويوجد فيه المشمرون المستثمرون لحياتهم، وتشارك المرأةُ الرجل في الإحساس بقيمة الزمان، ويُذكر أن امرأة حبيب الفارسي كانت توقظه من الليل وتقول: قُمْ يا حبيبُ فإن الطريق بعيد، وزادُنا قليلٌ، وقوافلُ الصالحين قد سارت من بين أيدينا، ونحن قد بقينا. يا عبد الله: لست ملكًا مقربًا- لا تعصي الله ما أمرك -ولكن من أدلة شعورك بقيمة الزمن أن تُعقبَ خطأ اليوم بإحسان الغد، وكأن الشاعر يعنيك حين قال: مضى أمسُكَ الماضي شهيدًا مُعدَّلًا ... وأعقبَه يومٌ عليك جديدُ فإن كنتَ بالأمس اقترفت إساءةً ... فثنّ بإحسانٍ وأنت حميدُ فيومُك إن أعقبته عاد نفعُه ... عليك، وماضي الأمس ليس يعودُ عباد الله: وفي مُقتبل الإجازة يتساءل عددٌ من الناس بم يقضون أوقاتهم؟ وما المشاريعُ الدعويةُ الخيرة التي يمكن لهم أن يسهموا فيها؟ وإذا عُلم أن نصف عدد المجتمع من النساء في البيوت أوجب ذلك التفاتةً جادةً للنساء، وشمولهن بهذه البرامج لاستثمار أوقاتهن، ومساهمتهن في الدعوة للخير. وبالجملة، فسأقترح عليك، وأذكرك بأكثر من وسيلة لاستثمار الوقت عمومًا، وفي الإجازة خصوصًا، وأرجو أن تكون شاملةً للرجل والمرأة، والشاب والفتاة، والموظف والمُعلم، والمتسبب، والتاجر، وطالب العلم، والداعية.

ألا وإن كتاب الله خيرُ ما بُذلت فيه الأوقات إن تعلُّمًا أو تعليمًا، تلاوةً أو حفظًا، أو تجويدًا أو تفسيرًا، فماذا تنوي أن تحفظ أو تراجع منه في هذه الإجازة؟ ومطالعةُ كتب العلم النافعة طريقٌ للعلم الذي يرفع اللهُ به أصحابه درجات، «وخيرُ جليس في الزمان كتابُ»، ولكن اختر واستشر فيما تقرأ. * وحضورُ حلق العلم، والمشاركة في الدورات العلمية قربة إلى الله، مع ما فيه من تحصيل العلم ومعرفة الآداب، مع حسن نيةٍ وحضور قلب. وهذه الدروسُ، فيها- أحيانًا -أماكنُ للنساء، وينبغي أن يُعتنى مستقبلًا بدروس النساء، زمانًا، ومكانًا، وموضوعًا، ومُحاضِرًا أو محاضِرةً، ويمكن للنساء أيضًا أن يلتقين في حلقة علمٍ في إحدى البيوت إذا كُنَّ متجاورات، أو قريبات. * والمراكز الصيفية للشباب، والدور الصيفية للفتيات مما تستثمر فيه الأوقات، وقد كانت لفتة كريمة من مجلس الوزراء إذ أشار إلى أهمية هذه المراكز للشباب، وتُشكر الجهاتُ الحكومية- وفي مقدمتها وزارة المعارف -إذ تدعمُ هذه المراكز، وتزيد في عددها إنْ رسميةً أو تطوعيةً، ويُشكر الأساتذة المشرفون الذين يقطعون إجازاتهم في سبيل الإشراف على هذه المراكز، ورعاية المنتسبين لهذه المراكز، ويُشكر الأولياء الذين يساندون هذه المراكز، كما تشكر جماعات تحفيظ القرآن الكريم، إذ تُعنى بالدور الصيفية للطالبات، وحبذا لو كثَّفت من إعدادها مراعية كثرة الراغبات في الالتحاق بهذه الدور، وحاجتهن لملء الفراغ بما ينفع، ومؤمّنةً السُّبُل لنقلهن، ومراعية التوزيع على الأحياء ما أمكن، ومجددة في البرامج والوسائل، فذاك الأهم. * أيها المسلمون: وفي القرى والهجر النائية حاجةٌ لنشر العلم ورفع الجهل لمن به ذلك، والدعوة بالحسنى، وإعانة المحتاجين، وكل ذلك ينبغي أن يستنهض همم

العلماء والدعاة والمحسنين، فيزوروا ويفيدوا. * والدعوة في الحي وتقديم الخير للجيران، وتفقد حوائجهم، أسلوب ربما غفل عنه بعض الخيرين مع أهميته. * وللجاليات الوافدة لهذه البلاد حق على أهلها، فهل نمنحهم شيئًا من وقتنا بدعوتهم للخير، والإسهام في حلِّ ما نستطيع من مشكلاتهم؟ وهل نتعاون مع مكاتب توعية الجاليات لمعرفة الواقع والاحتياج، وهل نبدأ الخطوة مع من هم تحت أيدينا من العمالة والمستخدمين؟ ؟ * والرحلاتُ النافعةُ لصلة الأرحام، أو أداء مناسك العمرة، أو التمتع بالجو الجميل، والتفكر في عظيم مخلوقات الله، وسعة ملكه، مما يُستثمر به الوقت، ولا سيما إن صاحَبَه برامجُ للأسرة؛ كشيء من الحفظ أو القراءة النافعة. * وإذا قُدر لك أيها المسلم السفر إلى إحدى بلاد المسلمين، أو إلى بلاد بها جالياتٌ مسلمة، فساهم قدر استطاعتك في الدعوة إلى الله، أو مساعدة المحتاجين، وانقل الصورة بأمانة ودقة إلى إخوانك المسلمين ليطَّلعوا على حال إخوانهم، وفرق بين السفر لهذا الغرض النبيل، وبين السفر لإشباع البطون والفروج. كما الفرقُ بين من يراقب ربَّه ويشعر أنه يُمثل دينه، ومن يسيء إلى نفسه ومجتمعه وأمته؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: 33.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، أجرى ذكره وشكره على ألسنة المخبتين، وأضلَّ آخرين، فهم عن ذكر ربهم معرضون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اصطفى من خلقه من همهم هدايةُ الناس ونفع الخلق -إما بأنفسهم أو بجاههم أو بأموالهم، وحرم آخرين فلا يُفكرون إلا في ذواتهم ولا يعنيهم كثيرًا حالُ إخوانهم من المسلمين. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى سائر أنبياء الله والمرسلين. * إخوة الإسلام: وثمة فئةٌ من الشباب مغفولٌ عنها، أو يضعف الاهتمام بها مع ما في هؤلاء من خير واستعدادٍ لقبول الحق، إنهم شباب الأرصفة والحدائق، وأصحابُ الاجتماعات في الاستراحات، أو الرحلات البرية -هنا أو هناك- أفلا يستحق هؤلاء منا الزيارة والملاطفة بالقول، والهدية النافعة ودعوتُهم لرحلاتِ أكثر فائدة، أو الالتحاق بالمراكز الصيفية، أو ما شابه ذلك؟ * وتُشكر الإدارات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص حين توفر فرصًا وظيفية للشباب في الإجازة يقضون بها وقت فراغِهم وتعينهم على سدِّ حوائجهم المادية، وتكسبهم مهارةً وخبرة. * يا أيها المسلمُ والمسلمة: وفي زمن العلم والوعي والتقدم التِّقني يمكنك أن تُساهم بنشر العلمِ والمعرفة -وإن لم تكن عالمًا- وذلك بالإسهام في نشر علم العلماء عبر الشريط والمطوية والكتاب والمجلة النافعة ونحوها، فهل فكّرت حين تُسافر وترحل باصطحاب مجموعة من هذه وتلك، وتوزيعها لمن تراه محتاجًا لها.

* أيها الغني أو الراغبُ في الصدقة -وإن لم تكن في عداد الأغنياء، وإذا لم يمكنك أن تسهم بعلمك، ولا بنفسك، فليكن في مالك مساهمةٌ للدعوة ودعم المشاريع الخيِّرة، واعلم أن في دعمك شحذًا لهمم العاملين، وعسى أن يكون في صدقاتك حفظ لمالك وتنمية لثروتك، فضلًا عن تكفير الخطايا ورفعة الدرجات، وهنيئًا لك أيها المتصدق قوله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ امرئٍ في ظل صدقته يوم القيامة حتى يُقضى بين الناس» (¬1). * أيها العلماء والدعاةُ والمفكرون! وعلى شبكات الانترنت فرصٌ ومواقع للدعوةِ والتعريف بالإسلام، والتصدي لحملات الكفر والإلحاد، وفضح المذاهب المنحرفة، ووسائل العلمنة وتغريب الأمة، فلا تتأخروا في استثمار هذه الوسيلة العالمية. * أيها الرجال وأيتها النساء: ولذوي رحمكم عليكم حقٌّ خاص، وقد أوصى الله بهم في قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (¬2). فهل تحتسبون في تخصيص جزءٍ من وقتكم للالتقاء بهم، والأنسِ معهم، والتعرف على محتاجهم، وحثهم على الخير، وتبصيرهم بالمخاطر، وذلك عبر لقاءات دورات الأسرة، ومناسبات الزواج، وسلام الأعياد، ونحوها. وتحيةً للأسر المتواصلة التي شقَّت طريقها في اللقاءات الأسرية المبرمجة الهادفة، والدعوةُ لا تزال مفتوحةً لمن لم يبدأ مشوار الصلة الجماعية، في زمن باتت الصلات الفرديةُ فيها شيءٌ من الصعوبة. * أيها العلماءُ والدعاةُ، وأساتذة الجامعات، والمدرسون، والموظفون: ¬

(¬1) رواه أحمد وغيره، وهو في «صحيح الجامع»: 4/ 170. (¬2) سورة النساء، الآية: 1.

وهناك تواضعٌ غير محمود، واتهامٌ للنفس في غير محله، واتكالية وسلبية، وذلك بضعف الإسهام في الكتابة في الصحف، والاعتذار عن تقديم البرامج المفيدة في وسائل الإعلام، مما أتاح الفرصة لكتابات هزيلة أو منحرفة أحيانًا، وسبَّب كذلك في ضعف أو قلة البرامج الإسلامية مقارنةً بغيرها. وأنتم بهذا تتحملون كفلًا من المسؤولية حين تتأخرون وأنتم قادرون، فإن كان عذرُكم ضيق الوقت، ففي الإجازة فرصةٌ للإعداد والكتابة، فهل أنتم فاعلون ومسهمون؟ * أيها الآباء، أيتها الأمهات: ولديكم في هذه الإجازة فرصة أكبر للعناية بأولادكم ومزيد تربيتهم، وإذ يتفرغون من الدراسة ففرغوا لهم جزءًا من وقتكم تُسمعونهم، وتسمعون منهم، وتقرؤون عليهم ويقرؤون عليكم، توجهون وتحذِّرون، وتقصون وتمازحون، وهكذا من وسائل التربية المختلفة، حتى ينشئوا نشأةً صالحةً بإذن الله، وليكن ذلك عامًا للذكور والإناث. إخوة الإسلام: أكتفي بهذه الخمس عشرة فرصة ووسيلة للدعوة -أو تزيد- في هذه الإجازة، على أن ذلك لا يعني الحصر لها، فثمة وسائل وفرص أخرى قد تراها أو يراها غيرُك سبيلًا لاستثمار الوقت لنفسك ونفع الخلق من حولك، وهناك كتيباتٌ ورسائل مؤلفةٌ لهذا الغرض، وفيها استجماع لعدد من الوسائل الدعوية فليطالعها من شاء. والمهم أن تحملَ همَّ الإسلام وتُشارك في نَشر الخير، ودفع الشر حسب قدرتك وما وهبك الله، وهذه الفرصُ والوسائل -أيضًا- ليست قصرًا على الإجازة فحسب، وإنما يمكن استمرارُها واستدامتُها فيما بعد، وإنما جاء الحديث عنها مقرونةً بالإجازة لتوفر الفراغ فيها أكثر من غيرها. عباد الله: وأختم الحديث منبهًا ومحذرًا عن قضاء الوقت في أمور لا تحمدُ عقباها، ولا ينبغي أن يُقضى الوقتُ بمثلها.

ومنها كثرة النوم، أو طولُ السهر في المقاهي، أو على التلال الرملية ونحوها دون فائدة، والسفر للخارج، وإضاعة الوقت والمال وربما الدين، باسم السياحة، والسهرُ على الأفلام الخبيثة ومتابعةُ القنوات الفاسدة، والإكثار من الرحلات دون فائدة، وكثرةُ التجول في الأسواق لغير حاجة، والمعاكساتُ الهاتفية، والارتباط بسماعة الهاتف مدةً طويلة، وكثرة التجوال في الحدائق والمتنزهات العامة، والقراءةُ في الكتب المنحرفة أو المجلات والجرائد الساقطة، والاجتماع للحديث في أعراض الناس، وأكل لحومهم سواءٌ بالغيبة أو النميمة، وسواء كان ذلك من قبل الرجال أو من قبل النساء. إلى غير ذلك من أمور يعرفها العقلاء، ولا يرضى المسلمُ أن يضيع شيءٌ من وقته هدرًا. واعلم - أخا الإسلام - أن النفس إذا شغلتها بالخير شُغلت عن الشر، وإذا خلت من عمل الخير وقعت في الشر، ولذا فأنتم جميعًا مدعوون للتفكير في قضاء وقت الفراغ بما ينفع، ومما يدفعكم إلى ذلك قصرُ أعمار هذه الأمة مقارنة بغيرها من الأمم، وعظمُ الجزاء ودقةُ الحساب عند المولى: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (¬1). واختيارُ الرفيق الصالح خيرُ معين على قضاء الوقت بما ينفع، وعكسه رفيقُ السوء، وكلما قوي الإيمان باليوم الآخر، كلما كان الإنسان أكثر جديَّة وحفظًا لوقته، ودعاءُ الله بالإعانة والتسديد، كذلك عونٌ للمرء على الاستفادة من وقته ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 49.

وحفظ نفسه. أسأل الله أن يبارك في أعمارنا وأعمالنا، وأن يجنبنا الزلل، وأن يوفقنا لأحسن الأخلاق والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا هو، وأن يصرفنا عن سيئها، لا يصرفنا عن سيّئها إلا هو.

المسارعة للخيرات، واغتنام فرص الطاعات

المسارعة للخيرات، واغتنام فرص الطاعات (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ... عباد الله: تختلف هممُ الناس واستعدادُهم لفرص الخيرات، كما يختلف نوعُ مسعاهم في تحصيل الأجر حين يكون موسمُ الطاعات، فهناك ذو الهمة الضعيفة والعزم المتراخي، وهناك الغافل اللاهي، وهناك المنافق والمرائي، وهناك أصحابُ الجدِّ والهمم العالية والإخلاص والمتابعة. وبالجملة، فمواسم الطاعة وفرص العبادة تحتاج - فيما تحتاج إليه - إلى مبادرة ومسارعة، وإلى حسن نيةٍ، وقصدٍ حسن، هذا قبل العمل، وتحتاج بعد العمل إلى صدقِ المتابعة، ولزوم السنة فيما يعمل أو يدع، وسؤال الله القبول، والتجاوز عن الخطأ والتقصير. أما المبادرة، فقد جاء الأمر بها والحثُّ عليها في أكثر من موضع من كتاب الله وبأكثر من عبارة، وكلها تحثُّ الخُطى، وتدعو للمسارعة، والمسابقة، والمنافسة؛ قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (¬2). وقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (¬3). {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 22/ 8/ 1419 هـ. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 133. (¬3) سورة البقرة، الآية: 148. (¬4) سورة المطففين، الآية: 26.

فهل تجدون - معاشر المسلمين - أقوى وأمثل من عبارات المسارعة هذه والمسابقة والمنافسة لاغتنام الفرص والتقرب إلى الله بزاد ينفع العبد يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم؟ ألا إنها دعوةُ القرآن، ورحمة الرحمن، وإلا فالله غنيٌّ عنَّا وعن عبادتنا، ولا يضره كفرُ الكافرين، وإن لم يرضَه منهم، ولا تنفعه طاعة المطيعين، وإن كان يحبها ويرضاها لهم: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (¬1). يا عبد الله! إياك أن يُسرع الناسُ الخُطى للخيرات وأنت واقفٌ أو تزحف، أو تتلفت، أو تلهو وتلعب، حتى إذا فجأك الحقُّ عضضت أصابع الندم ولات ساعة مندم، أترضى أن تكون ممن قال الله فيهم: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} (¬2)؟ أم ترضى أن تكون حالك كحال من قال الله عنهم: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}؟ (¬3). وأين أنت - يا عبد الله - من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم لك بالمبادرة لعمل الصالحات، وهو القائل: ((بادروا بالأعمال فتنًا كقطعِ الليل المظلمِ، يصبح الرجلُ مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع أحدهم دينه بعرَضٍ من الدنيا ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 7. (¬2) سورة الأنبياء، الآيات: 1 - 3. (¬3) سورة المؤمنون، الآيتان: 99، 100.

قليل)). أخرجه أحمد ومسلم والترمذي (¬1). يا أخا الإيمان وإذا كانت الفتنُ عوائق عن عمل الصالحات فالبدار البدار في عمل الصالحات، واغتنام مواسم الطاعات قبل كثرة الفتن، وصدِّها عن عمل الصالحات، وأنت لا تدري، إذا انفلق عليك الصباحُ بأمر الله ما يحمله لك المساء من أقدار الله، والله حين يتوفى الأنفس في منامها يمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى .. ولست تدري أنفسُك ممن تمسك أم ترسل، وإن أرسلت فلست تدري كذلك ماذا ما بقي من أجلها. أين نحن من قوم كثُرت أعمالهم الصالحة، وزاد خوفهم ومراقبتهم؟ عن ابن شوذب قال: لما حضرت أبا هريرة رضي الله عنه الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: بُعدُ المفازة، وقلة الزاد، وعقبةٌ كئود، المهبط منها إلى الجنةِ أو النار (¬2). وعن عمران بن نمران، أن أبا عبيدة رضي الله عنه كان يسير في العسكر فيقول: ألا رُبَّ مُبيِّضٍ لثيابه مُدَنِّسٌ لدينه، ألا ربَّ مكرمٍ لنفسه وهو لها مهين، بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات (¬3). أيها المسلمون: وبعد المبادرة والاستعداد لفعل الخير، ينبغي أن يكون القصدُ حسنًا، والعملُ لله خالصًا، وفرقٌ كبيرٌ بين من يريد بعمله الله والدار الآخرة ومن يريد الدنيا وزخرفها .. وهنا تستوقف المتأمل مجموعة آيات تفترق مواضعُها من كتاب الله، وتقترب معانيها ودلالتها، فتأملوهن، واعملوا بموجبهن. أما الموضع الأول؛ فقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير 3/ 4. (¬2) صفة الصفوة 1/ 694. (¬3) سير أعلام النبلاء 1/ 18، ((أين نحن من أخلاق السلف)) ص 17.

أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1). أما الموضع الثاني؛ فقوله تعالى في سورة الإسراء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (¬2). وفي الموضع الثالث؛ قال تعالى في سورة الشورى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (¬3). عباد الله: ومن جملة المعاني التي ذكرها العلماءُ في تفسير هذه الآيات، ما ذكره القرطبي - عند آية الإسراء - {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} قال: وهذه صفةُ المنافقين الفاسقين والمرائين .. يلبسون الإسلام والطاعة لينالوا عاجل الدنيا من الغنائم وغيرها، فلا يُقبل ذلك العملُ منهم في الآخرة، ولا يعطون في الدنيا إلا ما قُسم لهم (¬4). ألا فاتقوا الله عباد الله، وسارعوا إلى طاعته وجنته، ولا تنتهي بكم الآمال عند حُطام الدنيا، واستجيبوا لندائه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (¬5). ¬

(¬1) سورة هود: الآيتان، 15، 16. (¬2) سورة الإسراء: الآيتان 18، 19. (¬3) سورة الشورى، الآية: 20. (¬4) تفسير القرطبي 10/ 235. (¬5) سورة فاطر، الآيتان: 5، 6.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله صاحب الفضل والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، كل من في السماوات والأرض خاضع لجبروته وسلطانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، كان أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في رمضان .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين. إخوة الإسلام: ووقف أهلُ العلم عند آيتي هود: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (¬1) والتي بعدها؛ من المقصود بهم؟ : فقيل: نزلت في الكفار، وقيل: المراد بالآية: المؤمنون، والمعنى: من أراد بعمله ثواب الدنيا عُجل له الثوابُ، ولم يُنقصْ شيئًا في الدنيا، وله في الآخرة العذابُ؛ لأنه جرّد قصده إلى الدنيا، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات)). فالعبدُ إنما يُعطى على وجه قصده، وبحكم ضميره، وهذا أمرٌ متفق عليه في الأمم بين كل ملة. وقيل: هو لأهل الرياء الذين يقال لهم: صمتم وصليتم، وتصدقتم وجاهدتم، وقرأتم ليقال ذلك، ومعلوم من أول من تُسعر بهم النار. وقيل: في معنى الآية العموم، أي: ليس أحدٌ يعمل حسنةً إلا وُفِّي ثوابها، فإن كان مسلمًا مخلصًا وفِّي في الدنيا والآخرة، وإن كان كافرًا وفِّي في الدنيا (¬2). عباد الله: الله لطيف بعباده، ومن رحمته ولطفه بعباده أن يسَّر لهم طرق الخير، وعظّم لهم الأجر، وقواهم وأعانهم عليه إن كان قصدهم حسنًا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ¬

(¬1) سورة هود: الآية 15. (¬2) تفسير القرطبي 9/ 14.

حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (¬1). قال ابن كثير رحمه الله: حرثُ الآخرة: عملها، ومعنى {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} أي: نقويه ونعينه على ما هو بصدده؛ ونكثر نماءه ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، إلى ما يشاء الله، {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} أي: ومن كان إنما سعيُه ليحصل له شيءٌ من الدنيا، وليس له إلى الآخرة هِمّةٌ البتة بالكلية حرَمَهُ الله الآخرة، والدنيا إن شاء أعطاه منها، وإن لم يشأ لم يحصل له لا هذه ولا هذه، وفاز هذا الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة (¬2). معاشر المسلمين: شمروا في طلب الآخرة، واسعوا لها سعيها وأنتم موقنون بلقاء الله وجزائه وعدله، في كل حين، وخصوا مواسم الخيرات بمزيد من السعي تُفلحوا وتنجوا من عذاب الله. قيل للأحنف بن قيس رحمه الله: إنك كبيرٌ والصوم يُضعفك، قال: إني أعدُّه لسفرٍ طويل. وقيل: كانت عامةُ صلاتهِ بالليل، وكان يضع أصبعه على المصابيح ثم يقول: حِسَّ، ويقول: ما حملك يا أحنفُ على أن صنعت كذا يوم كذا (¬3)؟ ! وهكذا إخوة الإيمان تكون الجدية في العبادة، والمحاسبة؛ وتذكر الآخرة. إن هذه الأمة أمةُ خير، بشَّرها الرسولُ صلى الله عليه وسلم ببشائر - ما التزمت الطريق الحق - وحذرها من عمل الآخرة لأجل الدنيا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((بشِّر هذه الأمةَ بالسَّناء، ¬

(¬1) سورة الشورى، الآية: 20. (¬2) تفسير ابن كثير 7/ 186. (¬3) سير أعلام النبلاء 4/ 91، 92.

والدين، والرفعة، والنصر، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب)) رواه أحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم وسنده صحيح (¬1). والسَّناءُ: ارتفاع المنزلة والقدرِ عند الله تعالى (¬2). يا أخا الإيمان: تدارك ما فاتك، واستثمر أنفاسك في طاعة خالقك، وإياك أن تؤثر الفانية على الباقية، ومهما تعلقت نفسُك بشهوة أو متاع فاعلم أن في الجنة خيرًا منه، ومهما مرَّ بك من آلام وأحزان وسوءِ حال فاعلم أن في النار شرًا منه. تحمّل ألم ساعة في سبيل حصولك على اللذةِ والحبور الدائم في الجنة، وحذار أن تقودك الشهوة العارضةُ إلى النار والحميم والزقوم في جهنم، وبئس المصير، واختر لنفسك أي المنزلتين شئت. قال شدادُ بن أوس: إنكم لن تروا من الخير إلا أسبابه ولن تروا من الشرَّ إلا أسبابه، الخيرُ كلُّه بحذافيره في الجنة، والشرُّ بحذافيره في النار، وإن الدنيا عَرَضٌ حاضرٌ يأكل منها البرُّ والفاجر، والآخرةُ وعدٌ صادق يحكم فيها ملكٌ قاهر، ولكلٍّ بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا (¬3). اللهم هيّئ لنا من أمرنا رشدًا، وعلق آمالنا في الآخرة، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا. ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير 3/ 6. (¬2) ابن الأثير، ((النهاية في غريب الحديث)) 2/ 414. (¬3) صفة الصفوة 1/ 709، عن ((أين نحن من أخلاق السلف))، الجليل وزميله 33، 34.

الألفية الثالثة وقائع ووقفات

الألفية الثالثة وقائع ووقفات (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله ربِّ العالمين، أكمل لنا الدين، ورضي الإسلام لنا دينًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حكم ببطلان الشرائع والأديان غير ملة الإسلام - فقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2). وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه وخاتم أنبيائه ورسله، أنزل عليه القرآن بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتب ومُهيمنًا عليها، وأخبره أن أهل الكتاب حرفوا الكلم عن مواضِعه ونسوا حظًا مما ذُكّروا به. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬3). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (¬4). أيها المسلمون: ونحن الآن على مشارف نهاية قرن ميلادي متمم لألفي سنة من ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 15/ 7/ 1420 هـ. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 85. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬4) سورة لقمان، الآية: 33.

ميلاد المسيح عليه السلام، ويبدأ بعده الألفُ الثالث للميلاد .. يتوقع المراقبون للأحداث، والمتابعون لما يُكتب وينشر في الكتب والمجلات والصحف ونحوها، والمتابعون للفضائيات وشبكات الانترنت - أن تكون الألفية الثالثة ألفية تطرف لليهود والنصارى، وألفية تنامي الشعور الديني .. وألفية ظهور أكبر وقيادة أوضح للأصوليين والمتطرفين - من أرباب الديانتين (اليهودية والنصرانية). ويعتمد هؤلاء الأصوليون والمتطرفون على نبوءات يعتقدونها في كتبهم (العهد القديم والعهد الجديد) وعلى أساطير وخرافات ورؤى. ويرون أن القرن المقبل (الميلادي) سيكون ميدانًا للصراع العقدي - مع خصومهم المسلمين - وسلاحُه الحربُ النووية ومسمى المعركة المتوقعة - في نظرهم - (هَرْ مَجدون) وأرض المعركة - كما يقولون في أرض (مجدو) التي تبعد عن (تل أبيب) بخمسة وخمسين ميلًا، وهي في موقع يبعد عشرين ميلًا شرق (حيفا) وعلى بعد خمسة عشر ميلًا من شاطئ المتوسط. والاعتقادُ بوقوع هذه المعركة اعتقادٌ مشتركٌ بين اليهود والنصارى، وكلٌّ من الأمتين الضالتين يعتقد بأن خلاصه سيكون بعد هذه الحرب، ولكن هذا الخلاص (الموهوم) عند الأمتين الضالتين لن يتم - في اعتقادهم - إلا بالتخلص من جُلِّ سكان الأرض عن طريق تلك الحرب المدمرة الهرمجدونية (¬1). فأين الحرب الهرمجدونية ذات السلاح النووي مما يتهمون المسلمين به بالتطرف في ساحات الجهاد؟ ! عباد الله: ومما يؤكد وجود هذه المعتقدات والنزعات الدينية عند اليهود ¬

(¬1) عبد العزيز مصطفى كامل، ((حمى سنة 2000)) ص 160.

والنصارى، استعدادُهم لحفلات ولقاءات دينية ستتم في (بيت لحم) عام 2000، وهو عبارة عن مهرجان عالمي نصراني، قدّرت بعضُ المصادر عدد من سيحضر للقدس للمشاركة فيه بمليون ونصف، وبعد أن تأكد حضور البابا لتلك الاحتفالات، قدّرت بعضُ الأوساط القادمين بثلاثة ملايين، وبالغت مصادر أخرى فأوصلت الرقم إلى ستة ملايين لهذا المهرجان. ومما يؤكد هذه النزعات الدينية عند اليهود والنصارى كذلك جديتُهم في بناء الهيكل (المزعوم)، وفي هذا يقول أحد ساستهم: لا قيمة لإسرائيل بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل (¬1). وبناءُ السور العازل بين المسلمين واليهود بطول ستين وثلاث مائة كيلًا، وارتفاع ثلاثة أمتار، وقد بدأ اليهود بتنفيذه في عام 1996 م، وتعهدت (أمريكا) بتمويله كاملًا، وقدَّم (كلينتون) قسطه الأول (مئة مليون دولار)، وبناءُ هذا السور تحقيق لأسطورة دينية عند اليهود، وله ذكر في كتبهم، فهم ينطلقون من موروثاتٍ دينية وتعاليم كتابية - وإن كانت محرّفة. ويعتقد اليهودُ كذلك - ويؤازرهم النصارى - بذبح ما يسمونه (بالبقرة الحمراء) ولذا فهم يهتمون بـ (قدس الأقداس) أو (المذبح) الذي ستُذبح فيه البقرةُ الحمراء، وقد انتهوا من بنائه - وهو جاهزٌ للنقل إلى مكانه، في الوقت المناسب، ويهتم (حاخامات) اليهود بهذه البقرة، وقد أُعلن عن ولادتها في شهر أكتوبر من عام 1997 وبنفس المواصفات التي يزعمون وجودها في كتبهم وبزعمهم أنها لا بد أن تُذبح بعد ثلاث سنوات من ولادتها! ¬

(¬1) هو بن غوريون.

إلى غير ذلك من معتقدات وأساطير تصبُّ كلّها في التوجه الديني عند اليهود والنصارى، وتشير إلى تغلغل الأصولية والعودة إلى الكتب المقدسة في نظرهم، وإن وجد علمانيون يخالفونهم النظرة. وهنا ومن جرّاء هذه الأحداث الواقعة والمتوقعة حريٌّ بنا أن نقف الوقفات التالية، ونعرض لجملة من التساؤلات ذات الدلالة: 1 - هذه الأحداث والوقائع تُضعف أو تبطلُ الظنَّ القائم عند بعض الناس - بأن اليهود والنصارى قد تخلوا عن الدين إلى اللادين بشكل نهائي، وربما ظن هؤلاء أن شيوع المذاهب الإلحادية، وطغيان الانحلالية العلمانية، قد أوهم بهذا، ولكن واقع اليوم يشهد تحولًا دينيًا كبيرًا في مجتمعاتهم، وهذا التحولُ تجاوز الدهماء والعامة، إلى الخاصة والساسة، وتجاوز التنظير إلى التطبيق. 2 - بل تحول هذا التوجهُ الديني - عند اليهود والنصارى - إلى نوع من التطرف في المعتقدات والسلوك إلى حدٍّ أثار غضبة (العلمانيين) من بني قومهم، وبدؤوا يواجهون هذا المدَّ الأصولي المتطرف، وينددون به ويسخرون من أصحابه. وقد ذكرت صحيفةُ (نيوزويك) في عددها الصادر في 9/ 5/ 1996 م أن مدينة القدس أصبحت معقلًا للتطرف اليهودي، وأشارت إلى أن أعداد اليهود - غير المتدينين - الذين يُغادرون المدينة في ازدياد، حيث أصبحت المدينةُ مكانًا غير مقبولٍ بالنسبة لهم، نظرًا للطابع الديني والقيود التي يضعها المتدينون اليهودُ على الحياة هناك. وقد بلغ الأمر أن تخوّفت الدولة اليهودية من إحراج المتطرفين لها بهدم الأقصى في وقت غير مناسب، وقد كتب الصحفي الإسرائيلي (يوسي ليفي) مقالًا في صحيفة (معاريف) في 29/ 8/ 1998 م، جاء فيه قولُه: القاعدةُ التحتيةُ للتنظيمات المتشددة موجودة حسب تقديرات قوى الأمن، والمعلوماتُ التي بحوزتها تقول أن

الاتصالات بينها تتمُّ بالوسائل والطرق السّرية، والتنسيقُ بينها موجود، والمشكلةُ القويةُ التي تواجه أجهزة الأمن هي التغلغلُ في هذه الجماعات؛ لأنها مجموعات ذاتُ معتقدات أيديولوجيةٍ متعصبةٍ مرتبطةٍ بعواطف دينيةٍ حادّةٍ، بحيث يعرف كلُّ واحدٍ من أعضائها الآخر بما لا يسمح باختراقها. وبكل حال، فالواقعُ خيرُ شاهد، وقد اصطلى بنار هذا التطرف أحد زعماء إسرائيل؛ فقد أعلن (عامير) قاتل إسحاق رابين؛ أن سبب قتله؛ لأنه (خان أرض التوراة) (¬1). 3 - ومن المفارقات العجيبة أن تنشط الجماعات الأصولية في الغرب، ويصول ويجول المتطرفون في إسرائيل، وتكثر الجماعات الدينية وتدعم عند اليهود والنصارى، بل ويكون لها مواقعُها المهمة، ومنابرها الإعلاميةُ واسعةُ الانتشار والتأثير، وتحظى هذه الجماعات الأصوليةُ بدعم وتأييد الساسة، بل وصلوا إلى أن يكون المرشح للرئاسة نفسُه أصوليًا إنجيليًا (¬2). وفي المقابل يتهمون المسلمين بالأصولية والتطرف والإرهاب إذا ما سعوا لخدمة دينهم والدعوة لإسلامهم، وتلك وربي من إسقاطاتهم. وهي مؤشرٌ على تخوفهم من الإسلام وأهله، وإلا فكيف يسوغ التدينُ والدعوة والدعم لأصحاب الدين المحرف، ويُعدُّ ذلك تهمةً لأصحاب الدين الحق؟ ! وهنا يرد السؤال: بماذا يفكر المسلمون مستقبلًا لمواجهة المدِّ الأصولي والتطرف اليهودي؟ وقبل هذه المواجهة هل يقرأ المسلمون ما يكتبه اليهودُ والنصارى؟ وهل يعلمون وسائلهم وخططهم لمواجهة المسلمين؟ وهل يليق أن ¬

(¬1) انظر ((حمى سنة 2000)) ص 38. (¬2) الأصولية الإنجيلية، الهذلول 69.

يتفوق الصليبُ على الهلال، أو يعزَّ ويقوى من ضُربت عليهم الذلةُ والمسكنة، وشأنهم السعي في الأرض فسادًا؟ ولقد كان بعضُ أئمة الإسلام إذا رأى صليبًا أغمض عينيه عنه وقال: لا أستطيع أن أملأ عيني ممن سبَّ إلهه ومعبوده بأقبح السب. ولهذا قال عقلاءُ الملوك - كما نقل ابنُ القيم رحمه الله -: إن جهاد هؤلاء واجبٌ شرعًا وعقلًا، فإنهم عارٌ على بني آدم، مفسدون للعقول والشرائع (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (¬2). نفعني الله وإياكم بهدي القرآن. ¬

(¬1) إغاثة اللهفان 2/ 399، 400. (¬2) سورة الجاثية، الآيتان 18، 19.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربّ العالمين علام الغيوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال في محكم التنزيل: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬1). وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، ترك أمته على محجةٍ بيضاء، لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين. أيها الإخوة المؤمنون: 5 - أما الوقفة الخامسة فهي تساؤلٌ من نوع آخر ومفادُه: وبماذا سيقابل المسلمون المدَّ الإعلامي لمثل هذه التظاهرات الدينية وما تحمله من عقائد محرَّفة، وما ستبثه من أفكارٍ وتصورات تناهض الإسلام وتُسيء إلى المسلمين؟ ما دورُ العلماء في المرحلة القادمة؟ وأين سيكون موقعُ الدعاة؟ وماذا أعد المسئولون في الإعلام في الدول العربية والإسلامية لمواجهة الحملات الغربية، وغزو الأفكار، ونشر أساطير التوراة والأناجيل المحرفة، ومحاولات الاحتواء، وفرض الهيمنة؟ وهل يُتصور حضور الإعلام العربي والإسلامي لمباركة هذه الاحتفالات والتبرع بنقلها لأبناء العربية والإسلام؟ ! أم المتوقع إعدادُ برامج لصد آثارها، وحماية المسلمين من مخاطرها؟ وما حالُ رجال الفكر الإسلامي ومستوى قدرتهم على التحدي في حوار الحضارات والإقناع لإثبات الحق وكشف زيف الباطل؟ ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 251.

6 - وهل هذه الاحتفالاتُ والمهرجانات جزءٌ من حربٍ نفسية وإعلامية ضد المسلمين، تصدَّر عن طريقها - وبوسائل الإعلام وقنواته المختلفة الأفكار والمعتقداتُ اليهوديةُ والنصرانية، ومن خلالها يشكّك بتعاليم الإسلام الحقة، وعن طريقها يحاولون تحطيم الحواجز الصلبة بين تعاليم الإسلام الحقة والموروثات المحرفة في التوراة والإنجيل، وتُهمش في أذهان المسلمين القضايا العقدية المهمة من مثل الولاء والبراء، والحكمُ بالكفر والنار على من لم يعتنق دين الإسلام؟ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1)، {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} (¬2)، وما يصحب ذلك من دعوات منكرة لوحدة الأديان، أو زمالتها أو إخائها أو تقاربها، أو نحو ذلك من أفكار ومعتقدات قد يكون لها أثرُها على بعض المسلمين؟ 7 - وعلى صعيد آخر؛ وإذا اجتمع أصحاب الديانات المحرفة على كلمةٍ سواء، ولو ظاهرًا رغم اختلافهم في المعتقد، وما بينهم من عداء، فهل يدعو ذلك المسلمين إلى الوحدة والاجتماع وطرح الخلافات والمنازعات وجمع الطاقات والقوى لمواجهة عدوِّ الجميع؟ ومن يا تُرى يُمسك بالراية ليجتمع المسلمون تحتها يتشاورون ويفكرون في واقعهم وواقع عدوهم؟ وهل تكون الاجتماعاتُ العالمية الكبرى حِلًا لليهود والنصارى، حرامًا على المسلمين؟ 8 - وإذا لم تسيطر علينا نظرةُ الإحباط، أو تقعد بنا مثبطاتُ التشاؤم أمكن القول، وقد يكون في ثنايا هذه البلايا والمحن فرج وفتح للمسلمين، فقد يقود صلفُ المتطرفين من اليهود والنصارى إلى صلفٍ آخر من قبل العلمانيين عندهم، ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 85. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 17.

فتثور الفتنةُ بينهم، ويتعمق الخلافُ ويتحقق الصدامُ بينهم، فينشطُ كل طرفٍ للانتقام من صاحبه، ثم ينتقم الله من كليهما، ويستفيد المسلمون من ضعفِهم قوة، ومن تفرقهم اجتماعًا ووحدة. ومن مؤشرات هذا الاحتمال ما جاء في صحيفة (معاريف) حيث كتبت تقول في عددها الصادر في 14/ 7/ 1996: إذا استمرت الأحوالُ على ما هي عليه في ظل حكم الليكود، فإن العلمانيين لن يستطيعوا المعيشة بالقدس، وقد يضطرون إلى المواجهة. 9 - وأمرٌ آخرُ؛ فقد تدفع تصرفاتُ اليهود والنصارى المتطرفةُ إلى مزيد بعث الشعور الإسلامي، وقد يدعو هدمُ الأقصى - لو حصل - أو مزيد العبث به - إلى إشعال جذوة الجهاد في سبيل الله بين المسلمين. ولكن ينبغي أن يُعلم أن الأخطر من ذلك أن يكسب العلمانيون الجولة فيُروّجون لأفكار الإخاء والتقارب بين الأديان، والسخرية من الدين وأهله بشكل عام، ويُفعِّلون دور الإعلام العالمي الصليبي واليهودي والعلماني لترويج الأفكار والعقائد الباطلة، فيستمع الناسُ لهم في غمرة انتصارهم وهم يسحبون الهزيمة على المتدينين بشكل عام، فلا يميز الناس حينها بين أصحاب الدين الحق وأصحاب الخرافات والأساطير، أو يقفز العلمانيون في بلاد المسلمين للتشكيك في الدين الصحيح من خلال هزيمة من بدلوا دين المسيح، أو لعنهم الله وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت. وينبغي أن يعي المسلمون أنهم يتعاملون في عقيدتهم ونظراتهم من منطلقات الكتاب المهيمن على الكتب السابقة والذي حكم الله بحفظه من التحريف والتبديل، ونسخ به الشرائع والأديان، وجعل أمته أمةً وسطًا شاهدة على الأمم كلّها .. ومسئولة عن تبليغ الدعوة الحقة لها، ومَنْ شكَّ في صلاحية الإسلام لكل

زمان ومكان، أو ظن أن أحدًا يسعه الخروجُ عن دين محمد صلى الله عليه وسلم، أو تردد في إعجاز القرآن وصلاحيته للهداية والتوجيه، فذلك خارجُ دائرة الإسلام، وليس من أهل الإيمان. 10 - ومن العجز والتقصير أن يظل أهلُ الإسلام دائمًا ينتظرون ما تنتهي إليه الأحداث وتنجلي عنه المعركة، دون أن يكون لهم إسهام إيجابي في صُنع الأحداث وإقرار الأصلح، وعلى أهل الإسلام عامة - والمقتدرين منهم خاصة - أن يُساءلوا أنفسهم ماذا قدموا لدينهم، وما هي وسائلُهم لتقديمه للآخرين؟ وعليهم أن يتساءلوا: كم نِسَبُ المواقع الإسلامية في شبكات الانترنت؟ وكم يمتلكون من القنوات الفضائية المؤثرة؟ ما نوعُ تأثير إعلامهم، وما هي المنطلقات والأهداف في السياسة الإعلامية - بشكل عام؟ ما دور الجامعات ومراكز البحوث والهيئات العلمية في تصدير الفكر الإسلامي والعقيدة الحقة للأمم والشعوب الأخرى؟ وما دورُ الهيئات والمنظمات الإسلامية في تبني مشاريع الوحدة والاجتماع للمسلمين عبر مؤتمراتٍ ومهرجانات إسلامية كبرى تدرسُ وتفكر وتخطط وتصدر من القرارات والتوصيات ما ينفعُ الناس كافة؟ ولا شك أن في المسلمين طاقاتٍ وقدراتٍ وعقولًا، ولكنها محتاجة إلى تأليف وتجميع - وعسى أن توقظهم وتشحذ همتهم اجتماعات أعدائهم على المكر والباطل، وفي عقيدتنا أساسًا دعوةٌ لمثل هذا: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬1). {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (¬2). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 2. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 103.

أيها المسلم والمسلمة: واحذر على عقيدتك في زمن الفتن والتشكيك، وإياك أن تنساق وراء موجات التغريب والعلمنة، والزم الصراط المستقيم، واعبد ربَّك حتى يأتيك اليقين، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ولا تُغلبن على سلاحين ضروريين في كل حين، وهما في أزمان الفتن أشدُّ ضرورة، هما: سلاح العلم، وسلاح العبادة، واعتصم بالله: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬1)، ولا تغفل كذلك عن سلاح الدعاء، فهو مع الصدق والإخلاص لله مخترق للحجب، وسبب لدفع البلايا، ومفرج للكروب. ولم ينشأ من فراغ تحذير رابطة العالم الإسلامي من ترويج معلومات مغلوطة عن نهاية العام. وتأكيدها للناس كافة على أهمية تلقي العلم الصحيح من مصادره الموثوقة وعلمائه الأفذاذ العارفين بفقه النوازل، كل ذلك حتى لا تزلَّ أقدام بعد ثبوتها، ويُورث الشكُّ بعد اليقين. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 101.

السنة والبدعة في شعبان

السُّنة والبدعة في شعبان (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (¬3). عباد الله: وقبل أيامٍ انسلخ شهرُ رجب -وهو من أشهر الله الحرم، واليوم ينسلخ من شهر شعبان نصفه، وبعد سلخ نصفه الباقي يدخل شهر رمضان المبارك، وبين شهرٍ حرام، وشهر مبارك يغفل الناس، وربما فتروا عن العبادة في شهر شعبان؛ ولذا كان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يخصُّ شعبان بنوع من العبادة، لا يخصُّ به كثيرًا من أشهر العام، فقد كان يُكثر فيه من الصيام إلى حدٍّ قالت معه أمُّ المؤمنين ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 15/ 8/ 1419 هـ. (¬2) سورة المائدة، الآية: 35. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 29.

عائشة رضي الله عنها: لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرًا أكثرَ من شعبان، كان يصومُ شعبان كلَّه. أخرجاه في ((الصحيحين)). وفي رواية أخرى -وسندها صحيح إلى عائشة قالت: كان أحبَّ الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان، ثم يصله برمضان (¬1). وقد فسَّر العلماءُ رحمهم الله قول عائشة رضي الله عنها بأن المعتمد عنه الأئمة كابن المبارك وغيره أن قولها: ((يصوم شعبان كلَّه)) أي: أغلبه، وجاء اللفظ من باب التكثير، بمعنى أنه صلى الله عليه وسلم كان يصومُ أكثر أيام شعبان (¬2). إخوة الإسلام، وقد تحدث العلماءُ في سرِّ تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم للصيام في شهر شعبان، وقارنوا ذلك كذلك بما ورد عنه في أفضلية الصوم في شهر الله المحرم، حيث ورد في ((صحيح مسلم)) عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم)). ولهم في ذلك كلام يطول شرحه (¬3)، وفيما يخص شعبان؛ لعلَّ من أقوى الحكم المُعللة لكثرة صيامه صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر، ما رواه أسامةُ بن زيد رضي الله عنه حين قال: يا رسول الله! لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ((ذاك شهرٌ يغفلُ الناسُ عنه بين رجب ورمضانَ، وهو شهرٌ تُرفعُ فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين، فأحبُّ أن يرفع عملي وأنا صائم)) أخرجه النسائي وإسناده حسن (¬4). ¬

(¬1) عبود بن درع: أحكام رجب وشعبان 27. (¬2) المرجع السابق 28. (¬3) الرسالة السابقة 31 - 36. (¬4) جامع الأصول 6/ 319.

وثبت الحديثُ في ((صحيح ابن خزيمة)) (¬1). وفي الحديث يعلل كثرة صيامه صلى الله عليه وسلم في شعبان بأمرين: 1) غفلة الناس في هذا الشهر عن العبادة والطاعة بين رجب ورمضان. 2) ولأن الأعمال ترفع في شهر شعبان لرب العالمين، فيحب صلى الله عليه وسلم أن ترفع وهو صائم. أيها المسلمون: وثمة أمرٌ ثالث وميزة لشهر شعبان، تفسر كثرة صيامه صلى الله عليه وسلم فيه، فقد ورد أن الله يكتب المنايا في السنة في شعبان. قال ابن حجر: وجاء في ((مسند أبي يعلى)) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كلَّه، فقلت: يا رسول الله! أراك تصوم في شعبان ما لا تصوم في غيره؟ فقال: ((إن الله يكتب على كل نفسٍ منيةَ تلك السنة، فأحبُّ أن يكتب أجلي وأنا صائم)). وحسَّن الحديث بعضهم (¬2). إخوة الإيمان: أما الميزة الرابعة في شهر شعبان، فهي مغفرة الله لجميع خلقه إلا لمشركٍ أو مشاحن، وذلك ليلة النصف من شعبان، فقد ورد في ((سنن ابن ماجه)) بسند حسن -كما قال الألباني- عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى ليطَّلعُ في ليلة النصف من شعبان فيغفرُ لجميع خلقه، إلا لمشركٍ أو مشاحنٍ)) (¬3). وروي ذلك عن عدد من التابعين -كما في ((مصنف عبد الرزاق)) - وروي عن ¬

(¬1) عبود بن درع، أحكام رجب وشعبان 35. (¬2) عبود بن درع: أحكام رجب وشعبان 36. (¬3) صحيح الجامع الصغير 2/ 28 (ح 1815).

عطاء ومكحول، والفضل بن فضالة، وقال المنذري: مرسل جيد (¬1). وعن ليلة النصف من شعبان قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله في ((الاقتضاء)) (¬2): وروي في فضلها من الأحاديث المرفوعة ما يقتضي أنها ليلة مفضلة، وهناك من السلف من كان يخصها، وهناك من العلماء من السلف من أنكر فضلها .. ولكن الذي عليه كثيرٌ من أهل العلم أو أكثرهم -من أصحابنا وغيرهم- على تفضيلها، وعليه يدل نصُّ أحمد في ((المسند)) - عن عبد الله بن عمرو؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يطلع الله عز وجل إلى خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لعباده إلا اثنين: مشاحن وقاتل نفس)) (¬3). وفيه: ((إن الله يغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب)) (¬4) ... إلى أن قال: فأما صومُ يوم النصف مفردًا فلا أصل له، بل إفراد مكروه، وكذا اتخاذُه موسمًا تُصنع فيه الأطعمةُ، ويظهر فيه الزينة، هو من المواسم المحدثة المبتدعة التي لا أصل لها، وكذلك ما قد أُحدث في ليلة النصف من الاجتماع العام للصلاة الألفية في المساجد الجامعة ومساجد الأحياء والدروب والأسواق .. فذلك لم يشرع، بل مكروه، فإن الحديث الوارد في الصلاة الألفية موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. والصلاة الألفية هي التي يزعمون أنه ورد الفضلُ بقراءة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} (¬5) فيها ألف مرة (¬6). عباد الله: وإذا حرصتم على السنة فصمتم من شعبان ما قدر الله لكم اقتداءً ¬

(¬1) ابن درع: أحكام رجب وشعبان 41. (¬2) 2/ 631، 632. (¬3) 2/ 676. (¬4) المسند: 6/ 238، والترمذي، وابن ماجه، (هامش الاقتضاء): 2/ 631. (¬5) سورة الإخلاص. (¬6) تحقيق د. ناصر العقل للاقتضاء 2/ 632.

بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وتحرّيتم مغفرة ربِّكم ليلة النصف من شعبان، فابتعدتم عن الشرك بالله، ومشاحنة خلقه، فإياكم أن تتعدوا إلى البدعة .. فكلُّ بدعة ضلالة، وكلُّ ضلالة في النار .. والوقوف عند السنة خيرٌ من الاجتهاد في البدعة، وما صحّ من العبادات والطاعات فيه غنية للمسلم، و ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌ)) كذا صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم. اللهم بارك لنا في شعبان، وبلّغنا رمضان، وأرنا الحقّ حقًا وارزقنا إتباعه، والباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، يا سميع الدعاء. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬1). اللهم انفعنا بهدي القرآن والسنة، واكفنا شرَّ الحادثات المبتدعة في الدين، وسلمنا من الفتن يا رب العالمين. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين. ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 110.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، أكمل الدين وأتمَّ النعمة على المسلمين، وأشهد أن لا إله إلا الله أمرنا بالعبادة الخالصة له: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (¬1). وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، حثَّ أمته على سنن الهدى، ونهاهم عن البدع المحدثات في الدين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. إخوة الإسلام: وإذا كانت الصلاة الألفية من بدع شعبان -سواء صلى المصلي مئة ركعة وقرأ فيها بكل ركعة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} عشر مرات، أو صلاها عشر ركعات وقرأ في كل ركعة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} مئة مرة. فمن الأمور المنكرة البدعية أن يعتقد معتقدٌ أن ليلة النصف من شعبان أفضلُ من ليلة القدر، وربما زعم بعضهم أن قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} (¬2) المقصودُ بها ليلة النصف من شعبان. قال ابن العربي: من قال بأنها ليلة النصف من شعبان فقد أعظم الفرية على الله. ومن البدع أيضًا الاجتماعُ بعد المغرب والعشاء من هذه الليلة لقراءة سورة ياسين ثلاث مرات بصوت جماعي، وقراءة دعاءٍ بعدها، وهذا كلُّه لا نصَّ فيه (¬3). أيها المسلمون عظموا شرع الله، وإياكم والبدع والمحدثات ما ظهر منها وما بطن، في كلِّ زمان أو مكان، وتأملوا الحديث في ((صحيح مسلم)) عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتد غضبه، حتى كأنه ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 3. (¬2) سورة الدخان، الآية: 3. (¬3) ابن درع: أحكام رجب وشعبان 45.

منذرُ جيشٍ يقول: صبّحكم ومساكم ويقول: ((بُعثتُ أنا والساعة كهاتين)) ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى -ويقول: ((أما بعد: فإن خير الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ بدعة ضلالةٍ)) (¬1). وفي رواية للنسائي: ((وكلَّ ضلالة في النار)). عباد الله: وتذكروا دائمًا فيما تعملون أو تذرون قول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: ((إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنةِ الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كلَّ بدعةٍ ضلالة)). قال ابن تيمية رحمه الله: وهذه قاعدة قد دلت عليها السنةُ والإجماع، مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضًا، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (¬2). ثم قال يرحمه الله: فمن ندب إلى شيء يتقربُ به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو بفعله من غير أن يشرعه الله، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكًا لله شرع من الدين ما لم يأذن به الله .. (¬3). وهكذا -إخوة الإيمان- تبدو خطورة البدعة على من شرعها أو عمل بها .. كما قرر العلماء. بل يقرر ابنُ تيمية أيضًا: إن هذا المُشرَّع قد يكون متأولًا في هذا الشرع، فيغفر له لأجل تأويله إذا كان مجتهدًا الاجتهاد الذي يُعفى معه عن المخطئ ويُثابُ أيضًا ¬

(¬1) مسلم 3/ 592 ح 867. (¬2) سورة الشورى، الآية: 21. (¬3) الاقتضاء 2/ 582.

على اجتهاده، لكن لا يجوز إتباعُه في ذلك، كما لا يجوز إتباعُ سائر من قال أو عمل قولًا أو عملًا قد عُلم الصواب في خلافه .. إلى أن يقول ابن تيمية: فمن أطاع أحدًا في دينٍ لم يأذن به اللهُ في تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب، فقد لحقه من هذا الذمِّ نصيبٌ، كما يلحق الآمر الناهي أيضًا نصيب. عباد الله: وحين يُحذر العلماءُ من البدع، فلما لها من آثار في تقويض السنن. يقول ابن تيمية معلقًا على حديث: ((ما أحدث قومٌ بدعةً إلا نزعَ الله عنهم من السُّنة مثلها)) يقول: إن الشرائع أغذية القلوب، فمتى اغتذت القلوب بالبدع، لم يبق فيها فضل للسُّنن، فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث (¬1). ومن رام المزيد فليرجع إلى ((اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم)). أيها المسلمون: ومن مسائل شعبان: روى أبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا انتصفَ شعبانُ، فلا تصوموا)). وفي رواية الترمذي: ((إذا بقي نصفٌ من شعبان، فلا تصوموا)) (¬2). وفي رواية عند أحمد: ((إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يكون رمضان)) (¬3). قال بعض العلماء: وهذا محمول على من يُضْعِفُهُ الصوم، لأجل أن يتقوى على صيام رمضان، أما من لا يضعفه أو له عادة الصيام، ولا ينوي بذلك الاحتياط لرمضان، فلا حرج عليه في الصيام، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يتقدَّمنَّ أحدُكم ¬

(¬1) الاقتضاء 2/ 601. (¬2) جامع الأصول: 6/ 354، وصحّحه المحقق. (¬3) صحيح الجامع الصغير 1/ 168.

رمضانَ بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجلًا كان يصوم صومًا فليصمْهُ)) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما (¬1). وبقي أن نذكر بأهمية وضرورة التعجيل بالقضاء لمن عليه شيء من رمضان السابق، وذلك قبل حلول شهر رمضان القادم، فلا تتهاونوا عباد الله فيما أوجب الله عليكم، ودَيْن الله أحقُّ بالقضاء. ¬

(¬1) جامع الأصول: 6/ 354. الهامش 1. وانظر: ((أحكام رجب وشعبان)) ص 37، 38.

نذر الكوارث والمعاصي

نذر الكوارث والمعاصي (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله ربّ العالمين، {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} (¬2)، {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬3). وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬4)، يخوّف عباده بآياته ونذره، وهو القائل في محكم تنزيله: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} (¬5). وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، كان أزكى البرية وأتقاها، وكان أخوف الناس لربه، وأكثرهم تضرعًا له، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬6). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 15/ 10/ 1420 هـ. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 62. (¬3) سورة غافر، الآية: 64. (¬4) سورة الزمر، الآية: 67. (¬5) سورة الإسراء، الآية: 17. (¬6) سورة الحشر، الآية: 18.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (¬1). عباد الله: والمتأملُ ببصيرةٍ -يرى- في هذه الشهور والأيام مزيدًا من آيات الله ونذره، تعمُّ الأرض، وتهلك من تُهلك من البشر والشجر والحيوان، تهدُّ العوامرَ، وتعصف بالحياةِ والأحياء، وتُحيل المدن الكبرى إلى مجموعة من الركام والأنقاض. لا يستوقفها سدٌّ منيع .. ولا تُحيط بها قوة أو تستطيع أن تمنعها منظمةٌ أو هيئة -مهما أُوتيت من قوة ومعرفة. زلازلُ مدمرة، وأعاصيرُ مهلكة، وفيضانات مفسدة، وانهيارات مروعة، جفافٌ وجدب، خسوف وكسوف، انزلاقات، وسيولٌ، وكوارث، جوعٌ وأمراض وقتلٌ وتشريد .. ولا ندري ما بغيب الله في المستقبل .. ولكن الواقع منذرٌ بخطر، ومخوّف لأولي الأبصار، ومفزعٌ لأهل الإيمان الذين يتخوفون من عقوبة الله وقبضته. أيها المسلمون: والمطالعُ لما يُنشر في الصحف من عناوين مثيرةٍ يروعه الأمر -ودونكم نماذج ممّا نُشر منها خلال الأشهر الماضية- فتأملوها واعقلوا فيها ما نُذر: زلزالان يضربان تركيا ويثيران الرعب فيها 1/ 8 / 1420 هـ. زلزال قوي يهز شمال إيران 12/ 8/ 1420 هـ. إيطاليا تُعلن حالة الطوارئ في مناطق الفيضانات 10/ 9/ 1420 هـ. فنزويلا: الشوارع اختفت تحت ركام الأوحال، خمسة آلاف قتيل، وعشرون ألف مصاب، ومئة وخمسون ألف مشرّد 13/ 9 / 1420 هـ. الهند ترحب بالمساعدة الدولية للتغلب على آثار الإعصار المدمّر 30/ 7/ 1420 هـ. ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 1.

انهيار عددٍ من المنازل في الجزائر بسبب الفيضانات 13/ 9 / 1420 هـ. في فيتنام إضافة إلى تهديد سبعة ملايين شخص بالجوع والمرض الفيضانات تقتل خمس مئة شخصٍ، وتُنزل خسائر بنحو أربعة وأربعين مليون دولار 30/ 7 / 1420 هـ. السيولُ الفرنسيةُ تثير الجدل حول الوقاية من الكوارث الطبيعية 8/ 8/ 1420 هـ. المكسيك ارتفاعُ عدد قتلى الزلزال 22/ 6 / 1420 هـ. كمبوديا تجاوزت أسوأ فيضانات 28/ 7/ 1420 هـ. زلزال قوي يضربُ منطقة توهوكو اليابانية 8/ 8/ 1420 هـ. توقف البحثُ عن ناجين من الانهيار الأرضي في إندونيسيا 5/ 9/ 1420 هـ. انزلاقات التربة تقتل وتصيب اثني عشر شخصًا في كولومبيا 13/ 9/ 1420 هـ. إلى غير ذلك من أحداثٍ داميةٍ .. ونذرٍ إلهية تمتد في مشرق الأرض ومغربها، وشمالها وجنوبها -فماذا تعني هذه النذر. وما سبلُ الخلاصِ من العقوبات والبلايا والمحن؟ أيها المؤمنون: لقد عمَّ الفساد وكثر المفسدون على وجه الأرض، وصدق الله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (¬1) وما أعظم العبرة في قول ربِّنا: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬2). ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 103. (¬2) سورة الروم، الآية: 41.

لقد أنعم الله على عباده ففجَّر لهم مكنوز الأرض، وفتح لهم أبوابَ السماء .. فاتخذوا من نعمِ الله وسائل للكفرِ والتمردِ على شرعه -إلا من رحم الله- وانتشر الظلمُ والفساد، وكثر القتل والتشريد، وأصبحت لغةُ القوة لغة التخاطب، وبها يأكل القويُّ الضعيف -وربّك يرى ويسمع ويمهل ولا يُهمل، يسبق حلمُه غضبَه، ولكن أخْذَه أليمٌ شديد: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (¬1). {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (¬2). أيها المسلمون: ويختلف أهلُ الإيمان عن أهل الكفر والفسوق والظلمِ والعدوان في نظرتهم لهذه الكوارث والأحداث الكونية، فإذا أصابت الغفلةُ القومَ الكافرين - {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (¬3) - فأهل الإسلام والإيمان لهم نظرةٌ أخرى وميزانٌ آخر، تخوّفهم الآيات والنُّذُر، ويربطون بينها وبين كثرة المعاصي والذنوب، وفي كتاب ربهم العزيز: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (¬4). ويقولُ أحدُ علمائهم الربانيين -شيخ الإسلام -: ومن المعلوم بما أرانا الله من ¬

(¬1) سورة هود، الآية: 117. (¬2) سور القصص، الآية: 58. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 179. (¬4) سورة الشورى، الآية: 30.

آياته في الآفاق وفي أنفسنا، وبما شهد به في كتابه أن المعاصي سبب المصائب، وأن الطاعة سبب النعمة (¬1). ويقول رباني آخر -ابن القيم -: ومن عقوبات الذنوب أنها تُزيل النِّعَم، وتُحِلُّ النقم. ومن تأمل ما قصّ اللهُ في كتابه من أحوالِ الأمم الذين أزال نعمه عنهم وجد أن سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمرِه وعصيانُ رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره، وما أزال عنهم من نعم وجد ذلك من سوء عواقب الذنوب (¬2). إخوة الإيمان: والمخيفُ في الأمر أن العقوبة إذا حلَّت شملت الجميع إلا من رحم ربُّك. وفي التنزيل: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬3). وفي ((صحيح البخاري)) (بابٌ إذا أنزل الله بقوم عذابًا) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنزل اللهُ بقومٍ عذابًا أصاب العذابُ من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالِهم)). قال الحافظ ابن حجر معلقًا على الحديث: وفي الحديث تحذيرٌ وتخويف عظيم لمن سكت عن النهي، فكيف بمن داهن؟ ! فكيف بمن رضي؟ ! فكيف بمن عاون؟ نسأل الله السلامة (¬4). وفي الحديث الآخر: أنهلكُ وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كَثُرَ الخَبَثُ)). فإذا قيل هذا للصحابة الكرام، فما الظنُّ بغيرهم؟ إخوة الإسلام: وإذا كان السكوتُ على المنكرات سببًا للهلاك، فلا شك أن ¬

(¬1) ابن تيمية ((الفتاوى)) 28/ 138. (¬2) ابن القيم: الجواب الكافي. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 25. (¬4) الفتح 13/ 60، 61.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للنجاة: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} (¬1). قال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ اللهُ أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يُستجابُ لكم)) رواه الترمذي وحسَّنه. قال العالِمون: وأيُّ دين، وأيُّ خير فيمن يرى محارم الله تُنتهك وحدوده تُضاع، ودينه يترك، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يُرغب عنها وهو باردُ القلب، ساكتُ اللسان، شيطانٌ أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطانٌ ناطق، وهل بليّة الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلُهم ورياستُهم فلا مبالاة بما جرى على الدين. أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (¬2). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 165. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 82.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، يبتلي عباده بالخير والشر فتنة وإليه يرجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يُردُّ بأسُه عن القوم المجرمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، حذّر أمته من الفتن والمعاصي وأرشدهم إلى العبودية الحقة .. ومن يضلل الله فما له من هادٍ، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها الناسُ: ويختلف كذلك أهلُ الإيمان عن أهل الكفر عند حلول النكبات أو التوقعات والمرتقبات .. فأهلُ الكفر يُصيبهم من الهلع والجزع والذعر والقنوط واليأس ما هو خليقٌ بأمثالهم، ممن لا يؤمن بالله ولا يتوكل عليه .. أما أهلُ الإيمان فهم وإن خافوا وفزعوا فهو خوفٌ وفزعٌ إلى الله وفرارٌ إلى الله منه؛ يهديهم ذلك الخوف إلى مزيد الإيمان به والخوف من بأسه وعقوبته، ويدعوهم ذلك إلى مزيد طاعته، والجهاد في سبيله، والدعوة إلى دينه، والتخفف من الآثام والسيئات، وإعادة النظر في الأحوال والسلوكيات .. ذلكم خوفٌ إيجابي .. وفزعٌ مرغوب، يحققون به الإيمان .. ويخشون صاحب الانتقام .. يتضرعون إلى الله، ويلجئون إليه استجابةً لأمر ربِّهم {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} (¬1). ويجأرون بالدعاء وهم مؤمنون. يقول حبيبهم صلى الله عليه وسلم: ((لا يردُّ القدرَ إلا الدعاءُ)) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. ويقول صلى الله عليه وسلم: ((لا تعجزوا في الدعاء، فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد))، رواه ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 43.

الحاكمُ وصححه، وابنُ حبان في ((صحيحه)). ولا يتوقفون في الدعاء عند حلول المصائب، بل شأنهم الدعاء في الشدائد والرخاء، وفي الحديث: ((من سَرَّه أن يُستجابَ له عند الكربِ والشدائدِ، فليكثر الدعاءَ في الرخاءِ)) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. ويفئ المسلمون -في حال الكروب والشدائد- إلى الاستغفار والتوبة مؤمنون بقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (¬1). وقوله: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬2). إخوة الإيمان: أحدثوا لله توبة كلما أحدثتم وارتكبتم معصية، وعظموا أمر الله، واستشعروا شدة عقابه، واعلموا أنه ليس القصدُ من النجاة حين الكروب نجاة الأبدان فحسب .. أو طلب النجاة في الدنيا فقط .. بل أهمُّ من ذلك صلاحُ القلوب .. والنجاة من عذاب الله يوم الفزع الأكبر. إن الاهتمام بنجاة الأبدان فحسب وطلب البقاء في الحياة بأي شكل من الا شكال -سمةُ قوم قال الله عنهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (¬3). أيها المؤمنون: وعلى مدى التاريخ كانت تحصل كوارث أو زلازل، ولكن المؤمنين كانوا يقفون منها موقف الاعتبار والاتعاظ، ويُذكِّر بعضُهم بعضًا .. أخرج ابنُ أبي شيبة في ((مصنفه)) بإسناد صحيح، والبيهقي في ((سننه)) عن صفية بنت ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 33. (¬2) سورة النمل، الآية: 46. (¬3) سورة البقرة، الآية: 96.

أبي عبيد، قالت: زُلزلت الأرض على عهد عمر -رضي الله عنه- حتى اصطفقت السرر، فخطب عمرُ الناس فقال: أحدثتم لقد عُجلتم! لئن عادت لأخرجنَّ من بين ظهرانيكم (¬1). وأخرج ابن كثير عن قتادة -رحمهما الله- قال: ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: أيها الناس! إن ربَّكم يستعتبكُم فأعتبوه. أي: يطلب منكم العتبى وهو الرجوع إلى ما يرضيه. أيها المسلمون: حذار من الغفلة ففيها العطب، وحذار من الغرور فيعقبه الندم وربنا يذكرنا ويحذرنا من غرور الدنيا بقوله: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (¬2). إياك أخا الإسلام أن تمتد بنظرك إلى أخطاءِ غيرك وتتناسى أخطاءك. ابدأ بنفسك، فإنْهَهَا عن غيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ ثم انتقل بعد ذلك في الإصلاح والدعوة إلى الأقربين والأبعدين .. كن مشعلًا يضيء الخير أينما حلّ أو ارتحل، كن من مفاتيح الخير .. ومغاليق الشر .. والحذر أن تغتر بعملك أو تغرك صحتُك وقوتُك، أو تأمن مكر الله، فلا يأمن مكرَ الله إلا القومُ الخاسرون، ولا تنسَ أنك مخاطبٌ بقوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (¬3). يا عبد الله: حاسب نفسك قبل أن تُحاسب، ولا تنظر إلى الهالك كيف هلك، ¬

(¬1) السيوطي: كشف الصلصلة عن وصف الزلزلة. (¬2) سورة لقمان، الآية: 33. (¬3) سورة فاطر، الآية: 45.

ولكن انظر إلى الناجي كيف نجا .. ولا تمتدَّ بك حبالُ الأماني والغرور .. فالعمرُ قصير .. والأجل محدودٌ، والناقد بصير، وموقف العرض على الله عسير، إلا على من يسَّره الله عليه، وإن يومًا عند ربِّك كألف سنةٍ مما تعدون. تأمل في مطعمك ومشربك، وانظر ماذا ترى وتسمع، وماذا تُسِرُّ وتعلن .. ولئن خفيت منك اليوم خافية، فهناك في أرض المحشر يكشف الغطاءُ وتتكلم الجوارح: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬1). تذكر هول الموقف .. يوم يقام عليك الشهودُ من نفسك: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬2). لقد جاءتك من ربك النذر .. ومن تذكَّر فإنما يتذكر لنفسه .. وصدق الله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬3). اللهمَّ أنقذنا من دَرَكاتِ الغفلة .. وارحمنا يوم النقلة، وأصلح فسادَ قلوبنا. ¬

(¬1) سورة يس: الآية: 65. (¬2) سورة فصلت، الآية: 21. (¬3) سورة يس، الآية: 70.

قضايا المسلمين

قضايا المسلمين (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الفحشاء والبغي والعدوان، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، له مقاليدُ السماوات والأرض، أزمَّة الأمور بيده، ومفاتيحُ الفرج عنده، أغنى وأقنى وأضحك وأبكى، وهو أعلم بما كان ويكون، وإليه المنتهى، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولهُ، الناصحُ الأمين، والشافعُ المشفّع في المحشر، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬3). أيها المسلمون: طالعتُ في الأيام الماضية، وفي جريدة الرياض العناوين التالية: 1 - الهدف السهل. 2 - البلقان والقوقاز. وتحت العنوان الأول (الهدف السهل) افتتح صاحبُ المقال الكريم مقاله قائلًا: حملةٌ جنونية عاتية تقودها (روسيا) لتحطيم (جمهوريات القوقاز الإسلامية) وبالذات جمهورية الشيشان، تحت ستار محاربة ((الإرهاب الإسلامي))، المطاراتُ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 28/ 6/ 1420 هـ. (¬2) سورة البقرة: الآية 21. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 102.

والجسور، ومحطاتُ الكهرباء، والطرق، والبناياتُ وكافةُ تجهيزاتِ البنيةِ الأساسية في جمهورية الشيشان تتعرض للتدمير على أيدي القوات الروسية .. (ويستمر الكاتب قائلًا): ويبدو أن التدمير الذي حدث حتى الآن لا يعتبر كافيًا من وجهة نظر الحكومة الروسية. ثم يشير الكاتب إلى شيء من المشاهد المأساوية لشعب الشيشان جرّاء قصف الروس .. ثم ينتقل إلى الحملة الإعلامية الروسية ضد الإسلام وأهله واعتبارهم المسلم الروسي مواطنًا من الدرجة الثانية، وهو معرض للاعتقال والحجز لمجرد انتمائه للجمهوريات الإسلامية. ويختم المقال بقوله: وقد وجدت الحكومةُ الروسيةُ في هذه التطورات الأخيرة وسيلةً لحشد التأييد الشعبي حولها، لكي تتجاوز بعض مشكلاتها المزمنةِ، وهكذا انقضَّت بلا هوادةٍ على أهل الشيشان وداغستان .. ثم يقول أخيرًا: مساكين مسلمو اليوم، لقد صاروا هدفًا سهلًا للجميع (¬1). أما المقالُ الثاني (البلقان والقوقاز) فيستهله كاتبُه بالقول: ما جرى ويجري في أوروبا، سواء في البلقان أو في القوقاز من حملات واشتباكاتٍ عسكريةٍ دينيةٍ أو مذهبية، لا يمكنُ أن يكون عفويًا أو غرائزيًا بحتًا كما تصوره أجهزةُ الإعلامِ العالمية، وأغلبُ الظنِّ أن هناك وراء هذه الظواهرِ يدًا ترى في توتير المشاعر الدينية والمذهبية تمارين في التعصب والكراهية، تتحول بها المجتمعات من العقلانية إلى العصبية العمياء .. إلى أن يقول: إن من حق الناس في كل مكانٍ أن يتحسسوا فظاعة هذه التمارين الآثمةِ التي تُزجُّ فيها شعوبٌ وجيوش، لتخرج منها ¬

(¬1) د. عبد الواحد الحميد، الرياض، عدد 11424 تاريخ 24/ 6/ 1420 هـ.

أشدَّ تشنجًا وكرهًا للسلام والقانون والعيش المشترك والآمن (¬1). أما المقال الثالث -وهو في الجريدة نفسها- فأكتفي منه بالعنوان التالي (مئة ألف لاجئ شيشاني يعيشون ظروفًا قاسيةً في الأنغوش). إخوة الإسلام: ماذا نقول ونعلّق إزاء هذه الأحداث الدامية والمصائب المتتالية على إخواننا المسلمين، مرةً في أوروبا، وأخرى في روسيا، وثالثةً في كشمير، ورابعة في الفلبين. ومن قبلُ ومن بعدُ يثعب الجرحُ دمًا في فلسطين، ويجثم الصهاينة على المقدسات، ويسقون المسلمين كؤوس الذل والمهانات، بل ويتجاوزون حدودهم بالتعاون مع الآخرين لضرب المسلمين، وفي مجلّة المجتمع الكويتية عنوان ((روسيا تتعاون مع الموساد وتدعو لمحاصرة الشيشان)) (¬2). إلى غير ذلك من قضايا إسلاميةٍ ملتهبةٍ هنا أو هناك. والسؤال المطروحُ هنا: ما موقفُ العالمِ مسلمِهم وكافرهم من قضايا المسلمين؟ وما نوعُ التعامل معها؟ إن الإجابة على هذا السؤال -وما يدور حوله- تحتاج إلى عدةِ وقفاتٍ، منها: الوقفة الأولى: الإجماعُ الدوليُّ على خطورةِ قضايا المسلمين وتحركاتهم، حتى وإن كانت قليلة العدد، ضعيفةَ العتاد -وهذا جزءٌ من تخوفهم من الإسلام، وخشيتهم من عودة المسلمين لدينهم. ثانيًا: التعاونُ من الدول ذات النفوذ -على شدة الحصار وقمعِ أيِّ تحركٍ ¬

(¬1) منح الصلح، جريدة الرياض، العدد السابق. (¬2) عدد 1396 في 18 - 24/ 6/ 1420 هـ.

إسلاميٍّ، ومحاولة إجهاض أي نجاحٍ يحصل بانتصار المسلمين. ثالثًا: الكيل بموازين مختلفةٍ باختلاف القضايا ونوعيتها. فإن كان العنصر فيها يهوديًا أو نصرانيًا -أو مواليًا لهم- رأيت حماسًا ودفاعًا منقطع النظير، وإن كان العنصرُ المتضررُ إسلاميًا فالتهميشُ والمواطأةُ على التضييق والحصار، بل والمساعدات ما خفي منها وما ظهر .. وفي أحداث (تيمور الشرقية) نموذجٌ لكشف القناع، وليس حماسُ الدول الكبرى لها لكثرة سكانِها ولا لتميُّزٍ في اقتصادها، وإنما لكون غالبية سكانها من الكاثوليك النصارى! إضافة إلى المطامع الدولية في المنطقة. وفي سبيل ذلك تتواجد القواتُ الدولية في تيمور، وتُجبرُ إندونيسيا ويضغطُ عليها حتى تقبل بالأمر الواقع، علمًا بأن سكان تيمور لا يبلغون مليون نسمة، ومن هنا تساءل المراقبون المنصفون: أيهما أولى بالجمهورية المستقلة (تيمور) ذات الخمسين وثمان مئة ألف نسمة، أم (القوقاز) ذات الملايين العشرة، و (كشمير) ذات الخمسة عشر مليونًا، (ومورو) ذات الملايين السبعة؟ رابعًا: وفوق هذا الغشِّ في المكاييل، فهناك تشويهٌ متعمدٌ وغيرُ مقبول، وغشٌّ آخرُ في المصطلحات -ولا سيما من دولٍ تزعم رعاية الحريةِ، وتتشبث بالديمقراطية، فإذا كانت القضيةُ -موطن النزاع- لصالح غير المسلمين، رُفع شعار السلام والأمن والاستقرار -كمبرر للتدخل- وإذا كان المسلمون طرفًا في النزاع سمعت مصطلح الإرهاب، ودعوات الانفصال، والتمرد، وملَّ سمعُك من ترداد عبارات (المتعصبين والأصوليين والمتطرفين المسلمين) ونحوها من عبارات التشويه المتعمد؛ وهل سمعت يومًا مصطلح الإرهاب يوصف به اليهود من قبل دول الغرب وحلفائها؟ وهل رأيت أشدَّ إرهابًا من اليهود؟ ! ومن حق العالم كله أن يأنف من مصطلح السلام -وتلك صوره وتطبيقاتُه- ومن حقه كذلك أن يرفض

مصطلحات الإرهاب والتطرف، إذا خُص بها قومٌ دون آخرين. خامسًا: ومن حق العالم كذلك ألا ينخدع بمصطلح (العولمة) ولا يقبل به، فهي ليست عولمةً قائمةً على العدل والإنصاف وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقّه، لكنها نوعٌ من فرض الوصاية لفكر معين وأيدلوجية خاصة - يرضى عنها الغربُ وحلفاؤهم، وهي من جانب آخر هيمنةٌ اقتصاديةٌ وسياسيةٌ وإعلامية لدولٍ معينة ينبغي أن يكون العالمُ كلُّه تبعًا لها، ولا اعتبار فيها للدين الحق، ولا للمسلمين أصحاب الرسالة الحقة، بل الهدفُ تذويبهم وإماتةُ الشعور الإسلامي في أذهانِهم، وفوق ذلك كله محاولة تقليص عددهم، ومن العناوين المثيرة قرأتُ العنوان التالي (القلق الأمريكي من تزايد النسل في اليمن) وفي ثنايا الخبر مساعدة أمريكية لليمن مشروطة، بل ومضمَّنة نوعًا من عقاقير منع الحمل. فقد أقلقهم أن نسبة استخدام منع الحمل عند اليمنيات بلغت 13%، وهو من أكثر المعدلات انخفاضًا في العالم (¬1). عباد الله: لا نستغربُ هذا أو غيره من أعدائنا، والله تعالى يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (¬2)، ولكن المستغرب حقًا مواقفُ المسلمين تجاه قضايا إخوانهم المسلمين. وقد ألف العالم -مع كل أسفٍ- مسلمهم وكافرهم -إلا من رحم الله- أخبار المآسي الواقعةِ على الأقليات المسلمة، وعاد نزيفُ الدماء وتناثر الأشلاء وارتفاعُ أصوات الأيامى والصبايا بالبكاء لا يحركُ ساكنًا، وإن حرّك كان عاطفةً لا تلبث أن تبرد وتسكن، وقلَّ أن يتبعها عملٌ منظم، وإجماع محكم -من المسلمين على الأقل- ينتصر للمظلوم ويمنع الظالم. وكم يذكر التاريخُ للمعتصم العباسي استجابته لصرخةِ امرأةٍ مسلمة سيّر على ¬

(¬1) المجتمع الكويتية 18 - 26/ 6/ 1420 هـ. (¬2) سورة البقرة، الآية: 120.

أثرها جيشًا عظيمًا لتأديب الروم والانتصارِ للمظلوم، وأين مثلُ هذا في واقع المسلمين اليوم؟ رُبَّ وامعتصماهُ انطلقتْ ... ملءَ أفواهِ الصَّبايا اليُتَّمِ لامَسَتْ أسماعَهُم لكنها ... لم تُلامسْ نخوةَ المُعتصمِ كم يحزن القلبُ، وتدمع العين حين نسمع عن أعداد من المهاجرين المسلمين يهيمون على وجوههم في بيداءَ مهلكة، بحثًا عن المأوى، وطالبًا للقمة العيش، وقد يُقصفون في ثنايا الطريق، ولربما ماتوا عطشًا أو جوعًا في رحلة التشريد والتجويع، وهل دماء المسلمين رخيصة إلى هذا الحد؟ ! وهل قضايا المسلمين بالمهانة إلى هذا القدر؟ ! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (¬1). ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 73.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، حكم بأخوة المؤمنين، وإن اختلفت أجناسهم، أو تباعدت أوطانهم، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬1). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل ولاية المؤمنين لبعضهم دون الكافرين والمنافقين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (¬2). وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، جعل من لوازم الأخوة في الدين النصرة والمودة والتراحم: ((مثلُ المؤمنين في توادّهم وتراحُمهم وتعاطفهم مثلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائرُ الجسد بالسَّهر والحُمّى)) (¬3). اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها المسلمون: وباسم الإسلام نخاطبكم، وبأخوة الإيمان نناديكم للتعرض على قضايا إخوانكم المسلمين ومساندتهم، ومن هَدْي المصطفى صلى الله عليه وسلم قوله: ((المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضًا)) وشبك بين أصابعه. قال القرطبي رحمه الله تعليقًا: هذا تمثيلٌ يفيد الحضَّ على معاونة المؤمن للمؤمن ونصرتهِ، وإن ذلك أمرٌ متأكدٌ لا بد منه. عباد الله: الوقفةُ السادسة: ويتساءل المرءُ كثيرًا: وأين أمةُ المليار مسلم من قضايا إخوانهم، وماذا لو كان لهم هيئة عالمية تخصهم، ومنها تُصدر القرارات، وتكون ¬

(¬1) سورة الحجرات، الآية: 10. (¬2) سورة التوبة، الآية: 71. (¬3) متفق عليه.

بحجم قرارات هيئة الأمم ومجلس الأمن، وهل يليق بهم أن يعيشوا على موائد الآخرين، وينتظروا توجهاتهم وتوجيهاتهم؟ ! إن أمة الإسلام غنية بأعدادها ومواردها، لكنه التفرقُ والتشرذم والغثائية التي أخبر عنها الصادق المصدوق: ((يوشك أن تداعى عليكم الأممُ كما تداعى الأكلة على قصعتها))، قالوا: أمِنْ قلَّة نحن يومئذٍ؟ قال: ((بل أنتم كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السَّيل)). والمأمول أن توحد هذه الضربات صفوفهم، وتجمع شتاتهم. إن حركات الجهاد الإسلامي للتحرر من الظلم والعبودية، والتي تقوم بها الأقليات المسلمة -هنا أو هناك- محرجةٌ لأمة المليار مسلم، لا سيما إذا قدر لهذه الفئة المستضعفة -في نظر الآخرين- إحرازُ قدرٍ من الانتصار على دولٍ هي في طليعة الدول الكبرى، وماذا لو اجتمع شملُ المسلمين وتوحَّدت قواهم، وصدقوا في توجههم؟ لا شك أن النصر سيكون حليفهم، وسيحطمون كبرياء المتغطرسين الذين باتوا يهددون بلاد المسلمين ويستحوذون على مقدراتهم، وكأنهم أوصياءُ عليهم! الوقفة السابعة: وهناك عنصرُ قوةٍ عند الشعوب المسلمة، لا يتوفر مثلُه عند الشعوب الكافرة، فالأعداءُ وإن فاقوا المسلمين على مستوى الحكومات في الدعم واتخاذ القرارات وتنفيذها حسبما يرون، ففي الشعوب المسلمة قابليةٌ للنصرةِ والمساعدة والإيثار بالنفس والمال لإخوانهم، ما لا يمكن أن يتوفر مثلُه عند غيرهم من أبناء الكفار، فكيف ومتى يستثمر المسلمون هذه القوة لصالحِ قضاياهم؟ إن المسلمين جميعًا -دولًا وشعوبًا- مطالبون -بإسلامهم- بإعداد القوة التي يرهبون بها عدوَّ الله وعدوَّهم، وذلك من الإرهاب المحمود كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ

وَعَدُوَّكُمْ} (¬1). وإن رغمت أنوف الأعداء، واستغلوا مصطلح الإرهاب لصالحهم. الوقفة الثامنة: ينبغي أن يُعلم أنه ليس كلُّ ما يحصل على المسلمين من محنٍ وبلايا وقتل وتشريد شرٌّ محضٌ، فقد يكون هذا الواقع السيّئ والظلمُ والتعسفُ الظاهر من قبل الأعداء موقظًا لعزائم المسلمين، محركًا لهممهم، داعيًا لتجميع طاقاتهم. ونكاد نرى شيئًا من ذلك على صعيد الواقع، فلا تكادُ تُخطئ نظر المتابع .. تتابعُ حركاتِ المسلمين وتمسكهم بدينهم، ومطالبتهم برفض وصاية الأعداء عليهم -هذه الحركات تتجدد، وكلما ضعفت في مكان انبعثت من جديد -وفي مكان آخر- مؤكدةً حيوية المسلمين، وحماسهم لدينهم -رغم الضربات القاسية، ورغم المؤامرات الدَّوْلية ومؤكدةً كذلك أن الضغط يولد الانفجار، وأن هذه الضربات تغذي عواطف المسلمين تجاه إسلامهم، وإن ظن الأعداءُ أنهم يحرقونها بالجديد من أسلحتهم. الوقفة التاسعة: وفي حسّ الفاروق عمر رضي الله عنه شعورٌ يَقِظٌ ورحمة بالحيوان ألا يتأذى في بلاد المسلمين: لو أن بغلةً في العراق سقطت لكان عمرُ مسئولًا عنها، لِم لمْ تمهدْ لها الطريق. ولربما تبلد إحساسُ بعضِ المسلمين تجاه إخوانِهم المسلمين، فلم تُحرِّك مشاعرهم آلافُ الجثث، وبركُ الدماء، ومئاتُ الجوعى والعطشى، وأعدادٌ من النساء تُغتصب، وجموعٌ من الأطفال تُبادُ أو تُهجر تمهيدًا لطمس هويتها! وتحية للإعلام الذي يُعنى بقضايا المسلمين، وتحية للكتاب والمفكرين الذين تتسع دائرةُ ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 60.

تفكيرهم لمثل هذه القضايا المهمة في واقع المسلمين، ومؤسف ومؤلم أن يَلُفَّ الصمتُ أفواه قادةٍ أو علماء أو دعاة أو مفكرين، فلا يشاركون إخوانهم المسلمين مشاعرهم ولو بالكلمة الصادقة التي تشحذ هِمَمَهم، أو تسليهم ببعض مصابهم. الوقفة العاشرة: معاشر المسلمين جميعًا! إخوانكُم في الدين يستنصرونكم، والله يقول: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} (¬1)، ألا وإن أول وأسهل واجب للنصرة الدعاءُ لهم بالثبات والنصر، والدعاء على أعدائهم بالهزيمة والفشل. ومن النصر لهم أن تكون قضاياهم حاضرة في أذهانكم ولها حجمها في تفكيركم، ولها حظٌّ من مشاعركم ودعمكم، وليس يخفاكم أثر الدعم المعنوي والمادي، ولا يخفاكم كذلك طرقه وقنواته. ألا وإن إخوانكم المسلمين المستضعفين يستنزلون نصر ربهم بدعائهم ودعائكم ولا سيما في مثل هذه الأوقات الفاضلة. اللهم منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب، انصر إخواننا المسلمين في الشيشان وداغستان، وكشمير والفلبين وفلسطين، والبوسنة والهرسك، وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم ثبت أقدامهم، وارحم ضعفاءهم، وأطعم جياعَهم، وآمن روعهم، اللهم اشدد وطأتك على القوم الكافرين، اللهم أرنا بهم عجائب قدرتك. عباد الله: ويتعاظم مصاب الأمة في موت العلماء الربانيين، في ظل هذه الظروف الحرجة للأمة، وفي الأيام الماضية توفي شيخ فاضلٌ، وعلم من أعلام ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 72.

المسلمين نذرَ نفسه لخدمة السنة، فدعا وألَّف وتكلّم ودرَّس، وكان لجهوده أثر في عالمنا الإسلامي؛ إنه العلامة محمد ناصر الدين الألباني تغمده الله بواسع رحمته، وأحسن الله عزاء الأمة فيه، وعوَّض المسلمين عنه خيرًا. اللهم ارفع درجته في المهديين، واخلُفه في عقبه الغابرين وافر لنا وله يا رب العالمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

(1) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجوبه وفضله

(1) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجوبه وفضله (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. إخوةَ الإسلام: وثمةَ شعيرةٌ من شعائر هذا الدين جاء الحثُّ عليها، بل والأمرُ بها في كتاب الله، وأشاد بها وأهلها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سنته، ومارسها المسلمون قديمًا ولا يزالون يتواصون بها، وإن اختلفوا في أساليب تطبيقها وقوة القيام بها بين جيل وجيل، وطائفة وأخرى، هذه الشعيرة سببٌ لحصول كلِّ خير، والوقاية من كل شر، إنها شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وصف الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬2). وهذا الوصفُ بيانٌ لكمال رسالته (¬3). بل وُصف بها وتمثلها الأنبياءُ قبله، ووصف بها الصالحون من أهل الكتاب: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬4)، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (¬5)، وما من نبي إلا قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (¬6). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 8/ 6/ 1420 هـ. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 157. (¬3) الفتاوى 28/ 121. (¬4) سورة النحل، الآية: 120. (¬5) سورة مريم، الآيتان 54، 55. (¬6) سورة المؤمنون، الآية: 32.

ووصف بها الصالحون من أهل الكتاب: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬1). ووصف بها الصالحون من هذه الأمة في غير ما موضع من كتاب الله من مثل قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (¬2). وهي من الفوارق الكبرى بين أهل الإيمان وأهل النفاق، فقد وصف المنافقون بنقيض ما وصف به المؤمنون في الآية السابقة: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} (¬3). عبادَ الله: لقد استنبط الحسنُ رحمه الله من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬4). إن في الآية دليلًا على أن الأمر بالمعروف والناهي عن المنكر تلي منزلتُه عند الله منزلةَ الأنبياء، فلهذا ذُكر عقيبَهم. بل عدّه بعضُ أهل العلم سهمًا مهمًا في الإسلام بعد أركانه الأساسية. عن حذيفة رضي الله عنه قال: الإسلام ثمانيةُ أسهم؛ فالإسلامُ سهم، والصلاة سهم، والزكاة ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيتان: 113، 114. (¬2) سورة التوبة، الآية: 71. (¬3) سورة التوبة: الآية: 67. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 21.

سهم، وصومُ رمضان سهم، والجهادُ سهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سهم (¬1). ونقل طائفة من أهل العلم الإجماع على وجوبه، وأنه من شعائر الإسلام الظاهرة، كالنووي، والجصاص، وابن حزم. واعتبره شيخُ الإسلام ابنُ تيمية من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، تُقاتل الطائفةُ الممتنعةُ عنها (¬2). أجل إن خيريةَ الأمة وفلاحها مرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (¬3). {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬4). إنه الخيرُ الذي يؤمر به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، و ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت)). والرسالةُ الواجبةُ على كل مستطيع: ((من رأى منكم منكرًا فليغيرّه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان)). وفي رواية: ((وليس وراء ذلك من الإيمان حبةُ خردل)). إنها مسئوليةٌ يمارسها ¬

(¬1) رواه البيهقي في ((الشعب)) 7585. (¬2) الفتاوى 4/ 181. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 110. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 104.

الوالدان مع أولادهما، والمعلمون والمعلمات مع طلابهم وطالباتهم، والمسئولُ في عملٍ أو على فئةٍ مع من يتولى مسؤوليتهم، والعالم على الجاهل، والمعافى على المبتلى، والجارُ على جاره، والمسلمُ بشكل عامٍ على أخيه المسلم حين يرى منه خطًا أو انحرافًا، أو يدعوه إلى معروفٍ وخيرٍ غائبٍ عنه أو جاهلٍ به. وبالجملة فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة للخير همّ للجميع، ومسؤولية مشتركة، وهي تعكس خيرية المجتمع ووعيه، ولا سيما إذا حُملت للناس بقوالب جميلة، وحكمةٍ وموعظة حسنة. ولقد كان للسلف اعتناءٌ بهذا الأصل العظيم وقيامٌ به، وكانوا يعدون من لم يقم به من أهل الريب، فعن جامع بن شدادٍ قال: كنتُ عند عبد الرحمن بن يزيد الفارسي، فأتاه نعيُ الأسود بن يزيد، فأتيناه نعزيه، فقال: مات أخي الأسودُ، ثم قال: قال عبدُ الله: يذهب الصالحون أسلافًا، ويبقى أهلُ الريب، قالوا: يا أبا عبد الرحمن وما أصحابُ الريب؟ قال: قومٌ لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر (¬1). وكم تأسن الحياة ويفسد الأحياءُ إذا لم يبق إلا أهل الريب، وكم تفشو المنكرات، ويغيب المعروف إذا قلَّ الصالحون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وكم تتوارى المنكرات ويتستّر المفسدون بفسادهم إذا قويت شوكةُ الأمر والنهي، وكم يقوى سلطانُ الخير في النفوس، ويشيع المعروفُ في الناس، إذا قام قائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! تُرى يا أخا الإيمان: كم تُسهم في إحياء هذه الشعيرة بقولك وفعلك وفي أي ¬

(¬1) رواه البيهقي في ((الشعب)) 7584.

موقع كنت؟ أم تراك تسند الأمر إلى غيرك، وتحاول اختلاق المعاذير لنفسك؟ لقد كان السلفُ يرون من لا يأمر ولا ينهى في عداد أموات الأحياء، وهذا حذيفةُ رضي الله عنه يُسأل: ما ميتُ الأحياء؟ قال: لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه (¬1). وقيل لابن مسعود: من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا. وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه (¬2). أعوذ بالله من الشيطان {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬3). ¬

(¬1) رواه البهيقي في ((شعب الإيمان)) 7590. (¬2) الفتاوى 28/ 127. (¬3) سورة النساء، الآية: 114.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله إمام المتقين وخيرةُ الآمرين والناهين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلين. عباد الله: ويرتبط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضائلُ ومزايا حريَّةٌ بأن تدعو المسلم للحصول عليها، إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر - على علم وبصيرةٍ بما يأمر به وما ينهى عنه، وبحلم وصبر -كما سيأتي البيان- ومن هذه الفضائل والمزايا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من علامات إيمان العبد - كما مرّ في الآية السابقة، وفي حديث عبد الله بن مسعود عن الخلوف التي تخلف؛ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، قال صلى الله عليه وسلم: ((فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبةُ خردل)) (¬1). ويقول الإمام أحمدُ موضحًا الفرق بين المؤمن والمنافق في القيام بواجب الأمرِ والنهي: يأتي على الناس زمانٌ يكون المؤمنُ فيه بينهم مثل الجيفة، ويكون المنافقُ يُشار إليه بالأصابع. قال الراوي -عمرُ بنُ صالح -: يا أبا عبد الله! وكيف يشار إلى المنافق بالأصابع؟ يا أبا حفص! صيروا أمر الله فضولًا، وقال: المؤمنُ إذا رأى أمرًا بالمعروف أو نهيًا عن المنكر لم يصبر حتى يأمر وينهى، يعني: قالوا: هذا فضول، ¬

(¬1) رواه مسلم ح 50.

والمنافقُ كلُّ شيءٍ يراه قال بيده على فمه، فقالوا: نعم الرجل، ليس بينه وبين الفضول عمل (¬1). وهكذا تتجدد المصطلحات والاتهامات، وربما قيل للآمر والناهي: هذا متعجل أو متسرعٌ أو يتحدث فيما لا يعنيه، أو صاحبُ فتنة .. وهكذا! والله المستعان. ومن فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه سببٌ للرحمة، وفي آخر الآية التي وصفت المؤمنين بالأمر والنهي، خُتمت بقوله تعالى: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬2). وما أحوج الخلق كلَّهم إلى رحمةِ الله، وإنما يرحم اللهُ من عباده الرحماء، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر إنما قاموا بهذا الواجب رحمةً بالخلق، ولذا وصف أهلُ السنةِ بأنهم ((يَعْلمون الحقَّ ويرحمون الخلق)). وحصول الأجر العظيم ورد إثر الأمر بالمعروف والإصلاح بين الناس، كما في قوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} .. ثم ختمت الآية بقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬3). وهنا يلحظ المتأمل أن الأجرُ نكِّر ووصف بأنه عظيم، وكفى بهذين دلالة على عظمه. ¬

(¬1) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال 65. (¬2) سورة التوبة، الآية: 71. (¬3) سورة النساء، الآية: 114.

والأمر بالمعروف بابٌ من أبواب الجهاد، بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل الجهاد كلمةُ حق عند سلطان جائر. وهو كذلك بابٌ من أبواب الصدقات، أرشد إليه صلى الله عليه وسلم فقراء المهاجرين حين شكوا أنهم لا يجدون ما يتصدقون به، فقال: ((قد جعل الله لكم ما تتصدقون به؛ إن بكل تسبيحةٍ صدقة، وبكلّ تحميدة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وأمرٍ بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة)). وبالأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكر تُكفَّر السيئاتُ، وفي الحديث المتفق على صحته عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند عمر، فقال: أيكُم يحفظُ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة كما قال؟ قال فقلتُ: أنا، قال: إنك لجريءٌ! وكيف قال؟ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((فتنةُ الرجل في أهله وماله ونفسه وولدهِ وجاره يكفّرها الصيامُ والصلاة والصدقةُ والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر .. )) إلخ. الحديث (¬1). بل وصح الخبر أنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُضاعف الأجر، ويعطون مثل أجور من سبق من هذه الأمة. فقد روى أحمدُ -وحسَّنه الألباني- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ من أمتي قومًا يعطون مثل أجورِ أولهم ينكرون المنكر)) (¬2). عباد الله: ومن اللطائف أن حجية الإجماع لهذه الأمة مرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ¬

(¬1) البخاري 144، ومسلم 525. (¬2) أحمد ح 22670، وهو في ((صحيح الجامع)).

قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: ولهذا كان إجماعُ هذه الأمة حجةً؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم يأمرون بكل معروفٍ وينهون عن كل منكر -هذا شيء- وشيء آخر أن الأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر، سمةٌ تميز أمةَ الإسلام عن غيرها من سائر الأمم. وعن ذلك قال شيخ الإسلام: وسائرُ الأمم لم يأمروا كلَّ أحدٍ بكلِّ معروف، ولا نهوا كلَّ أحدٍ عن كل منكر، ولا جاهدوا على ذلك، بل منهم من لم يجاهد، والذين جاهدوا كبني إسرائيل، فعامةُ جهادهم كان لدفع عدوِّهم عن أرضهم كما يُقاتلُ الصائلُ الظالم، لا لدعوة المجاهدين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فطائفة منهم قالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ} (¬1)، والذين جاؤوا من بعد موسى علَّلوا القتال بأنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم (¬2). ألا فحققوا -عباد الله- خيرية هذه الأمة وتميزها على الأمم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل وحققوا الخيرية والتوبة لأنفسكم، وللناس من حولكم بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. عباد الله: وثمة فضائلُ ومزايا للأمر والنهي، بل وعقوباتٌ وآثارٌ سيئة مترتبة على تركه أو التخاذل في أدائه، وهناك فقهٌ للأمر والنهي وآدابٌ وصفات للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وإضافة إلى ذلك فهناك شبهات حرية بالبيان .. وهذه الأمور كلُها تحتاج إلى حديث آخر في خطبة متممة لهذه الخطبة -أسأل الله الإعانة والتسديد، وأعوذ بالله من فتنة القول وفتنة العمل. ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 24. (¬2) الفتاوى 28/ 123 - 125 بشيء من التصرف.

(2) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آداب وصفات، وفقه الإنكار

(2) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر آداب وصفات، وفقه الإنكار (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره. إخوة الإسلام: سبق -في الخُطبة الماضية- بيانُ شيءٍ من فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنزلتِه في الإسلام، وأستكمل اليوم شيئًا من هذه الفضائل وأبسطُ القول في الآداب التي ينبغي وجودُها في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والصفات المناسب توفرها في الآمر والناهي، حتى يعمَّ الخيرُ والمعروف، ويتقلص الشرُّ والمنكر. ولكني أستهلُّ ذلك بكلام جميل لابن القيم رحمه الله بيّن فيه منزلة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وعَرّض بالذين لا يرفعون به رأسًا -وإن كانوا من ذوي الديانة، فقال: وقد غرّ إبليسُ أكثر الخلقِ بأن حسَّن لهم القيام بنوع من الذكرِ والقراءةِ والصلاة والصيام والزهد في الدنيا، والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات -يعني عبودية نشر السنة على العلماء، وإقامة الحقِّ وتنفيذه على الحكام، وأداء الحقوقِ المالية على الأغنياء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على القادرين عليه. يقول: فلم يُحدِّثوا قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياءِ من أقلِّ الناس دينًا، فإن الدين هو القيامُ لله بما أمر به .. ومن له خبرةٌ بما بعث اللهُ به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه هو وأصحابهُ رأى أن أكثر من يُشار إليهم بالدين هم أقلَّ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 14/ 6/ 1420 هـ.

الناس دينًا والله المستعان، وأيُّ دينٍ، وأيُّ خيرٍ فيمن يرى محارم اللهُ تُنتهك وحدودَه تُضاع، ودينه يُترك، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يُرغب عنها وهو باردُ القلبِ ساكتُ اللسان؟ شيطانٌ أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطانٌ ناطق، وهل بليةُ الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلُهم ورياساتُهم فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارُهم المتحزّن المتلمظُ، ولو نُوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذّل، وجدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله، ومقت الله لهم، قد بُلوا في الدنيا بأعظم بليةٍ تكونُ وهم لا يشعرون، وهو موتُ القلوب، فإن القلب كلما كانت حياتُه أتمَّ كان غضبُه لله ورسوله أقوى، وانتصارهُ للدين أكمل (¬1). عباد الله: وكيف لا يعلو شأنُ الأمرِ بالمعروف، وترتفعُ منزلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والله سبحانه وتعالى جعله شرطًا للتمكين في الأرض، وجعل القائمين به أهلًا للتمكين؛ قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (¬2). ترى ما مدى العناية بهذه الشعيرة في المناهج الدعويةِ القائمة؟ وما نصيبُ المحسوبين على الدعوة من المساهمة والقيامِ بهذا الواجب العظيم؟ على أن مما ينبغي أن يدرك أن الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مجرد عاطفةٍ تثور ثم تخبو، ولا مجرد حماسٍ طارئٍ لمنكر ولفترة معينة ثم يُنسى. بل الأمر جدٌّ وجهاد، ومواصلةٌ واحتساب، وطولُ نفسٍ وتفكيرٌ في المنكر وجذوره، وكيف يُستصلح والبديلُ عنه، إلى غير ذلك من أمور تتطلب الحديث عن ¬

(¬1) أعلام الموقعين 2/ 176، 177. (¬2) سورة الحج، الآية: 41.

صفاتٍ يحتاجها الآمر الناهي، وآدابٍ وفقهٍ تجعل من الأمر بالمعروف دعوةً للناس بالحسنى، وبها ينحسر المنكر ويتوارى أهلُه خجلًا وحياءً. أيها المسلمون: ومن أبرز هذه الصفات والآداب العلم، فلا بد أن يكون الآمرُ والناهي عالمًا بما يأمر به وما ينهى عنه. قال الشيرازي: فالحسنُ ما حسَّنه الشرع، والقبيحُ ما قبحه الشرع، ولا مدخل للعقول في معرفة المعروفِ والمنكر إلا بكتاب الله عز وجل، وسنةِ نبيه صلى الله عليه وسلم، ورُبَّ جاهلٍ يستحسن بعقله ما قبّحه الشرعُ، ويرتكب المحظور وهو غيرُ عالمٍ به (¬1). ويقول الغزالي: العامي ينبغي له أن لا يحتسب إلا في الجليات المعلومة كشرب الخمر، والزنا، وترك الصلاة، فأما ما يُعلم كونه معصيةً بالإضافة إلى ما يطيف به من الأفعال، ويفتقرُ فيه إلى الاجتهاد، فالعاميُّ إن خاض فيه كان ما يفسده أكثر مما يصلحه (¬2). والإخلاصُ إلى جنب العلم صفةٌ -بل شرط- للآمر، وموجبٌ للقبول، فلا يأمر وينهى ليُحتسب في الآمرين، أو ليصل بذلك إلى مالٍ أو مرتبةٍ أو جاه .. أو نحو ذلك من أعراض الدنيا الزائلة، وكذا الانتصار للنفس مُذهِبٌ للإخلاص، عن أرطأة بن المنذر قال: المؤمن لا ينتصر لنفسه، يمنعه من ذلك القرآن والسنة، فهو ملجم (¬3). والصبرُ سلاحٌ لا ينفك عنه الآمرُ والناهي، فلا بد أن يناله من أذى الناس وسخريتهم وصدودهم ما يحتاج معه إلى صبر يوطّنه على مواصلة الطريق، محتسبًا ¬

(¬1) نهاية الرتبة في طلب الحسبة ص 6. (¬2) إحياء علوم الدين م 3 ج 7/ 28. (¬3) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) للخلال 86.

أجره على الله. ومن وصايا لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (¬1). قال العارفون: من وطَّن نفسه على الأذى، وأيقن بثواب الله لم يجد مسَّ الأذى (¬2). وحسبك بتوجيه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم معلمًا: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} (¬3). والرفقُ ما كان في شيء إلا زانه، ولا نُزع من شيء إلا شانه، كذا نقول جميعًا ونعتقد، ولكن الناس متفاوتون في تطبيقه؛ فمنهم من لا يملكُ أصحابُ المنكر إلا الاستجابة العاجلة له لحسنِ أسلوبه ورفقه وحلمه، ومنهم من يزيدُ النار اشتعالًا بشدته وفظاظة أسلوبه، وليس الأمرُ والنهيُ مجردَ أداء، أو تخففًا من المسؤولية -كيفما اتفق- بل هو دعوةٌ للخير والحق، وشفقةٌ على الخلق، وعلاجٌ للمنكرات بأفضل الطرق وأحسن الخُلق. يقول ابن تيمية رحمه الله: والرفقُ سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا قيل: ليكن أمرُك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر (¬4). ومع أهمية الرفق وكونه الأصل، فينبغي أن يعلم كذلك أن الحاجة قد تدعو للعنف والشدة أحيانًا - وذلك بحسب المنكَرِ وصاحبه، قال الحليمي: وينبغي أن يكون الآمرُ بالمعروف مُميّزًا؛ يرفق في مواضع الرفق، ويعنف في مواضع العنف، ¬

(¬1) سورة لقمان، الآية: 17. (¬2) من وصية عمير بن حبيب لأبنائه، ((الزهد)) للإمام أحمد 32. (¬3) سورة النحل، الآية: 127. (¬4) ((الأمر بالمعروف)) لابن تيمية ص 17.

ويكلمُ كلَّ طبقةٍ بما يعلم أنه أليق بهم، وأنجع فيهم .. وكما لا ينبغي لمن يقومُ بهذا الأمر أن يعنف في مواضع الرفق، فكذلك لا ينبغي له أن يرفق في مواضع التعنيف، لئلا يُستخف قدرُه، ويُعصى أمره (¬1). ومن الفقه في الإنكار أن يجتهد المنكرُ ألا يترتب على المنكرِ منكرٌ آخر - قد يكون أكبرَ أو أوسع انتشارًا من المنكر الأول، فما تحقق بذلك الهدفُ، ولا انتهى صاحبُ المنكر، ولا سلم غيرُه من آثارِ منكره. ومن هذا الفقهِ كان شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يفتي بعدم الإنكار على التتار لشربهم الخمر؛ لأنهم إذا أفاقوا واستقامت لهم عقولُهم التفتوا إلى المسلمين يقتلون ويفسدون. والمداراة من أخلاق المؤمنين وهي تلطفٌ في العبارة، واجتهادٌ في الأسلوب، لا تصل إلى المداهنة المنهي عنها، بل يُراعى في المداراة أحوال الناس ومنازلهم، وتقال لذوي الهيئات عثراتُهم ويُكتفى بالتعريض أحيانًا دون التبكيت، وبالتلميح دون التصريح، وهكذا يوصل إلى النفوس من أقرب الطرق إليها، إلا أن يكون صاحبُ المنكر مجاهرًا خبيثًا، فلا بد من فضحه وتحذير الناس من شرِّه؛ لأنهم قالوا: ليس لفاسق حرمة (¬2). إخوة الإسلام: والتدرج بالناس على طريق الخير، واستلالُ الشرِّ من نفوسهم - وإن طال الزمن - أدبٌ وأسلوب مارسه الصالحون، وأفلحوا. وهذا عبدُ الملك بن عمر بن عبد العزيز - رحمهما الله - يقول لأبيه: يا أبتِ! ما يمنعُك أن تمضي لما تريده من العدل؟ ! فوالله ما كنتُ أبالي لو غلَت بي وبك القدورُ في ذلك، قال: ¬

(¬1) المنهاج للحليمي 3/ 218، عن كتاب: المنتدى في الأمر بالمعروف، خالد السبت ص 196. (¬2) الخلال: ((الأمر بالمعروف)) ص 80.

يا بُني إني إنما أُروِّض الناس رياضة الصَّعب، إني أريد أن أُحيي الأمر من العدلِ فأؤخر ذلك حتى أُخرج معه طمعًا من طمع الدنيا، فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه (¬1). ومن الفقه في الإنكار: مراعاةُ ما يتعلق به الناسُ من أمور الدنيا، وعدمُ مصادمتهم، إذا لم يقعوا في الحرام، بل إن من التدرج بهم للخير بسطُ شيءٍ من الدنيا لهم، وإن كان الآمرُ زاهدًا فيها، وهذا عمرُ بن عبد العزيز رحمه الله يقول: ما طاوعني الناسُ على ما أردتُ من الحقِّ حتى بسطتُ لهم من الدنيا شيئًا (¬2). عباد الله: وبالجملة فالآمر ينبغي أن يكون طبيبًا ماهرًا يوازنون بين الأمور في حال الإنكار أو السكوت، وكان العلماءُ يوازون بين سواء الأسلوب في الأمر والنهي، وبين السكوت على المنكرات، وينهون عن كليهما. يقول أحدُهم: فإيذاءُ المسلمِ محذورٌ، كما أن تقريره على المنكر محذور، وليس من العقلاء من يغسل الدم بالدم أو بالبول، ومن اجتنب محذور السكوتِ على المنكر، واستبدل عنه محذور الإيذاء للمسلم مع الاستغناء عنه، فقد غسل الدم بالبول على التحقيق (¬3). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (¬4). ¬

(¬1) الخلال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 82. (¬2) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص 88. عن كتاب ((المنتدى في الأمر بالمعروف)) خالد السبت 256. (¬3) الغزالي: إحياء علوم الدين م 3 جـ 7 ص 45. (¬4) سورة لقمان، الآيات: 17 - 19.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله أهل الفضل والثناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحب المحسنين، ويجزي العاملين المخلصين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، قدوةُ المجاهدين، وخيرةُ الآمرين والناهين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين. أيها المسلمون: ويغفل بعضُ الناس عن جانب مهمٍ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ألا وهو إيجاد البديل عن المنكر، فالنفسُ قد تكون متعلقةً بهذا المنكر إلى حدٍّ تتوقع معه أنها لا يمكن أن تنفك عنه، ولكنَّ عرضَ البديل المشروع قد يساعد على التخفف من المنكر، ويروِّض النفس على المشروع، وهذا منهج رباني، وأسلوب نبوي، ففي القرآن من مثل ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} (¬1). وقال تعالى - في سبيل معالجة قوم لوط عن اللواط، وعرض البديل المشروع: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} (¬2). وقد مارس السلفُ هذا الأسلوب في الإنكار فنجحوا، وفي ((صحيح البخاري)): أن رجلًا سأل ابن عباس فقال: إني إنسانٌ إنما معيشتي من صنعةِ يدي، وإني أصنعُ هذه التصاوير. فقال ابنُ عباس: لا أحدثك إلا ما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ سمعتُه يقول: ((من صوّر صورةً فإن الله معذّبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 104. (¬2) سورة الشعراء، الآيتان: 165، 166.

فيها أبدًا))، فربا الرجلُ ربوةً شديدة - أي: انتفخ - واصفرّ وجهُه، فقال له ابن عباس: ويحك، إن أبيت إلا أن تصنع فعليك بهذا الشجر، وكلِّ شيء ليس فيه روح (¬1). واستمر سوقُ الأمر والنهي مع إيجاد البديل في أمة الإسلام عبر القرون، وفي حوادث سنة ثمانين وسبع مئة، ذكر صاحبُ ((أنباءِ الغمر)): أن رجلًا من أهل الصلاح يُقال له ((عبدُ الله الزيلعي)) توجه إلى الجيزة فبات بقرب ((أبي النمرس)) فسمع حسَّ الناقوس، فسأل عنه، فقيل له: إن بها كنيسة يُعمل فيها ذلك كلَّ ليلة، حتى ليلةِ الجمعة، وفي يومها والإمامُ يخطب على المنبر! فسعى عند جمال الدين المحتسب في هدمها، فقام في ذلك قيامًا تامًا إلى أن هدمها وصيَّرها مسجدًا (¬2). وهذا الأمرُ - مع أهميته - يرد التقصيرُ فيه، وذلك لأنه يحتاج إلى علمٍ وعمل وهمّة وتفكير، وقد عُني به شيخُ الإسلام وبيَّن تقصير الناس فيه، ومما قاله في ذلك: وكثيرٌ من المنكرين للبدع في العبادات والعادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك، أو الأمر به .. إلى قوله: بل الدينُ هو الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا يُنهى عن منكرٍ إلا ويُؤمر بمعروف يُغني عنه، كما يؤمر بعبادة الله سبحانه وتعالى، ويُنهى عن عبادة ما سواه (¬3). عباد الله: كما يُغفل أحيانًا - في سبيل إنكار المنكرِ ونصح صاحبه - البدء بذكر محاسنه التي تفتح الطريق لاستقبال النصح فيما بعد، وفي القرآن الكريم: {يَسْأَلُونَكَ ¬

(¬1) صحيح البخاري ح 2225، 5963. (¬2) ((إنباء الغمر)) 1/ 271 عن كتاب ((المنتدى في الأمر بالمعروف))، خالد بن عثمان السيت 257. (¬3) اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 616، 617.

عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (¬1). وهكذا فإذا كان لصاحب المنكر حسناتٌ، فابدأ بالثناء عليها وشكره على القيام بها، ثم اعطف على المنكر وضعه نشازًا في سياقها، وخوفه أن يكون هذا المنكرُ سببًا لذهاب أجرها، ونقله من قائمة الأخيار إلى الأشرار .. وهكذا يكون التدرجُ في الأمر والنهي والعدل في الذم والمدح، والإنصافُ بذكر الحسنات والسيئات. واحذر أيها الآمر والناهي ألا تقع عينُك إلا على المستقبحات وتتناسى الحسنات فهن ماحيات. ذلك ذكرى للذاكرين. يا أخا الإسلام: وحذاري أن تُعدم الغيرة لدين الله، وألا يتمعَّر وجهُك حين ترى منكرًا، فإن كنتَ قادرًا على إزالته - بالطريق المشروع - فأزله، وإن كنت غير قادر، فأخبر من تراه قادرًا على الإنكار، وليكن احتسابُك - إذا لم تستطع بنفسك - بطريقين؛ الأول: إبلاغ القادرين. والثاني: مشاركتُهم في الإنكار، وهو ما يمكن أن يسمى (بالإنكار الجماعي)، ولو أن أصحاب المنكرات وجدوا - على منكراتهم - استنكارًا جماعيًا لهابوا المنكرين، واستوحشوا لمنكراتهم، ثم أقلعوا عنها. وفي مقابل هذه الإيجابية في الإنكار، حذار من السلبية القائمة على النقد والتجريح للآمرين دون مساهمة في الأمر، أو تقديم البديل الصالح، وما من أحدٍ إلا وهو عرضةٌ للخطأ إلا من عصم الله، ولكن إصلاح الأخطاء لا يكون فاكهة المجالس، وفرق بين من يكون هدفُه المساهمة في الإصلاح، والنقد البنّاء، وبين ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 219.

من ينتهي بهم النقدُ إلى انتهاك الأعراض، وأكل لحوم الناس دون أيِّ مساهمة في التغيير. أيها المسلمون عامة! أيها الآمرون خاصة: وحذار أن يقعد بكم لومُ الناس وتثبيطُ المرجفين منهم عن القيام بواجب الأمر والنهي - إذا اجتهدتم وسعكم وأخلصتم في أعمالِكم - فذلك أمرٌ سيواجهكم، كما واجه من قبلكم، إذ لا تنفك الحسبة عن ذلك، ولا يسلم الدعاةُ من الأذى. يقول القرطبي رحمه الله: أجمع المسلمون، فيما ذكر ابنُ عبد البر رحمه الله؛ أن المنكر واجب تغييرُه على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللومُ الذي لا يتعدى إلى الأذى، فإن ذلك لا ينبغي أن يمنعه من تغييره (¬1). ويقول الغزالي: لو تُركتِ الحسبة بلوم لائم أو باغتياب فاسق أو شتمه أو تعنيفه أو سقوط المنزلةِ عن قلب أمثاله، لم يكن للحسبة وجوبٌ أصلًا، إذ لا تنفك الحسبةُ عنه (¬2). هذه معاشر المسلمين بعضُ وقفات وآداب وصفات وشيء من فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وثمة أساليبُ، وشبهات، وعقوبات على ترك الأمر والنهي أرجئ الحديث عنها للخطبة القادمة بإذن الله. أسأل الله أن ينفعنا بما نعلم ونسمع، وأن يهيّئ لنا من أمرنا رشدًا، وأن يعز دينه وينصر أولياءه، ويذل أعداءه. ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن: 4/ 48. (¬2) إحياء علوم الدين: 7/ 33.

(3) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائله، شبهات، آثار تركه

(3) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائله، شبهات، آثار تركه (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ... عباد الله: هذا حديث متممٌ لأحاديث قبله، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويُعنى حديث اليوم بوسائل الأمر والنهي، وشبهاتٍ قد تقعد ببعض الناس عن القيام بهذه الشعيرة المهمة في الدين، والآثار المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مستوى الفرد أو مستوى الأمة. أما وسائلُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكثيرةٌ ومتنوعة تتناسبُ وظروف الزمان والمكان، وتختلفُ باختلاف الناس وطبائعهم، ونوع المنكر وحجمِه. وجماعها: الحكمةُ، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬2). قال العالمون: جعل الله سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، فالمستجيبُ القابلُ الذكي الذي لا يُعاند الحقَّ ولا يأباه، يدعى بطريق الحكمة، والقابلُ الذي عنده نوعُ غفلةٍ وتأخرٍ يُدعى بالموعظةِ الحسنة وهي الأمرُ والنهي المقرونُ بالترغيب والترهيب، والمعاندُ الجاحد يُجادَلُ بالتي هي أحسن (¬3). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 21/ 6/ 1420 هـ. (¬2) سورة النحل، الآية: 125. (¬3) ابن القيم: ((مفتاح دار السعادة)) 1/ 153.

أيها المسلمون: ونشرُ العلم - بالمحاضرات أو الدروس أو التأليف، أو الفُتيا - كلّ ذلك وسائلُ عظمى لإقرارِ المعروف ونشره وإنكارِ المنكرِ، وبالعلم يعلم الناسُ الحلالَ من الحرام، ويرغبون في المعروف، ويحذرون من المنكر، وإذا غاب أو تقلص أثرُ العلماء اضمحلت الهداية، وفشت الجهالةُ، واتسع نطاقُ المنكر، وكثر المبطلون. والنصيحةُ سِرًّا، أو جهرًا، بحسب مقتضى الحال - من هدي المرسلين - عليهم السلام -، وهذا هود - عليه السلام - يقول لقومه: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} (¬1). ومن قبله نوحٌ عليه السلام قال: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} (¬2). ومن بعدهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم قال: ((الدين النصيحة)) (أي عمادُ الدين وقوامُه النصيحة) قلنا: لمن؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (¬3). وفَقهَ المسلمون - فيما بعدُ - حاجتهم وحاجة إخوانهم إلى النصيحة، فكانوا يبايعون على ذلك، كما يبايعون على الصلاة والزكاة. عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامِ الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم (¬4). وكانت النصيحة تبرم لها المعاهدات والعقودُ - ضمن أمور الدين الأساسية. وفي بعية العقبة قال عبادة بنُ الصامت رضي الله عنه - في خبر بيعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم -: وعلى أن نقول بالحقِّ أينما كنّا لا خاف في الله لومة لائم (¬5). ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 68. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 62. (¬3) رواه مسلم ح 55، ((رياض الصالحين)) ص 99. (¬4) متفق عليه. (¬5) متفق عليه.

إخوة الإيمان: وينبغي أن يستثمر المحتسبون وسائل الإعلام والمنابر العامة، وحيث يجتمع الناسُ، ويستفيدوا من وسائل التقنية الحديثة لنشر المعروفِ والأمر به، والتحذير من المنكر والنهي عنه، ومؤلمٌ أن تكون هذه الوسائل قنواتٍ لنشر المنكر، وفرصًا واسعة الانتشار يستحوذ عليها المبطلون. أيها المسلمون: وإذا كانت الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالحسنى، والنصح، واستثمار وسائل الإعلام، ونشر العلم بطرقه المختلفة - كلُّها وسائلُ عامة للأمرِ والنهي، فثمة وسائل خاصة ثبت نفعُها والاستجابة لها، فالمهاتفةُ، والزيارةُ، والرسائل الشخصية، والكتابة .. كلُّها وسائل لإقرار معروف، وتشجيع صاحبه، وإشعاره بتقدير الناس له، أو لإنكار منكرٍ وتذكير صاحبه وتخويفه بالله وعاقبة أمره، وما أروع هذه الوسائل إذا استخدمت بعبارات لطيفة، وأسلوب حسن، وكانت نصحًا لا تشهيرًا، وشفقةً لا تشفِّيًا، وظهرت فيها بوادر الصدق والإخلاص، ولم تكن تعالمًا وتعاليًا وعُجبًا، ويقلُّ نفعُها إن صاحَبها تزكيةٌ للنفسِ وازدراءٌ بالآخرين. أيها المحتسبون: وإمامُ المسجد يمكن أن يحتسب - بالتعاون مع جماعة مسجده - على جيرانِهم وأهلِ حيِّهم - في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمام المعلمِ والمعلمةِ فرصةٌ كبرى للاحتساب في مدارسهم، والموظف الناجح، والمسؤول الناصح سِرُّ وجودهم في العمل إقرارُ المعروف والدعوةُ له، وإنكارُ المنكرِ ومنعُ الناس من الوقوع فيه - في دائرته أو محيط عمله - وفرقٌ بين من يُحرقه العملُ دون أن يقيم وزنًا للمعروف أو المنكر، بل همُّه مصالحُه الشخصية، وإن تعطلت مصالحُ الآخرين، وبين من يتخذ من مركزه وسيلةً لخدمةِ عباد الله، فهو قائم بالحق والعدل، منصفٌ للمظلوم، قاضٍ للحوائج، ميسرٌ لا معسر. فذاك

الذي يذكره الناسُ بالخير، وهو ممارسٌ للدعوة والأمر بالمعروف بسلوكه، وإن لم يكن من الممارسين بلسانه. عباد الله: ولا تحقروا من المعروف شيئًا، ولو أن تلقوا إخوانكم بوجوهٍ طَلِقة، وقد تكون الابتسامةُ مع كلمة خفيفة لطيفة ذات أثر فاعل - وقد تكتفي أحيانًا بقسماتِ الوجهِ - في سبيلِ إنكار منكر - مع صغيرٍ أو شخصٍ حيي، وهكذا. ولا تنسوا الإحسان والهدايا، فهي وسائل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومَنْ ملك قلوب الناس بإحسانه، وعطاياه استمعوا له، وقدروا أمرَه، واستجابوا لنهيه. أحسن إلى الناس تستعبدْ قلوبهُمُ ... فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ ولا تنسوا التعاون مع رجال الحسبة - المعتمدين - فذلك يشجعُهم من جانب، ويفتح لكم مجالًا للمساهمة في الأمر والنهي. أيها المسلمون: وينبغي أن يعلمَ أن هذه الوسائل وأمثالها تصلح لفئةٍ من الناس، وقد لا تصلح لفئة أخرى مَرَدُوا على الفجور والفسوق، وتمرسوا في ارتكاب الجرائم والتخطيط لها، وهؤلاء لا بد لهم من وازع السلطان لردعهم وتأديبهم وحماية المجتمع من شرورهم، بالعقوبات أو الحدود، أو القصاص، وإذا لم تنفع الكتبُ تعيَّنت الكتائبُ - كما قال العلماء - وذلك مقتضى توجيه القرآن: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} (¬1) (¬2). ¬

(¬1) سورة الحديد، الآية: 25. (¬2) وانظر كلام الشنقيطي في ((أضواء البيان)) 2/ 174، 175.

أيها الناس: وهناك وسائل أخرى يعلمها المجربون، ويمارسها الآمرون الناهون. ومن الوسائل إلى شبهات يتعلق بها بعض الناس ويعللون لأنفسهم بها القعود عن واجب الأمر والنهي، ولا متعلق لهم بها، ومنها: خطأ بعضهم في فهم المقصود بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (¬1). قال القرطبي رحمه الله في أحد تعليقاته على هذه الآية: الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكرِ متعيّنٌ متى رُجي القبولُ، أو رُجي ردُّ الظالمِ ولو بعنف، ما لم يخفِ الآمرُ ضررًا يلحق في خاصته، أو فتنةً يُدخلها على المسلمين، إما بشقِّ عصا، وإما بضرر يلحق طائفةً من الناس، فإذا خيف هذا فـ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} محكم واجبٌ أن يوقف عنده، ولا يُشترطُ في الناهي أن يكون عدلًا، وعلى هذا جماعةُ أهل العلم فاعلمه (¬2). وقال ابن كثير - رحمه الله -: ((وليس في الآية مستدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان فعل ذلك ممكنًا ... )) (¬3). ومن الشُّبَه التي تقعد ببعض الناس عن الإنكار: السكوتُ عن منكرٍ أصغر من أجل إزالة منكرٍ أعظم، ثم لا يعملُ من ذلك شيئًا، أو الاعتذارُ عن المشاركة في الإنكار بحجة أنه مشغولٌ بواجب آخر، مع إمكانية الجمع بين الواجبين وعدم تعارضهما. ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 105. (¬2) الجامع لأحكام القرآن 6/ 345. (¬3) تفسير ابن كثير عند الآية، وقد نقل عن السلف نقولات مفيدة فراجعه إن شئت 3/ 207.

أو المداهنةُ مع أصحابِ المنكرات، وربما شاركهم أو سكت عنهم لإظهار الدعاة بمظهر الاعتدال. أو اتخاذُ مواقف غير شرعية - دون ضرورة - من أجل دفع تهمة التطرف أو غيرها من التهم الباطلة. ومن الشُّبه ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال: ومن الناس من يتعلل لترك ما أوجب عليه من الأمر والنهي بأنه يطلبُ السلامة من الفتنة - وقد يقعُ فيها - والمخرجُ من ذلك القيامُ بالواجب، وتركُ المحظور الذي قد يؤدي إلى الفتنة، في كلام وتقسيم - ليس هذا موطن بسطه (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬2). ¬

(¬1) الفتاوى 28/ 165 - 167. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 25.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، جعل هذه الأمة خير أمةٍ أخرجت للناس؛ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والصلاة والسلام على نبي الهدى والرحمة، حذّر أمته عن التقاعس بهذا الواجب العظيم فقال: ((والذي نفسي بيدهِ لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكن اللهُ أن يبعثَ عليكم عقابًا من عنده، ثم لتدْعُنَّه فلا يستجيبُ لكم)). حديث حسن رواه أحمد عن حذيفة رضي الله عنه (¬1). اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى سائر أنبياء اللهِ ورسله. أيها المسلمون: والخطُب عظيمٌ، والآثارُ المترتبةُ على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها ما ينال المرء في خاصةِ نفسِه، ومنها ما يصيب الأمة بمجموعها. ومن هذه الآثار: أنه سببٌ للعن والطرد من رحمة الله، قال تعالى عن بني إسرائيل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (¬2). بل إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببٌ للعقوبةِ العامةِ وتعجيلها، وفي القرآن: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (¬3). ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير 6/ 97، 98. (¬2) سورة المائدة، الآيتان: 78، 79. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 25.

وعن أصحاب القرية قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (¬1). عن عدي بن عميرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله عز وجل لا يعذبُ العامة بعمل الخاصةِ، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذّب اللهُ الخاصةَ والعامةَ)) (¬2). وعن الحسن أنه خرج على قومٍ يتحدثون، قال: فيم أنتم؟ قالوا: ذكرنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: نعم مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وإلا كنتم أنتم الموعظات (¬3). ومن آثار ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انتشارُ المنكرات وفشوُّها في المجتمع إذ لا يجد أصحابُ المنكر رادعًا، ويقل التشجيعُ لأهل المعروف، فيعمُّ الفساد، ويستوحش الأخيار، ويهلك العباد، وقد علم المنصفون تفوق الإسلام - بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - على سائر الأنظمة البشرية، إذ لا يوجد في النُّظم التي ابتكرها الإنسانُ لرعاية القوانين والدساتير نظامًا يصل إلى فكرةِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر كمبدأ تربوي جاد، ومدرسةٍ تعليمية تتيحُ لأكبر قاعدةٍ في الأمة أن تعرف ما لا بد من معرفته من الحرام والحلال، والواجب والمسنون .. ونحوها في وقتٍ قصير، وبلا نفقات، وبطريقة مستمرة، وشاملة (¬4). عباد الله: والفسادُ ولو كان قليلًا، يُوحِش، والمفسدون، ولو كانوا رهطًا، ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 165. (¬2) أخرجه أحمد، وحسَّنه ابن حجر في ((الفتح)): 13/ 3، 4. (¬3) يعني يوعظ بكم غيركم لما يحل بكم من العذاب، الخلال ((الأمر بالمعروف)): 44. (¬4) عبد القادر عطا، في مقدمته ((للأمر بالمعروف)) للخلال 46.

يُخيفون ويمكرون ويُحذرون، ولذا قال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (¬1). إلى قوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (¬2). وحين قرأ مالكُ بنُ دينارٍ - هذه الآية - قال: فكم اليوم في كلِّ قبيلةٍ وحَيٍّ من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون (¬3)! أما اليوم فماذا عساه يقول الناظر في أحوال المسلمين وما حلَّ بهم؟ ولا شك أن لقعود المصلحين وسكوت الغيورين أثرًا في ذلك، فإلى الله المشتكى وهو المستعان. أيها المسلمون: ومن آثار ترك الأمر والنهي أنه سببٌ لردِّ الدعاء، وقد سبق حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذا. ومن آثار تركه: ظهورُ الجهل، واندراسُ العلم، وذلك أن المنكر إذا ظهر فلم يُنكر نشأ عليه الصغيرُ وألفه الكبير - وظنوه مع مرور الزمن - من الحق - وتحمّل الخيرون تبعةَ وتكاليف التغيير فيما بعد، ولو عولج المنكرُ في حينه لكان أخف، ولم تنطمسْ معالمُ الحق. ومن الآثار لترك الأمر والنهي ما يحصل من الفتنةِ بالمنكر إذ أنّ صاحبه كالبعير الأجرب يختلط بالإبل فتجرب جميعًا، والناسُ - كما قيل - كأسراب القطا جُبل بعضُهم على التشبه ببعض (¬4). ¬

(¬1) سورة النمل، الآية: 48. (¬2) سورة النمل، الآية: 50. (¬3) رواه البيهقي في ((الشعب)) 7600. (¬4) خالد بن عثمان السبت، ((الأمر بالمعروف)) ص 84.

ومن آثار تركه على الفرد اسودادُ قلبه وتنكيسه، وفي الحديث الصحيح: ((تُعرض الفتنُ على القلوب كالحصير عودًا عودًا. فأيُّ قلبٍ أشربها نُكت فيه نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكرها نكت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى تصير (القلوبُ) على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنةٌ مادامت السماواتُ والأرض، والآخر أسود مُربادّ كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرفُ معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرب من هواه)) (¬1). يا عبد الله: انجُ بنفسك، وساهم في حماية سفينة المجتمع من الغرق وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحذر الحذر من أن تُرضي الناس بسخط الله، فيسخط عليك، ويُسخط الناس عليك، بل أرضِ الله ولو سخط الناسُ عليك، فإن رضا الله عنك سببٌ لرضا الناس عليك. عباد الله: تواصوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة، ولا يَقعدنَّ بأحدكم عن الأمر والنهي ما يجده في نفسه من ضعف أو قصور، فكلُّ ابن آدم خطاءٌ .. ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلُّها؟ ولو لم يعظ الناس إلا كاملٌ ورعٌ تقيٌّ نقيٌّ، فمن يعظ العاصين بعد محمد صلى الله عليه وسلم؟ ومن عجائب خلق الله أنك قد ترى شخصًا هاجسه الأمر والنهي أينما حلَّ وارتحل، وقد يكون نصيبه من العلم قليلًا. وترى شخصًا آخر لا يرفع بذلك رأسًا، حتى وإن أبصر المنكر عيانًا، أو أتيحت له الفرصة لقول المعروف، وقد يكون نصيبه من العلم كثيرًا ومؤهلاته عالية، ولكنه فضل الله، والفرق بين الناس في الغيرة، ونعيذ هؤلاء أن يكونوا كمثل الحمار يحمل أسفارًا. ¬

(¬1) رواه مسلم 1/ 89.

أيها الآمر والناهي: ولا يمنعْ أن تنهى الناس وتنهى نفسك، وتأمر الناس بالمعروف وتجاهد نفسك على الالتزام به، ولئن تعمل منكرًا وأنت له كاره، فتظل تستغفرُ خيرٌ من أن تعمله وأنت باردُ القلبِ فاقدُ الإحساس، ولئن تأمر غيرك بمعروف - وأنت صادق - حتى وإن لم تطاوعك نفسُك عليه في البداية، خيرٌ من أن تدعه وتَدَع تذكير الآخرين به ولا تيأس من إصلاح نفسِك وإصلاح الآخرين. يا عبد الله: وحذار من الاستكبار حين تؤمرُ أو تُنهى، حتى ولو كان الآمر لك أصغر سنًا أو أقلَّ علمًا، مادام يتحدثُ بحقٍّ ويأمرُ بمعروف، وإياك والعناد حتى وإن ساء أدب الناصح لك أو أخطأ في الأسلوب. فخذ منه الحقَّ، ولا تشاركه الخطأ في أسلوب الرد، فذلك من تمام العقل ومن علائم الخير، وحذار أن يركبك الشيطان وأنت لا تعلم. اللهم اجعلنا جميعًا هداة مهتدين، ومن أصحاب اليمين، ويوم الفزع من الآمنين.

الجزء السابع

شعاع من المحراب الجزء السابع إعداد د. سليمان بن حمد العودة

بسم الله الرحمن الرحيم

شعاع من الحراب

الدين الحق ودعوى وحدة الأديان

الدين الحقّ ودعوى وحدة الأديان (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذْ ولدًا ولم يكن له شريكٌ في الملك ولم يكن له وليٌّ من الذلِّ وكبِّره تكبيرًا. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، أنزل عليه الكتاب ولم يجعل له عوجًا، بعثه برسالة الإسلام، وختم به النبوات، وانقطع بموته الوحيُ من السماء، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬3). عباد الله: وبين آونةٍ وأخرى يَردُ الحديثُ عن صراع الحضارات، ويردُ أكثر عن حوار الحضارات، كما يرد الحديثُ ويتجدد - منذُ زمنٍ - عن تقارب الأديانِ ووحدتِها، وربما أطلق البعضُ أن لا فرقَ بين أصحابِ المللِ والأديانِ - ما داموا يؤمنون بالله - ولو اختلفت شرائعُهم، أو اختلفوا في إتباع أنبيائهم، إلى غير ذلك من طروحات ومفاهيم يُلبَسُ فيها الحقُّ بالباطل، وربما أحدثت خللًا أو شكًا في المعتقد الصحيح، ولرفع اللبس وبيان الحقّ، وكشفِ الباطل وتجلية ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 20/ 7/ 1420 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 1. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 102.

الحقائق، فلا بد من الحديث - ولو بشكل مجمل - عن المفردات التالية: 1 - الإسلام بوصفه الدين الحق والرسالة الأخيرة للخلق. 2 - وعن القرآن بوصفه الكتاب المصدق للكتب قبله، والمهيمن عليها، والحافظ لأصول الشرائع السماوية كلها، والناسخ لما نسخ الله منها، وبوصفه الوحي الإلهي الوحيد المحفوظ من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان. 3 - وعن محمد صلى الله عليه وسلم باعتبار عموم رسالته وختمها لرسالات السماء. 4 - وعن أمةِ الإسلام باعتبارها أمةً وسطًا، وخيريَّتُها مقطوعٌ بها، وشهادتُها على الناس بنصِّ الوحيين - كما سترى -. أيها الناس: أما الإسلامُ فهو الدينُ الحقُّ الذي شرع الله ورضيه لنا دينًا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬1). وهو دين اللهِ ودين رسله، وهو رسالته الأخيرة إلى الناس كافّة. وهو الانقياد لله وحده ظاهرًا وباطنًا بما شرع على ألسنة رسله (¬2). وهو الدينُ الذي بَعث الله به الأولين والآخرين من الرسل عليهم السلام، فنوحٌ عليه السلام قال لقومه: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬3). وإبراهيم عليه السلام: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬4). وحين اختصم اليهودُ والنصارى في إبراهيم عليه السلام جاء الفصل من اللهِ حاكمًا بإسلام إبراهيم: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} (¬5). ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 19. (¬2) السعدي: تيسير الكريم الرحمان: 1/ 366. (¬3) سورة يونس، الآية: 72. (¬4) سورة البقرة: الآيتان: 131، 132. (¬5) سورة آل عمران، الآية 67.

ويوسف عليه السلام - كان من دعائه -: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (¬1). وموسى عليه السلام يدعو قومه للإسلام: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (¬2). والسحرةُ حين اهتدوا قالوا لفرعون: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (¬3). وعن أنبياء بني إسرائيل قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} (¬4). وقال عن إسلام ملكة سبأ وسليمان عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬5). وعيسى عليه السلام تبرأ من كفر النصارى، وأعلن والحواريون معه الإسلام لله: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬6). {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} (¬7). ثم جاء محمدٌ صلى الله عليه وسلم ليقول للناس كافة: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬8). وحين بُعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم إليهم آمن به واتبع دينه أهل الكتاب، وهم المؤمنون ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 101. (¬2) سورة يونس، الآية: 84. (¬3) سورة الأعراف، الآية 126. (¬4) سورة المائدة، الآية: 44. (¬5) سورة النمل، الآية: 44. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 52. (¬7) سورة المائدة، الآية: 111. (¬8) سورة آل عمران، الآية: 85.

الذين لم يحملوا الحقد والحسد، ولم يُحرِّفوا أو يبدلوا أو يشتروا بالدين ثمنًا قليلًا، بل أعلنوا إيمانهم وإسلامهم، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (¬1). بل كان منهم مَنْ إذا سمع ما أنزل إلى الرسول: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (¬2)، ومنهم من إذا تُلي عليهم القُرآن {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} (¬3)، {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (¬4). أما الفريقُ الآخر فكذبوا وعاندوا واستمروا على كفرهم، وهؤلاء لا تنقصهم معرفةُ الحق، ولكن طغى عليهم البغيُ والحسد، وهؤلاء هم المعنيُّون بقوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬5). وهم الموصوفون بقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (¬6). وهم المختلفون بعد العلم: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (¬7). عبادَ الله: وأهلُ الدين الحق في الماضي والحاضر هم المسلمون لله ربِّ العالمين، والمهتدون بهدي المرسلين، فلا شرك ولا ظلم ولا فجور ولا ¬

(¬1) سورة القصص، الآيتان: 52، 53. (¬2) سورة المائدة، الآية: 83. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 107. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 109. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 86. (¬6) سورة البقرة، الآية: 89. (¬7) سورة آل عمران، الآية: 19.

فسوق، ولا سوء أدب مع الله، ولا مع أنبيائه. وأين الإسلامُ ممن قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (¬1)، وربنا لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، وأين الإسلامُ ممن قالوا: المسيحُ ابنُ الله، والله يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ بْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (¬2). أين الإسلامُ والإيمانُ ممن قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} (¬3). وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (¬4). وأين الإسلام والإيمان ممن قالوا: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (¬5). وأين الإسلام ممن اتخذوا عيسى عليه السلام وأمَّه إلهين من دون الله. أيها الناس: وهل يصحُّ أن يطلق الإيمانُ والإسلامُ على أهلِ الكتاب المحرِّفين من اليهود والنصارى والله يقولُ عنهم: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (¬6). ويصفهم اللهُ بالكفر صراحة بقوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (¬7). ويصف اللهُ أكثريتهم بالفسق بقوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} (¬8). وينفي عنهم الإيمان بقوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (¬9). ويصفهم بالظلم، ويشبههم بما يتفقُ وإضاعتِه الأمانة بقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 18. (¬2) سورة المائدة، الآية: 73. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 181. (¬4) سورة المائدة، الآية: 64. (¬5) سورة المائدة، الآية: 73. (¬6) سورة المائدة، الآية: 43. (¬7) سورة البينة، الآية: 1. (¬8) سورة المائدة، الآية: 59. (¬9) سورة المائدة، الآية: 81.

حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬1). بل كيف يقال بإيمان من اعترفوا على أنفسهم بالكفر: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬2). وإذا زاغ اليهودُ عن الحقِّ الذي جاءهم به موسى عليه الصلاة والسلام - وهو نبيهم - فكيف يُظن بهم إتباعُ غيره وتقديره: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬3). أما النصارى فقد قال لهم نبيُهم عيسى عليه السلام: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (¬4). وهكذا - إخوة الإسلام - ينفرد المسلمون بالإيمان الحق والتزكية الإلهية والتصديق الجازم وتقدير الأنبياء والمتابعة لهم .. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (¬5). ¬

(¬1) سورة الجمعة، الآية: 5. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 72. (¬3) سورة الصف، الآية: 5. (¬4) سورة الصف، الآية: 6. (¬5) سورة الجمعة، الآيات: 2 - 4.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى سائر إخوانه من النبيين والمرسلين الذين قاموا بالحق وبه كانوا يعدلون. أما بعد: وبناءً على ما سبق، فهل يستوي الإسلامُ الحق واليهودية والنصرانية الزائغة؟ وهل يصح التوحيدُ فيها؟ وهل يجوز الدعوةُ لمقاربة الأديان؟ هناك دعواتٌ وطروحات غريبة نسمعها بين الحين والآخر .. وهذه وتلك وردت للجنة الدائمة للبحوث والإفتاء. واسمعوا التساؤلات، واعقلوا الفتوى، وكونوا على حذر من الفتن العمياء؟ الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء استعرضت ما ورد إليها من تساؤلات وما ينشر في وسائل الإعلام من آراء ومقالاتٍ بشأن الدعوة إلى وحدة الأديان: دين الإسلام، ودين اليهود، ودين النصارى، وما تفرَّع عن ذلك من دعوة إلى بناءِ: مسجدٍ وكنيسة ومعبد في محيط واحد، في رحاب الجامعات والمطارات والساحات العامة، ودعوةٍ إلى طباعة القرآن الكريم والتوراة والإنجيل في غلاف واحد، إلى غير ذلك من آثار هذه الدعوة، وما يُعقد لها من مؤتمرات وندوات وجمعيات في الشرق والغرب. وبعد التأمل والدراسة فإن اللجنة تقرر ما يلي: أولًا: أن من أصول الاعتقاد في الإسلام، المعلومة من الدين بالضرورة، والتي أجمع عليها المسلمون، أنه لا يوجد على وجه الأرض دينٌ حق سوى دينِ

الإسلام، وأنه خاتمةُ الأديان، وناسخٌ لجميع ما قبله من الأديان والملل والشرائع، فلم يبق على وجه الأرض دينٌ يُتعبَّد الله به سوى الإسلام، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1). والإسلامُ بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم هو ما جاء به دون ما سواه من الأديان. ثانيًا: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن كتاب الله تعالى: «القرآن الكريم» هو آخرُ كتب الله نزولًا وعهدًا برب العالمين، وأنه ناسخ لكل كتابٍ أُنزل مِن قَبلُ من التوراة والزبور والإنجيل وغيرها، ومهيمنٌ عليها، فلم يبق كتاب منزَّل يُتعبد الله به سوى: القرآن الكريم. قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (¬2). ثالثًا: يجب الإيمان بأن (التوراة والإنجيل) قد نُسخا بالقرآن الكريم، وأنه قد لحقهما التحريفُ والتبديل بالزيادة والنقصان، كما جاء بيان ذلك في آيات من كتاب الله الكريم منها قول الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} (¬3). وقوله جلّ وعلا: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (¬4). ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 85. (¬2) سورة المائدة، الآية: 48. (¬3) سورة المائدة، الآية: 13. (¬4) سورة البقرة، الآية: 79.

وقوله سبحانه: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬1). ولهذا، فما كان منها صحيحًا فهو منسوخ بالإسلام، وما سوى ذلك فهو محرف أو مبدل. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غضب حين رأى مع عمرَ ابن الخطاب رضي الله عنه صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال عليه الصلاة والسلام: «أفي شكٍّ أنت يا ابنَ الخطابِ؟ ! ألم آتِ بها بيضاءَ نقيةً؟ لو كان أخي موسى حيًا ما وَسِعَه إلا إتباعي». رواه أحمدُ والدارميُّ وغيرُهما. رابعًا: ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن نبينا ورسولنا محمدًا صلى الله عليه وسلم هو خاتمُ الأنبياء والمرسلين كما قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬2). فلم يبق رسول يجب إتباعُه سوى محمد صلى الله عليه وسلم - ولو كان أحدٌ من أنبياء الله ورسله حيًّا لما وسعه إلا إتباعه صلى الله عليه وسلم وأنه لا يسعُ اتباعُهم إلا ذلك - كما قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (¬3). ونبيُّ الله عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل في آخر الزمان يكون تابعًا لمحمد صلى الله عليه وسلم وحاكمًا بشريعته. وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} (¬4). كما أن من أصول الاعتقاد في الإسلام أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم عامةٌ ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 78. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 33. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 81. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 157.

للناس أجمعين، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1)، وقال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (¬2)، وغيرها من الآيات. خامسًا: ومن أصول الإسلام أنه يجب اعتقادُ كفرِ كلِّ من لم يَدخلْ في الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم وتسميته كافرًا. وأنه عدوُّ لله ورسوله والمؤمنين. وأنه من أهل النار كما قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (¬3)، وقال جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (¬4)، وغيرها من الآيات. وثبت في «صحيح مسلم» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيدِه لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمةِ، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار». ولهذا: فمن لم يُكفِّر اليهود والنصارى فهو كافر، طردًا لقاعدة الشريعة: «من لم يكفرِ الكافرَ فهو كافرٌ». سادسًا: وأمام هذه الأصول الاعتقادية والحقائق الشرعية، فإن الدعوة إلى: «وحدة الأديان» والتقارب بينها وصهرها في قالب واحد دعوةٌ خبيثة ماكرة، والغرضُ منها خلط الحق بالباطل، وهدمُ الإسلام وتقويضُ دعائمه، وجر أهلِه إلى ردة شاملة، ومصداقُ ذلك في قول الله سبحانه: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (¬5). وقول جلّ وعلا: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (¬6). ¬

(¬1) سورة سبأ، الآية: 28. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 158. (¬3) سورة البينة، الآية: 1. (¬4) سورة البينة، الآية: 6. (¬5) سورة البقرة، الآية: 217. (¬6) سورة النساء، الآية: 89.

سابعًا: وإن من آثار هذه الدعوة الآثمةِ إلغاءَ الفوارقِ بين الإسلامِ والكفر، والحقِّ والباطل، والمعروفِ والمنكر، وكسرِ حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين، فلا ولاءَ ولا براء، ولا جهادَ ولا قتال لإعلاء كلمة الله في أرض الله، والله جلّ وتقدس يقول: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬1)، ويقول جلّ وعلا: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (¬2). ثامنًا: أن الدعوة إلى «وحدة الأديان» إن صدرت من مسلم فهي تعتبر ردةً صريحةً عن دين الإسلام، لأنها تصطدم مع أصول الاعتقاد، فترضى بالكفر بالله عزّ وجلّ، وتُبطلُ صدق القرآنِ ونسخَه لجميع ما قبله من الكتب، وتبطلُ نسخَ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع والأديان، وبناء على ذلك فهي فكرة مرفوضة شرعًا، محرمة قطعًا بجميع أدلة التشريع في الإسلام من قرآنٍ وسنة وإجماع. تاسعًا: وتأسيسًا على ما تقدم: 1 - فإنه لا يجوز لمسلم يؤمن بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا، الدعوةُ إلى هذه الفكرة الآثمة، والتشجيعُ عليها، وتسليكُها بين المسلمين، فضلًا عن الاستجابةِ لها، والدخولِ في مؤتمراتها وندواتها والانتماء إلى محافلها. 2 - لا يجوز لمسلم طباعة التوراة والإنجيل منفرديْن، فكيف مع القرآن الكريم في غلاف واحد! ! فمن فعله أو دعا إليه فهو في ضلال بعيد، لما في ذلك ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 29. (¬2) سورة التوبة، الآية: 36.

من الجمع بين الحق «القرآن الكريم» والمحرف، أو الحق المنسوخ «التوراة والإنجيل». 3 - كما لا يجوز لمسلم الاستجابةُ لدعوة: «بناء مسجد وكنيسة ومعبد» في مجمع واحد، لما في ذلك من الاعتراف بدين يُعبد الله به غير دينِ الإسلام وإنكار ظهوره على الدين كله، ودعوة مادية إلى أن الأديان ثلاثة: لأهل الأرض التدين بأيٍّ منها، وأنها على قدم التساوي، وأن الإسلام غير ناسخ لما قبله من الأديان، ولا شك أن إقرار ذلك أو اعتقاده أو الرضا به كفر وضلال، لأنه مخالفة صريحة للقرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين، واعتراف بأن تحريفات اليهود والنصارى من عند الله، تعالى الله عن ذلك! ! كما أنه لا يجوز تسميةُ الكنائس بيوت الله وأن أهلها يعبدون الله فيها عبادة صحيحة مقبولة عند الله، لأنها عبادة غير دين الإسلام، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1). بل هي: بيوت يُكفر فيها بالله. نعوذ بالله من الكفر وأهله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في «مجموع الفتاوى» 22/ 162: «ليست - أي: البِيَع والكنائس - بيوت الله، وإنما بيوت الله المساجد، بل هي بيوت يُكفر فيها بالله، وإن كان قد يذكر فيها، فالبيت بمنزلة أهلها، وأهلها كفار، فهي بيوت عبادة الكفارة». عاشرًا: ومما يجب أن يُعلم أن دعوة الكفار بعامة وأهل الكتاب بخاصة إلى الإسلام واجبةٌ على المسلمين بالنصوص الصريحة من الكتاب والسنة، ولكن ذلك لا يكون إلا بطريق البيان والمجادلة بالتي هي أحسن، وعدم التنازل عن ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 85.

شيء من شرائع الإسلام، وذلك للوصول إلى قناعتهم بالإسلام ودخولهم فيه، أو إقامة الحجة عليهم ليهلك من هلك عن بيِّنةٍ ويحيا من حيَّ عن بينة، قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬1). أما مجادلتهم واللقاء معهم ومحاورتهم لأجل النزول عند رغباتهم، وتحقيق أهدافهم، ونقض عُرى الإسلام ومعاقد الإيمان، فهذا باطل يأباه الله ورسوله والمؤمنون، والله المستعان على ما يصفون. قال تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (¬2). * وإن اللجنة إذ تُقرر ذلك وتبيِّنه للناس، فإنها توصي المسلمين بعامة وأهل العلم بخاصة بتقوى الله تعالى ومراقبته، وحماية الإسلام، وصيانة عقيدة المسلمين من الضلال ودعاتِه، والكفر وأهلِه، وتحذرهم من هذه الدعوة الكفرية الضالة: «وحدة الأديان». ومن الوقوع في حبائلها، ونعيذ بالله كلَّ مسلم أن يكون سببًا في جلب هذه الضلالة إلى بلاد المسلمين وترويجها بينهم: نسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يُعيذَنا جميعًا من مُضِّلات الفتن، وأن يجعلنا هُداة مهتدين، حماة للإسلام على هدىً ونورٍ من ربنا حتى نلقاه وهو راضٍ عنَّا. وبالله التوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ... ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 64. (¬2) سورة المائدة، الآية: 49.

(2) الدين الحق

(2) الدين الحق (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (¬3). عبادَ الله: وفي سبيل استبانة سبيل المجرمين، ولبيان الحق في زمن صراع الحضارات، وغزو الأفكار، الذي بات ينتشر أكثر هذه الأيام .. ومن المتوقع أن يزيد انتشارُه مع بداية الألفية الثالثة، جرى في الجمعة الماضية حديثٌ عن الإسلام مقارنًا بالأديان الأخرى - لا سيما اليهودية والنصرانية - وعُلم حكمُ الشرع وفتوى العلماء في دعوى وحدة الأديان .. واليوم أستكمل الحديث عن القرآن مقارنًا بالكتب السماوية الأخرى، وعن محمد صلى الله عليه وسلم وحديث الأنبياء عنه، ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 27/ 7/ 1420 هـ. (¬2) سورة الحشر، الآية: 18. (¬3) سورة لقمان، الآية: 33.

وعن الأمة المسلمة مقارنةً بالأمم الأخرى. أيها الناس: ومن الإسلام بمفهومه الحقّ عبر القرون - إلى القرآن الكريم بوصفه آخر الكتب المنزلة، مصدقًا لما بين يديه من الكتب، ومهيمنًا عليها، اختصّه الله من بين كتبه بالحفظ، فلا تستطيعه أيدي التحريفِ والتبديل، والوعدُ بذلك إلهي، والتأكيدُ رباني: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬1). شملت آياتُه وصايا السابقين ولم تُغفل شرائع المرسلين، وزادت عليها أحكامًا وشرائع وهدى حتى أكمل اللهُ به الدين، وانقطع الوحيُ من السماء بعد موتِ المنزَّلِ عليه محمد صلى الله عليه وسلم. فيه الهدى والنور والشفاء، وما به عوجٌ ولا افتراء بل قصّ اللهُ فيه على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وحين استمع الجنُّ إليه قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} (¬2). ما كان للقرآن أن يُفترى من دون الله، قصصُه أحسن القصص ولو أن قرآنًا سُيرت به الجبالُ أو قطعت به الأرض أو كُلِّم به الموتى لكان بهذا خليقًا. منه السبعُ المثاني وكلّه قرآن عظيم .. ولو أُنزل على جبلٍ لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله .. حوى من أخبار الأنبياء والأمم الماضية ما لم تحفل به الكتبُ السابقةُ عليه، ومن أخبار اليهود والنصارى مالم يعلموا به من كتبهم، ولو لم يحفظ لنا القرآنُ هذه الأخبار والمغيبات لم نجده في أي كتاب آخر يُوثق به. يقرأه الصغيرُ والكبير، والذكرُ والأنثى، ويتفق على ألفاظِه وكلماتِه وحروفه أهلُ المشرق وأهلُ المغرب، وتتواتر روايتُه عبر القرون، وأين هذا من الأناجيل والتوراة المختلفة والمحرَّفة - ماذا بقي منها يوثق به لم تُحرف - وأي فقرة من ¬

(¬1) سورة الحجر، الآية: 9. (¬2) سورة الجن، الآيتان: 1، 2.

هذه الكتب يمكن الاطمئنانُ إليها على أنها من وحي السماء؟ والله يقول عن أصحابها: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (¬1)، ويقول عنهم أيضًا: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} (¬2). عباد الله: ولو قارنا كتاب الله القرآن المحفوظ في الصدور والمحوط من الزيادة والنقصان، بآخر كتاب سماوي نزل قبله، وهو الإنجيل المنزَّل على عيسى - عليه السلام - لأدركنا الفرق في الحفظ بين الكتابين، فمن كتب الإنجيل؟ وما الأناجيل الموجودة؟ وهل كتبها أو أمر بكتابتها المسيح عليه السلام؟ يجيبُ عن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم «الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح» ويقول في «الجزء الثاني ص 11»، وأما الأناجيلُ التي بأيدي النصارى، فهي أربعة أناجيل: إنجيل متّى، ويوحنا، ولوقا، ومرقس، وهم متفقون على أن لوقا ومرقس لم يريا المسيح، وإنما رآه متّى ويوحنا. وأن هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل، وقد يُسمون كلَّ واحدٍ منها إنجيلًا، إنما كتبها هؤلاء بعد أن رُفع المسيح، فلم يذكروا فيها أنها كلامُ الله، ولا أن المسيح بلَّغها عن الله، بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح، وأشياء من أفعاله ومعجزاته، وذكروا أنهم لم ينقلوا كلَّ ما سمعوه منه ورأوه، فكانت من جنس ما يرويه أهلُ الحديث والسير والمغازي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله التي ليست قرآنًا .. اهـ هذا إذا سَلِمت هذه الأناجيلُ من تحريفِ المحرِّفين وزيادات المبطلين - عبر العصور. ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 13. (¬2) سورة البقرة، الآية: 79.

وإذا قيل هذا عن الأناجيل - مع قرب العهد بها - فماذا يُقال عن التوراة والتلمود وهي أقدمُ عهدًا، واليهود أكثرُ تحريفًا؟ ! كيف وقد حوت هذه الكتب سوءَ أدبٍ مع الله وإساءة للأنبياء عليهم السلام واتهامًا لهم في أخلاقهم وأعراضهم؟ ! ومن نماذج ذلك تصويرُهم لوطًا عليه السلام سكيرًا وعاهرًا يزني بابنتيه في حال السكر - جاء ذلك في سفر التكوين، الإصحاح التاسع عشر. ويصورون يعقوب - عليه السلام - بأنه محتالٌ سرق النبوة من أخيه البكر بأسلوب قذر «كما جاء عندهم في سفر التكوين الإصحاح السابع والعشرين». أما عيسى - عليه السلام - فيقول اليهودُ في تلمودهم بأنه ابنٌ غيرُ شرعي، حملته أمه سفاحًا وهي حائض من العسكري باندارا. إلى غير ذلك من خزعبلاتٍ، لولا بيانُ باطلهم لنزّهت أسماعكم وبيت الله من ذكرها (¬1). إن هذه الكتب لا يُمكن الاعتماد عليها على أنها كتبٌ منزّلة من السماء - وإذا نَهَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الفاروق وهو يُقلب صحيفةً من التوراة ويقولُ له: «والله لو كان أخي موسى حيًا ما وَسِعَه إلا إتباعي» ... فماذا يُقال لغير عمر ممن هو أقلَّ إيمانًا وفقهًا منه، حين يفكر في قراءة شيء من هذه الكتب المحرفة؟ ! أما كتابُ ربنا وعهدُه الأخيرُ للناس، والمعجزُ بحفظه، وبما حواه فيكفيه شهادةُ الله له بالتصديق لما قبله، والهيمنة على الكتب السابقة عليه، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (¬2). عبادَ الله: أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو خاتمُ الأنبياء - عليهم السلام - وأفضلُهم، بعثتُه للناس كافة، وبه ختم اللهُ رسالاتِ السماء، هو دعوةُ أبيه إبراهيم عليه السلام حين قال وابنه ¬

(¬1) «السيرة في ضوء المصادر الأصلية» ص 86، 87، د. مهدي رزق الله أحمد. (¬2) سورة المائدة، الآية: 48.

إسماعيل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} (¬1)، وهو بشارة عيسى - عليه السلام - حين قال: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (¬2). والأنبياءُ كلهم أُخذ عليهم الميثاقُ لئن بُعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنّه كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (¬3). لا يسوغُ لأحد - مهما كان جنسُه وديانتُه - أن يخرج عن شريعته ويتبع نبيًا غيره، ومن فعل ذلك فهو من أهل النار. روى مسلمٌ في «صحيحه» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديُّ ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلتُ به إلا كان من أهل النار». ومن نواقض الإيمان - كما قرر الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر (¬4). وهل يعلم أهلُ الكتاب وغيرُهم أن عيسى - عليه السلام - حين ينزلُ آخرَ الزمان يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم؟ روى مسلمٌ في «صحيحه» عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابنُ مريمَ فأمَّكم منكم». قال أحدُ الرواة في معنى «فأمَّكم منكم» قال: بكتاب ربكم وسنة نبيكم (¬5). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 129. (¬2) سورة الصف، الآية: 6. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 81. (¬4) مجموعة الرسائل في التوحيد والإيمان ص 79. (¬5) مختصر المنذري لمسلم ح: 2060.

قال العلماء: هذا صريح في أن عيسى - عليه السلام - يحكم بشريعتنا ويقضي بالكتاب والسنة، لا بالإنجيل ولا غيره. «تعليق الألباني على المنذري». وأين حماةُ الصليب من هذا؟ ورسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم يقسم: «والله لينزلنَّ ابنُ مريم حكمًا عادلًا، فليكسرنَّ الصليبَ، وليقتلنَّ الخنزيرَ، وليضعنَّ الجزيةَ .. » (¬1). بل وأين أهلُ الكتاب من شهادة بعضهم على بعضٍ بصدق رسولنا؟ وقد أخرج أبو حاتم في «صحيحه» عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: خرج جيش من المسلمين - أنا أميرُهم - حتى نزلنا الإسكندرية، فقال عظيمٌ من عظمائهم: أخرجوا إليَّ رجلًا يُكلمني وأكلمُه، فقلتُ: لا يخرج إليه غيري، قال: فخرجت إليه ومعي ترجماني ومعه ترجمانه، فقال: ما أنتم؟ قلت: نحن العرب .. وأخبره عمرو عن حالتهم قبل البعثة وبعدها وكيف ظهر عليهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم .. فلما انتهى عمروٌ قال عظيمُ الإسكندرية: إن رسولكم قد صدق، قد جاءتنا رسلُنا بمثل الذي جاءكم به رسولُكم، فإن أنتم أخذتم بأمر نبيكم، لم يقاتلكم أحدٌ إلا غلبتموه، ولن يشارككم أحدٌ إلا ظهرتم عليه، وإن فعلتم مثل الذي فعلنا وتركتم أمر نبيكم، لم تكونوا أكثرَ عددًا منا، ولا أشدَّ منا قوة (¬2). أيها المسلمون: ولم تكن بعثتُه - عليه الصلاة والسلام - نعمةً على المسلمين وحدَهم، بل بعثته نعمةٌ على أهل الأرض كلِّهم، ففي شريعته صلى الله عليه وسلم من اللين والعفو والصفح ومكارم الأخلاق أعظمُ مما في الإنجيل، وفيها من الشّدةِ والجهاد وإقامة الحدود على الكفار والمنافقين، أعظم مما في التوراة - وهذا هو غاية الكمال - كذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - وأضاف يقول: ومن ¬

(¬1) الحديث رواه مسلم في «صحيحه» ح: 2059. (¬2) الجواب الصحيح 1/ 100.

استقرأ أحوال العالم تبين له أن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمةً أعظم من إنعامه بإرساله صلى الله عليه وسلم، وأن الذين ردوا رسالته، هم ممن قال اللهُ فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} (¬1) (¬2). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (¬3). ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 28. (¬2) الجواب الصحيح: 3/ 243، 244. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 144.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لله رَبِّ العالمين، أرسل إلينا أفضل رسله، وأنزل علينا خير كتبه، وجعل أمتنا خير الأمم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله - اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. إخوة الإيمان: وإذا تقرر أن ديننا خيرُ الأديان، وكتابنا مهيمنٌ على الكتب قبله، ونبينا خاتمُ الرسل، وقد أمَّ الأنبياء في رحلة الإسراء، وعُرج به إلى السماوات العُلى. فماذا يُقال عن أمةِ الإسلام، وما الفرقُ بينها وبين الأمم الأخرى؟ لقد حكم الله بخيريَّة هذه الأمة - إذا استقامت على شرع الله، وقامت بواجبات الأمر والنهي، فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬1). وفي الحديث: «أنتم تُوفون سبعين أُمّةً، أنتم خيارُها وأكرَمُها على اللهِ»، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وجعلها أمةً وسطًا شاهدةً على الناس بالعدل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (¬2). وهذه الوسطية والشهادةُ على الناس ينبغي أن تُثير فينا الاعتزاز والشعور بالكرامة، والمسؤولية والتبعة في آنٍ واحد، ولا ينبغي أن يتخلف الشاهدُ عن مستوى المشهود عليه .. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 110. (¬2) سورة البقرة، الآية: 143.

وإليك نموذجًا لشهادة هذه الأمة على الأمم السابقة: أخرج البخاري في «صحيحه» عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يُدعى نوحٌ عليه السلام يوم القيامة فيقول: لبَّيك وسعديك يا رب، فيقول هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأُمَّته: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمدٌ وأمتُه، فيشهدون أنه قد بلّغ. ومن عدلِ أمةِ الإسلام عدلُها ونظرتُها لأخبار أهل الكتاب، فهي لا تردها جملة وتفصيلًا، ولا تقبلُ بها دون تمحيص، بل تذكرها للاستشهاد، لا للاعتقاد، وتصنفها على ثلاثة أقسام: 1 - إحداها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح. 2 - والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه، فذاك كذب. 3 - والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: « ... وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» (¬1). عبادَ الله: وتمتاز أمةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم على أمم اليهود والنصارى بصحة النقل، إذ النقلُ عن محمدٍ صلى الله عليه وسلم مدتُه قريبة، والناقلون عنه أضعافُ أضعافِ من نقل دين المسيح عنه، وأضعافُ أضعافِ من اتصل به نقلُ دين موسى عليه السلام، فإن أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم ما زالوا كثيرين منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها، وما زال فيهم من هو ظاهرٌ بالدين، منصورٌ على الأعداء بخلافِ بني إسرائيل، فإنهم زال ملكهُم في أثناء المدة لما خُرب بيتُ المقدسِ الخرابَ الأول بعد داود عليه السلامِ، ¬

(¬1) الفتاوى: 13/ 366.

ونقص عددُ من نقل دينهم حتى قيل إنه لم يبق من يحفظ التوراةَ إلا واحد، والمسيحُ عليه السلام لم ينقل دينه إلا عددٌ قليل (¬1). أيها المسلمون: كما تمتاز هذه الأمةُ المسلمة على الأمم الأخرى بالعفو والتسامح والمغفرة، والله يقول لهم: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬2)، ويقول في صفاتهم: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (¬3)، ويدعوهم إلى الصبر والتقوى في مقابل فتنة الآخرين وأذيتهم: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (¬4). أجل إن الأمة أُمرت بقتال الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يُحرِّمون ما حرمه الله ورسولُه، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتَى يُعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. لكن هذا القتال ليس تعصبًا ولا استعلاءً في الأرض بغير الحق، ولكنه الرحمةُ بالخلق لدعوتهم للحق، ولذا فقبل القتال تكون الدعوةُ وتكون المجادلة بالحسنى، وفي وفد نصارى نجران علّق ابن حجر بقوله: وفيه من الفوائد: جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تعيّنت مصلحتُه (¬5). فإذا قامت الحُجة ولم تغن المجادلة - كان الجهادُ أو دفعُ الجزية. وأين هذه الأخلاقُ الإسلامية، والآدابُ من العفو والصفح والمجادلة بالحسنى ... أين هذا من تعصب أهل الكتاب وانغلاقهم، وشعورهم بالتميُّز، ¬

(¬1) الجواب الصحيح: 1/ 127، 128. (¬2) سورة الجاثية، الآية: 14. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 63. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 186. (¬5) الفتح: 8/ 95.

وغيرهم بالدونية. يقول الأمير شكيب أرسلان: إن الروح الصليبية لم تبرح كامنةً في صدور النصارى كمُونَ النار في الرماد، وروحُ التعصب لم تنفك معتلجةً في قلوبهم حتى اليوم كما كانت في قلب بطرسِ الناسك من قبل، وأن ما يدعوه الفرنجةُ عندنا في الشرق تعصبًا مذمومًا هو عندهم في بلادهم العصبيةُ الجنسية المباركة، والقوميةُ المقدسة (¬1). عبادَ الله: إن على المسلم أن يعلم موقعه في هذا العالم، وإذا أُعجب كلُّ ذي رأي برأيه، وكلُّ أصحاب نحلة أو دين بنحلهم وديانتهم، فحسب المسلم أن يرضى بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا رسولًا، وأن يكون القرآن دليله وهاديه، وأن يكون في عداد الأمة المرحومة .. أمةِ الخير والعدل والوسط، وعلى المسلم أن يحذر من الشعارات الخادعة، والدعوات الفاتنة التي يُلبس الحقُّ فيها بالباطل، ويتفوق فيها المُبطل على المحق في زمنٍ ضعفت فيه مقدراتُ المسلمين، وغزاهم في قعر دارهم الكافرون، وبات الغزو مقننًا عبر الفضائيات والشبكات ونحوها، بل أصبح التأثيرُ العقدي يُمارس عبر دهاليز السياسة، ومن بوابات الاقتصاد، ويغطى بمصطلحات العولمة، والنظام العالمي، ويمرر عبر قرارات الهيئات والمنظمات المُسَيَّسة، فهل يواجه المسلمون التحدي؟ وهل يحسون بحساسية المرحلة؟ وهل يتجاورون التبعية؟ ذاك المأمول والمرتجى، والله غالب على أمره. ¬

(¬1) حاضر العالم الإسلامي: 1/ 137، وانظر: التعصب الأوروبي أو الإسلامي/ محمد العبدة: 11 - 14.

المحبة المشروعة

المحبة المشروعة (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله المؤمنين، وارضَ اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، فإن تقوى الله أقومُ وأقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3). أيها المسلمون: بالمحبة والإخاء تصفو الحياةُ، ويسعد الأحياء، وتغيبُ الإحنُ، وتتوارى الأثرةُ والبغضاء، وليست هناك دواعٍ معقولة تحمل الناس على أن يعيشوا أشتاتًا متناكرين، ووحوشًا متنافرين، بل إن الدواعي القائمة على الحقّ والعاطفةِ السليمةِ تعطفُ البشرَ بعضهم على بعض، وتُهيِّئُ لهم مجتمعًا متكافلًا تسوده المحبةُ، ويمتد به الأمانُ على ظهر الأرض. أجل: لقد ردَّ الله أنسابَ الناسِ وأجناسَهم إلى أبوين اثنين ليجعل من هذه ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 25/ 7/ 1417 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 1. (¬3) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71.

الرحم الماسةِ ملتقىً تتشابك عنده الصِّلات وتُستوثق، ولكن على أساس من البرِّ والتقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬1). فالتعارفُ لا التنافر، والمحبةُ لا التباغض، أساسُ العلائق بين البشر، ولكن قد تطرأُ عوائقُ تمنعُ هذا التعارفَ الواجبَ، وتلك المحبةَ المشروعة، وفي زُحامِ البشرِ على مواردِ الرزق، وفي اختلافهم على فهمِ الحق وتحديد الخيرِ قد يثور نزاعٌ ويقع صدامٌ، بيد أن هذه الأحداثَ الطارئةَ وتلك التصرفات المشينةَ لا ينبغي أن تُنسي الروابط المشروعة والحقوق الواجبة، ولا ينبغي أن تعصف بأوتاد المحبة وأواصرِ الأخوة. إن المحبة طعمُ الحياة، وسرُّ سعادتها، ومساكينُ من فارقوا الدنيا ولم يتلذذوا بأطيبَ ما فيها من محبة الله والشوقِ إلى لقاه، ومحبةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والسير على هداه، ومحبة المؤمنين والقيام لهم بحقوقها من الموالاة والنصرةِ وتقديم المعونة. أيها المؤمنون: وجُبِلَ الناسُ - كلُّ الناسِ - على محبة المالِ والوالدِ والولد، والأهلِ والعشيرة، والقناطير المقنطرةِ من الذهب والفضةِ والخيلِ المسومةِ والأنعام والحرث، ولكن ذلك كلُّه متاعُ الحياة الدنيا والله عنده حسنُ المآب. وما يبقى خيرٌ مما يفنى، والله يقول في وصف الباقي وصفاتِ أهله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ ¬

(¬1) سورة الحجرات، الآية: 13.

وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (¬1). عبادَ الله: إن الحبَّ في الله والبغضَ في الله أوثقُ عرى الإيمان، كما أخبر بذلك الصادقُ المصدوقُ - عليه الصلاةُ والسلام - والحبُّ في الله والبغضُ في الله هو الذي يتجاوز أغراض الدنيا، ويُقيم صاحبُه وزنًا للقِيَم، وتضبط فيه العواطفُ، ويوزن بميزان الشرع المطهر، أساسُه الصلاحُ والتُّقى، ولو كان المُحبُّ في المالِ صعلوكًا وفي النسب نازلًا، وخياركم في الجاهلية خيارُكم في الإسلام إذا فَقُهوا، إن الله يرفع بهذا القرآن أقوامًا ويضعُ به آخرين. إن محبة اللذة والشهوة الرخيصة تفنى وتنتهي في الآخرة إلى العداوة والبغضاء. أما محبةُ الدين فتثمرُ وتبقى وهي في الآخرة علامةُ التقوى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (¬2). وإذا زُين للمُبطلين اتخاذُ أندادٍ من دون الله يحبونهم كحب الله، فالذين آمنوا أشدُّ حبًا لله، له وحده يعبدون، وعليه يتوكلون، وإذا كان لكل شيء حقيقةٌ، فحقيقةُ محبةِ الله إتباعُ هَدْي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (¬3). أما محبة خلقِ الله فتكون بتقديم الخير لهم، ودفع الشرِّ عنهم، وعدم الاعتداء على حرماتهم، فكلُّ المسلم على المسلم حَرامٌ: دمُه ومالُه وعرضُه، ألا ما أجملَ الحبَّ والطاعة حين يرتفعان بصاحبهما إلى درجات النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيات: 15 - 17. (¬2) سورة الزخرف، الآية: 67. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 31.

(69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} (¬1). ورد في سبب نزول هذه الآية الكريمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنك لأحبُّ إليّ من نفسي، وأحبُّ إليَّ من أهلي، وأحبُّ إليَّ من ولدي، وإني لأكونُ في البيت فأذكركَ فما أصبرُ حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرتُ موتي وموتك عرفتُ أنك إذا دخلت الجنةَ رُفعت مع النبيين، وإن دخلتُ الجنة خشيتُ أن لا أراك، فلم يردَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت عليه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} (¬2) الآية. رواه ابن مردويه، والمقدسيُ في «صفة الجنة» وقال: لا أرى بإسناده بأسًا (¬3). عباد الله: وإذا كان هذا نموذجًا لمحبة الأصحاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، فهناك نموذجًا آخر لمحبة الأصحاب بعضهم بعضًا وما فيه من مغنم: عن أبي إدريس الخولاني قال: دخلتُ مسجدَ دمشق، فإذا فتًى براقُ الثنايا والناسُ حوله، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، فسألتُ عنه فقالوا: هذا معاذُ بنُ جبلٍ، فلما كان الغدُ هجَّرتُ إليه، فوجدتُه قد سبقني بالتهجير، ووجدتُه يصلي، فانتظرتُه حتى قضى صلاته، ثم جئتُه من قِبَلِ وجهه، فسلمتُ عليه، ثم قلتُ: والله إني لأُحبك في الله، فقال: آلله؟ فقلتُ: آلله، فقال: آلله؟ فقلتُ: آلله، فأخذ بحبوة ردائي فجبذني إليه وقال: أبشر، فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال اللهُ تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ». أخرجه مالكٌ في «الموطأ»، والحاكمُ وصححه، وابنُ عبد البرِّ وغيرُهم (¬4). ¬

(¬1) سورة النساء، الآيتان: 69، 70. (¬2) سورة الزخرف، الآية: 67. (¬3) تفسير ابن كثير: 2/ 310، 311. (¬4) جامع الأصول، لابن الأثير: 6/ 551، 552.

يا أخا الإسلام: أفلا يقودُك هذا الحديثُ ومثلُه إلى محبة الخيِّرين والقربِ منهم والجلوسِ إليهم، والله تعالى يقول يوم القيامة: «أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلُّهم في ظلِّي يوم لا ظلَّ إلا ظلِّي». أخرجه مسلمٌ ومالك في «الموطأ» (¬1). ورسولُه صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من عبادِ الله لأُناسًا ما هم بأنبياءَ ولا شهداء، يغبطهم الأنبياءُ والشهداءُ يوم القيامةِ بمكانهم من الله». قالوا: يا رسولَ الله تخبرنا مَن هم؟ قال: «هم قومٌ تحابُّوا بروح الله على غيرِ أرحامٍ بينهم، ولا أموالٍ يتعاطونها، فوالله إن وجوَههُم لنورٌ، وإنهم لعلى نورٍ، لا يخافون إذا خاف الناسُ، ولا يحزنون إذا حزنَ الناسُ». وقرأ هذه الآية: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬2). أخرجه أبو داود، وفي سنده انقطاع، ولكن رواه ابنُ حبان في «صحيحه» بسند حسن، وأورد المنذريُّ في «الترغيب» حديثًا بمعناه وحسَّن إسناده، والحاكمُ وقال: صحيح الإسناد (¬3). يا أخا الإسلام: وإن قعدتْ بك همتُك عن مجاراةِ الخيِّرين في طاعاتهم وعباداتهم، فلا تنفكَّ عن محبتهم والتشبُّه بهم، وهاك هذه البشارة فاعقلها وعضَّ عليها بالنواجذ: روى البخاريُ ومسلم عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: كيف ترى في رجلٍ أحبَّ قومًا ولمَّا يلحق بهم؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «المرءُ مع من أحبَّ» (¬4). وإذا كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرحوا بها واستبشروا، حتى قال أنس: ¬

(¬1) جامع الأصول: 6/ 550. (¬2) سورة يونس، الآية: 62. (¬3) جامع الأصول: 6/ 553. (¬4) جامع الأصول: 6/ 558.

فما فرح المسلمون فرَحهم بهذا الحديث (¬1). أفلا يدعوك ذلك للفرح والبُشرى ومحبّةِ الخير لأهلِه صدقًا وعدلًا، لا نفاقًا أو رياءً؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (¬2). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: 2/ 312، جامع الأصول: 6/ 557. (¬2) سورة الفتح، الآية: 29.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، يُحب التوابين ويحب المتطهرين، ويحب المحسنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يحب الفاحش المتفحش ولا يحب البذيء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أخبر أن عطاء الله لعبدٍ من أمور الدنيا لا يعني المحبة والرضا فقال: «إذا رأيتَ اللهَ تعالى يُعطي العبدَ من الدنيا ما يُحبُّ وهو مقيمٌ على معاصيه، فإنما ذلك منه استدراجٌ» رواه أحمد وغيره بسند صحيح (¬1). اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها المسلمون: ومن عظمة هذا الدين أنه يُشيع المحبةَ بين المسلمين فيجزي على الابتسامة المؤنسة: «وتبسُّمكَ في وجْهِ أخيك صدقةٌ». ويهدي لاختيار أطيب عبارةٍ حين المحادثة، ويرتب عليها المثوبة: «والكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ» ويدعو إلى النظرة الهادفة لتأليف القلوب، وقد كان صلى الله عليه وسلم يُقبِل بوجهه وحديثه على أشرِّ القومِ يتألَّفهم بذلك - كما قال عمرو بنُ العاص رضي الله عنه (¬2). كان من هديه صلى الله عليه وسلم بسطُ النفس ومداعبة من يحتاج إلى المداعبة .. وكلُّ ذلك تشريعٌ للأمةِ ودعوةٌ لها إلى مكارم الأخلاق، وإشاعةِ المحبةِ والخير بين المسلمين. بل دعا إلى إظهار المحبة بين المتحابين؛ لأنه أبقى في الألفةِ وأثبتُ في المودة، وفي هذا يقول عليه الصلاةُ والسلام: «إذا أحبَّ أحدكم أخاه في الله، فليُعْلمْه، فإنه أبقى في الألفةِ وأثبتُ في المودَّة»، رواه ابنُ أبي الدنيا بسندٍ حسنٍ، عن مجاهد مرسلًا (¬3). بل لقد ورد في بعض روايات الحديث: «إذا ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير: 1/ 214. (¬2) مختصر الشمائل 181 بسندٍ حسن. (¬3) صحيح الجامع: 1/ 137.

أحبَّ أحدُكم صاحبَه، فليأتِه في منزلِه فليخبِرْهُ أنه يُحبُّه للهِ». رواه أحمد والضياءُ بسند صحيح (¬1). أيها المسلمون: وثمَّة ما يستدعي النظر ويستحق الوقفة، فبعضُ الناس يظن التعبيسَ في وجوه الآخرين دينًا يتقربُ به إلى الله، أو ربما ظنه بعضُ الخيرين تأكيدًا للولاء والبراءِ المشروعيْن .. وليس الأمرُ كذلك، فليس من هَدْي الإسلام ازدراءُ الناسِ واحتقارُ أعمالهم في مقابلِ تزكيةِ النفس، وليس من هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم الانقباضُ عن الناس وشدةُ القولِ ورديءُ الكلام ولو كانوا أصحابَ سوء. وفي «صحيح البخاري» من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: ائذنوا له فبئس ابنُ العشيرة، أو بئس أخو العشيرة، فلما دخل ألانَ له الكلام، فقلتُ له: يا رسولُ الله: قلتَ ما قلت، ثم ألنْتَ له في القول، فقال: «أيْ عائشةُ: إنّ شرَّ الناسِ منزلةً عند الله من تركَه أو وَدَعَهُ الناسُ اتقاءَ فُحْشِه» (¬2). هكذا ساقه البخاريُّ في كتاب الأدب، باب: المداراة مع الناس. وساقه مسلم في كتاب البرِّ والصلة والآداب، باب مدارةِ من يُتقى فحشه (¬3). ولقد فهم الصحابةُ رضوان الله عليهم هذا الأدب ومغزاه وتمثلوه ودعوا إلى دين الله من خلاله، وهذا أبو الدرداءِ رضي الله عنه يقول: إنا لنكشر في وجوه أقوامٍ وإن قلوبنا لتلعنهم (¬4). قال الحافظُ ابن حجر يرحمه الله: هذا الحديث أصلٌ في المداراة (¬5). ¬

(¬1) صحيح الجامع: 1/ 137. (¬2) صحيح البخاري: 7/ 102. (¬3) صحيح مسلم: 3/ 2002. (¬4) الصحيح مع الفتح: 10/ 528. (¬5) الفتح: 10/ 454.

وقال ابنُ بطالٍ يرحمه الله موضحًا معنى المداراةِ والفرق بينها وبين المداهنة: «المداراةُ من أخلاق المؤمنين، وهي خفضُ الجناح للناس، ولينُ الكلمة، وتركُ الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضُهم أن المداراة هي المداهنةُ فغلط؛ لأن المداراةَ مندوبٌ إليها، والمداهنةَ محرمةٌ، والفرقُ بينهما: أن المداهنةَ من الدِّهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويسترُ باطنه، وفسرها العلماءُ - يعني المداهنة - بأنها معاشرةُ الفاسق وإظهارُ الرضا بما هو فيه من غير إنكارٍ عليه، والمداراةُ هي الرفقُ بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حيث لا يُظهر ما هو فيه، والإنكارُ عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك (¬1). ألا ما أنفس هذا الكلام وأحرى للمسلم بالعمل به. عبادَ الله: ولا يعني إشاعةُ المحبة بين الناس إضاعة الدين أو تذويبَ الفوارق بين المؤمنين والكافرين والمنافقين، كلا فمبدأ الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين عقيدة يحفظها المسلمون من كتاب ربِّهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويعمل بها المؤمنون، وهم يقرؤون: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} ... الآية (¬2). ويقرؤون قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (¬3) الآيات. وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (¬4). ¬

(¬1) الفتح: 10/ 528، 529. (¬2) سورة المجادلة، الآية: 22. (¬3) سورة المائدة، الآية: 55. (¬4) سورة التوبة، الآية: 171.

بل لقد قَسَّم أَهلُ العلم الناسَ في الحُب والبغض إلى ثلاثة أصناف: الأول: من يحبُّ جملة، وهو من آمن بالله ورسوله وقام بوظائف الإسلام علمًا وعملًا واعتقادًا، وأخلص في أفعاله وأقواله لله، وانقاد لأوامره، وانتهى عن نواهيه. الثاني: من يحبُّ من وجهٍ، ويُبغض من وجهٍ، فهو المسلمُ الذي خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا، فيحب ويوالى على قدر ما معه من الخير، ويبغض ويعادى على ما معه من الشر. الثالث: من يبغض جملةً، وهو من كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولم يؤمن بالقدر خيره وشره، وأنكر البعث أو شيئًا من أمور الدين الثابتة، أو استحلّ ما عليه أهلُ البدع والأهواء المضللة .. فليفهم هذا جيدًا. أيها المسلمون: والموفقُ من وفَّقه اللهُ لطاعتهِ وحسنِ عبادتهِ، وهل علمتم أن توفيق العبد لذلك دليلُ محبة اللهِ له، وإذا كان اللهُ يعطي الدنيا من أحبَّ ومن لم يحب، فاللهُ لا يُعطي الدين إلا من أحبَّ .. وثمة علامةٌ أخرى لمحبة الله للعبد، وذلك بإشاعةِ حبِّه بين الناس. روى البخاري في «صحيحه» عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحبَّ اللهُ العبدَ نادى جبريلَ: إن اللهَ يُحبُّ فلانًا فأَحِبُّوه، فيحبه أهلُ السماءِ، ثم يوضعُ له القبولُ في الأرض» (¬1). ¬

(¬1) كتاب التوحيد، باب كلام الرب مع جبريل: 13/ 387.

ورواه مسلم وزاد: «وإذا أبغضَ اللهُ عبدًا دعا جبريلَ فيقولُ: إني أبغضُ فلانًا فأبغِضْهُ، فيبغِضُه جبريلُ، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوهن قال: فيبغضونه، ثم توضع البغضاءُ في الأرض» (¬1). وفي «مسلم» أيضًا ذكر هذه الصورة العملية للحب، فعن سهيل بن أبي صالح قال: كنا بعرفة، فمرَّ عمرُ بنُ عبد العزيز وهو على الموسم، فقام الناسُ ينظرون إليه، فقلتُ لأبي: يا أبتِ إني أرى الله يحبُّ عمرَ بنَ عبد العزيز، قال: وما ذاك؟ قلتُ: لِمَا له من الحبِّ في قلوب الناس، قال: فأنبِّئُك؟ إني سمعتُ أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم ذكر الحديث السابق (¬2)، وأخرجه الترمذيُ بمثل حديث مسلم وزاد: فذاك قولُ الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (¬3). اللهم اجعلنا من أحبابك، ووفقنا لطاعتك وحسن عبادتك، وثبِّتنا إلى أن نلقاك وأنت راضٍ عنا يا ذا الجلال والإكرام .. هذا وصلوا. ¬

(¬1) كتاب البر والصلة: ح 2637، 4/ 2030. (¬2) السابق: 4/ 2031. (¬3) سورة مريم، الآية: 96، جامع الأصول: 6/ 555.

الرحمة

الرحمة (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله ربِّ العالمين الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، أحاط بكل شيء علمًا، ورحمتُه وسعت كلَّ شيء، ورحمة ربِّك خيرٌ مما يجمعون. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه وأحرصَ الناس على هداية أمته، وجاء في صفته: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬2). اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، الذين كانوا رحمةً مهداةً من الله لأممهم، أنقذ اللهُ بهم من شاء من الغواية إلى الهدى، ومن دركات الجحيم إلى درجات الجنان، ومن يُضلِلِ اللهُ فما له من هاد، وارضَ اللهم عن آلِ محمد المؤمنين وعن صحابته أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. فأما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين امتثالًا لأمر الله ووحيه: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬3). أيها المسلمون: والرحمةُ كلمة نديَّةٌ، رخية في لفظها، وهي ذاتُ مفاهيم ومدلولات كبيرةٍ في معناها، بها ينتشر الودُّ، ويتحقق الإخاءُ، ويسود القسط. وبالرحمة تُرعى كرامةُ بني الإنسان، وينتشر العدل، بها تستعلي النفوسُ إلى ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 14/ 7/ 1418 هـ. (¬2) سورة التوبة، الآية: 128. (¬3) سورة الزمر، الآية: 10.

أصل فطرتها، وبفقدها يهوي الإنسانُ وترتكسُ فطرتُه إلى منازل الجماد الذي لا يعي ولا يهتز. أجل إن الرحمة كمالٌ في الطبيعة، وجمالٌ في الخلُق، يَرِقّ صاحبُها لآلام الخلق ويسعى لإزالتها، ويأسى لأخطائهم وجنوحهم، فيترحم عليهم ويتمنى لهم الهداية والرحمة. أما القسوة فتبلُّدٌ في الحس، وارتكاسٌ في الخُلُق، وغلظةٌ في الطبع، وغرور وكبرياء، لا يكاد تفكيرُ أصحاب هذا الطبع أن يتجاوز دوائرهم الضيقة، وذواتهم المريضة. بالرحمة أو خلافها يتميز الناسُ إلى رحماءَ يرحمهم الرحمان، وقساةِ قلوبٍ لهم الويلُ في الحياة وبعد الممات. إخوة الإسلام: ويطيبُ الحديثُ عن الرحمة في كل آنٍ، ولكنه يجمل ويتأكد حين يستعلي الكبراء، ويتغطرس الأقوياء، حين تبقى فئةٌ من البشر تتحكم في الموارد والأرزاق، فتعطي وتشترط، وتمنع وتحاصر، تهدد بالحصار العسكري تارة، وبالحصار الاقتصادي أخرى، وبين هذا وذاك تعملُ بكل ما أوتيت من قوة في سبيل الحصارِ الفكري والتعبير الثقافي في المجتمع العالمي. وحين تفقد الرحمةُ تموت آلافٌ من الأطفال حتف نفسها جوعًا أو عريًا - وتشردُ آلافٌ أخرى من البشر عن ديارها وتُباح لغيرها ظلمًا وعدوانًا، ويُعتدى على النساء بغيًا، بل وتبقر بطونُ الحوامل لاستخراج ما في أرحامها همجيةً وحقدًا! أين هذا من شرع السماء وهدي الأنبياء عليهم السلام؟ ! والرحمةُ في أفقها الأعلى صفةٌ من صفات الربِّ تبارك وتعالى، وملائكةُ السماء تشهد بذلك وتتضرع إلى خالقها: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (¬1). ¬

(¬1) سورة غافر، الآية: 7.

بل اللهُ أرحمُ الراحمين، ويشهد برحمته كلُّ من قرأ: «الرحمن الرحيم» أو يقرأ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (¬1). إنها رحمةُ من يقتدر على الأخذ بقوة: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (¬2). وهي رحمةٌ لا يستطيع كائنٌ إمساكًا لها أو إرسالًا: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬3). أيها المسلمون: ورحمةُ ربي شاملةٌ للحياةِ والأحياء لبني الإنسان والجن والحيوان، للمتقين والفجار، للأولين والآخرين، وفي الدنيا والآخرة. وظواهر هذه الرحمة يدركها من يتأمل كتاب الله أو ينظرُ في ملكوت الله. ومن مظاهرها: تسخيرُ الكائنات: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬4). {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (¬5). ويمتد التسخيرُ للمركوب والمأكول، ويربط ذلك برحمة الله كما قال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} إلى قوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬6). ومن مظاهر الرحمة: رفعُ البلاء، وإن جحد المُبتلون: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} (¬7). {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 156. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 147. (¬3) سورة فاطر، الآية: 2. (¬4) سورة القصص، الآية: 73. (¬5) سورة الإسراء، الآية: 66. (¬6) سورة النحل، الآيات 5 - 8. (¬7) سورة يونس، الآية: 21.

هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (¬1). وفرق بين من يُقال عنهم: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (¬2)، وبين من قيل عنه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (¬3). أجل إنها رحمةٌ وذكرى كما قال ربنا، ولكنها لمن؟ للعابدين. عباد الله: ومن مظاهر رحمة الله رفعُ الحرج لمن به عِلَّةٌ أو حاجةٌ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬4)، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬5). ومن مظاهرها: قبولُ التوبة للمذنبين: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬6)، وليست قصرًا على آدم وحده، بل تشمل غيره: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬7)، {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (¬8). يا أخا الإسلام: وهل علمت أن هبةَ اللهِ الأهل، والذرية الصالحة من رحمة الله {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} (¬9)، {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ ¬

(¬1) سورة يس، الآيتان: 43، 44. (¬2) سورة المؤمنون، الآية: 75. (¬3) سورة الأنبياء، الآيتان: 83، 84. (¬4) سورة التوبة، الآية: 91. (¬5) سورة البقرة، الآية: 173. (¬6) سورة البقرة، الآية: 37. (¬7) سورة المائدة، الآية: 74. (¬8) سورة يوسف، الآية: 92. (¬9) سورة مريم، الآيتان: 49، 50.

زَكَرِيَّا} (¬1)، {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (¬2). وأن إنزال الغيث رحمةٌ من الله: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} (¬3)، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} (¬4). تُرى أيُّ حدٍّ لرحمةِ الله، وتقديرُها أزليٌّ في كتاب عنده فوق العرش! كما قال عليه الصلاة والسلام: «لما خلق اللهُ الخلقَ كتب في كتابه، فهو عنده فوقَ العرشِ: إنَّ رحمتي تغلبُ غضبي» رواه البخاري ومسلم (¬5). وأثرها يمتد من الدنيا إلى الآخرة، وهو في الآخرة أعظم، والحاجة إليها أكبر فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم: «إن للهِ مئةَ رحمةٍ، أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجنِّ والإنس والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون، وفيها يتراحمون، وبها تعطف الوحشُ على ولدِها، وأخَّرَ اللهُ تسعًا وتسعين رحمةً يرحمُ بها عبادَه يوم القيامة» (¬6). رواه مسلم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (¬7). نفعني الله وإيّاكم بِهدْي كتابه. ¬

(¬1) سورة مريم، الآية: 2. (¬2) سورة ص، الآية: 43. (¬3) سورة الشورى، الآية: 28. (¬4) سورة الروم، الآية: 46. (¬5) جامع الأصول 4/ 518، 519. (¬6) جامع الأصول: 4/ 520. (¬7) سورة يونس، الآيتان: 57، 58.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين صاحبِ الفضل والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شمل بفضله ورحمته الإنس والجان والمتقين والفجار، وشهد جوده وآلاءه أولو الألباب، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، ناله من رحمة ربِّه ما ألان قلبه لمن حوله فاجتمعوا إليه، ولو كان فظًّا غليظًا لانفضُّوا من حوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها المسلمون: وإذا كانت الرحمة بمفهومها العام شاملةً للخلق حتى تقوم الحياةُ ويُبتلى الأحياءُ، ويتميز الشاكرون المؤمنون عن الكافرين الجاحدين، فثمة نوعٌ من الرحمة رجّح ابن القيم أنّ المقصود بها النعمة، فرحمته: نعمته. ثم قال: فالهدى والفضل، والنعمة والرحمة متلازمان، لا ينفكُّ بعضها عن بعض (¬1). ونقل القرطبي عن السلف تفسير فضل الله بالقرآن، والرحمة بالإسلام. عن أبي سعيد الخدري وابن عباس: فضل الله: القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله. وعن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة: فضل الله: الإيمان، ورحمته: القرآن (¬2). هذه الرحمة ينالها طائفةٌ من عباد الله بعمل الصالحات والمجاهدة والإحسان، والمتتبعُ لآيات القرآن يجد بيان ذلك واضحًا .. فبم تنال هذه الرحمةُ؟ إن مما تُنال به الرحمةُ المجاهدةَ في سبيل الله، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} (¬3)، {ثُمَّ ¬

(¬1) الفوائد: 170، 171. (¬2) تفسير القرطبي: 8/ 353. (¬3) سورة التوبة، الآيتان: 20، 21.

إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1). كما تنال الرحمةُ بالصبر: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬2). وتُنال بالإحسان كما قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬3)، {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬4). وتنال الحرمةُ بالإيمان والتقى والطاعة لله والرسول وأداء الواجبات: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬5)، {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} (¬6)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} (¬7). {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} (¬8) الآيات. كما أنّ للقانتين آناء الليل كفلًا من رحمته: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (¬9). عباد الله: ومن علائم السعادة أن تسود الرحمةُ مجتمع المسلمين إذا شقي غيرُهم بالغلظة والأنانية والجفاء، ورحمةُ الخلق سببٌ لرحمة الخالق، قال عليه ¬

(¬1) سورة النحل، الآية 110. (¬2) سورة البقرة، الآيتان: 156، 157. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 56. (¬4) سورة النمل، الآية: 11. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 132. (¬6) سورة النساء، الآية: 157. (¬7) سورة الحديد، الآية: 28. (¬8) سورة الأعراف، الآيتان: 156، 157. (¬9) سورة الزمر، الآية: 9.

الصلاة والسلام: «الراحمون يرحمُهمُ الرحمانُ، ارحموا مَنْ في الأرض يرحمُكم مَنْ في السماءِ .. » رواه أبو داود والترمذي وهو صحيح بشواهده (¬1). وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما: «لا يرحم اللهُ من لا يرحمِ الناسَ» (¬2). إن نزع الرحمة من علائم الشقاء كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «لا تنزعُ الرحمةُ إلا من شقيٍّ». حديث حسن أخرجه الترمذي وأبو داود (¬3). وإذا كانت القسوة في خُلق الأفراد دليلَ نقصٍ كبير، فهي في تاريخ الأمم دليلُ فسادٍ خطير، وهي علةُ الفسوق والفجور كما قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (¬4). أيها المسلم والمسلمة: إن أحدنا قد يهشُّ لأصدقائه حين يلقاهم، وبكل تأكيد يَرِقّ لأولاده وأحبائه حين يراهم، وتلك جوانبُ من الرحمة، بيد أن المفروض في المؤمن أن تكون دائرةُ رحمته أوسع، فهو يبدي بشاشتَه، ويظهر مودَّتَه واحترامه لعامة المسلمين (¬5). فالمؤمنون إخوة، وتبسُّمك في وجه أخيك صدقة، وأقرب الناس منزلةً من الرسول صلى الله عليه وسلم أحاسنهم أخلاقًا، الذين يألفون ويؤلفون، ولا خير في من لا يؤلف. بل شملت الرحمةُ في الإسلام الحيوان فضلًا عن الإنسان، فقد شكر اللهُ ¬

(¬1) «جامع الأصول»: 4/ 515. (¬2) السابق: 5/ 516. (¬3) جامع الأصول: 4/ 516. (¬4) سورة الحديد، الآية: 16. (¬5) الغزالي «خلق المسلم» 255. وفي هذا الكتاب كلام جميل عن الرحمة، وقد استفدت منه في هذه الخطبة.

وغفر للرجل أو المرأة البغي الذي سقي الكلب الذي كان يأكل الثرى من العطش. متفق عليه (¬1). ودخلت النار امرأةٌ بسبب هرَّةٍ ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض. متفق عليه (¬2). وإذا انتكست الفطرُ سُحق الإنسانُ، وبات يحوم حول المزابل بحثًا عن طعامٍ أو شراب، أو شُلَّت أعضاؤه من ويلات الحروب وقنابل الدمار، هذا إن كان في عداد الأحياء. وباتت القططُ والكلابُ مدللةً إلى حَدِّ الترف في المطعم والمشرب والمسكن، وملازمةً لأصحابها في الحلّ أو الترحال، وأين هذا والرحمةُ في شريعة الإسلام؟ ! أيها المؤمنون: وليس من الرحمة في الإسلام تركُ الأدب لمن به حاجةٌ إليه، حتى وإن بدا فيه قسوةٌ على المؤدب ظاهرًا. فقسا ليزدجروا ومن يكُ راحمًا ... فليقْسُ أحيانًا على من يرحمُ وليس من الرحمةِ تعطيلُ حدود الله على من يقترف محظورًا يستحق العقاب: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬3). ومن بلاغة القرآن أن عبّر عن قتل القصاص بالحياة لما في ذلك صيانة الأحياء واستمرار الحياة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬4). إن الرحمة يا عباد الله - في الإسلام - ليست حنانًا لا عقل معه، أو شفقةً تتنكر للعدلِ والنظام، كلا إنها عاطفةٌ متَّزنة ترعى الحقوق كلَّها وتقيم وزنًا ¬

(¬1) جامع الأصول: 4/ 523. (¬2) جامع الأصول: 4/ 525. (¬3) سورة النور، الآية: 2. (¬4) سورة البقرة، الآية: 179.

لمصلحة الفرد والمجتمع والأمة .. وبهذه وتلك فاقت رحمةُ الإسلام كلَّ رحمة، وانتشر صيتُ رحمة المسلمين في الآفاق، ودخلت أممٌ في الإسلام لم يقهرها السيف، ولم يستهوها الدرهمُ والدينار - لكنها القناعةُ بشريعة الإسلام والإعجابُ بأخلاق المسلمين .. على حين أفلست الحضارةُ المادية المعاصرة رغم تشدقها بالعبارات الخادعة، لم يشفع لها بريق الهيئات والمنظمات الكاذبة .. فحقوقُ الإنسان. ومنظماتُ العدل الدولية، وهيئاتُ الأمم .. وما شاكلها، كلُّ هذه وتلك عند واقع الحال وحين يتعلق الأمر بالمسلمين بالذات، ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخًا صولةَ الأسدِ؟ وما أحوج الدنيا إلى شرع السماء وهدي الأنبياء، وتلك مسؤولية المسلمين شعوبًا وحكومات: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} (¬1). اللهم أصلح أحوال المسلمين وردّهم إليك ردًّا جميلًا. اللهم هبَّ لنا من رحمتك ما تصلح به أحوالنا في الدنيا، وترحمنا يوم العرض عليك في الآخرة؛ فأنت أرحم الراحمين. ¬

(¬1) سورة الرعد، الآية: 17.

وصايا لقمان وسنن وبدع شعبان

وصايا لقمان وسنن وبدع شعبان (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. فأما بعدُ: فاتقوا الله معاشر المسلمين واعلموا أن تقوى الله أقومُ وأقوى، وهي للخير قائدٌ ودليل، وعن الشرِّ سياجٌ منيع، هي وصيةُ الله لكم فاعقلوها واعملوا بها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬3). أيها المسلمون: وفي وصايا لقمان الحكيم متسعٌ للحديث، وفيها عبرٌ ودروس للأبناء والآباء. وحيث مضى التعريفُ بلقمان، ووصيتُه لابنه بالبعد عن الشرك بالله لعظيم خطره، وتنبيهُهُ لمراقبة الله، وبيانُ شيء من قدرته، فلا يزال لقمانُ يوصي ابنه بإقامة الصلاة: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} (¬4) والصلاةُ صلةٌ بين العبد ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/ 8/ 1418 هـ. (¬2) سورة الحشر، الآية: 18. (¬3) سورة النساء، الآية: 1. (¬4) سورة لقمان، الآية: 17.

وخالقه، وفيها عونٌ للمرء على حوائج دينه ودنياه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (¬1)، ولم تكن الوصية بالصلاة قصرًا على الحكماء، بل أُوصى بها الأنبياءُ، وأُمر بها المرسلون عليهم السلام: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (¬2)، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (¬3)، {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (¬4). وأَمر بها المرسلون أهليهم وأممهم: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (¬5)، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (¬6). وفي ساحات الوغى لم يُعذر المسلمون بترك الصلاة، بل نزل تشريعُ صلاة الخوف، ثم قيل لهم: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (¬7). أيها المسلمون: ويبلغ الاهتمامُ بالصلاة عند عباد اللهِ الصالحين إلى درجة تُنحر الجيادُ من الخيل، إذا ألهت عن الصلاة في وقتها، ولو كان عددُها كثيرًا، ولو كان الهدفُ منها جليلًا، وكذلك أثنى اللهُ على سليمان - عليه السلام - وأعاضه عن الخيل بالريح المسخرة، فكان يقطع عليها من المسافة في يومٍ ما يقطع مثله على الخيلِ في شهرين غدوًّا ورواحًا (¬8). أيها المتكاسلون عن أداء الصلاة في وقتها، اسمعوا ثناء الله على سليمان - عليه السلام - بشأن الصلاة: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 153. (¬2) سورة مريم، الآية: 31. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 73. (¬4) سورة الكوثر، الآية: 2. (¬5) سورة مريم، الآية: 55. (¬6) سورة طه، الآية: 132. (¬7) سورة النساء، الآية: 103. (¬8) تفسير القرطبي: 15/ 196.

رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} (¬1). واستمر للصلاة وزنُها وقيمتُها عند الأخيار على تعاقب الأجيال، واعتبرها العلماءُ ميزانًا لأخذ العلم عن الرجال أو تركه، وهذا أبو العالية الريحاني العالمُ الثقة كان يرحل لسماع الحديثِ عند بعض أهله، فإذا وصل إلى صاحب الحديث أخذ يتفقد صلاته، فإن وجده يحسن صلاته أقام عنده، وإن وجد فيه تضييعًا رحل ولم يسمع منه وهو يقول: من ضيّع الصلاة فهو لما سواها أضيع (¬2). عباد الله: ولقد أوصى لقمان ابنه بإقام الصلاة، وليس مجرد أدائها وإقامتها، أي: بحدودها وفروضها وأوقاتها (¬3). والويلُ لمن هُمْ عن صلاتهم ساهون: {وَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (¬4)، والحذر الحذر يا عبد الله أن تكون ممن قال اللهُ فيهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} (¬5)، وليس من الرحمةِ للأبناء ضعفُ أمرهم بالصلاة، إذ كانوا نائمين - أو كان الجو باردًا، أو الليل قصيرًا. أيها المسلمون: وحين يبلغُ لقمانُ في وصيته لابنه هذا المبلغ فيربِّيه على عدم الإشراكِ بالله، وعلى دوام المراقبة والخوف من الجليل ودوام الصلة والعبادة .. فهو لا يقصره على ذلك، بل يُعلمُه نشر الخير للآخرين ويقول له: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (¬6)، وكذلك تُربى النفوسُ على حبِّ الخير ¬

(¬1) سورة ص، الآيات: 30 - 33. (¬2) أبطال ومواقف، عقيلان: 192. (¬3) تفسير ابن كثير: 3/ 710. (¬4) سورة الماعون، الآيتان: 4، 5. (¬5) سورة مريم، الآيتان: 59، 60. (¬6) سورة لقمان، الآية: 17.

والدعوة إليه، وكذلك أثنى اللهُ على هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (¬1). بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتحقق الفلاحُ للآمر والمأمور، وتُصان سفينةُ المجتمع من الغرق، هو علامةُ خير، ودليلُ الإيمان، وهو مؤشِّرٌ للغيرة على دين الله وحرماته، والذين يرون المنكراتِ تسري في المجتمعات، فلا تتمعَّر وجوهُهم لله .. أولئك في إيمانهم ضعف، وفي إحساسِهم نوعٌ من التبلُّد، والذين بإمكانهم أن يشيعوا الخير ويأمروا بالمعروف ثم لا يفعلوا، أولئك محرومون من فضلِ الله، فالكلمةُ الطيبةُ صدقة، ولئن يهدي اللهُ بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمر النعم، ولئن اختص اللهُ بهداية القبولِ والتوفيق للخير، فهدايةُ الدلالةِ والإرشاد بوسع البشر أن يؤدوها، ولولا ذلك لتعطلت نصوصُ الشرع في الأمر والنهي والدعوة والجهاد في سبيل الله، فصححوا الفهم الخاطئ، وفرقوا بين هداية التوفيق والقبول، وهداية الدلالة والإرشاد. إخوة الإيمان: وإذا تعاظم أجرُ الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والداعين للخير والناهين عن الشر ... فذلك أمرٌ لا تطيقه بعضُ النفوس لأنه محتاج للصبر والمصابرة على التواءِ النفوس وعنادِها، وانحراف القلوب وإعراضها، ويقلُّ من الناس من يصبرُ على الأذى، تمتدُّ به الألسنة، وربما امتدت به الأيدي، أو يصبرُ على الابتلاءِ في المال أو النفسِ أو الأهل والولد عند الاقتضاء. ولهذا لم ينس لقمانُ وصيةَ ابنه بالصبرِ على ما يصيبُه في طريق الخير: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (¬2). ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 110. (¬2) سورة لقمان، الآية: 17.

ويخطئ الذين يظنون أن بإمكانهم أن يدعوا للخير وينهوا عن الشرِّ ثم تسلم أعراضُهم .. أو لا يصيبهم ضرٌّ في أنفسهم أو أهليهم أو أموالهم، أو مصالحهم المادية بعامة .. وإذا لم يسلم الأنبياءُ والمرسلون فغيرُهم من باب أولى .. وصدق الله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (¬1). ولكن عزاءَ الصابرين على الدعوة للخير أن العاقبة حميدة، فالعاقبة للمتقين، كما حكم ربُّنا، وأن ذلك من عزم الأمور كما قال تعالى في وصايا لقمان: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (¬2). قال ابنُ عباس في تأويل ذلك: يعني من حقيقة الإيمان الصبرُ على المكاره (¬3). أيها الداعي للخير: وإذا أردت أن تروِّضَ نفسك على هذا الطريق فاقرأ قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (¬4)، وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي نبيًا من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومُه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللهم اغفرُ لقومي فإنهم لا يعلمون» (¬5). متفق عليه. ولكن ذلك لا يعني بحال أن تُعرِّض نفسك للبلاء فوق ما تطيق أو تستحمل الخطأ، أو تُذل نفسك، فقد نهى عن ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال: «لا ينبغي لمؤمنٍ أن يُذلَّ نفسَه: يتعرض للبلاء ما لا يطيق» رواه أحمد والترمذي ¬

(¬1) سورة العنكبوت: الآيتان 2، 3. (¬2) سورة لقمان، الآية: 17. (¬3) تفسير القرطبي، 14/ 69. (¬4) سورة الذاريات، الآية: 52. (¬5) البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء: 6/ 514، مسلم، كتاب الجهاد والسِّير غزوة أُحد: 3/ 1417.

وابن ماجه عن حذيفة بسند صحيح (¬1). عباد الله: ولا بد مع الصبر على المكاره من عدم الكبر والخيلاء، وتلك واحدة من وصايا لقمان لابنه، فالدعوةُ للخير لا تجيز التعالي على الناس والتطاول عليهم باسم قيادتهم للخير، ومن باب أولى أن يكون التعالي والتطاولُ بغير دعوةٍ إلى الخير أقبح وأرذل (¬2). {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (¬3). أي: لا تتكبر فتحتقر عباد الله أو تعرض عنهم بوجهك إذا كلموك (¬4)، ولا يظهر في مشيتك الكبرُ والخيلاء ... وتذكر أن بدايتك من ماءٍ مهين، وأنك مهما بلغت من الجاه والسلطان، واجتمع لك من الأموال والأولاد فنهايتُك إلى التراب، وقد قيل: أن القبر يكلم صاحبه إذا وُضع فيه ويقول: يا ابن آدم ما غرّك بي، ألم تعلم أني بيتُ الوحدة، ألم تعلم أني بيتُ الظلمة، ألم تعلم أني بيتُ الحق. يا ابن آدم ما غرّك بي، لقد كنت تمشي حولي فدَّادًا - والمعنى: ذا مالٍ كثير وذا خيلاء. فهل يتكبر العقلاءُ الذين يتذكرون المبدأ والمنتهى؟ ألا إن في آيات الذكر عبرة .. وفي وصايا لقمان عظة {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} (¬5). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله. ¬

(¬1) صحيح الجامع: 6/ 253. (¬2) الظلال: 5/ 2790. (¬3) سورة لقمان، الآية: 18. (¬4) تفسير ابن كثير: 3/ 710. (¬5) سورة الإسراء، الآية: 97.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. عباد الله: وحين ينهى لقمان ابنه عن التكبُّر والخيلاء في الهيئة أو المِشية، وفي التعامل مع الناس أو تعاظم النفس وغرورها وعُجبِها، فهو يأمرُه بالاعتدال في مشيه والقصد فيه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} (¬1)، والمعنى: امشِ مشيًا مقتصدًا ليس بالبطيءِ المتثبِّط، ولا بالسريع المفرط، ومشية متواضعة، هي وسطٌ بين مشيةِ المرحِ والبطرِ والتكبر، ومشية التماوتِ والتباطُؤ، فالمشيةُ المحمودةُ وسط بين مشيتين مذمومتين، وعلى المربين أن يعوا هذه اللفتة التربوية، فيمنعون ما يحرم، ويقدمون البديل الحلال، كما أن عليهم نزع الخلقِ المذموم قبل إعطاء البديل المحمود، فالتخليةُ قبل التحلية كما يُقال. أيها المسلمون: ولا ينسى لقمانُ - في وصاياه لابنه - أن يعلمه أدبَ الحديث إذا نطق: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} (¬2)، والغضُّ من الصوت فيه أدبٌ وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته، وما يزعقُ أو يُغلظ في الخطابِ - دون حاجة - إلا سيِّئ الأدب، أو شاكٌّ في قيمة قوله، أو قيمة شخصه يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والزعاق (¬3). وحتى يَقْبَح رفعُ الصوتُ ويُستهجن إغلاظه يُضرب لذلك مثلٌ تشمئز منه ¬

(¬1) سورة لقمان، الآية: 19. (¬2) سورة لقمان، الآية: 19. (¬3) الظلال: 5/ 2790.

النفوسُ، إنه صوتُ الحمار: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (¬1)، فعلوُّ صوت الحمار لم يُحسنه بل قبَّحه وشانه، ولذلك ينبغي أن يخفض العقلاء أصواتهم حين حديثهم ... وما من شك أن الكلمة الطيبة تبلغ مبلغها وينفع اللهُ بها - وإن كانت هادئة - والكلمة الخبيثةُ تُضِلُّ وتسيء وإن بالغ أصحابُها في رفع أصواتهم، ... وإذا عُدَّ في مساوئ الآداب أن يجري ذكرُ الحمار في مجالس الكرماء ... أفيليق التشبه به برفع الصوت في النُّطق، ذلك توجيه ينبغي أن يعيه الآباء والأبناء. وبعدُ: أيها المؤمنون - فهذه وصايا نافعةٌ جدًا، وهي من قصص القرآن عن لقمان الحكيم ليتمثلها الناسُ ويقتدوا بها كما قال الحافظُ ابن كثير (¬2). ألا ما أحوج الآباء والمربين إلى الوقوف عندها طويلًا لفهمها والعمل بمقتضاها، وخليق بمن أوصى بهذه الوصايا أن يكون مخصوصًا بالحكمة، مشهورًا بها - وخليق بالعقلاء أن يستفيدوا من حكم الحكماء .. كيف لا وقد أصبحت قرآنًا يُتلى، وتوجيهًا إلهيًا .. فهل يعقل الآباءُ هذه الوصايا .. وهل يستفيدُ الأبناءُ منها، ذلك هو المؤملُ والمرتجى، والله من وراء القصد. أيها المسلمون: وأنتم تعيشون شهرَ شعبان، فيحسن التذكيرُ بشيء مما جاء فيه عن رسول الهدى عليه الصلاة والسلام. فقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم كثرةُ الصيام في شعبان. فقد روى البخاري ومسلم رحمهما الله، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «لم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصوم شهرًا أكثر من شعبان، فإنه كان يصومُ شعبان كلَّه ... » (¬3). ¬

(¬1) سورة لقمان، الآية: 19. (¬2) التفسير: 3/ 735 - 737. (¬3) جامع الأصول: 6/ 317.

وأخرج النسائيُّ - بسند حسنٍ - من حديث أسامةَ بن زيد رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله: لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصومُ من شعبان! قال: «ذلك شهرٌ يَغْفَلُ الناسُ عنه بين رجبَ ورمضانَ، وهو شهرٌ تُرفعُ فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين، فأحبُّ أن يرفعَ عملي وأنا صائم» (¬1) ولمزيد توضيح ذلك قال ابنُ القيم يرحمه الله في «تهذيب السنن»: وفي صومه صلى الله عليه وسلم شعبان أكثر من غيره ثلاثُ معان: أحدها: أنه كان يصومُ ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ، فربما شُغل عن الصيام أشهرًا، فجمع ذلك في شعبان ليدركه قبل صيام الفرض. الثاني: أنه فعل ذلك تعظيمًا لرمضان، وهذا الصومُ يُشبه سنة فرضِ الصلاة قبلها تعظيمًا لحقها. الثالث: أنه شهر ترفع فيه الأعمالُ، فأحبَّ صلى الله عليه وسلم أن يُرفعَ عملُه وهو صائم، ثم يقول: والحديثُ يدل على فضل الصوم في شعبان. وقولُ عائشة: «وكان يصوم شعبان كلَّه» المرادُ بالكلِّ: أكثرهُ، كما جاء في الرواية الأخرى: «كان يصومُ شعبان إلا قليلًا». إلى أن يقول: ولا تعارض بين هذه الأحاديث، وبين أحاديث النهي عن تقدم رمضان بصوم يومٍ أو يومين، وحديث: «إذا انتصف شعبانُ فلا تصوموا» وهو حديث على شرط مسلم، بأن يُحمل النهيُ على من لم تكن له عادةٌ في الصيام من أول شعبان، فجاء النصفُ الثاني وأراد أن يصوم هذا في التطوع، أما إن كان عليه قضاءٌ أو نذرٌ فيجوز له القضاءُ ولو بعد النصف الثاني. وأحاديثُ الجواز تُحمل على من اعتاد الصوم من أوله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إلا ¬

(¬1) جامع الأصول: 6/ 319، الصحيح المسند من أحكام الصيام: 37.

رجلًا كان يصوم صومًا فليصمْهُ» متفق عليه. انتهى كلامه يرحمه الله (¬1). أيها المؤمنون: وحتى لا تختلط السُّنةُ بالبدعة، فلا بد من الحذر من تخصيص يوم النصف من شعبان بالصيام، أو الاجتماع ليلة النصف منه للصلاة، وفي هذا يقول الإمام ابن تيمية يرحمه الله: «فأما صومُ يوم النصف مفردًا فلا أصل له، بل إفرادُه مكروه، وكذلك اتخاذُه موسمًا تُصنع فيه الأطعمة، وتُظهر فيه الزينةُ، هو من المواسم المحدثة المبتدعة التي لا أصل لها، وكذلك ما قد أحدث في ليلة النصف من الاجتماع العام للصلاة الألفية - هي التي تقرأ فيها بـ: «قل هو الله أحد» ألف مرة - في المساجد الجامعة، ومساجد الأحياء والدروب والأسواق، فإن هذا الاجتماع لصلاة نافلةٍ قصيرةٍ بزمان وعدد وقدر من القراءة لم يشرع مكروه، فإن الحديث الوارد في الصلاة الألفية موضوعٌ باتفاق أهل العلمِ بالحديث .. إلى آخر كلامه يرحمه الله (¬2). والشيخُ يرحمه الله، قبل ذلك أبانَ عن فضل ليلة النصف من شعبان ... ومن كان من السلف يخصها بالصلاة، ومن كان يكره ذلك ويطعن في الأحاديث الواردة فيها ... ثم قال: لكن الذي عليه كثيرٌ من أهل العلم أو أكثرهم من أصحابنا وغيرهم على تفضيلها، وعليه يدل نص أحمد (¬3). ألا فاستمسكوا - عباد الله - بالهدي والسنن، واحذروا البدع ومحدثات الأمور ... فإنَّ كلَّ محدثة في دين الله بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار ... وفي السنن كفايةٌ عن البدع ... والشيطانُ حريصٌ على ابتداع المبتدعين ... وربما نشطهم لها ويثبطهم عن إتباع السنة. ¬

(¬1) تهذيب السنن: 7/ 99، «عون المعبود عن الصحيح المسند من أحكام الصيام» محمد السلفي: 36. (¬2) في الاقتضاء: 2/ 632. (¬3) الاقتضاء: 2/ 631.

وليس يخفى أن الشيطان لكم عدوٌّ فاتخذوه عدوًا ... وإياكم والتعبد محاكاةً وتقليدًا ... فمن عمل عملًا ليس عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو ردّ ... والله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا صوابًا ... اللهم وفقنا لإتباع السنن، وهجر البدع - واسلك بنا سبيل الهداة المهتدين، وجنِّبنا طرائق الضالّين المضلِّين.

الحسبة والمحتسب

الحسبة والمحتسب (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر أنبياء الله ورسله، وارضَ اللهم عن أصحابه أجمعين وتابعيهم والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3). عبادَ الله: ثبت من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة متممةٌ لسبعين أُمة قبلها ... وهي خيرُها: «أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرُها وأكرمها على الله عزّ وجلّ». ولكن هذه الخيرية بشروط ومواصفات، والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر في مقدمتها، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... } الآية (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/ 6/ 1419 هـ. (¬2) سورة الحشر، الآية: 18. (¬3) سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 110.

وفي موطِنٍ آخرَ من كتاب الله، قُدِّم الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر على عمود الإسلام الصلاة، وأعظم ركنٍ بعد الشهادتين، وعلى الزكاة الركن الثالث من أركان الإسلام، فقال تعالى في وصف المؤمنين: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬1)، فما السرُّ؟ وما المعنى يا تُرى في تقديم الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر تارةً على الإيمان، وتارة على الصلاة والزكاة ونحوها؟ قال سماحةُ الشيخ ابنُ باز يحفظه الله: لا شك أنه قُدِّم لعظم الحاجة إليه، وشدةِ الضرورة إلى القيام به، ولأن بتحقيقه تصلح الأمةُ ويكثرُ فيها الخير، وتظهرُ فيها الفضائل، وتختفي فيها الرذائل ... وبإضاعته والقضاء عليه تكون الكوارثُ العظيمة، والشرورُ الكثيرة، وتفترق الأمة، وتقسو القلوبُ أو تموت ... ويُهضم الحقُّ، ويظهر صوتُ الباطل (¬2). أيها المسلمون: ولا غَرْوَ بتقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ هما شاملان للدعوة لكل خير، والتحذير من كل شر، وذلك أساسُ دعوة الرسل، ولأجله أنزلت الكتب. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: الأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر هو الذي أنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله (¬3). وجاء النصُّ عليه في وصف رسالة محمدٍ صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬4). إنه الوثاق المتين الذي تتماسك به عرى الدين، وتحفظ به حرماتُ ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 71. (¬2) وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 4، نشر دار طليطلة. (¬3) الاستقامة: 2/ 198، 199. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 157.

المسلمين، وتظهر أعلامُ الشريعة، وتغشو أحكام الإسلام، وبارتفاع سهمه يعلو أهلُ الحق والإيمان، ويندحر أهل الباطل والفجور، يورث القوة والعزةَ في المؤمنين، ويُذلُّ أهلُ المعاصي والأهواء، وتُرغم أنوفُ المنافقين. قال سفيان رحمه الله: «إذا أمرتَ بالمعروف شددتَ ظهر أخيك، وإذا نهيتَ عن المنكر أرغمتَ أنف المنافق» (¬1). يا عباد الله: وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتميز أهل الإيمان عن المنافقين، فمِنْ سيما المؤمنين: الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (¬2) الآية ... ومن علامات المنافقين والمنافقات: أمرُهم بالمنكر ونهيُهم عن المعروف: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} (¬3). إياك يا أخا الإيمان أن تخرج عن دائرة المؤمنين بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي هذا يقول الغزالي: فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارجٌ عن هؤلاء المؤمنين (¬4). وإياك أن تظنَّ أن تركَ الأمرِ والنهي من الكياسةِ والبعد عن الفضول، فتلك من عدوى مخالطة أهل النفاق لأهل الإيمان، وفي هذا يقول الإمامُ أحمدُ يرحمه الله: إن المنافق إذا خالط أهل الإيمان فأثمرت عدواه ثمرتها صار المؤمنُ بين الناس معزولًا؛ لأن المنافق يصمت عن المنكر وأهلِه، فيصفه الناسُ بالكياسة والبعدِ عن الفضول، ويسمون المؤمن فضوليًّا (¬5). ¬

(¬1) صالح بن حميد، توجيهات وذكرى: 1/ 46. (¬2) سورة التوبة، الآية: 71. (¬3) سورة التوبة، الآية: 67. (¬4) ابن حميد، ذكرت: 1/ 46. (¬5) ابن حميد، ذكرى: 1/ 47.

أيها المسلمون: وتتعاظم مسؤوليةُ المسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلما تعاظم الفسادُ وكثر المفسدون، وكلما قلَّ عددُ المنكرين، أو ضعف أثرُهم، أو كان حجمُ الشرِّ والفساد فوق طاقتهم، أو تعجزُ عن الإحاطةِ به إمكاناتُهم. وإذا كان العلماءُ قد قرروا وجوبَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجمع السلفُ وفقهاءُ الأمصار على وجوبه - كما نقل الجصاصُ وغيرهُ (¬1). فقد قرروا كذلك أنه فرضٌ على الكفاية - إذا قام به من يكفي، سقط الإثم عن الباقين. وهنا يرد السؤال: وما الحكمُ إذا لم يقمْ بواجب الأمر والنهي من يكفي؟ لقد قرر أهلُ العلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يتحول إلى الوجوب العيني على كل فرد، ويأثمُ كلُّ قادرٍ عليه ولم يقم بواجبه، وفي هذا يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: «فإذا لم يقمْ به من يقوم بواجبه، أثِمَ كلُّ قادرٍ بحسب قدرته، إذ هو واجبٌ على كلِّ إنسان بحسب قدرته» (¬2) ... ويقول سماحةُ الشيخ عبدُ العزيز بنُ باز يحفظه الله: وقد يكون هذا الواجبُ فرض عينٍ على بعض الناس إذا رأى المنكرَ وليس عنده من يُزيله غيرَه .. وإذا لم يكن في البلد أو القبيلة إلا عالم واحدٌ وجب عليه عينًا أن يُعلِّم الناسَ ويدعوهم إلى الله، ويأمرَهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر حسب طاقته (¬3). يا أخا الإسلام: ولستَ أغيرَ من الله على شرعه ومحارمه ... ولكنك ممتحنٌ في غيرتك لشرعِ الله ودينه حين ترى منكرًا يسري بين الناسِ وأنت قادرٌ ¬

(¬1) أحكام القرآن: 2/ 592، ابن حزم: الفصل في الملل والنحل: 4/ 171. (¬2) الاستقامة: 2/ 208. (¬3) وجوب الأمر بالمعروف: 15.

على إزالته، أو ترى أصحاب منكر يتطاولون بمنكراتهم، ويفتنون الناسَ بباطلهم وأنت قادرٌ على الإخبار عنهم إن لم تستطع نهيهم، هنا ينكشف إيمانك، وتمتحن غيرتك لدين الله وشرعه، فهل تنضم إلى قافلة المؤمنين الذين علمت أن من صفاتهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أم تلوذ بالمعاذير، وتبحث لنفسك عن المبررات، ثم ترضى لنفسك أن تكون في عداد موتى الأحياء، وقد قيل لابن مسعود رضي الله عنه: من ميتُ الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا. ثم يعلق ابنُ تيمية على قول ابن مسعود بقوله: وهذا هو المفتون الموصوفُ بأن قلبه كالكوز مجخِّيًا، كما في حديث حذيفة في «الصحيحين» (¬1). أيها المسلمون: والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر واجبُنا جميعًا - وكلٌّ بحسبه، إن في بلده، أو قريته، أو أسرته، أو أهله، فإن عجز عن ذلك كلّه، أو أْعْيَوْه ولم يستجيبوا له، فعليه أمرُ نفسه بالمعروف، ونهيُها عن المنكر ... ومن الخطأ الاعتقادُ بأنه لا يأمر ولا ينهى إلا الكاملُ في نفسه، فقد قرر أهلُ العلم أنه لا يشترطُ في منكرِ المنكر أن يكون كامل الحال ممتثلًا لكل أمرٍ، مجتنبًا لكل نهي، بل عليه أن يسعى في إكمال حاله، مع أمره ونهيه لغيره، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى في بني إسرائيل: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (¬2)، مما يدل على اشتراكهم في المنكر، ومع ذلك حصل عليهم اللومُ على ترك التناهي فيه. وفي الحديث المتفق على صحته: «إن الله ليُؤَيِّدُ هذا الدين بالرجل الفاجر». يا أخا الإيمان: انجُ بنفسك من غضب الله وعقوبته بالأمر بالمعروف، وقول كلمة الحق، وفي الحديث الحسن قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث منجياتٌ» وذكر منها: ¬

(¬1) الاستقامة: 2/ 208، 209. (¬2) سورة المائدة، الآية: 79.

«وكلمة الحقِّ في الغضب والرضا» (¬1). وساهم في نجاة سفينة المجتمع من الغرق والعطب، وأنت خبيرٌ بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ودلالته، في مثلِ القائم بحدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا على سفينة، فصار بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلها. وَكُنْ من أهل رحمة الله وأولئك هم الآمرون الناهون الذين قيل عنهم: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} (¬2)، وما أسعدك وأطيب عيشك إن كنت من أهل الفلاح الذين قال الله عنهم: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬3). اللهم انفعنا بهدي القرآن وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله ... ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير: 3/ 65. (¬2) سورة التوبة، الآية: 71. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 104.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كلَّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها المؤمنون: توبوا إلى الله جميعًا لعلكم تفلحون، وحاسبوا أنفسكم ومَنْ تحت أيديكم قبل أن تُحاسَبوا، وَمُرُوا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، قبل أن يضرب الله قلوبَ بعضِكم ببعض، ويُردَّ عليكم دعاءكم، وتطلبون النصرَ فلا يُستجاب لكم. قال صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني فلا أستجيبُ لكم، وقبل أن تسألوني فلا أعطيكم، وقبل أن تستنصروني فلا أنصركم». وفي لفظ آخر من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ اللهُ أن يبعث عليكم عقابًا من عندِه، ثم لتدعونه فلا يستجيب لكم» رواه الإمام أحمد. أيها العقلاء ... أيها النبلاء: وكما أن مسؤولية الدعوة للخير، والتحذير من الشر، مسؤوليةٌ وشرفٌ لنا جميعًا، فكذلك تحقيقُ الأمن ونزولُ البركات مسؤوليتنا جميعًا، وبالإيمان يتحقق الأمن، وبالإيمان والتُّقى تُفتح بركاتُ السماء، ذلك وعدٌ غير مكذوب. {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 82.

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬1). ومؤلمٌ أن يتطاول المجرمون بنشر فسادهم، أو السخرية بمن يأمرهم وينهاهم، أو بنوعٍ من الأذية لمن يحاول كشف أوكارِ فسادهم، وهنا لا بد من تكاتف الجهود، والشجاعة - دون تهوّرٍ - في الأمر والنهي. والرفقُ ما كان في شيء إلا زانه، ولا نُزع من شيء إلا شانه، والصبرُ مطلبٌ رئيس في الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وقبل ذلك وبعده فلا بد من العلم بما يُؤمر به وما ينهى عنه ... والحلمُ على من يُؤمر ويُنهى، وعدمُ الانتصار للنفس أو الغضب للذات، بل غيرةً لدين الله وحرماته، وحرصًا على هداية الآخرين واستقامتهم، وعدم تجاوز منكرهم إلى غيرهم. ولا بد كذلك من وازع سلطانٍ وقوة حاكم يذل لسطوته المجرمون وينتصر للمظلومين، وقد ثبت عن عثمان رضي الله عنه: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن النهي عن المنكر إقامةُ الحدود على من خرج من شريعة الله، ويجب على أولي الأمر - وهم علماءُ كلِّ طائفةٍ وأمراؤها ومشايخُها - أن يقوموا على عامتهم ويأمروهم بالمعروف، وينهوهم عن المنكر .. إلى آخر كلامه يرحمه الله (¬3). عباد الله: أما وازعُ القرآن فيملكه كلُّ مسلمٍ ومسلمةٍ قادرٍ على أن يأمر بالمعروف الذي جاء في القرآن، وينهى عن المنكر الذي نهى عنه، وإياكم يا ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 96. (¬2) ابن باز: وجوب الأمر بالمعروف. (¬3) الاستقامة: 2/ 209.

أخوة الإسلام أن تخذلوا أنفسكم وتخذلوا رجال الحسبة، وذلك بزهدكم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية كل مسلم ومسلمة - وكلٌّ بحسبه - والآثارُ المترتبةُ على تركِ الأمر والنهي أو ضعفهما تلحق بنا جميعًا، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة للخير، والتحذير من الشر وظيفةُ الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وهي باقيةٌ في عقبهم وأتباعهم إلى يوم الدين، هي من واجبات العلماء، والقضاة، والدعاة، وطلبة العلم، وهي من مسؤوليات رجالات الفكر والإعلام، وهي جزءٌ من رسالة المدرسِ في مدرسته والموظف في وظيفته، والتاجر في متجره، وهي من الأمانة التي استرعى الله المسلم والمسلمة في بيوتهم وبين أبنائهم وبناتهم، وذوي رحمهم وجيرانهم ... إنها استجابةٌ لدعوة محمد صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». وهي علامةُ الإيمان ومؤشرٌ للانضمام في حزب المؤمنين الذين قال الله في وصفهم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (¬1) .. الآية. إخوة الإيمان: وحين يكتملُ وازعُ القرآن ووازع السلطان ينتشر الخيرُ ويتوارى الشرُّ، ويُبلس المجرمون، وهاكم نموذجًا يتحقق فيه صدقُ الوازعين، وجرت أحداثُه أيام الخليفة العباسي المعتضد، والقصةُ طويلة كما رواها ابن كثير (¬2)، وخلاصُتها: أن أميرًا تركيًّا من أعالي الدولة سطا على امرأةٍ حسناء وتعلق بها ليدخلها في منزله وهي تصيح بأعلى صوتها: يا مسلمون أنا امرأة ذات زوج، وهذا رجلٌ يريدني على نفسي، وقد حلف زوجي بالطلاق ألا أبيت إلا في منزله، فغلبها الأميرُ فأدخلها، فتحركت الغيرةُ عند رجلٍ خياط، وكان إمامًا ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 71. (¬2) البداية والنهاية: 10/ 101 - 103.

لأحد المساجد، فقام فأنكر على الجاني، فضربه الأميرُ التركي بدبوس شجّ رأسه به، فذهب الإمام وغسل الدم وصلى بجماعته العشاء، فأخبرهم الخبر، وطلب الذهاب إليه مرةً أخرى، فخرجوا معه، فأخرج الأمير إليهم جماعةً من غلمانه فأخذوا يضربون الناس بعصيهم ودبابيسهم، وقصد الجاني الإمام من بينهم فضربه ضربًا شديدًا حتى أدماه - مرة أخرى - فرجعوا وهم في غاية الإهانة. يقول الإمام الخياط: فلما رجعت إلى منزلي وأنا منهك من كثرة الدماء وشدة الوجع، لم تغتمض عيني بنوم، وجعلت أفكر في وسيلة ثالثة أستنقذ بها المرأة من ظالمها، فاهتديت إلى أن أُذن لصلاة الفجر في منتصف الليل، حتى يظن الأميرُ أن الفجر قد طلع فيخشى الفضيحة ويخرج المرأة قبل الفجر، فبينا أنا كذلك، وإذا برجالات وشرطة المعتضد يحيطون بي، ويأخذوني إلى الخليفة، فلما وقفت بين يدي المعتضد - وأنا أرتعد من شدة الخوف - قال: أنت الذي أذَّنت في هذه الساعة؟ قلت: نعم، قال: فما حملك على هذا وقد بقي من الليل أكثرُ مما مضى منه، فَتُغِرُّ بذلك الصائم والمسافر والمصلي وغيرَهم، فقال: تؤمنني يا أمير المؤمنين؟ قال: أنت آمنٌ، فأخبره الخبر، فغضب الخليفة غضبًا شديدًا، وطلب إحضار الأمير والمرأة من ساعته، فبعث بالمرأة إلى زوجها، ثم أقبل على الأمير يسأله عن رزقه، وعدد جواريه وزوجاته، فذكر له شيئًا كثيرًا، ثم قال له: ويحك أما كفاك ما أنعم اللهُ به عليك حتى انتهكت حرمة الله، وتجرأت على السلطان، ثم عمدت إلى رجل أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر فضربته وأهنته وأدميته، فلم يُحر الأميرُ جوابًا، ثم أمر الخليفة به، فجُعل في رجله قيدٌ وفي عنقه غلٌّ، وأدخل في جوالق، ثم أمر به، فضرب بالدبابيس ضربًا شديدًا حتى خفت، ثم أمر فألقي في دجلة، فكان ذلك آخر العهد به، ثم التفت

الخليفة للرجل المحتسب وقال له: كلما رأيت منكرًا صغيرًا كان أو كبيرًا - ولو على هذا - وأشار إلى صاحب الشرطة - فأعلمني، وإلا فالعلامة بيني وبينك بالأذان إن لم تجدني، فكان هذا الخياط بعد يرهب الأمراء بالتهديد بالأذان إن لم يسمعوا لأمره ونهيه. أيها الناس: وإذا كان في هذه الحادثة درسٌ في قوة وازع السلطان وأثره، ففيها درس وتسليةٌ للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. ألا وإن من فضل الله علينا في هذه البلاد وجود جهاز للهيئات، وهي سمةٌ تخصُّ بلاد الحرمين دون سواها، وأملنا ورجاؤنا أن تبقى السمةُ باسمها ومسماها، يُدعمُ رجالُها، وتُستحدث أجهزتُها، وتوسع صلاحيتُها، فرجالُها مع رجال الأمن عيون ساهرة، دعمُهم دعمٌ لنا جميعًا، وضعفُ أدائهم تحيق آثارُه المُرَّةُ بنا جميعًا. اللهم احفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

(1) أطفالنا ومسؤولية التربية

(1) أطفالنا ومسؤولية التربية (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله القائل في محكم التنزيل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬2). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أوحى إلى عبده، فيما أوحى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬3). وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، أخبر - وهو الصادقُ المصدوق - أن: «كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه، أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه» متفق عليه (¬4). اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬5). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬6). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 19/ 6/ 1419 هـ. (¬2) سورة النحل، الآية: 78. (¬3) سورة الروم، الآية: 30. (¬4) مسلم: 2658. (¬5) سورة النساء، الآية: 1. (¬6) سورة المائدة، الآية: 35.

أيها المسلمون: حديثُ اليوم عن فئةٍ تملأ علينا بيوتَنا، وتُسرُّ لأحاديثهم قلوبنا، نضيق بتصرفاتهم حينًا، ونستملح حركاتهم حينًا، حديث عن حبّاتِ القلوب، وفلذاتِ الأكباد، وقرة العيون، ورياضِ البيوت، وبهجة الحياة. إنهم أطفالُنا، وهبةُ الرحمن لنا: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (¬1)، تُعنى الشعوبُ كافةً بأطفالها، وتُعقد الأيام العالميةُ للطفل، ولكن يظل الإسلامُ متميزًا في عنايته بالطفل، وتبدأ العنايةُ به قبل وجوده، فأمُّهُ تُختار من ذواتِ الدين والنسب: «فاظفرْ بذاتِ الدين تربتْ يداك»، «تخيَّروا لِنُطفِكم فإنَّ العرقَ دسَّاس». وفي لقاء الزوج بالزوجة لإلقاء النطفة التي يشاءُ الله منها الطفل يُحث على ذكر الله ودعائه بحفظ هذا المولود من كل مكروه، قال صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدَهم إذا أتى أهلَه، قال: بسم الله، اللهم جنِّبنا الشيطان وجنِّبِ الشيطانَ ما رزقتنا، فقُضي بينهما ولدٌ، لم يضرَّهُ الشيطانُ». بل ويُحث العقيمُ على ذكر الله والاستغفار والصدقة، وقد يشاءُ الله أن يكون ذلك لمجيء الولد سببًا. روى أبو حنيفة في «مسنده»، عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنه جاء رجلٌ من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما رزقت ولدًا قطُّ ولا وُلدَ لي، قال صلى الله عليه وسلم: «فأين أنت من كثرة الاستغفار، وكثرةِ الصَّدقة تُرزقُ بها» فكان الرجلُ يُكثر الصدقة ويكثر الاستغفار، قال جابر: فولد له تسعةُ ذكور. قال مُلا علي في شرحه للحديث: «ولعله مقتبسٌ من قوله تعالى حكايةً عن ¬

(¬1) سورة الشورى، الآيتان: 49، 50.

نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} (¬1). إخوة الإسلام .. وهؤلاء الأطفال الذين يمثلون البراءة وترسم على وجوههم وحركاتهم إشراقةُ الفطرة الربانية، ماذا صنعنا لهم بعد وجودهم؟ ما هي أخطاؤنا معهم؟ وكيف واقُعنا وإياهم، وما هي أنسبُ الطرق وأفضلُ الوسائل لتربيتهم؟ إن الطفل ببراءته ونقائه لوحةٌ نظيفة يكتب فيها المربون ما شاءوا، ولكن ما يُكتب اليوم له أثرهُ في مستقبل الطفل غدًا ... ومن هنا يأتي خطؤنا أحيانًا في عدم تقدير النظرة للطفل، فضلًا عن الكلمة، أو السلوك أمام الأطفال بشكل عام .. وما من شكٍّ أن هذه النظرة أو الكلمة التي وجهناها للطفل، أو السلوك الذي تعاملنا به معه تظل كلُّها عالقةً في ذهنه، وذات أثرٍ في سلوكه فيما بعد. ومن أخطائنا - مع أطفالنا - أننا نُعنى كثيرًا بشكلهم الظاهر، ونوفر لهم أنواع الملابس وأصناف الطعام، وننزعج للمرض يصيب أبدانهم. ويضعف اهتمامُنا بتهذيب نفوسهم، وإصلاح قلوبهم، والعناية بأخلاقهم ومتابعة أدبهم، وينشأ عن هذا وذاك نشأتُهم معظمين للشكليات، مهتمين بكماليات الحياة، وفيهم ضعفٌ ظاهر في تقدير القِيَم، وعلوِّ الهمم، وخوض غمار الحياة مع الحفاظ على محاسن الأخلاق، وجميل السلوكيات. ومن أخطائنا قِلةُ الأوقاتِ المخصصة للجلوس مع الأطفال، وإذا قُدر لنا الجلوسُ فدون برامج مدروسة، وربما غابت أهدافُ التربية أو عُدِمْنَا الوسيلةَ ¬

(¬1) سورة نوح، الآيتان: 10 - 12، شرح مسند أبي حنيفة لمُلا علي، ص 587، منهج التربية النبوية للطفل: محمد نور سويد: 47، 48.

المناسبةَ للتربية ... ولو أن المربي أو المربية في كل جلسة علموه أدبًا، أو حفَّظوه آيةً، أو نبهوه إلى خطأ، أو علموه ما يجهل، بأسلوب مناسب، وبقليل من الوقت - لتشكل من ذلك رصيدٌ نافعٌ لهذا الطفل يدعوه للمكاره ويحفظه من المزالق بإذن الله. وإذا كان هذا من أخطائنا في البيوت؛ فخطأ المدرسة مع الطفل إنما يكون حين تُركِّزُ على تلقينه المعلومات تحفيظًا، وتقلل من ممارسته لما حفظ سلوكًا عمليًا، فيظل الطفلُ يحفظ ذهنيًا، ويمارس سلوكيًا غير ما حفظ، وربما حفظ في الصفوف الأولى ما لم يمارسه إلا في الصفوف الأخيرة من المرحلة الابتدائية، وبهذه الطريقة التلقينية المجردة تضيع أو تضعف القيمة التربوية للتعليم، ويتركز الهدف أكثر على النجاح أو الرسوب. ومن أخطائنا في التربية وعلاج مشكلات الأطفال أننا ننظر إليهم أحيانًا على أنهم كبار، يدركون الخطأ ولكنهم يقصدون العناد؛ وبالتالي نحتد في النقاش معهم، ونشتد في ضربهم، وليس كلُّ مخالفةٍ للوالدين، أو خروج عن الأعراف السائدة في المجتمع من قبل الأطفال عنوان شرٍّ ورمز شقاوة، بل قد تكون من علائم النجابة مستقبلًا، وفي «نوادر الترمذي»: «عُرامُ الصبي نجابة» أي: شدته وشراسته، وفي رواية: «عرامة الصبي في صغره زيادةٌ في عقله في كبره» (¬1). ومن أخطائنا: الاستهانة بنوع الرفيق لهم في مرحلة الطفولة، فقد يرافقون من يبدأ الطفلُ خطوات الانحراف الأولى برفقتهم، وقد نجهل أن هذا الرفيق يهدم ما نبني، أو يبني ما نهدم. ومن أخطائنا: ضعفُ همَّتنا في تربية أطفالنا على النماذج العالية للأطفال؛ ¬

(¬1) الطفل المثالي في الإسلام، عبد الغني الخطيب: 129.

أو عدمُ قدرتنا على مواصلة التربية حتى يكونوا رجالًا، ومما يشحذ الهمم أن نتصور أن هذا الطفل الضعيف اليوم قد يكون من أفذاذ الرجال غدًا ... أو تكون هذه البُنيَّةُ المسكينةُ اليوم من خيار النساء غدًا، فلا تأسفْ على جهدٍ بذلته، ولا تحقرنَّ طفلًا لطفولته، وإذا قرأت في سير العظماء فتيقن أنهم مرُّوا بمرحلة الطفولة حتمًا .. ولكن طفولة العظماء، والعناية بهم تنتج - بإذن الله - رجالًا أو نساءً عظماء، ويحدثنا الإمام الشافعيُّ رحمه الله عن طفولته ويقول: حفظتُ القرآن وأنا ابنُ سبع سنين، وحفظتُ «الموطأ» وأنا ابنُ عشر (¬1). ونقل الغزاليُّ قول سهل بن عبد الله التستري عن نفسه؛ قال: فمضيتُ إلى الكُتَّابِ، فتعلمت القرآن وحفظتُه، وأنا ابنُ ستِّ سنين أو سبع سنين (¬2). وأين الأمهاتُ من أمِّ أنس بن مالك رضي الله عنه والتي ما فتئت أمُّه تُعلمه وتربيه حتى دفعته وهو صغيرٌ للنبي صلى الله عليه وسلم لتكتمل على يديه صلى الله عليه وسلم تربيتُه ويَحْسُنَ تعليمُه؟ بل أين الأمهاتُ من تلك المرأة التي دفعت إلى ابنها يوم أحدٍ السيف فلم يُطقْ حمله، فشدته على ساعده بِنسْعه، ثم أتت به النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: هذا ابني يقاتل عندك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أي بني: احمل هاهنا، أي بُني احْمِل هاهنا» فأصابته جراحةٌ فصدع، فأُتي به النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أي بنيّ لعلك جزعت؟ » قال: لا يا رسول الله (¬3). والنماذجُ في هذا أكثرُ من أن تحصى، وهي شاهدة على همم الأطفال، وأثر ¬

(¬1) السيوطي: طبقات الحفاظ ص 154، بناء شخصية الطفل المسلم: محمد عثمان جمال: 150. (¬2) الإحياء: 3/ 72. (¬3) أخرجه ابنُ أبي شيبة عن الشعبي، وورد في «كنز العمال» وانظر: محمد عثمان جمال، بناء شخصية الطفل المسلم: 50.

تربيتهم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (¬1). ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية: 74.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه الخير كلَّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها الآباء وأيتها الأمهات: وأنتم أصحابُ المسؤولية الأولى في تربية الأطفال وتنشئتهم على الخير، وكذلك حَمّلَكُمُ الإسلام الأمانة وأنتم مسئولون عن رعايتها في بيوتكم، وخصَّكم نبيُّ الهدى والرحمةِ بالحفاظ على فطرةِ الله التي فطر الأطفال عليها، وتأملوا في قوله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه». إذ ليس فيه ذكر للإسلام، فلم يقل: أو يسلمانِهِ؛ لأن الإسلام هو الأصل، وهو فطرةُ الله، وعملُ الآباء والمربين إنما ينحصر في الحفاظ على هذه الفطرة سليمةً نقية، وفي صقلها وتفجير طاقات الخير، وينابيع الابداع في أعماقها (¬1). ويؤخذ من الحديث كذلك أن اتجاه الطفل الفكري والخُلقيَّ والاجتماعيَّ متأثرٌ أولًا وقبل كلِّ شيء ببيئة الوالدين وأفكارهما، وأخلاقهما، وأساليب تربيتهما (¬2). فهل يُقدر الأبوان عِظَم المسؤولية، ويعرفونهم بالإسلام على حقيقته، ويجنبونهم كلَّ ما يُخالف الإسلام؟ أو يبعدهم عن صفائه وسمو مبادئه؟ ألا وإن القدوة مهمةٌ بكل حال، والإسلام ينهى عن مخالفة الأفعال للأقوال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا ¬

(¬1) الصباغ، أطفالنا: 10. (¬2) الخطيب، الطفل المثالي في الإسلام: 123.

تَفْعَلُونَ} (¬1)، والقدوةُ مع الأطفال من أمضى وسائل التربية، والطفل يُجيد التقليد والمحاكاة، وحقٌّ على المربين أن يكونوا قدوةً صالحة، وليحذروا من أن تقع أعينُ الأطفال منهم على قبيح من القول أو منكرٍ من الأفعال، قال عقبةُ بن أبي سفيان لمؤدب ولده: وليكن أول ما تبدأ به إصلاح بنيَّ: إصلاحُ نفسِك، فإن أعينهم معقودةٌ بعينك، فالحَسنُ عندهم ما استحسنتَ، والقبيحُ عندهم ما استقبحت (¬2). أيها الآباء والمربون، أيتها الأمهاتُ والمربيات: عوِّدوا الأطفال على الخير فهم يعتادونه، وعلموهم ما ينفعهم فهم يسمعونه. قال عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه: «عوِّدوهم الخيرَ، فإن الخيرَ عادةٌ». وأول ما ينبغي تعليمُهم إياه كتبُ الله منذ نعومة أظفارهم. قال السيوطيُّ: تعليمُ الصبيان القرآن أصلٌ من أصول الإسلام فيُنَشّؤون على الفطرة، ويسبق إلى قلوبهم أنوارُ الحكمة قبل تمكُّنِ الأهواء منها، وسوادِها بأكدار المعصية والضلال (¬3). وما أجمل المربي والمربية وهم يفتحون أذهان الناشئة على عظمة الله والخوف منه، من خلال صفحة الكون وآيات الله الباهرة في الأنفس والآفاق، وبالأسلوب المناسب للطفل ... ثم يتدرجون معهم إلى تعليم أركان الإسلام، وبعض الواجبات والمستحبات والآداب النافعة في الأكل والشرب والتحية، وفي حال النوم واليقظة، وما فيهما من أذكار وأوراد مستحبة. فإذا بلغ الطفلُ سبع سنين أُمر بالصلاة تدريبًا له على الخير، وربطًا له ¬

(¬1) سورة الصف، الآيتان: 2، 3. (¬2) الصّباغ، أطفالنا حبات القلوب: 53. (¬3) بناء شخصية الطفل في الإسلام: 12.

بالمسجد، وتعريفًا له وتأليفًا مع جماعة المسلمين، ويُضرب على التهاون بها إذا بلغ العشر، ويُفرق فيها بين الذكر والأنثى في المضاجع، إبعادًا لهم عن الريب، وصونًا لهم من الانحراف، وقد يتهاون البعضُ بهذه الآداب الإسلامية المشروعة، وقد يظهر آثارُ التهاون عليه فيما بعد، وقد صح الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناءُ سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناءُ عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع» حديث حسن أخرجه أحمدُ والحاكم وأبو داود (¬1). ومن هدي السلف تدريبُ أطفالهم على الصيام، وربما حجوا بهم وهم صبيان، ومما ينبغي أن يُعلم أن الأطفال يستجيبون للتعليم والتأديب بشكل عام مع الحوافز المشجعة، والوعود الصادقة بالمكافأة - وإن كانت يسيرة - كما يستجيبون للحكايات والقصص، وقد تؤثر فيهم أسرع من غيرها، وعلى المربي أن يختار القصة ذات الهدف التربوي ويستثمرها في توجيه الأطفال. وإذا امتلأ كتابُ الله بذكر قصص السابقين لأخذ العبرة منها، والتسلية بأحداثها، فلا شك أن للقصص أثرًا في صياغة عقل وسلوكيات الأطفال، وقد قال بعضُ العلماء: «الحكايات جندٌ من جنود الله تعالى يثبت الله بها قلوب أوليائه»، وشاهدُه من كتاب الله قوله سبحانه: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (¬2). ويروى عن أبي حنيفة رحمه الله: الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحبُّ إليَّ من كثير من الفقه، لأنها آدابُ القوم، وشاهدُه من كتاب الله قولهُ تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬3). (¬4). ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير: 5/ 207. (¬2) سورة هود، الآية: 120. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 90. (¬4) منهج التربية النبوية للطفل: محمد نور سويد: 329.

أيها المربون، أيتها المربيات: وكم نغفل عن هذا الجانب التربوي مع الأطفال، وفي سيرة محمدٍ صلى الله عليه وسلم أو سير الأنبياء السابقين ماله أعظمُ الأثر في تربية الأطفال على الفضيلة والخير، وكذا سير العلماء والصالحين، أو سير الآباء والأجداد .. والمهم أن تصاغ بأسلوب يفهمه الطفل، وأن يُعلَّقَ على القصة الموردة بما ينتفع به الطفل من أمر أو نهي أو توجيه. ولا شك أن اختيار الوقت المناسب للتوجيه مهمٌّ بكل حال، ولا سيما مع الأطفال، ففي حالِ الركوب والأسفار، وحين تنفتح نفسية الطفل للطعام والشراب، أو حين يقعده المرضُ فتجتمع له سجيّةُ الطفل وَرِقَّةُ القلب بالمرض - فهذه الحالات وأمثالُها حَرِيَّةٌ بقبول الطفل للتوجيه أكثر من غيرها، وينبغي للمربين أن يستثمروها، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤكد حسن اختيار الوقت للتوجيه والدعوة، فقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه؛ قال: كان غلام يهوديٌّ يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض الغلام فأتاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: «أسلم» فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم الغلام فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه من النار». أرأيت كيف اختار النبي صلى الله عليه وسلم الوقت المناسب لدعوته، مع إمكانية الدعوة قبل ذلك ... عباد الله: وهناك أساليبُ أخرى في تربية الأطفال .. وهناك محاذيرُ ينبغي أن نتنبَّه لها، وأمورٌ أخرى تتعلق بالأطفال أرجئُ الحديث عنها للخطبة القادمة بإذن الله. أسأل الله أن يصلح نِيَّاتنا وذرياتنا .. وأن يغفر زلاتنا، ويعيننا على تربية أنفسنا وأبنائنا.

(2) أطفالنا ومسؤولية التربية

(2) أطفالنا ومسؤولية التربية (¬1) الخطبة الأولى: إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ... إخوة الإسلام: وحديثُ اليوم استكمالٌ لحديث قبله عن أطفالنا، ومسؤولية التربية، وما يقع من أخطاءٍ في تربيتهم، وتنبيهاتٌ ومحاذيرُ، أرجو الله أن ينفعنا بها جميعًا، والِدَيْن وأولادًا. وكيف لا نُعنى بمثل هذه الأمور مع أطفالنا، وعنايةُ الإسلام بالطفل سبقت وفاقت غيرها من النظم والقوانين البشرية، وإن أعجب البعضُ منا بالنظريات الحديثة الوافدة. أجل؛ إن الصلاة المفروضة تُخفَّفُ لبكاء الأطفال رحمة بهم وبأمهاتهم، يقول عليه الصلاة والسلام: «إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريد أن أُطيلها، فأسمع بكاءَ الصبيِّ، فأتجوَّز في صلاتي، مما أعلمُ من شدةِ وجدِ أمِّه ببكائه» متفق عليه (¬2). وتفطرُ الحاملُ والمرضعُ إذا خشيت الضرر على أطفالهما، ويُرجأ القصاصُ عن الحامل حتى تضع حملها، والموءودة تسأل بأي ذنب قتلت؟ ! ثم إن ختانه، واختيار اسمه، والعقَّ عنه، إلى غير ذلكم من أحكام وضعها الإسلامُ حمايةً للأطفال قبل أو بعد ولادتهم. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 26/ 6/ 1410 هـ. (¬2) صحيح الجامع الصغير: 2/ 324.

عباد الله: وكيف لا نعتني بهؤلاء الأطفال صغارًا، وهذه العناية بإذن الله سببٌ للانتفاع بهم كبارًا، وفي الحديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» وذكر منها ولدًا صالحًا يدعو له، علمًا بأنه لا مفرَّ من المسؤولية: «فكلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته». وإذا كان للوالدين حقوق مشروعة، فعليهم واجبات ومسؤولية، ولئن قيل للأولاد: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} (¬1)، فقد قيل للآباء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (¬2)، قال مقاتل في معنى هذه الآية: أن يؤدب المسلمُ نفسَه وأهلَه فيأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر (¬3)، بل قال بعضُ أهل العلم: إن الله سبحانه يسأل الوالدَ عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده. ويؤكد ابن القيم رحمه الله على أهمية تربية الأولاد، وأثر إهمالهم مستقبلًا فيقول في (تُحفة الودود): فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعُه وتركه سُدًى، فقد أساء غاية الإساءة، وأكثرُ الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا ... ويقول الغزالي: فالصبيُّ إذا أُهمل في ابتداء نشوئه خرج في الأغلب رديء الأخلاق كذابًا حسودًا سروقًا، نمامًا، ذا فضول، وضحك وكيادٍ ومُجانةٍ، وإنما يُحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب. أيها المربون والمربيات: وإذ سبق الحديثُ عن بعض وسائل تربية الأطفال ¬

(¬1) سورة الأحقاف، الآية: 15. (¬2) سورة التحريم، الآية: 6. (¬3) منهج التربية النبوية للطفل: 26.

كالقدوة، وتعويد الخير، وتعليم ما ينفع مباشرةً، أو عن طريق القصة الهادفةِ أو الحكايات المفيدة، وتحيُّن الفرص المناسبة للتوجيه، وإشعار الطفل بعظمة الله من خلال التأمل في مخلوقاته، وكل ذلك يندرج تحت بناء العقيدة وتحبيب الطفل للعبادة والخير، فهناك تربيةٌ إجتماعية للأطفال، ومن وسائلها: حضورُهم مجالس الكبار للاستفادة من أحاديثهم ورصيد تجاربهم، وإرسالهم لقضاء الحاجات لتدريبهم على شؤون الحياة، وإعطائهم الثقة مع المراقبة والتوجيه، وإياك أيها المربي أن تكفَّ الطفل عن الكلام كلما همَّ بالحديث والتعبير عن وجهة نظره، وإياك أن تزجره إذا رغب في الجلوس مع الكبار، فينشأ الطفل رعديدًا يفرُّ من كل غريب، ويتخوف من كل قادم، وفي أخبار الصفوة ما يفيد حضورَ الغلمان مجالس الشيوخ، بل واستئذانهم في حقوقهم، وهذا رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم يؤتى بشراب فيشرب منه، وعن يمينه غلام قيل هو ابن عباس، وعن يساره أشياخٌ، فلما شرب استأذن الغلام في أن يعطي الأشياخ قبله، فلم يأذن الغلامُ وهو يقول: لا والله يا رسول الله؛ لا أُوثر بنصيب منك أحدًا، فأعطاه إياه وتلَّه في يده. (متفق عليه). وابن عمر رضي الله عنهما يحضر مع أبيه وكبار الصحابة مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن شجرة تشبه المسلم، فيخوض الصحابةُ في عدد من الشجر، ليست هي، ويتبادر إلى ذهن الغلام أنها النخلة (وهي كذلك) فما يمنعه من الحديث إلا الأدب مع الكبار، فلما قال ذلك لأبيه شجَّعه أكثر، وقال له: لو كنت قلتها كان أحبَّ إليَّ من كذا وكذا .. رواه البخاري في «صحيحه»، ولقد أفاد ابن عباس وابن عمر وأمثالهما من هذه المجالس، فكانوا بَعْدُ من قادة الأمة وخيارها. ومن وسائل التربية الاجتماعية: تعويدُ الطفل تحيةَ الإسلام، وأدبَ

الاستئذان، وعيادةَ المرضى، والعطفَ على الفقراء، وحضورَ الصلاة، ودفنَ الموتى. إخوة الإيمان: وثمة بناءٌ أخلاقي وتربية على جملة من الآداب لا بد للمربين والمربيات أن يرعوها، كالأدب مع الوالدين، ومع العلماء ومع كبار السن، وأدب الاحترام والمحادثة مع الآخرين، والأدب مع الأقارب والجيران، وآداب الطعام واللباس، وآداب المسجد، والمجلس. ونحو ذلك. ولا بد من تعويده الصدق في الحديث، وحفظ الأمانة، وكتم الأسرار، وسلامة الصدر من الأحقاد، والكرم، والشجاعة والسماحة، ونحوها من كريم الأخلاق والآداب. أيها المربون والمربيات: ويحتاج الناسُ عامة، والأطفالُ خاصةً إلى لين الجانب ورقة العاطفة، فالبناءُ العاطفيُّ أسلوب مهمٌّ من أساليب تربية الأطفال، فالابتسامة، والقبلةُ، ومسحُ الرأس، والهديةُ، والممازحةُ ... كلُّها تُساهم في فتح قلب الطفل لك، وتهيّئُهُ لقبولِ نُصحك وتوجيهك. ولقد كان من خُلق المصطفى صلى الله عليه وسلم ممازحةُ الأطفال، ومداعبتُهم وتقبيلُهم، وإن لم يكونوا أبناءه، وفي «صحيح البخاري»: باب من ترك صبية غيره حتى تلعب، أو قبَّلها أو مازحها، وفي الباب عن أمِّ خالد بنت خالد بن سعيد قالت: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعليَّ قميصٌ أصفر، فقال: «سَنَهْ سنهْ» ومعناه بالحبشية (حسنة) قالت: فذهبتُ ألعبُ بخاتم النبوة، فزجرني أبي (أي نهرني) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعها» ثم قال: «أبْلي واخْلفي، ثم أبلي واخلفي، ثم أبلي واخلفي» الحديث. ولا يدري الناظرُ في الحديث أيعجب من ثنائه صلى الله عليه وسلم على قميص البُنية، أم على تركها تلعب بخاتمه، أم بدعائه لها؟ قال ابنُ حجر في تعليقه على الحديث: والممازحةُ بالقول والفعل مع الصغيرة، إنما يُقصد به

التأنيسُ، والتقبيلُ من جملة ذلك (¬1)، وهو القائلُ صلى الله عليه وسلم لغلام صغير يداعبه ويكنيه: «يا أبا عمير ما فعل النُّغير» (¬2). أيها المربون والمربيات: والغلظةُ مع الأطفال ليست مفخرة، والتصابي لهم وتطييبُ خواطرهم ليست مذمة ولا ذلة، وقد لام الرسولُ صلى الله عليه وسلم من أخبره أن له عشرة من الولد لم يقبل أحدًا منهم، وقال له: «أَو أَملكُ أن نزع الله الرحمة من قلبك؟ ». وروى الحاكمُ وصححه أن الحسين رضي الله عنه جاء والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، فركب عنقه وهو ساجد، فأطال السجود، فلما قضيت الصلاة قال الصحابةُ: أطلت السجود يا رسول الله، حتى ظننا أنه قد حدث أمرٌ، فقال: «إن ابني قد ارتحلني فكرهتُ أن أُعجله حتى يقضي حاجته» (¬3). عباد الله: وما أجمل التصابي أو المداعبة أو حسن الخلق، ولين العاطفة مع الأطفال إذا كانت سبيلًا لدعوتهم للخير، وتحذيرهم من الشر، فتلك وسيلةٌ نافعةٌ بإذن الله للأطفال .. ولكنها لا ينبغي أن تكون الدهر كلَّه إذ يحتاج الطفلُ أحيانًا إلى الحزم والعزم لبلوغه المعالي، بل ربما احتاج إلى الضرب، ولكن الضرب له قواعدُه ومواصفاته، ومتى يكون ومتى يُمنع، وهو بكلِّ حال أدبٌ لا انتقام، ولا يُحبَّذُ في حال الغضب، ولا يصلح لكل الأطفال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬4). إخوة الإيمان: ومهما بلغت وسائلنا في تربية أطفالنا فلا غنى لنا عن دعاء ربنا ¬

(¬1) الفتح: 10/ 425. (¬2) أخرجه البخاري، انظر الفتح: 10/ 582. (¬3) الإحياء: 2/ 218. وقال العراقي: رواه النسائي والحاكم على شرط الشيخين. (¬4) سورة الطلاق، الآية: 4.

لإصلاحهم والانتفاع بهم، وأنتم واجدون في كتاب الله من دعاء الصالحين لذراريهم من مثل قوله: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (¬1)، ومن مثل قوله: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (¬2). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 38. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 74.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، خلقَ الخَلق، ومن ضعفٍ، ثم جعل من بعد ضعفٍ قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفًا وشيبة، يخلق ما يشاءُ وهو العليم القدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسانُ، إنه كان ظلومًا جهولًا، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله أخبرَ وهو الصادقُ المصدوق أنه ما نحلَ والدٌ ولدًا خيرًا من أدبٍ حسن. اللهم صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائر النبيين. أيها المسلمون: وهناك وسيلةٌ لطيفة في التربية وذاتُ أثر على الأولاد عمومًا: والأطفال منهم على الخصوص، ألا وهي التفاهمُ بين الزوجين على علاج الخطأ الواقع من الأولاد أو ما يمكن تسميته (باصطناع المرونة)، فإذا اشتدت الأمُّ على الطفل لان الأب، وإذا عنَّف الأبُ لانت الأم، فقد يقع الولدُ في خطأ فيؤنبه والدُه تأنيبًا يجعله يتوارى خوفًا من العقاب الصارم، فإذا غاب جاءت الأم لتطيب خاطره وفي نفس الوقت لتوضح له خطأه برفق، وحينها يشعر الولدُ بأن أبويه على حق وصواب، فيقبل من الأب تأنيبه - وربما اعتذر إليه - ويحفظ للأم معروفها - وربما شكرها - والنتيجة أنه سيتجنبُ الخطأَ مرة أخرى (¬1). وهذا الأسلوبُ أنفعُ من اعتذار أحد الأبوين للطفل عن خطئه، والدفاع عنه حين تأديبه، إذ يشعره ذلك بالدلال السلبي، ويدعوه للتعاظم وإن كان مخطئًا، وعدم القبول ممن وجهه، وإن كان ناصحًا. ¬

(¬1) محمد إبراهيم الحمد، التقصير في تربية الأولاد: 80.

أيها الآباء والأمهات: واحتسبوا الجلوس مع أطفالكم على موائد القرآن والسنة والدروس النافعة، فتلك وسيلةٌ مهمة من وسائل تربيتهم، وروّضوا أنفسكم على سماع شكواهم، وتقدير وجهات نظرهم، وإن كان رأيُهم متواضعًا، فذلك ينشئُ فيهم الثقة ويدعوهم للإفصاح عما في نفوسهم، والجرأة على التعبير عن آرائهم مع الآخرين مستقبلًا. وثمة وسيلةٌ مساعدةٌ على تربية الأولاد ألا وهي زيارةُ الأسر التي تُعنى بتربية أولادها، فتلك مفيدةٌ في التربية، وطريق لنقل التجربة الناجحة، والوسيلة المناسبة. وإذا تم في لقاءات العوائل عملُ برامج للأطفال فتلك نافعة بإذن الله تعالى، ومعينة على ترابط الأسرة وتآلفهم. أيها المربون والمربيات: هذه أنماطٌ من وسائل التربية للأطفال، وقد تكونون مارستم بعضها أو ما هو أفضل منها، والمهم استشعارُ المسؤولية مع هؤلاء الأطفال، وتقديمُ ما نُعذر به، أمام الله وأمامهم، ومن عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، ولا بد أنْ يثمر الغرسُ الطيب جنًى طيبًا، إن في الدنيا أو في الآخرة، وإياك أن تحقر وسيلةً من وسائل التربية، أو تظن أن الطفل لا ينتفع بها، ولربما رأيت أو رأى غيرُك ثمار التوجيه الحسن، وقد حُدثت أن طفلًا في المرحلة الابتدائية تأخر يومًا في أداء الواجب، فهمّ مدرّسُه بضربه، فقال له الطالب: أتحداك أن تضربني، فتعجب المدرسُ من مقولته هذه وسأله عن السبب، فقال الطفل: لأنني صليت اليوم الفجر مع الجماعة، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي» فأنا في ذمة الله، وكان من عَقْلِ المعلم ومشاركته في التربية أن ترك الطفل ولم يضربه.

أيها الآباء والأمهات، ويا أيها المربون والمربيات: وبقي أن نُعرِّج على شيءٍ من أخطائنا في تربية أطفالنا ... فمن أخطائنا: أطفالُ الخادمات وذلك حينما نكل للخادمة كلَّ شيء في أمر الأطفال، تربيهم كيف شاءت، وتعودهم من الأخلاق ما تريد، وقد تكون الخادمةُ كافرةً أو ذات معتقد أو مذهبٍ فاسد فتُنشئُ ناشئتنَا أبعد ما تكونُ عن قيمنا وعاداتنا وأخلاقنا الإسلامية. ومن أخطائنا: أطفالُ الشاشات، وذلك حينما نوفرُ للطفل ما هبَّ ودبَّ من وسائل اللهو المحرمة، ونهيئُ له الفرصة للنظر بكل شاشة فاتنة .. فينشأ جيل مغرمٌ باللهو .. مفتونٌ بالقنوات، يربيه غيرُنا ويتشكلُ عقلهُ وفكره من بيئات وأممٍ تضمر العداوة لنا ولأطفالنا، وماذا نتوقعُ المستقبلَ لأطفال ربتهم الشاشاتُ الهابطة، وأُشربوا حُبَّ القنوات الفضائية المعادية؟ وهناك بدائل صالحة في هذا لمن شاء. ومن أخطائنا: الدعاءُ على أطفالنا، أو لعنهم ... وتلك حماقةٌ تصدر من الوالدين أحيانًا - وخاصة الأمهات - وهم المتحملون لوزرها، وقد قيل إن الدعوات كالحجارة التي يُرمى بها، وقد تُصيب وقد تخطئ، ولهذا نهى محمدٌ صلى الله عليه وسلم عن الدعاء على الأولاد، وقال: «لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعةً يُسْأل فيها عطاءً فيستجيب لكم» (¬1). ومن الأخطاء: الشماتةُ بالمبتلين من أولاد غيرنا، وبدل أن نسأل الله لهم العافية، ونشكره على أن أصلح ولدنا، ترى بعض الناس يشمت بهؤلاء ويلوم أهلهم ويعنفُ عليهم، وقد يكونون مجتهدين، ولكن الله لم يشأ هدايتهم، وربما ¬

(¬1) رواه مسلم: 4/ 2304.

انتقل الداءُ إليه عقوبةً من الله على شماتته وعدم شكره (¬1). أيها الناسُ: ومن أخطائنا مع أطفالنا استحياؤنا من تعليم أولادنا أحكام البلوغ وعلاماته قبل بلوغهم، ولذا فقد تصوم أو تصلي الفتاة العذراءُ وهي حائض أو جنب، وقد يصلي الشابُّ المحتلم وهو جُنبٌ ... وهكذا. ومن أخطائنا: عدمُ تحذير أطفالنا مما نخشاه عليهم أو نحاذر من وقوعهم فيه من قبلُ، فقد يقعون في شرب الدخان أو المخدرات وهم يظنون ذلك من الرجولة، وقد يختارون رفقاء السوء وهم يحسبونه جليسًا صالحًا. ومن أخطائنا: التفريق بين أولادنا في الأعطيات المادية أو المعنوية فيتولد عندهم الحقدُ، وينشأ الحسدُ، ونضع الكرة فيما بيننا وبينهم - وبالعدل قامت السماوات والأرض - وعلى الوالدين قدر الإمكان ألا يُظهرا الأولاد على خلافاتهم، وألا يكثروا من الشجار والخصومة بحضرتهم، فذلك مؤثرٌ على نفسياتهم، وقد يؤثر في سلوكياتهم. ومن أخطائنا: تخويف أطفالنا تخويفًا وهميًا حتى يستجيبوا لمطلبنا، ولكن هذا التخويف قد يخلف آثارًا سيئة على مستقبلهم. ومن أخطائنا: ضعفُ النساء - إلا ما ندر - في تربية الأطفال على معالي الأمور، واشتغالهن أكثر بملبسه وشكله وطعامه، وليتهن يقتدين بالأمهات السابقات، ومن نماذجهن أمُّ سفيان الثوري (فقيه العرب والمسلمين ومحدثهم) وقد ورد عن الإمام أحمد أن أمَّ سفيان قالتْ له: يا بنيّ، اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي، ثم كانت تتعهده بالنصح والتربية، فقد روى أحمد كذلك أنها قالت له يومًا: يا بني: إن كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادةً في ¬

(¬1) الحمد: التقصير في تربية الأولاد: 37.

خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك (¬1). أيها المؤمنون: وخلاصة القول: استجيبوا لنداء ربكم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (¬2)، وقدروا مسؤوليتكم مع أبنائكم «فكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته» وأدوا الأمانة التي ائتمنتُمْ عليها وارعوها حقَّ رعايتها، وإياكم أن تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون، أسأل الله العظيم ربَّ العرش الكريم أن يصلح نياتنا وذرياتنا، وأن يصلح أحوال المسلمين ويردهم إليه ردًّا جميلًا، وأن يحفظ شبابهم وشاباتهم من كل مكروه ومن كل فتنةٍ. ¬

(¬1) محمد الحمد: التقصير في تربية الأولاد: ص 45، 46. (¬2) سورة التحريم، الآية: 6.

الأزمات العالمية

الأزمات العالمية (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له .. أيها المسلمون: يمرُّ العالمُ اليوم بأزمات متعددة، وتُصاب الشعوبُ بنكساتٍ مروعة، ولا تزالُ تلهث بعيدًا عن هدى الله، فيتعاظم الخطبُ، ويتصاعد مؤشرُ الانحراف، وتطلق صيحاتٌ من هنا وهناك محذرةً من النهاية البائسة ... ولكن أين المجيب؟ إن الأزمة الاقتصادية التي يمر بها عالمُ اليوم واحدةٌ من نماذج هذه الأزمة الخانقة، ومن عجب أن توجد هذه الأزمةُ مع تضخم رأس المال، ومخزون النفط، وكثرة الإنتاج في مجال الزراعة والصناعة ووجود أسواق بيضاء وسوداء، ونحو ذلك من الأخذ بأسباب النموِّ الاقتصادي المعاصر ومع ذلك كلِّه فإن شبح الانهيار الاقتصادي يطارد الدول الكبرى، تُرى ما أسبابُ هذا الانهيار؟ يُحلل اقتصاديون متخصصون - وغيرُ مسلمين - هذا الانهيار بارتفاع سعر الفائدة، وكثرة المديونية، والعجز عن السداد، ويرون المخرج من هذا تقليل حجم الفائدة، وباختصار: فهم يرون الربا ومعاملاته الجائرة سببًا رئيسًا لهذا الفساد الاقتصادي المهدد بالسقوط. وهذه حقيقةٌ كشفها القرآن قبل ما يزيدُ على ألف عام حين أعلن اللهُ حربه على ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 1/ 8/ 1419 هـ.

المصرِّين على التعامل بالربا، وأنَّى لقوة - مهما كانت - أن تصمد لحرب الله، واللهُ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬1). إنه جزءٌ من انتقام الله الذي وعد به المرابين: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬2)، {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (¬3). ويؤكد الذي لا ينطق عن الهوى في سنته، أن عاقبة الربا إلى قلٍّ وإن توهم المرابون خلاف ذلك، وانخدعوا بالورم الخبيث، روى الحاكمُ بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الربا وإن كثر، فإن عاقبته تصير إلى قلّ» (¬4). والمصيبةُ أن يسير المسلمون في اقتصادهم مسيرة العالم الكافر ويربطوا اقتصادهم باقتصاده، وهم يتلون كتاب الله وفيه مخرجٌ لأزماتهم كلِّها، ومن بينها الاقتصاد، فهم يؤمنون أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، ويعتقدون أن ما عندهم ينفذُ وما عند الله باق، ويدركون السرِّ في قوله تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} (¬5)، وقوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬6). ولا يخالجهُم أدنى شكٍّ في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬7)، وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (¬8). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيتان: 278، 279. (¬2) سورة البقرة، الآية: 275. (¬3) سورة المائدة، الآية: 95. (¬4) صحيح الجامع: 3/ 186. (¬5) سورة التغابن، الآية: 17. (¬6) سورة البقرة، الآية: 280. (¬7) سورة الأعراف، الآية: 96. (¬8) سورة الطلاق، الآيتان: 2، 3.

أين هذا ممن لا يزالون يصرون على الربا ... وتنبت أجسادُهم وأجسادُ ذويهم على السحت، وأي جَسَدٍ نبت على حرام فالنار أولى به، ألا فلينتبه المؤمنون بربهم والتالون لكتابه عن الربا، وليتقبلوا عظة الله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1). أيها المؤمنون: وثمة أزماتٌ سياسيةٌ وعسكرية، لم تحلها المجالسُ الكبرى، والمنظمات العالمية، ولم تسهم مخزوناتُ الأسلحة العظمى بحلها، بل زادتها تعقيدًا، وكلما انطفأ الفتيلُ في مكان - أو كاد - وإذا به يشتعلُ في مكان آخر، وهكذا يختل الأمنُ وتتصاعد الأزمة، وتتقاسم الدولُ الكبرى النفوذ، وتتوازع المصالح ... فلا يزيدها ذلك إلا ضعفًا وانهيارًا وكرهًا من قبل الشعوب الأخرى. والمأساة أن المسلمين لا دور لهم يُذكر في إنشاء أو إطفاء هذه الأزمات الكبرى، بل ربما استنفرت طاقاتُهم، وحوصرت شعوبُهم، وربما خرجوا من المعركة بلا شيء أو بشيءٍ سلبي، وليتهم عادوا إلى إسلامهم، فسيجدون في كتاب ربهم حلًا لأزمة الأمن التي يدفعون ضريبتها في مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (¬2). إذا الإيمان ضاع فلا أمانٌ ولا دنيا لمن لم يُحيي دينا وسيظل المسلمون يشاركون غيرهم في الانتكاسة والخوف، ويهددونهم بالحروب حتى يعودوا إلى هويتهم، وينطلقوا من تعاليم دينهم: «إنَّ الله لا يُغَيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسِهم». إخوة الإسلام: أما أزمة الأخلاق التي يعيشها عالمُ اليوم فهي أزمة مدمرةٌ ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 275. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 82.

بكل المقاييس، أفل فيها نجمُ العفةِ والفضيلة والحياء، وأعلنت الفاحشةُ على الملأ وانتشر سوقُ المخدرات، وبات يُستعاض بها عن الحروب العسكرية الأخرى، وأصبح الغزو الفكريُّ فنًّا تمارسه الحضاراتُ الماديةُ على من سواها، فلم يُرع جانبُ الدين والخلق، ولم تُقدر الحضارةُ الإسلامية حقَّ قدرها، وأصبح أتباعُها - مع الأسف - يتوارون خجلًا عن الإفصاح عن هويتهم في المحافل الدولية والمؤتمرات الكبرى، إلا من رحم الله. معاشر المسلمين: ونتج عن هذه الأزمات العالمية وغيرها أن تأثرت بلادُ المسلمين، فشاع الفقرُ، وسُلِّط الأعداءُ على المسلمين، وفشا الموت، ومنعوا النبات وحُبس القطر .. أو أمطرت السماءُ ولم تنبت الأرض .. أو زاد حجمُ الأمطار .. فكانت الفيضاناتُ المدمرة، أو زادت نسبُ التصحر في البلاد المسلمة، فهلك الحرث والنسل، وكل ذلك بما كسبت الأيدي كما قال ربنا: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬1). وهو تحقيقٌ لوعد الصدق الذي جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم وحذّر الأمة من آثاره فقال: «خمسٌ بخمس، ما نقض قومٌ العهد إلا سُلّط عليهم عدوُّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقرُ، ولا ظهرت فيهم الفاحشةُ إلا فشا فيهم الموتُ، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأُخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حُبس عنهم القطرُ» (¬2). اللهم ألهمنا رشدنا، وبصّرْنا بمواطن الضعف في نفوسنا، وردنا إليك والمسلمين ردًا جميلًا ... وأعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم. ¬

(¬1) سورة الروم، الآية: 41. (¬2) رواه الطبراني عن ابن عباس بسند حسن، صحيح الجامع الصغير: 3/ 113.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، وما بكم من نعمةٍ فمن الله، وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يبتلي الناس بالشرِّ والخير فتنة وإليه يرجعون. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، لم يتوفاه الله حتى دلَّ الأمة على كل خير، وحذرهم من كل شرٍّ، اللهم صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. عباد الله: يتبادر إلى أذهان الغيورين حين الحديث عن هذه الأزمات العالمية عدةُ أسئلة، ومنها: أين موقعُ المسلمين في هذه الأزمات؟ وهل يتوفر الصوتُ الإسلامي الداعي للإنقاذ؟ وما هي مسؤولية المسلمين في حلِّ أزمات إخوانهم المسلمين، إن أعياهم الحلُّ لأزمة العالم كلِّه؟ وبم يكون الحلُّ؟ إن سيطرة الجاهلية اليوم، وتنحية الإسلام عن القيادة سبقتها جاهلياتٌ أخرى، وفي أزمنةٍ متعددة، ودعونا نستقرئ أحداث التاريخ فيما مضى، وخاصة يوم بعث المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد عمت الجاهليةُ أنحاء الأرض، ونظر اللهُ إلى أهل الأرض - حينها - فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب - كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فكان الفسادُ العقديُّ، والوثنيةُ تضرب أطنابها، ليس في عالم الفرس والروم فحسب - بل وبجوار بيت الله الحرام، والأزماتُ الاقتصادية والعسكرية على قدم وساق، إذ يشيع الربا وأكل أموال الناس بالباطل، ليس فقط عند أهل الوثنية الجاهلية، بل يشاركهم أهلُ الكتاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ

وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1)، {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (¬2). أما الأزمات العسكرية فشاهدُها اشتعال الحروب لأتفه الأسباب، وربما امتدت الحربُ عدة عقود، فأفنت الرجال وسبيت الذرية - وربما كان لأهل الكتاب دورٌ في هذه الحروب - وكانت الجزيرةُ وما حولها مسرحًا للنهب والسلب، لغةُ القوة فيها هي السائدة، ويعبرُ عنها الشاعرُ بقوله: ونشرب إن وردنا الماء صفوًا ويشربُ غيرُنا كدرًا وطينًا وبعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم وفارسُ والروم تسيطران على أطراف الجزيرة وما حولها ... ولربما قال قائل: وما موقع المسلمين المستضعفين المطاردين في هذا العالم المسيطر؟ ومع صدق الانتماء، وقوة اليقين، وشحذ الهمم والتربية الجادة من قبل محمد صلى الله عليه وسلم تأسست شجرةُ الإيمان وصُقلت مواهبُ المؤمنين ... وبدأ البساطُ يسحب من تحت أقدام الكافرين شيئًا فشيئًا حتى شمل نورُ الإسلام المعمورة ودخل الناسُ في دين الله أفواجًا، لا يضير المسلمين في هذا أن يقدموا عددًا من الشهداء، أو تمر بهم عددٌ من الأزمات فيتجاوزوها، وهنا أُذكر بواحدة من الأزمات الاقتصادية التي مرت بالمسلمين في عهد الراشدين، وكيف تجاوزوها وتعامل معها الفاروقُ رضي الله عنه بمساعدة المسلمين له، إنها أزمةُ المجاعةِ في السنة السابعة عشرة للهجرة، أو ما يُعرف بعام الرمادة، تلك التي قال الطبريُّ في وصفها: كانت الرمادةُ جوعًا أصاب الناس بالمدينة ومن حولها فأهلكهم، حتى جعلت الوحوشُ تأوي إلى الإنس، وحتى جعل الرجلُ يذبح الشاة فيعافها من قُبحها، وإنه لمقفر (¬3)، وحتى أن الأعرابي ليردُ إلى المدينة فيقسم ما أكل ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 34. (¬2) سورة النساء، الآية: 4. (¬3) التاريخ: 4/ 223.

سمنًا ولا زيتًا، ولا أكلًا منذ كذا وكذا (¬1) ... وحينها تعامل الفاروقُ مع الحدث بكل جديّةٍ وعدالة وصدق، فبعث أمراءه إلى الأمصار يستغيثهم ويستمدهم، ولربما كتب في الكتاب الواحد (الغوث الغوث مائتي مرة)، وأدرك أمراءُ الأمصار صدق عمر فصدقوا في الاستجابة معه، وقد جاء في ردِّ أحدهم: لُبيت، لبيت، لبيت يا عمر، أتاك الغوث، بعثتُ إليك عيرًا أولُها بالمدينة وآخرها بالشام (¬2)، وما بالُ هؤلاء لا يستجيبون للنداء، وقد ضرب عمرُ بنفسه نموذجًا رائعًا في مشاركة المسلمين في أزمتهم، فلقد حلف لا يأكل عمرُ سمنًا ولا لحمًا حتى يحيا الناس ولربما أشحبّ لونه، أو سمع قرقرة لبطنه، فألزمها الجوع والصبر حتى تنكشف الغمةُ عن المسلمين؟ ولقد رؤي الفاروقُ عند جماعة من الناس أقدمهم الجوعُ وبلغ بهم الجهدُ مبلغه، ومعهم جلدُ ميتة مشوية يأكلونه، فما كان من عمر إلا أن نزل وطرح رداءه، ثم طبخ لهم حتى طعموا وشبعوا ... (¬3) لقد بلغ عمرُ من الاهتمام بأمر المسلمين مبلغًا قدَّره له الصحابةُ والتابعون حين قالوا: «لو لم يرفع الله المَحْلَ والرمادة لظننا أن عمر يموت همًّا بأمر المسلمين» (¬4). وهكذا يكون الاهتمام بأمر المسلمين! ومع الجهود التي بذلها عمرُ والمسلمون معه عام الرمادة، فلم ينس عمرُ ربَّه في الدعاء لتفريج الكربات، ولقد أشير عليه أن يستسقي بالمسلمين، فخرج عمرُ بالمسلمين لصلاة الاستسقاء، فصلى بهم ودعا دعاءً كثيرًا، واستغفر حتى رؤيت الدموعُ تسيل على خديه، وقد بكى الناس معه، وكان يقول: لقد طلبتُ الغيث بمجادف السماء ¬

(¬1) ابن سعد: الطبقات: 2/ 212. (¬2) عمر بن شبَّة، تاريخ المدينة: 2/ 243 .. (¬3) ابن سعد: الطبقات: 2/ 314. (¬4) ابن سعد: الطبقات: 2/ 315.

التي بها يُستنزل المطر، ثم قرأ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (¬1) (¬2)، هذا فوق تضرع عمر في خلواته وداخل بيته في هزيع الليل، وقد سمعه ابنه يومًا يقول في دعائه: «اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي» (¬3). وكذلك يمثل عمر نموذجًا للخليفة الصالح، والرجل الناصِحِ لنفسه وأمته، والمقتدر على المشاركة في حل الأزمة، وتفعيل الأمة لحلها. وكذلك تخرج الأمةُ من الأزمات بصدق التوجه إلى الله، والجدية في العمل والتعاون على البر والتقوى. ¬

(¬1) سورة نوح، الآيتان: 10، 11. (¬2) الطبري: 4/ 225، الطبقات: 3/ 320. (¬3) الطبقات: 3/ 320.

أذية المسلمين

أذية المسلمين (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره. إخوة الإسلام: يُشيع الإسلامُ المحبة بين المسلمين، وتوثق شرائعُه روابط الودِّ بين المؤمنين، وتنهى تعاليمُه عن كلِّ ما يَخِلُّ بتآلفهم وصفاء نفوسهم، ولكن الشيطان قاعدٌ للإنسان بأطرقه كلِّها ينزغ، ويوسوس، ويؤز، ويؤلب، وينصب رايته في الإفساد هنا وهناك، ولئن كان كيدُ الشيطان ضعيفًا، فما أكثرُ الناس ولو حرصت بمؤمنين، وقليل من عباد الله الشكور. إن أذية المسلم بأي شكل كانت، وبأي وسيلة تمَّت، هي من نزغات الشيطان، وهي استجابة يضعُفُ فيها الإنسانُ، وينسى فيها أو يتناسى رقابة الرحمن، وهي بلاء يُبلى بها بعضُ الناسي، ويبتلي الله بها آخرين. وإذا كانت أذيةُ الذميِّ (غير المسلم) منهيًّا عنها في شريعة الإسلام، فما الظنُّ بأذية المسلم لأخيه في الإسلام؟ جاء في الخبر: «من آذى ذمِّيًا فأنا خصمُه يوم القيامة». أما أذية المؤمن فقد عَظَّم اللهُ أمرها، ورتَّب العقوبة عليها فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (¬2)، والمعنى - كما قال ابن كثير رحمه الله: أي ينسبون إليهم ما هم برءاءُ منه، لم يعملوه ولم يفعلوه، ثم ساق الخبر عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 17/ 7/ 1419 هـ. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 58.

لأصحابه: أيُّ الربا أربى عند الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «أربى الربا عند الله استحلالُ عرض امرئٍ مسلم، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ... الآية (¬1). لقد أعلنها رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم صريحةً مجلجلةً: «كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمُه، ومالُه، وعرضُه»، بل صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه صعد المنبر فنادى بصوت رفيع قال: «يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يُفض الإيمانُ إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورته، ومن يتَّبعِ الله عورتَهُ يفضَحْه ولو في جوف رَحْلِه» (¬2). وفي «صحيح سنن الترمذي» أن ابن عمر نظر يومًا إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمنُ أعظمُ حرمةً عند الله منك (¬3). أيها المسلمون: ما أحوجنا إلى هذا الفهم لقيمة أعراض المسلمين وحرماتهم ... ومن لم يخشَ عقوبة الآخرة فلينتظر عقوبةً معجلةً في الدنيا، فيفضحه اللهُ في جوف رحله، نسأل الله السلامة والعافية؟ قالت أعرابيةٌ توصي ولدها: «إياك والتعرض للعيوب فتُتخذ غرضًا، وخليقٌ ألا يثبت الغرضُ على كثرة السهام، وقلما اعتورت السهامُ غرضًا حتى يهي ما اشتدَّ من قوته» (¬4). وقال الأحنفُ بن قيس رحمه الله: «من أسرع إلى الناس فيما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون». ¬

(¬1) تفسير ابن كثير: 3/ 854. (¬2) صحيح سنن الترمذي: 2/ 200. (¬3) 2/ 200. (¬4) الحمد: سوء الخلق: 107.

ومن دعا الناس إلى ذمِّه ذمُّوه بالحقِّ وبالباطل إنها أخلاق السوءِ - نعوذ بالله منها - تجر أصحابها إلى الإساءة للآخرين إن بحقٍّ أو بباطل ... وتسري آثارُهم المدمرة لتدمر ما حولها، ثم تعود لتدمر نفسها في النهاية، وكذا تفرق النميمةُ بين الأحبة، وتفرق الأمة المجتمعة. ومن نمَّ في الناس لم تؤمن عقاربُه ... على الصديق ولم تؤمن أفاعيه كالسيل بالليل لا يدري به أحدٌ ... من أين جاء ولا من أين يأتيه فالويلُ للعهد منه كيف ينقضهُ ... والويلُ للودِّ منه كيف يُفنيه (¬1) يا عباد الله: إيّاكُمْ والسخريةَ بالآخرين، والتجسسَ عليهم، وسوء الظن بهم، فذاك من الأذى المنهيّ عنه في كتاب الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (¬2). أيها المسلمون: ومظاهرُ الأذية للمسلمين لا تقف عند حدِّ الاعتداء على الأعراض - مع خطورتها وعظيم جرمها، وقبح آثارها - فهناك مظاهرُ أخرى للأذى ومنها أذيةُ المسلمين في بيوتهم كالمعاكسات الهاتفية، وكمن يتصل هاتفيًا في ساعات محرجة، فإذا فُزع أهل البيت وأجابوا النداء وإذا بالسماعة تُغلق في وجوههم، ولربما أصابوا دعوةً فتحت لها أبوابُ السماء ... فهل هذا من خُلُق الإسلام، أم هو نوعٌ من الأذى؟ ¬

(¬1) ابن حبان، روضة العقلاء ص 294، 295. (¬2) سورة الحجرات، الآيتان: 11، 12.

وفي (أدب الهاتف) قال فضيلةُ الشيخ بكر أبو زيد عن هذه الاتصالات والمعاكسات: فهذا وايمُ الله حرامٌ حرام وإثمٌ وجناح، وفاعله حريٌّ بالعقوبة، فيخشى أن تنزل به عقوبةٌ تلوث وجه كرامته» (¬1). وقد تكون الأذية للمسلمين في الشوارع والطرقات، فالقيادةُ المتهورة، وحركاتُ التفحيط البهلوانية، ورفعُ أصوات الغناء عند الإشارات المرورية - دون ذوق أو حياء أو تقدير لمشاعر الآخرين - كلَّ ذلك أذيةٌ للمسلمين. كما أن من الأذية للمؤمنين والمؤمنات الجلوسَ في الطرقات للنظر في النساء، أو تصيد الشباب الحسان، أو التعرض للفتيات حين خروجهن من مدارسهنَّ، ومن قُدر له الجلوسُ في الطرقات لغرض صحيح فلا بد أن يعطي الطريق حقه. والمماطلة في أداء الحقوق المستحقَّة نوع من الأذية، ويبلغ الأذى مبلغه بقتل النفس المعصومة بغير حقٍّ. عباد الله: وقد يتحول الأذى إلى المسلمين في مساجدهم، كمن جاء للمسجد وفي فمه رائحةٌ كريهةٌ من ثوم أو بصل أو كراث أو دخانٍ أو نحوها ... أو في بدنه أو في ملبسه ما يُستنكر ويُستقذر وهو قادرٌ على إزالته، ودعوة القرآن: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬2)، والذين يحضرون أطفالًا يلعبون في المسجد ويزعجون ويشغلون المسلمين عن عبادتهم وخشوعهم، يؤذون المسلمين وإن كان قصدُهم حسنًا، والذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ليصل إلى مكان متقدم مع تأخره في المجيء يؤذي، وكذا أن يحضر أطفاله فيتحدثون والإمام يخطُب يؤذي الآخرين ويشوش عليهم. فتنبهوا معاشر المسلمين لهذا كله. ¬

(¬1) ص 31، 32. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 31.

أيها المسلمون: وثمة أذيّةٌ للمسلمين في الأماكن والمحافل العامة، كمن يشرب الدخان في أماكنَ التدخين ممنوعٌ فيها، أو يجاهر بمعصيةٍ ليستفز المشاعر، أو يطلق عباراتٍ لا زمام لها ولا خُطام حين يُقدر له الحديثُ نيابةً عن الآخرين، والله يقول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} (¬1) ويقول: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبيِنًا} (¬2). اللهم جنبنا الزلل في القول والفعل، واصرفنا واصرف عنا الأذى، وعن إخواننا المسلمين. ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 152. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 53.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، فرَّق بين الناس في أخلاقهم وتعاملهم، كما فرّق بينهم في أشكالهم وأرزاقهم، فجعل منهم مفاتيح للخير مغاليق للشر، وجعل آخرين بضدهم، وهو العليمُ الحكيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كما أمر بحسن عبادته، أمر بالإحسان إلى خلقه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، قال للناس يوم الحجِّ الأكبر - فيما قال -: «إلا أن المسلم أخو المسلم، فليس يحلُّ لمسلمٍ من أخيه شيءٌ إلا ما أحلَّ من نفسه ... » (¬1). اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. عباد الله: وأذيةُ الجار لجاره نوعٌ من الأذى المنهيِّ عنه، فللجار المسلم حقُّ الجوار، إضافةً إلى حقِّ إخوة الإسلام، وسواء كان ذلك بإسماعه ما يكره، أو تتبع عوراته، أو إفشاء أسراره، أو تخوينه فيما هو مؤتمنٌ عليه، وبالجملة فـ «لا يدخل الجنةَ من لا يأمن جاره بوائِقَه» رواه مسلم عن أبي هريرة: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ... » رواه أحمد واتفق عليه الشيخان وغيرهم (¬2). ألا واحذروا الأذية للخدم والسائقين، والعمالة المستقدمة والمكفولين، واعلموا أن أذيتكم لهم تحفر في قلوبهم الكره لكم ولدينكم وإن كنتم لا تشعرون، واجعلوا من هؤلاء سفراء لبلادكم ودعاةً إلى الله في بلادهم بحسن تعاملكم وطيب أخلاقكم، ولئن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمر ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير: 6/ 279. (¬2) صحيح الجامع: 5/ 347.

النعم، ومَنْ سنَّ في الإسلام سُنةً حسنةً، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سنةً سيئةً فعليها وزرُها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ولا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق. أيها المسلمون: وإذ عرفنا حُرمة أعراض المسلمين، وليس أقلَّ منه دماؤهم وأموالُهم، وألمحنا إلى أنواع من الأذى - ينبغي للمسلم أن يترفع عنها. فما موقفُ المؤذي ممن تَعَرَّض له بالأذى؟ لا بد له من الصبر، والصبرُ على ما يصيب المسلمَ من عزم الأمور، ولا بد من احتساب الأجر، والثقة بعدل الله وجزائه إن في الدنيا، أو في الآخرة وهو أعظمُ وأبقى. ولا بد من الحِلْم مع من يؤذي، وعدم مجاراة الجهول بجهله، وقد قيل: إذ أنا كافيتُ الجهولَ بفعله فهل أنا إلا مثلُه إذ أحاوره ولكن إذا ما طاش بالجهل طائشٌ عليَّ فإني بالتحلُّم قاهرُه وقال آخر: احفظ لسانك إن لقيتَ مشاتمًا ... لا تجرينَّ مع اللئيم إذا جرى (¬1) من يشتري عرض اللئيم بعرضه ... يحوي الندامة حين يقبض ما اشترى ومن الأمور التي تحسنُ بمن أوذي تجاهُل المؤذي، حتى لا يضيع الوقتُ سدى في الهراش معه، وحتى لا يشيع ذكرُه، وقد يكون تجاهلُه أقصر الطرق لسقوطه ونهايته وأخمل لذكره، وكم هو جميلٌ قولُ القائل: ولقد أمرُّ على اللئيم يسبُّني ... فمضيت ثَمّةَ قلتُ لا يعنيني وأجملُ من ذلك ألا يحمل الحقد أو الاشتغال بمعايب من آذاه، بل يدفع عنه ¬

(¬1) ابن حيان: روضة العقلاء: 347، 348.

على حدِّ قول القائل: إذا قدحوا لي نار حربٍ بزِندِهم ... قدحتُ لهم في كل مكرمة زندا وإن أكلوا لحمي وفرْتُ لحومَهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا ولا أحملُ الحقد القديمَ عليهمٌ ... وليس رئيسُ القوم من يحمل الحقدا لا شك أن هذه مرتبة عليّةٌ لا يستطيعها إلا عظماءُ الناس؟ إخوة الإيمان: وعلى من أوذي ثم اعتُذر إليه أن يقبل العذر، سواء كان المعتذرُ صادقًا أم كاذبًا، وفي هذا روي الحديث: «من اعتذر إليه أخوه بمعذرة فلم يقبلْها، كان عليه من الخطيئة مثلُ صاحب مُكْسٍ» (¬1). والحديث وإن ضعّفه العلماء فقد قالوا بقبول عُذرِ المعتذر، قال أبو حاتم بن حبان: «ولا يخلو المعتذرُ في اعتذاره من إحدى حالتين: إما أن يكون صادقًا في اعتذاره، أو كاذبًا، فإن كان صادقًا فقد استحق الغفران؛ لأن شرَّ الناس من لم يُقل العثرات ولا يستر الزلات، وإن كان كاذبًا فالواجبُ على المرء إذا علم من المعتذر إثم الكذب وريبته، وخضوع الاعتذار وذلته، ألا يعاقبه على الذنب السالف، بل يشكر له الإحسان المحدث الذي جاءه به في اعتذاره، وليس يعيب على المعتذر إن ذلَّ وخضع في اعتذاره إلى أخيه، وأنشد بعضهم: أليس اللهُ يُستعفى فيعفو ... وقد ملك العقوبة والثوابا أيها المؤذي ومن كمال عقلك وصلاح دينك ودنياك أن تتخذ من نيل الآخرين لك فرصةً لإصلاح عيوبك وتسديد نقصك، فلا يُستعانُ على العدوِّ بمثل إصلاح العيوب، وتحصين العورات، فلا تتضايق من كل نقدٍ يوجه إليك وإن كان فيه ¬

(¬1) روضة العقلاء/ 303، ضعيف الجامع الصغير: 5/ 71.

حق، وليكن سبيلك سبيل من قال: «رحم اللهُ من أهدى إليَّ عيوبي» (¬1). يا أخا الإسلام: إياك والأذى لعباد الله بأي نوع من الأذى، فأعراضُ المسلمين كالميتة، ولحوم العلماء مسمومة، وليس يخفاك أن الله يعفو ويصلح ويغفر، أما الخلق فستطلب حقها منك في يوم لا تملك فيه إرضاءهم بالدرهم والدينار فيؤخذ لهم من حسناتك، فإن فنيت قبل قضاء حقوقهم أخذ من سيئاتهم فطرحت عليك ثم طرحتَ في النار، وذلك منتهى الخزي والخسران، كن عنصرًا نافعًا في المجتمع تجمع وتؤلف وتصلح، ولا تفرقْ وتفسد، وما بالأمة المسلمة حاجةٌ لمزيد الفرقة، وحاجتُها إلى الألفة والوحدة والتعاون على الخير ودفع الشرور لا تقلُّ عن حاجتها إلى الطعام والشراب، اللهم اجمع شمل المسلمين، ووحِّد كلمتهم على الهدى والدين، اللهم اقطع دابر المفسدين، اللهم لا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا ... ¬

(¬1) روضة العقلاء: 306، 307.

(1) الأخلاق الفاضلة

(1) الأخلاق الفاضلة (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له. إخوة الإسلام: والبرُّ حُسن الخلق. وما فتئ المرسلون عليهم السلام يدعون الناس لمكارم الأخلاق ويحذرونهم من مساوئها، حتى جاء محمدٌ صلى الله عليه وسلم ليُتممَ مكارم الأخلاق، ويقول: إنما بعثت لأتمّمَ مكارم الأخلاق. وجاءت شريعةُ الإسلام داعيةً لكلِّ خلقٍ كريم، وناهيةً عن كلِّ خلق ذميم، وبعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، يأمر أُمته بالمعروف ويحل لأمته الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. أما هو فوصَفَهُ ربُّه بكمال الخلق فقال: «وإنك لعلي خلق عظيم». وشهد له صلى الله عليه وسلم بحُسن الخلق القريبُ منه والبعيد، والعدوُّ والصديق، ولم يتمالك سيدُ بني حنيفة في زمنه، ثمامةُ بن أثال رضي الله عنه من الاعتراف بفضله، والشهادة بحسن خلقه، حتى أسلم، وكان قبلُ مشركًا محاربًا، ثم أعلن له إعجابه بشخصه وبدينه حين قال: يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجهٌ أبغض إلي من وجهك، وقد أصبح وجهُك الآن أحب الوجوه إليّ، والله ما كان على وجه الأرض دينٌ أبغض إليّ من دينك، وقد أصبح دينُك الآن أحبَّ الأديان إلي ... إلخ كلامه، رضي الله عنه. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 3/ 7/ 1419 هـ.

تُرى من أين نشأت هذه المحبةُ؟ وكيف انقلبت الموازين في حياة ثمامة؟ إنها مكارمُ الأخلاق، وأدبُ المعاملةِ، والعفوُ مع القدرة على الانتقام ... وإذا كانت تلك المعاملةُ مع الكافر فكيف ترون معاملته صلى الله عليه وسلم مع المسلم؟ ويكفي هنا أن نشير إلى مقولة أنسٍ رضي الله عنه: خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي أفٍّ قطُّ ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا، رواه مسلم. فإذا وضعت في الحسبان طول هذه المدة في الخدمة، وأن الخادم غلامٌ صغير - ومظنّةُ الخطأِ منه أكثر من الكبير .. أدركت كم هو عليه صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، وحسن المعاشرة. معاشر المسلمين: أين التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في حُسن الخُلُق، ومَن منا يرغِّب الآخرين في الإسلام من خلال حسن خُلُقِه وطيب معاملته؟ وكم مِن المسلمين من يدعو للإسلام بسلوكياته الفاضلة وأخلاقه العالية قبل أن يدعو بلسانِه ومقالِه؟ إنها أزمةُ أخلاق يعيشها أعدادٌ كثيرةٌ من المسلمين، وكم يخسر العالمُ بانحطاط أخلاق المسلمين، فوق ما يخسره المسلمون أنفسهم. عباد الله: ومما يدعو إلى حسن الخلق فضلُه العظيم، ومكانةُ أصحابه عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، وبين الناس. فصاحبُ الخُلقِ الحسن من أكمل المؤمنين إيمانًا. رواه أبو داود والترمذي وصححه ابنُ حبان (¬1). وأصحاب الخُلُق الحسَنِ من خيار المسلمين: «إنَّ من خيركم أحسنِكم خُلُقًا» رواه البخاري في «صحيحه» (¬2). وإذا تنافس المتنافسون في الصلاة والصيام فينبغي كذلك أن يتنافسوا في ¬

(¬1) الفتح: 10/ 452. (¬2) الفتح: 10/ 425.

مكارم الأخلاق، وفي الحديث: «وإن صاحب حُسنِ الخُلُق ليبلغ درجةَ صاحب الصوم والصلاة» (¬1)، وإذا طاشت موازينُ العبدِ أثقلها حسنُ الخلق، يقول عليه الصلاةُ والسلام: «ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق» (¬2)، والجنة مبتغى العاملين المخلصين، وحُسن الخلق يوصل العبد إليها بإذن الله، «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: تقوى الله وحسنُ الخلق» (¬3)، ومع محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحاب الأخلاق الفاضلة فهم أقربُ الناس إليه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم: «إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا ... » (¬4). عبادَ الله: ولئن ضاقت أموالكم أن تسع الناس فسعوهم بأخلاقكم «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسنُ الخلق» (¬5). ويح المفلسين لا من الدرهم والدينار ... ولكن من رصيد الأخلاق، قال عليه الصلاة والسلام: «ولكن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناتُه قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» (¬6). ¬

(¬1) رواه الترمذي والبزار وأبو داود والحاكم وغيرهم الفتح 10/ 458. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والترمذي وصححه وغيرهما: 10/ 458. (¬3) أخرجه الترمذي وابنُ حبان وصححاه - الفتح: 10/ 458. (¬4) رواه الترمذي وحسنه - جامع الأصول: 4/ 6. (¬5) رواه البزار بسند حسن - الفتح: 10/ 459. (¬6) رواه مسلم: 2581.

يا أخا الإسلام: أتقدر هذا الموقف حقَّ قدره وأنت تتعامل مع الناس، ولربما أغواك الشيطان أو زين لك إخوانُ الشياطين فظننتَ أن التَّحيُّل على الخلقِ بالإساءة نوعٌ من الشطارة، وأن الغشَّ في المعاملةِ قدرةٌ فائقةٌ ... وويل لمن يأمنه الناس ظاهرًا، فإذا به يغدر بهم سرًا، وبئس أخو العشيرة من ودعه الناسُ اتقاءَ فحشِه، وأولئك شرُّ الناس منزلة عند الله، كما أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وما أعظم الخطبُ حين تسوء أخلاق أهل الديانة والفضل والعلم، وأعظم منه حين يمارس الخطأ ... ويسوء الخُلُق وصاحبُه يظن ذلك من الدين ... وأين حسنَ الخلق من تقطيب الجبين، أو من الشدة في معاملة الآخرين، أو الثورة العارمة لخطأ يقع من جاهل في الدين أو سفيه غرّه صلفُ الشباب - وتقويمُه ليس عسيرًا، وصلاحه ليس مستحيلًا؟ وينبغي أن يُفرق بن الغيرة لدين الله، والتصرف المحمود حيال المنكر وحسن المعاملة مع المخطئ - وقد يقود الإنكار الخالي من حسن الخلق إلى وجودِ منكر أبكر ... ولقد أوحي إلى خير البرية من ربه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (¬1). أيها المسلم: ومن حُسن خُلُقِك أن تفشي السلام على من عرفت ومن لم تعرف، وإذا كان سهلًا عليك أن تنبسط إلى أصحابك وخلانك ... فالامتحانُ في قدرتك على الانبساط مع الآخرين وحسن تعاملك معهم، وكونهم يألفونك وتألفهم، ويثقون بك ويأمنونك على أسرارهم، ولا خير فيمن لا يألف ولا يُؤلف. إخوة الإيمان: وتعجز الحضاراتُ المادية المجردة من تعاليم السماء وهدي ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 159.

المرسلين أن ترقى بأصحابها إلى معالي الأخلاق، مهما أوتوا نصيبًا من العلم في مظاهر الحياة الدنيا، ويأبى اللهُ لغير شرعه إلا أن يرتكس أصحابُه في حمأة الرذيلة، ويتمرغوا في أوحال الفساد ويسقوا كؤوسًا مرة في أنواع الجريمة وتكاثرها ... وكذلك الحالُ في واقع هذه الدول الكافرة وليس الخبرُ كالعيان. والمصيبةُ أن هذه الأخلاق الفاسدة من قبل هذه الدول الكافرة بدأت تغزو العالم الإسلامي، وعبر وسائل جديدة، وقلَّ من يتفطن لمخاطرها الخلقية في الحاضر والمستقبل. أجل: إن فضائيات اليوم في معظمها لا تستحي من نقل الصورة العارية والمسلسل الهابط، والفكر المنحرف، وكل ذلك معاولُ هدمٍ للقيم والأخلاق ... وهي جريمة كبرى بحق القيم والأخلاق يتولى كبرها الدولُ المصدرةُ لها. ولم يبعد عن الحقيقة من قال: «إن الحضارة الغربية ارتكبت أعظم جرم عرفه التاريخ بحقّ ثقافات العالم وشعوبه لتبني لنفسها حضارةً سلطويةً شرسة تتجه اتجاهًا كارثيًا مخيفًا، ربما يؤدي في النهاية إلى الدمار» (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬2). ¬

(¬1) روجيه جارودي، عن: نحو ثقافة إسلامية أصيلة، عمر الأشقر ص 8. (¬2) سورة الروم، الآية: 41.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله صفوة الخلق أجمعين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين. إخوة الإيمان: وبالأخلاق الكريمة جاءت شرائعُ السماء وبعث المرسلون لعلاج ما فسد من فطر الناس وأخلاقهم، وبالأخلاق الحسنة أوصى الحكماءُ أبناءهم. فمما أدرك الناسُ من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت، ولا شك أن الحياء من أساسيات الأخلاق الفاضلة. ومن وصايا لقمان لابنه: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (¬1). إن الخُلُق في منابع الإسلام الأولى - من كتاب وسنة - هو الدين كلُّه وهو الدنيا كلُّها، فإن نقصت أمةٌ حظًا من رفعة في صلتها بالله، أو في مكانتها بين الناس فبقدر نقصانِ فضائلها وانهزام خُلُقِها (¬2). أجل: إن الأخلاق عمادُ الأمم، وهي سببٌ مهم في تماسك الدول وبقائها. وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ ... فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا وعلى المسلمين أن يتنبهوا إلى قيمة الأخلاق في صراعهم الحضاري مع الأمم الأخرى ... وهل تستطيع أمة أن تثبت وجودها إذا أضاعت مقوماتِ شخصيتها؟ وانهارت أخلاقُها؟ ¬

(¬1) سورة لقمان، الآيتان: 18، 19. (¬2) الغزالي: خلق المسلم: 37.

ولا غرابة أن تنحى الدولُ الكبرى منحى جديدًا في حرب القيم والأخلاق في سبيل القضاء على خصومها ... وذلك أن هذا النوع من الحربِ أكثرُ أثرًا وأقلُّ خسارة من الحروب المادية. وعلى كل مسلم أن يتصور أنه كلما ضعف في انتمائه لدينه، وتمسُّكه بأخلاقه، فإنما يقلل بسلوكه هذا من جنود المسلمين، ويزرع جنديًا آخر غريبًا في بلاد المسلمين. إن فساد الأخلاق طريق لانتهاك الأعراض، وضياع الأموال، وقتل الأنفس بغير حق، وفي حسن الأخلاق ضمان بإذن الله للأمن، وانتشار الخير، وحصول الرخاء. عباد الله: وإذا كانت الأخلاقُ الكريمةُ بهذه المثابة من الأجر والأثر، فما أحرانا أن نتعرف عليها أو على شيء منها، ومن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فليجاهد نفسه على الإصلاح والاستقامة، وقد يطول بنا المُقام لو ذهبنا نحصي الأخلاق الكريمة: كالصدق والصبر والشجاعة والحِلْمِ والحياء، والكرم والرفق ونحوها؛ ولكن بعض العارفين أرجع هذه الأخلاق الفاضلة إلى أربعة أصول، هي: الصبر، والعفةُ، والشجاعة، والعدل، والسرُّ في ذلك - كما قيل - إن الصبر يَحْمِل صاحبه على الاحتمال وكظم الغيظ، وإماطة الأذى، والحلم، والأناة، والرفق وعدم الطيش والعجلة. والعفة تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل وتحمله على الحياء، وهو ركنُ كل خير، وتمنعه من الفُحشِ والبخل والكذب والغيبة والنميمة. والشجاعةُ تحمله على عزةِ النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم وعلى البذل والندى (¬1)، الذي هو شجاعةُ النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، ¬

(¬1) الجود.

كما تحمله الشجاعةُ على كظم الغيظ والحلم، وهذه هي حقيقة الشجاعة، فهي مَلَكةٌ يقتدر بها على قهر خصومه: «وليس الشديد بالصرعة، إنما الشديدُ الذي يملك نفسَه عند الغضب». أما العدلُ فيحمل صاحبه على اعتدال أخلاقه وتوسطه بين طرفي الإفراط والتفريط، فلا يُسرف ولا يُقتر، ولا يجبن ولا يتهور، ولا يغضب ولا يُهان ... وهكذا ... (¬1). يا أخا الإسلام: عُدْ إلى نفسك وتأمل قربك أو بعدك من هذه الأخلاق، واعلم أنها سببٌ للسعادة في الدنيا وطريق إلى الجنة في الآخرة، فيها رضى الله وقربٌ من الرسول صلى الله عليه وسلم وبها تحصل محبة الناس، والعكسُ بالعكس ... وفضل الله يؤتيه من يشاء: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (¬2). وهنا يرد سؤال مهم، هل يمكن اكتسابُ هذه الأخلاق الفاضلة ... أم أنها فطرية جِبلِّية يقسمها الله وهو أعلم وأحكم؟ وما الطريقُ لاكتساب الأخلاق الفاضلة؟ وما الأسباب في انتشار الأخلاق السيئة. كلُّ ذلك وغيره، أستكمل الحديث عنه في الخطبة القادمة بإذن الله. اللهم ألهمنا رشدنا، وأصلح أحوالنا، اللهم وكما حَسَّنت خَلْقَنا فَحسِّن خُلُقنا ... ¬

(¬1) انظر: عمر الأشقر: نحو ثقافة إسلامية أصيلة ص 164. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 69.

(2) الأخلاق الفاضلة طرق اكتسابها: أسباب ضعفها

(2) الأخلاق الفاضلة (¬1) طرق اكتسابها: أسباب ضعفها الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له. أيها المسلمون: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أوصني فقال: «اتق الله حيث كنت» قال: زدني، قال: «أَتبع السيئة الحسنةَ تمحُها» قال: زدني، قال: «خالق الناسَ بخُلق حسن» (¬2). وفي حديث آخر قال عليه الصلاةُ والسلام: «كَرَمُ المؤمنِ دينُه، وَحسَبُه حُسْنُ خُلُقِه، ومروءتُهُ عقلهُ» (¬3). وقال الحسن: من ساء خُلُقُه عذَّب نفسَه (¬4). وقال الفضيل: لأن يصحبني فاجرٌ حسنُ الخلق، أحب إليَّ من أن يصحبني عابدٌ سيئُ الخلق (¬5). ومن وصايا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «خالطوا الناسَ بالأخلاق وزايلوهم بالأعمال» (¬6). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 10/ 7/ 1419 هـ. (¬2) رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح - الإحياء: 8/ 1428. (¬3) رُوِي مرفوعًا، وموقوفًا عن عمر بإسناد صحيح - الإحياء: 1430. (¬4) السابق: 4/ 1433. (¬5) 4/ 1433. (¬6) السابق: 4/ 1433.

وقال الجنيد: أربعٌ ترفع العبدَ إلى أعلى الدرجات، وإن قلَّ عملُه وعلمُه: الحلمُ، والتواضع، والسخاء، وحسنُ الخُلُق، وهو كمالُ الإيمان (¬1). إخوة الإيمان: وحيث مضى حديثٌ عن فضلِ حسن الخلق وأثره، ونماذج من خُلقُه صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى أصول الأخلاق الفاضلة. فحديث اليوم يرتكز على ثلاث نقاطٍ أساسية: 1 - فطرية بعض الأخلاق واكتساب بعضِها. 2 - العوامل المؤثرة سلبًا في الأخلاق. 3 - العلاج وطرق اكتساب الأخلاق الفاضلة. أما فطرية الأخلاق، وإمكانيةُ تقويمها، فقد ذهب بعضُ الباحثين والفلاسفة إلى أن الأخلاق غرائزُ في النفس الإنسانية لا تقبل تقويمًا ولا تعديلًا، وهذه نظرةٌ خاطئةٌ، وقد استغلها من ثقلت عليه مجاهدةُ نفسهِ فراح يبرر لها ما هو مقيمٌ عليه من ذميم الأخلاق، بأنه ليس في وسعه تغيير ما طُبع عليه وجُبل. ولكن الصواب من القول أن من الأخلاق الكريمة ما يطبع عليه صاحبُه - فهذا يحمد الله على ما آتاه اللهُ من فضله، ومن الأخلاق الكريمة ما يُنال بالاكتساب والمجاهدة. وفي حديث أشج عبد القيس أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلمَ والأناةَ» قال: يا رسول الله قديمًا كانا فيَّ أو حديثًا؟ قال: «قديمًا» قال: الحمدُ لله الذي جبلني على خُلُقين يحبهما الله (¬2). قال ابنُ حجر في شرحه للحديث: فترديده السؤالَ وتقريره عليه يُشعر بأن في ¬

(¬1) الإحياء: 4/ 1433. (¬2) رواه أحمد والبخاري وغيرهما.

الخلق ما هو جبلِّي وما هو مكتسب (¬1). ويقول القرطبي مشيرًا إلى ما في الخُلُق من جبلةٍ وما يمكن أن يكتسب: الخُلُق جبلةٌ في نوعِ الإنسان وهم فيه متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها إن كان محمودًا، وإلا فهو مأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودًا، وكذا إنْ كان ضعيفًا فيرتاض صاحبه حتى يقوى (¬2). وفي حديث الغزالي في «الإحياء» عن الأخلاق، عقد فصلًا في (بيان قبول الأخلاق للتغيير بطريق الرياضة)، ومما قاله: (فلو كانت الأخلاقُ لا تقبلُ التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ، والتأديبات، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حسِّنوا أخلاقَكم»). وكيف يُنكر هذا في حقِّ الآدمي، وتغييرُ خلق البهيمةِ ممكن، إذ ينقل البازيُّ من الاستيحاش إلى الأنس، والكلبُ من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد، ولك ذلك تغييرٌ للأخلاق ... إلخ كلامه الطويل (¬3). عباد الله: ولو كان تقويم الأخلاق وتهذيبُها غيرَ مستطاع لكانت دعوةُ الشرائع إلى ذلك عبثًا لا طائل تحته - والشريعة الربانية تُنزَّه عن هذا، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ولا يحملها ما لا تطيق، وقد حثت الشريعة على كريم الأخلاق، كما أنه صحَّ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما العلم بالتعلم، والحِلْمُ بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعطه» (¬4). ¬

(¬1) الفتح 10/ 459. (¬2) نقله ابنُ حجر في الفتح 10/ 459. (¬3) الإحياء: 4/ 1438، 1439. (¬4) رواه الخطيبُ بسند حسنٍ عن أبي هريرة، انظر: الأشقر، نحو ثقافة إسلامية أصيلة: 163.

وفي هذا دليلٌ على إمكانية اكتسابِ الأخلاقِ الفاضلةِ، وترويض النفس عليها. إخوة الإسلام: وقبل أن أعرض للطرق المعينة على اكتساب الأخلاق الفاضلة، أقف عند العوامل المؤثرة على سوء الأخلاق، وكيف تتأثر القيمُ، وتنحدر الطباع. ومن أقوى العوامل المؤثرة على سوء الخلق: ضعفُ الإيمان بالله، وضعفُ اليقين بجزاء الآخرة، وهذا الصنفُ لا يهمه حسنت أخلاقُه أم ساءت، أما الذين يرجون لقاء ربهم فيدللون على ذلك بعملهم الصالحات، والأخلاقُ جانب مهم منها. والمتقون لو ضعفوا ومسَّهم طائف من الشيطان تذكَّروا فإذا هم مبصرون، ولا يتورع المجرمون والمفلسون عن ضرب هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، والتطاول على عرض ذاك، وهكذا تتراكم سوءات الأخلاق لمن لا خلاق لهم ولا يرجون لقاء ربِّهم ولا يطمعون في رفيع الدرجات. ومن العوامل: القرين، فله أثره على قرينه. ومن العوامل كذلك: حبُّ الدنيا، والطمعُ فيها والجشع، وكل ذلك يعمي صاحبه عن معالي الأمور والتعامل مع الناس بالحسنى، وكم وقع بين الناس بسبب ذلك من قطيعة وخصومة وتنافر، وشحناء، ولربما تسابقوا في سوء الخلق ورديء الكلام، وأين هذا من السخاء والكرم، والصبر والحِلْمِ والتواضع والصفح، والتعاون على الخير ... وغيرها من خلال كريمةٍ لا يُلقَّاها إلا الذين صبروا، وما يلقَّاها إلا ذو حظٍّ عظيم، ولو هانت الدنيا في قلوبهم لحسنت أخلاقُهم، وساد الودُّ والوئام بينهم، وإلى الله المشتكى. ثالثًا: ومن عوامل ضعف الأخلاق: ضعفُ الرادع، وغياب العقوبة أو

ضعفُها أحيانًا - إذ في النفوس من لا تردعها إلا العقوبة وسلطانُ الجزاء، وسواء كانت العقوبة حسيةً أم معنويةً - فكل ذلك وازعٌ ومهذبٌ للنفس، ويزعُ اللهُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وعذابُ الدنيا عند الجهلة أخوفُ من عذاب الآخرة. وقد تؤدي العقوبةُ المعنويةُ مثل أو أعظم ممّا تؤديه العقوبة الحسية، وهاكم نموذجًا من هديه صلى الله عليه وسلم في علاج رديء الأخلاق، أخرج الإمام أحمد في «مسنده» من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا اطلع على أحدٍ من أهل بيته كذب كذبةً لم يزل معرضًا عنه حتى يحدث توبة (¬1). وهذا أُسلوب تربوي في علاج الأخطاء على المربين أن يتأملوه ويعملوا به: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (¬2). ¬

(¬1) صحيح الجامع ح: 4675، المسند 6/ 152. (¬2) سورة العنكبوت، الآيتان: 5، 6.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، يحب الصابرين والمحسنين، ويجزي المتصدقين، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، أمر بالتقوى والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخَّابًا بالأسواق، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها المؤمنون: أما السبب الرابعُ من أسباب تلوّث الأخلاق ورداءتها، فهو ذلك الركامُ الهائلُ الذي تبثه وسائل الإعلام وتدمر به الأخلاق وتهدم القيم. وإنها لحرب أعنفُ وأمضى أثرًا من الحروب العسكرية، إذ كانت الحربُ فيما مضى قصرًا على الرجالِ المحاربين، أما هذه الحربُ الإعلاميةُ فهي شاملةٌ للنساءِ والأطفال، والشيوخ والشباب، وكنا في حروبنا مع أعدائنا فيما مضى ندافعهم حتى يسقط آخرُ سهمٍ بأيدينا، أما الآن فنحن نستجلب من الوسائل ما يدمرنا، ونفتعل حروبًا مدمرةً لأهلينا وأولادنا، داخل بيوتنا. عباد الله: أليست البرامجُ الهابطة المثيرة للغرائز سببًا في انتشارِ فواحشِ الزنا واللواط، أليست الصورة الفاتنة سببًا للسفور ودعوة لنزع الحجاب؟ أليست الثقافةُ المسمومة سببًا في الانحراف الفكري والتغريب الثقافي، وهكذا يتردى الناسُ في الفتن وتتلوث أخلاقهم وهم لا يشعرون، والفتنة أشدُّ من القتل ... والقتلُ - وإن كان بطيئًا - فهو أشدُّ أثرًا من الجراح في معركةٍ يتقابل فيها المحاربون. ألا فانتبهوا عباد الله لأثر هذه الوسائل المدمرة، وحصِّنوا أنفسكم ومَنْ تحت أيديكم من آثارها، ومن استرعاه اللهُ رعيًّة فمات وهو غاشٌّ لها لم يرح رائحة الجنة.

أيها المسلمون: ولئن سألتم عن العلاج وطرق اكتساب الأخلاق الفاضلة، فهي كثيرة ... ولكنها محتاجة إلى صدق ويقين وحزم وعزم ومجاهدة للنفسِ وترويضٍ لها. وهذه أولى القواعد، وهي منطلقة من قاعدة: «إنَّما العلم بالتعلم والحلم بالتحلُّم»، وكم أفلح المروضون لأنفسهم والمزكون لها: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (¬1). ولا بد ثانيًا من انتزاع معوقات اكتساب الأخلاق الفاضلة من النفس، فإذا كان الطمعُ والخوفُ من أهم هذه المعوقات فيمكن استبعادُهما بالثقة بما عند الله والتوكل عليه وحده. وهكذا ينبغي أن يُنتزع من النفس كلُّ خُلقٍ رديء يعوِّقُ عن اكتساب الخلُق الحَسَنِ. 3 - ومن الأمور المعينة على اكتساب الأخلاق الفاضلة، تقديرُ الأمور العامة في التربية والتأكيدُ عليها، فالأبوان مثلًا عنصرٌ مهم في التربية، وللعلماء دور في قيادة الأمة وتوجيهها، ويوم أن تسقط هيبةُ الوالدين عند الأولاد أو يقل تقدير العامة لأهل العلم فإن مؤشر الأخلاق ينحدر، وتُحطَّم الحواجز، ويقود السفينة غيرُ ربانها. 4 - وقراءةُ السير وتراجم النبلاء طريقٌ من طرق اكتساب الأخلاق، ويقال: تراجمُ الرجال مدارسُ الأجيال، ومعلومٌ أن الخير مُفرَّق بين الناس - قديمًا وحديثًا - فهذا حليم، وهذا شجاع، وذاك كريم، ورابع يضرب المثلُ بصبره ... وهكذا، والإطلاعُ على هذه في تراجم أصحابها يدعو الأجيال اللاحقة لمحاكاتها، ¬

(¬1) سورة الشمس، الآيتان: 9، 10.

فتتحسّن أخلاقهُم، وتتهذب سلوكياتهم، ويتصل أواخرُ هذه الأمة بأوائلها. 5 - وتقديرُ مشاعرِ الآخرين طريق لاكتساب الخُلق الفاضل، ومن جَليل الحكم: وآتِ للناس الذي تحبُّ أن يؤتى إليك، وأحبَّ للناسِ ما تحبه لنفسك. وصاحبُ هذا الشعور كلما همَّ بخلقٍ سيّئٍ للآخرين تذكر كرهَه هو لإساءة الآخرين له فأقلع عما هَمَّ به. 6 - والشكرُ والاعترافُ بما أنعم اللهُ به عليك طريقٌ مهم لاكتساب الأخلاق الفاضلة، ذلك أن في النفس شرهًا وكفرانًا للنعم لا تستقيم معه الأخلاقُ الفاضلة، وتقييدها بلجام الشكرِ لله على كل نعمة، وسؤاله المزيد من فضله، وتذكر من هو أقلَّ منه، أو من حُرم النعمة التي أُوتيها كل ذلك يهذب النفس من جانب، ويدعو لمزيد من النعم: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (¬1). 7 - ولا بد من الاعتدال والتوازن لمن يريد اكتساب الأخلاق الفاضلة، والحدُّ الوسطُ في الاعتدال كما قيل أن تُعطيَ من نفسِك الواجبَ وتأخذَه، وحدُّ الجور: أن تأخذه ولا تعطيه (¬2). 8 - وثمة أمرٌ مهم لاكتساب الخُلُق الفاضل ألا وهو الدعاء، فلا تجعل بينك وبين الله وسائط في سؤال أيِّ نعمةٍ، ومنها الخلق الحسن، وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم في استفتاح الصلاة: «واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت» (¬3). فإذا كان هذا دعاءَ من قيل له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬4)، فكيف يزهد غيره بالدعاء عامة وفي حسن الخلق خاصة؟ ! ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 7. (¬2) ابن حزم: الأخلاق والسير. (¬3) رواه النسائي بإسناد صحيح (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص 74، د. الأشقر، نحو ثقافة: 163). (¬4) سورة القلم، الآية: 4.

أفكار في التربية والتعليم مع بدء العام الجديد

أفكار في التربية والتعليم مع بدء العام الجديد (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬3). عباد الله: انقضت إجازةٌ تعد من أطول الإجازات، طويت فيها صحائفُ ورحل فيها عن الدنيا من رحل، وولد فيها من ولد، وأطلّ على الدنيا خلالها جيلٌ جديد، وعمّر من عمَّر: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (¬4)، ومن جانب آخر: كسب من كسب في هذه الإجازة بحفظ الوقت وصرف الأعمار بطاعة الله وطلب علم أو عمل مفيد لنفسه أو لمجتمعه أو للأمة من حوله، وفرّط من فرط بكثرة النوم، أو إضاعة الأوقات دون فائدةٍ، أو صرفها بما يضرُّ في دينه أو دنياه ... وكذلك يتفاوت الناسُ دائمًا في تقدير قيمة الزمن، ومستوى الهمم، وهيهات أن يعود الزمان بعد ذهابه، ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 30/ 5/ 1420 هـ. (¬2) سورة الحشر، الآية: 18. (¬3) سورة التوبة، الآية: 119. (¬4) سورة فاطر، الآية: 11.

وسيكون شاهدًا للمرء أو عليه ... وفي سرعة الزمن عبرةٌ موقظةٌ لذوي البصائر، إذ هو منبهٌ لقصر الآجال، وفناء الأعمار، وما الدنيا كلُّها بالنسبة للآخرة إلا قليل: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (¬1). أيها المسلمون: تلك وقفةٌ أولى حول انقضاء الإجازة، أما الوقفة الثانية، فهي التذكيرُ بالحاجة الملحة إلى وضع برامج مفيدة طوال فترة الإجازة، إذ من الظواهر التي لا تكاد تخفى على مُطَّلِعٍ ضياعُ أوقات الناس - وبخاصة الشباب - من الجنسين - بكثرة النوم أو بسفريات غير مدروسة الأهداف، وقليلة الفوائد، وحريٌّ بالمؤسسات التربوية، وبالمربين أن يدرسوا هذه الظاهرة ويفكروا في عددٍ من الوسائل لاستثمار أوقات الشباب بما يعود عليهم وعلى مجتمعهم بالنفع، إذ هم عماد الأمة مستقبلًا، وبإعدادهم وتربيتهم يكون تحدي الأمم، ويُصنع التاريخ، وبوركت الأمة تُعنى بشبابها وفتياتها، وتستثمر أوقاتهم وتُهيِّئُ الفرص النافعة لهم. إن المراكز الصيفية والدورات العلمية، والرحلات الهادفة وأمثالها وسائل في الطريق الصحيح لاستثمار الإجازة ولكنها غيرُ كافية، وغيرُ شاملة لعموم الشباب والشابات، وذلك يستدعي مزيدًا من التفكير، والتطوير في الوسائل والبرامج حتى تستوعب هذه البرامجُ أكبر عددٍ ممكن، وتَملأ أوقات الفراغ بالمفيد المنتج، وتسهم بإعداد جيلٍ قادر على التحدي، بل وعلى الصمود في مواجهة الحروب الباردة أو الساخنة، ثابتٍ على المبدأ الحق في زمن غزو الفضائيات، ومشاريع العولمة، ونحوها. أيها الشباب، أيتها الفتيات: وانقضت الإجازة وبدأ العامُ الدراسيُّ الجديد، ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 47.

فبأي همةٍ استقبلتم العام الجديد. والمؤملُ فيكم استقبالُ العام بجدية في التحصيل العلمي وإخلاص في طلب العلم، وتزينٍ بأخلاق العلم، وارتداء لَبُوسِ العلماء، ولا ينبغي أن يكون الهدف الأولُ والأخير من العلم الحصول على الشهادة، وتوفر الوظيفة ... فهذه وإن كانت مهمةً فالعلم أغلى وأجلُّ، ولئن دعت الحاجةُ في الدنيا إلى الوظيفة والعمل، فالحاجة أدعى إلى تعلم العلم الذي به يصل المرءُ إلى المنازل العالية في الجنة، وبالعلم النافع يعرف المرءُ ربَّه، وبه يتعلم أحكام الدين، وأدب التعامل مع الآخرين، ويكفي العلمَ فخرًا ورفعة أن يقول الله عن أصحابه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (¬1)، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2). وإذا كان العلمُ يرفع بيتًا لا عماد له، فالجهلُ يهدم بيت العز والشرف. أيها المربون أنتم مؤتمنون على التعليم وعلى رعاية المتعلمين، هيِّئوا الفُرصَ المناسبة لهم. واعتمدوا الانطلاقة من الثوابت والأصول في شريعة الإسلام، جدِّدوا في الوسائل التعليمية بما يساير العصر - واستحدثوا من البرامج التعليمية ما يجعل أبناءنا في مقدمة الركب، واجعلوا من التعليم أداةً للصمود في حرب العقائد وغزو الأفكار والقيم، فالأمة مقبلة على مستقبل مخيف، تتناوشه طروحات غريبة، ويمسك بالقيادة غير المسلمين. وفرقٌ بين تطوير التربية والتعليم بما ينفعُ الأمة في حاضرها ومستقبلها، وبين التضليل وعلمنة التعليم، فتلك هزيمةٌ مبكرّة، بل وانتقال من الاستعمار العسكري إلى الاستعمار الثقافي، وليس الآخرُ بأقلَّ خطرًا من الأول. إنها مأساةٌ حين تختلط في أذهان بعض المثقفين أو المثقفات حتميةُ العلمنة ¬

(¬1) سورة المجادلة، الآية: 11. (¬2) سورة الزمر، الآية: 9.

مع التطوير في أي جانب من جوانب الحياة، ومن أبرزها التربية والتعليم، ومأساةٌ أخرى حين يظُن آخرون أن من لوازم الأصالة نفيَ التطوير ولو كان سليمًا نافعًا، ولعل من المفيد أن نتذكر واحدةً من توصيات المؤتمر الأول للتعليم الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة عام سبعة وتسعين وثلاث مائة وألف للهجرة، وقد جاء في هذه التوصية: «لا قيود على العلم النظري أو التجريبي في التصور الإسلامي سوى قيدٍ واحدٍ يتصل بالغايات والمقاصد، فلا ينبغي أن يستخدم في إفساد العقيدة والأخلاق، كما لا يجوز أن يكون أداةً للإضرار والعدوان» (¬1). إخوة الإسلام: إن من الفساد والعدوان في تطوير المناهج أن تبرز نظريات في عالمنا الإسلامي تنادي بالمساواة بين المسلم واليهودي والنصراني، وتدعو إلى وحدة الأديان، والأخطرُ حين ينتقل إلى خطوات عملية، فتحذفُ من المناهج الدراسية آياتٌ قرآنيةٌ محكمة تتحدث عن اليهود أو النصارى بوصفهم أعداء للمسلمين، لا يجوز موالاتُهم، أو تُنكرُ نصوصٌ من السنة النبوية الصحيحة تحذر من التبعية لليهود والنصارى، وتكشف عداوتهم للمسلمين، أو تحذف الموضوعات المتعلقة بالجهاد في سبيل الله. أو نحو ذلك. وانكشفت بتعاليمه صلى الله عليه وسلم ضلالاتُ أهلِ الكتاب وتعسفهم وظلمهم وصدق الله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2). معاشر المسلمين: ومن الحقِّ والعدل أن نقولَ: إنَّ المناهج الدراسية في هذه ¬

(¬1) التطوير بين الحقيقة والتضليل د. جمال عبد الهادي، علي أحمد لين ص 7. (¬2) سورة المائدة، الآية: 15، 16.

البلاد المباركة تُعدُّ من أفضل المناهج في عالمنا الإسلامي، ورغم وجهاتِ النظرِ الغربية التي تطرح أحيانًا لتغيير المسار الآمن، فلا يزال عند المسؤولين قناعةٌ بأهمية التميِّز والأصالة في مناهج بلاد الحرمين، وبما لا يتعارض مع التطوير المثمر والتجديد للأحسن، ولا سيما ونحن في زمن باتت الدولُ تعنى بتراثها وتنطلق من أصولها العقدية والفكرية. ونحن في هذه البلاد نفخر بذكر تجربة في التعليم طبقت أول ما طبقت في بلادنا، ثم عمَّ نورُها الأرض من حولنا، تلكم هي التجربة الأولى في التعليم التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم بتوجيه رباني: «اقرأ باسم ربك» وحينها كانت أمة العرب أمةً أميةً، وكانت الأمم من حولها تفاخر بعلمها وحضارتها، ولكن علمَ هؤلاء وحضارتهم أضاف إلى الكون ظلمةً وأسبغ على الشعوب الذلة والمهانة، وساد الظلم وأسنت الحياة، فبعث المعلمُ الأولُ بها الحياة من جديد، بمنهج رباني يقوم على تحرير الناس من كل عبودية سوى العبوديّة للهِ، وتعليم الناس ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وعلى أضواء هذا العلم الكاشف تلاشت الظلمات، وبدأ بساط الظلم والجهل يُطوى وانتشر الخير وعمَّ العدلُ.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله الذي أنزل على رسوله أول ما أنزل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (¬1). والصلاةُ والسلام على النبيِّ الأمي الذي عَلَّمَهُ ربُّه ما لم يكن يعلم، فعلَّمَ الأميين، وفاق بأدبه وخلقه وعلمه أهل الكتاب الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين. وبعد - إخوة الإسلام -: فمن الوقفات مع بدء العام الدراسي الجديد - وقفةٌ مع المعلمين والمعلمات تذكرهم بأمانة التعليم ومسؤولية التربية، وأهمية القدوة والإخلاص في الأداء، وربط المعلومة بالواقع، ومتابعة الطلاب والطالبات، وتشجيع النابهين وإعانة المتخلفين، وتقويم ما انحرف من سلوك، وعدم تكليف الطلاب والطالبات ما يشق عليهم أو أوليائهم. وهنا وقفةٌ أخرى يشترك في ضرورة التنبيه إليها إدارة المدرسة مع المعلمين، مع الأولياء، ألا وهي عدمُ المبالغة في تأمين الأدوات المدرسية، والإسراف في الطلبات إلى حد يرهق الأولياء، وربما كسر قلوب الفقراء الذين لا يجدون ما يوفرون به هذه المتطلبات من جانب، ويجدون إلحاحًا من أبنائهم وبناتهم على توفيرها من جانب آخر، ويدخل في هذا الجانب إسرافُ بعض الأولياء في النقود ¬

(¬1) سورة العلق، الآيات: 1 - 5.

التي يصرفونها لأبنائهم وبناتهم للفسحة بما يفوق حاجتهم، ويؤثر على نفسيات أبناء الأسر الفقيرة من زملائهم، وتحية للأولياء المقتصدين، ولو كانوا قادرين، واضعين نصب أعينهم مشاعر الآخرين، وهنا اقتراحٌ حريٌّ بالدراسة وهو دفعُ مبلغ من المال محدد من كل طالب وطالبة مع بداية الفصل، وتتولى المدرسة تأمين فسحةٍ يومية مناسبة لكل طالب وطالبة على حدٍّ سواء، فذلك يريحُ الأولياء من جانب، ويشعرُ الطلاب بالمواساة من جانب آخر، وربما كان فيه ترشيدٌ للنفقة من جانب ثالث، وتسهم المدرسةُ فيه بتأليف قلوب الطلبة والطالبات وإشراك بعضهم في خدمةِ بعض من جانب رابع ... وهكذا ... وكذلك الأدوات المدرسية لو أمكن تحديدُها من قبل المدرسة بشكل جماعي محدد ومقتصد لأراح الأولياء والمدرسة ... إنها مشكلةٌ أن يتعلق الطالبُ أو الطالبة بشكليات التعليم، ويتنافس الأولياء في تأمين أحسن الأنواع، أما لبُّ التعليم والهدفُ من التحصيل فلا نجد فيه مثل هذه المنافسة. وهنا أقف مذكرًا إخواني الطلاب وأخواتي الطالبات بمسألة غايةٍ في الأهمية، بل لعلها الهدفُ من التعليم أساسًا ألا وهي العملُ بالعلم واستثمارُ العلم وسيلةً لنهوض الأمة وتقدمها، وتلك مسألة لا ينفرد الطلاب في التنبيه عليها، بل هي جزءٌ من مسؤولية المعلمين والمعلمات، والآباء والأمهات ... فما قيمة العلم بلا عمل ... إن رسالة التعليم لا تعني في أهدافها وغاياتها أن يحمل الطلابُ والطالبات على عواتقهم كمًّا من المقررات طيلةَ فصلٍ أو عام ثم يرون أنهم يتخففون منها بأداء الإمتحان. إن رسالة التعليم لم تبلغ الغاية منها إذا حفَّظت طالبًا أو طالبة نصوصًا في أهمية الصلاة وكيفية أدائها وشروطها وواجباتها، فإذا بالطالب أو الطالبة لا يُصلي إلا قليلًا، أو يصليها على غير ما تعلمها، ووظيفة المعلم والمعلمة لا

تكتملُ بتلقين الطلبة والطالبات نصوصًا في برِّ الوالدين واحترام الآخرين، حين يوجد من بين المتعلمين والمتعلمات عددٌ من العاقِّين لوالديهم والمتعاملين بنوع من الفظاظة والشدة مع الناس من حولهم، وقلْ مثل ذلك عن بقية مفردات المناهج في النواحي السلوكية والخلقية، فلا بد من وعي وتأكيد على النواحي العملية وربط التعليم بواقع الطلاب والطالبات، ولا بد كذلك من مشاركة البيت في تطبيق ما تعلَّمه الدارسون والدارسات في المدرسة، ومثل ذلك يقالُ عن المناهج العلمية التطبيقية؛ إذ لا بد من تأمين المعامل الكافية في المدرسة، ولا بد من متابعة الجديد في التقنيات الحديثة، ولا بد كذلك من تأمين فرصٍ للتدريب خارج المدرسة، ولا بد من تحفيز النابهين على الاختراع ... وهكذا حتى لا تظلَّ الأمةُ المسلمةُ دائمًا عالةً على الآخرين في منتجاتها وسوقًا تروّج فيها بضائع الآخرين، وهي تمتلك عقولًا كعقول الآخرين أو أحسن، ولا تنقصها المادةُ المموّلة للإنتاج والاختراع. وهكذا نستثمر التعليم، ونرقى بمستوى المتعلمين، ونتجاوزُ الشكليات إلى الجواهر، دون أن نُخِلَّ بأصولنا ومنطلقاتنا الفكرية، أو نقعدَ عن مسايرة الركب في بناء الحضارة الحقّةِ، تلك أفكارٌ ووقفات أثق أن المسئولين في التعليم يقدرونها حقَّ قدرها، وأثق أنها لا تغيب عن بال المعلمين والمعلمات، ويطمع الأولياء أن يصل إليها أبناؤهم، ويود الطلابُ والطالبات لو استثمروا التعليم بشكل جيد ... ولكنها الذكرى، ولنتعاون جميعًا على تحقيقها، وبارك الله في جهدِ كلِّ عامل مخلص، وربّك لا يضيع أجر من أحسن عملًا. اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا.

كيف نودع عاما وبم نستقبل آخر

كيف نودع عامًا وبم نستقبل آخر (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله ربّ العالمين: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (¬2). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: {خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (¬3). وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، توفاه ربُّه بعد أن عمّره ما شاء واستكمل أجله، وعلّم أمته أن أعمارهم ما بين الستين إلى السبعين وأقلُّهم من يجوز ذلك، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬4). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (¬5). إخوة الإسلام: كيف نودع عامًا، وبم نستقبل عامًا آخر؟ سؤال يفرض نفسه هذه الأيام، تُرى كم هم الذين يشغل بالهم هذا السؤال؟ وكم من المسلمين لا يلفت نظرهم على الإطلاق هذا السؤال؟ إلا بفارق السنة الهجرية، أو تذكر ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 30/ 12/ 1419 هـ. (¬2) سورة المؤمنون، الآيتان: 79، 80. (¬3) سورة فاطر، الآية: 11. (¬4) سورة الحشر، الآيتان: 18، 19. (¬5) سورة الحج، الآية: 1.

العلاوة السنوية؟ ودعونا نحسن الظنَّ بالناسِ ونقول: إن فئةً من المسلمين يشغل بالهم هذا السؤال من ذواتِ أنفسهم، وفئةً أخرى قد تكون غافلةً لكنها إذا ذُكرت تذكرت ... ولنعد إلى السؤال: بم نستقبل وكيف نودع؟ إن نهاية عام تعني ذهاب ثلاث مئة وستين يومًا من عمر الإنسان، وتلك تحوي أعدادًا كثيرةً من الساعات وأضعافها من الدقائق والثواني، كما تحوي عددًا من الأعمال دقت أو جلت، صلحت أم خبثت، وتحوي في طياتها عددًا من الخطرات، وأنواعًا من الهواجس، وألوانًا من الحركات ... وهذه فيها الصالحُ والطالحُ، وفيها ما هو في سبيل الله وابتغاءَ مرضاته، وفيها ما تهوي الأنفسُ وتلذ الأعينُ وإن كانت في غير مرضاة الله، ومخالفةً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. في هذه الأيامِ والساعاتِ والدقائقِ أعمالٌ صالحةٌ تُسرّ النفسُ لذكراها، ويود المرءُ لو كانت حياتهُ كلُّها على منوالها، وقد يكون فيها من أعمال السوءِ ما يودُّ صاحبُها أن يتناساها، ويرغب أنه لم يقترفها، ويوم القيامة يود لو كان بينه وبينها أمدٌ بعيدٌ ... تُرى هذه الأعمالُ والحركات والرصيدُ المتجمع خلال عام أليس خليقًا بالمحاسبة والتذكُّر؟ والمحاسبةُ النافعة هي التي تقود صاحبها إلى استدامة عمل الخير، وقصرِ النفس قدر المستطاع عن عمل السوء، والنظرُ في العواقب تلقيحُ العقول - كما قيل - ومن أقوال الحكماء: شيئان إذا عملت بهما أصبت خيرَ الدنيا والآخرة. تحملُ ما تكره إذا أحبه الله، وتتركُ ما تحب إذا كرهه الله (¬1). وقال العارفون: ما أحببتَ أن يكون معك في الآخرة فاتركه اليوم، وانظر كلَّ عملٍ كرهت الموتَ من أجله فاتركه، ثم لا يضرُّك متى متَّ؟ (¬2) ¬

(¬1) تهذيب سير أعلام النبلاء: 2/ 524، 525. (¬2) تهذيب سير أعلام النبلاء، ص 524.

كم تلهينا الدنيا وهي متاعُ الغرور، فتمر الأيامُ والأعوامُ سراعًا بلا تفكير، وكم تفتنَّا بزينتها، ومتاعُها في الآخرة قليل، وإن يومًا عند ربِّك كألف سنةٍ مما تعدون ... وكلُّ نفسٍ مصيرُها على الموت والفناء ... ولكن المهمَّ ما بعد ذلك: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬1)، وكم ننخدع بوساوس الشيطان، وقد عُصي فلم يضر، وأُطيع فما نفع ... ويوم القيامة يتبرأ من متبوعيه ويقول حين يُقضى الأمر: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬2). من قدوتُك في هذه الحياة؟ وما نوع الخليل الذي تتخذه لك صديقًا، والله يقول: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (¬3)، ويقول صلى الله عليه وسلم: «المرءُ على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل». هل تفكر جادًا في الموت وما بعده؟ عباد الله: وكم نتساهل بالذنوب وهي - كما قيل - مهلكاتٌ تفوّت على الإنسان سعادةَ الدنيا والآخرة، وتحجبه عن معرفة ربِّه في الدنيا، وعن تقريبه في الآخرة (¬4): {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (¬5)، ومصيبةٌ حين تتراكم علينا الذنوب ونحن لا نشعر، فيكون الرانُ على القلوب {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 185. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 22. (¬3) سورة الزخرف، الآية: 67. (¬4) الفتح: 11/ 106. (¬5) سورة الانفطار، الآيتان: 13، 14.

الْجَحِيمِ} (¬1)، ويرحم الله أقوامًا كانت ذنوبُهم قليلةً، وحياتُهم عبادةً وخشوعًا وزهدًا وورعًا، ومع ذلك يقول أحدُهم تورعًا وتواضعًا وخشية: «لو كان للذنوب ريحٌ ما جلس إليَّ أحد» (¬2) هكذا كان يقول محمد بن واسع الأزدي رحمه الله، الذي قال عنه سليمان التيمي رحمه الله: (ما أحدٌ أحبُّ أن ألقى الله بمثل صحيفته مثل محمد بن واسع) (¬3). يا عبدَ الله: كم في صحائفك الماضية من توبة واستغفار، والله يقول: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} (¬4)، ويقول: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬5). وفي الأثر: «طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا». وهذا سيدُ البشر المغفورُ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (¬6). كم تُراغم الشيطان بالتوبة، وكم تُحتُّ الخطايا بالاستغفار، فكيف إذا كانت التوبة واجبةً ثابتةً بنصوص الكتاب والسنة كما قرر العلماء؟ ! (¬7) وينسب للإمام أحمد رحمه الله قوله (¬8): لَهَوْنا عن الأيام حتى تتابعتْ ... ذنوبٌ على آثارهنَّ ذنوبُ فيا ليت أنَّ اللهَ يغفرُ ما مضى ... ويأذنُ في توباتنا فنتوبُ إذا ما مضى القرنُ الذي أنت فيهمُ ... وخُلّفتَ في قرنٍ فأنت فيهم غريبُ ¬

(¬1) سورة المطففين، الآيات: 14 - 16. (¬2) تهذيب سير أعلام النبلاء: 2/ 526. (¬3) السابق: 526. (¬4) سورة هود، الآية: 90. (¬5) سورة طه، الآية: 82. (¬6) رواه البخاري وغيره: 6307. (¬7) التوبة وسعة رحمة الله - ابن عساكر/ 12. (¬8) مناقب أحمد: 265، 266، طبقات الحنابلة: 1/ 83، سعة رحمة الله: 23.

عباد الله: وفي سبيل محاسبة أنفسكم في نهاية عام وابتداء عام، تذكروا أن أشقَّ شيء على النفوس جمعيتُها على الله، وهي تناشد صاحبها أن لا يوصلها إليه، وأن يشغلها بما دونه، فإنَّ حبسَ النفس على الله شديد، وأشدُّ منه حبسُها على أوامره، وحبسُها عن نواهيه، فهي دائمًا ترضيك بالعلم دون العمل (¬1). أيها المسلمون: ما أجمل الأعمار تختم بالتوبة والاستغفار، وسبيلُ المسلمين في ذلك أن نختم كلَّ عملٍ، وكلَّ مجلسٍ، وكلَّ خطأ أو ذنبٍ بالتوبة والاستغفار ... ولا يزال اللهُ يعفو ما أحدث العبدُ توبةً وندمًا واستغفارًا ... فإن نسيت التوبة أو فاتك الاستغفار في شيء من أيام العام، فلا يفوتنَّك ذلك في نهاية العام، فالأعمالُ بالخواتيم، وصحائف العام لم تُطْوَ بعد، فأشهد ربَّك على توبتك، ولا تصرَّ على صغيرة، أو تحقرن من الذنوب شيئًا وإن داخلك الشيطانُ بتعاظم ذنبك وعدم مغفرة ربك، فاعلم أن رحمة الله وسعت لكَّ شيء، والله يغفر جميعًا ... ربنا كريم يحب عبده إذا اقترب منه، ويمحو عنه زلاته، قال اللهُ عزّ وجلّ - في الحديث القدسي: «من عمل حسنةً فله عشرُ أمثالها أو أزيد، ومن عمل سيئةً فجزاؤه مثلها، أو أغْفِر، ومن عمل قُرابَ الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئًا جعلتُ له مثلها مغفرة، ومن اقترب إليَّ شبرًا اقتربت إليه ذراعًا، ومن اقترب إليَّ ذراعًا اقتربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» (¬2)، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (¬3). ¬

(¬1) المدارج: 3/ 143. (¬2) رواه أحمد ومسلم وغيرهما. (¬3) سورة الزمر، الآيتان: 53، 54.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله كلُّ شيء هالكٌ إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬1)، وأشهد أن محمد عبدُه ورسوله، أدركته سنةُ الله في المرسلين قبله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (¬2). اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أيها المسلمون: أما العامُ الجديدُ فهو صفحةٌ بيضاء ينتظر الحفظةُ الكاتبون ما أنتم عاملون، ألا فاستقبلوه بعزائم قويةٍ، ونية صادقة على فعل الخير، وسيحفظ لكم النقيرُ والقطمير، ولن تُكْفَروا من أعمالكم شيئًا: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} (¬3). تذكروا أن عامًا بأكمله سيُجزي الله فيه من الأحداث ما يجري ويقدر ما يشاء، ألا فاسألوه من خير هذا العام، واستعيذوا به من شروره وفتنه، فلا يَردُّ القضاءَ إلا الدعاءُ، وكم من فتنة حصلت؟ وكم من أمراض ومصائب وشرور حدثت في العام المنصرم؟ فإذا سلمكم الله منها فيما مضى فاسألوهُ أن يحفظكم منها، ويعيذكم من شرورها فيما تستقبلون من عامكم الجديد. استقبلوا العام الجديد بوضع عددٍ من التساؤلات والنقاط تحددون بها مساركم، وتقيِّمون فيها بُعْدكم أو قربكم من الخير، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فمن هذه النقاط في التقويم: ما نوع العلاقة مع الله؟ وما نوع العلاقة ¬

(¬1) سورة الرحمن، الآيتان: 26، 27. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 144. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 94.

مع الخلق؟ كيف أنت في العبادات؟ وكيف أنت في المعاملات؟ ما هي الخطيئة أو الخطايا التي لازمتك في عامك المنصرم وتنوي الخلاص منها في عامك الجديد؟ ما هي الفضيلة أو الفضائل التي فاتتك في عامك الماضي، وتفكر جادًا ألا تفوتك في العام المقبل؟ كيف أنت وفتنة الأهواء والشهوات والشبهات والفضائيات؟ ما قيمة الوقت عندك؟ وبماذا تستثمره؟ طاقاتك كيف تُصرف، وقدراتك بماذا تستثمر؟ ما نوع اهتمامك، هل تحمل همَّ الإسلام؟ وهل تستشعر قضايا المسلمين؟ وبماذا ساهمت فيها؟ ما مدى شعورك بانتصار الحقِّ وأهله؟ وما مدى أسفك لغلبة الباطل وكثرة المبطلين؟ هل تشكل الدعوة إلى الله جزءًا من حياتك؟ وما نصيب أهلك وأبنائك وذوي رحمك وجيرانك وزملائك وعموم المسلمين منها؟ هل تُجدد في أساليب دعوتك، وهل تتحرى الحكمة في قولك وفعلك؟ ما مدى قيامك بواجبك الوظيفي، وعلى أي نحوٍ تؤدي الأمانةَ التي أؤتمنت عليها في أي موقع كنت؟ حاسب نفسك في نوع مطعمك ومشربك، وملبسك، وماذا تسمع وتبصر، وبم تنطق، وماذا تُضمر في فؤادك: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (¬1). راجع نفسك في أداءِ الفرائض، وكم قدرُ الاحتياطي عندك في السُّنن، فهن مكملات لنقص الفرائض، مسدداتٌ للخلل، رافعات للدرجات، مكفرات للسيئات، ما نصيبك من ذكر الله؟ وكيف صلتك بكتاب الله؟ وكيف أنت والنفقات الواجبة والمستحبة؟ ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 36.

أيها المسلمون: هذه وأمثالها مراجعات يحسن بالمرء أن يراجع نفسه ويسألها عنها على الدوام ... وهي خليقةٌ بالمحاسبة مع انصراف عامٍ وبدء عامٍ، وإذا أخرجت لنفسك ميزانيةً في آخر العام عرفت قدر المكاسبِ فيها والخسران، وإذا علمت ذلك سددت وقاربت قدر الإمكان، وتلك الميزانية والمحاسبة، وربّي، أولى من غيرها في موازين الدنيا ومحاسباتها ... والغفلةُ تورث الهلكة ... وما أعظم الحسرةَ حين يرد الناسُ يوم القيامة بحسنات كالجبال، ويرد المفرِّطون الغافلون بالخيبة والخسران، يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون. عباد الله: نهايةُ عام وبدءُ عام مذكِّرةٌ بسرعة الأيام وانقضاء الأعمار، فإذا كانت الساعةُ تشكل قدرًا في أجل الإنسان، فكيف مما يزيد على ثمانية آلاف وست مئة ساعة في السنة، والله يقول: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (¬1). يا عبدَ الله: وبين عامٍ مضى وعام يوافي عبرٌ توقظُ الضمير الغافي، وهل نسيت أنه حصل في العام المنصرم عللٌ وأسقام، وفتن وهموم، وفقرٌ وحروب، وأمواتٌ رحلت، ودماءٌ أزهقت، وأطفالٌ ونساءٌ تأيمت ... فإذا سلمك الله من هذا كله فاحمد الله واشكره، واعلم أن ما تخطاك لغيرك سيتخطى غيرك إليك، فكن مستعدًا للقاءِ ربك، مغتنمًا شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، والكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني. ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 34.

أيها المسلم: ومما يفيدك في المحاسبة - بشكل عام - أن تنظر في أمور دينك إلى من فوقك فذلك أدعى لرفع همتك، وتنظر في أمور دنياك إلى من هو دونك حتى لا تزدري نعمة الله عليك. إخوة الإسلام: نهاية العام فرصةٌ للتأمل في المتغيرات التي تحصل في المجتمعات فما موقع المسلمين في خارطة العالم، وما نوع القوى التي تحظى بالنفوذ والسيطرة؟ إلى أين يسير الشباب؟ وماذا يراد للمرأة المسلمة؟ وماذا تصنع القنوات، وكم هي ضحايا الخمور والمخدرات؟ وكيف السبيل لتصحيح المسار، والوقايةُ خير من العلاج. {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬1)، {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (¬2). عباد الله: وهذا اليوم - الذي نحن فيه - هو اليوم الموفي للعام المنصرم، أو هو أولُ أيام العام الجديد، وإذ يوافق يوم الجمعة ومنه ساعة استجابة لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأل الله شيئًا من أمور الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه، فإنني أذكر نفسي وإخواني بقيمة الدعاء فيه، ولا سيما في آخر ساعة منه. اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا، واجمع كلمتنا على الحق والهدى، واغفر لنا ما سلف من ذنوبٍ وأخطاء فيما مضى من عامنا واجعل عامنا الجديد عام خير وبركة ونصرٍ للإسلام والمسلمين، اللهم أعنّا فيه على عمل الصالحات وجنِّبنا الموبقات والمهلكات. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 251. (¬2) سورة هود، الآيتان: 116، 117.

من أنصار المرأة؟

من أنصار المرأة؟ (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده. إخوة الإسلام: المسلم الحقُّ هو الذي يقبل أحكامَ الإسلام كلَّها، في حال يُسره وعُسره، ومنشطهِ ومكرهه، ولا يجعل لنفسه خيرةً فيما اختار الله، ولا يرتاب في صلاحية شرع الله لكل زمان ومكان، امتثالًا لقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬2). واستجابة لقوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬3). وعملًا وأدبًا لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (¬4). وليس من الإيمان في شيء التحاكمُ إلى غير شرع الله، بل من شروط الإيمان وصحته، التحاكمُ، والرضى، والتسليمُ، وعدمُ الحرج بحكم الله وشرعه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬5). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 6/ 2/ 1420 هـ. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 36. (¬3) سورة النور، الآية: 51. (¬4) سورة الحجرات، الآية: 15. (¬5) سورة النساء، الآية: 65.

إن دعوى الإيمان مع إرادة التحاكم إلى قوانين البشر وطواغيتهم، زعمٌ حَكَمَ القرآن ببطلانه، وفضح أصحابه، وحكم عليهم بالضلال، ومتابعة الشيطان بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (¬1). بل تلك سمةٌ من سمات المنافقين، إذ جاء بعدها قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (¬2). إنهما حكمان متباينان لا ثالث لهما: إما حُكمُ الله، أو حكم الجاهلية: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (¬3). أيها المسلمون: وتعالوا بنا لنطبق هذه القواعد الكُليَّة على قضايا المرأة المطروحة هذه الأيام - حتى لا نُخدع بأن الخلاف في قضايا فقهية، أو ندع غيرنا ليحدد لنا ميدان المعركة، فإن كان الزاعمون لتحرير المرأة مؤمنين حقًا بأحكام الإسلام وتشريعات القرآن، وهدي محمد صلى الله عليه وسلم فحسبُهم أن يُذكروا بالنصوص الآمرة والناهية والهادية للمرأة، وهي مبثوثة في كتاب الله، وفي سورتي «النور» و «الأحزاب» على الخصوص شيء عظيم، أما «سورةُ النساء» فحسبُ المرأة شرفًا - في الإسلام - أن تُسمى سورةٌ باسمهن، بل أكثر من سورة، هذا فضلًا عما في سورتي «النساء» و «مريم» من آداب وأحكامٍ تعجز النظمُ البشرية - على امتداد تاريخها - أن تبلغ شأوها .. وفي النبوة عدلٌ ووفاء، وبرٌّ ورحمة، ودعوةٌ للرفق بالنساء والوصية بهن ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 60. (¬2) سورة النساء، الآية: 61. (¬3) سورة المائدة، الآية: 50.

خيرًا، وعدم كسرهن وحسن العشرة لهن وإن كان بهن عوج، فإن كره منها خُلقًا رضي منها آخر ... وإن لم يرض أدعياءُ تحرير المرأة بهذا فالخلاف معهم في المنطلقات والأصول ينبغي أن يتفق عليها قبل بدء الحوار في الأمور الأخرى. عباد الله: وهنا يُطرح سؤال مهم: من هم أنصارُ المرأةِ حقًا؟ أهم أولئك الذين يريدون أن يرتبط تاريخها بآسية المؤمنة التي خلّد القرآن ذكرها، ورفضت ظلم فرعونَ وعدوانَه، وعلت همتُها عن متاع الدنيا وزينتها واتصلت بالملأ الأعلى، وكانت الجنةُ غايتها؟ ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها، وبارك اللهُ في نسلها وكفاها فخرًا أن ينسب إليها نبيُّ الله عيسى ابنُ مريم. أم أولئك النفر الذين يريدون أن ينتهي ارتباطُ المسلمة بالنساء الكاسيات العاريات - تجدهن في المراقص ودور السينما، وبهن تروج أسواقُ البغاء وتنتشر فاحشةُ الزنا ... وينتهي بهن المطافُ إلى المصحات النفسية، ولهن تقامُ عيادات الإجهاض، فلا يكتفين بقتل حيائهن، بل يساهمن مساهمةً كبرى في إهلاك الحرثِ والنسلِ. من أنصارُ المرأة حقًا؟ أهم أولئك الذين يريدون المرأة درةً مكنونةً وجوهرةً مصونة، ناعمة اليدين، يزيدها الخمارُ جمالًا وهيبة، وتقيها جدرانُ بيتها من السموم والرياح الحارة أو الباردة، وتأمن بعدم اختلاطها من سُعار الذئاب الجائعة؟ أم أنصارها أولئك الذين يريدون لها اللهاث وراء السراب الخادع، يتصبب عرقُها من جبينها في المصنع، وتتورم يداها، ويتناثر شعرُها وتخلق ثيابها في الورشة والمعمل، تؤمر وتنهى، بل يباع عرضها ويُشترى حياؤها، وربما هُددت بالفصل أو نقصِ المرتب إذا لم تستجبْ لمطالب الطامعين فيها؟ إن أنصار المرأة حقًا هم الذين يكشفون لها خلاصة تجربة المرأة الغربية -

حين خرجت - ببؤسها وتعاستها، وتعالت صيحات العقلاء محذرين من مجاراتها لا أولئك المنهزمين فكريًا، ويريدون للمرأة المسلمة أن تدخل النفق المظلم وتلج جُحْرَ الضبِّ الخرب؟ إنه لا يغيب عن ذهن المرأة المسلمة الواعية أننا في زمن (عودة الحجاب) على أثر حصاد تجربة مُرّةٍ تورطت بها بعضُ نساءِ المسلمين حين خرجت واختلطت فعادت تحذر بنات جنسها وتدعو للزوم الحجاب، وثمة نموذجٌ آخر يشهد على وعي المرأة واعتزازها بحجابها، تدور أحداثه طريةً في تركيا المسلمةِ أصلًا ... والعلمانية حديثًا، وصاحبته المرأة المحجبة مروة قاوقجي، تلك التي أصرت على لزوم الحجاب، وفرضهِ على أكبر مؤسسات الدولة، رغم العلمنة والتغريب، وسيطرة العسكر ونفوذ الغرب وبكل حال فستبقى هذه الأفكارُ المطروحةُ وثائق تكشف عن التوجهات الفكرية، وتحصي أصحاب الثقافة المستوردة، وستحتفظ ذاكرة التاريخ، ويشهد الجيلُ على أولئك الذين أرادوا بمجتمعهم السوء والشرور وإن زعموا الإصلاح، والتحرير، فتلك شنشناتٌ سُبقوا إليها واكتشف الناسُ فيما بعدُ زيفها. ولعل من أبرز النماذج على ذلك الفكرُ الذي طرحه قاسم أمين حول (تحرير المرأة) فقد اكتشف الجيلُ اللاحق له ما في فكره من فساد وانحراف وفتن أكثر مما اكتشفه الجيلُ المعاصر له. وهكذا تتكشف الحقيقة وإن طُليت بطلاء خادع فترة من الزمن. اللهم اهد ضالّ المسلمين، وثبت هداتهم على الحقّ يا رب العالمين. ترى أيفيق الناسُ من رقدتهم، وينادي بعضنا ببدء السباتِ من جديد، أيتحرر المسلمون من ربقة الاستعمار والتبعية والتقليد، ويُصر بعضُ المخدوعين عندنا على استمراء العبودية، والفرق كبيرٌ بين الحرية والعبودية، كما الفرقُ بين لباس التقوى الأصيل، ولبوس العارية المصطنع؟ وهنا وفي مجال الانهزامية التي

يعيشها البعض، أنقل كلامًا جميلًا للدكتور فهد آل إبراهيم في مقال له بعنوان: (شقائق الرجال) ونشر بجريدة الجزيرة في 25/ 1/ 1420 هـ، مما جاء فيه قوله: أما أهزوجة ما يسمى بتحرير المرأة التي يترنم بها البعض، فهم إما جاهلون بحقيقة ما تعانيه المرأة في المجتمعات الأخرى، أو منهزمون نفسيًا ومتأثرون بالثقافة الغربية، ويرون تطبيقها بصرف النظر عن سلبياتها، وهم يرون في زيف الحضارة الغربية أنموذجًا يُحتذى بعد أن فتنتهم بريقُ العيون الزرقاء .. فحجب عنهم رؤية القذارةِ النابعة من واقع هذا الانحلال الخُلقي. واللافتُ للنظر عند هؤلاء ربطهم غيرُ المنطقي بين دورِ المرأةِ ووظيفتها في المجتمع وبين (أضحوكة) قيادتها للسيارة، وكأن الدور المطلوب منها في خدمة دينها ووطنها امتهانُ وظيفة (سائق)؟ ! انتهى. أيها المسلمون والمسلمات: إن أنصار المرأة حقًا هم أولئك الذين يطالبون باستيفاء حقّ المرأة في العلاج، وحقها في التعليم وصياغة مناهجه، وفق طبيعتها واحتياجاتها، وضمان حقها في أسلوب التعامل معها أو صيانة حقوقها المالية، أو تشغيلها في وظائف نسوية لا يزال الرجالُ يقومون بها، أو تقوم بها نساءٌ كافرات وافدات لا تُؤمن غوائلهن. أو نحو ذلك من أمور - سآتي على تفصيلها. وليس أنصارُ المرأة أولئك الذين تنتهي طموحاتهم وآمالهم عند حدود نزعها للحجاب وقيادة السيارة، والاختلاط بالرجال، وإشاعة الفاحشة، وتفريق المجتمع، وضياع الأمة وصدق الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 19.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحقِّ ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الأمرُ أمرُه، والحكم إليه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1)، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، حذّر أمته من الفتن وأخبر أن أخوف ما يخاف على أمته المنافق العليم اللسان. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. إخوة الإيمان: إن أنصار المرأة حقًا هم الذين يطالبون باستيفاء المرأة حقَّها في العلاج، وذلك بتوفير مستشفيات ومراكز صحية أو عيادات بطاقم نسائي متكامل يتعامل مع المرأة في الإدارة، والتمريض والتطبيب والصيدلة وغيرها من إجراء العمليات القادرة عليها النساء، وذلك كلُّه مذهبٌ للحرج الذي تجده - أحيانًا - بعضُ النساء جراء معاملة الرجال لهن ... إنها دعوةٌ للمسئولين وللقادرين من رجالات الأعمال لتوفير هذا النوع من المستشفيات خدمةً للمرأة، وحفاظًا على حرمات الأمة. وأنصار المرأة حقًا هم الذين يطالبون بمزيد من العناية بتعليم المرأة، وذلك بصياغة مناهج تخص المرأة وتلبي مطالبها - التي فطرها اللهُ عليها - وتفي بحاجتها وتتفق ومع ما يُراد للمرأة مستقبلًا، إن إشراك الفتاةِ مع الفتى في مناهج معينةٍ لا تخدمها ولا تحتاج إليها، هدرٌ ينبغي أن يستعاض عنه بأمور تصلح للمرأة وتتفق مع مهمتها الأساسية في الحياة، ومن المناهج إلى المعلمين، فلماذا نحتاج إلى رجل يعلم المرأة عبر الشاشة، ولماذا نحتاج إلى إداريين ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 85.

تتعامل المرأة معهم، أليس بالإمكان توفيرُ طاقم نسائي يتعامل مع المرأة في كافة شؤونها التعليمية؟ وفي التعليم الجامعي يُطالب أنصارُ المرأة الخيرون ويقترحون إيجاد جامعةٍ للنساء تُصاغ مناهجُها بعناية ويُختار لمسؤولياتها من ذوات الخلق والدين والخبرة والكفاءة، وتحدد أقسامها وكلياتها حسب طبيعة المرأة وحاجاتها، وربما ينسجم مع وظيفتها في الحياة، وبهذه الجامعة يمكن استيعابُ عدد من النساء من جهة، ونقي المرأة من دعوات الاختلاط المحمومة من جهة أخرى. عباد الله: ومن حقها في التعليم والعلاج إلى حقوقها وواجباتها في الدعوة والحسبة والإرشاد، وقد سبقت الإشارة إلى إمكانية وجود عدد من النساء في الدعوة ليتفرغن لدعوة بنات جنسهن في المساجد، ومدارس البنات، ونحوها من تجمعات النساء. وكذا الأمر في الحسبة، وذلك بتخصيص وظائف في الهيئات لإيجاد فرع نسائي تكون مهمتهُن وعظ النساء والإنكار عليهن، وحضَّهُنَّ على المعروف، ومحاورتَهن بالحسنى. وكذا الأمرُ بالنسبة لتعليم البنات لإيجاد مرشدات للطالبات تكون مهمتهُن مراقبة سلوكيات الطالبات، ودعوتهن للخلق القويم، وتحذيرهن من أسباب الانحراف وموجات التبعية والتقليد. إخوة الإسلام: وأنصارُ المرأةِ حقًا هم الذين يطالبون برفع أيِّ ظلمٍ أو هضم يقع على المرأة في حقوقها المعنوية أو الحسية، فلا يرضون بإهانتها أو احتقارها، أو ضربها بغير حقٍّ انطلاقًا من قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1)، وتأسيًا بهدي محمد صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «خيرُكم خيركم لأهله وأنا ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 19.

خيركم لأهلي»، وهم الذين يقفون في وجه الجهلة المنتقصين لحقوقها المالية في الإرث أو العطاء {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1) «والنساء شقائق الرجال»، وبالجملة: فلا يُهضم لها حقٌّ ولا تساوي بالرجل في كل شيء، والله أحكمُ الحاكمين، وفي شريعته عدلٌ ورحمة للرجل والمرأة، ومن قال إنه سيعطي المرأة أكثر مما أعطاها خالقها فقد ظلم نفسه وأساء الأدب مع ربِّه، وما أولئك بالمؤمنين. أيها المسلمون: وأنصارُ المرأة الوهميون على كثرة مطالبهم للمرأة لم يعنوا كثيرًا بهذه الأمور، ولا بالوظائف النسوية التي لا يزال يشغلها رجال أو نساء أجنبيات - لا سيما الكافرات منهن - وقد أجادت د. رقية المحارب حين أحصت ما يقرب من أربعة آلاف مشغل نسائي في الرياض وحدها، وكلُّها أو معظمها تُدار بعمالة وافدة، فأين المطالبة بتوظيف النساء فيها؟ أم المقصود بهذه الدعوات المحمومة أن يأتي اليومُ الذي تكون فيه المرأة السعوديةُ المسلمة بائعة شاورما، أو نادلةً في مقهى إلى منتصف الليل، أو أن ترفع عن ساقيها لتتدحرج الكرة هنا وهناك، كما تقول الكاتبة (هياء المنيع) والتي أحسنت فهم أهداف اللعبة لإفساد المرأة حين قالت: «إن كثرة الفزع على موضوع عمل المرأةِ يكشف عن قلوبٍ تتسللُ لواذًا لدمار هذا المجتمع المحافظ .. ». إخوة الإسلام: وبهذا يتبينُ الفرقُ بين أنصار المرأة الحقيقيين وأنصارها الوهميين، وإننا على ثقة أن المرأة في بلاد الحرمين لديها من الحصافة والوعي والثقة بدينها ما تميز به بين الضار والنافع، والأنصار والخصوم، لكنها الذكرى ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 228.

والذكرى تنفع المؤمنين، كيف لا، ونحن في زمن صحوة شملت النساء إلى الرجال، وفي زمن حرب العقائد والأفكار، والمرأةُ كالرجل تدرِكُ أنه لا مكان لمعدوم الهوية الدينية أو مهزوز الثقة بالمبدأ الذي ينتمي إليه، ومن المؤلم حقًا أن يتشبث أصحابُ الأديان والنِّحَلِ الفاسدة بمبادئهم ولو كانت باطلة، ويوجد في المسلمين من تهتز ثقته بدينه ومبادئه، وهي الحقُّ ليس غيره، وصدق الله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 8.

الغفلة

الغفلة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬1). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (¬2). أيها المسلمون: كثيرةٌ هي أدواؤنا التي تحتاج إلى الدواء الناجع لعلاجها، ولكن ثمة داءٌ يهيمن على كثير من هذه الأدواء، وربما كان السببَ الأكبر لها ... وهذا الداءُ المهيمن تتعدد مظاهرُه، وتتسع دائرتُه لتشمل الشيوخ والشباب، والنساء والرجال، وأهل العلم والدعوة، وأصحاب المال والسلطان .. ولا تسأل عن غفلة ما سوى هؤلاء؟ وإن كانت الغفلةُ نِسبًا، والناسُ فيها بين مُقلٍّ ومستكثر. إن أعظمَ قضية يجب أن تشغلَ بالَ كل واحدٍ منا - معاشر المسلمين - هي ¬

(¬1) سورة الحشر، الآيتان: 18، 19. (¬2) سورة الأحزاب، الآيات: 70 - 72.

قضيةُ وجوده، والغايةُ من حياته، ومستقبله الحق، وشقاؤه وسعادته، ومن فضل اللهِ على عباده أن هذه وتلك لا تشترى بالدرهم ولا الدينار، ولكنها تُنال بالهمم والجدِّ في عمل الصالحات، والسير إلى الله، والموفَّقُ من أيقن واستيقظ لحقائق القرآن، وسائل نفسك: لأي شيء خلق اللهُ الموت والحياة، والجوابُ حاضرٌ في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (¬1)، بل ولأي شيء خُلقتَ أنتَ؟ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬2). ويتحاشى الناسُ، كلُّ الناس الخسارة والفشل في الحياة الدنيا، ولكن القلةَ منهم من يتأمل في الخُسران والفشل الأخروي: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (¬3). أيها المسلمون: إن الغفلةَ عن قيمة الحياة، وهدف الوجودِ سببٌ للضياع والقلق في هذه الحياة، والنهايةُ مؤلمةٌ حين الورود على الله، وها هي الصورةُ تُقرَّب لك، والمشهدُ يُعرض عليك صباح مساء، فهل أنت مدَّكِرٌ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (¬4). أي عبدَ الله؛ أيَّ خيرٍ ترتجي، وأيَّ نهايةٍ تنتظر إذا كنت من الغافلين الذين لا يرجون لقاءَ الله، ورضيت بالحياة الدنيا واطمأننت إليها ... تأمل مليًّا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬5). ¬

(¬1) سورة الملك، الآية: 2. (¬2) سورة الذاريات، الآية: 56. (¬3) سورة الزمر، الآية: 15. (¬4) سورة ق، الآيات: 19 - 22. (¬5) سورة يونس، الآيتان: 7، 8.

يا ابن آدم: حسبك بالقرآن واعظًا: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} (¬1). إنها آياتٌ تهز الغافلين هزًّا، فالحساب يقترب وهم في غفلة، والآيات تعرض وهم معرضون عن الهدى، والموقفُ جِدٌّ وهم لا يشعرون بالموقفِ وخطورته، وكلما سمعوا الحقَّ قابلوه باللهو والاستهتار، واستمعوه وهم هازلون. إن النفوس حين تستحوذُ عليها الغفلةُ لا تصلح للنهوض بعبءٍ، ولا للقيامِ بواجب، تغدو الحياةُ فيها عاطلةً هينةً رخيصةً، وحين يهون المرءُ في نظر نفسه يهون على الآخرين، وحين ينسى العبدُ ربَّه، ينساه الله وتحيق به الخسارة في الدارين. أيها المسلمُ والمسلمة: لقد مُيزتم بحواسٍ ومدارك تَفضْلون بها غيرَكم، وتدركون بها ما يضركم وما ينفعكم، وحين تُعطَّلُ هذه الحواسُّ، وتُحيط الغفلةُ بالناس ينحدرون إلى درك الأنعام، بل هم أضلُّ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (¬2). عباد الله: إن من مظاهر الغفلة في حياتنا الانفتان بالدنيا والتخوف والتحوط لها، في مقابل الإعراض عن الآخرة وعدم التفكير بجدٍّ في نعيمها أو جحيمها، ومن مظاهر الغفلة الغضب للدرهم والدينار، وضعف الغيرة لدين الله. ومن مظاهر الغفلة في حياتنا الضعفُ في أداء الواجبات والزهدُ في عمل المستحبات، والتسامحُ في مقارفة السيئات، وهتك أستار المحرمات. ومن ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآيات: 1 - 3. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 179.

مظاهر الغفلة تعلّقُ نفوسنا بتوافه الأمور، وعجزُها عن التعلق بالمعالي، وكسلُها عن جلائل الأعمال الصالحة. نغفل عن الموتِ وسكرتهِ، وعن الحسابِ وشدتهِ، نغفل عن ذوات أنفسنا وما يصلحها أو يفسدها، وآن لنا أن نستيقظ لمخططات أعدائنا وما يريدونه لنا، وأنى لنا أن نكشف النفاق وتميّز المنافقين وتلك حالُنا. أيها المؤمنون: وكثيرةٌ هي الأسباب الجالبةُ للغفلة، فأنفسُنا الأمَّارة بالسوء تدعونا للغفلة، وشياطين الجن يقعدون لنا بكلّ طريق من طرق الخير، وإبليسُ يعدنا ويَمُنَنِّينا ويخوِّفنا تارة، ويزيِّن لنا أخرى، ويأتينا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ولكنَّ الله لم يجعل له سلطانًا من فوقنا، وجعل الباب بيننا وبينه مفتوحًا، فمن استعاذ به أعاذه، ومن لاذ بحماه أجاره، ومن استعان به أعانه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (¬1)، ويتلمس شياطينُ الإنس المراصد والوسائل التي بها يصدوننا عن ديننا، وتستحكم الغفلةُ في قلوبنا، ومن أبرز وسائلهم الفنُّ الرخيص، والرياضَةُ الفاتنة، وكم نسي المسلمون قضاياهم الكبرى بسبب هذه الوسائل الملهية الفاتنة؟ وكم غفلوا عن مخططات أعدائهم في سبيل الترويح عن أنفسهم - كما يقولون -. أيها الناس: وأورثت الغفلةُ طول الأمل، فقست القلوب، وقلّ أثر المواعظ في النفوس، وكثرة الفسوقُ والفجور، ودونكم هذا التشخيص لهذا المرض فاعقلوه، يقول ابنُ قدامة يرحمه الله: واعلم أن السببَ في طول الأمل شيئان: أحدُهما: حبُّ الدنيا، والثاني: الجهل. أما حبُّ الدنيا فإن الإنسان إذا أنس بها ¬

(¬1) سورة الحجر، الآية: 42.

وبشهواتها ولذاتها ثقل على قلبهِ مفارقتُها، فامتنع قلبُه من الفكرِ في الموت الذي هو سببُ مفارقتها، وكل من كره شيئًا دفعه عن نفسه، والإنسان مشغولٌ بالأماني الباطلة، فيمنِّي نفسه أبدًا بما يوافق مراده من البقاء في الدنيا، وما يحتاج إليه من مال وأهل ومسكن، فيلهو بذلك عن الموت ولا يقدر قربه، فإذا خطر له الموتُ في بعض الأحوال، والحاجةُ للاستعداد له سوّف بذلك ووعد نفسه، وقال: الأيامُ بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب، وإذا كبر قال: إلى أن تصير شيخًا، وإن صار شيخًا قال: إلى أن يفرغ من بناء هذه الدار، وعمارة هذه الضيعة أو يرجع من هذه السفرة، فلا يزال يسوّف ويؤخر إلى أن تتخطفه المنيةُ في وقت لا يحتسبه، فتطول عند ذلك حسرته. السبب الثاني: الجهل، وهو أن الإنسان يعوّل على شبابه ويستبعد قربَ الموت مع الشباب، ولو تفكَّر المسكين أن مشايخ بلده لو عُدُّوا لما كانوا عشرة؟ لأدرك أنهم إنما قَلُّوا؛ لأن الموت في الشباب أكثرُ، وإلى أن يموت شيخٌ قد يموت ألفُ صبي، وقد يغترُّ بصحته ولا يدري أن الموت يأتي فجأة، ولو تفكر أن الموت ليس له وقت مخصوص ولا يبعده الشباب أو تدفعه الصحة واكتمالُ القوى لَعظُمَ ذلك عنده واستعد للموت وما بعده (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (¬2). ¬

(¬1) مختصر منهاج القاصدين: 367 بتصرف ص 118 - 120. (¬2) سورة الأعراف، الآيتان: 205، 206.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله شرح صدور المؤمنين لطاعته وذكره، وتوعد القاسيةَ قلوبهم بالويل والضلال المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بذكره تطمئن القلوب، والمستهترون بآياته حقُّهم الرانُ على القلوب ... ومصيرُهم الجحيم، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، أمره ربُّه بذكره تضرعًا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال، وألا يكون من الغافلين، وامتثل أمر ربِّه، وكان قدوة الذاكرين وموقظًا للغافلين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى إخوانه المرسلين. عباد الله: وفي حياتنا اليومية ضروب وأشكالٌ من الغفلة، ومنا من يصبح معه الشيطان ويمسي، وعند الطعام والشراب والكساء، وخيرُنا من لا يجد الشيطانُ عليه سبيلًا. وجماع ذلك وأسبابه الذكرُ أو الغفلة، قال عليه الصلاة والسلام: «إذا دخل الرجلُ بيتَهُ فذكر اللهَ تعالى عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطانُ لأصحابه: لا مبيتَ لكم ولا عشاءَ، وإذا دخل فلم يذكر اللهَ تعالى عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيتَ والعشاءَ» (¬1). لقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مستحضرًا لذكرِ الله آناء الليل وأطراف النهار، مُذكرًا بأهوال يوم القيامة، عن أُبي بن كعبٍ رضي الله عنه قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثُ الليل قام فقال: «يا أيها الناس اذكروا اللهَ، جاءت الراجفةُ، تتبعها الرادفةُ، جاء الموتُ بما فيه، جاء الموت بما فيه» (¬2). أيها الناس: لا بد لمن يريد علاج ضعف إيمانه من الإكثار من ذكر الله وعدم الغفلة، قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (¬3). ¬

(¬1) رواه مسلم، رياض الصالحين/ كتاب آداب الطعام: 329. (¬2) الحديث رواه الترمذي بسند حسن، رياض الصالحين: 273. (¬3) سورة الكهف، الآية: 24.

قال العارفون: وفي القلب قسوةٌ لا يذيبها إلا ذكرُ الله تعالى. وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي؟ قال: أدبه بالذكر. وإذا كان الذكرُ شفاءَ القلب ودواءَه، فالغفلةُ داؤه وشقاؤه (¬1). وهناك صنفٌ من الناس بلغت الغفلة بهم حدَّ قول القائل: فنسيانُ ذكرِ الله موتُ قلوبهم وأجسامُهم قبل القبور قبورُ وأرواحُهم في وحشةٍ من جسومِهم وليس لهم حتّى النشورِ نشورُ أيها المسلمون: وإذا كان الذكرُ علاجًا للغفلة، فقراءة كتاب الله وتدبُّر آياته ووعده ووعيده، والاتعاظُ بقصصه كفيل بيقظة الإنسان وتذكُّره، قال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (¬2). ومن وسائل علاجِ الغفلة مصاحبةُ الأخيار، وحضورُ مجالس الذكر، وملازمة العلماء، فذلك - وإن احتاج إلى صبرٍ ومجاهدة - فعاقبته حميدة، ومعالجته للغفلة ظاهرة، قال تعالى - وهو أصدق القائلين: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (¬3). ومما يعين على علاج الغفلةِ زيارة المقابر، قال عليه الصلاة والسلام: «كنتُ نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكِّرُكم الموتَ .. » حديث صحيح (¬4) وتشييعُ الجنائزِ، وتذكرُ ساعةِ الاحتضار ... كل ذلك موقظٌ من الغفلة لمن في قلبه حياة، ويصف ابنُ الجوزي ساعة الاحتضار ويقول: «من أظرف الأشياء إفاقةُ المحتضر عند موته، فإنه ينتبه انتباهًا لا يوصف، ويقلق قلقًا لا يُحَدُّ، ¬

(¬1) المنجد، ظاهرة ضعف الإيمان: 63، 64. (¬2) سورة ق، الآية: 45. (¬3) سورة الكهف، الآية: 28. (¬4) مسلم/ كتاب الجنائز: 976.

ويتلهف على زمانه الماضي، ويودُّ لو تُرك يتدارك ما فاته، ويصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت، ويكاد يقتل نفسه قبل موتِها بالأسف، ولو وُجدت ذرةٌ من تلك الأحوال في أوان العافية حصل كلُّ مقصودٍ من العمل بالتقوى، فالعاقلُ من مثل تلك الساعةَ وعمل بمقتضى ذلك» (¬1)، وصح في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «عودوا المريضَ واتَّبعوا الجنازة تذكركم الآخرة» (¬2)، وقال الأعمش: كنا نشهد الجنازة ولا ندري من المُعزى فيها لكثرة الباكين، وإنما كان بكاؤهم على أنفسهم لا على الميت»، وحين مرت بالحسن البصري جنازةٌ قال: يا لها من موعظةٍ ما أبلغها وأسرعَ نسيانها، يا لها من موعظة، لو وافقت من القلوب حياةً، ثم قال: يا غفلة شاملةً للقوم، كأنهم يرونها في النوم، ميّتُ غدٍ يدفن ميتَ اليوم (¬3). ومن أنفع الأدوية لعلاج الغفلة: المداومة على محاسبة النفس، وحسبُ العاقل أن يقف في محاسبته لنفسه على قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (¬4). وصدق من قال: حاسِبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا. أيها الناس: اعملوا على مهل، وكونوا من الله على وجل، ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل، وقفوا عند قول الحق: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (¬5)، كان مطرف بن عبد الله يقول: إن هذا ¬

(¬1) صيد الخاطر: 146. (¬2) أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح، الأحاديث الصحيحة 1981، صحيح الجامع الصغير ح 3988. (¬3) لحظات ساكنة/ القاسم: 95. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 30. (¬5) سورة لقمان، الآية: 33.

الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيمًا لا موت فيه (¬1). هل فكرت في نوع حياتك بعد الممات؟ والله يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬2). ¬

(¬1) صفة الصفوة: 3/ 224. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 185.

الزكاة، والعشر

الزكاة، والعشر (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله أغنى وأقنى، يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له، وهو الحكيمُ العليم، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، خزائنه ملاء، وما كان عطاء ربك محظورًا، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، وأكرمُ الخلق على الله، ومع ذلك عاش حياة الكفاف، وربما ربط الحجر على بطنه من الجوع، زهدًا في الدنيا وطلبًا لنعيم الآخرة - اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3). أيها المسلمون: المالُ من زينة الحياة الدنيا، تُسرُّ له النفوس، تفرح إذا أعطيت، وتحزن إذا مُنعت، وليس العطاءُ دليل الرضا، ولا المنعُ علامةَ الغضب، ومن عباد الله من لا يصلح له إلا الغنى، ولو أفقره الله ما صلح له ذلك، ومن عباده من لا يصلح له إلا الفقر، ولو أغناه الله ما صلح له ذلك، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وهو الحكيم الخبير. عبادَ الله: والمتأمِّلُ في نظام الإسلام الاقتصادي والاجتماعي يتبين له أنه أعدلُ نظام عرفته البشرية، فالأغنياء الموسرون في أموالهم حقٌ للسائل ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 16/ 9/ 1420 هـ. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬3) سورة المائدة، الآية: 35.

والمحروم، يؤجرون على البذل ويبارك لهم في المال مع الصدقة، ويجازون بالإحسان على الإحسان، يعطيهم اللهُ من رزقه ويطلب منهم القرض الحسن للمحتاجين من خلقه، تُضاعف لهم الأجور في الصدقات، ويحفظ اللهُ أموالهم من الكوارث والنكبات بإخراج الزكاة وإعطاء الصدقات. والفقراءُ يحتاجون فلا يجدون، ويصبرون فيؤجرون، تضنُّ عليهم الحياة، وتلاحقهم همومُ الديون وغلبته وقهر الرجال، فيشكون الحاجة إلى خالقهم وينزلونها به دون خلقه، فيجعل لهم بعد العسرِ يسرًا، ومن الهموم فرجًا، كم لهم من الأجر حين يصبرون على شظف العيش وكفاف الحياة ... وكم تصفو نفوس الزهاد في الدنيا حين لا يشغل بالهم الصفق بالأسواق، ومتابعة مؤشرات الأسهم ... بل يتفرغون لطاعة الله وذكره والتزود لآخرته. عباد الله: والزكواتُ والصدقاتُ، والعطايا، والهدايا والهبات ... كلُّها إنفاقٌ يؤجر عليه المسلمُ إذا كان خالصًا لوجه الله ... وتلك تخفف معاناة الفقر، وتذهب شحَّ النفوس، وتجعل في الحياة فرصًا للخير والودِّ، والرحمة، وكيف يكون شعورُ محتاجٍ ضائقٍ بالديون، أو عاجز عن النفقة الواجبة أو شابٍ رغب العفاف بالزواج وأظلمت الدنيا في وجهه، إذ لا يجد ما يغنيه إذا ما امتدت إليهم يدُ محسن فأعطاهم ما يغنيهم، وشاركهم في آلامهم، وسرَّى عنهم همومهم ... إنه شعورٌ يفيض بالمحبة والتقدير، ولن ينسى ذلك الفقيرُ المحتاجُ لهذا الغني المتصدق ما أنفقت يداه ... والأجر في الآخرة أعظم، ومن فرَّج عن مسلم كربةً من كرب الدنيا نفَّس الله بها عنه كربة من كُرَب يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه. أيها المسلمون: وحين يكون الحديثُ عن الزكاة الواجبة يمكن لنا أن نقف حيالها الوقفات التالية:

أولًا: تُعد الزكاة طُهرةً لمال الغني، وتزكيةً لنفسه، وهي تنفيسٌ للفقير وتسلية له، وسدٌّ لحاجتِه. ثانيًا: وفرض الزكاةِ مرةً في العام أعدلُ ما يكون، إذ لو جعلت كلَّ شهر أو كلَّ أسبوع لضرّ بأرباب المال، ولو جُعلت في العمرة مرة لضرَّ بالمساكين، وليس أعدل من حكم الله وجعلها في العام مرة (¬1). ثالثًا: ويلحق ضررٌ بالمساكين المحتاجين، إما من صاحب المال إذا منع ما يجب عليه، أو من الآخذ، إذا أخذ ما لا يستحق أخذه، وهكذا يتولد الضرر من بين هاتين الطائفتين على المساكين وأهل الحاجات الحقيقية، لا أصحاب الحيلِ والملحفين بالمسألة، والله أعلم بما يملكون. رابعًا: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا علم من الرجل أنه من أهل الزكاة أعطاه، وإن سأله أحدٌ من أهلها ولم يعرف حاله أعطاه بعد أن يخبره أنه لا حظَّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب (¬2). خامسًا: والذين يُبعثون لأخذ الزكاة لا بد أن يتمثلوا العدل فيما يأخذون أو يدعون، وفي موقف عبد الله بن رواحة رضي الله عنه نموذجٌ يُحتذى، وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر ليخرص لهم الثمار والزروع، فأراد اليهود أن يرشوه، فقال لهم عبدُ الله: تطعموني السُّحتَ؟ والله لقد جئتكم من عند أحبِّ الناس إليّ، ولأنتم أبغضُ إليّ من عدَّتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بُغضي لكم وحبي إياه، أن لا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض (¬3). سادسًا: ولا بد من العدلِ مع النفس وتربيتها على إخراج الواجب من المال ¬

(¬1) ابن القيم: زاد المعاد 2/ 6. (¬2) زاد المعاد: 2/ 9. (¬3) رواه مالك في «الموطأ» بسند رجاله ثقات لكنه مرسل. وأبو داود من حديث ابن عباس بسند حسن - زاد المعاد: 2/ 11 هامش: 2.

طيبةً راضية غير متأففة ولا مانّة ... ولا ملحقةٍ أذى بمن تُعطي .. وإذا هالك أخي الغني كثرةُ الزكاة من مالك ... فانظر في كثرة أصل مالك، واشكر الله على أن أعطاك الله الكثير وطلب منك القليل، واحمده على أن كنت يدًا تعطي لا تأخذ، وتذكر أنك مأجورٌ على العطاء ... مؤاخذٌ على الشح والبخل والمَنْع. سابعًا: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الدعاءُ لمعطي الزكاة، فتارةً يقول له: اللهم بارك فيه وفي إبله، وتارة يقول: اللهم صلِّ عليه. وكل ذلك تشجيع على العطاء، ودعوةٌ للمنفقين بالحسنى، وكم يُسرُّ الغنيُّ والمعطي بدعوة الفقير له ... أو دعوة الآخذ من ماله ليوصلها إلى غيره من ذوي الحاجات. ثامنًا: ولا محاباة في الزكاة، ويخطئ من يحابي بها قريبًا، أو يبرّ بها صديقًا إلا أن يكون محتاجًا، ولا تجب عليه نفقته ... فالزكاة حقٌّ واجبٌ في المال لفئة محددة، تولّى الربُّ سبحانه قسمتها على الأصناف الثمانية في كتاب الله. قالَ ابن القيم: ويجمعهم صنفان من الناس: أحدهما: من يأخذ لحاجة وهم الفقراءُ، والمساكين، وفي الرقاب، وابن السبيل. والثاني: من يأخذ لمنفعة، وهم العاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، والغارمون لإصلاح ذات البين، والغزاةُ في سبيل الله، فإن لم يكن الآخذ محتاجًا، ولا فيه منفعة للمسلمين، فلا سهم له في الزكاة (¬1). تاسعًا: والويلُ شديدٌ لمانعي الزكاة، والعقوبة قد تُعجّل في الدنيا بحصول الكوارث أو مَحْقِ البركة ... ولو سَلِمَ من هذا فعذابُ الآخرة أشدُّ وأنكى، ومن ¬

(¬1) زاد المعاد 2/ 9.

يشك في وعد الله؟ ! وأي جسد يتحمل العذاب والله يقول: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (¬1). وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من رجل لا يؤدِّي زكاةَ ماله إلا جُعل له يومَ القيامةِ صفائحُ من نارٍ، فيكوى بها جنبُه وجبهتهُ وظهرُه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد، ثم يرى سبيلَه إما إلى الجنة، وإما إلى النار». عباد الله: ما قيمةُ المال إذا انتهى بصاحبه إلى هذه النهاية المؤسفة، ومهما تنعَّم المرءُ بالمال في الحياة الدنيا، فليس ذلك يقارن بالجحيم والشقاء في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. هذا فضلًا عما تؤدي إليه الزكاةُ من بركة ونماء وتزكية وتطهير: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (¬2). وفي الحديث الذي رواه الحاكم وصحَّحه، وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه - قال صلى الله عليه وسلم: «إن اللهَ لم يفرضِ الزكاةَ إلا ليطيبَ بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم» (¬3). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (¬4). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. ¬

(¬1) سورة التوبة، الآيتان: 34، 35. (¬2) سورة التوبة، الآية: 109. (¬3) تفسير ابن كثير عند آية التوبة: 35. (¬4) سورة المؤمنون، الآيات: 1 - 4.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله تتوالى مننُه ورحماتُه على العباد ... وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلَّ يوم هو في شأن، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اجتهد في طاعة ربِّه وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ليكون عبدًا شكورًا ... اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. عباد الله: وما أسرع الزمان ... وبالأمس كنا نترقب هلال رمضان ... واليوم نترقب دخول العشر الأواخر من الشهر. عباد الله: ولا زال منادي الرحمن ينادي: أن هلموا إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. أيها المسلمون: والليالي القادمة غرةٌ في جبين الدهر في فضلها، جاء في القرآن: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (¬1). وليلة القدر أمر المسلمون بتحريها في العشر الأواخر من رمضان ... ألا وإن من الغبن أن يفرط المرءُ في ليال عشر يضمن فيها ليلة القدر. لقد كان رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم يجتهد في هذه العشر ما لا يجتهده في سواها، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تحكي لنا اجتهاده وتقول - كما في الحديث المتفق على صحته -: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشرَ شدَّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله» وفي رواية: «أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدّ، وشدَّ المئزر». ¬

(¬1) سورة القدر: الآيات: 3 - 5.

واستنبط العلماءُ من سننه صلى الله عليه وسلم - في العشر - ألوانًا من العبادة والاجتهاد .. ومن ذلك: - إحياءُ الليلِ أو غالبِه بالتهجد. - إيقاظ الأهل للصلاة في ليالي هذه العشر. - وكانوا يستحبون في هذه الليالي المباركة - ولا سيما التي تُرجى فيها ليلةُ القدر - كانوا يستحبون التزين والتنظف والطيب، ولبس أحسن الثياب كما يُشرع ذلك في الجمع والأعياد، قال ابنُ جرير رحمه الله: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كلَّ ليلةٍ من ليالي العشر الأواخر. وكان بعضُهم يلبس ثوبين جديدين ويستجمر. ومما يشرع في هذه الليالي: الاعتكاف، وفي «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكفُ العشرَ الأواخر من رمضان حتى توفاه الله. وفي رواية للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: كان صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العامُ الذي قُبض فيه اعتكف عشرين. كم في الاعتكاف من خلوةٍ مع الله، وانقطاع عن مشاغلِ الدنيا وصوارف الحياة؟ وما أحوج النفوس في مثل هذا الزمان إلى سويعات يخلو فيها العبدُ بخالقه، ويُجرد نفسه من أطماع الدنيا وفتنة المال والأهل والولد، وفي معتكفه يمارس أنواع الطاعات من صلاةٍ، وذكرٍ، وتلاوةٍ، وتفكرٍ، ويتطلع إلى الجنانِ وحورِها وأنهارها، ويستعيذ بربه خاشعًا خائفًا من النار وسلاسلها وزقومها .. أما الاجتماعُ في المعتكف والسمرُ على أحاديث الدنيا، وجعلُه فرصةً للخلوة ببعض الأصحاب وتجاذب أطراف الحديث معهم - بعيدًا عن الذكرِ والتلاوة والصلاة فما هذا بالاعتكاف المشروع، بل اعتكافُ النبي صلى الله عليه وسلم لونٌ، وهذا لونٌ آخرٍ.

عباد الله: تتوفر فرصُ الاعتكاف في هذا الزمان - فالبيوتُ قريبةٌ من المساجد، وعددٌ من البيوت فيها من الولدِ من يقوم بشؤون أهله فترة اعتكاف الأب ... أو يكون الولدُ مكفيًا عن شؤون أهله بأبيه أو إخوانه الآخرين، والبعضُ ليس لديه من مشاغلِ الدنيا ما يمنعه - شرعًا - من الاعتكاف ... ومع ذلك يقلُّ العملُ بهذه السُّنة النبوية، ويرحم الله الزهري إذ قال في زمانه: عجبًا للمسلمين، تركوا الاعتكاف مع أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله، ولربما تهيب البعض في البداية ... ولو أقدم لوجد السهولة والسعادة، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا. ويبدأ المعتكفُ من بعد غروبِ شمسِ اليوم العشرين، أو من فجر الواحد والعشرين، وينتهي بعد غروب شمس ليلة العيد. أيها المسلمون ... والدعاءُ مشروعٌ في كل حين ... ولكنه في هذه الأيام والليالي أبلغُ وأسمع، سواءٌ كان المسلمُ معتكفًا أو غير معتكف، ولا سيما في الليالي التي يُتحرى فيها ليلة القدر، قال سفيان الثوري رحمه الله: الدعاءُ في تلك الليلة أحبُّ إليَّ من الصلاة، ومرادُه أن كثرة الدعاءِ أفضل من الصلاةِ التي لا يكثر فيها الدعاء، وإن قرأ ودعا كان حسنًا. وليس يخفى أن فضل الله واسع، وهو جوادٌ كريم، وحريٌّ بالمسلم أن يسأل من خيريِّ الدنيا والآخرة، له ولأقاربه ولعموم المسلمين. ومما ورد النصُّ عليه في هذه الليالي: «اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعفُ عني»، وهنا لطيفةٌ نبّه إليها بعض العلماء في حكمة سؤال العفو بعد الاجتهاد في الأعمال، قالوا: لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملًا صالحًا، ولا حالًا ولا مقالًا، فيرجعون إلى سؤال العفوِ كحال المُذنب المقصر (¬1). ¬

(¬1) ابن رجب الحنبلي/ لطائف المعارف.

إخوة الإيمان: والأعمالُ الصالحةُ عمومًا - وفي هذه العشر خصوصًا - أكثرُ من أن تحصر ... إنها لرحمةٌ من رحماتِ الله وفضله على هذه الأمة، إذ هيّأ لها مثلَ هذه الفرص ... التي يباركُ الله فيها لهم بالأعمال والأعمار .. وحين قصُرت أعمارُ هذه الأمة عن الأمم السابقة عوضها الله بمثل ليلة القدر التي يعدل العملُ فيها، بل هو خيرٌ من عمل ثلاث وثمانين سنة، فلا تحرمْ نفسك يا أخا الإسلام هذه الفرصة - ولا يقعدْ بك الكسلُ أو تستجبْ لنزعات الشيطان، بل قم مع القائمين، وشارك المسلمين في دعواتهم وخشوعهم، وأسأل ربَّك القبول فلا تدري أتشهدها في عام قابل أم تكون في عداد الموتى؟ اللهم لا تحرمنا فضلك، وأعِنَّا على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك، وتقبل منا ومن إخواننا المسلمين.

زيارات واستقبالات رمضان

زيارات واستقبالات رمضان (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله رَبّ العالمين، يُقلبا الليل والنهار، إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بتقديره تنصرم الشهورُ والأعوام، وتفنى الأممُ وتعقبها أممٌ وأجيال، وهو وحده الحي القيوم، كل شيء هالك إلا وجهه. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله ... كان عمره قصيرًا، ولكن حياته كانت مليئةً بالجهاد والدعوة والعلم والعمل، والبرِّ والإحسان، وكريم الخصال والأخلاق، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬3). أيها المسلمُ والمسلمة: ما نوعُ تفكيرك في الآخرة، وما مقدارُ جديتك في السعي لها، وهل تستثمر الفرص وتفرح بالمناسبات التي تصلك بفضل الله ورحمته، وتُشرع فيها أبواب الجنة وتغلق أبواب النار ... قد تكون الإجابةُ بالإيجاب ... ولكن السلوك العملي هو الذي يحدد الدقة في الإجابة، ويحكم بصدق المتحدث أو كذبه. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 25/ 8/ 1420 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 1. (¬3) سورة التوبة، الآية: 119.

قف مع نفسك وقفةً صادقة، وتأمل في الدنيا وقصرها، وما في الآخرة من نعيم أو جحيم يطول أمدُه، ويشتد الفرحُ أو الحزنُ له ... ودعك من غرور الأماني، وتمثل موقفَ إبراهيم التميمي رحمه الله، قال سفيانُ بنُ عيينة رحمه الله قال إبراهيم التيمي: «مثَّلتُ نفسي في الجنة، آكلُ من ثمارها وأشربُ من أنهارها وأعانق أبكارَها، ثم مثَّلتُ نفسي في النار، آكلُ من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالجُ سلاسلها وأغلالها، فقلتُ لنفسي: أيَّ شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أُرَدَّ إلى الدنيا، فأعمل صالحًا، قال: قلتُ: فأنت في الأمنية فاعملي» (¬1). يا عبدَ الله: وحين يقتربُ شهرُ الصيام، ويتنافس الصالحون في الطاعات والقربات أدعوك - لتحفيز همتك للخير - إلى زيارات ثلاث، وما لم تستطع زيارتَه ببدنك فزره على الأقل بخيالك ومشاعرك. - أما الموقعُ الأول: فهو المقابر، حيث القبور والموتى والرهبة والخشوع ... وحين تُسلِّم عليهم وتدعو لهم - سلهم قائلًا: ها نحن في أواخر شعبان، وننتظر شهر رمضان، فما أمانيكم لو عدتم إلى الدنيا هذه الأيام؟ ولا تنتظرْ منهم إجابة فإنك لا تُسمِعُ الموتى وما أنت بمسمعٍ من في القبور؟ ولكنَّ أحدًا منهم لو استطاع الإجابة لقال: أمَّا نحن فقد انقطع أملُنا في الرجوع إلى الدنيا ... ونحن الآن مرتهنون بما سبق وإن عملنا، وبما خلفنا من ولدٍ صالح، أو علم ينتفع به، أو صدقة جاريةٍ لنا. ولكن، أنتم معاشر الأحياء، كم لله عليكم من فضل حين يبلغكم شهر الصيام والقيام فتصومون، وتقومون، وتتصدقون، وتذكرون، وتدعون، وتستغفرون، ¬

(¬1) صفة الصفوة: 3/ 91، 92.

وتسبحون، إلى غير ذلك من قرباتٍ تُضاعف فيها الحسنات، وتزيد المضاعفة في شهر الصيام ... وقد وجدنا ما وعدنا ربُّنا حقًا، وودنا لو ازددنا فما وجدنا غير عمل الصالحات بقي لنا يؤنسُ وحشتنا، ويرفعُ درجاتنا، وكم يُغبن بعضُكم - معاشر الأحياء - حين لا يستثمر فُرص الطاعة، ولو عرف هؤلاء ما نحن فيه لاختلاف سعيهم وتحركت هممُهم. ثم قف أيها الزائر متأملًا في الحُفر والقبور، وما تخفيه من أسرار، وما بين أصحابها من تفاوت في المنازل وإن كانوا في القبور سواء، وتصور وكأنك لحقت بهم غدًا، فماذا سيكون حالُك بينهم ... ثم لا تخرج إلا وقد سألت لهم الغفران، وسلِّهم بدعاء المسلمين لهم، ولا سيما في شهر الصيام والقيام والدعاء ... وقبل أن تخرج عاهد نفسك على أن تختار لها أحسنَ المساكن بينهم، فلا مناص لك عن سكنى هذه الدار، وثمنُ تلك الدار ليس بالدرهم والدينار ... لكنه بعمل الصالحات ... واجعل من رمضان فرصة لإحكام البناء، وتوسيع المسكن، وحبور الدار، واختم ذلك بالدعاء الصادق: اللهم بلِّغني رمضان وأعنِّي على الصيام والقيام. أيها المسلم والمسلمة: أما الموقع الثني الذي أدعوكم لزيارته، فالمستشفيات العامة حيث يرقد على أسرَّتها البيضاء جموعٌ من المرضى يختلفون في شكواهم ... وقد يتفقون أو يتفاوتون في آلامهم ... لكن أحدًا من هؤلاء المعنيين بالزيارة - لا يستطيع الخروج - على الأقل في شهر رمضان ... وأقصد أصحاب الهمم منهم، وسلهم عن مشاعرهم حين يدخلُ شهر الصيام، ولا تستغربْ إن أجابتك العيون بالدموع قبل الألسنة بالكلام، أسفًا على عدم قدرتهم على الصيام، ومشاركة المسلمين في القيام، وحين لا تنس هؤلاء من دعوة بالشفاء العاجل وتعظيم الأجر على المرض والبلوى، فلا تنسَ كذلك أن تسليهم بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبدُ أو سافر كُتِبَ له مثل ما كان يعملُ

صحيحًا مقيمًا» (¬1)، وقبل أن تخرج من زيارة المريض تذكر نعمة الله عليك بالصحة والعافية، واعلم أنك مغبونٌ فيها أو مغبوط. مغبون إن فرطت وأضعت الوقت بما لا ينفع ... ومغبوط إن استخدمت الصحة واستثمرتها في طاعة الله ... ولئن كان هناك من يعيشون مع الأحياء الأصحاء وهم في عداد الموتى ... فهناك من يعيشون مع الأصحاء وهم في عداد المرضى ... وموتى الأحياء، أو مرضى الأصحاء في رمضان - هم من يدخل عليهم الشهرُ ويخرجُ ولم تتحركْ هممهم للخير، ولم تنشط أنفسُهم للطاعة، قعد بهم الشيطان عن مشاركة المسلمين في قيامهم ودعائهم، ولربما قعد ببعضهم عن الصلاة المفروضة، والصيام الواجب وهم أصحاء أقوياء! ! وصدق رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحةُ والفراغ». ألا فاغتنم الفرص يا عبد الله، وخذ من صحتك لمرضك، ومن شبابك لهرمك، ومن فراغك لشغلك، ومن حياتك لموتك ... وشهرُ رمضان يستحق أن تستثمر فيه الصحة والفراغ، ومن يدري، فقد يأتي عليك رمضان بعدُ وأنت طريح الفراش فتتمنى لو كنت صحيحًا معافى ... فها أنت كذلك، فماذا أنت صانع. أيها المسلمون: أما الزيارة الثالثة فإلى أحد مواقع المسلمين المضطهدين في الجهاد ... حيث يحاصرون ويطاردون عن ديارهم ... قاذفات الطائرات من السماء، ورصاصُ المدفعيات من الأرض ... وبين نيران السماء والأرض، شدةُ الجوع حيث يقلّ الطعام، وشدة البرد حين تتساقط الثلوجُ في الشتاء، ومع ذلك كلِّه يلفُّ أهلَ تلك الديار الخوف، ويحيط بهم القلقُ، ففي كل يومٍ يفقدون ¬

(¬1) رواه أحمد والبخاري - صحيح الجامع: 1/ 281.

أبًا أو ابنًا أو يشهدون رضيعًا يتضور جوعًا ... أو امرأة يُنتهك عرضُها - وهكذا من صور المآسي والآلام - وهل بإمكان هؤلاء أن يصوموا أو يقوموا أو يتفرغوا لتلاوة القرآن ... أو يتنفَّسوا عبير شهر الصيام ... فإذا تصورت حال هؤلاء في شهر الصيام فأدركهم بصدقةٍ قد تنقذ بها نفسًا ... وبدعوة صادقة قد يفرج الله بها كربًا ... وعد إلى نفسك وأنت آمن في سربك ومعافى في بلدك وبدنك وقل: يا نفسُ ها قد حل شهرُ الصيام واقترب، فكوني في قائمة المسارعين للخيرات، والمتسابقين لصنوف الطاعات، وسل ربَّك العاقبة، وفي حندس الظلام وحين تسجد لله سل لإخوانك المسلمين الخلاص من المحن والنصر على الأعداء ... فرمضان شهرُ الدعاء، كما هو شهر المواساةِ والصدقات، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 185.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسنُ عملًا، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وَفَّقَ الله من شاء لطاعته، وهدى أولياءه لاستثمار مواسم الخيرات، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، أمر بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل حلول الفتن والأسقام أو نحوها من الصوارف والشواغل، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين. عبادَ الله: بمِ نستقبل رمضان؟ هنا تتفاوت الهممُ، وتختلف الإجابةُ على صعيد الواقع وإن اتفق الناسُ في الكلام والأماني، ودعونا نتواصى بالصبر والحق - فتلك من علامات المؤمنين - ونتذاكر في عددٍ من الأمورِ نستقبلُ بها هذا الضيف الكريم. فنستقبله أولًا بالفرح والبشرى، فهو من فضل الله ورحمته علينا، والله يقول: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (¬1). بُشرى العوالم أنت يا رمضانُ هتفتْ بك الأرجاءُ والأكوانُ لك في السماءِ كواكبٌ وضَّاءةٌ ولك النفوسُ المؤمناتُ مكانُ 2 - ونستقبله - ثانيًا - بالعزيمة على عمل الطاعات، ثم نتبع ذلك بالمسارعةِ للخيرات، فرمضانُ موسمٌ للهدى والخير والبركات، وميدانٌ رحب للتسايق في عمل الصالحات. 3 - ونستقبله بالتوبة النصوح من الذنوب والأخطاء، وفتح صفحاتٍ أكثر إشراقًا وقربًا إلى الله ... وأنت - أيها المسلمُ والمسلمة - واجدٌ لك في هذا ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 58.

الشهر عونًا على التوبةِ والإنابة، فالصيامُ يورث التقوى، ويردع عن الفواحشِ، ويكسرُ شهوةَ البطن والفرج، ومردةُ الشياطين تُصفَّد، وأبوابُ الجنة تفتح، وأبواب النار تغلق - وكل ذلك من دواعي التوبة ومعينٌ عليها، ومحرومٌ من دخل عليه شهرُ رمضان ثم خرج ولم يُغفر له «رغمُ أنفُ رجلٍ دخل عليه رمضانُ ثم انسلخ قبل أن يغفر له». 4 - ونستقبله، بل نبدأ الصيام والقيام، بالإخلاص لله ورجاءِ مثوبتهِ .. فالإيمانُ والاحتسابُ شرطان للمغفرة للصائمين والقائمين، وفي الحديث المتفق على صحته: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه»، «ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه». 5 - ونستقبله ونتواصى فيه على الجود وزيادة المعروف والإحسان، وفي رسول الله أسوةٌ حسنة، وكان أجودَ ما يكونُ في رمضان، ووصف جودُه - حين يلقاه جبريلُ في رمضان - بأنه كان أجودَ بالخير من الريح المرسلة (¬1). 6 - معاشر الأئمةِ: واستقبلوا رمضان بحثِّ جماعتكم على الخير، وبحسن تلاوة كتاب الله حين تؤمُّون المسلمين، وترغيب الناس في التراويح والقيام، ومراعاة أحوال الناس قدر الإمكان، وبما لا يُخلُّ بواجب، أو يفوِّتُ سُنَّةً، واختاروا الكتاب المناسب للقراءة، والموضوعات المفيدة للحديث للرجل والمرأة، والصغير والكبير، والخيِّر والراغب في الهداية، ومن الخير أن يكون هذا الإعدادُ سابقًا لدخولِ رمضان. 7 - أيها الأخيارُ في كل حي: وجميلٌ منكم أن تسهموا مع الأئمة وجماعة المسجد على كل خير، لا سيما وجموعٌ من المصلين تَفِد إلى المساجد في شهر ¬

(¬1) متفق عليه، رياض الصالحين/ 480.

رمضان، فرحبوا جميعًا بمقدمهم، وتعاونوا مع الأئمة على أسباب انقطاع من ينقطع بعدُ منهم، تفقدوا المحتاجين. 8 - أيها المحاضرون والمتحدثون - وأنتم خليقون أن تختاروا الكلمة المناسبة في رمضان، وأن تجتهدوا في التحضير والإعداد، وتجددوا في أساليب طرحكم، وتعيشوا هموم الناس، وتجيبوا على تساؤلاتهم. فليس المهمُ أن تتاحَ الفرصةُ للحديث فحسب، بل وبماذا وعن أي شيء تتحدثون! 9 - أيها الأغنياء: واجتهدوا في إحصاءِ زكاة أموالكم، وأخرجوها راضية بها أنفسُكم، وتحققوا في المحتاجين، وليكن للمجاهدين واللاجئين والمنكوبين في العالم الإسلامي نصيب من زكاتكم وصدقاتكم. 10 - أيتها المرأة: وإن أخطأت بعضُ النساء فاستقبلت رمضان بأنواع المآكل والمشارب، أو بالخروج وكثرة التردد على الأسواق، أو بطول النوم، أو الحديث في الغيبة والنميمة، أو سماع المحرم، أو نحو ذلك مما يحرم على المسلم، ويخدش الصيام، فلا تقعي أنت في شيء من هذا، ونبهي أخواتك المسلمات ... فالنساء شقائق الرجال، ورمضان فرصة للمسارعة للخيرات للرجال والنساء، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. أيها المسلمون: لا تستقبلوا رمضان بصوم يوم قبله تحوُّطًا إذ لا يجوز صيام يوم الشك، وإذا ثبت دخولُ الشهر فلا بد من تبييت النية للصوم الواجب، وذلك في القلب، والتلفظُ بها بدعة، ولا تشترط النيةُ لصوم النفل، وإذا كانت نوافل الصلاة تجبر مما في الفرائض من خلل فكذلك صيام النفل ... هذا فضلًا عما فيها من رفعة الدرجات وتكفير السيئات - ومن صيام النفل الصيام في شهر شعبان، وفي الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصوم من شهر أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كلَّه، وفي

رواية: كان يصوم شعبان إلا قليلًا (¬1) ومن لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر فعليه أن يمسك بقية يومه، وعليه القضاءُ عند جمهور العلماء (¬2). ومن قاتل عدوًا وأحاط العدوُّ ببلده، والصومُ يضعفه عن القتال، ساغ له الفطر ولو بدون سفر، وكذلك لو احتاج للفطر قبل القتال أفطر (¬3). اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلِّغنا رمضان، وأعِنَّا فيه على الصيام والقيام، واجعلنا ممن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا يا رب العالمين، اللهم أهلَّ رمضان علينا وعلى المسلمين بالخير واليمن والبركات. ¬

(¬1) رياض الصالحين: 486. (¬2) المنجد مختصر سبعين مسألة في الصيام: 36. (¬3) المنجد مختصر سبعين مسألة في الصيام: 31.

أصحاب الفيل

أصحاب الفيل (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله القوي العزيز، أهلك عادًا الأولى، وثمود فما أبقى، والمؤتفكةَ أهوى، فغشَّاها ما غشّى، فبأيِّ آلاء ربك تتمارى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ردَّ أصحاب الفيل وجعل كيدهم في تضليل، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، تزامن مولدُه مع حادثة الفيل عبرة وعظة. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا. عباد الله: أوصي نفسي وإياكم بلزوم تقوى الله، فلباسُها خيرُ لباس، وأصحابُها في جنات ونهر، وبالتقوى يجعل الله من كل ضيق مخرجًا، ويرزق من حيث لا يحتسب المرزوق، ومن يتقِ الله يجعلْ له فرقانًا ويكفرْ عن سيئاته ويُعظمْ له أجرًا. أيها المسلمون: سورةٌ في كتاب الله قليلٌ آيُها، كبيرٌ حدثها، وعظيمٌ مدلولها، تنبئ عن نهاية الظلم، وهلاك المتكبرين ... لا بسلطانِ البشر وقوتهم، ولكن بقوة الله وحده وجبروته ... وتؤكد السورة ألا قوة فوق قوة الله ... وأن القوى الظالمة مهما تجبرت وطغت فنهايتها الفناء. أخرج الحاكم مختصرًا وصححه، وزاد غيره - قصة أصحاب الفيل - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقبل أصحابُ الفيل (عليهم أبو يكسوم صاحبُ الحبشة) ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 8/ 10/ 1420 هـ.

ومعه الفيل، حتى إذا دنوا من مكة (عند الصفاح) استقبلهم عبدُ المطلب (جدُّ النبي صلى الله عليه وسلم) فقال لملكهم: ما جاء بك إلينا، ألا بعثت فنأتيك بكل شيء أردت؟ قال: أخبرتُ بهذا البيت الذي لا يدخله أحدٌ إلا أمِن، فجئتُ أخيفُ أهله، فقال: إنا نأتيك بكل شيءٍ تريد فارجع، فأبى إلا أن يدخله، فقال (عبد المطلبُ): إن هذا بيتُ الله تعالى لم يُسلط عليه أحدًا، قالوا: لا نرجعُ حتى نهدمه، وانطلق يسير نحوه، وتخلف عبدُ المطلب فقام على جبل فقال: لا أشهد مَهْلِكَ هذا البيت وأهله، ثم قال: اللهم إن لكلِّ إلهٍ ... حلالًا فامنع حلالك لا يغلبن مِحالُهم ... أبدًا مِحالك اللهم فإن فعلتَ ... فأمرٌ ما بدا لك فلما انتهى الجيشُ إلى الحرم برك الفيل وحبسه الله عن مكة فأبى أن يدخلَ الحرم، فإذا وُجه راجعًا أسرع راجعًا، وإذا أريد على الحرم أبي، وجعل اللهُ كيدهم في تضليل، فأقبلت مثلُ السحابة من نحو البحر طيرٌ صغارٌ بيض، أبابيل، لها خراطيمُ كخراطيم الطير وأكُفٌّ كأكُفِّ الكلاب، في أفواهها حجارة أمثال الحِمِّصِ سوداء بها نضح حمرة، كأنها جَزَعُ ظفار، في منقارِ كل واحدٍ منها حجرٌ، وحجران في رجلين (من طين)، فأقبلتْ حتى أظلتهم فجعلت ترميهم بها، ولا تصيب شيئًا إلا هشمته، فجعل الفيل يَعج عجًا، فجعلهم اللهُ كعصف مأكول، فكان لا يقع منها حجرٌ على أحدٍ منهم إلا تفطر مكانَه، فذلك أولُ ما كان الجدري، ولم تُصبهم كلَّهم، فأخذتهم الحكةُ، فكان لا يحك إنسانٌ منهم جلده إلا تساقط لحمُه، فأصيب أبو يكسوم في جسده فهرب، وكلما قدم أرضًا تساقط بعضُ لحمه، حتى أتى قومه فأخبرهم الخبر ثم هلك. وأرسل الله إليهم سيلًا فذهب بهم وألقاهم في البحر، وبقي خزق الفيل

أخضرُ محيلًا بعد عام، وكان يقف عليه البعضُ ينظر إليه، ومنهم قباث بن أشيم أخو بني يعمر بن ليث وأمُّه، وعاش سائس الفيل وقائده بمكة أكثر من خمسين سنة بعد هذه الحادثة، ولكنهما عميا، ورأتهما عائشة رضي الله عنها وهام أعميان مقعدان، يستطعمان الناس. وفي فجر ذلك اليوم العظيم الذي ردَّ الله فيه كيد أصحاب الفيل، ولد محمد صلى الله عليه وسلم، في الثاني عشر من شهر ربيع الأول (¬1). أجل: لقد كانت حادثةُ الفيل تقدمةً بين يدي مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإرهاصًا، ومقدمة لبعثته وما سيكون له من شأن في البلد الحرام. يقول ابنُ القيم رحمه الله: وكان أمرُ الفيل تقدمةً قدمها اللهُ لنبيه وبيته، وإلا فأصحابُ الفيل كانوا نصارى أهلَ كتاب، وكان دينُهم خيرًا من دين أهل مكة إذ ذاك؛ لأنهم كانوا عُبَّادَ أوثان، فنصرهم الله على أهل الكتاب نصرًا لا صنع للبشر فيه، إرهاصًا وتقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج من مكة وتعظيمًا للبيت الحرام (¬2). وكانت حادثة الفيل معجزةً من معجزات محمد صلى الله عليه وسلم ودليلًا على نبوته، كيف لا وقد نزل عليه الوحيُ من ربِّه يخبره عن هذه القصة الواقعة، ويؤكد لأهل مكة ما قد رأوه بأعينهم. قال القرطبي رحمه الله: قال علماؤنا: كانت قصةُ الفيل فيما بعدُ من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت قبله؛ لأنها كانت توكيدًا لأمره وتمهيدًا لشأنه، ولما تلا عليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سورة الفيل كان بمكة عددٌ كثير ممن شهد تلك الوقعة ¬

(¬1) انظر صحيح السيرة النبوية، ابن طرهوني: 1/ 143 - 145. (¬2) زاد المعاد 1/ 76.

ولهذا قال: «ألم تر» (¬1). أيها المسلمون: وتؤكد حادثةُ الفيل أن القوة لله جميعًا ... وإن قوى البشرِ مهما بلغت تتضاءل أمام قوةِ الله ... كما تكشف الحادثة عن ضعف البشر مهما تجبروا وآتوا من قوة أمام سلطان الله. أجل: لقد أرعد وأزبد أبرهة وأقسم ليهدمنَّ الكعبة، وليصرفن العرب في الحج إلى الكنيسة القُلِّيس التي بناها في صنعاء، وكتب إلى سيده في الحبشة يقول: إني قد بنيت لك أيها الملكُ كنيسةً لمن يبن مثلُها لملكٍ كان قبلك، ولستُ بمنته حتى أصرف إليها حَجَّ العرب ... وحين احتملتُ الحميةُ واحدًا من العرب، فذهب وأحدث في هذه الكنيسة ما أحدث استشاط أبرهة غضبًا، وشكل جيشًا عظيمًا تقدمه الفيلة، وزاد من غيظه أنه حين بعث إلى بني كنانة - قبيلة الرجل الذي أحدث في الكنيسة - يطلب منهم الحج إلى كنيسته قتلت بنو كنانة رسوله، فتجهز الأحباشُ النصارى وساروا بقيادة أبرهة بجيش عرمرم، فتسامعت العربُ بمخرجه وهدفه، فعظموا بيتَ الله ورأوا قتالَ أبرهة والتصدي له واجبًا عيهم، وإن كانوا أقلَّ منه شأنًا، وتعرضوا له بالحرب، ولكنه أوقع فيهم وانتصر على كل من خرج عليه منهم، حتى بلغ بيت الله ... وانتهت دونه الحماية البشرية ولم تبق إلا قوة الله، ولم يبق من ناصرٍ أو معينٍ قادرٍ على دفع الظالمين ... وأنَّى لقريش بضعف قواها ... أو ضعف معتقدها أن تصمد لجيش حطّم القوى قبلها ... وكان من عقل عبد المطلب أن يطلب من قومه الخروج من جوار الكعبة، إذ لا قبل لهم بأبرهة وجيشه، ويقول قولته المشهورة: أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه، وأن توكل حماية البيت إلى ربه والآمر ببنائه، ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن: 20/ 195.

وقد كان، فجاءت جنودُ السماء تحمل العذاب الأليم لهؤلاء المستكبرين ... وكانت النهايةُ لهؤلاء القوم، ولم تكن نهايتهم بداية الهلاك للأمم والقوى الظالمة، فقد سبقتها قوى حُطمت، وقرى أهلكت، وديارها أطلالٌ موحشة تحكي قصتها كما قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (¬1)، وأصحاب الفيل نموذج من نماذج الظالمين المُهْلكين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} (¬2). ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 58 .. (¬2) سورة الفيل، الآيات: 1 - 5.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله رَبِّ العالمين ناصرِ دينه، ومعزِّ أوليائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نصر عبدَه وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله ... نصره ربُّه بالرعب، فما لقيه أحدٌ إلا هابه وقدَّره، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر المرسلين. عبادَ الله: لا تعني حادثةُ الفيل أن يتعطل المسلمون عن فعل الأسباب المشروعة لمقارعة الباطل وأهله، فالتوجيه واضح: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (¬1). ولكنها تؤكد عدم الاستسلام للباطل مهما انتفش أصحابُه، وتؤكد عدم اليأس من نصرِ الله حين يُستضعف المسلمون - إذا ما صدقوا مع خالقهم. كما تؤكد عدم الإحباط عند رؤية القوى الكبرى تبطش وتقهر، وتحلّ وتعقد ... فربك للظالمين بالمرصاد، وهو يمهل ولا يهمل، وأخذه أليم شديد، ونواميسُ الكون بيده ... وهو واهبُ القوى، والقادرُ على نزعِها ... وما قدر وقضى لحكمٍ قد يعلمُ البشرُ بعضَها، وقد يخفى عليهم الكثيرُ منها. أيها المسلمون: ومن دلالات حادثة أصحاب الفيل أن الاعتقادَ بتخليد قوة مهما بلغت وديمومتها ظنٌّ خاطئٌ يُكذبه الواقع، ويشهد بخلافه ناموسُ الكون بقدرة الله .. فأين عادٌ التي لم يُخلق مثلُها في البلاد؟ وأين ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وأين فرعونُ الذي قال: ما علمتُ لكم من إله غيري، وقال: أنا ربكم الأعلى؟ وأين قارون الذي آتاه اللهُ من الكنوز ما إنَّ مفاتِحَه لتنوء بالعصبة ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 60.

أولي القوة، وقال: إنما أوتيته على علم عندي؟ أين جحافلُ التتار الذين عاثوا في الأرض الفساد، يقتلون ويرهبون؟ وأين أصحابُ الحملات الصليبية على مدى قرنين من الزمان؟ وأين أصحاب الحربين العالمية الأولى والثانية، وما خلفتاها من دمار؟ بل أين دهاقنة الشيوعية الحمراء؟ وقد أذن الله مؤخرًا بسقوط دولة الاتحاد السوفيتي بتمزق الاتحاد دولًا، ولا تزال روسيا تصارع من أجل البقاء ... وتصب جام غضبها على المسلمين. إن تاريخ القوى المحطمة والدول المتتالية في السقوط عبر القرون يؤكد حقيقة الملك لله والتفرد لله ... وكلما زاد الظلم تسارع السقوط، وكلما كان الهدى والصلاحُ عُمرت الدول، صدق الله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (¬1). إخوة الإسلام: ومن دلالات حادثة الفيل أن العرب لا شيء بدون الإسلام، فلم يكن لهم دورٌ في الأرض أو شأن يذكر، بل ولا كيانٌ يرهب قبل الإسلام. لم يستطيعوا حماية البيت، ولم يشأ الله أن يحمي بيته المشركون ... ولكنه حين شاء وقدّر أن يبعث فيهم رسولًا إلى البشرية وأن تكون الكعبةُ قبلتَه حمى بيته، فعظّم العرب هذتا البيت المحمي من قبل الله ... وزاد ذلك من تقدير العرب لقريش حتى إذا بُعث النبيُّ منهم كانت حادثة الفيل إرهاصًا لمولده وبعثته. وتحت راية الإسلام ولأول مرة في تاريخ العرب أصبح لهم دور عالمي يؤدونه، وأصبحت لهم قوةٌ دولية يُحسب لها حساب ... حملوا عقيدةً ضخمةً يهدونها إلى البشرية رحمةً وبرًا بها، ولم يحملوا قوميةً ولا عصبية ... حملوا ¬

(¬1) سورة هود، الآية: 117.

فكرةً سماويةً يعلمون الناس بها، ولا مذهبًا أرضيًا يخضعون الناس لسلطانه، وخرجوا من أرضهم جهادًا في سبيل الله وحده، ولم يَخرجوا ليؤسسوا إمبراطوريةً عربيةً ينعمون ويرتعون في ظلها، ولم يُخرجوا الناس من حكمِ الروم والفرس إلى حكم العرب، وإنما أخرجوهم من عبودية البشر بعضهم لبعض إلى عبودية ربِّ البشر، عندئذ كان للعرب وجودٌ وقوةٌ وقيمةٌ، وقيادة وقوة ترهب، وسلطانٌ يمتد، وتسارع الناس إلى الدخول في دينهم وتحت حكمهم العادل، وامتدَّ ضياءُ الإسلام يطوي بساط الظلام. عبادَ الله: وإذا قيل بالأمس: ما العربُ بغير الإسلام؟ ! أمكن القول اليوم وما العرب، بل وما المسلمون بغير الإسلام الحق؟ ! ويأتيك الجوابُ عاجلًا ودون تردد: لا شيء لا شيء، أجل وربي، إن العقيدة الحقة هي التي جعلت للعرب بالأمس شأنً يذكر، وهي التي يمكن أن تعيد لهم سلطانهم ودورهم في الأرض اليوم، وما أحوج الوجود إلى عقيدتهم الحقة - بها ينشرون العدل والخير، وبها تُطوى صفحاتُ الظلم والهضم، وبها تتساقط القوى الوهمية وتنتهي الشعاراتُ الخادعة، وحين يصدق المسلمون في عقيدتهم وتوجههم لخالقهم يكفيهم كيد الكائدين، ويدفع عنهم قوى الأرض مهما كان حجمُها ونوعُ قوتها ... فالذي دفع أصحاب الفيل وردّهم خاسئين وجعل كيدهم في تضليل، قادرٌ على دفع غيرهم من الأمم الكافرة الظالمة. ولم يكن أصحاب الفيل هم القوة الأولى ولا الأخيرة في هذا الكون ممن دمرهم الله وأهلكهم بظلمهم. ووفق سنة الله في الكون فسيظل الهلاكُ والتدمير لكل من عتى وتسلط وتكبر: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآيتان: 44، 45.

مراتب الجهاد

مراتب الجهاد (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، وخيرته من خلقه، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عبادَ الله: اتقوا الله حقَّ تقاته ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون، واتقوا الله وكونوا مع الصادقين، واتقوا الله ويعلمكم الله. إخوة الإسلام: وهناك شعيرةٌ عظيمةٌ من شعائر ديننا يقلُّ الحديثُ عنها، أو يُقصَّرُ في مفهومها، وربما قلَّ أو ضعف العملُ فيها، أو في أحدٍ من جوانبها. إنها شعيرةُ الجهادِ في سبيل الله بمفهومها الواسع، وبأنواع الجهادِ ومراتبهِ المختلفة. إن عددًا من النساء حين يسمع كلمةَ الجهاد يتبادر إلى ذهنِهِ جهادُ الأعداء بالسيف، وقتالُ الكفار بالأسلحة المادية، وهذا النوعُ من الجهاد - وإن كان مهمًا ودرجتُه عاليةٌ في الأمة - فليس هو الجهاد كلَّه، فثمةَ مراتبُ أخرى من مراتب الجهاد، أوصلها بعضُ العلماء إلى ثلاثة عشرَ مرتبةً، لا بد من معرفتها والعمل بها. وهذه المراتبُ المختلفةُ والمتفاوتةُ لا يُعفى مسلمٌ ولا مسلمةٌ من الإسهامِ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 20/ 2/ 1420 هـ.

فيها، وكلما أخذ المرءُ منها بنصيبٍ أوفر، كان نصيبُه من الإيمان والجهاد أكبر، أجل، لقد جاء ذكرُ الجهاد في كتاب الله كثيرًا، وشملت آياتُه جهادَ الكفارِ، وجهادَ المنافقين، وجهادَ النفس، وجهادَ الشيطان، والجهادَ بالمال، وجهاد الحُجَّة والبيان، وكذا جاءت نصوصُ السنةِ النبوية مبيّنةً لما أُجمل في القرآن، وموضحةً فضلَ ومنازلَ المجاهدين. ومما يلفت النظر، ويوسع مفهوم الجهاد في القرآن، أن واحدةً من آيات الجهاد نزلت في سورة مكية - أي قبل أن يفرض الجهادُ في المدينة. يقول تعالى في سورة الفرقان مخاطبًا نبيَّه صلى الله عليه وسلم وآمرًا له بالجهاد من حين بعثه: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (¬1). قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} يعني: بالقرآن، وقال ابنُ زيدٍ: بالإسلام، وقيل: بالسيف، وهذا فيه بُعْدٌ؛ لأن السورة مكية نزلت قبل الأمر بالقتال - كذا نقل القرطبي، وقال في معنى {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} أي: لا يخالطه فتور (¬2). يا أخا الإسلام: وإليك مراتب الجهادِ، وسائل نفسك بأي قدرٍ أخذت منها، بل وكم نجحت أو غُلبت في شيءٍ منها. قال ابنُ القيم رحمه الله: الجهادُ أربعُ مراتب: جهادُ النفس، وجهادُ الشيطان، وجهادُ الكفار، وجهادُ المنافقين، فجهادُ النفس أربعُ مراتب أيضًا: الأولى: أن يُجاهدها على تَعلُّم الهدى ودينِ الحق الذي به سعادةُ المرءِ وفلاحُه في الدارين. ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآيتان: 51، 52. (¬2) تفسير القرطبي 13/ 58، ابن القيم: زاد المعاد 3/ 5.

الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجردُ العلمِ بلا عمل إن لم يضرَّها لم ينفعها. الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يَعلمُه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزلَ الله من البيناتِ والهدى. الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كلَّه لله، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلفَ مجمعون على أن العالِمَ لا يستحقُّ أن يُسمى ربانيًا حتى يعرفَ الحقَّ، ويعملَ به، ويُعلِّمَه. وأما جهادُ الشيطان فمرتبتان: جهادُه على دفْع ما يُلقي إلى العبد من الشبهات، والشكوك القادحة في الإيمان. والثانية: جهادُه على دفع ما يُلقي إليه من الإيرادات الفاسدة والشهوات. وأما جهادُ الكفارِ والمنافقين فأربعُ مراتب، بالقلب، واللسان، والمال، والنفس. وجهادُ الكفارِ أخصُّ باليد، وجهادُ المنافقين أخصُّ باللسان. وأما جهادُ أرباب الظلم والبدعِ والمنكرات فثلاثُ مراتب، الأولى: باليد إذا قدر، فإن عجز انتقلَ إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه. فهذه كما يقول ابنُ القيم رحمه الله - ثلاثة عشر مرتبةً من الجهاد: «ومن مات ولم يغزُ ولم يُحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» (¬1). إخوة الإيمان: ويحتاج المسلمُ والمسلمةُ إلى المعرفة والعمل بهذه المراتب كلِّها - في كل زمان - ولكن الحاجةَ إلى ذلك تشتد في مثل هذه الأزمان التي ¬

(¬1) رواه مسلم 1910، انظر: زاد المعاد: 3/ 9 - 11.

تكاثر فيها الأعداءُ على المسلمين، فالعدوُّ الخارجي انتهك بلادهم، وقتل وشرد، واستباح حرماتهم، والمنافقون باتوا يجمعون فلولهم وجاؤوا يركضون، وأشغلوا الأمة عن قضاياها المصيرية مع أعدائها بطرح شعارات كاذبة، ودعاوى خبيثة، وفتنٍ مستشريةٍ، هذا مع ما في الأمة من ضعف وخورٍ، وجُبنٍ وهلع، وتبعية ممقوتة، وتشبث بمظاهر كاذبةٍ، وتعلق بأشياء تافهة إلا ما شاء الله، والمؤلمُ إذا سرى في الأخيار منهم داءُ الوهم والوهن، وأصيبوا بالتلاوم والإحباط، وشغلوا بالدنيا عن الدين، أو بالمهاترات والخلافات الممقوتة، وحصروا أنفسهم في دائرةٍ ضيقةٍ ما كان العدوُّ يطمعُ أن يصيروا إليها. عبادَ الله: ونحتاج لمعرفة هذه المراتبِ من الجهاد في معركتنا المتجددة مع أنفسنا ومع الشيطان، وفي ظل معركةِ الشبهات والشهوات، وفي عالم حرب الفضائيات وغزو القنوات. ونحتاج للعلم والعمل بهذه المراتب الجهادية لانتشار رقعةِ الفساد، وغربة الإسلام، وموجةِ التقليد، وإعجابِ كلِّ ذي رأي برأيه، وغياب الهدفِ الأسمى للوجود في هذه الحياة عند فئامٍ من المسلمين. أيها المسلمون: ويستخلص مما مضى أن أعداء الإنسان المأمور بمجاهدتها أربعة: النفسُ، والشيطان، والكفارُ، والمنافقون، وإن هناك حكمةً إلهيةً لتسليط هؤلاء الأعداء على الإنسان، وذلك ليبلوَ الله الصادقين من الكاذبين، ويميز الخبيث من الطيب، ويمتحن الله من يتولاه ورسلَه، عمن يتولى الشيطانَ وحزبه، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (¬1). ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية: 20.

وقال تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} (¬1). وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (¬2). عبادَ الله: وفي ظل هذه المعركة، والأعداءِ المسلطة، لم يترك اللهُ عبدَه دون مدد، ولم يُخلِهِ من مدافعة، بل جعل له السمع والبصر والعقلَ والقُوى، وأنزل عليه كتبه، وأرسل إليه رسله، وأمدهم بملائكته، وقال لهم: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} (¬3). وأمرهم بدوام المجاهدةِ والمصابرة، ووعدهم على ذلك رضاه والجنة، وأخبرهم أنه مع المتقين، ومع المحسنين، ومع المؤمنين، ومع الصابرين، وذلك حتى لا يستوحشوا أو يفتروا، بل أخبرهم بدفاعه عنهم: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬4). ولكن هذه المدافعة بحسب إيمانهم، وثقتهم وتوكلهم ودعائهم لخالقهم ... مهما أحاطت بهم الخطوب، وتكاثرت عليهم الأعداء، ومن قبلُ قال إخوانُهم المؤمنون: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (¬5)، بل وكان حالُ الأنبياء السابقين مع النصر كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (¬6). نفعني الله وإيّاكم بهدي كتابه. ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 4. (¬2) سورة محمد، الآية: 31. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 12. (¬4) سورة الحج، الآية: 38. (¬5) سورة الأحزاب، الآية: 22. (¬6) سورة يوسف، الآية: 110.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين أوحى إلى عبده: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬1). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فاوت بين المجاهدين والقاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬2). وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، أخبر أن طائفةً من أمته: «لا تزال تُقاتل على الحق، ظاهرين على من ناوأهم حتى يُقاتل آخرُهم المسيحَ الدجال» (¬3). اللهم صلِّ وسلم عليه، وعلى سائر أنبياء الله ورسلِه. إخوة الإيمان: أخرج الإمام أحمدُ رحمه الله من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «ألا أخبركم بالمؤمن؟ مَنْ أَمِنَهُ الناسُ على أموالهم وأنفسهم، والمسلمُ من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهدُ من جاهد نفسَه في طاعة الله، والمهاجرُ من هجرَ الخطايا والذنوب»، والحديث صححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي. «المستدرك»: 1/ 11 (¬4). وهكذا يتسعُ مفهومُ الجهاد في السنة، ويؤكد المصطفى صلى الله عليه وسلم فيه على تربية النفس على طاعة الله، والإقلاع عن الذنوب والخطايا ... فتلك بدايات أساسية للجهاد في مجالاته الأخرى، قال العارفون: إن مجاهدة النفس مقدمٌ ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 73. (¬2) سورة النساء، الآية: 95. (¬3) صحيح سنن أبي داود: 2/ 471. (¬4) المسند 6/ 21، زاد المعاد 3/ 6، الهامش 1.

على جهاد العدوِّ في الخارج، فإنه ما لم يجاهدها لتفعلَ ما أمرت به، وتتركَ ما نُهيت عنه، لم يمكنه جهادُ عدوِّه في الخارج ... بل لا يمكنه الخروجُ لمنازلة العدو حتى يجاهدَ نفسه على هذا الخروج (¬1). عبادَ الله: ولا يتم الجهادُ إلا بالهجرة، ولا الهجرةُ والجهادُ إلا بالإيمان، والراجون رحمةَ الله هم القائمون بهذه الثلاث كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). وكما أن الإيمان فرضٌ على كل أحدٍ، ففرضٌ عليه هجرتان في كل وقت: هجرةٌ إلى الله عزّ وجلّ بالتوحيد، والإخلاص، والإنابة والتوكل، والخوف، والرجاء، والمحبة، والتوبة. وهجرةٌ إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالمتابعة والانقياد لأمره والتصديق بخبره، وتقديم أمرِه وخبرِه على أمرِ غيرِه وخبره (¬3). وهكذا - إخوةَ الإيمان - يتسعُ مفهومُ الهجرةِ كما اتسع مفهومُ الجهاد - ويَفرضُ على كلِّ مسلم جهادُ نفسه في ذات الله، وجهادُ شيطانه، وهذا مما لا ينوب فيه أحدٌ عن أحد، فانظر - أيها العاقل - في نفسك، وقوِّمها في باب المجاهدة والهجرة، فإن وجدت خيرًا فاحمدِ الله؛ واسأل ربَّك الثبات والمزيد، وإن وجدتَ خلاف ذلك فتدارك نفسَك ما دام في الأمر مهلةٌ، وتُبْ مما يُثقل كاهلك يوم العرض على الله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ ¬

(¬1) زاد المعاد: 3/ 6. (¬2) سورة البقرة، الآية: 218. (¬3) زاد المعاد: 3/ 11 - 12.

يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬1). يا أخا الإسلام: إياك أن تكون عنصر تعويق في أمتك، واعلم أن معصيتك لله، وانحرافك عن صراطه المستقيم خرقٌ في سفينة الأمة، وأن ضعفك وتراخيك في مجاهدة نفسك أو مجاهدةِ الأعداء، إنما هو ثُلمةٌ في بنيان أمتك، ورحم اللهُ الخليقةَ الراشد حينما أوصى قائد جنده السائر للمعركة بقوله: «واعلم أن ذنوب الجيش أشدُّ عليه من أعدائه». أما طاعتُك - أخا الإسلام - وجهادُك في سبيل الله فهو رافدٌ لنهضة الأمةِ، وسببٌ من أسباب نصرها، فإياك أن تحقر نفسك، أو تهمش دوركَ، أو تُرحل المسؤولية على غيرك، فعليك سهمٌ في الجهاد والدعوة أينما كان موقعُك، ومهما كانت قدراتك: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬2) ولكن: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (¬3)، فإن قلت أنك في عداد الضعفاء، فليس يعجزك أن ترفعَ يديك إلى السماء داعيًا بتسديد سهام المجاهدين، وإبطال كيد الكائدين، وذكِّر رهبانَ الليل بسهم الدعاء فهو لا يخطئ، ولا يغبْ عن بالك أن الأمة إنما يرحمون وينصرون بضعفائهم ... وهكذا تتكامل الطاقات، وتسدد المواقع، وتوصد الأبوابُ دون المفسدين. يا أخا الإيمان: وكيف تتأخرُ في التقوى والمجاهدة، وربُّك يخاطبك بآيتين حريٌّ بك أن تتأملهما وتعمل بمقتضاهما، وهما: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬4)، والأخرى قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬5). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 110. (¬2) سورة البقرة، الآية: 286. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬5) سورة الحج، الآية: 78.

قال العالمون: ولم يُصبْ من قال إن الآيتين منسوختان، لظنه أنهما تضمنتا الأمرَ بما لا يُطاق، {حَقَّ تُقَاتِهِ} و {حَقَّ جِهَادِهِ} هو ما يُطيقه كلُّ عبدٍ في نفسه، وذلك يختلف باختلاف أحوالِ المكلفين في القدرة، والعجز، والعلم، والجهل، فحقُّ التقوى وحقُّ الجهاد بالنسبة إلى القادر المتمكن العالم شيءٌ، وبالنسبة إلى العاجز الجاهل الضعيف شيء ... وفي قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} تأكيدٌ على أن الأمر يَسعُ كلَّ أحدٍ، وكلٌّ بحسبه (¬1). لا مفرَّ - يا أخا الإيمان - من المسؤولية، ولا مناص عن المشاركة في الجهاد والدعوة ... ولربما فاق درهمٌ ألفَ درهم، وكم من فئةٍ قليلةِ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله، وصدق الله: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} (¬2). فإذا علمت سعةَ مفهوم الجهاد ... وكثرةَ مراتبه ... فسارع إلى المساهمة العاجلة في الخير، وفكّر في أي أبواب الجهاد تثمر، وأعْمِلْ فكرك، وجدِّد في وسائل الدعوة ومشاريعها ... وأرجو أن أعينك بشيء من ذلك مستقبلًا، نفعك الله ونفع بك وسدد سهامك، وأقال عثرتك، وشتَّت شمل عدوِّك وعدوِّ المسلمين، إنه سميع الدعاء. ¬

(¬1) زاد المعاد: 3/ 8. (¬2) سورة النساء، الآية: 104.

ما قبل الزواج

ما قبل الزواج (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله ربِّ العالمين، خلق الزوجين الذكرَ والأنثى، من نطفة إذا تُمْنَى، وأن عليه النشأةَ الأخرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬2). وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، جاءت شريعتُه حاثّةً على كل خير، مستجيبةً لنداء الفطرة، معالجةً لنوازع البشر ورغباتهم، وهو القائل: «حُبب إليَّ من دنياكم النساء والطيب، وجُعلت قرة عيني في الصلاة». اللهم صلِّ وسلم عليه، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬3). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬4). عبادَ الله: والحديثُ عن الزواج حديثٌ تدعو الحاجةُ إليه عمومًا، وفي هذه الأيام على الخصوص، وفيه عدةُ تنبيهات يحسن الإشارة إليها، وفي الحديث ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 4/ 3/ 1420 هـ, (¬2) سورة الروم، الآية: 21. (¬3) سورة النساء، الآية: 1. (¬4) سورة الحجرات، الآية: 13.

عن الزواج مشاركةٌ لهموم قطاع كبير من الشباب والفتيات، فضلًا عن الكبار من الرجال والعانساتَ من النساء. وسأقصر الحديث في هذه الخُطبة على (ما قبل الزواج)، فماذا يدورُ في مخيلة الشباب حين يُفكر في الزواج، لماذا يتزوج؟ وبمن يتزوج؟ هل يتزوج لغرضٍ واحدٍ، أم في ذهنه للزواج عدةُ أغراض، ويفهمُ للزواج عدة حكمٍ وأهداف، ماذا يُخيفه من الزواج؟ وما الشبحُ الذي يطارده؟ وقد يقعد به عن الزواج! ! والفتاةُ - هي الأخرى - لماذا تتزوج، وما الزوج المفضلُ لها؟ ولماذا ترفض الزواج - أحيانًا - وما المؤثراتُ التي تؤثر عليها في تأخير الزواج؟ وما أثرُ هذا التأخير على حياتها ومستقبلها؟ وماذا يُقال عن عزوبةِ الرجال وعنوسة النساء؟ أما المجتمع - سواء كان مجتمعَ الزوجين القريبين - أو المجتمعَ الكبيرَ بأسره، فيسأل: ما سُبل تيسيرِه للزواج؟ وما المعوقاتُ والعوائدُ الاجتماعية التي تُثقل بها كاهلَ الزوجين - من حيث يشعر أو لا يشعر، ويكون بها سببًا لتأخير الزواج! وفئةٌ رابعةٌ يحسن الحديث عنها وعن أثرها على الزواج، وعلى دورها في ترسيخ مفاهيم خاطئةٍ عن العلاقة بين الجنسين، ومشروعية الزواج وما ينبغي أن يكون لها أو لبعضها من أثرٍ في تيسير الزواج، ونشر المفاهيم الصحيحة لعلاقة الزوجين، والأهداف المشروعة من وراء عقد الزواج، إلى غير ذلك من نشر الوعي وصدِّ الهجمات المعادية. أيها الشاب المسلم: والمفترضُ أنك حين تَهمُّ بالزواج، وفي ذهنك عدةُ أغراضٍ، وتريد أن تحقق أكثر من هدف للزواج، فإحصانُ فرجِكَ عن الحرام طريقه الزواج المشروع: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا

مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (¬1). فلا النظرة المحرمة، ولا العادة السرية، ولا الارتماء في أحضان الساقطات ... يحقق لك أهداف الزواج وتحقيقُ سُنةِ الأنبياء عليهم السلام - في الزواج - وإكمالُ الدين هدفٌ ينبغي ألا يغيب عن ذهنك، وقد قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (¬2). وتكثيرُ نسل المسلمين، والسعيُ لإيجاد ذريةٍ صالحةٍ تعتزُّ بها وتسعدُ في حياتك، وينفعك اللهُ بها والمسلمين بعد مماتك ... هدفٌ جليل ينبغي أن تضعه نصب عينيك، وتسعى في سبيله لاختيار الولود الودود من النساء، ومحمد صلى الله عليه وسلم يوصيك بهذا ويقول: «تزوجوا الولودَ الودودَ، فإني مكاثرٌ بكم الأممَ يوم القيامة». ومن أهداف الزواج التي يباركها الإسلام، ترابطُ الأسرة، وتقويةُ أواصرِ المحبةِ بين الزوجين، وتنميةُ غزيرة الأبوةِ والأمومةِ، ومزيدُ الشعور بحقِّ الوالدين من خلالِ محبة الأطفال ورعايتهم، والشعورُ بمسؤوليةِ الزواج وما يدفعه إلى العمل وبذلِ الأسباب في سبيل الاستغناء وإغناء من يعولهم، كلُّ ذلك إيجابياتٌ وواجباتٌ حثَّ الإسلامُ عليها. وكل ذلك لا ينافي الاستمتاعَ بما أحل الله من ملاذ الدنيا، وقضاء الوطر حسب ما شرع الله: «فالدنيا متاع، وخيرُ متاعها المرأةُ الصالحة» رواه مسلم. وحين تكون هذه الأهدافُ حاضرةً في ذهنك، فإني أنصحك أخي الشاب أن تختار لنطفتك فالعرقُ دساس، وألا يكون الجمالُ وحده مؤشر الاختيار عندك، فكم من حسناء تنبت في منابت السوء، فإياك وخضراءَ الدِّمَنِ، وإذا كان رسولُ ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآيات: 5 - 7. (¬2) سورة الرعد، الآية: 38.

الهدى صلى الله عليه وسلم قد حَدَّدَ الأغراض التي تنكح لها المرأةُ غالبًا، فقد قال في النهاية موصيًا: «فاظفر بذات الدين تربتْ يداكَ». وحريٌّ بك أن تختار زوجتك من بيئةٍ كريمةٍ، معروفة باعتدال المزاج وهدوء الأعصاب، والبعد عن الانحرافات الخلقية والنفسية، فإنه أجدرُ أن تكون هذه المرأة حانيةً على ولدها، راعيةً لحقِّ زوجها (¬1). قال عليه الصلاة والسلام: «خيرُ نساءٍ ركبن الإبل صالحُ نساءِ قريش، أحناه على ولدٍ في صغره، وأرعاه على زوجٍ في ذات يده» متفق عليه. أيها الشابُّ: ونذكرك ألا تكون الشهوةُ الجنسيةُ - هدفك الأول والأخير - مع حلِّها لك - كي تبلغ الكمال في رجولتك، وتُعدِّدَ أغراض الزواج في حاضرك ومستقبلك، لنفسك ولزوجك ولأولادك وللمجتمع من حولك، وإياك أن تُسرف في الشروط والمواصفات، أو أن تخشى الفقر من زواجك وأولادك، فتلك معوقاتٌ وهميةٌ فاحذرها، وإن طاردك شبحُ غلاء المهور، فعسى أن يجعل اللهُ لك مخرجًا ويرزقك من حيث لا تحتسب، والزم أمر الله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬2)، وتمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» متفق عليه. أيتها الفتاة: ويُقال لكِ ما قيل للشاب في أغراض الزواج وحِكَمِهِ، ولا يغب عن بالِك أنك لبنةٌ مهمةٌ في بناء الأسرة المسلمة، وكم يحرص الأعداءُ على تقويض هذه الأسرة بوسائل مختلفةٍ، واعلمي أن في تأخيرك الزواج بحجج واهية تأخيرًا لبناءِ الأسرة، وتقليلًا لنسل الأمة المسلمة، واستجابةً لأهدافِ الأعداء، وتأثرًا بالغزو الفكري. ¬

(¬1) سيد سابق: فقه السنة: 2/ 21. (¬2) سورة النور، الآية: 33.

أختاه: وفي زمن استشراءِ صورِ الإغراء والإغواء، واستهداف المرأة عمومًا بالإفساد، يلزم الفتاة ألا تَرُدَّ خاطبًا يُرضي دينُه، وخُلقُه، وأمانتُه، ومن حقها أن تتأكد أو يُتأكد لها عن استقرارِه النفسي، وطيب الأسرة التي ينتمي لها، وخلوِّه من الموانع الشرعية لمثلها ... وألا يكون تركيزُها على شكله الظاهر فحسب، أو على نوع وظيفته، ومركزه الاجتماعي. قال عليه الصلاة والسلام: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخُلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريض» (¬1). أيتها الفتاةُ المسلمةُ: وفي الزواج المبكر خيرٌ لك وللمجتمع من حولك، وهل غاب عنك أن أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، دخل بها سيدُ المرسلين وهي بنتُ تسع سنين. متفق عليه. ولا ينبغي أن تقعد بك مواصلةُ الدراسة، أو الرغبة في الوظيفة أو مشورة الصديقة، أو رغبةُ الأهلِ في التأخير لأسباب غير مشروعة ... عن الزواج المبكر. كما لا ينبغي أن تؤثر فيك وسائلُ الإعلام الغازية، والمحذرة لك عن الزواج المبكر، فثمة ذئابٌ تلبس لبوس الضأن وتظهر بمظهر الناصح، والله أعلم بما يكتمون. أختاه: وحذاري أن يطاردك - في المستقبل - شبح العنوسةِ بسبب الرفض المبكر، والاعتذار عن الزواج حين يتواردُ الخُطَّاب، فأنتِ الخاسرُ الأكبر، وستعُضين أصابع الندامة، حين ينصرف الشبابُ عنكِ، وهل ترغبين أن تكوني مثل هذه المرأة التي قالت: «لا نرجو مالًا، بل نريد أزواجًا، شبحُ العنوسة يطاردنا»؟ ! . ¬

(¬1) رواه الترمذي وحسَّنه: 1090.

أختاه: احذري التبذلَ والسفور ومواطن الريب، ولا تُسْتَجَرِّي للاختلاط وسيّئ الأخلاق ... فكل ذلك يجعل الأزواج حذرين من التقدم لخطبتك، فهم يبحثون عن الأمينة العفيفة والجوهرة المصونة، تسّره إذا نظر إليها، وتحفظه في نفسها وماله وأولاده إذا غاب عنها، كما ينفر الأزواج من المرأة التي لا تقومُ بأعباء الحياة الزوجية وواجباتها، فليكن لك في بيت أهلك مراسٌ في أمور البيت، قبل أن تتحملي المسؤولية كاملة في بيت الزوج.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربّ العالمين، جعل الزواجَ عبادةً يتقرب بها العبدُ إلى مولاه، وامنَّ على عباده بنعمةِ الزوج والولد فقال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} (¬1). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، أخبر وهو الصادقُ المصدوق، عن قيمة الزواج بقوله: «من رزقه اللهُ امرأةً صالحةً، فقد أعانه على شطر دينهِ، فليتق الله في الشطر الباقي» رواه الطبراني والحاكم وقال: صحيح الإسناد. وقال ابنُ مسعود رضي الله عنه: لو لم يبق من أَجَلي إلا عشرة أيام وأعلم أني أموتُ في آخرها، ولي طوْل النكاح فيهن لتزوجتُ مخافة الفتنة (¬2). اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وسائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة والتابعين إلى يوم الدين. أيها المسلمون: ويشكل المجتمعُ عاملًا مساعدًا على الزواج أو عائقًا دونه، فبذلُ المحسنين لمساعدةِ المتزوجين يُسهم في كثرة الزواج ومبادرة الشباب للزواج، واستشعارُ عددٍ من الجمعيات الخيرية لدورها في دعم الشباب الراغب في الزواج ومساعدتهم، أو إقراضهم، كل ذلك خطوات إيجابية ومظاهر صحيّة تُشكر عليها هذه الجمعيات، ويُشكر القائمون عليها لاستشعارهم بهذا الدور الرائد. كما أن مما يُعد من مشجعات الشباب على الزواج تيسير المجتمع تكاليف ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 72. (¬2) فقه السنة: 2/ 12، 13.

الزواج، وتخفيض المهور، والاقتصاد في مؤنه، وإلغاء الموائِدِ المكلِّفة والتي لم ينزل الله بها من سلطان. أما ما يعدُ من معوقات المجتمع للزواج، فمنها: المغالاةُ في المهور وما يتبعها من تكاليف أخرى، والتشددُ أحيانًا في الشروط، والمؤسف حين يكون تأخيرُ الزواج سببه عَضْلُ الآباء لبناتهم، وعدمُ رغبتهم في زواجهن، مع كثرة الخُطَّاب الأكفاءِ لهن، ولا سيما إن كانت موظفةً يستفيد من مرتبها، ويخشى انقطاع ذلك بزواجها، وقد يرفضُ قبل أن يستأذنها. ومن المعوقات: إجبارُ الأهل للفتاة أو للفتى، على الزواج ممّن لا تتوفر فيه الرغبة، ليس لشيء إلا لصلة القرابة أو نحو ذلك، مما لا يستوجب إكراه الفتى أو الفتاة على الزواج، فتتأخر الفتاةُ أو الفتى عن الزواج بسبب ذلك. ومن الأخطاء التي تُمارس في المجتمع - أحيانًا - عدمُ استئذان الزوجة في الزوج الذي تريد أن ترتبط معه طيلة حياتها، وشريعة الإسلام، وسنة محمدٍ عليه الصلاة والسلام تأمر باستئذانِ المرأةِ، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا تُنكح الأيمُ حتى تُستأمر، ولا تُنكح البكرُ حتى تُستأذن» قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: «أن تسكت» متفق عليه. سئل شيخ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله عن حكم إجبار البكر البالغة على النكاح، فقال فيه قولان: والصوابُ عدمُ إجبارها، ثم يقول: وأما تزويجُها مع كراهتها للنكاح فهذا مخالفٌ للأصول والعقول، واللهُ لم يسوّغ لوليها أن يكرهها على بيع أو إجارة إلا بإذنها، ولا على طعام أو شرابٍ أو لباسٍ لا تريده، فكيف يكرهها على مباضعةِ ومباشرةِ من تكره مباضعته ومباشرته ... إلخ كلامِه (¬1). ¬

(¬1) الفتاوى: 32/ 22.

أيها الوليُّ: ليس من حقك أن تُجبر ابنتك أو أختك على الزواج بمن تكرهه، أما إن كان الزوج صاحبَ فسقٍ مصرًا على الفسوق، فلا ينبغي أن يُزوج كما قال ابن تيمية (¬1). قالت عائشة رضي الله عنها: «النكاحُ رقٌّ، فلينظر أحدكُم أين يضعُ كريمته» (¬2). أيها الأولياء: ومن السُّنة أن ينظرَ الخاطبُ إلى مخطوبته، ولكن دون خلوةٍ بها، قال صلى الله عليه وسلم: «انظر إليها، فإنه أحرى أن يُؤدمَ بينكما»، أي: أجدرُ أن يدوم الوفاق بينكما (¬3). قال العلماء: والأحاديث في النظر لم تُعين مواضع النظر، بل أُطلقت، لينظر إلى ما يحصل له المقصودُ بالنظر إليه، وليس النظرُ حكمًا مقصورًا على الرجل، بل وللمرأة؛ لأنه يعجبها ما يعجب الرجال وتكره ما يكرهون (¬4). ومما ينبغي التنبيهُ عليه، ألا يطول أمدُ الخطبة، وليكن الردُّ - بعد السؤال والتحري - عاجلًا، إما بالقبولِ أو بالرّد، حتى لا تتأذى المخطوبة، ولا يتعطلُ الخاطب، ولطول الانتظارِ ألمٌ ونكدٌ لا يعرفه إلا من كابَده، والضررُ أشد إن فسخ الخِطبةَ بعد طول انتظار، وبعد أن ينسلخ من عُمر المرأة سنون، فذلك أحدُ أسباب العنوسة (¬5) ودبلةُ الخطوبةِ تقليد غربي، لا أساس له في شريعة الإسلام، إذ لا يتم عقدُ أواصرِ الزوجية إلا بعقد الزواج المشروع، والقائم على الإيجاب والقبول، وقال شيخ الإسلام ابنُ تيمية: وينعقد النكاحُ بما عده الناسُ نكاحًا، بأي لغة ولفظٍ وفعل كان (¬6). قال العلماء: وألفاظ الإيجاب مثل: زوجتُك، أنكحتك. ¬

(¬1) فقه السنة: 2/ 24. (¬2) فقه السنة: 2/ 24. (¬3) السابق: 2/ 28. (¬4) فقه السنة: 2/ 29. (¬5) تأخر سنّ الزواج، آل نواب ص 363. (¬6) الاختبارات العلمية: 119.

والقبول مثل: قبلت، وافقت، أمضيت (¬1). أيها المسلمون: وإذا كانت وسائل الإعلامُ المقروءةُ والمسموعة أو المرئية، تعمل عملها في الشباب، فعملها في الفتيات أشدّ، لا سيما القنوات التي بدأت تغزو العقول والأفكار، وتسيء إلى القيم وتهدم الأخلاق، فاحذر أخي الشاب وأختي الفتاة، واحذروا أيها الأولياء من آثارها، فكم هيجت من غرائز، وكم أفسدت من عفيفِ أو عفيفة، وكم بلبلتْ من فكر، ولا سيما تلك التي تشوّه أحكام الله في النكاح والعشرة، فهذا برنامجٌ يعرض للاختلاط ويحطِّم الحواجز بين الأجانب من الجنسين ويتحدث الرجلُ إلى المرأةِ ويمازُحها وكأنها زوجته أو أخته، وتصور الخلوةُ المحرمة والسفور وكأنها تقدمٌ وحضارة، والحشمةُ والعفاف وكأنها تقاليدُ بالية، أما القُبلةُ وما وراءها من سفاسف الأمور المنتهية باللقاءات الجنسية، فكم تغزو أفلامُها بلاد المسلمين، وتقع المسؤولية الكبرى على الأولياء حين يوفرون هذه الأطباق العارضة لزبالة أفكار البشر وأخلاقهم، وغزوُ اليوم غزو أفكار وأخلاق، وعلى المسلمين أن يدركوا ميدان المعركة، وألا يقع أحدٌ منهم في أتونها. وعلى صعيد آخر، فكم تعرض وسائل الإعلام ما يشوّه صورة التعددِ المباح في الإسلام مثلًا، أو غير ذلك مما جاءت به شريعة الإسلام. وفي مقابل ذلك يمكنُ لوسائلِ الإعلام أن تكون وسيلةَ توجيهٍ، وإصلاحٍ تعرض لأحكام الله في النكاح، وتوضح سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في الزواج، وتبيّن للزوجين أسسَ العشرة الصحيحة، وتعرض لأخطاء المجتمع بالنقد، وتنقل ¬

(¬1) فقه السنة: 2/ 36.

الصور الإيجابية ليعم النفعُ بها، وهكذا تتكامل الوسائلُ المصلحة، ويعود ذلك بأثره الإيجابي على المجتمع بأسره. اللهم يسِّر للشباب والفتيات نكاحهم، وبارك لهما، وبارك عليهما واجمع بينهم بخير.

أفكار في الدعوة إلى الله

أفكار في الدعوة إلى الله (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله ربِّ العالمين جعل الدعوةَ إلى الله سبيل الأنبياء والمرسلين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أظهر دينَه على الدين كلِّه ولو كره المشركون، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، خاتمُ الأنبياء وقدوة الدعاة والمصلحين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬3). إخوة الإسلام: الحديثُ عن الدعوة حديثٌ عن دين الله، والحديث عن الدعاة المخلصين حديث عن الصفوة من عباد الله، ولئن كان الحديثُ عن الدعوة والدعاة يطول ويتشعب وهو بمجمله نافعٌ ومفيد، إلا أنني سأقصر الحديث هنا على أمور، منها: أولًا: قيمة الدعوة وفضلُ الدعاة، وفي هذا يحكم الحقُّ تبارك وتعالى أن لا أحد أحسن قولًا ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 17/ 4/ 1420 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 1. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 3. (¬4) سورة فصلت، الآية: 33.

الدعوةُ إلى الله سبيلُ الأنبياء عليهم السلام، وطريق المؤمنين التابعين يعني لهم إلى يوم الدين: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (¬1). وعن فضل الدعوةِ والدعاة قال عليه الصلاة والسلام: «من دعا إلى هُدًى كان له من الأجر مثلُ أجرِ من تبعه - إلى يوم القيامة - لا ينقص من أجورهم شيئًا». وفي الحديث الآخر: «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمرِ النعم». ثانيًا: تجريدُ الدعوة وإخلاصُ الدعاة ... فلا ينبغي أن تقومَ الدعوةُ لأغراضٍ شخصيةٍ أو مطامعَ دنيويةٍ، ولا يليق بالدعاة أن يأكلوا بدعوتهم، أو يخادعوا الناس في حقيقتهم وواقع أمرهم، أو يتكلفوا ما لم يأذن به الله، وفي التنزيل: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (¬2)، {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (¬3)، وإذا لم يخش أولئك المتزيدون بالدعوة الفضيحة في الدنيا، فليتذكروا الفضيحة الكبرى يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ثالثًا: تاريخ الدعوة، إن تاريخ الدعوة إلى الخير والقسطِ قديمةٌ قدم الزمان، ومصاحبةٌ للأمم الخوالي، وقام بها الأنبياء عليهم السلام مع أممهم من نوح إلى محمد عليهم الصلاة والسلام: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (¬4)، استحقت أن يُقتل لها الأنبياء، ويُقتل أتباعهُم أو يعذبوا، وفي هذا يقول الحقُّ تبارك وتعالى حاكيًا نموذجًا من نماذج الدعوة والإيذاء. {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 108. (¬2) سورة ص، الآية: 86. (¬3) سورة يس، الآية: 21. (¬4) سورة فاطر، الآية: 24.

(21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}. روى أبو عبيدة بنُ الجراح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قتلت بنو إسرائيل ثلاثةً وأربعين نبيًا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مئةُ رجل واثنا عشر رجلًا من عُباد بني إسرائيل فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فقُتلوا جميعًا في آخر النهار من ذلك اليوم، وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية» (¬1). وما أسوأ المجتمع إذا تحول إلى هذا النموذج السيّئ ولذا روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «بئس القومُ قومٌ يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القومُ قومٌ لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهونَ عن المنكر، بئس القوم قوم يمشي المؤمن بينهم بالتقية» (¬2). والقرآن يُحذر من هذه النماذج حين عرضها، ويحذر من الرضا عن أصحابها، وإن لم يفعلوا كفعلهم، ولهذا وقف القرطبي عند هذه الآية - بعد أن ساق النصوص السابقة متسائلًا، فإن قال قائل: الذين وُعظوا بهذا لم يقتلوا نبيًا. فالجواب عن هذا: أنهم رضوا فعلَ من قتل فكانوا بمنزلته. رابعًا: أمدُ الدعوةِ وأثرُها ... وعلى الدعاةِ ألا يحددوا زمنًا لأثرِ دعوتهم، فأمدُ الدعوة قد يطول، وآثارها قد لا تظهر إلا بعد حين، وحسب الدعاة أن يتسلوا بقوله تعالى عن نوح عليه السلام: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} (¬3). وفي هذه القرونِ المتطاولة من أول الرسل عليه السلام كانت الدعوةُ مستمرةً ليلًا ونهارًا، سرًا وعلانية. ¬

(¬1) تفسير القرطبي: 4/ 46. (¬2) تفسير القرطبي: 4/ 46. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 14.

خامسًا: لا يأس ولا إحباط ... ومهما طال أمدُ الدعوة أو قلَّ الاستماعُ للدعاة، فلا ينبغي أن يُحبطوا أو ييأسوا، وكيف يُحبط الدعاةُ أو ييأسون وقد قيل للمرسلين قبلهم: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (¬1) وقيل: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬2)، وكيف يحبطون لقلةِ الأتباع وقد قيل لأحد المرسلين: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} (¬3). وفي الحديث يأتي النبيُّ ومعه الرجلُ والرجلان، ويأتي النبيُّ وليس معه أحد! سادسًا: وللدعوة تكاليفُ، وعلى الدعاةِ أن يتحملوا الأذى في سبيل الله، وألا يجعلوا فتنة الناس كعذاب الله. وسنةُ الله في الابتلاء جاريةٌ: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (¬4). سابعًا: والصبرُ زادُ الدعوة، وهو طريق لتمكين الدعاة: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (¬5)، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬6)، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬7). ثامنًا: وهناك أدواءُ مهلكةٌ وعلى الدعاة أن يحذروها كالعُجْبِ والرياء، والطمع في السيادة والرئاسة، والحسد والغرور، ونحوها. تاسعًا: ولا ينبغي أن ترتبط الدعوةُ بالأشخاص أو تحدَّ بمناهجَ ضيِّقةٍ، فالأشخاصُ يذهبون ويجيئون، والمناهج يطرأ عليها التغيير، وهي والأشخاصُ عرضةٌ للخطأ، وينبغي أن يكون المعوَّلُ في الدعوة على هدي الكتاب والسنة، ¬

(¬1) سورة الشورى، الآية: 48. (¬2) سورة القصص، الآية: 56. (¬3) سورة هود، الآية: 40. (¬4) سورة العنكبوت، الآية: 3. (¬5) سورة لقمان، الآية: 17. (¬6) سورة الكهف، الآية: 28. (¬7) سورة السجدة، الآية: 24.

وينبغي أن يُتخذ من منهج الأنبياء عليهم السلام طريقًا في الدعوة، ومن قال الله عنهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬1). عاشرًا: وإذا كان الجوهرُ ثمينًا فينبغي أن يكون الوعاءُ الحاملُ له نظيفًا سليمًا، وكذلك الدعوة، ينبغي أن تُحمل للناس وتؤدّى بالحكمة والموعظة الحسنة، امتثالًا لقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬2)، وليُحذر من الغلظة والشدةِ والفظاظة: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (¬3)، وما كان الرفقُ في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه. حادي عشر: والدعوةُ تكون بحقٍّ، وقد تكون بباطل، وكما يوجد دعاةٌ إلى الحقِّ، فثمة دعاةٌ للباطل، فهناك دعاةٌ للملل غير الإسلام، وهناك دعاةٌ لنحلٍ باطلة - وإن انتسب أصحابها إلى الإسلام - وهناك منافقون يتسترون بالإسلام، ويخفون الكفر والإلحاد، وهناك مبتدعة تختلف مشاربُهم وتلتقي أهدافهم لمحاربة الإسلام والسنة، وخاب وخسر من كان في منظومة الدعاة على أبواب جهنم، والمصيبة حين ينشط هؤلاء المبطلون، ويُصاب أهلُ الحق والسُّنَّةِ بالضعف أو الهوان، أو يدعم أولئك، ويُضَيِّقُ على هؤلاء. ثاني عشر: والتميزُ بين أصحاب الحقِّ والباطل قديم في الأمم، وفي «صحيح مسلم» عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبيٍّ بعثه الله في أمةٍ قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلُفُ من بعدهم خلوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 90. (¬2) سورة النحل، الآية: 125. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 159.

بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبةُ خردل» (¬1). ثالث عشر: ولذا فمن أهداف الدعوة ومسؤولية الدعاة تعليم الجاهل، وتذكيرُ الغافل، والحوارُ مع الشاكِّ والمتردد، يُنْشَرُ بالدعوة الخير، ويقام العدل، ويحاصرُ الباطلُ، وتصحح المفاهيمُ الخاطئة، ويكشف زيف المبطلين، تُنشر بها أعلامُ السنة، وتُقمع البدع، ويحذر من أصحاب الشهوات والأهواء، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (¬2). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين. ¬

(¬1) مختصر المنذري ح: 35. (¬2) سورة الشورى، الآية: 15.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين. وعن وسائل الدعوة يقال كلامٌ كثير، ويُقترح وسائلُ نافعةٌ بإذن الله، كالمحاضرة والدرس والندوة والموعظةِ الحسنة، وتوزيع الكتاب، والشريط والمطوية النافعة، والدعوة عبر الرسالة والمراسلة، وفي محيط الأسرة، والجيران، وبين زملاء العمل والدراسة وأصدقاء العمر، وفي المناسبات العامة، وداخل المدن أو في القرى والمناطق النائية، وعبر الكتابة في وسائل الإعلام، أو البرامج المذاعة، وفي التجمعات الشبابية، أو دور الرعاية، وأماكن الإصلاحيات والسجون، والاستفادة من إمكانات الحاسب ومواقع الانترنت، وداخل أروقة المستشفيات، وغرف المرضى، وفي الفنادق والاستراحات المؤجرة، واستثمار الأوقاف الخيرية العامة في الدعوة إلى الله ... إلى غير ذلك من الوسائل التي قاربت المائة وسيلة عند بعض المعنيين برصد الوسائل الدعوية، وقد يزيدها آخرون. وفوق ذلك كله فهناك وسائل دعويةٌ قد يُغفلُ عنها مع يسرها، وعدم الكلفة فيها، والاقتدار عليها، وحين يكون الحديث عن وسائل الدعوة لا بد من الإشارة إلى أهمية التجديد في وسائلها بشكل عام، ولا بد من القناعة أن ما صلح لزمن قد لا يكون بالضرورة هو الأصلح لزمان أو مكان آخرين، فحسنُ تعامل الموظف مع المراجعين، وتيسيرُ أمورهم أسلوبٌ من أساليب الدعوة - إذا أحسن الموظف تقديمه وتوظيفه، والسماحة في البيع والشراء، والنصحُ وعدمُ الغش أو المغالاة في السعر أسلوب في الدعوة يملك به الباعةُ قلوبَ المشترين، لا سيما إذا قدموه على أنه جزءٌ من تعاليم الإسلام وهديه. والمعلمُ

المخلصُ في رسالته التعليمية، والمدركُ لدوره التربوي، والمنصفُ لطلابه، والمتأدبُ الخلوق مع زملائه، هو أحدُ الدعاةِ إلى الله - وإن لم يتَسَمَّ بذلك فلا عبرة بالمسميات - ولكنها الوسائل النافعة ورصيد الأخلاقيات. والمرأةُ المحتشمة في لباسها، والهادئةُ في طبعها، وتعاملها، والمبتسمةُ في وجه صويحباتها، والمعرضةُ عن ما لا يعنيها والداعيةُ للخير بسلوكياتها، هذه تعمل عملها، وربما فاق أثرُها حديثًا نظريًا طويلًا. يا أيها المقتدرُ على حاجةٍ من حوائج المسلمين، ولربما كان في قضائك لأحدهم حاجةً أثر في قبول صاحب الحاجة للخير، وانصرافه عن شرٍّ هو واقعٌ فيه، ولربما كانت هذه منك إليه رسالةً وأنت لا تدري، ما لم يكن في تقديم هذه الحاجة محظور. أيها المسؤول: وأنت في موقع مسؤوليتك مهما صغرت أو كبرت تستطيعُ أن تُقدم الخير، وتدعو إلى دين الله من خلال فرص الخير التي أقدرك الله عليها، وأنت أدري الناسِ بها، لا سيما إذا لم يكن كرسيُّ المسؤولية هدفك، والتعالي على الناس غرورًا لحق بك، والمطامعُ الشخصيةُ هي المحركة لتصرفاتك. أيها المسلمون: وكم نغفل - في أساليب الدعوةِ إلى دين الله - عن إسعاف مريض، أو نقلِ مصاب، أو إعانة متعطل في البراري أو الطرق السريعة - وقد يكون أحوجَ ما يكون لمساعدتك ووقوفك إلى جانبه - ومواقف المعروف والإحسان تبلغ - أحيانًا - مبلغها، وتؤثر أثرها في الآخرين، وقد نشعر بذلك وقد لا نشعر ... إلى غير ذلكم من وسائل قد لا نقدرها حقَّ قدرها، وقد تبلغ في آثارها مبلغًا عظيمًا، والمهم أن تُقدر كُلَّ موقفٍ، وتحتسب على الله كلَّ حركة، وتخلص النية وتحسن القصد، وتوظف ذلك في الدعوة لدين الله، وقد كان المعلمُ الأول صلى الله عليه وسلم يحتسبُ في نظرته وابتسامته ومزاحه، فضلًا عن جدِّه وأمره ونهيه، ولكم في رسول الله أسوة حسنة.

إن من الخطأ - معاشر المسلمين - أن نقصر الدعوة على وسائلَ محددةٍ، أو نخصَّ بها صنفًا من الناس، لا نجاوزها إلى غيرهم، ففي ذلك غمطٌ لحقوق الآخرين، وتحجيرٌ لواسع. وإذا عُدّت وسائلُ الدعوة فينبغي أن تشمل كلّ جهدٍ خيرٍ نفع اللهُ بجهد صاحبه الإسلامَ والمسلمين. وينبغي أن يتسع مفهومُ الدعاةِ لكل داعيةٍ إلى الخير، مهما كان موقعُه وأيًا كانت وسيلته، ما دامت في إطار الشرع الحنيف، ولربما غاب عن أنظار الناس أشعثُ أغبر، لو أقسم على الله لأبره، ولكنه معدودٌ عند الله في طليعة الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكم في ميدان الدعوة من جنودٍ مجهولين وهم من الأخفياء الأتقياء. أيها المؤمنون: وأنتم مدعوون جميعًا لتكونوا من أنصار الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} (¬1)، وبالإيمان والعمل الصالح يتحقق لكم الخير، وبالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف تكونون من المفلحين. ¬

(¬1) سورة الصف، الآية: 14.

وقفات مع الزلزال المدمر

وقفات مع الزلزال المدمّر (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله ربِّ العالمين، جعل الأرضَ قرارًا، وجعل خلالها أنهارًا، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزًا، أإله مع الله! بل أكثرهم لا يعلمون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ومن آياته الليلُ والنهارُ والشمسُ والقمر، ومن السنة الإلهية والقدرات الربانية أن الشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليلُ سابق النهار، وكلٌّ في فلك يسبحون، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، أخبر الأمة عن الآيات البينات في الكون والأنفس والآفاق، فآمن المؤمنون وأبى المبطلون، اللهم صلِّ وسلم عليه، وعلى سائر أنبياء الله ورسله، وارضَ اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬3). عباد الله: ومن تأمل أحوال الكونِ وما فيه من مخلوقات وموجوداتٍ أدرك عظمة الله وكمال قدرته، وتفرُّدَه بالربوبية والألوهية: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 24/ 5/ 1420 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 1. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬4) سورة النمل، الآية: 88.

فالسماءُ مرفوعةٌ بلا عمد، وهي سقف العالم المرفوع، والأرضُ مستقرٌّ ومستودع، وقد ذلَّلها الله وأرساها ليمشي الناسُ في مناكبها، ويستخرجوا خيراتها، والشمسُ والقمرُ سراجان يُزهران، وبهما ضياءُ الكون ونورُه، ولا يتخلف نورُهما إلا لعارضٍ يقدره العليمُ الخبيرُ، والنجومُ مصابيحُ وزينةٌ وأدلة للمسافرين، والجواهرُ والمعادن مخزونة في هذا العالم العجيب، وأنواعُ النباتِ وصنوفُ الحيوان، كل ذلك مسخَّر لبني الإنسان ... كل ذلك ليُستدل به على عظمة الخالق وليُعبد الله وحده لا شريك له ... ولِتُعْمَرَ الأرضُ بذكره وشكره. أيها المسلمون: وفي مفتاح دار السعادة حديثٌ مطولٌ عن بديع خلق الله في الكون، بسمائِهِ وأرضه ونجومه وأحيائِه، وهو جدير بالقراءة والتأمل. إخوة الإسلام: بين عشية وضحاها تحولت مساحةٌ قدرها مائةٌ وإحدى وثلاثون ألف كيلومتر مربع شمال غرب تركيا، إلى ساحة لمأساة مفتوحة، تملؤها مشاهدُ الموت والدمار، ويلفها الحزنُ الكئيب، وتعصفُ بها رياحُ الفزعِ والأمطار الحمضية القاتلة، خمسةٌ وأربعون ثانية فقط - من زلزال تركيا المدمّر - كانت كافيةً لوقوع ما يقرب من خمسة وأربعين ألف قتيل وجريح، ومائتي ألف مشرد في العراء، يبحثون عن مأوى، والألمُ يعتصرهم، ومخاوفُ المستقبل تحيط بهم، ورائحة الموتى، وحطامُ المباني، والبحثُ عن أقاربهم، تبثُّ الرعب في قلوبهم، وتزيدهم هلعًا، إنها ثوانٍ تعصف بالحياة والأحياء، وتخلِّف خسائر تقدّر بخمسةٍ وعشرين مليار دولار، وأعظم منها خسائر الأرواح التي لا تعوض. سبحان الله ... ! في لحظة من الزمن كان من هو أعلى الأرض في أسفلها، ونقص عدد الأحياء، وارتفع مؤشر الأموات، فضلًا عن الرعب والرهبة، وكيف لا يكون ذلك، وقد ذكر أحدُ المراصد الأمريكية أن هذا الزلزال يعادل قوة أربع

مائة قنبلةٍ ذرية من النوع الذي ألقي على هيروشيما - من قبل - (¬1). عباد الله: ولا غرابة أن يكون الحدثُ محل اهتمام العالم ومتابعاته، وما حدث في تركيا يفوق الوصف، وتعجِزُ الأقلامُ وتتعثر الألسنُ وهي تصف الحدث وأثره، وفي خلال خمس وأربعين ثانية - لم تبلغ الدقيقة - تغير ما على وجه الأرض من الحياة والأحياء، وأسفر الحدثُ عن آلاف القتلى والجرحى، فضلًا عن المفقودين، واتسعت دائرة الحدث الذي لم يستكمل الدقيقة لتمتد على مساحة ثلاث مائة كيلو طولًا، وما يقرب من أربعين كيلو عرضًا، ولتشمل مجموعةً من البشر والمنشآت فتخلفها أجداثًا وأنقاضًا، وتترك ورائها آلافًا من البشر دون مأوى، إلى غير ذلك من أرقام موحشة وأنَّاتٍ موجعةٍ، وخسائر فادحةٍ في الأرواح والممتلكات. ترى ما العبرُ والدروس والوقفات المهمة وراء الحدث؟ - الوقفة الأولى: القدرةُ الإلهية وضعفُ البشر، فأيُّ قدرة مهما بلغت لا تستطيعُ أن تعملَ بهذه القدرة والسرعة كالذي حصل في زلزال تركيا وغيره من الزلازل والبراكين الأخرى، وفي مواقع متعددةٍ من العالم، والحدث مع قوته مفاجأةٌ لا تملك هيئة أو جهة التحذير منه قبل وقوعه بوقتٍ كافٍ، للإخلاء على الأقل، فضلًا عن أن تملك التحذير قبلَ فترة تمكِّنُ الناسَ من تقليل الخسائر، إنه قدرُ الله وتوقيته، ولا أحد يملك العلمَ أو التدخلَ، وكفى بالله وكيلًا، ومن جانب البشر تتضاءل قواهم، وينحصر جُهدهم في الإنقاذ على بطء، ولربما سمعوا الأنين ولم يستطيعوا الوصول إلى صاحبه إلا بعد مفارقتِهِ الحياة، ولربما التهمت الأرض من الموتى ما يقارب من خرجوا أحياء أو في عداد الموتى، بل ¬

(¬1) مجلة المجتمع عدد 1365، 20 - 26/ 5/ 1420 هـ.

ويظهر الضعفُ في البشر بعد وقوع الحدث، فعمليةُ الإنقاذ سارت ببطءٍ في بدايتها، وهوُ الفاجعة وضعفُ الإدارة أخَّر عمليات الإنقاذ لساعات طويلة، حتى خرجت عناوينُ الصحف التركية منتقدةً لهذا الوضع، ومن هذه العناوين: (الدولة تحت الأنقاض)، (أتى الصليب الأحمر، أين الهلال الأحمر)، (أنقرة نمر من ورق) (¬1). إنها صورةٌ مكشوفة من صور قدرة الله وضعف البشر أمامها. - الوقفة الثانية: أنفرحُ للمصاب أم نحزن؟ ولربما فرح البعضُ لما حصل، وتعليلهم أن في ذلك درسًا لكل من يتمرد على شرع الله ويحارب أولياءَهُ، ويضيق الخناق على سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ويستدلُ هؤلاء بأن تركيا مؤخرًا أقامت للعلمانية سوقًا رائجة، حكمت بموجبها البلاد وطارت العباد، ونحّت شرع الله، ومنعت الخيرين من مزاولة الإصلاح ودعوة الناس للخير، وتقام الدنيا من أجل امرأةٍ محجبةٍ دخلت البرلمان، بل ويُمنع الحجاب في المدارس والجامعات، وتُنحَّى الأحزابُ الإسلاميةُ عن الحكم، وتُباح المحرمات كالزنا والخمور ونحوها، إلى غير ذلك من أمورٍ لا شك أنها محاربةٌ لله ولرسوله وللمؤمنين ... ولكن الأمر لا ينتهي إلى ذلك فقط - بل ينبغي أن نستشعر الحزن لما حصل في تركيا، فثمة طوائف من المتضررين من إخواننا المسلمين، ولا حول ولا قوة لهم، بل قد يكونون كارهين لما يقع، وأمرٌ آخر ينبغي أن نستشعره دائمًا؛ فما يقع من مصيبة في بلد من بلدان المسلمين هو مصيبة على العالم الإسلامي بأسره، يُنقص فيه من موارده، ويفنى فيه عددٌ من طاقاته، وأهمُّ من ذلك كله فناءُ عدد من أبناء الأمة الإسلامية. وهؤلاءُ أو أبناؤهم من بعدهم هم ¬

(¬1) مجلة المجتمع، عدد: 1365.

من جنود الإسلام وحماته، فكيف إذا كان زلزالٌ هنا أو فيضانات هناك، وجفاف في موقع ثالثٍ من عالمنا الإسلامي وهكذا. أفنفرح بالمصاب على إخواننا وننسى أنها مصيبتنا جميعًا؟ الوقفة الثالثة: وفرقٌ بين التشفِّي والفرح، وبين الاعتبار والتأسف، فحين نعتبر بما يقع بجزء من عالمنا، ونصلح ما فينا نحن من خللٍ، فذلك خيرٌ من أن ننشغل بنقد الآخرين والتسلي بأحداثهم، ومن باب الاعتبار نقول: وينبغي ألا ننسى أنه كان لتركيا يومًا من الدهر تاريخٌ مجيد. لقد كانت موطن الخلافة الإسلامية، ورائدة الفتوح في مشرق الأرض ومغربها، ولا تزال شعوبٌ مسلمةٌ تدين بالفضل بعد الله للأتراك إذ دعوهم للإسلام وأدخلوهم في قوائم المسلمين ... ومع ما أُخِذَ على الدولة العثمانية من مآخذ فقد كانت إيجابياتها ظاهرة لكل منصف ... وهنا يرد السؤال وهو أيضًا للاعتبار؟ ماذا دهى تركيا في تاريخها المعاصر؛ لماذا استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ وهل ينجح المستعمرون في فصل تركيا عن العالم الإسلامي وهي لحمة منه، وعضوٌ فاعلٌ من أعضائه؟ .. وهل تحرك هذه المصائبُ الواقعةُ مشاعر العقلاء، وهل تكون تلك الخسائرُ الفادحةُ نذرًا يستيقظ فيها الأتراك المخلصون فيعيدون تاريخ أجدادهم السابقين، وهل يسارع العالم الإسلامي في مساعدة إخوانهم الأتراك في مصابهم، أم تسبقهم الدولُ الغربية، متخذةً من ذلك وسيلةً لمزيد من التغريب والعلمنة، في بلدٍ كان يقود العالم الإسلامي بأسره؟ ومما يلفت النظرَ - في زلزال تركيا - أن تُستغلُ المساعداتُ الإنسانية لمآرب سياسية، فقد تحدثت صحيفة (معاريف) الصهيونية صراحةً عن أن: تل أبيب، وعواصم الاتحاد الأوروبي قررت تقديم الدعم للنظام العلماني التركي في محنته، خوفًا من سقوطه أمام موجة الاستياء الشعبي، وخشية أن يستفيد الإسلاميون من هذه

الحالة لتوسيع نفوذهم (¬1). من هنا ينبغي أن يفكر المسلمون بالفرح أو الحزن لما يجري ويحدث في تركيا، ولا ينبغي أن تَغلِبَ العواطفُ دون نظرٍ عميق وخطوات متزنة وشاملة للتقييم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬2). ¬

(¬1) مجلة المجتمع: 20 - 26/ 1420 هـ. (¬2) سورة الأحقاف، الآية: 27.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاةُ والسلام على سائر أنبياء الله والمرسلين. أيها المسلمون: أما الوقفة الرابعة فهي بين المصائب والذنوب، فمما لا شك فيه ارتباط العقوبات الإلهية بذنوب البشر وانحرافهم، وهذا لا يخص تركيا وما وقع فيها، بل يعم كلَّ أرضٍ ويشمل جميع البشر، وتلك سنةٌ إلهية مضت وتتكرر ليتعظ الناس ويصلحوا أحوالهم: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬1). يقول تعالى مؤكدًا هذه السنة: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (¬2)، ويقول جلّ ذكره: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (¬3)، وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (¬4)، إلى غير ذلك من نصوصٍ تُخَوِّفُ المسلم من آثار المعصية وتحسسه بارتباط العقوبة بالذنب، وتنذره قبل يوم الحساب. الوقفة الخامسة: إذا كثر الخبث ... والسؤال المطروح: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» وفي الحديث: «إن الناس إذا رأوا الظالمَ ثم لم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمَّهم اللهُ بعقاب من عنده»، ومن هنا تأتي قيمةُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة للخير ومحاربة الفساد، وكشف أوكار المفسدين حتى لا تغرق السفينة ويتساقط الأبرار مع الفجار، عن ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 101. (¬2) سورة الشورى، الآية: 30. (¬3) سورة هود، الآية: 102. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 16.

أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يبيت قومٌ من هذه الأمةِ على طعام وشراب ولهوٍ، فيصبحون قد مسخوا خنازيرَ، وليخسفن بقبائل فيها، وفي دور فيها حتى يصبحوا فيقولوا: خُسف الليلة ببني فلان، خسف الليلة ببني فلان، وأرسلت عليهم حصباءُ حجارة، كما أرسلت على قوم لوط، وأرسلت عليهم الريح العقيم، فتنسفهم كما نسفت من كان قبلهم بشربهم الخمر، وأكلِهم الربا، ولبسهم الحرير، واتخاذهم القينات، وقطيعتهم الرحم، قال: وذكر خصلة أخرى فنسيتُها (رواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم). الوقفة السادسة: بينا يكونُ المرء فيها مُخبرًا، وإذا به خبرٌ من الأخبار، وسبحان الله كم بين الحياة والممات؟ ما هي إلا عددٌ من الثواني، وإذا بصفحة الحياةِ كلِّها تطوى، وينتقل المرء من حالٍ إلى حال، ومن دارٍ إلى أخرى. تاركًا وراءه نوايا وإرادات وهمومًا وأعمالًا عاجلة الأجل دون إتمامها. وهنا يرد السؤال: حين ينام المرءُ ماذا يبيِّت من النوايا وهو قد لا يصبح، وحين يستقل سيارته مسافرًا ماذا ينوي وهو قد لا يعود من سفره، ولقد أدرك الناسُ أن زلزال تركيا وقع في الهزيع الأخير من الليل وما من شكٍّ أن عددًا ممن قبضت أرواحهم في الحدث كانوا ركعًا لله سجدًا، وعددٌ أكبر كانوا يقضون الليل بسهرات صاخبة بأنواع من المعاصي والسلوكيات المنحرفة، وعددٌ يؤمنون بيوم المعاد، وعددٌ آخر يظنون الحياة الدنيا نهاية المطاف ... وهكذا: همومٌ ونوايا ... قد يهلك أصحابها جميعًا بحدثٍ عام، ولكنهم يبعثون على نياتهم يوم القيامة. الوقفة السابعة: والسعيدُ من وُعظ بغيره، وكم ننشغل بأحداث الآخرين وننسى أنفسنا، والله يمهل ولا يهمل، وقد يبتلي قومًا بالضراء ويبتلي غيرهم بالسراء، وقد تكون النازلةُ في بلد من بلدان المسلمين نذيرًا لهم ولمن وراءهم

من المسلمين، والسعيدُ من وُعِظَ بغيره، والمسكين من خدعه الأمل، وغرّه طولُ الأجل، وفي القرآن عمومًا تذكيرٌ مستمرٌّ لنا بمن أصبحوا في ديارهم جاثمين، وبمن أصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم، وبالقرية الآمنة المطمئنة يأتيها رزقُها رغدًا من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، فهل نتعظ بمن مضى ومن لحق .. ؟ الوقفة الثامنة: ولا تعارض بين قدر الله ومعرفة العلماء بالحدث أو تحليل أسبابه، فقد تقع الزلازلُ في أرض يفسر أهلُ الاختصاص جيولوجيًا سبب وقوعه، وقد يقع الكسوفُ أو الخسوف وفق حسابات يعلمها الفلكيون بالحساب ... لكنَّ أحدًا من البشر لا يستطيع أن يقدم موعد الزلازل أو يؤخرها، أو يختار مكانها، أو يحدد خسائرها، فذلك لله وحده، وكذلك الكسوف والخسوف فعلمُ البشر ينتهي عند حسابه، لكنهم لا يملكون تقديمه أو تأخيره أو اختيارَ مكانه ... وإذا علم هذا فلا ينبغي أن يكون دورُ وسائل الإعلام الإخبارَ عن هذه الحادثات الكونية وتجريدها من بأس الله وقوته، وانحرافِ البشر وعقوبتهم، ولا ينبغي التركيزُ كذلك على التحذير من عمى الأبصار، وإغفال الحديث عن عمى البصيرة - وهو أشد - وهكذا ينبغي أن يتميز الإعلام الإسلامي بطَرْقِ الأحداث جامعًا بين الحقائق العلمية، والسنن الإلهية، وينبغي أن يذكرهم بشدة بأسِ الله وغيرته حين تُنتهك محارمه، وإنه لبالمرصاد، وإنَّ أخْذَه أليم شديد. الوقفة التاسعة: هزات أرضية تبعث الحياة، وتلك هي نوعٌ آخرُ من هزات الأرض تنبعث لها الحياة، بخلاف الهزات التي تؤدي إلى الوفاة، وهذه الهزة الباعثةُ على الحياة برهان للبعث والنشور، وآيةٌ على قدرة العزيز العليم، وعن هذا النوع من الهزة ودرسها قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا

أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1). الوقفة العاشرة: وفوق ذلك كلَّه، فكثرةُ الخسوف في الأرض أمارةٌ من أمارات الساعة، وفي الحديث الصحيح عن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الساعة لا تقوم حتى تكون عشرُ آيات: الدخانُ والدجال والدابة وطلوعُ الشمس من مغربها، وثلاثةُ خسوف: خسفٌ بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف في جزيرة العرب، ونزولُ عيسى ابن مريم، وفتحُ يأجوج ومأجوج، ونارٌ تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا». رواه أحمد ومسلم وغيرهما. ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: 38.

من مقاصد الحج وأسراره ومعانيه وعشر ذي الحجة

من مقاصد الحج وأسراره ومعانيه وعشر ذي الحجة (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله جعل الحجَّ إلى بيته الحرام ركنًا من أركان الإسلام، لا يتم إسلامُ العبدِ إلا بأدائه، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، جعل التطوافَ في مشاعر الحج ومناسكه هديًا للأنبياء عليهم الصلاةُ والسلام، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، خالف قومه المشركين في عوائدِهم في مناسك الحج، واتّبع ملةَ إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬2)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (¬3). أيها المسلمون: للحجِّ مقاصدُ جليلة، ومعانٍ عظيمة، وآثارٌ إيجابية كثيرة على الفرد في ذات نفسه، وعلى الأمة المسلمة بمجموعها، وحريٌّ بالمسلم أن يعلمَ شيئًا منها إن حجَّ العام أو أعوامًا تليها، حتى تؤتيَ العبادةُ غرضها، وتتحقق ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 26/ 11/ 1420 هـ. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 13. (¬3) سورة آل عمران، الآيتان: 102، 103.

للحاج منافعُ الحج التي أخبر عنها المولى بقوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (¬1). وإليك - أخي المسلم، أختي المسلمة - شيئًا من مقاصد الحجِّ ومعانيه، ومنها: 1 - مزيدُ الارتباط بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لَدُن إبراهيم عليه السلام حيث بنى البيت، وابنهِ إسماعيل عليه السلام، إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث عظَّم البيت، وأعاد له طهره وتوحيده، وحطَّم الأصنام المحيطة به، ولم يعد للمشركين سلطانٌ عليه، وحي ينزل الحاج في تلك الرحاب الطاهرة يرتبط في ذهنه سِيَرُ الأنبياء ويتجذّر في قلبه الاقتداءُ بهم، والله يقول: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬2). 2 - وفي الحج تحقيقٌ للعبوديةِ لله وإذعانٌ لشرعه، فلا ترى الحاجَّ إلا متذللًا خاضعًا لله، منكسرًا بين يديه، متجردًا من ملابسه، مسافرًا عن أهله وبلدِه، تاركًا شهواته وملاذه لله ربِّ العالمين، وتراه في الحج يتنقل من عبادةٍ إلى أخرى، تلبيةٍ وذكرٍ وصلاةٍ، ودعاء، طوافٍ ... وسعي، رمي وحلق وهدي ... وهكذا تتحقق العبوديةُ للحاج بأوفى صورها وأتمِّ معانيها، وحريٌّ بهذه العبودية لله أن تستمر في سلوكيات المسلم بعد الحج، وحريٌّ بهذه الطاعة لله والاستسلام لشرعه أن تدوم في مكة أو سواها من بلاد الله. 3 - ويتذكرُ الحاجُ الفطنِ بأعمالِ الحج ومناسكه الموتَ والآخرة، ألا تراه يلبس ما يُشبه الأكفانَ حين يُحرم، متجردًا عن زينةِ الدنيا، متخففًا من كلِّ لباس عدا إزارٍ ورداءٍ يلفُّ بهما جسدَه، ويستر بهما عورتَه، لا فرق في ذلك بين الغني والفقير، والملكِ والمملوك، والصغير والكبير ... وإذا كان هذا التجردُ من الدنيا وزينتها بوابةَ الآخرة، فالحاج كذلك يتذكر الآخرةَ وجمعَها، حين يجتمعُ ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 28. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 90.

الناسُ على صعيد عرفات، وحين يبلغُ الزحامُ مبلغه في الطواف والسعي، ورمي الجمار، وقد تكون واحدةٌ من هذه المشاعر بدايةَ نقلِهِ إلى الآخرة، فكم من حاجٍّ في القديم والحديث قضى نحبه في مشاعرِ الحج ولم يعد إلى أهله. 4 - ومن مقاصد الحج ومعانيه: ارتباطُ المسلمين بقبلتهم التي يولون وجوههم شطرَها في صلواتهم خمسَ مراتٍ في اليوم، ومع ارتباط الحجِّ بالصلاة، إذ الكعبةُ قبلتهم في الصلاة والحج، فالارتباطُ بالكعبة هنا سِرٌّ بديع يحققُ للمسلمين أصالتهم ويذكرُهم بتاريخهم العظيم، وينبغي أن يصرفهم عن التوجه إلى غربٍ كافر، أو شرقٍ ملحدٍ، وأن يُشعرهم هذا التوحدُ في الاتجاه في أركان الإسلام بالتوحدِ في الكلمة، والهدفِ، والقيم الخالدة، وذلك كلُّه مصدرُ قوةٍ وعزةٍ للمسلمين لو عقلوه وعملوا به. 5 - وفي الحج إرهابٌ لأهلِ الكفرِ والضلال بهذا الاجتماعِ العظيم للمسلمين، فإنهم وإن كانوا مفترقين مختلفين، فإنَّ اجتماعهم في الحج وتوحدهم في المشاعر مؤشرٌ إلى إمكانية اجتماعهم وتوحدهم في غير الحج، واجتماع المسلمين وتوحدهم - لاشك - مقلقٌ للكفار مرهبٌ للأعداء لا سيما وموسمُ الحجِّ تبرز فيه المفاصلةُ التامةُ مع أهل الشرك والكفر ويُحظَرُ حضورهم لهذه المناسبة بأي شكل من الأشكال منذ نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬1). 6 - ومن أسرارِ الحجِّ ومقاصده تربيةُ النفوس على جملٍ من معاني الخير ومكارم الأخلاق، إذ تتدربُ نفسُ الحاجِّ على الصبرِ والتحمل، والصفح والعفو، والنفقةِ والبذلِ والإحسان، وتعليم الجاهل، والدعوة للخير، وهذه ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 28.

المعاني والمكتسباتُ الخُلقية - ونحوها - يمارسها الحاجُّ ويحتاج إلى التعامل بها مع رفقته الأقربين، ومع سائر الحجاج من إخوانه المسلمين، وحريٌّ بمن كَسَبَ هذه الأخلاق في الحج أن يحافظ عليها بعد الحج. 7 - ومن المعاني والأسرارِ اللطيفة في الحج: تعويدُ النفسِ على انتظارِ الفرجِ بعد الشدة، وفي الحجِّ درسٌ عمليٌّ، يقول: إن الشَّدةَ لا تطول، وإن الفرج بعد الضيق، وإن مع العسر يسرًا، ألا ترى الحجاج وهم يسعون بين الصفا والمروة يتذكرون ما مرَّ بأم إسماعيل من ضيق وشدة وما أعقبه من فرج وفضل ورحمة. بل ألا ترى الحاج يبصر - أحيانًا - شدة الزحام في المطاف أو المسعى أو رمي الجمرات، فيضيقُ صدره، وربما ظن أنه غيرُ مستطيع أداءَ هذا النسك، ثم لا يلبثُ إلا قليلًا ... وإذا بالضيق يخفُّ شيئًا فشيئًا، وبالشدة تذهب رويدًا رويدًا، وبالجموع المخيفة تَنْقَلُ، وبالرهبة تخفُّ حتى يؤدي المرءُ ما كان متهيبًا من أدائه من قبل، ولربما أضمر المرءُ حين الشدة أنه لن يحج بعد العام، فلما كان الفرجُ واليسرُ زال ذاك الهمُّ، وتبدل العهدُ والوعد، وهكذا تنتهي الشدائد وتُفرج الكربات، لا في مشاعرِ الحجِّ وحدها، بل وفي كلِّ مكانٍ وزمانٍ، وعلى المسلم ألا ييأسَ من رَوْحِ الله ... ولا يقنط من فضله ونصر أوليائه. 8 - وفي الحج تذكيرٌ بقيمةِ الزمن وإمكانية استثماره في طاعة الله أمثلَ استثمار ... فالحاجُّ في برهة يسيرة من الزمن يحقق من الطاعات والقربات ما هو جديرٌ بتحفيزه على استمرار استثمار الوقت بما ينفع، فالوقتُ رأس مالِ الإنسان، والوقت أَجَلُّ ما يُصان عن الإضاعةِ والإهمال، ومن المؤسف أن تضيع أوقاتُ المسلم سُدًى، ولربما أمضى فترةً من عُمره وشطرًا من حياته في أمور لا تنفعه شخصيًا، وتخسر بها الأمة طاقةً من طاقاتها ... وفي الحجِّ ومناسكه وانتقال المرءِ فيه من عبادةٍ إلى أخرى ما ينبغي أن يشحذَ الهمم،

ويقوي العزائم على استثمار الوقتِ بعد الحج فيما ينفع به نفسه، وتستفيد الأمةُ المسلمةُ من ورائه. 9 - أيها الحاج: أما مغفرةُ الذنوب، ورفعةُ الدرجات في الجنان فذاك الذي أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمُّه» رواه البخاري ومسلم، ويقول صلى الله عليه وسلم: «العُمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة». رواه مسلم. يا عبدَ الله: وإذا كان لك ماضٍ تستحي من ذكره، وتخافُ الله من حسابك، فاستغفر الله وتب إليه بالحج، فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه حين جاء مسلمًا مشترطًا أن يُغفر له: «وإن الحجَّ يهدم ما كان قبله» رواه مسلم. 10 - أيها الحاج: وفي الحج تنبعث عبوديةُ الشكرِ لله وتقوى، فالحاجُّ يُبصر الشيخ الضعيف، والفقير والمسكين، ومن يفترشون الأرض ويلتحفون السماءَ، يبصر الأعرج والأعمى، والمريض والمبتلى والمعاقين والزَّمني ... وأصنافًا من خلق الله حلَّ بهم ما هو منه سالمٌ معافى، فيدعوه ذلك لشكرِ أنعمِ الله عليه، ويتذكرُ ما هو فيه من نعمةٍ قد لا تتوفر عند غيره، فيقيدُ هذه النعمِ بالشكر، ويلهجُ لسانُه وقلبه بالذكرِ والشكرِ، بل وفوق ذلك كلِّه يتذكر نعمة الإسلام التي هو فيها، والأمم والشعوب التي حُرِمتها فيزيد شكره وتمسكه بدينه، ويعودُ من رحلة الحجّ مستمسكًا بالدين الحق، داعيًا غيره ممن لم يتذوق نعمة الإيمان واليقين. حجاج بيت الله: ولا يليق بالمسلم أن يحافظ على الواجبات كالصلوات المفروضة في الحج فحسب، فإذا ما عاد تهاون بها، كما لا يليق بالمسلم أن يمتنع عن المحرمات، فإذا ما انتهى من رحلةِ الحجِّ مارسها، بل وأطلق لنفسه العنان فيها. أيها الحاج: ألا فاتخذوا من ذكر الله وتلاوة كتابه - في الحج - والحرص

على السنن المشروعة بشكل عام فرصةً لتعويدِ النفسِ عليها، والمداومةِ عليها بعد الحج. وإذا ما قُدّر لك - أخي الحاج - أن تطَّلع على شيء من أحوال إخوانك المسلمين وحوائجهم - في الحج - فليكن ذلك داعيًا لك للاهتمام بشأن المسلمين ومتابعة قضاياهم وسدِّ حوائجهم بعد الحج. وبهذه المشاعر والمعاني والأحاسيس والمقاصد يعود للحجِّ قيمته وأثره، ويعود الحاجُّ ممتلئًا بأسرار الحج ومنافعه ... وإنما شرعت الطاعاتُ والقرباتُ في الإسلام لتهذيب النفوس وتزكيتها، وترويضها على الفضائل، وتطهيرها من النقائص، وتحريرها من رقِّ الشهوات، والرقي بها إلى أعلى المقامات والكرامات، ودونك هذه المعاني وأكثر، في قوله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (¬1). ¬

(¬1) سورة الحجر، الآيات: 27 - 30.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله أفاء على عباده من مواسم الخيرات ما يرفع لهم به الدرجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدُه لا شريك له، نِعمُه لا تعدُّ ولا تحصى، ومن تأمل في شريعة الإسلام وجد بها السماحة والندى والفضل العظيم لمن أناب واهتدى، أعمالٌ ماحيةٌ للذنوب والمعاصي، ومواسمُ للطاعات يرتفع بها العبدُ درجات ... ذكرٌ وشكر، صلاةٌ وصيام، سننٌ ونوافل، صدقاتٌ وصلات، وأضاحي. وأشهد أن محمدًا رسولُ الله، ندب الأمة إلى المسارعة في الخيرات، وخصَّ ربُّه بالفضل أيامًا معدودات ... والموفق من اغتنم المواسم وسابق الخيرات، اللهم صلِّ وسلم عليه، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. عبادَ الله: وفضلُهُ ورحمته تشمل الحجاج وغيرَهم، بُشراكم معاشر المسلمين بأيامٍ أوشكت أن تعمكم بفضلها، وهنيئًا لمن قدّر فضلَ الزمان فاستثمره بالطاعة، وتقرب إلى مولاه بالعبادة الخالصة. عشرُ ذي الحجة أيامٌ فضّلها الله على ما سواها، وأقسم بها تعظيمًا لشأنها، فقال جلّ ثناؤه: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (¬1). قال ابنُ عباس، وابنُ الزبير، ومجاهدٌ وغيرُ واحدٍ من السلفِ والخلف: إنها عشرُ ذي الحجة. قال ابنُ كثير: وهو الصحيح، ونسبه الشوكاني إلى جمهور المفسرين (¬2). ¬

(¬1) سورة الفجر، الآيتان: 1، 2. (¬2) تفسير ابن كثير: 8/ 413، فتح القدير: 5/ 432.

وبيَّنَ المصطفى صلى الله عليه وسلم فضل عمل الصالحات فيها، فقال في الحديث الذي أخرجه البخاريُّ وغيرُه: «ما من أيامٍ العملُ الصالح فيهن أحبُّ إلى الله منه في هذه الأيامِ العشر» قالوا: ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهادُ في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسِه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء». قال ابنُ حجر رحمه الله: والذي يظهر أن السببَ في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماعِ أمهاتِ العبادة فيه، وهي الصلاة والصيامُ والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره (¬1). عبادَ الله: ومن الطاعات المشروعةِ في هذه العشر الإكثارُ من الذكر كالتهليل والتكبير والتحميد، وفي هذا يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام أعظمُ عند الله ولا أحبُّ إليه العملُ فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» (¬2). قال العلماء: والتكبيرُ في الأضحى مطلق ومقيد، فالمقيدُ عقيبَ الصلوات، والمطلق في كل حال في الأسواق وفي كل زمان (¬3). وقد أخرج البخاري في «صحيحه» معلقًا مجزومًا به أن ابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر يكبران ويكبرُ الناسُ بتكبيرهما (¬4) فمن يُذكِّر الناسَ في هذه الأيام بالتكبير فبه شبهٌ بهذين الصحابيين الجليلين، ومن أحيا سنةً نبويةً أميتت فله من الأجر مثلُ من عمل بها من غير أن ينقص من أجور العاملين شيئًا (¬5). ¬

(¬1) الفتح: 2/ 460. (¬2) رواه أحمد وإسنادُه صحيح 7/ 224، 9/ 14، الفوزان: مجالس عشر ذي الحجة ص 14. (¬3) المغني 3/ 256. (¬4) الفتح: 2/ 457. (¬5) أخرجه الترمذي بسند حسن.

أيها المسلمون: والصيام قربةٌ إلى الله في كل زمان، ولا شك أنه في الأزمنة الفاضلة أحبُّ إلى الله وأكثر أجرًا، فمن قدر على صيام شيء من هذه العشرِ فأجرُه على الله ... ومن ضعفت همتُه فلا أقل من صيامِ يوم عرفة لغير الحاج، فقد جاء في فضله أنه: «يُكفر السنة الماضية والسنة القابلة» رواه مسلم. أيها المسلمُ والمسلمةُ: وإن تيسَّر لك الحجُّ فهو من أعظم الأعمال في هذه العشر، وإن لم يتيسر فاحرص على الأعمال الصالحة بشكل عام كالذكرِ وتلاوة القرآن وكثرة السُّنن - بعد المحافظة على الفرائض - وصلة الأرحام، والصدقة على الفقراء والمحتاجين، والأمرِ بالمعروفِ والدعوةِ للخير وزيارة المرضى، والصلاة على الأموات، وزيارة المقابر، والدعاء للأحياء والأموات ... إلى غير ذلك من قربات يجدر بك أن توليها من العناية في هذه العشر أكثر ممّا توليها في سائر الأيام. أيها المؤمنون والمؤمنات: عشرُ ذي الحجة غُرةٌ في جبين الدهر، لا تتكرر في العام إلا مرة، فكيف ستكون هممكم للطاعةِ حين تُستثار الهممُ؟ وأين موقع خيلكَ أيها المسلم والمسلمة - للسباق حين تُضمرُ جيادُ الآخرين؟ وما مدى شعورك بقيمةِ الزمن، وتقديرك لمواسم الطاعة؟ هل تشعرُ بالفرح وأنت تنتظرها، وهل تكونُ من العاملين المخلصين حين مجيئها؟ وليس يخفى أن الجهاد في سبيل الله ذروةُ سنام الإسلام، فإن عجزتَ أو لم يُقدَّر لك الجهاد، ففي عمل الصالحات - في هذه العشر - فرصةٌ للتعويض، ووسيلةٌ لبلوغ أجرِ المجاهدين، وقد مرَّ بك أنَّ عمل الصالحات فيها أحبُّ إلى الله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع بشيء من ذلك - وإن كان الجهادُ من حيث الجملة أفضلَ مما سواه - لكنَّ عملَ الصالحات في هذه العشر له مزيةٌ وفضل (¬1). ¬

(¬1) الفتاوى: 24/ 198/ 236 بتصرف.

أيها المسلمُ والمسلمة: وحاذر من المعاصي في كل زمان ومكان، وعظِّمْ حرمات الله بشكل عام، والأزمنةَ الفاضلةَ بشكل خاص، وقد سُئل شيخُ الإسلام رحمه الله عن عقوبة المعاصي في الأزمنة الفاضلة فقال: «والمعاصي في الأيام الفاضلة والأمكنة المفضلة تغلظُ، وعقابُها بقدر فضيلة الزمان والمكان» (¬1). عباد الله: ومما يجدر التنبيهُ عليه أنَّ من أراد الأضحية فعليه أن يمسك عن الأخذِ من شعرِه وظفره وبشرته منذُ دخول العشر حتى يذبح أضحيته لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدُكم أن يضحي فليمسك عن شعرِه وأظفاره حتى يُضحي»، وفي رواية: «فلا يمسَّ من شعرِه وبشرته شيئًا» رواه مسلم. والأمرُ هنا - كما قال العلماء - للوجوب، والنهيُ - عن الأخذ - للتحريم، لكن لو تعمد الأخذَ فعليه أن يستغفر الله ويتوب إليه، ولا فدية عليه إجماعًا، ومن احتاج إلى أخذِ شيءٍ من ذلك لتضرره ببقائه كانكسار ظفرٍ أو جرح عليه شعرٌ يتعين أخذه - أو نحو ذلك - فلا بأس، ولا حرج على الرجل والمرأة أن يغسل رأسه في هذه العشر، فالنهي عن تعمدِ الأخذ، وينبغي أن يعلمَ أيضًا أن النهيَ يخص صاحبَ الأضحية دون الزوجة والأولاد، إلا إن كان لأحدٍ منهم أضحيةٌ تخصه، كما أن النهي لا يشمل الموكَّل بذبح أضحيته عن حي أو ميت، وإنما يخص صاحب الأضحية فقط. أما من عزم على الحج وله أضحية فإنه لا يأخذ من شعره وظفره إذا أراد الإحرام؛ لأنَّ هذه سنة عند الحاجة، فيرجح جانبُ الترك على جانب الأخذ، أما تقصيرُ المتمتع لشعره حين الانتهاء من العمرة فلا بأسِ بهِ؛ لأن ذلك نسك، وكذا حلقُ الرأس يوم العيد بعد رمي جمرة العقبة (¬2). ¬

(¬1) الفتاوى: 34/ 180. (¬2) عبد الله الفوزان: المجالس: 15 - 17.

مكفرات الذنوب

مكفرات الذنوب (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله واهبِ النعم ومجزلِ الفضل دافع النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غافرُ الذنب وقابلُ التوب شديدُ العقاب، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه صفوةُ البشرِ، وخير من حج واعتمر، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬3). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬4). عبادَ الله: وعاد حُجاجُ بيت الله سالمين غانمين - إن شاء الله - معافيْنَ في أجسادهم، آمنين في أداء مناسكهم، ونسأل الله أن يديم لهذا البيت أمنه، وأن يزيده تشريفًا وتعظيمًا، وأن يجزل المثوبة لكل من أسهم في أمنِه وتعظيمه، وتيسير السبلِ، والراحة للحجاج والمعتمرين. حجاجَ بيت الله: هنيئًا لمن تقبل الله عمله فعاد من حجِّه كيوم ولدته أمُّه: «والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة» وهل للمسلم غايةٌ أعظم من الجنة، ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 18/ 12/ 1420 هـ. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬3) سورة الحشر، الآية: 18. (¬4) سورة التوبة، الآية: 119.

وفي الحج فرصةٌ لإظهار عالميتنا الأصيلة، فشعَارُنا في الحج واحد ومناسكنا واحدة، والعربي والأعجمي والغني والضعيف كلنا في صعيد واحد، يتوحدُ لباسنا وتتوحد مشاعرنا، وفرق بين هذه العالمية الأصيلة والعولمة المصطنعة. أما من خرج حاجًا أو معتمرًا، فأدركته المنيةُ قبل إتمام نسكه، فأجره على الله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬1)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من خرج حاجًا فمات، كُتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمرًا فمات، كُتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازيًا فمات، كُتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة» (¬2). وفضل ربي واسع، ومن لم يكتب له الحج هذا العام ووفق لصيام يوم عرفة، كفر اللهُ عنه به السنة الماضية والباقية. (رواه مسلم بمعناه). وعن أبي يعلى: «من صام يوم عرفة غفر له ذنب سنتين متتابعتين». ورجاله رجال الصحيح (¬3). بل إن فضل الله واسع، يمتد ليشمل أصحاب الطاعات الخالصة لله، فقد روى أبو داود بسند حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من خرج من بيته متطهرًا إلى صلاة مكتوبة، فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه، فأجره كأجر المعتمر، وصلاةٌ على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين» (¬4). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 100. (¬2) رواه أبو يعلى وصححه بعضهم، كفاراتُ الخطايا/ حامد العقبى: 155. (¬3) كفارات الخطايا: 92. (¬4) صحيح الجامع: 5/ 288، صحيح سنن أبي داود: 597.

إخوة الإسلام: ومن فضل الله على هذه الأمة أن ختام العام في شهر ذي الحجة وفيه مغفرة الذنوب لمن حج البيت، أو صام يوم عرفة - لغير الحاج - وابتداءُ العام التالي بشهر الله المحرم، وفي يومُ عاشوراء، وصيامُ عاشوراء يكفر السنة الماضية - كما روى مسلمٌ في «صحيحه»، وبين شهر الله المحرم، وشهر ذي الحجة يأتي شهر رمضان، ومن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه. أيها المسلمون: ولا ينقطع فضل ربنا، ولا تنتهي مكفرات الخطايا والذنوب عند أعمال الحج والصيام. بل توجد مكفرات للذنوب نمارسها في اليوم والليلة، كالصلوات، فالصلوات الخمس، مكفرات لما بينها إذا ما اجتنبت الكبائر، ومساكين من يضيِّعون هذه الصلوات أو يتهاونون في أدائها، ومكفراتٌ نمارسها متى شئنا في ليلٍ أو نهار، ولا تكلفنا إلا تحريك اللسان واستحضار القلب، كالذكر والاستغفار، وفي الحديث المتفق على صحته قال صلى الله عليه وسلم: «من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» (¬1). دونكم - معاشر المسلمين - ذكرًا قد يبدأ به أعداد من المسلمين، فيعاجلهم الشيطان فيقطعونَهُ قبل إتمامه، وإذا عوجل المسلم عن إتمام الذكر ... وهو بعد في المسجد؛ فكيف ترى الشيطان يصنع به خارج المسجد، وعن هذا الذكر يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «من سبح اللهَ في دبرِ كلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبر اللهَ ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسع وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ¬

(¬1) أحمد، البخاري ومسلم وغيرهم صحيح الجامع ح: 6307.

غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» (¬1) إن في ذلك لمزية للمصلين وفضلًا للذاكرين. أيها المسلمون: ومن مكفرات الذنوب ما نكره وقوعُه علينا ظاهرًا وإن كان فضلًا من الله ورحمة بنا باطنًا، كالأمراضِ نحاذرها جميعًا، ونتقي أسبابها، فإذا حلت بأحدنا وصبر واحتسب كانت كفارة لسيئاته ورفعةً لدرجاته، وكذا المصائب في الأموال والأولاد ... وعن هذه وتلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا سبقت له من الله منزلةٌ لم يبلغها بعمله، ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثم صبَّره على ذلك حتى يُبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى» (¬2). قال يزيدُ بن ميسرة رحمه الله: إن العبدَ ليمرض وما له عند الله من عمل خيرٍ، فيذكِّره اللهُ سبحانه ببعضَ ما سلف من خطاياه، فيخرجُ من عينه مثلُ رأسِ الذباب من الدمع من خشية الله، فيبعثه الله إن يبعثْهُ مطهرًا، أو يقبضه إن قبضه مطهرًا» (¬3). عبادَ الله: والهمومُ والأحزانُ التي تصيب المسلمَ هي الأخرى مكفراتٌ للخطايا، أخرج البخاريُّ ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يصيبُ المؤمنَ من نَصَبٍ - وهو التعبُ الشديد - ولا وصبٍ - وهو المرض - ولا همٍّ ولا حزنٍ ولا أذىً ولا غمٍّ، حتى الشوكة يُشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه». ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد ومسلم في «صحيحه» صحيح الجامع ح: 6162. (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود واللفظ له، ووثق ابن حجر رواته إلا واحدًا، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/ 597، وانظر: تحفة المريض: 19. عبد الله الجعيثن. (¬3) عدة الصابرين: 102، تحفة المريض، الجعيثن: 23.

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كثرت ذنوبُ العبدِ فلم يكن له من العمل ما يكفرها ابتلاه الله بالحزنِ ليكفرها عنه» أخرجه أحمدُ بسند حسن (¬1). يا أخا الإسلام: وثمةُ أعمالٌ يسيرة ولكنها عندِ الله عظيمةٌ لمن احتسب أجرَها، وهي داخلةٌ في مكفرات الخطايا، فالصلاةُ على الرسول صلى الله عليه وسلم جاء في فضلها قوله صلى الله عليه وسلم: «من صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحطَّ عنه عشرَ خطيئات، ورفع له عشرَ درجات»، أخرجه أحمدُ وغيره بإسناد صحيح (¬2). وسلامُ المسلم على أخيه المسلم من أسبابِ مغفرةِ الذنوب، وفي الحديث: «ما من مسلميْن يلتقيان فيتصافحان إلا غفر الله لهما قبل أن يتفرقا» أخرجه أحمدُ والترمذي وغيرُهما بسندٍ حسن (¬3). وإدخالُ السرور على المسلم موجبٌ للمغفرةِ، قال صلى الله عليه وسلم: «إن من موجبات المغفرة إدخالَ السرورِ على أخيك المسلم» (¬4). وهذه أعني إدخال السرور على المسلم - فوق ما فيها من مغفرة الذنوب، هي نموذج لعظمة الإسلام في بناء العلاقات الحسنة بين المسلمين. يا أخا الإسلام: وهل أعظمُ من ربٍّ وأسمى من دين تأكل الأكلة فتحمده عليها، فيغفر الله ذنبك، أو تلبَسُ الثوب فتحمده عليه فيغفر ذنبك، وفي هذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «من أكل طعامًا فقال الحمدُ لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة، غفر اللهُ له ما تقدم من ذنبه، ومن لبس ثوبًا ¬

(¬1) مكفرات الخطايا: 60. (¬2) صحيح الجامع الصغير: 5/ 316، ح: 6235. (¬3) مكفرات الخطايا: 106. (¬4) رواه الطبراني في الكبير والأوسط بإسناد حسن، السابق: 112.

فقال الحمد له الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حولٍ مني ولا قوة غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر». رواه أحمدُ والحاكم بسند حسن صحيح (¬1). يا عبدَ الله: ألا ما أعظم فضلَ الله وأكثر طرقَ الخير والمغفرة، فسارع إلى الخيرات جهدك، وإياك أن تغتَّر بعملك، أو تمنَّ على الله بما هداك له، بل الصالحون يأتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، وأولئك قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (¬2). جعلنا الله منهم ... أقول ما تسمعون وأستغفر الله ... ¬

(¬1) صحيح الجامع: 5/ 256. (¬2) سورة المؤمنون، الآيتان: 60، 61.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله خلق الخلق لعبادته، ووعد الطائعين جنته، وجعل مصير الكافرين النار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله ... صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله .. إخوة الإسلام: ويتصل بمكفراتِ الذنوب والخطايا، عيادةُ المريض، والوضوء، والصلاة .. يقول صلى الله عليه وسلم: «ما من رجلٍ يعود مريضًا ممسيًا إلا خرج معه سبعون ألف ملكٍ يستغفرون له حتى يصبح، ومن أتاه مصبحًا خرج معه سبعون ألف مَلَكٍ يستغفرون له حتى يمسي» رواه أبو داود والحاكمُ بسند صحيح (¬1). وتأمل - يا أخا الإيمان - ما في الوضوء من تكفير للخطايا، فقد روى مسلمٌ في «صحيحه» من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من رجلٍ يقرب وضوءه فيتمضمضُ ويمجُّ ويستنشقُ فينتثرُ إلا جرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا جرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسلُ يديه إلى المرفقين إلا جرت خطايا يديه من أطراف أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسَه كما أمره الله إلا جرت خطايا رأسه من أطرافِ شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله إلا جرت خطايا رجليه من أطراف أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه، ومجده بالذي هو أهلُه، وفرّغ قلبه لله، إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمُّه» (¬2). عبادَ الله: ويومكم هذا يومٌ عظيم يكفر الله به الخطايا لمن تطهر وأتى ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير: 5/ 166. (¬2) م 2/ 208 - 210.

المسجدَ، وأنصت للخطبة، يقول صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل يتطهر يوم الجمعة كما أُمر، ثم يخرجُ من بيته حتى يأتي الجمعة وينصت حتى تقضى صلاته إلا كان كفارةً لما قبله من الجمعة» (¬1). يا عبدَ الله: ويرشدك المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى طريق من طرق مغفرة الذنب فيقول: «ما من عبدٍ يذنب ذنبًا، فيتوضأُ فيحسنُ الطُّهور، ثم يقومُ فيصلي ركعتين، ثم يستغفرُ الله لذلك الذنب إلا غفرَ الله له» رواه أحمد وغيرهُ بإسناد صحيح (¬2). أيها المسلمون: وطرقُ الخير لا تنتهي، وكفاراتُ الذنوب أكثرُ من أن تحصر، وصلاةُ الضحى واحدةٌ من المكفرات، وفي الحديث: «من قعد في مصلاه حين ينصرفُ عن صلاة الصبح حتى يُصلي ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرًا، غُفرت له خطاياه وإن كانت مِثْلَ زبد البحر». رواه أحمد وأبو داود، وأبو يعلى بسند صحيح (¬3). وصلاةُ الليل كذلك مكفرةٌ للسيئات، وفي الحديث: «عليكم بقيام الليل فإنه دأبُ الصالحين قبلكم، ومقربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاةٌ عن الإثم، ومطردة للداءِ عن الجسد». رواه الترمذي وابنُ أبي الدنيا وابنُ خزيمة والحاكم وصححه (¬4). والطوافُ بالبيت في عداد المكفرات، وفي الحديث الذي أخرجه الترمذيُّ والنسائي والحاكم بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال صلى الله عليه وسلم: «من طاف بهذا البيت أسبوعًا فأحصاه، كان كعتق رقبة، لا يضعُ قدمًا ولا يرفعُ أخرى، إلا حطَّ الله عنها بها خطيئة وكتب له بها حسنة» (¬5). ¬

(¬1) رواه النسائي، وصححه الألباني، صحيح الجامع: 5/ 164. (¬2) صحيح الجامع: 5/ 173. (¬3) كفارات الخطايا: 78. (¬4) السابق: 79. (¬5) صحيح الجامع الصغير: 5/ 320، ح: 6256.

إخوة الإسلام: تلك إشارات إلى بعض المكفرات للخطايا يمكن إجمالهن في أكثر من خمسة عشر مكفرًا: الحج، والصلاة المفروضة، والنافلة، والصوم، والوضوء، والسلامُ، وحمدُ الله عند أكل الطعام أو لبس الثوب، والصلاةُ على الرسول صلى الله عليه وسلم، والذكرُ، والأمراضُ والمصائبُ، والهمُّ والحزن، وعيادةُ المريض، والتطهُر والإنصاتُ للجمعة وصلاة الليل، والطواف بالبيت وإدخال السرور على المسلم، وإن كان هناك أمورٌ غيرها استوقفت العلماء السابقين واللاحقين فألّفوا في مكفرات الخطايا والذنوب، من أمثال المروزي، والمنذري، والأوزاعي وابن حجر العسقلاني، ومن المتأخرين، حامد أحمد، محمد حسين العقبى، لكنني أقف في نهايتها مذكرًا بأمرين: أحدهما: أن يحرصَ المسلم على تجنب أسباب عدم المغفرة كالإشراك بالله، والشحناء بين المسلمين، والسّحر، فاللهُ تعالى: {لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬1). ويقول صلى الله عليه وسلم عن الشحناء ما أخرجه مسلم في «صحيحه» عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تُعرض أعمالُ الناسِ في كلِّ جمعةٍ مرتين يوم الاثنين ويوم الخميس، فيُغفر لكل عبدٍ مؤمنٍ إلا عبدًا بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا - أي يرجعا عن شحنائهما - فيغفر لهما». وهؤلاء الثلاثة المعوقات عن المغفرة يشملهن حديث: «ثلاث من لم يكن فيه واحدة منهن فإن الله يغفر له ما سوى ذلك لمن يشاء، من مات لا يشرك بالله شيئًا، ولم يكن ساحرًا يتبع السحرة، ولم يحقد على أخيه» (¬2)، يضاف إليهن الكبائرُ بشكل عام، فتركهن كفارات للسيئات، كما قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 48. (¬2) أخرجه الطبراني بسند حسن - مكفرات الخطايا: 116 ح/ 370.

كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (¬1). أما الأمرُ الثاني فهو الحذرُ من شؤمِ المعصية، وعدم الاستهانةِ بالسيئة مهما صغرت، يقول صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحقرات الذنوب - كقوم نزلوا في بطنِ وادٍ فجاء (ذا) بعودٍ، وجاء (ذا) بعودٍ حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقراتِ الذنوب متى يُؤخذُ بها صاحبُها تُهلكه» (¬2). ومن هذا المعنى حذر الشاعرُ من الذنوب صغيرها وكبيرها فقال: خلِّ الذنوبَ صغيرَها ... وكبيرَها ذاكَ التقى واصنع كماشٍ فوق أر ... ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرةً إن ... الجبالَ من الحصى (¬3) وإذا ابتليت بالذنب فبادر بالتوبة والاستغفار، وما تعظمت الذنوب إلا بسبب الغفلة وعدم التوبة والندم. قال كعبٌ: إن العبد ليذنب الذنبَ الصغيرَ ولا يندم عليه ولا يستغفرُ منه، فيعظمُ عند الله حتى يكون مثلَ الطور، ويعملُ الذنب العظيم فيندم عليه ويستغفرُ منه فيصغرُ عند الله عزّ وجلّ حتى يغفر له (¬4). قال الفضيل رحمه الله: بقدرِ ما يصغر الذنبُ عندك كذا يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك كذا يصغر عند الله (¬5). يا عبدَ الله: وإياك والمجاهرة بالمعصية - إذا سترك الله، والرسولُ صلى الله عليه وسلم يقول: «كلُّ أمتي معافى إلا المجاهرون». متفق عليه. يا أخا الإيمان: سائل نفسك أولًا عن ممارسة هذه المكفرات، ثم سائل ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 31. (¬2) أخرجه أحمد وحسَّنه ابنُ حجر - الفتح: 11/ 329. (¬3) شؤم المعصية، الدويش: 17. (¬4) رواه البيهقي في شعب الإيمان: 7151. (¬5) السابق 7152 عن شؤم المعصية: 17.

نفسك ثانيًا عن بعدك عن مقومات المغفرة، ثم استيقن أن فضلَ الله عليك عظيم، وأن فرص الخير لا تقف في زمان أو عند نوع من الأعمال، والموفَّقُ من وفَّقه الله، اللهم لا تحرمنا فضلك. ولا تصدنا عن سبيلك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعل أعمالنا صائبةً ولوجهك خالصة يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، واستر عيوبنا.

عناصر القوة للمسلم

عناصر القوة للمسلم (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله جلَّ في علاه، له الأسماءُ الحسنى والصفاتُ العلى، هو الأول والآخرُ والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم خائنةَ الأعينِ وما تخفي الصدور، ما من دابةٍ في الأرض إلا هو آخذٌ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله وخيرتُه من خلقه، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلِّم تسليمًا كثيرًا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬3). أيها المسلمون: هناك حقيقة يؤكدها القرآنُ الكريم في أكثر من موضع، ويشهد بها واقعُ الناسِ في كل زمان ومكان، ألا وهي: كثرةُ الخبيث في الأرض، وزيادة أعداد المفسدين، وندرةُ الإيمان، وقلةُ المؤمنين. يقول تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (¬4) ويقول جلّ ذكره: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (¬5)، ويقول: ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 8/ 8/ 1419 هـ. (¬2) سورة التوبة، الآية: 119. (¬3) سورة الحشر، الآية: 18. (¬4) سورة المائدة، الآية: 100. (¬5) سورة يوسف، الآية: 103.

{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2)، وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (¬3). قال عليه الصلاة والسلام حين سُئِلَ: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثر الخبث». وفي الحديث الآخر: «لا تقوم الساعةُ حتى يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا، ويشرب الخمر» متفق عليه. وعن الزبير بن عدي قال: أتينا أنسًا فشكونا إليه ما نلقى من الحجَّاج، فقال: اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمانٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري. هذه الكثرةُ للفسادِ والمبطلين، والقلةُ لأهل الصلاح والتقوى واليقين لحكمة يعلمها الله {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (¬4). والغفلةُ عن حكمة الله وتقديره في هذا الكون، قد تضعف معها بعضُ النفوس أحيانًا، وقد ينظرُ المرءُ أحيانًا إلى الفسادِ يسري في الأرض سريان النار في الهشيم، وإلى المفسدين تُتاح لهم من الفرص ما لا تُتاح للخيرين ... هنا ربما وهن عزمُ المسلمِ أو ساورته بعض الشكوك في طريقه إلى الله، ولربما أساء الظنَّ بربه، أو قلل الأدبَ مع خالقه، فقال بلسان حالهِ أو مقاله: ولماذا يُمَكَّنُ المفسدون؟ وكيف تكون الغلبةُ للكافرين، والذلةُ والتشرذمُ من نصيب المسلمين؟ والله لا يُسألُ عما يفعل وهم يسألون. ولو فتَّش في نفسه وفي ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 116. (¬2) سورة سبأ، الآية: 20. (¬3) سورة سبأ، الآية: 13. (¬4) سورة يونس، الآية: 99.

حال إخوانه لوجد من الضعف وعدم الجدية في حمل هذا الدين، ما سبب هذا الواقع المهين، ولا يظلم ربك أحدًا، ولا يخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. والمهمُّ أن نتعرف على الأسباب التي تجعلُ من الضعيف قويًا، ومن القلةِ ذاتِ أثرٍ فاعل، وإن شئت فقل: ما عناصرُ القوةِ للمسلم؟ إن أول عناصر القوة: الإيمانُ الحقُّ بالله، وذلك الإيمانُ يربي النفوس على عدم الخوف من أحدٍ مهما كان، إلا الله الواحد القهار: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬1). لقد تحدى السحرةُ بهذا الإيمان فرعون: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (¬2)، وبالإيمان صرّح الرجلُ الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ويحث على إتباع المرسلين: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} (¬3)، وكذلك استعلى بالإيمان أصحاب الأخدود {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (¬4)، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. العنصرُ الثاني: صدقُ التوكل على الله، فمنه يُستجلبُ النصرُ، وبه يُدفع الضرُّ، ومع التوكل عليه وحده يبطل كلُّ كيد ويعيش المتوكلُ قرير العين، متحديًا كلَّ أحد. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 175. (¬2) سورة طه، الآيتان: 72، 73. (¬3) سورة يس، الآيات: 25 - 27. (¬4) سورة البروج، الآية: 8.

وهاك نموذجين لآثار التوكل على الله، قصَّ الله علينا خبرهما عن نوح وهود عليهما السلام، فقال عن الأول: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} (¬1)، فهو لا يبالي بهم ولا بقوتهم وكيدهم، ولا يخاف معرَّتهم، وإن كانوا أشداء أقوياء، ما دام متوكلًا على الله، آويًا إلى ركنه. وفي النموذج الثاني قال تعالى عن هود عليه السلام: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2)، إنه بالتوكل على الله يتحداهم أجمعين ودون تأخير، ويقول: فكيف أخاف مَنْ ناصيتهُ بيد غيره، وهو في قهره وقبضته؟ عباد الله: إن الإيمانَ الحق يستلزم التوكلَ على الله: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (¬3). جاء في الأثر: «من أحبَّ أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحبَّ أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق بما في يديه، ومن أحبَّ أن يكون أكرمَ الناسِ فليتق الله» (¬4). أما العنصرُ الثالثُ من عناصر قوةِ المؤمن فهو تفويضُ الأمر لله بعد عمل ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 71. (¬2) سورة هود، الآيات: 54 - 56. (¬3) سورة يونس، الآية: 84. (¬4) ساقه ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} سورة الزمر، الآية: 38.

الأسباب الممكنة شرعًا، ولا بد لمن فوض أمره إلى الله أن يهديه ويقيه، ودونكم تفويض مؤمن آل فرعون ونتائجه وهو القائل: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (¬1). أيها المسلمون: ويكتسب المؤمن قوةً وحمايةً وأمنًا من خلال دفاع الله عنه {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (¬2). وهذا هو العنصر الرابعُ من عناصر القوة ... ومن يستطيعُ إلحاق الضرر والأذى بمن يتولى الله الدفاع عنه، كلما أجلب الناس عليه ... ؟ ! وكفاية الله لعبده المؤمن عنصرٌ خامسٌ من عناصر قوته، وإن خُوِّف بمن دونه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (¬3). ولا تستطيعُ قوةٌ من البشر - مهما بلغت - أن تُلحق بعبدٍ ضررًا لم يكتبه اللهُ عليه: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك». بل يجعل الله تعالى من نفسه محاربًا لمن عادى وليَّه المؤمن: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب»، وهل يقوى على حرب الله أحدٌ؟ ومما يقوي المؤمنَ ضعفُ سلطانِ الشيطان عليه: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ ¬

(¬1) سورة غافر، الآية: 44، 45. (¬2) سورة الحج: الآية: 38. (¬3) سورة الزمر، الآية: 36.

بِهِ مُشْرِكُونَ} (¬1). {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} (¬2). ومحبة الخلق للمؤمن رصيد يسليه ويقويه ويؤنسه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (¬3). وصبرُه على الضراءِ، وشكرُه على السراء، فوق ما فيه من تقويته فهو يفوّت الفرصةَ على كل من أراد بالمؤمن سوءًا أو فتنة، وهذا الصنفُ لا تتعلق نفسُه بعطاء الدنيا، ولا تضجر للبلاء: «عجبًا لأمر المسلم إن أمره كلَّه خير، إن أصابته سراءُ فشكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن». وما أجمل قول القائل: صبرًا جميلًا ما أسرع الفرجا مَنْ صدق اللهَ في الأمور نجا من خشي اللهَ لم ينلْه أذى ومن رجا اللهَ كان حيث رجا (¬4) وأبلغ من ذلك قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (¬5) ولن يغلب عسرٌ يسرين، كما قال العلماء. اللهم اجعلنا من الصابرين، ومن أهل الإيمان واليقين، أقول ما تسمعون. ¬

(¬1) سورة النحل، الآيتان: 99، 100. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 65. (¬3) سورة مريم، الآية: 96. (¬4) تهذيب السير: 2/ 925. (¬5) سورة الشرح، الآيتان: 5، 6.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه إمام المتقين وسيدُ ولد آدم أجمعين، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. عبادَ الله: ومن عناصر قوة المؤمن وأسلحته التي يحتمي بها الدعاء، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (¬1). والله تعالى هو المدعو عند الشدائد، والمرجو عند النوازل: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} (¬2)، {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (¬3). قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» عنده آية النمل هذه عن وهبِ بنِ منبه قال: قرأتُ في الكتاب الأول أن الله تعالى يقول: بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السماواتُ بمن فيهن، والأرضُ بمن فيهن، فإني أجعلُ له من بين ذلك مخرجًا، ومن لم يعتصم بي فإني أخسفُ به من تحت قدميه الأرضَ، فأجعلُه في الهواء فأكلُه إلى نفسه. كما نقل عن الحافظ ابن عساكر الحكايةَ التالية عن رجلٍ قال: كنتُ أكاري على بغلٍ لي من دمشق إلى بلد الزبداني، فركب معي ذاتَ مرةٍ رجلٌ، فمررنا على بعض الطريق على طريق غير مسلوكة، فقال لي: خذ في هذه فإنها أقرب، فقلتُ: لا خبرةَ لي فيها، فقال: بل هي أقرب، فسلكناها، فانتهينا إلى مكان ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 186. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 67. (¬3) سورة النمل، الآية: 62.

وعرٍ، ووادٍ عميق، وفيه قتلى كثيرة، فقال لي: امسك رأس البغل حتى أنزل، فنزل وتشمر، وجمع عليه ثيابه وسلَّ سكينًا معه وقصدني، ففررت من بين يديه فتبعني، فناشدته الله وقلتُ: خذ البغل بما عليه، فقال: هو لي، وإنما أريدُ قتلك، فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل، فاستسلمتُ بين يديه وقلت: إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين فقال: عجِّل، فقمت أصلي، فارتج عليَّ القرآنُ، فلم يحضرني منه حرفٌ واحد، فبقيت واقفًا متحيرًا وهو يقول: هيه، افرغ، فأجرى الله على لساني قوله تعالى: {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (¬1) فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي وبيده حربةٌ، فرمى بها الرجلَ فما أخطأت فؤادَه، فخرَّ صريعًا، فتعلقتُ بالفارس وقلت: بالله من أنت؟ فقال: أنا رسولُ الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، قال: فأخذت البغلَ والحملَ ورجعتُ سالمًا (¬2). أيها المسلمون: وكذلك الله يكفي ويشفي ويجيب المضطرَّ إذا دعاه ويكشف السوء، وهو خيرٌ حافظًا وهو أرحم الراحمين، ومن تعرَّف على الله في الرخاء عرفه في الشدائد والمحن، وقد يغتر الجاهل بقوته، أو يتمادى في جوره وطغيانه حيث أمهله الله، فإذا به يأخذه على حين غرّة، ومن حيث لا يحتسب، ومن نماذج السوء فرعون، فحين بلغ به الطغيان قال: أنا ربُّكم الأعلى، ونادى في قومه قال: يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون، وسخر بموسى ومن معه من المؤمنين فأخذه الله نكالَ الآخرة والأولى، وجعله عبرة للمعتبرين، {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} (¬3). ¬

(¬1) سورة النمل، الآية: 62. (¬2) تفسير ابن كثير: 3/ 592. (¬3) سورة الزخرف، الآيتان: 55، 56.

وكذلك قارون الذي ناءت بحمل مفاتيح كنوزه أولو العصبة من أصحاب القوة ... وقال متطاولًا مستكبرًا: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} (¬1) فكانت النتيجة: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} (¬2). إن الضعيف يقوى إذا احتمى بالله وركن إليه، وأن القويَ يضعف وتهن قواه إذا تجبر وطغى. وينبغي أن يُقدر المسلمون أن صلتهم بالله مصدرُ قوتهم وعزتهم، وأن بداية سقوطهم ضعفُ صلتهم بالله وتنكُّرُهم لشرعه، واعتمادُهم وتوكلُهم على غيره. يا أخا الإسلام: وإياك إياك أن تستوحش من سلوك طريق الخير لقلة السالكين، أو تغترّ بسلوك طريق الشرِّ لكثرةِ الهالكين، فأنت سترد على الله فردًا، وإذا كان لا يغني في موقف العرض الأكبرِ الاعتذارُ بتقليد الآباء والأجداد ... فكيف يغني اعتذارُك بتقليد من سواهم! ! إن مما يُسلي المؤمن ويسري عنه أنَّ غربة اليوم والثبات على الحق عاقبتُها جناتُ المأوى، كذا أخبر المصطفى: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء» أتدري من هؤلاء الغرباء؟ الذين يصلحون إذا فسد الناس، وفي رواية: «يصلحون ما أفسد الناس» فأصلح نفسك إذا فسد الزمان وساهم في إصلاح غيرك، فلأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم. اللهم أصلحنا، وأصلح بنا، اللهم احفظنا واحفظ لنا، اللهم ارزقنا الاستقامة على دينك، والعمل بسنة نبيك ... واجعلنا ممن يرد حوضه، وينال شفاعته، ولا تجعلنا ممن يُذاد عنه وعنهم، يقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 78. (¬2) سورة القصص، الآية: 81.

المعركة المتجددة

المعركة المتجددة (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله خلق الخلق لحكمةٍ جليلةٍ، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحاط بكل شيءٍ علمًا، وجعل لكل شيءٍ قدرًا، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، بلّغ وأرشد، وحذَّر وأنذر، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها ... اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3). عبادَ الله: من طبائع الأمور أن يستعد المرءُ لعدوِّه المحارب له بكل وسيلةٍ ممكنة، ويَحْذَرَه على نفسه ومن تحت يده، ويودُّ لو استطاع دفعه عن إخوانه المسلمين، حتى ولو كلفه ذلك من جهده وماله ووقته، ويسعدُ إذا انتهك المعركةُ لصالحهِ وضد عدوِّه، لكن ما رأيكُم في معركةٍ، بل معارك يدور رحاها في كلّ يوم، بل وفي كل لحظةٍ، والعدوُّ فيها يتسلل إلى قلب الديار فيفسدُها، بل إلى أعماق البيوت فيحدث الخللَ فيها، بل يصيرُ إلى قلوب العباد، فيعكر صفوها ويضعف إيمانها. وربما قطع صلتها بخالقها. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 1/ 12/ 1421 هـ. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬3) سورة المائدة، الآية: 35.

والعدوُّ هنا يتسلل على مرأى منا، ويُفسد حين يُفسد بمحضِ رغبتنا وغلَبةِ شهواتنا وأهوائنا، وتلك من أعظم المصائب وأقسى المعارك. نعم إن معركتنا مع الشيطان معركةٌ دائمةٌ متجددةٌ يتخذ فيها الشيطانُ كلَّ أنواع السلاح، ويحيط بالمرء من كافة الجهات، ويراوغه ويمنِّيه بكافةِ أنواع المغريات: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (¬1)، {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} (¬2). أيها المسلمون: ويملك الشيطانُ في معركته مع بني الإنسان عددًا من الجنود يستخدمهم في المعركة، وتختلط خيالتُهم بالرجَّالة، وهو حريصٌ على مشاركتهم في الأموال والأولاد لإفسادهم. والشيطان يستنزلُ ويستفزُّ بصوته الداعي إلى المعصية كلَّ من استطاع وخدع، يقول تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} (¬3). إنها معركةٌ صاخبةٌ تُستخدم فيها الأصواتُ والخيلُ والرجل على طريقة المعارك والمبارزات، يُرسل فيها الصوتُ، فيُزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة، أو يستدرجهم للفخِّ المنصوب والمكيدة المدبرة، فإذا استدرجهم إلى العراء أخذتهم الخيلُ وأحاطت بهم الرجال، لكن هذه المعركة - مع شدتها - تهون على أهلِ الإيمان وعبادِ الله الصالحين، الذين يعرفون كيده، ولا يستجيبون لندائه وأصواته، ولا ينخدعون بوعوده، أولئك الذين ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآيتان: 16، 17. (¬2) سورة النساء، الآية: 120. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 64.

استثنى الله بقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا} (¬1). إخوة الإيمان: وتجدون راية الشيطان منصوبةً في كل مكان. يا صاحب المال: ستجد رايةَ الشيطان منصوبةً، وإن لم تبصرْها، في كل مالٍ جمعته من حرام، أو أنفقته في الحرام، أو منعت الإنفاق الواجب منه في الحلال؟ فانظر في مالك من أين جمعته وفيما تنفقه؟ أيها الشابُّ والشابة: وتنصب رايةُ الشيطان وإن لم تروها حين يستزلكم الشيطانُ بقضاءِ الشهوةِ المحرمة في الزنا أو اللواط. أو مقدماتهما - فاحذروا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. أيتها المرأة المسلمة: وتنصب رايةُ الشيطان حين يستشرفك الشيطانُ بالخروج متزينةً متعطرةً فتفتنين عبادَ الله، ويقع بسببك من البلاء والفسادِ ما يُغضب الرحمن، ويطربُ له الشيطان، فاتقي الله يا أمة الله، ولا تجعلي للشيطان سبيلًا عليك وعلى المؤمنين. وإذا كانت وسوسته تُلازم المسلم وهو في أشرف البقاعِ حين يقوم للصلاة ... فلا تسأل عن وسوسته وغروره وأمانيه خارج المسجد وخارج الصلاة. يا أيها المسلمُ والمسلمة: وكلما حصل منك فتورٌ عن العبادةِ أو تراخٍ عن أداء الواجبات وتساهل في اقتحام المحرمات، فاعلم أن الشيطان حاضرٌ فاستعذْ بالله منه تجدْ من الله عونًا «وكفى بربك وكيلًا»، وكلما ضَعُفَتْ نفسك أمام الشهوة المحرمة، كالزنا واللواط، والغناء، وشرب المسكرات وتناول المخدرات أو نحوها من المآثم ... فاعلم أنك مغلوبٌ في المعركةِ مع ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 65.

الشيطان. وكلما غلبتك عينُك على النظرة المحرمة، أو خانتك أذُنكَ على السماع المحرم، أو مشت بك رجلُك إلى الحرام، أو امتدت يدُك إليها فاعلم أنك ضعفت في المقاومة أمام جند الشيطان ... وسينقلونك إلى معركةٍ أخرى، وستقع في النهاية ضحيةً لمكرِ الشيطان وتلاعبه. يا أيها الإنسانُ ما غرك بربك الكريم ... أترضى بغرور الشيطان، وتستلمُ لعدوك، وقد أخرج أبويك من الجنةِ، وأهبطهما إلى الأرض حين استزلهما وأخرجهما مما كانا فيه؟ ولا يغرنك بنصحِه فقد قاسم أبويك وهو كذوب: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} (¬1) فكانت النتيجة {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} (¬2) وما أشدَّ حسرتك حين يوقعك ثم يعود لك لائمًا مُتبرئًا: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (¬3). وفي تاريخ البشرية كلِّها قديمها وحاضرها، لم يُرفع سلاحٌ بغير حق إلا وكان للشيطان فيه نصيبُ الإغواء، ولم يقع خلافٌ بين ابنٍ وأبويه، أو زوجٍ وزوجته أو أخ لأخيه ... إلا وكان الشيطانُ حاضرًا مُغْويًا، ولم يكن ثمةَ انحرافٌ في الفكر والمعتقد، أو خلٌ في السلوك وتساقطٌ في الأخلاق، وانهيارٌ في القيم إلا وكان للشيطانِ فيها خطواتٌ مُستدرِجة ثم موقعة، ثمَّ تعقبها الحسرةُ والندامة. أفلا يفكرُ العقلاءُ بالنتائج المُرَّةِ لطاعةِ الشيطان، إنْ في الدنيا بالخزي والذلِّ والندامة وشؤم المعصية، أو في الآخرةِ حيثُ الإقامةُ الدائمةُ والعذابُ المهين، والحسرة والندامةُ، لقد قرع الأسماعَ تحذيرُ اللطيف الخبير من مكر الشيطان وغدره، ونودي بنو آدم من السماء نداءً صادقًا: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} إلى قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬4). ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 21. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 22. (¬3) سورة الحشر، الآية: 16. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 27.

ولا يزالون يذُكَّرون العهدَ بعداوة الشيطان وأثره في إغواء البشرية {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (¬1). عباد الله: لا بد من الحذرِ من مكرِ الشيطان، ولا بد من الاستعداد لهذه المعركةِ التي لا يخبو أوارُها، ولا يُسَلِّمُ أو ييأسُ محركُها ... إن الشيطان يحضر غداءكم وعشاءكم، ويقتحم عليكم بيوتكم وفرشكم، وهو معكم في حين خلوتكم أو اجتماعكم، وفي حال فقركم أو غناكم، مع الذكر والأنثى والصغير والكبير ... معكم ما دامت أرواحكم في أجسادكم، وما برحت الدماءُ تسري في عروقكم، وكفى بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم دقةً وتبيانًا لحضور الشيطان، حين يقول: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» متفق عليه (¬2). إنها البليةُ العظمى والفتنة المستشرية، والمعركةُ المتجددةُ، ولكن الله جعل لنا مخرجًا، ويكفي أن يستأنس المؤمنون بقوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (¬3)، وبقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (¬4)، ويعترف الشيطان بعجزه عن إغواء المخلصين: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (¬5). فالله الله أن يتلاعب الشيطانُ بأحدِكم كما يتلاعب الغلمانُ بالكرة، وإياكم أن تخسروا كلَّ أو معظم المعارك مع الشيطان حتى إذا وردتم على الله محمَّلين بالخطايا والآثام أخلفكم وعده، وصدقكم وهو الكذوبُ قال الله على لسانه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ ¬

(¬1) سورة يس، الآيات: 60 - 62. (¬2) انظر صحيح الجامع: 2/ 75. (¬3) سورة النساء، الآية: 76. (¬4) سورة الحجر، الآية: 42. (¬5) سورة ص، الآيتان: 82، 83.

وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1). هناك ما أعظم الحسرة والندامة، ولكن هيهات فقد فات الأوان ... اللهم انفعنا بالقرآن، واكفنا شرَّ إغواءِ الشيطان، ولا تجعل له علينا سبيلًا، وأعذنا من مكرِه وشرِّه، أقول ما تسمعون. ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 22.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله خالق الخلق أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقضي بالحق ويحكم بالعدل، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب، وأشهد أن محمدًا عبدُه كان له قرينٌ من الجن فأسلم ... اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين. أيها المسلمون: وقد يسأل سائل ويقول: ما هي السبلُ والوسائلُ التي يُبطل بها كيدُ الشيطان، وما نوعُ الأسلحة التي يُهزم بها الشيطانُ وجنده؟ وهنا أعرضُ مذكرًا بعشر وسائل - أو تزيد - للوقاية من كيد الشيطان ومكره، فمنها: 1 - الاستعاذة بالله من الشيطان، والتوكلُ على الله، يقول خالقُنا وخالقُ الشيطان: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1)، {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} (¬2)، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (¬3). ويقول جلّ ذكره: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬4). حُكي عن بعضِ السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سوّل لك الخطايا؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال: هذا يطول عليك، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبُها ومنعكَ من العبور، ما تصنع؟ قال: أكابده وأردّه جهدي قال: هذا يطول عليك، ولكن ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: 36. (¬2) سورة المؤمنون، الآية 97. (¬3) سورة الناس، الآيات: 1 - 6. (¬4) سورة الطلاق، الآية: 3.

استغِث بصاحب الغنم يكفُّه عنك (¬1). 2 - ومن الأسلحة الواقية من كيد الشيطان وجنده قراءةُ القرآن وتدبُّره {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} (¬2)، {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} (¬3)، قيل: ليس شيءٌ أطرد للشيطان من القلبِ من قول: لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن ... وذلك طاردٌ للمشركين وقيل: للشياطين (¬4). وإذا كانت تلاوةُ القرآنِ - عمومًا - مُبعدةً للشياطين، فثمةَ سورٌ، أو آياتٌ معينة جاء النصُّ عليها أن تحفظُ من الشيطان، فـ (المعوذات) ما استعاذ متعوذٌ بمثلهما، وحريٌّ بالمؤمن أن يقرأهما في الصباح والمساء. وآيةُ الكرسي حين يقرأها المسلمُ في فراشه، فلن يزال عليه من الله حافظٌ ولا يقربه شيطان حتى يصبح. والآيتان الأخيرتان من سورة البقرة، لا يقرآن في دارٍ ثلاث ليالٍ فيقربها الشيطان (¬5). 3 - والذكرُ يا عبادَ الله حصنٌ منيعٌ من الشيطان، وما يزال المرءُ يذكر الله حتى يطمئن قلبُه، وتندفع عنه وساوسُ الشيطان، وصدق الله: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬6). 4 - والاستغفار والتوبة من أمضى الأسلحة لمكافحة الشيطان وقد قال: ¬

(¬1) القرطبي، التفسير 7/ 348. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 45. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 46. (¬4) تفسير القرطبي: 10/ 271. (¬5) صحيح الجامع الصغير: 2/ 123 وهكذا. (¬6) سورة الرعد، الآية: 28.

وعزتِك يا ربِّ لا أبرحُ أغوي عبادَك ما دامت أرواحُهم في أجسادهم، وقال الربُّ ووعدُه حق: وعزتي وجلالي لا أزالُ أغفرُ لهم ما استغفروني. وقال الشيطانُ: أحرقتُ بني آدم بالمعاصي فأحرقوني بالاستغفار. والتوبةُ سبيلٌ لإغاظةِ الشيطانِ ومراغمتهِ، وما يزال العبدُ يُراغم الشيطان بالتوبة والإنابة حتى يحصلَ على محبةِ الله ورضوانه، بل وتُستبدل سيئاتُه حسنات ... وذلك أكبرُ مغيظٍ للشيطان، وبالجملة فشأنُ المسلم اللبيب - كلما أحدث ذنبًا أحدث لله توبةً وعملًا صالحًا، ففي ذلك مراغمةٌ للشيطان وردٌ لكيده، وقد جاء عن بعض السلف أنه قال: «إن المؤمن لينضي شيطانه كما يُنضي أحدُكم بعيره» (¬1). 5 - وحُسن الخُلق - بشكل عام - جالبٌ للمودة، دافعٌ لنزغات الشيطان ... وسوءُ الخلق داعٍ للرذيلة ... وطريقٌ لدخول الشيطان ... أرأيت كيف يصنع الأحمقُ الغضبان من المآثم ... وما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه. وإذا كان القولُ الحسنُ من جملة الأخلاق الفاضلة، فتأمل أثر نقيضه من فحش القول في نزغ الشيطان، يقول تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبيِنًا} (¬2). 6 - عباد الله: والمحافظون على الصلوات أبعدُ من غيرهم عن كيد الشيطان، فالصلاةُ تنهى عن الفحشاء والمنكر، والشيطانُ إذا سمع الأذان أدبر وله ضراط - وفي الصلاة من الذكر والخشوعِ والتلاوة والعبودية لله ما يُسهم في حماية العبد بإذن الله من مكر الشيطان وكيده. 7 - ومن الأسلحة المكافحة للشيطان أن تعوِّدَ نفسَك كلما عملت سيئةً أن ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة: 1/ 295. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 35.

تبادرَ بعملِ حسنةٍ أو حسناتٍ بعدها، فتلك تمحوها وتراغم الشيطان، وفي التنزيل: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬1)، ومن مشكاة النبوة: «وأتبعِ السيئة الحسنة تمحُها». 8 - ومن الأسلحة كذلك أن تحزن للسيئة - إذا بُليت بها - ولا تُعجب بالحسنةِ - إذا وفقك الله لها - وإن فرحت بها، فقد تقودك السيئةُ - مع الحزن على فعلها والندم على مقارفتها - إلى فعل حسناتٍ كثيرة، وتوجِدَ عندك من الذلّ والعبودية والانكسار لله ما يجلب حسناتٍ كثيرةً - تفوق بآثارها هذه السيئة - وفي المقابل قد تقودك هذه الحسنةُ التي أعجبت بها إلى العُجب والكبر والمنة على الله وتزكية النفس ... فتحمل بسببها من السيئات ما يُهلكك. ومن مأثور كلام السلف: «قد يعمل العبدُ الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخل بها النار» (¬2). 9 - أيها المسلم والمسلمة: وحصِّن نفسك عن مكرِ الشيطان بتزكيتها {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (¬3)، ومن أقوى وسائل تزكيتها: غضُّ البصرِ، وحفظُ الفروج، كما قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} (¬4). قال ابن تيمية رحمه الله: فجعل سبحانه - غضَّ البصر، وحفظ الفرج هو أقوى تزكية للنفوس (¬5). 10 - والدعاءُ سلاحٌ به يتقي المسلمون كيدَ الشيطان وحضورَهُ، وقد أوحي ¬

(¬1) سورة هود، الآية: 114. (¬2) مدارج السالكين: 1/ 307، 308. (¬3) سورة الشمس، الآيتان: 9، 10. (¬4) سورة النور، الآية: 30. (¬5) العبودية: 100.

للنبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} (¬1). فاستعاذةُ سواهُ باللهِ أولى، واللهُ هو الذي أعطى الشيطانَ القدرة على الإغواء، وهو وحده القادرُ على الحماية والحفظ، فلنرفع إليه أكفَّ الضراعة سائلين، وهو قريبٌ مجيبُ الدعاء. عباد الله: وثمةَ وسائلُ أخرى وأسلحةٌ واقيةٌ من مكر الشيطان تُذهب أو تُخفف من حدة المعركة معه، كقوةِ العزيمة وتنمية الهمة العالية على فعلِ الخير واجتناب الشر، وعدم الانخداع بأسرِ الشهوةِ الحاضرة، والنظرِ في عواقبها الوخيمة، والتطلع إلى نعيم الآخرة، وعدم الغرورِ بالدنيا، والحرصِ على إصابة السُّنةِ في القول والعمل، والحذرِ من البدعةِ في المعتقد والعمل، إلى غير ذلك من وسائل يمارسها العارفون، ويحتمى بها من الشيطان عبادُ الله المخلصون. أيها المسلم والمسلمة: وإذا علمت أنك في كل لحظةٍ، بل وفي كل خاطرة في معركة مع الشيطان، فانظر في نتائج المعركةِ معه، ولا يغبْ عن بالك أن المتقين للمعاصي يمسُّهم - أحيانًا - طائفٌ من الشيطان، لكن الفرق بينهم وبين غيرهم أنهم يتذكرون قدرة الله فينتهون ويبصرون، وغيرهم - من إخوان الشيطان - يتمادون في غيهم ولا تقصر الشياطينُ عنهم. اقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} (¬2). فكُنْ من المُتَّقين، لا من إخوان الشياطين. ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآيتان: 97، 98. (¬2) سورة النساء، الآية: 131.

بشائر بمستقبل الإسلام

بشائر بمستقبل الإسلام (¬1) الخطبة الأولى: الحمد لله ربِّ العالمين، يعلم السرَّ وأخفى، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، إليه المنتهى، وما من دابةٍ في الأرض إلا هو آخذٌ بناصيتها، ويعلم مستقرَّها ومستودَعها، كلٌّ في كتاب مبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، كان واثقًا بربه مطمئنًا إلى نصره، صابرًا على البلاء يصيبه، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أوصي نفسي وإياكم - معاشر المسلمين - بتقوى الله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (¬2)، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (¬3)، {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (¬4). أيها المسلمون: هل يخالجكم شكٌّ في قوة الله وقدرته على نصرةِ دينه وأوليائه؟ وهل ترتابون في ضعف كيد الأعداء مهما بلغت قوتُهم وكثر جمعُهم؟ وهل يتردد مسلمٌ في الاعتقاد بأن العاقبةَ للتقوى والمتقين، والغلبةَ في النهاية للإسلام والمسلمين. تلك مُسَلّماتٌ لا تقبل الجدل، وأدلتُها في الكتاب العزيز والسنة المطهرة أكثرُ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 16/ 1/ 1421 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 131. (¬3) سورة الطلاق، الآيتان: 2، 3. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 29.

من أن تُحصر ... وإن كان اللهُ جعل لكل شيءٍ قدرًا، وربط الأمور بأسبابها، وجعل للنصرِ والتمكين شروطًا لا بد من توفرها ... ولكن هذه الأسباب والشروط ليست ضربًا من المستحيل، ولا فوق طاقات البشر، لكنها محتاجةٌ إلى صدق وإخلاصٍ وجهادٍ ونية، وأنتم اليوم - كما كان أسلافكم من قبل - مُمتحنون على صدق الجهاد لدينه، والولاء لشرعه وللمؤمنين، والبراءة من الشرك وأهله، وقد قيل لمن هو خير منا: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (¬1). عباد الله: ودعونا نستبشر ونبشر بنصر الله، ونقارن بين العسر واليسر، ونُجدد عزائم النفوس، ونطرد بالأمل والبشرى دواعي الألمِ والقنوط ومظاهرَ الإحباط واليأس. إن الدينَ دينُ الله، والحُرمات حرماتُه، واللهُ أغيرُ على دينه وحرماتِه منا، وهو الذي أنزل الدين، وأرسل الرسل، وتكفّل بإظهار دينه {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (¬2)، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (¬3) ويقول جلَّ قائلًا عليمًا {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬4). ومن قديم الزمنِ وحديثهِ والأعداءُ يتربصون بالمؤمنين الدوائر، ويكيدون لهم، وفي مثل هذا الزمن يبلغ كيدُ الأعداء مبلغًا ربما ظن معه ضعفاءُ الإيمان أن المسلمين لن تقوم لهم بعده قائمة ولن ترتفع لهم راية ... ولكن العودةَ إلى آيات ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 179. (¬2) سورة التوبة، الآية: 33، والصف، الآية: 9. (¬3) سورة الفتح، الآية: 28. (¬4) سورة الصف، الآية: 8.

القرآن تكشف عن مكرٍ قديمٍ للأعداء، وعن إنفاقِ الأموال للصد عن سبيله ... ومع ذلك باءت هذه المحاولاتُ بالفشل بالنهاية، وكشف اللهُ عن ضعفِ كيد الأعداء وغلبتهم في النهاية، واقرأ بتمعُّن هذين النموذجين في زمنين مختلفين. يقول تعالى عن الأول: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬1). وقال عن النموذج الثاني: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (¬2). عباد الله: وينبغي أن لا يغيب عن بالنا ونحن نقاوم أعداء الإسلام أن هؤلاء الأعداء أعداءٌ لله قبل أن يكونوا أعداءَ لنا، تجدون ذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (¬3)، وإنهم يكذبون بآيات الله قبل أن يكذبوا المرسلين، أو يسخروا بالمسلمين، يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (¬4)، والله تعالى أغير على دينه وحرماته ... ولكنه القدرَ الإلهيَّ بامتحان الناس بالشر والخير فتنة، وبالجملة فمهما بلغ كيدُ الأعداء، فالله موهنُ كيدهم، والله يمهلهم قليلًا ثم يأخذهم، تأملوا قوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} (¬5)، وقوله: {إِنَّهُمْ ¬

(¬1) سورة النمل، الآيات: 48 - 52. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 36. (¬3) سورة الممتحنة، الآية: 1. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 33. (¬5) سورة الأنفال، الآية: 18.

يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (¬1). أيها المسلمون: وشرطُ التمكين لكم والنصر على أعدائكم الإيمانُ وعملُ الصالحات: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬2). وإذا تحقق الشرطُ فوعدُ الله حقٌّ، وهو لا يخلف الميعاد {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3)، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (¬4). عبادَ الله: ومنذُ نزل على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قولُه تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (¬5)، ودينُ الله ينتصر، والمسلمون يسيحون في الأرض ينشرون الإسلام، ويبشرون برضوان الله والجنة، حتى بلغ الإسلامُ مبلغًا لم يبلغه أيُّ دين، ودخل في الإسلامِ ما لم يدخل في غيره من الأديان ... ولم تتوقف حركةُ المدِّ الإسلامي حتى اليوم - وإن كانت بشكل عامٍ تقوى أو تضعف، حسب قوة المسلمين أو ضعفِهم، ولكن سورة النصرِ - بشكل عام - فيها إشارةٌ إلى أنَّ النصر يستمرُّ للدين ويزدادُ عند حصول التسبيح بحمد الله واستغفاره وشكره، كما نقل ذلك أهل التفسير (¬6). ¬

(¬1) سورة الطارق: الآيات: 15 - 17. (¬2) سورة النور، الآية: 55. (¬3) سورة الروم، الآية: 47. (¬4) سورة الصافات، الآيات: 171 - 173. (¬5) سورة النصر، الآيات: 1 - 3. (¬6) السعدي، تفسير كلام المنان: 7/ 682، 683.

أيها المسلمون: ومن آيات القرآن إلى نصوص السنة وبشائرها، إذْ تجدون في هدي الذي لا ينطق عن الهوى وعودًا صادقةً بنصرة الدين، وبلوغه ما بلغ الليل والنهار، وفي حديث تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلغن هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار، ولا يتركُ اللهُ بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله اللهُ هذا الدين بعزِّ عزيزٍ، أو بذلِّ ذليل، عِزًّا يُعز اللهُ به الإسلام، وذُلًا يُذلُّ الله به الكفرَ»، رواه أحمدُ والحاكمُ وغيرهما بسند على شرط مسلم (¬1). وتجدون كذلك وعدًا بفتح للمسلمين لم يفتحوه بعد، فقد سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ المدينتين تُفتح أولًا: أقسطنطينية أم رُوْمية؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مدينةُ هرقلَ تُفتح أولًا، يعني: «القسطنطينية» (¬2). وعلى ذلك فالمسلمون على وعدٍ بفتح روما - وهي واحدةٌ من قلاع النصارى، وحاضرةٌ كبرى من حواضر النصرانية. أما اليهود فتجدون وعدًا نبويًا آخر صادقًا بوقوع معركة فاصلة مع اليهود، ينتصر فيها المسلمون وتُغلب اليهود، ويقول عليه الصلاةُ والسلام: «لا تقومُ الساعةُ حتى يقاتلُ المسلمون اليهودَ، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهوديُّ من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجرُ أو الشجر: يا مسلمُ، يا عبدَ الله، هذا يهوديٌّ خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود» متفق عليه (¬3). أيها المسلمون: وما ترون اليومَ من مللٍ زائغة كاليهودية والنصرانية ونحوها ستنتهي ويبقى الإسلام، وفي آخر الزمان وحين ينزل عيسى عليه السلام لا يحكم ¬

(¬1) محمد الدويش البشائر بنصرة الإسلام ص 18. (¬2) رواه أحمد والدارمي وابن أبي شيبة، وحسّنه المقدسي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 1/ 8، الدويش البشائر: 26. (¬3) خ (2926)، (2925)، م (2922)، (2921).

بالنصرانية، وإنما يحكم بالإسلام، فقد أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح فقال: «والله لينزلن ابنُ مريم حكمًا عادلًا فليكسِرنَّ الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعَنَّ الجزية» رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أبي داود: «فيقاتل الناسَ على الإسلام، فيدُقَّ الصليبَ، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويُهلك الله في زمانه الملل كلَّها إلا الإسلام» (¬1). فهل يفقه المسلمون مدلولات هذه الأحاديث؟ وهل تزيدهم ثقةً بدينهم، وتدعوهم إلى الدعوة للحق الذي يملكون؟ حتى وإن كان أصحابُه اليوم مستضعفين، وتقلل في أذهانهم من شأن اليهود والنصارى وتلقي في روعهم بطلان عقائدهم وإن كانوا اليوم غالبين. ¬

(¬1) جامع الأصول: (10/ 328).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله ربِّ العالمين {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} (¬1)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعَد، ووعدُه حق، بنصر رسله والمؤمنين في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (¬2)، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، بَشَّر أمتَه بالسَّناءِ والنصرِ والتمكين فقال: «بشر هذه الأمة بالسَّناء (¬3) والنصر والتمكين، ومن عَمِل منهم عملَ الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب» (¬4). اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين. عبادَ الله: نحتاج إلى التذكير بالمبشرات الصادقة، لندفع بها اليأس والإحباط، ونجدد العزائم ونتلمس أسبابَ النصر، ومن رحمة الله بهذه الأمة أن جعل لهم بعد العسرِ يسرًا، وبعد الضيق والشدة، السعةَ والفرج. أجل لقد أوحى اللهُ إلى نبيه صلى الله عليه وسلم - فيما أوحى - {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (¬5). وقد فهم السلفُ معنى الآية واعتقدوه، وقالوا: لن يغلب عُسرٌ يسرين لأن في الآية عُسرًا واحدًا معرفًا، ويسرين منكرين». وفَهِمَ الخلفُ - كذلك مدلولات الآية - وقال الشيخُ السعدي رحمه الله: في تفسير الآية بشارةٌ عظيمة، إنه كلما وُجد عُسرٌ وصعوبةٌ فإن اليسرَ يقارنه ويصاحبِه، ¬

(¬1) سورة المجادلة، الآية: 21. (¬2) سورة غافر، الآية: 51. (¬3) والسَّنا: ارتفاع المنزلة والقدر عند الله تعالى، كما في النهاية: 2/ 414 لابن الأثير. (¬4) أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما بإسناد صحيح المستدرك: 4/ 318، الدويش: 22. (¬5) سورة الشرح، الآيتان: 5، 6.

حتى لو دخل العسرُ جُحرَ ضبٍّ لدخل عليه اليسرُ فأخرجه، كما قال تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (¬1)، وكما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «وإن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرًا» ثم قال الشيخ: وتعريف (العسر) في الآيتين يدل على أنه واحد، وتنكير (اليسر) يدل على تكراره فلن يغلب عُسرٌ يسرين، وفي تعريفه بالألف واللام الدال على الاستغراق والعموم، دلالة على أن كلَّ عسرٍ وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ، فإنه في آخره التيسيرُ ملازمٌ له (¬2). عبادَ الله: وتمثل الشعراءُ بهذه المعاني القرآنية، وسلوا أنفسهم بالفَرَجِ على إثر الشدائد، وقال ابنُ دريدٍ: أنشدني أبو حاتمٍ السجستاني: إذا اشتملتْ على اليأسِ القلوبُ ... وضاق لما بِه الصدرُ الرحيبُ وأوطأت المكارهُ واطمأنت ... وأرستْ في أماكِنها الخُطوبُ ولم تر لانكشافِ الضرِّ وجهًا ... ولا أغنى بحيلته الأريبُ أتاك على قنوطٍ منك غوثٌ ... يَمنُّ به اللطيفُ المستجيبُ وكلُّ الحادثاتِ إذا تناهت ... فموصولٌ بها الفرجُ القريبُ إخوة الإسلام: ومهما تلاحقت الخطوبُ واشتدت المكاره، وتفنن الأعداءُ في أساليب العداوةِ والبغضاء، فلا يغبْ عن بالكم أن نصرَ الله قريب، وأن كيدَ الشيطان ضعيف، وأن الغلبة في النهاية للحق وأهله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} (¬3). إن الشدةَ تخفي وراءها فرجًا بإذن الله، والمكروه يحمل الخير القادم بإذن الله، وإن الدلائل والبشائر - من نصوص الكتاب والسنة، ومن واقع الحضارات ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآية: 7. (¬2) تفسير كلام المنان: 7/ 646. (¬3) سورة الرعد، الآية: 17.

المادية المنهارة، والآيلةِ للانهيار، ومن واقع الأمة الإسلامية التي باتت الصحوةُ تسري بين رجالها ونسائها ومثقفيها وعوامها، ومن لم يستطع منهم العمل للإسلام تراه متحسرًا على واقع المسلمين داعيًا على أعدائهم محاولًا إصلاح شأنه على الأقل ومن يعول. ومن واقع الأعداءِ كذلك وتآزرهم لضرب الإسلام وخنق المسلمين، كلُّ هذه وغيرها تقول بلسان الحال: إن الإسلام قادم، وإن الجولة القادمة للمسلمين - إن شاء الله. فالأيامُ دول، وحركةُ التاريخ لم تتوقف عن التغيير، ولم يحدث أن توقفت النوبةُ عند أمةٍ من الأمم لم تتجاوزها إلى غيرها. يا أخا الإسلام: جنّد نفسَك لخدمةِ دين الله، وساهم في جهاد أعداءِ الله، واعلم أنك تنفع نفسك، وإلا فالله غني عنك وعن جهادك: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (¬1). واعلم كذلك أن الله قادر على الانتقام من أعدائه، والانتصارِ عليهم، ولكن ليبلوَ الناس ويُميزَ الصادقين المجاهدين من الكاذبين المتخاذلين {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} (¬2). إخوة الإيمان: وثمة تساؤل يطرحه بعضُ من لا يعلم سُنن الله في الكون ويقول: كيف يكون المستقبل للإسلام والغلبةُ للمسلمين في مثل هذا الزمن الذي اجتمع فيه الأعداء وتغلبوا على المسلمين، بمقدراتهم ومخترعاتهم المادية؟ كيف ينتصر المسلمون وعدوُّهم يملكُ القنابل النووية والأسلحة المتطورة، والمسلمون دون عدوِّهم في وسائل القتال والتقنية بمراحل؟ والجواب أن على المسلمين أن يُعدِّوا أنفسهم بما يستطيعون كما قال تعالى: ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 6. (¬2) سورة محمد، الآية: 4.

{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (¬1)، لكن عليهم أن يدركوا أن النصر لهم في النهاية ليس بقوة المسلمين وجهدهم، وإنما بقوة الله ودفعه كما قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} (¬2). والمسلمون، إذا صدقوا، سببٌ لتحقيق قدرِ الله وإرادته في عدوه وعدوهم: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (¬3). وكل ذلك لا يدعو المسلمين للتواكل، ولكنه مشعرٌ لهم أن النصر من عند الله، وهو مُشعرٌ كذلك ألا يهن المسلمون ويضعفوا وهم يرون ما بالأعداء من قوة، فـ «يدُ الله فوق أيديهم»، وأمرُه إذا أراد شيئًا بين الكاف والنون: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (¬4). وقد سبق للمسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم أن هُزموا وهم كثرة كما في حنين، وانتصروا وهم قلة كما في بدر، وفي واقعنا المعاصر يشهد الناسُ نماذج لانتصار المسلمين وهم قِلة مستضعفون، واندحار المبطلين وهم كثرةٌ مدججون بالسلاح، أفلا يفيقُ المسلمون ويدركون أسباب النصر وجهته، والله يذكرهم بهذا في كتابه ويقول: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (¬5)، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (¬6). تلك معانٍ ورؤىً لا بد أن نستشعرها في حربنا مع أعدائنا، ولا بد أن نعيها حين نريد التمكين في الأرض، ولا بد من الإيمان بها ونحن نستشرف المستقبل للإسلام والغلبةَ للمسلمين إن شاء الله، تحقيقًا لا تعليقًا، ولكن أمدَ ذلك علمُه عند الله، ولكن يقظة المسلمين واجتماع كلمتِهم وصدقِهم وجهادهم ... كلُّ ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 80. (¬2) سورة التوبة، الآية: 14. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 17. (¬4) سورة القمر، الآية: 50. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 126. (¬6) سورة محمد، الآية: 7.

ذلك يُعجل النصر ... ويقرب النهاية للباطل وأهله. اللهم انصر دينك، واجعلنا من أنصار دينك يا رب العالمين، اللهم إنا نعوذ بك من الوهن والوهم، وحبّ الدنيا وكراهية الموت، اللهم اجمع كلمتنا على الحق، وطهر بلادنا من الفساد والمفسدين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا والمسلمين، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.

بين عالميتنا وعولمتهم

بين عالميتنا وعولمتهم (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2)، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬3)، {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬4). أيها المسلمون: العولمة، والنظامُ العالمي الجديد، مصطلحاتٌ صُدِّرَتْ لنا بمفاهيم فكريةٍ، وأنماطٍ سلوكيةٍ معينة، حددها غيرُنا، وأريدُ لنا أن نلبسَ لبوسَها، ونسيرَ في ركابِ مهندسيها، وقبل أن نتحدث عن هذه العولمةِ الغازيةِ ... لا بد من العلم والتأكيد بأننا نحن المسلمين عالميون برسالتنا وتعاليم ديننا، وببعثةِ النبيِّ العالمي الخاتم إلينا ... وإن قَصُرت هممنا، أو قعدت بنا سلوكياتُنا عن إطار العالميةِ الإسلامية المنشودة. أجل إن كتابنا ذكرٌ للعالمين: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (¬5)، {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (¬6)، ونبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم رحمةٌ للعالمين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 25/ 12/ 1420 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 1. (¬3) سورة الحجرات، الآية: 13. (¬4) سورة الزمر، الآية: 10. (¬5) سورة الأنبياء، الآية: 104. (¬6) سورة الأنعام، الآية: 90.

لِلْعَالَمِينَ} (¬1)، ورسالتُه للناس كافة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (¬2). وفي إطار تعاليم ديننا تتحقق الأخوة للأسود والأحمر، والغني والفقير، والرئيس والمرؤوس، والذكر والأنثى، والصغير والكبير ... ولكن بشرط الإيمان الحق: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬3). بل وفي ظل مفاهيم الإيمان والإسلام نتجاوز القرون، وتتشكل عالميتُنا عبر الأمم السابقةِ واللاحقة ويجمعنا ربُّنا بقوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (¬4)، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (¬5). أجل، إننا معاشرَ المسلمين، كُنا - يوم أن كنا نموذجًا حقًا لإسلامنا - روادَ منهج عالمي فائق، واليومَ بمقدورنا إذا عُدنا لأصالتنا أن نكون كذلك، فلئن غاب الرواد فما زال المنهجُ حاضرًا ... ولئن عفونا فترةً فبإمكاننا أن نستيقظ على هجمات الغُزاةِ المتسللين. عبادَ الله: وما من دينٍ على وجه الأرض اليوم يستطيع أن يستوعب البشرية، ويحققَ لها العدلَ والرقي والأمن والسلام ... سوى ديننا دين الإسلام. وإذا ما لاح في الأفق قياداتٌ فاجرة، أو مِللٌ ونحلٌ فاسدة، أو أيدلوجيات غريبة ... فليس العيبُ في الإسلام حين يغيب عن معترك الحياة، أو يُغيَّبُ عن التوجيه والقيادة، وإنما العيبُ في المنتسبين للإسلام. لقد سعدت البشريةُ بالإسلام حينًا من الدهر، وأحسَّ غيرُ المسلمين بعدالة الإسلام، واعترف النصارى بخيريةِ عمامةِ المسلمين على تاج البابوية، وقالها ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 107. (¬2) سورة سبأ، الآية: 28. (¬3) سورة الحجرات، الآية: 10. (¬4) سورة الأنبياء، الآية: 92. (¬5) سورة المؤمنون، الآية: 52.

الزعيمُ الديني البيزنطي في القسطنطينية لوكاس ناتوراس صريحةً حين أعلن: إنه خيرٌ لنا أن نرى العِمامةَ في مدينتنا القسطنطينية من أن نرى فيها تاج البابوية (¬1)، ويعترف المؤرخُ البريطاني توينبي وهو غيرُ مسلم بحسن سياسةِ العثمانيين وعدلهم في أوروبا، وكون الدولة العثمانية أصبحت ملاذًا للهاربين من الاضطهاد الديني في إسبانيا وأوروبا، ويقول: إنها لأول مرةٍ في التاريخ استطاعت أن تتوحدَ الكنيسةُ الأرثوذكسيةُ في ظل هذه الدولةِ التي كانت إستراتيجيتُها وحِّد واحكم، بينما كانت الإستراتيجيةُ الاستعمارية تتبنى مبدأ (فرِّق تسد) (¬2). فإذا كان هذا التوحيدُ بين غير المسلمين، فلا تسأل عن توحيد المسلمين، وإذا كان هذا نموذجَ الدولةِ العثمانية فلا تسأل عن دولِ الإسلام السابقة، ولا سيما في خير القرون ... وردد مع الشاعرِ فخره واعتزازه: ملكنا هذه الدنيا قرونًا ... وأخضعها جدودٌ خالدونا وسطرنا صحائفَ من ضياءٍ ... فما نسي الزمانُ ولا نسينا أيها المسلمون: وليس الحديثُ عن عالميتنا وتاريخنا وعدلِنا، ولكنه حديث عن العولمة الجديدة - تلك التي نبتت في أرض الغرب وبالتحديد في أمريكا، منذ أن أعلن الرئيسُ الأمريكي جورج بوش في خطابه الموجه إلى الأمة الأمريكية بمناسبة إرسال القوات الأمريكية إلى الخليج عام تسعين وتسع مائة وألف للميلاد مبادئ وأفكار هذه العولمةِ المزعومة ... ونصَّ على: عالِم متحررٍ من الإرهاب، فعّالٍ في البحث عن العدل، والأمنِ والسلام ... ومعلومٌ ما يريده الغربُ بمصطلح الإرهاب، وماذا يعني السلامُ والرخاءُ عندهم؟ ¬

(¬1) محمد حرب، العثمانيون في التاريخ (71). (¬2) انظر مقال د. محمد آمحزون في مجلة البيان عدد 145 رمضان 120 العولمة بين منظورين.

عبادَ الله: ونستطيع وصفَ هذه العولمةِ الجديدة بأنها غربيةُ الولادة، غربيةُ الفكرِ والهوية، ولم يبعد عن الحقيقة من قال: إن العولمة باختصار هي: تنميطُ العالم وترويضُه على الحياة الغربية، بقيمهِ وأنظمته ونظرته للحياة. وهي لونٌ جديد من ألوان الهيمنةِ والاستعمارِ للعالم، لا تُتخذُ لها الجيوشُ وسيلةً، وإنما تتخذُ الفِكْرَ والثقافةَ وسيلةً للتذويبِ والتبعية، والاقتصادَ أداةً للضغط والتطويع. أيها المسلمون: والعولمةُ نظامٌ يدور في إطار العلمانية الشاملة، ولا يقيم وزنًا للقيمِ والأخلاق، ولا أثرَ فيه للرسالات السماوية، ولا مكان فيها، أو تقديرٌ للضعفاء والأقليات. إنها العولمة الغازية، ظاهرةٌ تتداخل فيها أمورُ السياسةِ والاقتصاد، والثقافةِ والاجتماع، والسلوك، وتحدث فيها تحولاتٌ على مختلفِ الصور، تؤثرُ في النهاية على سلوكِ الإنسان، ونمطِ حياتِه على كوكب الأرض التي تصل إليها. بل هي كما قيل: عصا استعماريةٌ جديدةٌ بحكومةٍ عالميةٍ خفية لها مؤسساتُها: البنكُ الدولي، وصندوق النقدِ الدولي، ولها أدواتُها: منظمةُ الجات، والسبعةُ الكبار. إن العولمةَ الغازية تسير إلى تحقيق هدفٍ غير نزيه، ولئن كانت لا تؤمن بالتعددية والتنوع، ولو كان صالحًا فهي ترتكزُ على الانحياز إذ هو فكرتُها الأولى، ومحركُها الأساس، وتنطلقُ من تعظيم الذات، والتعصبِ الممقوت، وبالطبع الذات الغربية والقيم الفاسدة، وفيها تجاهلٌ بل تحطيم للآخرين، وفي العولمة إلغاء للحدود والفوارق الجغرافية، والمسلمات التاريخية (¬1). ¬

(¬1) د. فهد العرابي الحارثي، مقال عن العولمة في الجزيرة: 18/ 8/ 1419 هـ.

إخوة الإسلام: ويتَّخذُ الغربُ وسائلَ ظاهرةً، وأخرى خفيةً مقنَّعةً في سبيل تحقيق العولمة. فالمقنعةُ كالتجارة الدولية والمؤتمرات الدولية، كمؤتمر السكّان بالقاهرة، ومؤتمر المرأة في بكين ونحوها، والوسائلُ الظاهرة كالإعلام وشبكات الاتصال ذات الزخم الإعلامي الكبير لترويج هذه البضاعة المزجاة، وقد بلغ هذا الزخمُ الإعلامي حدًا من الانتشار إلى درجةٍ تضايقت فيه أوروبا ... وفرنسا على وجه الخصوص من الحضور الأمريكي الطاغي، وارتفعت أصواتٌ تدعو لمقاومة المدِّ الإعلامي الأمريكي الغازي! ! (¬1) وإذا كان الواقع الإعلاميُّ الغربي، وبالذات الأمريكي منه مؤثرًا ومنتشرًا ووعاءً ناقلًا للعولمة، فالمطلعون يحذرون أكثر من مستقبل هذا الإعلام، ويقولون محذرين وموقظين للهمم، لا مخوفين ومثبطين عن العمل، يقولون: إن إحدى الشركات الأمريكية بصدد إطلاقِ قمرٍ صناعي جديد عام 2002 م قادرٍ على بثِّ ألفٍ وخمس مائة قناة تلفازية في وقت واحدة ويعادل أداؤه مجموعة من الأقمار الصناعية الحالية. أما الانترنت؛ فالشبكةُ القادمة والتي بدأ تطبيقُها في بعض الجامعات الأمريكية ستصلُ سرعتُها إلى ألفِ ميجابيت، أي ما يعادل ألفي ضعف الشبكة الحالية، وعشرةِ آلاف ميجابيت في غضون بضع سنوات كما يقولون (¬2). عبادَ الله: ومع هذا كلِّه فهذه العولمةُ بصورها المختلفة ووسائلها المتعددة جزءٌ من مكرِ البشرِ وكيد الأعداء، وهي ضمن قدر الله وحكمته وتدبيره لهذا الكون، وعلى المسلمين أن يدركوا حقيقة اللعبة، وأن يتجاوزوا المحنة بالعمل الجاد والتعاون المثمر والتخطيط للمستقبل، وأن يثقوا بأن الله مع الذين اتقوا ¬

(¬1) د. مالك الأحمد: العولمة في الإعلام، مقال في البيان، ذو الحجة/ 1420 هـ. (¬2) د. مالك الأحمد، مقال عن العولمة الإعلامية في البيان.

والذين هم محسنون، وأن مكرَ الله أعظمُ من مكر البشر، ويدُه فوق أيديهم: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). اللهم بصِّرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، وقوِّ عزائمنا على الخير، وادفع عنا كيدَ الفجار يا ربَّ العالمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله. ¬

(¬1) سورة الفتح، الآية: 10.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمد لله كتب العزةَ له ولرسوله وللمؤمنين ولكنَّ المنافقين لا يعلمون، وقضى بأن الأرضَ يرثها عبادُ الله الصالحون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، وقد تغر الدنيا بزينتها ومباهجها، وقد تكون نهايتُها على أثر هذه الزينة بغتة، والله يقول: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬1). وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، حذّر أمتَه من الفتن، وبشَّر بمستقبل للإسلام والمسلمين لم تُستكملْ بَعْدُ مبشراتُه، ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوّل الله هذا اليوم حتى يقع ما صح من خبره ومبشراته ... اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين. إخوة الإيمان: ويرى البعضُ أن العولمةَ التي نعيشها هذه الأيام هي مرحلةُ التصفيةِ الروحية أو ما يسمى: بالانتحار الروحي، وقد سبقتها مراحلُ من العولمة مهدت لها، وهذه المرحلةُ الأخيرة من العولمة ستترك أثرين متغايرين تمامًا: السلبي منهما يكمن في إخراج جيل مشوَّشِ الفكر، فاقدٍ للهوية يسخر من لغتهِ ودينه وتاريخه وقيمه، أما الإيجابي فيكمن في إيقاظ روح التحدي، والشعور بأهمية المقاومة والصمود لإثبات الذات، وتأكيد أصالة القيم، وبعث الحماس على استخراج مكنوز الحضارة الإسلامية، والتأكيد على أهمية القيم الإسلامية، والتاريخ الإسلامي والبقاء للأصلح، والزبدُ يذهب جفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، تلك سنةُ إلهية ماضيةٌ تتكرر. ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 24.

عبادَ الله: وعلى إثر هذه السُّنةِ الإلهية والمبشراتِ النبوية يرد السؤال: هل يمكن أن تستمرَ هذه العولمةُ، وإلى أي حدِّ يمكن أن تنجح؟ لا شك أن الغيب لا يعلمه إلا علام الغيوب، ولكن ظاهر الأمر يوحي بأن هذه العولمة قد تحقق بعض النجاحات، ولكن بذورها الأولى تحمل هلاكها، إذ فيها مصادمةٌ لفطرِ البشر، وتجاهلٌ للتاريخ، واغتصابٌ للثقافة، وتنحيةٌ لتعاليم السماء، ومصادمة للمبشرات النبوية بانتصار الحقِّ وغلبة المسلمين وسيادةِ الإسلام، وتقوم العولمة على القهر والاستبداد وتعظيم الأغنياء والأقوياء، وسحق الفقراء والضعفاء، ومن هنا جاءت قوى الرفضِ لهذه العولمة من قلب الدولِ الراعية لها، وأفشل مجموعةٌ من الأمريكان مؤتمر سياتل الذي حضرته مائة وثلاثون دولة قبل أن يصلَ إلى قرارات، بل وقبل أن يحصلوا على توقيعات الدول النامية على توصياته، بل حتى قبل الوصول إلى مقر المؤتمر (¬1)، وانتشر الرفضُ للعولمة، وسار قطاره مسرعًا من أمريكا إلى أوروبا إلى غيرها. إخوة الإسلام: وهنا يرد سؤال وكلُّنا مطالبٌ بالإجابة عليه، والسؤال يقول: ما موقفُنا من هذه العولمة وماذا ينبغي أن تُحرك فينا؟ إننا معاشرَ المسلمين جميعًا عربًا وعجمًا، شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، مدعوون إلى إقامة عالمية تقوم على الاجتماع والألفة والأخوة، فالاجتماع قوة، والمؤمنون دون سواهم إخوة، والله يدعونا إلى الاجتماع وينهانا عن الفرقة، ويقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (¬2). وهذه العالميةُ التي ندعو لها لا تُقارن مصداقيتُها بعولمتهم، وهي تختلف في ¬

(¬1) علي حسن شيشكلي، العولمة، الجزيرة 20/ 10/ 1420 هـ. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 103.

آثارها وأساليبها عن عولمتهم، ودعونا نعقد مقارنةً سريعةً بين عالميتنا وعولمتهم، فعالميتُنا عدلٌ ورخاء، وعولمتُهم جورٌ وشقاء، عالميتُنا يستخرج بها الناسُ من ذلِّ العبودية وإزهاق الكرامة، وعولمتهم تكريسٌ للذل والتبعية، وسحق للحرية والكرامة، عالميتُنا طُهرٌ وعفاف، وعولمتهم عُهرٌ وشذوذ وانحراف، وسل مؤتمر بكين للمرأة ينيبك الخبر اليقين، عالميتُنا شورى وإقناع، وعولمتُهم استبداد وإكراه، عالميتنا تعمير للكون وتسبيح بآلاء الله، وعولمتُهم تدميرٌ للحرث والنسل، وفي مؤتمر الإسكان الدولي شاهدٌ لما نقول، عالميتُنا سَعُد بها المسلمون وغير المسلمين، واستظل بظلالها الوارفة القريبُ والبعيد، وعولمتهم لم تستطع أن تحقق الرخاءَ للقريب فضلًا عن البعيد، وقامت صيحاتُ المعارضة ضدها من داخل الأرض التي نبتت فيها، وأنَّى لها أن تحقق الخيرَ والسعادةَ للآخرين، عالميتنا رحمةٌ للعالمين، وعولمتهم نكدٌ وعذابٌ وظلمٌ واستبداد، عالمتُنا لا تسأل الناس أجرًا على البلاغ والهدى، وعولمتُهم نهبٌ للموجود وتعسفٌ على الفقير، ومن ملامحها كما يُقال إنها ستفقرُ الدول النامية وستزيد الدول الغنية غنى ... عولمتهم تتجاهل رسالة السماء المحفوظة، وعالميتُنا تتعامل بالعدل مع أصحابِ الأديانِ ولو كانت محرفة، وتنظّم حقوقًا خاصةً بأهل الذمة، عولمتهم قائمةٌ على الانحياز والتعصب إن شئتَ في الاقتصاد أو السياسة أو الأخلاق والفكر والقيم، لا يُقال هذا عاطفةً، بل يؤكده الواقعُ المشاهد، فأيُّ نوع تمارسه هذه العولمةُ في الاقتصاد؟ إنه الاقتصادُ الحرُّ من كلِّ قيود، القائمُ على الربا والاحتكار والجشع والطمع بكل وسيلة، وإن بلغت مبلغًا من الذكاء والتقنية والتخطيط. وأي نوع تمارسه هذه العولمةُ وأربابُها في السياسة؟ تجيبك المآسي القائمةُ للمسلمين في أرض الشيشان حاضرًا، ومن قبل في البوسنة والهرسك وكوسوفا، وفلسطين وغيرها، فأينَ السلامُ المنشود؟

وأين تحقيقُ العدل والأمن الذي يتشدقُ به قادةُ هذه العولمة؟ وتكشف أحداث تيمور الشرقية أخيرًا، ومن قبل جورجيا وغيرها من الجمهوريات النصرانية عن حقيقة هذا التحيز والتعصب.

الجزء الثامن

شعاع من المحراب الجزء الثامن إعداد د. سليمان بن حمد العودة

مشاعر ما بعد رمضان

مشاعر ما بعدَ رمضانَ (¬1) الخطبة الأولى: الحمدُ لله جعلَ في تعاقبِ الليلِ والنهارِ وقضاءِ الشهور والأيام آيةً لمن أرادَ أن يذّكر أو أرادَ شكورًا، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، تفضّلَ على عباده بمواسمِ الطاعاتِ لتعظيمِ أجورِهم، وشرعَ لهم من أيام الأعيادِ والأفراحِ والمسرّاتِ ما تطيبُ به نفوسُهم وتَنْشرحُ له صدورُهم، ووعدهم بالمزيد في حال شكرِهِم، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، كان ومن سبقَه من الأنبياءِ شاكرينَ لربِّهم، ذاكرينَ لخالقِهِم. اللهمّ صلِّ وسلِّم عليهم أجمعين، وارضَ اللهمّ عن الصحابةِ أجمعينَ، والتابعينَ ومن تبعَهُم بإحسانٍ إلى يوم الدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬2). إخوة الإيمان: قبلَ أيامٍ ودّعْنا رمضانَ .. ودّعَنا رمضانُ إلى عامٍ قابلٍ، سيكون بعضُنا حينها شاهدًا حَيًّا، وسيكون آخرونَ غائبينَ في عِداد الموتى .. وإلى ذلك الحين، بل وفي كلّ حينٍ نستودعُ اللهَ دينَنا وأماناتِنا وخواتيمَ أعمالِنا لمن كتبَ اللهُ له الحياةَ، أو قدّر عليه المماتَ. أجل؛ لقد ودّعَ المتقونَ رمضانَ بالدموعِ من العيونِ والحزنِ من القلوبِ .. إنّهم حَزِنونَ على فُرَصِ الطاعةِ من صيامٍ وقيامٍ وذِكْرٍ وتلاوةٍ وإحسانٍ .. وحَزِنون على أيامٍ فُتحتْ فيها أبوابُ الجنةِ وكَثُر العُتقاءُ من النارِ .. وصُفِّدت الشياطينُ، حزِنون على ذهاب أيامِ نالت النفوسُ من التقوى حظَّها .. ومن شهودِ آياتِ الله ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 3/ 10/ 1421 هـ (¬2) سورة آل عمران، الآية: 102.

في الأنفسِ والآفاقِ ما عظّمَ الخالقَ في قلوبها .. حَزِنون على أيامٍ تُعَمَّرُ فيها المساجدُ بالمصلينَ والتَّالينَ والذاكرينَ .. إي وربي، إنهم حزِنونَ على كلِّ فرصةٍ للطاعةِ تُضاعَفُ فيها المثوبة، وحزِنونَ أكثر إذ تَهْجُرُ فِئامٌ من المسلمينَ هذه الطاعاتِ أو بعضَها إلى رمضانَ القادمِ .. وبين الرمضانيين مَفاوزُ لا تنقطعُ فيها أعناقُ الإبلِ فقط، بل وتنقطعُ فيها أنفاسُ البشر، ويرحلُ عن هذه الحياةِ جُموعٌ من المسلمينَ استكملت رزقَها وأجلَها، وأتاها اليقينُ من ربِّها. أيّها المسلمونَ: لقد فازَ في رمضانَ من جاهدَ نفسَه على طاعةِ الله، فكانَ في عِدادِ الحافظينَ لصيامِهِم من قولِ الزورِ وعملِ الزورِ، وكانَ في عدادِ القائمينَ والراكعينَ والساجدينَ والمستغفرينَ بالأسحارِ .. وكان من المساهمينَ في الدعوةِ والإحسانِ .. أجل، إنها نفوسٌ استطاعت أن تَشُدّ المَآزِرَ، وأن تتجافى المضاجِعَ .. وأن تتغلبَ على أهواءِ النفسِ .. وعسى اللهُ أن لا يحرمَ هؤلاءِ الأجرَ، وأن يُضاعِفَ لهم المثوبةَ، وأن يتجاوزَ لهم عن الخطيئةِ والغفلةِ، ولكن ماذا بعدَ رمضانَ؟ إن ثمّةَ فئةً أُخرى قادرةٌ على مواصلةِ المسيرِ بعد رمضانَ .. وعندها هِمّةٌ على مراقي العزّ في شوالَ وما بعدَه من أيام وشهورِ العام .. أولئكَ أحسُّوا بلذةِ الطاعةِ فما عادوا يُطيقونَ هجرَها .. وأولئكَ وفَّقهمُ الله لعملِ الحسنةِ على إثرِ الحسنة. وعملُ الحسنةِ اللاحقةِ مؤشّرٌ على قَبول الحسنةِ السابقة، وفضلُ اللهِ يؤتيه من يشاءُ، أولئكَ يَسْتَشْعِرونَ أن قِصَرَ الحياةِ الدنيا - بجانب الآخرةِ - لا يستحقُّ أن يُصرَفَ من العمرِ شيءٌ بالعبثِ واللَّهوِ والغفلةِ والتفريط .. وهذه الحياةُ الدنيا متاعٌ، والآخرةُ دارُ القرارِ. يا أخا الإسلامِ: وحين تزدحمُ هذه المشاعرُ الفياضةُ بعد رمضانَ .. فإني

سائلُكَ .. وأدَعُ الإجابةَ لكَ فأنتَ على نفسِكَ رقيبٌ .. ولن يكونَ أحدٌ أحرصَ منكَ على نجاةِ نفسِكَ وإسعادِها. والسؤالُ الموجّه يقول: بِم تُفكّرُ بعدَ انقضاءِ شهرِ رمضانَ؟ وأُسارعُ إلى مساعدتِكَ في اختيارِ الجواب لأقولَ لك: إن كنتَ عَزَمتَ على مواصلةِ الخيرِ فرعاكَ اللهُ وسدَّدكَ ووفَّقكَ وأعانكَ، وأَنتَ أهلٌ لحُسنِ الظنّ بكَ، وإن ضعُفتْ نفسُكَ وفكّرتَ بأمرِ سوء .. وهممتَ بنقضِ غَزْلِكَ في رمضانَ، والعودة إلى مُنكراتٍ كنتَ تُزاوِلُها قبلَ رمضانَ، فاتّقِ اللهَ وادفعْ هذه الفِكَر السيئةَ، وجاهدْ نفسَكَ على الخلاصِ منها، وهل ترضى أن تُصنّفَ مع أقوامٍ بئسَ هُمُ القومُ، لا يعرفونَ اللهَ إلا في رمضانَ .. وليس من العقلِ أو الحزمِ أن تُضيِّعَ رصيدًا جمعْتَه في شهرِ الصيامِ .. استبشرتَ به أنتَ، وحفِظَه لك الكرامُ الكاتبون، وستلقاهُ مذخورًا لكَ يومَ الحسابِ. يا أخا الإيمانِ: إنّ تقوى الصيامِ ينبغي أن تظهرَ على المسلمِ في شهرِ الصيامِ وبعد شهرِ الصيامِ .. وإلا فَما تحقَّقتِ التقوى - وهي الحكمةُ - من وَراءِ الصيام. أيّها الناسُ: كُلُّنا غَدَا بالأمسِ للعيد، وكلُّنا لبسَ الجديدَ، وتلك مظاهرُ نشتركُ فيها جميعًا .. ولكن ثمةَ مظاهِرُ نتفاوتُ فيها، وتلكَ التي تستحقُّ أن نَتنبَّه لها وأن نتنافسَ فيها .. إن الموفَّقَ حقًا - يومَ العيدِ - من كان بالطاعةِ سعيدٌ .. والموفَّقُ من حفظَ له الكرامُ الكاتبونَ ما يُسعدُه يومَ الوعيدِ .. وتلكَ وربِّي، وإن لم نقطعْ بها لأحدٍ في هذه الحياةِ فستنكشفُ يومَ العرضِ على اللهِ .. وما أعظمَ الفَضيحةَ حين يُكشفُ عن ساقٍ ويُدعى أقوامٌ للسجود فلا يستطيعونَ .. وحينَ تتطايَرُ الصّحفُ، فمنهم من هو آخذُها باليمينِ وهو في العيشةِ الراضيةِ والجنةِ العاليةِ .. ومنهم من يأخذُها بالشمال وأولئكَ الذين يُقال لهم: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30)

ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} (¬1) - وأولئكَ أهلُ الزَّقومِ والغِسلين. أيّها المسلمونَ: وفرحتُكم بالعيدِ مَظهرٌ من مظاهرِ دينِكم، وشِعارٌ للفرحةِ بإتمامِ الصيام والتوفيقِ للقيام، وتلاوةِ القرآن .. بل هي جزءٌ من قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (¬2). ولكن هذه الفرحةَ ينبغي أن لا تُنسيَكُم جموعًا من إخوانكمُ المسلمينَ كتبَ اللهُ أن يعيشوا في مِحَنٍ وبلايا - وحصارٍ وأذى من قِبَلِ الأعداءِ .. وأولئك المُمْتَحنونَ لا ندري كيفَ كانَ عيدُهم .. وإلى أيّ مدى استشعروا العيدَ وفرحتَه كما استشعره إخوانُهم .. ولكنا بكلِّ حالٍ ينبغي أن ندركَ أنهم جزءٌ مِنّا .. وعلينا أن نسعى لإسعادِهم، وأن نساهِمَ بما نستطيعُ في رَفْعِ نوازِلِهم، وعسى اللهُ أن يأتي العيدُ القادمُ وهم سالمونَ آمنونَ، أعزّاء منتصرون. إخوة الإسلام: إن في دينِنَا فسحةً للفرحِ والبهجةِ - ولاسيما في أيامِ العيدِ .. ولكن احذروا أن يتحوّلَ الفرحُ المشروعُ إلى بَطَرٍ وأَشَرٍ، وفيما أحلّ اللهُ غنيةٌ عمّا حرَّمَ. عَظّموا اللهَ في حالِ سَرّائِكم وضرّائِكم، واعبدُوه وأطيعوه في حال أفراحِكُم وأحزانِكُم، فأنتم مأمورونَ بالعبوديةِ للهِ في كلّ حالٍ من أحوالكم: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (¬3). عبادَ الله: اجعلوا من أيامِ العيدِ فرصةً للصِّلةِ والزيارةِ، والعفوِ والمسامحةِ، والمحبةِ والرحمةِ .. وما لم تتصافى النفوسُ في أيام الأعيادِ والبهجةِ والسرورِ، ¬

(¬1) سورة الحاقة، الآيات: 30 - 32. (¬2) سورة يونس، الآية: 58. (¬3) سورة الأنعام، الآيتين: 162، 163.

فمتى يتمّ ذلك؟ ! وما لم يتجاوزِ المسلمونَ الأحقادَ والضغينةَ على أثرِ تقوى الصيامِ والقيام - فأيّ أيامٍ هي أَحرى بالمسامحةِ والوئامِ، واعلموا أن الشيطانَ أَيِسَ أن يُعبدَ في أرضِكُم، ولكن بالتحريش بينكم، أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (¬1). ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 6.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ أضحكَ وأبكى وأماتَ وأحيا، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، إليه المنتهى وعليه النشأةُ الأُخرى، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسوله خيرةُ الأنبياءِ عليهم السلام، وصفوةُ الخلقِ - اللهمّ صلّي وسلم عليه وعلى إخوانِه وآله ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ المُلتقى. إخوةَ الإسلام: لا جُناح أن يفرحَ الناسُ بالعيد، ففريقٌ إلى البريةِ يَرحلونَ، وفي كونِ الله الفسيحِ يتفكرونَ، وفريقٌ آخرُ يجتمعون ويلتقونَ لصلةِ ذوي القُربى في البيوتِ أو الاستراحاتِ .. فيأنسُ بعضُهم ببعضٍ ويتآلفونَ على الخيرِ، ويتعاونونَ على البِرِّ والتقوى، ولا خيرَ فيمن لا يألفُ ولا يُؤلف، وإذا تباعدتْ بالناسِ الدِّيارُ أو فرّقتهم أنواعُ الأعمالِ وأماكنُ الارتباطاتِ، ففي أيامِ العيدِ والإجازاتِ فرصةٌ لتعويضِ ما فاتَ ووَصْلِ ما انقطعَ. نعم أيّها المسلمونَ، كم هو عظيمٌ الإسلامُ في تشريعاتِه، يدعو إلى الصِّلةِ والقُربى والأُنسِ والمحبةِ، ويجزي على ذلك الجزاءَ الأوفى .. لقد تعلّقتِ الرحمُ بالرَّحمن حين خَلَقَ الخلقَ وقالت: «هذا مقامُ العائذِ بكَ من القَطيعةِ، فقال اللهُ - عز وجل -: ألا تَرْضيْنَ أن أَصِلَ من وَصَلَكِ، وأقطعَ من قَطعكِ؟ قالت: بلَى، قال: فذاك» (¬1). أجل، يكفي الواصلينَ أجرًا وفخرًا أن يصلَهُم الرحمنُ .. وكفى للقاطعين عقوبةً أن يقطعَهُم الله؟ وفي كتاب الله جاءَ الربطُ بين قطيعةِ الرحمِ والإفسادِ في الأرض، فقال ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من وصل وصله الله، من حديث أبي هريرة برقم (5987). ومسلم، كتاب الأدب، باب صلة الرحم وتحريم قطعيتها برقم (2554).

تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (¬1) على أن الرحم قد تطلقُ ويُرادُ بها - مع الأقربين - الأبعدونَ من أهلِ الإسلامِ والإيمان - وهناك وقفةٌ للقرطبي رحمه الله في تفسير الآيةِ السابقة، قال فيها: وبالجملةِ فالرحمُ على وجهينِ: عامةٍ وخاصةٍ. فالعامةُ: رَحِمُ الدِّين، ويجب مواصلتُها بملازمةِ الإيمانِ، والمحبةِ لأهلِه ونُصرتهم، والنصيحةِ وتركِ مضارتهم، والعدلِ بينهم، والنَّصفةِ في معاملتِهم، والقيامِ بحقوقِهم الواجبةِ، كتمريضِ المرضى وحقوقِ الموتى، من غَسلِهم والصلاةِ عليهم ودفنِهم، وغير ذلك من الحقوقِ المترتبةِ لهم. وأما الرّحِمُ الخاصةُ، وهي رَحِمُ القرابةِ من طرفي الرجلِ أبيهِ وأمّهِ، فيجبُ لهم الحقوقُ الخاصةُ وزيادةٌ، كالنفقةِ وتفقُّدِ أحوالهم، وتركِ التغافلِ عن تعاهُدهِمِ في أوقاتِ ضروراتِهم، وتتأكدُ في حقّهِم حقوقُ الرحمِ العامةِ، حتى إذا تزاحمتِ الحقوقُ بُدئَ بالأقربِ فالأقربِ. (الجامع لأحكام القرآن 16/ 247). عبادَ الله: ألا فصِلُوا أرحامَكُم في كلّ حينٍ، واستثمروا فُرصَ الأعيادِ لمزيدِ الصِّلةِ والإحسان، ولا تنسَوا حقوقَ إخوَّةِ الإسلامِ ورَحمَ الدِّين، لا سيّما لمن بهم حاجةٌ إليكم. ألا وإن من المظاهرِ الطيبةِ لقاءاتِ العوائلِ الزَّمانيةِ أو الموسميةِ، تلكَ التي لا تخلو من كلمةٍ طيبةٍ، أو برنامجٍ لطيفٍ هادفٍ، أو التفاتةٍ للمحتاجينَ في الأسرةِ ودعمِهم من خلالِ صندوقِ الأسرة، أو إعاناتٍ وتبرعاتٍ مقطوعةٍ - أو نحو ذلك من مشاريعَ تزيدُ في بناءِ الأسرةِ، وتُسهمُ بشكلٍ عامٍّ في بناءِ المجتمع الإسلامي على الرحمة والبِرِّ والإحسان .. وكم هو جميلٌ حينَ يكونُ للمرأةِ ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 22.

المسلمةِ داخلَ الأسرةِ نصيبُها من البرامجِ والمشاريعِ النافعةِ، فتساهِمُ الأُسرُ في مزيدِ بثّ الوعيِ لحقوقِ المرأةِ وواجباتِها في الإسلام، كما تُسهم في صَدِّ الهجماتِ الشرسةِ الموجهةِ للأسرةِ عمومًا، وللمرأةِ على وجهِ الخصوص. أيّها المسلمونَ: إن تلكَ معانٍ من الصلةِ ينبغي أن نستشعِرَها في كلّ حينٍ، وأن نُجسِّد بها فرحتَنا بالعيدِ. ألا فأنيبوا إلى رَبّكم وأسلِموا له .. وحافظوا على رصيدِكُم من عملِ الصالحاتِ .. ولا تكونوا كالتي نقضَتْ غَزلَها من بعدِ قوةٍ أَنْكاثًا. واعلموا أن من صامَ رمضان ثم أتبعَه ستًّا من شوال كان كصيامِ الدهر، وفي صيامِ النفلِ، فرصةٌ لسدّ النقصِ والخَلَل في صيام الفرض. عبادَ الله: وثمّةَ أمرٌ آخرُ ينبغي أن نستحضِرَه ونحنُ نفرحُ بالعيد، بل وبكلّ فرحةٍ عارضةٍ زائلة، أن نتذكَّرَ الفرحةَ الكبرى الدائمةَ في جِوارِ الرحمن، في مقعدِ صدقٍ عند مليكٍ مُقْتَدِر - هناك الحُبورُ والسرورُ فلا ينقطعان .. وهناك اللَّذَةُ والنعيمُ فلا يُنغَّصان، فرحٌ لا يَعقُبُه حُزنٌ، وبهجةُ نفوسٍ لا تنقطعُ ولا تَبلى {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} (¬1). إن الفرقَ كبيرٌ بين من تمتدّ أفراحُهم في الدُّنيا إلى أفراحِ الآخرةِ، أولئكَ أهلُ الإيمانِ وعملِ الصالحاتِ والمؤمنونَ بالبعثِ والنشور .. وبين من يُنقلونَ فجأةً من السُّرورِ إلى الثُّبور، وأولئك هُم المغررونَ في الدُّنيا، الغافلونَ عن الرجوعِ إلى رَبّهم للحسابِ والمتشكّكونَ في البعثِ والجزاء، لقد انقضتْ فرحتُهم في الدنيا وحطُّوا رحالَهُم في النَكدِ والشقاءِ وأولئك قال الله عنهم: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ ¬

(¬1) سورة فاطر، الآيتين: 34، 35.

كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} (¬1). أجل، لقد كانَ رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم يربطُ بين الفرحتينِ ويذكّرُنا بفرحةِ الآخرةِ حينَ يخبرنا بفرحةِ الدنيا، وهو القائل: «للصائمِ فرحتانِ: فرحةٌ عند فِطره وفرحةٌ عند لقاءِ ربِّه» (¬2). أيها المسلمونَ، أيها الصائمونَ: ورحمةُ ربِّنا واسعة، ورجاءُ المسلم بربِّه كبيرٌ، وأسألُ اللهَ أن ينقلكم من فرحةِ الدُّنيا إلى فرحةِ الآخرةِ، وربُّنا غفورٌ شكور، وإذا نهى المسرفينَ على أنفسهِم بالمعاصي أن يَقْنَطُوا من رحمته وهو القائل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬3) فغيرهم ممن عملَ الصالحاتِ أولى بالرجاءِ، وقد كانَ السلفُ الصالحُ يستحبونَ الحديثَ عن الرجاءِ على إثرِ عملِ الصالحات. ¬

(¬1) سورة الانشقاق، الآيات: 10 - 15. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب فضل الصوم من حديث أبي هريرة برقم (1904)، ومسلم (1511) (164) كتاب الصيام، باب فضل الصيام. (¬3) سورة الزمر، الآية: 53.

فشل اليهود ونهايتهم

فشلُ اليهود ونهايتُهم (¬1) الخطبة الأولى: الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، يُقلِّبُ الليلَ والنهارَ، إنّ في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، يُدِيلُ المسلمينَ على عدوِّهم ثم يُديل عدوَّهُم عليهم، وتلك سُنةٌ ربانيةٌ ماضيةٌ تتجددُ {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (¬2). وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، مَرّت حياتُه بالضّراءِ والسّراءِ وتقلّبَ - هو وأصحابُه - بالظّفْرِ والنصرِ تارةً، وبالمصيبةِ والهزيمةِ تارةً أخرى {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (¬3). اللهمّ صلِّ وسلم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلينَ، وارضَ اللهمَّ عن أصحابِه والتابعينَ وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين. عبادَ الله: اتقوا اللهَ حق تُقاتِه ولا تَمُوتُنّ إلا وأنتم مسلمون، واتقوا الله ويُعلّمكمُ الله، ومن يتّقِ الله يجعلْ له مَخْرَجًا، وربُّكم أهلُ التقوى وأهلُ المغفرة. أيّها المسلمونَ: نخطئُ أحيانًا حين نُعظِّم أعداءنَا، ونبالغُ في وَصْفِ قوّتِهم وجبروتِهم إلى حدٍّ نُصيبُ به أنفسَنا بالإحباط، ونقعدُ بها عن المقاومةِ والاستعداد، ونضيفُ إلى قوةِ العدوِّ قوةً وهيبةً، ما كان لنا أن نَمنَحُهم إيّاها - لولا ضعفُنا وتخويفُ الشيطان لنا، واللهُ تعالى يعلّمُنا أن لا نخافَ العدوَّ إذا ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 23/ 7/ 1421 هـ (¬2) سورة آل عمران، الآية: 140. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 146.

تحققَ إيمانُنا {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬1) ويرشدنا إلى أن هذا الخوفَ من أسلحةِ الشيطان ومَكْرِه {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} (¬2)، بل ويأمرُنا ربُّنا بمقاتلةِ أولياءِ الشيطانِ، ويؤكّدُ لنا ضعفَ الشيطان {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (¬3). إن عقدةَ المؤامرةِ تُسيطِرُ على مخيّلةِ البعضِ منّا، فكلّ حدثٍ يقعُ - وإن كان عفويًّا - نُحيطُه بهالةٍ معيّنةٍ، ونبحثُ عن مؤامرةٍ خلفَه، وغالبًا ما نُضْفي على عدوِّنا هالةً وراءَ هذا الحدثِ أو ذاك، وهذا يجعلُنا دائمًا نتخوفُ ونحجمُ ونعطي الأمورَ أكبرَ من حَجْمِها، ونَرْفَعُ من أسهُمِ أعدائنا، ونَضَعُ من أسهُمِنا، ونحنُ نشعرُ أو لا نشعر. إخوةَ الإيمان: صحيحٌ أننا نعيشُ في زمنِ المؤامراتِ العالميةِ والنفاقِ الدولي، والتخطيط الأُمَمي .. لكنّ ذلك كلّه لا ينبغي أن يدعونا إلى المبالغةِ في تقييمِ الأشياءِ، وتناسي سُننِ اللهِ في الكونِ، وضَعْفِ كيدِ الشيطانِ وحِزْبِه، ونصرةِ الله لجندهِ المؤمنين، وكونه مع الذينَ اتقوا والذينَ هم مُحسِنون. إن من أسرار قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (¬4)، أن قوةَ المسلمينَ ليس بالضرورةِ أن تكونَ مكافِئةً لقوةِ الكافرين، وبالتالي فهم إذا أعدّوا القوةَ التي يستطيعونَها، ثم أكملوها بالإيمانِ الحقِّ والعمِل الصالح .. حقّقَ اللهُ لهم النصرَ {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬5). والمتأملُ - في أحداثِ التاريخ الإسلاميِّ - يرى أن معظمَ، أو كلَّ المعاركِ التي خاضها المسلمونَ وانتصروا فيها على عدوِّهِم، كانوا أقلَّ عددًا وعُدةً منهم ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 175. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 175. (¬3) سورة النساء، الآية: 76. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 60. (¬5) سورة الروم، الآية: 47.

- هذا في الماضي. وفي الحاضر يقفُ المتأمّلُ في الأحداثِ المعاصرةِ على نماذجَ لقوى كبرى اندحرتْ رغم فارقِ القوةِ مع من دَحرَها، ألم تخرجْ أمريكا من فيتنام؛ وهي صاغرة؟ ! ألم يتمكن الأفغانُ من طردِ روسيا من أفغانستان، ولا مقارنةَ في القوة؟ ! بل ربما كانت هزيمةُ الروسِ في الأفغانِ البدايةَ لتفكُّكِ الاتحادِ فيما بعد؟ وأخيرًا ألم يخرجِ اليهودُ وتنسحبُ إسرائيلُ من جنوبِ لبنانَ - وهي تجرُّ أثوابَ الهزيمةِ والخَيبةِ .. رغمَ أنه لم يمضِ على عناقيدِ الغضبِ فترةٌ طويلةٌ من الزمن؟ ولا يزالُ غيبُ الله يُخفي ألوانًا من هذه الهَزائمِ التي ستقعُ على هؤلاءِ المُتجبّرينَ الظالمين، وسُنَّةُ الله جاريةٌ {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (¬1) {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (¬2)، {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬3). وبالجملةِ فالمتأملُ في كتابِ الله يجدُ أنّ اللهَ يأخذُ بالذنبِ يقع، ويؤاخذُ على الظلمِ يُمارَس، واقرأوا - إن شئتم - {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬4). عبادَ الله: ودعونا نُسلِّطُ الضوءَ على أشدّ الأعداءِ (اليهود) وهمُ اليومَ يمارسونَ عداوتَهم وظلمَهُم على المسلمين، لنرَى كيف فشلوا في عددٍ من ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 58. (¬2) سورة القصص، الآية: 59. (¬3) سورة الأحقاف، الآية: 27. (¬4) سورة العنكبوت، الآية: 40.

مخططاتِهم، وأفلسوا في عددٍ من مؤامرتِهم وكيدِهم على الإسلامِ والمسلمين، فقد خَطّطَ لقتلِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم بنو النضيرِ، واتفقوا على إلقاءِ حجرٍ على النبيّ صلى الله عليه وسلم فَعلِمَ بمخطّطِهِم وأبطلَ اللهُ كيدَهم، فكانَ هذا الغدرُ سببًا لجلائهمِ عن المدينة، وفي غزوةِ خيبرَ حاولَ اليهودُ قَتْلَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم بالسّمّ، فكشفَ اللهُ أمرَهُم، وأنطقَ اللهُ الذّراعَ المسمومةَ، فلفظَ اللقمةَ ثمّ قتلَ اليهوديةَ بعد أن ماتَ أحدُ أصحابهِ (بشرُ بنُ البراءِ) رضي الله عنه متأثرًا بهذا السُّمَّ، كما حاولوا سحرَه صلى الله عليه وسلم فحفظَه اللهُ. وبلغ كيدُ اليهودِ - في غزوة الخندقِ - مبلغًا كبيرًا، حينما ساهمتْ طوائفُ منهم في التخطيطِ للمعركةِ، من خارجِ المدينةِ، وساهمتْ طائفةٌ أخرى بالغدرِ والخيانةِ - من داخلِ المدينةِ - فأبطلَ اللهُ الكيدَ وفشلتِ المؤامرةُ. وانتقمَ المسلمونَ من يهودَ. ومن بعد تفرُّقِهم وجلائِهِم عن المدينةِ لم يجتمعْ لهم شملٌ، ولم يستطيعوا تأسيسَ دولةٍ مستقلةٍ عبرَ القرون - بل كانَ غايةُ ما يصنعونَ الكيدَ متستِّرين، أو ممارسةَ الإفسادِ عبر وزراءَ أو مستشارينَ لهم في الدولِ التي مكّنتهم لقربِ الصلةِ بهم (كالعبيد) أو لدولٍ لم تستشعرْ خطرَهم لغفلةِ الأمراءِ والحكامِ المسلمين؟ أو كان تخطيطُهم سرًا لم يشعرْ به المسلمون؟ أما دولةُ اليهودِ اليومَ فلم يقيموها بأنفسِهِم، بل أُقيمتْ لهم بمساعدةِ الآخَرين، وبعدَ قِيامِها لمَ يَستقلّ اليهودُ بضمانِ بقائها، بل لا تزالُ تُحاطُ وتُدْعَمُ من أطرافٍ غير محسوبةٍ على اليهودِ، كالنصارى الذين أخذوا على عاتِقِهم حمايةَ يهودَ، والمطالبةَ بحقوقهم نيابةً عنهم، ويكفي أن يأتي زعيمُ أكبرِ دولةٍ في العالمِ إلى شرمِ الشيخ لينتزعَ قرارًا في المؤتمر لصالح اليهود، ومهما كان حجمُ الداعمِ، فإن من لا يستقلّ بنفسِه حَرِيٌّ بالسقوطٍ، مهدّدٌ بالخطرِ والأُفول.

أيها المسلمونَ: وحين نتحدثُ عن فشلِ اليهود، فلا بد أن نتحدثَ كذلكَ عن تسليطِ الأممِ والقوى على يهودَ .. ومنذُ أن سحقَهم بختنصَّر، ثمّ كانوا في قهرِ الملوكِ اليونانيين والكُشدانيين، والكُلدانيين ثم صاروا في قهرِ النصارى .. حتى انتهى أمرُهم إلى النازيين. بل وعموم الأوروبيين - فقد كان للإنجليز والفرنسيين والأسبان مواقفُ مشينةٌ معهم، بل والأمريكان في بدايةِ تأسيسِهِم لولاياتهم، ويكفي أن تستمعَ إلى خطابِ (فرانكلين) رئيسِ أمريكا الأسبق حين قال في أوّلِ خطابٍ بعد الاستقلال عام 1879 م: «إنّ هؤلاءِ اليهودَ هم أبالسةُ الجحيمِ وخفافيشُ الليل، ومصَّاصو دماءِ الشعوبِ. أيها السادة: اطردوا هذه الطغمةَ الفاجرةَ من بلادنا قبلَ فواتِ الأوانِ ضمانًا لمصلحةِ الأمةِ وأجيالِها القادمةِ، وإلا فإنكم سترونَ بعدَ قرنٍ واحدٍ أنهم أخطرُ مما تفكرون .. إلى أن يُقول: ثِقوا أنكم إذا لم تتخذوا هذه القرارَ فورًا، فإنّ الأجيالَ الأمريكيّة القادمةَ ستلاحقُكم بلعناتِها، وهي تئنّ تحتَ أقدامِ اليهودِ» (¬1). وهم اليومَ وغدًا ينتظرونَ وعدَ اللهِ فيهم بالسّوْمِ والعذابِ إلى يومِ يبعثونَ، وفي ذلك يقول ربّنا: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} (¬2). وفي خبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إن آخِرَ أمرِهم أنهم يخرجونَ ليكونوا أنصارَ الدجّال، فيقتلُهم المسلمونَ مع عيسى ابن مريم عليه السلامُ - وذلك آخر الزمان» (¬3). ولا بد ثالثًا - وقبل المواجهةِ مع يهودَ - أن نعلمَ شيئًا من أوصافِ اللهِ لهم، ¬

(¬1) د. مصطفى مسلم، معالم قرآنية في الصراع مع اليهود (205 - 221). (¬2) سورة الأعراف، الآية: 167. (¬3) تفسير ابن كثير عند آية الأعراف: 3/ 497.

فهم جُبناءُ - وإن خُيِّل لبعضِنا خلافَ ذلك {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} (¬1). وهم متفرِّقون، وإن ظنَّ بعضُنا أنهم متفقون {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (¬2). وحروبُهم أينما أوقدوها أطفأَها الله {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} (¬3). وحكمَ اللهُ عليهم بالفُرْقَةِ والشتاتِ في الأرض {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا} (¬4) {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} (¬5). بل وبالعداوة - فيما بينهم - {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (¬6). والخلاصةُ، أن حديثَ القرآنِ عنهم مُبطلٌ لدعوى قُوّتِهم، ومكذّبٌ لاجتماعِ كلمَتِهم أو عُلوِّ شأنهم، مؤكدٌ لشتاتِهم وجُبنهم واستمرار العداوةِ بينهم، وعلى وقوع البلاء عليهم في الماضي والحاضرِ والمستقبلِ، وحديثُ الواقعِ التاريخيِّ شاهدٌ على استذلالِ الشعوبِ والأممِ لهم، وكاشفٌ على إحباط كيدِهم ومؤامراتهم، تلكَ حقائقُ ووقائعُ لا بد أن يعيَها المسلمونَ وهم يواجهونَ يهودَ، وإذا كان الشعورُ بالعِزّةِ مقدمةً للنصرِ، فإن الإحباطَ والشعورَ بالوَهَن داعٍ للهزيمةِ وليَخْتَر مسلمو اليوم ما شاءوا، وسيرى الصادقونَ من المسلمينَ ما لم يَرَهُ غيرُهم حين يأتي بقومٍ يُحبّهم ويحبّونَه، أذلةٍ على المؤمنينَ أعزّةٍ على الكافرينَ، يجاهدونَ في سبيلِ الله ولا يخافونَ لومةَ لائم. ¬

(¬1) سورة الحشر، الآية: 14. (¬2) سورة الحشر، الآية: 14. (¬3) سورة المائدة، الآية: 64, (¬4) سورة الأعراف، الآية: 168. (¬5) سورة الإسراء، الآية: 104. (¬6) سورة المائدة: الآية: 64.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لله ربّ العالمين، أحمدهُ تعالى وأشكرُه وأُثني عليه الخيرَ كلَّه، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى إخوانِه وآلِه. إخوةَ الإسلامِ: وحين نتحدثُ عن فشل اليهودِ وجُبنِهم والخلافِ الواقعِ بينهم، أو نحو ذلك من عوامل الضعفِ عندهم، فلا يلزمُ من ذلك أن ننكرَ ما لديهم من قوةٍ وقدرةٍ على التخطيط - وتفوّقٍ في المجالِ العسكري .. وهذه وتلك فَرضَتْهُم كجسمٍ غريبٍ في الأمةِ، ولكن هذه كذلكَ لا ينبغي أن تقعدَ بنا عن الاستعدادِ لمواجهتهم، أو تؤدي بنا للتخوّفِ السلبي حين الحديثُ عنهم - أو تفسيرُ كل حدثٍ لمصلحتهم - كما صنع مؤلف كتاب «أحجار على رقعةِ الشطرنج» أو كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» أو كتاب «حكومةُ العالمِ الخفية» أو كتاب «اليهودي العالمي» أو مثيلات هذه الكتب التي يُقال: إنها أُلِّفت لمصلحةِ اليهودِ وإن حذّرت منهم، وظهرَ من ينتقدُ هذا الأسلوبَ المعظّم لليهود، وإن كشف شيئًا من مؤامراتهم. ولعل من المناسبِ حينَ تُذْكَرُ هذه الكتب أنْ نذكُرَ إلى جانبها كُتبًا تتحدث عن انهيار ما يُسمى بإسرائيلَ، ويُعَوِّل مؤلفوها على إمكانية قيام حربٍ أهليةٍ داخلَ المجتمعِ اليهوديِّ حتى تتعادلَ الكفةُ، ونتوازنَ في النظرة. وكم هي كلمةٌ جميلةٌ، وتعبيرٌ واثقٌ حين يقولُ أحدُ الكتّاب: هل من المصلحةِ أن نتصوّرَ دائمًا أن اليهودَ شَعْبٌ لا يُقهَرُ، لا يُخطئُ، كلّ عملِهم تخطيطٌ، حتى إذا انهزموا قلنا: خططوا للهزيمةِ؟ إن من المصلحةِ أن نرفُقَ بنفسيّاتِ الشعوبِ المسلمةِ ونقولَ لها: إن اللهَ سبحانه وتعالى يُقيمُ لكم الدليلَ بعد الدليلِ على أن اليهودَ

شعبٌ من سائرِ الناسِ، فيهم النقائصُ المذكورةُ، والعيوبُ المأثورةُ، وأن الهزائمَ تأتيهم من هنا وهناك، وبأعمالٍ بسيطةٍ يقع لليهود خذلانٌ وهزائمُ ونكباتٌ لم تخطر على بالِ أحد. أيّها المسلمون: وحين نربِّي أنفسَنا وأجيالَنا اللاحقةَ على عدم التهيُّبِ من يهودَ، بل ونكشفُ جبنَهم وضعفَهم عند اللقاءِ. فَلأنَّ معركتَنا معهم معركةٌ أزليّةٌ .. ونحنُ واجدونَ تأكيدَ هذه المعركةِ الأزليةِ مع اليهود في كتابِ الله لعدة أمورٍ، منها: 1 - كثرةُ حديثِ القرآنِ عنهم منبِّهًا ومحذِّرًا - فما تحدَّث وكشفَ أُمّةً كاليهود. 2 - تقدّمَ حديثُ القرآنِ عنهم في الفترةِ المكيةِ، وهي فترةٌ لم يكن فيها احتكاكٌ مع اليهودِ، بل كان لدى المسلمين من جبهاتِ المشركينَ ما يكفيهم عن فتحِ جبهةٍ مع غيرِهم .. فلماذا تقدّمَ حديثُ القرآنِ عنهم؟ لقد قيل: لعلّ من حِكَم ذلك أن تعلمَ الأجيالُ اللاحقةُ من المسلمينَ أن المعركةَ مع اليهودِ معركةٌ مستمرةٌ، بغضّ النظرِ عن المواقع التي يحتلُّها كلٌّ من الطرفينِ، قوّةً أو ضعفًا، والله أعلم (¬1). 3 - وثالثُ هذه المؤشّرات على أنّ الصراعَ مع اليهودِ أزليٌّ، أن آياتِ القرآنِ الكريمِ ما فَتئتْ تنزِلُ مخاطبةً الأحفادَ بجرائمِ الأجدادِ لليهود، واللهُ تعالى حَكَمٌ عَدْلٌ، لا يُؤاخِذُ أحدًا بجريرةِ غيرِه، لكن قيل: من أسرار هذا التقريعِ أن اليهودَ جنسٌ واحدٌ، وفصيلةٌ متقاربةٌ، وطِباعُهم وخصائِصُهُم تسري من الكبارِ إلى الصِّغارِ، وتتوارثُها الأجيالُ إثْرَ الأجيال .. ولذلكَ يُخاطَبُ اللاحقونَ بما صنَعه ¬

(¬1) معالم قرآنية في الصراع مع اليهود. مصطفى مسلم.

السابقون، فهم على إثرِهم مقتدونَ. وعلى المسلمينَ وهم يقرءونَ هذه الصفاتِ لليهود ألا يظنُّوها في أجيالِهم السابقةِ، بل وفي اللاحقةِ على حدٍّ سواءٍ، وأن يستعدّوا للمعركةِ معهم بطبائعِهم وخصالِهم، وأن يتخذوا من القرآنِ دستورًا لتوجيههم في معركتهم مع يهودَ. 4 - ويتذكَّرُ المسلمُ كلَّ يومٍ، بل في كلِّ لحظةٍ يقومُ فيها لله مُصليًا انحرافَ اليهودِ - وكذا النصارى - عن صراطِ الله المستقيم، كُلَّما قرأ سورةَ الفاتحةِ، ومنها {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (¬1) ويستشعرُ عداوتهم، ويستعدُّ لمواجهتهم. إخوة الإيمانِ: وأهلُ الإسلامِ يملكونَ سلاحًا معنويًا قادرًا على إمدادِهِم بالنصرِ لو استشعروه واستثمروه، إنهم يملكونَ المنهجَ الحقَّ، وهذا المنهجُ قادرٌ على توحيدِهم وعلى دَفعِهم لمواجهةِ المُبْطلينَ - أيًّا كانوا - واللهُ تعالى معهم يدعوهم لقتالِ أعدائهم ويعدهم بالنصر ويتوعد غيرهم بالعذاب {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} (¬2) فكيف إذا تزوّدت الأمةُ المسلمةُ - مع سلاحِ الإيمانِ بسلاحِ العلم، وأخذتْ نصيبَها من التقنيةِ؟ أما الأممُ الكافرةُ - وفيهم اليهودُ والنصارى - فمهما قيل عن امتلاكهم لأنواعِ الأسلحةِ وتفوُّقهم في التقنيةِ، فلربّما أتى عليهم يومٌ يعانونَ فيه من تبعاتِ هذه الأسلحةِ النووية - كما تُعاني اليومَ الدولُ الشرقيةُ - من تبعاتِ تدميرِ الأسلحةِ النووية التي خلَّفها لها الاتحادُ السوفيتي، وبالتالي تتحولُ هذه الأسلحةُ من كونها مصدرَ رعبٍ وقوةٍ إلى كونها مصدرَ ضعفٍ وخوفٍ. عبادَ اللهِ: وخلاصةُ القولِ أنه لا خيارَ للأمةِ عن مواجهةِ اليهودِ، بعد أن ¬

(¬1) سورة الفاتحة، الآية: 7. (¬2) سورة التوبة، الآية: 14.

فشلتْ كلُّ الخياراتِ الأخرى، ولكنّ المواجهةَ لا بد أن يسبقها استعدادٌ يقضي بإصلاحِ النفوسِ وترتيبِ الصُّفوف، فصلاحُ الدِّينِ - يرحمه اللهُ - عُنِيَ بإصلاحِ الجبهةِ الداخليةِ قبلَ المواجهةِ مع الصليبيين، فأصلحَ الصفَّ المسلمَ من المنافقينَ والمُرْجفين، وقوّى عزائمَ الخائفينَ والمتثاقلينَ، وكان إلى جانب صلاحِ الدين جمهورٌ من العلماءِ والقادةِ الناصحين، وهؤلاءِ جميعًا أسهموا في تقويةِ العزائمِ ودفعِ حركةِ الجهادِ، حتى إذا قادَ صلاحُ الدين المعركةَ الفاصلةَ - لتحريرِ المقدساتِ الإسلاميةِ تهاوتْ عروشُ الظالمينَ، وتناثرتْ الجُثثُ على سيوفِ المسلمينَ، وعادَ تكبيرُ المآذنِ بدلَ ناقوسِ الكنائسِ وأجراسِها، واستبشرَ المسلمونَ، وهلّلَ الكونُ لهذا النصرِ المبينِ - وطُويت صفحاتٌ من إفسادِ الصليبيين لهذه المقدساتِ لعقودٍ قاربت المائة عام. ومسلمو اليوم حريُّونَ بتطهيرِ المقدساتِ من عبثِ اليهودِ وتخليصِ المسلمينَ من طيشِ المعتدينَ - لكن بعدَ أن يَصدُقوا مع ربِّهم ويُصلحوا ما بأنفُسهِم {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬1)، ونهايتُهم على أيدي المسلمين محسومةٌ بالخبرِ الصادقِ: «لا تقومُ الساعةُ حتى يُقاتلَ المسلمونَ اليهودَ، فيقتلُهم المسلمونَ، حتى يختبئَ اليهوديُّ، وراءَ الحَجَرِ أو الشَجَرِ، فيقولُ الحَجَرُ أو الشجرُ: يا مسلمُ يا عبدَ اللهِ، هذا يهوديٌّ خلفي فتعالَ فاقْتُلْهُ، إلا الغَرْقَد، فإنهُ من شَجَرِ يهودَ» (¬2). وذلك ذكرى للذاكرين. ¬

(¬1) سورة الرعد، الآية 11. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الفتن برقم (2923) من حديث أبي هريرة.

الأشهر الحرم وبدع رجب

الأشهر الحُرُم وبدع رجب (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. إِخوةَ الإسلامِ: والمؤمنُ الحقّ هو الذي يُعظمُ شعائرَ اللهِ، يمتثلُ الأوامرَ ويجتنبُ النواهي، ويسارعُ إلى الخيراتِ، ويقومُ بالواجبات، ويحرصُ على فعلِ المستحبّاتِ، ويكره الفسوقَ والعصيانَ، ويتجنّبُ المحرماتِ، ويجاهدُ نفسَه على البعدِ عن المكروهاتِ. والمسلمُ الحقُّ هو الذي يحرّمُ ما حرّمَ اللهُ، ويعظِّمُ ما عظَّمَه اللهُ، ومما عظَّم اللهُ الأشهرُ الحُرم، فما هي الأشهرُ الحُرم؟ وكيف تعظَّم؟ معاشرَ المسلمينَ: وأنتم اليومَ في واحدٍ من هذه الأشهرِ الحُرمِ - وهو رجبُ الفرد - والأشهرُ الحرمُ في كتاب الله أربعة: هي ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، وإليها أشار القرآنُ بقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (¬2). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 3/ 7/ 1421 هـ (¬2) سورة التوبة، الآية: 36.

إن عددًا من المسلمينَ قد لا يعلمونَ هذه الأشهرَ الحُرمَ، وعددًا آخر قد يعلمونها ولكن لا يُعظمونها كما أمرَ اللهُ، ولقد كانت العربُ في جاهليتها تُعظمُ هذه الأشهرَ الحُرمَ؛ فلا تسفكُ فيها دمًا ولا تأخذُ فيها بثأرٍ .. وإن كانت تتحايلُ أحيانًا فتُنْسِئ الأشهرَ، وتجعلُ من الشهرِ الحرامِ حلالًا والعكس. وجاء الإسلامُ ليؤكدَ حُرمةَ الأشهرِ الحرمِ، وينهى عن التلاعبِ فيها تقديمًا أو تأخيرًا. ووقفَ رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم بمكةَ خطيبًا في حجة الوداع ليؤكد حُرمةَ الزمانِ وحُرمةَ المكان، وحرمةَ الدماءِ والأموالِ والأعراضِ ويقول: «إنَّ دماءكُم وأموالَكُم وأعراضَكُم عليكم حرامٌ كحرمةِ يومِكُم هذا، في شهرِكُم هذا، في بلدِكُم هذا، وستلقونَ ربَّكُم فيسألُكم عن أعمالِكُم، ألا لا ترجعوا بعدي ضُلالًا يضربُ بعضُكم رقابَ بعضٍ، ألا هل بلغتُ؟ ألا ليبلِّغ الشاهدُ الغائبَ منكم، فلعلّ مَنْ يبْلُغه يكونُ أوعى له من بعضِ من يسمعه» (¬1). أيّها المسلمونَ: إن تعظيمَ شعائر اللهِ .. وتقديرَ ما حرّمَ اللهُ من تقوى القلوبِ: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (¬2). وإذا كان المسلمُ مطالبًا على الدوامِ بتعظيمِ حرماتِ اللهِ، فإن مطالبَته بذلك في الأشهرِ الحُرمِ آكدُ، ولذا قال تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (¬3)، أي في هذه الأشهرِ الحرمِ، لأنه آكدُ وأبلغُ في الإثمِ من غيرِها. ويُروى عن ابن عباس رضي الله عنهما: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي: في الأشهرِ كلِّها، ثم اختَصَّ من بين ذلك أربعةَ أشهرِ فجعلهنَّ حرامًا وعظَّمَ حُرماتِهن، ¬

(¬1) رواه أحمد والبخاري ومسلم. (¬2) سورة الحج، الآية: 32. (¬3) سورة التوبة، الآية: 36.

وجعل الذنبَ فيهنّ أعظمُ، والعملَ الصالحَ والأجرَ أعظم (¬1). عبادَ الله: هل نُعظمُ هذه الأشهرَ الحُرم، وكم من المسلمينَ يُعظِّمُها؟ ! وتعظيمُها إنما يكون بعملِ الصالحاتِ المشروعةِ، والبُعدِ عن المحرَّماتِ. وهل يكونُ أهلُ الجَاهليةِ بكفرهِم وإثمِهِم وانحرافِهِم أكثرَ تعظيمًا لحُرماتِ اللهِ من أهلِ الدِّين الحقِّ والفطرةِ السليمةِ؟ ! إنَّ كثيرًا من المسلمينَ يُعظِّمون شهرَ الصيامِ، ويتقربونَ إلى الله فيه بالطاعاتِ، واجتنابِ المحرّماتِ - وذلك أمرٌ طيبٌ ومحمودٌ - ولكن كم مِنَ المسلمينَ يفعلُ ذلك في الأشهرِ الحُرم؟ كم نظلمُ أنفسَنا بارتكابِ المعاصي وفعلِ الآثامِ، ونحن منهيّونَ عن ذلك على الدَّوام، والنهيُ آكدُ في الأشهرِ الحُرمِ. لقد كثُرتِ المآثمُ .. وظهر الفسادُ في البَرِّ والبحرِ بما كسبت أيدي الناس .. وتلاعبَ الشيطانُ بالناسِ وأضلَّهم عن صراطِ اللهِ المستقيم، فهذا صريعُ الشهواتِ، وذلكَ مفتونٌ بالشُّبهاتِ، وثالثٌ غافلٌ عن الأوامرِ الربّانيةِ، ورابعٌ غارقٌ في المحرَّمات، وخامسٌ لا يقتصرُ على إفسادِ نفسِه، بل يدعو غيرَه لاقترافِ المحرَّمات، ويحاولُ جهدَه خرقَ جدارِ الفضيلةِ .. وتحطيمَ سياجِ الواجباتِ، وبينَ هؤلاءِ وأولئكَ فئَامٌ من المسلمينَ تعيشُ على تقليدِ الآخرين، وتتّبِعُ الموجاتِ، وصلاحُهم أو فسادُهم مربوطٌ بالآخرين .. فلا إرادةَ لهم ولا همةَ ترتفعُ بهم .. رعاعٌ هَملٌ، يتبعونَ الناعقَ حيثُ صاحَ بهم، حتى وإن كان يقودُهم إلى الهاويةِ. أما الذين ينظرونَ بنورِ اللهِ، ويهتدونَ بهدي القرآن، ويقتدونَ بمحمدٍ عليه ¬

(¬1) تفسير ابن كثير عند آية التوبة 4/ 89.

الصلاةُ والسلامُ، فأولئكَ يعلمونَ الحقَّ ويعملونَ به، ويدعونَ الناسَ إليه، ويكرهونَ الباطلَ ويحذِّرونَ الناسَ منه .. وهؤلاء وإن قلّ عددُهم واستحكمت غُربتُهم .. فطوبى لهم .. وموعدُهم وموعدُ غيرِهم يومَ التنادِ - وهناك الجزاءُ الحقُّ وذلك يومُ التغابن. إخوةَ الإيمانِ: وإذا كانَ يجدرُ بنا في هذا الشهرِ الحرام أن نحاسبَ أنفسَنا، وأن نعَظّم حُرماتِ اللهِ، وأن نتقربَ إلى اللهِ بطاعته، فهل نتخذُ من ذلك وسيلةً لتربيةِ النفوسِ على طاعةِ الله ومحاسبتهِا على الدَّوام. عبادَ الله: وقد اقتضتْ حكمةُ الله - يومَ أن خلَقَنا واستخْلَفَنا في الأرض - ألا نكون ملائكةً لا نعصي اللهَ أبدًا .. فقد يقعُ الذنبُ، وقد يُقصِّرُ العبدُ فيما أوجبَ اللهُ عليه، ولكن هل تستمرُّ الغفلةُ، وهل يستمرِئُ المسلمُ المعصيةَ ويستمرُّ على الذنبِ. إن الذكرى تنفعُ المؤمنين، والموعظةُ تنبهُ الغافلينَ، ومن في قلبه حياةٌ تتحركُ هِمّتُه للخيرِ إذا دُعِيَ إليه، ويخافُ من عقوبةِ الذنبِ إذا حُذِّرَ منه. والناسُ في ارتكابِ المعاصي والذنوبِ على ثلاثةِ أصنافٍ - كما قال العلماءُ-: صنفٌ من الذنب تائبٌ موطنٌ لنفسِه على هجرانِ ذنبِه، لا يريدُ الرجوعَ إلى شيءٍ من سيئتِه وهذا - هو المُبرِّز -. وصنفٌ يذنبُ ثم يندمُ، ويذنبُ ويحزنُ، ويذنبُ ويبكي، هذا يُرجى له ويُخافُ عليه. وصنفٌ يذنبُ ولا يندمُ ولا يحزنُ، ويذنبُ ولا يبكي، فهذا الكائنُ الحائدُ عن طريقِ الجنةِ إلى النار (¬1). ¬

(¬1) ذكره البيهقي في «شعب الإيمان» (7156).

يا أخا الإسلام: راجع نفسكَ وتفكَّر في حالِكَ، وانظر في أيِّ الفئاتِ أنتَ، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (¬1). نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 32.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ للهِ ربّ العالمينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وليُّ الصالحينَ، أشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، سيدُ الأولينَ والآخرينَ، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ النبيينَ والمرسلينَ. أيها المسلمونَ: وتعظيمُ الأشهرِ الحُرمِ لا يعني تخصيصَها بشيءٍ من العباداتِ لم يشرَعْهُ اللهُ، ولم يأذنْ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فذلك خروجٌ عن السُّنةِ إلى البدعةِ، ونحنُ مأمورونَ بالاتباعِ لا الابتداع، وكلُّ شيءٍ ليسَ عليه أمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فهو رَدٌّ. والشيطانُ يفرحُ بالبدعةِ أكثرَ من غيرِها، ويتلاعبُ بأصحابِ البدعِ حين يُضلُّهم عن العملِ الصالح إلى السيئِ، وتأمَّلُوا أثرَ البدعةِ في الحديثِ الذي رواه الإمامُ أحمدُ وغيرُه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما ابتدعَ قومٌ بدعةً إلا نزعَ اللهُ عنهم منَ السُّنَّةِ مثلَها» (¬1). وقد بيَّن العلماءُ أن الشرائعَ أغذيةُ القلوبِ؛ فمتى اغتذت القلوبُ بالبدعِ لم يبقَ فيها فضلٌ للسُّننِ، فتكونُ بمنزلةِ من اغتُذي بالطعامِ الخبيثِ. عبادَ الله: والناسُ في هذا ثلاثةُ أصنافٍ: صنفٌ جاهلٌ مفرطٌ، لا يعرفُ سنّةً ولا بدعةً، بل هو مسرفٌ في المعاصي والذنوبِ حسبَ رغبةِ نفسِه ومتطلباتِ شهوتِه. وصنفٌ قد أحدثَ من الطاعاتِ وكلّفَ نفسَه ما لم يؤذن به، فتراه يخصُّ زمنًا بصلاةٍ أو صيامٍ أو عمرة .. وليس له في ذلكَ مستندٌ شرعيٌّ، وهم أصحابُ البدع. ¬

(¬1) وذكره السيوطي في «الجامع الصغير» وحسّنه، وضعفه الألباني في «ضعيف الجامع الصغير» 5/ 78.

وصنفٌ ثالثٌ هم المعظمونَ لما عظّمه الله، والواقِفونَ عندَ حدودِ السنّةِ والمُقْتَدونَ بهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأولئكَ أهلُ السُّنَّةِ وأصحابُ المنهجِ الحقِّ .. فلا يحيفونَ، ولا يغلونَ، ولا إفراطَ ولا تفريط. عبادَ الله: وفي شهرِ رجب بدعٌ أحدثتها الرجبيةُ، وليس عليها مستندٌ شرعي، ولابن حجرٍ رحمه الله رسالةٌ عنوانها «تبيين العجب بما وردَ في فضلِ رجب»، وقد قال رحمه الله في هذه الرسالة: لم يرد في فضل شهرِ رجبٍ ولا في صيامِه ولا في صيامِ شيءٍ منه معيَّن، ولا في قيامِ ليلةٍ مخصوصةٍ منه حديثٌ صحيحٌ يصلحُ للحُجّةِ. ثم ساقَ رحمَه اللهُ عامةَ الأحاديثِ المرويةِ في ذلك مع بيانِ الحكمِ عليها. وقال ابنُ رجب رحمَه الله: «لم يصحَّ في شهرِ رجَب صلاةٌ مخصوصةٌ تختصّ به. وقال: لم يصح في فضل صومِ رجبٍ بخصوصه شيءٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه». ولذا فقد كرهَ السلفُ إفرادَ رجب بالصيام (¬1). ومما ذكرهُ العلماءُ من بدعِ رجب: 1 - صلاةُ الرغائبِ: وهي صلاةٌ تصلَّى في أوَّل ليلةِ جمعةٍ من شهرِ رجب .. وكلُّ ما وردَ فيها من أحاديثَ فهيَ موضوعةٌ، ولم يثبت منها شيءٌ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولا أثرٌ عن أصحابه رضوانُ الله عليهم. 2 - تخصيصُه بالصيام: وهو كذلك لم يرد، بل جاءَ أنّ عمرَ رضي الله عنه كان يضربُ أكفَّ المترجِّبينَ - أي الذين يصومونَ في رجب - حتى يضعها في الطعامِ، ويقول: كُلوا فإنَّ الجاهليةَ يُعظِّمونَ ذلك - أي شهرَ رجب. 3 - وكذلك العمرةُ في رجب: فليسَ لها مَزيةٌ على غيرهَا، وليس في هَدْي المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يرغبُ في ذلك بخصوصها. ¬

(¬1) عبود بن درع: أحكام رجب وشعبان 2089.

4 - وفي شهرِ رجب نسيكةٌ يسمّونها (العَتيرة) وهي تذبحُ في رجب، وقد اختلفَ العلماءُ فيها بين قوله صلى الله عليه وسلم: «لا فَرْعَ ولا عَتيرةَ» (¬1). وبين قوله: «العتيرةُ حقٌّ» (¬2). ووجهوها على العتيرةِ المشروعةِ التي تذبحُ قربةً لله لا لتعظيمِ رجب، والمنهيّ عنها هي التي أبطلها الإسلامُ وهي عتيرةُ الجاهليةِ. - ومن الأمورِ المحدَثةِ في رجب ما يعتقده بعضُ المسلمينَ من تعظيمِ ليلةِ السابعِ والعشرينَ، ويعتقدونَ أن في هذه الليلةِ حصلَ الإسراءُ والمعراج. ولم يأتِ نصٌّ صريحٌ في ذلك، ولا نُقلَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه تعظيمُ هذه الليلةِ وتخصيصُها بشيءٍ من الصلاةِ أو الذكرِ أو الأورادِ، أو نحوها من العبادات. عبادَ الله: عظِّموا ما عظَّم اللهُ ورسولُه، وعليكم بالسُّنَّةِ، وإياكم ومُحدَثاتِ الأمورِ، فإن كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار. ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (5473)، ومسلم برقم (1976) كلاهما من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه النسائي في «الصغرى» برقم (4225) وغيره، وحسّنه الألباني.

أبو ذر رضي الله عنه إسلامه وحياته

أبو ذر رضي الله عنه إسلامه وحياتُه (¬1) الخطبة الأولى: الحمدُ لله يهدي من يشاءُ، ويضلّ من يشاءُ، ومن يضلل اللهُ فما له من هادٍ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الدينُ واصبًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اجتباه ربُّه وهداهُ إلى صراطٍ مستقيمٍ، اللهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وارضَ اللهمَّ عن أصحابه أجمعين، والتابعينَ ومن تبعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين. عبادَ اللهِ: وصيةُ اللهِ لكم ولمَن قبلَكُم ومَن بعدَكُم التقوى، فاتقوا اللهَ، ومن يتقِ اللهَ يجعلْ له مخرجًا، ومن يتقِ اللهَ يكفِّرْ عنه سيئته ويعظمْ لهُ أجرًا. أيّها المسلمون: يطيبُ الحديثُ عن صحابةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عمومًا؛ لأنه حديثٌ عن خيرِ القرونِ، وعن منِ اختارَهم اللهُ لخيرِ المسلمين، ويطيبُ أكثرُ حينَ يكونُ عن واحدٍ من السابقين .. صَلّى سنتينِ قبلَ مَبعثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قيل له: فأين كنتَ توجّهُ؟ قال: حيثُ وجَّهني اللهُ، وجاءَ من بلادِ قومه يبحثُ عن الإسلامِ، ويرغبُ اللقاءَ بمحمدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ، ومع تخفِّيه واحتياطِه بالسؤال، إلا أنه لم يَسلم من أذى قريشٍ وصَلَفِها؛ إذ كانت تؤذي كلَّ من ينتسبُ إلى محمد صلى الله عليه وسلم أو يتصلَ به، ولكن صاحِبَنا - صاحبَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم - كان رابط الجأشِ، قويَّ الإرادةِ، قادرًا على التَّحدي والصُّمودِ في سبيلِ اعتِنَاقِ الدِّينِ الحقِّ، ولقد راغمَ قريشًا بعد إسلامِه فأقسم ليصرَخنّ بالشهادتينِ بين ظَهرانَي قريش - في وقتٍ كانت قريشٌ تخنقُ الأنفاسَ - فخرج حتى أتى المسجدَ، فنادى ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 10/ 6/ 1421 هـ

بأعلى صوتِه: أشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ، وأنَّ محمدًا رسولُ الله، فثارَ القومُ فضربوه حتى أضجعوه .. حتى تدخَّل العباسُ رضي الله عنه وأَكبَّ عليه فتركوه. فمن يكون هذا الصحابيُّ المِقدامُ، والباحثُ عن الإسلام رَغمَ المصاعِبِ والآلام؟ إنه أبو ذرٍّ الغِفاريُّ رضي الله عنه «أولُ من حيّا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بتحيةِ الإسلام» (¬1). نموذجٌ في الصدق «ما أقلَّتِ الغبراءُ، ولا أظلَّت الخضراءُ أصدقَ لهجةً من أبي ذر» (¬2). وفي العلم له قدمُ صِدْقٍ حتى قال عليٌّ رضي الله عنه: «أبو ذرٍّ وعاءٌ مُلئَ علمًا ثم أُوكي عليه» (¬3). لم يشهد أبو ذرٍّ بدرًا، ولكنّ عمرَ ألحقه بهم، وكان - كما يقال - يوازي ابنَ مسعود في العلم (¬4). أبو ذر رضي الله عنه تحمّل في سبيلِ الإسلامِ وأيامه الأُولى أذى قريش، لكنه دقَّ مسمارًا في نَعْشِ دِيانتهم، وحطمَ كبرياءَهم، وأسمعهم كلمةَ الحقِّ وهم كارهون. ولئن آذوه - وهو يُعلنُ إسلامَه - فقد آذوه من قبلُ وهو في طريقِ البحثِ عن الإسلام حين مالَ عليه أهلُ الوادي بكلِّ مَدَرَةٍ وعَظْمٍ حتى خَرّ مغشيًّا عليه، ثمّ ارتفعَ وكأنه نُصُبٌ أحمرُ (¬5) (يعني من كثرةِ الدماء). ¬

(¬1) أخرجه مسلم. (¬2) رواه أحمد وأبو داود كما في «الإصابة» 11/ 122. (¬3) أخرجه أبو داود بسندٍ جيد عن علي رضي الله عنه كما في «الإصابة» 11/ 122. (¬4) السابق 11/ 122. (¬5) أخرجه مسلم برقم (2473).

وبالجملةِ فقصةُ إسلامهِ وخبرُ مجيئِه إلى مكةَ جاءت في «الصحيحين» مطوّلةً .. ومن أحداثِها ودروسها - غيرَ ما سبق: 1 - أنه مكثَ بمكة قبلَ لُقياهُ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ثلاثين ما بين يومٍ وليلة، وما كان له طعامٌ إلا ماءَ زمزم، ومع ذلك سَمِن منها، وما وجدَ على بطنه سَخَفَةَ جوعٍ - كما يقول - وحينها قالَ له عليه الصلاةُ والسلام: «إنها مباركةٌ، إنها طعامُ طُعْمٍ» أي يَشبعُ الإنسانُ إذا شربَ ماءها كما يشبعُ من الطعام (¬1). فرقٌ بين من يُهاجرُ باحثًا عن الإسلام دون زادٍ ومأوى، ومتعرّضًا للشدائدِ واللأواء فيصبرُ ويبلغُ مقصَدَه، وبينَ من يولدُ وينشأ في الإسلامِ ثمّ لا تراه يصبرُ على بعضِ تكاليفِ الإسلامِ. كان رضي الله عنه رأسًا في الزهدِ والصدقِ والعلمِ والعملِ، قَوّالًا بالحقّ، لا تأخذه في اللهِ لومةُ لائمٍ على حِدّةٍ فيه. كما قال الذهبي رحمه الله (¬2). 2 - وأبو ذرٍّ رضيَ اللهُ عنه لم يكن نموذجًا في الإسلام والثباتِ على الحقِّ في الظروفِ الصعبةِ فحسب، بل كان نموذجًا في الدعوةِ إلى الله، وفي رواية «الصحيح» أن أبا ذرٍّ حين أسلمَ انطلقَ إلى أخيه (أُنيس) فقال له: ما صنعت؟ قال أبو ذرٍّ: صنعتُ أني أسلمتُ وصَدقتُ، قال (أخوه): ما بي رغبةٌ عن دينِكَ، فإني قد أسلمتُ وصَدّقتُ، قال: ثم أتينا (أُمّنا) فقالت: ما بي رغبةٌ عن دينكُما، فإني قد أسلمتُ وصدَّقتُ، قال: فاحتملنا (يعني متاعَنا وأنفسَنا على إِبِلنَا وسِرْنا) حتى أتينا قومَنا (غِفارًا) فأسلمَ نصفُهم .. وقال نصفُهم: إذا قدِمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المدينةَ أسلَمنا، وصدَقوا، فلما قدمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ أسلمَ نصفُهم الباقي. أرأيتم آثارَ الصِّدقِ، ونتائجَ الدعوةِ من المخلصين، وإلا فأيُّ شيءٍ كانَ يملك ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) سير أعلام النبلاء 2/ 47.

أبو ذرٍّ من العلمِ ووسائل الدعوة، وهو يُعَدّ حديثَ عهدٍ بالإسلام .. لكن وَضعَ وصيةَ الرسول صلى الله عليه وسلم نُصْبَ عينيهِ حين قال له: «هل أنت مُبلِّغٌ عنِّي قومَكَ؟ عسى اللهُ أن ينفعَهُم بكَ ويأجُركَ فيهم؟ » (¬1). وكذلك يتداعى الخيرُ ويشيعُ الإسلامُ، وينتشرُ من خلالِ حركةِ المؤمنينَ ودعوةِ الصادقينَ .. فلم يكن الأمرُ قَصْرًا على غِفارٍ، بل أسلمَ بإسلامِهم (أَسْلَمُ) حين جاءوا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول اللهِ، إخوَانُنا - يعنونَ غِفارًا - نُسلمُ على الذي أسلموا عليه، فأسلموا، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «غِفارٌ غفرَ اللهُ لها، وأسْلَمُ سالمَها الله» (¬2). أين الذينَ يحملونَ الإسلامَ كما حملَه أبو ذرٍّ .. وفي الأرضِ اليومَ أممٌ وشعوبٌ وقبائلُ وأفرادٌ تحتاجُ إلى الإسلامِ، كما احتاج إليه من قبلَهُم؟ وأين أثرُ الدُّعاةِ مع قبائِلِهم كما صنعَ أبو ذرّ مع قبيلتِه؟ وهل يا تُرى تتحققُ للدُّعاةِ نتائجُ كما تحققتْ لأبي ذرٍّ؟ كفاكَ فخرًا يا أبا ذرٍّ أن تكونَ سببًا في إسلامِ غفارٍ أولًا .. ثم تكونُ سببًا في إسلامِ (أسلَم) ثانيًا .. ثمّ تظلُّ بعد ذلك صاحبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يُبادركَ إذا حضرتَ، ويسألُ عنك ويتفقّدكَ إذا غبتَ. 3 - والمتأملُ في قصةِ إسلامِ أبي ذرّ وشخصيته عمومًا، يدركُ أثرَ الإسلامِ في تغييرِ العادات والطبائعِ إلى الأحسنِ .. أجل إنّ غفارَ - التي ينتسبُ لها أبو ذرٍّ - كانت من الشِّدَةِ والبأسِ والقسوةِ ما جعلَها في طليعةِ القبائلِ القائمةِ على الغارةِ والنهبِ والسَّلْبِ، ولقد عَبّر عنهم الأقرعُ بن حابسٍ حين قالَ للرسول صلى الله عليه وسلم: إنما بايعَك سُرّاقُ الحَجيجِ من أسلمَ وغفار، فردَّ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ردًّا أسكتَهُ. ¬

(¬1) من رواية مسلم (2473). (¬2) أخرجه مسلم برقم (2473) 4/ 1922.

وأبو ذرّ نفسُه يقول: حين سألني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أنتَ؟ ». قُلت: من غفار، قال: فأهوى بيدِهِ فوضَعَ أصابِعَهُ على جبهتِه، فقلتُ في نفسي: كرِهَ أَنِ انتميتُ إلى غِفار (¬1). بل لقد جاء في ترجمةِ أبي ذرّ نفسِه .. أنه كان يُغيرُ على الصِّرم في عِمايِة الصُّبح على ظهرِ فرسِه وقدميه كأنه السَّبُعُ، فيطرقُ الحيّ ويأخذُ ما أخذ (¬2). حتى إذا قذفَ اللهُ الإسلامَ في قلب أبي ذرّ وقومِه تغيرتِ الحالُ، وصنعَ الإسلامُ من أبي ذرٍّ نموذجًا للزُّهدِ والعفافِ، يتورعُ عن جمعِ المالِ وكنزِه - وإن كان حلالًا - وأنّى له أن يفكِّرَ في أخذِ الحرامِ أو الاعتداءِ على حقوقِ الآخرين؟ لقد ودّعَ أبو ذرٍّ الدنيا وهو لا يملكُ من متاعِها إلا القليلَ، ولم يُخلف بعد موتِه أموالًا ولا ضِياعًا، ولربما أعياه توفيرُ الكفنِ الذي يُكفنُ به - كما سيأتي البيان. وكذلك يسمو الإسلامُ بالنفوسِ ويرفعها عن حُطامِ الدُّنيا، فإذا الآخرةُ محطُّ أنظارِها، وإذا الجِنانُ والأنهارُ محلُّ تفكيرِها، وفرقٌ بين من تكون الدُّنيا هدفَهُ وغايةَ طموحِه، ومن تكون الآخرةُ همَّه ومجالَ تفكيرِه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (¬3). ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه ابن سعد 4/ 222. (¬3) سورة الإسراء، الآيتين: 18، 19.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، ولا عدوانَ إلا على الظالمينَ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وليُّ الصالحينَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه خاتمُ النبيينَ، وسيدُ ولدِ آدمَ أجمعينَ، صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانِه من النبيينَ. أيّها المسلمون: وانقلبَ زهدُ أبي ذرٍّ في عقلياتِ الجهلةِ والموتورينَ إلى انحرافٍ يُبَرّئ عن ساحَتهِ صاحبُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقد ظلموا أبا ذرّ حين زعموا أنه رائدُ الاشتراكيةِ الوضعية .. وما كانَ زُهدُ أبي ذرٍّ، بل ولا كانت حياةُ أبي ذرٍّ إلا استجابةً لوصايا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو القائل: «أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبعٍ: أمرني بحبِّ المساكينِ والدُّنوِّ منهم، وأمرَني أن أنظرَ إلى ما هو دوني، وألا أسأل أحدًا شيئًا، وأن أصِلَ الرحمَ وإن أدبرتْ، وأن أقولَ الحقَّ وإن كان مُرًّا، وألا أخافَ في اللهِ لومةَ لائم، وأنْ أُكثرَ من قولِ لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، فإنهنّ من كنزٍ تحتَ العرش» (¬1). وأينَ هذه الوصايا النبويةِ من مبادئِ الاشتراكية العَفنةِ؟ وظلَمَ المُغرضونَ ومن في قلوبهم مرضٌ عثمانَ وأبا ذرٍّ رضي الله عنهما حين زعموا أن عثمانَ نفاهُ إلى الرّبذةِ .. وقد دلّتِ الرواياتُ الصحيحةُ وتكاثرتْ على أن أبا ذر اختارَ بنفسِه سُكْنَى الربذةِ - في آخرِ حياته، وأنه استأذنَ عثمانَ فأذِنَ له، بل وأمرَ له بنَعمٍ من نَعَمِ الصدقةِ - تغدو غليه وتَروحُ - فاعتذر عنها قائلًا: يكفي أبا ذرٍّ صُريمتَه - يعني: إبلَه وغنَمه (¬2). ¬

(¬1) رواه أحمد وابن سعد وسنده حسن (سير أعلام النبلاء 2/ 64). (¬2) ابن سعد «الطبقات» 4/ 228، مسند أحمد 5/ 164 بإسناد صحيح، الطبقات 4/ 232 رجاله ثقات، الحلية 1/ 160، سير أعلام النبلاء 2/ 60، 63، 67.

كما تزيَّدَ المناوئونَ لمعاويةَ رضيَ اللهُ عنه .. والذين يحاولونَ الاصطيادَ في الماءِ العَكرِ .. حين اتهموا معاويةَ بالإساءةِ إلى أبي ذرٍّ، وعدمِ منحِه حقَّه، وطرْدِه من الشام، ولفّقوا في ذلكَ مروياتٍ تلقَّفوها من أفواهِ أهلِ الأهواءِ والرَّيبِ .. والذينَ عجزوا عن التصريح باتهامِ عثمانَ جعلوا معاويةَ هدفًا لسهامِهم، فَمعاويةُ - كما قال السلفُ - أشبَهُ بالبوابةِ لصحابةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فمن هزَّ البابَ أوشكَ أن يدخلَ الدارَ؛ ولذا كانوا يتهمونَ من تعرّضَ لمعاويةَ ويُعدّونه من أهلِ الرَّيب؟ وحين يحرصُ السلفُ ومن تبعَهُم بإحسانٍ من الخَلَف على حفظِ أعراضِ صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدَّعونَ العصمةَ لهم، ولا ينزهونهم عن الخطأ؛ لكنهم يرونهم مجتهدينَ فيما صاروا إليه، فمن أصابَ فله أجران، ومن أخطأ فله أجرُ المجتهدِ المخطئِ. عبادَ الله: وبشكلٍ عام فَحبُّ الصحابةِ من الإيمان، وبُغضُهم - أو أحدٍ منهم - من علاماتِ النفاق وهي سمةٌ من سيما أهلِ الأهواءِ في كلِّ زمانٍ ومكان. أيها المسلمون: ودعونا نعودُ إلى حياةِ أبي ذرٍّ، ونعيشُ معه أيامَه الأخيرةَ، وكيفَ رحلَ من الدنيا في مشهدٍ يُحرّكُ القلوبَ، وتدمعُ له العيونُ. فقد أخرجَ أبو حاتمٍ ابن حبانَ في «صحيحه» بسنده - حسّنهُ بعضُهم - عن أمّ ذرٍّ رضي اللهُ عنها قالت: لما حضرَتْ أبا ذرٍّ الوفاةُ بكيتُ، فقال أبو ذرٍّ: ما يبكيك؟ فقلتُ: ما لي لا أبكي وأنتَ تموتُ في فَلاةٍ من الأرضِ، وليس عندي ثوبٌ يَسعُكَ كفنًا، ولا يَدَانِ لي في تَغييبكَ. قال: أَبشري ولا تبكي، فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ لنفرٍ أنا فيهم: «لَيَموتَنّ رجلٌ منكم بفلاةٍ من الأرضِ يَشهدُهُ عصابةُ من المسلمينَ». وليسَ أحدٌ من أُولئكَ النفرِ إلا وقد ماتَ في قريةٍ وجماعةٍ، فأنا ذلكَ الرجلُ، فوالله ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، فأبصري الطريقَ. فقلتُ: أنَّى وقد ذهبَ الحاجُّ وتقطَّعتِ الطرقُ؟ فقال: اذهبي فتبصَّري. قالت:

فكنتُ أُسندُ إلى الكَثيبِ أتبصّرُ، ثم أرجعُ فأمَرضهُ، فبينما أنا وهو كذلك، إذ أنا برجالٍ على رِحالِهم، كأنهم الرّخَمُ، تَخُبُّ بهم رواحلُهم، قالت: فأشرتُ إليهم فأسرعوا إليّ حتى وقفوا عليَّ، فقالوا: يا أمةَ اللهِ ما لَكِ؟ قلتُ: امرؤٌ من المسلمينَ تُكفِّنونه، قالوا: ومن هو؟ قلت: أبو ذرٍّ، قالوا: صاحبُ رَسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلتُ: نعم، فَفدَوه بآبائِهم وأمهاتِهم وأسرعوا عليه حتى دخلوا عليه، فقال لهم: أبشروا، فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لنفرٍ أنا فيهم: «ليموتنّ رجلٌ منكم بفلاةٍ من الأرضِ يشهدُه عصابةٌ من المؤمنينَ». وليس من أولئك النفرِ رجلٌ إلا وقد هلكَ في جماعةٍ، واللهِ ما كَذَبتُ ولا كُذبتُ، إنه لو كان عندي ثوبٌ يَسعُني كفنٌ لي أو لامرأتي لم أكفّن إلا في ثوبٍ هو لي أو لها، فإني أنُشدكم اللهَ، ألا يكفنني رجلٌ منكم كان أميرًا أو عريفًا أو بريدًا أو نقيبًا، وليس من أولئك النفرِ أحدٌ إلا وقد قارفَ بعضَ ما قال، إلا فتىً من الأنصار، قال: أنا يا عمُّ أُكفنكَ في ردائي هذا، وفي ثوبين من عَيبتي من غَزْلِ أُمي، قال: أنت فكفِّني، فكفّنه الأنصاريُّ، وقاموا عليه وكفَّنوهُ في نَفَرٍ كلُّهم يَمانٍ (¬1). تلكم إطلالةٌ يسيرةٌ على حياةِ واحدٍ من صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتى غِفار، والفارِس المِغوار، والمتألِّه قبلَ الإسلام، والعابدُ الزاهدُ في الإسلام، حتى لقد رُوي: «مَنْ سَرَّهُ أن ينظرَ إلى زُهدِ عيسى، فلينظرْ إلى أبي ذرٍّ» (¬2). رضيَ اللهُ عنك يا أبا ذرّ وأرضاكَ وسائرَ أصحابِكَ صحابةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، اللهم إنّا نُشهدكَ على محبَّتهم فاحشُرنا معهم. ¬

(¬1) انظر ابن حبان في «صحيحه» 2260، مجمع الزوائد 9/ 331، 332، زاد المعاد 3/ 535. (¬2) رواه ابن سعد 4/ 228 بسندٍ رجاله ثقات إلا أنه منقطع، سير أعلام النبلاء 2/ 59.

الأمن الشامل مسئوليتنا جميعا

الأمنُ الشامُل مسئوليتنا جميعًا (¬1) الخطبة الأولى: الحمدُ لله مَنَّ على عبادِه بنعمٍ لا تُعدُّ ولا تُحصى، فمنهم من يشهدُها - أو بعضَها - فيزدادُ لرّبه شكرًا، ومنهم من يجهلُها أو يتجاهلُها، فلا تزيدُه النِّعمُ إلا بَطَرًا وأَشَرًا، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أحاطَ بكلِّ شيءٍ علمًا .. وشملت رحمتُه الثَّقلين إنسًا وجنًّا .. وهي أقربُ للمحسنينَ وأظهرُ عند المسلمين. وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه حَذّر وأنذرَ أذيّةَ المسلمينَ، فكلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ، دمُه ومالُه وعِرضُه .. اللهمّ صلِّ وسلم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمّ عن الصحابةِ أجمعينَ والتابعين ومن تَبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬3). عبادَ الله: الأمنُ مَطلبٌ لنا جميعًا، والأمنُ مسئوليتُنَا جميعًا، والحياةُ لا طعمَ لها إذا فُقد الأمنُ، والأحياءُ تسودُ حياتَهُم الفوضى، وتنقلبُ السعادةُ إلى شقاءٍ إذا فُقدَ الأمنُ وعمّتِ الفوضى، والله تعالى يُذكِّرنا بنعمةِ الأمن في أكثرِ من موطنٍ في كتابه، ويربطُ ذلك بعبوديته، ويُحذّرُ من مَغبَّةِ فقده، والكفرِ بنعمِه، ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 22/ 2/ 1421 هـ (¬2) سورة المائدة، الآية: 35. (¬3) سورة التوبة، الآية: 119.

ويقول تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (¬1). ويقول جلّ ذكرهُ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (¬2). وهكذا يتضحُ أن حاجةَ الناسِ للأمنِ لا تقلُّ عن حاجتِهم للطعامِ، ولذا قيل: «الأمنُ أهنأُ عيشٍ، والعدلُ أقوى جيشٍ». وإذا تنافستِ الدولُ مسلمُها وكافرُها، قديمُها وحديثُها في رعايةِ الأمنِ وتوفيرِه لرعاياها، كان للإسلامِ - بحقّ - قَصَبُ السبقِ في توفيرِ الأمن، عبرَ ضوابطَ وحدود، وأخلاقٍ وآدابٍ، وحقوقٍ وواجباتٍ على الفردِ والمجتمعِ، لا يتوفرُ مثلُها أو قريبٌ منها في غيرِه، وكانَ للمسلمينَ - كذلك - ميزةٌ على غيرهم في توفيرِ الأمنِ بطواعيةٍ واختيار .. إذ كلُّهم بوازعِ الدينِ والرقابةِ الداخلية والقيامِ بِشعيرةِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر، يُشكّلونَ أنفسَهُم حُماةً للأمنِ يردعونَ الجُناةَ، ويكشفونَ أوكارَ الفسادِ، وينشرونَ المعروفَ، ويساهمونَ جميعًا في حراسةِ الفضيلةِ .. وتلك أيضًا لا تتوفرُ لغيرِهِم من الشُّعوبِ من أبناءِ المِللِ الأخرى. أيّها المسلمون: وما فئتتِ الدولُ المتقدمةُ تُطالبُ بحقوقِ الإنسان .. وهي نفسُها التي تُهلكُ الإنسانَ وتُؤذِي كرامتَه، وما فئتت هذه الدولُ تبحثُ عن ضماناتٍ تحفظُ الأخلاقَ، وتُصانُ بها الحقوقُ .. وهي بواقِعِها ووسائِلِها تُدمّرُ الأخلاقَ وتسحقُ الحقوق. ¬

(¬1) سورة قريش، الآيتين: 3، 4. (¬2) سورة النحل، الآية: 112.

أما نحنُ، معاشرَ المسلمينَ، فحقوقُنا محفوظةٌ، وآدميتُنا مكرّمةٌ، وأخلاقُنا الإسلاميةُ سياجٌ للكرامةِ والفضيلة .. وحدودُنا الإسلاميةُ مكفراتٌ ومطهراتٌ للجُناة، بل وفي قِصاصِنا حياةٌ - كما أخبر العليمُ القدير - حتى وإن اتهَمَنا الآخرونَ وشنُّوا حملاتِهم الظالمةَ على تنفيذِ أحكامِ اللهِ وحدودِه، وهم حينَ عجزوا عن الوصولِ إلى تطبيقِ هذه الأحكامِ، وأفلتَ المجرمونَ من أيديهِم، وتوسّعَ الخَرْقُ على الراقع، أرادوا أن يحسدُونا ويشوّهوا صورتَنا؛ لنرتكسَ في حَمَأَةِ الرذيلةِ التي ارتكسوا فيها .. ولتعودَ حياتُنا بهيميّةً كحياتِهم، ويأبى اللهُ ذلك والمؤمنون. إن البعضَ قد ينخدعُ بهذه الصيحاتِ الفاجرةِ، فيستصعبُ قتلَ القاتلِ أو رجمَ الزاني، أو قطعَ يدِ السارق - أو نحوها من الحدودِ، وينسى رحمةَ اللهِ بعبادِه عمومًا في تقريرِ هذه الأحكام، وما لها من آثارٍ في تقليلِ الجرائمِ والحدِّ من عنفوانِ المجرمين، وحماية المجتمع كلِّه من الفسادِ والمفسدين. يقولُ ابن تيميةَ رحمَهُ اللهُ: العقوباتُ الشرعيةُ كلُّها أدويةٌ نافعةٌ، يُصلحُ اللهُ بها مرضَ القلوبِ، وهي من رحمةِ اللهِ بعبادِهِ، ورأفتِه بهم الداخلةِ في قولِه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬1). فمن تركَ هذه الرحمةَ النافعةَ لرأفةٍ يجدُها بالمريض، فهو الذي أعانَ على عذابِه وهلاكِه، وإن كان لا يريدُ إلا الخيرَ؛ إذْ هو في ذلك جاهلٌ أحمقُ، كما يفعل بعضُ النساءِ والرجالِ بمرضاهم أو بمن يربُّونَهُم من أولادِهم وغلمانِهم في تركِ تأديبهم وعقوبَتِهم، على ما يأتونَه من الشرّ ويتركونه من الخيرِ رأفةً بهم، فيكونُ ذلك سبَبَ فسادِهم وعدوانِهم وهلاكهم (¬2). ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 107. (¬2) الفتاوى 15/ 290.

إخوةَ الإسلام: والعقوباتُ في الإسلامِ لا يُرادُ منها التسلّطُ على الأفراد، وليس فيها ظلمٌ لهم، وليست أكبرَ من جرائمِهم .. أجل لقد أحكمَ اللهُ سبحانه وجوهَ الزجرِ الرادعةِ عن هذه الجناياتِ غايةَ الإحكام، وشرَعها على أكملِ الوجوهِ المتضمنةِ لمصلحةِ الردعِ والزجرِ، مع عدم المجاوزةِ على الجاني، فلم يشرعْ في الكذِبِ قطعَ اللسانِ، ولا في الزنا الخِصاءَ، ولا في السرقةِ إعدامَ النفس، وإنما شرعَ لهم ما تزولُ به النوائبُ وتنقطعُ الأطماعُ، وما تكون سبيلًا إلى أن يقنَع كلُّ فرد بما قسمَ اللهُ له (¬1). إن أحكامَ اللهِ وحدودَه تؤمّنُ للناسِ الانتظامِ في عيشِهم، وتدفعُ عنهم الأضرارَ من غيرهم، يقول ابنُ القيم رحمَه اللهُ: «ولولا عقوبةُ الجُناةِ والمفسدينَ لأهلكَ الناسُ بعضُهم بعضًا، وفسدَ نظامُ العالَم، وصارتْ حالُ الدوابِّ والأنعامِ والوحوشِ أحسنَ من حالِ بني آدم» (¬2). أيّها المسلمون: وإذا كانت مسئوليةُ الأمنِ تحظى باهتمامِ الدولةِ - وفقها الله - بكافةِ أجهزتِها وقطاعاتِها، ويشهدُ المواطنونَ والمقيمونَ آثارَها، فينبغي أن نكونَ جميعًا عونًا لها في تحقيقِ هذا المطلبِ الضروريِّ للحياةِ والأحياء، فلا نتسترُ على مجرم، ولا نعينُ ظالمًا على ظلمِه، ولا نسمحُ لمن يريدُ أن يُخِلّ بالأمن، أو يهددَ الكرامة، أو يستهينَ بالخُلقِ الكريمِ، بل يجدرُ بنا أن نكونَ جميعًا حُرّاسًا أوفياءَ للفضيلةِ، وعيونًا ساهرةً لمحاصرةِ الجريمةِ، وكشفِ أوكارِ المفسدين. وإنَّ من السلبيةِ أن نرى أو نعلمَ ما يُخلُّ بالأمنِ ثم نتخلّى عن المسئوليةِ؛ ¬

(¬1) ابن القيم «إعلام الموقعين» 2/ 114، باختصار وتصرف يسير، وانظر «المسئولية الخلقية» أحمد الحليبي 467. (¬2) إعلام الموقعين 2/ 121.

بحجةِ أن هذه ليست من وظيفِتنا، علمًا بأن الفسادَ إذا وقعَ فلن نسلمَ من آثارِه جميعًا، والمجرمونَ إذا تجاوزونا إلى غيرنا حينًا .. فقد يتجاوزونَ غيرَنا ويصلونَ إلينا حينًا أخرى، والله تعالى أمرَنا بالتعاونِ على البِرِّ والتقوى، ونهانا عن التعاونِ على الإثمِ والعُدوان، ورسولُنا صلى الله عليه وسلم أخبرنا أننا إذا رأينا الظالمَ ثم لم نأخذْ على يديه أوشكَ اللهُ أن يعُمّنا بعقابٍ من عندِه. وعلينا جميعًا أن نتفطنَ ولا ننخدعَ بمن يُظهرونَ الخيرَ والنزاهةَ، ويبطنونَ الشرَّ ويتلبّسونَ سِرًّا بالجرائم، وإذا وُجِدَ مثلُ هؤلاءِ المخادعينَ في عصورِ الراشدين، فما الظن بغيرِهم، ودونكم هذه الحادثةَ فتأمَّلُوها. أخرجَ الإمامُ مالك في «موطأه» أن رجلًا من أهلِ اليمنِ أقطعَ اليدِ والرِّجلِ قدمَ المدينةَ، فنزلَ على أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه، فشكى إليه أن عاملَ اليمن قد ظلمَه، فكانَ يُصلّي من الليل، فيقول أبو بكر: وأبيكَ ما ليلُكَ بليلِ سارقٍ، ثم إنهم فقدوا عِقدًا لأسماءَ بنتِ عميس - امرأةِ أبي بكرٍ الصديقِ - فجعلَ الرجلُ يطوفُ معهم ويقولُ: اللهمَّ عليكَ بمن بيّتَ أهلَ هذا البيتِ الصالح. فوجدوا الحُلِيَّ عند صائغٍ زعمَ أن الأقطعَ جاءَ به، فاعترفَ به الأقطعُ أو شُهِدَ عليه بهِ، فأمرَ به أبو بكرٍ فقُطعتْ يدُه اليُسرى، وقال أبو بكر: واللهِ لدعاؤهُ على نفسِه أشدّ عندي عليه من سرقتِه (¬1). أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (¬2). ¬

(¬1) الموطأ مع شرح الزرقاني، كتاب الحدود: 4/ 159. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 82.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لله أكرمَنا بالإسلامِ وشرَّفَنا بالقرآن، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، منِ استمسكَ بشرعهِ فاز في الدنيا وأفلحَ في الأخرى، ومن أعرضَ عن سبيله فإن له معيشةً ضَنْكًا، ويُحشرُ يومَ القيامةِ أعمى. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه جاءَ ليتمّمَ مكارمَ الأخلاقِ، وكانت بعثتُه هدىً وتكريمًا للإنسان، أفلحَ وأنجحَ من اتبعَ هُداهُ، وضلّ وارتكسَ من حاربَه أو عاداهُ أو خالفَ هُداهُ. اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلينَ. أيّها المسلمون: وكما يتحقّقُ الأمنُ بوازعِ السلطانِ، والخوفِ من عقوبةِ الدنيا، يتحقَّقُ الأمنُ كذلكَ بوازعِ الإيمانِ، والخوفِ من عقوبةِ اللهِ في الآخرةِ، وإذا علمتم أثرَ الإيمانِ في تحقيقِ الأمنِ في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (¬1). فتأملوا أثرَ الكفرِ بأنعُمِ اللهِ بإلباسِ الناسِ لبوسَ الجوعِ والخوفِ بعدَ الأمنِ ورَغدِ العَيْش، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (¬2). إنه الإيمانُ والتُّقى؛ بهما تُفتَحُ بركاتُ السماءِ والأرضِ، وبهما يتحققُ الأمنُ والرخاءُ، ذلك وعدٌ غيرُ مكذوب، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬3). ومن هنا فعلينا أن نفهمَ الأمنَ بمفهومِه الشامل؛ الأمنُ الفكريُّ والعَقديُّ، ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 82. (¬2) سورة النحل، الآية: 112. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 96.

والأمن الخُلُقي والقِيَمي، والأمنُ الجنائي، والأمنُ الصحيُّ والغذائي، حين يُخلِصُ الأطباءُ وتتوفرُ الأجهزةُ والأدويةُ، حين لا يغشُّ المزارعونَ، ولا يحتكرُ البائعون، أجل إننا حين نغفلُ عن انتشارِ الأفكارِ الرديئةِ، ثم تتسللُ إلى عقولِ أبنائِنا وبناتِنا تحدثُ فيها جنوحًا نحوَ الجريمةِ، وتُسَهّلُ عليهم اقترافَها .. وكم تفعلُ القصةُ الهابطة، أو الروايةُ ذاتُ الفصولِ السيئة، أو الكِتابُ المنحرفُ، أو المقالةُ الداعيةُ للفجورِ، كم تفعلُ هذه وتلك من فعلٍ في العقولِ، وكم تُنشئُ من سلوكياتٍ محذورةٍ شاذةٍ، بها يهتزّ الأمنُ وتكونُ الجريمة. وحينَ نتسامحُ في زمالةِ الأديان، ونرضى أن يزاحم دينَ الإسلامِ الحقَّ أديانٌ محرّفةٌ، ونِحَلٌ فاسدةٌ، فلا شكّ بأثرِ ذلك على الأمنِ العقديِّ؛ إذ يُحدثُ هؤلاءِ من الجرائمِ ما هو مسموحٌ لهم في أديانهم، وليسَ كذلك في دينِنَا، بل ربما فَتنوا العامةَ بشعائرهِم وطقوسِهِم، فَخلّفَ أثرَه على الأمن، ولا شكّ أن العقائدَ المنحرفةَ، والتصوراتِ الفاسدةَ تقودُ إلى سلوكياتٍ منحرفة تُخِلُّ بالأمن. أما الأمنُ الخُلقيُّ والقِيَمي فيكونُ برعايةِ الأخلاقِ الفاضلةِ، وحمايةِ القيمِ الإسلاميةِ من التلوثِ والانحدار، ويوم لا يكونُ قيمةٌ للخُلُقِ ولا رعايةٌ للقيم، يومَها تتحولُ الحياةُ إلى مسرحٍ للفوضى؛ يأكلُ القويُّ الضعيفَ، وحينها ينفرطُ عقدُ الأمنِ، وتشيعُ الفاحشةُ، ويكثرُ المجرمون، وتتوارى الفضيلةُ والفضلاءُ. أما الأمنُ الجنائيُّ فيتحققُ يومَ لا يُسمحُ للسارقِ بأخذِ حقِّ غيرِه، ولا لصاحبِ المُسْكرِ أو المُخدّرِ أن يُحدِثَ الضررَ بنفسِه أو بمن حوله، ولا للأحمقِ والأهوجِ أن يقتلَ أو يضربَ من اختلفَ أو تنازعَ معَه، ولا لأصحابِ الشهواتِ أن يقضوا وَطَرَهُم فيما حرّم اللهُ عليهم، أو يُمكَّنُ الأحداثُ من قيادةِ السياراتِ دون استشعارٍ للمسئوليةِ؛ فيُهلِكوا أَنْفسهم وغيرَهم، أو نحو ذلك من ممارساتٍ أو اغتصابٍ تُحدثُ فجوةً في الأمنِ لا تُحمدُ عُقباه.

عبادَ الله: إن مسئولِيّتَنا الشرعيةَ والخُلقيةَ والوطنيةَ توجبُ علينا المساهمةَ في الحفاظِ على الأمن، وردعِ وفضحِ من تُسوِّلُ لهم أنفسُهُم العبثَ بأمنِ البلادِ والعبادِ، وينبغي ألا تَجُرَّنا العواطفُ للتسامحِ والتساهل، أو الوساطةِ للمجرمين، أو الشفاعةِ في الحدود. لقد عدَّتِ الشريعةُ الإسلاميةُ الشفاعةَ في إسقاطِ الحدِّ، أو العدولَ عنه، جَوْرًا مُهلِكًا، وقال صلى الله عليه وسلم مُنكِرًا على أسامةَ بن زيدٍ رضيَ اللهُ عنهما شفاعَتَه في إسقاطِ حدِّ السرقةِ عن المخزوميةِ التي سرقتْ، وأَهَمَّ قريشًا أمرُها: «أتشفعُ في حَدٍّ من حدودِ الله؟ ! ». ثم قامَ خطيبًا في المسلمين - يعلِّمُهم ومَن وراءَهم من المسلمين - كيف يكون العدلُ ويقول: «أيها الناسُ، إنما ضلَّ من كان قبلَكُم أنهم كانوا إذا سرقَ الشريفُ تَركُوه، وإذا سرقَ الضعيفُ فيهم أقاموا عليه الحَدَّ، وأيمُ اللهِ، لو أنّ فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقتْ لقطعَ محمدٌ يدها» (¬1). إخوةَ الإسلام: إن الحديثَ عن الأمنِ والمساهمةِ في توفيرهِ ينبغي أن تشاركَ فيه المؤسساتُ التربويةُ والعلميةُ، والأجهزةُ الإعلاميةُ، فضلًا عن الأجهزةِ المعنيةِ بالأمن، ينبغي أن يكونَ همًّا يُحِسُّ به الأولياءُ ويتحسّبُ لآثاره الأبناءُ، وإذا تميزَ أبناءُ المجتمعاتِ الإسلامية بشعيرةِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكرِ عن المجتمعاتِ الأخرى، فينبغي أن تُستثمرَ هذه الشعيرةُ العظيمةُ في تحقيقِ الأمنِ وكفِّ المجرمينَ. إننا - بحمد الله - نعيشُ في هذه البلادِ حالةً أمنيةً لا نظيرَ لها في عالم اليوم، وإن وُجِدَتْ أحداثٌ وقضايا تُخلّ بالأمن أحيانًا فتلكَ - مع عدمِ خُلوّ مجتمع ¬

(¬1) رواه البخاري في «صحيحه» كتاب الحدود، باب كراهية الشفاعة في الحدِّ، برقم (6788)، ومسلم في «صحيحه» كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف والنهي عن الشفاعة في الحدود، برقم (1688) كلاهما من حديث عائشة رضي الله عنها.

منها أو قريبٍ منها - هي كذلك تخفُّ إذا تضافرتِ الجهودُ على مراقبةِ أصحابِهَا من قِبَلِ عمومِ المجتمعِ، وتخفُّ كذلك كلّما نشِطتِ الجهاتُ المعنيةُ بالأمنِ على الإخلاص في عملِها وتحديثِ أساليبها، وتطويرِ الأداءِ لدى الأفرادِ العاملين فيها. أما تطبيقُ الحدودِ، وإحالةُ المجرمينَ للقضاءِ، فلا شكّ أنها ضمانٌ بإذن اللهِ لنشرِ العدلِ وتحقيقِ الأمنِ. أما التوعيةُ بقيمةِ الأمنِ والتحذيرِ من ارتكابِ المحظوراتِ والجرائمِ بوسائلَ مختلفةٍ، فتلكَ وسيلةٌ وقائيةٌ غايةٌ في الأهميةِ؛ لأننا لا نفرحُ بوجودِ المجرمِ لنعاقبَهُ، بل نُسرُّ لانخفاضِ معدلِ الجرائم واستصلاحِ المجرمين، وفتحُ بابِ الأملِ والتأكيدُ على قيمةِ التوبةِ، يُسهمُ كذلك في استصلاحِ مَنْ به فسادٌ وعنده استعدادٌ للصلاحِ ونسيانِ الماضي، وفي الحديثِ الحسن «التائبُ من الذَّنبِ كَمَنْ لا ذنبَ له» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه في «سننه» كتاب الزهد، باب ذكر التوبة برقم (4250) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وحسنه السخاوي في «المقاصد الحسنة» (152)، وحسَّنه الألباني.

تسع قوارب للنجاة من الفتن

تسع قوارب للنجاة من الفتن (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا. إخوةَ الإيمانِ: ليس شيءٌ في الوجودِ أغلى من الإيمان .. وما من نعمةٍ امتَنّ اللهُ بها على الإنسان أعظمُ من نعمةِ الإسلام - وما من بلاءٍ أشدُّ من الفتنةِ في الدّين - فالفتنةُ أشدُّ من القتل، بنصِّ القرآنِ. والفتنةُ سُنةٌ ربانيةٌ جاريةٌ في الأوّلين والآخرين، ليتبينَ الصادقون من الكاذبين: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (¬2). والفتنُ التي يمكنُ أن يتعرّضَ لها المسلمُ أو المسلمةُ أنواعٌ؛ فمنها الفتنُ في الأهلِ والولدِ، ومنها الفتنةُ بالمالِ أو الجَاهِ، ومنها الفِتنُ بانتشار المُنْكراتِ وكثرةِ الدُّعاةِ على أبواب جهنّمَ، ومنها فتنُ الشّهواتِ، وفتنُ الشُّبُهاتِ، واختلاطُ الحقِّ بالباطلِ، وكثرةُ الاختلافِ، وغَلَبةُ الأهواءِ، هناك فتنةُ الأحياءِ، وفتنةُ الأمواتِ، وفتنةُ المسيحِ الدّجالِ، إلى غيرِ ذلك من أنواعِ الفتنِ .. وليس ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 13/ 11/ 1421 هـ (¬2) سورة العنكبوت، الآيات: 1 - 3.

المَقامُ مَقامَ حصرٍ لها، ولكنّ حديثَ اليوم يُعني ببيان المَخْرجِ من الفتنِ والحَذَرِ منها، ووسائلِ الخروجِ وقواربِ النّجاةِ منها. وأبدأُ هذه الوسائل المعينةَ على السلامةِ من الفتن، بما عمله الرسولُ صلى الله عليه وسلم ألا وهو: 1 - الدعاءُ والتعوذُ باللهِ من الفتن .. واللهُ تعالى هو ملاذُ المسلم في كلِّ حالٍ، فكيف في أزمان الفتن؟ روى البخاريُّ ومسلمٌ وغيرُهُما منِ حديثِ عائشةَ رضي الله عنها، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهمّ إني أعوذُ بكَ من الكَسَلِ والهَرَمِ، والمَأْثَمِ، وعذابِ النارِ، ومن شَرِّ فتنةِ القبرِ، وعذابِ القبرِ، ومن فتنةِ النارِ، وعذابِ النار، وأعوذُ بكَ من فتنةِ المسيحِ الدّجالِ ... » (¬1). وفي الحديث الصحيح الآخر، قال صلى الله عليه وسلم: «وأعوذُ بك من فتنةِ المَحْيَا والمَمَات» (¬2). فهل نلجأ إلى اللهِ في كلِّ حينٍ .. وكلّما اشتدت الفِتَنُ زدنا في الضّراعةِ واللُّجوءِ. 2 - الحذرُ من الانتكاسةِ في الفتن، حين لا يَعرفُ الإنسانُ المعروفَ ولا يُنكِرُ المنكرَ .. قال حذيفةُ رضيَ اللهُ عنه: كنّا عند عمرَ رضيَ اللهُ عنه يومًا فقال: أَيُّكم سَمِعَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذكرُ الفِتنَ؟ فقال قومٌ: نحن سمعناه، فقال: لعلَّكم تعنونَ فتنةَ الرجلِ في أهلهِ وجارهِ؟ قالوا: أجلْ، قال: تلك تُكفّرُها الصلاةُ والصيامُ والصدقةُ، ولكن أيُّكُم سمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَذكرُ الفتنَ التي تموجُ موجَ البحرِ؟ قال حذيفةُ: فَأَسْكَتَ القومُ، ¬

(¬1) أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الدعوات، باب الاستعاذة من أرذل العُمر، ومن فتنة الدنيا، وفتنة النار برقم (6375)، ومسلم في «صحيحه» مختصرًا برقم (587) و (589)، وأخرجه بطوله برقم (49). (¬2) أخرجه البخاري برقم (6363)، ومسلم برقم (2706).

فقلتُ: أنا، قال: للهِ أبوكَ. ثم قال حذيفةُ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «تُعرَضُ الفِتنُ على القلوبِ كالحصيرِ عُودًا عُودًا - أي كما يُنسجُ الحصيرُ عودًا عودًا - فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَ فيه نُكتةٌ سوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنكَرَها نُكِتَ فيه نُكتةٌ بيضاءُ، حتى تصيرَ على قلبينِ: على أبيضَ مثلِ الصَّفا فلا تضرُّه فتنةٌ ما دامتِ السماواتُ والأرضُ، والآخرَ أسودُ مُرْبادًّا - أي بياضٌ يسيرٌ فيه سواد - كالكوزِ مُجَخِّيًا - أي مَنكوسًا - لا يعرفُ معروفًا ولا يُنكِرُ منكرًا، إلا ما أُشرِبَ من هَواهُ» (¬1). 3 - الحذرُ من السير في رِكاب المنكَر، والسلامةُ إنما تكونُ في الإنكارِ، روى مسلمٌ في «صحيحه» عن أمِّ سلمةَ رضيَ اللهُ عنها: أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «ستكونُ أمراءُ فتعرفونَ وتُنكِرونَ، فمن عَرَفَ فقد بَرِئَ، ومن أنكرَ سَلِمَ، ولكنْ مَنْ رضيَ وتابَعَ». قالوا: أفلا نُقاتِلُهم؟ قال: «لا، ما صَلَّوا» (¬2). قال النوويّ - في شرحه للحديث - قوله: «مَنْ عرفَ فقد بَرئَ» معناه: من عرف المنكرَ ولم يَشتبه عليه فقد صارت له طريقٌ إلى البراءةِ مِنْ إثمِهِ وعقوبتهِ؛ بأنْ يُغيّرَه بيديهِ أو بلسانِه، فإن عَجَزَ فليكرهْه بقلبهِ. وقوله: «ولكن من رضيَ وتابع». أي: ولكن العقوبةَ والإثمَ على من رضي وتابع (¬3). فهل نحذر من المنكراتِ - وما أكثرَها - بما نستطيعُ من درجات الإنكارِ .. ففي ذلك سلامةٌ لنا أولًا، قبل سلامةِ الواقعين في المنكرِ، ومن تهاونَ أو قصّر فلا يلومَنّ إلا نفسَه! 4 - السيرُ في رِكابِ جماعةِ المسلمين وإمامِهم .. فذلك مَخْرَجٌ من الفتن، ¬

(¬1) رواه مسلم (144)، وأحمد 5/ 386، 405، والبخاري شطره الأول 525. (¬2) رواه مسلم برقم (1854)، وأبو داود برقم (4760). (¬3) صحيح مسلم بشرح النووي للحديث السابق.

وقاربٌ من قواربِ النّجاةِ بإذن اللهِ .. عن حذيفةَ رضيَ اللهُ عنه قال: كان الناسُ يسألونَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الخيرِ، وكنتُ أسألُه عن الشرِّ مخافةَ أن يُدرِكَني، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنّا كنّا في جاهليةٍ وشرٍّ، فجاءنا اللهُ بهذا الخيرِ، فهل بعد هذا الخيرِ من شرٍّ؟ قال: «نَعَم». قلتُ: وهل بعد ذلك الشرّ من خيرٍ؟ قال: «نعم، وفيه دَخَنٌ» - أي كَدَرٌ - قلتُ: وما دَخَنَهُ؟ قال: «قومٌ يَهْدُونَ يغير هَدْيِي؛ تَعرفُ منهم وتُنكِرُ». قلت: فهل بعد ذلك الخيرِ من شرّ؟ قال: «نعم، دُعاةٌ على أبوابِ جهنّمَ، مَن أجابَهم إليها قَذَفوه فيها». قلتُ: يا رسولَ الله، صِفْهُم لنا، قال: «هُم من جِلْدَتِنا؛ ويتكلّمون بألسِنتنا». قلتُ: فما تأَمُرُني إنْ أدرَكَني ذلك؟ قال: «تلزمُ جماعةَ المسلمين وإمامَهُم». قلتُ: فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمام؟ قال: فاعتزِلْ تلكَ الفرق كلَّها، ولو أنْ تَعَضَّ بأصلِ شجرةٍ حتى يُدْرِكَكَ الموتُ وأنتَ على ذلك» (¬1). رضيَ اللهُ عنك يا حذيفةُ وأنتَ الرجلُ الحَصيفُ، وما زلتَ تستخبرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الفتنِ، وتسألُ عن ملامِحِها وهويّةِ أصحابِهَا، حتى كشفَ الرّسولُ صلى الله عليه وسلم لك وللأُمة من وَرائكَ الأمرَ، وأَرشدَ إلى المَخْرج .. فهؤلاء الدُّعاةَ إلى الباطل ليسوا يهودًا ولا نصارى ولا أعاجم، بل هم من جِلْدَتنا ويتكلّمون بألسنتنا، وما أخطرَ الغَزوَ إذا كان من الداخل .. والمَخرجُ بلزوم جماعةِ المسلمين وإمامِهم، وأن يحرصَ المسلمُ على أن يكونَ من الطائفةِ المنصورةِ، فأولئك لا تضرُّهم الفتنُ حتى يَلْقَوا ربَّهم وهو راضٍ عنهم، وأولئك هم الغرباءُ الذين يَصْلحون إذا فسدَ الناسُ، أو يُصلِحون ما أفسدَ الناسُ، وأولئك قال عنهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا تزالُ طائفةٌ من أُمتي يُقاتِلونَ على الحقِّ، ظاهرينَ على من نَاوأَهُم ¬

(¬1) متفق عليه، خ (3606)، م (1847).

حتى يُقاتِلَ آخِرُهُم المسيحَ الدّجالَ» (¬1). فإن لم يكن فالعزلةُ والفِرارُ بالدين، حتى يموت المسلمُ دون الفتن ولو عضّ على أصلِ شجرة. 5 - الرّكونُ إلى العلم والتثبّتُ من الأخبار، وعدمُ الخوضِ بالباطل، أو اعتبارُ القصصِ الواهيةِ والشائعاتِ أساسًا للحُكمِ والتقييم. أجل، إنَّ العلماءَ الرَّبانيين أبعدُ الناس وقوعًا في الفتن، يحفظُهمُ اللهُ بالعلم النافع، وفي «صحيح البخاريِّ» عن أبي بكرةَ رضيَ الله عنهُ قال: لقد نفعَني اللهُ بكلمةٍ سمعْتُها من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أيامَ الجَمَلِ بعد ما كِدْتُ أنْ ألحقَ بأصحابِ الجَملِ فأُقاتلَ معهم، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهلَ فارسَ قد ملَّكوا عليهم بنتَ كسرى قال: «لن يُفلحَ قومٌ وَلّوْا أمْرَهم امرأةً» (¬2). وبالعلم النافع يميز المرءُ بين الحقِّ والباطل، وسُلطةُ الشيطان على العلماء أقلّ من سُلطتِه على العوامّ والجَهلةَ؛ فهو يتلاعبُ بهؤلاء وتسقط حِيَلُه عند عَتَباتِ العلم والعلماء، وصدق الله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬3). {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (¬4). إن التثبتَ من الأخبار من سِيما العلماءِ، أما التخوُّضُ في الباطل واعتمادُ أخبارِ الفاسق، والاتّكاءُ على القصص والحكاياتِ الغريبةِ؛ فذلك شأنُ الجهلةِ الذين يطيرون بأيِّ خَبَرٍ يسمعونَه، وتأملوا قولَ ابنِ عمرَ رضيَ الله عَنهما في انتشارِ القصصِ ¬

(¬1) رواه أحمد وأبو داود وغيرهما .. وهو من روايات الطائفة المنصورة (انظر سلمان العودة صفة الغرباء 148). (¬2) أخرجه خ (4425) و (7099)، أحمد (5/ 43، 47، 51). (¬3) سورة الزمر، الآية: 9. (¬4) سورة المجادلة، الآية: 11.

في زمان الفتن، حيث قال: لم يكن يُقَصّ في زمانِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر ولا عثمان، إنما كان القَصصُ في زمن الفتنة (¬1). وعلى سبيل الاحتياط والتحفُّظ نهى الرسولُ صلى الله عليه وسلم عن إتيان الدَّجال فقال: «مَنْ سمعَ بالدّجالِ فلا يأتِه، فإن الرَّجلَ يسمعُ به ويقول: أنا أعرفُه، إنه الكذابُ، ثم لا يلبثُ أن يذهبَ إليه فيَتْبَعُه» (¬2). ويمتد أثرُ العلماءِ من هذه الحياةِ إلى مشاهدِ القيامةِ حين يشهدون على أهلِ الفتنِ والأهواءِ والفجورِ بالتمتيع والإنظار في الحياة الدّنيا، بخلاف ما كانوا يتوهّمون: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬3). عبادَ الله: ومن لم يستطعْ أن يُلِمَّ بالعلم من أطرافِهِ، فلا أقلَّ من العلم بأنواعِ الفتنِ وأسبابِها، وقواربِ النجاةِ من الفتن، وإذا لم يكن لديهِ قدرةٌ على معرفةِ ذلك بنفسِهِ فليسأل أهلَ العلمِ بذلك، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬4). واحذروا الفتنَ أيها المسلمون ما ظهرَ منها وما بطن، وتذكروا عُظْمَ وَقْعِها، وتعوَّذوا بالله منها، وتوبوا إلى بارئِكُم، ولا تكونوا ممَّن قال اللهُ فيهم: {أَوَلَا ¬

(¬1) رواه ابن حبان في الموارد (111) وإسناده صحيح وهو موقوف على ابن عمر (المحمود، خطب الجمعة ص (63)). (¬2) معنى حديث صحيح رواه أحمد من حديث عمران بن حصين 4/ 431، 441، وأبو داود (4319). (¬3) سورة الروم، الآيتين: 55، 56. (¬4) سورة النحل، الآية: 43.

يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (¬1). عصمني اللهُ وإياكم والمسلمينَ من الفتن، ورزقنا العلمَ النافعَ والعملَ الصالحَ، أقول ما تسمعونَ وأَستغفرُ اللهَ لي ولكم. ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 126.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، يبتلي عبادَهُ بالشرِّ والخير فتنةً، ويوفّق مَنْ شاءَ لطاعتِه، ومن يضللِ اللهُ فما له من هادٍ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه، لا ملجأَ ولا مَنْجا منه إلا إليه، وهو الذي يُفَرُّ إليه ويُعتَصمُ به، وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، بيّن بسُنّتهِ القوليةِ وسيرَتِه العمليةِ كيف يكون الفرارُ من الفتن وسُبلَ النجاة منها .. اللهمَّ صلّ وسلِّم عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلين. إخوة الإسلام: 6 - ومن قوارب النّجاةِ في أزمان الفتنِ: العبادةُ الحقّةُ لله، والعبادةُ لله - بشكل عام - هدفُ الوجودِ من الحياة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬1). وتشتد الحاجةُ للعبادة كلّما اشتدتِ الفتنُ وتلاحقتْ؛ ذلك لأنَّ الإنسانَ يأنسُ بالعبادةِ وينشرحُ صدرُه، ويطمئنُّ قلبُه، وبها يحرُسه اللهُ من وَسوسةِ الشياطين وإغوائِهم، وحين ينقطعُ القلبُ عن خالقهِ تستحوذُ عليه الشياطينُ ويقع في أنواع الفتن .. والبيتُ الخَرِبُ - غالبًا - مأوى للشياطين. لقد أرشد النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى العبادةِ وحَثَّ على المبادرة عليها في أوقاتِ الفتن؛ فقال: «بادِروا بالأعمالِ الصالحةِ فِتَنًا كَقِطَعِ الليلِ المُظلمِ، يُصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويُمسي كافرًا» (¬2). وبيّن عليه الصلاةُ والسلام قَدْرَ العبادةِ وقيمتَها في أوقاتِ الفتن فقال: ¬

(¬1) سورة الذاريات، الآية: 56. (¬2) أخرجه مسلم في «صحيحه» برقم (118)، وأحمد في «مسنده» 2/ 304، 372، والترمذي في «جامعة» برقم (2196).

«العبادةُ في الهَرْج كَهِجْرَةٍ إليّ» (¬1). والهرجُ: استحكامُ القتل بين المسلمين، وهو نوعٌ من الفتن. أيها المسلمون: وفرقٌ بين من يشتغلون - أوقاتَ الفتن - بالقيلِ والقالِ وتخطئةِ هذا وتصويبِ ذاكَ، أو بمجرَّدِ ذِكر أنواع الفتن وما بُليَ به الناسُ دون أن يكون هناك عملٌ صالحٌ، أو دعوةٌ للإصلاح، وبين من يشتغلون بعبادةِ ربِّهم في حالِ خَلَواتِهم، ويعملونَ في الدعوةِ والإصلاحِ وتسكينِ الفتنِ في حالِ اجتماعِهِم بالناس. 7 - أيُّها الناسُ: والدعوةُ إلى اللهِ وإلى سبيلِه قاربٌ آخرُ من قواربِ النجاةِ، فالدُّعاةُ إلى الله يُحذِّرون من الوقوع في الفتن، ويرشدون إلى سُبلِ النَّجاةِ منها، وأول ما يُنقذُ الدعاةُ أنفُسَهم، فليس من الدعوةِ الحقَّةِ أن ينهى الدعاةُ غيرَهم عن الفتنِ وهم واقعون فيها، وكم وقى اللهُ من فتنةٍ بسببِ جهودِ الدُّعاةِ وتوفيق اللهِ لهم، وكم أحيا اللهُ بالدعوةِ أشخاصًا كانوا غارقين في الفتن. إن الفرقَ كبيرٌ بين من يُحيون الأمةَ بالدعوة، ويُجدِّدون عَزْمها ويزيدون من إيمانها .. وبين من هَمُّهُم التثبيطُ والإحباطُ والحكمُ على الناس بالهلاك، دون تقديمِ أيِّ جُهْدٍ في الإصلاح، وفي الحديث: «مَنْ قالَ: هَلَكَ الناسُ فهو أهلكُهُم». وفي رواية: «فهو أهلَكَهُم». وعلى أيِّ المعنييْنِ سواء كان هو أشدَّهم هلاكًا، أو كان السببَ في إهلاكِهم، فذلك معنىً سلبيٌّ، وتلك سلبيةٌ لا تليقُ بالمسلم بشكل عامّ، ولا ينبغي أن يكون ذلك جهدَه في وقتِ الفتن على وجْهِ الخصوص. ¬

(¬1) أخرجه مسلم برقم (2948).

فهل يا تُرى ينشطُ المسلمون للدعوة في كلّ زمانٍ، ويشتد نشاطُهم للدعوة في أزمان الفتنِ لشدةِ الحاجة لدعوتِهم؟ 8 - وفي سبيل النجاةِ من الفتن لا بد من تحرير مصطلَحِ الفتنة ووضْعِه في موضعِه الشرعيِّ، كما جاءتْ به نصوصُ الكتابِ والسُّنةِ، وكما فَهمَه سَلَفُ الأُمةِ .. ولا ينبغي أن يكونَ مصطلحُ الفتنةِ كلًا مباحًا لكلِّ ناعقٍ .. أو بضاعةً مُزجاةً يُطلقها الجهالُ كيف شاءوا وعلى من شاءوا .. أو متنفَّسًا لأهلِ الأهواءِ يرمون بها مَن خالفهم ولو كان محقًّا. إن الاختلاطَ في مفهومِ الفتنةِ قد يجعلُ من الحقِّ فتنةً، وقد يُصوِّرُ أهلَ الحقِّ أصحابَ فتنةٍ، وبالعكس فقد يَظهَرُ الباطلُ بصورةِ الحقِّ، وقد يُلمَّعُ المنافقُ فيقال: ما أظرفَه! وما أحسنَ مَنْطِقَه! وإن كان رصيدُه من الإيمان قليلًا .. ومن الخُبثِ والفجور كمًّا كبيرًا .. والعالِمون بكتابِ اللهِ وسنةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم هم القادرون على ضبطِ مصطلحِ الفتنةِ وتحديدِ هُويّة أهلِ الفتن. إخوة الإيمان: 9 - والرفقةُ الصالحةُ معينةٌ على تجاوز الأزَماتِ والفتنِ، ولقد أوحى اللهُ إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم - فيما أوحى - {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (¬1). وليس عَبَثًا أن يقولَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لا تُصاحِبْ إلا مؤمنًا، ولا يأكلْ طعامَكَ إلا تقيٌّ» (¬2). ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 28. (¬2) رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح: صحيح سنن أبي داود 3/ 917.

وهو القائل: «المرءُ على دينِ خَليلهِ، فلينظرْ أحدُكم من يُخَالِل» (¬1). ولذا قال جماعةٌ من السلف: «اصْحَبْ من يُنهضُكَ حالُه، ويدُلُّك على الله مَقالُه» (¬2). وإذا كان أثرُ القرينِ الصالح على قرينه مشهورًا في دلالتهِ على الخير ومَنْعهِ من الشرور والفتن، فَلِقرينِ السُّوءِ أثرٌ عكسيٌّ سلبيٌّ، وتأمل هذا الحوارَ القرآنيَّ في أثرِ الرفيق: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} (¬3). وتأمل كذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (¬4). عبادَ الله: تلك قواربُ تسعةٌ للنجاةِ من الفتنِ، وهي إجمالًا: 1 - التعوذُ من الفتن بالدُّعاءِ. 2 - الحذرُ من الانتكاسةِ في الفتن. 3 - الحذر من السيرِ في رِكابِ المنكراتِ والحرصُ على إنكارِها. 4 - السيرُ في ركاب جماعةِ المسلمينَ وإمامِهم، والحرصُ على أن يكون المسلمُ من الطائفةِ المنصورةِ. 5 - العلمُ والتثبُّتُ وعدمُ اعتمادِ القصصِ والشائعاتِ. 6 - لزومُ العبادةِ والإكثارُ من القُرُباتِ. ¬

(¬1) رواه أحمد وابو داود، انظر صحيح سنن أبي داود 3/ 917. (¬2) روحانية الداعية: عبد الله علوان، صفات الداعية، حمد العمار ص 65. (¬3) سورة الصافات، الآيات: 51 - 57. (¬4) سورة الزخرف، الآيتان: 36، 37.

7 - الدعوةُ إلى الله، والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ. 8 - تحريرُ مصطلح الفتنة، وعدمُ الخلطِ بينها وبين الإيذاءِ في سبيل اللهِ. 9 - اختيارُ الرفقةِ الصالحة، والحذرُ من قرينِ السُّوءِ. ألا فاحذروا أيها المسلمون أن تفتنوا أنفسَكم، أو تفتِنوا غيرَكم عن الدخولِ في الإسلام؛ بسبب تقصيركم وضعفِكم، وذلك من عجائبِ مواقع الفتنِ ومعانيها، وتلك التي حذرَ منها إبراهيم الخليلُ ومَن معه حين قالوا: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} (¬1). قال قَتادةُ رحمَه اللهُ: «المعنى: لا تُظهِرْهم علينا فيُفَتنوا بذلك؛ يَرَون أنهم إنما ظهروا علينا لحقٍّ هم عليه» (¬2). إن الفتنة تقعُ حين يرضى المسلمون بالهَوانِ، ويتركون الجهادَ في سبيل اللهِ، وينحرفون في سلوكياتِهم، فيصُدّون غيرَهم عن الدخولِ في دينِ الله، وتلك قاصمةٌ من القواصِمِ. ¬

(¬1) سورة الممتحنة، الآية: 5. (¬2) ذكره ابن جرير في «تفسيره».

فوائد مختارة، والصحابي الذي اهتز له عرش الرحمن

فوائد مختارة، والصحابي الذي اهتز له عرش الرحمن (¬1) الخطبة الأولى: إخوةَ الإسلام: ما أحوجَنا على الدوامِ للتفكيرِ في المبدأ والمعادِ، وحقيقةِ الحياةِ، ومصيرِ الأحياءِ، وطبيعةِ الحياةِ الدُّنيا والسعيِ للآخرة. وسأختارُ لكم قُصاصاتٍ معبِّرةً، وفوائدَ مختارة، تنيرُ الطريقَ، وتُبصِّرُ السالكَ، سطَّرها يَراعُ العلماء، وإنما أرادوا بها تنبيهَ الغافلِ .. وشحذَ الهِمَمِ. الفائدةُ الأولى: المبدأُ والمعادُ حقيقةٌ يؤمنُ بها المؤمنونَ، ويرتابُ فيها الكافرونَ والمنافقونَ، وبراهينُ المعادِ، وأدلَّتُه في القرآنِ كثيرةٌ، وهي مبينةٌ على أصولٍ ثلاثةٍ: أحدها: تقريرُ كمالِ علمِ الربّ سبحانه وتعالى، كما جاء الردُّ على من قال: «من يُحيي العظامَ وهي رميمُ» {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (¬2). الأصل الثاني: تقريرُ كمالِ قدرتهِ تعالى كقولهِ تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} (¬3). وقوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} (¬4). الأصل الثالث: كمالُ حكمتهِ، كقولِه تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} (¬5). وقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 1/ 11/ 1421 هـ. (¬2) سورة يس، الآية: 79. (¬3) سورة يس، الآية: 81. (¬4) سورة القيامة، الآية: 4. (¬5) سورة الأنبياء، الآية: 16.

تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} (¬1). قال ابنُ القيِّم رحمَه اللهُ: ولهذا كان الصوابُ أن المعادَ معلومٌ بالعقلِ مع الشرعِ، وأن كمالَ الربِّ تعالى وكمالَ أسمائه وصفاتِه تقتضيه وتُوجِبُه (¬2). الفائدةُ الثانية: للعبدِ سترٌ بينَه وبين اللهِ، وسِترٌ بينه وبين الناسِ، فمن هتكَ السترَ الذي بينه وبين اللهِ، هتكَ اللهُ السترَ الذي بينه وبين الناسِ. وللعبدِ ربٌّ هو ملاقيهِ، وبيتٌ هو ساكِنُهُ، فينبغي له أن يسترضيَ ربَّه قبل لقائِه، ويعمرَ بيته قبل انتقالِه إليه. الفائدةُ الثالثة: قالوا: أصولُ الخطايا كلُّها ثلاثةٌ: الكِبرُ، والحِرصُ، والحَسدُ. فالكِبرُ هو الذي أصارَ إبليسَ إلى ما أصارَهُ، والحرصُ هو الذي أخرجَ آدمَ من الجنةِ، والحسدُ هو الذي جرّأَ أحدَ ابنَي آدمَ على أخيهِ، فمن وُقِيَ شرَّ هذه الثلاثةِ فقد وقيَ الشرَّ، فالكفرُ من الكِبرِ، والمعاصي من الحِرصِ، والبغيُ والظلمُ من الحسدِ. الفائدة الرابعة: احذر يا عبدَ الله من هجرِ القرآنِ، وهجرُ القرآنِ أنواع: فمنها: هجرُ سماعِه والإيمانِ به والإصغاءِ إليه. الثاني: هجرُ العملِ به والوقوفِ عند حلالِه وحرامِه وإن قرأه وآمنَ به. الثالث: هجرُ تحكيمِه والتحاكمِ إليه في أصولِ الدينِ وفروعهِ. الرابع: هجرُ تدبُّرهِ وتفهُّمِه ومعرفةِ ما أرادَ المتكلمُ به منه. الخامس: هجرُ الاستشفاءِ والتداوي به في جميعِ أمراضِ القلوبِ ودوائها، فيطلبُ شفاءَ دائه من غيره ويهجرُ التداوي به، وكلُّ هذه الأنواع من الهجرِ داخلةٌ ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآيتين: 115، 116. (¬2) الفوائد (29).

في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (¬1). الفائدةُ الخامسة: من قواطعِ سيرِ المرءِ عن الآخرةِ تعلُّقُه بالمألوفِ من ملاذِّ الدُّنيا، وقد يخيلُ الشيطانُ للإنسانِ بصعوبةِ تركِ المألوفِ، وإنما يجدُ المشقةَ في تركِ المألوفاتِ والعوائدِ من تركها لغيرِ اللهِ، أما مَنْ تركَها صادقًا مخلصًا في قلبهِ لله، فإنه لا يجدُ في تركِها مشقةً إلا في أوّلِ وهلةٍ ليُمتَحنَ أصادقٌ هو في تركِها أم كاذبٌ، فإنْ صبرَ على تلك المشقةِ قليلًا استحالتْ لذةً. وهذه الفائدةُ تشجعُ المبتَلينَ على تركِ ما ابتُلوا من أمورٍ محرَّمةٍ. الفائدةُ السادسة: قال بعضُ الزُّهادِ: ما علمتُ أن أحدًا سمعَ بالجنةِ والنارِ، تأتي عليه ساعةٌ لا يطيعُ اللهَ فيها بذكرٍ أو صلاةٍ أو قراءةٍ، أو إحسانٍ، فقالَ له الرجلُ: إنِي أُكثرُ البكاءَ، فقال: إنك إن تضحكْ وأنت مُقرٌّ بخطيئتكَ، خيرٌ من أن تبكي وأنت مُدِلٌّ على الله بعملِكَ .. ثم قال الرجلُ للزاهد: أوصني، فقال: دَعِ الدُّنيا لأهلِها كما تركوا همُ الآخرةَ لأهلِهَا، وكن في الدُّنيا كالنحلةِ؛ إنْ أكلتْ أكلت طيبًا، وإن أطعمتْ أطعمتْ طيبًا، وإنْ سقطتْ على شيءٍ لم تكسِرْهُ ولم تخدِشْهُ. الفائدةُ السابعة: في ظلال قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬2). ففي هذه الآية عِدّةُ أسرارٍ وحِكمٍ ومصالحَ للعبدِ؛ فإن العبدَ إذا علمَ أن المكروهَ قد يأتي بالمحبوبِ، والمحبوبُ قد يأتي بالمكروهِ، لم يأمن أن توافيه المضرةُ من جانب المَسرّةِ، ولم ييأس أن تأتَيه المسرةُ من جانب المضرَّةِ، لعدم ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية: 30. (¬2) سورة البقرة، الآية: 216.

علمِه بالعواقبِ، فإنَّ اللهَ يعلمُ منها ما لا يعلمُهُ العبدُ .. ومن هنا فعلى العبدِ أن يطمئنّ لقضاءِ الله وقَدرِه، وأن لا يقلقَ لمكروهٍ ينزلُ به - فقد يكون فيه الخيرُ - وألا يُنسيه الفرحُ بالنعمةِ تحصلُ له ما قد تجرُّه عليه من ويلاتٍ ومكارهَ. الفائدةُ الثامنة: بم تفكِّر بين هَمّ الدنيا والآخرة؟ قال العارفون: فرِّغْ خاطرَكَ للهمِّ بما أُمرتَ به، ولا تُشغله بما ضُمنَ لك، فإن الرزقَ والأجل قرينان مضمونان، فما دامَ الأجلُ باقيًا، كان الرزقُ آتيًا، وإذا سَدّ عليكَ بحكمتهِ طريقًا من طرقه، فتحَ لك برحمتِه طريقًا أنفع لك منه، فتأمل حالَ الجنينِ يأتيه غذاؤه وهو الدمُ من طريقٍ واحدةٍ وهو السُّرة، فلما خرجَ من بطنِ الأُم وانقطعتْ تلك الطريقُ، فتح له طريقينِ اثنين، وأجرى له فيهما رزقًا أطيبَ وألذّ من الأولِ لبنًا خالصًا سائغًا، فإذا تمّت مدةُ الرَّضاع وانقطعتِ الطريقانِ بالفطامِ، فتحَ له طُرقًا أربعةً أكمل منها: طعامان وشرابان؛ فالطعامان من الحيوانِ والنبات، والشرابانِ من المياهِ والألبان، وما يُضاف إليهما من المنافعِ والملاذِّ، فإذا ماتَ انقطعت عنه هذه الأربعةُ الطرقُ، لكنه سبحانه يفتح له - إن كان سعيدًا - طرقًا ثمانيةً، وهي أبوابُ الجنةِ الثمانيةِ، يدخلُ من أَيِّها شاءَ، فهكذا الربُّ لا يمنع عبدَه المؤمنَ شيئًا من الدُّنيا إلا ويؤتيهِ أفضلَ منه وأنفعَ له (¬1). الفائدةُ التاسعة: أنواعُ الدراهم وأفضلُ الكسب، وما نوعُ درهمكَ قالوا: الدراهمُ أربعةٌ: درهمٌ اكتُسبَ بطاعةِ الله، وأُخرجَ في حقِّ الله، فذاكَ خيرُ الدراهم، ودرهمٌ اكتُسبَ بمعصيةِ الله وأُخرجَ في معصيةِ الله، فذاكَ شرُّ الدراهمِ، ودرهمٌ اكتُسبَ بأذى مسلمٍ، وأُخرجَ في أذى مسلمٍ فهو كذلك، ودرهمٌ اكتُسبَ بمُباحٍ وأُنفقَ في شهوةٍ مباحةٍ، فذاكَ لا له ولا عليه. ¬

(¬1) الفوائد (75) النفائش.

الفائدةُ العاشرة: ذكرى وتحذير .. كم يُفرِّطُ بعضُ المسلمينَ في الصلاة وهي عمادُ الدِّين، وكم يؤدِّيها أناسٌ على غير هَدي المرسلين فينقرونها نقرَ الغُراب، أو يسهونَ عنها في أوقاتها، والله تعالى توعّدَ وقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (¬1). إن المحافظة على الصلاة علامةُ الوارثين للفردوسِ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬2). والويلُ لمن أضاعها وأولئكَ لهم الغيُّ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (¬3). كم تشهدُ الفُرشُ على المتأخرينَ عن الصلواتِ المفروضةِ، وكم تئنُّ المساجدُ على المنشغلينَ عن عمارتها بعمارةِ القصورِ والضيعاتِ الدنيوية الفانية. قرأ عمرُ بن عبد العزيز رحمه الله هذه الآية: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ}. ثم قال: لم تكن إضاعتُهم تركَها، ولكن أضاعوا الوقتَ (¬4). وقال الحسنُ البصري: عطَّلوا المساجدَ ولزموا الضيعاتِ (¬5). إن العزاء يُقدَّم لمن فاتَتْهُ صلاةٌ مفروضة، فكيف بمن فاتته صلواتٌ، وفي صحيح السنة: «الذي تفوتُه صلاةُ العصرِ كأنما وُتِرَ أهلَه ومالَه» (¬6). والمعنى: نقص أهلُه ومالُه (¬7). وإذا كان العزاءُ يقدمُ لمن فقدَ شيئًا من ولده .. فكيف بمن نُقِصَ في أهلِه ¬

(¬1) سورة الماعون، الآيتين: 5، 6. (¬2) سورة المؤمنون، الآيات: 9 - 11. (¬3) سورة مريم، الآية: 59. (¬4) تفسير ابن كثير للآية. (¬5) المصدر نفسُه. (¬6) رواه الجماعة، خ 2/ 24، مسلم برقم (626). (¬7) جامع الأصول 5/ 204.

وولدِه؟ إن هذه الصلواتِ الخمسَ لا يحافظُ عليهنَّ إلا مؤمنٌ يرجو ثوابَ اللهِ ويخافُ عقابَه - فهي ليست ليومٍ أو يومين أو سنةٍ أو سنتين .. بل في كلِّ يومٍ خمسُ مراتٍ مفروضة عدا السننِ والرواتبِ المشروعةِ - ولذا يضيقُ المنافقونَ بالصلاةِ ولو أدوها كسالى يُراءون الناس - والامتحانُ الكاشفُ للمصلينَ صلاةُ الفجرِ وصلاةُ العشاءِ؛ فهنّ أثقلُ صلاتين على المنافقين، ولو يعلمونَ ما فيهما من الأجرِ لأتوهما ولو حَبْوًا .. ألا فجدِّدوا إيمانَكُم وأقيموا الصلاةَ بأوقاتِهَا وواجباتِهَا وسُننها، تكونوا من المفلحين، وإياكم وتلاعبَ الشيطان ووسوستَه، وجاهدوا أنفسكم على الخشوع في الصلاة فالله يقول: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (¬1). أيها المؤمنون: إننا نخطئُ بالليلِ والنهارِ، ومن رحمةِ الله بنا فرضَ الصلاةَ علينا، فهن كفاراتٌ .. وهنَّ أشبه بنهرٍ جارٍ يغتسلُ منه المصلونَ كلَّ يوم خمسَ مراتٍ، فهل يبقى على أولئك من دَرَنٍ .. إنه فضلُ الله يؤتيه من يشاء، ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسِه. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 45.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيبًا طاهرًا مباركًا فيه، كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وَسعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، كان بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا .. اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ النبيينَ. إخوةَ الإسلام: وثمةَ فائدةٌ، بل عِدَةُ فوائدَ تتعلقُ بحياةِ رجلٍ مجاهد، وصحابيٌّ فاضلٌ، كان في طليعةِ قومه، بل سيدٌ مطاعٌ فيهم، كان له في الجهادِ حظوةٌ .. وفي الشهادةِ مفخرة .. هو من أهلِ بدرٍ، وكفى بأهلِ بدرٍ فخرًا أن يقال لهم: «اعملُوا ما شِئتُم فقد غفرتُ لكم». اهتزّ لموتِه عرشُ الرَّحمن .. ويقال: إن ملائكةَ الرحمنِ شاركت في حملِ جنازته. إنه سعدُ بنُ معاذٍ الأوسيُّ الأشهليُّ، كان له مع قريشٍ موقفٌ، ومع اليهودِ موقفٌ، ومع المنافقينَ موقفٌ، وقبل هذا وذاكَ كان له مع قومِه موقفٌ مشرفٌ .. وبه نبدأُ؛ لأن سعدًا بهم بدأ بالدعوةِ .. وتأملوا في آثارِ الدعوةِ .. أخرج ابن إسحاق في «السيرة» قال: لما أسلمَ سعدٌ وقفَ على قومه فقال: يا بني عبدِ الأشهلِ، كيف تعلمونَ أمري فيكم؟ قالوا: سيدُنا فضلًا وأيمنُنا نقيةً، قال: فإن كلامَكُم عليَّ حرامٌ، رجالُكم ونساؤكم حتى تؤمنوا باللهِ ورسولِه، قال: فوالله ما بقيَ في دار بني عبدِ الأشهل رجلٌ ولا امرأةٌ إلا وأسلموا (¬1). أما قريشٌ فقد بلغها إسلامُ سعدٍ عن طريقِ هاتفٍ يهتفُ على أبي قبيسٍ ويقول: فإنْ يُسلمِ السعدانِ يصبحْ محمدٌ بمكةَ لا يخشى خلافَ المُخالفِ فقال أبو سفيانَ: من السعدانِ؟ سعدُ بكرٍ، سعدُ تميمٍ؟ ¬

(¬1) السيرة النبوية لابن هشام 1/ 437.

فسمعوا في الليل الهاتفَ يقول: أيا سعدُ سعدُ الأوس كنْ أنتَ ناصرًا ... ويا سعدُ الخزرجينِ الغَطارفِ أجيبا إلى داعي الهُدى وتمنَّيا ... على اللهِ في الفردوسِ مُنيةَ عارفِ فإنَّ ثوابَ اللهِ للطالبِ الهدى جنانٌ ... منَ الفردوسِ ذاتُ رَفارفِ لقد تأثرت قريشٌ لإسلامِ سعد .. ففضلًا عن صداقتِه مع بعض زعمائهم قبلَ الإسلام .. كان السيدَ المطاعَ في قومِه .. وبإسلامه دخل في الإسلامِ معظمُهم .. وظلت قريشٌ تُكِنّ له العداوةَ منذ أسلم - وظلّ بعضُ رجالاتها يتحيَّنونَ الفرصةَ للقضاءِ عليه، حتى إذا كانت غزوةُ الأحزابِ رماه (حِبّانُ بنُ العَرقةِ) بسهم في أَكحَلِه - وهو يقول: خذها مني وأنا ابنُ العَرقةِ، فردّ عليه سعدٌ، عَرّقَ اللهُ وجهَكَ في النارِ ثم قال: اللهم إن كنتَ أبقيتَ من حربِ قريشٍ شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قومَ أحبّ إليّ من أن أجاهدَهُم فيكَ من قومٍ آذوا نبيَّكَ وكذَّبوه وأخرجوه، اللهم إن كنتَ وضعتَ الحربَ بيننا وبينهم فاجعَلْها لي شهادةً، ولا تُمِتني حتى تقرَّ عيني من بني قريظةَ (¬1). ولقد استجابَ اللهُ دعوةَ سعدٍ .. فما قدمتْ قريشٌ إلى المدينةِ بعد الأحزاب .. واندملَ جُرحُه حتى مكَّنه اللهُ من رؤيةِ ما قرَّتْ به عينُه لبني قريظةَ، ثم انفجر الجرحُ ونزفَ الدمُ، وكانت الشهادة لسعدٍ بعد حكمِه في بني قريظةَ - فما هو موقفُه من اليهودِ؟ أخرج البخاريُّ ومسلمٌ وأحمدُ وابنُ سعدٍ عن عبدِ الرحمنِ بنِ سعدِ بنِ معاذ أن بني قريظةَ - حين نقضوا العهدَ وحاصرَهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم - نزلوا على حكمِ ¬

(¬1) أخرجه أحمد 6/ 141، ابن هشام في «السيرة» 2/ 266، سير أعلام النبلاء 1/ 282، ورجاله ثقات.

رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلَ إلى سعدٍ فجيءَ به محمولًا على حمارٍ وهو مُضنًى من جُرحِهِ، فقال له: «أشِرْ عليَّ في هؤلاءِ». قال سعدٌ: إني أعلمُ أن الله قد أمركَ فيهم بأمرٍ أنتَ فاعِلْهُ، قال: أجلْ، ولكن أشِرْ، قال: لو وُليتُ أمرَهم لقتلتُ مقاتِلتَهُم، وسبيتُ ذراريَّهم. فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيدِه، لقد أشرتَ عليَّ فيهم بالذي أمرَني اللهُ به» (¬1). لقد كان سعدٌ رضي الله عنه من أعرف الناس باليهودِ .. وإن قومًا نكثوا عهدَهم في أحلكِ الظروفِ، ومع خيرِ البرية لا ينفعُ فيهم إلا حزُّ الرءوسِ، وقد كان حكمُ سعدٍ رضي الله عنه موافقًا لحكمِ الله من فوقِ سبعِ سماوات - وهذا الذي أقرَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ونفَّذه. وما أحوجَ الأمةَ اليومَ إلى رجلٍ، بل رجالٍ أمثالَ سعدٍ يتعاملونَ مع اليهودِ بما يستحقون. أيها المسلمونَ: وهذا السيدُ المجاهدُ البدري - لم يسلم من أذى المنافقينَ ولَمْزِهم - فلقد كان سعدٌ رضي الله عنه رجلًا طوالًا بدينًا - وحين ماتَ واحتملوا جنازتَه وجدوا لها خِفة عجيبةً، فقال المنافقون: والله إن كان لبادنًا وما حملنا أخفَّ منه. وفي الرواية الأخرى وهي أصحّ إسنادًا: فقال القومُ: ما حملنا يا رسولَ الله ميتًا أخفّ علينا منه، قال: «ما يمنعُه أن يخفَّ وقد هبطَ من الملائكةِ كذا وكذا لم يهبطوا قطُّ قبلَ يومِهم قد حملُوه معكم» (¬2). أيها المؤمنونَ: وسعدٌ رضي الله عنه هو الذي اهتزَّ عرشُ الرحمنِ لموتِه، كما أخبرَ ¬

(¬1) أخرجه البخاري برقم (3043)، ومسلم برقم (1768). (¬2) أخرجه ابن سعد في «الطبقات» بإسناد حسن، وانظر «سير أعلام النبلاء» 1/ 286، 287.

بذلك الصادقُ المصدوقُ صلى الله عليه وسلم (¬1). ومع هذا الجهادِ والشهادةِ والمناقبِ العظمى .. لم يَسلمْ سعدٌ رضي الله عنه من ضمَّة القبر .. تلكَ التي لا ينجو منها أحد، قال جابر رضي الله عنه: جلس النبيُّ صلى الله عليه وسلم على قبر سعدٍ وهو يُدفنُ فقال: «سبحانَ الله! » مرتين، فسبحَ القومُ، ثم قال: «اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ» فكبَّروا، ثم قال: «عجبتُ لهذا العبدِ الصالحِ شُدِّدَ عليه في قبرِه حتى كان هذا حينَ فُرِّجَ عنه» (¬2). ما أعظمَ الهوَل يا عبدَ الله: وإذا لم يَسلمْ سعدٌ من أهوالِ القيامةِ وهوَ بعدُ في أوّلِ منازلها .. فكيف الحالُ بعَرَصاتِ القيامة .. وكيف الحالُ بمن هم دون سعدٍ بمراحلَ، رُحماكَ ربي ما أشدَّ الهولَ! وأعظمَ المطَّلعَ! حتى تبيضَّ مفارقُ الولدان، وتضعُ الحواملُ حملَها وترى الناسَ سكارى وما هم بسكارى، ألا فاتخذوا عبادَ الله لهذا اليومِ أُهبته؛ فهناكَ يفرُّ المرءُ من أخيهِ وأمِّه وأبيه، وصاحبتِه وبنيه، لكل امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغنيه. رضيَ اللهُ عنكَ يا سعد وحشرنا معك، وأعاننا على ما أعانك عليه. ¬

(¬1) صحح إسناده الذهبي في «السير» 1/ 293. (¬2) أخرجه أحمد، والحاكم في «مستدركه» 3/ 206 وصححه، ووافقه الذهبي.

من معاني الحج، وتعميم منع المرأة من العمل مع الرجال

من معاني الحج، وتعميم منع المرأة من العملِ مع الرجال (¬1) الخطبة الأولى: الحمدُ لله ربِّ العالمين، مَنَّ على عبادِه بمواسمِ الخيراتِ ما يرفعُ لهم به الدرجاتِ، ويكفرُ عنهم السيئاتِ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، قضى بقصرِ هذه الحياةِ الدنيا وجعلها متاعًا للغَرور، وحكمَ بأن الآخرةَ هي الحيوانُ لو كانوا يعلمون، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه وخيرتُه من خلقِه، قضى حياتَه جهادًا وعبوديةً ودعوةً حتى أتاه اليقينُ، اللهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلين، وارضَ اللهم عن أصحابهِ أجمعين، والتابعينَ ومَن تبعَهُم بإحسانٍ إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬2). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬3). عبادَ الله: خصّ اللهُ أقوامًا بفضله فهم دائمونَ على طاعتِه، مستثمرونَ لفرصِ الخيرِ، مسارعونَ إلى مغفرتِه، وأولئك ينتقلون من طاعةٍ إلى أخرى وما أن ينتهي موسمٌ للطاعةِ إلا ويستقبلونَ بالعزيمةِ والبشرى موسمًا آخر .. وهكذا تَعظمُ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 22/ 11/ 1421 هـ. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 13. (¬3) سورة النساء، الآية: 1.

أرصدتُهم للآخرةِ، وتُبنى لهم القصورُ والغُرفاتُ وتُزيَّنُ لهم الجنانُ الباقياتُ وهم بعدُ في الدنيا. وبإزاءِ هؤلاءِ صنفٌ يأكلونَ ويشربونَ ويتمتعونَ في الدنيا وكأنّها نهايةُ المطاف .. فلا هِمّةَ لهم في المسارعةِ، ولا شعورَ عندَهم بفرصِ الطاعة، شَغَلَهم التنافسُ في الدنيا عن التنافسِ في الآخرة، وحجبتهم المعاصي عن أنوارِ الإيمان، أولئكَ تبدأُ المواسمُ وتنتهي وكأنها لا تعنيهم، وإن مارسوها أحيانًا فمِن بابِ تقليدِ الآخرينَ أو مجاملتِهم. إنها القلوبُ الغافلةُ .. والأرواحُ المُصابةُ، والهممُ الدنيّةُ، ها نحن في أحدِ أشهرِ الحجِّ كم تثيرُ فينا ذكرياتُ الحجِّ من معانٍ وأحاسيسَ .. وهناك تُسكبُ العبراتُ ويتوجَّه المذنبونَ إلى الغفّار، فلا يَدَع للأوابينَ المخلصينَ من ذنبٍ إلا غفرَه - ويعودُ الحاجّ بالحجّ المبرورِ، وكأنّما ولدَتْهُ أُمّه .. بل ويعودُ الحاجُّ الموفقُ بالحجّ المبرورِ وليس له جزاءٌ إلا الجنةُ، كم تتطلعُ النفوسُ المذنبةُ إلى المغفرة، وكم هو عظيمٌ الجزاءُ حين يكون الجنةَ، أين الشاردون؟ أين السادرون؟ أين المسرفون؟ بل وأين المؤمنونَ من فضلِ اللهِ ورحمتهِ؟ إن طوفانَ الحياةِ الماديةِ يكادُ يُغرقُنَا .. أفلا ننجو من الغرقِ وسفينةُ الحجّ تنتظرنا؟ وإن رائحةَ الذنوبِ والمعاصي تكادُ لهولِها تزكُمُ أُنوفَنَا - أفلا نتطهّرُ منها ونتزينُ ونتعطرُ بلباسِ التقوى، وثيابِ الإحرامِ، فهي داعيةٌ للتجردِ والعبوديةِ، وهي وسيلةٌ للتطهيرِ والتقوى! أيها المسلمونَ: تأملوا سورةَ الحجِّ وكيف بدايتُها؟ إنها تبدأُ بالدعوةِ لتقوى اللهِ، وتُذكّرُ بالبعثِ وزلزلةِ الساعة، وهذه البدايةُ مُشعرةٌ بأنّ الحجّ رحلةٌ إلى اللهِ، ففيه خروجٌ عن الأهلِ والولدِ والوطنِ، وفيه تجردٌ من المَخيط، ووقوفٌ ومشهدٌ عظيمٌ يتجردُ فيه المسلمُ عن دنياهُ وجاهِهِ وكلِّ

اعتباراتهِ؛ ليتساوى في مناسكِ الحجّ ومواقفهِ الشريفُ والوَضيعُ، والغنيُّ والفقيرُ، والأميرُ والمأمورُ، والذكرُ والأنثى .. لا فرقَ إلا بالتقوى .. وكذلك يكونُ الموقفُ في عَرَصاتِ القيامةِ للحسابِ .. وكذلك كان يَفهم السلفُ الصالحُ حقيقةَ الحجِّ ومعناه، ويتذكرونَ به مشاهدَ القيامةِ وموازينَها وقيمَها .. وبمعاني الإيمانِ والتقوى يتفاضلُ الناسُ .. وسأسوقُ لكم نموذجًا من إيمانيات الحُجاج، كشفَها الفاروقُ عمرُ في خلافِته، وكشف معها نبوءةً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم حين أخبر عن سيدِ التابعين. وتأملوا في رجلٍ أثنى عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولم يرَه، وطلب ممَّن أدركه أن يطلبَ الاستغفارَ والدعاءَ منه، وإن كان هذا الرجلُ خاملَ الذِّكر .. مُقتَصِدَ المَلبس، حقيرًا في أعينِ أهلِ الدُّنيا، أجل لقد حجَّ عُمر رضي الله عنه بالناسِ سنةَ ثلاثٍ وعشرين - قبيلَ استشهادِه بأيام، وكان شغلُه البحثَ عن سيدِ التابعين أويسٍ القَرَنيِّ، ذاك الرجلُ الذي صعدَ عمرُ لأجله جَبلَ أبي قبيسٍ وأطلّ على الحجيج ونادى بأعلى صوتهِ: يا أهلَ الحجيجِ من أهلِ اليمنِ، أفيكم أويسٌ من مُراد؟ فقام شيخٌ طويلُ اللحيةِ من قَرَنٍ، فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنك قد أكثرتَ السؤالَ عن أويسٍ هذا، وما فينا أحدٌ اسمُه أويسٌ إلا ابنُ أخٍ لي يُقالُ له أويسٌ، وأنا عمُّه وهو حقيرٌ في أظهرِنا، خاملُ الذِّكرِ، وأقلُّ مالًا، وأوهنُ أمرًا من أن يُرفعَ إليك ذِكْرُه، فسكتَ عمرُ - كأنه لا يريده - ثم قال: يا شيخُ، وأينَ ابنُ أخيكَ هذا الذي تزعمُ؟ أهو معنا في الحَرَم؟ قال الشيخ: نعم يا أميرَ المؤمنينَ، هو في الحرم غيرَ أنه في أراكِ عَرفةَ يرعى إبلًا لنا، فركبَ عمرُ وعليّ بنُ أبي طالبٍ رضي اللهُ عنهما، وأسرَعا إلى أراكِ عَرفةَ، ثم جعلا يتخللانِ الشجرَ، ويطلبانِ أُويسًا، فإذا هما به في طِمرينِ من صوفٍ أبيضَ، قد صفّ قدمَيْهِ يصلي إلى الشجرة، وقد رمى ببصرِه إلى موضعِ سجودهِ، وألقى يديهِ على صدرِه، والإبلُ حولَه ترعى، قال

عمرُ لعليٍّ: يا أبا الحسنِ، إن كان في الدنيا أويسٌ القرني فهذا هو، وهذه صفتُه، ثم نزلا عن حماريهما وأقبلا يُريدانِه، فلما سمعَ أويسٌ حِسَّهما أوجزَ في صلاتِه ثم تشهَّدَ وسلّم، وتقدَّما إليه وسلَّما ثم ردّ السلامَ عليهما، فقال له عمرُ: مَنِ الرجلُ؟ قال: راعي إبلٍ وأجيرٌ للقوم، قال عمر: ليس عن الرعايةِ أَسألُكَ ولا عن الإجارةِ، إنما أسألُكَ عن اسمِك، فمَن أنتَ يرحمُكَ اللهُ؟ فقال: أنا عبدُ اللهِ وابنُ أَمَتِه، فقالا: قد علمنا أن كلَّ من في السماواتِ والأرضِ عبيدُ اللهِ، وإنا لنقسمُ عليكَ ألا أخبرتَنا باسمِكَ الذي سمَّتكَ به أمُّك، قال: يا هذان، ما تريدانِ إليَّ؟ أنا أويسُ بنُ عبدِ الله، فقال عمر: اللهُ أكبر، أوضحْ لنا عن شِقّكَ الأيسرِ. قال: وما حاجتكُما إلى ذلك؟ فقالَ له عليٌّ رضي اللهُ عنه: إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وصفَكَ لنا، وقد وجدنا الصفةَ كما أخبَرَنا، ونريد أن نعلمَ اللّمْعَةَ البيضَاءَ بمقدار الدِّينار أو الدِّرهمِ، فلما نظرَ عمرُ وعليٌّ إلى شِقِّه الأيسرِ، وبه اللمعةُ البيضاءُ ابتدرا أيهما يُقبّلُ قبلَ صاحِبِه، وقالا: يا أويسُ إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمرَنا أن نقرئَكَ منه السلامَ، وأمرنا أن نسأَلكَ أن تستغفرَ لنا، فإن رأيتَ أن تستغفرَ لنا يرحمُكَ اللهُ، فقد خُبِّرنا بأنك سيدُ التابعين وأنكَ تشفعُ يومَ القيامةِ في عددِ ربيعةَ ومُضرَ، فَبَكى أويسٌ بكاءً شديدًا، ثم قال: عسى أن يكونَ ذلك غيري، قالا: بل أنتَ، فادعُ لنا، قال أويسٌ: ما أخصُّ باستغفاري نفسي ولا أحدًا من ولدِ آدمَ، ولكن في البرّ والبحرِ، للمؤمنينَ والمؤمناتِ، والمسلمينَ والمسلماتِ في ظُلمِ الليلِ وضياءِ النهارِ، ولكن من أنتما يرحمُكُما اللهُ، فإني قد خّبرتُكما وشهرتُ لكما أمري، ولم أحب أن يعلَمَ بمكاني أحدٌ من الناس؟ فقال عليٌّ: أما هذا فأميرُ المؤمنينَ عمرُ، وأما أنا فعليُّ بنُ أبي طالب، فوثبَ أويسٌ فرحًا مستبشِرًا فعانَقهُما وسلّم ورحَّبَ بهما وقال: جزاكم اللهُ عن هذه الأمةِ خيرًا، ودعا لهما، ثم قالَ عمر: مكانكَ رحمكَ اللهُ حتى أدخلَ مكةَ فآتيكَ بنفقةٍ من عطائي وفَضْلِ

كسوةٍ من ثيابي، فإني أراكَ رثَّ الحال، وهذا المكانُ ميعادُ بيني وبينك غدًا، فقال أويسٌ: يا أميرَ المؤمنين لا ميعاد بيني وبينك ولا أعرفكَ بعدَ اليومِ ولا تعرفني، ما أصنعُ بالنفقة؟ وما أصنعُ بالكسوةِ؟ أما ترى عليّ إزارًا من صوفٍ ورداءً من صوف، متى تراني أُخْلِقهُما .. ومعي أربعةُ دراهم أخذتُها من رعايتي متى تُراني آكلُها؟ يا أميرَ المؤمنين، إن بيني يديّ عقبةً لا يقطعها إلا كلُّ مُخفٍّ مهزولٍ، فأخفَّ يرحمُك اللهُ .. إن الدنيا غرّارةٌ غَدّارةٌ، زائلةٌ فانية، فمن أمسى وهمتُه فيها اليومَ مدّ عُنقَه إلى غدٍ، ومن مدّ عنقَه إلى غدٍ أعلقَ قلبَه بالجمعة، ومن أعلق قلبَه بالجمعة لم ييأس من الشهرِ، ويوشكُ أن يطلبَ السنةَ، وأجلُه أقربُ إليه من أملِه، ومن رفضَ هذه الدنيا أدركَ ما يريدُ غدًا من مجاورةِ الجبار، وجرت من تحتِ منازِله الثمارُ، فلما سمعَ عمرُ كلامَه ضربَ بدِرّتِهِ الأرضَ ثم نادى بأعلى صوتِه: ألا ليتَ عمرُ لم تلدْه أمُّه، ليتها عاقرًا لم تعالجْ حملَها، ألا من يأخُذُها بما فيها ولها. ثم قال أويسٌ: يا أميرَ المؤمنينَ، خُذْ أنتَ هاهنا، حتى آخذَ أنا هاهنا، ومضى أويسٌ يسوقُ الإبلَ بين يديه، وعمرُ وعليٌّ ينظران إليه حتى غابَ فلم يَروه. وهكذا إخوة الإيمان تكونُ المعاني والقِيمُ، ويوزنُ الرجالُ، ولمثلِ أولئكَ الرجالِ قال عليه الصلاةُ والسلام: «إن خيرَ التابعينَ رجلٌ يقالُ له أويسٌ، وله والدة وكان به بياضٌ، فمُروه فليستغفرْ لكم» (¬1). أيّها المسلمونَ: ومن زلزلةِ الساعةِ وأهوالِ يومِ القيامة - إلى ذكر الجهادِ والقتال في سورة الحج؛ حيث تتوسطُ آياتُ الحجّ بينهما: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ¬

(¬1) رواه مسلم من حديث عمر رضي الله عنه برقم (2542).

بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (¬1). وذلكَ مُشعرٌ كذلك بالارتباطِ بين الحجّ والجهادِ .. فالحجّ نوعٌ من الجهاد، ولذا نقلَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم ذاك الرجلَ الذي اكتتبَ في إحدى الغزواتِ وله زوجة تريدُ الحجَّ، فقال صلى الله عليه وسلم: «اذهب وحجَّ مع امرأتِكَ» (¬2). فنقله من جهادٍ إلى جهاد. وعن المرأةِ والحجّ قال عليه الصلاةُ والسلامُ: «عليكنّ جهادٌ لا قتالَ فيه: الحجُّ والعمرة» (¬3). فهل يا ترى يتذكرُ المسلمونَ حين الحجِّ زلزلةَ الساعةِ ومواقف القيامةِ؟ وهل يستشعرون وهم يحجونَ معنًى من معاني الجهاد في سبيل الله؟ أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (¬4). ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 39. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (3006)، ومسلم برقم (1341). (¬3) أخرجه ابن ماجه برقم (2901)، وأحمد 6/ 165، وبنحوه البخاري (2875). (¬4) سورة آل عمران، الآية: 97.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لله ربِّ العالمين، ولا عدوانَ إلا على الظالمينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وليُّ الصالحينَ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله سيدُ الأولينَ والآخرين. أيّها المسلمونَ: وقعَ بيدي قرارٌ حكيم، وتعميمٌ كريم صادرٌ من أعلى سلطةٍ في الدولةِ ومُبلَّغٌ إلى كافةِ الجهاتِ الحكوميةِ والمؤسساتِ العامةِ للاعتمادِ والتقيُّدِ بموجبهِ .. هذا التَّعميمُ حَرِيٌّ بأن يُذكرَ ويشكرَ من أصدرَه .. ويُتابعَ من تباطأَ أو قصّرَ في تنفيذه، التعميمُ يَخصّ قضيةً مهمةً من قضايانا المعاصرةِ .. ويحسمُ جدلًا طالما ركضَ وأرجفَ مَن في قلوبهم مرضٌ - إنه يتعلقُ بالمرأةِ وحمايتِها من الاختلاطِ بالرجال ويقطعُ دابرَ الدعوةِ للزجِّ بها وظيفيًّا في أيِّ مكان، ويؤكِّد على أن يكون عملُ المرأةِ في الأعمالِ التي تُناسبُ طبيعَتها، ولا يخدشُ حياءَها أو يهدرُ كرامَتها أو ينالُ من أخلاقِها. التعميمُ الجديدُ تاريخه في 5/ 10/ 1421 هـ، ولكنه معطوفٌ على تعميمٍ سابقٍ مؤرَّخ في 16/ 5/ 1403 هـ. وعلى قرارٍ صادرٍ لهيئةِ كبارِ العلماءِ بتاريخ 20/ 8/ 1412 هـ. ومن حقّ من اطلّعَ على هذا التعميمِ الحديثِ القديمِ أن يتساءل: - هل من حقّ أحدٍ أن يقترحَ أو يطرحَ ما يخالفُ ما نصّ عليه التعميمُ بشأنِ عملِ المرأةِ ومنعِها من أيِّ عملٍ تختلطُ فيه بالرجال، سواءً في الإداراتِ الحكوميةِ أو غيرِها من المؤسساتِ العامةِ أو الخاصةِ أو الشركاتِ أو المهن؟ - ومَن المسئولُ عن عدمِ جِدِّيَّةِ بعضِ القطاعاتِ في التنفيذ - حيثُ يوجدُ أحيانًا اختلاطُ المرأةِ بالرجالِ في العملِ في عددٍ من الوزاراتِ والدوائرِ الحكوميةِ والمؤسسات - ولعلّ عملَ المرأةِ في المستشفياتِ أو الخطوطِ

السعوديةِ نماذجُ صارخةٌ لهذا الاختلاطِ، والحاجةُ لا تستدعيه ولا تستلزمُه، والتعميمُ يؤكدُ على منعِه، بل ومحاسبةِ من يُخالفُه. - هل سيُسكِتُ هذا التعميمُ الطروحاتِ الفجةَ عن عملِ المرأة، وهل سينكفئُ الموتورونَ الذين لا يزالونَ يطرحونَ إشكاليةَ عملِ المرأةِ على أعمدةِ الصحفِ والمجلاتِ وفي كافةِ القنواتِ الإعلاميةِ دون تحفُّظٍ أو تحوُّطٍ، كالذي جاءَ في التعميمِ الكريمِ السالف. - ماذا سيكونُ وضعُ المرأةِ العاملةِ في أيٍّ من الدوائرِ والمؤسساتِ التي يوجدُ بها ما يخالفُ ما نَصّ عليه القرارُ .. حاضرًا ومستقبلًا، ومَنْ المسئولُ عن الممارساتِ الخاطئةِ والمنافيةِ لمضمونِ هذا التعميم؟ - كيف سيتعاملُ المسئولونَ في المؤسساتِ الحكوميةِ والخاصةِ مع هذا التعميم، هل سيحتاجونَ إلى متابعةِ الجهاتِ الرقابيةِ؟ أم سيجعلونَ من أنفُسِهم أداةً للمراقبةِ لتنفيذِ ما حواهُ التعميمُ، وإصلاحِ ما يحتاجُ إلى إصلاحٍ بوضعِ المرأةِ المختلطةِ؟ - هل ستمارسُ الهيئاتُ الدينيةُ والشئونُ الإسلاميةُ، وهيئاتُ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ دورَها في العملِ بموجبِ هذا التعميم .. والإنكارِ على من تجاوزَ أو قصّرَ في التنفيذ؟ - كيف سيستثمرُ الغيورونَ هذا التعميمَ لصالحِ المرأةِ، بل ولصالحِ الرجلِ .. بل وصالحِ المجتمعِ بأسرِه؟ - بل وهل تستثمرُ المرأةُ هذا التعميمَ لصالحِ قضيّتِها وحمايَتِها من العملِ إلى جانبِ الرجلِ، فمن حقِّها أن تطالبَ بتأمينِ أماكنَ للعملِ خاصةٍ بها، تُديرُها وتشرفُ عليها، وتمنَعُ وجودَ الرجالِ بها مطلقًا .. فالمرأةُ قادرةٌ بنفسِها ومع بناتِ جنسِها على ممارسةِ العملِ وإدارتِه .. وتجربتها في تعليمِ المرأةِ نموذجٌ

يشهدُ على نجاحِها وعَدمِ حاجتها إلى مشاركةِ الرجل. إنه قرارٌ يستحقّ الإشادة .. وتعميمٌ يحتاجُ إلى دقّةٍ في المتابعة .. وجدِّيّةٍ في التنفيذ - إنه مُنصفٌ للمرأةِ كما أنه منصفٌ للرجل - وهو بوابةُ أمانٍ بإذنِ اللهِ عن فسادِ القيمِ والأخلاق - فهل نتفاعلُ جميعًا معه .. وهل يَعتبرُ كلُّ شخصٍ منّا نفسَه مسئولًا عن تنفيذِه على مستوى الرجلِ والمرأةِ والمسئولِ والعاملِ في القطاعِ العامِّ أو الخاصِّ .. ذلكَ ما نرجو ونأملُ، وتحيةً لمن أصدرَ هذا التعميمَ، ولمن تعاملَ معه بجديةٍ وإخلاصٍ.

(1) في السيرة النبوية

(1) في السيرة النبوية (¬1) الخطبة الأولى: الحمدُ لله ربّ العالمين، جعل محبةَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم من علاماتِ الإيمان، بل شرطٌ له: «لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من وَلَدِهِ ووالِده والناسِ أجمعين» (¬2). وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، حَكَم بأنّ أتباعَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم دليلٌ على محبةِ اللهِ {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3). وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه بمحبَّتَه توجد حلاوةُ الإيمانِ: «ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وَجَدَ بهنّ حلاوةَ الإيمانِ: أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سِواهُمَا» (¬4). اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهمّ عن الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ ومَن تَبَعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين وسلِّم تسليمًا كثيرًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬5)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬6). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 5/ 4/ 1421 هـ. (¬2) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (15)، ومسلم في «صحيحه» برقم (44). (¬3) سورة آل عمران، الآية: 31. (¬4) أخرجه البخاري في «صحيحه» برقم (16)، ومسلم في «صحيحه» برقم (43). (¬5) سورة المائدة، الآية: 35. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 102.

عبادَ الله: في تاريخ الأممِ كلِّها عظماءُ يُقَدّرهم الناسُ حقَّ قَدْرهم، ويَرَون لهم فضلًا على غيرهم، وإذا تفاوتت خِصال العَظَمة بين الشجاعةِ والكرمِ، وبين قوةِ الأجسام أو عظمةِ العقولِ، أو نحوِها من صفاتٍ يَبرزُ بها العظماءُ .. فإن للعظمةِ المرتبطةِ بوحي السماء شأنًا آخرَ .. فكيف إذا كان هذا النوعُ من العظماءِ يجمع صفاتِ العظمةِ كلَّها .. ويتفق أصحابُ المللِ - وعبر القرونِ المتلاحقةِ - على الاعترافِ بعظمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ونزاهةِ سيرتِه وطيبِ خُلُقِه، وما بنا - معاشرَ المسلمين - حاجةٌ لشهادة الآخرينَ بعد شهادةِ الحقِّ المبينِ في قرآن يُتلى إلى يومِ الدِّين {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬1). وقد بلغ الخبرُ آفاقَ الأرض وعنانَ السماء، وما من عاقل رأى محمدًا صلى الله عليه وسلم أو قرأ سيرتَه إلا ويعترفُ بهذه العظمةِ، ويشهدُ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولو كان على غيرِ دينهِ، ويقول أحدُهم في مؤتمر جمع أعدادًا من المثقفين الغربيينَ سنة 1927 م: «إن البشريةَ لتفخرُ بانتسابِ رجلٍ كمحمدٍ صلى الله عليه وسلم لها، إذ أنه رغم أُمّيتهِ استطاع قبل بضعةَ عشرَ قرنًا أن يأتي بتشريع سنكونُ نحن الأوروبيين أسعدَ الناسِ لو وصلنا إلى قمّتِه بعد ألفي سنة» (¬2). ويقول آخرُ: فالرسالةُ التي دعا إليها هذا النبيُّ ظلت سراجًا منيرًا أربعة عشر قرنًا من الزمان لملايينَ كثيرةٍ من الناسِ، فهل من المعقولِ أن تكونَ هذه الرسالةُ التي عاشت عليها هذه الملايينُ ومات أكذوبةَ كاذبٍ، أو خديعةَ مخادع، ولو أن الكذبَ والتضليلَ يروجان عند الخلقِ هذا الرواجَ الكبيرَ لأصحبتِ الحياةُ سخفًا وعبثًا، وكان الأجدرُ بها ألا توجد (¬3). إخوة الإسلام: أما المسلمون فقد أشادوا - ولا غرابةَ - بسيرة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ¬

(¬1) سورة القلم، الآية: 4. (¬2) الرسول في كتابات المستشرقين (76). (¬3) أوروبا والإسلام ص 45.

وشهدت مصنفاتُهم المؤلَّفةُ في كلِّ فنٍّ من فنونِ السيرة على عظيم حفاوتِهم وعنايتِهم بالسيرة وصاحِبِها، وأكّدَ العلماءُ على أن سيرةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم من أسبا تقويةِ الإيمان واليقين في القلوبِ، وفي ذلك يقول ابنُ القيّم: وإذا تأملتَ أخبارَ الأممِ وأيامَ اللهِ في أهلِ طاعتِه وأهلِ معصيتِه طابقَ ذلك ما علمتُه من القرآنِ والسُّنةِ، ورأيتُه بتفاصيلِ ما أخبر اللهُ به ووعدَ بهِ، وعلمتَ من آياتهِ في الآفاق ما يدلُّك على أنَ القرآنَ حقٌّ، وأنّ الرسولَ حقّ، وأن الله يُنجز وعدَه لا مَحالة (¬1). وهل سيرةُ المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا جزءًا من أيامِ اللهِ - بل هي أصدقُ أيامِ اللهِ - في نُصرة أهلِ طاعتِه وخُذلانِ أهل معصيتِه؟ ويرى ابنُ حزمٍ رحمه اللهُ أن السيرةَ النبويةَ طريقٌ لخيري الدُّنيا والآخرةِ ويقول: «من أرادَ خيرَ الآخرةِ وحكمةَ الدنيا، وعدلَ السيرةِ، والاحتواءَ على محاسنِ الأخلاقِ كلِّها، واستحقاقِ الفضائلِ بأسرِها، فليقتدِ بمحمد صلى الله عليه وسلم، وليستعمل أخلاقَه وسِيرَه ما أَمكنه» (¬2). عبادَ الله: إن التمعُّنَ في سيرةِ محمد صلى الله عليه وسلم يؤكد نبوتَه، وتشهدُ على صدق رسالتِه، وهي بذاتِها معجزةٌ من معجزاتِه، وفي هذا قال أحدُ العلماء: «إن سيرة محمدٍ صلى الله عليه وسلم لمن تدبّرها تقتضي تصديقَه، وتشهدُ له بأنه رسولُ اللهِ حقًا، فلو لم تكن له معجزةٌ غيرَ سيرتِه لكفى (¬3). أجل إن أخلاقَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وجميلَ سيرتِه، برهانٌ على نبوته، ودليل على عظمتِه وقائدٌ إلى الإيمان بما جاء بهِ، يقول القاضي عياضٌ رحمه اللهُ: وإذا تأمّل المنصفُ جميلَ أثرِه، وحميدَ سيرتِه، وبراعةَ علمِه، ورجاحةَ عقلِه وحلمِه، ¬

(¬1) الداء والدواء ص 22. (¬2) الأخلاق والسير في مداواة النفوس (24). (¬3) ابن حزم، «الفصل في الملل والنحل» 2/ 90، دار المعرفة.

وجُملَةَ كمالهِ، وجميعَ خِصالِه، وشاهدَ حالَه، وصوابَ مقالِه، لم يمترِ في صحَّة نبوتِه وصِدقِ دعوتِه - ثم قال -: وقد كفى هذا غيرَ واحدٍ في إسلامِه والإيمانِ به. ثم ساق قصةَ الحبرِ عبدِ اللهِ بن سلام رضي الله عنه حين جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم قَدِمَ المدينةَ - فلما رآه قال: عرفتُ أنّ وجهَه ليس بوجهِ كاذبٍ (¬1). وفي «صحيح مسلم» من حديث ضِماد رضي الله عنه أنه حين قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَرْقيَه، فابتدَرَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالقول: «إن الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُهُ، من يهدِه الله فلا مُضلّ له، ومن يُضلِل فلا هادَي له، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأن محمدًا عبدُه ورسولُه» قال له ضِمادٌ: أعِدْ عليَّ كلماتِك هؤلاء، فلقد بلغنَ قاموسَ البحرِ - وفي رواية «ناعوسَ البحرِ» - يريد: اشتهرتْ مقالتُك هذه في جميع أقطار الأرض شرقًا وغربًا - (ثم قال): هاتِ يدَك أُبايعك (¬2). أيها الناسُ: لقد غابت سيرةُ الحبيبِ المصطفى صلى الله عليه وسلم عن نفرٍ من المسلمين، فلم يعلموها، وأنّى لهؤلاء أن يعملوا بها، وما حلّ الشقاءُ والنّكَدُ بالأمةِ المسلمةِ إلا حين غابت عنهم أضواءُ السيرةِ، وفُصِلتْ أجيالٌ من المسلمين عن التربِّي على هذه السيرة العَطرةِ، وظنّ بعضُ المسلمين أنه يَكفيهم منها التعلّقُ بالمواليد والاحتفالاتِ البِدعية .. وكأن العنايةَ بالسيرة أو الذّكرى لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن تتجاوزَ أيامًا معدودةً .. وعَبْرَ قصائدَ فيها من الشِّركيات ما تُنزَّه عنه السيرةُ العطرةُ، وعَبْرَ اجتماعات واحتفالاتٍ لم يفعلها الرّسولُ صلى الله عليه وسلم بنفسِه، ولا اجتمع على مثلِها صحابتُه من بعدِه وهم أقربُ الناسِ له، وأكثرُ الناسِ محبةً وتعظيمًا له .. لكنها البِدَع المُحْدَثَةُ يُلقيها ويُروّجُ لها شياطينُ الإنسِ والجنّ ليصرفوا بها الناسَ عن المحبّةِ الحَقّة والاقتداءِ الدائمِ بسيرةِ محمد صلى الله عليه وسلم وهَدْيهِ. ¬

(¬1) رواه الترمذي، وانظر: القاضي عياض: الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/ 342). (¬2) صحيح مسلم (593).

أيها المسلمون: إن المحبةَ الحقّةَ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم تَعني صِدْقَ متابعتِه، والاستمساكَ بهَدْيِه، والجهادَ لنُصرة دينِهِ، والدعوةَ لنشرِ رسالتِه في العالمين، وأشدُّ الناس محبةً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أكثرُهم تمسكًا بسنتِه، وإتباعًا لهديِهِ، وحرصًا على دعوة الخَلْق لطريقتِه. أما الدّعاوى الفارغةُ والاحتفالاتُ البِدْعيّةُ، فتلك بضاعةُ البطَّالين، وما بالمسلمين حاجةٌ لمزيد التّهريج والدّجل، والسلبيةِ، وترديد القصائدِ والمديحِ دون عملٍ مُثمر ودعوةٍ جادّةٍ، وسلوكٍ منضبط بأوامرِ الإسلام وهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم. ومصيبةٌ أن تتقدمَ الأُممُ الأخرى بالعمَل والإنتاج وتبقى طوائفُ من المسلمين تُفضّل العُزلةَ وتنتسبُ للتصوّفِ، وتُعظّم الأولياءَ، وتطوفُ حول قبور الموتى .. وتتمسّحُ بمن يُسمّون بالأولياء .. وقد يصل الأمرُ إلى الخضوع لهم وتقديمِ طاعتِهم على طاعةِ الأنبياء، ثم تزعم أنها تُحبّ محمدًا صلى الله عليه وسلم، وكلّ ذلك ضَلالٌ مبينٌ، وانحرافٌ عن صراطِ الله المستقيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 24.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لله ربّ العالمين اصطفى لنا الدين، وأكرمنا ببعثة خاتمِ المرسلين، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، دعا الخلقَ لعبادته، واصطفى من الملائكةِ رُسلًا ومن الناسِ يبلّغونَ عن اللهِ شرعَه ويهدون الناسَ - بإذن اللهِ - إلى صراطِ العزيزِ الحميدِ. وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أكرمُ الخلق على اللهِ، الشافعُ المشفَّع في المَحشر .. اللهمَّ صلّ وسلّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين. أيها المسلمون: وهناك خصائصُ تتميز بها سيرةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياءِ، وتختصُّ بها رسالتُه على سائرِ رسالاتِ السماءِ، فرسالةُ الإسلامِ التي بُعِثَ بها محمد - خاتمة وعامة. وبرسالة محمدٍ صلى الله عليه وسلم خُتمت رسالاتُ السماءِ وانقطعَ الوحيُ .. فلا رسالةَ بعد رسالتِه، ولا دينَ يُقبَلُ إلا دينُه الإسلام {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬1). وفي صحيح السنة، «مَثَلي ومَثَلُ الأنبياءِ كمَثلِ رَجلٍ بنى دارًا فأَتمّها وأكملَها إلا موضع لَبِنَةٍ، فجعلَ الناسُ يَدخلونها ويتعجّبون منها ويقولون: لولا مَوضعُ اللّبِنَة! » قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «فأنا موضعُ اللّبِنَةِ، جئتُ فختمتُ الأنبياءَ» (¬2). ورسالةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مُتمّمةٌ لرسالاتِ الأنبياءِ قبلَه، وهو أولى الناسِ بالأنبياءِ من أَتباعهمِ الذين حرّفوا وبدّلوا {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (¬3). ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 40. (¬2) رواه مسلم في «صحيحه» برقم (2286) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 68.

وقال عليه الصلاةُ والسلام: «أنا أولى الناسِ بعيسى ابن مريمَ في الدُّنيا والآخرةِ» (¬1). وقال لليهود: «أنا أولى بموسى مِنكم» (¬2). ومن مقتضيات ختم الرسالات برسالة محمدٍ صلى الله عليه وسلم أن تتوحّد البشريةُ تحت لواءِ التّوحيدِ، لا تعترفُ بالطبقيّة ولا العُنصريةِ، وأن يُرَدّ على كلّ مُدّعٍ النبوةَ دعوتَه، بل يُصنَّفُ ضمن المتنبّئين الكذّابين الذين ابتدأ ظهورُهم ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم على قيد الحياةِ وما زال مستمرًا. ومن مقتضياتِ العالميةِ في الرسالة المحمّديةِ أن يمتدّ أثرُها في المكان لتشملَ المعمورةَ كلَّها، وتمتدّ في الزمان لتستغرقَ ما بقي من تاريخ الإنسانيةِ حتى يرثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها، لا يُفرّق في الإسلام بين عربيٍّ وأعجميٍّ وحُرٍّ وعبدٍ، وغنيٍّ وفقير، وأميرٍ ومأمور. وبمقتضى عالمية الإسلام ينبغي أن تنتهي الدياناتُ الأخرى وتصير إلى الإسلام امتثالًا لقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬3) ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فوالذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ، لا يَسمعُ بي أحدٌ من هذهِ الأُمة يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثم يموتُ ولم يُؤمنْ بالذي أُرسلتُ به إلا كان من أصحابِ النار» (¬4). عبادَ الله: ومن خصائص رسالةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم أنْ أنزلَ عليه كتابًا مُعجزًا تحدّى اللهُ به الأولينَ والآخِرين أن يأتوا بمثلِه .. ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيرًا ¬

(¬1) متفق عليه، البخاري برقم (13443) واللفظ له، ومسلم برقم (2365). (¬2) متفق عليه، البخاري برقم (3943)، ومسلم برقم (1130). (¬3) سورة آل عمران، الآية: 85. (¬4) رواه مسلم، كما في «مختصر المنذري» (13).

- وأبقى هذه المعجزةَ محفوظةً على مرّ الزمانِ وتكاثُرِ الأعداءِ، تستجيبُ لها العقولُ السليمةُ، والقلوبُ الواعيةُ، وإن لم تشهد نزولَها أو ترى الرسولَ المُنزَّل عليه بها. إن القرآنَ معجزةٌ خالدةٌ لخلودِ رسالةِ الإسلام، وهي محفوظةٌ بحفظ اللهِ ما بقيتِ الحياةُ وانتشرَ الأحياءُ .. وذلك ما لم يتوفَّر مثلُه لنبيٍّ من الأنبياءِ قبلَه - عليهمُ الصلاةُ والسلامُ. ومن خصائصِ سيرة محمدٍ صلى الله عليه وسلم ونبوَّتِه أن اللهَ تعالى أطلعَه على غيبٍ، وقصَّ عليه من الأحوالِ الأنبياءِ السابقينَ، وعرَّفه بأخبارِ الأُممِ الماضين مما لم يتوفَّر مثلُه لنبيٍّ قبلَه، ولم تعلم به أمتُه من قبلِه، قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} (¬1). وقوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (¬2). أيها المسلمون: واختُصّ محمدٌ صلى الله عليه وسلم من بين الأنبياءِ بنوعيةٍ من الأصحاب لم يتوفَّرْ مثلُهم كذلك لنبيٍّ من الأنبياء - لا في العدد ولا في النوعية، فمحمدٌ صلى الله عليه وسلم أكثرُ الأنبياءِ تَبَعًا، وأصحابُه رضوانُ الله عليهم لا يُقارَنون بغيرهم له إتّباعًا - فما قالوا له: اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولا قالوا له: (أنتَ اللهُ) أو: (ابنُ الله) أو: (ثالثُ ثلاثةٍ) - تعالى الله عما يقول الظالمون عُلوًا كبيرًا - وقد مرّت بهم مِحَنٌ وبلوى فصبروا لها، واقتضى أمرُ الإسلام أن يُفاصِلَ الابنُ أباه، بل يقاتله على الإسلام، فاستجابوا حتى أظهر اللهُ دينَه، وهذه الشّدة عبّر عنها أحدُ الصحابة لنفرٍ من التابعين كانوا يغبطونَه على رؤية رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) سورة هود، الآية: 49. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 44.

وشهودِ مشاهدِه، فاستُغضب الصحابيُّ - المقدادُ بنُ الأسود رضي الله عنه - ثم أقبل عليهم يقول: ما يحملُ الرّجلَ على أن يتمنّى محضرًا غيّبَه اللهُ عنه؟ لا يدري لو شهدَه كيف يكون فيه؟ والله لقد حضرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أقوامٌ كبَّهمُ اللهُ على مناخِرِهم في جهنّم، لم يجيبوه ولم يُصدّقوه أو لا تحمَدون اللهَ عزّ وجلّ إذْ أخرجَكم لا تعرفون إلا ربَّكم، فتُصدّقون بما جاء به نبيُّكُم صلى الله عليه وسلم، قد كُفيتُم البلاءَ بغيرِكم، واللهِ لقد بُعثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أشدّ حالٍ بُعثَ عليها نبيٌّ قَطّ، في فترةٍ وجاهليةٍ، ما يَرَون أن دينًا أفضلَ من عبادةِ الأوثانِ، فجاءَ بفُرْقانٍ فرّق به بين الحقِّ والباطلِ، وفرّق به بين الوالدِ وولدِه، حتى إن كان الرجلُ ليرى والدَه أو ولده أو أخاه كافرًا، وقد فتح الله قُفْلَ قلبِهِ بالإيمان، ويعلمُ أنه إنْ هلكَ دخل النارَ، فلا تقرُّ عينُه وهو يعلم أن حبيبَه في النارِ، وأنها للتي قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (¬1). عبادَ الله: هذه إطلالةٌ على جوانبَ من السيرة النبوية وللحديثِ بقيّة إنْ شاء اللهُ تعالى .. اللهمّ علّمنا ما ينْفَعُنا وانفعنا بما علّمتنا. ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية: 74. أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» وهو في «الصحيح» منه للألباني ص 60.

(2) في السيرة النبوية

(2) في السيرة النبوية (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفُسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلّ له ومن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدهُ ورسولُه، اللهمَّ صلّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلينَ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعينَ، والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين وسلّم تسليمًا كثيرًا. عبادَ الله: اتقوا اللهَ حقَّ التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحرصوا على هَدْي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن يتقِ اللهَ يجعلْ له مخرجًا، ومن يطع الرسول فقد اهتدى. إخوة الإسلام: ابتدأتُ في الجمعة الماضية حديثًا عن السيرة النبوية بذكرِ شيءٍ من خصائصِها، وحقيقةِ المحبةِ لصاحبها عليهِ الصلاة والسلام. وحديثُ اليوم استكمالٌ لما قبلَه، فالضرورةُ داعيةٌ لمعرفةِ هذه السيرةِ العطرةِ، بل هي كما قال ابن القيم رحمه الله: «فوق كلِّ ضرورة؛ إذ لا سبيل إلى السعادة والفلاحِ في الدُّنيا والآخرة إلا على أيدي الرسلِ، ولا سبيل إلى معرفة الطيب من الخبيث على التفصيل إلا من جهتِهِم، ولا يُنال رضا اللهِ البتة إلا على أيديهم». إلى أن يقول: «وإذا كانت سعادةُ العبد في الدارَين معلّقةً بهَدْي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيجبُ على كلِّ من نَصَحَ نفسَه، وأحبّ نجاتَها وسعادتَها أن يعرفَ من هَدْيِه وسيرتِه وشأنِه ما يخرجُ به عن الجاهلين به، ويدخلُ في عِداد أتباعِه ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/ 4/ 1421 هـ

وشيعتِه وحزبِهِ، والناسُ في هذا بين مُستقِلّ ومستكثرٍ ومحروم، والفضلُ بيدِ اللهِ يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم» (¬1). عبادَ الله: وتقديرُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وإجلاله تحدَّث عنها البُلغاءُ، وصاغها الشعراءُ قصائدَ ومديحًا تُروى وتتلى، وهذا كعبُ بنُ زهير - رضي الله عنه - الشاعرُ ابنُ الشاعرِ وأبو الشُّعراءِ - كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد أهدَرَ دمَه، فأُشير على كعب أن يأتيَ للرسولِ صلى الله عليه وسلم، فجاء إليه مُسلمًا معتذرًا، مُثنيًا على شمائِلِه، هائبًا للقائِه ومما قال: نُبّئتُ أنَّ رسولَ اللهِ أوعَدَني ... والعفوُ عند رسولِ الله مأمولُ ما زلتُ أقتطعُ البَيداءَ مُدّرعًا ... جُنحَ الظلامِ وثوبُ الليلِ مسبولُ حتى وضعتُ يميني ما أُنازعُها ... في كَفِّ ذي نَقِماتٍ قولُه القيلُ إنَّ الرسولَ لنورٌ يُستضاءُ به ... وصارمٌ من سيوفِ اللهِ مَسلولُ في عُصبةٍ من قريش قال قائلُهم ... ببطنِ مكةَ لما أسلَموا زُولوا زالوا فما زال أنكاسٌ (¬2) ولا كُشُفٌ (¬3) ... عند اللقاءِ ولا مِيلٌ (¬4) معازيلُ (¬5) شُمُّ العرانينِ أبطالٌ لبوسُهُمُ ... من نسجِ داودَ في الهيجا سَرابيلُ لا يفرحون إذا نالت رماحُهمُ ... قومًا وليسوا مجازيعًا إذ نِيلُوا إلى أن يقول - مبديًا تخوّفَه من الرسول صلى الله عليه وسلم -: فَلَهُوَ أخوفُ عندي إذ أُكلّمه ... وقيل إنك محبوسٌ ومقتولُ من خادرٍ من لُيوثِ الأُسْدِ مَسْكنُه ... ببطن عَثَّرَ (¬6) غِيْلٌ (¬7) دون غِيلُ ¬

(¬1) زاد المعاد 1/ 69، 70. (¬2) أنكاس جمع نُكُس: وهو الضعيف. (¬3) أي: الذي لا فرس له. (¬4) أي: جبان. (¬5) أي: من لا سلاح له. (¬6) اسم موضع. (¬7) أي: الشجر الملتف.

ومع ذلك كلِّه فقد عفى عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقبِلَ عُذرَه وإسلامَه، بل خلع بُردته التي كان يلبسها، فعرفت قصيدته تلك بـ (البُردة) وهي غيرُ البردة المنكرة للبوصيري (¬1). أيها المؤمنون: ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم نبيُّ الهدى والرحمة، أعطاه الله اسمين من أسمائه فقال عنه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬2)، وجعله رحمةً للأمة حيًا وميتًا، أما في حياته فكما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬3)، وقال عليه الصلاة والسلام: «حياتي خيرٌ لكم وموتي خيرٌ لكم» (¬4). أما رحمته للأمة بعد موته، فلِمَا رواه مسلم في «صحيحه» عنه صلى الله عليه وسلم إنه قال: «إن الله عز وجل إذا أراد رحمةَ أُمةٍ من عباده قبضَ نبيَّها قبلَها، فجعله لها فَرَطًا وسَلَفًا بين يديها، وإذا أراد هلَكَةَ أُمةٍ عذّبها ونبيُّها حيٌّ فأهلكها وهو ينظر، فأقرّ عينَه بهلكتِها حين كذَّبوه وعصوا أمرَه» (¬5)، إذًا فالرحمةُ حاصلةٌ بنبِّينا في حال حياتِه، وذلك لهدايتِه الخلقَ لسبيل الخير، وبعد مماتِه لتقدُّمه فَرَطًا لهم وعدم هلاكهم وفتح فُرصِ التوبة لهم. وقيل: إن رحمتَه لجميع الخلق: للمؤمن رحمةٌ بالهداية، ورحمةٌ للمنافق بالأمان من القتل، ورحمةٌ للكافر بتأخير العذاب (¬6). أيها المسلمون: وانقسم الناسُ في حياتِه ولا زالوا إلى ثلاثة أقسام: مؤمنين استجابوا لله والرسول إذْ دعاهم لِما يُحييهم، وهؤلاء جزاؤهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهارُ، لهم فيها ما يشاءون خالدين فيها. ¬

(¬1) انظر القصيدة في ديوان كعب ص 21، وانظر بعضها في «زاد المعاد» 1/ 91. (¬2) سورة التوبة، الآية: 128. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 107. (¬4) رواه ابن مسعود بسند صحيح .. انظر هامش «الشفا» للقاضي عياض 1/ 19 (2). (¬5) مسلم ح (1792). وانظر «مختصر المنذري» (1596). (¬6) القاضي عياض، «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» 1/ 19.

ومنافقين غرَّهم الشيطانُ وغرّتهم أنفسُهم، وظنوا أنهم يُخادعون اللهَ والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسَهم وما يشعرون، وهؤلاء حكَمَ اللهُ بأنهم في الدّرْك الأسفلِ من النار، ولن تجدَ لهم نصيرًا، إلا من تابَ وآمنَ وأصلحَ. وفئةٍ ثالثةٍ: كفّارٍ معاندين صُرَحَاءَ في محاربتِهم لله ورسولِه، وهؤلاء لهم نارُ جهنمَ خالدين فيها لا يُقضى عليهم فيموتوا ولا يُخفّف عنهم من عذابها، كذلك يجزي اللهُ كلَّ كفور. أمةَ الإسلام: وعاش رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم في سبيل إقرارِ هذا الدِّين ونشرِه في العالمِين حياةَ الزهدِ والكَفَافِ - ولو شاء أن تُسيَّلَ له الجبالُ ذهبًا لسالت - ولكن آثرَ أن يشبَع فيشكرَ ويجوعَ فيذكرَ، واجتمع عليه وعلى أصحابه رضوانُ الله عليهم شدةُ الجوع وشدةُ الخوفِ، وربط على بطنِه حَجَرين من شدة الجوع، في وقتٍ زاغتِ الأبصارُ وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ، وظُنَّ بالله الظنون .. هنالك ابتُلي المؤمنونَ - ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم قائدُهم - وزُلزلوا زلزالًا شديدًا، ويصف طرفًا من هذه الشّدة - في يوم الخندق والأحزاب - حذيفةُ بنُ اليمان رضي الله عنه للرجل الكوفي الذي قال له: يا أبا عبد الله، أَرأيتم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وصحبتُموه؟ قال: نعم يا ابنَ أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: واللهِ لقد كنّا نَجْهدُ. قال: فقال الكوفي: واللهِ لو أدركناه ما تركناهُ يمشي على الأرض ولحمَلْناه على أعناقِنا، قال: فقال له حذيفةُ: يا ابنَ أخي لعلك لا تدري لو أدركتَ رسولَ اللهِ ما تصنع؟ ثم ساق طَرَفًا من مواقفِ الشدةِ التي مرّت بهم ورسولُ اللهِ يُنادي في المسلمين: «مَنْ رَجُلٌ يقومُ فينظرُ لنا ما فعلَ القومُ، ثم يَرجعُ، أسألُ اللهَ أن يكونَ رفيقي في الجنةِ؟ » فما قام أحدٌ من القوم من شدّةِ الخوفِ وشدّةِ الجوع وشدّة البَرْدِ .. حتى دعاني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فلم يكن لي بُدٌّ من القيام .. إلى آخر القصةِ التي رواها ابنُ

إسحاقَ بسند حسن. وروى مسلمٌ القصةَ في كتاب المغازي (¬1). أجل، إن سيرة محمدٍ صلى الله عليه وسلم تُعلِّمُنا - فيما تعلِّمنا - العيشَ لحياةٍ كريمةٍ وهدفٍ نبيل، إنها معاني ومواقفُ تشدّ النفوسَ بعيدًا عن الزّيفِ والمبالغةِ، ولابد وأن يتخفَّفَ المرءُ من زينةِ الحياة، ويتعالى على زُخرفها، ويوم أن كانت ملوكُ فارسَ والرومَ تتقلّب على الأرائك والسُّررُ، كان محمد صلى الله عليه وسلم ينام على الحصير حتى أثّر في جنبهِ، وكانت منازلُهم قصورًا فارهةً وجناتٍ وأنهارًا، ومحمد صلى الله عليه وسلم اتخذ من حجراتِ أزواجهِ مسكنًا له في الحياة وقُبِرَ في إحداهنَّ بعد الممات. وعلّمنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم بسيرتِهِ العمليةِ الصبرَ على المِحَن، والتفاؤلَ في زمن الشدائدِ، والجِدَّ والعملَ، والثقةَ بنصر اللهِ رغم الزلازلِ والكُروبِ، وتشهد بطحاءُ مكةَ، وعَقَبةُ الطائفِ، وجَبَلُ أُحد ويومُ حُنين - وسواها من مواقع السيرةِ وأحداثِها - على صدق محمدٍ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه في الجهادِ والتضحيةِ والبلاغِ المبين. وحَسْبُ الذين يعشقون البطولةَ بكافّةِ معانيها أن يقرؤوا في السيرة وسيجدون ما يروي ظمأهم .. إي وربِّي، إنّ موقفَ أهلِ الطائفِ من دعوةِ الهُدى يمثِّلُ نوعًا من بطولةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم في الصبر وتحمُّل الأذى الجسديِّ، كيف والأذى النفسيُّ الواقعُ من أعظمها. بطولةٌ أُخرى - في هذا الحدث - يوم أن ردّ على مَلَكِ الجبالِ ومنَعَه أن يُطبقَ الأخشبين على قومهِ الذين أخرجوه، وبطولةٌ ثالثة تتمثَّل في نظرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم للمستقبلِ ويقينِه بانتصار الدعوةِ ولو في جيلٍ ما زالوا في الأصلاب، وهو ما عناه صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يُخْرِجَ اللهُ من أصلابِهم مَنْ يَعبدُ اللهَ وحدَه» يقول هذا ¬

(¬1) الصحيح المسند من فضائل الصحابة، مصطفى العدوي 333، 334، مع زيادة عليها.

وهو في موقفِه ذاك، لا يدري كيف يدخل مكةَ ثانيةً بعد أن خرج منها، وهل يأذنُ له ملأُ قريشٍ بدخولِها - وقد كان - فلم يدخلْها إلا في جِوارِ بعضِ رجالاتِها (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬2). ¬

(¬1) الشامي أضواء على السيرة ص 20 بتصرف. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 164.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لله ربّ العالمين، جعلنا خيرَ الأُمم وآخرَها، وبعث لنا خاتمَ الأنبياءِ وخيرةَ المرسلين، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، الفضلُ منه وإليه وهو العليمُ الحكيمُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، كان فضلُ اللهِ عليه عظيمًا، وفضلُه على أُمّتِه عظيمٌ أيضًا، اللهم صلِّ وسلّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين. إخوة الإيمان: وسيرةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم لقيتْ من المسلمين عنايةً مبكّرةً، فكانت أحداثُها تُروى في جيل الصحابةِ لمن لم يشهدها، فابنُ عباس رضي الله عنهما كان يُحدِّث العشيةَ كلَّها في المغازي، وكان كما يقول مَن حضر مجلسَه يُخصِّصُ جزءًا من يومِه لتدريس المغازي (¬1)، إلى حدٍّ قال معه عليُّ بنُ الحسين بنِ عليٍّ رضي الله عنهما: «كُنّا نُعلَّم مغازي النبيِّ صلى الله عليه وسلم كما نُعلَّم السّورةَ من القرآنِ» ثم تطور الأمرُ - في جيل التابعين - فأمر الخليفةُ الراشدُ عمرُ بنُ عبد العزيز - عاصمَ بنَ عمرَ بنِ قَتادةَ أن يجلسَ في جامع دمشق فيحدّثَ الناسَ بمغازي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومناقبِ أصحابه .. كما روى ابنُ سعد في «طبقاته» (¬2). واستمرت العنايةُ بالسيرة وأحداثِها تعليمًا وتأليفًا، حتى تجاوزَ الاهتمامُ بها المسلمين إلى غيرِهم، وفرضتْ بكمال أخلاقِ صاحِبِها وشمولِ أحداثها، على أحدِ الكتّاب الغربيين (مايكل هارث) إذْ ألّف كتابًا بعنوان «المائةِ الأوائل» أن يبدأ كتابَه بالرسولِ صلى الله عليه وسلم على أنه الرجلُ الأولُ والمؤثِّر في تاريخ الإنسانية كلِّها. ويقولُ لبني قومه: «إن اختياري (محمدًا) ليكون الأولَ في قائمة أهمِّ رجال ¬

(¬1) انظر: مغازي عروة بن الزبير (ص 21). (¬2) الجزء المتمم لتابعي أهل المدينة، تحقيق زياد منصور (128).

التاريخ قد يُدهشُ القرّاءَ - يعني في مجتمعِه الأمريكيِّ - ولكنه الرجلُ الوحيدُ في التاريخ كلِّه الذي نجح أعلى نجاحٍ على المستويين الديني والدنيويِّ (¬1). عبادَ الله: والسؤالُ الذي يفرضُ نفسَه علينا - معاشرَ المسلمينَ في هذه المرحلة - ما مدى عنايتِنا بسيرة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ ما نصيبُها من مناهِجِنا الدراسيةِ في المراحل الدراسية المختلفةِ وفي التخصصات الجامعيةِ، والدراساتِ العليا، وللجنسين: الذكورِ والإناثِ؟ ما حجمُ العنايةِ بها في المحاضراتِ العامةِ ودروس المساجدِ؟ وما مدى عنايتِنَا بها في تعليم أبنائنا في البيوتِ عَبْرَ حِلَقٍ أو أشرطةٍ أو كُتيباتٍ يفهمون لغتَها ويُدركون العبرةَ منها؟ هل تُعنى بها المؤسساتُ الإعلاميةُ؟ وتُخرجُ لها محلاتُ التسجيل أشرطةً صحيحةَ المعلومةِ، جيدةَ الإخراج، مشوقةً في العَرْضِ والاستنتاج .. إنها تستحقّ كلَّ عِناية، والحاجةُ إلى وصولِها للبيوتِ تفوق كثيرًا من الحوائجِ والموادِّ المُخرجةِ .. وهل ينبري لهذه المهمةِ مجموعةٌ من أهل الاختصاص في السيرة واللغةِ والأدب والإعلامِ .. حتى تتضافرَ الجهودُ وتتكاملَ التخصصاتُ. إخوة الإسلام: والعنايةُ بالسيرة النبويةِ تعني العنايةَ بالرجل وتوجيهِ مواهبِه، وتعني العنايةَ بالمرأةِ وعلوِّ هِمّتِها وصَوْنِها وحِفْظِ كرامتِها، وتعني العنايةَ بالطفلِ وحُسْنَ تربيتِه، ذلكم لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم في سيرتِه وجَّه عنايتَه لهؤلاء جميعًا، فتخرّجَ من مدرسة النّبوةِ رجالٌ ونساءٌ وأطفالٌ لم يشهدْ لهم تاريخُ البشريةِ نظيرًا. بل التفتَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم إلى الأمراءِ وأَكرم كِرامَ القوم، ولم يُغفلِ الملوكَ والرؤساءَ من دعوتِه، فكاتَبَهُم وراسلَهم، وسارت دعوتُه في القُرى والمدنِ الكبرى، يحملُها الدّعاةُ المخلصون، وتُجهّزُ لها البعوثُ والسرايا. ¬

(¬1) انظر: صالح الشامي: «من معين السيرة» ص 6.

أمةَ الإسلام: والعنايةُ بالسيرةِ النبويةِ تعني - كذلك - تقديرَ القِيَمِ ورعايةَ الأخلاقِ الفاضلةِ، وتحقيقَ العَدْلِ، ومَنْعَ الظّلم، والعنايةَ بالدعوةِ إلى الله، ونشرَ العلمِ النافعِ، ورَفْعَ رايةِ الجهادِ لإعلاءِ كلمةِ اللهِ، وهي سبيلٌ لاجتماعِ المسلمينَ، ناهيةٌ عن الفُرقَةِ والتنازعِ والشّحناءِ والبَغْضاءِ وسواها من رديء السلوكِ والأخلاق. والسيرةُ - باختصار - هي الصورةُ المُشْرقةُ الواقعيةُ لتعاليم الإسلامِ، وليست مجرّدَ رواياتٍ تُسرَدُ، فهل نقرأُ هذه السيرةَ لِنَسْتلْهمَ هذه المعاني، ونُحقّقَ الأُسوةَ الحسنةَ التي قال الله عنها: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (¬1). عبادَ الله: وحينَ بلغ الكتابُ أجلَه، واستوفى محمدٌ صلى الله عليه وسلم عُمُرَه المقدّرَ له، وكَمُل دينُ الله، وبلّغه محمدٌ صلى الله عليه وسلم البلاغَ المبينَ، نزل بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ما نزل بالأنبياءِ قبلَه، وانتقل إلى جِوارِ ربِّه في الرّفيقِ الأعلى، حتى وإن حَزِنَ المسلمون وتألَّموا لفِراقِه - وحقّ لهم أنْ يَألموا - وأجهشوا بالبكاءِ، وأظلمتِ المدينةُ في وُجوهِهم يومَ وَفاتِه، كما أشرقتْ في وجوههم يومَ قَدِمَها - في هجرته - مهاجرًا .. لكنّها سُنّةُ الله في خلقِه، تجلَّد المسلمون لها وواصلوا المسيرَ على سُنتِه وهَدْي سيرتِه، وحاربوا مَنِ ارتدوا على أعقابِهم - ممن لم يتمكّنِ الإيمانُ من قلوبهم، وهم يتلون قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (¬2). وظل هؤلاءِ الأصحابُ الكرامُ أوفياءَ للرّسالةِ التي جاء بها، فحملوها إلى ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 144.

الآفاق يفتحون المُدن بـ «لا إله إلا الله» ويدعون الخلقَ إلى طاعةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عندِ الله .. وتلك مسئوليَّتَهُم ومسئوليةُ مَنْ جاء بعدَهم من المسلمين، حتى يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها، وتلك هي البُرْهانُ على مَحبّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والشاهدُ على الانتفاع بسيرتِه. ومع ذلك كلِّه ظلّ المسلمون في المدينةِ يتذكّرون حَبيبَهم، وكلّما ذُكّروا به تحركتْ مشاعرُهم. أخرج ابنُ عساكرَ بسند جيد - كما يقول الزّرقاني - وأنكره الذهبي: أن بلالًا رضي الله عنه توجّه للشام مجاهدًا، ثم قَدِمَ المدينةَ لرؤيا رآها في النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأتى قبرَه وجعل يبكي، ثم التقى بالحسنِ والحسينِ رضي الله عنهما، فجعل يَضمُّها ويُقبِّلُهما، فقالا: نتمنى أن نسمعَ أذانَك الذي كُنتَ تؤذّنُ به لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فعلا سطحَ المسجدِ ووقَف مَوْقِفَهُ الذي كان يقفُ فيه، فلما قال: (اللهُ أكبر) ارتجّتِ المدينةُ، فلما قال: (أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله) ازدادت رجَّتُهَا، فلما قال: (أشهدُ أنّ محمدًا رسولُ اللهِ) خرجتِ العَواتقُ من خُدُورِهنَّ، وقالوا: بُعثَ رسولُ الله! فما رُؤيَ يومٌ أكثرَ باكيًا ولا باكيةً بالمدينة بعدَه صلى الله عليه وسلم أكثرَ من ذلك اليوم (¬1). أيها المسلمون: لنقرأ سيرةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأَصحابِه قراءةً واعيةً، فكم نحن محتاجون لهم، بل تحتاجُ البشريةُ كلُّها إليها، ففيها الخيرُ والفلاح والعِزّةُ والرِّفْعَةُ في الدّنيا والآخرةِ، وهي السبيلُ لخَلاص العالَم من وَيْلاتِه في الدّنيا، والطريقُ الأمِنُ للسلامة في الآخرةِ. وإن من واجبِ المسلمينَ وحقوقِ غيرِهم عليهم أن تُتَرْجمَ هذه السيرةُ إلى كلِّ لغةٍ، وتصلَ إلى كلِّ حيٍّ على هذه البسيطةِ، وكلُّ تقصير في هذه المهمةِ سُيسألُ ¬

(¬1) شرح الزرقاني على المواهب القسطلاني 3 (370)، سير أعلام النبلاء 1/ 358، وقال الذهبي إسناده لين وهو منكر.

عنه المسلمونَ .. فَدينُهم دينُ الحقّ، ورسولُهم خاتمُ المرسَلين، وبه انقطع الوحيُ من السماء، ولكن قبل أن نُترجمَ السيرةَ النبوية إلى لغاتِ الآخرينَ، لابُدّ أن نترجِمَها في واقع سلوكِنا، حتى يتحوّل المسلمُ إلى سيرةٍ تتحرّكُ على الأرض، وهذا، وإن وقف دُونَه ضَعْفُ النفوس وتداني الهِمَم، إلا أنّ اللهَ وعَدَ على مجاهدةِ النفس خيرًا وما لا يُدرَكُ كلُّه لا يُتركُ جُلَّه، اللهم هَيّئُ للمسلمين من أمرِهم رَشَدًا، وارْزُقهم مَحبّةَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم على الوجهِ المشروعِ، والدعوةَ لدينِه، والسيرَ على هَدْيِهِ والعملَ بسيرتهِ.

المخدرون المستهزئون

المخدّرون المُستهزئون (¬1) الخطبة الأولى إن الحمدَ لله نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ باللهِ من شرورِ أنفُسِنا ومن سيئات أعمالِنا. اتقوا اللهَ معاشرَ المسلمين وراقِبوه، فبالتقوى تصلُح أمورُ الدّين والدُّنيا، وبالتقوى يستقيمُ الفردُ والمجتمعُ .. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (¬2)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬4). أيها المسلمون: لا غَرَابة أن تُحاصَرَ الأمةُ الإسلاميةُ من قِبَلِ الأعداءِ، فذاك جزءٌ من العَدَاوةِ والبغضاء، وسعيٌ لتحقيقِ العَنَتِ كما قال تعالى: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (¬5) ولا غرابةَ حين يسعى اليهودُ والنصارى أو الشيوعيون أو الوثنيون أو المنافقون للعَبَثِ بهويةِ الأمةِ، ومحاربةِ فكرِها وتشويهِ أخلاقِها، والاستهانةِ بقِيَمِها، فذلك سعيٌ منهم لسَلْكِ الأمةِ في مسلكِهم، والله يقول: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (¬6)، ويقول: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} (¬7). ولكن المستغرب حقًا حين يتسلّلُ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة 19/ 1/ 1422 هـ (¬2) سورة الطلاق، الآيتين: 2، 3. (¬3) سورة الأحزاب، الآيتين: 70، 71. (¬4) سورة التوبة، الآية: 119. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 118. (¬6) سورة النساء، الآية: 89. (¬7) سورة الممتحنة، الآية: 2.

نفرٌ من أبناءِ المسلمين - بعلمٍ أو بجهل - إلى عقائد الأمةِ وأخلاقِها وثوابِتها ومصادرِ التشريع فيها .. ساخرًا مستهزئًا .. أو مشوّهًا ظالمًا، أو مُستَهينًا مستحقِرًا. وما زال المسلمون بين الفَيْنَةِ والأخرى يسمعون عن أشخاصٍ يسخرون بشيء من شعائر الدين، أو يَلمِزون المطَّوِّعين من المؤمنين، أو يقلِّلون من شأن السُّنةِ النبويةِ، أو يُطلقون لألسنتهم العَنَانَ في الطعنِ بخِيار الأمةِ من الصحابةِ أو التابعين أو العلماء الربّانيين، أو يتحدَّثون عن القِيمِ الإسلاميةِ، والحدودِ الشرعيةِ، وأحكامِ الدين القطعيةِ، على أنها قضايا مطروحةٌ للنقاشِ ولهم الخِيَرَةُ في قَبُولِها أو رفضِها، والله يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬1). إن الاستهزاءَ بشيءٍ من آياتِ اللهِ أو رسلهِ أو المؤمنينَ باللهِ لإيمانهم .. كفرٌ صُرَاحٌ ورِدّةٌ عن الإسلام، وكما قال تعالى: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (¬2). حتى وإن ظن ذلك المستهزئُ عند نفسِه أنه لم يأتِ كفرًا، كما قال شيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ رحِمَه اللهُ في تعليقه على هذه الآية، فدلّ على أنهم لم يكونوا عند أنفسِهم قد أتوا كُفرًا، بل ظنوا ذلك ليس بكفر، فبيّن أن الاستهزاءَ باللهِ وآياتهِ ورسولِه كفرٌ، يُكفّر به صاحبُه بعد إيمانه (¬3). عبادَ اللهِ: ومن أواخِر ما تَسامَع الناسُ به - في مجال السُّخريةِ بآياتِ اللهِ - الغناءُ بالقرآن، وتلحينُ آياتِه على أنغام الموسيقى وآلاتِ الطّرَبِ، ولم يكن هذا غلطةَ ساخرٍ واحدٍ، بل سَرَى ذلك في عدَدٍ من أصحابِ هذه البضاعةِ المُزْجَاةِ، وتناقلت بعضُ الصُّحفِ أسماءَ عددٍ من هؤلاءِ الساخرين، ونَتَج عن هذا نظرةٌ ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 36. (¬2) سورة التوبة، الآية: 66. (¬3) الفتاوى 7/ 273.

مَشُوبَةٌ بالحَذَرِ والاستغراب لدى عُمومِ المسلمين، الذين يَحمِلون غيرةً على حُرُماتِ الله، سواءً كانوا ملتزمين أو غيرَ ملتزمين بجميع شعائرِ الدِّينِ، لهؤلاء المُغنيّنَ والمغنياتِ. إن الغناءَ - بحدِّ ذاتِه - محرّمٌ شرعًا، كيف لا! واللهُ يقول في كتابه العزيز: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (¬1). سُئل ابنُ مسعود رضي الله عنه عن {لهو الحديث} في هذه الآيةِ، فقال: هو الغِناءُ، واللهِ الذي لا إله إلا هو - يُردّدها ثلاثًا - وكذا قال ابنُ عمرَ، وابنُ عباس وجابرٌ، ومجاهدٌ، وعكرمةُ، والحسنُ، وسعيدُ بن جُبَير، وقَتادةُ، والنّخَعيُّ وميمونُ بنُ مِهْرانَ، ومَكحولٌ (¬2). وقال ابنُ القاسم: سألت مالكًا عن الغناءِ فقال: قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (¬3) أفحقٌّ هو؟ (¬4). وقال القرطبيُّ عند تفسير هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} هذه إحدى الآياتِ الثلاثِ التي استدل بها العلماءُ على كراهةِ الغناءِ والمَنْع منه، والآيةُ الثانية قولهُ تعالى: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} (¬5) قال ابنُ عباس: هو الغناءُ بالحِمْيريّة: اسْمِدي لنا، أي: غنِّي لنا. والآية الثالثة قولهُ تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} (¬6). قال مجاهدٌ: الغناء والمزامير (¬7). ¬

(¬1) سورة لقمان، الآية: 6. (¬2) تفسير القرطبي 14/ 51، 52. (¬3) سورة يونس، الآية: 32. (¬4) السابق 14/ 52. (¬5) سورة النجم، الآية: 61. (¬6) سورة الإسراء، الآية: 64. (¬7) تفسير القرطبي 14/ 51.

وفي «صحيح» البخاري في كتاب الاستئذان «باب: كل لهو باطلٌ» إذا شَغَله عن طاعةِ الله .. ثم ساق الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}. قال ابنُ حَجر: يشمل هذا النهيُ المُشغِلُ عن طاعةِ الله ما كان مأذونًا بفعله أو منهيًّا عنه، كمن اشتغل بصلاةِ نافلة أو تلاوةٍ أو ذِكْر أو تفكّر في معاني القرآنِ مثلًا، حتى خرج وقتُ الصلاةِ المفروضةِ عَمْدًا، فإنه يدخل تحت هذا الضابط، ثم قال: وإذا كان هذا في الأشياء المُرَغّبِ فيها والمطلوبِ فِعلُها، فكيف حالُ ما دُونَها؟ (¬1) وترجمةُ البخاري هنا إشارةٌ منه إلى حديثٍ رواه أحمدُ والترمذيُّ وحسّنه أبو داودَ، والنسائي، وصححه ابنُ خزيمةَ والحاكمُ من حديث عقبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ اللهَ عزّ وجلّ ليُدْخِل بالسَّهم الواحدِ ثلاثةَ نَفَرٍ الجَنّةَ .. إلى قوله - وهو الشاهدُ هنا - «كلُّ لَهْوٍ باطلٌ، ليس من اللهوِ محمودٌ إلا ثلاثةٌ: تأديبُ الرجلِ فرسَه، وملاعبَتُه أهلَهُ، ورَمْيَه بقوسِه ونَبْلِهِ، فإنهنّ من الحقِّ» (¬2). ومن تلميح البخاريِّ إلى تصريحهِ، فقد ساق الحديثَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «ليكونَنّ من أُمتي أقوامٌ يَستحلّون الحِرَ والحَريرَ والخمرَ والمعازِفَ» (¬3). والمعازفُ هنا - كما قال شُراح الحديثِ - آلاتُ الملاهي والغناء. وتأمّل هنا قوله صلى الله عليه وسلم: «يستحِلُّون» فهو مؤشرٌ إلى حُرمتها، وتأمّل كذلك كيف قُرِن تحريمُ «المعازف» مع تحريم الزِّنا وهي «الحِر» والحريرَ والخمر .. فماذا يُقال في «الغناء» بعد هذا؟ ¬

(¬1) الفتح 11/ 91. (¬2) انظر «جامع الأصول» لابن الأثير 5/ 41، 42، و «الفتح» لابن حجر 11/ 91. (¬3) أخرجه البخار ي (5590)، الفتح 10/ 51 وفي مواطن أخرى.

إخوة الإسلام: وتردّدت عباراتُ السّلَفِ في وصفِ المُغنيّن بأوصافٍ مُشينة، فمرةً يُوصَفون بالسّفَه، ومرةً بالفسوق، فالإمامُ مالك رحمه الله قال حين سُئِلَ عن الغناء في المدينة: إنما يفعلُه عندنا الفُسّاق (¬1). وعن القرطبي قال: الاشتغالُ بالغناء على الدّوام سَفَهٌ تُرَدّ به الشهادةُ (¬2). عبادَ الله: وعن أثر الغناءِ على القلوبِ قال شيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ رحمه اللهُ: «ومَن كان له خبرةٌ بحقائقِ الدِّين وأحوالِ القلوبِ، ومعارِفِها وأذواقِها ومواجيدِها، عَرَف أن سماعَ المُكاءِ والتّصْديةِ لا يَجلبُ للقلوبِ منفعةً ولا مصلحةً، إلا وفي ضمن ذلك من الضّررِ والمفسدةِ ما هو أعظمُ منه، فهو - الغناء - للروح كالخمرِ للجسد، يفعل في النفوسِ فِعْلَ حُميا الكؤوس، ولهذا يُورّث أصحابَه سُكرًا أعظمَ من سُكر الخمر، فيجدون لَذّةً بلا تمييز، كما يجدُ شاربُ الخمر، بل يحصل لهم أكثرُ وأكبرُ مما يحصل لشاربِ الخمرِ، ويصدُّهم عن ذِكْرَ اللهِ، وعنِ الصلاة أعظمَ مما يَصُدُّهم الخمرُ، ويُوقع بينهم العداوةَ والبغضاءَ أعظمَ من الخمر، حتى يَقتلَ بعضُهم بعضًا من غير مَسٍّ بيدٍ، بل بما يقترن بهم من الشياطين (¬3). إخوة الإيمانِ: ومَن يقرأُ أو يسمعُ عن حياة ما يُسمّى (بالوسطِ الفني) يجدُ هذه الآثارَ .. ويسمعُ عن بعضِ حفلاتِهم من الاختلاطِ مع النساءِ .. واختلاطِ المسلم بغيرِه من الكُفَّار والفُسّاق .. وما يُسمّى بالليالي الحمراءِ، وكلُّها صَخَبٌ وكأسٌ وغانيةٌ، إلى غير ذلك من ممارساتٍ لا أخلاقيةٍ، يتعفّفُ القلمُ عن ذِكْرها وتُنزَّه بيوتُ اللهِ من التصريحِ بها .. وكلُّ ذلك شاهدٌ على آثارِ الغناءِ وتأثيره على متعاطِيهِ .. ممّا نسألُ اللهَ لنا ولإخواننا المسلمين السلامةَ منه {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ ¬

(¬1) تفسير القرطبي 14/ 55. (¬2) السابق 14/ 51. (¬3) الفتاوى 1/ 573، 574.

عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 8.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ للهِ ربّ العالمين، أمَرَ بالعَدْلِ والإحسان، ونهى عنِ الفحشاءِ والمُنْكَر، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، يُمهِل ولا يُهمِل، وأخْذُه أليمٌ شديدٌ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، دعا الأمةَ إلى معالي الأمورِ، ومَكارمِ الأخلاق، ونهاها عن الفواحشِ والآثام، اللهمّ صلّ وسلّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين. إخوةَ الإسلام: وأهلُ الغناءِ والمِزْمار، وأصحابُ السهراتِ والرّقصاتِ هم مُخدِّرون للأمة، ومُعوِّقون لمسيرتِها نحو مَراقي العِزّةِ والكرامةِ، وكم تسلَّل العدوُّ إلى ديار المسلمين وهم غارقون في شُربِ الكأس ومُخَدّرون في سماع أنغام الخِلِّ والحَبيب .. ؟ ! وكذلك ضاع الأقصى، وأرسلَ اليهودُ أسرابَ الطائراتِ تقصفُها في وقتٍ كنّا نُرسِلُ ألحانَ الغناءِ ونتمايلُ، وكأنّ نَصرَنا فوقَ الثُّريا - وحلّتِ النكبةُ لعدّة عواملَ، كان من بينها لَهْوُنا حين جَدّ الآخرون، وتصويرُ الهزيمة والضّياع نصرًا، واستفاق الناسُ على أَصْدَاءِ الحقيقةَ هَزيمةً وضَياعًا وتشرُّدًا، وصاغ شاعرُ الأقصى مشاعرَ الأسى عَبْر قصيدةٍ أسماها «خَدِّريهم يا كوكبَ الشرق» ومما قال فيها: كَوكبَ الشّرقِ لا تَذُوبي غَراما ... ودَلالًا وحُرقةً وهُياما لا ولا تَنفُثي الضَّياعَ قصيدًا ... عبقريًا أو تُرسِلي الأَنغاما فَدِماءُ الأحبابِ في كلِّ بيتٍ ... تَتنَزّى وتبعثُ الآلاما وجراحُ الأقصى جِرَاحُ الثّكالى ... ودموعُ الأقصى دُموعُ اليتامى إلى قوله: مَنحوكِ الإعجابَ يا وَيْحَ قومي ... وعلى الصَّدْرِ علّقوكِ الوِسَاما

ناوليهم من راحَتَيْكِ كُؤوسًا ... وامْنَحِيهم من ناظِرَيكِ ابتساما واجعلي الفَنَّ ردّةً وضَياعًا ... لا أحاسيسَ أُمةٍ تتسامى وَدَعِيهم في كلِّ وادٍ يَهيمون ... سُكارى ونُكّسي الأعلاما خَدِّريهم باللّحْنِ يا كوكبَ الشّرق ... وَصُوغي من لَحْنِكَ استسلاما (¬1) عبادَ اللهِ: وماذا حقّق هؤلاء المُغَنون والمُغنيات للأمة من أمجاد .. في زمنٍ بات العدوُّ يُحاصرُ المسلمين، ويَنهبُ خيراتِهم، ويَعبثُ بقيَمِهم ويُشوِّه أخلاقَهُم .. إنهم في وادٍ وقضايا الأمةِ وجهادُ المسلمين مع أعدائهم في وادٍ آخرَ. فكيف إذا تطاول هؤلاء المُغنون والمغنيات على القرآن، فلحّنوه على أنغامِ الموسيقى، إنها كارثةٌ ومصيبة تُضاف إلى مَصائِبهم، ولكنْ من رحمة اللهِ أن هيّأَ للمسلمين - قديمًا وحديثًا - من يُنافحُ عن الدّين والحُرماتِ، ويكشفُ عَوَرَ وانحرافَ هؤلاء المغنين والمغنيات، ويحذِّر الأمةَ من شرورهم، ولا عُدِمَت الأُمةُ من أمثالِ هؤلاء، ولكن المصيبةَ حين يَنْبَري نَفَرٌ من المسلمينَ في المقابل للدفاعِ عن هؤلاء والله يقول: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (¬2)، ويَرُوعُكَ الأمرُ حين ترى أعمدةَ الصّحفِ وبها يَعُبّ نَفَرٌ من الكُتّاب مدافعين، وربما وصفوا هؤلاء بالنّزاهةِ والعدالة، ووصفوا من كَشَفَ أمرَهم وحذّر الأُمةَ من مَكرِهم بالمغالاةِ والتسرُّع .. أو نحوِها من عباراتٍ أخرى (¬3). أيها المسلمون، أيها المغنونَ، أيها المستمِعون للأغاني: ما خُلقتم في هذه ¬

(¬1) يوسف العظم، ديوان «في رحاب الأقصى» ص 213، عن محمد الحمد التوبة وظيفة العمر (235). (¬2) سورة النساء، الآية: 105. (¬3) انظر «جريدة النخبة» عدد (136) في 13/ 1/ 1422 هـ.

الحياةِ عَبَثًا، ولن تُترَكوا هَمْلًا، راجعوا أنفُسَكم وتهّيئوا لِمَا أمامكم، وانظروا في الزاد الذي تَرِدُن به على ربِّكم .. إن حُبّ سماعِ أصواتِ الغناءِ، وحُبَّ آي القرآن في قلب امرئٍ لا يجتمعان؟ وإن الغناءَ رُقيةُ الزنا، وأَيُكم يُطيق أن يُصَبَّ في أُذنيه الآنُكُ يومَ القيامة (الرصاص المُذاب) وأيّكم يستعيضُ بسماع الغناءِ في الدُّنيا عن سماع الروحانيين في الآخرةِ، والروحانيون - كما قيل - قُرّاءُ أهلِ الجنة (¬1) أيّكم يَرْغَبُ سماعَ أصواتِ الحُمْقِ والفُجور؟ وهل عَلِمتم أنّ صوتَ الغناءِ منها، جاء في «صحيح سنن الترمذي» قولُه صلى الله عليه وسلم: «ولكن نُهيتُ عن صوتيْنِ أَحمقيْنِ فاجِرَيْنِ صوتٍ عند مصيبةٍ، خمشِ وُجوهٍ وشقِّ جيوبٍ، وَرنّةِ الشيطان» (¬2). وفي رواية «صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما: صوت مزمار ورنّةُ شيطانٍ عند نَغمةٍ ومَرَح، ورنّةٌ عند مصيبةٍ: لطمُ خدودٍ وشقُّ جيوبٍ» (¬3). يا عبدَ الله: كيف بك بالجواب عند السؤالِ عما سَمِعَتْه أُذناكَ في الدُّنيا والله يقول: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (¬4). إن بابَ التوبةِ مفتوحٌ، وربُّنا كريم ونداؤه مستديمٌ {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬5). وإذا تاب غيرُ المسلمين ورجعوا إلى ربِّهم، أفليسَ المسلمون أولى بالتوبةِ والرجوع، وبقدرِ ما نسمعُ من تطاوُلِ المغنيين أحيانًا - نسمع عن توبةِ آخرين، وكم نَسعدُ ونفرحُ لتوبةِ هؤلاء، أو لتوبة غيرِهم ممن بُلي بسماعِ الغناء، ولو ¬

(¬1) انظر «تفسير القرطبي» 14/ 53، 54. (¬2) صحيح سنن الترمذي 1/ 295، ح (804). (¬3) ذكره القرطبي وعزاه إلى الترمذي وغيره، التفسير 14/ 53. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 36. (¬5) سورة النور، الآية: 31.

نشرت وسائلُ الإعلام عن كلّ تائبٍ لرأيتم من ذلك عَجَبًا، ولقد كان المُغني البريطاني الشهير (كات ستيفنز) واحدًا من هؤلاء التائبين والداخلين في الإسلام على إثر رحلةٍ شاقةٍ في الحياة مِلْؤُها الضّجَرُ والضجيجُ الفارغُ .. وحين تاب ودخل في الإسلام قال: الحمدُ للهِ .. لقد وُلِدْتُ الآن وعرفتُ إلى أين أسيرُ .. لقد انصرفتُ عن الإسلام فترةً بسبب تشويهِ أجهزة إعلامِنا الغربيّ، بل حتى أجهزةِ الإعلام الإسلامية، فكثيرًا ما تُشوِّه الحقائقَ الإسلاميةَ .. هكذا قال هذا التائبُ ثم ختم بقوله: وأما الملايينُ التي كسبتُها من الغناء فوهَبْتُها كلّها للدعوة الإسلامية (¬1). إن في ذلك لعبرةً، وفيما سمعتم أو قرأتم من نصوصٍ على الغناء لآياتٌ موقظة. وما فتئَ علماءُ الأثرِ - قديمًا وحديثًا - يُفتون بتحريم الغناءِ ويحذّرون من سماعِه - فضلًا عن ممارسته - ودَعُوكم من فتاوى المترخِّصين في الغناء - قديمًا وحديثًا - ومن تَتبَّع الرُّخَصَ هَلَك. واحذروا مطارحاتِ ومناقشات أصحاب الأهواءِ والشُّبهاتِ والشهواتِ، المرقِّقين للدين .. والخائضين في أكثر من قضية للإثارةِ والبلبلة .. وإلا فأين هؤلاء من مناقشاتِ العلمانيين فيما يَطرحون .. وأين هم مما يُثيرُه أعداءُ الإسلام من شُبَهٍ في الإسلام، وسبّ وسخريةٍ بالرسولِ والقرآن .. أين هم من المساهماتِ الإيجابية في قضايا الأمةِ الكبرى، وسَط تحدّيات اليهود والنصارى والوثنيين وأصحاب العقائد والنِّحَل الباطلةِ؟ أين هم من الدفاع عن المسلمين المستضعَفين؟ وأين هم من نصرة المظلومين؟ هل انحسرتِ القضايا والمساهماتُ في قضايا تُفرّقُ ولا تجمَعُ، وتُثيرُ ولا تُصلِحُ .. إنها الفتنُ ¬

(¬1) محمد الحمد، التوبة ص 303.

والبلبلة، نسأل اللهَ لنا ولإخواننا العافيةَ والسلامةَ منها. واحذروا - معاشرَ المسلمين جميعًا - من البلايا والمشتبهات ومَن وَقعَ في الشُّبُهاتِ وقعَ في الحَرام، كالراعي يَرعى حول الحِمَى، ويوشك أن يرتع فيه.

وقفات حول {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع}

وقفاتٌ حول {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} (¬1) الخطبة الأولى: الحمدُ لله ربِّ العالمين أغنى وأقنى، وأماتَ وأحيى. وله الحكمُ في الآخرةِ والأُولى، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ما من دابةٍ في الأرضِ إلا هوَ آخذٌ بناصيتها، وعليه رزقُها، وبيده مبدأُها ومنتهاها، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أصابته الضراءُ، وتوفرت له السراءُ، فصبرَ وشكرَ وكانَ عبدًا شكورًا. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلين، وارضَ اللهمّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ وسلِّم تسليمًا كثيرًا. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3). أيّها المسلمونَ يُخيلُ لبعضِ الناسِ أن الجوعَ لا يكونُ إلا في أزمانِ الفقر، وأن الخوفَ لا يكونُ إلا مع الضعفِ، وأن المرضَ لا يكونُ إلا في الحياةِ البدائية. ولكن أحداثَ الزمانِ تثبتُ أن الجوعَ قد يَحصلُ في زمنِ الغِنى، بل ربما ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/ 1/ 1422 هـ (¬2) سورة النساء، الآية: 1. (¬3) سورة المائدة، الآية: 35.

تزامنَ الفقرُ مع إهدارِ الثرواتِ في البحر، وإحراقِها في البرِّ وربما وقعَ الخوفُ للأغنياء، وكم يشهدُ الناسُ انتشارَ الأمراضِ وتنوُّعَها في زمنِ الطبّ ودقةِ تخصصاتِ الأطباءِ، أجلَ، إنها الحكمةُ الربانيةُ، والبلوى تَحِلُّ وترتحلُ، وتنتقلُ عبرَ الأجيالِ والأممِ، لتؤكِّد وعدَ الرحمنِ في القرآن: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}. وهنا وحولَ هذه الآيةِ أقفُ الوقفاتِ التاليةَ: أولًا: (ما نوعُ هذه البلوى في الآية؟ ) إنها شاملةٌ للخوفِ من الأعداء، والجوعِ، وذلكَ بقلةِ الطعامِ أو فسادِه، وذهابِ الأموالِ أو بعضِها، وذلكَ بجوائحَ سماويةٍ أو غرقٍ، أو ضياعٍ، أو اعتداءِ الظلمَةِ على الأموال، وموتِ الأصحابِ والأقاربِ والأحبابِ أو مرضهم، وتلك نقصُ الأنفسِ وقلةُ البركاتِ في الثمارِ، فلا تُغِلُّ الحدائقُ ولا تُنتِجُ المزارعُ، وذلكَ نقصُ الثمرات (¬1). الوقفة الثانية: (وثمةُ بلايا وأمراضٌ أخرى): ألسنا نشهدُ في هذه الأيام ونسمعُ عن أمراضٍ لم نسمعْ بها من قبلُ، وما أن ينتهي مرضٌ إلا ويبدأ آخرُ، وهكذا من مسمياتٍ وأمراضٍ لم نسمع بها من قبلُ .. ومن أمراضِ الأورامِ الخبيثةِ المنتشرةِ والمزعجة، إلى مرضِ حمّى الوادي المتصدعِ المرعبة .. إلى الحُمَّى القُلاعيةِ الجديدة .. وهذه الحُمى الجديدة وحسبَ تصريحِ وزيرِ الزراعةِ، فإن عددَ البؤرِ المَرَضيةِ المُسجلةِ لهذه الحُمى إلى نهايةِ العامِ المنصرم (30/ 12/ 1322 هـ) بالمملكة قد بلغت ستًا وأربعينَ حالةً، وتنتشرُ حسبَ تصريحِ المصدرِ في مناطقِ المملكةِ ومدنِها، ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، والسعدي للآية (155) من سورة البقرة.

كالرياض والشرقية، ومكةَ والطائفِ والمدينةِ والحدودِ الشماليةِ، والقصيمِ، وعسير، وحائل (¬1). إن من البلايا أن يُصابَ الناسُ بالرعبِ في طعامهم، ومن المحنِ أن يتوفَر الغذاءُ ثم لا يستفيدُ الناسُ منه؛ خشيةَ ما ينتقلُ منه من أمراض .. وإذا كانت الشائعاتُ بالأمسِ تدورُ حولَ أكلِ الدجاجِ وما يخلِّفه من أمراضٍ نتيجةَ سوءِ التغذيةِ ونوعِ الطعامِ الذي تأكله .. فها نحنُ اليومَ نتخوفُ من اللحومِ نتيجة الحمى الملابسة لها .. سواءٌ منها المتصدعةُ أو القلاعية، فهلَ يفِرُّ الناسُ من هذا إلى لحومِ البحرِ ويكتفونَ بالأسماك؟ لا مفرَّ من قدرِ الله .. كيف وقد نُشرَ في الصحفِ مؤخرًا: السرطانُ يصلُ الأسماكَ .. وفي تصريحِ المتخصصينَ في علومِ البحارِ قالوا: إنهم اكتشفوا السرطانَ في سمكةٍ وزنُها خمسُ كيلو (¬2). الوقفة الثالثة: عبادَ الله (تنبيهٌ لا تخويفٌ) ومع أهميةِ الحيطةِ والحذرِ والأخذِ بالأسبابِ المشروعة، فأهمُّ من ذلك اليقينُ والتوكلُ على اللهِ، وحين نوردُ هذه الأخبارَ والأحداثَ لا من أجل التخوّفِ والهلعِ .. وإنما لأخذِ العبرةِ وللتنبيه إلى ضرورةِ العودةِ إلى اللهِ ومراجعةِ النفس، فتلك بلايا ومحنٌّ - وغيرُها كثيرٌ - يُمتحنُ الناسُ بها ليرجعوا إلى خالقِهم وليراجعوا أعمالَهم، وتأملوا نهايةَ قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬3)، وتأملوا نهايةَ الآيةِ التي نحن بصددِ الحديث عنها: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (¬4). ¬

(¬1) جريدة الجزيرة 2/ 1/ 1422 هـ. (¬2) عكاظ 2/ 1/ 1422 هـ. (¬3) سورة الروم، الآية: 41. (¬4) سورة البقرة، الآية: 156.

الوقفة الرابعة: (من أسرارِ المصائبِ ونتائجِها): إن الله تعالى يبتلي الناسَ بالسراءِ والضراءِ ليرى - وهو أعلم - شكرَهم وصبرَهم، وما دامَ الحديثُ على البلاءِ، فقد قالَ العارفون: إنّ من أسرارِ ذلك: أ- أن المسلمين إذا ابتُلوا فصبرَوا عزّتْ عقيدتُهم في نفوسِهم، ثم انتقلت هذه العزةُ إلى أعدائهم، إذ يقولونَ: لولا ما في هذه العقيدةِ التي ينتمونَ لها من خيرٍ لما صبروا على تكاليفها، ولا قَبِلُوا هذا البلاءَ، وقد ينقلبُ المعارضون للعقيدةِ باحثينَ عنها وعن أسرارها. ب- ومن أسرار البلاءِ - كذلك - أن يَصلُبَ عودُ أصحابِ العقيدةِ ويقوي، إذ المحنُ والبلايا تَستخرجُ مكنونَ القُوى، وما عندَ العبدِ من طاقة، وتفتحُ للقلوبِ منافذَ من الخيرِ ما كان لها أن تظهرَ إلا تحتَ مطارقِ الشدائدِ والمحنِ. ج- وسرٌّ ثالثٌ مهمٌّ هو الالتجاءُ إلى اللهِ وحده حينَ تُهتزُ الأسنادُ كلُّها وتتوارى الأوهامُ وهي شتّى، ويخلو القلبُ إلى الله وحدَه، لا يجدُ سندًا إلا سندَه، ولا مخرجَ ولا فرجَ إلا من عندِه (¬1). وتلك وربِّي تربيةٌ للنفوسِ في زمنِ الشدائدِ لا يعقلُها إلا من صبرَ ورجعَ إلى ربِّه، أولئكَ يُبَشّرون بالجزاءِ في الدنيا قبلَ الآخرة {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (¬2). الوقفة الخامسة: (ما جزاءُ الصبرِ على البلاء؟ ) والجواب: تجدونَ ذلك في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} (¬3) قال بعضُ المفسرين: أَمَنةً من العذابِ، وقال عمرُ رضي الله عنه: نعم ¬

(¬1) في ظلال القرآن 1/ 145 عند تفسير الآية السابقة. (¬2) سورة البقرة، الآيتين: 155 - 156. (¬3) سورة البقرة، الآية: 157.

العِدْلانِ، ونعمتِ العلاوة: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}: فهذانِ العدلان، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} فهذه العلاوة .. والعدلان: ما يوضعانِ على جانبيّ البعير، والعلاوةُ بينهما .. والمعنى: أُعطوا ثوابَهم وزيدوا أيضًا (¬1). هنا عبادَ الله تتحولُ البلايا إلى عطايا، والمحنُ إلى مِنح .. لكن دونَ ذلكَ الصبرُ والتقى، واليقينُ والتوكُّل، والاحتسابُ والشكرُ، وتلكَ وأمثالُها من معانٍ قيمةٍ لا يلقّاها إلا ذو حظٍّ عظيم. وذو علمٍ بأسرارِ المصائبِ ونتائجها. الوقفة السادسة: (من أسرارِ هاتينِ الآيتينِ ودروسِهما): قال السعديُّ رحمه الله: اشتملت هاتانِ الآيتانِ على توطينِ النفوسِ على المصائبِ قبلَ وقوعِها لتخفَّ وتسهُلَ إذا وقعت، وبيانِ ما تُقابَلُ به إذا وقعت وهو الصبرُ، وبيانِ ما يُعينُ على الصبرِ وما للصابرينَ من أجر، وإن هذا الابتلاءَ سُنةٌ من سننِ الله (¬2). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (¬3). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 1/ 285 عند الآية. (¬2) تفسير السعدي 1/ 182، 183. (¬3) سورة محمد، الآية: 31.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لله ربِّ العالمين، عظّمَ أجورَ الصابرينَ فقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬1). وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له لا يُغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، وما يَعْزُبُ عن ربّك من مثقالِ ذرةٍ في الأرضِ ولا في السماءِ ولا أصغرَ من ذلكَ ولا أكبرَ إلا في كتابٍ مبين، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله، ابتلاه ربُّه فصبرَ وشكر، وحطّ للأُمةِ منهجَ الاستقامةِ محفوفًا بالصبرِ والشكر. وهو القائل «عجبًا لأمرِ المؤمنِ، إن أمرَه كلَّه له خيرٌ، إن أصابتْهُ سَرّاءُ شكرَ، فكانَ خيرًا له، وإن أصابتْهُ ضراءُ صبرَ فكان خيرًا، وليسَ ذلكَ لأحدٍ إلا للمؤمن». اللهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ. إخوةَ الإيمان .. الوقفة السابعة: (حاجتُنا إلى الصبرِ): ما أحوجَنا إلى الصبرِ في هذه الحياةِ بحلوها ومُرِّها، وعاجِلِها وآجلِها، إننا بحاجةٍ إلى الصبرِ على طاعةِ الله بتكاليفِها وديمومتِها، وحُسنِ أدائها، وانتظار جزائها من اللهِ، وبحاجةٍ إلى الصبرِ عن معاصي اللهِ بإغراء المعصيةِ وبريقِها الخادع .. وضعفِ النفوسِ أمامَ مغرياتِها ووسوسةِ شياطينِ الإنسِ والجنّ لاقترافِها. وبحاجةٍ إلى الصبرِ على أقدارِ اللهِ المؤلمة .. بمرارِتها ومفاجأتها وتتابُعِها. قال العالِمُون: الصبرُ صبران: صبرٌ عن معصيةِ اللهِ، فهذا مجاهدٌ، وصبرٌ ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 10.

على طاعةِ الله، فهذا عابدٌ، فإذا صبرَ عن معصيةِ الله، وصبرَ على طاعةِ الله: أورثه اللهُ الرضاءَ بقضائه، وعلامةُ الرضاء سكونُ القلبِ بما وردَ على النفسِ من المكروهاتِ والمحبوبات. وقال بعضُهم: حَدُّ الصبر ألا تعترضَ على التقدير، أما إظهارُ البلوى على غير وجه الشكوى، فلا يُنافي الصبر، فقد قالَ اللهُ عن أيوب عليه السلام: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} (¬1)، مع أنه قال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} (¬2). الوقفة الثامنة: (البلايا مع الصبرِ مكفراتٌ): إن من رحمةِ الله بعباده أن يبتليَهُم ليرفعَ درجاتِهم، ويكفرَ عنهم سيئاتِهم .. وكم يتألمُ المرءُ لضُرٍّ نزل به، واللهُ تعالى أرادَ الخيرَ له، وكم يحزنُ الإنسانُ لشيءٍ فاتَه، واللهُ يُريدُ أن يُعوضَه خيرًا منه .. فهل ندركُ السرَّ، وهل نحتمي بالصبرِ مع احتسابِ الأجر؟ أخرج مسلمٌ في «صحيحه» من حديث أبي سعيدٍ الخدري وأبي هريرةَ رضي الله عنهما، أنهما سمعا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما يصيبُ المؤمنَ من وَصَب، ولا نصبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزْنٍ، حتى الهمَّ يُهِمُّهُ إلا كُفِّرَ به من سيئاته» (¬3). وفي الحديثِ الآخرِ قال صلى الله عليه وسلم: «ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِه، وولدِه، ومالِه، حتى يَلقى الله وما عليهِ من خطيئة» (¬4). الوقفة التاسعة: (البلايا بين أهلِ الإيمانِ وأصحابِ الفجور): وهنا وقفةٌ وتنبيهٌ، فقد يُخالجُ النفسَ شيءٌ حين يرى المسلمُ المصائبَ تتابعُ ¬

(¬1) سورة ص، الآية: 38. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 83. تفسير القرطبي 2/ 174. (¬3) مختصر المنذري (1789). (¬4) أخرجه الترمذي وحسنه «جامع الأصول 9/ 584».

على أهلِ الإيمان، بينما يُرى أهلُ الباطلِ والفجورِ والنفاقِ في عافيةٍ وسلامةٍ منها ظاهرًا .. وهنا لا بدَّ للمسلمِ أن يستيقنَ أن العطاءَ ليس علامةَ الرضاء، وأن البلاءَ ليس دليلَ الغضب، فقد جاءَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قوله: «إن عِظم الجزاءِ مع عِظم البلاءِ، وإن اللهَ تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فلهُ الرِّضا، ومن سَخط فله السخط» (¬1). وفي حديثٍ آخر: «إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيرًا عجّلَ له العقوبةَ في الدُّنيا، وإذا أرادَ بعبدِه الشرَّ أمسكَ عنه، حتى يُوافَى به يومَ القيامة» (¬2). وهنا مثلٌ نبويٌّ مقارنٌ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلُ المؤمنِ كمثلِ خامةِ الزرع؛ من حيثُ أتتها الريحُ تُفيئُها، فإذا اعتدلت تُلَقّى بالبلاءِ، والفاجرُ - وفي روايةٍ «المنافق» - كالأَرْزَةِ صماءُ معتدلةٌ، حتى يَقصِمها اللهُ إذا شاءَ» (¬3). وفي «موطأ مالكٍ» بسندٍ مرسلٍ عن يحيى بن سعيد رحمه الله قال: إن رجلًا جاءه الموتُ في زمنِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجلٌ: هنيئًا له، ماتَ ولم يُبتلَ بمرضٍ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ويحكَ، ما يدريكَ لو أن اللهَ ابتلاهُ بمرضٍ فكفّرَ عنه من سيئاته» (¬4). الوقفة العاشرة: (شيءٌ من البلاءِ لا كُلُّه، وأقسامُ الناسِ في البلاءِ): إن الله تعالى قال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ}. لأنه لو ابتلاهم بالخوفِ كلِّه أو الجوعِ لهلكوا، والمحنُ تمحِّصُ لا تُهلك (¬5). وعلى المسلمِ أن ¬

(¬1) رواه الترمذي وإسناده حسن «جامع الأصول 9/ 584». (¬2) رواه الترمذي وإسناده حسن، السابق 9/ 583. (¬3) متفق عليه «جامع الأصول 1/ 271». (¬4) مرسل صحيح، «جامع الأصول 9/ 583». (¬5) ابن سعدي «التفسير» 1/ 180.

يدركَ أن كلّ مصيبةٍ تنالُه فإنما هي جزءٌ من قدرِ الله، وهناكَ ما هو أعظمُ منها .. وعليه أن يسترجعَ ويصبرَ. والناسُ حيالَ المصائبِ فريقان: فريقٌ جازعٌ، وفريقٌ صابرٌ؛ فالجازعُ حصلت له مصيبتان: فواتُ المحبوبِ بهذه المصيبةِ النازلةِ، وفواتُ ما هو أعظمُ منها، وهو الأجرُ على الصبرِ عليها .. والصابرُ حصلَ على أجرِ المصيبةِ، وعلى ما يأتيهِ من فضلِ الله بَعدها، وفي «صحيح مسلم»: «ما من عبدِ تُصيبهُ مصيبةٌ فيقولُ: إنا لله وإنا إليه راجعونَ، اللَهمّ أَجِرْني في مُصيبتي واخْلُفْ لي خيرًا منها، إلا آجرَهُ اللهُ في مصيبتهِ وأخلفَ له خيرًا منها».

بشائر الإسلام في نيجيريا

بشائر الإسلام في نيجيريا (¬1) الخطبة الأولى: إنّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينهُ ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3). أيها المسلمون: المتأمل في تاريخ الأُمةِ والشعوبِ المسلمةِ يرى أنها مرّت بمرحلةِ القيادةِ والرّيادةِ، ثم انحطّت وتخلّت عنها لتخلفها أممٌ وشعوبٌ غيرُ مسلمةٍ، قُدِّر لها أن تسيطرَ وتستعمرَ وتنهبَ الخيراتِ، وليتَها توقّفت عند حدّ المادّياتِ .. لكنها تجاوزت إلى إفسادِ عقيدةِ الأُمة، وتذويب قِيَمِها والعبثِ بأخلاقِها .. وأنتجت هذه المرحلةُ من الاستعمار جيلًا فاقدَ الهويةِ، ضَحْلَ الثقافةِ الإسلاميةِ، وقد نحج المستعمرُ في توظيف هؤلاءِ لخدمة أهدافِه، فخرج المستعمرون على صيحاتِ الجهاد هنا وهناك .. ولكنهم خلَّفوا أذنابًا لهم؛ حكموا بحكمِهم، وقادوا الشعوبَ بتوجيهِ أسيادِهم، فاستمرَّ قطارُ التغريب في ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 4/ 5/ 1421 هـ (¬2) سورة التوبة، الآية: 119. (¬3) سورة الأحزاب، الآيتين: 70، 71.

بلاد المسلمين؛ في التعليم، والإعلام، وفي الحياةِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ، فضلًا عن النواحي السياسيةِ والعسكريةِ .. ومع ما خلّفتْهُ هذه المرحلةُ من آثارٍ سلبيةٍ، إلا أنّ المرحلةَ التي تلتْ هذه هي مرحلةُ اليقظةِ والصّحوةِ للشعوب المسلمةِ، لم يمنعْها رُكامُ الفسادِ .. ولم يُمِتْ شعورَها الإسلاميَّ مخططاتُ الاستعمارِ والتذويب .. نعم كلُّ ذلك لم يمنعْها أن تستجيبَ لنداء الفِطرة، وأن تعود إلى أصالَتِها، وأن ترفعَ شِعارَ الإسلامِ؛ مطالبةً لتطبيق شَرعِ الله والاحتكام إليه في سائرِ شئونها. أجل لقد أُصيب الغربُ والشرقُ بالإحباطِ على أَثَرِ صحوةِ المسلمين ويقظةِ الشعوبِ المسلمةِ، فبعد عقودٍ من الزمن حافلةٍ بالإفساد على أيديهِم وأيدي أذنابِهم، يتجدّدُ البعثُ الإسلاميُّ هنا وهناك، وكأنّ فِكرَهم وأساليبَهُم ذهبت أدراجَ الرّياح. عبادَ الله: وسأختار لكم نموذجًا لبلدٍ مسلم عاث المستعمرُ في أرضِه أكثرَ من قرنٍ من الزمان، وأحدَثَ خلال هذه الفترةِ آثارًا سيئةً، لا يزالُ بعضُها شاهدَ حالٍ على مستوى الفردِ والدولةِ، فنظامُ الدولة عِلْماني، واللغةُ الرسمية هي الإنجليزيةُ، هذه الدولةُ تُمثّل أكبرَ دولةٍ في أفريقيا من حيثُ السكانُ، والعطلةُ الأسبوعيةُ يوما السبت والأحد .. إلى غير ذلك من آثار التغريب، وهي بلدُ خيراتٍ - وإن ظل شعبُها في معظمه في عِداد الفُقراء - وهي دولةٌ متذبذبةٌ وضعيفةٌ في اقتصادِها، وإن كانت دولةً نفطيةً كبرى، لكنه الفسادُ الإداريُّ، وضعْفُ الذِّممِ منعَ وُصولَ الحقّ إلى أصحابهِ. إنها دولةُ (نيجيريا) والتي يزيد عَددُ سكانِها على عشرين ومائة مليون نسمة، يتوزَّعون على ستّ وثلاثين ولاية، ذات حكم فِدرالي، ونسبةُ المسلمين فيها تقرُبُ من سبعين في المائة - إن لم تكن قد زادت مؤخرًا - وثمّةَ وجودٌ نصرانيٌّ

غذَّاه الاستعمارُ البريطانيُّ، وزاد من نسبته في فترةِ سيطرتهِ على نيجيريا، ولم يكن من قبلُ شيئًا مذكورًا .. بل كان المسلمون وإلى جانبِهم وَثَنيّون لا يَدينون بدين .. فعمِلَ المستعمرُ على تنصير هؤلاء الوثنيين، وغرّب من استطاع من أبناء المسلمين، ويحلو للبعض أن يُطلقَ على نيجيريا (بلقان أفريقيا)؛ لأنها مقسّمةٌ دينيًّا وثقافيًا وعِرْقيًا (¬1). واليوم يُسَرُّ الزائرُ لهذا البلدِ المسلم بصحوةِ المسلمين وتعطُّشِهم إلى هَدْي السماء، وتنقل وكالاتُ الأنباءِ وأخبارُ الدنيا طرفًا من مطالباتِ الشعبِ النيجيري لتطبيق الشريعةِ .. وقد أفلحتْ هذه الدعواتُ وبدأت بعضُ الولاياتِ فعليًا بتطبيق الشريعةِ، وأعلنت أخرى عزمَها على التطبيقِ، وحّددت لذلك زمنًا قريبًا. ولا تزال الدعوة تنتقلُ من ولاية إلى أخرى، ويتوقع بعضُ المطَّلِعين أن تستجيب لنداء تطبيقِ الشريعةِ الإسلاميةِ ما يزيد على نصف ولايات نيجيريا خلال هذا العام. أيها المسلمون: والأخبارُ التي تُنقلُ عن هذا البلدِ المسلمِ لا تزال لا تُمثلُ الحقيقةَ، ولا ترسمُ الصورةَ بكامل أحداثِها، ولئن اتّهم الإعلام الكافرُ بالتحيُّزِ في عدم توضيح الصورةِ، فاللومُ يقع أكثرُ على الإعلام الإسلاميِّ بوسائله المختلفةِ، حين يقصّرُ في خدمة قضيةِ المسلمين في نيجيريا، وتوضيح حالتِهم، ونقل احتياجاتِهم لإخوانِهمُ المسلمينَ ودعمِهم لقضيتهم. إنها بشائرُ واعدةٌ ومستقبلٌ زاهرٌ بإذن الله للإسلام والمسلمين في نيجيريا .. يجدها المطّلعُ في المسجد والشارع، ويسمعها من أستاذِ الجامعة، ويراها في حماسِ العلماءِ ونشاطِ الدُّعاةِ، بل ويكبّرُ ويُهلّلُ لها عوامُّ المسلمين هناك، ¬

(¬1) العالم الإسلامي - الصادرة عن الرابطة.

وتحيةً لكلِّ مسلم نيجيريٍّ ساهم في تطبيق الشريعةِ في بلاد المسلمين. إخوةَ الإيمانِ: وهذه الصحوة في نيجيريا والمطالبةُ بتطبيق الشريعةِ ليست أمانيَّ وأحلامًا أو وعودًا وشعاراتٍ جوفاءَ .. بل هي خطواتٌ عمليةٌ ابتدأت بمنع أوكار الفساد؛ من بيوت الدعارة، ومحلات بيع الخمور، ومنعت التعامل بالرِّبا والقمار، وحاربت دورَ السينما، وأعلنت متابعة المجرمين، والقصاصَ من السُّراق والمفسدين. وانتقلت بعد ذلك إلى تطبيقاتٍ شرعيةٍ، تهدي الناسَ إلى الخيرِ، وتُشيعُ الفضيلةَ وتمنع الرذيلةَ. في ولاية (زمفرا) وهي أولُ ولايةٍ في نيجيريا أعلن حاكمُها المسلمُ (أحمد ثاني) عن تطبيق الشريعةِ، تمّ فصْلُ تعليمِ البنينِ عن البناتِ في مدارسِ الولاية منعًا للاختلاطِ بين الجنسين، وتم تخصيصُ باصاتٍ خاصةٍ بالرجال وأخرى بالنساءِ، بل وتَمّ فصلُ الرّجال عن النساءِ في المستشفياتِ، ولأول مرّةٍ في تاريخ نيجيريا أُنشئتْ وزارةٌ للشئون الإسلاميةِ، وبإمكاناتهم المحدودةِ تم توظيفُ مائتي داعيةٍ، وعشرين امرأة، وذلك لدعوة الناسِ للخير، وشَرح معاني وأهدافِ تطبيقِ الشريعةِ لسكان الولايةِ .. وعلى صعيد القضاءِ أنشئتِ المحاكمُ الشرعيةُ وشُكِّلَ مجلسٌ للقضاء، واختير له عددٌ من القُضاة للنظر في الشكاوى والجناياتِ وِفْقَ أحكام الشريعة الإسلاميةِ الغرّاءِ. وحاكمُ الولايةِ ووزراؤه حريصون على إصلاح مناهجِ التعليم، والعنايةِ بالإعلام، وحريصون كذلك على اقتصادِ البلاد، ويهمُّهم كثيرًا أن تتحسّنَ أوضاعُ سكّانِ الولايةِ ليشعروا بآثارِ تطبيق الشريعةِ وعَدْلِ الإسلام - في كافّة المجالاتِ - وبكلّ ثقةٍ وعزّة يقول حاكمُ الولاية: إنني أتطلّعُ إلى تحسين أوضاعِ

الولايةِ في كافّةِ المجالاتِ؛ ليشعرَ الناسُ بأثَرِ تطبيق الشريعةِ، ويُدْركوا الفرقَ بين المرحلتين. عبادَ الله: وحين تسمعُ إلى حاكم الولايةِ أو وزرائه يسرُّكَ جِدّيتُهم في تطبيق شَرْعِ الله، ويُثْلجُ صدرَك حرصُهم على التزام المنهج الصحيحِ في التطبيق - وإن كانوا لا يُخفونَ حاجتَهم إلى دعم إخوانِهم المسلمين لهم ماديًّا ومعنويًّا .. كما يسرُّك كذلك تفاؤلهم بنجاح تجربتِهم، بل وشعورُهم بأنّ المستقبلَ في نيجيريا للإسلام والمسلمين .. وقد كان لتجربتهم تلك أثرٌ على بقيَّةِ ولاياتِ نيجيريا، فمنها من حذا حَذْوَهم، ومنها من يتململُ سكانُها مطالبين بحقوقِهم في تطبيق الشريعةِ الإسلاميةِ كما حصل لغيرهم، لا سيما ودستورُ البلاد ينصُّ في إحدى فقراته على أنّ لكلّ ولايةٍ الحقَّ في اختيار النظام الذي تشاء في إدارةِ ولايتِها. ونظرًا لأن اختيار حاكمِ الولايةِ عن طريق أصواتِ الناخبينَ وترشيحِهم في الولاية، فإنّ الولاياتِ ذاتَ الأغلبيةِ المسلمةِ قادرةٌ على الضغط على حاكم الولايةِ لتطبيق الشريعةِ؛ فهي التي اختارَتْه، وهي التي تُطالبُه بتطبيق الشريعةِ، وإذا لم يستجبْ فموعدُه الانتخاباتُ القادمةُ. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬1). اللهم أعِزَّ الإسلامَ، وانصُرِ المسلمينَ في كلِّ مكان، وأعِزَّ الإسلامَ، وانصرِ المسلمين في نيجيريا، واللهمّ اهدهِم صراطكَ المستقيمَ، وثبّتهم واحفَظْهُم من كلّ مكروه. ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 65.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لله ربِّ العالمين، وَعَدَ بِنُصرةِ دينِه والتمكينِ لأوليائه، فقال جلّ قائلًا عليمًا: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (¬1). وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (¬2). وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، لا رادّ لقضائه ولا مُعقّبَ لحُكمِه وهو القويُّ العزيز، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أخبر وهو الصادقُ الأمينُ أنّ هذا الدينَ سيبلُغُ ما بلغ الليلُ والنهارُ، ولا يتركُ اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخلَه اللهُ هذا الدينَ، بعِزّ عزيزٍ أو بذُلّ ذليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ به الإسلامَ، وذُلًّا يُذلُّ اللهُ به الكُفرَ (¬3). اللهم صلّ وسلّم عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلين. عبادَ الله: وهذه البشائرُ في نيجيريا لم تأتِ من فراغٍ، ولم تَسلمْ من تحدّياتٍ، وليست مسدّدَة الاحتياجاتِ أو بغُنيةٍ عن الدّعم والمساعداتِ، ولا خلوًّا عن النقص والتقصير في الاجتهاداتِ .. وكلُّ ابنِ آدمَ خطّاءٌ، ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلُّها، ولكن حسبُ المرءِ أن يتوجّه بصدقٍ إلى ربِّه، وأن يكونَ عملُه خالصًا للهِ، وهدفُه نصرةُ دينِ اللهِ، ورفعُ الظّلم، وإقرارُ العدلِ بين الناسِ. ¬

(¬1) سورة الصف، الآية: 9. (¬2) سورة النور، الآية: 55. (¬3) رواه أحمد والحاكم بسند على شرط مسلم.

إن المتأملَ في واقع نيجيريا يرى أنّ المسلمين الراغبينَ في تطبيق شرع الله يواجِهُهُم تحدياتٌ كثيرة - منها الوجودُ النصرانيُّ الذي أثار ولا يزال يثيرُ الفتنَ، ويُسهم بخلق المشاكل والقلاقلِ في طريق تطبيقِ الشريعةِ، وقد نشرت جريدةُ (العالم الإسلامي)، والتي تصدر من (رابطةِ العالم الإسلامي) أن آلافًا من الشباب النصرانيِّ توافدوا من أحياءٍ نصرانيةٍ استجابةً لدعوة قادةِ الكنائسِ المحليّة - في إحدى الولاياتِ - ورفعوا لافتاتٍ كُتب على بعضِها (لا للشريعة)، وأخرى تقول: (لا للشريعة من أجل سلامةِ البلاد)، وردّد المتظاهرون هُتافاتٍ معاديةً لتطبيق الشريعةِ الإسلاميةِ، منها: (يا شباب يا شباب: الشريعةُ بابُ عذاب). ثم تطورت المظاهرةُ إلى اعتداءاتٍ على الأرواح والممتلكاتِ، وإشعالِ الحرائق والسّلْبِ والنّهْبِ - وذلك في أعنف مواجهاتٍ تشهدُها نيجيريا منذ عشراتِ السنين - على حدِّ تعبير المجلة. وفي هذا الصّدد يقفُ رئيسُ نيجيريا - الحالي - (أوبا سينجو) ضد تطبيق الشريعةِ باعتبارِه نصرانيٌّ إلى النّخاع - على حدِّ تعبير جريدة العالم الإسلامي الأنفة الذكر (¬1). ويبدي بعضُ النصارى تخوُّفَهم من تطبيق الشريعةِ من أجل السياسةِ التي يقولون أنها ستمنع أبناءَهم من تعلُّم الدين النصرانيِّ، ويتخوّفُ نصارى آخرون من مَنْعِهم من التبشير بالنصرانية. وبشكل عام فالنصارى - في نيجيريا - وهم أقلّ من المسلمين باتوا يفكرون ويُخطّطون لإفشال هذه الخطوةِ المباركةِ في تطبيق الشريعةِ، وقد فشلت محاولاتُهم السابقةُ، ونرجو أن يكونَ في وعي المسلمين لمكرِهم، وفي ¬

(¬1) 3 - 9/ ربيع الأول 1421 هـ

تمسُّكِهم بدينِهم وتوكُّلهم على ربِّهم وعدلِهم في المعاملةِ مع غيرِ المسلمين ما يحفظ اللهُ به جهودَهم ويكفيهم شرورَ أعدائهم. أيها المسلمون: أما التحدي الآخَرُ فهو من بعض جهلَةِ المسلمين وغيرهِم، ولا سيَّما أصحابُ المصالح منهم، الذين شعروا أنّ تطبيقَ الشريعة سيَحرمُهم من امتيازاتٍ حصلوا عليها في ظلّ الفسادِ الإداريِّ، والذي سيتلاشى في ظلّ تطبيقِ الشريعةِ العادلةِ، وإذا لم يَخْلُ مجتمعُ الرّسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين الذين يُظهرون ما لا يُبطنون، فأنّى للمجتمعاتِ المعاصرةِ أن تخلو من هؤلاء - لا كثَّرَهُم اللهُ - وعلى المسلمين في نيجيريا أن يتنبَّهوا جيدًا لهذا الصّنفِ من الناس فهمُ العدوُّ - كما أخبر الله - وفي حال الغفلةِ عنهم يُخربّون ما لا يُخربّهُ غيرُهم، فألسنتُهم حِدادٌ، وقلوبُهم قلوبُ الذئابِ! إخوة الإسلام: أما التحدي الثالث - الذي يواجِهُ المسلمين في نيجيريا في تطبيق الشريعةِ .. فهو تحدٍّ من جانب، واحتياجٌ من جانبٍ آخرَ، إذ إن تطبيقَ الشريعةِ في بلدٍ نُحّيتْ فيه الشريعةُ فترةً من الزمن وشاعتِ العَلْمَنةُ والتغريبُ في مناحي الحياة .. هذا من جانبٍ، ومن جانبٍ آخر ضعف الاقتصادِ، وحاجةُ عددٍ من أهل البلاد هناك إلى ضروراتِ الحياةِ - كلُّ ذلك يجعلُ تطبيقَ الشريعة يحتاج إلى إمكاناتٍ معنويةٍ ودعم ماديٍّ .. فالدعاةُ والقضاةُ هناك لا يستغنون عن دورات تُرسّخُ فهمَهم وتدعَمُ تجربتَهم، والمجتمعُ الذي يشتري الماءَ لوضوئه يحتاج إلى حفر آبارٍ تسدُّ حاجتهم، وحكامُ الولاياتِ الناصحون الذين يفكرون بإنشاءِ مدارسَ إسلاميةٍ، وجامعات تفي باحتياج ولاياتِهم، هؤلاء يستحقُّون الدعمَ والمساندةَ، وكذا حين يفكرون بإنشاءِ مكتبةٍ كبرى تضمُّ أُمهاتِ المراجعِ في العلوم الشرعيةِ والعربيةِ، وإنشاءِ إذاعةٍ ومحطةِ تلفازٍ يُبثُ منها الخيرُ ويُعرّفُ

من خلالها بالإسلام، وماذا يعني تطبيقُ الشريعة .. كذلك يستحقون الدعمَ والمساندةَ. وبكلّ حالٍ، فإن وقوفَ المسلمين مع إخوانهم - في نيجيريا - في ظلّ مرحلتِهم الراهنةِ .. هو من حقوق الأُخوَّة الإسلاميةِ، ومن نُصرة دينِ الله، والتمكين لشرعِه في الأرضِ، ما لم يرَ المسلمون خطًّا فاحشًا أو انحرافًا عظيمًا، أو تزيُّدًا وادّعاءً. والمسلمون أمةٌ واحدةٌ، وتطبيقُ شرع الله في أيِّ بُقعةٍ من بقاعِ الدنيا يُسرُّ لها المسلمون جميعًا .. وعليهم كِفْلٌ من مسئوليتها في حال نجاحِها، أو إخفاقِها لا قدّر اللهُ .. وحين تشكر المملكةُ العربيةُ السعوديةُ ممثلة في جامعاتِها الإسلاميةِ ومعاهِدها لتعليم العربيةِ على إتاحة الفُرصِ للمنحِ الدراسيةِ لأبناء العالم الإسلاميِّ، أو غيرِها من مساعداتٍ للعالم الإسلاميِّ، فالحاجةُ اليومَ أكبرُ في ظلّ حربِ العقائد واجتماع اليهودِ والنصارى على المسلمين، وأين دور المؤسساتِ الإسلاميةِ والهيئاتِ، والأغنياء والدّعاةِ والعلماءِ. عبادَ الله: إن المؤسف حقًّا ألّا تحظى هذه التجربةُ في تطبيق الشريعةِ في نيجيريا بمزيد عنايةِ وسائلِ الإعلام، ومعظمُ ما يسمعُه المسلمون هناك هو أحداثُ الشّغَبِ والاضطراباتِ فقط .. أما خطواتُ تطبيق الشريعةِ، وأما نشاطُ المسلمين وجهادُهم وحماسُهم لدينِهم، فلا تكادُ تسمعُ منها إلا نَزْرًا، وهنا يتساءل المرءُ: أين وكالاتُ الأنباءِ الإسلامية؟ وأين الإعلاميون المسلمون عمّا يجري هناك لِنَقْلِ الصورةِ بوضوحٍ للمسلمين؟ في زمنٍ بات النصارى في الغرب يُدافعون عن النّصارى في الشرقِ، وما نسيَ المسلمون بعدُ أحداثَ تيمورَ الشرقيةِ، ووقوفَ الغرب معهم حتى حققوا ما يريدون للنصرانية، أما اليهودُ فقد جمعوا فُلُولَهُم من أقطار الأرضِ وشكّلوا دولةً في وسط العالم الإسلاميِّ،

واستولوا على المقدساتِ الإسلاميةِ وعَبثوا بها، أفيكون التعاونُ والنصرةُ حِلًّا لليهودِ والنصارى، حرامًا على غيرهم؟ ! إن دينَ الله منصورٌ لا مَحالةَ، واللهُ أغْيَرُ لدينِه وحرماتِه منّا .. وإذا أمكن لإخوانِ القردةِ والخنازير، وعُبّادِ الصليبِ والمسيح أن يقودوا البشريةَ، أفيعجز المسلمون وأصحابُ الدّين الحقِّ عن القيادة! ! ولكنه القَدَرُ الإلهيُّ، والحكمةُ الرّبانيةُ لِيَميزَ اللهُ الخبيثَ من الطيبِ، ويعلم اللهُ - وهو أعلم - من ينصرُ دينَه، ويجاهدُ في سبيلِه ممَّن يتولّى ويتخلّى عن مسئوليتِهِ، {هَأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (¬1). اللهمّ انصرْ إخوانَنا في نيجيريا ومكِّن لهم، واجعل في نصرهِم نصرًا للإسلام وعزًّا للمسلمين، اللهمَّ اكفِهم شرورَ الأعداءِ وجهلَ الجُهلاء، وفتنةَ الأدعياءِ، اللهمَّ كن معهم ناصرًا ومعينًا، اللهم انصر بهم دينَكَ، واجعلهم حُماةً لشرعكَ، ووفقهم للعمل النافع والعملِ الصالح، والمنهج السديد. ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 38.

رمضان وواقع المسلمين

رمضان وواقع المسلمين (¬1) الخطبة الأولى: الحمدُ للهِ أفاءَ على أمةِ الإسلام من مواسمِ الخيراتِ ما تُجددُ به إيمانَها، وأكرمَ المسلمينَ بأيامٍ وليالٍ فاضلةٍ تعوِّضُ بها ما فاتَها، والمغبونُ - حقًا - من تساوت عنده الأيامُ والشهورُ، وتسابقَ الناسُ للخيراتِ وهو بعدُ في فُتورٍ. وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، جعلَ الصيامَ وسيلةً للتقوى، ومن يتقِ اللهَ يجعل له مخرجًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله، خيرُ من صامَ وأفطرَ، وقامَ حتى منه الأقدامُ تتفطرُ، وهو المغفورُ له ما تقدمَ من ذنبهِ وما تأخرَ .. اللهمّ صلِّ وسلم عليه وعلى سائرِ النبيينَ والمرسلينَ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعينَ، والتابعينَ، ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬3). أيّها المسلمونَ: بُشراكم شهرَ الصيام، وهنيئًا لكم - إذا بلّغكم اللهُ شهرَ رمضانَ، وكم لها من معنًى تلك التهاني التي اعتادَ بعضُنا أن يُهنئَ بعضًا بها لو عَقلناها وعملنا بمقتضاها .. أجل إن الصغيرَ والكبيرَ والذكرَ والأنثى، والرئيسَ والمرءوسَ كلٌّ منهم يُهنئُ الآخرَ في بدايةِ شهرِ رمضانَ، وهذا شيءٌ طيب .. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 5/ 9/ 1421 هـ (¬2) سورة المائدة، الآية: 35. (¬3) سورة الحجرات، الآية: 13.

لكن هل تظلّ هذه التهاني مجردَ عادةٍ لا تتجاوزُ الحناجرَ، أم ندركُ مغزاها، ونُثمّنُ القصدَ منها. إن التهنئةَ بشهرِ الصيامِ تعني فرحتَنا بهذا الشهرِ الكريم، وتعني استعدادَنا لحسنِ استقبالِه، والمنافسةَ فيه بالطاعة، وتعني شعورنا بأن أيامَه دُررٌ تختلفُ عن غيرها، وتستدعي منا المحافظةَ على كلِّ لحظةٍ، واستثمارَ كلِّ ساعةٍ بنوعٍ من أنواعِ الطاعةِ، فهل تحقَّقَ معنى التهنئة في شهرِ رمضانَ، وهل نَستحيي من أنفسِنا ومن ربِّنا أن نقولَ ما لا نفعل، أو نفعلَ خلافَ ما نقولُ؟ إن نغمةَ التهاني تُطالِعُنا في بدايةِ الشهرِ، ثم تنسحبُ ليحلَّ محلَّها الترجمانُ الصادقُ أو الكاذبُ لهذه التهاني؛ فالذينَ يقدّرونَ هذا الشهرَ الكريمَ، ويتقربونَ إلى خالقِهم بطاعتِه، ويصونونَ صومَهم عن اللغوِ والرفثِ وقولِ الزورِ وسماعِ المنكرِ ومشاهدةِ المحرَّم، أولئك لهم ترجمانٌ صادق، والذينَ يَرونَ في شهرِ الصيام فرصةً للعَبِّ من الشهواتِ، ما حلّ منها بالإسراف، وما حرم منها بالتخوض والتهتُّك، ويرون شهرَ رمضان شهرًا ثقيلًا يعدونَ أيامَه ولياليهِ، وينتظرونَ إطلالةَ شهرِ شوالِ بفارغٍ من الصبر، وأنّى لهؤلاءِ أن يدخلوا مضمارَ السّباقِ مع المسارعينَ للخيراتِ، حتى وإن أسبغَ عليهم ربُّهم من موفورِ الصحةِ وسعةِ الرزقِ ما ينبغي أن يشكروه عليه - هؤلاءِ أصحابُ الترجمانِ الكاذبِ لهذه التهاني المكرورةِ البلهاءِ. أيها المؤمنونَ: وبعيدًا عن هذه الطائفةِ المحرومةِ من فيضِ رمضانَ، وقبلَ أن نودِّعَهُم ندعو لهم، فالقلوبُ بين إصبعينِ من أصابعِ الرحمنِ يقلِّبُها كيفَ يشاءُ، ونحنُ لهم ناصحونَ لا مُشَهِّرونَ ولا شائنونَ، أقولُ بعيدًا عن هذه الفئةِ التي نسألُ الله «اللهمَّ رُدَّهم إليكَ ردًّا جميلًا، وحبِّب إليهمُ الإيمانَ وزيِّنْةُ في قلوبهم، وكرِّه إليهم الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ» فثمةَ طائفةٌ أخرى أحيا قلوبًا وأحرصَ

على الخير، وأكثرَ استعدادًا للمسارعة. ولكن أولئكَ الخيّرينَ كذلكَ لم يستثمروا رمضانَ كما ينبغي، فكم من مسجدٍ يحتاجُ إلى إمامَتِهم وهم يتسابقون إلى المسجدِ المشهورِ بُحسنِ تلاوةِ إمامهِ، أو لأن جماهيرَ من المسلمينَ تؤمُّه، وكم من تجمعاتٍ رمضانيةٍ على الأرصفةِ، أو في الاستراحاتِ يحتاجونَ إلى زيارتهم، وربما غَفلوا عن هؤلاء وأولئك، واختاروا أن يجتمعوا ويسمروا مع نظرائهم من الطيبين، وهل يغيبُ عن البالِ أن القلوبَ مهيأةٌ لسماع الدعوةِ والكلمةِ الطيبةِ في رمضانَ أكثرَ من غيرها، فأينَ استثمارُ هذه الفرصَ؟ وكَم يأخذكَ الأسى حين تسمعُ أن عددًا من الدُّعاةِ وطلبةِ العلمِ والمشايخِ ربما اعتذروا عن تقديمِ أيِّ مساهمةٍ في الدعوة، إما في مساجدهم التي يصلونَ فيها، أو في مساجدَ أخرى يمكن وصولُهم إليها .. فكيف يُساهمُ هؤلاءِ في القرى والمناطق النائيةِ - ولو ببعضِ أوقاتِهم - إن لم يكونوا مرتبطينَ بمساجد تمنعُهم من ذلك؟ وبالجملةِ فثمةَ فرصٌ كثيرةٌ للدعوةِ ونشرِ الخيرِ في رمضانَ، فأينَ الخيّرونَ منها؟ وهل تُسبقُ بدراسةٍ وتخطيطٍ وتنسيقٍ مع الجهاتِ الرسميةِ ذاتِ الاختصاص؟ لينطلِقَ قطارُ الدعوةِ في رمضانَ بمستوى يتلاءمُ وقدسيةَ هذا الشهرِ الكريم؟ أيها المسلمونَ: وعلى نطاقٍ أوسعَ والمسلمونَ كافةً يستقبلونَ رمضانَ هذا العام، وفيهم من اللأواءِ والفاقةِ والجراحِ ما لا يُشكى إلا إلى اللهِ، فهو وحدَه مفرّجُ الكروبِ ومنزلُ النصرِ. أجل إن الضيفَ الكريمَ يحلّ هذا العامَ والقلوبُ الموجعةُ تَحِنُّ إليه وفيه دواءٌ لأمراضِها، كيف لا والصيامُ سبيلٌ للتقوى، وحين تتحقَّقُ التقوى فللمتقين هدىً، والعاقبةُ للتقوى، والذين اتقوا إذا مسَّهم طائفٌ من الشيطانِ تذكَّروا فإذا

هم مبصرون، ومن يتقِ اللهَ يجعل له مخرجًا ويرزُقْه من حيثُ لا يحتسبُ .. ورمضانُ فيه عِظةٌ وذكرى لوحدةِ الأمةِ واجتماع كلمَتِها، وإذا توحَّدوا على الصيامِ في شهرٍ مخصوص، ولزموا الصيامَ من طلوعِ الفجرِ وأفطروا حين الغروب .. لا يتخلُف منهم أحدٌ عن هذا النظامِ الربانيِّ الموحَّد - إلا من عُذْرٍ أو مرضٍ - أفينبغي لهم أن يختلفوا بعد ذلك وتتفرقَ كلمتُهم، ويشمتَ بهم أعداؤهم .. وفي أعظمِ قضاياهم يسومُهم اليهودُ والنصارى سوءَ العذابِ، ثم لا يَدْعوهمُ ذلك إلى جمعِ طاقاتِهم وتوحيدِ صفوفِهم، والانتصارِ لقضيتهم، والدفاعِ عن إخوانهم المظلومينَ في كلّ مكان؟ أيّها المسلمونَ: إن الشعورَ بآلام المسلمينَ والتخفيفِ من معاناةِ المحرومينَ مطلبٌ مشروع، وكم للحروبِ من ويلاتٍ! وكم للدمارِ الشاملِ من آثارٍ! وويحَ أمةٍ يموتُ من أطفالها - في قطرٍ واحد - أكثرُ من ستةِ آلاف وخمس مئة طفل شهريًا نتيجةَ الجوعِ والمرض، ثم هي لا تدري، أو تلوذُ بالصمتِ المخزي! أيصدِّقُ العقلُ أن سبعين بالمائة من شعبِ العراقِ المسلمِ ليسَ بإمكانهم شراءُ الغذاءِ الضروريِّ، وقد اضطروا إلى بيعِ أثاثهم حتى أبوابِ المنزلِ ونحوها لتأمينِ الحاجةِ الضروريةِ من الغذاء، وفي أحد تقاريرِ الأممِ المتحدةِ تقريرٌ يقول: إن أكثرَ من 29% من أطفالِ العراقِ الأبرياءِ حتى السنةِ الخامسةِ من عمرهم يعانونَ من سوءِ التغذية، وإن 70% من النساءِ الحواملِ يعانينَ من فقرِ الدمِ الشديد، وإن النقصَ في الغذاءِ قد أدى إلى إحداثِ أضرارٍ جسيمةٍ وعقليةٍ لا يمكنُ إصلاحُها في جيلٍ كاملٍ من أطفالِ العراق - إلا أن يشاء الله - (¬1). أين أغنياءُ المسلمينَ عن مآسي إخوانِهم؟ وأين المفكرونَ؟ وأين أصحابُ ¬

(¬1) عن منظمة اليونيسيف سبتمبر 1999 م.

الغيرةِ والشهامةِ؟ وهل يشك أحدٌ أن شعبَ العراقِ المسلمَ غيرُ نظامِ صدامٍ المجرمِ، وأنَّ حزبَ البعثِ لا يعيشُ نفسَ المعاناةِ الحصاريةِ التي يعيشها بقيةُ شعبِ العراق؟ لقد سجلَ التاريخُ في أزمانِ عزتنا أن لأهلِ الذمةِ في ديارِ المسلمينَ نصيبًا من بيتِ مالِ المسلمينَ، أما اليومَ فيموتُ المسلمونَ جوعًا أو دمارًا بأنواعِ السلاحِ، والمسلمونَ ينظرون! ! وربما وُجِدَ من أغنياءِ المسلمينَ من لا يدري أين يصرفُ زكاتَه .. وربما صرفها على غيرِ المضطرينَ لها لمن يتكررُ سؤالهم واعتادوا طرقَ أبوابِ الأغنياءِ في رمضانَ، فهل يا تُرى رمضانُ هذا العام فرصةٌ أكبرُ لتلمسِ المحتاجينِ أكثرَ وإيصالها لهم بطرقٍ آمنةٍ مطمئنة. إخوةَ الإيمان: وعلى صعيدٍ آخرَ فما عرفَ المسلمونَ عبرَ تاريخِهم المُشرقِ أن شهرَ رمضانَ فرصةٌ للاسترخاء، وهذا رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم يقودُ بالمسلمينَ يومَ الفرقانِ، ويُسجلُ التاريخُ نصرَ بدرٍ في شهرِ الصيامِ، ثم يكون الفتحُ الأعظمُ لمكةَ في شهرِ رمضانَ، ويُسجل التاريخُ مرةً أخرى أن دخولَ الناس في دينِ اللهِ أفواجًا كان على أثرِ الجهادِ والفتحِ في شهرِ الصيام. وهكذا استمرّ المسلمونَ عبرَ حِقبِ التاريخِ يعظمونَ شهرَ الصيام، ويبتهلونَ إلى خالقِهِم فيه بالنصرِ، وقد كان. ودعونا نُطِلُّ من أحد زوايا تاريخِنا المشرقِ في رمضانَ لنرى كيفَ انتصرَ جندُ اللهِ على النصارى، وكان هذا النصرُ في رمضانَ، وكان ذلكَ بدايةَ فتحِ المسلمينَ للأندلس، فقد قادَ البطلُ المسلمُ طارقُ بنُ زياد معركةَ وادي لكة (شذونة) في الثامنِ والعشرين من رمضانَ عام ثنتينِ وتسعين للهجرةِ النبويةِ بقوةٍ لا تكافئُ قوةَ الأسبانِ لا عددًا ولا عُدّة، فلغةُ الأرقامِ تقولُ: إنّ عددَ جيشِ المسلمينَ - بعد المددِ - بلغَ اثني عشرَ ألفًا، وكان عددُ النصارى الإسبان - بقيادة -

(لُذريق) أربعينَ ألفًا فكيفَ إذا عُلمَ أن أرضَ المعركةِ غريبةٌ على المسلمين والأسبانُ أعلمُ بمسالكها، وهم أقربُ من المسلمين إلى مصادرِ التموين، وقد كانَ جيشُ العدوّ من التنظيمِ والكثرةِ والاستعدادِ بحيث كانوا لا يَشكونَ في هزيمةِ المسلمينَ وسحقِهم، بل بلغَ كبرياؤهم وغرورُهم أن استصحبوا معهم عددًا من الدوابّ لا تحملُ إلا الحبالَ ليُربطَ بها أسارى المسلمينَ ودارت رحى معركةٍ ضروسٍ، صدقَ فيها المسلمونَ مع ربِّهم وأبلوا بلاءً حسنًا في جهادِ عدوّهم ولم يَهِنوا أو يحزنوا، وقد سقط ربعُ جيشهم إذ استُشهدَ من المسلمين في هذه المعركةِ ثلاثةُ آلافٍ، بل صبروا حتى كان النصرُ حليفَهُم، وتمكنوا من قتلِ مَلكِ الأسبان، بل وأسروا آلافًا من النصارى في نفسِ الحبالِ التي أعدُّوها للمسلمين، وما النصرُ إلا من عندِ الله. إنها صفحةٌ مشرقةٌ من تاريخِنا يَسرّنا نصرُها وآثارُها، ويؤلمُنا ألّا يبقى لها في واقعنا المعاصرِ إلا الذكرى، ويكادُ المسلمُ منا يتوارى خجلًا من واقع أمتهِ التي لا ينقصُها العددُ ولا العتاد، ولكن ينقصُها الإيمانُ واليقينُ، ويَعزُّ في جنباتها القادةُ الصالحونَ أمثالُ أولئكَ الفاتحينَ الذين كانوا يُعبرونَ عن ثقتِهم بنصرِ ربِّهم، وحاجتهم إلى التقوى ويقولُ أحدهم: «لو كانت السماواتُ والأرضُ رَتْقًا لجعلَ اللهُ للمتقينَ منها مخرجًا» (¬1). تلك مقولةُ عبدِ الرحمن الغافقيِّ رحمَه اللهُ .. أحدُ قادةِ المسلمينَ وشهدائهم في مسيرةِ الجهادِ والفتحِ الإسلاميِّ. أما طارقُ بنُ زياد فكان يقولُ أمامَ المجاهدين: ولسنا نبالي كيف سالتْ نفوسُنا ... إذا نحنُ أدْرَكْنا الذي كان أَجدرا (¬2) ¬

(¬1) ابن الأثير «الكامل» 5/ 174. (¬2) نفح الطيب، المقري التلمساني 1/ 365.

عبادَ الله: فرقٌ بين منطقِ اليقينِ والتوكّلِ على الله، والتطلعِ إلى النعيمِ والجنانِ وبين من يتطلعونَ إلى مساعدةِ النصارى على اليهودِ .. أو ينشدونَ العونَ من منظماتٍ لا تألو في المسلمين إلًّا ولا ذمةً .. وأنّى لأمةٍ تعيشُ حالةَ الفرقةِ والشتات، ولم تنتصر بعدُ على أنفسها، أن تنتصرَ على عدوِّها .. وعسى أن يكونَ في شهرِ الصيامِ مصدرُ طاقةٍ روحيةٍ يعوضها شيئًا مما فاتها، ويورثُها التقوى وهو أعزّ مفقودٍ لها، والوحدةُ واجتماعُ الكلمة، وهو الضمانُ لعدم تنازعِها وفشلِها وذهابِ ريحهِا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 183.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لله ربّ العالمين نصرَ دينَه، وأعزّ جندَه، وهزمَ الأحزابَ وحده، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، من توكلَ عليه وفَّقهُ وهَداه، ومن اتقاهُ كفاه وجعلَ له المخرجَ والنجاةَ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه علّمَ الأمةَ مفهومَ الصيامِ الحقِّ، وحذَّرها من خوارمِ الصيامِ فقال: «مَنْ لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعملَ به، فليسَ للهِ حاجةٌ في أن يَدَعَ طعامَه وشرابَهُ» (¬1). اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ النبيينَ والمرسلينَ. إخوةَ الإسلام: أيها الصائمونَ، إن مجردَ الإمساكِ عن الطعامِ والشرابِ ليس مقصودَ الإسلامِ من وراءِ الصيام، بل لعلّ ذلك أهونُ الصيام، كما قالَ أحدُ السلفِ: أهونُ الصيامِ تركُ الطعامِ والشرابِ. بل المقصودُ الأعظمُ من الصيامِ تربيةَ النفسِ على الطاعةِ للهِ، وتزكيتُها بالصبر، واستعلاؤُها على الشهواتِ، وكما يُحفظ البطنُ ويُمنعُ من دخولِ المباحاتِ المُفطرةِ حالَ الصيام، فمن باب أولى أن تمنعَ العينُ عن النظرِ في الحرام، والأذنُ عن سماعِ المحرمِ، واللسانُ عن قولِ الزورِ والآثام. قال جابرٌ رضي الله عنه: إذا صمتَ فليصمْ سمعُك وبصرُكَ ولسانُكَ عن الكذبِ والمحارم، ودَعْ أذى الجارِ، وليكن عليكَ وقارٌ وسكينةٌ يومَ صومِك، ولا تجعل يومَ صومِكَ وفطرِكَ سواء (¬2). إن مفهومَ الصيامِ الحقِّ حين اختلّ عند نفرٍ من المسلمينَ شاعت الغيبةُ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور، والعمل به في الصوم، برقم (1903) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) لطائف المعارف، لابن رجب.

والنميمةُ عند الصائمين، وهي عند المفطرينَ من بابِ أولى، ولم يعد بعضُ المسلمينَ يتحرجُ من سماعِ الغناء وهو صائم، أو يقضي وقتًا ثمينًا أمامَ مشاهدَ هابطةٍ، لو لم يكن فيها إلا إضاعةُ الوقتِ دونُ فائدةٍ لكانَ ذلك كافيًا في الردعِ عنها، فكيفَ إذا اشتملت على صورٍ هابطةٍ وأفكارٍ رديئة، ودعوةٍ للرذيلةِ! وكيف إذا حالت دون حضورِ الصلاةِ مع جماعةِ المسلمينَ في الصلواتِ المفروضةِ .. أو أَلْهَتْ عن المكوثِ في المساجدِ آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار؟ وهل يسوغُ لمسلمٍ يُقدرُ شهرَ رمضان ويعرفُ قدسيةَ الصيامِ أن يظلّ عاكفًا على زُبالاتِ القنواتِ الفضائية، والصائمونَ في ذكرٍ وتلاوة وتهجدٍ واستغفارٍ ودعاءٍ بالأسحار. يا مسلمُ يا عبدَ الله، إن فرطتَ فيما مضى في الاستفادةِ من شهرِ الصيام، فحنانيكَ العودةَ في هذه الأيام، ودونكَ دعوةَ الجبارِ جلَّ جلالُه لك بالتوبةِ فأجبِ النداءَ، واحمد الله أن سلَّمك حتى تشهدَ رمضانَ، واعلم أنك مخاطبٌ بقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1). أفلا ترغبُ الفلاحَ؟ أفلا تجيبُ من خلقكَ فسوَّاكَ فعدَلَكَ؟ أتكذِّبُ بالدِّين؟ أم تظلّ هازلًا ساخرًا متبعًا للشهواتِ حتى في الأيام والليالي الفاضلات؟ أين أنت من ساعةِ ندمٍ لا تنفعُ صاحبَها وأنت تقرأُ في كتاب ربِّك: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬2). إنكَ تُعذبُ نفسَك بالمعصيةِ، ولن يطمئنّ قلبُكَ إلا بالطاعةِ والإنابةِ، ومسكينٌ أنتَ إنْ عذبتَ نفسَك في الدُّنيا ثم قُدتَها إلى البوارِ في الآخرةِ، فلا أنت في الدنيا اطمأننتَ .. ولا في الآخرةِ نجوتَ. ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 31. (¬2) سورة المؤمنون: الآيتين: 99، 100.

قال العارفون: «القلبُ لا يصلحُ ولا يُفلحُ ولا يتلذذُ، ولا يُسرُّ، ولا يطيبُ ولا يسكنُ ولا يطمئنّ، إلا بعبادةِ ربِّه وحبِّه والإنابةِ إليه» (¬1). وقالَ خالقُك وخالقُ العارفينَ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (¬2). بادر في التوبةِ يرعاكَ اللهُ .. فليسَ عيبًا إن زلَّت بك القدمُ فيما مضى إن أنت تداركتَ نفسَك فيما بقي، ولكن الحماقةَ والجهلَ والعنادَ والاستكبارَ أن تسمعَ داعيَ الله يدعوكَ ثم تظل مستكبرًا وكأنه لا يعنيك. إن من أحكمِ آياتِ الله قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬3). وإياك أن تضعَ في حسابِكَ اليومَ ما تستحي من ذكره غدًا، وإياك أن تظنّ أن أحدًا سيشفعُ لك بحسنةٍ واحدةٍ مهما كانت شدةُ حاجتك إلى الله .. وأقربُ الناس إليك يتخلى عنك بل يفرّ منك: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (¬4). يا أخا الإيمان ولئن تقاصرت همتُكَ في كلّ حينٍ فإياك أن تفوّتَ فرصًا تضاعفُ فيها الحسنات، وتعظمُ فيها الأجور، ويغفرُ الله الذنوب .. أجل أفق من رقدتِك .. وقل لنفسك أنتِ في رمضان .. وكفّي يا نفسُ المخادعةُ والتقصيرُ والهوان. يا عبدَ الله أنت خلقٌ من خلقِ الله ولا يسوغ لك الغفلةُ في أزمانِ اليقظة، ولا يليقُ بك التفريطُ في مواسمِ الكسبِ والتجارة .. وأي تجارةٍ أعظمُ من التجارةِ مع الله؟ ¬

(¬1) ابن تيمية، عن التوبة، محمد الحمد. (¬2) سورة الشمس، الآيتين: 9، 10. (¬3) سورة الزلزلة، الآيتين: 7، 8. (¬4) سورة عبس، الآيات: 34 - 37.

لقد دعاك ربُّك فاستجب له: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (¬1). واعلم أن من كمالِ عقلكَ ورشدكَ أن تستجيبَ لنداءِ الخير، وأن مواردَ الخشيةِ لم تنضب عندك، وإنْ أعرضتَ فهي علامةُ الشقوةِ، واختر لنفسك ما تشاءُ، وكم يقرعُ سمعك قولهُ تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} (¬2). نعم أنت في بدايةِ الشهرِ، وغدًا سيُقال: انتصفَ الشهرُ، وعن قريبٍ سيُقالُ: هلّ هلالُ شوال .. فماذا قدَّمتَ وماذا أخرت .. ومسكينٌ أنت إن دخلَ رمضانُ وخرجَ ولم تغفر ذنوبُكَ ويَزدَدْ رصيدك، وتعلُ درجاتِك في الجنان .. اتقِ الله في نفسك، وتعرض لنفحاتِ المولى، ولا تكن الشقيّ بين السعداء، ولا المحرومَ في وسطِ الأغنياء. يا صائمُ أنفق ينفقُ اللهُ عليك ويخلفْ عليك وهو خيرُ الرازقين، وصِل ما أمر اللهُ به أن يوصل يصلكَ اللهُ ويبارك لك في عمرك. يا معاشرَ المتسحرين أين أنتم من الاستغفارِ بالأسحارِ وهو سِيما المتقين .. وكم تفوتونَ فرصةَ الدعاءِ وللدعاءِ في وقتِ الأسحارِ شأن، فهناك يتنزلُ الجبارُ ويقول: هل من سائلٍ فأعطيه، هل من مستغفرٍ فأغفرَ له. أما حين يحينُ الإفطار فكم تضيع من فرصةٍ حين تنشغلُ عن الدعاءِ، والدعاءُ مسموعٌ وللصائمِ دعوةٌ عند فطره لا ترد .. فأين المستحضرونَ لها بين الفرصتينِ الذهبيتينِ في الأسحارِ وعندَ الإفطار .. وأين الملِحونَ في الدعاءِ واللهُ غنيٌّ كريم، أمرَ بالدعاءِ ووعدَ بالعطاء: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬3). ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 24. (¬2) سورة الأعلى، الآيات: 10 - 12. (¬3) سورة غافر، الآية: 60.

يا صائمونَ ترنّموا بالقرآن وازدادوا من تلاوةِ كلامِ الرحمن، وغدًا يُقال لقارئ القرآن: اقرأ وارقَ ورتل؛ فإن منزلكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤها. يا مسلمونَ صلّوا بالليلِ والناسُ نيام، وأطعموا الطعام، وأفشوا السلام تدخلوا الجنةَ بسلام. يا عبادَ الله إن ثمنَ الحسانِ الحورِ غالٍ فاطلبوها بعلوّ الهمةِ وقدّموا لها المهورَ الصالحات، وإن الجنانَ تُزينُ هذه الليالي والأيام، فسارعوا إلى بناءِ القصورِ العالياتِ بجليل الطاعاتِ وكريمِ الإحسانِ، فغدًا يُقالُ للعاملين: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬1). وهنيئًا لكم معاشرَ الصوّامِ بِبابِ الرَّيانِ لا يدخلُ منه أحدٌ الجنة سواكم. ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 32.

معالم في قضيتنا الكبرى

معالم في قضيتنا الكبرى (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. إخوةَ الإيمان مهما تحدثَ الناسُ عن اليهود، ووصفوا طباعَهم ونفسياتِهم فلن يبلغوا مبلغ القرآنِ في ذلك، وكفى أن يستيقنَ المسلمُ شدةَ عداوتِهم وهو يقرأ قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (¬2)، وأن يعلم نوعيةَ سعيهِم في الأرضِ من قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (¬3)، إنهم ملعونونَ على لسانِ أنبيائهم بما عصوا وكانوا يعتدون. وقساةُ القلوبِ بشهادةِ الذي خلقهم وهوَ العليمُ الخبير: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} (¬4) وهم أسرعُ الناسِ للإثمِ والعدوانِ بشهادةِ القرآنِ على أكثرهم {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬5). والحديثُ هنا ليسَ وصفًا لليهودِ أو استجماعًا للنصوصِ التي تكشفُ طبائعهم ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 10/ 7/ 1421 هـ (¬2) سورة المائدة، الآية: 82. (¬3) سورة المائدة، الآية: 64. (¬4) سورة المائدة، الآية: 13. (¬5) سورة المائدة، الآية: 62.

ومواقفهم وخبثَهم، فذلك له حديثٌ خاص - وإنما يتركزُ حديثُ اليومِ عن قضيتنا الكبرى مع اليهود، بمعالمها وأبعادِها وطبيعةِ الصراع فيها لاسيما ونحنُ نسمعُ ونرى - هذه الأيام - أحداثًا داميةً واعتداءً صارخًا على المسلمين، ومحاولاتٍ تتكرر للعبثِ بمقدساتهم واستفزازًا أهوجَ لمشاعرِهم، وما الحوادِثُ التي يدورُ رحاها الآن في فلسطينَ والتي راحَ ضحيتها عددٌ من القتلى ومئاتٌ من الجرحى، إلا حلقةً في هذا المسلسلِ الإجرامي الحقودِ، وحتى ندركَ حجمَ القضيةِ ونعلمَ طبيعةَ المعركةِ مع اليهود نوردُ سؤالًا ثم نجيبُ عليه أو على بعضهِ .. والسؤالُ يقول: ما هي أبرزُ المعالمِ في قضيتنا الكبرى مع اليهود؟ 1 - ليست قضيتُنا مع اليهودِ قضيةَ أرضٍ مجردةٍ، يمكن أن نتقاسمَ فيها النفوذَ، وأن نتعايشَ بسلام .. كلا، فالقضيةُ قضيةُ مقدساتٍ إسلامية، وحقوقٍ مغتصبةٍ، قضيةُ حقٍّ يمثلُه الإسلامُ والمسلمونَ تُطمسُ هويتُه ويُشرَّدُ أبناؤه، وباطلٍ تمثِّلُه اليهوديةُ المحرَّفةُ، وينتصرُ له اليهودُ المغضوبُ عليهم والنصارى الضالُّون - قضيتُنا لها بُعدُها العَقَديُّ ولها امتدادها التاريخيُّ. 2 - وليست قضيةُ فلسطين بمقدَّساتها وتاريخِها قضيةَ العربِ وحدَهم، كما يريدُ الغربُ ومن سارَ في رِكابِهم أن يُشيعوه - بل هي قضيةُ كلِّ مسلمٍ على وجهِ البسيطةِ يؤمنُ بالدِّينِ الحقِّ ويستشعرُ عداوةَ اليهودِ والنصارى للمسلمين، وينتمي لهذه المقدساتِ. 3 - والقضيةُ - كذلك - ليست حقًّا خاصًّا لمسلمي اليوم يتصرفونَ فيها كيفما شاءوا، ويتنازلونَ إذا اتفقوا، كلا بل هي ميراثٌ وأمانةٌ، ميراثٌ عن الآباءِ وأمانةٌ لا بد من تسليمها للأبناء، فقد فتحَها أسلافُنا بدمائهم، وحرّروها بصدقِ عقيدتهم وجهادهم، ولا يحقّ لنا أن نهدرَ هذه الجهودَ حين غابَ المحررون، كما لا يسوغُ لنا أن نحجرَ على مسلمي الغد فنكبِّلَهُم بمعاهداتِ سلامٍ هزيلة،

ونبيعَ حقَّنا وحقَّهم بأبخسِ الأثمان. 4 - ما هي اللغةُ التي تفهمُها إسرائيلُ ويحتاجُها العربُ والمسلمون؟ إنها لغةُ القوةِ، وبهذه القوةِ استسلمَ اليهودُ عبرَ التاريخ، وإذا تجاوزنا تاريخَهَم قبلَ الإسلامِ، واستوقَفَنا تاريخُهم في المدينةِ مع محمدٍ صلى الله عليه وسلم والمسلمينَ معه - رأينا كيف كان غدرُهم ونقضُهم للعهود، ورأينا محمدًا صلى الله عليه وسلم يتعاملُ معهم بالحصارِ والجلاءِ، بل ويُقدّمُ طوائفَ منهم لتحصدَ رؤوسُهم ويُساقونَ إلى الموتِ وهم ينظرون، وكيف لا يكون ذلك وقد نقضوا العهودَ، وألَّبُوا الأعداءَ، ودَلّوا المشركينَ على عوراتِ المسلمينَ في أُحد، ثم كانت غزوةُ الخندقِ ومجيءُ الأحزابِ بتخطيطِهم مع مشركي قريش، وآخرُ طائفةٍ منهم تماسكت على العهدِ خوفًا من المسلمينِ، حتى إذا لاحتْ لها الفرصةُ غدرتْ بنو قريظةَ في أشدّ الظروفِ وأحلكِها على المسلمينَ، تلك التي قال اللهُ عنها: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (¬1). ذلك نموذجٌ لغَدرِ اليهودِ في زمنِ النبوةِ، وذلك أسلوبٌ نبويٌّ للتعاملِ معهم، وهديُ المرسلينَ صالحٌ للاعتبارِ والاقتداءِ في كلّ زمانٍ ومكان. 5 - ما مفهومُ إسرائيلَ للسلام؟ وما هدفُها من إشاعةِ مفاهيم السلام؟ إننا نخادعُ أنفسَنا حين نعتقدُ أن إسرائيلَ جادةٌ في تحقيقِ السلامِ، والواقعُ يشهدُ بإفلاسِ المسرحياتِ الهزيلةِ للسلام، ومن كامب ديفيد بمراحله المختلفةِ وأدوارِهِ المكشوفةِ، إلى مدريدَ، أو غيرها من محطاتِ السلامِ استَسمنَ المخدوعونَ بالسلام وَرَمًا، فإذا الجبلُ يلدُ فأرًا، وإذا الانتقامُ يعقبُ السلام ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآيتين: 10، 11.

ومِدَادُه لم تجفَّ بعدُ فتتحدَّثُ الدبابةُ المجنزرةُ باسمِ السلامِ الذي تريده (يهودُ) وينطقُ الرشاشُ، وتحوم الطائراتُ المروحيةُ، وتُرمى القنابلُ المطاطيةُ وغيرُها، بشكل عشوائيٍّ لتصيبَ الأطفالَ والنساءَ والشيوخَ .. وتكونُ هذه وتلك لغةَ السلامِ المعبرةِ في ذهنِ إخوانِ القردةِ والخنازيرِ، وَمَن صنعَ مسرحيةَ السلامِ. عبادَ الله: إذًا موقفُ إسرائيلَ من السلامِ ليس على ظاهرِه، بل دافعُها للسلام إظهارُ نفسِها - للعالم - بصورةِ الإيجابيةِ المحبةِ للسلام، وذلك لتستقطبَ الاستثماراتِ وتفتحَ الأسواقَ الخارجيةَ، وذلك لتعزيز اقتصادِها، أو هي باختصار كما يقول أحدُ اليهودِ (نعوم تشومسكي) (يهودي مشهور) وهو شاهدٌ من أهلِها: «ليست سوى حملةِ علاقاتٍ عامةٍ لترويجِ إسرائيل» (¬1). 6 - بين أطفالِ الحجارةِ وترسانةِ الأسلحةِ النووية: وهنا وقفةُ إشادةٍ وتقديرٍ لأطفالِ الحجارةِ الفلسطينيينَ الذين أرعبوا اليهودَ، لكنّ السؤالَ المهمَّ: هل بلغت أمةُ المليارِ مسلم حدًّا من الضعفِ حتى أنابت عنها في قتالِ الأعداءِ أطفالًا لا يملكونَ إلا الحجارةَ، يقاتلون بها يهودَ، ويُرهبونَ بها مَن وراءَ اليهودِ؟ وفي المقابلِ فإن أمةً مدجَّجةً بالقوة وتُعدُّ ترسانةً للسلاحِ النووي، وغيره يُرهبُها أطفالٌ عُزَّلٌ من السلاحِ ليست خليقةً بالبقاءِ، ولا قادرةً على الصمودِ والتحدي حين يتوفرُ المجاهدونَ الصادقونَ، عجّلَ اللهُ وجودَهم. 7 - الغربُ ومنظماتُ الجهادِ والأصوليةِ - ومن هنا يُعلمُ سِرُّ تخوُّفِ الغربِ واليهودِ من تنظيماتِ الجهادِ وصيحاتِ المجاهدينَ، وما يسمونهم بالأصوليةِ، ومحاولاتهم تشويهَ صورتِهم ووصفَ المجاهدينَ بالإرهابيين، ذلك لأنهم ¬

(¬1) عبد الوهاب الفايز، مقال في جريدة الرياض 7/ 7/ 1421 هـ.

يدركونَ أن هؤلاءِ عدُوُّهم الحقيقي، وهؤلاءِ هم خطرُهم المستقبلي، يصرحونَ بذلك في كتبهم ولا يكتمونه، ويقول الرئيسُ الأمريكي (نيكسون) في كتابه «1999 نصر بلا حرب» يقول: «إن صراعَ العربِ ضدَّ اليهود يتطورُ إلى نزاعٍ بين الأصوليينَ الإسلاميينَ من جانبٍ، وإسرائيلَ والدولِ العربيةِ المعتدلةِ من جانبٍ آخر» (¬1). ومن جانبٍ آخرَ يعلنونَ بكلّ صراحةٍ ويقولونَ في ملتقياتِهم العامة: على روسيا وأمريكا أن تعقدَ تعاونًا لضربِ الأصوليةِ الإسلاميةِ، ويقولونَ كذلك: «علينا نحنُ الأمريكان والسوفييت تناسيِ خلافاتِنا والتحالفُ معًا لضربِ الإسلام». فهل يا تُرى يستفيقُ المغفلونَ الذين يرددونَ ما تردِّدُه الدوائرُ اليهوديةُ والنصرانيةُ في الغربِ والشرقِ عن إخوانهم المسلمين، وهل ندعمُ الجهادَ الحقَّ - وهو ذروةُ سنامِ الإسلام - ليكونَ الفيصلَ بيننا وبين أعدائنا، وهو أقصرُ الطرقِ وأنفعُها لاستردادِ حقوقِنَا وتحريرِ مقدساتِنا .. وفي خبرِ الذي لا ينطقُ عن الهوى: «وما تركَ قومٌ الجهادَ في سبيلِ الله إلّا ذلّوا». لا بُدّ من تحقيقِ الولاءِ للمؤمنينَ والبراءةِ منَ المشركينَ وفي كتابنا العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (¬2). يا للخيبةِ والعارِ حينَ يُسارعُ الممثلونَ للفلسطينيينَ لاستجداءِ الآخرينَ في صفقاتِ السلامِ الهزيل، وهم المُعتدى عليهم، في الوقتِ الذي يرفضُ فيه زعماءُ إسرائيلَ حضورَ هذه الملتقياتِ، وهم المجرمونَ المعتدونَ؟ ! ¬

(¬1) ص 284. (¬2) سورة المائدة، الآيتين: 50، 51.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لله جعلَ العزةَ للهِ ولرسولهِ وللمؤمنين، والذلةَ للكافرين والمنافقين، أحمدُه تعالى وأشكرُه وأثني عليه الخيرَ كلَّه، وأصلي وأسلم على خِيرةِ خلقهِ. أيّها المسلمون: 8 - وبين الحماسِ الشعبي والتراخي السياسيِّ يبرزُ مَعلَمٌ من معالمِ الموقفِ في قضيتِنا الكبرى، فالمتأملُ في الأحداثِ الجاريةِ مع اليهودِ في فلسطينَ يلحظُ حماسًا وعاطفةً إسلاميةً تَتّقِدُ في قلوبِ الشعوبِ العربيةِ والإسلامية، ليسَ فقط في حدود فلسطينَ، بل وخارجها، منددةً باليهود، ومن أطفالِ الحجارةِ إلى المنظماتِ الجهاديةِ، إلى المظاهراتِ الطلابيةِ، وفي أرضِ الكنانةِ (مصر) وغيرها نموذجٌ لهذا الحماسِ الإسلامي تُجاه المقدساتِ، وتُجاه الدماءِ الإسلامية، وفي مقابلِ ذلك هناكَ فتورٌ وتراخٍ في الموقفِ السياسي ممن يملكونَ القرارَ، ولا يزالونَ يحملونَ حقائبَهُم للمفاوضاتِ الخاسرةِ، وعلى الرغمِ من النكساتِ المريعةِ، والصَّلفِ اليهوديِّ المثيرِ، ولا تزالُ الشعوبُ العربيةُ والمسلمةُ تتطلعُ إلى قرارٍ جماعيٍّ وموقفٍ بطوليٍّ يضعُ حدًّا لعنفِ اليهودِ، ويُنهي مرحلةَ الذُّلِّ والاستسلام. 9 - المَعْلَمُ التاسعُ: الإعلامُ والقضية .. ونلحظُ كذلك ضعفًا في إعلامنا العربيِّ والإسلامي لخدمةِ قضيةِ فلسطينَ الكبرى، وللإعلامِ دورُه في إذكاءِ حماسِ الشعوب، بل وفي الضغطِ لاتخاذِ مواقفَ جادةٍ مع بني صهيونَ .. وماذا يصنعُ الإعلامُ الغربيُّ واليهوديُّ لو أن طفلًا يهوديًّا قتلَه المسلمون .. فكيفَ بمجموعةٍ من الأطفالِ والرجالِ والنساءِ يُقتلون .. وكيف والعبثُ بالمقدساتِ والاستفزازِ في الزياراتِ دَيْدَنُ اليهود .. والمأساةُ هي التغفيلُ من قِبَل الإعلام -

إلا مجردَ عواطفَ تخرجُ عند الحدَثِ ثم لا تلبثُ أن تخبو وكأنّ شيئًا لم يكن، أما الإعلامُ الكافرُ فمعروفٌ بتحيُّزه وخدمته لقضايا فكرهِ والدفاعِ عن أبناء جنسِه وملَّتِه، وهو غيرُ ملومٍ في خدمةِ قضايا المسلمينَ، ولكن الملومَ إعلامُ العربِ والمسلمين، على أن أمرَ القضيةِ الكبرى ليس مسئوليةَ الإعلاميين وحدَهم، بل ورجالِ الفكرِ وأساتذةِ الجامعات، وذلك بإثراءِ القضيةِ بحديثهم وبحوثهم ومقالاتِهم وكتبهم .. فأين هؤلاءِ جميعًا من قضيتِهم؟ وبكل نزاهةٍ وتجردٍ وصدقٍ وإخلاص. 10 - الهيئاتُ والمنظماتُ الإسلاميةُ والقضيةُ .. سؤالٌ يطرحُ نفسَه: كم في العالمِ العربي والإسلامي من هيئةٍ ومنظمةٍ إسلاميةٍ؟ ! وأين دورُها؟ وما أثرُ هذا الدورِ في خدمةِ القضية؟ هل يُقارنُ أثرُها وجرأتُها بالمنظماتِ والهيئاتِ الغربية؟ أم أصيبت بنوع من الإحباطِ لكثرةِ رزايا المسلمينَ، سواءٌ كان هذا أو غيرُه من الأسبابِ فلا يُبرر صمتَها في بيانِ الموقفِ الإسلامي بعيدًا عن أيِّ مؤثراتٍ أخرى .. ولا يعفيها من المسئوليةِ إن جاءَ صوتُها متأخرًا وهزيلًا .. وأيُّ هيئةٍ أو منظمةٍ إسلاميةٍ لا يعنيها شأنُ المقدساتِ، ولا تستنكرُ نزيفَ الدماءِ المسلمةِ، ولا تنددُ بظلمِ الطغاةِ والمجرمينَ .. فماذا تُقرُّ وماذا تستنكرُ؟ وللحقّ، يُقالُ: إن ثمةَ هيئاتٍ ومنظماتٍ إسلاميةٍ تستنكرُ، لكن الحديثَ عن الأعمِّ والأغلبِ، وهو دونَ المستوى المطلوبِ في حجمه وفاعليته! 11 - بين خسارتين: لا شك أن سقوطَ عدد من القتلى والجرحى في أرضِ فلسطينَ خسارةٌ على الفلسطينيينَ والمسلمينَ، ولاشكَّ أن إرهابَ الآمنينَ من المسلمينَ في الأراضي المحتلةُ يُسيءُ للفلسطينيين وعمومِ المسلمين .. ولكن الخسارةَ أعظمُ لو سارَ قطارُ السلامِ واستثمرَه اليهودُ والنصارى لصالحهم ضدَّ المسلمين، فتمَّ التطبيعُ وصدّرت إسرائيلُ أفكارَها وعقائدَها وروَّجتْ

للمخدِّرات، وانتشر الفسادُ الخلُقي، وراجَ سوقُ البغايا. إن حُمقَ اليهودِ واستفزازَهم أشعلَ فتيلَ العداوةِ ضدَّهم، وذكّرَ المسلمينَ بأهدافِهم ومخططاتِهم، واستيقنَ من لم يستيقن من المسلمينَ بفشلِ عملياتِ السلامِ وضرورةِ الاستعدادِ للمواجهة مع اليهودِ مستقبلًا، وهذه وتلك إيجابياتٌ للأحداث {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬1). 12 - تحسبُهم جميعًا وقلوبُهم شتى: تلك حقيقةٌ قرآنية تكشفُ عن تنازعِ اليهودِ واختلافِهم - فيما بينهم - وهم كذلك في القديمِ والحديثِ، وينبغي أن يدركَ المسلمونَ هذا الخللَ عند يهودَ، ويستفيدوا منه لصالحِ قضيتِهم، ولئن ظهرَ للناسِ اليومَ أن اليهودَ متفقونَ ومتماسكونَ في فلسطينَ، فليسَ الأمرُ كذلك، بل تشيرُ الدراساتُ إلى عددٍ من المشاكلِ التي تُقلقُ مضاجعَهم، فهم أحزابٌ متناحرون، وصل الأمرُ إلى قتلِ المتطرفِ منهم للمعتدلِ - في نظرهم - وإن كانوا في نظرنا كلُّهم متطرفونَ، والهجرةُ المعاكسةُ، والخروجُ من فلسطينَ لدى بعض اليهودِ بسببِ عدمِ توفرِ الأمنِ لليهودِ يقلقُ الإسرائيليين، كما يُقلقهم عدمُ استجابة السكانِ اليهودِ لدعوة تكثير النسل، لاسيما وإنهم اكتشفوا أنه مقابلَ كلّ شهيدٍ فلسطينيٍّ يولدُ عشراتٌ من الفلسطينيينَ، وهكذا الطبقيةُ المقيتةُ تزعجُ اليهود؛ ولو أنّ المسلمينَ صَدقوا في جهادِهم لاكتشفوا كثيرًا من طباعِهم ومظاهر الضعفِ فيهم. أيّها المسلمونَ: أكتفي بذكرِ هذه المعالمِ الاثنتي عشرةَ - في هذه الخطبةِ - وثمة معالمُ ووقفاتٌ أخرى في قضيتنا الكبرى أستكمِلُها في خطبةٍ لاحقةٍ بإذن اللهِ .. ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 19.

وفي نهايةِ حديثِ اليوم أقفُ ويقفُ غيري متسائلًا: وماذا ستتمخَّضُ عنه هذه المشاعرُ العربيةُ والإسلاميةُ الغاضبةُ تُجاهَ ما يصنعه اليهودُ اليومَ في أرضِ المقدسات؟ ولئن قيل: إنها ستنتهي عند حدودِ الشجبِ والاستنكارِ، كما حدثَ في مجزرةِ الخليلِ وملحمةِ صبرا وشاتيلا وسواهما من أحداثٍ داميةٍ ارتكبها اليهودُ - وهي مسطورةٌ في تاريخِهم الأسودِ - فهناك من يقولُ: إنها وإن كانت كذلك في المنظورِ القريبِ فهي على المدى البعيد ستشكلُ هذه المآسي أرضيةً تُنبتُ العزةَ والكرامةَ لدى الشعوبِ العربيةِ والمسلمةِ، وستكونُ هذه سلاحًا يُقاتلُ به اليهود، وسينشأُ في هذه المحاضنِ الصعبةِ أطفالٌ يرضعونَ كُرهَ اليهودِ ومن شايَعَهم مع ثَدْي أمهاتِهم، وسيكونونَ رجالَ المستقبلِ يقاتلونَ وهم صادقون، ويصبرونَ حتى ينتصرون. لكنها مأساةٌ بحقّ مسلمي اليومَ حين يلوذونَ بالصمتِ وهم يرونَ الحقدَ اليهوديَّ يتزايدُ، والدعمَ الغربيَّ لدولةِ الصهاينةِ يتفاقمُ، والهيئاتُ والمنظماتُ الدوليةُ تتفرجُ، بل ربما تتلذذُ بمشاهدةِ المسرحياتِ وهي تُنفَّذُ، وهم خلفَ الستار. أجل لا يسوغُ لأمّةٍ ولدت أطفالًا يقاومونَ بالحجارةِ أن تظلَّ تتفرجُ على هؤلاءِ الأطفالِ وهم يقضونَ نَحبَهم - كما يتفرجُ غيرُهم - دون أن يَنصروا مظلومًا أو يردعوا ظالمًا، وماذا سيكونُ موقفُ الحكوماتِ الإسلاميةِ التي تورطت بعلاقاتٍ واتفاقاتٍ اقتصاديةٍ أو ثقافيةٍ أو عسكريةٍ أو نحوها مع إسرائيلَ، وهي تفعلُ اليومَ ما تفعلُ بأبناءِ فلسطينَ ومقدساتِ المسلمينَ وإخوانِهم المسلمين؟ إنها مأساةٌ حين تتفرجُ أبناءُ المللِ الأخرى على ما يحصل لأبناءِ المسلمينَ

ولسانُ حالِهم يقول: أين أهلُ هؤلاءِ؟ أين أبناءُ مِلَّتهم؟ أليسَ دينهم يقول لهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬1). أليس نبيهم يقول لهم: «انصر أخاكَ ظالمًا أو مظلومًا». فأين حقوق الأخوة؟ وأين وسائلُ النصرة؟ ! اللهم كن للمسلمينَ في فلسطينَ عونًا ونصيرًا، اللهم ارحم ضعفَهم، وقوّ عزائمَهم، واقبلَ شهداءَهم، اللهمّ فرِّج كربَهم، واخذل من خذَلَهم، وانصر من نصرَهم، اللهم طهِّر مقدساتِ المسلمينَ من عبثِ اليهودِ الغاشمينَ، اللهم إنهم بَغَوا فاخْذلْهُم، وتكبَّروا فأذِلَّهُم وأهِنْهُم، اللهم عليكَ باليهودِ والنصارى ومَن سايَرَهُم من المنافقين .. اللهم أحصهِم عَدَدًا، واقتُلهُم بَدَدًا، ولا تُبق على الأرضِ منهم أحدًا، اللهمَّ اجمع كلمةَ المسلمينَ على الهُدى، وألْزِمهُم كلمةَ التقوى وأبدِل ضعفَهم قوةً وعزًّا، اللهم آمِنّا في أوطاننا، وأصلح ولاةَ أمرِنا. ¬

(¬1) سورة الحجرات، الآية: 10.

معوقون من نوع آخر

مُعوّقون من نوعٍ آخر (¬1) الخطبة الأولى: الحمدُ لله أعطى كلَّ شيءٍ خلْقَه ثم هدى، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، خلقَ كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديرًا، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، عزيزٌ عليه ما عَنِتْنَا، حريصٌ علينا، وهو بالمؤمنين رءوفٌ رحيمٌ. اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وارضَ اللهمّ عن الصحابةِ أجمعينَ، والتابعينَ ومن تبعُهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬2). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬3). يا أخا الإيمانِ: تخيّل نفسَكَ زائرًا لواحدٍ من معاهدِ الأملِ أو دارٍ للمعاقينَ .. فألفيتَ نفسَكَ بين مجموعةٍ من البشر يعيشونَ في عالمٍ يختلف - بعضَ الشيءِ - عن عالمِ الآخرينَ، فأحدُهم فاقدٌ للسمعِ أو البصرِ أو لهما جميعًا، وآخرُ مشلولَ اليدينِ أو الرجلينِ أو كليهِما، ومجموعةٌ ثالثةٌ مصابةٌ بأمراضٍ مُزمنةٍ، إنْ في الجسمِ أو في العقلِ أو بهما معًا. إن من هؤلاءِ وأولئكَ من يستخدمونَ لغةً للتفاهمِ تختلفُ عن لغتِنا، ومنهم من يمشون على الأرضِ بطريقةٍ غيرِ طريقةِ مشينا، ومنهم من يُفكر بغير العقليةِ التي ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 3/ 2/ 1422 هـ. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 13. (¬3) سورة النساء، الآية: 1.

نُفكرُ فيها .. وسبحانَ من أعطى كلَّ شيءٍ خَلْقَه ثم هدى .. وسبحانَ من أودعَ نِعمًا عند قومٍ ونزعَها من آخرين .. ليبلُوا هؤلاءِ وهؤلاءِ أيّهم أحسنُ عملًا. ومن عجائب خلقِ اللهِ أنكَ ربما أبصرتَ مُعاقًا يعملُ وينتجُ أكثرَ مما يعملُ وينتجُ الصحيحُ المعافى! وهنا نتحدثُ ونلفتُ النظرَ إلى مُعاقين، ولكن من نوع آخرَ، ولكن قبل ذلك أقول: إن المُعاقَ بفقدِ حاسةٍ أو عضوٍ .. فذاكَ قدرٌ كونيٌّ، وحسبُ هذا المعاقِ أن يصبرَ ويحتسبَ وألا تقعدَ به هذه الإعاقةُ عن المشاركةِ في مسرحِ الحياةِ .. وكم من معاقٍ حفظَ القرآنَ، وكم من معاقٍ يُمارسُ الدعوةَ إلى الله، وكم من معاقٍ يُتقنُ من المهاراتِ والأعمالِ ما لا يقدرُ عليه الأسوياءُ! كم من مُعاقٍ يملكُ هِمةً عاليةً ولم تقعدْ به إعاقتُه عن ممارستِها، وربما حرّكَ بهمَّتهِ وفاعليَّتهِ هِممَ الآخرينَ من الأسوياء! وكم يشهدُ تاريخُنا الإسلاميُّ في القديمِ والحديثِ على وجودِ عددٍ من النُّبلاءِ الأفذاذِ، وإن فقدوا شيئًا من جَوارِحهم أو لم تكتمل لهم قواهمُ، ومع ذلك أثْرُوا وساهموا مساهماتٍ جليلةٍ، إنْ في الجهادِ أو العلمِ أو مجالاتٍ أخرى، صحيحٌ أن اللهَ قال: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} (¬1)، ولكن هؤلاءِ لم يَعذروا أنفسَهم، فحملَ الأعمى الرايةَ في سبيلِ اللهِ، وقال ابنُ أمِّ مكتومٍ رضي الله عنه: «ادفعوا إليّ اللواءَ، فإني أعمى لا أستطيعُ أنَ أفِرَّ وأقيموني بين الصفين» (¬2). وأصَرَّ عمرو بنُ الجموح رضي الله عنه وهو الشيخُ الكبيرُ والأعرجُ المعذورُ .. إلا أن ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 61. (¬2) ابن سعد في «الطبقات»، الذهبي في «السير» 1/ 360.

يشاركَ في الجهادِ، وأن يطأ بعرجتِه الجنةَ، فدخلَ المعركةَ وكان من بين شهداءِ المسلمينَ في أحد. وجعفرٌ الطيارُ لم تقعدْ به الإعاقةُ عن مواصلةِ القيادةِ للمسلمينَ في مؤتة .. حتى إذا سَقطَ في أرضِ المعركةِ شهيدًا على إثرِ قطْعِ يديهِ ثم بَتْرِ جسمه .. أعاضَه اللهُ عن تلك اليدينِ بجناحين يطيرُ بهما في الجنة .. إنها الهمةُ حتى الموتِ، فهل قعدتِ الإعاقةُ بهؤلاءِ عن مشاركةِ المسلمينَ في الجهادِ والدعوةِ .. وإذا كانت تلك نماذجَ العطاءِ لمن عُذروا أو من نُسميهم نحن بالمعاقين، فلا تسأل عن عطاءاتِ وتضحياتِ غيرهمِ .. وهل نُعيدُ النظرَ في مصطلحِ الإعاقةِ؟ ومن هم المعاقون؟ إذًا من هم المعاقونَ من نوعٍ آخرَ؟ إنهم أولئكَ الذينَ أنعم اللهُ عليهم بعطايا ونِعَمٍ، لكنهم لم يستثمروها، إنهم معطِّلونَ لقواهم أو صارفونَ لهذه الطاقاتِ في غير محلِّها، إنهم الكُسالى والمحرومون، والعاجزونَ وأهلُ الأماني. 1 - إنك حين تُبصرُ شابًّا يمتلئُ حيويةً ونشاطًا، وتكتملُ حواسُّه، ولم يُصَبْ بشيءٍ في عقلِه .. لكنه كَلٌّ على المجتمع، لا يَستفيدُ ولا يُفيدُ، لا يتعلمُ ولا يعملُ، ليس سويًّا في سلوكِه، وأنّى لهُ أن يشاركَ في إصلاحِ الآخرين .. إنه ليس في عملٍ للدنيا .. ولا عبادةٍ للآخرة، لم يستفد منه والداه وأهلُه .. وأنّى للمجتمعِ أن يستفيدَ منه! ! شابٌّ تلك بعضُ صفاتِه .. أيطلقُ عليه سويٌّ أم معاق؟ إنه في نظري معاق .. ولكن إعاقتَه من نوعٍ آخر! 2 - وحين ترى كهلًا بلغَ من العُمُر عِتِيًّا لكنه لا يحفظُ من القرآنِ إلا نَزرًا .. وقد لا يُحسنُ بعضُهم قراءةَ الفاتحةِ إلا تكسيرًا .. لا عجزًا ولكن تكاسلًا .. هذا الكهلُ في عمرِه المديدِ ليست له هِمّةٌ للمعالي، ولا يُعرفُ عنه أيُّ مشاركةٍ

في عملِ خيرٍ أو دعوةٍ، وربما عاشَ دهرَه ولم يُظل نفسَه ومن يَعولُ ببيتٍ يملكُه .. ليس فقرًا ولكن ضَعف هِمّةٍ وسوء تدبيرٍ .. ماذا يقالُ عنِ مثلِ هذا؟ أين هذا من كهلٍ يتحركُ محمولًا، ومشلولةٌ بعضُ أعضائه .. ومع ذلك يُخيفُ الأعداءَ ويَنْكأُ بهم .. سلاحُه قلبٌ قوي، ولسانٌ عَقول، وهِمّةٌ عالية، وصبرٌ على تَبعاتِ الإعاقة؟ أهو في عداد المعاقين أم الأسوياء؟ ! 3 - وماذا يُقال عن امرأةٍ سَويةٍ، لكنَّ همَّتَها مصروفةٌ للموضةِ والإسرافِ في الزينة .. تعيشُ عددٌ من النساءِ الكافراتِ لهدفٍ تخدمُه، وهذه المسكينةُ تنتهي أهدافُهَا في حدودِ المَطعمِ والملبسِ، فهي فائقةٌ في أنواعِ الطبخاتِ، ومتابعةٌ للجديدِ في الملبوسات والموديلاتِ. إنها مكتملةُ الحواسِّ - لكنها لم تستثمِرْها في العبوديةِ الحقّةِ، فقد تؤخَّرُ الصلاةَ عن وقتِها، وقد تنامُ مِلْءَ جفونِها سحابةَ النهار وشطرًا من الليل، وأسوأُ من ذلك حين تستخدم شيئًا مما أنعمَ اللهُ به عليها في معصيةِ اللهِ .. وأسوأُ منه حين تفتنُ الآخرين أو الأُخريات بسوءِ فِعالِها ورديءِ أخلاقِها؟ أين هذه من امرأةٍ بلغت بها الشيخوخةُ حدًّا تتكئُ على عصاها حين تريد القيام لصلاتِها .. ومع ذلك فهي حافظةٌ للقرآن، ولهَا منه وِرْدٌ في الصباحِ والمساء، محافظةٌ على السُّننِ والأذكار .. ولها نصيبُها من قيامِ الليلِ والصيامِ، تَشعرُ بآلامِ المسلمينَ والمسلماتِ؛ ولذا تراها ترفعُ يدَيهَا بالدعاءِ لهم حين لا تملكُ شيئًا آخرَ تُساعدُهم به .. وهي تتفطرُ ألمًا وحسرةً حين ترى طائفةً من الفتياتِ يُضيعنَ زهرةَ شبابِهنّ في أمورٍ لا قيمةَ لها .. وكأن لسانَ حالِها يقول: يا ليتني كنتُ شابةً مِثلَكُنّ لَتَرَيَنَّ ما أصنع!

4 - معاشرَ الشباب: وكم نُسرُّ حين نرى شابًّا أو شابةً ملتزمين، ولكن كم نتألمُ حينَ نرى الالتزامَ بصورةٍ مشوهةٍ لما أمر به الإسلامُ من أخلاقٍ وآدابٍ وعلمٍ وعملٍ وذوقٍ وجمال .. إن الالتزامَ الحقَّ ليس مظاهرَ فارغةً من مضمونها، ولا مجردَ انتماءٍ أو ادِّعاءٍ .. وكم يُسوءُكَ حينَ ترى ملتزمًا سلبيًّا لا يعيش همومَ أُمَّتِه .. ولا يفكِّر في المساهمةِ في إصلاح مجتمعه، وقد ترى حوله ثُلةً من الشبابِ المنحرفِ فلا يُحدثُ نفسَه بنُصْحِهم، وربما كان في طريقه إلى المسجدِ مجموعةٌ من شبابِ الأرصفةِ أو مجموعةٌ من العمالةِ منهمكينَ في العمل وقت الصلاة، فلا تراه يُذكّرُ هؤلاء وأولئك .. وكم يسوءُكَ كذلك أن تسمعَ عن هذا الشابِّ الملتزمِ أنه شُعلةٌ من النشاط والخدمةِ مع زملائِه فإذا كان في البيتِ كان مثالًا للكسلِ والخمول .. إنْ دعاه والداه لعملٍ أو قضاءِ حاجةٍ تبرَّمَ وتضايقَ، وإن قامَ بها قامَ مُجامِلًا كسولًا، وهو مع إخوتِه وأخواتِه نموذجٌ لسوءِ الخُلقِ، فهذا ينهرُه وذاك يضربه والكلّ يفرحُ بخروجه من البيتِ ويتضايقُ حين يسمعُ بمجيئه .. وأنّى لهذا الشابّ أن يقدمَ الدعوةَ لأهل بيتِه، ولو حاولَ وهو بهذه المثابةِ من الخلقِ، فأنّى لمن حوله أن يستجيبَ له .. هو في خارج المنزلِ كثيرُ الحديثِ عن أهميةِ التبكير للصلاة، ولكنه إذا نامَ في البيتِ كان شغلَ أهلهِ في الإيقاظ .. وربَّما قضى الصلاةَ كثيرًا في المنزل، هو اجتماعيٌّ منطلقٌ مع زملائه، لكنه مع شبابِ أسرتهِ وعشيرتِه نموذجٌ للانطوائيةِ والسلبيةِ. فهل مثلُ هذا سَوِيٌّ أم معوَّق؟ وللحقِّ فإنّ عددًا من الشبابِ والشاباتِ الملتزمينَ والملتزماتِ يربأونَ بأنفسِهم عن هذه الازدواجية في الأخلاقِ والمعاملةِ وفيهم نماذجٌ للذوقِ الرفيعِ والخُلُق الكريم، ولكنَّ الحديثَ هنا موجهٌ إلى فئةٍ من المعوَّقينَ لكنْ من نوعٍ آخر! إنه حديث عن فئةٍ محسوبةٍ على الشبابِ الأخيارِ، لكنّ حياتَه وبرنامَجَه

وكلامَه وخُلُقَه على خلاف ذلك، فهو عِبءٌ على الدعوةِ وخللٌ من الداخلِ، إنه معوّقٌ لنفسِه وعائقٌ لإخوانه. 5 - عبادَ الله: وثَمّةَ نوعٌ آخرُ من معوَّقين، لكن من نوعٍ آخر - إنه العالِمُ أو طالبُ العلمِ الذي يحفظُ كمًّا من النصوص، ويستظهرُ عددًا من الأدلةِ الشرعية، ويعرفُ - أكثرَ من غيره - في الأحكامِ والآدابِ والأخلاق .. ولكن لا يرفعُ بالعلمِ رأسًا، فهو في ذاتِ نفسِه مُقصّرٌ أكثرَ من تقصير العوامِّ والجهلة .. ففي المسجدِ تراه في مؤخِّرةِ الصفوفِ وربما قضى الصلاةَ كثيرًا، وربما اطَّلَعْتَ في بيته على عددٍ من المنكراتِ لا يرضاها من هو دُونَه في العلمِ والفقه، وإذا سألتَ عن نوع تعاملِه مع الآخرين، قيلَ لك ما يسوء من الغلظةِ والفظاظةِ والطمعِ والشَّرَه، وهو مانعٌ لزكاةِ العلمِ، فلا تراه في حلقةٍ يُعلم، ولا في مسجدٍ يعظ، ولا في أسرةٍ يُذكِّر ويدعو - إنه الحرمانُ والإعاقة .. ومن النَّصفِ أن يُقال: إن عددًا ممن يحملونَ العلم ليس هذا شأنَهم .. ولكن الحديثَ تنبيهٌ عن فئةٍ معاقةٍ وما بها في الحقيقةِ من إعاقة .. ومحرومةٍ وهي تَمتلكُ ما تتجاوزُ به الحرمان - والذكرى تنفعُ المؤمنين، والنصحُ للهِ ولرسوله ولكتابه ولأئمةِ المسلمينَ وعامَّتِهم، واللهُ الهادي والموفقُ إلى سواءِ السبيل .. اللهم انفعنا وانفع بنا.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ للهِ ربّ العالمين، أفاءَ على عبادِه من النعمِ ما يستوجبُ الشكرَ والعملَ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، فاوتَ في الهِمَمِ بين عباده، فهذا نشيطٌ وذاك كسول، وهذا مُعطى وآخرُ محروم، وربُّك حكيمٌ عليم، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، كان نموذجًا للعملِ الدءوب، والجِدِّ والاجتهاد .. وقد أوصى أمتَه بذلك كلِّه، والسعيدُ من سارَ على نهجِه واقتفى أثرَه .. اللهمّ صلِّ وسلم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين. أيّها المسلمونَ: 6 - وفي عالَمِ واقعنا بِما رأيتَ أو سمعتَ عن إنسانٍ يملكُ القناطيرَ المقنطرةَ من الذهبِ والفضة، وأرصدتُه الضخمةُ تتوزعُ على عددٍ من البنوكِ والمؤسساتِ والشركات المصرفية - لكنه قَتورٌ مُمسك، تكادُ تُشفقُ عليه إذا رأيتَ حالَه، وربما ظنَّه من لا يعرفُه في عدادِ الفقراءِ والمحتاجين، لا أثرَ لنعمةِ اللهِ عليه في ذاتِه، وربما عاشَ أهلُه ومن يعولُ حالةً من الكَفافِ والتقشفِ والحِرمانِ، مما أحوجَ الآخرينَ للتصدقِ عليهم، ولربما ذهبَ أبناؤه يستسلفونَ الآخرينَ لزواجهم أو لقضاءِ حوائجهمِ الأخرى .. وكم مسَّت الحاجةُ نفرًا من عشيرتهِ وأقربائه، فلم يفكروا بطلبِ العونِ منه، ومدَّ لهم آخرونَ يدَ المعونةِ وإن لم تربطهم بهم نسبٌ ولا قرابةٌ - وأنّى لهذا الصِّنفِ المُمْسكِ أن يتحسسَ حاجاتِ الفقراءِ من خارجِ أُسرتهِ! وأنّى لهذا المحرومِ أن يُقدمَ العونَ والمساعدةَ لفقراءِ المسلمينَ هنا أو هناك! ما فائدةُ هذه الأرصدةِ؟ وأينَ حقُّ اللهِ في هذه القناطيرِ المقنطرةِ؟ أين سرورُه بما جمعَ؟ وأين بهجةُ أهلِه وأولادهِ وعشيرتهِ بما فتحَ اللهُ عليه؟ أين شعورُه بآلامِ

الفقراءِ والمُعوزينَ؟ أين كَفْكفتُه لدموعِ الأيامى واليتامى والأراملِ والمحتاجين؟ لا شيءَ من ذلك، بل نصيبُه الكدحُ والهمُّ، واللومُ والذمُّ، ذاكَ في الدنيا .. وفي الآخرةِ أشدُّ وأنكى إذا لم يؤدِّ حقّ اللهِ فيه .. هذا إن كان الجمعُ حلالًا .. فإنْ خالطَه شيءٌ من الحرام فتلك ظلماتٌ بعضُها فوقَ بعضٍ، ومن لم يجعل اللهُ له نورًا فما له من نور، إنه نوعٌ من الإعاقةِ والحرمانِ شعرَ بها هذا المسكينُ، أم لم يشعر. عبادَ الله: كم تتفاوتُ الهِممُ، وكم تتباينُ السلوكياتُ، وإذا كانتِ الأعمارُ واحدةً فالأعمالُ متفاوتةٌ، وإذا وُجدَ من يملكُ ولا يعملُ، فيوجد كذلك من لا يَملكُ، ومع ذلك يُفكر بالعمل، ولربَّما لم يجدْ ما يعمل سوى تقديمِ النيةِ الطيبةِ لو وَجَدَ. ودونَكم هذا الهديَ النبويَّ في أصنافِ أهلِ الدنيا فتأمَّلوه، واعرضوا أنفسَكم عليه، وبه تقسيمٌ لهممِ أصحابِ الأموالِ والمُعدَمينَ، يقول صلى الله عليه وسلم في سياقِ حَثِّه على الصدقة: «إنما الدُّنيا لأربعةِ نَفَرٍ: عبدٍ رزقَه اللهُ مالًا وعلمًا، فهو يتَّقي فيه ربَّه، ويصلُ فيه رحمَه، ويعلم للهِ فيه حقًّا، فهذا بأفضلِ المنازلِ، وعبدٍ رزَقَه اللهُ تعالى علمًا ولم يرزُقْه مالًا، فهو صادقُ النيةِ، يقول: لو أن لي مالًا لعلمتُ بعملِ فلانٍ، فهو بنيَّتِه فأجرُهما سواءٌ، وعبدٍ رزَقَه اللهُ مالًا ولم يرزقْهُ علمًا، يخبطُ في مالِه بغير علمٍ لا يتَّقي فيه ربَّه، ولا يصلُ فيه رحِمَه، ولا يعملُ لله فيه حقًّا، فهذا بأخبثِ المنازلِ، وعبدٍ لم يرزُقْه اللهُ مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أنَّ لي مالًا لعلمتُ فيه بعملِ فلانٍ، فهو بنيَّتِه فوِزْرُهما سواء» (¬1). ¬

(¬1) رواه أحمد والترمذي، وسنده صحيح «صحيح الجامع الصغير» 3/ 61 ح 3021.

عبادَ الله: 7 - وأختمُ الحديثَ بنوع سابعٍ مهمٍّ من المعاقِينَ من نوعٍ آخرَ: إنها إعاقةُ الفكرِ والقلم، والشلليةُ في نوعِ العطاء. فكم تُعجبُ بصاحبِ قلمٍ سيّال، واطِّلاع واسع، ولكن تُصدمُ حين تقرأُ نوعَ مساهمتهِ، وتعجبُ حين تراه يَقْصُرُ اهتماماتهِ على أمورٍ معيَّنةٍ، وتنحسرُ مجالاتُ الكتابةِ عندَه في أمورٍ أقلَّ ما يُقالُ فيها: إنها من الأمورِ المختلفِ فيها، وكثرةُ التركيز عليها مَدْعاةٌ للبلبلةِ وتفريقِ الكلمة، والأمرُ أدْهى حين يُصاحِبها شيءٌ من الغرورِ والتعالُمِ أو التهكُّمِ والسُّخريةِ. إن القضايا الحيةَ والإيجابيةَ في تاريخنا المعاصرِ كثيرةٌ ومتنوعةٌ، فما بالُ هؤلاء يتجاهلونها ويُصرِّونَ على نكأ الجراحِ وجلدِ الذات؟ ! إن الكاتبَ المسلمَ الذي لا ينتصرُ لحقٍّ أو يَدفعُ باطلًا معوقٌ في كتابتِه، والمثقّفُ المسلمُ الذي لا يُسخِّرُ ثقافتَه في سبيلِ الجهادِ لإعلاءِ كلمةِ اللهِ والدعوةِ للدينِ الحقِّ، ومقارعةِ الباطلِ، وفضح المبطِلينَ، في ثقافتِه خللٌ، وفي فكرِه تعويقٌ وشلَلٌ، والمجترُّونَ للثقافةِ المستوردةِ والمتحدِّثونَ عن رموزها أكثرُ من حديثِهم عن الثقافةِ الإسلاميةِ ورموزِها عندهم نوعٌ من التعويق. كم هم المسلمونَ المظلومونَ اليومَ، وكَمْ من تعاليمِ الإسلامِ وأحكامِ القرآنِ والسنةِ تشَوّه اليوم، والساكتُ عن النطقِ بالحقِّ ونصرةِ المظلومينَ شيطانٌ أخرسُ .. وكم هم الظالمونَ المعتَدون والساكتُ عن فضحِ هؤلاء أو المُجاري لهم والمتحدِّثُ نيابةً عنهم شيطانٌ ناطقٌ .. إنه ليسَ هدفُ المسلم أن يكتبَ ويشتهرَ، بل كيف يكتبُ؟ وعن ماذا يكتب، والرقيبُ خبير وعتيد {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (¬1). ¬

(¬1) سورة ق، الآية: 18.

أيها المسلمون: لنُعِد النَّظرَ إذًا في مفهومِ الإعاقةِ على ضوءِ مفهوم «ليسَ الغِنى عن كثرةِ العَرَض، ولكن الغِنى غنى النفس»، وعلى ضوءِ مفهوم: «الكَيِّسُ من دانَ نفسَه وعملَ لما بعد الموتِ، والعاجزُ من أتبعَ نفسَه هواها وتمنّى على اللهِ الأماني». ودعونا نقول: إن المُعوَّقَ حقًّا هو القادرُ الكسولُ، والغَنيّ المحرومُ، هو صاحبُ الطاقةِ، والقاتلُ لها، هو الذي لا يثقُ بنفسِه، أو لا يهتم بقدراتِه، فتموتُ الطاقاتُ والإبداعاتُ عنده بمحضِ إرادتِه، هو الذي يُبصرُ ثغرةً في المجتمعِ ويجدُ من نفسِه القدرةَ على تغطيتها فلا يفعل، هو الذي يستطيع أن ينفعَ بكلمةٍ أو موقفٍ فلا يُقدمُ عليها. نحن أمةُ خيرٍ، شعارُها: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. ونحن أمة عهدُ الله لها ووصيةُ خالقِها لها: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (¬1). والخلاصةُ: إن الحديثَ عن الإعاقةِ بهذا المفهوم موجَّهٌ لنا جميعًا، الصغيرِ والكبيرِ، الشابِّ والكَهل، الغنيِّ والفقيرِ، الذكرِ والأنثى، الملتزمِ وغيرِ الملتزمِ، والهدفُ التعرف على ما لدينا من جوانبِ الإعاقةِ فنعالجِهُا، وجوانبِ القصورِ فنسدِّدُها قدرَ ما نستطيعُ. والحَذَر من التسويفِ والأماني، فالعمرُ قصيرٌ، وسهامُ المنايا كثيرةٌ ومتعددةٌ، والمسارعةُ للخيراتِ دعوةٌ ربانيّةٌ، ومن الخطأ أن نحسَّ في الإعاقةِ من خارجِ ¬

(¬1) سورة العصر، الآيات: 1 - 3.

ذواتنا، ونترحَّم على المعاقين من غيرِنا، وقد يكون فينا إعاقةٌ أو أكثرُ ونحنُ لا ندري، فلنفتشِ عن أنفسِنا، ولننظر في أيِّ نوع من الإعاقةِ لدينا فنالعجُه، قبل أن يستفحلَ الخطرُ، وليست البليّةُ أن يكون فينا ونحن لا نحسُّ به أصلًا، فضلًا عن معالجته .. إنه خطابٌ لكلِّ أحدٍ منا، ودعوةٌ للمساهمة في الخير، وكل بحسَبهِ. إن للسمع تعويقًا، وتعويقُه بالصدودِ عن سماعِ هُدى اللهِ، وللبصرِ تعويقًا، وإعاقتُه حَجْبُه عن التأملِ في فسيحِ ملكوتِ اللهِ، وللقلمِ إعاقتُه، وإعاقته بحجبهِ عن الكتابةِ في نصرةِ الدينِ وخدمةِ قضايا المسلمين .. وهكذا. اللهمَّ صلِّ على محمدٍ، اللهم انصر دينكَ واجعلنا من أنصاره يا ربَّ العالمين.

العشر الأواخر - قيام الليل، الاعتكاف

العشر الأواخر - قيام الليل، الاعتكاف (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. أيُّها المسلمونَ: ما أسرعَ الأيامَ تمضيّ! فقد كُنّا بالأمسِ نُهنئُ أنفسَنا بدخولِ شهرِ الصيام، واليومَ يحقُّ لنا أن نهنئَ بعضًا بقربِ حلولِ العشرِ الأواخرِ من رمضان .. ولئن تحدثنا - فيما مضى - عن معنى التهنئة ولوازِمِهَا - فحريٌّ بنا اليوم أن نستذكرَ قيمةَ البُشرى بإدراكِ العشرِ الأواخرِ من رمضانَ. أجل، لقد صامَ معنا نفرٌ من إخوانِنا المسلمينَ أولَ الشهرِ، وهم اليومَ يرقدون تحت الثَّرى مرتهنونَ بأعمالِهم .. وفي غيبِ اللهِ، كذلك ستخِرمُ المنايا أقوامًا سيشهدون العشرَ ولن يستكملوها - فهل يا تُرى تُحرّكُ هذه النوازلُ والفواجِعُ هِمَمَنا، وتغذوا سيرَنا للآخرة .. لاسيما ونحن في موسمٍ عظيمٍ من مواسِمِها، والمغبونُ حقًّا من فرّطَ فيها، وموتى الأحياء أعظمُ مصابًا من أصحابِ القبور .. أولئك الذين تدخلُ المواسمُ وتخرجُ وهم في غفلةٍ معرضون. عبادَ الله: بُشراكم بالعشرِ الأواخرِ من رمضان، وهنيئًا لمن عقدَ العزمَ على إحياءِ لياليها بالقيامِ والذكرِ والدعاءِ والتلاوةِ والاستغفار. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 19/ 9/ 1421 هـ.

ولقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يخصُّ هذه العشرَ، ويجتهدُ فيها أكثرَ من غيرِها، وفي «صحيح» مسلم من حديثِ عائشة رضي اللهُ عنها أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم «كان يجتهدُ في العشرِ الأواخرِ ما لا يجتهدُ في غيرها». وكان عليه الصلاةُ والسلام يوقظُ أهلَه، ويحيي ليلَه، ويَشُدُّ مِئزَره، ولكم في رسولِ الله أسوةٌ حسنةٌ. عبادَ الله: وإذا كانت أعمارُ أمتِنا محدودةً مقارنةً بالأممِ الأخرى، فقد جعلَ اللهُ لنا في مثلِ هذه الأزمانِ الفاضلةِ ما يعوِّضُ به عن قصرِ أعمارِنا، ومن وفَّقه الله لقيام ليلةِ القدرِ كان كمن عملَ ما يزيدُ عن ثلاثٍ وثمانينَ عامًا، ألا وإن المفرطينَ في هذه الليلة لم يستفيدوا من هذه الفُرصةِ الممنوحةِ لأمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. ألا ويحَ الكسالى ولا نامت أعينُ المفرِّطين؟ إخوةَ الإيمان: وطالما فرَّطنا في قيام الليل - وهو دأبُ الصالحينَ قبلَنا - وفيما أوحي إلى نبيِّنا صلى الله عليه وسلم: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (¬1). وجاء في أوصاف المتقين: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (¬2). وفي وصفِ الذين يؤمنون بآياتِ الله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (¬3). عبادَ الله: أين المشمِّرونَ هذه الليالي يدعونَ ربَّهم خوفًا وطمعًا، والفرقُ كبيرٌ بين من تتجافى جنوبُهُم عن المضاجعِ .. وبين منَ يحيونَ الليلَ في سهرٍ صاخب .. أو في سُبات نومٍ عميق، لا تحرّكُ هِمّتَهم المواسمُ - ولا يسمعون لداعي الخير. ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 79. (¬2) سورة الذاريات، الآيتين: 17، 18. (¬3) سورة السجدة، الآية: 16.

وكم هو عظيمٌ أن تألفَ النفسُ قيامَ الليلِ في هذه العشرِ الفاضلةِ، فيكونَ ذلك دَيْدَنًا للنفسِ في سائرِ العام. وكم هو شرفٌ للنفسِ وعِزٌّ لها قيامُ الليل، وفي الحديثِ الحسن: «جاء جبريلُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمدُ، عِشْ ما شئتَ فإنك ميِّتٌ، واعملْ ما شئتَ فإنكَ مجزيٌّ بهِ، وأحبِبْ من شئتَ فإنكَ مفارقُه، واعلم أن شرفَ المؤمنِ قيامُ الليلِ، وعزّهُ استغناؤه عن الناس» (¬1). إنها وصايا جامعةٌ نزلَ بها الروحُ الأمينُ على قلبِ محمدٍ خاتمِ المرسَلين - وهي للأمةِ عامّةً شموعٌ مضيئةٌ .. فأين يا تُرى من يبحثونَ عن شرفِ النفسِ وعِزِّها؟ أين رُهبانُ الليلِ وسهامُهم لا تكاد تخطئ؟ وعن بعضِ السلف: قيامُ الليل يُهوِّن طولَ القيامِ يومَ القيامةِ، ولله درُّ أقوامٍ تعالتْ هِمَمُهم، حتى كادت السنةُ كلُّها أن تكونَ كالعشرِ الأواخرِ عند غيرهم .. تسامتْ نفوسُهم على حُطامِ الدنيا، وحطّوا رحالَهم في الآخرةِ - وهم بعدُ في الدنيا - وحادِيهم يقول - واصفًا لحالهم ومستصرخًا لغيرهم-: إذا ما الليلُ أظلمَ كابَدُوه ... فيُسفِرُ عنهم وهُم رُكوعُ أطارَ الخوفُ نومَهم فقاموا ... وأهلُ الأمنِ في الدُّنيا هجوعُ لهم تحتَ الظلامِ وهُمْ سجودٌ ... أنينٌ منه تنفرجُ الضلوعُ (¬2) أيها الصائمون: إن من عجبٍ أن يبادرَ المحسنونَ، ويتراخى المفرِّطون! أَوَليس أهلُ التفريط - من أمثالنا - أولى بقيامِ الليلِ لسؤالِ المغفرةِ والتكفيرِ عن السيئة على إثرِ السيئةِ؟ ! ¬

(¬1) الأحاديث الصحيحة (831)، صحيح الجامع الصغير (73). (¬2) أحمد بن صالح الطويان - الدرر الحسان في أحاديث رمضان 213.

فما بالُنا تأخّرنا وتقدمَ غيرُنا؟ ! وهؤلاء المتقدمونَ أهلُ علمٍ وصلاحٍ وجهادٍ ودعوةٍ وطاعاتٍ يثقلُ بها الميزانُ، ومع ذلك لازموا قيامَ الليل؛ ليضيفوا الحسناتِ إلى الحسناتِ، ولتكتملَ الهممُ في جنحِ الظلامِ حيث لا يَرى إلا الذي يراكَ حين تقوم وتقلُّبك في الساجدين .. ولا يَسمعُ إلا الذي يعلمُ السرَّ وأخفى .. ودونكم نماذجَ من هِمَمِهم عسى أن توقظَ قلبًا غافلًا، أو تهدي فؤادًا شاردًا - ومنِ اهتدى فإنما يهتدي لنفسِه، ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها. في «صحيح البخاري» و «مسندِ الإمام أحمد» عن أبي عثمانَ النهديِّ رحمَه الله قال: «تضيَّفت أبا هريرةَ رضيَ الله عنه سبعةَ أيام - أي نزلتُ ضيفًا عليه - فكان هو وزوجتُه وخادِمُه يتقسمونَ الليلَ أثلاثًا، الزوجةُ ثلثًا، وخادمُه ثلثًا، وأبو هريرة ثُلثًا». وفي «تذكرة الحفّاظ» أن سليمانَ التيميَّ كان عندَه زوجتان، كانوا يتقسمونَ الليلَ أثلاثًا (¬1). ومع اجتهادِ القومِ كانوا يتلذذونَ بهذه العبادةِ، وينافسونَ بها أهلَ الدنيا، ويقول أحدُهم: واللهِ لولا قيامُ الليل ما أحببتُ الدنيا، واللهِ إن أهلَ الليلِ في ليلِهم ألذُّ من أهلِ اللَّهوِ في لهوهِم، وإنه لتمرُّ بالقلب ساعاتٌ يرقصُ فيها طربًا بذكرِ اللهِ، فأقول: إن كان أهلُ الجنةِ في مثلِ ما أنا فيه من النعيمِ إنهم لفي نعيمٍ عظيم (¬2). نعم إخوةَ الإيمان: قد يستَغربُ هذا المنطقَ المفتونونَ بالدنيا، الغافلون عن الآخرة .. ولكن الفرصةَ أمامَهم ليجرِّبوا وسيجدون ما وجدَه غيرُهم. ¬

(¬1) الطويان، السابق (294). (¬2) السابق (295).

إنَّ في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ فرصةً للتعويضِ والتعويدِ، فرصةً لتعويضِ ما فاتَ، وتعويد النفسِ في مستقبلِ الأيامِ، وكيف يفرِّطُ عاقلٌ في عشرِ ليالي يدركُ بها المحتسبون المؤمنون ليلةَ القدر، وليلةُ القدرِ خيرٌ من ألفِ شهر. يا عبدَ الله: مهما كان تفريطُك على نفسِك فيما مضى، فإياك أن تُتْبع الغفلةَ بغفلةٍ أخرى - بل قُم مع القائمين، واركعْ مع الراكعين .. عسى أن تدركَكَ نفحةٌ من نفحاتِ المولى فتسعدَ ولا تشقى .. والرجلُ مع من أحبَّ. كم لك من حاجةٍ تتمنى قضاءها .. وكم عندَك من همومٍ تودُّ لو فُرِجتْ عنك أثقالُها .. كم عندك من خطايا ترغبُ الخلاصَ منها .. وكم أمامَك من عقباتٍ وأنتَ أحوجُ إلى تذليلِها والتقوِّي على صعودها .. ألا فبادرْ إلى فرصِ الخيرِ .. وخذ بنفسِك بالعزيمةِ، إني لك ناصحٌ، وعليك مشفقٌ، وما أنا وأنتَ إلا خلقٌ من خلقِ اللهِ، أحوجُ ما نكونُ إلى رحمتهِ، وأفقرُ ما نكونُ إليه، ولا يُعجزه أن يستبدلَنا بخير منا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (¬1). اليومُ يومُ المهلةِ، وغدًا حسابُ يوم القيامةِ، ومن عَلِمَ فليعمل، وفرقٌ بين الذين يعلمون والذين لا يعلمونَ، وصدق الله: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬2). اللهم انفعنا بهدي القرآنِ وسنةِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام - أقولُ ما تسمعون. ¬

(¬1) سورة فاطر، الآيات: 15 - 17. (¬2) سورة الزمر، الآية: 9.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، فاوتَ بين عبادِه في الهِمَمِ؛ فمنهم ظالمٌ لنفسِه، ومنهم مقتصدٌ، ومنهم سابقٌ للخيرات بإذن الله ذلكَ هو الفوزُ العظيم. وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، يجازي على الحسناتِ والسيئاتِ، ويُضاعفُ أجرَ الحسناتِ إلى عشرِ أمثالِها أو أزيدَ، وفضلُ الله يؤتيهِ من يشاءُ، والله ذو الفضلِ العظيم. وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، كان أجودَ ما يكونُ في رمضانَ .. وفي العشرِ الأواخرِ له اجتهادٌ يفوقُ كلَّ اجتهاد، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلينَ. أيها المسلمونَ: العملُ الصالحُ هو الرصيدُ الحقُّ لمن يرجو يومَ الحسابِ، وإذا كانتِ المسارعةُ للخيراتِ مطلوبةً على الدوامِ، فهي أحرى وأولى بالأزمانِ الفاضلةِ .. والحاجةُ إليها أشدُّ في أزمانِ الفتنِ، ولذا ندبَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم إليها بقوله: «بادروا بالأعمالِ فِتنًا كقطعِ الليلِ المظلم، يصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويُمسي كافرًا» (¬1). يا عبدَ الله .. أجلُك محدودٌ، ولا تدري متى تكون النُّقلةُ، فارحل حين ترحلُ بخيرِ زاد، ألا وإن ضعفَ الإيمان والتكاسلَ عن عملِ الصالحاتِ سببٌ لضعفِ المقاومةِ عن المصائبِ والفتن، قال صلى الله عليه وسلم: «ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يبالي المرءُ بما أخذَ المالَ؛ أمِن الحلالِ، أم من الحرامِ» (¬2). وقل مثلَ هذا التجاوزِ فيما عدا المال من المحرماتِ الأخرى؛ إذ صحَّ عن ¬

(¬1) رواه مسلم. (¬2) رواه البخاري.

النبيِّ صلى الله عليه وسلم قولُه: «لا يأتي زمانٌ إلا والذي بعدَه شرٌ منه حتى تَلقوا ربَّكُم» رواه البخاري. وقد صح عند ابنِ ماجه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لم يبق من الدنيا إلا بلاءٌ وفتنة» (¬1). أيها المسلمون: وبإزاءِ هذه النصوصِ وأمثالِها من الكتابِ والسُّنةِ، يجدرُ بالمسلمِ الناصح لنفسِه أن يزكّي نفسَه بالصالحاتِ، وأن يسارعَ جُهدَه لاغتنامِ الأيامِ والليالي الفاضلاتِ. يا مسكينُ أسرَجَ الناسُ خيولَهُم وأنت بعدُ متباطئٌ كسلان، يا مغرورُ إلى متى الغرورُ والله يقولُ: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (¬2). يا عبدَ الله: هبّت رياحُ الجنةِ فاغتنِمْها قبلَ فواتِ الأوانِ! يا مذنبُ كادت روائحُ الذنوبِ أن تزكمَ الأنوفَ، فهلَّا استبدلتها بحسناتٍ لتفوحَ منك روائحُ المسكِ تُعطِّرُ الوجودَ ومَن في الوجود. يا مسرفُ على نفسهِ بالذنوبِ، لا تقنَطْ من رحمةِ اللهِ .. وأنِبْ إليه وأسلِم نَفسَك طائعةً له. ويحكَ أما سمعتَ اللهَ يقولُ لك: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ ¬

(¬1) برقم (4035)، انظر عبد المحسن المحسن، رياض الجنات (153). (¬2) سورة فاطر، الآية: 5.

أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬1). أيها المسلمونَ: وثمةَ سُنةٌ نبويةٌ كادت أن تُهجرَ عند نفرٍ من المسلمين، وعلى الرغمِ من توفرِ إمكاناتِ الناسِ لها، وعدمِ وجودِ موانعَ تحولُ بينها - إنها سُنةُ الاعتكافِ في المساجد، وما فيها من انقطاعٍ عن الخلقِ واتصالٍ بالخالق - في هذه العشرِ الأواخرِ أو بعضِها. أجل؛ لقد زهد بهذه السنةِ طائفةٌ من الأخيارِ الذين يحرصون على سننٍ أخرى .. وغيرُهم في الزهدِ بها من بابِ أولى، ويرحمُ اللهُ الإمامَ الزهريَّ وهو القائل: عجبًا للمسلمين، تركوا الاعتكافَ مع أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما تركَه منذُ قِدَمَ المدينةَ حتى قبضَه اللهُ. وإنك لتعجبُ حين تسمعُ عن اعتكافِ المئين في المسجدِ الواحدِ في مناطقَ في العالم الإسلامي، قد لا يجدُ المعتكفُ منهم ما يسدُّ حاجتَه، وترى في المقابلِ زُهدًا بهذه السنة في أقطارٍ أخرى، يملكُ الناسُ فيها القناطيرَ من الذهبِ والفضةِ .. ومع ذلك فقد يجدُ صعوبةً في تفريغِ نفسهِ والانقطاع عن تجارِته ولو لبضعةِ أيام. إن أحدنا لا يجدُ صعوبةً في تركِ أهلِه أسبوعًا أو عشرةَ أيام أو نحوها في سبيل الذهاب إلى رحلةٍ برية، أو سفرٍ للنزهة خارجَ المملكةِ، لكنه قد يجد ¬

(¬1) سورة الزمر، الآيات: 53 - 61.

صعوبةً في تركِهم للاعتكافِ، وبعضُنا يمكنه أن يتعللَ بخشيةِ ضياعِ أولادهِ خلال اعتكافه .. ولستُ أدري أضاعت أبناءُ المسلمين الذين كانوا يرابطونَ في الثغورِ الشهورَ الطويلةَ، إنها حججٌ وتعلُّلاتٌ ضعيفة. على أن العائقَ عند بعض الناسِ عن الاعتكاف قد لا يكونُ بالضرورةِ الحرصَ على الدنيا، ولكن عدَمُ توفرِ المسجدِ الذي يمكن أن يعتكفَ به، أو ما يجده من صعوبةِ في توفيرِ المطعمِ له، وهنا يَسهلُ الأمرُ؛ إذ يمكن توفير غرفة أو أكثر لا سيما في الجوامع، ويمكن كذلك أن يتولى محسنون أو هيئاتٌ خيرية توفيرَ المطعمِ للمعتكفين، وعلى أئمةِ المساجدِ أن يعنوا بهذه الأمورِ ويُعلنوا تسهيلَها للراغبين في الاعتكاف .. ومما يُذكر للمستودَع الخيري ببُريدةَ عنايتهُ في العام الماضي بالمعتكفين في مساجدِ بُرَيدةَ، وتقديمُه هديةً لكل معتكف، وعلمتُ هذا العام أن لديهم مبادرةً أخرى وذلك بتوفير مطبخينِ كبيرين، وسيُطبخُ فيها اثنا عشرَ كيسًا من الأرز، ومائةُ ذبيحةٍ أو مائةُ كرتونٍ منَ الدجاجِ، وذلك لخدمةِ المعتكفينَ في أيٍّ من مساجد بريدة، وعندهم استعداد للزيادة إذا اقتضى الحالُ، ويمكنهم كذلك إيصالُ الطعامِ إلى المساجدِ الراغبةِ في ذلك، هذا فضلًا عن استعدادِهم لتأمين الفرشِ اللازمة للمعتكفينَ في المساجدِ المحتاجةِ لذلك. إنها بوادر خير تنبت في أرض الخير، وحين يُشكر المعنيون بها، فعلينا أن نستثمرهَا، وكم يُثلجُ صدورَنا حين نسمعُ عن أعدادٍ من الشباب تأوي إلى المعتكفِ، لتعكُفَ على تلاوةِ وحفظ أو مراجعة المحفوظِ من كتابِ اللهِ .. وذلك مؤشرٌ على أن الأمةَ بخير ما دامَ ذلك حالُ بعضِ شبابها ورجالِ مستقبلها .. وعسى أن يلتحقَ بركبِهم شبابٌ آخرون غارقونَ في لهوهِم .. قد لا يذهبونَ إلى المساجدِ أصلًا إلا في رمضانَ .. وقلوبُ العبادِ بين إصبعين من أصابعِ الرحمن يقلِّبُها كيفَ يشاء.

وهنا - وحولَ الاعتكاف - اقتراحٌ للجهاتِ الرسميةِ المشرفةِ على المساجدِ أو الجمعياتِ الخيريةِ - أو بالتعاوِن بينهم - ويقضي الاقتراحُ بدراسةِ الاعتكاف على أرض الواقعِ .. وتُعنى الدراسةُ - إضافةً إلى فضلِ الاعتكافِ وأحكامِه بشكلٍ مختصَر - ببيانِ أعدادِ المعتكفين ونوعيَّتهم وسنِّهم وعملهم، ودواعي الإقبال على الاعتكاف وآثارِه على المعتكِف، وأسبابُ الإحجامِ ومعوِّقاتِ الاعتكاف، وكيف يُرَغّبُ في الاعتكاف، وكيف تُعالجُ معوِّقاتُه - إلى ذلك من أمورٍ قد ينفعُ الله برصدِها للحاضرِ والمستقبل. معاشرَ المسلمين: نحن أمةُ الخير .. واللهُ نَدَبَنا جميعًا إلى التعاون على البرِّ والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان فقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬1). فلنسعى لتحقيق هذا التعاون الخيِّر في كلِّ زمان، ولنحرصْ على تحقيقه في مثل هذه الأيام .. عسىَ ربُّنا أن يرحمَنا ويجعلَ العاقبةَ لنا والسعادةَ والفلاحَ في الدنيا والآخرةِ. ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 2.

وقفات ما بعد الحج والوعي المروري

وقفات ما بعد الحج والوعي المروري (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. إخوةَ الإسلام: عاشَ المسلمون في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها في الأيامِ والأسابيعِ الماضيةِ أيامًا مشهودةً ومناسباتٍ سعيدةً، كتبَ اللهُ لهم فيها ما كتبَ من الأجرِ والمَغْنَمِ، أغاظوا عدوَّهم من الجِنّ وأعداءَهم من الإنسِ، وطابت نفوسُهم، وزادَ إيمانُهم، وزكَتْ قلوبُهم. أجل، لقد قضوا عشرَ ذي الحجةِ بما فيها من فضائلَ ومغانمَ وهِباتٍ، ثم عاشوا يومَ عرفاتٍ، إذ وقفَ الحُجّاجُ على صعيدِ عرفاتٍ يبتهلونَ إلى ربِّهم بالدُّعاءِ، وربُّهم كريم يقول لهم: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬2). وما رُؤيَ الشيطانُ أحقرَ ولا أصغرَ ولا أذلَّ منه في ذلك اليوم، إلا ما كان من يومِ بدر. أما المقيمونَ فصامَ الكثيرُ منهم هذا اليومَ، وهم موقنونَ بمغفرةِ الذُّنوبِ ومحْوِ السيئاتِ، والهادي البشيرُ يبشّرهم بذلك ويقول: «صيامُ يومِ عرفةَ أَحتَسِبُ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة، الموافق 22/ 12/ 1421 هـ (¬2) سورة غافر، الآية: 60.

على اللهِ أنْ يُكفّرَ السنةَ الماضيةَ والقابلةَ». ثم عاشَ المسلمون يومَ الحجّ الأكبرِ وعيدَ الأضحى، وهو أفضلُ أيام العام .. وبه تردّدَ الحُجّاجُ بين المشاعِر؛ فطائفةٌ ترمي الجِمَارَ، وطائفةٌ يَطَّوّفونَ بالبيتِ العتيق، وطائفةٌ يُحلّقونَ أو ينحرونَ هَدْيَهُم، ومع شَعَث الحُجاجِ في يوم العيد إلا أنهم يتقرّبونَ إلى الله بجليل الأعمالِ. أما المقيمونَ فعاشوا فرحةَ العيد، وتقرَّبوا إلى بارئهم بنحرِ الأضاحي، والتقتْ جموعُ المسلمينَ في مُصلَّيات الأعياد، ومَنظرُهم ووحدتُهم تُرهبُ الأعداءَ، ومناسبتُهم واجتماعُهم لا مثيلَ له في المِلَلِ والأمم الأخرى. واستمرّ فضلُ الله على الحُجاجِ وغيرِ الحُجاج في أيام التشريقِ؛ إذ هي أيامُ أكلِ وشُربٍ وذكرٍ لله .. يَنعمُ بها الموسرونَ والأغنياءُ، ويُواسى به المحتاجونَ والفقراءُ. ألا فهنيئًا للمسلمينَ بهذه المناسباتِ السعيدةِ والأيامِ الفاضلةِ .. والبُشْرى تُزفُّ لمن تقرّبَ إلى اللهِ وزادَ في عملِ الصالحاتِ من الحُجاجِ أو غيرِ الحُجاج، وهل أعظمُ من الجنةِ منزلًا؟ ! وليس للحجّ المبرور جزاءٌ إلا الجنّة .. وكفى بمغفرةِ الذُّنوبِ فضلًا ونعمةً .. ومن حجّ فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ رجع كيومِ ولدَتْه أُمُّهُ. ولا يُحرمُ غيرُ الحُجاجِ من فضلِ الله لا سيّما مَن تقرّب إلى اللهِ بعملِ الصالحاتِ في العشر .. وأتمّ ذلك بصيام عرفةَ، وتقرّبَ إلى اللهِ بالأُضحية. عبادَ الله: وحين يهنأُ العاملونَ المُوَفّقونَ يُعزّى المُفرِّطونَ ويندمُ الكُسالى والمضيِّعونَ للفُرص .. ولكن الجميع يذكَّرون - بعد هذه المناسبات - بعدة أمور، منها:

1 - استدامةُ الطاعةِ والحفاظُ على الأرصدةِ المُكتسبةِ، فمن عادت صحائفُه بيضاءَ، فحريٌّ به ألا يُلوّثَها بالمعاصي، ومن علائمِ قَبولِ الحسنةِ عملُ الحسنةِ بعدها. 2 - الندمُ توبةٌ .. فمن فرّطَ فليُظهر الندمَ على ما مضى، وليعقدِ العزمَ على انتهاز الفرصِ القادمةِ، والباكونَ على خطاياهم والمستغفرونَ لذنوبهم حَرِيّونَ بالمغفرةِ والرِّفعةَ {وَمَنْ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬1). 3 - وعبوديةُ الشّكرِ لله سببٌ للزيادةِ من فضلِ الله {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (¬2)، فمن وفّقَه اللهُ للطاعةِ فليشكُرِ اللهَ على فضلِه وتوفيقِه .. فكم من مُريدٍ للخيرِ لم يُصِبه {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬3). 4 - وحين يتجاوزُ الإنسانُ ما أَلِفَهُ ويَخرجُ المرءُ عن محيطِه - ولو قليلًا - تبدو له نِعَمٌ كان يتمتعُ بها ويتفيّئُ ظِلالَها، وكأنها صعبةُ المنال ... أجل إن الحاجَّ - أحيانًا - يَعِزّ عليه المكانُ الذي يستظلّ به، ولو لبضعِ ساعاتٍ من النهار، أو ينامُ فيه ولو لبضعِ ساعاتٍ من الليل، وهو في سائرِ أحواله يسكنُ القصورَ الفارِهةَ لسنواتٍ عديدةٍ، أفلا يدعوه ذلك لِشُكْرِ أَنْعُمِ اللهِ عليه؟ وهكذا سائرُ النّعمِ التي يتمتعُ بها المسلمُ في حال إقامتِه، وقد تَضِنّ عليه أو بعضُها في حال سفرهِ .. كلُّ هذه مُذكِّرةٌ له بأنعُمِ اللهِ عليه وداعيةٌ له لمزيدِ الذكرِ والشّكرِ لله. 5 - وبابُ التوبةِ مفتوحٌ للإنسان على الدوام .. ولكن التوبةَ تطيبُ حين تكونُ على إثرِ مغفرةِ الذّنوبِ ومحوِ السيئاتِ السابقةِ .. وفي الحجّ أو صيامِ عرفةَ من ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 110. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 7. (¬3) سورة النحل، الآية: 16.

الأجرِ ما يُكفّرُ اللهُ به السيئاتِ ويمحو الخطيئاتِ .. أفلا يدعونا ذلك إلى الاستعانةِ باللهِ على عَقْدِ العزمِ على التوبةِ، فإن التوبةَ وظيفةُ العمر، وبدايةُ العبدِ ونهايتُهُ، وأولُ منازلِ العبودية، وأوسطُها، وآخرُها (¬1). 6 - وفي الحجّ يعلو مقامُ التوحيد لله وترتفعُ أسهُمُه .. ألا ترى الحاجَّ يبدأ به مُلبيًا لله وحده، نافيًا للشُّركاءِ معه، معترفًا لله وحدَه بأنعُمِه (لبيك اللهمّ لبيكَّ، لبيك لا شريكَ لك لبيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والمُلك). وهكذا حين يطوف بالبيتِ معظّمًا لله، متذكّرًا أساسَ التوحيد الذي بُني البيت له: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} (¬2). وهكذا حين يسعى بين الصفا والمروةِ يستيقنُ أن الغوثَ وكشفَ الكُروبِ لا يقدرُ عليه إلا اللهُ، فهو الذي رحم أُمَّ إسماعيل، وأنبعَ لها ماءَ زمزمَ حين بلغ بها الكربُ نهايتَه، وهكذا في سائرِ المواقفِ والأحوالِ، فلا كاشفَ للكروبِ ولا مُغيثَ إلا اللهُ: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} (¬3)، {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (¬4). أجل؛ لقد طهّر الخليلُ عليه السلامُ البيتَ الحرامَ من الأصنام، وجاء ابنُه من بعدِه محمدٌ صلى الله عليه وسلم ليُجدِّدَ تطهيرَ البيتِ، فقد حطَّمَ - حين فتحَ مكةَ - ستين وثلاثمائة صنمًا كانت تحيطُ بالكعبة. وحين يكون تحطيمُ الأصنامِ سنةً نبويةً، فَمن حطّم الأصنامَ مِنْ بعدُ، سواء في مكةَ أو في غيرِها، فهو سائرٌ على سُننِ المرسلين، وهو واجدٌ العونَ والمددَ من ربّ العالمين. ¬

(¬1) محمد الحمد «التوبة» ص (3). (¬2) سورة الحج، الآية: 26. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 17. (¬4) سورة النمل، الآية: 62.

إنك لتعجبُ في هذه الأزمانِ حين تثورُ ثائرةُ الكفرِ لأصنامٍ تُحطَّم .. ويأخذك العَجبُ أكثر حين يدافعُ عن الأصنامِ المحطّمةِ أناسٌ من المسلمينَ. وحين تُحطَّمُ الأصنامُ التي تُعبدُ من دونِ الله بأيدي المسلمين، يكون الاعتراضُ بالحِفاظ على التُّراثِ أو رموزِ الحضارةِ بزعمِهم، ولكن شيئًا من ذلك لا يكون حين يُعبثُ بمقدّساتِ المسلمينَ أو تُهدمُ المساجدُ بأيدي الكافرين. 7 - عبادَ الله: وهذه الطاعاتُ التي تقرّبتم بها إلى خالقِكم، لا يكن آخرُ عهدِكم بها الانتهاءَ منها، بل ألِحُّوا على اللهِ بالدعاءِ لقبولها، فليسَ المهمُّ الأداءَ، وإنما الأهمُّ القبولُ، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. اسألوا ربّكم أن يتجاوزَ عن التقصير، ويعفو عن الخَللِ ثم تذكّروها حين تتذكرونها فرحينَ بأدائها، مُثنينَ على الله إذ وفّقَ وأعانَ عليها، فتلك فرحةٌ مشروعةٌ {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (¬1). وفرقٌ بين من يَذْكرِ الطاعةَ التي عملَها مستكثرًا إياها على اللهِ، مانًّا بها على ربِّه .. فذاك لا يليقُ بالعبدِ، وربما أحبطَ العملَ. وبين من يتذكرُ الطاعةَ ليزيدَ من شكره لربِّه - وليسألَه القبولَ على عملِه، وهكذا ينبغي أن نتذكرِ الطاعاتِ لا لنِمُنّ على الله بها، أو نغترّ بأعمالنا .. بل للفرحِ بفضلِ الله وتوفيقِه .. ولسؤاله القبولَ والمزيدَ من فضله. تلك مشاعرٌ قد تغيبُ أو يحصلُ بها الخلطُ في المفاهيم، والموفقُ من وفَّقه اللهُ. أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (¬2). ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 58. (¬2) سورة الإنسان، الآيتين: 2، 3.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لمن يستحقُّ الحمدَ والثناءَ، والشكرُ لله على كلِّ حالٍ، وقد وعدَ بالمزيدِ لمن شكر، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائرِ المرسلينَ. إخوةَ الإيمان: ونحمدُ الله على سلامةِ الحُجاجِ، ونسألُ اللهَ إذ سلّمهم وأعانَهُم على قضاء نُسكِهم، أن يتقبلَ منهم، أما من أصيبَ من الحُجاجِ أو توفاه اللهُ، فنسألُ الله له المغفرةَ والرضوانَ، ولأهله الصبرَ والاحتسابَ. عبادَ الله: وإذا كان الأمنُ للحجاجِ مطلبًا ضروريًّا، وأَنَّى لخائفٍ أن يؤدِّي مناسكَ الحجِّ ومشاعرَه، وتلك نعمةٌ امتنّ اللهُ بها على الناسِ قديمًا وحديثًا، وذكَّرهم بهذه النعمة بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} (¬1). إذا كان الأمنُ للحُجاجِ مطلبًا ضروريًّا .. فالأمنُ كذلك مطلبٌ لغير الحُجاج، بل هو مطلبٌ يتجاوزُ هذه الحياةَ إلى الحياة الآخرةِ حين يفزعُ الناسُ يومَ الفزعِ الأكبرِ، ولا مأمنَ لهم إلا رحمةُ الله وعملُ الصالحاتِ التي بها يؤمنون {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2). ألا فتذكّروا هذا الفزعَ الأكبرَ، وقدِّموا لأنفُسِكم أسبابَ الأمنِ. ثم اعلموا - رحمكمُ اللهُ - أنّ الأمنَ في الدُّنيا مطلبٌ، والبحثَ عن السلامةِ وسيلةٌ للعبادة، وحين تُنظّمُ حملاتُ التوعيةِ لأيِّ نوعٍ من أنواعِ الأمن، فينبغي أن ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 67. (¬2) سورة الأحقاف، الآيتين: 13، 14.

يكونَ للمسلمِ دورٌ فاعلٌ وإسهامٌ واعٍ في إنجاحِها؛ لأنَّ مردودَها في النهايةِ للجميع. أجل، إنّ حَصْدَ الأرواحِ وإتلافَ الممتلكاتِ، وانتشارَ الإصاباتِ والإعاقاتِ .. كلُّها تنجُمُ حين يغيبُ الوعيُ المروريُّ بأنظمةِ السّيرِ وآدابِ الطريقِ، ويخطئُ من يظنُّ أنّ هذه الأنظمةَ المروريةَ قوانينُ وضعيةٌ .. وبالتالي فلا حرَج في تجاوزِها، ولا خيرَ في عدمِ الالتزامِ بها .. وهنا وقفةُ تصحيح يَقفها العلامةُ الشنقيطي - رحمَه اللهُ - وهو يفرّقُ بين أنواعِ الأنظمةِ الوضعيةِ فيقول: «اعلم أنه يجب التفصيلُ بين النظامِ الوضعيِّ الذي يقتضي ذلك، وإيضاحُ ذلك أن النظامَ قسمان: إداريٌّ وشرعيٌّ، أما الإداريُّ الذي يُراد به ضبطُ الأمور وإتقانُها على وجهٍ غيرِ مخالفٍ للشرع، فهذا لا مانع فيه، ولا مُخالفَ فيه من الصحابةِ فَمَن بعدَهم، وقد عملَ عمرُ - رضي اللهُ عنه - من ذلك أشياءَ كثيرةً ما كانت في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم». ثم ذكرَ الشنقيطيُّ - رحمه الله - أمثلةً لهذه الأنظمةِ، ثم ختم بقوله: «فهذا النوعُ من الأنظمةِ الوضعيةِ لا بأسَ بهِ، ولا يخرجُ عن قواعدِ الشّرعِ من مُراعاةِ المصالحِ العامةِ» (¬1). وثمّةَ فتاوى لسماحةِ الشيخ ابنِ بازٍ - رحمه الله - وسماحةِ الشيخ ابنِ عثيمينَ - يرحمه الله - تؤكدُ الالتزامَ بالأنظمةِ الداعيةِ للسلامة، وتُحذّرُ من المخالفاتِ التي تؤدي إلى إزهاقِ الأرواحِ والممتلكاتِ. أيها المسلمونَ: وثمةَ نوعٌ من التهوّرِ تمارسُه فئةٌ من الشبابِ، وعلى جهاتِ الأمنِ أن تتعاملَ مع أصحابِه بكلّ جدّيةٍ وحزمٍ، وعلى الآباءِ والأولياءِ ألا يشفعوا لأصحابِ هذه الممارساتِ الخاطئة المهلِكة، فهل سمعتم عن قطعةِ ¬

(¬1) أضواء البيان: 3/ 260.

الموتِ؟ إنها مراهنةُ المراهقينَ على اجتيازِ الشوارع المتقاطعةِ حتى وإن كانت الإشارةُ حمراءَ تمنعُ السيرَ، فهؤلاء يأتون بأقصى سرعةٍ مجتازينَ للشارعِ مهما كانت الخسائرُ، وكم وقعتْ نتيجةَ هذه الحركاتِ الصبيانيةِ من خسائرَ وحوادثَ مروّعةٍ، وحقُّ هؤلاء أن يُمنَعوا من القيادةِ، وأن تُصادرَ سياراتُهم إلى الأبد ليكونوا عبرةً لغيرهم. وعلى صعيدٍ آخرَ، وفي تحليلٍ أصدرته قواتُ أمنِ الطُّرقِ جاءَ فيه: تَجاوزُ السّرعةِ النظامية، وعدمُ الاهتمامِ بسلامةِ الإطاراتِ على رأس أسبابِ الحوادثِ في المملكةِ، وقد جاءتْ محصّلةُ الحوادثِ لعام 1420 هـ تحمل الإحصاءات التاليةَ: (5179) حادثًا مروريًّا، منها (1800) حادثِ انقلاب، (1775) حادثِ تصادم، وأشارَ التقريرُ إلى أن عددَ المصابينَ بهذه الحوادث (2642) سعوديًّا، وغيرَ سعوديّ (1721)، وعددُ الوفيات لعام 1420 هـ بلغت (536) (¬1). وفي إحصائيةٍ لمنطقة القصيم لعام 1420 هـ بلغ عددُ المصابين (1166)، وعددُ الوفيات (176). إن هذه الإحصاءاتِ وغيرَها تدعو للتأمّلِ واليقظةِ، والتعاونِ فيما من شأنه وجودُ (جيلٍ مروريّ واعٍ)، فتلك مسئوليتُنا جميعًا .. ولكنّ جهاتِ الأمنِ عليها كِفْلٌ كبيرٌ من المسئولية، فلا بد أن تنتهي إلى قراراتٍ حاسمةٍ ومتابعاتٍ جادّةٍ تضعُ حدًّا للمتهورينَ، وتأخذُ بيدٍ من حديد على كلّ من يعبثُ بالأمنِ أو يتسامحُ في أرواحِ أو ممتلكاتِ الآخرين، وفي كلّ عامٍ نسمعُ عن ملتقىً أو أسبوعٍ للمرورِ - ولكننا نتطلّعُ إلى حلولٍ جذريةٍ وخططٍ واعيةٍ للسلامة، وأنماطٍ ¬

(¬1) جريدة الرياض، تصريح مدير أمن الطرق.

حضارية، يمكن أن يشتركَ في صياغتها إلى جانبِ رجالِ الأمن أساتذةُ الجامعاتِ والمفكّرونَ وأصحابُ الرأي.

ألا ويح الملعونين! ومن هم؟

ألا ويح الملعونين! ومَن همْ؟ (¬1) الخطبة الأولى: الحمدُ للهِ غافرِ الذنب وقابلِ التوبِ شديدِ العقابِ ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلى اللهَ وحدَه لا شريكَ له، أمرَ بالعدلِ والإحسانِ وحُسنِ العبادةِ له، ونهى عن الفحشاءِ والمنكرِ والبغي يَعظكم لعلكم تذكَّرون، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، كان أحسنَ الناسِ خَلْقًا وأكملَهم خُلُقًا، وبعثَه ربُّه ليتمِّمَ مكارمَ الأخلاق .. اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلينَ، وارضَ اللهم عن الصحابةِ أجمعين والتابعينَ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬3). عبادَ الله: إن الناسَ كلَّ الناسِ تنشرحُ صدورُهم للثناءِ، وجُبلت قلوبُ المؤمنين على حبِّ الخيرِ وإشاعةِ المعروفِ، هم محبُّونَ لطيبِ الكلامِ، وإشاعةِ السُّرور، وتحقيقِ البهجةِ وتوفيرِ السعادةِ .. وكلُّهم يُبغضُ الفُحشَ والبذاءَة، ويكرَهُ الذمَّ والسبَّ، ويتضايقُ من اللعنِ والشتمِ والطعنِ. لكن ما رأيُكم فيمن يجلبُ لنفسِه أسبابَ الأذى، ويُعرّضُ نفسَه للعنِ والطردِ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 26/ 1/ 1422 هـ. (¬2) سورة الحشر، الآية: 18. (¬3) سورة الأحزاب، الآيتين: 70، 71.

والإبعادِ، لا من قبلِ الناسِ، بل من قبلِ اللهِ ورسولهِ صلى الله عليه وسلم؟ ! إنه ليس مُكرَهٌ على اللعنِ، لكنه جاهلٌ أو عاجز .. واللعنةُ عليه ليست إلى الأبد، بل بإمكانِه التخلصُ منها .. لكن مع الصدقِ وقوةِ العزيمةِ، والمسارعةِ بالتوبةِ. أيها المسلمونَ: سأقفُ وإياكم على طائفةٍ من الخصال والأخلاقِ والممارساتِ، لُعن أصحابُها في كتابِ الله، أو ما صحّ من سنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا ويحَ الملعونينَ من اللهِ أو على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، والله يقول: {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} (¬1). ويقول: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (¬2). وحين أسوقُ هذه الخلالَ والممارساتِ، فإنما أسوقُها لأحذِّرَكم ونفسي من الوقوع في شيءٍ منها، ومن جَهِلَ وعلِمَ فعليه العملُ، ومن علِم بها وضعُفت همَّتُه عن الحذرِ منها فليتّقِ اللهَ، وليخلِّص نفسَه من أسباب الطردِ عن رحمة اللهِ مادامَ على قيدِ الحياة. فيا تُرى من هم الملعونون؟ وما هي الصفاتُ والأعمالُ الموجبةُ للعن؟ وسأكتفي بذكرِ خمسَ عشرةَ خصلةً منها أو تزيد: 1 - يا أخي المسلم: احذرِ الظلمَ بكافةِ صورِه وأشكالِه، وللقريبِ أو للبعيد، في المالِ أو العرضِ أو سائرِ الحقوق والواجباتِ، فإن الظلمَ ظُلماتٌ يومَ القيامةِ، والظالمونَ ملعونونَ في كتاب اللهِ: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (¬3)، {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (¬4)، وأخبر سبحانه عن ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 52. (¬2) سورة محمد، الآية: 23. (¬3) سورة هود، الآية: 18. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 44.

نفسه {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (¬1). 2 - واحذر الكذبَ فهو يهدي إلى الفجور، والفجورُ يهدي إلى النار، والكاذبونَ ملعونونَ كذلك في كتاب الله: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (¬2)، {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (¬3). وكم يتساهلُ نفرٌ من المسلمينَ بالكذبِ، إنْ في البيعِ أو الشراء، أو في القضاءِ أو الاقتضاءِ، في ادِّعاء الحقوقِ أو إنكارِ الواجباتِ، كذبٌ بين الرجال، ومثلُه أو أعظمُ بين النساءِ، وهكذا يسري بين الشبابِ والأطفالِ .. ولا يزَالُ الرجلُ يكذبُ ويتحرَّى الكذبَ حتى يُكتبَ عند الله كذَّابًا .. فاحذروا الكذبَ كلَّه أبيضَه وأسودَهُ، قليله، وكثيرهُ، واتقوا اللعن في كتابِ اللهِ. 3 - معاشرَ المسلمين: واحذروا قطيعةَ الأرحامِ، فقد جاءَ الوعيدُ بقطعها في القرآن مقرونًا باللعنِ، ومعه الصمَمُ والعَمى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (¬4). قال ابنُ كثيرٍ رحمَه اللهُ: في الآيةِ نهيٌ عن الإفسادِ في الأرضِ عمومًا، وعن قطعِ الأرحامِ خصوصًا (¬5). وروى الإمامُ أحمدُ بسندِه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يكشفُ عن عقوبة قطيعةِ الرحمِ، فقال عليه الصلاةُ والسلام: «ما من ذنبٍ أحرَى أن يُعجِّل اللهُ عقوبتَه في الدُّنيا، مع ما يدَّخرُ لصاحبِه في الآخرة من البغي وقطيعةِ الرَّحِمِ» (¬6). ¬

(¬1) سورة الشورى، الآية: 40. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 61. (¬3) سورة النور، الآية: 7. (¬4) سورة محمد، الآيتين: 22، 23. (¬5) تفسير الآية السابقة 7/ 300. (¬6) رواه الترمذي وأبو داود وغيرهم وصححه الألباني «صحيح الجامع» 5/ 163.

وساقَ ابنُ كثير في «تفسيره» حديثًا عن لعنةِ قطيعةِ الرحِمِ، حيث قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ظهر القولُ، وخُزِنَ العملُ، وائتلفتِ الألسنةُ وتباغضتِ القلوبُ، وقطعَ كلُّ ذي رحمٍ رحِمه، فعند ذلك لعنَهمُ الله فأصمَّهم وأعمى أبصارهم» (¬1). يا قاطعَ الرحمِ توقَّفْ وتذكَّر .. أما لكَ في القرآن مُزدَجَرٌ، أما لكَ في الوعدِ والوعيدِ من محمدٍ صلى الله عليه وسلم مُعتبر؟ واحذر أن تكونَ ممن يقرأُ القرآنَ، ولكن كأنما بك عن الحقِّ صَمَم، وعن قبولِ الخيرِ عمى؟ ! 4 - أيها المؤمنونَ: وممَّن لعنهم اللهُ وجاء الخبرُ بلعنِهم من الملائكةِ والرسلِ: شاربُ الخمرِ وعاصِرُها، وساقيها، وبائعُها ومبتاعُها، وبقيةُ من جاء لعنُهم في الحديث الذي رواه أحمدُ والحاكمُ والطبراني وغيرُهم بسندٍ صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريلُ فقال: يا محمدُ، إنَّ اللهَ عز وجل لعنَ الخمرَ وعاصِرَها ومُعتصِرَها وشاربِهَا وحامِلَها والمحمولةَ إليه، وبائعِها ومبتاعَها وساقيَها ومستقيَها» (¬2). والخمرُ كلُّ ما خامرَ العقلَ وغطَّاه .. سواءً كان شُربًا أو أكلًا لمخدراتٍ أو نحوِها .. فاحذر أخي المسلم من الفضيحةِ في الدنيا واللعن والطردِ عن رحمة اللهِ في الآخرةِ. 5 - إخوةَ الإسلام: والراشي والمرتشي ملعونانِ بلعنةِ الله ولعنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد صحّ في الخبر أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعنَ اللهُ الراشي والمرتشي في الحُكمِ» (¬3). ¬

(¬1) التفسير 7/ 303. (¬2) انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، الألباني (839). (¬3) رواه أحمد والترمذي وغيرهما «السلسلة الصحيحة 2620».

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي» (¬1). والرشوةُ أكلٌ لأموال الناسِ بالباطل كما قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬2). ألا فاحذروا معاشرَ المسلمين من الرشوةِ مهما كانت مسمياتُها، وسواءً كان آخذُها تاجرًا أو موظفًا، ذكرًا أو أنثى، كبيرًا أو صغيرًا. فستسألونَ عن أموالكم من أين اكسبتموها وفيما أنفقتموها. 6 - معاشرَ الرجالِ: واحذروا التشبهَ بالنساءِ، واحذرن معاشرَ النساءِ التشبُّهَ بالرجال، فكلُّ أولئك تلاحقهمُ اللعنةُ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله المتشبهاتِ من النساءِ بالرجال، والمتشبهينَ من الرجالِ بالنساء» (¬3). وفي الحديث الآخر: «لعنَ اللهُ الرجلَ يلبسُ لبسةَ المرأة، والمرأةَ تلبسُ لبسةَ الرجل». وفي رواية: لعن رسولُ الله (¬4)، وفي «صحيح» البخاريِّ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال: «لعنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المخنثينَ من الرجالِ والمترجلاتِ من النساءِ وقال: أخرجوهم من بيوتكم» (¬5). ألا ويحَ المتشبهينَ والمخنثينَ والمترجلاتِ؟ 7 - وتلاحقُ اللعنةُ كذلك النساءَ المغيّرات لخلقِ اللهِ، وذلك بالنمصِ والوشمِ ¬

(¬1) أخرجه الترمذي وابن ماجه. «السلسلة الصحيحة 2620». (¬2) سورة البقرة، الآية: 188. (¬3) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه بسند صحيح. وفي البخاري نحوه (ح 5885) والترمذي (2785)، وابن ماجه (1904) وغيرهم (انظر: صوت المنبر: د. صالح الونيان 2/ 261). (¬4) رواه أبو داود في اللباس (ح 4098)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4971). (¬5) حديث: (5886).

والتفلُّج .. قال صلى الله عليه وسلم: «لعنَ اللهُ الواشماتِ والمستوشماتِ والنامصاتِ والمتنمصاتِ، والمُتفلجاتِ للحُسنِ، المغيراتِ خلقَ الله» (¬1). وكم تخطئُ المرأةُ وهي تتابعُ الموضةَ وإن كانت محرَّمةً .. وكم تبتعدُ المرأةُ عن هدي الإسلام، وتقعُ في لعنةِ الله حين تُغيرُ خلقَ الله بنفسِها، أو تذهبُ إلى محلاتِ التجميلِ لتفعلَ بها ما تشاء .. وهنا لفتةٌ وتذكيرٌ وتحذيرٌ لمحلاتِ تجميلِ النساءِ .. حين تتساهلُ في ما حرَّم اللهُ، وقد تغري المرأةَ أو تغررَ بها. واللعنةُ شاملةٌ للنامصةِ والمتنمصةِ والواشمةِ والمستوشمةِ كما في الحديث السابق: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري ومسلم (ح 5931، 5939 .. ومسلم ح (120) وغيرهم). (¬2) سورة النساء، الآية: 119.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لله ربِّ العالمينَ يُحبُّ التوابينَ ويحبُّ المتطهرينَ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، حببَ إلى عبادِه المؤمنينَ الإيمانَ وزيَّنهُ في قلوبِهم، وكرّه إليهمُ الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه هدى الأمةَ لأحسنِ الأخلاقِ والأعمالِ، ونهاهم عن المنكراتِ والمكروهاتِ من الأخلاقِ والأعمالِ. اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين. إخوةَ الإسلام: 8 - وما ظنكم بكبيرةٍ من كبائرِ الذنوبِ حرّمها الإسلامُ، بل وأعلنَ اللهُ الحربَ على مرتكبيها، وأصحابُها ضِمن من لُعنوا على لسانِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! إنهم أكلةُ الرّبا وموكلوه وكتبتُه وشاهدوه، ففي «صحيح» مسلم وغيرِه: «لعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم آكلَ الرّبا وموكِلَه وكاتبَه وشَاهدَيْه، وقال: هم سواء» (¬1). تُرى كم يَشقي بهذه اللعنةِ أفرادٌ في مجتمعِنا - ممن سوّل لهم الشيطانُ وأملي لهم التكثّرَ بالرّبا .. وهل علمَ هؤلاءَ أن الربا وإن كثُر فعاقبتُه إلى قلّ .. بل هو محقٌ للمالِ وبركتهِ بشهادةِ العليم الخبير: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} (¬2). وإذا كانت تلك شهادةَ القرآن، فشهادةُ الواقع كذلك برهانٌ على هذا المحقِ، وكم يتحدثُ الناسُ عن أفرادٍ تحولوا بين عشيَّةٍ وضُحاه من دائنينَ إلى مدينين، ومن أغنياءَ إلى فقراءِ، وحتى لو لم يحصلْ لهم شيءٌ من ذلك في الدنيا، فيكفيهم خزيًا وعارًا وندامةً وخُسرانًا، أنهم لا يقومون من قبورهم يومَ القيامة: ¬

(¬1) أخرجه مسلم (1597)، والترمذي (1206)، وابو داود (3333). (¬2) سورة البقرة، الآية: 276.

{إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (¬1)، بابُ التوبةِ مفتوحٌ للمُرابين .. ولكنّ الخلودَ في النار جزاءُ العائدين: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. ألا فخلّصوا أنفسَكم من اللعنةِ يا من تُرابون، وقُوا أنفسَكم الخلودَ في النار يا من تجمعونَ ما لا تأكلون، ولا تجنوا على أنفسِكم وعلى أولادكم بأكلِ السُّحتِ وأنتم تعلمون، ولا تُبارزوا ربَّكم بالمحاربةِ وأنتم المساكين! 9 - عبادَ الله: وثمةَ خِصالٌ لُعن أصحابُها، تجمع مَن سبَّ والدَيه، أو ذبحَ لغيرِ الله، أو غيَّرَ تخومَ الأرضِ .. فعنها وغيرِها قال صلى الله عليه وسلم: «ملعونٌ من سبَّ أباه، ملعونٌ من سبّ أُمَّه، ملعونٌ من ذبحَ لغيرِ اللهِ، ملعونٌ من غيّر تخومَ الأرضِ، ملعونٌ من كَمِهَ أعمى عن الطريق (أي أضلَّه)، ملعونٌ من وقعَ على بهيمةٍ، ملعونٌ من عَمِلَ عَمَلَ قومِ لوطٍ» (¬2). ألا فاحذروا هذه الخِلالَ كلَّها وترفَّعوا بأنفسكم عن مقارفتها. 10 - وترويعُ المسلمِ موجبٌ للعنةِ، وفي «صحيح» مسلم في كتاب البر والصلة بابُ النهي عن الإشارةِ بالسلاح إلى مسلم، ساق الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «من أشار إلى أخيهِ بحديدةٍ، فإنَّ الملائكةَ تلعَنُه، وإن كان أخاه لأبيه وأمّه» (¬3). وكم يتساهلُ بعضُنا بهذا الأمر، والأمرُ خطير. وكم بدأ بمزاحٍ ثم يتحولُ إلى كارثةٍ وأتراحٍ، فالزموا أمرَ الإسلام، ولا تُروِّعوا آمنًا. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 275. (¬2) رواه أحمد بسند صحيح. انظر: صحيح الجامع ح (5767). (¬3) مسلم برقم (2020) و (2616).

11 - إخوةَ الإسلام: وإياكم والتحايلَ على ما حرَّم اللهُ، فهو وإن خَفيَ على البشرِ فلا يخفى على خالقِ البشرِ، والمُحلِّلُ لامرأةٍ بانت من زوجها والمُحلَّلُ له كلُّهم ملعونون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لعنَ اللهُ المُحلِّلَ والمُحلَّلَ له» (¬1). إن هذا المُحلِّلَ تيسٌ مُستعار. وهو والمحلَّلُ له استحلُّوا ما حرَّمَ اللهُ بالحيلة، وهتكِ المروءة، وقلةِ الحمية، وضعفِ الرقابة للهِ؟ 12 - معاشرَ النساءِ وحين لا تستجيبُ إحداكنُ لأوامر الزوجِ ولا تُطيعُه بالمعروف، فيبيتُ غضبانَ عليها، فإن اللعنةَ تصيبُها فقد روى البخاريُّ ومسلمٌ من حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا الرجلُ امرأتَهُ إلى فراشِه فأبتْ، فباتَ غضبانَ عليها لعنتها الملائكةُ حتى تُصبحَ». 13 - معاشرَ الرجالِ: وإياكم وإتيان النساءِ في أدبارهنَّ، فذلك مع استقذارهِ وهو يُفوِّتُ على المرأة حقَّها من الزوجِ، ويخالفُ الهدفَ من الزواج وهو الإعفافُ وابتغاءُ الولد، قال صلى الله عليه وسلم: «ملعونٌ من أتى امرأةً من دبرها» (¬2). 14 - أيها المسلمون: وممن لُعنوا في كتاب اللهِ الذينَ يؤذون الله ورسولَه {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} (¬3). 15 - والذين يكتمونَ ما أنزلَ الله من البينات والهدى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه. (¬2) أخرجه أبو داود (2162)، وابن ماجه (1903) د. صالح الونيان، «صوت المنبر» 2/ 1259. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 57.

اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬1). عبادَ الله: ليس هذا حصرًا للملعونين في كتابِ الله وسنةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، وإنما هو بيانٌ لشيءٍ منها، وقد عقدَ ابنُ القيمِ رحمه الله في كتابه «الداء والدواء» فصلًا في ذنوبٍ تُدخلُ العبدَ تحت لعنةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ومن لعنه الله، فزَادت عنده على ثلاثينَ نوعًا، منها ما سبقت الإشارةُ إليه، ومنها من ضارّ مسلمًا أو مكرَ به، ومن آوى محدثًا، ومن انتَسبَ إلى غير أبيه، ومن سبَّ الصحابةَ، ومن أفسدَ امرأةً على زوجها، ومن جعلَ سبيلَ الكافرينَ أهدى من سبيل المؤمنينَ. إلى غير ذلك. ومن شاء المزيدَ فليرجع إليه (¬2). أيها المسلمُ والمسلمة: ادرءوا عن أنفسِكم وأهليكم وأولادِكم أسبابَ لعنِ اللهِ أو لعن رسولهِ صلى الله عليه وسلم إننا نأنفُ من اللعنِ في لغةِ التخاطبِ بيننا، فكيف نرضى باللعنِ من خالِقنا أو نبيِّنا؟ وإذا تطاولَ علينا لاعنٌ بغير حقٍّ دافعْنَا وانتصَرْنا لأنفسِنا. أفلا ندفعُ نزغاتِ الشيطانِ، ونتعالى على أسبابِ اللعن من خالقنا؟ ويومَ أن تسمعوا مثلَ هذه الأخلاقِ السيئةِ والممارساتِ الخاطئةِ المؤديّةِ للعنِ، فلا تظنوا أن المخاطبَ غيرُكم، بل اتهموا أنفسَكم، وجاهدوا أهواءكم، وأصلحوا ذاتَ بينكم، وتناصحوا بالمعروفِ، وتناهَوْا عن المنكر، ولا يأنفْ والدٌ من نصيحةِ ولدِه، ولا يترددُ ابنٌ في نصح أبيه، ولا زوجٌ ولا زوجةٌ في مصارحةِ بعضِهم بعضًا، والمؤمنونَ أخوةٌ وهم نصحةٌ فيما بينهم، والمصيبةُ حين تفشو المنكراتُ ولا مُنكِرٌ، وتحيقُ اللعنةُ أو اللعناتُ في مجتمعِ المسلمينَ ولا ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيتين: 159، 160. (¬2) الداء والدواء، ط المدني ص (83 - 85).

مُنذر أو مُدَّكرٌ، وإذا رأيتَ ثمّ رأيتَ الضيقَ والكَدَرَ، والهمومَ والقلقَ تُحيطُ بفئةٍ من الناسِ فاعلم أنها المعاصي والبعدُ عن هدي المرسلين، ثم تذكّر قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (¬1). اللهم إنا نعوذُ بكَ من تحولِ عافيتك، وفُجاءة نقمتِك، وجميعِ سخطكَ. ¬

(¬1) سورة طه، الآية: 124.

القاتل البطيء

القاتِلُ البطيءُ (¬1) الخطبة الأولى: الحمدُ لله ربّ العالمينَ، أحلَّ لنا الطيباتِ ونهانا عن الإسرافِ فيها، وحرّمَ علينا الخبائثَ والإسرافَ فيها من بابِ أولى. وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، تركَ الأمةَ على محجَّةٍ بيضاءَ، وما توفّاه ربُّه إلا والحلالُ بيِّنٌ، والحرامُ بيِّنٌ، أما المتشابهاتُ فالسعيدُ من اتقاها واستبرأ لدينهِ وعِرْضِه، ومن ضعُفت همَّتُه ووقعَ في الشُّبهاتِ، فإن ذلك طريقٌ للوقوعِ في المحرماتِ كالراعي يرعى حول الحِمى يوشكُ أن يرتعَ فيه .. اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وارضَ اللهم عن الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬3). إخوةَ الإسلام: ما هذا الداءُ الذي وقعَ في شراكِه فئامٌ من المسلمينَ، وتسلَّلت آثارُه من الكبارِ لتصلَ إلى الصغار، وعمَّت البلوى به، فتضررَ غيرُ المتعاطينَ له حين يُصرُّ المُبتلونَ به على تناوله في مجمع الناس وملتقياتِهم العامةِ - وفي حال سفرِهم أو إقامتِهم، إن هذا الداءَ يبدأَ عبثًا أو تقليدًا .. ثم لا يلبثُ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 24/ 6/ 1421 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 1. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 102.

أن يتحولَ إلى عادةٍ متأصِّلةٍ يُخيَّلُ للمُبتلى به أنه لا يستطيع الفكاكَ عنه وليس الأمرُ كذلك، إنه وباءٌ يسري في الأمةِ ليخرِمَ مروءَتها وشهامةَ أبنائِها، ويَشيع فيها نوعًا من التبعيةِ والتقليدِ للآخرينَ، وتُشكلُ مدفوعاتُه ضربةً في اقتصادِها، وهو مرضٌ يسري في جسمِ المدخنِ، فلا يكادُ يَمُرّ بعضوٍ إلا أفسدَه، وربما أقعدَه المرضُ، أو كانت الوفاةُ نهايتَه وسبَبه؟ أجل؛ لقد قالوا عن التدخين: إنه القاتلُ البطيءُ، وقالوا: إنه بوابةُ الأمراضِ، وقالوا: إن تسعينَ في المائة من وفياتِ الموتِ المفاجئ من المدخنينَ يرجع إلى جلطة الشُّريان، واحتشاءِ عَضَلةِ القلب؟ وقال أحدُ الأطباءِ: «لقد مضى على معالجتي للسرطانِ خمسٌ وعشرونَ عامًا، فلم يأتني مصابٌ بسرطانِ الحنجرةِ إلا مدخِّنٌ» (¬1). وجاءَ في تقريرٍ لأحدِ مراكزِ البحوثِ الأمريكية: إن التدخينَ يؤدي إلى أعلى نسبةِ وفياتٍ في العالم بالمقارنةِ للحروبِ والمجاعاتِ (¬2). وهل تعلم أن خمسةً وتسعين بالمائة من مرضى شرايينِ الساقينِ هم من المدخنين (¬3). ومن رأي الطبّ إلى حكمِ الشرعِ .. يقول سماحةُ الشيخ ابن بازٍ رحمه الله: والدخانُ بأنواعه كلِّها ليس من الطيباتِ، بل هو من الخبائث، لا يجوزُ شربُه ولا بيعُه ولا التجارةُ فيه كالخمر، والواجبُ على هؤلاء البِدَارُ بالتوبة إلى اللهِ، والندمُ على ما مضى، والعزمُ على ألا يعودَ، ومن تابَ صادقًا تابَ اللهُ عليه (¬4). ¬

(¬1) السيجارةُ في قفص الاتهام، دار ابن خزيمة (132). (¬2) النشرة السابقة ص 4. (¬3) النشرة السابقة. (¬4) فتاوى شرعية في حكم بيع الدخان وتعاطيه، اللجنة الخيرية بجدة.

إن من المؤسفِ - حقًّا - أن يُحاصَرَ التدخينُ، وتقلّ نِسبُ المدخنينَ في البلادِ التي تصنع (التبغَ) وتصدِّره نتيجةَ حملاتِ التحذيرِ والمكافحةِ، ووضعِ الغراماتِ على الشركاتِ المنتجةِ. أما بلادُ المسلمين فتظلُّ سوقًا للتصدير، تُزادُ فيها نِسبُ (النيكوتين) وترتفعُ معدلاتُ المدخنين؟ وهنا وقفةٌ للتأمُّل، وحقائقُ لا بد أن نَعِيَها، وندركَ الدرسَ من خلالها، ومن هذه الحقائق: أكتفي بقضيتين: 1 - تعهدتْ شركاتُ التبغِ الأمريكية بدفع غرامةٍ مقدارُها ثمانٌ وستون وثلاثُمائة بليون دولار، وذلك لتسديدِ الدعاوى القضائيةِ الموجهةِ ضدَّها، وعلاجِ المتضررينَ من التدخين. 2 - وتدفعُ شركاتُ التبغ - كذلك - بليوني دولار سنويًّا لتمويلِ برامجَ مكافحةِ التدخين داخلَ أمريكا، والسعي لتخفيضِ نسبةِ التدخين بين المراهقين بنسبةِ 10% خلالَ عشرِ سنوات، وإذا لم يتحقَّقْ ذلك تدفعُ غرامةً أخرى تصلُ إلى بليوني دولار سنويًّا. فهل يُصنعُ مثلُ ذلك أو قريبٌ منه في بلادِ المسلمينَ مع هذه الشركاتِ المنتجةِ والمصدِّرةِ؟ وما الأثرُ الذي خلَّفتْه هذه الإجراءاتُ وجودًا أو عدمًا؟ والجوابُ: في لغةِ الأرقام التي تقول: إن الحربَ التي تشُنها دولُ أمريكا وأوربا على التدخين أدّى إلى انخفاضِ نسبةِ المدخنين، فقد انخفضت مبيعاتُ التدخين في أمريكا ما بين عام تسعينَ وخمسٍ وتسعينَ وتسع مائةٍ وألف للميلاد (1990 - 1995) بنسبة 5.4%، وأمريكا اللاتينية بنسبة 2.11%، وفي أوربا الغربية بنسبة 7.1%، بينما يختلفُ

المؤشرُ في دول آسيا، إذ زادت مبيعاتُ التدخين بنسبة 8.8%، وجاءت أعلى نسبةِ زيادةٍ في العالم في الشرق الأوسط حيث بلغت 7.17%؟ ! (¬1). إنها حقائقٌ مرةٌ، وأرقامٌ مذهلةٌ، خلاصتُها تعويضُ البلادِ الإسلامية لخسائرِ شركاتِ التبغ في الدولِ الغربية، وهنا يلحّ سؤالٌ: أَلَدى شعوبِ هذه الدولِ الكافرةِ موانعُ محذرةٌ عن التدخين أكثرُ مما لدى أبناءِ وشعوبِ المسلمين؟ أم بلغ أولئك القومُ حدًّا من الوعي ومستوى من التفكيرِ لم يبلُغْه المسلمونَ بعد؟ إن لدى المسلمَ من الموانعِ عن التدخين، ونصوصِ الترغيبِ والترهيبِ، ومفاهيمِ الثوابِ والعقابِ - بما يتجاوزُ الدنيا إلى الآخرة - ما لا يوجدُ مثلُه عند الأممِ الكافرةِ، ولكن الفرقَ في مستوى الوعي، والقدرةِ على ضبطِ النفسِ، وعلوِّ الهِمَّةِ، وتحكيمِ العقلِ. نعم إن المدخنَ لا يجهلُ أثرَ التدخين، ولا ينكرُ أضرارَه، بل لعله أقدرُ من غيره على التعبيرِ عن هذه الأضرار، لكنه محتاجٌ إلى قرارٍ حازمٍ، وإرادةٍ قويةٍ تضعُ حدًّا للتسويف، وتنهي الصراعَ بين العاطفةِ ممثلةً في الشهوةِ الآسرة، وبين نداءِ الفطرةِ والعقلِ والدِّين التي تنظم الشهوةَ وتضعُ جسورًا فاصلةً بين الحلالِ والحرام، وتميزُ الضَّارَّ من النافع؟ كم تُنظّمُ من حملاتٍ توعويةٍ عن التدخين، وقد يكون المدخنونَ أقلّ الناسِ عنايةً بها واستماعًا لبرامجها. وكم نرى أو نسمعُ من ملصقاتٍ عن أضرارِ التدخينِ وضرورة الإقلاعِ عنه .. والمؤسفُ حين يكون المدخنونَ أقلَّ من غيرِهم في الوقوفِ عليها والاستفادةِ منها. على أن ذلك لا يلغي أهميةَ التوعيةِ، ولا يعني الإحباطَ من آثارِ الحملاتِ .. ¬

(¬1) رسالة من القلب عن التدخين، عن اللجنة الخيرية لتوعية الشباب وحمايتهم من أضرار التدخين، جدة.

فالحقُّ أن لهذه الحملاتِ أثرَها، وقد أقلعَ - بتوفيقِ الله أولًا، ثم بسببِ هذه الحملاتِ - عددٌ من المدخنينَ، وتركوا التدخين إلى غير رجعة. ولكنا لا نزالُ نخاطبُ فئةً من المدخنين تتصورُ - وهي مخطئةٌ - أن الحملاتِ لا تعنيها، وأن لغةَ الخطابِ لم تلامسْ - بعدُ - شغافَ قلوبِهَا. مهلًا أيّها المدخن، فأنت المستفيدُ إن أقلعتَ، وأنت الخاسرُ إن أصررتَ - وحسبكَ أن تقدرَ للناصحينَ نُصحَهم، ومن تمام عقلِكَ ومروءتك أن تَفتحَ قلبكَ لمن يُهدي إليك عيوبكَ، ويفتحُ لك نافذةَ الخلاصِ من داءٍ يُقلقك دينًا ودنيا. أخي المدخن: إني لك ناصحٌ وعليك مشفقٌ، وكم تُسعدُني وتُسعدُ الناصحينَ غيري حين تُشعرُنا بالاستجابة، وتُعلنُ بينكَ وبين نفسِك أو على ملإٍ من أصحابِكَ مفارقةَ التدخينِ إلى غير رجعةٍ، فإن قلتَ: أعدُكم بالتفكيرِ وسوف أسعى جاهدًا للخلاص، فلا تنس سلاحَ الدعاءِ ولا يَطُل بك أمدُ التسويفِ، فالليالي حُبلى بكلِّ جديدٍ، وما تدري نفسٌ ماذا تكسبُ غدًا وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ، وكم تُسعدُ أنتَ ونسعدُ من ورائكَ حين تنتقلُ إلى جوارِ ربّك تائبًا من كلّ معصيةٍ طالما أصررتَ عليها، واحمدْ ربَّك أنك تنتسبُ إلى دينٍ يدعو إلى التوبةِ ويعظمُ أجرَها .. بل وتبدَّلُ فيه السيئاتُ حسناتٍ، ويفرحُ الربُّ ويتحققُ الفلاحُ. وباسم الإسلامِ والإيمانِ نُذكِّرك بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (¬1). اللهم انفعنا بهدي القرآنِ وسنةِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام .. أقول ما تسمعون. ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 36.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لله ربّ العالمين نعمُه علينا لا تُعدُّ ولا تُحصى، ومن يشكر فإنما يشكرُ لنفسِه، ومن كفر فإن اللهَ غنيٌّ عن العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الأولين والآخِرين، أرشدَ - وهو الصادقُ الأمينُ - إلى نعمةِ الصحةِ والغبنِ فيها، فقال عنهما وعن الفراغ: «نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناسِ؛ الصحةُ والفراغ». اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائرِ النبيينَ والمرسلين. عبادَ الله: وإذا كانت الصحةُ والفراغُ أمانةً، وسوف يُسألُ الإنسانُ ما صنعَ فيهما، فالمالُ والعمرُ أمانةٌ كذلك، وسوف يسألُ المرءُ عنهما: «لا تزولُ قدما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن أربع: عن عُمُرِه فيما أفناهُ، وعن علمه ما فعلَ به، وعن مالِه من أين اكتسبَه وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمِه فيما أبلاهُ» (¬1). أخي المدخن: ما موقفُك من هذا الحديثِ والموقفُ عصيبٌ، والمحاسِبُ يحاسبُ على النقيرِ والقطميرِ، ولا يُغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، ولو تقاصرت نَظرتُك عند حدودِ الدنيا - وما ذلك بمحمودٍ - لقيلَ لك: أليسَ المالُ صعبًا جمعُه .. أليستَ الصحةُ مطلبًا يُبحثُ عنه وتُصرفُ الأموالُ لتوفُّرِه .. فما بالُك أيها المدخنُ تحرقُ مالكَ بنفسِك، بل وتحرقُ معه أحشاءك؟ وأُراكَ تسيرُ في اتجاه معاكس للآخرين، فهم يبحثونَ عن الصحةِ وأنت بطوعِك واختيارِكَ تتشبثُ بما يُسيءُ إليها؟ ويحرصونَ على المالِ وأنت من المهلكينَ له والمبذرينَ في إنفاقه. يا صاحبي: وقل لي بربك ماذا جنيتَ من التدخينِ؛ فيما مضى من عمركَ، ¬

(¬1) رواه الترمذي برقم (2417) وصححه الألباني.

فدينُك لم يسلم، ودنياك في خطر، وأنتَ في وحشةٍ مع جيرانِكَ وأصدقائك، والأمرُ أخطرُ حين يقعدُ بك التدخينُ عن شهودِ الصلاةِ مع جماعةِ المسلمين؛ لأنك تخشى أذاهم برائحةِ التدخينِ، أو تنقطعُ عن زيارةِ وصلةِ أقربائك لأنك تشعرُ بالغربة بينهم حين تكونُ نشازًا في التدخين .. ألم يمنعْك التدخينُ يومًا من الجلوسِ مع الأخيار، وإن كنتَ تُحبّ الأُنسَ بهم والاستماعَ إلى أحاديثهم، ولكن يمنعك الحياءُ من معاشرتهم؟ ألم يقعد بك التدخينُ عن كثيرٍ من معالي الأمورِ - أنت أهلٌ لها، وبك من مقوماتِ الخيرِ ما يرشِّحُك لها .. ولكنَّ عتابَك لنفسك في الإصرارِ على شربِ الدخانِ حال بينك وبين المساهمةِ فيها. أيها المدخنُ: وأنت حينَ تتوارى عن الأعين وتتخفَّى عن الأنظارِ في شربِ الدخانِ، فذلك مؤشّرٌ لحيائك - والحياءُ لا يأتي إلا بخيرٍ - ومؤشرٌ لخيريةِ المجتمعِ إذ ينكرُ هذه المظاهِرَ السلوكيةَ المنحرفةَ، ولكن قُل لي بربّك: ألا يؤلِمُكَ هذا التخفي، ألا تشعر بنقصٍ وأنت تتستَّر؟ وفي سبيل ماذا تُعذّبُ نفسك بذُلِّ المعصية، وتُرهقُها بآلام الشعورِ بالذنبِ دونما فائدة؟ دعني أصارحك وأقولُ: إنك تظلمُ نفسَك وتخطئُ في حساباتك حين تظنّ أن شُربَ الدخانِ يُفرج همّك، أو ينسيكَ آلامَك، أو يسعدك في حياتك، أو يسليك في غربتِك، أو يشعرك بالفرحةِ في مجاملةِ أصدقائك المدخنين، أو تقولُ في نفسِك: إنني عشتُ عليه صغيرًا وشبتُ عليه كبيرًا ويصعبُ عليّ فراقُه .. أو غير ذلك من أسبابٍ وحججٍ يتعلقُ بها المدخنون؟ واسمح لي أيها المدخنُ أن أسأَلَك وأدعُ الإجابةَ لك، هل تُصنّفُ التدخينَ ضمنَ الطيباتِ أم الخبائثِ؟ وهل ترضى لأحدٍ أن يقول عنك أنك مشجعٌ على انتشارِ الخبائثِ؟

هل تسمّي اللهَ حينما تبدأ بشربِ الدخانِ وتحمدُه في حالِ انتهائك، كحالك حين تتناولُ الطيبَ من الطعامِ والشراب؟ ! وهل هناك مأكولٌ أو مشروبٌ تطؤه بحذائك أو ترمي به في مكانٍ غير مشرف كما تصنعُ بالسيجارة؟ ألست تشعرُ بالذنبِ حين تحملُ الدخانَ في بيتٍ من بيوتِ اللهِ؟ وهل تُفَكِّرُ في شربه في أحدِ المساجدِ؟ وماذا تعني هذه المشاعرُ عندك؟ هل حقّقَ لك التدخينُ مكانةً اجتماعيةً أو مكسبًا ماديًّا؟ أو تفوَّقًا صحيًّا؟ هل ترضى أن يتعاطاه أحدُ أبنائك أو إخوانِك أو أقاربِكَ؟ أخي المدخن: ودعني أذكِّرك بقيمةِ ما تُهلكُ من المال والوقتِ - لا أشكّ أنك حريصٌ على وقتك ومالِك، فقد قالوا: إن المدخنَ لمدة عشرينَ سنةً إذا كان يدخنُ أربعينَ سيجارةٍ يوميًا يتكلفُ أكثرَ من سبعةٍ وخمسينَ ألفًا، وإذا كانت السيجارةُ الواحدةُ تستغرقُ خمسَ دقائقَ، فإن أربعينَ سيجارةً تستغرقُ مائتي دقيقة، فهل ترضى أن تقضي أكثرَ من ثلاثِ ساعاتٍ يوميًّا في معصيةِ الله؟ والعمرُ محدودٌ، والوقتُ أمانةٌ ومسئوليةٌ .. وكم من جياع المسلمينَ وفقرائهم ومنكوبيهم يحتاجُ إلى هذا المال الذي تنفقه فيما يضرُّك ولا ينفعُك، وربما استفادت منه دولٌ أو شركاتٌ تُحاربُ بها المسلمينَ، فهل يرضيك هذا؟ (¬1) إخوةَ الإسلام: ومما يلفتُ النظرَ أن العالمَ كلَّه يتخوفُ من مرضِ الإيدز - وحقَّ لهم ذلك - ولكن منظمةَ الصحةِ العالمية تقررُ أن التدخينَ أخطرُ وباءٍ عرفته البشريةُ في تاريخها الطويل، وأن ضحاياه تفوقُ ضحايا الإيدز، فإذا كانت ¬

(¬1) انظر: القاتل البطيء (التدخين) دار الوطن (84).

ضحايا الإيدز في عشرِ سنواتٍ بلغت مليونين ونصف، فإن هذا الرقمَ يمثلُ ضحايا التدخينِ في سنةٍ واحدةٍ، ومع ذلك تجدُ العالم كلَّه مرعوبًا من الإيدز، بينما يواصلُ المدخنونَ التدخينَ، وإن فتكَ بهم أضعافًا مضاعفة؟ (¬1) عبادَ الله: وإذا تضافرت الأدلةُ الشرعيةُ على تحريمِ الدخان، واتفقَ الأطباءُ على أضرارِه، وتنادت الهيئاتُ والمنظماتُ للتحذيرِ منه، وأجمعَ العقلاءُ على هدره للصحةِ والمالِ والوقت، فأيُّ شيءٍ يدعو العاقلَ فضلًا عن المسلم للتشبُّثِ به؟ ! وهنا أسجلُ عددًا من الوصايا عساها تُعينُ على الخلاصِ منه: 1 - أقدِمْ أيّها المسلمُ على تركه بإرادةٍ قوية، وتذكّر أنك لستَ أولَ من تركه ولن تكونَ الأخيرَ. 2 - ومما يُخففُ عنك من آلامِ الإلفِ والعادةِ أن تتركَه طاعةً لله ورسولِه، وليس لمجردِ التخوفِ من أضراره الدنيوية، وفي هذا يقولُ ابنُ القيم رحمه الله: «إنما يجدُ المشقةَ في تركِ المألوفاتِ والعوائدِ مَنْ تركَها لغير اللهِ، أما مَن تركها مخلصًا من قلبه للهِ، فإنه لا يجدُ في تركِها مشقةً إلا في أول وهلةٍ؛ ليُمتحنَ أصادقٌ هو في تركِها أم كاذب، فإن صبرَ على تركِ المشقةِ قليلًا استحالت لذة» (¬2). 3 - ابتعد - قدر طاقتك - عن مجتمع المدخنين، وعوِّض ذلك بأصحاب خيِّرين. 4 - اشغل وقتَكَ بمشاريعَ خيرةٍ تنسيكَ التفكيرَ في التدخينِ حاضرًا، وتسعدُ بها مستقبلًا. ¬

(¬1) فتاوى شرعية في بيع الدخان .. اللجنة الخيرية/ جدة. (¬2) لماذا ندخن؟ محمد بن إبراهيم الحمد، دار الوطن، ص 9.

5 - راجع عياداتِ مكافحةِ التدخينِ إن احتجتَ إلى ذلك، فلهم في ذلك جهدٌ مشكور. 6 - ولا غنى لك - أيها المقلعُ عن التدخينِ - عن الصبر، لاسيّما في الأيامِ الأولى، ولكن تذكر أن لذةَ الانتصارِ على النفس والهوى أعظمُ من لذةٍ كاذبةٍ عابرة. 7 - ومن مصلحةِ المدخنينَ وغير المدخنينَ أن يُمنعَ التدخينُ في الأماكنِ العامةِ، ويتابعَ منعُه في الدوائِر الحكومية، وفي وسائلِ النقلِ البريةِ والبحريةِ والجوية، فذاك يحدّ من انتشاره، وربما كان داعيًا للمدخنين للخلاصِ منه. 8 - وكم هو جميلٌ أن تُعنى مناهجُ التعليمِ - بمراحلِه المختلفةِ - بالتحذيرِ منه بعباراتٍ جيدةٍ ومعلوماتٍ دقيقةٍ وحديثة. 9 - وأن تُعنى وسائلُ الإعلام - بكافةِ قنواتِها - بوضعِ برامجَ مفيدةٍ وصيحاتٍ محذرةٍ. 10 - وهمسةٌ للمدخنين وغير المدخنينَ، فمن بُليَ بشيء من المعاصي فليجاهد نفسه على الخلاصِ منها. وإنني في هذا اليومِ العظيمِ والجمعِ المبارَكِ داعٍ فأمِّنوا: اللهم عافِ كلَّ مبتليً ووفِّقْه للتوبةِ النصوح، وأبدل سيئاته حسناتٍ يا خيرَ مسئولٍ، يا ذا الجلال والإكرامِ .. اللهم ارحم ضعفَنا، وأعِنّا على أنفسِنا الأمارةِ بالسوء، ووفِّقنا لطاعتِك، وجنِّبنا معاصيك، اللهم حبِّب إلينا الإيمانَ وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيان.

من ثمرات الأمن في الأوطان وأسبابه

من ثمرات الأمن في الأوطان وأسبابه (¬1) الخطبة الأولى: الحمدُ لله ربِّ العالمين، منَّ علينا بنعمةِ الإيمان والأمنِ في الأوطان، والصحةِ والسلامةِ في الأبدان {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬2). وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، كلَّ يومٍ هو في شأن، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وعلى إخوانه من الأنبياءِ والمرسلين، ورضي الله عن أصحابه والتابعينَ، ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين. فأما بعد: فاتّقوا الله أيها الناس: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (¬3). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (¬4). هذه وصيةُ الله لكم فاعقِلوها، وهذه نعمةُ ربِّكم فاشكروها. أيها المسلمونَ: وحين نلتفتُ إلى الماضي قليلًا نتذكرُ ما نحن فيه من نعمةٍ حديثًا، لقد كانت هذه البلادُ - كما يحدِّثُنا التاريخُ في فترةٍ من الزمن - مسرحًا للفتن والحروبِ والنَّهب والسَّلبِ، حتى مَنّ اللهُ على أهلها بظهور دعوةِ التوحيد ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 17/ 6/ 1421 هـ. (¬2) سورة النحل، الآية: 53. (¬3) سورة الطلاق، الآيتين: 2، 3. (¬4) سورة آل عمران، الآيتين: 102، 103.

على يد الشيخِ الإمامِ المجدِّد محمدِ بن عبدِ الوهابِ يرحمه الله، وبمؤازرةٍ كريمةٍ من الإمام محمدِ بن سعودٍ يرحمُه اللهُ، وحينها التقى العلماءُ والحكامُ على نصرةِ هذا الدين، والقضاءِ على مظاهرِ الشركِ والفسادِ، فقامَ سلطانُ الدينِ ظاهرًا قويًّا، أمنَ الناسُ على أموالهِم، وأهليهم وعبدوا ربَّهم على علم وبصيرةٍ. ولكنَّ الشانئينَ والحاسدين لم تطبْ نفوسُهم بهذا، وأجلبَ الشيطانُ بخيلِه ورَجِلِه على جندِه وأتباعِه، وعادِت الجزيرةُ - بعد حين من الدهرِ - مرة أخرى مسرحًا للسلبِ والنهب .. يعلو سلطانُ الحقِّ تارةً .. وترتفع أعلامُ الجاهليةِ تارةً أخرى، تُسفكُ الدماءُ، وتُستحلُّ المحارمُ، ولا يأمنُ المرءُ على نفسِه ومَن حولَه. وفي ظل هذه الأجواء القلقة ينامُ المرءُ حين ينام وشبحُ اللصوصِ يمرُّ على خياله، ويستيقظُ حين يستيقظُ فرحًا مسرورًا إذ لم يكن شيء من عوَّادِ الدهرِ وفاجعاتِ الأحداثِ أصابَه. يكسَبُ كلَّ يومٍ مرَّ وهو آمنٌ في سِرْبه، ولم يُخدش فيه حياؤه، أو تُسلبْ أموالُه، أو تُنهَ حياتُه، وما أطولَ ليلَ الخائفين! وما أشدَّ فرحَ غير الآمنين بضوءِ النهار يكشفُ لهم الحقيقة، ويخيفُ الغادرين، تُرى في هذه الأجواءِ أيطمئنُّ المسلمُ في عبادته لربِّه؟ وفي ظل هذه الظروف أتستقرُّ الحياةُ وينعمُ الأحياءُ؟ وأنّى للدعوة والخير أن تنتشرَ، وحِلَقُ العلم معطلةٌ، والعلماءُ كغيرهم لا يأمنونَ على أنفسِهم فضلًا أن يوفِّروا الأمنَ لمن يَحمل العلمَ عنهم. إنها صورٌ ينبغي أن نتذكَّرَها، وإن لم يعش بعضُنا أحداثَها .. وإن كان يفصلُ بيننا وبينها عقودٌ من الزمن. إخوةَ الإسلام: إن اغتباطَنا بما نحن فيه الآنَ من نعمةِ الأمنِ لا ينبغي أن ينسينا الماضي، بل إن من التحدُّث بنعمةِ الله أن نقارنَ بين الماضي والحاضر،

ونتذكرَ بها نعمةَ اللهِ علينا في الحاضر. أجل، لقد بدأ شبحُ الظلام يتوارى شيئًا فشيئًا، وفي كل بقعةٍ يتوارى الظلامُ تشعُّ فيها أنوارُ المعرفةِ والأمنِ والاستقرار .. حتى عمَّ الخيرُ وانتشر الأمنُ، وساد العلمُ وانطوى بساطُ الجهلِ .. وكانت بلادُ الحرمين مأوى الأفئدةِ، وملاذَ الخائفين، وبها تتوفرُ فرصُ العيشِ للوافدين .. فلك الحمدُ ربَّنا، وجزا اللهُ كلَّ من أسهمَ في نشرِ الخير وتوطيدِ دعائمِ الأمن في بلادِنا. عبادَ الله: إن الأمنَ في الأوطانِ نعمةٌ لا يقدِّرُها حقَّ قدرِها إلا من عرفَ أو عاشَ خلافَها، وقد يتصورُ المرءُ خطًا وهو يعيشُ حالةَ الأمن والاستقرار أنَّ الناسَ كلَّهم كذلك، وليس الأمر كذلك {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} (¬1). وفي حالِ غفلةِ الإنسان قد ينسى أو يجهلُ ثمراتِ الأمن .. وللأمنِ ثمراتٌ كثيرةٌ، ومنها: تحقيقُ العبوديةِ لله، والقيامُ بشرائع الدينِ كما أمرَ اللهُ، وكما جاء بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وهل يستطيعُ الخائفُ أن يعبدَ ربَّه كما أراد، والحق تبارك وتعالى يربطُ بين العبودية له، وبين الأمنِ وتوفُّرِ المَطعم، ويقول: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (¬2). إن توفرَ الأمن، ورغَدَ العيشِ مقوماتٌ أساسيةٌ للعبادة، وما من عبادةٍ إلا وتحتاجُ إلى هذا وذاك. وإن فقدانَ الأمن، وشظفَ العيشِ بلوى يمتحنُ اللهُ بها عبادَه، ولكن الصبرَ طريقُ الفرج {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 67. (¬2) سورة قريش، الآيتين: 3، 4.

عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬1). ومن ثمراتِ الأمنِ في الأوطان: رخاءُ العيشِ، واستقرارُ الحياة، فإذا كان الإيمانُ سببًا للأمنِ كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (¬2). فبركاتُ السماءِ والأرضِ تُفتَحُ لأهل الإيمان: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (¬3). إن الأمنَ ضرورةٌ لاستقرارِ الحياةِ ورَغَدِ الأحياءِ فبالأمنِ تُؤمنُ السُّبلُ، وتُجلبُ الخيراتُ، ويأمنُ التجارُ على أنفسِهم وأموالِهم، وبالأمنِ يُقمعُ الفسادُ، ويؤخذُ على أيدي المفسدين، وتكسدُ تجارةُ اللصوصِ ويُذلُّ (الشّطار). ومن ثمراتِ الأمنِ: انتشارُ العلمِ وكثرةُ العلماءِ، والعلمُ أساسُ الحضارةِ، وميزانٌ لتقدمِ الدولِ، وهو مع الإيمانِ مجالُ سباقِ الأمم. أما العلماءُ فهم ورثةُ الأنبياءِ - عليهم السلام - بهم يفتحُ اللهُ قلوبًا غُلْفًا، وآذانًا صُمًّا، وأعيُنًا عُميًا. وأنَّى للعلمِ أن ينتشرَ حين يُخافُ العلماءُ، وأنّى لأمةٍ أن تُسابقَ الزمنَ وأبناؤها خائفون على أنفسِهم، مشغولون بلقمةِ العيشِ لهم ولمن حولَهم؟ وحتى لو وُجِدَ علماءُ جُرَءاء، ينشرون العلم سرًّا في ظروفِ الخوفِ والقلق، فليس ذلك سبيلَ انتشارِ العلم، وإنما يهلكُ العلمُ إذا كان سِرًّا، وإنما سبيلُ نشرِه ونموِّ مؤسساتِه حين يتوفَّرُ الأمنُ، وتستَقرُّ الحياةُ، ويأمن الأحياءُ. إخوةَ الإسلام: إن تحقيقَ الأمنِ مكسبٌ لنا جميعًا، وتوفيرُ الأمن مسئوليتُنا جميعًا، وعلى كلِّ واحدٍ منا كِفلٌ في تحقيق الأمنِ، وكلٌّ منّا مُطالبٌ أن يكون ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيات: 155 - 157. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 82. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 96.

عينًا ساهرةً للكشفِ عن أوكارِ المفسدين، وتوفيرِ الأمن والأمانِ له ولإخوانِه المسلمين .. فمن رأى مُنكم منكرًا فليغيِّرْه بيدِه، وحين نغفلُ عن هذا الواجبِ، فسنتعرّضُ جميعًا للشِّقْوةِ ونكدِ العيشِ في الدنيا، والمصيبةُ أعظم إذا امتدّت شقوةُ الدنيا بضنكِ الآخرة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 111.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ للهِ ربّ العالمين قدَّر بلاءَ الناسِ بالشرِّ والخيرِ فتنةً وإليه المرجعُ والمصيرُ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، حكمَ بالأمنِ مع الإيمان، ويذيقُ القرى لباسَ الجوعِ والخوفِ بالكفرِ والفسوقِ والعصيان، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه وخيرتُه من خَلقِه، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين. أيها المسلمونَ: وإذا علمنا شيئًا من ثمراتِ الأمنِ في الأوطان، فالسؤال المهم ما هي أسبابُ الأمنِ ومقوماتُه الأساسيةُ؟ إن أهمّ الأسبابِ للأمنِ: الإيمانُ بالله ومراقبتُه والشعورُ بأنه مطَّلعٌ على عبدِه في السرِّ والعَلنِ، فذلك الشعورُ يميتُ الجريمةَ قبل خروجِها، ويَهِنُ من عزيمةِ المجرمِ حالَ استحواذِ الشيطان عليه، وما أروعَ الطاقةَ حين تُصرفُ في الخير وعمل الصالحاتِ، حينها يتحول صاحبُها إلى إنسانٍ خيِّر يبني ولا يهدم، ويُؤمنُ ولا يُخافُ، وهذه النوعيةُ من البشرِ تستحقُّ الاستخلافَ في الأرض، ولها وعْدُ اللهِ بالأمن ورَغَدِ العيش كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (¬1). ومع الإيمانِ وعملِ الصالحاتِ، لا بد من تصحيح المعتقَدِ من الشركياتِ والخرافاتِ، فتلكَ ضمانةٌ كبرى لتوفُّر الأمن، كما قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (¬2). ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 55. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 82.

وقد فُسر (الظلمُ) في الآية (بالشركِ) ونهايةُ الآيةِ السابقةِ تؤكدُ هذا المعنى بوضوح: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}. وعملُ الصالحات، ومن أهمها: الصلاةُ والزكاةُ مقوِّمٌ هامٌّ من مقوِّماتِ الأمن، فالصلاةُ تنهى عن الفحشاءِ والمنكرَ، وتوثيقٌ لصلةِ العبد بربِّه، والزكاةُ فيها مواساةٌ للفقراء وإغناءٌ للمحتاجين، وصلةٌ للخلق ببعضِهم وسبيلٌ لمحبَّتِهم وتعاطُفِهم فيما بينهم. وكذا الأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ، ففيه نشرٌ للفضيلةِ وتحذيرٌ عن الرذيلة، وبه يؤخذُ على أيدي السفهاءِ، ويُمنعُ المجرمونَ من مزاولةِ الجريمة، وكلُّ ذلك يتضمَّنُه قولُه تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (¬1). إخوةَ الإيمان: وتحكيمُ شريعةِ اللهِ في أرضِه، وإقامةُ الحدودِ التي شرعها سببٌ كبير ومقوِّمٌ من مقوماتِ الأمن، وإذا أفلستِ النظمُ البشريةُ والقوانينُ المستوردةُ - بعيدًا عن شرعِ اللهِ - في تأمين الأمنِ للناس، فإن في تحكيمِ شرعِ اللهِ ضمانةً كبرى للأمن يُصدِّقُ ذلك واقعُ الدولِ الكبرى التي بلغت من التقنية في متابعةِ الجريمةِ مبلغًا كبيرًا، ومع ذلك تنمو فيها معدلاتُ الجريمةِ ولا تنخفضُ، ويتكاثرُ المجرمونَ ولا يقلُّون .. وتنعمُ (بلادُ الحرمين) بفضل اللهِ، ثم تحكيمِ الشريعةِ وتطبيقِ الحدود، بأمنٍ لا مثيلَ له في واقعنا المعاصرِ. ¬

(¬1) سورة الحج، الآيتين: 40، 41.

أيها المسلمونَ: ومن أسبابِ الأمن شكرُ النعمِ، فالوعدُ حقٌّ {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (¬1). وكفرُ النعم سبيلٌ لفناءِ الدولِ وانتشارِ الجوعِ والخوفِ، وفي أمثلةِ القرآن عبرةٌ لمن اعتبرَ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (¬2). ومن مقوماتِ الأمن اجتماعُ الكلمةِ تحتَ مظلةِ التوحيدِ، فالاجتماعُ نعمةٌ، والخلافُ فرقةٌ وشتاتٌ، وما فتئ القرآنُ يُحذرُ من التنازعِ والخلافِ، ويذكرُ بمصير المتنازعينَ، ويكفي أن يتذكرَ المسلمُ قوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (¬3). ونهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن كلِّ أسبابِ الخلافِ والتقاطعِ، وقال: «لا تقاطعوا ولا تَدابروا ولا تَباغَضُوا ولا تَحاسدوا، وكونوا عبادَ اللهِ إخوانًا كما أمركم الله» (¬4). إخوةَ الإسلام: ولا بد - في سبيلِ توفيرِ الأمنِ - أن ندركَ الأمنَ بمفهومِه الشاملِ، فالحفاظُ على الأمنِ الفكريِّ والعَقَدي، وذلك بحمايةِ العقولِ من الأفكار الخبيثةِ، وحمايةِ العقيدةِ من التصوراتِ والمعتقداتِ الباطلةِ .. لا يقلّ أهميةً عن الأمنِ على الأنفسِ والممتلكاتِ المادية. اللهم آمِنّا في أوطاننا، وأصلِحْ ووفِّقْ وُلاةَ أمرِنا، واجمعْ كلمةَ المسلمينَ على الحقِّ والهدى، إنك سميعُ الدعاءِ، هذا وصلُّوا وسلموا على نبيكم محمد. ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 7. (¬2) سورة النحل، الآية: 112. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 46. (¬4) متفق عليه.

بين علو الهمة والتوبة في رمضان

بين عُلوّ الهمّةِ والتوبة في رمضان (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. أيها المسلمون: والمتأملُ في أيامِ الله عمومًا، وفي الأيام الفاضلةِ على الخصوص يرى أنها تمضي سِرَاعًا، وأيامُ اللهِ عمومًا، ومواسمُ الطاعاتِ لا تنتظرُ الكسالى أو تتوقفُ للنائمين، أو تُحابي المفرِّطين. إن عجلةَ الزمنِ تدورُ، والليلُ والنهارُ يتعاقبان، والحفظةُ الكرامُ يكتبون، وغدًا يُكشَفُ المخبوءُ، ويتبينُ الفائزون من الظالمين والمقتصِدين. تُرى كم نُضيِّعُ من الفرصِ في حياتِنا؟ ! وما نَصيبُ فُرصِ الآخرةِ في تفكيرِنا وأعمالِنا؟ وما نصيبُ شهرِ رمضانَ من الفُرص المُضاعةِ في واقعِنا؟ وحين تذهبُ باحثًا عن أسباب هذا التفريطِ والضياعِ، أو ذاك الجِدّ والمسارعةِ لاغتنام فُرصِ الزمانِ تجدُ أن لعُلوِّ الهمّةِ أو ضعفِها أثرًا بالغًا في حياة الإنسانِ، فمن الناس من يُشعرُ نفسَه بأن فيه الكفايةَ لعظائمِ الأمور، ويجعل هذه العظائمَ هِمّتَه، وهذا عظيمُ الهمّةِ كبيرُ النفس. ومنهم مَن فيه الكفايةُ لعظائم الأمورِ، ولكن يبخسُ نفسَه ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/ 9/ 1421 هـ.

فَيُضيِّعُ همَّه في سفاسفِ الأمور وصغائِرها، وهذا ما يُسمى بصغير الهِمّة أو صغيرِ النفْسِ. ومن الناس من لا يكفي لعظائم الأمور ويُحسّ بأنه لا يستطيعها، وأنه لم يُخلَق لأمثالها، فيجعلُ هِمّتَه وسعيَه على قدر استعدادِه، وهذا الصنفُ بصيرٌ بنفسِه، متواضعٌ في سيرتِه. ورابع الأصناف من لا يكفي للعظائم، ولكنه يتظاهر بأنه قويّ عليها، مخلوقٌ لأَنْ يحملَ أثقالَها وهذا يُسمونَه (فخورًا) أو (مُتعظِّمًا) (¬1). عبادَ الله: وإن شئتم أن تضعوا أيديَكم على الفَرْق بين عُلوِّ الهِمّةِ ودُنوِّها وتَرَوْا مواقعَكم فيها، فدونكم تعريفًا لكلٍّ منهما: فعلوُّ الهِمّةِ هو استصغارُ ما دون النهايةِ من معالي الأمور، وطلبُ المراتب الساميةِ، واستحقارُ ما يَجودُ به الإنسانُ عند العطيةِ، والاستخفافُ بأوساطِ الأمور وطلبُ الغايات، والتهاونُ بما يملِكُه، وبَذْلُ ما يُمكنهُ لمن يسألُه من غيرِ امتنانٍ ولا اعتدادٍ به. أما دنوُّ الهِمّة: فهو ضعفُ النفسِ عن طلب المراتِ العالية، وقصورُ الأملِ عن بلوغِ الغاياتِ، واستكثارُ اليسيرِ من الفضائل، واستعظامُ القليل من العطايا، والاعتدادُ به والرضا بأوساط الأمور وصغائِرِها (¬2). أيها المسلمون: فرق بين من تتعاظم هِمّتُه إلى التطّلع إلى جناتِ الفردوس، ثم هو في حياته يسعى إلى ذلك سعيًا حثيثًا، فإذا حلّت مواسمُ الخيراتِ استثمرها، وإذا أدرك فرصَ الطاعاتِ سابقَ إلى اغتنامها، وبين مَن هِمّتُه طِيبُ ¬

(¬1) رسائل الإسلام، محمد الخضر حسين 2/ 87 عن كتاب «الهمة العالية» محمد الحمد ص 18. (¬2) تهذيب الأخلاق للجاحظ ص (28) و (34) عن كتاب «الهمة العالية» للحمد (16) و (17).

المطعمِ وأثيرُ الفراش، والسَّمرُ هنا أو هناك لتقطيعِ الأوقاتِ، حتى ولو سمع الفُحشَ أو رأى المنكراتِ! أيها الصائمونَ: وحين يظنُّ البطَّالون أنّ في كثرةِ النوم أو كثرة الأكل والشُّرب - لاسيَّما في رمضانَ - نوعًا من السعادةِ وطريقًا للأُنس والراحة، يراها أصحابُ الهِمَمِ مورثةً للبلادَةِ جالبةً لأمراض التُّخمةِ .. وهذا عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه يقول: «من كَثُرَ نومُه لم يجدْ في عُمرِه بركةً» (¬1). وهذا شيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ رحمه الله يقول: «فالذينَ يقتصدون في المآكلِ نعيمُهم بها أكثرُ من المسرفين فيها، فإن أولئكَ إذا أدمنوها وأَلِفُوها لا يبقى لها عندهم كبيرُ لَذّةٍ، مع أنهم قد لا يصبرون عنها وتكثُر أمراضُهم بسببها» (¬2). إن شهرَ الصيام فرصةٌ تعلو فيها الهِمَمُ - أو هكذا ينبغي أن يكون - فما تزالُ الهِمّةُ العاليةُ بصاحبها تضربُه بسياط اللّوم والتأنيب، وتزجُره عن مواقفِ الذُّلِّ واكتسابِ الرذائل وحرمانِ الفضائل، حتى ترفعَه من أدنى دركاتِ الحضيض إلى أعلى مقاماتِ المجد والسُّؤدُد. كيف لا: والصائم بنهارِه يستمتع بالصيام، وهو بليلهِ سعيدٌ بالقيام .. وكيف لا! والصائمُ يقضي شطرًا من وقتِه يُناجي ربَّه يستغفرُه ويستهديهِ ويسألُه المزيدَ من فضلِه، يتلو كتابَه فيخشعُ قلبُه، ويذكُره في نفسِه، فيزدادُ تعظيمًا ومحبةً له - ثم هو يتصدقُ ويَصِلُ، فتطيبُ نفسُه وينشرحُ صدرُه، ويدعو الآخرين للخير، فيجعلُ له الرّحمنُ بين خلقِه وُدًّا. نعم، إن هذه المعاني والأعمالَ الخيرةَ تحتاج من النَّفْسِ إلى صبرٍ ومصابرةٍ، ¬

(¬1) الأدب النبوي/ 212، الهمة العالية (43). (¬2) جامع الرسائل، تحقيق محمد سالم 2/ 340، عن الهمة العالية للحمد (41) و (43).

لكنها تَلذُّ في النهاية - لمن وَفّقه اللهُ - فالمكارمُ مَنُوطةٌ بالمكارِهِ، والسعادةُ لا يُعْبَر إليها إلا على جسرِ المشقة .. ولكنها في النهاية تَلَذُّ وتصفو على حدّ تعبير الشاعر: تَلَذُّ له المروءةُ وهي تؤذِي ... ومن يَعْشَقْ يَلَذُّ له الغرامُ أيها الصائمون: تداركوا ما بقي من أيام رمضانَ، فالفرصُ الضائعةُ تُعوَّضُ، والفُرصُ الباقية يُعَضُّ عليها ولا يفرَّط في شيءٍ منها. أيها المسلمون: وحين نصارحُ أنفُسَنا نقول: إن الهِممَ قد اعتراها حتى في شهرِ الصيام فتورٌ .. ولم يسلمِ الخَيِّرون - فضلًا عمّن سواهم - من هذا الفتور .. ودونكم نماذجَ لضَعفِ الهِمَم .. فمتى يحضرُ الصائمون لصلاة الجمعة؟ ! وكم عددُ الذين يَمكثون في المساجدِ بعد صلاةِ الفجرِ بالذِّكر والتلاوةِ؟ وأين الذين تمتلئُ بهمُ المساجدُ من بعد صلاة العصرِ إلى ما قبلَ الغروبِ .. هل زادتْ نوافِلُنا في رمضانَ؟ أم تعاظمت صدقاتُنا في شهر الإحسان؟ أين التبكيرُ للمساجد؟ إلى غير ذلك من أسئلة نجدُ في أنفسِنا حَرَجًا وضعفًا حين نريدُ الإجابةَ عنها. عبادَ الله: إن من الفُرصِ في رمضانَ - بل وفي سائر العام - فرصةَ التوبةِ إلى اللهِ وهذه التوبةُ نُقصِّر في فَهمِها حين نظُنّها خاصةً بفئةٍ من المسلمين، بل هي عامةٌ، والدعوةُ فيها موجّهةُ للمؤمنين - فضلًا عن سواهم - وفي هذا يقول ربّنا تبارك وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1). والإمامُ ابنُ القيِّم رحمه اللهُ عقد في كتابه «مدارج السالكين» فصلًا عن التوبةِ قال عنه: إنه من أنفع فصولِ الكتاب، والعبدُ أحوجُ شيءٍ إليه، وبه حصرَ اثني عشرَ ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 31.

نوعًا من المحرَّماتِ، وقال: إن عليها مدارَ كلِّ ما حرَّم اللهُ، وإليها انتهاءُ العالمِ بأسرهم إلا أتباعَ الرُّسل، وهذه الاثنا عشر قد يكون في الرجلِ أكثرُها وأقلُّها، أو واحدةٌ منها، وقد يعلمُ ذلك وقد لا يعلمُ، والتوبةُ النصوحُ إنما تكون بالتخلُّص منها والتحصين من مواقَعتِها .. ثم قال: ولا يستحقُّ العبدُ اسمَ (التائبِ) حتى يتخلّصَ منها، وهي: أجناسُ المحرّماتِ في كتاب الله .. وتلك هي الكفرُ، والشِّركُ، والنفاقُ، والفسوقُ، والعصيانُ، والإثمُ والعدوانُ، والفحشاءُ، والمنكرُ، والبغيُ، والقولُ على الله بغيرِ علمٍ، وإتباعُ غيرِ سبيلِ المؤمنين (¬1). أيها المسلمون: إن التوبةَ كما قيل: وظيفةُ العمرِ، وبدايةُ العبدِ ونهايتُه، وأولُ منازلِ العبوديةِ، وأوسطُها وآخِرُها، لا يستغني عنها مسلمٌ، بل ينبغي أن تتجدَّد في حياته، وكلَّما أحدثَ معصيةً وذنبًا، أحدَثَ على إثرها توبةً وندَمًا واستغفارًا وما منّا إلا مفرّطٌ في واجبٍ، أو متساهلٌ في الكفّ عن محرّمٍ، وكلُّ ذلك محتاجٌ إلى توبةٍ. وما أحرانا معاشرَ المسلمين بالتوبةِ في شهرِ التوبةِ، وفي زمنٍ تُصفَّد فيه الشياطينُ، وتُفتحُ أبوابُ الجِنان. إن مراجعةَ النفسِ مطلبٌ على الدوام، ولكنها تتأكدُ في مثل شهرِ الصيام - فهل نراجعُ أنفسَنا ونتوبُ إلى خالقِنا؟ ونستجيبُ لنداء خالقِنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (¬2). ¬

(¬1) مدارج السالكين 1/ 344. (¬2) سورة التحريم، الآية: 8.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ للهِ غافرِ الذّنْبِ، وقابلِ التوبِ، شديدِ العقاب، ذي الطّوْلِ، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له «يبسطُ يدَه بالليل ليتوبَ مُسيءُ النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليلِ، حتّى تطلعَ الشمسُ من مغربها» (¬1). وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، أخبر وهو الصادقُ الأمينُ، أن الله أفرحُ بتوبةِ العبدِ من رجلٍ أضاع راحلَته وعليها متاعُه في أرضٍ فلاةٍ حتى أيسَ منها، فلما اشتدت حاجتُهُ إلى الشراب إذا بالراحلةِ عند رأسِه. اللهمّ صلِّ وسلّم عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلين: إخوةَ الإسلامِ: وللتوبةِ فضائلُ كثيرةٌ، جاءتَ في آياتِ الكتاب وفي سنةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم، والأمرُ بها يتكرّرُ على الأسماع، وقَلَّ من يستجيبُ .. ومن أخطائنا تأجيلُ التوبةِ، فقد يعلمُ المرءُ ذنبَه أو ذنوبَه، ولكنه يعيشُ على أملٍ خادعٍ لا يدري أيدركهُ أم تخرمه المنيةُ دونَه. وحتى لو تمكّن من التوبةِ بعد حينٍ، فعليه ذنبُ التأخير. قال ابنُ القيم رحمه الله: المبادرةُ إلى التوبة من الذنبِ فرضٌ على الفور، ولا يجوز تأخيرُها، فمتى أخّرَها عصى بالتأخير، فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبةٌ أخرى، وهي توبةُ تأخيرِ التوبةِ .. وقَلَّ أن تخطرَ هذه ببالِ التائب (¬2). ويقول ابنُ الجوزيِّ رحمه الله - مخاطبًا الذين يؤخِّرون التوبةَ-: «يا بطّالُ، إلى كم تؤخّر التوبةَ، وما أنتَ في التأخير معذورٌ؟ إلى متى يُقال عنك: مفتونٌ مغرورٌ؟ يا مسكينُ قد انقضتِ أشهرُ الخير وأنت تَعدُّ الشهورَ، أتُرى مقبولٌ أنتَ ¬

(¬1) رواه مسلم برقم (2759). (¬2) مدارج السالكين 1/ 283.

أم مطرودٌ؟ أترى مواصلٌ أنت أم مهجورٌ؟ أترى تركب النُّجُبَ غدًا، أم أنت على وجهك مجرورٌ؟ أَتُرى من أهلِ الجحيم أنتَ أم من أرباب القُصورِ» (¬1). إخوة الإسلام: ومن الأخطاء في التوبة تركُ التوبةِ مخافةَ لمزِ الناس له، أو سقوطِ جاهِه ومنزلتِه وذهابِ شهرتِه، وكلُّ ذلك وهمٌّ خادع، وخطأ فادحٌ - فاللهُ أحقُّ أن يُخشى، وأجلُّ مَنْ يُطاعُ، وأعظمُ من يُعصى، ومن يتّقِ اللهَ يجعلْ له مخرجًا، واللهُ يُحبُّ التوابين، والتوبةُ سبيلٌ للقوةِ والنماءِ وكثرةِ الأموالِ والبنين {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (¬2). ومن أخطائنا في التوبة: التراخي بها والتمادي في الذنوبِ اعتمادًا على سَعَةِ رحمةِ اللهِ، وهذا الصنفُ من الناسِ - كما قال العارفون - يتعلَّقُ بنصوصِ الرجاء ويتّكِلُ عليها، وإذا عُوتبَ على الخطايا والانهماكِ فيها سَرَدَ لك ما يحفظُه من سَعَةِ رحمةِ الله ومغفرتِه ونصوص الرجاء، وللجُهال من هذا الضرب من الناس في هذا الباب غرائبُ وعجائبُ (¬3). ويضرب أبو حامدٍ الغزاليُّ رحمه الله لهؤلاء مثلًا حين يقول: فهو كمن ينفقُ جميعَ مالِه ويتركُ نفسَه وعيالَه فقراءَ، منتظرًا من فضلِ اللهِ أن يرزقَه العثورَ على كنزٍ في أرضٍ خرِبة؟ ومَثلُه كذلك مثلُ من يتوقعُ النهبَ من الظَّلَمة في بلدِه، وقد ترك أموالَه وذخائرَه في صحن دارِه مكشوفةً مع قدرِته على دفنها، لكنه لم يفعل؛ بل قال: انتظرُ من فضل الله أن يُسلّط غفلةً أو عقوبةً على الظالم الناهبِ حتى لا يصلَ إلى ¬

(¬1) بحر الدموع لابن الجوزي (57). (¬2) سورة نوح، الآيتين: 10 - 12. (¬3) الجواب الكافي، ابن القيم (67 - 68).

داري، وإن وصل فأنا أنتظرُ أن يموتَ على باب داري .. إلى أن يقول: فمنتظر هذا كلِّه ممكنٌ .. ولكن المنتظرَ في غاية الحماقةِ والجهل، إذ قد لا يمكن ولا يكون (¬1). إخوةَ الإسلام: وفي واقعنا المعاصر قد ترى شابًا أو كهلًا اقتنع بخطأ طريقِه، وهو يتمنّى التغييرَ، ويُفكرُ بالتوبةِ، لكنه ينتظر المناسبةَ للتوبة، كأن يموتَ له قريبٌ، أو يُصابَ هو بحادثٍ فيتّعظَ، ويهزُّه الموقفُ ويتذكّر الآخرةَ، ولكن ماذا لو كان هو الميتَ فاتّعظ به غيرُه، أو كان هذا الحادثُ الذي ينتظره فعلًا، لكن صارت فيه نهايتُه .. إذن فالأمر جِدّ خطِير، والتأخيرُ قد يحمل المفاجأةَ، والأمرُ لا يحتمل المخاطرةَ، والحزمُ والجِدُّ أن تقرّرَ التوبةَ حالًا، وأن تسلكَ طريقَ الاستقامةِ الآن، فلا تدري نفسٌ ماذا تكسب غدًا، وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ. عبادَ الله: وثمةَ شعورٌ خاطئٌ قد يغترُّ به بعضُ الناسِ، وقد يَمْنعُهم من تعجيل التوبةِ، وذلك حينما يقول أحدُهم: ما بالُنا نرى أقوامًا قد امتلأت فِجاجُ الأرضِ بمفاسدهم وظلمهِم وفجورهم؟ ! ومع ذلك نراهم وقد دُرَّت عليهم الأرزاقُ، وأُنسئت لهمُ الآجالُ، وهم بين الناس يعيشون في رَغَدٍ وأمانٍ، وهذا التصوُّر الخاطئُ فيه جهلٌ بسنن الله وآياتِه، فاللهُ يُمْهِلُ ولا يُهمِل، ولا يغترّ بإمهالِه إلا جاهلٌ، وهذا رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يُنذرُ ويحذِّر ويقول: «إن اللهَ ليُملي للظالم حتى إذا أخذَه لم يُفْلِتْهُ» ثم قرأ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (¬2). وفي الحديث الآخر قال عليه الصلاة والسلام: «إذا رأيتَ اللهَ عزّ وجلّ يعطي ¬

(¬1) إحياء علوم الدين 4/ 58. (¬2) سورة هود، الآية: 102، الحديث متفق عليه.

العبدَ من الدنيا على معاصيهِ ما يحبّ، فإنما هو استدراجٌ، ثم تلا قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1). وأنّى لهذا الظالم لنفسِه وللآخرين أن يفرَّ من عقوبة اللهِ، واللهُ يقول: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (¬2). وربما رأى العاصي سلامةَ بدنِه، فظن أن لا عقوبةَ، وغفلتُه عمّا عُوقبَ به وما ينتظرُه أقسى عقوبةً، بل ربما لو جالستَ هذا العاصي وسمعتَ إلى شيءٍ من همومه وضجرِه وضيقِه، لعلمت أن للمعصية ذُلًّا وضريبةً لا تكاد تُفارق العاصي وهو بعدُ في الدنيا، فكيف بالآخرة وصدق الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (¬3). قال ابنُ الجوزيِّ رحمه الله: الواجبُ على العاقل أن يحذرَ مغبةَ المعاصي، فإنّ نارَها تحت الرّمادِ، وربما تأخّرت العقوبةُ، وربما جاءت مستعجلةً» (¬4). وقال بعضُ الحكماء: المعصيةُ بعد المعصيةِ عقابُ المعصيةِ، والحسنةُ بعد الحسنةِ ثوابُ الحسنةِ (¬5). إخوة الإسلام: أيها الصائمون، وختامًا أُذكِّر نفسي وإياكم وأقول: لئن ماتتِ الهِمَمُ أو ضعُفت في سائر العام فَحَريٌّ بها أن تحيى وتنشط في رمضان، ولئن تقاصرتِ النفوسُ عن المعالي وتخبّطت في دَرَك المعاصي في سائر الأيام، ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآيتين: 44 - 45. والحديث رواه أحمد وغيره ورجاله ثقات (الحمد: التوبة وظيفة العمر ص 53). (¬2) سورة النساء، الآية: 123. (¬3) سورة طه، الآية: 124. (¬4) صيد الخاطر ص 339. (¬5) المصدر السابق (104).

فأولى لها أن تسارعَ وتسابقَ إلى الخيراتِ في رمضانَ .. إن ليلَ المفرِّطين طويلٌ، وإن فجرَ المجتهدين مشرقٌ مبين .. وإذا كان تعدادُ السنينِ والشهورِ والأيامِ والساعاتِ واحدًا، فالفرقُ كبيرٌ في محصِّلتها واستثمارِها بين فئةٍ من الناس وأخرى. وفرقٌ كذلك بين من يموتُ حين يموتُ والكائناتُ تُحسُّ بفقدِه، والخلقُ تتألَّم لفراقِه، وبين من قال الله عنهم {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} (¬1). واختر لنفسك أيها العاقلُ ما تشاءُ .. سدّدَ اللهُ خطاكَ على طريق الخيرِ، ورزقنا جميعًا هِمّةً عاليةً وتوبةً نصوحًا. ¬

(¬1) سورة الدخان، الآية: 29.

حراسة الفضيلة

حراسة الفضيلة (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. أيها المسلمون: المجتمعُ الفاضلُ هو الذي يحرسُ الفضيلةَ، ويُحاصر الرذيلةَ، والنبلاءُ والفضلاءُ - من الرجال والنساء - هم الذين يُنصِّبون أنفسَهم دعاةً للفضيلةِ، ويقاومون أسبابَ التَّفَسُّخ والتهتكِ والانحطاط الخُلقُي بكافة صورِه وأشكالهِ، ويفضحون رموزَ الفسادِ والانحلال، ويحذِّرون الأمةَ من آثارهم. وما فتئَ العلماءُ والدعاةُ والمحتسِبون - قديمًا وحديثًا - يقومون بدورهم في بناءِ الأخلاقِ الفاضلةِ، والدعوة لها، ويحاربون الفسادَ، ويكشفون أوكارَ المفسدين والمبطلين، وتلك سنةٌ ماضية، فالأنبياءُ عليهم السلام دعاةٌ للفضيلة، وأعداؤهم يَعِيبونهم ويتهمونهم، بل ويحاربونهم على حراستها {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (¬2)، ومنذ زمنٍ والأمة المسلمة مُبتلاةٌ بانحسار الفضيلةِ وانحطاطِ الأخلاق، وسَرَيان دعواتِ الانحلال والإباحيةِ، وفي مراحل ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 9/ 1/ 1421 هـ. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 82.

الضعفِ وغلبة الشهواتِ، يوجدُ في بعضِ النفوس دواعي قَبول واستعدادٍ للسير في الأنفاقِ المظلمة، وإعطاء النفس حظَّها من المتعة، وإن كانت محرمةً، والنتيجةُ كما قال ربُّنا: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} (¬1). عبادَ اللهِ: والمجالاتُ والأساليبُ التي تُحاصَرُ بها الفضيلةُ كثيرةٌ ومتنوعة، فالفضيلةُ تحاصَرُ في التعليم حين يختلط الرجالُ والنساءُ في المدارسِ والجامعاتِ أو سواها من مجالاتِ الحياةِ، وتُذبحُ الفضيلةُ في دعواتِ التبرُّج والسُّفور، وفي وسائل الإعلام، وحيث الطرحُ الهابطُ، والإسفافُ في الكتابةِ، تُخنقُ الفضيلةُ، ويتأذّى أصحابُها. أما في القنواتِ الفضائية الماجنةِ فويلٌ للفضيلة من الرذيلةِ - وهناك تُصادَر الأخلاقُ والقيَمُ، ويُنزعُ الحياءُ، ويُصوَّر الخُلقُ والعفافُ بصورة التزمُّت والتطرُّف والتخلف عن رَكْبِ الحياةِ. ومن مجالات محاصرةِ الفضيلة: الطروحاتُ الفكريةُ المنحرفةُ، وأصحابُ هذا الطرح لا يأبهون بتحطيم سياجِ الفضيلةِ، بل زيّن لهم الشيطانُ وأملى لهم أن ذلك ضربٌ من المدنيّةِ والحضارةِ، وصدق الله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (¬2). ومن مجالاتِ وأساليبِ محاصرةِ الفضيلةِ: إقامةُ الحفلاتِ الغنائيةِ الصاخبةِ، ومحاولةُ جرِّ الناسِ للاختلاط المَحمومِ. ومنها السخريةُ بالدِّين عُمومًا وبالمتدينين خصوصًا، واعتبارُ الجلبابِ ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 27. (¬2) سورة فاطر، الآية: 8.

والحجاب واللِّحى، وعدمُ إسبالِ الثيابِ بقايا من تراث العصورِ المتخلِّفةِ {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (¬1). ألا ويحَ الذين يُحبون أن تشيعَ الفاحشةُ في الذين آمنوا، وما أولئك بنصَحَةٍ للأمة، ولا أوفياءَ لتاريخِهم وعقيدتِهم، وحسبهُم وعيدُ الله {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬2). إخوة الإيمان: ومن المصابيح المضيئةِ للفضيلةِ - والداعيةِ لمحاصرة الرذيلةِ كتابٌ خرج أخيرًا بعنوان «حراسة الفضيلة» وهو من تأليف العالمِ الفاضل الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، بارك اللهُ في علمِه وعمرِه وجزاهُ عن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء، والكتابُ جُهدٌ مؤصِّل لقضايا الحجابِ وما يدور حولَه من اختلاطٍ وتبرُّجٍ وسُفورٍ وما قيلَ عنه مِن قِبَل الأدعياء أو المتعالِمين، يُفحِمُ الخصومَ بالحجة، ويحاصِر بالدليل المقنع من الكتاب والسُّنة والإجماعِ والقياس، لمن يبحث عن الحقِّ ويتحرَّى الدليلَ. لقد أدرك الشيخ (حفظه الله) الحاجةَ إلى تأليف هذا الكتابِ، في مثل هذا الزمنِ الذي تكاثرت فيه الطّروحاتُ، وتداخلت المُغرياتُ والمفسداتُ وكاد الحقُّ أن يختلط بالباطل، وزُلزل أهلُ الإيمان، من الرجال والنساءِ، ونطقَ السفيهُ وتكلَّمت الرُّويبضةُ وكثُر المفتون، ومما قاله في مقدمة الكتاب: إذًا لا بد من كلمةِ حقٍّ ترفعُ الضيمَ عن نساءِ المؤمنين، وتدفع شرَّ المستغربين المعتَدِين على الدين والأمةِ، وتُعلن التذكيرَ بما تعبَّدَ اللهُ به نساءَ المؤمنين من فرضِ الحجاب، وحفظِ الحَياءِ والعِفَّة والاحتشام والغيرةِ على المحارم، والتحذير مما حرَّم اللهُ ورسولُه من حربِ ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 5. (¬2) سورة النور، الآية: 19.

الفضيلة بالتبرُّج والسُّفور والاختلاط، وتَفْقَأُ الحِصْرمَ في وجوه خونةِ الفضيلة، ودعاةِ الرذيلة، ليقولَ لسانُ حالِ العفيفة: إليكَ عنِّي إليكَ عنِّي ... فلستُ منكَ ولستَ منّي وليثبِّت اللهُ من شاء من عباده على صيانةِ محارمِهم وصوْنِ نسائهم من هذه الدعواتِ، وإنه لا مجال لحملِ شيءٍ منهما محملَ إحسانٍ، لما يشاهدُه المسلمون من تيار الخلاعةِ والمجونِ والسُّفورِ، وشيوع الفاحشةِ في عامة المجتمعاتِ الإسلاميةِ التي سرتْ فيها هذه الدعاياتُ المضلِّلة. إلى أن يقولَ الشيخُ بكر حفظه الله: بل إن الصحافةَ تسفَّلت في النقيصة، فنشرت كلماتِ بعضِ المقبوحين بإعلانِ هوايةِ مقدِّمات البغاء مثل المعاكسةِ، وقولِ بعضِ الوضيعين إنه يَهوي معاكسة «بنات ذوي النَّسب» وهكذا من صيحاتِ التشرُّدِ النفسي والانفلات الخُلقي. الخ (¬1) ومن المقدمة إلى فصولِ الكتاب - تجد الكاتبَ رعاه اللهُ - يأخذك أخذًا مؤصِّلًا نحو أصولِ الفضيلة العشرة، وهي: 1 - وجوبُ الإيمان بالفوارق بين الرجلِ والمرأة. 2 - الحجابُ العام. 3 - الحجابُ الخاص. 4 - قرارُ المرأة في بيتها عزيمةٌ شرعيةٌ، وخروجها منه رخصة تُقدَّر بقدَرِها. 5 - الاختلاط محرَّم شرعًا. 6 - التبرُّج والسُّفور محرمان شرعًا. 7 - لما حرَّم الله الزنا حرم الأسبابَ المفضيةَ إليه. ¬

(¬1) مقدمة حراسة الفضيلة ص 9 - 10.

8 - الزواجُ تاج الفضيلة. 9 - الأصل التاسع: وجوبُ حفظِ الأولاد عن البدايات المضِلَّةِ. 10 - وجوبُ الغيرة على المحارم وعلى نساء المؤمنين. أما الفصلُ الثاني - من كتاب «حراسة الفضيلة» فبعنوان: كشف دعاةِ المرأة إلى الرذيلة، وبه ناقش المؤلفُ حفظه اللهُ خططَهم في: أ- الحياة العامة، في مجال الإعلام، في مجال التعليم، في مجال العمل والتوظيف - علمًا بأن الفصلَ الأوَّل ردٌّ على الثاني - كما قال المؤلفُ. ثم ختم المؤلفُ الكتابَ بالنقاط التاليةِ: توجيهُ النقد، تاريخُ نظريتي الحريةِ والمساواةِ، وآثارِهما التدميريةِ في العالم الإسلامي، إعادةُ المطالبِ المنحرفة بضرب الفضيلةِ في آخر معقل للإسلام، المتعيَّن إجراؤه تُجاهَ دعاةِ الرذيلةِ، والكتابُ بكلِّ حالٍ رسالةٌ مفتوحةٌ لكلِّ راغب حقٍّ، باحثٍ عن دليل. إخوة الإيمان: تلك عناوين عامةٌ وسيجد القارئُ بداخلها من النصوصِ المقنعةِ والعرضِ المُقعَّد له، والمناقشة بهدوءٍ وعُمق - لكلِّ قضية، ما يشفى صدورَ المؤمنين، ويضع حجرًا، بل أحجارًا في أفواه المتطاولين. ولذا، فإنني أنصحُ بقراءة الكتاب كلَّ مربٍّ ومربية، وشابٍّ وشابة، وأنصح الآباء والأمهاتِ، والمعلمين والمعلماتِ، والموظفين والموظفاتِ، وأربابَ الفكر، ورجالاتِ الإعلام، وأهلَ الفتوى .. أنصح هؤلاء جميعًا وغيرهم بقراءة هذا الكتاب والاستفادةِ منه، وإذا كنا لا ندَّعي العصمةَ لأحدٍ - سوى الأنبياء عليهم السلام - فينبغي أن نقدرَ لأهل الفضلِ فضلَهم، ونشهدَ للمتميِّزين بتميُّزهم، ونثقَ بأهلِ الاختصاصِ إذا تحدثوا في تخصُّصهم، ونقولَ للمحسنِ: أحسنتَ ووفِّقتَ، ونقول للمسيء: أين أنت؟ ولقد أسأتَ.

يا أهلَ الإيمان: استجيبوا لنداء ربكم {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} (¬1)، واستشعروا جميعًا مسئوليتكم في حراسةِ الفضيلة - وكلٌّ بحسبه - وويلٌ للفضيلة يوم تُنحَرُ على أيدي الأغرار، وفي مجتمعنا - بحمدِ اللهِ - ثُلَّةٌ كبيرةٌ من الأخيار، ألا واحذروا البداياتِ المضلَّة، فهي موصلةٌ للنهاياتِ المؤلمةِ، إذا لم تُعالج بحكمة ورويةٍ وحزمٍ وعزم، أذكِّرُ كلَّ مسئولٍ بعظمِ المسئوليةِ أمام اللهِ في الآخرة، أما في الدنيا فبناءُ الأخلاقِ سببٌ للبقاء، وانهيارُها سببٌ للفناء: فإنما الأمم الأخلاقُ ما بقيت ... فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبُوا وأبلغ من ذلك قولهُ تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (¬2)، والمسئولُ اللبيبُ هو الذي يُميز بين الناصحين والمتآكلين. يا أصحابَ الشهامةِ والمروءة: أخاطب فيكم شهامتكم إلا كنتم حُرّاسًا أوفياء للفضيلة، يا أصحابَ الأموال: إياكم أن تستخدموا أموالَكم لحرب الفضيلةِ، فتكون وبالًا عليكم وستسألون عمّا أنفقتم، يا أهلَ العلمِ والدعوةِ والفكر: بلّغوا ما اؤتمنتم عليه فستتعلَّق الأمةُ بكم أكثرَ منَ غيركم، وأنتم حملةُ الميثاقِ من ربِّ العالمين. يا رجالاتِ الإعلام: احفظوا أمانةَ الكلمةِ ومسئوليةَ البلاغِ للناس، وكونوا من حملة رايةِ الفضيلةِ .. وإياكم أن تَجُرُّوا مجتمعَكم وأمَّتكم إلى مواخيرِ الأمم الأُميةِ في باب الأخلاقِ والقِيَم، وإن كانت رائدةَ الفضاءِ، سابقةً في المكتشفاتِ والمخترعات - ففرق بين هذا وذاك - ويخطئُ من يظن أن طريقَ اللحاقِ بهم تقليدُهم في كلِّ شيء. ¬

(¬1) سورة الصف، الآية: 14. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 16.

المفتون الأجلاء: وأنتم أدرى الناسِ بظروفِ الفتوى، وحالِ المستفتي، وما ينبغي قولُه أو تركُه في حالِ فسادِ الزمان، وشيوعِ الفتن، وحربِ الفضائيات للأخلاق والقِيَم، ونُعيذُكم أن تُنقلَ فتاواكم على غير ما أردتم، فتحصلُ الفتنةُ ويندسُّ أهلُ الريبِ مفسدين، وينخدع بذلك فِئَامٌ من المسلمين والمسلماتِ. أيتها المرأةُ المسلمةُ: وأنتِ عنصرٌ مهمٌّ لحراسةِ الفضيلة عند أهلِ الإسلامِ، وفي المقابل بوابةٌ كبرى يُراهنُ عليها الأعداءُ والموتورون للفساد وإشاعةِ الفاحشة، والذي قامت السماواتُ بعدلهِ، ما أسلمَ ولا أسعدَ لَكُنَّ في الدنيا والآخرةِ من أن تُسلمنَ الوجهَ لله، والقيادةَ لمحمدِ بنِ عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولا تلتفِتْنَ إلى الهَمَلِ دعاةِ الفواحشِ والأَفن. ونحن وأنتمَّ مخاطبون جميعًا بقول ربِّنا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (¬1). ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 36.

الوقت والإجازة

الوقت والإجازة (¬1) الخطبة الأولى: الحمدُ جعلَ الليلَ والنهارَ خِلْفةً لمن أراد أن يذّكر أو أراد شُكورًا، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، أقسمَ بالوقت - في أكثر من موضع من كتابهِ - وفي ذلك إشارةٌ إلى قيمتِه والعنايةِ به، فقال تعالى: {وَالْفَجْرِ، وَالضُّحَى، وَالْعَصْرِ، وَاللَّيْلِ}. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، سطّر في سيرته جليلَ الأعمال في عُمرٍ لا يتجاوزُ الثالثةَ والعشرينَ عامًا ودعا أمتَه - في غير ما حديثٍ - إلى استثمار الأوقاتِ واستغلال الأعمارِ بما ينفع في الدنيا والآخرةِ. اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمّ عن أصحابِه والتابعين ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬3). عبادَ الله: ومن جميلِ النصائحِ وجليلِ الحِكَم، كتبَ عالمٌ إلى عالمٍ آخرَ مذكّرًا بقيمةِ الزمان وحفظِ الأوقاتِ، وليس المُذَكَّر بأقلّ من المُذكِّر، ولكنّ الذكرى تنفعُ المؤمنين. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 29/ 2/ 1421 هـ. (¬2) سورة لقمان، الآية: 33. (¬3) سورة الحشر، الآية: 18.

يقول الحسنُ البصريُّ في كتابٍ كتبه إلى عمرَ بن عبدِ العزيز - رحمهما الله - «لأصِفَنَّ لك الدنيا ساعةً بين ساعتين، ساعةٌ ماضيةٌ، وساعةٌ آتيةٌ، وساعةٌ أنت فيها، فأما الماضيةُ والباقيةُ فليس تجدُ لراحتهما لَذةً، ولا لبلائهما ألمًا، وإنما الدنيا ساعةٌ أنت فيها فخدعتكَ تلك الساعةُ عن الجنةِ وصيّرتك إلى النارِ، وإنما اليومُ - إنْ عقلتَ - ضيفٌ نزل بك وهو مرتحلٌ عنك، فإن أحسنتَ نُزُلَه وقِرَاه شهِدَ لك وأثنى عليك بذلك، وصَدَق فيك، وإن أسأتَ ضيافَتَه ولم تُحسنِ قِرَاه جال في عينيكَ .. إلى أن يقول: إن الذي بقي من العُمر لا ثمنَ له ولا عِدْلَ، فلو جُمعتِ الدنيا كلُّها ما عَدَلتْ يومًا بقيَ من عُمرِ صاحبهِ، فلا تَبعِ اليومَ ولا تعدِلْه من الدنيا بغير ثَمنهِ، ولا يكون المقبورُ أعظم تعظيمًا لما في يديك منك - وهو لك - فلعَمري لو أن مدفونًا في قبره قيل له: هذه الدنيا أولُها إلى آخِرها تجعلُها لولدِك من بعدكَ يتنعَّمون فيها من ورائك، فقد كنتَ وليس لكَ همٌّ غيرُهُم، أحبُّ إليك، أم يومٌ تُتْرَكُ فيه تعملُ لنفسِك لاختار ذلك .. بل لو اقتصر على ساعةٍ خُيّرَها، وما بين أضعافِ ما وصفتُ لك وأضعافِهِ، يكون لسواه إلا اختار الساعةَ لنفسِه على أضعافِ ذلك يكون لغيرِه، بل لو اقتصر على كلمةٍ يقولها تُكتبُ له، وبين ما وصفتُ لك وأضعافِه، لاختار الكلمةَ الواحدةَ عليه، فانتقدِ اليومَ لنفسِك، وأبصِرْه الساعةَ، وأعظم الكلمةَ، واحذرِ الحسرةَ عند نزول السّكرةِ». عبادَ الله: ما أعظمَ الفرقَ بين هِمَمِنا وهِمَمِهم! وكم يبعدُ تفكيرُنا عن تفكيرهم؟ حتى ليخيَّلُ إليك أحيانًا - أن للقوم أهدافًا غير أهدافِنا - أو أن لنا غايةً غيرَ غايتِهم؟ كم تمضي علينا الساعاتُ والأيامُ - فضلًا عن الشهور والسنوات - ونحن في غفلة ساهون! وللأوقات مضيِّعون، وعن الآخرة غافلون .. وكم تخرج منا

كلماتٌ لا نحسِب لها حسابًا، وقد توردُنا المهالكَ، وكم نبيعُ أغلى ما نملك - وهو الوقت بأبخس الأثمان! ! فنَفرحُ إذ نُزجيَه بالقيل والقال، والانبساط مع الأصحاب والشِّلل، دون فائدة تُذكرُ، والأدهى والأمَّرُّ إذا كان قضاءُ الأوقاتِ بما يَضُرّ في الدين والدنيا. إنك لتعجبُ غايَةَ العجب حين ترى من السلف عنايةً فائقةً بأوقاتِهم واستثمارها بما ينفعُ، إلى حدٍّ كانوا يُقلِّلون أوقاتَ الأكل، أو يعملون وهم يأكلون؟ وهذا أحدُهم يقول: وأنا أُقَصِّرُ بغايةِ جَهدي أوقاتَ أكلي حتى أختارَ سفَّ الكعكِ وتحَسِّيه بالماء على (أكل الخبز) لأجل ما بينهما من تفاوتِ المَضْغ، توفُّرًا على مطالعةٍ أو تسطيرِ فائدةٍ لم أُدركْها (¬1). أيها المسلمون: وإذا كان الحديثُ يَطيب عن الوقت وأهمِّيتِه في حياة المسلم - في كلِّ وقتٍ - فماذا يُقال في الحديث عن الوقت في الإجازاتِ حين تُغلقُ المدارسُ، وتبدأ الإجازاتُ وتكثرُ السّفرياتُ؟ إن مجموعةً من التساؤلات تَرِدُ وتحتاج إلى إجابةٍ صادقة وواقعيةٍ، فإلى أيِّ شيءٍ يتطلّع جمهورُ الشباب في قضاء الإجازة؟ وبماذا تُفكّر الفتياتُ في استثمار وقتِ الفراغ؟ وماذا يدور في مخيّلةِ الأولياء نحو قضاءِ الإجازة، ما هي البرامجُ التي تتبناها المؤسساتُ التربويةُ وتسهمُ بها في استصلاح الشباب واستثمار أوقاتِ فراغِهم في عطلة الصيفِ؟ وهل تُعنى وسائلُ الإعلام ببرامجَ مفيدةٍ، وخاصةً في الإجازة لشريحةٍ مهمةٍ في المجتمع، بها تَصقلُ عقولَ الناشئةِ وتُحصِّنهم بإذن الله من التياراتِ الوافدةِ، وتملأُ فراغَهم بالنافع المفيدِ؟ ما الوسائلُ المشروعةُ التي يفكّر أصحابُ الأموالِ في استثمارها، حيث يسافرُ الناسُ ويحتاجون إلى خدمات؟ ¬

(¬1) هو أبو الوفاء علي بن عقيل، انظر «ذيل طبقات الحنابلة» 1/ 177 نقلًا عن: أين نحن من أخلاق السلف الجليل، عقيل/ 131.

وباختصار؛ ليسأل كلٌّ منا نفسَه بماذا يُفكِّر في هذه الإجازة، وما نصيبُ الآخرةِ؟ كيف تُقْضى الأوقاتُ، وتُنفقُ الأموالُ، وتحفظُ الطاقاتُ؟ إن أوقاتَنا وأموالَنا، وطاقاتنا أمانةٌ، وسوف نُسأل عنها. إخوةَ الإسلام: وهناك ملاحظةٌ لا بد أن نَعِيَها، وهي تتعلّقُ بمحاضنِ التربيةِ، فمن المعلوم أنَّ المدرسةَ والبيتَ من محاضِن التربيةِ المهمةِ لأبنائنا وبناتِنا، وللحقِّ يُقال: إن المدرسةَ عونٌ للبيوت على تربية الأبناءِ والبناتِ - وذلك حين يتوفَّر معلِّمون ومعلِّماتٌ يُدركون واجبَهم في التربية وتهذيبِ السلوكياتِ ورعاية الأخلاقِ، بل ربما قيل: إن بعضَ البيوتِ تقومُ مسئوليةُ التربيةِ فيها على المدرسةِ وحدها. لكن المدرسةَ تُغلقُ الآن، فما حالُ التربيةِ في البيوت حين تنفرد في التربية؟ وهنا يقال: إن البيوتَ تتعاظمُ مسئوليّتُهَا، وربما انكشفتِ البيوتُ الضعيفةُ في التربية في حال غيابِ توجيهِ المدرسةِ، فأصبح الأبناءُ، وربما البناتُ، عالةً على المجتمع بالتجمعات الفارغةِ، والسهراتِ الصاخبةِ، والرحلاتِ الخارجيةِ، والسفرياتِ غيرِ المنضبطةِ، أو بكثرةِ خروج النساءِ إلى الأسواق دونما حاجةٍ، أو بقضاء معظمِ الوقتِ عبرَ سماعةِ الهاتف .. إنّ على رُعاة البيوتِ أن يُدركوا واجبَهم حين يغيبُ دورُ المدرسةِ، فهم أساسٌ في التربيةِ، والمدارسُ مكملةٌ لهم وليست بديلًا عنهم. أيها المؤمنون: وحين يكون الحديثُ عن دورِ البيوتِ وأثرِها في التربية، فلا ينبغي أن نحمِّل المسئوليةَ كاملةً على الآباءِ والأمهاتِ، بل وعلى الأبناءِ والبناتِ الكبارِ كِفْلٌ من هذه المسئوليةِ لمساعدةِ آبائهم وأمهاتِهم .. وهنا عِتابٌ لطيفٌ أو همسةُ نُصْحٍ تُقال للشباب الملتزمِ والشاباتِ الملتزماتِ الذين يَضعفُ أثرُهم، أو يقلُّ عطاؤهم في بيوتِهم، إن من المؤسف - حقًّا - أن عددًا من الشباب يمتدُّ نفعُهم إلى كلِّ أحدٍ إلا أهلَ بيتهِ وعشيرتِه، فتراه يبخلُ عليهم بجلسةٍ نافعةٍ أو

بهديةٍ قيمةٍ، وربّما مَنَّ عليهم بالذهاب بهم إلى قضاء حوائجِهم، أو زيارة أقاربهم، بينما تراه يتهللُ مع الأصحابِ ويفرح بخدمةِ الزملاء، وهنا غفلةٌ في مسئولية الدعوةِ في العشيرة والأقربينَ، وغفلةٌ عن احتسابِ الأجرِ لخدمةِ الأهل، والله يقول: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (¬1) فإذا كان هذا الخطابُ قيل لمن أُرسلَ للعالمين، فكيف بغيره؟ ! والنبيُّ صلى الله عليه وسلم حين سأله سائلٌ وقال: من أبرّ؟ قال: «أُمك» قال: ثم مَنْ؟ قال: «أُمك» قال: ثم مَن؟ قال: «أُمك» قال: ثم مَنْ؟ قال: «أبوك» .. وبشكل عام، فالأقربون أولى بالمعروف، فهل يصحُّ مع هذه النصوص أن يُقدِّمَ بالدعوة والخدمةِ الآخرون على الوالدين والأقربين؟ ! إنها لفتةٌ وهمسةٌ لا تعني التقليلَ من الجهود الطيبةِ مع الآخرين .. لكن مراعاةِ الأقربين وتوجيهِ العنايةِ بمن يُظلُّهم سقفٌ واحدٌ من الأبوين والإخوةِ والأخواتِ. وبكلِّ حالٍ، فالدعوةُ لنا جميعًا بقوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (¬2). ¬

(¬1) سورة الشعراء، الآية: 214. (¬2) سورة التحريم، الآية: 6.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لله ربّ العالمين، أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الفحشاء والمنكر والآثامِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، كفى به حسيبًا ورقيبًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، ما فتئَ يوصي أُمتَه باغتنام الأوقاتِ بما ينفعُ، ويحذِّرهم ويذكِّرهم بالسؤالِ عن التفريط والإهمال، وهو القائل: «لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن عُمُرِهِ فيمَ أَفناهُ، وعن عِلْمِهِ فيمَ فعلَ، وعن مالِه من أين اكتسبَه وفيم أنفقَه، وعن جسمه فيم أبلاهُ» (¬1). اللهمَّ صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلين. إخوةَ الإسلام: وهناك مركزُ التربيةِ الدائم، وملتقى الإيمانِ، ومحضنٌ هامٌّ من محاضن التربيةِ للصغار، بل وللكبارِ .. لا يُغلَق أبدًا، ولا تنقطعُ رسالتُه في ليلٍ أو نهار .. ومع ذلك نغفلُ كثيرًا عن استثماره، وربما تجاوزناه إلى غيره وهو أعظمُ أهميةً .. إنها بيوتُ اللهِ مفتوحةٌ أبوابُها للكبار والصغارِ، والرجالِ والنساءِ، وأهلِ الحيِّ والزائرين، أو المسافرين والغرباءِ والمقيمين، فما هو أثرُ المسجد في الحيّ بشكلٍّ عام، وما البرامجُ التي يمكن أن يقومَ بها في إجازة الصيف مساهمةً في تربية أبنائنا وبناتِنا ورعايةً وتعليمًا للمحتاجين والوافدين؟ ما هي أنواعُ المسابقاتِ التي يمكن أن تنطلقَ من المسجد؟ إن في حفظ شيءٍ من كتابِ اللهِ أو سُنةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم، أو قراءةِ كتابٍ نافع .. أو صياغةِ مجموعةٍ من أسئلة نافعةٍ. يَعمُّ نفعُها للذكور والإناثِ والصغارِ والكبار .. وتكون جزءًا من رسالة المسجدِ .. هل يتعاون جماعةُ المسجدِ على معرفةِ أهلِ الحوائج في حيِّهم ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (ح 4217) والدارمي (ح 543 م) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح: وانظر: صحيح الجامع الصغير 6/ 148 ح 7177.

ويسدّوها، ويتعرفون على المقصِّرين في الصلاة فيهدون لهم النُّصحَ والتوجيهَ؟ هل تنظِّم الجهاتُ الرسميّةُ - على الأقلِّ في الصيف - دوراتٍ نافعةً للأطفالِ وأخرى للشبابِ، وثالثةً للنساء، ورابعةً لإخواننا الوافدين، لتعليمهم ما يحتاجون إليه؟ إن على الأئمة كِفْلًا من المسئولية للتفكير في عدد من الوسائل تَندرجُ ضمن رسالةِ المسجد، والتنسيقِ مع جهة الاختصاص فيما يحتاج إلى تنسيق، وعلى جماعة المسجدِ أن يكونوا عونًا له، فالتعاون على الخير مطلبٌ، وهو أساسُ النجاح، وإن المساجدَ أهلٌ لأن تكونُ مناراتِ توجيهٍ وإرشادٍ في الأحياء، فهل أدّتِ المساجدُ دورَها في الأحياء؟ وهل تنتهي مهمةُ المسجد عند قضاءِ الصلواتِ؟ مع عِظَمَ هذه الشعيرة، ولكنّ صلاةَ الجماعةِ والتِقاءَ المسلمين كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ حَرِيٌّ بأن يُستثمرَ لنشر الخيرِ وسدِّ الحوائج والنهي عن المنكر. ولقد كان مسجدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم متعددَ الأغراضِ والنفع، فيه كان يقيم الغرباءُ، وبه كان يُداوي الجرحى، وبه يُربطُ الأسراءُ، وبه يُنفقُ على الفقراء، ومنه تنطلق راياتُ الجهادِ، وبه تُعقدُ حِلَقُ العلم، وبه يَتشاورُ المسلمون فيما يحتاجون إلى مشورة، بل وبه يُنشدُ الشعرُ دفاعًا عن الإسلام، وبه كانت تَأوي النساءُ اللائي أسلمن من أحياء العربِ ولم يَجدنَ مأوىً غير المسجد (¬1). إلى غير ذلك من مهام جليلةٍ - انحسر معظمُها في مساجدنا اليوم وهي محتاجةٌ إلى البعث والتجديد. إخوة الإيمان: وما أروعَ الأمرَ حين يكون مسجدُ الحيِّ ملتقى للناشئة، من خلاله يقرؤون ويتحلَّقون ويتعلَّمون، ومن خلاله يتسابقون ويتنافسون .. فيصطبغُ ¬

(¬1) البخاري ح 4309 السيرة النبوية د. مهدي رزق الله/ 297.

في قلوبهم حبُّ المساجدِ منذُ الصِّغر، ويعلمون آدابَ المسجدِ، وأحكامَ الصلاةِ، ونحوَها من معارفَ وآدابٍ وأخلاقٍ. إن أحياءَ رسالةِ المسجدِ مسئوليةٌ لا يتحمّلُها الإمامُ وحدَه - وإن كان دورُه كبيرًا - بل هي مسئوليةُ جماعةِ المسجد، ومسئوليةُ الجهاتِ المسئولةِ عن المساجد .. ويوم أن تتضافرَ الجهودُ، فيبذلُ العالمُ من علمِه، ويشاركُ المربي في تربيته، وينفق الغنيُّ من ماله، ويشارك أهلُ الرأي برأيهم .. يومها سيغدو للمسجد شأنٌ آخر، وستتخرج أجيالٌ من المسجد كما تخرَّجت الأجيال الأولى، وسينعم أهلُ الحيّ بالهدوء والسكينةِ، وتنتهي التجمعاتُ الفارغةُ، والعبثُ بالسيارات وإيذاءُ المارّة. إنها دعوةٌ لتفعيل دورِ المسجد لأكثر من غَرَض، فهل نبدأُها من هذه الإجازة؟ إخوة الإسلام: ومجالاتُ الخير أو فُرَصُ استثمار الوقتِ في هذه الإجازة كثيرةٌ متنوعةٌ - وما مضى قليلٌ من كثير - فالتفرغُ لحفظ كتابِ الله أو شيءٍ منه في هذه الإجازة مطلبٌ نفيسٌ .. والمطالعةُ في كتب العلم النافعةِ وتحصيلُ العلم مع الإخلاص قربةٌ إلى الله - وهو مما تُحفظُ به الأوقاتُ. والمساهمةُ في الدعوة إلى الله، إن في الحيِّ، أو في القرى النائيةِ، أو في بلادِ المسلمين القريبةِ أو البعيدةِ .. كلُّ ذلك جهادٌ في سبيل الله ودعوةٌ إلى دينه، والمساهمةُ في المراكزِ الصيفيةِ إشرافًا أو مشاركةً بهدف الإصلاح والاستصلاحِ كذلك يُعدُّ ثغرةً من ثغراتِ الدعوة، يحتاج إلى احتسابٍ وتجديد في الوسائل، واستصحابُ المسافر معه مجموعةً من الكتيبات، والأشرطةِ النافعة وتوزيعُها على المحتاجين عملٌ طيبٌ، وله آثارُه النافعةُ بإذن الله، وحين يقوم الشابُّ في العمل وظيفيًا، أو بيعًا وشراءً في هذه الإجازة لتأمين حوائجه والاستغناءِ عن المسألة .. بل والتفكير لإحصان نفسِه بالزواج مستقبلًا .. كلُّ ذلك رجولةٌ وشهامة، وقد كان خِيرةُ

الخلقِ يأكلون من كسب أيديهم، إلى غير ذلك من وسائل يمكن أن يُستثمرَ بها الوقتُ في الإجازة، وهذا عامّ للرجال والنساء والموظفين ورجالاتِ الأعمال، والصغارِ والكبارِ .. ولهؤلاء جميعًا يُقال: احذروا من البطّالين ولصوصِ الأوقات، فإنهم من أعظم الأسباب لضياع العمرِ وقتلِ الأوقات - وهم ينشطون ويكثرون في الإجازات - وهؤلاء قد حذَّر منهم قبلنا العارفون، وشكي منهم ابنُ الجوزيِّ رحمه الله، فقد عقد في كتابه «صيد الخاطر» فصلًا في (أهل الفراغ بلاءٌ) فراجعه إن أردتَ معرفةَ ذلك. اللهمَّ ألهمْنا رُشدَنا، وأعِنّا على استثمار أوقاتِنا بما ينفع، ولا تجعلِ الدنيا أكبر هَمّنا ولا مبلغَ عِلمنا.

نحن وأهل الكتاب

نحن وأهل الكتاب (¬1) الخطبة الأولى: الحمدُ لله ربّ العالمينَ، يهدي من يشاءُ ويضلُّ من يشاءُ، ومن يهدي اللهُ فما له من مضلٍّ، ومن يُضلل فليس له من سبيل. وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له مقاليدُ السماواتِ والأرضِ، وله الخلقُ والأمر، تبارك الله ربُّ العالمين. وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، بعثه اللهُ رحمةً للعالمين، ورسالتُه للناسِ كافّةً، وأخذ اللهُ له الميثاقَ على النّبيين بالإيمان والتصديق والنُّصرة له حين يُبعثُ، وكذلك أُخِذَ الميثاقُ على الأنبياءِ لتبليغ أُمِمهم بهذا الميثاق .. فمن أطاع محمدًا فقد أطاع الأنبياءَ ووفى بالميثاق، ومن عصاه ضلّ وهو في عدادِ الناقضين للميثاق، واقرءوا إن شئتمَ قولَه تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (¬2). أيها المسلمون: المعركةُ بيننا وبين أهلِ الكتابِ من اليهود والنّصارى معركةٌ قديمةٌ متجدِّدة، والعداوةُ متأصِّلةٌ باقيةٌ حتى يدخلَ أحدُنا في دين الآخر {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} (¬3). وهذه المعركةُ لها سلاحان: سلاحٌ ماديٌّ يختلفُ ويتجدّد باختلاف العصور، ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 10/ 10/ 1421 هـ. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 81. (¬3) سورة البقرة، الآية: 120.

فمن الحَرْبة والسيف إلى الدّبابة والمدفعيةِ والطائراتِ المقاتلةِ، وأنواعِ الأسلحةِ الحديثةِ، ونحن وإيّاهم في هذا السلاحِ نتناوبُ النصرَ والهزيمةَ، فتارةً نغلبُهم ونحطِّمُ قُواهُم - كما حصَل في فتراتٍ من التاريخ - وتارةً يغلبونَنا ويُذلِّون أعزاءنا ويقهروننا ويحتّلون أرضَنا ويسيئون إلى مقدساتنا - كما هو واقعٌ اليومَ - ولكن السلاحَ الآخرَ وهو السلاحُ المعنويُّ - سلاحُ الفكرِ والعقيدةِ - وما يَنتجُ عنه من حقٍّ أو باطلٍ - هذا السلاحُ لنا فيه الغلبةُ والتفوقُ قديمًا وحديثًا. حكمَ القرآنُ بتفوّقِنا وصحّةِ دينِنا وحكَم على أهل الكتاب بالكذب وتلبيس الحقائق وكَتْمِ الحقِّ .. فقال عنّا وعن ديننا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬1)، وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2)، وقال عن أهل الكتاب: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (¬3)، وقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (¬4). أجل؛ لقد خاطب اللهُ علماءَ أهلِ الكتاب ناهيًا لهم عن تحريف الحقِّ وكتْمِه والتلبيسِ بالباطل فقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬5). وقرّر سبحانه - وهو أعلمُ بما تخفي صدورُهم - بمعرفتهم للحقّ الذي جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم - وإن خالفوه - فقال: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (¬6). ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 19. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 85. (¬3) سورة المائدة، الآية: 17. (¬4) سورة التوبة، الآية: 30. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 71. (¬6) سورة البقرة، الآية: 144.

عبادَ اللهِ: إنّ عقيدَتنا - معاشرَ المسلمين - مع كونِها الأحقَّ والأجدرَ بالبقاءِ، وهي الرسالةُ الأخيرةُ للبشر .. فهي أوسعُ وأرحبُ من الأديان والعقائد الأخرى .. فنحن نؤمن بالأنبياء جميعًا، ونُجلُّهم ونقدّرُهم .. ونؤمنُ كذلك بما أُنزل عليهم ونعتقد أنه - قبل التحريف - من عند الله يجبُ الإيمانُ به والتصديقُ، أما غيرُنا من اليهود والنصارى فيضيق أُفقُهم، ويؤمنون ببعض الكتابِ ويكفرون ببعضٍ، ويعظّمون أنبياءَ إلى حدِّ عبادِتهم من دون اللهِ .. ويعتدون على آخرين ظلمًا وعدوانًا بالسبِّ والتُّهم الباطلةِ والتكذيبِ، بل وصل الأمرُ بهم إلى قتْل بعضِهم، فضلًا عن تكذيبهم {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} (¬1). أما نحن - معاشرَ المسلمين - فأحدُ أركانِ الإيمان عندَنا الإيمانُ بالكتب السماويةِ المنزَّلةِ، وبالرُّسل المرسلَةِ من اللهِ، وفي كتابنا العزيز: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (¬2). أيها المسلمون: وهناك حقيقةٌ لا بد أن نُدركَها وهي أنّ رفضَ أهلِ الكتاب للحقّ الذي يُمثّله دينُنا ليس سببُه الجهلَ دائمًا، بل قد يعلمون الحقَّ - ولا سيَّما العلماء منهم - ويُصرُّون على الباطل، وفي «صحيح البخاري» من حديثِ أبي سفيانَ وقصة نزوله عند هرقلَ - زعيمِ الروم - ما يكشفُ هذه الحقيقةَ بجلاءٍ .. وقد قال هرقلُ زعيم النصرانيةِ حينها، لزعيم الوثنيةِ حينها أبي سفيانَ: إن كان ما تقولُ حقًّا فسيملكُ موضعَ قدميَّ هاتين، وقد كنتُ أعلمُ أنه خارجٌ، لم أكن أظنّ أنه منكم، فلو أني أعلم أني أَخلصُ إليه لتجشّمتُ لقاءَه، ولو كنتُ عِندَه لَغَسَلْتُ عن قدمِه (¬3). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 87. (¬2) سورة البقرة، الآية: 285. (¬3) أخرجه البخاري في «صحيحه» مطوّلًا برقم (3).

بل قال هرقلُ لعظماء الرومِ من بني قومِه: هل لكم في الفلاح والرُّشد، وأن يُثبَّتَ ملكُكم فتبايعوا هذا النبيَّ؟ ومع ذلك كلِّه، فقد ظل هرقلُ وعظماءُ الروم على نصرانيتِهم الباطلةِ وحاربوا الدّينَ الحقَّ .. وكانت معركةُ (مؤتة) بين المسلمين والنصارى والرسولُ صلى الله عليه وسلم لا زال حيًا .. ثم استمر النصارى في صراعٍ مع المسلمين حتى قضوا على دولتِهم وملكوا موضعَ قدمَي هرقلَ، وغادر الشامَ منهزمًا أمام جند المسلمين، وهو يقول: «سلامٌ عليكِ يا سوريةَ لا لقاءَ بعدَه». واليوم، ومع ضعفِ المسلمين وغَلبةِ أهلِ الكتابِ غلبةً ماديةً .. لا نشكُّ أنه يوجدُ من أهل الكتابِ من يعلمُ الحقَّ الذي يمتلكُه المسلمون وإنّما كتمانُ الحقِّ يتكررُ ويتجددُ بين أهل الكتابِ، ولكن مهما طال ليلُ الظالمين فستنكشفُ الحقيقةُ، وينبلجُ الصبحُ مؤذنًا بنصرةِ الحقِّ وأهلِه، وهزيمةِ الباطلِ وأنصارِه .. ولكن ذلك كذلك مرهونٌ بنصرةِ المسلمين لدينهم وثبَاتهم على حقِّهم وتمسُّكِهم بعقيدتهم {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (¬1)، {وَكَانَ حقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2)، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬3). إنّ كُتَبَ أهل الكتابِ - التي لم تُحرّفْ - تشهدُ على هذه الحقيقةِ، وتعترفُ بحقِّ المسلمين، وباللعنةِ والغضبِ على اليهود والنصارى .. وقديمًا أُقيمت الحجةُ على أهل الكتابِ من خلال كتبهم، وتحدّاهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬4)، ثم ظهرت بعد قرون من وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم كتبٌ تردُّ على النصارى في دعواهم، وتكشفُ ما في كتبهم من تحريفٍ ومغالطات وتَستدلُّ بما لم يُحرَّفْ منها على الحقِّ الذي جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم .. ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 7. (¬2) سورة الروم، الآية: 47. (¬3) سورة الرعد، الآية: 11. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 93.

وكان كتابُ شيخ الإسلامِ ابنِ تيمية رحمَه اللهُ «الجوابُ الصحيح لمن بدّل دينَ المسيح» حجةً على القوم .. وردًا على المبطلين .. وكشفًا للحقيقة أمام المصنفين. واليوم ظهرت دراساتٌ تكشفُ عن هذه النبوءات في التوراة، وتشير - فيما تشير إليه - إلى قربِ نهايةِ دولةِ إسرائيل - والعلمُ عند اللهِ - ولعلّ من أواخر هذه الدراساتِ وأحدثِها كتابٌ بعنوان «يومُ الغضب هل بدأ بانتفاضة رجبِ؟ » (¬1). وهو: قراءةٌ تفسيريةٌ لنبوءات التوراةِ عن نهاية دولةِ إسرائيلَ، وهي مأخوذةٌ من كتب القومِ وأسفارِهم، وفي مقدمة الكتابِ قال المؤلفُ: إن التوراةَ لا تدلُّ فحسب على أن قضيةَ الجنديِّ الصهيونيِّ غيرُ عادلةٍ، بل تدلّ على أنّ من الواجب عليه أن يُقاتل في الصف المقابلِ، كما تفرضُ على المستوطِن أن يعلمَ أن قدومَه إلى هذه الأرضِ، إنما هو لاستنزالِ عقوبةِ اللهِ وإحلالِ غضبهِ عليه، فلا أقَلّ من أن يرحلَ. ثم يقول المؤلفُ: «إنني أنصحُ كلَّ يهوديٍّ في أرضنا المحتلةِ ألّا يدَعَ التوراةَ حِكْرًا على محترفي الكِهانة الذين يَحصلون على إعفاءٍ مجّاني من الخدمةِ العسكرية، بينما هو يُقدِّم نفسَه من أجلها وأجلِهم، إنني أنصحه أن يقرأها ولكن بعقلهِ ووعيهِ لا بشروحاتهم وتأويلاتهم، وسيرى الحقيقةَ التي لا بد للعالم كلِّه أن يراها عمّا قريب». وفي الكتاب الأنف نصوصٌ وشواهدُ من كُتب القوم تشهدُ على كذبِ اليهودِ والنصارى في دعواهم الحقَّ في قضيتهم، وتكشفُ عن الزيف في النبوءات التي يُروّجها كهنةُ الأصوليين من اليهود والنصارى .. بل وفيه كذلك ما يشهد لنبوءات ¬

(¬1) للدكتور: سفر الحوالي.

المسلمين عن نهاية اليهودِ وهزيمةِ المسلمين لهم. ومن التوقع أن يكون لهذا الكتابِ أثرُه عند الباحثين عن الحقّ من أهل الكتابِ، لاسيّما وقد بدأت ترجمةُ الكتاب إلى اللغة الإنجليزيةِ، وسواء وقع الأثر الإيجابيُّ وانتفع به أو بغيره اليهودُ والنصارى أو لم ينتفعوا، فالحقُّ ظاهرٌ بإذن الله بوعدِ اللهِ، واللهُ لا يُخلفُ الميعادَ، أعوذ بالله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة الصف، الآية: 9.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، أحمَدُه تعالى وأشكُره وهو أهلُ الثناءِ والحمدِ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له في رُبوبيتهِ وأُلوهيتهِ وأسمائِه وصفاتِه، وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وخِيرَتُه من خلْقِه وخاتَمُ رسلهِ وأنبيائه، اللهمَّ صلِّ وسلّم عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلين. أيها المسلمون: واستكبارُ أهلِ الكتاب عن الحقِّ، وبُهتُ اليهودِ خاصّة، ليس وَليدَ الساعةِ، بل وقع في أيام الإسلامِ الأولى والرسولُ صلى الله عليه وسلم حيٌّ يتلو ما أُوحي إليه، ويُخبرُ أهلَ الكتابِ بأنبيائهم وما نزلَ عليهم. وإذا استثنينا طائفةً من اليهود والنصارى فتحَ اللهُ على قلوبهم واتّبعوا الحقَّ، وكانت أعينُهم تفيض من الدّمع إذا سمعوا من أُنزل على الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وهم الذين قالوا: {رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} (¬1). ومنهم الذين إذا تلي عليهم القرآن يخرون للأذقان سجدًا {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (¬2). إذا استثنينا هذه النماذجَ المؤمنةَ المصدّقة، فالأكثريةُ من أهل الكتاب كفروا واستكبروا كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬3). معاشر المسلمين: ودعونا نتوقفُ عند شاهدِ بني إسرائيل، كيف شَهِد؟ وعلى ما شهد؟ وما موقفُ قومِه من شهادته؟ ¬

(¬1) سورة المائدة، الآيتين: 83، 84. (¬2) سورة الإسراء، الآيتين: 108، 109. (¬3) سورة الأحقاف، الآية: 10.

قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله: وهذا الشاهدُ اسمُ جنسٍ يَعُمّ عبدَ اللهِ بنَ سلامٍ رضي الله عنه وغيره (¬1). وعبدُ اللهِ بنُ سلامٍ هذا واحدٌ من علماءِ اليهود وأحبارِهم شاء اللهُ له أن يكونَ في عِداد المسلمين، وأن يكشف سوءاتِ ومغالطاتِ اليهودِ، وقد شهد لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم بصدق الرسالةِ، وشهد على قومه بالبُهت والمُكابرة والكذبِ. وقصتُه - كما في «صحيح البخاري» - عن أنسٍ رضي الله عنه: أن عبدَ الله بنَ سلام أتى إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مَقْدَمهُ إلى المدينة فقال: إني سائلُك عن ثلاثٍ لا يعلمُها إلا نبيٌّ: ما أولُ أشراطِ الساعةِ؟ وما أولُ ما يأكلُه أهلُ الجنّةِ؟ ومِن أين يُشبهُ الولدُ أباه وأُمَّه؟ فقال: «أخبرَني بهنّ جبريلُ آنفًا». قال: ذاك عدوُّ اليهودِ من الملائكة. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا أولُ أشراطِ الساعة: فنارٌ تخرجُ من المشرقِ فتَحشُرُ الناسَ إلى المغربِ، وأما أولُ ما يأكلُه أهلُ الجنةِ: فزيادةُ كَبِدِ الحوتِ، وأما الشَّبَهُ: فإذا سبق ماءُ الرجلِ نَزَعَ إليه الولدُ، وإذا سبق ماءُ المرأةِ نزَعَ إليها». قال: أشهد أنك رسولُ الله، وقال: يا رسولَ الله، إن اليهودَ قومٌ بُهْتٌ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي بَهتوني، فأرسِل إليهم فسَلْهم عنّي - يعني قبل أن يعلموا بإسلامي - فأرسل إليهم فقال: «أيُّ رجلٍ ابنُ سلامٍ فيكم؟ ». قالوا: حَبْرُنا، وابنُ حَبْرِنا، وعالِمُنا وابنُ عالِمنا، قال: «أَرأيتُم إن أسلمَ تُسلمونَ؟ ». قالوا: أعاذَه اللهُ من ذلك، قال: فخرج عليهم عبدُ الله، فقال: أشهدُ أنْ لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ اللهِ، فقالوا: شَرُّنا وابن شرِّنا، وجاهِلُنا وابنُ جاهِلنا. فقال: يا رسول الله، ألم أُخبرْك أنهم قومٌ بُهت (¬2). ¬

(¬1) 4/ 165. (¬2) البخاري في أول الأنبياء 6/ 261، في مناقب الأنصار 7/ 2125 وفي التفسير 8/ 25.

إخوة الإيمان: ونستفيد من هذه الحادثةِ عدةَ دروسٍ، منها: أولًا: أن أهلَ الكتابِ منهم مَن يسمعُ الحقَّ ويستجيبُ للدعوة؛ كعبدِ اللهِ بن سلامٍ، والنجاشيِّ، وأمثالِهم من مؤمني أهلِ الكتاب. ومنهم - وهم الغالبيةُ - من يستكبرُ حتى ولو ظهر الحقُّ له، وهم الذين قال الله عنهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (¬1). وأولئك أفحمَهم القرآنُ وجادلهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم في عقائدهم، وما أنزل اللهُ في كتبهم، ولكنهم ظلّوا في غيِّهم سادِرين، وعن اتّباع محمدٍ صلى الله عليه وسلم رافضين، وفي سورة آلِ عمرانَ والنساءِ والمائدةِ وغيرِها نماذجُ لهذه المحاورةِ المُفحِمة، ومن يضللِ اللهُ فما له من هادٍ، أولئك لم تنفع معهم البيّنةُ، وأولئك الذين قال الله عنهم: {وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (¬2). ثانيًا: هناك فرقٌ بين عداوة المشركين من أهل الكتاب، وبين دعوتهم للحقِّ، فعداوتُهم من مقتضياتِ الوَلاءِ والبراءِ، والله نهانا أن نتَّخذهم أولياءَ، والحبُّ في اللهِ والبُغضُ في الله أوثقُ عُرى الإيمان. أما دعوتُهم، فَذلك لإبراء الذّمةِ من جانبٍ، ولقطع الحُجّةِ عليهم ببيان الحقِّ من جانبٍ آخر، وتلك كان يمارسُها الرّسولُ صلى الله عليه وسلم معهم، بل ويَدخلُ عليهم كنائسَهم من أجلها. روى الحاكم وصحّحه ووافقه الذهبيُّ من حديث عوفِ بن مالكٍ رضي الله عنه قال: انطلق نبيُّ الله وأنا معه حتى دخلنا كنيسةَ اليهودِ، فقال: «أروني يا معشَر يهودَ ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيتين: 146، 147. (¬2) سورة البينة، الآيتين: 4، 5.

اثني عشرَ رجلًا يشهدون أن محمدًا رسولُ الله، يَحطُّ اللهُ عنكم الغضَبَ». فأُسكِتوا، ثم أعاد عليهم، فلم يُجبْه أحدٌ، قال: «فواللهِ لأنا الحاشرُ وأنا العاقبُ، وأنا المصطفى، آمنتُم أو كذّبتم». فلما كاد يخرجُ قال رجلٌ: كما أنت يا محمدُ، أيُّ رجلٍ تعلموني فيكم؟ قالوا: ما فينا أعلم منك، قال: فإني أشهدُ بالله أنه نبيُّ اللهِ الذي تجدونه في التوراةِ، فقالوا: كذبت، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «كذبتُم». قال الراوي: فخرجنا ونحن ثلاثة وأُنزلت: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ} (¬1). ثالثًا: ونستفيد من هذه الحوادثِ والمروياتِ أنّ أسفارَ أهلِ الكتابِ التي لم تُحرَّفْ تدعو أهلَ الكتابِ للإيمان بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم واعتناقِ الإسلامِ، وترْكِ اليهوديةِ والنصرانيةِ، فأنبياءُ بني إسرائيلَ، بشّروا ببعثةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم قبل أن يُبعثَ، وأخذوا على قومِهم لئن بُعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم وهم أحياءٌ ليؤمنُنّ به ولينصرُنَّه .. وإبراهيم عليه السلام وهو أبو الأنبياء من بني إسرائيلَ، ما كان يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا .. ويعقوبُ عليه السلام كانت وصيَّتُه لأبنائه حين حضرتْه الوفاةُ، وكان اعترافُ أبنائه له بالعبودية للهِ وحدَه أنهم مسلمون للهِ .. فأين يذهبُ أهل الكتاب إذا كانت كُتبهم المنزلةُ تدعوهم إلى الإسلام .. وأنبياؤهم يُوصونَهم حتى المماتِ بالإسلامِ .. إنها حُجَجٌ قاطعة، وإلزامات ما لهم عنها من خَلاصٍ ولا محيص، ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذبَ وأولئك لا يفلحون. رابعًا وأخيرًا: وكما يوجد عند أهلِ الكتابِ استكبارٌ عنِ الحقِّ وعِنادٌ عن دخول الإسلامِ - إلا مَن رحمَ اللهُ - فثمّةَ ضعفٌ عند المسلمين في دعوتِهم ومجادلتِهم بالحُسنى - دون تنازلٍ عن شيء من الحقِّ .. بل وبأسلوب يُقنعون به ¬

(¬1) سورة الأحقاف، الآية: 10، المستدرك 3/ 415، 416.

الخصمَ، وإذا استكبر العالِمون المنتفعون فثمّةَ طوائفُ من عوامِّ أهلِ الكتابِ لا يعرفون الحقيقةَ وأولئك جَديرون بالدعوةِ، وإذا قيل للرسول: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (¬1)، فليس غيرُ الرسولِ بُملزَمٍ بما فوق البلاغِ، فهل يا تُرى يستجمعُ المسلمون طاقتَهم الفكريةَ وأدلّتَهم الناصعةَ لدعوة أهلِ الكتاب .. إن ذلك سيقلبُ ميزانَ القُوى، وسينقذ اللهُ به أقوامًا من الضلالة إلى الهُدى. ¬

(¬1) سورة الشورى، الآية: 48.

فتنة الشهوة

فتنة الشهوة (¬1) الخطبة الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. إخوةَ الإسلام: منذُ قديم الزمانِ وحديثِه، وهناك نوعان من الفتن تتعرَّض لهما النفوسُ المسلمةُ، ولا سلامة منها إلا بالاعتصام بكتاب اللهِ، وهَدْي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومجاهدةِ النفس وترويضِها، ومغالبتِها على اتباع الحقِّ ورفضِ الباطلِ، هاتان الفتنتانِ هما: فتنةُ الشهواتِ، وفتنةُ الشُّبهاتِ. تتعلَّق الأولى بالبطون والفروج غالبًا، وتتعلَّقُ الثانيةُ بالعقول والقلوبِ كثيرًا، وإليهما جاء التحذيرُ الإلهيُّ في الكتاب العزيز بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} (¬2). وبقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ} (¬3). عباد اللهِ: ولا تزال هاتان الفتنتان في الناس، فتُفسدُ فتنةُ الشُّبهاتِ عقولَ أقوامٍ وتُزيِّنُ لهمُ القبيحَ، وتصدُّهم عن سبيل اللهِ وسبيلِ المؤمنين، وإن كانوا ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 21/ 3/ 1421 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 27. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 7.

يَرونَ أنهم يُحسنون صنعًا .. وتعمى قلوبُ هؤلاء عنِ الحقِّ، وإن كان عند غيرِهم أبلجًا، وفي هذا النوع من الفتن يجد الشيطانُ مرتعًا خصبًا، وتتكاثرُ الخواطرُ الشيطانيةُ، وتُولِّد الشُّبهةُ شبهةً أخرى .. وهكذا، نسألُ اللهَ السلامةَ من الفتن. وأصحابُ هذه الفتنةِ -كما قال ابنُ القيّم رحمَه اللهُ- مركبُهم القِيلُ والقالُ، والشكُّ والتشكيكُ، وكثرةُ الجدالِ، ليس لها حاصلٌ من اليقين يُعوَّل عليه، ولا معتَقدٌ مطابقٌ للحقّ يُرجع إليه، يوحي بعضُهم إلى بعض زُخرفَ القول غرورًا، اتخذوا لأجل ذلك القرآنَ مهجورًا، وقالوا من عند أنفسِهم، فقالوا مُنكرًا من القول وزورًا، فهم في شكِّهم يَعمهون، وفي حَيرتهم يتردَّدون، اتبعوا ما تتلوا الشياطينُ على أَلْسنةِ أسلافهم من أهل الضلال، فهم إليه يتحاكمون، وبه يتخاصمون .. قد ضلُّوا من قبلُ وأضلُّوا كثيرًا وضلُّوا عن سواء السبيل (¬1). وهنا حديثٌ يطولُ عن هذا النوع من الفتن، وليس هذا موطنَ بسطِه، ولكن الحديثَ اليومَ عن فتنة الشهواتِ وآثارِها، وصرعها وسُبل النجاةِ منها، وأخصُّ من ذلك شهوةَ الفروج، وقد يكون المفتونون بهذا النوع أكثرَ في زمنٍ كثُرت فيه المغرياتُ، وتفنَّن أصحابُ الشهواتِ في اقتناص المسلمين والمسلماتِ .. أجل، لقد عَملتِ القنواتُ الفضائيةُ وغيرُها من وسائل الإعلامِ المنحرفةِ الأخرى عمَلَها في نشر الرذيلةِ، وتحطيم جُدُرِ الفضيلة، ووأْدِ الحياءِ، وتوارى الخُلقُ الكريم في عددٍ من البرامجِ .. بل صار التنافسُ المحمومُ لتقديم مادةٍ إعلاميةٍ تستهوي المشاهدين والمستمعين، حتى ولو كانت على حساب الدّين والخُلُق والمروءة والحياءِ، وفي ظل هذه الإثاراتِ تُستفزُّ المشاعرُ، وتُثارُ الغرائزُ. ¬

(¬1) إغاثة اللهفان - بتصرف يسير: 1/ 187.

ولا يسلمُ من الوقوع في هاوية الرذائل إلا من عصمَه اللهُ، وأدرك خطورةَ المشاهدةِ أولًا، وخطورةَ الاستجابةِ لما بعد المشاهدةِ ثانيًا. عبادَ الله: إنني أخاطبُكم جميعًا، ذُكرانًا وإناثًا، صغارًا وكبارًا .. واسمحوا لي أن أَخُصَّ بالخطاب أكثر الشبابَ والشاباتِ، فهم أكثرُ من غيرهم تأثُّرًا، والمروِّجون للفسادِ يُراهنون عليهم أكثر من غيرهم .. وحين أخصُّ هؤلاء وأخاطبكم جميعًا، أقفُ الوقفاتِ الثلاث التاليةِ في سبيل دَرْءِ الخطرِ، والتحصُّن من آثار هذه الفتنةِ: الوقفة الأولى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (¬1). إنه أصدقُ خطابٍ وأرحمُ خطاب، يوجِّهه الرحمنُ الرحيمُ، والخلاقُ العليمُ لمن خلقَ، وهو أعلمُ بمن خَلقَ، إن في غضِّ الأبصار، وحفظِ الفروج تزكيةً للنفوس، وطهارةً للقلوب {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (¬2). وحين يعالج المرءُ نفسَه على غضّ بصرِه عمّا حرم اللهُ عليه، يورثه اللهُ حلاوةً في قلبه، ويَسلمُ من منغّصاتِ هذه النظرةِ وآثارِها، والمتأمّل في الآيةِ يرى البدءَ بغضِّ البصَرِ قبل حفظِ الفرج؛ لأن البصرَ رائدٌ للقلب، كما قيل: ألم ترَ أن العينَ للقلبِ رائدٌ فما تألفُ العينانِ فالقلبُ آلفُ قال العارفون: البصرُ هو البابُ الأكبرُ إلى القلب، وأعمرُ طرقِ الحواسِّ إليه، وبحسبِ ذلك كثُرَ السقوطُ من جهتِه، ووجب التحذير منه (¬3). ألا فاحذر يا عبدَ الله، وجاهدْ نفسَك عن النظرةِ المحرّمةِ، فإن الشيطانَ يريد منك ما بعدَها، وإذا كنتَ تنفرُ من كلمة الزنا وتَستوحشُ من آثارها - وحُقَّ لك ذلك - فهل علمتَ أن النظرةَ المحرَّمة زنا العينين، وفي «صحيح» مسلم قال صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 30. (¬2) سورة النور، الآية: 30. (¬3) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 12/ 223.

«إنّ اللهَ كتبَ على ابنِ آدمَ حظَّه من الزنا، أدركَ ذلك لا محالةَ؛ فالعينانِ تَزنيانِ وزناهُما النظرُ» الحديث. وكم تخون النظرةُ، وكم يُعظِّم الشيطانُ المنظورَ. ولو لم يكن بذاك، قال مجاهد رحمَه اللهُ: «إذا أقبلتِ المرأةُ جلسَ الشيطانُ على رأْسِها فزّينها لمن ينظرُ، فإذا أدبرتْ جلس على عَجُزها فزيَّنها لمن ينظر» (¬1). وكم تُفسد النظرةُ المحرَّمة في القلب! . قال خالدُ بنُ أبي عمران: «لا تُتْبِعنَّ النظرةَ النظرةَ، فربما نظر العبدُ نظرةً نَغِلَ منها قلبُه - أي فَسَدَ - كما يَنْغِل الأديمُ فلا يُنتفعُ بهِ» (¬2). بل إنّ الناظرَ يُرْمى بسهامِ النظرِ قلبُه من حيثُ يشعر أو لا يشعرُ، قال الشاعر: يا راميًا بسهام اللَّحْظِ مجتهدًا ... أنتَ القتيلُ بما يُرمى فلا تُصِبِ وباعثُ الطّرْفِ يرتادُ الشفاءَ له ... تَوَقَّه إنه يأتيكَ بالعَطَبِ (¬3) ونقل القرطبيُّ رحمَه اللهُ: أن الشعبيَّ رحمَه اللهُ كرِهَ أن يُديمَ الرجلُ النظرَ إلى ابنتهِ أو أُمه أو أختِه. ثم قال القرطبي - وزمانه خيرٌ من زماننا هذا -: وحرامٌ على الرجل أن ينظرَ إلى ذاتِ مَحْرَمهِ نظرَ شهوةٍ يردِّدها (¬4). وماذا يقولان لو علما ما سيكون في زماننا؟ ! أيها المسلمون: إن الإسلامَ يهدفُ إلى إقامةِ مجتمعٍ نظيف لا تُهاج فيه الشهواتُ في كلّ لحظةٍ، ولا تُستثارُ فيه دفعاتُ اللّحم والدّم في كلّ حين، فعملياتُ الاستثارةِ المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي، أما النظرة الخائنة والحركةُ المثيرةُ، والزينة المتبرجةُ، والجسمُ العاري فهذه كلّها لا ¬

(¬1) القرطبي: 120/ 227. (¬2) القرطبي، المصدر السابق 12/ 227. (¬3) ابن القيم: روضة المحبين ص (97). (¬4) السابق 12/ 223.

تصنع شيئًا إلا أن تُهيِّج ذلك السُّعار الحيوانيَّ المجنونَ، وإلا أن يَفْلِتَ زِمامُ الأعصابِ والإرادةِ، فإما الإفضاءُ الفوضويُّ الذي يضع النطفةَ في غير موضِعها، وإما الأمراضُ العصبيةُ والعقد النفيسةُ الناشئةُ من الكبح بعد الإثارة (¬1). وما أعظم توجيه الخبير: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ} (¬2) الآية. عباد الله: ومهما أطنبَ الخطباءُ، أو تحدث العلماءُ عن النظرة المحرَّمة وآثارِها، وعن حفظِ الفروج وسُبِلِها، فلن يبلغوا مبلغَ القرآن في دقّةِ تعبيرِه، وإيجازِ كلماتِه .. والخطابُ فيه للرجل والمرأة جميعًا. إن التحذيرَ من آثار النظرةِ، والأمرَ بغضِّ الأبصار، وحفظِ الفروج، تتأكدُ الحاجةُ إليه في زمنٍ بات المسلمُ مبتلًى بما يرى مِنْ مشاهدَ مثيرةٍ، فالأفلامُ والصورُ الهابطةُ تغزو البيوتِ، والنساءُ الكاسياتُ العارياتُ تمتلئُ بهن الأسواقُ والمجمّعاتُ العامة، وسلطانُ الحياءِ قلّ عند بعض الرجالِ والنساء، ولباسُ الحشمةِ صار أمرًا مستغرَبًا عند بعضِ النساءِ، والحجابُ بات عند بعضهنّ عائقًا عن الحياة مقيِّدًا لحركة المرأةِ - زعموا - وراموا نشرَ الرذيلةِ باسم الحريةِ والتبعيةَ باسم التقدمِ! ! وصنفٌ آخرُ من النساء بات الحجابُ عندهم فنًّا للزينةِ، تعرضُه اليومَ بشكلٍ، ثم تختار غدًا شكلًا آخر، وهكذا، ولم يعدِ الحجابُ حجابًا مشروعًا .. بل ¬

(¬1) سيد قطب، في ظلال القرآن 18/ 2511. (¬2) سورة النور، الآيتين: 30، 31.

سبيلًا للإثارة والزينة والفتنة، والمصيبةُ إذا استنوقَ الجملُ وطغى سلطانُ النساءِ، وضعُفت قِوامةُ الرجلِ، فلا تسأل حينها عن المفاسدِ والفتن! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 19.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين. عبادَ اللهِ .. الوقفة الثانية: «يا معشرَ الشبابِ من استطاعَ منكمُ الباءةَ فليتزوج، فإنه أغضُّ للبصَرِ، وأحصنُ للفرجِ، ومن لم يستطعْ فعليهِ بالصومِ، فإنه له وِجاءٌ». إن الزواجَ رحمةٌ ومودّةٌ واستجابةٌ للفطرة، وتهذيبٌ للغرائز، ووضع للبَذْرِ في منبتِه .. به تتكاثرُ الأمةُ، وبه تُغضُّ الأبصارُ وتُحفظُ الفروجُ. إنه تاجُ الفضيلةِ، وسُنةُ الأنبياءِ والمرسَلين - عليهم السلام - وسبيلُ المؤمنين، واستجابةٌ لأمر اللهِ: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (¬1). عظّم اللهُ شأنَه، وسمَّى عَقْدَه: {مِيثَاقًا غَلِيظًا} (¬2). وجعله آيةً من آياته؛ إذ به جعل بين الغريبيْنِ البعيدين مودةً ورحمةً وسُكنى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬3). إن الزواجَ يرفعُ من عيشِ البطالةِ والفتنةِ، إلى معاش الجِدّ والعِفّة، وبالإعراض عن الزواج - لمن قَدِرَ عليه - ينقرضُ النسل، وتُطفأ مصابيحُ الحياةِ، وتُقبضُ العِفّة. ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 32. (¬2) سورة النساء، الآية: 21. (¬3) سورة الروم، الآية: 21.

عبادَ الله: ومن أقوى العللِ للإعراض عنِ الزواج، تفشّي أوبئة السُّفور والتبرُّج والاختلاط؛ لأن العفيفَ يخاف من زوجةٍ تستخفُّ بالعفاف والصّيانة، والفاجرُ يجد سبيلًا محرَّمًا لقضاءِ وَطَرِه متقلبًا في بيوت الدَّعارة - نسألُ اللهَ العافيةَ لنا ولإخواننا المسلمين - ومن هنا قال العارفون: إن مكافحةَ السَّفور والتبرُّج والاختلاطِ واجبٌ لمكافحةِ الإعراض عن الزواج (¬1). معاشرَ الشبابِ - وإذا استطعتمُ الباءةَ - فلا تتردَّدوا في الزواج مخافةَ الفقر من جَرّاءِ الزوجةِ والعِيال، فسوف يُغنيكم اللهُ من فضلِه، وفي التنزيل: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬2). معاشرَ الشباب: إن خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لكم يحمل الدعوة ويفسر الهدف ويضع البديل والوجاء «يا معشر الشباب منِ استطاعَ منكم الباءةَ فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصومِ؛ فإنه له وِجَاءٌ» (¬3). وفي حديث آخر: «تزوّجوا؛ فإني مكاثِرٌ بكم الأُممَ، ولا تكونوا كرهبانية النصارى» (¬4). معاشرَ الأولياء: وأنتم مخاطَبون، بل مأمورونَ من اللهِ بإنكاح الأيامى - وهم من لا أزواجَ لهم من رجالٍ ونساء ثيِّباتٍ وأبكارٍ (¬5)، يقول تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} (¬6). الوقفة الثالثة: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬7). ¬

(¬1) د. بكر أبو زيد: حراسة الفضيلة 120، 121. (¬2) سورة النور، الآية: 32. (¬3) متفق على صحته. (¬4) هو في «صحيح الجامع الصغير» (2938). (¬5) السعدي «تفسير كلام المنان» 5/ 114. (¬6) سورة النور، الآية: 32. (¬7) سورة النور، الآية: 33.

معاشرَ الشبابِ: وتلك هي الوصيةُ الثالثةُ لكم، وهذا حكمُ العاجزِ عن النكاح - لسببٍ أو لآخرَ - أمرَه الله أن يستعِفَّ، أي: يكفَّ عن المحرَّم، ويفعلَ الأسبابَ التي تكفُّه عنه، من صرف دواعي قلبه بالأفكار التي تخطرُ بإيقاعِه فيه (¬1). معاشرَ الشباب: ومهما بلغت دواعي الشهوةِ، ومثيراتُ الفتنِ، ووسائلُ الإغواءِ والإغراءِ، فمن يتَّقِ اللهَ يجعل له مَخرجًا، ومن يَستعفَّ يُعفَّه اللهُ، ومن يستغنِ يغنِه اللهُ. وما أروع المسلمَ - عمومًا والشبابَ خصوصًا - وهو يتعالى عن مثيراتِ الفتنةِ، ويحفظُ فرجَه عن الحرام، ويستخدمُ نظرَه في الحلال. قال العارفون: إن العبدَ إذا حفظ فرجَهُ وبصرَه عن الحرام ومقدِّماتِه مع دواعي الشهوةِ، كان حفظُه لغيره أبلغَ، ولهذا سمّاه اللهُ حافظًا: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (¬2). واعتبر ذلك من صفات المؤمنين. إنّك لتُسَرُّ غايةَ السُّرور حين ترى طائفةً من الشباب يغضّون أبصارَهم تعفُّفًا وحياءً، وتستحي النساءُ المتبرجاتُ منهم بل تخافُهُم، فضلًا عن أن تُراودَهم على أنفسِهم، مع أن هؤلاء الشبابَ في مرحلةِ هَيَجان الغريزةِ، ولديهم رغبةٌ في النساء، لكنه العفافُ كَفَّهم وآثارُ الصلاح والتُّقى، به اللهُ حرَسَهم، اللهم زِدهم عفافًا وتُقًى، وأَغنهم من فضلك، وعوِّضهم بالحلال عن الحرام .. وإذا كان ربُّك يَعجبُ من شابٍّ ليست له صبوةٌ، فأحَدُ الثلاثةِ الذين لا يُكلِّمهمُ اللهُ يومَ القيامةِ ولا يُزكيِّهم ولا يَنظرُ إليهم .. شيخٌ زانٍ (¬3)، وفي مقابل ¬

(¬1) السعدي: تفسير كلام المنان 5/ 415. (¬2) سورة المؤمنون، الآية: 5. (¬3) رواه مسلم في «صحيحه» برقم (107).

ذلك فإنك لتعجبُ غايةَ العجبِ حين ترى كهلًا أو شيخًا كبيرًا لا يزال يُتبعُ النظرةَ النظرةَ، ويحقِّقُ النظرةَ في مواطنِ الزينةِ والشهوة في المرأةِ، مع أن لديه ما يُغنيه ويقضي وطَرَه - لكنها الفتنةُ وضعفُ الدِّيانة - نسألُ اللهَ يَعصمَ هؤلاء ويكفيَهم بما رزقهم، كما نسألُ اللهَ لنا ولإخواننا المسلمين السلامةَ من الفتن، ومنكراتِ الأقوالِ والأفعال. أيها المسلمون: وهكذا يواجهُ الإسلامُ مشكلةَ الفتنةِ لشهوةِ الفروج مواجهةً عمليةً، فيُرشدُ عمومًا إلى غضِّ الأبصار، وحفظِ الفروجِ، ويأمرُ القادرين بالزواج لتتمَّ لهمُ العفةُ والحصانةُ المشروعةُ، وليحقِّق بالزواج المقاصدَ العظيمةَ، ويوجِّه العاجزين عن الزواج لأيّ سببٍ من الأسباب إلى الاستعفاف، حتى تتهيأَ لهم فرصُ الزواجِ. ويمنعُ من مقارفة وسائلَ أخرى كالزنا واللواط ونحوِها، ويحيط ذلكَ بأوصافِ الفاحشةِ والآثام وانتكاسِ الفِطر، في حين أنه يُثيبُ على قضاء الشّهوة في إطارها المشروع، ويَجزي بالحسنى على غَضِّ الأبصار وحِفظِ الفروج، فهل تَرون تنظيمًا يُداني أو يقاربُ هذا التنظيمَ الربانيَّ؟ ألا إنه يَستحقَّ الاستجابةَ، ويدعو وبواقعيتِه إلى العِفَّة والفضيلة.

الجريمة مظاهر وعلاج

الجريمة مظاهر وعلاج (¬1) الخطبة الأولى: أسبابٌ ومقترحات إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. عبادَ الله: وقعَ في يدي مجموعةٌ من قُصاصاتٍ لعدد من الصُّحُفِ المحليةِ تحملُ عناوينَ مثيرةً، وتتضمنُ صيحاتٍ مُحذرةً، وتلتمسُ حلولًا لمشكلةٍ بدأت، وظواهرَ أطلَّتْ، حَرِيّةٌ بأن تُعالجَ وتُدرسَ قبلَ استفحالِ الخطرِ وشيوعِ الجرائمِ والفتنِ، وليس يُجدي أن نتجاهلَ ما يقعُ، ونَدُسَّ رءوسَنا في الرمالِ وكأننا لا نرى ولا نسمعُ. ومن بين هذه العناوينِ المثيرةِ: مُترفونَ يتحرَّشونَ بالفتياتِ عُنوةً (¬2). ضبطُ أشرطةِ فيديو تدعو للتنصيرِ في جدة (¬3). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 24/ 10/ 1421 هـ. (¬2) عكاظ 13/ 10/ 1421 هـ. (¬3) المدينة 7/ 10/ 1421 هـ.

ممارسةُ التهورِ ليس احتفالًا بالعيد (¬1). ظاهرةُ الانتحار إلى أين؟ (¬2). التُّجارُ الحراميةُ يسرقونَ بثقةٍ لعدمِ تواجدِ رجالِ الأمنِ في الموقع (¬3). يتورطُ فيها المراهقون .. مُشادّةٌ كلامية تحفرُ قبرًا (¬4). منتحرُ جدة يلفظُ أنفاسَه الأخيرةَ (¬5). بدرية قتلت والدها بمساعدةِ أمّها ودفنته في الصحراءِ (¬6). إلى غير ذلك من أحداثٍ مؤلمةٍ، تكاد تنحصرُ أخبارُها في حدود أسبوعين فقط؟ حقًّا إنها عناوينُ مثيرةٌ، وأحداثٌ وممارساتٌ غريبةٌ على مجتمعنا، ولا تَمُتُّ بأدنى صلةٍ إلى قيمِنا وتعاليمِ إسلامِنا، نعم إن نزغاتِ الشيطانِ تجمَعُها .. ولكنها تخفي وراءها مسبباتٍ وأدواءَ وظواهرَ لا بد من دراستِها ولا بد من الجدِّيةِ في علاجها. إنها خليطٌ من الفسادِ الخُلُقيِّ، والتهوُّرِ السلوكيِّ، والعنفِ المحموم، والسطوِ على حقوق الآخرين، والدعوةِ للرذيلة، بل وللأديانِ الباطلةِ، وفيها من ضعفِ الوازع الديني والعقوقِ لأصحابِ الحقوقِ ما لا يمكن وَصفُه، بل ويَصعبُ تصورهُ لولا أن الأحداثَ أثبتَتْهُ. معاشرَ المسلمين: إننا جميعًا معنيونَ ومسئولون عن معالجةِ هذه الظواهر الغريبة .. ولكن قبلَ العلاج لا بد من استكمالِ توصيفِ الظاهرةِ ومعرفةِ أسبابها .. فما هي يا تُرى أبرزُ الأسبابِ لمثلِ هذه الظواهرِ المرفوضةِ؟ ¬

(¬1) الرياض 13/ 10/ 1421 هـ. (¬2) الوطن 21/ 10/ 1421 هـ. (¬3) الرياض 14/ 10/ 1421 هـ. (¬4) عكاظ 20/ 10/ 1421 هـ. (¬5) الندوة 16/ 10/ 1421 هـ. (¬6) المدينة 21/ 10/ 1421 هـ.

إن البعضَ يتساءلُ: ألسنا في بلدٍ محافظٍ، فكيف يقعُ مثل هذه؟ ! وأقولُ: نعم، إن مجتمعَنَا - بعمومِه - محافظٌ والحمدُ لله، ويستنكرُ مثلَ هذه الممارساتِ، وهذه المظاهرُ لا تمثلُ المجتمعَ .. ولا تلغي محافظتَه .. ولكن قد يكون للثراءِ والنعمةِ أثرٌ في وجودِ بعضِ هذه الممارساتِ، لا سيَّما حركاتِ الشبابِ اللامسئولة ومضايقاتهم للناسِ عامةً وللنساءِ خاصةً؛ بسدِّ الشوارعِ تارةً، والاعتداءِ على الحُرماتِ تارةً أخرى، وما يَنجمُ عن ذلك من أضرارٍ على الأرواحِ أو الممتلكاتِ .. وهنا يَرِدُ السؤال: ومن أين لهؤلاء المراهقينَ السياراتُ التي يتسكعونَ ويفحطونَ ويضايقونَ الناس بها؟ أليست بتمويلِ الآباء؟ أليست أصداءَ للنعمةِ؟ أليست استغلالًا بشعًا لذوي النعمةِ والثراءِ؟ فهذا سببٌ، وسببٌ آخرُ - وهو عكسُ سابِقه- إذ تُمثلُ البطالةُ والفراغُ عند بعضِ الشبابِ الذين هم خارجَ المدرسةِ وبدونِ عملٍ عنصرًا مهًّا في بروز هذه الظواهرِ السيئةِ، فيقضونَ بها فراغَهم ويعبّرونَ بها عن سُخطهم وفراغِهم بطريقةٍ خاطئةٍ مرفوضةٍ عقلًا وشرعًا .. أما السبب الثالث المهم: فهو ضعفُ الوازع الدينيِّ، واختلالُ القيمِ الأخلاقيةِ، وعدمُ تقديرِ مشاعرِ الآخرين، بل وتقصُّدُ الإضرارِ بهم. أما السببُ الرابعُ: فهو وجودُ عناصرَ مشبوهةٍ من أصحابِ المِللِ والنِّحِلِ والأديانِ الفاسدة، تسعى جاهدةً لإفسادِ هذه البلادِ المباركةِ، متخذةً من الأشرطةِ والمنشوراتِ والكتيباتِ والمدارسِ الأجنبيةِ وسيلةً لترويجِ فِكْرها وبثِّ سمومها. خامسًا: وللإعلامِ السيئ والقنواتِ الفضائيةِ وبرامجِ العنفِ، والتهتكِ الأخلاقيِّ، والغزوِ الفكري - لهذه وتلك - أثرُها في صياغةِ العقلياتِ وممارسةِ

العنف، وترويجِ السلوكياتِ الشاذةِ على مستوى الطفلِ والشابِّ والرجلِ والمرأة، إلا من رحمَ ربُّك! سادسًا: وثمةَ سببٌ يُنمِّي مثلَ هذه الظواهرِ، ويُكثرُ من أصحابها، إنه التساهلُ في معالجةِ الظاهرة في بدءِ نُشوئها، حتى إذا استفحلت شكَّلت خطرًا يحتاجُ إلى جهدٍ أكبرَ في العلاج، أجل إن التغافلَ عن حركاتِ الشبابِ البهلوانية المؤذيةِ عند فوزِ منتخبٍ، أو ممارسةِ التفحيطِ على الخطوطِ الدائريةِ، أو على السفوحِ الرمليةِ، أو في مناسباتِ الأعيادِ .. واعتبار ذلك تعبيرًا عن فرحةٍ وطنيةٍ .. كلُّ ذلك يُجرئُ السفهاءَ على خطواتٍ أخرى أحسَّت أجهزةُ الأمنِ - مؤخرًا - بخطورتها في احتفالات العيدِ بالرياض، ثم لا تلبثُ الأمورُ أن تتطورَ إلى سلوكياتٍ إجرامية لا بد من وضع جزاءٍ رادعٍ لها؛ فاللهُ يَزَعُ بالسلطانِ ما لا يزعُ بالقرآن. وقد أكدَ وزيرُ الداخلية على محاسبةِ المقصرينَ في الأحداثِ المؤسفةِ في احتفالات العيد في الرياض (¬1). وما حدث في الرياضِ يمكن أن يقعَ في غيره، إذا لم تكن الجِدِّيةُ في المعالجةِ، والمبادرةُ في الحزمِ في تطويقِ هذه الممارسات الخاطئة، ومعاقبةُ الجُناةِ والتنكيلُ بهم عقوبةً لهم ودرسًا بليغًا لغيرهم. سابعًا: والدعواتُ المحمومةُ التي تُطلقُ بين الفَيْنَةِ والأخرى وتدعو إلى خروجِ المرأةِ وسُفورها واختلاطِها بالرجالِ الأجانبِ .. تلك سهامٌ تُشعلُ فتيلَ الفتنِ، وتهتك أستار الفضيلة، وتجرئُ السفهاءَ، ويتنفسُ خلالها من في قلبِه مرضٌ، وإذا اعتُدِي على المرأةِ وهي متحجبةٌ، فكيف الحالُ إذا خرجت سافرةً ¬

(¬1) الرياض 13/ 10/ 1421 هـ.

وبالزينةِ فاتنةً؟ وإذا لم تسلم من اعتداءِ الموتورينَ وهي بصحبةِ مَحرمِها، فكيف إذا انفردت وسافرت بالسيارةِ أنّى شاءت وحدَها؟ ! ثامنًا: وضعفُ التوعيةِ في المحاضنِ التربويةِ، وفي مقاعدِ الدراسةِ الجامعية، وفي المنزلِ والمسجدِ .. وغيابُ بعضِ الآباءِ والمربينَ والأمهاتِ والمعلماتِ عن مسئوليتهم .. كلُّ ذلك يساهمُ في وجودِ مثلِ هذه السلوكياتِ المنحرفةِ. تاسعًا: وغفلةُ رجلِ الأمنِ عن مهمتهِ، أو عدمُ إخلاصِه في عملِه ومسئوليته، أو عدمُ دقَّتِه في رصدِ الجريمةِ ومتابعةِ المجرمين والحيلولةِ بينهم وبين ما يَشتهون .. ذلك يُفاقمُ الخطرَ ويقوي شوكةَ المجرمين. عاشرًا: والمخدراتُ سببٌ لكلِّ بلاء، والمسكراتُ والخمرُ أُمّ الخبائث. وقَلَّ أن توجدَ جريمةٌ إلا ولهذه الأوبئةِ رأسٌ مُطِلٌّ؛ إنْ ظاهرًا أو خفيًّا فيها. ورفيقُ السُّوء شؤمٌ على نفسِه وعلى الآخرين. وكم من بريءٍ تورطَ في مزالقِ الجريمةِ نتيجةَ إغواءِ قرين السُّوء. أيها المسلمونَ: تلك أسبابٌ عشرةٌ، وقد يكون هناك أسبابٌ أخرى، وقد تختلفُ هذه الأسبابُ وجودًا أو عدمًا، قوةً أو ضعفًا. وفي سبيلِ العلاجِ لا بد أولًا من معرفةِ هذه الأدواءِ ومعالجتِها، ولا بد من استشعارِ المسئوليةِ، والسعي لمحاصرةِ هذه الظواهرِ السيئةِ، فالأمنُ مسئوليتُنا جميعًا، والحفاظُ على مكتسباتِ البلاد وصونِ الحُرمات شعارُنا وهدفُنا جميعًا، وما لم يشعر كلُّ فردٍ منا بالأذى الواقع على غيره، كما لو أن الأذى وقع عليه أو على قريبه، فما حققنا الأخوَّةَ بيننا، ومفهومُ المواطنةِ الصالحةِ مختلّ في سلوكياتنا. وهنا وفي سبيلِ المعالجةِ لهذه الظواهر وأمثالِها - وفوقَ ما سبقَ - أُشيرُ إلى

بعض الآراءِ والمقترحاتِ، وعسى الله أن ينفعَ بها، ويُعينَ كلَّ صاحبِ مسئوليةٍ على القيامِ بمسئوليته، فخيرُ الناسِ أنفعُهم للناس، ومن دعا إلى هدًى كان له من الأجرِ مثلُ أجورِ من عملَ به إلى يومِ القيامة، ومن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الوِزرِ مثلُ من عمل به .. ومن يهدِ الله فهو المهتدِ، ومن يُضلل فلن تجدَ له وليًّا مرشدًا .. اللهم انفعنا بالقرآنِ وسنةِ خيرِ الأنام، أقولُ ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: أيها المسلمون: إن من أولوياتِ طرقِ العلاج لأيِّ مظاهرَ سلوكيةٍ منحرفةٍ تقويةَ الوازعِ الديني، وذلك عبرَ المنهجِ الدراسي المُطبق، وعبرَ وسائلِ الإعلامِ المقروءةِ والمرئيةِ والمسموعة، عبر المحاضرةِ الجيدة، والندوةِ المشتركة، وعبر توجيهاتِ الآباء والأمهاتِ. ثانيًا: ولا بد من العنايةِ بأوقاتِ الفراغِ لدى الشبابِ والفتياتِ، وملؤها بما ينفعُ الفردَ ويخدمُ المجتمعَ، ويساهمُ في رُقيِّ الأمة، وإضافةً إلى المؤسساتِ القائمةِ بتوفير فرصِ العمل للخريجينَ والخريجاتِ يُطالبُ القطاعُ الخاصُّ والشركاتُ والمؤسساتُ بمزيد فتح الفرصِ للراغبينَ في العملِ من أبناء البلدِ، دعمًا لهم ماديًّا ومساهمةً في مزيدِ تأهيلهم للمسئوليةِ مستقبلًا. ثالثًا: وإذا قيل هذا عن العمل، فنحتاجُ إلى مزيد فرصٍ تحتضنُ الشبابَ وتهيئُ لهم من البرامج الهادفةِ ما تُستثمرُ به أوقاتُ فراغِهم من جانبٍ، وتبني فيهم الخيريّةَ والإنتاجيةَ من جانبٍ آخر. وفوقَ ما للمؤسسات الحكوميةِ والجمعياتِ الخيرية - هنا - من جُهدٍ مشكورٍ، فوزارةُ العَملِ والشئونِ الاجتماعية مؤهلةٌ لأن تزيدَ من فاعليتها ومشاركاتها لخدمة الفتيانِ والفتياتِ عبرَ برامجَ اجتماعية هادفةٍ، وعبر محاضنَ يُشرفُ عليها أهلُ خبرةٍ وصلاح، تُعلّمُ الأخرقَ مهنةً، وتُعنى بتدعيمِ روابطِ الأسرة، وتوفرُ وسائلَ للترويحِ النافع، وتُعنى بصقلِ مواهبِ الشباب على مدى العام لتكملَ ما تقومُ به المراكزُ الصيفية في أوقاتِ الصيف. رابعًا: وحين لا تستوعبُ الجامعاتُ قبولَ جميع الخريجين، أو لا يكون بعضُ الخريجينَ من الثانويةِ قادرًا على مواصلةِ تعليمه الجامعي، فهل تُعنى

الجامعات بتوفيرِ دوراتٍ تؤهلُ للعمل وتمنحُ دبلوماتٍ أو شهاداتٍ تهيئُ الفردَ للعيشِ الكريم هنا أو هناك، حتى لا يبقى أعدادٌ من الشبابِ عالةً على المجتمعِ وقد تضطرُّهم الحاجةُ إلى أمورٍ لا تُحمد عُقباها! . خامسًا: وهل يُفكرُ كذلك - وفي سبيلِ معالجةِ عدم توفرِ الوظائف للخريجين - بإيجاد مراكزَ للتجنيدَ والتدريب، يقضي الشابُّ فيها فترةً من الزمنِ، ويتقاضى خلالها مرتبًا يسدُّ حاجتَه وحاجةَ من يَعُولُ، ويُنظم خلالها محاضراتٌ وندواتٌ تُسهمُ في توجيه الشبابِ ومزيدِ تربيِتهم وجدِّيتِهم، ويكون هؤلاء المدُربونَ جنودًا أوفياءَ للحفاظِ على مُقدراتِ البلدِ وحرماتِه عند الاقتضاء. سادسًا: ومع ما تقومُ به وزارةُ الشئون الإسلاميةِ من جهودٍ في التوعيةِ والدعوة .. إلا أننا في زمنِ العولمةِ وحربِ الفضائياتِ نحتاجُ إلى مزيدٍ من الدعوةِ والتوعية لتعمَّ المدنَ والقرى، وتُخاطبَ المرأةَ كما تخاطبُ الرجل، وتستخدمَ تقنياتِ العصرِ لمزيدِ الفاعليةِ واتِّساعِ حجمِ التأثير. سابعًا: وتعليمُ البنين والبناتِ حَريٌّ كذلك بمضاعفةِ التوعية، والعنايةِ بتطبيقِ معاني ومفاهيم المناهج الدراسية، وألا تكون المهمةُ الحفظَ للمقرراتِ والنجاحِ أو الرسوب في نهايةِ كل فصل .. بل يكون للقيمِ التربوية، والنواحي السلوكيةِ التطبيقيةِ قدرٌ كبيرٌ من الاهتمام، وهنا اقتراحٌ لطيفٌ يقضي بوجودِ مقررٍ خاصٍ برعايةِ الآدابِ والسلوكيات في المرحلةِ المتوسطةِ والثانوية، يُفرَدُ بالتأليف ويُخاطبُ العقلَ والعاطفةَ عن قيمةِ الأخلاقِ والآدابِ والسلوكياتِ الإسلامية، ويحذرُ من أضدادِها. وحين يكون الحديث عن التوعيةِ فلا بد أن تُعنى القطاعاتُ الأمنيةُ بهذا الجانب، إذ ليست مهمتُها محصورةً في القبضِ على المجرمين .. بل يَنبغي أن تُقدِّمَ التوعيةَ عبر المطويةِ الجيدةِ، والإحصائيةِ الدقيقةِ المُحذِّرة، وعبرَ البرامجِ

الإعلاميةِ المتكاملةِ، وعبر الملصقاتِ ذاتِ العباراتِ الهادفة .. فالوقايةُ خيرٌ من العلاج .. وذلك جانبٌ لم يَنَلْ من العنايةِ ما يستحقُّ في نظري. ثامنًا: وأنتم أيها الآباء وأيتها الأمهات، تحمّلوا مسئوليتكم كاملةً عن أولادِكم، وتنافسوا في تربيتهم وأدبهم، بدلَ أن تتنافسوا في تأمينِ كلّ ما يطلبونَ، حتى وإن كان على حسابِ المجتمع .. بل ربما كان على حسابِ حياتهم هم، فكم أهلكَ الطيشُ من فتى، وكم للثراءِ من آثارٍ سيئةٍ إذا لم يُستثمَر. تاسعًا: وأنتم معاشرَ الشبابِ الملتزم، ما هو دورُكم في استصلاح من انحرفَ أو بَدَتْ عليه أماراتُ الانحرافِ من الشباب؟ هل تنكفئونَ على أنفسكم، أم ترونه يكفي أن تختلطوا وترحلوا مع أمثالكم؟ أم ترونَ لإخوانكم الآخرين من الشبابِ حقًّا عليكم في النصحِ والتوجيه وحُسنِ المعاشرة والدعوةِ بالحسنى؟ فذلك ميدانٌ رحبٌ للمساهمةِ والدعوةِ والإصلاح. عاشرًا: وعلى وزارةِ الإعلامِ مسئوليةٌ عُظمى في صياغةِ عقلياتِ الشباب، بل المتجمع كلِّه، عبرَ برامجَ هادفةٍ .. تخاطبُ الرجلَ والمرأةَ، والصغيرَ والكبيرَ، تؤصِّلُ التربيةَ الإيمانيةَ وتزرعُ الخوفَ من الله، تحذرُ من الجريمة، وتُثرِّبُ على المجرمين، وتُثمِّنُ القدوةَ الصالحةَ، وتجري مقابلاتٍ مع الخيِّرين .. لقد آنَ الأوانُ لأن يُنظَرُ في البرامجِ المقدَّمةِ، ويُقترحَ برامجُ جديدةٌ تتناسبُ والمرحلةَ الحاضرةَ والمستقبلية. عبادَ الله: إنها باختصارٍ مسئوليتُنا جميعًا أمامَ اللهِ أولًا .. وأمامَ المجتمعِ، فنحن جميعًا في مركبةٍ واحدة، والعطبُ في جانبٍ من جوانبها يؤدي إلى غرق الجميع لا قدَّرَ اللهُ .. إنها ظواهرُ غريبةٌ، ومؤشراتٌ مخيفةٌ، تستحقّ منا كلَّ عنايةٍ وتعاون، واللهُ تعالى أمرَنا أن نتعاونَ على البرّ والتقوى، وحذَّرنا من السلبيةِ، وضربَ لنا أمثلةً في نجاةِ الذين ينهونَ عن السوء، وأخبر أن خيْريَّتَنا

مشروطةٌ بالأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر. وأولئك هم خيارُ الناسِ .. وأولئك همُ المفلحونَ .. وأولئك هم المؤمنون .. ألا فتآمَروا بالمعروفِ وتناهَوْا عن المنكرِ، وليستشعر كلُّ مسئولٍ وكلُّ وليٍّ دورَه في الإصلاحِ والتوجيه. وهنا وفي نهايةِ الحديثِ ألتفتُ لمن بُلي بشيء من الجرائم، صغُرت أم كبُرت لأقول له: اتق الله يا أخي في نفسك وفي المجتمعِ من حولك .. كم تخسر ويخسرُ الناسُ من حولك بكلِّ جريمةٍ تتلبَّسُ بها .. ومهما ظننتَ أنك تنجو من عقابِ الدنيا فاعلم أن عقابَ اللهِ لك بالمرصادِ إن لم تتبْ إليه - تُبْ إلى الله .. وإذا لم ترضَ أن يُؤذي الناسُ أهلَك أو يعتدوا على شيءٍ من مقدراتك وأموالِ أهلك، فكذلك الناسُ .. كم فيك من خصالِ الخير .. لكنك استجبت حين مارستَ الجريمةَ لنزغاتِ الشيطان، فتعوَّذ باللهِ منه وخُطَّ لنفسك مسارًا آخرَ تجدْ السعادةَ وتجد الراحةَ والطمأنينة.

العدل وفقه الائتلاف

العدل وفقه الائتلاف (¬1) الخطبة الأولى: الحمدُ لله ربِّ العالمين، أمرَ بالعدلِ والإحسانِ، ونهى عن الفحشاء والمنكرِ والبغي يعظكم لعلَّكم تذكَّرون، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، حَكمٌ عدلٌ ولا يظلمُ ربُّك أحدًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، جاءه الوحيُ من ربّه بالعدل، فقام به في نفسِه ومع الناس من حولِه، فشاعَ في الكون كلِّه العدلُ بعد الظلمِ، والإنصافُ بدل الإجحافِ .. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬3). عبادَ الله: كلُّنا يُحبُّ العدلَ ويرغبُ أن يُعامَلَ به .. ولكننا نخطئُ أحيانًا في التعاملِ مع غيرِنا بالعدل، فنظلمُ ونعتدي ونبخسُ الناسَ أشياءَهم .. بل قد نظلمُ أنفسَنا، وقد نشعر بذلك أو لا نشعرُ .. فما هو العدلُ؟ وكيف يكون مع النفس ومع الناسِ، ومع اللهِ؟ ما العدلُ في القول، وما العدلُ في الفعلِ؟ لماذا نظلمُ؟ وما السبيلُ للعدلِ؟ وكيف نعدلُ مع الصديقِ والعدوِّ، والقريبِ والبعيدِ؟ بل ومع ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 29/ 4/ 1422 هـ. (¬2) سورة لقمان، الآية: 33. (¬3) سورة التوبة، الآية: 119.

المسلم والكافرِ؟ ما هي آثارُ العدلِ؟ وماذا من نماذجِ العدلِ تضيءُ لنا الطريقَ؟ أيها المسلمونَ: بالعدل قامت السماواتُ والأرضُ، وبالعدلِ أمرَ اللهُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} (¬1). وأوصى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (¬2). وبالعدل ألزم ربُّنا في التحاكم والحكم: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (¬3). أجل إن العدلَ سمةٌ مميزةٌ لشريعتِنا عاشَ في كنفِها البرُّ والفاجرُ، والمسلمُ والكافرُ - كلُّ هؤلاء بالعدلِ يُحكمونَ ولا يُظلمون، حتى وإن أبغضَنا الكافرَ فنحن مأمورونَ بالعدل معه، ذلك توجيه ربِّنا في كتابه العزيز: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (¬4). قال ابنُ تيميةَ رحمَه اللهُ: وهذه الآيةُ نزلت بسببِ بُغضهم للكفارِ، وهو بُغضٌ مأمورٌ به، فإذا كان البغضُ الذي أمرَ اللهُ به قد نُهيَ صاحبُه أن يَظلمَ من أبغضَه، فكيف في بُغض مسلمٍ بتأويلٍ وشبهةٍ أوبهوى نفس؟ فهو أحقُّ أن لا يُظلم، بل يُعدل عليه (¬5). إخوةَ الإسلام: ونحنُ مأمورونَ بالعدل مع ربِّنا، ومع أنفسِنا ومع الناس ممن حولَنا، فكيف نحققُ هذه المقاماتِ الثلاث من العدلِ؟ قال العلماءُ: أما العدلُ بين العبد وربِّه فبامتثال أوامِره، واجتنابِ نواهِيه، وبين العبدِ وبين نفسِه فبمزيدِ الطاعاتِ وتوقِّي الشُّبهاتِ والشَّهواتِ، وبين العبد وبين غيره بالإنصاف (¬6). ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 90. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 152. (¬3) سورة النساء، الآية: 58. (¬4) سورة المائدة، الآية: 3. (¬5) منهاج السنة 5/ 127. (¬6) أبو بكر ابن العربي، نقله ابن حجر في الفتح 10/ 589.

يا أخا الإيمانِ: ألستَ تُحبُّ من الآخرين أن ينصفوكَ، فعلام تظلمهم ولا تعدلُ معهم؟ أولستَ تشيدُ بالعدلِ وتمدحُ المنصفينَ، فكيف تظلمُ وتجورُ وتتجاوزُ وتبخس؟ إن العدلَ مؤشرٌ على سموِّ النفس، ومعالي الأخلاق، وكم نتحدثُ بألسنتنا عن العدلِ، ولكن الامتحانَ في المعاملةِ والأخلاقَ تكذبُ المرءَ أو تصدقه فيما ادّعاه. لقد فاقَ المسلمون في تاريخنا المجيدِ غيرَهم في العدل وتجاوزوا بعدلِهم أهلَ الملةِ من المسلمين إلى أهلِ الذمةِ من اليهود والنصارى، ويُذكر أن عمرَ بنَ عبد العزيز رحمه اللهُ كتب إلى واليهِ على البصرةِ يقول له: «ثم انظر مَن قِبَلَكَ من أهل الذمةِ قد كَبُرَت سِنُّه، وضعُفت قوتُه، وولَّت عنه المكاسبُ، فأجْرِ عليه من بيتِ مالِ المسلمين ما يُصلحُه، وذلك أنه بلغني أن أميرَ المؤمنين عمرَ رضي الله عنه مرّ بشيخ من أهلِ الذمةِ يسألُ على أبواب الناسِ فقال: ما أنصفناك، أن كُنّا أخذنا منك الجزيةَ في شبيبتك ثم ضيَّعناك في كِبرك، ثم أجرى عليه من بيتِ المال ما يصلحه» (¬1). فإذا أنصفَ أسلافَنا أهلَ الذمة، أفنعجزُ عن إنصافِ أهلِ الملَّةِ؟ إن في حياتنا ممارساتٍ خاطئةً لا تستقيمُ مع العدل، ولا تسيرُ مع الإنصاف، ففي الخصوماتِ يظلم بعضُنا خصمَه، ولربما أخذ حقًّا ليس له، ولكن بقوة حجتِه وكذبه أو بشراءِ ذممٍ وشهداءِ زورٍ، وويل لمن اقتطع حقّ غيرِه بدون حقٍّ، وما زالَ رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم يُحذرُ من شهادةِ الزور وقولِ الزور حتى تمنّى الصحابةُ رضي الله عنه لو سكت! ¬

(¬1) أحكام أهل الذمة لابن القيم، تحقيق صبحي الصالح 1/ 38.

وفي تقويمنا للرجالِ المخالفينَ لنا في الرأي يقعُ ظلمٌ ونفقدُ العدلَ والإنصافَ، والويلُ لمن اتَّهم رجلًا بما ليس فيه .. أو لبَّسه لبوسًا لم يلبسه، وإذا كانت أموالُ إخواننا علينا حرام إلَّا بحقِّها، فكذلك أعراضُهم حرامٌ علينا هتكُها بغير حقٍّ .. كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ، دمُه ومالُه وعرضُه. عبادَ الله: ونحن مأمورونَ بالعدلِ مع أولادنا والرسولُ صلى الله عليه وسلم يقول: «اتقوا اللهَ واعدِلوا في أولادِكُم» (¬1). فهل نعدلُ بينهم في المنِحَ والأُعطياتِ، وأساليبِ التعاملِ في الحياة، أم يوجدُ فينا من يُغدِقُ على بعضِ الأولادِ ويحرمُ إخوانًا لهم آخرين، وكأنهم ليسوا من بنَيهِ .. أفلا يتقِ الله أولئك الآباءُ الجائرون! وقد جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليُشهده على صدقةٍ له لبعض بنَيهِ، فقال له: «أفعلت هذا بولدِك كلِّهم؟ ». قالَ الرجل: لا، فقال الرسولُ صلى الله عليه وسلم: «فلا تُشهدْني إذن، فإني لا أشهدُ على جَوْرٍ». وفي روايةٍ أنه قال له: «أيسرُّك أن يكونوا إليك في البِر سواءٌ؟ ». قال: بلى، قال: «فلا إذن» (¬2). أيها المسلمونَ: ونحن مأمورونَ كذلك بالعدلِ مع أهلنا وأزواجنا، وكم يقعُ على النساء من ظلمِ بعض الرجال، وقد يصلُ الحالُ إلى أن تكونَ المرأةُ كالمعلَّقة، فلا هي مطلقةٌ بإحسانٍ لتبحثَ عن غيرِه، ولا هي ممُسَكةٌ بمعروفٍ فتؤدّى إليها حقوقُها بالعَدلِ والإحسان، وويلٌ للرجلِ يستغلّ قوتَه وقدرتَه فيظلمُ المرأةَ ويبخسُ حقوقَها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لنا جميعًا: «فاتقوا اللهَ في النساءِ، فإنكم أخذتموهنَّ بأمانِ اللهِ، واستحللتم فُروجَهُنّ بكلمةِ اللهِ» (¬3). ¬

(¬1) متفق عليه، جامع الأصول 11/ 617. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه مسلم، جامع الأصول 3/ 465.

إخوةَ الإسلام وثمةَ ممارساتٌ خاطئةٌ لا تقومُ على العدلِ والإنصافِ مع زملائنا في العملِ بتفضيلِ بعضِهم على بعضٍ في الأُعطياتِ أو الترقياتِ أو نحوها، ومع مكفولينا في العملِ مع إخواننا الوافدينَ بتحمِيلهم في العمل ما لا يطيقون أو ببَخسِ حقوقِهم حين يعملون. عبادَ الله: ومن كمالِ شريعتِنا وعدلِ إسلامِنا أنه أمرَ بالعدلِ والإحسان إلى البهائم، فلا تُحَمّلُ ما لا تطيقُ، ولا تُضربُ فتؤذَى بلا حاجةٍ، ولا تُجاعُ حتى يلحقَ ظهرُها ببطنِها .. ومن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه مرّ ببعيرٍ قد لحقَ ظهرُه ببطنِه، فقال: «اتقوا اللهَ في هذه البهائمِ المُعجمةِ، فاركبوها صالحةً وكُلوها صالحةً» (¬1). ومن تحذيراته صلى الله عليه وسلم عن ظلمِ البهائمِ والحيواناتِ قولُه: «دخلتِ امرأةٌ النارَ في هِرّةٍ ربطَتْها، فلا هي أطعمَتْها، ولا هي أرسلتها تُرمرِمُ من خشاشِ الأرضِ حتى ماتت هَزْلًا» (¬2). ألا فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعدلوا مع أنفسِكم ومع غيرِكم، فذاك أمرُ الله لنبيِّكم: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} (¬3). وتلك وصيتُه إليكم: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (¬4). اللهم إنا نسألكَ العدلَ في أقوالِنا وأفعالِنا، مع أنفسِنا ومع غيرنا. ¬

(¬1) أخرجه أبو داود وسنده حسن جامع الأصول 4/ 528. (¬2) أخرجه مسلم برقم (2619)، جامع الأصول 4/ 526. (¬3) سورة الشورى، الآية: 15. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 152.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لله جلَّ شأنُه وتقدَّستْ أسماؤه، ولا إلهَ غيرُه، ولا معبودَ بحقٍّ سواه، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، والداعي إلى رضوانِه صلى الله عليه وعلى إخوانه وآلهِ. أيها المسلمونَ: صحّ عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه أنه قال: ما في القرآنِ آيةٌ أجمعَ لحلالٍ وحرامٍ، وأمرٍ ونهي من هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (¬1). فهل نأتمرُ بهذه الآيةِ العظيمةِ يا عبادَ الله؟ ! فنقيمُ حياتَنا على العدلِ، وننهى أنفسَنا عن الفحشاءِ والمنكرِ والبغي؟ إن من مظاهِرِ العدلِ قبولَ الحقِّ ممن جاءَ به، فالعِبرةُ بالقولِ لا بالقائل، وفي قصةِ الشيطانِ مع أبي هريرة رضيَ الله عنه حين وكَّله الرسولُ صلى الله عليه وسلم بحفظِ زكاةِ رمضانَ، ومجيء الشيطانِ إليه أكثرَ من مرةٍ حتى علّمه أن يقرأَ آيةَ الكرسي إذا أوى إلى فراشِه، وأنه بذلك يكونُ محفوظًا من الله، ولا يقربُهُ شيطانٌ حتى يُصبحَ، في هذه القصةِ صدّقَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم القولَ وإن صدرَ من الشيطانِ حيث قال: «أما إنه قد صدقَك وهو كذوب» (¬2). ومن فقهِ هذا الحديثِ وفوائدِه - كما قال ابنُ حجرٍ رحمَه اللهُ -: «أن الحكمةَ قد يتلقّاها الفاجرُ فلا ينتفعُ بها، وتُؤخذُ عنه فيُنتفَعُ بها، وأن الكافرَ قد يَصدقُ ببعض ما يَصدقُ به المؤمنُ ولا يكون بذلك مؤمنًا، وبأن الكذّاب قَد يَصدُقُ» (¬3). وفي هذا الصددِ يُذكرُ من وصايا ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قولُه لرجل قال له: أوصني ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 90. ابن حجر: الفتح 10/ 479. (¬2) رواه البخاري برقم (2311). (¬3) الفتح 4/ 616. ح (2311).

بكلماتٍ جوامع، فكان مما أوصاه به أن قال: ومن أتاكَ بحقٍّ فاقبلْ منه وإن كان بعيدًا بغيضًا، ومن أتاك بالباطلِ فاردُدْه، وإن كان قريبًا حبيبًا (¬1). إننا حين نفقدُ هذا الميزانَ في قبولِ الحقِّ قد نرفضُ حقًّا، لأنه جاء من شخصٍ نبغضُه أو لا نهواه، أو لا نرتضي منهجَه بشكلٍ عام، علمًا بأن قبولَ الحقِّ الذي جاءَ به لا يعني موافقتَه في كلّ شيءٍ ولا الرضا عنه فيما يخطئُ فيه، وقد يضطرنا هذا الخللُ في العدلِ في قبولِ الحقّ ورفضِ الباطل .. لقبولِ زلّةِ خطأٍ من شخصٍ نُحبُّه ونرتضي منهجَه علمًا بأن رفضَنا لهذه الزلَّةِ والخطأ منه، لا يعني بُغضَه ولا الانتقاصَ من قَدْرِه، ولا رفضَ بقيةِ الحقِّ الذي جاء به. إنه العدلُ الذي ينبغي أن نأخذَ أنفسَنا به، ونتمنى به أن يُجريَ اللهُ الحقَّ على ألسنتِنا وألسنةِ خصومنا، وكم هو عظيمٌ الإمامُ الشافعيُّ رحمَه اللهُ حين قال: «ما ناظرتُ أحدًا إلا قلتُ: اللهمّ أجرِ الحقَّ على قلبهِ ولسانِه، فإن كان الحقُّ معي اتبعَني، وإن كان الحقُّ معه اتبعتُه» (¬2). وأين هذا يا مسلمونَ ممن يتمنونَ انحرافَ خصومِهم، أو يرمون مخالِفيهم بالباطل، ويتهمونهم، وينفِّرونَ الناسَ منهم، وهم مسلمون، بل قد يكونون علماءَ، وقد يكون ما معهم من الحقِّ أكثرَ من خصومِهم، فإلى اللهِ المشتكى، وكم يتلاعبُ الشيطانُ أحيانًا ببعض المحبينَ وكم يُخطئُ هؤلاء وينسفونَ قواعدَ العدلِ وهم يَحسبونَ أنهم يُحسنونَ صنعًا، وكم نظلمُ أنفسَنا ونظلمُ غيرَنا بتصنيف هذا، وتجريح ذاك، واتهام ثالثٍ وإشعالِ معاركَ وهميةٍ بين نفرٍ من المسلمين، الكاسبُ الأولُ والأخيرُ منها هم الأعداءُ المتربِّصون - والخاسرُ الأكبرُ هم ¬

(¬1) الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم 4/ 586 عن كتاب «فقه الائتلاف»، محمود الخزندار ص (98). (¬2) عن فقه الائتلاف ص 104.

المعتدون الفاقدون للعدلِ والإنصاف .. وإن كانت الخسارةُ تَعمُّ والفتنةُ تقعُ على المسلمين! وأين نحنُ من هذا الموقفِ البديع والعدلِ حتى مع غير المسلمين .. يقدمه لنا شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ بسلوكه العمليِّ، فهو حين سعى بإطلاق سراحِ أسرى المسلمين من التتارِ أصرَّ كذلك على إطلاق سراحِ المأسورينَ من أهلِ الذمةِ قائلًا لمسئول التتر: «بل جميع من معك من اليهودِ والنصارى الذين هم أهلُ ذمّتِنا، فإنّا نفكُّهم ولا ندعُ أسيرًا لا من أهلِ الملَّةِ ولا من أهلِ الذمة» (¬1). فإذا أنصفَ هذا العالمُ الربانيُّ وعدَلَ مع غير المسلمينَ، وكان سببًا لفكّ أسرِهم، فماذا يقولُ من يسعى للوقيعةِ بإخوانِه المسلمين ويتمنّى الضُّرَّ لهم بشكلٍ أو بآخر؟ ! إن للعدلِ - يا عبادَ اللهِ - آثارًا إيجابيةً على الفردِ والمجتمعِ والأمة، وفي الدنيا والآخرة يَشهدُها القائمونَ بالعدل، وتُنبئُ عنها تجاربُ الأفراد والأمم، وقد قال العالِمون: «إن الله يقيمُ الدولةَ العادلةَ وإن كانت كافرةً، ولا يقيمُ الظالمةَ وإن كانت مسلمةً» (¬2). عبادَ الله: ويبقى السؤالُ الأخيرُ: ما السبيل للعدل؟ وكيف نسلك بأنفسِنا للعدل؟ إن تأمُّلَ آياتِ الكتابِ العزيزِ في العدلِ كفيلةٌ بأن تربّى النفوسَ على العدل، وكذا ما في هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم من نماذج العدلِ كلُّها نصوصٌ تأخذُ بالنفوسِ نحوَ العدل، ومساكينُ من يقرءون القرآنَ ثم هم يظنون أن المخاطَبَ غيرُهم، ومما يُسهمُ في العدلِ أن يتذكرَ المسلمُ أن العدلَ سببٌ للسعادةِ في الدنيا والآخرة، ¬

(¬1) حياة شيخ الإسلام، محمد بهجت البيطار ص 15، عن الرسالة القبرصية، فقه الائتلاف/ 47. (¬2) ابن تيمية الفتاوى 28/ 146.

وأن الظلمَ ظلماتٌ في الدنيا والآخرة، وأن الظالمَ قد تُعجَّلُ له العقوبةُ في الدنيا، وقد ينتصرُ المظلومُ عليه وهم أحياء. ألا يظن المفرطونَ في العدلِ أنهم مبعوثونَ ليومٍ عظيم؟ ألا يخشى الظالمونَ المعتدونَ يومًا عبوسًا قمطريرًا؟ أم تراهم ينسونَ ويذرونَ وراءهم يومًا ثقيلًا؟ إن من دواعي العدل أن يشعرَ المرءُ أنه يحبُّ من الناسِ أن يأتوا إليه ما أحبّ، أفلا يأتي إليهم بالذي يحبون؟ ! ألسنا جميعًا نكرهُ من يعتدي على أموالنا أو أعراضِنا .. أو يخدشُ في كرامِتنا .. أو يشكِّكُ في مصداقيتنا ظاهرًا وتُوكَل سرائرنا إلى اللهِ .. فلماذا نكره ذلك لأنفسنا ولا نكرهه للآخرين؟ أيها الناسُ: ورياضةُ النفس وتدريبُها على العدلِ ممكنةٌ، وما زال العقلاءُ بأنفسِهم حتى ألجموها بلجامِ العدلِ، وروّضوها على المعالي، وأدَّبوها مرةً إثرَ مرةٍ، حتى غدا العدلُ سجيّةً لها، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (¬1) وكُلنا يعلمُ أن أحدَ السبعةِ الذين يُظلهمُ اللهُ في ظلِّه يَومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه إمامٌ عادلٌ. وهكذا إخوةَ الإسلام نروِّضُ أنفسَنا على العدلِ ونحنُ نرجو ثوابَ اللهِ ونخشى عقابَه .. وما أسعدَ من يسهمونَ في ملءِ الأرض عدلًا .. وما أنكدَ حياةَ من يسعونَ لملئها جورًا. اللهم ارزقنا العدلَ في أقوالِنا وأفعالِنا مع من أحببنا ومع من لم نُحب. ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 69.

فقه الائتلاف

فقه الائتلاف (¬1) الخطبة الأولى: إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرور أنفسِنا ومن سيئات أعمالِنا، ومن يهدِه الله فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، أشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه .. اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعينَ ومن تَبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬2)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬3). عبادَ الله: كان الحديثُ في الجمعةِ الماضية عن جوانبَ من العدلِ، وكم نحن بحاجةٍ إلى مزيد الحديث في مثل هذه المواضيع. ولئن كان الحديثُ كثيرًا عن أدبِ الخلاف - والحاجةُ تدعو لمثل ذلك - فثمةَ حديثٌ عن فِقه الائتلاف .. والحاجةُ لذلك داعيةٌ إليه وأكثر، وكيف لا، والأصلُ في أمةِ الإسلام الائتلافُ لا الاختلاف، والاجتماعُ لا الفرقة والتنازع {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (¬4). أيها المسلمونَ: إن من قواعدِ الائتلافِ إنصافِ عامةِ المسلمينَ وخاصتِهم .. فكيف السبيلُ لهذا الإنصاف؟ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 6/ 5/ 1422 هـ. (¬2) سورة المائدة، الآية: 35. (¬3) سورة التوبة، الآية: 119. (¬4) سورة الأنبياء، الآية: 92.

إن مما لا شك فيه أن المسلمين - قديمًا وحديثًا - يتفاوتون في مراتبِ الإيمان؛ فهناك من هُم في الذروة من الإيمانِ، وهناك من هم في أدنى درجات الإيمان، وهناك طائفةٌ في الوسط بين هؤلاء وأولئك، ولكن الجميع تجمعهم رابطةُ الإسلام، وحسابُهم على الله، وما لم يخرجِ المسلمُ من الملةِ، فإن له حقًّا في الموالاةِ على قدرِ إيمانِه. وما من شك كذلك أن الفِرقةَ الناجيةَ من خيرةِ المسلمين، وهم أهلُ السُّنةِ والجماعةِ الذين قالوا وعملوا بالكتابِ والسُّنة. ولكن دائرةَ المؤمنين تتسعُ لتشملَ غيرَ الفرقةِ الناجيةِ من عُصاة المسلمين ومن وُجدَ عندهم نوعُ انحراف .. لكنهم في دائرةِ الإسلام .. وهذا ما نص عليه الشيخُ ابنُ تيميةَ رحمَه اللهُ حين قال: «وإذا قال المؤمنُ: ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، يَقْصدُ كلّ من سبقَه من قرونِ الأمةِ بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويلٍ تأوَّلَه فخالف السُّنةَ، أو أذنب ذنبًا، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخلُ في العموم، وإن كان من الثنتين والسبعين فرقةً، فإنه ما من فرقةٍ إلا وفيها خلقٌ كثيرٌ ليسوا كفارًا، بل مؤمنون فيهم ضلالٌ وذنبٌ يستحقونَ به الوعيدَ كما يستحقُّه عصاةُ المؤمنين» (¬1). إخوةَ الإسلام وفي سبيلِ الائتلاف بين المسلمين أرشدَ العلماءُ إلى عددٍ من القواعدِ والآدابِ لا بد من مراعاتِها والوقوفِ عندها، ومنها: 1 - أنهم لا يُخرجونَ مسلمًا من الملَّةِ إلا بتوفُّر الشروط وانتفاءِ الموانع. 2 - ويرون أن الخطأ في الحكمِ بالإيمان أهونُ من الحكمِ بالكفر. 3 - وهم يتحفظونَ ويتحوَّطونَ أكثر عند تكفيرِ فردٍ بعينِه أو لعنِه. ¬

(¬1) منهاج السنة 5/ 240، 241، عن فقه الائتلاف (186).

4 - بل ولا يتسرعونَ في التكفيرِ، وإن خطّأوا أو بَدَّعوا أو فَسّقوا. 5 - وفي مسائلِ الاجتهاد يرونَ أنه لا تأثيمَ ولا هُجران. 6 - وإذا لزمَ الهجرُ، فإنما هو للتأديبِ لا للإتلافِ، وللشفاءِ لا للقتل. 7 - وهو يرون الأخذَ بالظاهر، واللهُ يتولى السرائرَ، ويرون إجراءَ الأحكام على ظاهرِ الناس لا على القناعاتِ القلبية، وفي هذا يقول الشاطبيُّ رحمه الله: «فإنَّ سيدَ البشر صلى الله عليه وسلم مع إعلامِه بالوحي يُجري الأمورَ على ظواهِرها في المنافقين وغيرِهم، وإن علِمَ بواطنَ أحوالهم» (¬1). أيها المؤمنونَ: ومما يعينُ على الإنصافِ ويحققُ الائتلافَ، ألا تكون الموالاةُ والمعاداةُ خاضعةً للانتماءِ والحزبيةِ الضيِّقة، والطائفةِ والقرابةِ والهوى، بل تكون المولاةُ للحقّ ومع أهلِ الحقِّ .. والمعاداةُ للباطل وأهلِ الباطل .. مهما كان قربُهم وبعدُهم وانتماؤهم، وهنا يُنبِّه ابنُ تيميةَ على صنفٍ يغضبونَ أو يَرضون لا بقصد أن تكونَ كلمةُ الله العليا، وأن يكونَ الدينُ كلُّه لله، بل يغضبون على كلِّ من خالفهم، وإن كان مجتهدًا معذورًا - لا يغضبُ الله عليه - ويرضونَ عمن كان يوافقهم، وإن كان جاهلًا سيِّئَ القصد، فيُفضي هذا إلى أن يَحمدوا من لم يَحمدْه اللهُ ورسولُه، ويَذموا من لم يَذمَّه اللهُ ورسُولُه وتصير موالاتُهم ومعاداتُهم على أهواءِ أنفسِهم، لا على دين الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم (¬2). إن من أخطائنا - أننا نسرفُ في الثناءِ على من أحببنا - أو نُسرفُ في الذمّ، بل الهجوم أحيانًا على من أبغضْنَا وخالفْنَا، وقد يكون لهذا الذي أحببنا أخطاءُ ونغُضُّ الطرفَ عنها، وقد يكون لهذا الذي أبغضنا حسناتٌ وإيجابياتٌ غَمطناه ¬

(¬1) الموافقات 2/ 271، عن «فقه الائتلاف» (199). (¬2) منهاج السنة 3/ 64.

حقَّه فيها ولم ننصِفْه في ذِكرها، والوسطيةُ منزلةٌ بين الغلوِّ والجفاء، ولهذا قال العلماء: «وإذا اجتمع في الرجل الواحدِ خيرٌ وشرٌّ، وفجورٌ وطاعة، وسُنةٌ وبدعة، استحقّ من الموالاةِ والثوابِ بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداةِ والعقاب بحسبِ ما فيه من الشر، فيجتمعُ في الشخص الواحد موجباتُ الإكرام والإهانةِ، فيجتمعُ له من هذا وهذا كاللصّ الفقيرِ تُقطع يَدُه لسرقتِه، ويُعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته» (¬1). أيها العلماءُ والدعاةُ وطلبةُ العلم: وأنتم قدوةٌ لغيركم في تحقيق الائتلاف وردمِ فجواتِ الاختلاف وآثارِها السيئة وإذا كان الخلافُ واردًا في بعضِ مسائل العلم، وفي عددٍ من الاجتهادات والأمور الفرعية، فينبغي أن يبقى حبلُ الودِّ متصلًا، فالخلافُ في الرأي لا يُفسد للودِّ قضيةً - كما يُقال - وإذا كان الصحابةُ رضوان اللهِ عليهم قد اختلفوا في بعض المسائلِ الاجتهادية - فميزتُهم أنهم كانوا مع ذلك أهلَ مودةٍ وتناصح، ومع تنازعهم في مسائلَ علميةٍ اعتقاديةٍ إلا أنهم حافظوا على بقاءِ الجماعةِ والأُلفة .. كما قررَ ذلك العلماءُ كالشاطبيِّ وابن تيميةَ وغيرِهم (¬2). أما أنتم معاشرَ العَوامَ: فلا تظنوا أن الاختلافَ بين العلماء في بعض المسائلِ مؤشرٌ للشرور والفساد، بل قد يكون الاختلافُ رحمةً وتوسعة، ومن فقه عمرَ بنِ عبد العزيز رحمه الله قولُه: ما يَسرُّني أن أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قولٍ فخالفهم رجلٌ كان ضالًا، وإذا اختلفوا فأخذ رجلٌ بقول هذا، ورجلٌ بقول هذا كان في الأمر سَعةٌ (¬3). ونقل ابنُ تيميةَ أن رجلًا صنَّف كتابًا سماه «كتابَ الاختلاف» فقال الإمام ¬

(¬1) الفتاوى لابن تيمية 28/ 209. (¬2) الموافقات 4/ 186، الفتاوى 19/ 123. (¬3) الفتاوى 30/ 80.

أحمدُ: سمِّه «كتاب السعة» (¬1). ومع ذلكَ كلِّه فعلى العلماءِ والدعاةِ وطلبةِ العلم والوعاظِ والمربين أن يسعوا إلى التأليف واجتماع الكلمة، ولو كان ذلك بترك فعلِ المستحبّات - أحيانًا - إذ أن مصلحةَ التأليفِ وجمعَ القلوبَ أولى وأعظمُ من فعل المستَحبّ أحيانًا، وفي هذا يقول شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمَه اللهُ: «ويستحبُّ للرجل أن يَقصدَ إلى تأليفِ القلوبِ بترك هذه المستحباتِ، لأن مصلحةَ التأليف في الدين أعظمُ من مصلحةِ فعل مثلِ هذا، كما ترك النبيُّ صلى الله عليه وسلم تغييرَ بناءِ البيت، لما في إبقائه من تأليف القلوبِ، وكما أنكر ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه على عثمانَ رضي الله عنه، إتمام الصلاةِ في السفر، ثم صلى خلفه مُتِمًّا، وقال: الخلافُ شرٌّ» (¬2). وليس فقيهًا مَنْ فَرَّق المسلمين بفعل سنةٍ، لأنه أخلّ بواجبٍ؛ ولهذا كان الشيخُ رحمَه اللهُ يرشدُ الأئمةَ إلى جمع كلمة الجماعة ولو تنازلَ عن بعض ما يراه ويقول: «ولو كان الإمامُ يرى استحبابَ شيءٍ، والمأمومونَ لا يستحبونه، فترَكه لأجل الاتفاق والائتلاف كان قد أحسن» (¬3). ¬

(¬1) الفتاوى: 14/ 159، فقه الائتلاف (27). (¬2) الفتاوى 22/ 407. (¬3) الفتاوى 22/ 268.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لله ربِّ العالمين، أشهدَ نفسَه وملائكتَه وأولي العلمِ على وحدانيتِه وقيامِه بالقسط، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له يُحبُّ المقسطين، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، جاءت شريعتُه محقِّقةً للعدل، داعيةً للمودةِ والائتلاف، وناهيةً عن الفرقةِ والشقاقِ والتباغضِ، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. عبادَ الله: ومن قواعدِ الائتلاف استيعابُ المخالِفِ واستمالتُه للحقِّ بهدوءِ العبارة وحُسن المجادلةِ، وفتحِ الفرصِ المناسبةِ للحوار البنّاء، والوصولِ إلى نتائجَ طيبةٍ، أجل إن الله عز وجل وجَّه رسولَه صلى الله عليه وسلم في الحوار مع المشركين أن يقولَ لهم: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬1). فالرسولُ صلى الله عليه وسلم على يقينٍ أن ما عليه هو الحقُّ، وما عليه المشركونَ باطلٌ، ولكنه أسلوبٌ من أساليبِ الحوار يُستمالُ به الخصمُ للحقِّ، ولا يقطعُ الطريقَ عليه لأول وَهْلَةٍ .. وإذا أخطأنا في أساليبِ الحوارِ مع إخواننا المسلمين، ولم نُعطِ أيَّ فرصةٍ لإبداء وجهةِ نظرِ الطرف الآخرِ، فعلينا أن نقرأ في السيرة النبوية وسنجدُ فيها أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يحاورُ رمزًا من رموز الجاهليةِ ووَتًدا من أوتادِ قريش قال له: «قُل يا أبا الوليدِ أسمعْ». ولا يُبادرُه بسهام الحقِّ - وهو الأعلى - حتى يقولَ له: «أفرغتَ يا أبا الوليد؟ ». إنه ليس ضعفًا ولا تزلُّفًا ولا نفاقًا، وإنما الرغبةُ في استمالته ودعوتِه للحقِّ .. وقد كان شيءٌ من هذا .. ودخل في نفس الوليدِ شيءٌ من عظمةِ محمد صلى الله عليه وسلم وعظمةِ القرآن، حتى قالت قريش: والله لقد جاءكم الوليدُ بغير الوجهِ الذي ذهب به. ¬

(¬1) سورة سبأ، الآية: 24.

إنها مَلَكةُ الحكمةِ في الدعوة، والمهارةُ في الحوار، والقدرةُ على الإقناع، وليست سفسطةً، ولا جدلًا عقيمًا، أو ترفًا فكريًّا .. ففرقٌ بين هذا وذاك! ! أيها المسلمون: ومما يعين على الائتلاف التحذيرُ من الباطل دون التصريح بالمبطِلين، إلا إذا دعتِ الحالُ للتصريح، ذلك أن التعريفَ بالضلال تعرية لأهلِه، وقد يعودُ صاحبُ الضلالِ إلى الحقِّ إذا لم يُشهَّرْ به، والعلماءُ يقولون: ليس كلّ ما يُعلم مما هو حقٌّ يُطلبُ نشرُه .. لا سيما إن كان نشرُه يثيرُ فتنةً. ومن سُبلِ التأليف مخاطبةُ الناس بما ينفعُهم وعلى قدر عقولِهم، وفي هذا يقول عليٌّ رضي الله عنه: «حدِّثوا الناسَ بما يعرفون، ودعوا ما ينكرونَ، أتحبونَ أن يُكذَّبَ اللهُ ورسولُه». وعن ابن مسعود رضي الله عنه: «ما من رجلٍ يُحدّثُ قومًا حديثًا لا تبلُغه عقولُهم، إلا كان فتنةً لبعضهم». ويُعدد الغزاليُّ من وظائفِ المعلم المرشِد: أن يقتصرَ بالمتعلِّم على قدْر فهمِه، فلا يُلقى إليه ما لا يبلُغه عقلُه فيُنفِّره، وكذلك قيل: كِلْ لكلِّ عبدٍ بمعيار عقلِه، وزنْ له بميزانِ فَهمِه، حتى تسلمَ منه وينتفعَ بك، وإلا وقعَ الإنكارُ لتفاوتِ المعيار (¬1). على أن مما يوقعُ في الفرقةِ والخلافِ التعالمُ والتبجحُ بذكر المسائل العلميةِ لمن ليس من أهلِها، أو ذكرُ كبارِ المسائل لمن لا يحتملُ عقلُه إلا صغارَها، فمثلُ هذا يوقعُ في مصائبَ ونفرةٍ وخلافٍ؛ كما قررَ أهل العلم (¬2)، فليحذر منه. أيها المسلمون: ومن قواعدِ الائتلاف الإنصافُ بالموازنةِ بين المصالحِ والمفاسدِ، فإسلامُ كافرٍ على يد مبتدعٍ أولى من بقاءِ الكافر على كفرِه. وتوبةُ فاجرٍ بسماعه أحاديثَ ضعيفةٍ خيرٌ من بقائه على فجوره. ¬

(¬1) الإحياء 1/ 55، 56. (¬2) الموافقات للشاطبي 1/ 87.

والصلاةُ خلفَ المبتدِع أولى من ترك الجماعةِ، بل يُستعانُ بالمبتدِعةِ في تحصيل واجبٍ أعظم، وتُحتملُ مفسدةُ بدعتِهم، وكذلك أخذَ السلفُ بعضَ الأحاديث عن أهل بدعةِ القَدَرِ في البصرة حين لم يجدوها عند غيرهم من أهل السُّنة، بعد موازنَتهم بين هجر الرواية عنهم زجرًا لهم عن بدعتهم وبين مصلحة حفظِ السّنةِ، وقررَ هذا ابنُ تيمية بقوله: «فلو تُرك روايةُ الحديثِ عنهم لاندرسَ العلمُ والسننُ والآثارُ المحفوظةُ فيهم». بل رتبَ على ذلك قاعدةً عامةً ومهمةً قال فيها: «فإذا تعذَّرَ إقامةُ الواجباتِ من العلم والجهاد وغيرِ ذلك إلا بمن فيه بدعةٌ مضرتُها دون مضرةِ ترك ذلك الواجب، كان تحصيلُ مصلحةِ الواجبِ مع مفسدةٍ مرجوحةٍ معه خيرًا من العكس» (¬1). إخوةَ الإسلام: ومما يُسهمُ في الائتلاف بين المؤمنين قابليةُ التنازلِ لمصلحة الجماعةِ، وإن كان المتنازلُ أحقَّ من غيره، وفي أحدِ غزواتِ المسلمين (ذات السلاسل)، أمّرَ عليهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم عمرو بنَ العاصِ رضي الله عنه، ثم بعثَ له مددًا من المهاجرين فيهم أبو بكرٍ وعمرُ، وأمَّر عليهم أبا عبيدةَ ابنَ الجراح رضي الله عنه، فلما وصلَ المددُ قال عمرو: أنا أميرُكم، فقال المهاجرون: بل أنت أميرُ أصحابِك، وأميرُنا أبو عبيدةَ، فقال عمروٌ: إنما أنتم مدَدٌ أُمددتُ بكم، فلما رأى ذلك أبو عبيدةَ - وكانَ رجلًا حسنَ الخُلُق، ليّنَ الشيمة، متبعًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحبًا للتأليفِ والجماعة - سلَّمَ الإمرةَ لعمرو وجمعَ الكلمة (¬2). عبادَ الله: وحين يُوصي العلماءُ والدعاةُ وطلبةُ العلم بالحرصِ على الائتلاف ودفع الاختلاف بكلِّ وسيلة، فلا يعني ذلك تميعَ الدين أو السكوتَ عن الحقِّ ¬

(¬1) الفتاوى 28/ 212، فقه الائتلاف/ 248. (¬2) ترجمة أبي عبيدة في سير أعلام النبلاء 1/ 5 - 23.

وكشفِ الباطل .. لكنه الأدبُ في الاختلاف والسعيُ بكلِّ وسيلةٍ للائتلاف، وكم هو رائعٌ أن يدفعَ العلماءُ مفسدةَ فتنةِ العامة، بإظهارِ الوُدّ وتقديرِ بعضهم لبعض، وعدم التنازعِ على مشهد من الناس، ومما يُذكر في ذلك أن الإمام أحمدَ وإسحاقَ وعبدَ الرزاقِ خرجوا إلى المصلي في عيدِ الفطر، وكان أحمدُ وإسحاقُ يَرون سُنيةَ التكبير لعيد الفطر، بينما لا يرى عبدُ الرزاق سنيةَ التكبير إلا في عيدِ الأضحى، ولكن ما الذي حصل في المصلَّى؟ لم يكبر أحمدُ وإسحاقُ مراعاةً لاجتهاد عبدِ الرزاقِ، وعبدُ الرزاق عجبَ من عدم تكبيرِهما وقال: لو كبَّرتما لكبَّرت معكما، مداراةً لاجتهادهما، ودفعًا لفتنةِ العَوَام (¬1). وهكذا يحرصُ العلماءُ على توحيد المواقف أمامَ الناس، وإن اختلفت اجتهاداتُهم في بعض المسائل. ويُوصي العلماءُ وطلبةُ العلم - كذلك - في سبيلِ الائتلاف ودفع الاختلافِ والفرقةِ بالسكوتِ أحيانًا عن بعض المسائلِ غير المألوفةِ، لاسيما إذا كان الخلافُ فيها جاريًا، ونشرُها بين الناس يُحدثُ فتنةً لبعضهم، وهنا يرشدُ الشاطبيُّ رحمه الله إلى ضابطٍ لعرض المسائلِ الشرعيةِ المثيرةِ ويقول: «وضابطه أنك تَعرضُ مسألتَك على الشريعةِ، فإن صحّت في ميزانِها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حالِ الزمانِ وأهلِه، فإن لم يؤدِّ ذكرُها إلى مفسدة فاعرِضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلكَ أن تتكلمَ فيها، إما على العمومِ، إن كانت مما تقبله العقولُ على العموم، وإما على الخصوص، إن كانت غيرَ لائقةٍ بالعموم، وإن لم يكن لمسألتِك هذا المساغُ فالسكوتُ عنها هو الجاري على وفقِ المصلحةِ الشرعية والعقلية» (¬2). ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 12/ 214 - 221 ترجمة محمد بن رافع. (¬2) الموافقات 4/ 191 عن فقه الائتلاف، محمود الخزندار/ 247.

ومع هذه الوصايا للعلماءِ والدعاةِ وطلبةِ العلم يوصَى عوامُّ المسلمين وغيرُ المتفقهين منهم بالثقةِ بأهل العلم، وتوسيع المداركِ، وعدمِ العجلةِ بإصدار الأحكام، وعدمِ الفرحِ بالخلاف يقع بين العالِمَيْن، وبعدم التشكُّك في شيء من دين اللهِ، إذ الخلاف يقعُ في فروعِ الدين لا في أصولِه، وقد يكون في هذا الاختلافِ رحمةٌ وسَعَةٌ، وحين يقعُ التنازلُ فلا بد من ردِّه إلى اللهِ ورسولِه وإلى ورثةِ الأنبياء عليهم السلام. عبادَ الله: كم نحن بحاجةٍ جميعًا إلى الفقه في الدِّين، ذلك الفقه الذي يجمعُ ويؤلفُ ويهدي ويرشدُ، وكم نحن بحاجة إلى أن نبلُغَ بدينِنا ما بلغ الليلُ والنهارُ .. دون أن نهدرَ شيئًا من طاقاتنا في الوقيعة والخلاف بين المسلمين .. وإنني بهذه المناسبة أوصي بقراءة كتابٍ نافعٍ جامع - كذا أحسبُه واللهُ حسيبنا جميعًا - هذا الكتابُ صدر مؤخرًا بعنوان «فقه الائتلاف - قواعدُ التعامل مع المخالفين بالإنصاف» ومؤلفه محمود محمد الخزندار وهو من مطبوعات دار طيبة في الرياض - أسألُ اللهَ أن يجزلَ المثوبةَ لمؤلفِه وأن ينفع به، وأن يعلِّمنا جميعًا ما ينفعُنا، وأن ينفعَنا بما علَّمنَا.

الخطر المتجدد

الخطر المتجدد (¬1) الخطبة الأولى: الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، مكّنَ لدينه الحقَّ، ونصرَ أولياءَه أصحابَ الحقِّ رَغم جحودِ الكافرين، وخَبَثِ المنافقين، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، الدينُ عندَه الإسلامُ، ومن يَبتغِ غيرَ الإسلام دينًا فلن يُقبلَ منه وهو في الآخرة من الخاسرين، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، جاءت رسالتُه وكتابُ ربِّه مصدِّقًا لما بين يَديهِ من الكتابِ ومُهيمنًا عليه، وبالدعوة والجهادِ ارتفعتْ رايةُ الإسلامِ، وخاب المشركون .. اللهم صلّ وسلّم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلينَ، وارضَ اللهّم عن الصحابةِ أجمعين والتابعين ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬3). عبادَ الله: تُهدِّد الأمةَ الإسلاميةَ في الماضي، وما تزال تُهدِّدها في الحاضر عِدّةُ مخاطرَ من ذواتِ أنفسِها متمثلةً في هوى الأنفُس وضعفِها وكيدِ الشيطان ووسوستِه، ومن داخل صفِّها متمثلةً في إرجافِ المنافقين، ومطامعِ المنتفعين وجهْل الجاهلين، ومن خارج دائرتِها، وذلك بحرب اليهود والنصارى، وعداوةِ المناوئين كافةً للإسلام والمسلمين، وسأقصرُ حديثَ اليوم على طائفةٍ من هذا ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 11/ 5/ 1421 هـ. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬3) سورة الحشر، الآية: 18.

النوع الثالثِ من الأعداء .. بات يتسلّلُ في بلاد المسلمين وغيرِها، ترعاه دولٌ كبرى، ويتخذُ من الهيئاتِ والمنظماتِ العالمية غطاءً لتنفيذ المخطّطات بعد رسم السياساتِ، وما يعجزُ عنه بالسياسة والتنصير يُستخدمُ له أسلوب القوة والقتل والتهجير. إنه الخطرُ النصرانيُّ واجهَ المسلمين في زمن النبوةِ، وما زال يواجُههم حتى اليوم، ولكنّ نارَه تخبو على صيحاتِ جهادِ المسلمين وفي زمن قوتِهم، ثم لا تلبثُ أن تتأجّجَ في مراحل ضعفِ المسلمين وتفرُّقهم، وغياب قادتِهم. أجل؛ لقد اعترف النصارى وغيرُهم من أهل الكتاب بصدقِ رسالةِ محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن معظمَهم كتمَ الحقَّ وعارضَه، وصدَق وَعْدُ الله فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬1). وعظيمُ الروم (هرقل) كان واحدًا من هؤلاء الذين اعترفوا بالإسلام وبصدْق محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقد جمع عظماءَ الروم في دَسكرةٍ له بحمص وقال لهم: هل لكم في الفلاح والرُّشد، وأن يثبت ملكُكم فتبايعوا هذا النبيَّ .. وهو الذي قال لأبي سفيان رضي الله عنه - بعد حواره معه -: «وقد كنتُ أعلم أنه خارجٌ .. فلو أني أعلمُ أني أخلُص إليه لتجشَّمتُ لقاءَه، ولو كنتُ عندَه لغسلتُ عن قدمِه» (¬2). ومع ذلك كلِّه آثرَ (هرقلُ) ملكَه ولم يُسلِم، بل جهّز الجيشَ وأعدّ العُدّةَ لقتال المسلمين، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قيد الحياةِ، وكانت غزوةُ (مؤتَة) التي استُشهد فيها عددٌ من المسلمين وفي مقدّمتهم أمراءُ المسلمين الثلاثةُ - واحدةً من المعارك بين الإسلام والنصرانيةِ، ومن كيدِ النصارى للمسلمين. ثم استمرَّ الكيدُ في زمن الخلفاءِ الراشدين، وكانت معركةُ اليرموكِ من أعنفِ ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 146. (¬2) رواه البخاري في بدء الوحي.

المواجهاتِ مع النصارى، ولكنّ المسلمين أبلَوْا فيها بلاءً حسنًا، حتى تم النصرُ لهم. وعجِبَ النصارى من تفوّق المسلمين عليهم، وقال هرقلُ لمنهزمةِ الروم: ويلَكُم أخبروني عن هؤلاءِ القومِ الذين يُقاتلونكم، أليسوا بشرًا مثلَكم؟ قالوا: بلى، قال: فأنتم أكثرُ أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثرُ منهم أضعافًا في كلِّ موطنِ. قال: فما بالُكُم تنهزمون؟ قال شيخٌ عظيمٌ منهم: من أجلِ أنهم يقومونَ الليلَ ويصومونَ النهارَ، ويوفونَ بالعهدِ، ويأمرون بالمعروفِ وينهون عن المنكرِ، ويتناصفون بينَهم، ومن أجل أنّا نشربُ الخمرَ، ونزني، ونركبُ الحرامَ، وننقضُ العهدَ، ونغضبُ ونظلِمُ ونأمرُ بالسّخطِ، وننهى عما يُرضي اللهَ، ونُفسدُ في الأرضِ، فقال هرقل: أنتَ صدقتني (¬1). وكذلك حين يَصدقُ المسلمون مع أنفسِهم ويتمسّكوا بإسلامهم يُنصَروا. إخوة الإسلام: واستمرتِ الجبهةُ النصرانيةُ في زمن الدولةِ الأمويةِ والعباسيةِ من أشدّ جبهاتِ الأعداءِ في مواجهةِ المدِّ الإسلاميِّ، ولم يتمكّنِ المسلمون من نشرِ دينِ اللهِ في ممالِك النصارى وغيرِها إلا بعد أن قدّموا عددًا من الشهداءِ، وتناثرتِ الجُثثُ في البَرِّ والبحر، والويلُ للمسلمين حين يَظفرُ بهمُ النصارى، وفي زمن عمر بن عبد العزيز رحمه الله - مثلًا - يروى أنه أرسل سريةً إلى بلد الروم وفيها ثلاثةُ إخوةٍ من أشعِ الناسِ، فقتَلوا في الروم مَقتلةً عظيمةً، ثم إنهم أُسروا ثلاثتُهم، وعَرضَ عليهمُ الملكُ التنصّرَ فأبَوْا، فأحرقَ اثنين واستبقى واحدًا وأعطاه لبعض بطارقتِه لينصِّرَه، فأسلم به هو وزوجتُه وولدُه، فَخَدّ لهمُ الملكُ - لما سمع بهم - أُخدودًا وطرحهم فيه، فأماتَهُم اللهُ عز وجل قبل أن يَصلوا إلى النار (¬2). ¬

(¬1) ابن كثير: البداية والنهاية 7/ 17. (¬2) رواه الضحاك في «تفسيره» كما نقل مغلطاي في «السيرة» وانظر: ابن حبيش: الغزوات الضامنة 1/ 39، والزهر الباسم/ 273.

ثم استمرتِ المناوشاتُ بين المسلمين والنصارى قرونًا متطاولةً، وكانت الحروبُ الصليبيةُ ضد المسلمين من أعتى هذه الحروبِ وأوسَعِها نِطاقًا، وذلك يومَ أن دعتِ البابويةُ - في أوروبا - لشنّ حربٍ على المسلمين تثأرُ بها الكنيسةُ الغربيةُ لما حلَّ بالعالمِ النصرانيِّ من خسائرَ نتيجةَ حركةِ الفتح الإسلاميِّ، ودخولِ أصقاعٍ وأممٍ في دين الإسلام. وفي هذه الحملاتِ الصليبيةِ تحرّك رجالُ الكنيسةِ، وبرزَ نشاطُ القساوسةِ والرُّهبانِ، واجتمع إليهم الساسةُ الأوربيون، كلُّ ذلك في سبيل إثارةِ العواطفِ ودفْعِ النصارى إلى التضحية بكلّ ما يملكون في سبيل القضاءِ على الإسلام والمسلمين، وقد عبّر عن حقيقةِ الأهدافِ الدينيةِ في هذه الحروبِ مؤرخو الغربِ، وقال أحدُهم: هذه المشاعرُ التي حرّكتِ النصرانيةَ للقيام بالحروب المقدسةِ لم يكن هدفُها القتالَ من أجل ممالكَ أرضيةٍ، بل في سبيل مملكةِ السماء (¬1). ولكنّ الله هيأَ للمسلمين قادةً صالحين، لم يقعد بهم نَسبُهم غيرُ العربيِّ عن مواصلةِ ما ابتدأه إخوانُهم من قَبلهم، فكان في العنصر التركيِّ والكردي والتركماني رجالٌ أوفياءُ لقّنوا الصليبيين دروسًا لن ينسَوْها، وبثُّوا في المسلمين رُوحَ الجهاد حتى خلَّصوا بلادَ ومقدساتِ المسلمين من سيطرة الصليبيين. وظلّ النصارى محتفظين بحقدِهم على الإسلام والمسلمين، وما زالوا يُخطِّطون للقضاء على وِحدةِ المسلمين، حتى تمّ لهم ما أرادوا حين قضوا على الخلافةِ الإسلاميةِ، وفرّقوا المسلمين على شكل دويلاتٍ تفصِلُها الحدودُ ¬

(¬1) انظر مقال: د. عبد الله الربيعي، الدوافع الدينية للحركة الصليبية، الإطار التاريخي للحركة الصليبية، من منشورات: اتحاد المؤرخين العرب/ 1416.

المصطنعةُ، وتخالِفُ بين شعوبها القومياتُ والنعراتُ الوافدةُ، وأصبح كلُّ حزبٍ بما لديهم فَرِحون. وفي ظلِّ هذه الأجواءِ كان الاستعمارُ يحكمُ عددًا من بلاد المسلمين، ولا تسأل عما خلّفه من فسادٍ في القيمِ والأخلاقِ، والتصوراتِ والمعتقداتِ، وسياساتِ الإعلام والتعليم والاقتصادِ، وحين كان الساسةُ الغربيون يُفسدون النُّظُمَ ويُشرّعون القوانينَ، كان إلى جانبهم رجالُ الدّينُ يُنصِّرون ويَنصبون الخيامَ للدعوة لتعاليم المسيح - كما يزعمون. وفوق ذلك كلِّه، فقد كانَ للنصارى دورٌ واضحٌ في زرعِ اليهودِ في أحضانِ العالمِ الإسلامي، ومنذُ وعدِ (بلفور) إلى يومنا هذا، وحواضرُ النصارى تدعمُ الوجودَ اليهوديَّ؛ لتكون قوةً مساندةً لهم في حربِ المسلمين، وقد كان. إنها سلسلةٌ من المكائد والحروبِ يَشهدُ بها التاريخُ على حقد النصارى وتعصُّبهم ضدَّ المسلمين، وكفى باللهِ شهيدًا، وبالقرآن حكمًا والله يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (¬1)، لا يستثنى من ذلك إلا من آمنَ منهم ولم يستكبر عن قَبول الحقِّ، أولئك الذين عناهم اللهُ بقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (¬2). وأشار إليهم بقوله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 120. (¬2) سورة القصص، الآيتين: 52، 53.

فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} (¬1). إلى غير ذلك من نصوصٍ جاءت في مُؤمنةِ أهلِ الكتابِ الذين استجابوا للهِ والرسولِ. أما سواهم فقد جاء التحذيرُ الإلهيُّ عن موالاتِهم وحاكمًا على من وَالاهم، فقال تعالى مخاطبًا أهلَ الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (¬2). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآيات: 82 - 84. (¬2) سورة المائدة، الآيتين: 51، 52.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لله ربِّ العالمين، من توكّلَ عليه كفاهُ، ومن يعتصم بالله فقد هُديَ إلى صراطٍ مستقيم، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، اقتضت حكمتُه أن يتدافعَ الحقُّ والباطلُ في الأرض إلى يوم الدين، ليميزَ اللهُ الخبيثَ من الطيبِ، ويجعلَ الخبيثَ بعضَه على بعضٍ فيركُمُه جميعًا فيجعلُه في جهنم، أولئك هم الخاسرون، وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، نصر اللهُ به الحنيفيةَ السّمحاءَ، وجاءت رسالتُه متممةً لرسالاتِ السماء، وجاء بُنيانُه مكمِّلًا لبنيان الأنبياءِ قبلَه - وعليه وعليهم جميعًا أفضلُ الصلاةِ وأزكى التسليم. إخوة الإيمان: وحين أسوقُ لكم باختصارٍ نماذجَ للكيد النصرانيِّ ضد الإسلام والمسلمين، لا يفوتني أن أذكرَ بأن كيدَ النصارى سابقٌ لبعثةِ محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا لا يَرْضوْنَ بوجود دينٍ ينافسُ دينَهم، ولو كان دينُهم - هم - محرّفًا، ولو كان الدّينُ الذي ينافسُهم عبادةَ الأوثان، ولا يَرضوْن بقوم ينافسونهم على السِّيادة، ولو كانوا قِلّةً بجانب كثرتِهم هم، وكفرةً وثنيين، وهم يزعمون الإيمانَ ويتشبّثون بالدِّين، وفي قصة الفيلِ - التي جاء ذكرُها في القرآن - وغيره عبرةٌ وعِظةٌ - لمن تأمّل - في تاريخ النصرانية والنصارى. وقد جعل كيدَهم في تضليل، وحفظ بيتَه من عَبثِ النصارى، وأرسل عليهم طيرًا أبابيلَ، ترميهم بحجارةٍ من سِجيل، فجعلهم كعصفٍ مأكول. وكانت الحادثةُ إيذانًا بعدم صلاحية النصارى لقيادة العالم، وإرهاصًا لبعثةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ لتكون الكعبةُ المحفوظةُ قِبلتَه، وليكون العربُ المنتصرون قومَه ورجالَه، واستجاب اللهُ دعاءَ عبد المطلب - زعيمِ قريشٍ حينها: لاهُمّ إنّ العبدَ يمنعْ ... رَحْلَه فامْنَعْ رِحالَكْ

لا يَغلبنَّ صليبُهم ... ومِحالُهُم أبدًا مِحالَكْ إخوة الإسلام: ولا يقولنّ قائلٌ - حين يسمعُ مكائدَ النصارى -: ذاك تاريخٌ مضى، وهم اليوم يمثِّلون التسامحَ، ويَرعونَ التحضُّرَ في العالم، وتلك - وربِّي - نظرةُ تغفيلٍ تؤكّدُ الوقائعُ المُرَّةُ خلافَها، وتَشهدُ مخططاتُ النصارى للحاضرِ والمستقبلِ بنقيضها، ودونكم الحقائقَ عن حركاتِ التنصير في العالم فاعقِلوها واعتبروا بأحداثها. يقول المنصّرُ الألمانيُّ (هانز): لم يحدثْ أن اتفقت الكنائسُ واتّحدتْ إلا في هذا العصرِ الذي اتخذ فيه الجميعُ خطةَ تنصير المسلمين أُقنومًا رابعًا يُضاف إلى الأقانيم الثلاثةِ التي تقومُ عليها عقيدتُنا نحن المسيحيين (¬1). ومن التنظير إلى التنصير الفعلي حيث يَسري قطارُ النصرانيةِ من أقصى الشمالِ إلى أقصى الجنوبِ، ومن مَغْرِب العالم الإسلاميِّ إلى أقاصي المشرق، وينتقل (بابا) الفاتيكان من أفريقيا إلى آسيا، داعمًا حركةَ التنصيرِ، ويقول البابا بولس الثاني - حين قام بثالث رحلةٍ لأفريقيا خلال خمسة أعوام-: إنه يأملُ أن يُرسي قواعِدَ الكنيسةِ الكاثوليكيةِ الرومانيةِ ضدَّ النهضةِ الإسلاميةِ المتزايدِة في القارة (¬2). وفي باكستانَ الدولة المسلمة يزورُ البابا (جون بول الثاني) كراتشي، بل ويُقيم (القُدّاسَ) في إستادها الرياضي، فماذا يعني ذلك؟ إنه التحدي لمشاعرِ المسلمين، والهجومُ الصارخُ على معاقلِ الإسلامِ (¬3). ¬

(¬1) عبد الودود شلبي: حقائق ووثائق عن الحركات التنصيرية في العالم الإسلامي ص 5. (¬2) المرجع السابق (14). (¬3) المرجع السابق ص 79.

ولعلَّكم تعجبون، بل تستغربون إذا علمتم أنّ في ماليزيا وحدها ما يَقرُبُ من خمس مائة منظمةٍ تنصيرية (¬1). إخوة الإيمان: ولكنَّ أمْرَ النصارى في واقعهم المعاصرِ أدهى من ذلك وأمَرُّ، فهم لا يكتفون بالدعوة السلميةِ ومحاولةِ تنصير الشعوبِ المسلمةِ وغيرِ المسلمةِ، بل يستخدمون القوةَ إذا شعروا بتفوّق المسلمين وأحسُّوا بيقظتهم، وفي أحداثِ الصربِ النصارى مع مسلمي البوسنة والهرسك، وما جرى في كوسوفا ويجري الآن في الشيشان، كلُّ ذلك وأمثالُه يُعدُّ وحشيةً يَنْدَى له جبينُ الإنسانية، وتُعدُّ نقاطًا مظلمةً تُسوَّدُ بها صحائفُ التاريخِ النصرانيِّ؟ واليوم تحدثُ مآسي في إندونيسيا ذاتِ الكثافةِ السكانيةِ المسلمةِ، ولم يكتفِ النصارى - ومن ورائهم الغربُ - بفصل (تيمور الشرقية) بل يتحركُ النصارى في جُزرٍ أخرى - على حين غفلةِ المسلمين عن إخوانهم - فيقتلون ويطردون المسلمين عن ديارهم. عبادَ الله: إن هذا الكَيدَ النصرانيَّ يؤكِّد - إلى جانبِ تعصُّبِ النصارى - يقظةُ المسلمين، فتلك اليقظةُ مقلقةٌ لعُبّاد الصليب، وحين نسوق نماذجَ لكيدهم لا ينبغي أن يداخلَنا شكٌّ في أن الغلبةَ للإسلام والمسلمين مستقبلًا، ولكن ينبغي أن تنشأ عندنا - معاشرَ المسلمين - تساؤلاتٌ، وتصحّحَ لنا مفاهيمَ خاطئةً، ومن بين هذه التساؤلات: وماذا يثير فينا هذا النشاطُ النصرانيّ المكثفُ من غيرةٍ لدين اللهِ وحماسٍ للدعوة للدين الحقِّ؟ ! وما هي برامجُ وخططُ المسلمين حاضرًا ومستقبلًا لمواجهة المدِّ النصراني الذي يحاولُ إعادةَ الاستعمار بطريقةٍ أخرى؟ وهل يُدرك العالمُ الإسلاميُّ خطورةَ السكوتِ على مخططاتِ الغربِ في اقتناصِ ¬

(¬1) المرجع السابق ص 66.

العالم الإسلاميِّ وحدةً وحدة، حتى يستحوذَ عليهم في النهاية أجمعين؟ ! إن الوعي بالخطر النصراني خطوة أولى، ولا بد أن تتبعها الخطوة الأخرى في الأعداد والعمل ولا بد - ثالثًا - من الصدق والصبر والمجاهدة حتى يأذن الله بالنصر إن على أيدينا أو على أيدي أبنائنا وأحفادنا. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (¬1) «ولينصرن الله من ينصره» .. اللهم انصر دينك وعبادك الصالحين، واجعلنا وذرارينا من أنصار دينك يا رب العالمين، اللهم اجعل كيد الكائدين في نحورهم، واجعل تدبيرهم تدميرًا عليهم يا حي يا قيوم. ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 69.

الجزء التاسع

شعاع من المحراب الجزء التاسع إعداد د. سليمان بن حمد العودة

بسم الله الرحمن الرحيم

شعاع من الحراب

مظاهر وملاحظات في الإجازة الصيفية

مظاهر وملاحظات في الإجازة الصيفية (¬1) الخطبة الأولى: الحمدُ لله يُقلِّبُ الليلَ والنهار، إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، كلَّ يومٍ هو في شأنٍ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه خيرُ من صَلَّى وصام وحَفِظَ الجوارح .. واستثمرَ الزمان .. اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسَلين وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعينَ، والتابعينَ ومن تَبِعَهم بإحسان. أُوصِي نفسي وإياكم معاشرَ المسلمين بتقوى الله، وتلك وصيةُ الله للأولينَ وللآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (¬2). أيها المسلمون: ونحنُ الآنَ في نهايةِ الامتحاناتِ الطلابية وعلى أبوابِ الإجازة الصيفية .. بِمَ يُفكِّر الناس؟ وما هي أمَانيُّهم، وما مخطَّطاتُهم لهذه الإجازة، وكيف يُستثمرُ الوقتُ فيها؟ ما هي الملاحظاتُ والأمورُ التي يَحسُن التنبُّهُ لها والتذكيرُ بها؟ بِمَ يُفكِّر الشبابُ .. وكيف يُخطِّط الأولياءُ، وما هي جهودُ العلماءِ والدعاةِ وطلبةِ العِلم؟ وما أثرُ المؤسساتِ التربويةِ والقطاعاتِ الحكوميةِ في حماية الفضيلةِ ومحاصرة الرذيلة، والتقليلِ من نِسَبِ الجرائمِ في كلِّ حين، ولاسيَّما في الإجازةِ حيثُ الفراغُ، والتجمُّعاتُ والسَّهَراتُ والسفرياتُ وما ينتج عنها؟ عددٌ من التساؤلاتِ تَرِدُ، وعددٌ من المسؤولياتِ تُهمَل أو تُغفَل وبكل حالٍ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 10/ 3/ 1422 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 131.

فما أن تنتهيَ الامتحاناتُ وتُعلَنَ النتائجُ إلا وتبدأ المشاريعُ العائلية .. ولكلٍّ وِجْهةٌ هو مُولِّيها .. وبين يَدَي هذه المشاريعِ أُذكّرُ بالنِّقاطِ التالية: 1 - استحضارُ عَظَمةِ الله وتقديمُ أمره، والخوفُ من عقابِه قبل الإقدام على أيِّ مشروعٍ عائليّ، سواءٌ احتاجَ إلى سفر، أم كان داخلَ البلد وفي حدودِ الإقامة. 2 - نذكِّرُ الأولياءَ لمسؤوليَّتِهم في الرعايةِ والقِوَامةِ، فكلُّكم راعٍ وكلُّكُم مسئولٌ عن رعيتِه .. وفَرْقٌ بين وليٍّ يُخطِّط ويستشيرُ أهلَه وأولادَه بالأصلَح .. وبين وليٍّ يُخطَّط من ورائه ويكون دورُه دورَ المنفِّذِ والمُنفِقِ لا أكثر؟ 3 - وعلى الشبابِ والفتياتِ والأُمّهات أن يتذكَّروا قيمةَ الأعمار وأهميةَ استثمارِ الأوقات، وسرعةَ الآجال، وكثرةَ المنايا، فلا يأمروا أهليهم وأولياءَهم إلا بالخير .. ولا يُرهِقوهم بنفقاتٍ تضرُّهم ولا تنفعُهم، وتَحرِفهم ولا تهديهم سبيلًا. 4 - وعلى المؤسَّسات التربويةِ والقطاعاتِ الحكوميةِ أن تقومَ بمسؤوليتها خيرَ قيام، وأن تخططَ للبرامجِ النافعة قبل أن يحزِمَ الناسُ أمتعتَهم للسفر فلا يلتفتون إلى برامجِهم، وربما لم يعلموا بما لديهم إلا بعدَ عودتهم من سفرهم. أيها الناس: وثَمّةَ مظاهرُ بدأت تنتشرُ بين الناسِ في الإجازة .. وأُنبّه إلى شيءٍ منها - وأكتفي بخمسٍ أو ستٍّ منها: 1 - السهر .. وتلك ظاهرةٌ لها مخاطرُها الصحية والأمنيةُ والخُلُقية .. كم يجري في بعض السَّهَراتِ من صَخَبٍ ومنكراتٍ تتقطع قلوبُ الغيورين لها بمجرَّد سماع أخبارِها .. وكم رُزِئت عوائلُ وخُدشت كرامةُ بعضِ أَفرادِها بسبب هذه السهراتِ الصاخبة. وحتى السهراتِ العائلية التي تَطُول إلى قرب الفجرِ، ثم ينام القومُ عن صلاة

الفجر حتى يخرجَ وقتُها، تلك سهراتٌ نَصَبَ الشيطانُ فيها رايتَه، وهل يسهرُ أولئك على طول قيامٍ أو تلاوة قرآن؟ وأين نحنُ من قومٍ قال اللهُ عنهم: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (¬1). لقد رحلوا عنّا وقَدِموا إلى ما قدّموا - وخَلَفت من بعدهم خُلوفٌ أضاعوا الصلاةَ واتبعوا الشهواتِ. 2 - أما السفرُ فهو سبيلٌ للتنفيس والترويحِ عن النفسِ والتأمُّلِ في كون الله الفسيح .. ولكنَّ المحظورَ حين يكونُ السفرُ مجاوزًا للحدودِ المشروعة، به تُهدَر الأموالُ وتُهدَر معها الكراماتُ، ويَضعُف الحياءُ، وتقلُّ الرقابةُ لله، ومن الفُهومِ الخاطئةِ عن بعض الناس أنه يَحِلُّ لهم في السفرِ ما لا يحلُّ لهم في الإقامة، أو شعورُ بعضهم بالخوفِ من الناس أكثرَ من خوفِهم من ربِّ الناس ... ! ومن المخاطرِ التي قد لا يتنبه لها بعضُ الأولياء السفرُ للخارج في بيئاتٍ تؤثرُ بشكلٍ أو بآخرَ على السلوكيات، وربما على المعتقَدَات. وضَعْفُ الرقابةِ في السفر له مؤثراتٌ سلبية حتى ولو كان السفرُ لأطهرِ بقعةٍ في الأرض، وكم يشكو رجالُ الهيئةِ من صِلاتٍ واتصالاتٍ غير مشروعة بين فتيانٍ وفتياتٍ كان أهلُهم يتعبَّدون، وهُمْ وهنَّ في الأسواق يتجوَّلون .. فهل يَعِي الأولياءُ تلك المخاطرَ ويراقبون ويهتمُّون بأوقاتِهم وأوقاتِ من يرحلون معهم من بنينَ أو بناتٍ؟ أخي الشاب: وقبل أن تحزم أمتعةَ السفر تَوقَّف وسائِل نفسَك: ما الهدفُ من السفر؟ وإلى أين تسافر؟ وماذا لو داهمَتْكَ المنيِّةُ وأنت تنوي السوءَ، أين أنت من هِمَّة شابٍّ قال عن نفسِه كما نقل الذهبيُّ: حفظتُ القرآنَ وأنا ابنُ سبع ¬

(¬1) سورة الذاريات، الآيتان: 17، 18.

سنين، وما من علمٍ إلا وقد نظرتُ فيه وحصَّلتُ منه الكُلَّ أو البعض .. وما أعلمُ أني ضيَّعتُ ساعةً من عمري في لهوٍ أو لعب (¬1). لقد رَحَلَ هذا الشابُّ عن الدنيا وبقي ذِكرُه الطيبُ نديًّا عبرَ القرون، فهل فكّرتَ أخي الشاب بأي نوعٍ من الذكر سيبقى لك بعدَ رحيلِك؟ 3 - والنُّزهة والسِّياحة لفظةٌ محبَّبةٌ للنفوس صِغارًا كانوا أم كِبارًا .. ولكن أيّ نزهةٍ، وما نوعُ هذه السياحة؟ إن النزهة لا يلزمُ أن تكون بمقارفةِ المحرَّماتِ ولا بإسقاط الحياء، ولا بسماع الغِناء والخَناء .. ومع الوعي في المجتمعِ لا بدَّ من اختيارِ النزهةِ المناسبة، تلك التي تُروِّح عن النفوس، وتُدخِل البهجةَ ويفرحُ لها الصغار ويأنس بها الكِبار .. لكن مع بقاءِ الحِشْمةِ والفضيلة ودونَ خوارمَ للمُروءة، أو إسقاطٍ للشَّهامةِ والرجولة. ومما يَجدُرُ التنبيهُ له أن البعض قد يرحلُ للنزهة والسياحة دون أن يستصحبَ أهلَه وأولاده، وذلك من بابِ الخوف عليهم وحمايتِهم لكنه يقعُ في المحظورِ الآخرِ حين تطولُ غَيْبتُهُ عن أسرته تاركًا الحبلَ على الغارب، فيحصلُ للأسرة في حالِ غَيْبته من الشرورِ والفساد ما يَنْدَى له الجبين، وقيِّمُ الأسرة غافلٌ في سياحته مستمتعٌ بتنزُّهه، ولربما صُدِمَ بالواقعِ بعد عودته .. لكنه بإهمالِه يتحمَّل مسؤولية ما أَهمَل، وبطولِ غَيبته وعدمِ رقابته يجني ثمارَه المُرَّة! 4 - وحين يكون الحديثُ عن البيوتِ والأولاد .. يُمكن القولُ: إن لدينا قدرةً على ضبطِ بيوتنا - إذا أردنا - وتوجيهِ أولادنا إذا تَمَّت قناعتُنا، والدليلُ على ذلك أننا نُعلِنُ حالةَ الطوارئ أيامَ الامتحانات .. فنهتمُّ بإيقاظِ الأبناء والبناتِ مبكِّرين حتى لا تفوتَهم الامتحاناتُ، ونحرصُ على عدمِ سهرِهم حتى يستيقظوا نَشِطين، ¬

(¬1) تهذيب السير 3/ 1395.

ونمنع مشاهدتَهم لبعضِ ما يشاهدون حتى لا تؤثِّرَ على دراستِهم، بل وفوقَ ذلك نشجِّعهم على مزيدِ الدراسة والتحصيل بالحوافزِ أثناءَ الامتحاناتِ وبالهدايا بعد التفوُّقِ والنجاح، وهذا شيءٌ طيِّب، ولكن أين مثلُه أو قريبٌ منه بعد انقضاءِ الامتحانات؟ إن الإخفاقَ الذي يَحصُل لابنِك وابنتِك حين ينحرفُ خُلُقُه -لا قَدَّر الله - أعظمُ من إخفاقِه في الامتحان، وإن الرسوبَ عن المعالي حين تمتلئُ البيوتُ بالشرورِ والآثامِ وتكونُ مستودَعًا لشياطينِ الإنسِ والجنّ .. لا تُقارَن مطلقًا بالرسوب في مادةٍ أو مادتين أو أكثرَ للبنين أو البنات. ونظرتُنا لمستقبلِ أولادنا ينبغي أن تكونَ أعمقَ وأشملَ من مجرَّد النجاح في الامتحان الدُّنيوي، والحصولِ على الشهادةِ والوظيفة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (¬1). ¬

(¬1) سورة هود، الآية: 108.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ لله ربِّ العالمينَ خَلَقَ فسوَّى، وقدَّر فهَدَى، وله الحكمُ في الآخرة والأولى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، ما من دابةٍ إلا هو آخذٌ بناصيتِها ويعلمُ مستقَرَّها ومستودَعَها .. وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله. عبادَ الله: وثَمّةَ أمرٌ التذكيرُ به والتنبيهُ عليه غايةٌ في الأهمية في كلِّ زمانٍ ومكان .. ولكنّ الحاجةَ إلى التنبيه عليه في الإجازاتِ وحين السفريّاتِ والتنقلاتِ يكون أشدَّ. 5 - إنه الغَيرةُ على المحارِم .. ذلكم الرباطُ الأُسَريُّ الذي خفّ ميزانُه عند البعض .. فنتج عن ذلك من المفاسدِ والضَّياعِ ما يَنْدَى له الجبين .. وعند رجالِ الأمن والحِسبة الخبرُ اليقين! إنَّ من أبرزِ مظاهرِ ضعف الغَيْرة عدم شعورِ الوليِّ بالمسؤولية .. أو عدمَ ممارسةِ هذه المسؤولية بالشكل المطلوب. ومن آثار ذلك غَفْلةُ الوليِّ أو تساهُلُه في ما يدخل البيوتَ من آلاتِ ووسائلِ اللهو، وأنواعِ الأشرطةِ والمجلات، وفتحِ الباب على مِصْراعيهِ على أنواع القنوات .. وتلك وربِّي تعملُ عملها في الصغير والكبير، والذكرِ والأنثى، والمتعلِّم والأُمي. ومن الآثار لضعف المسئوليةِ والقِوَامةِ المشروعة ذهابُ الأسرة حيث شاءوا للحدائقِ والمتنزَّهات أو نحوِها، ولربما ذهب بهم الأبُ أو الابنُ أو السائق فوضعهم في أطرافِ النهار ولم يَعُدْ لهم إلا في ساعاتٍ متأخرةٍ من الليل .. وهو لا يدري ماذا يصنعونَ ولا مَنْ يخالطون؟ وقُلْ مثلَ ذلك عن من يَضَعُون نساءَهم وبناتِهم في الأسواقِ لساعاتٍ طِوَال .. وقد يتعرَّضون لمخاطرَ ومراوداتٍ لا يستسلمون لها في البدايةِ وربما ضَعُفوا

واستسلموا في النهاية .. وهو سببٌ في الإهمال .. وعليه كِفْلُه من الانحرافِ إذا لم يَحفَظِ الأمانةَ ولم يلتزمْ بالمسؤولية والقِوَامة .. وينبغي أن يُعلَمَ أن الثقة شيءٌ وفعلَ الأسباب المشروعةِ والأخذَ بأسبابِ النجاةِ والسلامة شيءٌ آخرُ، ولا تعارُضَ بين الأمرين. ومن آثار ضعفِ الغَيْرة أن بعضَ البيوت ولا سيَّما النساءِ -باتت تتَّصلُ بمطعمٍ أو آخر لتأمين وجبةٍ والمجيءِ بها للبيت في غَيْبة الرجل، ولا تسأل عن مخاطرِ حديث المرأة مع رجلٍ أجنبيّ .. فكيف إذا جاءَ للبيت وربما استقبلَتْه المرأةُ صاحبةُ الطلب، وسلَّمته المبلغَ واستلمتْ منه الطعام؟ كم من فرصةٍ للشيطانِ في هذه المُداخَلات والمحادَثات .. وهل هذه وتلك من المروءةِ والحياءِ في شيء؟ وهل يرضى بها أصحابُ الشَّهامة .. فضلًا عن أصحابِ الدِّيانة؟ إن الانشغالَ بالدنيا واللُّهاثَ وراءَ المادة .. ربما كان سببًا لبعض هذه المظاهر .. فالأبُ يفرحُ بمن يقضي عنه حوائجَ أهله .. وبأيِّ شكلٍ من الأشكال -دون تنبُّه للمخاطرِ والمفاسد المستقبلية، وكلما باشَرَ الرجلُ أو أحد أبنائه الكِبارِ قضاءَ حوائجِ أهله، واعتنى بذهابهم ومجيئهم، كان ذلك دليلَ النُّبل ومؤشرًا للاهتمامِ بالأهل والأولاد، وحين يَتصوَّرُ الوليُّ أن ذلك جزءًا من واجباتِه، وقد يكون أَوْلَى من بعضِ مسؤولياته التي يمارسُها وينشغلُ بها، كلما كان ذلك دليلًا على الوعي ومؤشرًا إلى إعطاءِ الحقوقِ وصيانة الحُرُماتِ، وحين نلومُ بعضَ النساء التي تتوسَّعُ في الخروج هنا وهناك، وفي كثرة الحديثِ مع الرجالِ الأجانب والاختلاطِ بهم، ينبغي أن نلومَ كذلك الرجالَ الذين يُقصِّرون في واجباتِهم مع أهليهم. عبادَ الله: لا ينبغي أن نكتفيَ بالتحسُّر على الواقعِ والتأثرِ لسماع الأخبار السيئة، ونُطأطأَ الرؤوسَ ونُحوقلَ عند سماع أنواعِ الجرائم الواقعة لمن حولَنا،

بل ينبغي أن نحاسِبَ أنفسَنا ونمارسَ الرقابةَ والقِوامة داخلَ بيوتنا، هذا على مستوى الأفراد. أما على المستوى الآخَر فينبغي أن يكون للعلماءِ والدُّعاةِ وطلبةِ العلم دورٌ أكثرُ مما هم عليه في التحذيرِ من الجريمةِ وبيان سُبُل الوقاية في المدن والقرى والمناطقِ النائية، وإذا وُجِدَ فقراءُ يحتاجون لسدِّ جَوْعتِهم وستر عوراتِهم .. فثَمّةَ فقراءُ يحتاجون إلى نوع آخر من الطعام واللباس .. إنهم محتاجون إلى غذاءِ الإيمانِ ولباسِ التقوى، محتاجون إلى من يأخذُ بأيديهم إلى برِّ الأمن والإيمان .. ويُحذِّرهم من الفتنِ والشرورِ والآثام والحَيْرِة والقلق. وعلى صعيد آخرَ، فالجهاتُ المعنيةُ بالأمن وتخفيضِ معدَّلات الجريمة عليها كِفْلٌ كبير من المسؤولية، فهل تَرصدُ أبرزَ مظاهرِ الانحراف بأسبابها وآثارها، ونِسَبها؟ وهل تقوم باقتراح وتنفيذِ البرامج التي تُعالج وتحذِّر .. وتُرغِّب وترهِّب .. أم إن دورها ينتهي عند حدود المتابعةِ للجريمة إذا وقعت .. دون وضعِ حلولٍ مستقبليةٍ تمنع مَثيلاتِها -أو تمنع ما هو أعظمُ منها؟ وباختصارٍ أقول: إن حمايةَ المجتمع من أيِّ انحرافٍ مسؤوليتنا جميعًا أفرادًا ومؤسَّساتٍ، وحين نَصدُق ونُخلِص ونُفكر ونُخطط لابدَّ أن نُنتج. معاشرَ المسلمين: إن عجلةَ الزمان تدور، والوقتُ يمضي سريعًا، والموفَّق من حَفِظَ وقتَه واستثمرَه لعملِ الصالحات، والكيِّسُ من عَظَّم حُرماتِ الله في حالِ سفره أو إقامته، وفي حال قوّتِه أو ضعفه، والسعيدُ من جاءته منيَّتُه وهو مُستعدٌّ للقاءِ ربِّه، وإذا كان الكثيرُ منا يجهدُ ويخطِّط لدنياه، فكم هم الذين يُفكِّرون ويخطِّطون للآخرة بالقَدْر المناسبِ لطولِ الإقامة فيها، ولنوعِ النعيم أو الجحيمِ الموعودِ فيها؟

لابدَّ من مجاهدةِ النفسِ والصبرِ على طولِ الطريق، وتحمُّل عناءِ السفر، ومن وصايا الصالحين أسوق لكم هذه الوصية: «مَنْ لم يحتملْ ألمَ التعلُّم لم يَذُقْ لذةَ العلم ومَن لم يَكدَحْ لم يُفلح، إذا خلوتَ من التعلم والتفكيرِ فحرِّك لسانَك بالذكر وخاصةً عند النوم، وإذا حَدَث لك فرحٌ بالدنيا فاذكر الموتَ وسرعةَ الزوال وكثرةَ المنغِّصات، إذا حَزَبَك أمرٌ فاسترجِعْ، وإذا اعتَرَتْكَ غفلةٌ فاستغفِر، واعلم أن للدِّين عَبِقةً وعَرَقًا يُنادي على صاحبه، ونورًا وضيئًا يُشرِق عليه ويدلّ عليه. يا مُحيِي القلوبِ المَيْتةِ بالإيمان خُذْ بأيدينا من مَهْواة الهَلَكة وطهِّرنا من دَرَن الدنيا بالإخلاص لك (¬1). ¬

(¬1) تهذيب سير أعلام النبلاء 3/ 1561.

الإسلام والمسلمون في مقدونيا

الإسلام والمسلمون في مقدونيا (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. إخوة الإيمان: كثيرةٌ هي البُؤَرُ المشتعلةُ في العالم، ولكنَّ نصيبَ المسلمين منها أكبرُ من غيرِهم، وبغضِّ النظرِ عمَّا يجري اليومَ من أحداثٍ داميةٍ في فلسطين، أو في إندونيسيا، والأفغان والفلبين وأرضِ الشيشان والبَلْقان. وقبلَ أن يتناسى المسلمون أحوالَ إخوانِهم المسلمين في البوسنة والهرسك، وكوسُوفا على أرضِ (البلقان) تُطِلُّ اليومَ قضيةٌ جديدةٌ قديمةٌ للمسلمين في (مقدونيا) إنها بِشارةٌ من جانبٍ، ومأساةٌ من جانبٍ آخر - بشارةٌ تؤكِّدُ وجودَ الإسلامِ الفاعل، وتحرِّكُ المسلمين للدفاعِ عن عقيدتِهم ودينِهم، والمطالبةِ بحقوقِهم المهضومة، ومأساةٌ حيث يتعاملُ النصارى الأرثوذكس المقدونيون مع المسلمينَ المقدونيين (وغالبيتُهم من الألبان) معاملةً دُونِيةً شرسةً، ويخطِّطون لتذويبِهم وسَلْخِهم من هُوَّيتِهم المسلمةِ مستقبلًا .. ومأساةٌ كذلك -إذ تجتمعُ القوى الكافرةُ من الغرب والشرقِ على حربِ المسلمين في البلقان عمومًا وعلى أرضِ مقدونيا- في هذه الأيام - خصوصًا. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 16/ 3/ 1422 هـ.

فماذا نعرفُ عن مقدونيا، والمسلمين فيها؟ وماذا عن حربِ النصارى وخططِهم تُجاهَ المسلمين؟ وما هو الدورُ الإسلاميُّ المطلوب؟ تقع (مقدونيا) في البلقان في أوروبا الشرقيةِ، وهي إحدى جمهورياتِ يوغوسلافيا السابقة، تحدُّها (اليونان) جنوبًا و (كوسوفا) وصربيا من الشمالِ، و (بلغاريا) من الشرق، و (ألبانيا) من الغرب، ويبلغُ سكانُها مليونين وأربعمائة ألفٍ، نسبةُ المسلمين خمسٌ وأربعون بالمائة 45% وأغلبهم (ألبان)، ونسبةُ النصارى خمس وخمسون بالمائة 55% معظمهم أرثوذكس، هذا حَسَبَ تقدير الألبان، أما تقديرُ الحكومة فيقول: إن نسبة المسلمين 30%، والنصارى 70% (¬1)، العاصمة (سكوبيا) وأهم المدن: تتوفا، مانانستير، كومانوفا، ستروغا. وقد دخل الإسلامُ إلى البلقانِ قبلَ الفَتْح العثماني، وذلك عن طريق التجارِ والدُّعاة، وفي العهدِ العثماني وبعد معركة (كوسوفا) عام 792 هـ ثنتين وتسعين وسبعمائة هجرية 1389 م دخل الألبانُ في دينِ اللهِ أفواجًا، وحينما ضَعُفتِ الدولةُ العثمانية اتَّحدت كلٌّ من (صربيا وبلغاريا واليونان) ضدَّ الدولةِ العثمانية وانتصروا عليها، وقاموا بتقسيمِ (مقدونيا) بينهم، وذلك عام 1913 م، وبقيت (مقدونيا) على تلك الحالِ حتى الحرب العالميةِ الثانية، وبعد الحربِ العالمية الثانية (1945) جاء (تيتو) إلى المنطقة بالشيوعية، وكوّنَ الاتحادَ الفِدْرالي اليوغوسلافي الذي ضمَّ عددًا من دولِ البلقان، ومنها (مقدونيا)، وإنما شمل (تيتو) (مقدونيا) بالانفصال ليُحقِّقَ هدفَه من نشرِ الشيوعية وأهدافَه السياسيةَ الأخرى. ¬

(¬1) انظر: الإسلام في جمهورية مقدونيا، تقرير من مؤسسة الوقف الإسلامي 1422 هـ.

وبعد سقوطِ الاتحادِ السوفيتي والنظامِ الشيوعي عام 1992 أعلنت (مقدونيا) استقلالَها التامّ. ولكن كان زِمامُ الحكم بأيدي مُخلَّفات الشيوعية .. وعلى الرغمِ من مشاركةِ المسلمين في حركةِ الاستقلال إلا أن الحكومة المقدونية حكومةٌ نصرانيةٌ أرثوذكسية في الغالب، وتمثيلُ المسلمين في الحكومة والجيش ليس على حسبِ تعدادِ المسلمين ونسبتِهم (¬1) .. وهذا أوجدَ عند المسلمين منذُ الاستقلالِ وحتى اليومِ شعورًا بالظُّلمِ تجاهَهم، وشعورًا بأهدافِ النصارى لتذويبِهم وسَلْخ هويتِهم المسلمة. ولكن المسلمين في مقدونيا مُدرِكون لهذا الخطر، وقد استعصَوْا قديمًا على محاولةِ الشيوعيين في طمس هويتهم، وهم اليومَ يعلنون الرفضَ لحركات النصارى ضدهم وضد إسلامهم. أجل إنَّ الراصدين لحركةِ الإسلام في مقدونيا ونشاطِ المسلمين هناك يقولون: إن المتجوّلَ في مقدونيا ربما ظنَّها دولةً إسلاميةً لكثرةِ المساجد بها، حيث بلغَ عددُها سبعين وأربعمائة مسجدٍ، وفي مدينة (تتوفا) وحدَها ثمانون مسجدًا، وجامعان كبيران لأداءِ صلاة الجمعة، وفي مقدونيا كتاتيبُ وحِلَقٌ لتعليمِ القرآن تزيدُ على ثلاثٍ وستين حلقةً، وفي مقدونيا كذلك - كما يُقال - صحوةٌ إسلاميةٌ تُبشِّرُ بمستقبل خيرٍ للإسلام والمسلمين، كما يوجدُ في مقدونيا عددٌ من المؤسَّسات واللجانِ الإسلاميةِ العاملةِ في حقل الدعوة - وإن تفاوتتْ في نشاطها وتوجُّهاتها وعملِها-. هذه المظاهرُ الإسلامية وغيرُها لاشكَّ تُقلِقُ الأعداء .. لاسيما في وسطٍ ¬

(¬1) إذ يشغل النصارى المقدونيون ما نسبته 84.5% من الوظائف الحكومية، في حين لا يشغل المسلمون الألبان سوى 9.4% من الوظائف الحكومية، فهم يعتبرونهم مواطنين من الدرجة الثانية.

يُسيطرُ عليها الأرثوذكس النصارى، ويُدعَمُ من قِبَل الدولِ الغربية والاتحاد الأوروبي. وهي بالطبع لا تريد للإسلامِ وجودًا ولا للمسلمين نشاطًا (¬1). معاشرَ المسلمين: ولهذا حَمَلَ النصارى في مقدونيا على المسلمين، وهل تعلمونَ أن ما يَقرُبُ من ثلاثمائةِ ألفِ مسلمٍ ألبانيٍّ يعيشون في مقدونيا ولا يحملون الجنسيةَ المقدونيةَ، ولا يحقُّ لهم دخولُ الانتخاباتِ، وهذا جزءٌ من مخطَّطِ النصارى في إضعافِ المسلمين في مقدونيا. - وفي عام 1987 م سُمع دويُّ انفجارٍ هائلٍ في العاصمةِ (سكوبيا) وعند استبانةِ الحَدَث وُجِدَ أنه صوتُ تفجيرٍ لمئذنةِ مسجدٍ مضى عليه عشراتُ السنين دون مئذنةٍ، وحينما بدأ المسلمون في بنائِها وعلمَ النصارى الحُكّام بذلك فجَّروها بكميةٍ من المتفجِّرات - أراد النصارى تفجيرَ مشاعرِ المسلمين قبل تفجيرِ مئذنةِ مسجدٍ مضى على الصلاة فيه عشراتُ السنين! وعلى صعيدٍ آخر وفي مسلسلِ مضايقة المسلمين نَصَبَ النصارى صليبًا بلغ ارتفاعُه مائتي مترٍ، وعلى قمةِ جبل (فودنو)، ووُضِعَت على الصليبِ الأنوارُ ليُرى من بعيدٍ، عُمِلَ ذلك بمناسبةِ الألفية الثالثة. - وفي طريق التحدِّي لمشاعر المسلمين قام النصارى بتغييرِ تسمية مستشفى مدينة (أوهريد) التي يَقطُنُها المسلمون، وسُمِّي المستشفى باسم (القديس أرزمو). وأصدرت وزارةُ الداخلية كذلك تعليماتٍ تمنعُ رفعَ الأذانِ عبرَ مكبِّرات الصوت بدعوى أن ذلك يُسبِّب إزعاجًا للمواطنين، وأن صوتَ المؤذِّن غيرُ ¬

(¬1) انظر: تقرير الندوة العالمية للشباب المسلم عن مقدونيا.

لائقٍ، قاتلهم اللهُ أنىَّ يُؤفَكون {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬1). عبادَ الله: واليومَ ماذا يجري في مقدونيا (ضدِّ المسلمين)؟ لقد جرَتِ اتصالاتٌ بين السلطاتِ المقدونية والسلطات الصِّربية لرسم الحدودِ بين البلدين - دون اعتبارٍ للمسلمين - ثم أُثِيرَ المسلمون أكثرَ حين جرى اتصالٌ آخرُ لترسيمِ الحدودِ مع كوسوفا، وهنا عارضَ المسلمون الألبانُ لأن هذه المنطقة يسكنُها الألبان، وهناك علاقاتٌ وقَراباتٌ أُسَرية، ومصالحُ مشتركة بين ألبانِ مقدونيا وألبان كوسوفا .. وكأن النصارى أرادوا قَطْعَها فثارت ثائرةُ المسلمين الألبان، ودعتِ الأحزابُ الألبانية في مجلسِ الشعبِ المقدونيِّ أن يتمَّ ذلك مع صربيا وليس مع كوسوفا، كما وجدوها فرصةً للمطالبةِ بحقوقِهم المهضومةِ مثلَ السماح لهم بالدراسةِ باللغة الألبانية، وتغييرِ الدستورِ المقدونيِّ بجعل الألبان شعبًا دستوريًا (له مشاركة في الدستور)، السماح بزيادةِ عدد الألبان في الدوائرِ الحكومية، ومَنْحِ الجنسية لمن لم يُمْنَحْ منهم، والقيامِ بتعدادِ السكانِ لمعرفةِ نسبةِ الألبان الحقيقيةِ والتعاملِ معهم وَفْقَ هذه النسبةِ، إلى غيرِ ذلك من مطالبَ لم تأبَهْ حكومةُ مقدونيا بها، بل أخذت تسيطرُ على بعضِ القرى المسلمة على الحدودِ بين مقدونيا وكوسوفا. وحين أحسَّ المسلمون بالضَّيْم والخطرِ يداهمُهم شكَّلوا (جيش التحرير الوطني الألباني) وهو تحت قيادةِ رجل تخرَّج من المدرسةِ الإسلامية بمقدونيا. وقبلَ عيدِ الأضحى عام 1421 هـ بدأت المصادماتُ وأُعلِنت حالةُ الطوارئ في البلادِ، وتقدَّم جيشُ التحرير في (تتوفا) على الجبال المجاورةِ للمدينة حتى ¬

(¬1) سورة الصف، الآية: 8.

وصلَ إلى مشارفِ طرق المدينة. وفي 25/ 12/ 1421 هـ أرسلت السلطاتُ المقدونيةُ قواتٍ من الدباباتِ والأسلحةِ المتنوعة وشارك كثيرٌ من أفرادِ الجيش المقدوني والصِّربي، وحصلتْ مصادماتٌ ومعاركُ عنيفة، وفي 7/ 1/ 1422 هـ شنَّت الحكومةُ المقدونيةُ هجومًا جويًا على مواقعِ المسلمين كان مدعومًا بقواتٍ أجنبية من (أوكرانيا) وغيرِها، وقد قام بالتخطيط له خبراءُ (بريطانيون) وأصبحَ المسلمون في هَلَع، ونَتَج عن ذلك هجرةٌ من مقدونيا إلى الدولِ المجاورة، حتى بلغ عددُ اللاجئين ثلاثينَ ألفَ لاجئ. ومع هذا التحالفِ النصرانيِّ للدول المجاورة لمقدونيا وتلك القسوةِ والعنفِ مع المسلمين فقد انهالت على حكومةِ مقدونيا تأييداتُ الحكوماتِ الغربية، فأمريكا تؤيِّد الحكومةَ المقدونية، ووزيرُ خارجية روسيا يصفُ الألبان المسلمين في مقدونيا بأنهم يُثيرون نزاعًا جديدًا، أما (روبرتسون) أمينُ عامِّ حلفِ الأطلسي فقد قال: إن الحلفَ لن يسمحَ لمن أسماهم بـ (المتشدِّدين) بالإخلالِ باستقرارِ مقدونيا؟ ! حتى رئيسُ اليونان - الذي بينه وبين المقدون عداوةٌ - أكَّد دعمَه لحكومةِ مقدونيا .. أما صربيا، وروسيا وبلغاريا فلم تكتفِ بالتأييد بل أهدت للمقدون دباباتٍ وأرسلتْ مساعداتٍ عسكريةً، لماذا كلُّ هذا؟ لمواجهةِ المسلمين وتصفيةِ الإسلام هناك {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬1). أيها المسلمون: وفي هذه الأيام تشتدُّ الهجمةُ النصرانية في مقدونيا على إخوانِنا المسلمين، ويُستخدَمُ الجيشُ بآلياته وعَتادِه ورجالِه وغالبيتُهم من ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 32.

النصارى لضربِ المسلمين ومحاصرتِهم وتهجيرِهم، وكأنهم أرادوا تعجيلَ حَسْمِ المعركةِ قبل أن يشتدَّ عودُ الألبانِ المسلمين .. ومما يُدمي القلبَ أن هذه المعركةَ مع عدمِ تكافئها تُدعَمُ من قِبَل الدولِ النصرانية الكبرى المجاورة والبعيدة، بل ومن قِبَل الاتحاد الأوروبي .. ولا غرابةَ في ذلك، فالكلُّ عدوُّهم الإسلامُ، والكلُّ لا يطيقونَ وجودًا فاعلًا للمسلمين. ويبقى المسلمون المُستضعَفون في مقدونيا يقاومونَ في سبيلِ البقاء مع حفظِ هويتهم المسلمة - يُقاومون وحدَهم في غَفْلةٍ من المسلمين عنهم أو تراخٍ عن مدِّ يدِ العونِ لهم- إلا قليلًا من هيئاتٍ ومنظَّماتٍ إسلامية وعلى رأسها الوقفُ الإسلامي والندوةُ العالميةُ للشباب الإسلامي ورابطةُ العالم الإسلامي. عبادَ الله: وحين نَعرِضُ لوَضْع المسلمين في مقدونيا باختصارٍ يَرِدُ السؤالُ: وما هو الدَّورُ المطلوبُ من المسلمين تجاهَ إخوانِهم في مقدونيا؟ إن الشعورَ الحيَّ بقضيةِ المسلمين هناك والتفاعلَ معها جزءٌ من الواجب، فالمسلمون كالجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تَداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهر والحُمَّى، ونقل قضيتِهم العادلةِ للعالم عبرَ وسائلِ الإعلام كلِّها وما يريدُه النصارى لهم .. وكذلك مدُّ يدِ العونِ لهم والمساهمةُ في دعمِ المشاريعِ الإسلاميةِ القائمةِ هناك من إنشاءِ المساجد ودعمِ الدُّعاة ونحوِها، كذلك يُسهِمُ في تثبيتِ المسلمين ويمنعُ تذويبَهم، والدعاءُ لهم بالثبات على الحق والنصرِ والتمكينِ في الأرض، فذلك جزءٌ من حقوقِهم ولا يُعذَرُ منه أحدٌ من المسلمين. ومما يجدرُ بالمسلمين كذلك أن يَعُوا مخطَّطاتِ الأعداء عمومًا، وما يرادُ للمسلمين في بلادِ البلقان خصوصًا ومنها مقدونيا .. وألا ننخدعَ بالبياناتِ المزيَّفة والتهمِ الفارغةِ فذلك جزءٌ من الحربِ الإعلامية.

الغلام الأمريكي المسلم والميلاد الجديد

الغلام الأمريكي المسلم والميلاد الجديد (¬1) الخطبةُ الأُولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضلَّ لهُ، ومنْ يضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ وتابعيهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. عبادَ الله: فضلُ الله يؤتيهِ مَنْ يشاءُ، ومِنْ أعظمِ الفضائل وأكبرِ النِّعَمِ الهدايةُ للدِّينِ الحقِّ دينِ الإسلامِ، إنها الفطرةُ يولَدُ عليها كلُّ مولودٍ .. ولكنَّ عواملَ التأثير بفعلِ الوالدَيْن أو غيرِهم تَحرِفُ عنِ الفطرةِ .. ولكنْ قدْ يعودُ المنحرفُ، بلُ وقد يُسلمُ الكافرُ استجابةً لنداءِ الفطرةِ التي فطرَ اللهُ الناسَ عليها. وسأحكي لكمْ هنا قصةً حديثةً معاصرةً وواقعيةً، قرأتُها في إحدى الصحفِ (¬2) وحدثني بها شهودٌ عيانٌ. القصةُ وقعتْ في إحدى ولاياتِ أمريكا .. ولشابٍّ يبلغُ منَ العمرِ قُرابةَ عشرِ سنواتٍ، وُلدَ الغلامُ (ألكساندرُ) لأبوينِ نصرانيَّينِ عامَ تسعينَ وتسعَ مئةٍ وألفٍ للميلادِ، وقرَّرتْ أمُّه منذُ البدايةِ أنْ تتركَه ليختارَ الدِّينَ الذي يرغبُ بعيدًا عنْ أيِّ مؤثِّراتٍ عائليةٍ أو اجتماعيةٍ، وما أنْ تعلَّمَ الغلامُ القراءةَ والكتابةَ حتى أحضرتْ له أمُّه كُتبًا عنْ كلِّ الأديانِ السماويةِ وغيرِ السماويةِ، وبعدَ قراءةٍ متفحِّصةٍ قرَّرَ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 23/ 3/ 1422 هـ. (¬2) جريدة الوطن، السبت 16/ 11/ 1421 هـ.

(ألكساندرُ) أنْ يكونَ مسلمًا! بل شُغفَ حُبًا بهذا الدِّينِ حتى أنه تعلَّمَ الصلاةَ وحفِظَ بعضَ سُوَرِ القرآنِ، وتعلَّمَ الأذانَ، وقرأَ شيئًا عنِ التاريخِ الإسلاميِّ، وتعلَّمَ بعضَ الكلماتِ العربيةِ. كلُّ هذا -كما يقولُ الخبرُ- دونَ أن يلتقيَ بمسلمٍ واحدٍ، ثمَّ قرَّر أنْ يكونَ اسمُه الجديدُ (محمدَ بنَ عبدِ الله) تيمُّنًا بالرسولِ صلى الله عليه وسلم الذي أحبَّه منذُ نعومةِ أظفارهِ. إنها الفطرةُ هُديَ لها هذا الغلامُ الأمريكيُّ .. وفَضلُ اللهِ أدركَهُ فتخلَّصَ منْ ظلماتِ الكفرِ، وانحرافاتِ النصرانيةِ أو اليهوديةِ وسواهما .. ونسألُ اللهَ لهُ ولغيرهِ منَ المسلمينَ الثباتَ على الحقِّ. إخوةَ الإسلامِ! ولا يزالُ العجبُ يُحيطُ بقصةِ هذا الغلامِ، ولا يدري المطّلعُ على قصتِهِ أيعجبُ منْ عصاميَّةِ هذا الشابِّ وقوةِ إرادتهِ وقدرتهِ على اتخاذِ هذا القرارِ بالإسلامِ في وسطٍ اجتماعيٍّ لا يعترفُ بالإسلامِ وإنْ أعطتْهُ أمُّه حريّةَ الاختيارِ، أمْ يعجبُ المطّلِعُ كذلكَ منْ فهمِ الغلامِ لهذا الدِّينِ الجديدِ وحبِّه لهُ واعتناقِه لهُ رغمَ الصعوباتِ التي تواجههُ .. وفي إجاباتِ هذا الغلامِ ما يكشفُ الحقيقةَ أكثرَ .. فعندَ سؤالِه منْ أحدِ المسلمينَ المقابلينَ لهُ: ما هيَ الصعوباتُ التي تعاني منها لكونِكَ مُسلمًا في جوٍّ غيرِ إسلاميٍّ؟ أجابَ الغلامُ بكلِّ أسفٍ وحسرةٍ: تفوتُني بعضُ الصلواتِ في بعضِ الأحيانِ بسببِ عدمِ معرفتي بالأوقات! يا سبحانَ الله! غلامٌ حديثُ العهدِ بالإسلامِ، وفي بيئةٍ غيرِ مسلمةٍ يتحسَّرُ على فواتِ وقتِ الصلاةِ -أحيانًا- وعذرُهُ عدمُ معرفةِ الوقتِ، وليسَ تهاونًا أو كسلًا! فبماذا يا تُرى يُجيبُ من يتأخَّرونَ عنِ الصلاةِ، وربما فاتتْهمْ في عددٍ منَ الأوقاتِ .. وهمْ يسمعونَ الأذانَ ويرَوْنَ المسلمينَ وهمْ يصلُّونَ، بلْ وهمْ كبارٌ

وفي بيئةٍ إسلاميةٍ تأمرُنا بالصلاةِ وتدعو إليها؟ ! إنَّه الكسلُ وضعفُ الهممِ وغلبةُ الهوى ونزغُ الشيطانِ .. إلا مَنْ كانَ معذورًا بسفرٍ أو مرضٍ. وهمَّةٌ أخرى .. بل صبرٌ على تكاليفِ الإسلامِ، وتحدٍّ لغيرِ المسلمينَ يبرزُ في قصةِ هذا الغلامِ وهو يُسأَلُ: هلْ صمتَ رمضانَ؟ فيبتسمُ ويقولُ: نعمْ لقد صمتُ رمضانَ الماضيَ كاملًا والحمدُ للهِ، وهيَ المرةُ الأُولى التي أصومُ فيها .. ثمَّ يواصلُ حديثَهُ قائلًا: لقدْ كانَ الصيامُ صعبًا عليَّ خاصةً في الأيامِ الأُولى، ولقدْ تحدَّاني والدي أنني لنْ أستطيعَ الصيامَ، ولكني صُمتُ، ولم يُصدقْ ذلكَ. وحين سُئلَ الغلامُ المسلمُ عن أُمنيتهِ في الحياةِ أجابَ: عندي العديدُ منَ الأمنياتِ ومنها حفظُ القرآنِ! وتعلُّم لغةِ القرآنِ، وقالَ: أتمنَّى أنْ أذهبَ إلى مكةَ وأقبِّلَ الحَجَرَ الأسودَ! هنا تدخلتْ أمُّه قائلةً: إنْ غُرفةَ ابنِها مملوءةٌ بصُوَر الكعبةِ، وأضافتْ: إنَّ إيمانَ ابنِها بأمورِ الإسلامِ عميقٌ إلى درجةٍ قدْ لا يُحسُّ بها أو يتصوَّرُها الآخرونَ! ثمَّ استطردَ الغلامُ قائلًا: إنني أحاولُ جمعَ ما تبقَّى منْ مصروفيَ الأسبوعيِّ لكيْ أتمكَّنَ منَ الذهابِ إلى مكةَ المكرَّمةِ يومًا ما .. لقد سمعتُ أنَّ الرحلةَ إلى هناك تكلِّفُ أربعةَ آلافِ دولارٍ تقريبًا، ولديَّ الآنَ منها ثلاثُ مئةِ دولارٍ .. ثمَّ علَّقتْ أمُّهُ والعاطفةُ تغالبُها لتحقيقِ أمنيةِ ابنها، تقولُ: ليسَ عندي أيُّ مانعٍ منْ ذهابهِ إلى مكَة، ولكنْ ليسَ لدينا المالُ الكافي لإرسالهِ في الوقتِ الحالي. ومرةً أخرى: فرْقٌ بينَ هذا الغلامِ حديثِ الإسلامِ في تطلُّعِه وشوقِه إلى زيارةِ البيتِ الحرامِ وأداءِ مناسكِ الحجِّ والعمرةِ .. وبينَ نفرٍ من المسلمينَ قدْ يكبرونهُ سنًّا، وقدْ يتوفَّرُ لهمْ ما يَحجُّونَ بهِ ويَعتمرونَ، ولكنهمْ مَعَ الأسفِ عنْ كلِّ ذلكَ غافلونَ!

أخي المسلم! أيُّها المتهاونُ في الصلاةِ! وهلْ تدري عنْ قصةِ هذا الغلامِ مَعَ الصلاةِ في وقتِ الدراسةِ وفي مجتمعٍ لا يُقيمُ للصلاةِ وزنًا، بلْ يستنكرُها ويستنكرُ مَنْ يؤدِّيها؟ ! لقد سُئلَ هذا الشابُّ المسلمُ: هلْ تُصلي في المدرسةِ؟ فأجابَ: نعم، وقد اكتشفتُ مكانًا سريًّا في المكتبةِ أصلِّي فيهِ كلَّ يومٍ! وتابعَ المتحدِّثُ مَعَ هذا الشابِّ يقولُ: وحانَ وقتُ صلاةِ المغربِ وأنا أتحدَّثُ معهُ، فنظرَ إليَّ قائلًا: هلْ تسمحُ لي بالأذانِ؟ ثمَّ قامَ وأذَّنَ، في الوقتِ الذي اغرورقت وقتْ فيهِ عينايَ بالدموعِ! إنها العزّةُ بالإسلامِ، والفرحُ بذكْرِ اللهِ يُرفَعُ، والاستعدادُ للصلاةِ والتفرغُ لها مهما كانَ نوعُ الارتباطِ دونَ مجاملةٍ أو استحياءٍ في دينِ اللهِ! إخوةَ الإسلامِ: وأختمُ الحديثَ عنْ واحدةٍ من أُمنياتِ هذا الغلامِ الأمريكيِّ المسلمِ، تنمُّ عنْ وَعْيِه بحقوقِ المسلمينَ ومقدَّساتِهمْ، ووعيِه كذلكَ باعتداءِ اليهودِ واغتصابِهمْ، فقدْ ذَكَرَ منْ أمانيهِ أن تعودَ فلسطينُ للمسلمينَ، فهيَ أرضُهمْ وقد اغتصبَها اليهودُ منهمْ .. ولمْ يَثنِه عنْ هذا الرأيِ خلافُ والدتهِ لهُ .. بلْ قالَ: أمِّي لمْ تقرإِ التاريخَ، ولوْ قرأتْه كما قرأتُ لعرفتْ كما عرفتُ! إنها عقليةٌ مسلمةٌ شابةٌ يُرجى لها مستقبلٌ زاهرٌ عسى اللهُ أنْ ينفعَ بهِ الإسلامَ والمسلمينَ، وأنْ يهديَ مَنْ ضلَّ إلى الصراطِ المستقيمِ، أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 25.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ يُعطي الدنيا مَنْ أحبَّ ومَنْ لمْ يحبَّ، ولا يُعطي الدِّين إلا مَنْ أحبَّ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له، يَهديْ منْ يشاءُ، ومَنْ يُضلِلِ اللهُ فما لهُ من هادٍ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه كانَ أحرصَ الناسِ على هدايةِ الأمّةِ للخيرِ في حياتهِ، وما تزالُ سنّتُه تدعو وترغِّبُ وتُبيِّنُ وتَهديْ، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (¬1). يا عبدَ اللهِ: يقولُ العارفونَ: إنَّ الإنسانَ يولدُ مرتينِ: مرةً عندما يخرجُ منْ ظلماتِ رَحِمِ أمِّهِ إلى نورِ الدنيا، ومرةً عندما يَخرجُ منْ ظلماتِ المعصيةِ إلى نورِ الطاعةِ. وإذا كانَ الميلادُ الأولُ يشتركُ فيهِ الخَلْقُ كلُّهمْ مسلمُهمْ وكافرُهمْ، بَرُّهمْ وفاجرُهمْ، فإنَّ الميلادَ الآخَرَ خاصٌّ بمَنْ وفَّقهُ اللهُ للهدايةِ ودلَّه على طريقِ الاستقامةِ وأرادَ لهُ سعادةَ الدنيا والآخرةِ. إنَّ هذا النوعَ منَ الميلادِ - أعني التحوُّلَ منَ المعصيةِ إلى الطاعةِ، ومنَ الضلالةِ إلى الهدى- لا يتقيَّدُ بزمانٍ محدَّدٍ، فقدْ تُولَدُ ميلادَكَ الجديدَ وأنتَ في العشرينَ أو الأربعينَ من عمرِك أو قبلَ ذلكَ أو بعدَ ذلكَ، وقدْ تُولَدُ ميلادَكَ الجديدَ في نفسِ الساعةِ التي تولَدُ فيها ولادتَكَ الحقيقيةَ. وهذا النوعُ منَ الميلادِ -وهُوَ التحوُّلُ منْ السيِّئِ إلى الحسنِ- لا يتقيَّدُ بمكانٍ، فلربَّما وُلدتَ وأنتَ في المسجدِ، أو الشارعِ، أو البيتِ، أو السجنِ، أو على فراشِ المرضِ، في البَرِّ أو البحرِ أو الجوِّ، قدْ تُولَد وتهتدي وأنتَ في ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 72.

شاهقاتِ الجبالِ أوْ في بطونِ الأوديةِ والشِّعابِ، وكما يُولَدُ أناسٌ بجوارِ البيتِ الحَرامِ فقدْ يولَدُ آخرونَ في أرضِ المادِّيَةِ الغربيةِ .. أوْ في قعرِ اليهوديةِ والنصرانيةِ، أو في الأراضي الشرقية، حيثُ الإلحادُ والشيوعيةُ. إنه ميلادٌ ليسَ لهُ سببٌ واحدٌ محدَّدٌ، فلعلَّ السببَ في مولدِ الهدايةِ والاستقامةِ موعظةٌ صادقةٌ، أو موقفٌ مؤثِّرٌ، أو قراءةٌ في كتابٍ نافعٍ، أوْ سماعٌ لشريطٍ مؤثِّرٍ، أو لعلَّ السببَ يكونُ خليلًا ناصحًا، أو دعوةً في ظَهْرِ الغيبِ، أو رؤيا في المنامِ .. أو غيرَ ذلكَ منْ عواملِ الهدايةِ بإذنِ اللهِ تعالى. يا أخا الإسلام: ما أغلى هذا الميلادَ وما أسعدَ الفردَ بهِ، وكمْ منْ أناسٍ عاشُوا فترةً منْ حياتِهمْ في البؤسِ والشقاءِ، ولربَّما ظنُّوا أنَّ الناسَ كلَّهمْ كذلكَ .. بلْ وأنَّ الحياةَ كلَّها تسيرُ على هذهِ الوتيرةِ، فلمّا هداهمُ اللهُ واستنشقُوا عبيرَ الإيمانِ أدركوا نعمةَ اللهِ عليهمْ في الحاضرِ .. وأدركوا ما كانوا فيهِ منْ جحيمٍ في الماضي. يا أخا الإسلامِ: ومهما مرَّتْ بِكَ هذهِ الشقوةُ منْ عمرِكَ فأنتَ سعيدٌ أنْ ولدتَ مولدَ السعادةِ قبْلَ موتِكَ، وكلَّما تقدَّمتْ هذهِ الولادةُ في عمرِكَ كلَّما ازددتَ هديً وراحةً وسعادةً. يا أخا الإيمانِ: دعني أقصَّ عليكَ واحدةً منْ قصصِ التائبينَ، منْ أهلِ الميلادِ (¬1) الجديدِ، كانتْ هديتُه للنجاحِ رحلةً وسفرًا للخارجِ، يُحدِّثُنا عنْ مشاعرِه وأحاسيسهِ في هذهِ الرحلةِ ويقولُ: أخيرًا تركتُ أرضي إلى البلادِ المفتوحةِ، وصلْنا، كلُّ شيءٍ مُعَدٌ: الاستقبالُ، والفندقُ، وجدولُ الزياراتِ .. الأرضُ خضراءُ، والجوُّ جميلٌ، والمشاهدُ ساحرةٌ .. ولكنَّ العالمَ منْ حولي ¬

(¬1) انظر: «الميلاد الجديد» إبراهيم الغامدي 24 - 28، مع شيء من التصرف.

غريبٌ! تختلطُ فيهِ أصواتُ السكارى مَعَ آهاتِ الحيارى، لا تسألني: ماذا فعلتُ هناكَ؟ لقدْ فعلتُ كلَّ شيءٍ إلا الصلاةَ والقرآنَ، فلمْ يكنْ في البرنامجِ المعدِّ وقتٌ لهما! لقد مرَّ الوقتُ سريعًا ولمْ يبقَ على انتهاءِ الرحلةِ إلا يومٌ واحدٌ، وكانَ منْ فقراتِ حفلِ التوديعِ اختيارُ الشابِّ المثاليِّ في الرحلةِ، ووقعَ الاختيارُ عليَّ، وكانَ الوسامُ صليبًا ذهبيًّا، ولا غرابةَ! فعددٌ منَ المشتركينَ معنا في هذهِ الرحلةِ نصارى. فكّرت وقدّرتُ لماذا اختاروني وَحْدي وهناكَ الكثيرُ ممّنْ هو على دينِهمْ .. ألأنِّي مسلمٌ اختاروني؟ توالتِ الأسئلةُ في ذهني وترددتْ حيرتي، وزادَ عَجَبي، وهنا في هذا الموقفَ تذكرتُ أبي وصَلاتَه، وأمّي وتسبيحَها، وخطيبَ الجمعةِ وتحذيرَه منَ السفرِ للخارجِ .. بلْ قفزَ إلى ذِهْني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وكأنَّهُ يزجرُني ينهى عنْ مّا وصلتُ إليهِ. ولكنْ قطعَ هذا التفكيرَ كلَّه صوتُ المقدِّم للبرنامجِ يطلبُ مني التقدمَ إلى المنصّةِ لاستلامِ الصليبِ وهُوَ يُمسِكُ بهِ. وفي هذهِ اللحظاتِ تخيَّلتُ الصليبَ يلمعُ كالحقدِ، ويسطعُ كالمَكْرِ .. اقتربَ القائدُ وأمسكَ بعنقي ليُقلِّدَني الوسامَ وليلبسَني الصليبَ .. ! هنا وفي هذا الموقفِ الرهيبِ ولدتُ، وكأنني أسمعُ صارخًا يقولُ: قفْ إنكَ مسلمٌ! وتذكرْ أنكَ مغزوٌّ، وعُدْ إلى ربِّكَ مادامَ في الحياةِ مهلةٌ، فقدْ لا تعودُ منْ سفرِكَ، وماذا سيكونُ مصيرُكَ لوْ نزلَ بكَ رَيْبُ المَنُونِ وتلكَ حالُكَ، وتعالى شعورُ الإيمانِ وجذوةُ اليقينِ، وتخيّلتُ مشاهدَ الآخرةِ والبعثِ والحسابِ وكأنَها طيفٌ يمرُّ بي .. وهنا تشجَّعتُ وأمسكتُ بالصليبِ الذهبيِّ وقذفتُهُ في وجهِ القائدِ، بلْ ودستُه تحتَ قدميَّ، وأخذتُ أَجْري وأَجري وهمْ يظنُّونَ بي شيئًا منَ

الجنونِ، وما بين جنونٌ، حتى صعدتُ إلى ربوةٍ مرتفعةٍ، وحينَ وصلتُ إلى قمّتِها صرختُ في آذانِهمْ، بلُ وفي أُذنِ الكونِ كلِّهِ، وأشهدُت الأرضَ والسماءَ على مولدي الجديدِ وأنا أقولُ: اللهُ أكبرُ .. اللهُ أكبرُ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأشهدُ أنّ محمدًا رسولُ اللهِ، حينَها علمَ القومُ السرَّ، وخيَّمَ على وجوهِهمُ السكونُ .. فمنهمْ مستغربٌ، ومنهمُ المستهزئُ، ولكنني على ثقةٍ أن هذهِ الصرخةِ ستحضرُ في قلوبِهمْ ولوْ بعدَ حينٍ، وهيَ بكلِّ حالٍ ستكونُ -بإذنِ اللهِ- مولدًا لآخرينَ يَسمعونَ قصَّتي ويأخذونَ العبرةَ منْ موقفي.

كنت في البلقان (1) المسلمون في ألبانيا

كنتُ في البلقان (1) المسلمون في ألبانيا (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئات أعمالِنا، من يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ له ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهم عن الصحابةِ أجمعين والتابعين وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وسلِّم تسليمًا كثيرًا. أيها المسلمون: كنتُ مع مجموعةٍ من إخوانٍ لي فضلاءَ في أرضِ البَلْقان، وفي جزءٍ مهمٍّ منها، حيث للإسلامِ تاريخٌ، وللمسلمين وجودٌ قديمٌ - ومن خلالِ مشاهداتي سأُحدِّثكُم .. ولستُ أدري أأحدِّثُكم عن غيابِ الهُويَّةِ الإسلامية وجهودِ الأعداءِ ومَكْرِهم وخُطَطِهم لسَلْخِ المسلمين عن دينِهم عبرَ عقودٍ خلتْ .. كيف آلَ إليه أمرُ المسلمين في ظلِّ هذه الظروفِ الصعبة؟ أم أحدِّثُكم عن الانبعاثِ الإسلاميِّ الجديد، والعودةِ إلى أصولِ الإسلام وتعاليمِه، وماذا يحتاجُه المسلمون العائدون من إخوانِهم المسلمين في كلِّ مكان .. ولا سيَّما في بلادِ الحرمينِ الشريفينِ حَرَسها الله. ولن أحدِّثَكم عن جمالِ الطبيعةِ هناك في ألبانيا، ولا عن الوِدْيانِ المتدفِّقة، والأنهارِ الجارية، ولا عن العيونِ الزرقاءِ ومياهِها العجيبة وظِلالِها الوارفة، ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 20/ 5/ 1422 هـ.

فذاك دأْبُ أصحابِ كتب الرِّحلات، لكني سأحدِّثُكم عن شيءٍ من واقعِ المسلمين هناك، والصعوباتِ التي تواجهُهم، والحلولِ وأنواعِ الدعمِ التي يمكن أن تُقدَّمَ لهم. إخوةَ الإيمان: في أَلبانيا للإسلام جذورٌ وللمسلمين تاريخٌ، ولكنّ البلادَ حين حُكِمت بالشيوعية مؤخَّرًا مع العقودِ الأخيرة الخمسةِ من القرنِ الميلاديِّ المنصرمِ، عادت إليها غُرْبةُ الإسلام، وكانت خمسون عامًا حتى سنة 1990 م كفيلةً بمَسْخِ صورةِ الإسلامِ ومحاصرةِ المسلمين والتضييقِ عليهم، حتى هُدمَت المساجدُ العامرةُ بالمصلِّين، وما بقي فيها -وهو نَزْرٌ يسيرٌ- كان يُستخدَم لِلَّهو واللعبِ ولدورِ السينما، بل ربما هُدِمَ المسجدُ وأُقيمَ مكانه دوراتٌ للمياهِ لمزيدِ النكاية بالمسلمين وأماكنِ عبادتِهم؟ والقويُّ من المسلمين -وهم قِلَّة كذلك- مَن باتَ يُصلِّي سرًّا، ويصومُ رمضانَ خُفْية- حتى إن المصابيح لتُطفَأُ، والنوافذَ تُغلَق ويوضعُ عليها ما يسترُ الأنظارَ حين يقومُ المسلمون في الأسحارِ لتناولِ طعام السحور. ووصَلَ سوءُ الحالِ والتضييقُ على المسلمينَ إلى السجن .. ليس لمن يقول: ربِّيَ الله، فقط، بل ولمن يقول: هناك ربٌّ؟ ! إذ يُروِّج الشيوعيون لفكرةِ الإلحاد القائلة: لا إلهَ والكونُ مادَّة .. تعالى اللهُ عما يقولُ الظالمون علوًّا كبيرًا. وفي ظلِّ هذه الأجواءِ الصعبةِ والقبضةِ الحديديّة الشيوعيةِ نشأ جيلٌ من أبناءِ المسلمين لا يعرفُ من الإسلام إلا اسمَه، ولا من القرآنِ إلا رسمَه، وما يسمعُه من أبويهِ -إن قُدِّر له أن يسمعَ شيئًا من ذلك- إذْ بلغ الحالُ ببعضِ الآباء أن يمنعَ أولادَه من تعلُّمِ شيءٍ من القرآن حتى لا يتعرَّضَ الابنُ أو تتعرضَ الأسرةُ كلُّها لعقوبةِ الشيوعيين، والجريمةُ تعلُّمُ القرآن؟ !

عبادَ الله: هذه الصورةُ المظلِمة، وهذا الكبتُ الرهيبُ، والتضييقُ على الناس في كل شيء، حتى غدا الناسُ كلُّهم وكأنهم في سجنٍ داخلَ ألبانيا -كما يقول الألبان- هذه الحالةُ ما كان لها أن تستمرَّ، فقد ضَجِرَ الناسُ وضاقوا ذَرْعًا بالشيوعيةِ والشيوعيين، وكان في سقوطِ الشيوعية في الاتحاد السوفيتي- ثم ما تلاها من دولٍ أُخرى كانت تابعةً لها- متنفسٌ لهؤلاء الألبان، إذْ قاموا عامَ تسعين وتسعمائة وألف بثورةٍ شعبيةٍ عارمةٍ ضدَّ الشيوعية والشيوعيين وسرَتْ هذه الحركةُ الشعبية في طولِ البلادِ وعرضِها حتى سقطت الشيوعيةُ في ألبانيا وعاد الحكمُ ديمقراطيًا -كما يقولون- من عام ثنتين وتسعين وتسعمائة وألف، وهنا تنفَّس الألبانُ الصُّعَداءَ، وعادُوا للحياةِ من جديد .. وكأنهم من قبلُ كانوا في عِدادِ الموتى، وعاد المسلمون يمارِسون عبادتَهم التي طالما مُنِعوا من أدائِها .. إلَّا من ضَعُفَ أو انسلخَ من تكاليفِ الإسلام فأولئك ظلُّوا في غيِّهم يعمهون، وفي حَيْرتِهم يتردَّدون، ولذا فلا غرابةَ أن تسمعَ الرجلَ أو المرأةَ يعتَّزانِ بالانتماء إلى الإسلامِ، فإذا سألتَ عن الصلاةِ أو الصيامِ أو نحوِها من واجباتِ الإسلام لم تجدْ لها وجودًا عند هؤلاء؟ أيها المسلمون: وبرغم هذه الغُرْبة عن الإسلام، ووجودِ مسلمينَ بلا إسلامٍ حقيقي -هناك فَثمَّةَ صورةٌ مُشرِقة تقابلُ هذه الصورةَ، إذ يوجدُ نفرٌ من المسلمين والمسلماتِ يلتزمونَ بالإسلامِ عقيدةً وسلوكًا، انتماءً وواقعًا، أولئك يَعمُرونَ المساجدَ بالطاعة، ويذكُرون الله ويشكرونَه على تغيُّرِ الحال، أولئك حريصون على الخيرِ، وقائمون بما يستطيعون من تكاليفِ الإسلامِ وواجباتِه -بل وسُنَنِه- ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، والجميلُ في هذه الصحوةِ أن عمادَها الشبابُ، وهؤلاء الشبابُ حريصون على الخيرِ وعلى دعوةِ قومِهم وأهلِيهم، ولديهم من الهِمَّة والحيويَّة والجِدّيَّة ما يجعلُهم بإذنِ الله أملًا يُرجَى نفعُه في ألبانيا -بل

وفيما جاوَرَهم من أرضِ البَلْقان. إخوةَ الإسلام: إن الزائرَ لألبانيا قبل عقدٍ من الزمن أو يزيد قليلًا .. والزائرَ اليوم يجدُ فرقًا كبيرًا في أوضاعِ المسلمين عمومًا، وفي أوضاعِ الشباب خُصوصًا، فمِن قَبلُ كان الشرودُ والضياعُ والقهرُ والاستبدادُ وفُقدانُ الهُويةِ، والعيشُ بلا هدفٍ، والسجنُ والأذى لمن يَحمِل همَّ الإسلام أو يُحدِّد أهدافًا غيرَ أهدافِ الشيوعية في الحياة. أما اليوم فالانتماءُ للإسلام مفخرةٌ، والمسلمون يعيشون لأهدافٍ نبيلة، والدعوةُ إلى الله يَرُوجُ سوقُها، ويشتدُّ ساقُها، والمساجد تُعمَر حِسًّا ومعنىً .. والمؤسساتُ الإسلامية والهيئاتُ الدعويّة تجدُ لها مجالًا في الدعوة، والدعاةُ إلى الله يَجِدُون من يُرحِّب بهم ويسمعُ إليهم. أيها المسلمون: وبشكلٍ عامٍّ ومعَ هذه المبشِّرات والإرهاصات، فالمسلمون في ألبانيا يواجهون صعوباتٍ تُحِيطُ بهم ومعوِّقات، ومن المناسبِ أن يعلمَها إخوانُهم المسلمون ليساهموا في حلِّها وتذليلِها، ومن هذه الصعوباتِ ما يلي: 1 - غربةُ الإسلامِ الماضية لا تزال آثارُها باقيةً، ومهما قيل عن نفرٍ من المسلمين وفَّقهم اللهُ وتجاوزوها، فَثمّةَ أكثريةٌ من المسلمين لا يزال الإسلامُ فيهم غريبًا، وتشكِّل الغُربة والجهلُ بالدِّين أكبرَ المعوِّقاتِ للدعوة ونشرِ الخير في ألبانيا. 2 - والوجودُ النصرانيُّ قويٌّ في ألبانيا، لا بكثرةِ النصارى، فنسبةُ المسلمين هناك بين خمسةٍ وسبعين إلى ثمانين بالمائة من تعدادِ السكان، بينما يشكِّل النصارى ما بين عشرين إلى خمسةٍ وعشرين بالمائة. ولكن قوة النصارى بالدَّعمِ والمساندةِ سواءٌ من داخلِ ألبانيا أو من القُوى النصرانيةِ خارجَ ألبانيا .. وحتى

تتضحَ الصورةُ وإن كانت مأساويةً، يُقال: إنه يوجد الآنَ في ألبانيا أكثرُ من مائةٍ وثلاثين مؤسسةً تنصيريةً، على حين تُعدُّ المؤسساتُ الإسلاميةُ العاملةُ هناك على الأصابعِ، وليس يخفى أنَّ ألبانيا تُحاطُ بالدولِ النصرانية من جميعِ جهاتِها. 3 - الفسادُ الخُلُقيُّ هناك كثيرٌ، والمحرَّمات منتشرةٌ، والفتنةُ كبيرة، لا سيَّما مع تبرُّجِ النساءِ الفاضحِ، وانتشارِ الخمورِ والمخدّراتِ ونحوِها من موادِّ الفسادِ الفكرية عبرَ القنواتِ الغازيَةِ، والمسلمون في ألبانيا هدفٌ يُراهِنُ عليه الأعداءُ بكلِّ وسيلة. ولكن {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 8.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ لله يُعِزُّ من يشاءُ بالطاعةِ والاستقامة، ويُذِلُّ من يشاءُ بالمعصية والرذيلة، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ومن يُهِنِ اللهُ فما له من مُكرِم، ومن يهدِ اللهُ فهو المهتدي وهو الموفَّق، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه دعا إلى الحنيفيّةِ السَّمْحة فهدى اللهُ به قلوبًا غُلْفًا، وأسمعَ اللهُ به آذانًا صُمًّا .. اللهم صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين. عبادَ الله: ومن الصعوباتِ والمعوِّقات التي تواجه المسلمين في ألبانيا: 4 - الفقرُ والبطالة، والفقرُ كادَ أن يكون كفرًا، وهو ظاهرٌ لمن تأمَّلَ في ألبانيا، وتزيدُ البطالةُ من شدةِ الحال، وهذه وتلك تزيدُ من مشكلاتِ المسلمين في ألبانيا، وتُسهِمُ بشكلٍ أو بآخرَ في الفسادِ والانحراف. 5 - والهجرةُ من ألبانيا- ولاسيما في أوساطِ الشباب - للدولِ الكافرة المجاورةِ للبحث عن العمل، هي الأخرى إشكاليةٌ وتحدٍّ ضدَّ الشعبِ الألباني، ولاشكَّ أن لهذه الهجرةِ مخاطرَها في تردِّي الأخلاقِ وانحرافِ الأفكار. 6 - ويواجه الشبابُ المتديِّنُ والشاباتُ الملتزمات، وهم وهنَّ قليلٌ بالنسبة لغيرهم، تحدٍّ من أهلِيهم والأبعدِينَ لالتزامِهم وقيامِهم بأمر الإسلام، ولربما قيل لهم جهلًا أو تجاهلًا -: وما هذا الدينُ الذي أَتيتُم به؟ وحتى لو لم يُقَلْ لهم شيءٌ، فلك أن تتصوَّرَ وضعَ شابٍّ أو شابةٍ يعيشُ بين أبوينِ لا يُصليِّان ويشربانِ الخمرَ حتى يَثمَلا! ولا تسألْ عن التفريطِ في الواجباتِ الأخرى أو ارتكاب محرَّمات أخرى، ومع ذلك فالحقُّ يقال: إن هؤلاءِ الشبابَ صابرون ومحتسِبون على ما يلقَوْنَ، زادهم اللهُ ثباتَا وهدى، وفتحَ على قلوب أهلِيهم وهداهم للهُدى .. وبفضلِ الله ثم بجهودِ هؤلاءِ الشباب لم تعدِ اللحيةُ مستغربةً، ولم يَعُدِ

الحجابُ معدومًا وإن كانت هذه وتلك لا تمثِّلُ إلا أقليةً وسطَ جموعِ شاردةٍ غافلة. إخوةَ الإسلام: هذه من أبرزِ الصعوباتِ والمعوِّقات التي تواجهُ المسلمين في ألبانيا -وقد يكون هناك غيرُها- ولكن ما الحلُّ .. وكيف يُسهِمُ المسلمون في تذليلِها أو بعضِها؟ والإجابةُ عبر النِّقاط والمقترَحات التالية: 1 - شعورُ المسلمين عمومًا -حكومات وأفرادًا، العلماءَ والدعاة، والأغنياءَ- بأوضاعِ المسلمين هناك، ومدُّ يدِ العونِ لهم، وكلٌّ على حسبِ قُدرتِه، ولا ينبغي أن يكون النصارى أسرعَ في النجدةِ والمساعدةِ من المسلمين، وهل تعلمُ أن كفالةَ اليتيم في ألبانيا لمدةِ شهرٍ بخمسٍ وعشرين دولارًا، وهل تعلمُ أن الدعوةَ تُقدَّم لليتيم مع الإطعام وبالمبلغِ نفسِه فهنالك مؤسساتٌ إسلاميةٌ ودعاةٌ إلى الله يقومون بكفالةِ الأيتام ودعوتِهم وتعليمِهم الخيرَ؟ 2 - الإكثار من عقدِ الدَّوراتِ الشرعيةِ والملتَقَيات النافعةِ بالمسلمين والألبانِ عمومًا، وبالشباب المتديِّنِ على وجهِ الخصوص، فتلك ترفعُ من معنويَّاتِهم، وتفقِّهُهم في دينِ الله وتزيدُ من جهدِهم وعطائِهم بإذن الله. 3 - بناءُ المساجدِ حتى يستطيعَ المسلمون إقامةَ الصلاةِ جماعةً، وقد عَلِمْنا أن قرىً بل مدنًا بأكملِها لا يوجدُ فيها مسجدٌ واحد. 4 - كفالةُ الأئمةِ والدعاةِ إلى الله، فهناك مَن لديهِ استعدادٌ للدعوةِ لكن قد يشغلُه البحثُ عن المعاشِ له أو لمن يَعُولُ عن الدعوةِ إلى الله، ولو وُجِدَ من يَكفُلُهم لتفرَّغُوا للدعوة، وهل تعلمُ أن المبلغَ الذي يُكفَل به الداعيةُ -ذكرًا كان أم أنثى- مائةُ دولار شهريًا تقريبًا، ومن جهَّز غازيًا فقد غزا، والجهادُ بالمال لا يقلُّ أهميةً عن الجهادِ بالنفس.

5 - إقامةُ المشاريع الدَّعويةِ ذات الجوانب الإغاثيةِ، فهذه تستقطبُ عددًا من المسلمين لفقرِهم وحاجتِهم، ومن يُطعِمُ يستطيعُ أن يعلِّمَ ويدعوَ. 6 - بعثُ الدعاةِ للإقامةِ هناك للدعوةِ وتعليمِ الخير، وكم من طاقةٍ معطَّلةٍ وفي بلادِ المسلمين حاجةٌ إليها، وأيُّ قَدْرٍ من العِلْم والدعوةِ يكفي هناك، إذِ المسلمون محتاجون إلى شيءٍ يُقدَّمُ لهم. 7 - استقطابُ عددٍ من أبناءِ المسلمين الألبانِ إلى بلادِ المسلمين على هيئة مِنَحٍ دراسية يتعلَّمون العربيةَ والعلومَ الشرعية ثم يعودون إلى بلادِهم دعاةً إلى اللهِ على بصيرة، وأئمةً في المساجدِ، ومُفتِين .. وهكذا وللحقِّ فإنَّ لبلادِ الحرمين وللجامعةِ الإسلامية بالذاتِ والجامعات الأخرى سهمًا واضحًا، وأثرًا ملموسًا يراه الزائرُ رأْي العينِ. ولِما رأيناهُ من أثرٍ ندعو للمزيدِ، فالحاجةُ لا تزالُ قائمةً. 8 - فتحُ مدارسَ للبنين تزاحمُ مدارسَ النصارى، وأُخرى للبناتِ تُحافظُ على الحِشْمة وتمنعُ الاختلاط .. وهذه وتلك من أنفعِ الوسائلِ إذا أُحسِنَ اختيارُ المعلِّمين والمناهجِ، واستمرَّت متابعةُ المتخرِّجين وتوظيفِهم. 9 - دعمُ المؤسساتِ الإسلاميةِ الألبانيةِ العاملةِ هناك، وهي أحوجُ ما تكونُ للدعمِ والمساندة .. والفرقُ كبيرٌ بين إمكاناتِها ودعمِها وبينَ المؤسساتِ التنصيرية. 10 - وحيث تقومُ اليومَ عددٌ من المؤسَّسات والهيئاتِ الإسلاميةِ من خارج ألبانيا بالدعوةِ هناك، ولها أثرٌ واضحٌ وللدعاة فيها جهدٌ مشكورٌ، فهذه كذلك تستحقُّ الدعمَ والمساندة .. ومن أبرزِها مؤسسةُ الوَقْف الإسلامي، وهناك مؤسساتٌ غيرُها تُذكَر وتُشكَر وليس المجالُ حصرًا لشيءٍ منها. 11 - وللإعلامِ دورٌ كبيرٌ في نقلِ الصورة، وعلى الإعلاميين كِفلٌ كبيرٌ من

المسؤولية .. وذلك عبرَ الخبرِ والتحليلِ الصحفيِّ، والبرنامجِ الإذاعي، والقنواتِ المرئية .. فكلُّ ذلك يُسهِم في توعيةِ المسلمين في ألبانيا وينقلُ أخبارَهم، ويقدِّم الحلولَ لمشاكلهم. 12 - كما يُسْهِمُ في التوعيةِ هناك وجودُ مطبعةٍ تُسهِم في نشرِ تعاليم الإسلام عبرَ الكتاب والمجلَّة ونحوها. إن هذه الخطواتِ الإعلاميةَ ونظائرَها لو عُنِيَ المسلمون بها ووفَّروها لإخوانِهم في ألبانيا -لكان ذلك نافعًا ومؤثِّرًا بإذن الله لا على مستوى ألبانيا وحدَها، بل على مستوى البلقانِ كلِّها .. وعسى اللهُ أن يهيئَ للمسلمينَ مِن أمرِهم رُشدًا. عبادَ الله: تِلكُم جولةٌ سريعةٌ في أرضِ ألبانيا بأوضاعِها واحتياجاتِها والمقترَحات حيالَها -أسألُ الله أن ينفعَ بها، وللحديثِ بقيةٌ إن شاءَ الله في موقعٍ آخر .. وعن حالةٍ أُخرى أَستكملُها في الخطبةِ القادمةِ بإذن الله تعالى. اللهم اجمعْ كلمةَ المسلمين على الحقِّ والدِّين، وكلِّلْ جهودَ الدعاةِ والعاملين بالتوفيقِ والسَّداد، واخلُفْ على المتقينَ وأَغنِ فقراءَ المسلمين من فضلِك يا ربَّ العالمين.

كنت في البلقان (2) المسلمون في البوسنة والهرسك

كُنتُ في البلقان (2) المسلمون في البوسنة والهرسك (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه .. اللهم صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلين وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين ومن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (¬3). إخوة الإسلام: ولئِن كان الحديثُ في الجمعةِ الماضيةِ عن الإسلامِ والمسلمين في ألبانيا بينَ آثارِ الشيوعيةِ والانبعاثِ الإسلاميِّ الجديد، فحديثُ اليوم عن فئةٍ أُخرى من المسلمين عاشوا هم الآخرون تحتَ وَطْأة الشيوعيةِ والشيوعيِّين فترةً من الزمن، ثم عاشوا تحتَ حُكْم النصارى العربِ والكُرْوات فترةً زمنيةً أخرى، ثم عادوا اليومَ يحكمُهم الشيوعيون والعِلْمانيون .. كانت ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 27/ 5/ 1422 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 1. (¬3) سورة فاطر، الآية: 5.

أخبارُهم وأحوالُهم غائبةً عن المسلمين فترةً من الزمن، حتى إذا دقَّ النصارى طبولَ الحرب وأرادوا تصفيةَ الوجودِ الإسلاميِّ في البوسنة والهرسك، تحرَّكتْ عواطفُ المسلمين في المشرقِ والمغربِ، وعَرَفَ من لم يعرِفْ من قبلُ أن في البوسنة والهرسك رجالًا ونساءً وأطفالًا يقولون: ربُّنا الله. عبادَ الله: إلى أرضِ البوسنة والهرسك أنقلُكم -ولو ذِهْنيًا- وعن أحوالِ المسلمين البوسنيين أحدِّثُكم -ولو قليلًا- ومن لم يهتمَّ بأمرِ المسلمين فليس منهم. ولستُ أدري أمِنْ روائعِ الجهاد وبطولاتِ المقاتلين أَطُوف بكم .. وهناك لو استُنطِقَ الحجرُ لشهدَ على ملاحمِ البطولةِ وكرامةِ الشهداء، وتكادُ الأوديةُ الجاريةُ بالأنهار .. أن تختلطَ بها دماءُ القتلى والجرحى. يمكنُك في أرضِ البوسنة والهرسك أن تقرأ الحربَ وآثارَها في المُعاقِين والمرضى، وفي كثرةِ القبور الجماعية على جَنَباتِ الطُّرُق، وفي آثار التدميرِ في المنشآتِ والمباني التي لم تُرمَّمْ بعدُ. أم أتحدَّثُ عن وحشيةِ النصارى وما فعلوه بالمسلمين سواءً من داخلِ أرض البوسنة أم من خارجِها، ولا سيَّما الدولِ الكبرى، أم أتحدَّثُ إليكم عن مكاسبِ المسلمين وخسائرِهم في هذه الحربِ الأخيرة وما هو الدَّورُ المطلوبُ من المسلمين تجاهَ إخوانهم، بعد معرفةِ خُطَطِ النصارى ووجودِهم في البوسنة والهرسك. أيها المسلمون: وبدأتْ أكثريَّةُ المسلمين تعرفُ عن الإسلام والمسلمين في البوسنةِ والهرسك بعد الحربِ التي استمرَّتْ أكثرَ من ثلاثِ سنوات من عام 1992 م إلى 1995 م .. وكان لوحشيةِ النصارى الصِّربِ بالذاتِ في هذه الحربِ

أثرٌ في تعاطُفِ المسلمين، بل وغيرِ المسلمين مع مُسلِمي البوسنة والهرسك. كيف لا يتعاطفون وقد خلَّفتِ الحربُ ما يزيدُ عن مائتي ألف قتيلٍ ما بين مسلمٍ ومسلمةٍ وطفلٍ؟ أما الجرحى والمعاقون -بأيِّ نوعٍ من الإعاقة- فهؤلاء يُقدَّرون بمائة ألفٍ، ولا يزال ما يَقرُبُ من ثلاثين ألفَ معاقٍ يُعانُون من أثرِ الإعاقة. كما خلّفت الحربُ خمسةً وعشرين ألف يتيمٍ، ولا تسأل عن حاجةِ هؤلاءِ للرعاية -لكافةِ جوانبِها. أما مَن فرَّ من المسلمين البوسنِّيين نتيجةَ ويلاتِ الحرب فيُقدَّرُون بمليونِ مسلمٍ، على هيئةِ لاجئين إما من قريةٍ إلى أخرى داخلَ البوسنة، أو من دولتِه إلى دولةٍ مجاورةٍ، ومنهم من فرَّ إلى دولٍ بعيدةٍ إسلاميةً كانت أم غيرَ إسلامية. إخوةَ الإيمان: ولم تقفْ آثارُ الحرب وهجمةُ النصارى على المسلمين في البوسنة عند هذا الحدِّ .. بل طالتِ الآثارُ العزَّلَ من السلاحِ والآمنين في بيوتِهم ولم تَسلَم النساءُ من خُبْثِ النصارى ووحشيَّتِهم .. ويؤكِّدُ البوسنيون أن أكثرَ من أربعين ألفَ امرأةٍ مسلمة فعلَ بها النصارى الفاحشةَ، هذا إنْ سَلِمَتْ من القتلِ والتشريد. وبيوتُ الله هي الأخرى أُسقطِت مآذنُها ومحاريبُها وهُدِّمت جدرانُها، وقد بلغ عددُ المساجدِ التي سُويِّتَ بالأرض ودُمِّرت تمامًا ستُّمائةِ مسجدٍ تقريبًا، وفوقَ ذلك أُصيبَ ثلاثُمائةِ مسجدٍ بشدوخٍ وتصدُّعاتٍ تحتاجُ معه إلى ترميمٍ وإصلاحٍ، ونال التدميرُ كذلك المنشآتِ والممتلكاتِ، وأُفسدت البُنَى التحتيةُ من طرقٍ وجسورٍ ومولِّداتِ كهرباء ونحوِها فضلًا عن تهديمِ البيوت ليصبحَ ساكنوها بلا مأوى، ويقال: إنه يوجدُ الآن أكثرُ من ثلاثِمائةِ ألفِ مسلمٍ لم يستطيعوا

العودةَ إلى منازلِهم في البوسنة -على أثرِ تدميرِ الحرب وتشريدِ الشعوب. إخوةَ الإيمان: والمآسي هناك تَعصُر الفؤادَ، ووحشيةُ الصِّرب والكُرْوات والنصارى تظهرُ في أكثرَ من اتجاه .. ولئن نسي العالَمُ أو تناسَوْا هذه المآسيَ والجرائمَ، فلن ينسى المسلمون عامةً ومسلمو البوسنة والهرسكِ على وجه الخصوص تلك المذابحَ الجماعيةَ الغادرة التي تمَّت بتواطئٍ وتخطيطٍ من المجرمين، وما مذبحةُ (سربرنتسا) إلا نموذجًا لهذا الغدرِ الأثيم، فقد كانت مُحصّلةُ القتلى في هذه الحادثةِ وحدَها عشرة آلاف وأربعمائة قتيل وقتيلة، في مدةٍ لا تتجاوزُ الأسبوع! وفي هذه المذبحةِ غابتْ شِعاراتُ حقوقِ الإنسان عند الغربِ، بل وغاب معها قِيَمُ الغرب التي طالما تبجَّح بها، والسببُ أن العنصرَ الخاسرَ مسلمون حتى ولو كانوا أوربيين؟ لكن حقوق هؤلاءِ المسلمين المظلومين محفوظةٌ عند المسلمين، وجزاؤُهم وأجرُهم عند ربِّ العالمين. أيها المسلمون: وبرغمِ هذه الويلاتِ والخسائرِ المُرَّة لهجمةِ النصارى على المسلمين، إلا أن الأحداث برُمَّتِها لم تكن شرًا محضًا، بل كان في ثناياها من الخيرِ ما يحمل البِشرَ، والفأْلَ لحاضرِ المسلمين في البوسنة والهرسك ومستقبلِهم بإذن الله .. وهنا يَردُ السؤال .. وما هي الآثارُ الإيجابيةُ والمبشِّراتُ الإسلامية في أرضِ البوسنة والهرسك: 1 - لقد كان من أبرزِ هذه الآثارِ معرفةً عددٍ من المسلمين في العالم بإخوانٍ لهم في العقيدةِ في البوسنة والهرسك، وتعاطُفِهم معهم بالدَّعم والدعاءِ، وهذا في حدِّ ذاتِه مكسبٌ لإحياءِ مشاعرِ المسلمين وترابُطِهم إذا استمرَّ وأُنجِز. 2 - وفي نفوسِ البوسنيين أَيقظتِ الحربُ بويلاتِها وشراسةِ النصارى وحِقْدِهم كوامنَ العقيدة في النفوس، فعادوا يتذكَّرون هويتَهم المفقودةَ ردحًا من الزمن، وبدؤوا يعدون إلى دينِهم ويعتزُّون بإسلامهم، في مقابلِ تعصُّب النصارى لدينِهم

وحربِهم للمسلمين على عقيدتِهم، وبدأ يرتادُ المساجدَ مَنْ لم يكن يعرفُ طريقَها من قبلُ. 3 - أما الأثرُ الأعظمُ فهو عودةُ عددٍ من شبابِ البوسنة للإسلام بمفهومِه الصحيحِ الشامل، وبالالتزامِ الصادق، بل والحماسِ للدعوة لهذا الدِّين، وبَعْثِه من جديدٍ في نفوس قومِهم البوسنيين، {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬1)، وقد رأينا بأمِّ أعينِنا -نماذجَ لهؤلاءِ الشبابِ الملتزمين زادهم اللهُ هدى وبصيرةً، وثبتَّهم وحَفِظَهم ونفعهم ونفعَ البلادَ والعبادَ بهم. 4 - وأمرُ الوعي كذلك بدأَ في صفوفِ النساء -وإن كان بنسبٍ أقلَّ- فبدأتَ تسمعُ عن عددٍ من الملتزماتِ بل الداعياتِ، ولم يعُدِ الحجابُ -كما كان من قبلُ- مظهرًا من مظاهرِ التخلُّفِ والرجعيةِ، بل رمزًا للعِزَّةِ والكرامةِ والأصالةِ الإسلامية، وإن كان لا يزال نِسبٌ كبيرةٌ من النساءِ هناك يمثِّلنَ الضياعَ والانحرافَ ويشكِّلنَ عنصرًا من عناصرِ الفسادِ والفتنة، ثبَّت الله المهتدياتِ، وهدى الضالاتِ والمتبرِّجاتِ إلى الحقِّ والهدى. 5 - وفي مقابل هدمِ النصارى للمساجدِ تعاطفَ المسلمون مع إخوانِهم في البوسنة، فعُمِّرت المساجدُ من جديدٍ وبمساحاتٍ أوسعَ وببناءٍ أقوى وأفخم، بل وبُنيَ إلى جانبها المراكزُ الإسلاميةُ للدعوةِ والتعليمِ ويُعدُّ مسجدُ ومركزُ خادمِ الحرمين الشريفين في سراييفو أكبرَ وأفخمَ مسجدٍ ومركزٍ، لا في البوسنةِ والهرسك وحدَها، بل ربما على مستوى البلقانِ، وحين يُفتَحُ المركزُ بخدماته وتقنيتِه العاليةِ ويُدعَم ويوفَّقُ لعاملين نَشِطِين مخلِصين، فسيكون له أثَرُه بإذنِ الله هناك، وهناك مساجدُ ومراكزُ أخرى، جزى الله العاملين المخلِصين المنفِقين عليها خيرَ الجزاء. ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 19.

6 - ورغم ظروفِ البوسنيين وفقرِهم فقد تعاطَفُوا وشاركوا في بناءِ المساجدِ والمراكزِ هناك. 7 - ودوَّتْ صيحاتُ الإغاثةِ في مشرقِ العالَم الإسلاميِّ ومغربِه للتعاطفِ مع الأيتام والأراملِ والمحتاجين من المسلمين في البوسنةِ، فقامت عددٌ من المؤسساتِ الإسلامية والهيئاتِ الإغاثية، ونفرٌ من أثرياءِ المسلمين وأهلِ الخير بكفالةِ عددٍ من الأيتام، ورعايةِ عددٍ من الأسر المحتاجة هناك -ولكنَّ الحاجة لا تزالُ قائمةً، وقائمةُ اليتامى التي تنتظرُ ربما تفوق قائمةَ المكفولين- وهذا التعاطفُ نوعٌ من تلاحُمِ المسلمين وأسلوبٌ من أساليبِ وَحْدتِهم، وهو مغيظٌ للأعداءِ بكلِّ حال. أعوذُ باللهِ من الشيطان الرجيم: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (¬1). ¬

(¬1) سورة البلد، الآيات: 11 - 16.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، حَكَم في مُحكَم تنزيله بأخوّة المؤمنين مهما تباعدتْ ديارُهم أو اختلفتْ ألسنتُهم وألوانُهم فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬1)، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أمرَ بالولاءِ للمؤمنين وحذَّرَ من الفتنةِ والفسادِ إذا لم يُفعَل هذا الولاءُ والبراءةُ من الكافرين ولو كانوا أقربَ قريبٍ، فقال: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (¬2). وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه أخبرَ عن ترابُطِ المؤمنين بقوله: «المؤمنونَ كرجلٍ واحدٍ إن اشتكَى رأسُه اشتكَى كلُّه، وإن اشتكَى عينُه اشتكى كلُّه» رواه أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير (¬3). اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين. إخوةَ الإيمان: ولعلَّ أحدَكم يسألُ ويقول: وكيف انتهتِ الحربُ في البوسنة والهرسك، وماذا عن اتفاقيةِ (دايتن) وما الدَّورُ المطلوبُ من المسلمين، وما الفرقُ بين وجودِ المؤسَّساتِ التنصيريةِ والمؤسساتِ الإسلاميةِ في البوسنةِ والهرسك بعد نهايةِ الحربِ إلى هذا اليوم؟ وللإجابةِ أقولُ: من المعلومِ أنَّ المسلمين في أُخرَياتِ أيامِ الحرب بدؤوا يتقدَّمون وتَسقُط بأيديهم المدينةُ تِلوَ الأخرى .. وكلما تقدموا تأخَّرَ النصارى .. ولكنَّ هذا الوضعَ أقلقَ الدولَ ¬

(¬1) سورة الحجرات، الآية: 1. (¬2) سورة المجادلة، الآية: 22. (¬3) صحيح الجامع ح 6544.

النصرانيةَ الكبرى، فبدأ التدخلُ سافرًا، بل بدأ الضغطُ على حكومةِ البوسنة بقُوَّة لإيقافِ الحربِ وإبرامِ وثيقةِ صلحٍ، وما كان للمجاهدينَ رغبةٌ في إيقافِ الحربِ .. ولكن أمامَ ضغطِ الحكومة والتي بدورِها واجهتْ ضغوطًا من الغربِ وفي مقدمتِه أمريكا، امتثلوا للأمرِ الواقع، وفوَّتوا على الغربِ خُطةً خبيثةً ماكرةً بإشعالِ الفتنةِ بين المسلمين حين يوافق بعضُهم على إيقافِ الحرب ويرفضُ آخرون إيقافَها. وبعدَ إيقافِ الحرب أشرفَ الغربُ كلُّه وفي طليعتِه أمريكا على اتفاقيةِ (دايتن) في فرنسا، والتي جاءتْ بنودُها وشروطُها مُجحِفةً بحقِّ المسلمين ومائلةً كلَّ الميلِ مع النصارى .. وهل يُتوقَّعُ من الأعداءِ غيرُ هذا؟ ومهما تبجَّحَ الغربُ برعايةِ السلام والعدلِ فذاك النفاقُ الذي سوَّد وجوهَ القوم .. ولكنهم حين يُجحِفون بحقِّ شعوبٍ أوروبية لكنها مسلمةٌ .. فذاك الذي يؤكِّد تزعُّمَهم لحربِ العقائد ويبعثُ في النفوس حميَّةَ الولاءِ للعقيدة لا للعِرقِ والجنسية! أجلْ لقد جاءتِ اتفاقيةُ (دايتن) لتضمنَ دولةً للصِّرب في البوسنة، أما المسلمون فبلا دولةٍ، بل يُحكَمون هم والكروات حكمًا فِدْراليًا، ويتولَّى الحكمَ بالتناوب مندوبٌ من الغرب. ليس ذلك فحسبُ، بل هذه الاتفاقيةُ الظالمة استهدفتْ ضربَ المؤسسةِ العسكريةِ للجيش البُوسني، وبدلَ أن يكون في الجيشِ مائتا ألفِ جنديٍّ مسلم متحمِّسٍ للقضاءِ على آخر صِربيٍّ في البلاد، قلَّصتْ الاتفاقيةُ هذا العددَ إلى ثلاثين ألفَ جنديٍّ فقط .. وهؤلاء كذلك منزوعو السلاحِ؟ ! واستهدفت الاتفاقيةُ الظالمةُ - فيما استهدفتْ - كتائبَ المجاهدين والذين أسمَتْهم الاتفاقيةُ (بالمقاتلين الأجانب) واشترطتْ حلَّ الكتيبة - وإن كان معظم أفرادها من الشبابِ البوسنيِّ، فالمجاهدون مهما كان نوعُهم وعددُهم يُرهِبون

القوى الكبرى، ولذا يسعَوْن لمحاصرتِهم والتضييقِ عليهم. عبادَ الله: وكلمةُ حقٍّ تقال لهؤلاءِ المجاهدين - سواءٌ من داخلِ البوسنة أو خارجِها- إنهم بحقٍّ صمَامُ أمان، وصيحةُ الحقِّ والانتصارِ للمظلوم والغضبِ لله، ونداءُ تكبيرِهم دوَّت له الجبالُ .. باعوا أنفُسَهم لله، وحملوا أرواحَهم على أكُفِّهم جهادًا في سبيل الله ورغبةً في الشهادة. وكم تشهدُ أرضُ البوسنة أو سواها من مواقعِ الجهاد على شجاعتِهم وبَذْلِهم، وحُقَّ للجبال أن تبكيَ لوداعهم، وحين تُحدِّث الأرضُ أخبارهَا فستشهدُ على صلاتِهم بالليل والناسُ نِيَام، وبكائِهم من خَشْيةِ الله في الأسحار، وعلى طول سهرِهم مرابطينَ في سبيل الله، في وقتٍ كان فيه فِئامٌ من المسلمين يغطُّون في نومٍ عميق .. كذلك نحسبُهم والله حسبُنا وإياهم -اللهم اقبَلْ شهداءَهم، وثبِّتْ على الحقِّ أحياءَهم، واهدِهم صراطَك المستقيم. إخوةَ الإسلام في كلِّ مكان: أَتدرونَ ماذا يحتاجُه إخوانُكم المسلمون في البوسنة والهرسك منكم في ظروفِهم الحاضرة؟ 1 - إنهم محتاجون ألَّا تنسَوْا قضيتَهم في وقتٍ كثَّفَ النصارى وجودَهم وجهودَهم، نعم إنَّ من أخطائنا أننا نتعاطفُ مع إخواننا في وقتِ ذُروةِ الأَزْمة، ثم فجأةً ننسحبُ وننساهم وقضيتَهم، على حينِ تتركَّزُ جهودُ النصارى في وقتٍ يغيبُ فيه المسلمون فيُفسِدون ويهدِمون ما بناه المسلمون .. فهل يليقُ الانسحابُ حين تُقطَفُ الثمار .. ليس ذلك في البوسنة فقط، بل وفي كثيرٍ من مواقعِ الجهاد التي دعمناها .. ثم بسرعةٍ وفجأةً نسيناها، ولعلَّ مما يُثير دهشتَكم وحماسَكم أن تعلموا أن بأرض البوسنة والهرسك اليومَ أَكثرَ من ثلاثمائة مؤسسةٍ تنصيريةٍ حسبَ تقرير المجلس التنسيقي للمؤسساتِ غيرِ الحكوميةِ في البوسنة، وكما يعترفُ بذلك البوسنيون .. إنَّ من حقِّ البوسنيين أن يتحسَّروا على انسحابِ

المؤسسات الإسلامية بعد الحربِ، ونحن معهم نتحسَّرُ على هذا الإخلاءِ في وقتٍ تكاثرَ فيه الدخلاءُ والنصارى. ولقد كانت تجربتُكم في ربطِ الدعوةِ مع الجهاد -في أرض البوسنة- تجربةً رائدة .. آتَتْ أُكُلَها في حينِها، ولا تزالُ أرضُ البوسنة تتروَّى من مَعِينها، والأملُ -بعدَ الله- كبيرٌ في شبابِ البوسنة الذين تربَّوْا في محاضنِ الجهاد .. واستفادوا من دعوةِ المجاهدين. 2 - ولا تزال الحاجةُ قائمةً لبناءِ المساجد أو إكمالِ ما بُدئ به ولم يُكمَل، وقد رأيتُ ما بُدئ به ولم يُنجَزْ، علمًا بأن هذه المساجدَ على مستوى القريةِ والمدنِ هي الوحيدةُ. 3 - والدعاةُ إلى اللهِ من البوسنيين أو غيرِهم يحتاجونَ إلى دعمٍ ماديٍّ يسدُّ حاجتَهم ويُفرِّغهم للدعوة بين أهلِيهم وبني قومِهم، كما يحتاجون إلى الدعمِ المعنويِّ وهو أهمُّ، وذلك بزيارةِ المشايخ والدُّعاةِ وطلبةِ العلم لهم، وإقامةِ الدورات الشرعيةِ والبرامجِ النافعة، والدروسِ والمحاضراتِ العامَّة لهم ولعمومِ المسلمين هناك، وكلُّ ذلك يُسهِم في تثبيتِهم -بإذن الله- أمامَ المدّ النصرانيِّ والصليبيِّ وموجاتِ العَلْمنة والتغريب .. وإذا كان حاكمُ الصِّرب المجرمِ وُكِّلَت إليه مهمةُ التصفية الجسدية لمسلمي البوسنة والهرسك -وقد اعترفَ العالَمُ الغربيُّ بأن حاكمَ الصرب مجرمُ حربٍ- فحاكمُ الكروات النصرانيُّ وُكِّل إليه أَوْربةُ البوسنيين (يعني جعلَ البوسنة أُوروبية الطابع والشخصية) فقد صرَّح الرئيس الكرواتي بأن الغربَ كلّفه بهذه المسؤولية .. فهل يهبُّ المسلمون لنجدةِ وحمايةِ إخوانهم من كيدِ النصارى. 4 - وهناك عددٌ من اليتامى والأيامى والأراملِ والمعاقين من المسلمين خلَّفتها آثارُ الحرب، وهؤلاء إن لم يسبقِ المسلمون لمساعدتِهم وإيوائِهم وسدِّ

حاجتهم فستخطفُهم المؤسساتُ التنصيرية وستقدِّمُ لهم الطعامَ والكساءَ والتعليم بيدٍ وبالأخر تقدِّمُ لهم الإنجيلَ المحرَّفَ وتسلخُهم من إسلامِهم الحق، أو يقعون فريسةً للفسادِ الشيوعيِّ والانحلالِ الخُلُقي ويصبحون عالةً على المسلمين فيما بعدُ. 5 - وحين تُعنَى المؤسساتُ الكافرةُ هناك بالإعلامِ وتركِّز على التعليم، فهل يُولِي المسلمون هذه الجوانبَ المهمة عنايتَهم بفَتْحِ المدارسِ واستقدامِ طلاب المِنَح، والعنايةِ بالجوانب الإعلامية بكافة صُورِها وقنواتِها لصالحِ المسلمين في البوسنة وقضيتِهم المشروعة؟ 6 - وأخيرًا فإنني أهمسُ في أذنِ عددٍ من التجارِ والسيّاحِ أن يتجهوا بتجارتِهم وسياحتِهم إلى بلادِ المسلمين هنا وسيجدونَ فيها من جمالِ الطبيعة وحسنِ الأجواء ما يدعوهم للسياحةِ، وستكون فرصةً لاطِّلاعهم على أحوال إخوانِهم المسلمين ودعمِهم، فليس مَنْ رأَى كمن سمعَ، بدل أن يتجهوا لسياحتِهم وتجارتِهم واستثماراتِهم إلى بلادِ الكفر والعهرِ، فتذهبُ أموالُنا إلى صناديقِ أعدائنا، فندعمُهم من حيثُ لا نشعر -وهم ليسوا بحاجةٍ إلى دعمِنا- وننسى دعمَ إخواننا وهم في أشدِّ الحاجةِ لدعمنا. تِلكُم معاشرَ المسلمين خلاصةُ رؤىً ومشاهدَ ومشاعرَ عشتُها مع إخوانِنا في ألبانيا والبوسنة والهرسك .. رأيتُ أن أُشرِكَكم فيها، وأن أحمِّلَكم مع نفسي مسؤوليةَ الدعمِ والمناصرةِ لهؤلاء المسلمين. اللهم انصرْ دينَك وعبادَك الصالحين، اللهم اكفِنا شرورَ الأعداء. اللهم هل بلَّغتُ.

لغة القوة ماذا تعني وماذا تنتج؟

لغة القوة ماذا تعني وماذا تنتج؟ (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِهِ اللهُ فلا مُضلَّ لهُ، ومنْ يضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وارضَ اللهمَّ عنِ الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ وتابعيهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. أيَّها المسلمونَ: لغةُ الغطرسةِ والكبرياءِ ماذا تعني وماذا تُنتِجُ؟ سؤالٌ يتردَّدُ دائمًا ولكنهُ يُثارُ أكثرَ حينَ تكثرُ مستنقعاتُ الدماءِ، وحينَ يُظلَمُ الضعفاءُ، ويُقتَلُ الأبرياءُ ويُشمَلُ بالقتلِ الأطفالُ والنساءُ. والمتأمِّلُ اليومَ في كونِ اللهِ الواسعِ يرى ظُلْمًا وعدوانًا، وقتلًا وتشريدًا منْ دولٍ تملكُ القوةَ، وتلوِّحُ بعصاها الغليظةِ، وتمتدُّ بأذرعِها الضاغطةِ هنا وهناكَ. ومنَ المؤسفِ والمؤلمِ أنْ تكونَ الأرضُ المباركةُ، حيثُ مسرى الأنبياءِ وبيتُ المقدسِ، أكثرَ هذهِ الأماكنِ تعرُّضًا للظُّلْمِ والصَّلَفِ والكبرياءِ، وأنْ يكونَ الشعبُ الفلسطينيُّ الأعزلُ .. إلّا منْ حجارةٍ يحملُها الأطفالُ .. وهُتافاتٍ يُصوِّتُ بها الرجالُ، وأدعيةٍ ودموعٍ تُطلقُها وتَسكبُها ألسنةُ وعيونُ النساءِ .. أنْ يكونَ هذا الشعبُ الأبيُّ منْ أكثرِ الشعوبِ التي وَقَعَ عليها الظُّلمُ والاعتداءُ في هذهِ الأيامِ. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 6/ 6/ 1422 هـ.

ونعودُ للسؤالِ المطروحِ مرةً أخرى: ماذا تعني لغةُ الغطرسةِ والكبرياءِ .. ؟ إنَّ ممَّا تَعنيهِ هذهِ اللغةُ أنها تنفيسٌ عنِ الحقدِ الدفينِ، وهيَ أسلوبٌ سافلٌ منْ أساليبِ الاستفزازِ، هي نزغةٌ منْ نَزَغاتِ الشيطانِ، وهيَ محاولةٌ لتصفيةِ القضيّةِ العادلةِ على حسابِ الجماجمِ والأشلاءِ البشريّةِ .. وهيَ كذلكَ فهمٌ منْ فهومِ السلامِ عندَ مَنْ يَرَوْنَ أنفسَهمْ حُماةَ السلامِ .. وتعني كذلكَ فَرْضَ القوّةِ وإشعارُ الأطرافِ الأخرى بعدمِ قدرتها على التحدِّي. بلْ قدْ تعني هذهِ الغطرسةُ الأخيرةُ أَبْعدَ منْ ذلكَ، فقدْ تكونُ رسالةً موجَّهةً .. وقدْ تكونُ مؤشِّرًا لعدوانٍ أوسعَ. عبادَ اللهِ: ومهما عنتْه هذهِ الحركاتُ والاستفزازاتُ والقتلُ والتدميرُ فإنَّ الناتجَ لها سلبيٌّ، ولعلَّ أكثرَ المتضرِّرينَ منها همُ المُشعِلونَ لفتيلِها. نعمْ إنَّ الضغطَ يولِّدُ الانفجارَ .. والتحدِّيَ يخلُقُ تحدِّيًا آخرَ، والضعيفَ إذا حوصرَ وضيِّقتْ عليهِ المسالكُ قد يتقوَّى؛ لأنهُ لمْ يبقَ لهُ شيءٌ يَخشى على فواتِه، وبالتالي فسيُجازفُ بأغلى ما يَملكُ، وبكلِّ حالٍ سيتضرَّرُ الطرفُ الآخرُ. والقويُّ إذا لم يُحسنِ استثمارِ قوّتِهِ وضبْطَ قدراتهِ؛ عادتْ هذهِ القوةُ وبالًا عليهِ، ومِنْ سننِ اللهِ في كَوْنهِ أنَّ الظُّلْمُ إذا بلغَ حدَّه تهدَّمتْ عروشُ الظالمينَ، وكانتْ تلكَ بدايةَ النهايةِ لهم، وفي كتابِ اللهِ العزيز تصديقُ ذلكَ، مثلُ قولِهِ تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (¬1). قولِهِ تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} (¬2). ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 58. (¬2) سورة الحج، الآية: 45.

أينَ فرعونُ ذو الأوتادِ؟ أينَ فرعونُ ذو الأوتادِ؟ وأينَ قارونُ صاحبُ الأموالِ؟ أينَ عادٌ التي لمْ يُخلَقْ مثلها في البلادِ؟ وأينَ ثمودُ الذينَ جابُوا الصخرَ بالوادِ؟ لقدْ أهلكَ اللهُ {عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} (¬1) .. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} (¬2). عبادَ الله: إنَّ المسلمَ حينَ يتأملُ واقعَ اليومِ بحروبهِ الشاملةِ، وتدميرِه المتعدِّدِ المواقعِ والأشكالِ .. فهناكَ تدميرٌ للممتلكاتِ، وهناكَ تدميرٌ للقِيَمِ .. وفوقَ هذا وذاكَ هناكَ تدميرٌ للإنسانِ نفسِهِ، وفي كلِّ يومٍ تُزهقُ أرواحٌ بريئةٌ، وتُغتالُ البسمةُ على شفاهِ الأطفالِ والنساءِ والشيوخِ والعجائزِ، وكلُّ ذلكَ ترعاهُ دولٌ عظمى - إنَّ المسلمَ حينَ يتأمَّلُ هذا الواقعَ المرَّ يَروعُهُ ذلكَ، لكنهُ يخرجُ بنتيجةٍ مفادُها أنَّ الحضارةَ القائدةَ للعالمِ اليومَ ليستْ على مستوى مسؤوليةِ القيادةِ، فهيَ عاجزةٌ عنْ تأمينِ الأمنِ والطمأنينةِ - رغم إمكاناتِها الماديةِ الهائلةِ - وهيَ أعجزُ عنْ تأمينِ السعادةِ الحقَّةِ لبني البشرِ .. وإنْ وفَّرتْ لهمْ منْ وسائلِ التقنيةِ والترفيهِ ما لمْ يتوفَّرْ مثلُه منْ قبلُ، بلْ وهيَ عاجزةٌ عنْ تحقيقِ أدنى درجاتِ العدلِ .. وإنْ توفَّرَ لها منَ المنظَّماتِ والهيئاتِ ما تدَّعي بهِ توفيرَ العدلِ - كمحكمةِ العدلِ الدوليةِ، ومجلسِ الأمنِ، وهيئةِ الأممِ المتحدةِ، وسواها منْ منظَّماتٍ وهيئاتٍ لا تعدُو أن تكونَ الألقابُ مملكةً في غيرِ موضعِها: كالهرِّ يحكي انتفاخًا صولةَ الأسدِ وعلى المسلمينَ أن يُدرِكوا مسؤوليتَهمْ في القيادةِ، وأنْ يهيِّئوا أنفسَهمْ للصدارةِ. ¬

(¬1) سورة النجم، الآيتان: 50 - 53. (¬2) سورة النجم، الآية: 55.

أيُّها المسلمونَ: وحينَ نُقلِّبُ صفحاتِ التاريخِ نجدُ أنَّ الحضاراتِ الماديةَ البعيدةَ عنْ هَدْيِ السماءِ - قديمًا أوْ حديثًا - لمْ تستطعْ أن توفِّرَ ما يتطلبُه الإنسانُ منْ أمنٍ ورخاءٍ وطمأنينةٍ وسعادةٍ، بلْ يعيشُ الناسُ في ظلِّها في بؤسٍ وشقاءٍ، وظُلْمٍ وجَوْرٍ .. تتقلَّبُ فيها فئةٌ قليلةٌ منَ الناسِ بأنواعِ النعيمِ والملذاتِ .. ولتشقى شعوبٌ بأكملِها وأفرادٌ كثيرةٌ أخرى. أجلْ إنَّ حضارةَ الرُّومِ وحضارةَ الفُرْسِ هما الحضارتانِ اللتانِ كانتا تَسُودانِ العالمَ قبلَ بعثةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وحينَ بلغتا منَ الفسادِ والشرورِ والظُّلْمِ والطغيانِ مبلغَهما جاءتْ رسالةُ الإسلامِ مخلِّصةً للعالَمِ منْ نَكَدِهما وشرورِهما .. وكانتْ نهايتُهما على أيدي المسلمينَ، فكانَ المسلمونَ وكانتِ الحضارةُ الإسلاميةُ هيَ البديلَ الصالحَ الذي وفَّرَ السعادةَ والطمأنينةَ والرحمةَ والعدلَ في الكونِ، ليسَ فقطْ لمنْ يَدِينونَ بالإسلامِ بلْ ولغيرِ المسلمينَ منْ أهلِ الذمَّةِ الذينَ بدأُوا يَدخلونَ في الإسلامِ تباعًا على أثرِ رؤيتِهمْ لعدالةِ الإسلامِ ورحمةِ المسلمينَ. ومَنْ هؤلاءِ المسلمونَ الذينَ وفَّروا السعادةَ والعدلَ والطمأنينةَ للناسِ؟ أكانوا ملائكةً منَ السماءِ .. أمْ كانوا بشرًا منْ غيرِ طينةِ البشرِ؟ .. كلا، إنهمْ بشرٌ لكنَّهمُ اتَّصَلوا بالسماءِ، واهتدَوْا بالقرآنِ، وتربَّوا في مدرسةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فكانَ تفوُّقُهمْ وكانَ عدلُهمْ .. باختصارٍ: الدينُ الحقُّ غيَّرَ حياتَهمْ وأشعرَهمْ بمسؤوليتهمْ في هذا الكونِ .. وإلا فقدْ كانوا قبلَ الإسلامِ أسوأَ منْ غيرِهمْ: حياتُهمْ قائمةٌ على الحروبِ والمنازعاتِ ولأتْفَهِ الأسبابِ .. والظُّلمُ يعتبرونَهُ منْ شِيَمِ النفوسِ .. والضعيفُ في نظرِهمْ هُوَ الذي لا يستطيعُ أن يَظلِمَ، ومنْ حروبِهمُ التي وَعاها محمدٌ صلى الله عليه وسلم قبلَ بعثتهِ (حربُ الفِجَارِ) وتلكَ لها منِ اسمها نصيبٌ، فقدْ كانتْ حربًا فاجرةً ظالمةً، وبها استحلَّ المحارِبونَ المحارِمَ بينهمْ، ولذا فإنَّ الذينَ قالوا بعدمِ مشاركة الرسولِ صلى الله عليه وسلم فيها -منْ أهلِ السِّيَرِ- علَّلوا عَدَمَ مشاركتهِ بأنها كانتْ

حربَ فجارٍ بينَ كفّارٍ .. بينَ كنانةَ وقريشٍ من جهةٍ، وقيس عَيْلانَ من جهةٍ أخرى .. أمّا الذين قالوا بمشاركتِه فيها فعلَّلوا ذلكَ بأنه اشتركَ دفاعًا عن المقدَّساتِ والمحارمِ ولاسيَّما أنَّ قيسَ عَيْلان هيَ المعتديةُ .. وبكلِّ حالٍ فهذا نموذجٌ لحروبِ العربِ في جاهليّتهمْ، فكيفَ إذا أُضيفَ إليها حربُ البَسُوسِ وداحسَ والغَبْراءِ بويلاتِها وآثارِها؟

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانيةُ: الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، ولا عُدوانَ إلا على الظالمينَ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، إلهُ الأوَّلينَ والآخِرينَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه المبعوثُ رحمةً للناسِ أجمعينَ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ. إخوةَ الإسلامِ: وانقلبتْ أحوالُ الجزيرةِ من مَسْرحٍ للأحداثِ والحروبِ .. تتهارشُ فيها البشرُ كما تتهارشُ الوحوشُ الضاريةُ، وتتطاحنُ القبائلُ والأممُ لأدنى سببٍ، إلى واحةٍ للأمنِ والإيمانِ، يسيرُ الراكبُ فيها من صنعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ ومنْ بلادِ فارسَ إلى بلادِ الرُّومِ - بلْ وأبعدَ منْ ذلكَ - لا يخافُ إلا اللهَ والذئبَ على غَنَمِهِ. إنَّه الإسلامُ غيَّرَ تفكيرَ الشعوبِ .. ونقلَ الطاقةَ المُهدَرةَ ووظَّفَها في مجالاتٍ بنائيةٍ نافعةٍ، فعادَ الكونُ يُعمرُ بذِكْرِ اللهِ، وعادتِ الحياةُ بلونٍ جديدٍ وطعمٍ جديدٍ .. يَشعرُ الضعيفُ بحقِّهِ وحمايتِه كما يشعرُ القويُّ بذلكَ تمامًا. وعادَ المحارِبونَ بلا هدفٍ يحملونَ راياتِ الجهادِ فاتحينَ وداعينَ إلى الدِّينِ الحقِّ .. وليستْ حركةُ الفتوحِ الإسلاميةِ انتشارًا للإسلامِ بحدِّ السيفِ، أو بِلُغةِ القوةِ كما يحلو للمستشرقينَ وأتباعِهمْ أن يروِّجُوهُ .. بلْ كانتْ دعوةً إلى دينِ اللهِ، وفتحًا للقلوبِ بالقرآنِ قبلَ فتحِ البلادِ بالقتالِ، ولمْ يكنِ القتالُ حركةً توسُّعيةً تهدفُ إلى السيطرةِ والاستعلاءِ .. ولكنَّها كانتْ تعميمًا للخيرِ في أرضِ اللهِ، ونشرًا للعدلِ، ومحاصرةً للباطلِ، وقمعًا للمبطِلينَ، وحينَ يُحطِّمُ المسلمونَ المجاهدونَ القياداتِ الظالمةَ يكونُ شعارُهم: {لَا إِكْرَاهَ فِي

الدِّينِ} (¬1)، فلا إكراهَ للشعوبِ على الإسلامِ، إذا كانَ هدفُ الجهادِ في الإسلام إزاحةَ الطواغيتِ التي تُرغمُ الشعوبَ على العبوديةِ لغيرِ اللهِ، وتَحكُمُ فيهمْ بغيرِ شرعِ اللهِ .. وفرقٌ كبيرٌ بينَ هذا اللونِ منَ الجهادِ الإسلاميِّ وبينَ الحروبِ الظالمةِ في الجاهلياتِ القديمةِ والمعاصرةِ، التي تُهلِكُ الحَرْثَ والنَّسلَ، وهدفُها السيطرةُ والاستعلاءُ والاستعمارُ والسَّلبُ والنهبُ. إخوةَ الإيمانِ: وإذا كانتْ لغةُ القوَّةِ والجبروتِ والعُنفِ فاشلةً على مستوى الدولِ والأممِ، فهيَ كذلكَ سيئةُ الآثارِ والنتائجِ على مستوى الأفرادِ. نَعَمْ، إنَّ التفاهمَ بينَ الآباءِ والأبناءِ لا تستقيمُ فيهِ لغةُ القوةِ والعنفِ، بلْ هُوَ أحوجُ إلى المفاهمةِ والتقديرِ والاحترامِ والطاعةِ منْ قِبَلِ الأبناءِ، والرحمةِ والشفقةِ والعطفِ منْ قِبَلِ الآباءِ. وهكذا تخدمُ في العلاقاتِ الزوجيةِ لغةُ التفاهمِ والتعاونِ والرفقِ واللِّينِ أكثرَ ممّا تخدمُ لغةُ القوةِ والتحدِّي والمعاندةِ والمكابرةِ. وبمثلِ ذلكَ يقالُ عنْ علاقةِ الإخوانِ والجيرانِ .. فهيَ تستقيمُ مَعَ الرأفةِ والرِّفقِ ولينِ الجانبِ والتقديرِ والاحترامِ المتبادَلِ .. ولا تستقيمُ مَعَ الصَّلَفِ والغِلظةِ والجفاءِ، ويستطيعُ المعلِّمُ الناجحُ أن يربِّيَ الطلابَ برفقِهِ وتشجيعهِ وتقديرهِ واحترامهِ للطلابِ .. وقد يُخفقُ حينَ تكونُ لغةُ القوةِ دائمًا والشدةِ أبدًا هيَ وسيلتَهُ في التربيةِ والتعليمِ. وإذا كانتِ الحيواناتُ التي لا تعقلُ محتاجةً إلى الرأفةِ والرفق .. وتنفرُ منَ الشدَّةِ والغلظةِ .. فكيفَ يسوغُ معاملةُ مَنْ يَعقلونَ بهذهِ الشدَّةِ والغلظةِ التي لا تُنتِجُ إلا نفورًا وفسادًا. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 256.

عبادَ اللهِ: وحينَ نتحدَّثُ عنْ آثارِ لغةِ القوةِ والغطرسةِ والكبرياءِ، وندعُو للمفاهمةِ والعدلِ والرحمةِ والرأفةِ، فدِينُنا أساسًا يُعلِّمُنا هذهِ القِيَمَ، ويدعُونا إلى تمثُّلِها في واقعِ الحياةِ. أجلْ، إنَّ منَ التوجُّهاتِ الربّانيةِ لمعلِّم البشريةِ وقائدِ سفينةِ الإسلامِ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (¬1) ومنها: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (¬2). ولعبادِ اللهِ كلِّهمْ جاءتِ الوصيةُ منَ السماءِ: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} (¬3)، وإذا كانتِ الوصيةُ بحُسنِ العبارةِ في القولِ، فالوصيةُ بغيرِها منَ الأفعالَ منْ بابِ أَولى. إخوةَ الإسلامِ: إنَّ من علائمِ السعادةِ في المجتمعاتِ أن تسودَها الرحمةُ، فالراحمونَ يرحمُهمُ الرحمنُ .. وحينَ تُنزَعُ الرحمةُ منْ أمّةٍ أوْ مجتمعٍ أوْ فردٍ فتلكَ علامةُ الشقوةِ، ففي الهَدْيِ النبويِّ: «لا تُنزعُ الرحمةُ إلا منْ شقيٍّ» (¬4). ومفهومُ القوةِ في الإسلامِ ليسَ استعراضًا للعضلاتِ بغيرِ حقٍّ، وليسَ تدميرًا بلا هدفٍ، بلْ هُوَ ضبطٌ للمشاعرِ وتحكُّمٌ في القوةِ، وصرفٌ للطاقةِ في وجهِها المشروعِ، وقد عبَّرَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم عنْ شيءٍ من هذا بقولهِ: «ليسَ الشديدُ بالصُّرَعةِ، وإنما الشديدُ الذي يَملكُ نفْسَه عندَ الغضبِ». ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 199. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 159. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 53. (¬4) حديث حسن: «جامع الأصول» 4/ 516.

أيسر العبادات وأزكاها

أيسر العبادات وأزكاها (¬1) الخطبة الأولى: الحمدُ للهِ العليِّ الأعلى، أحمدُه تعالى وأشكرُه وله الأسماءُ الحُسْنى والصفاتُ العُلى، وأشهدُ أن لا إله إلا هو بذِكْرِه تطمئنُّ القلوب، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه خيرُ الذاكرين وخيرُ الشاكرين وما زال لسانُه رطبًا بذِكْرِ الله حتى لحقَ بالرفيقِ الأعلى. اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3). عبادَ الله: كم نُفرِّط في ثواب الآخرة وهو عظيم والآخرة خيرٌ وأبقى {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/ 6/ 1422 هـ. (¬2) سورة الحج، الآيتان: 1، 2. (¬3) سورة المائدة، الآية: 35. (¬4) سورة العنكبوت، الآية: 64.

وكم نُجهِدُ أنفسَنا في سبيلِ حُطامِ الدنيا واللهُ يقول: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (¬1). والفرقُ كبيرٌ بين مُريدِ العاجلةِ ومُريدِ الآخرة، وعنهما قال ربُّنا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (¬2). أيها المسلمون: وثَمّةَ طريقٌ سهلٌ من طرقِ الآخرة طالما غَفَلَ عنه نفرٌ من المسلمين. وهناك عبادةٌ ميسَّرة وعظيمةُ الأجرِ وطالما زهدَ فيها نفرٌ من المسلمين. إنها عبادةُ الذِّكرِ لله .. يَصِلُ بها الذاكرُ إلى درجاتِ المجاهدين - بل يفوق - وإلى درجاتِ المنفقين والمتصدِّقين بل تزيد. يقول عليه الصلاةُ والسلام: «ألا أنبِّئُكم بخيرِ أعمالِكم وأزكاها عندَ مَلِيكِكم، وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٌ لكم من إنفاقِ الذهب والورِقِ، وخيرٌ لكم من أن تَلقَوْا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويَضرِبوا أعناقَكم؟ ذِكرُ اللهِ» رواه الترمذي وابنُ ماجه والحاكم بسند صحيح (¬3). أجل إن الذِّكرَ بشهادةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم خيرُ الأعمالِ وأزكاها عند المِلك العلام، وأعظمُها في رِفْعةِ الدرجات. هل يُعجِزُك يا أخا الإسلام أن تقولَ: سبحانَ اللهِ وبحمدِه؟ وهل تدري أنَّ هؤلاء الكلماتِ المعدوداتِ طريقٌ لمغفرةِ الذنوبِ والخطايا مهما عَظُمَت، وفي ¬

(¬1) سورة الحديد، الآية: 20. (¬2) سورة الإسراء، الآيتان: 18، 19. (¬3) صحيح الجامع الصغير 1/ 370 ح 2626.

صحيح البخاري وغيره: «مَن قال: سبحانَ الله وبحمدِه، في يومٍ مائةَ مرةٍ حُطَّت خطاياه وإنْ كانت مثلَ زَبَدِ البحرِ». يا أخا الإيمان، ويا مَن تبحثُ عن الحمايةِ والتحرُّزِ من الشيطان .. أنت واجدُه في ذِكْر الله .. وواجدٌ معه مزايا ومِنَحًا ربانيةً أُخرى، وفي الحديث المتفق على صحته قال صلى الله عليه وسلم: «مَن قال: لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ في يومٍ مائةَ مرةٍ، كانت له عَدْلَ عشرِ رقابٍ، وكُتِبتْ له مائةُ حسنةٍ، ومُحِيَتْ عنه مائةُ سيئة، وكانت له حِرزًا من الشيطانِ يومَه ذلك حتى يُمسيَ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاء به إلا أحدٌ عَمِلَ أكثرَ من ذلك». أيها المسلمون: إن الذِّكرَ حِرزٌ وأمانٌ وحِصن وسِيَاج .. وهل يخفى أن للسفرِ أذكارًا وللمنزلِ دخولًا أو خروجًا أذكارًا، وللأكلِ والشربِ والنوم والاستيقاظ أذكارًا وعند نزولِ المنزل، وعند قضاءِ الحاجة وعند إتيانِ الرجِ أهلَه. كلّ ذلك وسواه من الأحوالِ له أذكارٌ تَحفَظُ وتُبارِك .. والموفَّق من عَلِمَ فعَمِل، وما زال لسانُه رَطْبًا بذِكْر الله بُكْرةً وعشيًّا .. ذلك نداءُ الرحمن لأهلِ الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (¬1). أيها المسلمون: كم تَضِيقُ الصدورُ أحيانًا وكم تمرضُ قلوبُنا أحيانًا - ثم نظلُّ نبحثُ عن العلاجِ المكافحِ للضِّيقِ والقلقِ هنا وهناك .. وأعظمُ علاجٍ للقلوبِ ذِكرُ الله، وتلك شهادةُ الذي خَلَقَ وهو أعلمُ بمن خلق {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬2). ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآيتان: 41، 42. (¬2) سورة الرعد، الآية: 28.

نعم إنَّ المكروبَ يجدُ في ذِكْر الله ما يفرِّجُ عنه كُربتَه، وفي ذِكْر الله إنقاذٌ حين يغيبُ المنقذون: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). والمريضُ يجدُ في ذِكْر الله ما يُسرِّي عنه ويخفِّف آلامَه، والغريبُ يجدُ في الذِّكر إيناسًا له وتخفيفًا لآلام غُرْبته، إن الذِّكْر يجعلُ من القليلِ كثيرًا ومن الضعيفِ قويًا، ييسِّر العسير ويخفِّفُ المَشَاقَّ، ومن شكَّ فليُجرِّبْ مع استحضارِ عَظَمةِ الله حالَ الذِّكر، والثقةِ بعونِه وتفريجِه. والمرأةُ تجدُ في ذِكْر الله عونًا لها على مسؤولياتِها، وهذه فاطمةُ بنت محمد صلى الله عليه وسلم شَكَتْ ما تلقى من أثرِ الرَّحى، فانطلقتْ حين علمتْ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أتاه سَبْيٌ لتأخذَ منه خادمًا لها، فلم تجدْ أباها ووجدتْ أمِّ المؤمنين عائشةَ -رضي الله عنها- فأخبرتها بحاجَتِها، فلما جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشةُ بمجيءِ فاطمةَ، فجاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى بيتِ عليٍّ وفاطمة وقد أخذا مضجعَهما، فقدَ بينهما .. ثم قال: «ألا أعلِّمُكما خيرًا مما سألتُماني، إذا أخذتُما مضاجعَكما فكَبِّرا أربعًا وثلاثين وسبِّحا ثلاثًا وثلاثين وتَحمَّدا ثلاثًا وثلاثين، فهو خيرٌ لكما من خادمٍ». يا أخا الإسلامِ: وحين تضيقُ عليك الدنيا وتَقِلُّ ذاتُ يدِك فلا مالَ عندَك ولا عَقَار، فاعلمْ أن بإمكانك أن تعوِّضَ بالذِّكْر ما فاتك من الدنيا لتزرعَ ما شئتَ للآخرة، وفي وصيةِ إبراهيمَ لمحمدٍ عليهما الصلاة والسلام ليلةَ الإسراءِ والمعراجِ قال إبراهيمُ: يا محمدُ أَقْرِئ أُمتَك مني السلامَ وأخبِرْهم أنَّ الجنةَ قيعانٌ، وأنها طيِّبةُ التربةِ عَذْبةُ الماء، وأن غِراسَها: سبحانَ اللهِ، والحمدُ لله، ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآيتان: 87، 88.

ولا إله إلا اللهُ، واللهُ أكبر .. رواه الترمذيُّ وحسَّنَه. فأينَ الذين يَغرِسون بالذِّكْر اليومَ ما يغتبطون له غدًا في الجنةِ؟ وغرسُ الآخرةِ لا مُنازعَ له ولا مانعَ منه، بل هو فضلُ الله يؤتيهِ مَن يشاء. يا عبدَ الله: وإذا وفَّقكَ اللهُ للذِّكْر في سحابةِ النهار، وحين تكونُ يقظانَ فلا تفرِّط في الذِّكر حين يَجِنُّ الليلُ وتستيقظُ من النوم، وإليك هذا الحديثَ النبوي فاعقِلْه واعملْ به، يقول صلى الله عليه وسلم: «مَن تَعارَّ من الليلِ - يعني استيقظ - فقال: لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له المُلْكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، الحمدُ لله، وسبحانَ الله، ولا إله إلا اللهُ، واللهُ أكبرُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، ثم قال: اللهمَّ اغفِرْ لي، أو دعا استُجِيب له، فإن توضَّأَ وصَلَّى قُبِلَت صلاتُه». رواه البخاري يا أخا الإسلام: وبشكلٍ عامٍّ فالذِّكرُ عبادةٌ ميسَّرة، وهي ذاتُ مكارمَ وفضائلَ والمغبونُ من كان نصيبُه من الذِّكر قليلًا -لا سيَّما والذكرُ لا يحتاجُ إلى تفرُّغٍ، بل يمكنُ العاملُ أن يذكرَ الله وهو يزاول مهنتَه، والموظفُ بإمكانه أن يذكرَ الله دون أن يؤثِّر على وظيفتِه، وهكذا وهو يقودُ سيارتَه أو بين أهلِه وأولاده .. بل تستطيعُه المرأةُ وهي تزاولُ عملَ بيتِها، ولا يحتاجُ الذِّكرُ إلى طهارةٍ ولا وقتَ يُنهَى فيه عن الذِّكر .. بل يُمارَسُ في كلِّ حينٍ حتى وهو مستلقٍ على فراشِه .. وما أجملَ المرءَ يغيبُ عن الحياةِ ويودِّعُ الدنيا بالنوم وهو ذاكرٌ لله، ثم يستقبلُ الحياةَ بالاستيقاظ بذِكْر الله. وهل علمتَ أن الذِّكرَ من أحبِّ الأعمالِ إلى الله وأكبرِها عندَ الله، قال تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (¬1) وقد سأل معاذُ بن جبلٍ رضي الله عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 45.

أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله عز وجل؟ قال: «أن تموتَ ولسانُكَ رطبٌ من ذِكْرِ الله عز وجل» (¬1). وفي الذِّكر تعويضٌ عما يَفُوتُ المرءَ من صدقةٍ وحجٍّ وعمرةٍ وجهاد .. كما في حديثِ فقراءِ المهاجرين الذين جاؤوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولون: ذهبَ أهلُ الدُّثورِ بالدرجاتِ العُلى والنعيمِ المقيم، فقال صلى الله عليه وسلم: «وما ذاكَ؟ » قالوا: يُصلُّون كما نصلّي، ويصومون كما نصومُ، ولهم فضلُ أموالِهم يحجّون بها ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدَّقون؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أُعلِّمُكم شيئًا تُدرِكون به من سَبَقَكم وتَسبِقُون به مَن بعدَكم، ولا أحدَ يكون أفضلَ منكم إلا من صَنعَ ما صنعتُم؟ ». قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «تُسبِّحون وتَحمَدُون وتكبِّرون خلفَ كلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين» متفق عليه (¬2). وحَسْبُ الذاكرين اللهَ كثيرًا والذاكراتِ أنَّ الله وعدَهم مغفرةً وأجرًا عظيمًا، كما قال تعالى في آخرِ آية الأحزاب: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (¬3). ¬

(¬1) أخرجه ابن حبان في الموارد، والبزار في كشف الأستار، وسنده حسن. صحيح الوابل الصيب/ 79. (¬2) رياض الصالحين/ 536. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 35.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ لله ربِّ العالمين، هو الحيُّ لا إله إلا هو فاعبدُوه مُخلِصين له الدِّين، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، ولو أنَّ السماواتِ السبعَ وعامرَهنَّ غيرَ الله والأرَضِينَ السبعَ وُضِعتْ في كِفّة، ولا إله إلا الله في كفةٍ، لرجحتْ بهنَّ لا إله إلا الله، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله، مَن صلَّى عليه صلاةً صلَّى اللهُ عليه بها عشرًا، اللهمَّ صلَّ وسلِّمْ عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. إخوةَ الإسلام: هنيئًا للذين لا تزالُ شفاهُهم تتحرَّك بذِكْرِ الله في حال خَلْوتِهم أو في حال اجتماعِهم مع الناس، وهنيئًا للذين يَعقِدون أناملَهم بالتسبيحِ والتحميدِ والتكبير والتهليل في حالِ إقامتِهم أو سفرِهم. إن أُولي الألبابِ هم الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبِهم. والمؤمنون حقًا هم الذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبُهم والذين آمنوا هم الذين تطمئنُّ قلوبُهم بذِكْر الله .. وفَرْقٌ بين هؤلاء وبين مَنْ إذا ذُكِرَ اللهُ وحدَه اشمأزَّت قلوبُهم وإذا ذُكِر الذين من دونِه إذا هم يستبشرون. أجل يا عبادَ الله، إن المصلِّين أكثرُ الناس ذِكرًا لله وتلاوةً واستغفارًا، كيف لا وفي الصلاة ذِكرٌ ودعاءٌ وتسبيحٌ وتهليل وتكبير وتحميدٌ، بل لقد سمَّى اللهُ الصلاةَ ذِكرًا كما في قوله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬1). أمّا المنافقون فهم أضعفُ الناسِ وأقلُّهم للهِ ذِكرًا {وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (¬2) لأنهم إذا قاموا إلى الصلاةِ قاموا كُسالى. ¬

(¬1) سورة الجمعة، الآية: 9. (¬2) سورة النساء، الآية: 142.

عبادَ الله: كم هو عظيمٌ عندَ الله أن يتذكَّرَ المرءُ عَظَمةَ الله، ويذكرَ آلاءهَ ونعمَه فيخشعَ قلبُه لذِكْر الله وتفيضَ عيناهُ بالدموع حيث لا يراهُ إلا الله، وأحدُ السبعةِ الذين يُظلُّهم الله في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه رجلٌ ذكرَ الله خاليًا ففاضت عيناه، وربُّنا في محكم التنزيل يقول: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (¬1). وكم هو عظيمٌ كذلك أن يُذكِّر المرءُ بذكر الله فيَذكرَ اللهَ في حالِ اجتماع الناس ليذكِّرَهم بالله -وكفى أولئك فخرًا أن الله يَذكُرهم في ملإٍ خيرٍ من الملأ الذين ذكروا اللهَ عندهم .. ذلك وعدٌ غيرُ مكذوب «مَن ذَكَرني في ملإٍ ذكرتُه في ملأٍ خيرٍ منهم» {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (¬2). وما أعظمَ الأمرَ حين يشاهِدُ المرءُ خَلقًا عظيمًا أو صُنعًا عجيبًا في الكون فيذكِّرُه ذلك بمَن خلقَ العظيم ومن صنَع العجيب، ومن عجبٍ أن نعجبَ أحيانًا من الطائرة في جوِّ السماء وننسى عظمةَ مَن خلقَ السماء وأمسك السماواتِ والأرضَ أن تزولا .. وهل من قادرٍ على إمساكِهما لو زالتا؟ كلَّا بل هو اللهُ العزيزُ الحكيم. يا أخا الإيمان: وإذا أثقلتْكَ الخطايا وتلبَّستَ بالمعاصي وأحسستَ بالذنْبِ فعليك بالذِّكر فهو كفَّارةٌ للخطايا، وفي صحيحِ الأدب المفرَد للبخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ غصنًا فنفضَه فلم ينتفض، ثم نفضَه أخرى فلم ينتفضْ، ثم نفضَه فتحاتَّتْ ورقُها، ثم قال: «إنَّ سبحانَ الله والحمد لله ولا إله إلا الله تَنفُضُ الخطايا كما تنفضُ الشجرةُ ورقَها» (¬3). ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 205. (¬2) سورة البقرة، الآية: 152. (¬3) صحيح الأدب المفرد للبخاري/ تحقيق الألباني ص 237.

وهل سمعتُم بحديثِ البطاقة وما فيه من عَظَمةِ الذِّكر وعدلِ ربِّ العالمين، فقد روى الترمذيُّ وحسَّنه والنَّسَائيُّ والحاكمُ وصححه ووافقه الذهبيُّ مرفوعًا: «يُصَاحُ برجلٍ من أمتي على رؤوسِ الخلائقِ يومَ القيامة فيُنشَرُ له تسعةٌ وتسعون سجلًا، كلّ سِجِلٍّ فيها مدَّ البصرِ، ثم يقال: أتُنكِر من هذا شيئًا؟ أظلمَك كَتَبَتي الحافظون؟ فيقول: لا ياربِّ، فيقال: أفَلكَ عُذرٌ أو حسنةٌ؟ فيهابُ الرجلُ فيقول: لا، فيقال: بلى، إنَّ لكَ عندنا حسنةً وإنه لا ظلمَ عليك اليومَ فيُخرَجُ له بطاقةٌ فيها: أشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبدُه ورسولُه، فيقول: يا ربِّ، ما هذه البطاقةُ مع هذِه السِّجِلاتِ؟ فيقال: إنك لا تُظلَمُ، فتوضَعُ السجلاتُ في كفَّةٍ والبطاقة في كفةٍ فطاشت السجلاتُ وثَقُلَت البطاقةُ». قال ابنُ القيِّم رحمه الله: فالأعمالُ لا تتفاضلُ بصُوَرِها وعددِها، وإنما تتفاضلُ بتفاضلِ ما في القلوب، فتكون صورةُ العملينِ واحدةً وبينهما من التفاضل كما بينَ السماءِ والأرض (¬1). ألا فاستحضِروا عَظَمَة الله حين تذكرونه، وأحْيُوا قلوبَكم بذِكْره، وإياكم وترانيمَ الأَذكارِ البِدْعيةَ، دون وعيٍ لما يقال، ولا تأثُّرٍ بالأذكار كما يفعلُ المتصوِّفة. يا أخا الإسلام: عوِّد نفسَك على ذِكْر الله ذكرًا كثيرًا، وذكِّرْ به مَن حولَك فالذِّكرى تنفعُ المؤمنين، وإياكَ أن تكونَ في عِدادِ الموتى وأنت بَعدُ على قيدِ الحياة، فالفرقُ بينَ من يَذكُرُ اللهَ ومن لا يذكرُ الله كالفرقِ بين الحيِّ والميتِ، والناصحون يقولون لك: عُدْ إلى حديثِ الأذكارِ وتأمَّلْ فضلَها واحفظْ واعملْ بها تيسَّرَ لك منها وستجدُ الطمأنينةَ والسعادةَ والحفظَ والعونَ في الدنيا .. ¬

(¬1) فتح المجيد، تحقيق الفقي ص 52.

وستجدُ الجزاءَ الأكبرَ يومَ تلقى الله .. ولا تكنْ حصيلتُك من الموعظةِ مجرَّدَ سماعها، وما أعظمَ البيوتَ حين تُعمَر بذِكْر الله، بل وما أعظمَ الأماكنَ العامةَ والمؤسساتِ حين يعلو بها ذِكرُ الله، كم نحتاجُ للتذكير بقيمة الذِّكر في وسائل الإعلام ومناهجِ التعليم، وفي المحاضراتِ والنَّدَوات، وفي الخُطَب والمناسبات، في البرِّ والبحرِ وفي جوِّ السماء، بل هناك مَن يرى أنَّ ثوابَ الذِّكر يصلُ الموتى .. تلك ذكرى والذِّكرى تنفعُ المؤمنين، ومن تزكَّى فإنما يتزكَّى لنفسِه، لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قدير، سبحانَ الله وبحمدِه عددَ خلقِه ورضاءَ نفسِه وزِنَةَ عرشِه ومِدادَ كلماتِه.

من معالم القرآن وقصصه

من معالم القرآن وقصصه (¬1) الخطبةُ الأولى: إن الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستهديهِ ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسَلِين، وارضَ اللهم عن الصحابةِ أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬3). إخوةَ الإسلام: يؤسسُ القرآنُ في نفوسِ المسلمينَ معانيَ عُظْمى، ومعالمَ كُبْرى، وفي أيِّ وقتٍ عادوا إليها وجدوا فيها ما يروي الظمأَ .. وفي أيِّ مكانٍ تأمَّلوها وجدوا فيها أمنًا وتطمينًا، كيف لا والقرآنُ هُدًى وشفاءٌ ونورٌ ورحمةٌ للمؤمنينَ، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬4)، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬5). ¬

(¬1) أُلقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 3/ 7/ 1422 هـ. (¬2) سورة الحج، الآيتان: 1، 2. (¬3) سورة التوبة، الآية: 119. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 38. (¬5) سورة فصلت، الآية: 42.

فالمريضُ يجدُ في القرآنِ شفاءَه، والخائفُ المضطرِب يجدُ في آياتِه ما يطمئنُه ويسلِّيه، والضعيفُ يقفُ في القرآن على ما يقوِّيهِ ويشدُّ من أَزْرِه، والقويُّ المستكبِرُ يجدُ في القرآنِ ما يطأطئ من كبريائِهِ، والظالمُ يضعُ القرآنُ حدًّا لظلمِه .. وهكذا. وفي سُنن الله الدارجةِ في الكون تأكيدٌ على حقائقِ القرآنِ وشاهدٌ عليها، وتأكيدٌ كذلك على أن الضعيفَ يَقْوى إذا احتمى باللهِ وتوكَّلَ عليه والتزم شرعَه، وهو ما يُسمَّى بـ (قوة الضَّعف). والقويُّ يَضعفُ إذا طغى وتجبَّر وظنَّ أن القوةَ قوتُه، وأن الكيدَ كيدُه، ولربما زادَ في الطغيانِ فقال: «أنا ربُّكم الأعلى». وفي رحلةٍ مع شيءٍ من قَصَص القرآنِ دَعُونا نقرأْ نماذجَ لهذا وذاك، فأهلُ سبإٍ طَغَوْا وتجبَّروا وأعرضوا بعد أن مَكَّن اللهُ لهم ووهبهم من الرزقِ ما وهبهم وكان في جنتَيهِم آيةٌ .. فماذا كانت نتيجةُ طغيانِهم وإعراضِهم؟ قال تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (¬1). وتأمَّلوا كيف تمَّ التدميرُ بالماء .. وهو في العادة مصدرُ نَماءٍ وحياةٍ، فعاد بقُدْرةِ الله وسيلةَ تدميرٍ وإهلاك؟ أيها المسلمون: وتأمَّلوا طائفةً من الأقوامِ والأممِ يَعرِضُ لها القرآنُ مشيرًا إلى طغيانِها وتمرُّدِها، وكيف صدُّوا عن السبيلِ وكانوا مستبصِرين، وكيف مُكِّن لهم في الأرضِ فما استقاموا على منهجِ الله - وفي النهايةِ وحين بلغ الطغيانُ والجحودُ مبلغَه كانت النهايةُ المؤسفةُ {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ ¬

(¬1) سورة سبأ، الآيتان: 16، 17.

مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬1). إخوةَ الإيمان: وحين يُقالُ: إن النمرودَ بنَ كنعانَ أحدُ الملوكِ الأربعةِ الذين ملكوا الدنيا، فمن المؤكدِ أن الذي حاجَّ إبراهيمَ عليه السلام في ربِّه وصل غرورهُ وكبرياؤُه إلى حدٍّ قال فيه لإبراهيم: «أنا أُحْيي وأُميت»، وكُتبُ التفسير تشيرُ إلى نهايةٍ مؤلمةٍ لهذا الملكِ الجبّار، وفيها عِظَةٌ وعِبرة، نقل ابنُ كثير: قال زيدُ بن أسلمَ: وبعثَ اللهُ إلى ذلك الملكِ الجبارِ مَلَكًا يأمرُه بالإيمان بالله فأَبى عليه، ثم دعاه الثانيةَ فأَبى ثم الثالثةَ فأَبى، وقال: اجمعْ جموعَك وأجمعُ جموعي، فجمع النمرودُ جيشَه وجنودَه وقتَ طلوعِ الشمس، وأرسل اللهُ عليهم بابًا من البعوضِ بحيثُ لم يَرَوْا عينَ الشمس، وسلَّطَها عليهم، فأكلتْ لحومَهم ودماءَهم وتركتهم عِظامًا بادية، ودخلت واحدةٌ منها في مَنخِرَي الملِك فمكثتْ في منخريهِ أربعمائةِ سنةٍ، عذَّبه اللهُ بها فكان يضربُ رأسَه بالمِرْزاب في هذه المدةِ كلِّها حتى أهلكه اللهُ بها (¬2). عبادَ الله: تأملوا فالفرقُ كبيرٌ بين رجلٍ يدَّعي الربوبيةَ وبين بعوضةٍ يتسع لدخولها المَنخِرُ، والمسافةُ هائلةٌ بين الدعوى الجائرةِ وبين النهاية بهذه البعوضةِ؟ وكذلك يمحَقُ الله الكافرين ويُنهي الظلم وينتقمُ من الظالمين. ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآيات: 38 - 40. (¬2) تفسير ابن كثير، 1/ 464.

أُمةَ الإسلام: لا تخافوا البغيَ في الأرض، حين ترتبطوا بخالقِ الأرضِ والسماء، ولا تخافوا الضَّيعةَ من قُوى الأرض، فمِن فوقِها قوةُ السماء، ومهما بلغتْ قوةُ البشرِ فثِقُوا أن القوةَ لله جميعًا، وإذا توكَّلتم على اللهِ حقّ توكُّلِه فلن يستطيعَ أحدٌ أن يَكيدَكم، ولقد تحدَّى فردٌ أُمةً من الناس -لكنه كان مؤمنًا وهم مشركون، ونجح المتحدِّي وأبلَسَ المجرمون {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬1). إخوةَ الإسلام: وعلى مشارفِ ولادةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم هدَّد الأحباشُ النصارى العربَ بل أَتَبعوا التهديدَ بالغزو، وجاء أصحابُ الفيلِ ليهدِموا البيتَ الحرامَ ويُزِيلوه من الوجود، ويحوِّلوا الحجاجَ والمعتمرين إلى كنيسة القُلَّيس (¬2)، وما كان للعربِ كافةً ولأهل مكةَ خاصةً قِبَلٌ بهذا الجيشِ العَرَمْرَمِ، وما كان أهلُ مكةَ حينها مسلمين، بل كانوا وثنيِّين ولكن الله وحدَه تولَّى الدفاعَ عن بيتِه والدفاعَ عن أُمةٍ قدَّر وقضى أن يبعثَ من رَحِمِها رحمةً للعالمين. وانتهى الظلمُ على أعتابِ مكةَ وردَّ اللهُ الظالمينَ وجعل كيدَهم في تضليل، وأرسل الله عليهم جندًا من جندِه - وللهِ جنودُ السماواتِ والأرض، وما يعلمُ جنودَ ربِّك إلا هو - فعادوا يجرُّون ذيولَ الهزيمةِ وجعل الله من حَدَثِهم عِظَةً وذِكْرى تُتلى في كتاب الله إلى قيامِ الساعة. إخوةَ الإيمان: وفي غُضونِ هذه الحادثةِ وُلِدَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم يتيمًا عائلًا فخَلَقَ له ربُّه من الضعفِ قوةً، ومن القِلَّة كثرةً، ومن الفقرِ غنىً {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ¬

(¬1) سورة هود، الآيات: 54 - 56. (¬2) سمَّتها العرب بذلك لارتفاعها، لأن الناظر إليها تكاد تسقط قلنسوته عن رأسه من ارتفاع بنائها. تفسير ابن كثير عند سورة الفيل.

(6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}. لقد كان فردًا فصار أُمةً، وكان أُميًا فعلَّم الملايينَ من البشرِ، وكان فقيرًا ففتح اللهُ له كنوزَ الأرض، وأبصرَ مفاتيحَها قبلَ أن يفتحَ أصحابُه مواطنَها .. وما ذهب الجيلُ الذي صَحِبَه حتى زَعزَعَ أركانَ الأكاسرةِ والقياصرةِ .. وفتحوا بلادَ الفُرْس والروم .. وأورثَهم اللهُ أَرضَهم وديارَهم وأموالَهم واستبدلوا حضارتَهم القائمةَ على الظلمِ والطُّغيانِ والجحودِ والإنكارِ والتحريفِ لرسالاتِ السماء بحضارةٍ أشرقت شمسُها فاستضاء الكونُ كلُّه بضيائِها .. وطوى فجرُ الإسلام قرونًا من الظلمِ والطغيان، وساد العدلُ والرَّخاءُ شعوبَ الأرض، وكذلك يصنعُ الإسلامُ، وتلك من ثَمَراتِ الإيمان. أعوذ بالله من الشيطان: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآيات: 96 - 99.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ لله العزيزِ الحميدِ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ ذو القوةِ المَتِين، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه أَوحى إليه ربُّه: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (¬1). اللهم صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلين. إخوةَ الإسلام: وحتى تكتملَ الصورةُ في نماذجِ القرآن أَعرِضُ لنموذجينِ في كتاب اللهِ آتاهما اللهُ من المُلكِ والقوةِ والعدلِ والرحمةِ ما كان سببًا للتمكينِ في الأرض، ونفعِ الخلق، وإقرارِ الحق، والعبوديةِ الحقَّةِ لربِّ العالمين. أجل إنَّ ذا القَرْنينِ مكّن اللهُ له في الأرض وهيَّأ له من الأسبابِ ما طاف به الأرضَ، ودانتْ له الأُممُ وخضعتْ له الشعوبُ فساسَها بالعدل، وأقامَ بالقوةِ حضارةً، وبنى بالعلمِ والمعرفةِ سدًّا عظيمًا تُعدّ الموادُّ المستخدمةُ فيه سَبْقًا للعِلْم الحديث بقرونٍ لا يعلمُ عددَها إلا الله (¬2). بَلَغ ذو القرنين مَطلِعَ الشمسِ، ومغرِبَها وهناك ساسَهُم بالعدلِ وقوَّمهم بالإيمان {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} (¬3). وحين بلغَ بين السدَّينِ كان بنيانُه للسدِّ انتصارًا للمظلومِينَ ووَضَعَ به حدًّا للمفسدِين. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيتان: 196، 197. (¬2) انظر: خطبة تمكين ذي القرنين، م 2. (¬3) سورة الكهف، الآيتان: 87، 88.

وذو القرنينِ في أَوْجِ قوتِه لا يتجبَّرُ ولا يستكبرُ بل ينسبُ القوةَ العُظْمى لخالِقه، ويعترفُ بأن تمكينه على هذه المقدَّراتِ من لَدُنِ العزيزِ الحميد {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} (¬1). وحين أقامَ السدَّ شامخًا لم ينسَ أن يَنسُبَه لله الواحدِ القهّارِ، ولم يتعاظَمْ في نفسه تعاظمَ البنّاءِ، بل اعترف بأنه رحمةٌ من اللهِ وهو القادرُ على جعلِه دكَّاء إذا شاء {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَ‍قًّا} (¬2). إخوةَ الإيمان: وكذلك تكون دعائمُ التمكينِ الحقِّ في الأرض .. قوةً وتخطيطًا، تأخذُ بكلِّ أسبابِ القوةِ المادية الممكِنةِ شرعًا وعقلًا، وتوكلًا على الله وإيمانًا بقدرتِه، تنفي الغرورَ بالنفسِ وتعظيمَ الذات ولا تنسى مَن خلقَ الأسبابَ وقدَّرها، وسياسةً حازمةً عادلةً مع خلقِ الله تَسُوسُهم بشرعِ الله تكافئُ المحسنَ، وتأخذُ على أيدي السَّفيه، وتمنعُ الظلمَ وتقيمُ دعائمَ الحق ولا تدعُ الضعفاءَ نهبًا للأقوياء، ولا تجعلُ من الناس سادةً أو عبيدًا أرقَّاءَ؟ أُمةَ القرآن: ومِن ذي القرنينِ إلى سليمانَ عليه السلام وكلاهما في عِدادِ ملوكِ الأرض الأربعةِ -كما يقالا- ونبيُّ الله سليمانُ عليه السلام دعا ربَّه مُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعدِه، فكانت الإجابةُ {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} (¬3) وفوقَ ذلك: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} (¬4)، أي: سخَّرَ الله له عينَ النُّحاس ليستخرجَ منها ما شاء (¬5)، بل قال له ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 95. (¬2) سورة الكهف، الآية: 98. (¬3) سورة ص، الآيات: 36 - 38. (¬4) سورة سبأ، الآية: 12. (¬5) السعدي، 6/ 266.

ربه: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب. نعم لقد حُشِرَ لسليمانَ جنودُه من الجنِّ والإنسِ والطيرِ فهم يُوزَعون، واستسلمتْ ملكةُ سبأٍ لسليمانَ وهي التي أُوتيَتْ من كل شيءٍ ولها عرشٌ عظيم، ولكن كان مُلْكُ سليمانَ -وقَبْله النبوةُ- نعمةً ورحمةً للعالَمين بإنسِهم وجِنِّهم، برجالِهم ونسائِهم، بأقويائِهم وضعفائهم، فملكةُ سبأ تتحوَّلُ من الكفر إلى الإيمان، وتعترفُ بالظلم وتُسلِمُ لربِّ العالمينَ {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1). والجنُّ تُسلِمُ قِيادَها لسليمانَ عليه السلام فيُسخِّرُ قوّتَها في بناء المحاريبِ والتماثيل والجِفَانِ والقُدورِ الراسياتِ - وهذه الآليّاتُ كلُّها تُستخدمَ للخيرِ والجهاد وإطعامِ الطعام، ومَن تمرَّد من الجنِّ وعصى يُوثَقون في الأغلالِ والأكبال. وأبطلَ اللهُ مكرَ الشياطينِ ودعواهم على الإنسِ بعِلْم الغيب، فسليمانُ الذي قهَرَهم واستخدمَهم يموتُ حين يموتُ وهم ماضُونَ في العمل وهم يظنُّونه على قيدِ الحياة، وما دلَّهم على موتِه إلا دابةُ الأرضِ تأكلُ مِنسأتَه (أي: عصاه التي يتكئُ عليها). نعم إخوةَ الإيمانِ: إن سليمانَ عليه السلام لم ينسَ شكرَ الله حيثُ أَنعمَ عليه وأمدَّه بهذه القُوى والمَقدِرات {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (¬2). وأثنى ربُّه عليه وعلى أبيه داودَ عليهما السلام بالشكرِ فقال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا ¬

(¬1) سورة النمل، الآية: 44. (¬2) سورة النمل، الآية: 40.

وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (¬1). إن التمكينَ في الأرضِ والتفضيلَ على الخلقِ لا يستدعي الكفرَ والظلمَ والكبرياءَ، بل هو -في شرائِع السماء- سبيلٌ للشكرِ للخالقِ والإحسانِ للمخلوقين {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (¬2). معاشرَ المسلمينَ: وخُلاصةُ القولِ: أن آياتِ القرآنِ وقَصَصَه ترشدُنا إلى الارتباطِ الوثيق بالخالقِ في حالِ القوةِ أو الضعفِ، وتَهدِينا للعُبوديةِ الحقَّةِ لربِّ العالمينَ في حالِ السّراءِ والضرّاءِ، وتَدعُونا للشكرِ والعدلِ مع الله ومع خلقِه، وتُحذِّرُنا من مَغَبَّةِ الظلم والكفرِ عاجلًا أو آجلًا. وتقصُّ علينا من آثارِ الأُممِ والدولِ ما فيه مُدَّكَر .. وصدَقَ اللهُ إذ يقول في هذه القَصَص: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬3). اللهمَّ اهدِنا بالقرآنِ وانفَعْنا بمواعظِ القرآنِ. إن المتأملَ في قَصَص القرآن يجدُ أن عددًا من الأُممِ والقُوى الظالمةِ أخذها اللهُ بنوعٍ من العذابِ لا قِبَل للخَلقِ فيه، ويرى أن أسبابَ الهلاكِ جاءتْ من السماء ومن حيثُ لا يحتسبُ أهلُ الأرض، ويرى من جانبٍ ثالثٍ أن العقوبةَ ¬

(¬1) سورة سبأ، الآية: 13. (¬2) سورة النمل، الآيتان: 15، 16. (¬3) سورة يوسف، الآية: 111.

تمَّتْ على مشهدٍ من الناسِ .. فالغرقُ وقع حيث يُبصَرُ الناجون، والخسفُ حصلَ حيثُ تماسكَتْ الأرضُ للمعاصِرينَ، والبعوضُ يَهزِم الجموعَ ويُهلِك النُّمرود، والرياحُ تُهلِك، والملائكةُ تقاتِل {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (¬1) والطيرُ الأبابيلُ تُرسَل وتُدمِّر، والرعبُ والهلَعُ في القلوب سلاحٌ ربانيٌّ قَذَفَ اللهُ به قلوبَ يهودِ بني النَّضِير منْ حيثُ لم يحتسِبوا، وأصابَ به يهودَ بني قُريظةَ حين تحزَّبوا مع الأحزابِ وظاهروا. إنها أسلحةُ السماء والانتقامُ الربانيُّ، يُذكَّرُ بها أهلُ القرآنِ لا من أجل أن يتواكلوا ويقعُدوا عن العمِل والأخذِ بأسبابِ القوة .. بل ليستيقِنُوا أن النصرَ في النهايةِ من الله فلا تُرهِبُهم قوةٌ مهما بلغتْ فللهِ القوةُ جميعًا .. ولا يرعبُهم جمعٌ وجنودٌ مهما احتشدت فللهِ جنودُ السماواتِ والأرض، وما يعلمُ جنودَ ربِّك إلا هو. إنّ على المسلمينَ أن يتوكَّلوا على اللهِ حقَّ توكُّلِه ويقدِّروه حقَّ قدرِه، وينصروه إن رغِبوا منه النصرَ فاللهُ يقول: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} (¬2) ويثقوا أن الإيمانَ به والعملَ بشرعِه ضمانةٌ للنصر {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3)، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} (¬4)، وكم يعجبُ ربُّنا من خلقِه حين يستمدُّون النصرَ من غيرِه وهو وحدَه واهبُ النصرِ والعزَّة، وحين يُخيَّلُ لهم أن غيرَهم من البشرِ قادرون على الضُّرِّ أو النفعِ وهم لا يملكون لأنفسِهم نفعًا ولا يدفعون عنها ضُرًّا، ويُريهِم من آياتِه في الآفاقِ والأنفسِ ما يتبيَّنُ لهم به الحقُّ ثم يَظلُّون في مِريةٍ من لقاءِ ربِّهم. ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 9. (¬2) سورة محمد، الآية: 7. (¬3) سورة الروم، الآية: 47. (¬4) سورة الرعد، الآية: 11.

تداعي الأمم «انصر أخاك»

تداعي الأمم «انصر أخاك» (¬1) الخطبةُ الأولى: إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يَهدِه اللهُ فلا مضلَّ له ومَن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسَلين، وارضَ اللهم عن الصحابةِ أجمعينَ والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وسلِّم تسليمًا كثيرًا. أيها المسلمون: الأيامُ دُوَل، والفتنُ والبلايا -قديمًا وحديثًا- تَحُلُّ وترتحِلُ، ومن قرأ التاريخَ وَجَد في حوادثِ الماضي ما يكشفُ له عن طبيعةِ المعركة في الحاضر. ومِن آلامِ هذا القرنِ وفتنِه إلى آلامِ القرنِ الثالثِ الهجري وفتنِه أنقلُكم عبرَ مشهدٍ من مشاهدِ الصراعِ بين المسلمينَ والنصارَى، تحدَّثَ عنه المؤرخون كابنِ جَرِير وابن الأثير وابن كَثِير، قالوا: في سنةِ ثلاثٍ وعشرينَ ومائتينَ خرجَ توفيلُ بنُ ميخائيلَ - ملكُ الرومِ النصارى -إلى بلادِ الإسلام، وأوقعَ بأهل زِبَطْرةَ ملحمةً عظيمةً قَتَلَ بها من الرجالِ وسَبَى الذريّةَ والنساءَ، وأغار على (مَلَطْيَة) وغيرِها من حصونِ المسلمينَ، وسبَى المسلماتِ، ويُقال: إن أكثرَ من ألفِ امرأةٍ وقعت في السَّبْي (¬2)، ومَثَّلَ بمن صار في يدِه من المسلمين وسَمَلَ أعينَهم وقطعَ أنوفَهم ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 10/ 7/ 1422 هـ. (¬2) الطبري 9/ 55.

وآذانَهم، فخرجَ إليه أهلُ الثغورِ من الشامِ والجزيرةِ، إلا مَنْ لم يكنْ له دابةٌ ولا سلاحٌ. أما الخليفةُ العباسيُّ المعتصِمُ فكان حينَها منشغلًا بفتنةِ بابَكَ الخُرَّمِيِّ، ويسَّر اللهُ له القضاءَ عليه، وأخمدَ فتنتَه، وكان ذلك سببًا في طَمَع النصارى في بلاد المسلمين، واستثمارًا سيِّئًا لهذه الفتنةِ في حينِ غفلةٍ من المسلمينَ عنهم -أو هكذا ظنُّوا- ولكنّ الخليفةَ المعتصمَ حين بلغه خبرُ النصارى وما صنعوا في بلادِ المسلمينَ استعظَمَ الأمرَ، وتألَّم لمُصابِ المسلمينَ على أيدي النصارى، وزادَ من ألمِه -كما ذكرَ ابنُ الأثيرِ- أنّ امرأةً هاشميةً صاحَتْ وهي أسيرةٌ في أيدي الروم تقول: (وامُعتصِماه) فبلغَهُ ذلك الصريخُ فأجابها من ساعتِه بقوله: لبّيكِ لبّيكِ، ونهضَ من ساعتِه وصاحَ في قصرِه: النفيرَ النفيرَ، وأمرَ بتعبئةِ الجيوشِ، واستدعى القاضيَ والشهودَ فأشهَدَهُم أن ما يملِكُه من الضِّياعِ ثلثُه صدقةٌ، وثلثُه لولدِه، وثلثُه لموالِيه .. وخرجَ قائدًا للجيشِ العظيمِ بنفسِه، وانتصارً للمسلمينَ المحاصَرينَ من قِبَلِ الروم بعثَ الرسلَ بين يديهِ ليأتوه بالأخبار، فرجعوا إليه يقولونَ: إن ملكَ الرومِ صنعَ ما صنعَ بالمسلمينَ ثم رَجَعَ قافلًا إلى بلادِه، فلم يَثْنِ ذلكَ من عَزْمِ الخليفةِ، بل أرادَ الانتصارَ للمسلمينَ وتأديبَ النصارَى وحصارَهم في أعظمِ مدنِهم، ولذا سأل المعتصمُ أُمراءَه قائلًا: أيُّ بلادِ الرومِ أمنعُ أَحصنُ؟ قالوا: عَمُّوريَة، فهي عينُ النصرانية، وهي أشرفُ عندهم من القُسطنطينيةِ، ولم يَعْرِضْ لها أحدٌ منذُ كان الإسلامُ، فقرَّر المعتصمُ غزوَها، وجهَّز لها جيشًا لم يجهِّزْه أحدٌ قبلَه من الخلفاء .. حتى فتحَها اللهُ على يديهِ وعلى أيدي الأبطالِ من المسلمينَ الذين أبلَوْا بلاءً حسنًا، حتى تمَّ الفتحُ لهم وكسَروا شوكةَ النصارَى، وعزَّ الإسلامُ وانتصرَ المسلمون (¬1). ¬

(¬1) تاريخ الطبري 9/ 55 - 57، الكامل لابن الأثير 6/ 479، 480، البداية والنهاية 10/ 323.

أيها المسلمون: ذلكمْ مشهدٌ من مشاهدِ تاريخِنا ونموذجٌ للنُّصرةِ والدفاعِ عن حِيَاضِ الإسلام والمسلمين عند أسلافِنا. واليومَ آهاتٌ وأنَاتٌ لملايينَ من المسلمينَ والمسلماتِ من شيوخٍ ونساءٍ وأطفالٍ تُقطِّعُ نِياطَ القلوبِ ولا تكادُ تجدُ لها سامعًا أو منقِذًا .. بل حصارٌ عالميٌّ وأُمميٌّ لا تدري أتعجَبُ فيه من عِظَم القوةِ المُحاصِرة أم من كبرياءِ أصحابِها؟ أم تعجبُ من ضعفِ المُحاصَرين والظلمِ الواقعِ عليهمْ وصمودِهمْ وثباتِهمْ رغمَ المِحَنِ داخليًا وخارجيًا، ورغمَ الحصارِ الواقعِ عليهمْ سَلَفًا .. والحصارِ والتهديدِ والإنزال الواقعِ عليهمْ حاضرًا .. وكانَ اللهُ في عونِ المسلمينَ وثَبّتَ أقدامَهم وأمدَّهم بنصرٍ من عندِه. إخوةَ الإسلامِ: ويزادُ العجبُ ويغضبُ الربُّ حينَ يتخاذلُ المسلمونَ عن نُصْرةِ إخوانِهم المظلومينَ .. فكيفَ إذا هَمَّ أو فكَّر أحدٌ من المسلمين بمشاركةِ الكافرينَ بضربِ المسلمين؟ إنها فِتنٌ تدعُ الحليمَ حيرانَ، ومصائبُ تتصدَّعُ من هَولِها الجبال، وإلى الله المُشتكَى وهو وحدَه المُسْتَعان. أيها الناسُ: إنَّ الإرهابُ مرفوضٌ من قِبَلِنا معاشرَ المسلمين مثلَ -بل أكثرَ- مما هو مرفوضٌ عندَ غيرِنا من الأُممِ، ولكنّ السؤالَ المهمَّ: ما هو مفهومُ الإرهابِ ومَن يصدِّرُه أكثر؟ وإذا رُفضَ الإرهابُ الفرديُّ أو الجمعيُّ ومن أيِّ فئةٍ قامت به، فأشدُّ من ذلكَ الإرهابُ العالميُّ بصورِه وأشكالِه المختلفةِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والعسكريةِ والفكريةِ والعَقَديةِ، والذي يُمارسُه الغربُ على العالَمِ عبرَ قطارِ العولمةِ القَسْري، وعبرَ المؤتمراتِ والملتقَياتِ التي يُصرُّ الغربُ فيها على قلبِ الحقائقِ والضغطِ بقوةٍ حتى يَصدُرَ القرارُ باعتبارِ دولةِ الصهاينةِ دولةً ديمقراطيةً وليستْ في عِدادِ العنصريةِ وليست في عِدادِ الدولِ الإرهابيةِ، بل في قائمةِ الدولِ المتحضِّرةِ.

وإذا كنا -معاشرَ المسلمين- نستنكرُ قتلَ الأبرياءِ بغير حق، وسواءٌ وَقَعَ ذلكَ في بلادِ الغربِ أمْ في بلادِ الشرقِ، فاستنكارُنا لقتلِ المسلمينَ الأبرياءِ أشدُّ، وأينَ العدلُ، بلْ وهلْ من مقرَّراتِ حقوقِ الإنسانِ أن يُثأَرَ للأمريكانِ على حسابِ الأفغانِ؟ وبأيِّ حقٍّ يُحاصَرُ ما يزيدُ على عشرينَ مليونِ مسلمٍ؟ والمبرِّراتُ المعلَنةُ للحصار والضربِ لا تزال في دائرة الشكوكِ والتُّهم، ولم تتجاوز حدودَ (المشتبَه به، والمتَّهَم الأول) ونحوَها من عباراتٍ لا تتكئُ على حقٍّ ولا تستندُ إلى برهان؟ وكان اللهُ في عونِكم يا مُسلمِي الأفغانِ، فلقد أُتِيتُم من فوقِكم ومن أسفلَ منكم، رَمتكُم مِلَلُ الكفرِ عن قوسٍ واحدة، وتخاذلَ عنكمْ إخوانُكم المسلمونَ في ذِروةِ الشدةِ، وقعَ عليكُمْ نوعٌ من الحصارِ فيما مَضى فأهلكَ الجوعُ شيوخًا ونساءً رُكَّعًا، وأطفالًا رُضَّعًا، وخلَّف أعدادًا من المهاجرين تَهِيمُ على وجهِها حتى تجدَ مأوى أو تَهلِكَ في البيداء. واليومَ يُحكَمُ الحصارُ عليكم وتُهدَّون بالضرب الماحقِ عشيةً أو ضحى، ويزيدُ من آلامِكم ويُعمِّقُ جرحَكم حينَ يُدعى إخوانُكم المسلمونَ لحصارِكم، وتلك وربِّي - حين تقعُ - مأساةٌ لا في حقِّكُمْ فحسبُ، بل في حقِّ المسلمينَ جميعًا، وإلا فأينَ عقيدةُ الولاءِ للمسلمينَ والبراءةِ منَ الكافرينَ، وتلكَ التي نقرأُ آياتِها في كتابِ ربِّنا صباحَ مساءَ ونعلِّمُها نساءَنا وأطفالَنا، ومنها قولُه تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (¬1) ويصف ربُّنا الذين يتولَّوْن الكافرين بقوله: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 71.

وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (¬1). أتُرى نفرًا من المسلمين اتَّخَذوا هذا القرآنَ مهجورًا، وإلا فأين هم من هذا النداءِ الربانيِّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬2). أفلا يتأملُ مَن في قلبه مرضٌ شفاءَ القرآن في قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (¬3). أمةَ محمدٍ: وأين أنتُم من هَدْيِه عليه الصلاة والسلام حيثُ يقول: «المسلمُ أخو المسلمِ لا يَظلِمُه ولا يُسلِمُه ... » متفق عليه، وفي روايةٍ: «لا يخونُه ولا يَكْذِبُه ولا يَخذُلُه، كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ: عِرضُه ومالُه ودمُه ... » (¬4). أُمةَ الإسلام: لا بدَّ من مراجعةٍ للنفسِ ولنصوصِ الشرعِ، وما أجملَ تلك العبارةَ التي سَطَّرها أبو الوفاءِ بنُ عَقِيل رحمه الله حين قال: «إذا أردتَ أن تَعلمَ محلَّ الإسلام من أهلِ الزمان فلا تَنْظُرْ إلى زِحامِهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجِهم في الموقفِ بـ «لبَّيك»، وإنما انظُرْ إلى مواطأةِ أعداءِ الشريعة ... » إلى أن يقول -وقد ذَكَر نموذجًا للولاءِ غير المشروع-: «وهذا يدلُّ على برودةِ الدِّينِ في القلب» (¬5). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآيتان: 80، 81. (¬2) سورة المائدة، الآية: 51. (¬3) سورة المائدة، الآية: 52. (¬4) الترمذي بسند صحيح: صحيح الجامع 6/ 17. (¬5) الآداب الشرعية لابن مفلح 1/ 268، نواقض الإيمان .. د. عبد العزيز العبد اللطيف ص 360.

يا أخوةَ الإسلام في أرضِ الأفغان: ونحن نُشهِدُ اللهَ ونُشهِدكم أننا نَبرأُ إلى الله مما يصنعُه بكم الأعداءُ، ونعتذرُ مما يصنعُه المسلمون؛ ونسألُ اللهَ أن يردَّهم إلى الحقِّ عاجلًا غيرَ آجِلٍ، ونقول لكم ناصحين: حين تُغلَق عنكم منافذُ الأرض فثِقُوا أن أبوابَ السماءِ مفتوحةٌ، وحين يتخلَّى عن نُصرتِكم البعيدُ والقريبُ، والعدوُّ والصديق فارتبِطوا بالله وحدَه يُجِرْكُم ويدافعْ عنكم، وتوكلوا على الله حقَّ توكُّلِه، ومَن يتوكَّلْ على الله فهو حَسْبُه، وحين تحققون أسبابَ النصر الواردةَ في آياتِ سورة الأنفال، فثِقُوا بنصر الله لكم، فالله يقول: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (¬1) ويقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬2). ¬

(¬1) سورة الصافات، الآية: 173. (¬2) سورة البقرة، الآية: 249.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ لله ربِّ العالمين، أَمَرَنا بالتعاونِ على البِرِّ والتقوى، ونهانا عن التعاونِ على الإثمِ والعُدْوان، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أمَرَنا بالاعتصام بحبلِه المتين، ونهانا عن الفُرْقةِ والاختلاف، فذاك نهايةُ الأُمم مِن قبلِنا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، قال وهو الصادقُ الأمينُ: «إن أَوثَقَ عُرَى الإيمانِ للحبْ في الله والبغضُ في الله»، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين. إخوةَ الإسلام: سؤالٌ مهمٌّ يَجدُر طرحُه والتفكيرُ -مليًّا- في الإجابة عليه، والسؤالُ يقول: ما الهدفُ من هذا التحالفِ الغربيِّ والشرقي، والاستعدادِ العسكريِّ الذي تقودُه أمريكا، ويُصوَّب ظاهرًا إلى أفغانستان؛ أيهدفُ بالفعل إلى ضرب أفغانستان -وحدَها-؟ فهي لا تحتاجُ لمثلِ هذه الحشود، أم إن الهدفَ ضربُ المفاعل النوويِّ الباكستاني؟ بل وشلُّ حركةِ الصناعةِ الحربية النَّشطةِ والمتطوِّرة في باكستانَ المسلمةِ، أم إن الأمرَ يتجاوز ذلك إلى ضربِ كل نشاطٍ إسلاميٍّ وعلى امتدادِ الكُرَة الأرضية كلِّها؟ وقد أعلنتِ الدوائرُ الغربيةُ عن عددٍ من المنظماتِ الإسلاميةِ لتكونَ هدفًا تُضرَبُ باسمِ محاربةِ الإرهاب؟ أم إن الأمرَ أوسعُ من ذلك، إذ يتجاوزُ لمحاصرةِ الإسلام وشنِّ الحرب على المسلمين عبرَ مخطَّطٍ طويلِ المَدى، تلك التي فلتت من لسانِ (بوش) وعَبَّر عنها بـ (الحرب الصليبية) ثم عاد وعادت بعضُ داوئرِه لتعتذرَ عنها كي لا تثيرَ حفيظةَ المسلمين؟ فهل يا تُرَى يتنبَّهُ المسلمون لطبيعةِ المعركةِ؟ إخوةَ الإيمان: إنَّ من حقائقِ القرآن التي لا تَقبَلُ الجدلَ الْتقاءَ اليهودَ والنصارى والمشركين على حربِ المسلمين وعداوتِهم حتى يَدخلوا مِلَّتَهم {وَلَنْ

تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (¬1) {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} (¬2). ومن حقائقِ القرآن كذلك نهيُ المؤمنين عن مُوالاةِ الكافرين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} (¬3). أما مظاهرةُ الكافرين ضدَّ المسلمين فهي خيانةٌ لله تعالى ورسولِه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنينَ كما قال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (¬4). وما فِتِئَ العلماءُ قديمًا وحديثًا يُفْتونَ ويحذِّرون من هذه المُوالاةِ للكافرين ومساعدتِهم على المسلمين، ويعتبرون ذلك نِفاقًا أو كفرًا. وهنا أَنقلُ لكم اثنين فقط من هذه الفَتاوَى، الأُولى لأحدِ أئمةِ الدعوةِ السلَفيةِ الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمهم الله- حيث قال -وقد سُئلَ عن النفاقِ وعلاماتِه وإطلاقِه-: «مَن ظَهَرَت منه علاماتُ النفاقِ الدالةُ عليه كارتدادِه عند التحزيبِ على المؤمنين وخِذْلانِهم عند اجتماعِ العدوِّ كالذينَ قالوا: لو نعلمُ قتالًا لاتَّبعناكُم، وكونِه إذا غَلَبَ المشركون التجأَ إليهم، ومدحِه للمشركين بعضَ الأحيانِ وموالاتِهم دون المؤمنين، وأشباهِ هذه ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 120. (¬2) سورة النساء، الآية: 89. (¬3) سورة الممتحنة، الآية: 1. (¬4) سورة المائدة، الآيتان: 80، 81. وانظر نواقض الإيمان، العبد اللطيف، ص 382.

العلاماتِ التي ذَكَرَ اللهُ أنها علاماتٌ للنفاقِ وصفاتٌ للمنافقين، فإنه يجوزُ إطلاقُ النفاقِ عليه وتسميتُه منافقًا ... » (¬1). أما الفتوى الثانيةُ فلسماحة المفتي السابقِ لبلاد الحرمينِ الشريفينِ فضيلةِ الشيخ عبدِ العزيز بن بازٍ رحمه الله حيث قال: «وقد أجمعَ علماءُ الإسلامِ على أنَّ مَن ظاهَرَ الكفارَ على المسلمين وساعدهم عليهم بأيِّ نوعٍ من المساعدة فهو كافرٌ مثلُهم كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬2). أيها المسلمونَ: وبإزاءِ هذه الهَجْمةِ النازلةِ بأهلِ الإسلام، واعتمادًا على هذه الآيات والفتاوى، فإنني أذكِّرُ الزعماءَ وقادةَ الدولِ الإسلامية ألا ينخدِعوا ويتورَّطوا في هذا المخطَّط المستهدِف للإسلامِ والمسلمين، حتى وإن أُعلن الإرهابُ قِناعًا له، وسيحفظُ التاريخُ كلَّ موقفٍ، وستَعِي ذاكرةُ الأجيالِ كلَّ ما قيل وسُطِّر، وليس يخفى أن الغربَ يتعاملُ مع الإرهابِ بشكلٍ انتقائي، وإلا فهل أشدُّ من إرهابِ الصهاينة والذين باتوا هذه الأيامَ يستثمرون الحدثَ لصالِحِهم في الأراضي المقدَّسة، وفي حالِ انشغالِ المسلمين عنهم، علمًا بأن أصابعَ الاتهام تُشيرُ إليهم -كما تشيرُ إلى غيرِهم- في تفجيرِ الأحداثِ الأخيرة. أما العلماءُ فإنني أذكِّرُهم بجهادِ الكلمة وقولِ كلمةِ الحقّ، والخَشْيةِ من الله وحدَه، وشموليةِ الفتوى، والنُّصحِ لأئمة المسلمين وعامَّتِهم. كما أُذكِّر الدعاةَ وطلبةَ العلمِ والمفكِّرين والإعلاميين وأصحابَ الوَجاهةِ والكلمةِ ببيان الحقِّ للناس، ومَلْءِ قلوبِهم بالثقةِ بالله، وشَحْذِ هِمَمِهم للدعوةِ ¬

(¬1) الدرر السنية، 7/ 79، 80. (¬2) سورة المائدة، الآية: 51. فتاوى ابن باز، 1/ 274.

للإسلامِ الحقّ، والنُّصرةِ للمسلمينَ المستضعَفين، وبيانِ خُطَط ومَكْرِ الكافرين. أما أغنياءُ المسلمين فيُذكَّرون بالجهادِ بالمالِ في سبيلِ الدعوةِ وسدِّ حاجةِ المحتاجين، ولا سيَّما إذا نَزلَت بأحدٍ من المسلمين نازلةٌ واحتاج إلى مساعدةِ إخوانِه المسلمين، وليس يليقُ أن تُعلِنَ منظَّماتٌ إغاثيةٌ عالميةٌ وغيرُ مسلمةٍ مساعدةَ اللاجئينَ والمهاجرين والمتضرِّرين من الشعوب المسلِمةِ ويظلُّ المسلمون في مَعزِلٍ عن الأحداث. معاشرَ المسلمين: يا أُمةَ القرآنِ، وبشكلٍ عامٍّ فعلى كل مسلمٍ ومسلمةٍ كِفْلُه من المسؤولية تجاهَ الإسلامِ والمسلمين؛ ومأساةٌ حين يظنُّ نفرٌ من المسلمين أنه يكفيهم أن يتابعوا الأخبارَ ويسألَ بعضُهم بعضًا: هل تمَّت ضربةُ الحلفاءِ للمسلمينَ أم لم تتمَّ بعدُ، ويكفيهم مجردُ استنكارِهم لضرب المسلمين (¬1) أن بإمكانِ كلِّ مسلمٍ أن يقدِّمَ شيئًا، ويخطئُ من يظنُّ أن سلاحَ الدعاءِ وحدَه هو الذي يملكُه المسلمون لمناصرةِ إخوانِهم المسلمين، وهذا السلاحُ رغمَ أهميتِه وحاجتِنا إليه فنحنُ نملكُ معه أسلحةً أخرى .. فسلاحُ الكلمةِ الصادقةِ سهمٌ، وتعميمُ الوعي بين الناس سلاحٌ، والمساعدةُ بالمال -صدقةً أو زكاةً-، قلَّ أو كَثُرَ سلاحٌ، والنصحُ والمَشُورةُ للمسلمين سهمٌ، والمهمُّ أن نستفرغَ طاقتَنا في سبيلِ نُصْرة إخوانِنا، ونستجيبَ لوصيةِ حبيبِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم حين قال: «انصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا». أيها المؤمنونَ: ومع كلِّ ما تَبذلُون فاعلموا أن دينَ الله منصورٌ من قِبَلِ الذي أنزلَه، فهو أغيرُ لدينِه وحُرُماتِه منّا .. وإنما ننصرُ أنفسَنا، ونقدِّمُ لأنفسِنا، والله تعالى أَرحمُ بعبادِه منّا .. ولكننا مُمتَحنون في ولائِنا للمؤمنينَ وبراءتِنا من ¬

(¬1) فغير المسلمين باتوا يستنكرون ويتظاهرون.

الكافرين، ومُمتَحنون في الخوفِ من البشرِ أو من ربِّ البشر، ألا فثِقُوا بالله ونَصْرِه وأَحسِنوا الظنَّ وعلِّقوا الرجاءَ بالله، ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون. اللهم انصُرْ دينَك وعبادَك الصالحين، اللهم انتقِمْ للمظلومينَ من الظالمين «اللهم قاتِلِ الكفرةَ الذين يصُدُّون عن سبيلِك ويُكذِّبون رسلَك، واجعلْ عليهم رِجزَك وعذابَك، اللهم قاتل الكفرةَ الذين أُوتوا الكتابَ إلهَ الحقِّ» (¬1)، وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّ الهدى والرحمةِ. ¬

(¬1) صحيح الأدب المفرد/ للبخاري، ص 260.

الرمادة بين الماضي والحاضر

الرمادةُ بين الماضي والحاضر (¬1) الخطبةُ الأولى: الحمدُ للهِ الذي أنزلَ على عبدِه الكتابَ ولم يجعلْ له عوجًا، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أغنى وأَقْنى وأماتَ وأحيا .. وإليه يُرجَع الأمرُ كلُّه في الآخرة والأولى، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه أوصى بالفقراءِ واليتامى والمحتاجين خيرًا، بل نزلَ عليه في القرآنِ إطعامُ الأسارى من غير المسلمين {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (¬2) اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ النبيين والمرسلين وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين. اتقوا اللهَ معاشرَ المسلمين، ومن يتّقِ الله يجعلْ له مخرَجًا ويرزُقْه من حيثُ لا يحتسب، ومن يتَّقِ الله يكفِّرْ عنه سيئاته ويُعظِمْ له أجرًا، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (¬3). أيها المسلمون: لا غرابةَ ولا عجبَ أن تصيبَ المسلمين أو طائفةً منهم مِحنٌ وكوارثُ، ولكن الأمرَ المهمَّ كيف يتعاملُ المسلمون مع هذه المحنةِ أو تلك الكارثةِ .. وسواءٌ في ذلك مَن وقعتْ عليهم أو من لم تَقَعْ وهم مسلمون يشعرون ¬

(¬1) أُلقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 18/ 7/ 1422 هـ. (¬2) سورة الإنسان، الآية: 8. (¬3) سورة الحج، الآيتان: 1، 2.

بحقوقِ أُخوّة الإسلام وواجبِ النُّصرةِ للمسلمين. وإذا كنا -معاشرَ المسلمين- أُمةً لها تاريخُها ولها تجاربُها وهذا التاريخُ محلُّ فخرٍ واعتزاز، وهذه التجارِبُ رصيدٌ يمكن أن يتأمَّلَه اللاحقون فيستفيدون من تَجرِبةِ السابقين. إذا كنا كذلك فدعونا نقفْ عند صفحةٍ مشرقةٍ من تاريخِنا تحوَّلَتْ فيه المِحنُ إلى منِحَ، والبلايا إلى إحسانٍ وعطايا، استيقظ فيها الشعورُ الإسلامي، وهبَّ المسلمون في مشرِقِ الأرض ومغرِبها يُغِيثون الملهوفين ويُطعِمون الجائعين .. وخليفةُ المسلمين يتقدَّمُ الصفوفَ ويُلهِب مشاعرَ المسلمين، بل يُنفِق ويعملُ بنفسِه. أجل، لقد كان العامُ السابع أو الثامنُ عشرة للهجرة موعدًا لقدرٍ ربانيٍّ لحصول مجاعةٍ وقحطٍ شديدٍ أصاب المسلمين في المدينةِ النبويةِ وما حولها .. وسُمِّي ذلك العامُ بعامِ الرمادة، ويُعرِّفُ الإمام الطَّبَريُّ رحمه الله الرمادةَ بقوله: «كانت الرمادةُ جوعًا أصابَ الناسَ بالمدينة ومَنْ حولَها، فأهلكهم حتى جعلتِ الوحوشُ تأوي إلى الإنس، وحتى جعلَ الرجلُ يذبحُ الشاةَ فيعَافُها من قُبحِها وإنه لمُقفِرٌ» (¬1). إخوةَ الإسلام: بل تجاوزتِ المجاعةُ في عهدِ الفاروقِ عمرَ -رضي الله عنه- المدينةَ وما حولَها إلى أرضِ اليمن، فقد روى ابنُ سعدٍ: أن رجلًا من اليمنِ جاء إلى عمرَ وهو نائمٌ في المسجد، فنادى: واعُمَراهُ! فاستيقظ عمرُ مذعورًا وركضَ إلى الصوت، وإذا بأعرابيٍّ ممسِكٍ بخِطَام بعيره، والناسُ من حولِه، فلما نظرَ إلى عمرَ قال الناسُ: هذا أميرُ المؤمنين، فقال عمرُ: مَن آذاك؟ وظنَّ أنه مظلومٌ، ¬

(¬1) تاريخ الطبري 4/ 98.

فقال أبياتًا من الشِّعر ذكرَ فيها الجَدْبَ، فوضعَ عمرُ يدَه على رأسِه، ثم صاح: تدرونَ ما يقول؟ يذكرُ جَدْبًا وأستاتًا -يعني ضِيقًا وجوعًا- وأن عمرَ يشبعُ ويَرْوَى والمسلمون في ضيقٍ! ثم دعا الصحابةَ وقال: من يُوصِلُ إليهم المِيرةَ والتمرَ وما يحتاجون إليه؟ فوجَّهَ رجلين من الأنصار ومعهم إبلٌ كثيرةٌ عليها المِيرةُ والتمرُ، فدخلا اليمنَ وقسَّما ما كان معهما (¬1). هكذا إخوةَ الإسلام كان عمرُ والمسلمون معه يتعاملون مع الكوارِثِ الواقعةِ على إخوانِهم المسلمين -ولو كانوا بعيدينَ عن مركزِ الخلافةِ- أما تعاملُ عمرَ والمسلمين معه في مَجاعةِ الرَّمادةِ في المدينة وما حولها فالأمرُ أعجبُ. لقد كشفتِ المجاعةُ الواقعةُ في عهدِ عمر عن قوَّةِ عمرَ وعدلِه، وعن نظرتِه للمسلمين وإنصافِه من نفسِه .. كيف لا والخليفةُ عمرُ يُقسِمُ أن لا يأكلَ سمنًا ولا لحمًا حتى يحيا الناسُ (¬2). ولقد كتبَ عمرُ -رضي الله عنه- إلى أمرائِه على الأمصارِ مستصرِخًا مستغيثًا ويقول: «مِن عبدِ الله عمرَ أميرِ المؤمنين إلى فلانِ بن فلان، أما بعدُ: فإنَّ العربَ قد دفَّت إلينا ولم تَحمِلْهم بلادُهم، ولا بدَّ لهم من الغَوْثِ، الغوثَ، الغوثَ .. حتى ملأَ الصحيفةَ، فربما كان في الصحيفةِ مائتا مرةٍ (¬3). وكان أمراؤُه عندَ حسنِ الظنِّ بهم وعند حدودِ المسؤوليةِ المُناطةِ بأعناقِهم، وهذا يزيدُ بنُ أبي سفيان -وهو أحدُ الأمراءِ في الشام- يَردُّ على الخليفةِ بقوله: ¬

(¬1) الطبقات الكبرى 3/ 329. (¬2) الطبقات 3/ 312. (¬3) عمر بن شبة: تاريخ المدينة 2/ 744.

لُبِّيَت لُبِّيَت، يا أميرَ المؤمنين، أتاك الغوثُ، بعثتُ إليك عِيرًا أولُها بالمدينةِ وآخرُها بالشام (¬1). وما كان لعمرَ -رضي الله عنه- أن يستصرخَ الناسَ ويقعدَ بنفسِه عن العمل، وهذا أبو هريرة -رضي الله عنه- شاهدُ عِيانٍ لمشاركةِ عمرَ في الإغاثة إذ يقول: لقد رأيتُه -عامَ المجاعةِ- وإنَّه ليحمِلُ على ظهرِه جِرابينَ وعُكَّةَ زيتٍ في يدِه. بل زاد الفاروقُ من اهتمامِه بالمحتاجين فلم يكتفِ بحملِ الطعامِ وصُنعِه لهم، بل رأى من واجبِه أن يرى الفَرْحةَ تَغمُرُ أطفالَهم بعد أن خيَّمَ الحزنُ عليهم وأقَضَّ البكاءُ مضاجعَهم. ودونَكم هذه الروايةَ -عند الطبريِّ- يرويها زيدُ بن أسلمَ عن أبيه ويقول: خرجتُ مع عمرَ بنِ الخطاب -رضي الله عنه- إلى حَرَّةِ واقمٍ، حتى إذا كنا بِصِرَار، إذا نارٌ تُؤرَى. فقال: يا أسلمُ، إني أرى هؤلاءِ ركبًا قَصَّر بهم الليلُ والبردُ، انطلِقْ بنا، فخرجْنا نهروِلُ حتى دنونا منهم، فإذا امرأةٌ معها صِبيانٌ لها، وقِدْرٌ منصوبةٌ على النار، وصبيانُها يتضاغَوْنَ، فسلَّمَ واستأذن وسأل: ما بالُكم؟ قالت: قَصَّر بنا الليلُ والبرد، قال: فما بالُ هؤلاءِ الصبيةِ يتضاغَوْنَ؟ قالت: الجوع، قال: وأيُّ شيءٍ في هذه القِدْر؟ قالت: ماءٌ أُسكِّتهم به حتى يناموا، اللهُ بيننَا وبينَ عمر، قال: أيْ رحمَكِ اللهُ، ما يُدرى عمرُ بكم؟ ! قالت: يتولَّى أمرَنا ويَغفُلُ عنا، قال أسلمُ: فأقبل عليَّ عمرُ وقال: انطلقْ بنا، فخرجنا نهرولُ حتى أتينا دارَ الدَّقيقِ، فأخرج منه طعامًا وقال: احمِلْه عليَّ، فقال أسلمُ: أنا أحملُه عنك، فردَّ عمرُ: بل احمِلْه عليَّ، فلما كرَّر عليه أسلمُ القولَ غضب عمرُ وقال: أنت تحملُ عني وِزْري يومَ القيامة لا أمَّ لك، فحمله عليه، ثم انطلقا حتى وصلا المرأةَ ¬

(¬1) السابق 2/ 243، د. عبد العزيز العمري: تأمين الأقوات في عصر الخلافة الراشدة/ 36.

وأطفالَها، فبدأَ عمرُ يصنعُ لهم الطعامَ حتى رُئي الدخانُ يخرجُ من خَلَلِ لحيتِه الكثيفةِ، ولم يزلْ كذلك حتى نَضِجَ الطعامُ وأفرغَ للمرأةِ وصبيانها فأكلوا حتى شَبِعوا حتى شكرتْ له المرأةُ صنيعَه -وهي لا تعرفه- وقالت: أنت أَولى بهذا الأمرِ من أميرِ المؤمنين، فردَّ عليها عمرُ: قولي خيرًا وإنك إذا جئتِ أميرِ المؤمنين وجَدْتِني هناك. يقول أسلمُ: ثم تنحَّى عنهم ورَبَضَ مربِضَ السَّبُع، فجعلتُ أقول له: إن لك شأنًا غيرَ هذا؟ وهو لا يكلِّمني، حتى رأيتُ الصبيةَ يصطرعون ويضحكون ثم ناموا وهدؤوا، فقام عمرُ وهو يَحمَدُ الله، ثم أقبل عليَّ فقال: يا أسلمُ، إن الجوعَ أسهرَهم وأبكاهم، فأحببتُ أن لا أنصرفَ حتى أرى ما رأيتُ منهم» (¬1). عجبًا لك يا ابنَ الخطابِ، فلقد كنتَ في الجاهلية نموذجًا للغِلْظةِ والشدة حتى تدفنَ ابنتَك وهي حية وهي تنفُض الترابَ عن لحيتك، ثم أنت في الإسلامِ يُقلقُ مضجَعَك بكاءُ الجوعى لا من بيتِك وعائلِتك، بل من أبناءِ المسلمين وخارج المدينة، ولا تكتفي بحملِ الطعام وصُنعِه بل تنتظرُ حتى تتبدَّلَ مشاعرُ الأسى بالفرحةِ والأنُس، إنه الإسلامُ جعل منكَ عظيمًا في كل شيءٍ، وليس إغاثةُ الملهوفِينَ إلا جزءًا من هذه العَظَمة، حتى أشفقَ الصحابةُ على عمرَ من شدَّةِ اهتمامِه بالمسلمين، ويقول الصحابةُ المعاصرون له: لو لم يرفعِ اللهُ المَحْلَ عامَ الرمادة لظنَنّا أنَّ عمرَ يموتُ همًّا بأمرِ المسلمين (¬2). بل تتجاوزُ العَظَمةُ في شخصيتِك، وتصلُ بك نُبْلُ المشاعرِ وبواعثُ الرحمةِ، على أن تتجاوزَ بني الإنسان إلى الرأفةِ بالحيوان، ويؤثَرُ عنك القول: «واللهِ لو أنَّ بغلةً سقطتْ في العراقِ لكان عمرُ مسئولًا عنها: لِمَ لمْ تمهِّدْ لها الطريقَ يا عمرُ! ». ¬

(¬1) تاريخ الطبري 5/ 20، 21. (¬2) الطبقات الكبرى 2/ 315.

الله أكبرُ، إنها نماذجُ للرحمةِ والإيثارِ والعطفِ على الحيوانِ فضلًا عن بني الإنسانِ، يحثُّ عليها الإسلامُ ويمثِّلُها المسلمون كلَّما استيقظَ واعظُ القرآنِ في النفوس {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}. وإذا شَمِلَ الإطعامُ غيرَ المسلمين، فالأَسرى حين نزولُ الآياتِ من غيرِ المسلمين -كما أكَّد على ذلك العلماء- (¬1) فالمسلمون من باب أَوْلى. وأين المسلمون من هَدْيهِ عليه الصلاةُ والسلام وقد سُئِلَ: أيُّ الإسلامِ خيرٌ؟ فأجاب: «تُطعِمُ الطعامَ وتقرأُ السلام على مَن عرفتَ ومَن لم تَعرِفْ» رواه البخاريّ. ¬

(¬1) القاسم بن سلام: الأموال/ 729.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ لله ربِّ العالمين مالكِ يومِ الدين، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وليُّ الصالحين، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه إمامُ المتقين، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ النبيين. أيها المؤمنون: ومن مجاعةِ القرنِ الأول الهجريِّ وكيف تجاوزَ المسلمون مِحنةَ الرمادةِ .. أتحدَّثُ إليكم عن مجاعةِ القرنِ الخامسَ عشرَ الهجريِّ .. والكارثةِ الواقعةِ والمتوقَّعة في بلادِ الأفغان، وليس يخفى أنَّ البلاد -وطوالَ ما يقرُبُ من ربعِ قرنٍ تعيش حربًا متواصلة .. فَقَدَ فيها عددٌ من الأُسرِ عائلَها، وهاجرتْ أعدادٌ أخرى من مساكنِها، وأصبح عددٌ ثالثٌ لا يملكُ من الحياةِ إلا خيمةً لا تكادُ تتوفَّرُ فيها عددٌ من ضَرُورياتِ الحياة فضلًا عن كماليّاتِها .. وأصبح مع الأسفِ عددٌ من هذه الأُسَر فريسةً لمنظَّماتٍ تنصيرية جاءتْ إلى أفغانستانَ تحت عباءةِ الإغاثةِ الإنسانية؟ لقد عانى الشعبُ الأفغانيُّ كثيرًا في جهادِه ضدَّ المحتلِّين الرُّوس، ولكن انتصارَه في النهايةِ على الروس -وبدعمٍ من العالم الإسلامي- أنساه بعضَ معاناتِه، لكنه عادَ من جديدٍ يتحمَّلُ ويلاتِ الحرب ويتجرَّعُ بكلِّ مرارةٍ الصراعَ بين الفصائلِ الأفغانية بعد طردِ الروس. ولم يكدْ يَذُقْ طعمَ الاستقرار بعد إزاحةِ هذه الفصائلِ وتوحيدِ معظم البلاد على يدِ (طالبان) حتى قُرِعَت طبولُ الحربِ الأمريكية ومعها الحلفاءُ ضدَّ هذا البلدِ المسلم؟ أجلْ، لقد أكلتِ الحروبُ السابقةُ الأخضرَ واليابس، ثم جاء الجفافُ ليضربَ كلَّ ما تبقَّى، ويتركَ الأسرةَ الأفغانية مجرَّدةً من معظمِ أسباب الحياة ..

إلا إيمانَها وتوكُّلَها وتقشُّفَها وصبرَها. ولا يعلم إلا اللهُ ما مصيرُها وما حالُ هذه الأُسر في حال نشوبِ حربٍ جديدةٍ تُستخدَمُ فيها الآلاتُ الحربيةُ المدمِّرةُ من قِبَل الحلفاءِ! ! إن المراقبين يتوقَّعون نزوحَ ملايينِ اللاجئينَ على حدودِ أفغانستانَ .. بل إنهم استَبَقُوا الأحداثَ .. وشاهد الناسُ نماذجَ لهؤلاء اللاجئين المهاجرين وهم يتدفَّقونَ بحثًا عن الملجَأ والغذاءِ، وكم هي مأساةٌ حين تَعجِزُ دولُ الحدودِ عن استيعابِ هؤلاءِ المهاجرين فتمنعُهم من الدخول إلى أراضيها .. وهم لا يَجِدُون ما يأكلون أو يستظلُّون به في بلادِهم .. فيكون الموتُ الجماعيُّ وحَتْفُ الأنفسِ مصيرًا بائسًا لعددٍ من هؤلاءِ المهاجرين اللاجئين المسلمين. والمأساةُ أعظمُ حين تَنشَطُ المؤسَّساتُ الإغاثيةُ التنصيرية لاستقبالِ هؤلاء فتُؤوِيهم وتدعمُهم باليدِ وتُنصِّرُهم أو على الأقل تُفسِدُ عليهم إسلامَهم باليد الأخرى -وقد سمع العالَمُ عن عددٍ من هذه الهيئاتِ بدأتْ تستعدُّ للإغاثة في أعقابِ الحرب .. وعجبًا لهذا التناقضِ، فالذي يضربُ ويُحدِثُ الأذى وينشئ الفقراءَ هو الذي يطعمُ ويُؤْوي ويَظهرُ في أعين البسطاء وكأنه المنقذُ من المأزق .. والمتقدِّمُ حين تأخَّرَ الآخرون. إن المسلمين أَوْلى بإخوانِهم المسلمين في حالِ السِّلْم أو في حالِ الحرب إذا ما وُجِدَت الحاجةُ عند أحدٍ من إخوانِهم المسلمين بشكلٍ عامّ، فكيف إذا اشتدَّتِ الحاجةُ للمساعدة. إنَّ التقاريرَ تقولُ: إنَّ أعلى معدَّلٍ لوفياتِ الأطفال في أفغانستانَ وسيراليون وموزمبيق .. ووَفْقًا لتوقُّعات مسئولين بمكاتبِ الأممِ المتحدةِ في إسلام آباد فإن ما بين خمسةِ إلى ستةِ ملايين أفغانيٍّ معرَّضين لخطرِ المجاعة، ونِسَبُ الأطفالِ

فيهم عالية، بل إن ثُلثَ الأطفال دون سنِّ الخامسة. وتشيرُ التقارير كذلك إلى أن مخزونَ الغذاء والدواء في حالِ حدوثِ ضربةٍ لأفغانستان لن يكفيَ الشعبَ الأفغاني إلا لأسبوعٍ فقط، وسواءٌ صحَّت هذه التقاريرُ أو لم تصحَّ فنحن على ثقةٍ بأن الله هو الرزّاقُ ذو القوةِ المتينُ وأنه المُحْيي والمميتُ .. لكن يا أُمةَ القرآن ماذا نقولُ لرِّبنا إذا سألَنا عن موتِ هؤلاء الأطفالِ المسلمين ونحن قادرونَ على إغاثتِهم؟ هذا في الآخرة .. أمَّا في الدنيا فماذا سيقولُ العالَم عنا -معاشرَ المسلمين- ونحن نتركُ هؤلاءِ الأطفالَ يموتون حتفَ أنفهم .. ولربما سبقتْ إلى استبقاءِ حياة بعضِهم مؤسَّساتٌ لا تَمُتُّ للإسلامِ ولا للمسلمين بأدنى صِلَة. إن أمريكا أرادت أن تُحرِجَ العالمَ بضربتِها العسكرية، وذلك حين بدأتْ تجمعُ التأييدَ من دولِ العالم -بما في ذلك العالَمِ الإسلاميّ- لضربِ أفغانستان، وهي تُصِرُّ بل ترضى اشتراكَهم بأيِّ شكلٍ من الأشكال، وهي اليومَ تُحرِجُهم في التقدم لإغاثةِ اللاجئين والمهاجرين الأفغان، إذ تُعلِنُ الأُممُ المتحدة عن توجُّهِها لجمع 584 مليونَ دولارٍ من المساعداتِ لمنعِ وقوع كارثةٍ إنسانيةٍ في أفغانستان، وقد وعدَتْ أمريكا بتقديمِ حصَّتِها من هذه المساعدات، وأعلَنتِ اليابانُ عن تحمُّلِها عشرين بالمائة 20% من المبلغ المعلَن من قِبَل الأمم المتحدة. وكأنَّ أمريكا أرادت أن تُشرِكَ العالمَ كلَّه بمُصابِها، وباسمِ محاربةِ الإرهاب وتحقيقِ العدالة؟ وأين جِدِّيتُها في هذه الدعوى في منعِ الإرهاب اليهوديِّ في فلسطين، وأين عدالتُها في التعاملِ مع قضايا المسلمين، وهي التي صنعتْ ما صنعت في (تيمورا الشرقية) في أندونيسيا، وما نسيَ العالمُ العربيُّ والإسلاميُّ ضربَها لمصنعِ الأدويةِ في السودان، وما نسوا مواقفَها المُشينةَ مع الصِّرب

النصارى في (البوسنةِ والهرسك) حين أقامتْ لهم دولةً مستقلةً رغمَ وحشيَّتِهم، بينما تركتِ المسلمين يُحكَمون بالمندوبِ السامي. وما نسيَ العالمُ مأساةَ (هيروشيما ونجازاكي) ولا الضربَ الأمريكيَّ لـ (فيتنام) إلى غير ذلك من حوادثَ ووقائعَ تقومُ بها أمريكا بنفسِها أو تقيمُ غيرَها بالوكالة .. ولذا فثَمَّةَ أصواتٌ عاقلةٌ في أمريكا بدأتْ تدعو لمراجعة النظرِ في السياسةِ الأمريكيةِ في الخارج .. ويقولون: إن هذه الضربةَ الأخيرةَ رَجْعٌ للصَّدى، وإعادةٌ للبضاعةِ المُزْجاةِ على أصحابها؟ ومع ذلك فنصيحتي للمسلمين عمومًا كِبارًا أو شبابًا بضَبْط النفسِ والتعاملِ مع الأحداث بهدوء وروِيَّةٍ ووَفْقَ توجيهاتِ الكتاب والسُّنة .. حتى لا يتصرفَ أحدٌ اليومَ تصرفًا يندَمُ عليه غدًا، وأن تظلَّ أحكامُنا مرتبطةً بميزانِ القرآن من مثلِ قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (¬1). معاشرَ المسلمين: إننا في صددِ الحديثِ عن إغاثةِ الشعبِ الأفغانيِّ نذكرُ دعمَ المملكة بمبلغِ عشرةِ ملايين دولار .. ونأملُ أن يكونَ لهذا الدعمِ ما بعدَه، وأن يتحرَّك المسلمون حكوماتٍ وشعوبًا لدعم إخوانِهم في أفغانستان، بل وفي كلِّ مكان يحتاجُ فيه المسلمون إلى دعمٍ ومساندة -وإذ سمعتم أن الفاروقَ -رضي الله عنه- يعتبرُ نفسَه مسئولًا عن الدابةِ تموتُ في أرضِ العراق: لِمَ لَمْ يُمهِّد لها الطريق؟ فكيف بموتِ آلافٍ بل ملايين من البشرِ المسلمين لا تصلُ إليهم حاجتُهم من الطعامِ أو الكساء؟ أو تصلُ إليهم بجهودِ اليهود والنصارى والمشركين فيُسِدُّون جَوْعَة بطونهم وتظلُّ قلوبُهم من الإيمانِ والإسلام جَوْعى. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 217.

إنكم معاشرَ المسلمين تُدعَوْنَ اليومَ للإنفاق، وتُمتحَنون في أموالكم، وكما تُسألون: من أين اكتسبتُموها؟ فتسألون: وفيمَ أنفقتُموها؟ وهنا أَلِفتَ النظرَ إلى حكمٍ شرعيٍّ يقضي بتقديمِ الزكاة عند وجودِ المُوجِبِ لذلك، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميّةَ -رحمه الله (¬1) -: «وأما تعجيلُ الزكاةِ قبل وجوبِها بعد سببِ الوجوبِ فيجوزُ عند جمهورِ العلماءِ كأبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ .. ». وليس يخفى حاجةُ المسلمين الأفغانِ من قبلِ الحصارِ ومن بعدِه وسواءٌ وقعتِ الضربةُ أم لم تقعْ .. فأَرُوا اللهَ من أنفسِكم خيرًا، وانصُروا إخوانكم .. ولا يَسبِقنَّكم غيرُ المسلمين -اللهمَّ أغْنِ فقراءَ المسلمين وسُدَّ حوائجَهم، وثبِّتْ على الحقِّ أقدامَهم، وانصُرهُم على القومِ الكافرين. اللهمَّ صلِّ على محمدٍ .. ¬

(¬1) الفتاوى 25/ 85.

مفهوم النصر وتوظيف الحدث

مفهومُ النصر وتوظيفُ الحدث (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. أيها المسلمون: ما حقيقةُ النصر؟ وما مفهومُ الهزيمة؟ يظنُّ بعضُ الناس أن التفوقَ في القوة، وكثرةَ القتلى والجَرْحى، وانتشارَ الدمارِ هنا وهناك، والغلبةَ على الخصمِ مؤشِّرٌ للنصر لمن حصلَ له، ومؤشِّرٌ لهزيمةِ من وقع عليه. وكلنا حين نعودُ لنصوصِ القرآن والسنة نجدُ مفهومًا آخرَ للنصر، ومعنًى آخرَ للهزيمة. فالثباتُ على المبدأ الحقِّ نصرٌ وإن أُهلِكَ أصحابُه في سبيله. والموتُ على الإيمانِ بالله وحدَه نصرٌ - مهما تفنَّن القاتلون في نوعِ القتل، كيف لا وعددٌ من أنبياءِ الله قُتِلوا .. وهم بلا شكٍّ غالبون منتصرون في ميزانِ الحقّ، وفي المقابلِ تعلَّمْنا من نصوصِ الكتابِ والسُّنة أن الاستكبارَ والطغيانَ والتجرُّدَ من القِيَم والأخلاقِ العادلةِ والظُّلم والاستبدادِ هزيمةٌ ماحقةٌ وإن خُيِّلَ لأصحابها أنهم يتربَّعون على موائدِ النصر ويتسلَّوْنَ بمشاهدِ القتلى، ويتشفَّوْن ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 3/ 8/ 1422 هـ.

ويتفاخرون بالانتصارِ على الضعفاء؟ وفي القرآنِ الكريم من مثلِ قِصَّة إحراقِ الخليل عليه السلام، وتقطيعِ الأيدي والأرجلِ من خلافٍ والصَّلْب في جُذوعِ النخل حتى الممات لسحرة فرعون .. وإحراقِ أصحابِ الأخدود .. في مثلِ هذه القصصِ نماذجُ لمفهوم النصرِ وحقيقةِ الهزيمة. كيف لا وقد جاءَ في سياقِ هذه القصص: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} (¬1). وعن سَحَرةِ فرعونَ خلَّدَ القرآنُ ثباتَهم وتحدِّيَهم لفرعونَ وصراحتَهم بالإيمان وكشفَهم لمفهوم الحياة الحقَّةِ حين قالوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (¬2). وهكذا انقلب السحرُ على الساحر، وأصبح فرعونُ لا يواجهُ موسى والمؤمنين معه بل يُبتلَى بثُلَّةٍ من أصحابه، ويُصاب بنفورٍ وانشقاقٍ من أقربِ الناس إليه، وكانت تلك بدايةَ النهايةِ لفرعونَ وجنودِه! أما أصحابُ الأخدودِ فيكفيهم فخرًا وحسبُهم نصرًا أنهم يُساقَوْن إلى الموتِ وتُخَدّ لهم الأخاديدُ وهم ثَابتون على الإيمانِ بالله متحدُّون للجَبَروت والكبرياء، وحين تقاعست امرأةٌ تحملُ صبيًا لها وتردَّدتْ في دخولِ النار .. أنطقَ اللهُ الغلامَ بالحقِّ وليكونَ شاهدًا على مفهومِ النصر: «يا أمَّهْ اصبِري فإنكِ على الحقِّ» (¬3). ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآيات: 68 - 70. (¬2) سورة طه، الآيتان: 72، 73. (¬3) رواه مسلم، الزهد .. قصة أصحاب الأخدود/ ح 2093.

وتأمَّلوا كيف جاء التعليقُ في القرآن على أصحابِ الأُخدودِ ومَن فتنَهم بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} (¬1) هذا عن الفئةِ الأولى - ثم قال عن المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} (¬2). فهذا مفهومُ الفوزِ في القرآن .. وتلك حقيقةُ النصرِ والهزيمةِ عندَ أهل الإسلامِ والقرآن. عبادَ الله: إن الابتلاءَ للناس سُنَّةٌ ربانية ماضيةٌ متجدِّدة، والحكمةُ منها كما قال ربُّنا: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (¬3). إنَّ من الناس من يَفزَعُ للأحداثِ الكبيرة فزعًا يُفقِدُه صوابَه، وربما أحبطَ نفسَه وأَساء الظنَّ بربِّه ودينِه، فظنَّ أنَّ في تكالُبِ الأعداء على المسلمين وتهديدِهم لبعضِهم وقتلِهم للبعضِ الآخر نهايةً للإسلام وتصفيةً للمسلمين، فينزوي على نفسِه، وأنَّى لمثلِ هذا أن يقومَ بدعوةٍ أو يأمرَ بمعروفٍ أو ينهى عن منكر .. وهو أحوجُ إلى أن يُدعَى ويُؤمرَ ويُنهَى. ومن الناس من هو على الضدِّ إذ قد يبلُغُ به الحماسُ غيرُ المنضبطِ إلى التسرُّعِ والتصرُّف فيما لا يَسُوغ ولا يجوز سواءٌ بالقول أم بالفعل، وسواءٌ كان حماسُه لهذا العمل أو ذاك، وخسارةٌ فادحة حين ترتدُّ السهامُ على النحورِ، وفتنةٌ عظمى حين يقعُ القتالُ بين فئاتِ المسلمين فتتمزَّقُ أوصالُ الأُمة ويذهبُ ريحُ ¬

(¬1) سورة البروج، الآية: 10. (¬2) سورة البروج، الآية: 11. (¬3) سورة العنكبوت، الآية: 3.

المسلمين؛ فلنحذَرْ ولنحذِّر من هذا الصنيع. ولاشكَّ أن أُمةَ الإسلام اليومَ تُمتحَنُ بتكالُبِ الأعداء عليها، وهي أمامَ تحدٍّ كبيرٍ تمارسه القُوى الكافرةُ ضدَّها، وهذه القوى حريصةٌ على إحداثِ الشِّقاق داخلَ الأمةِ المسلمةِ بين شعبٍ وشعب، بل داخلَ الشعب الواحدِ بين فئاتِه وأطيافِه ومؤسَّساتِه .. فهل يدركُ المسلمون هذا التحدِّي ويؤجِّلوا خلافاتِهم - ولو على الأقلَّ إلى حينٍ - ما دام العدوُّ المشترَكُ شاهرًا سلاحَه، إن تمزيقَ الأُمةِ المسلمة باللسانِ أو بالسِّنان لَمِن أعظمِ المخاطر التي يتحمَّلُ الغيورون المدرِكون للعواقبِ مسؤوليةَ دفعِها في ظلِّ هذا التوتُّرِ في المشاعرِ والعواطف. ولا يَسُوغ بحالٍ أن نُخدعَ وننقلَ المعركةَ إلى داخل بلادِ المسلمين، فإنَّ ذلك يُسَرُّ له الأعداءُ، بل هو نجاحٌ نصنعُه لهم دون ثمن. أيها المؤمنون: إنَّ التوظيفَ الصحيح للأحداثِ الواقعةِ اليومَ والمتوقَّعةِ غدًا يكون بعدَّة وسائلَ وبرامجَ وخططٍ مدروسةٍ، ومن ذلك: 1 - إصلاحُ الذات، والنظرُ في العيوب، والتوبةُ من الذنوب، وإخلاصُ العمل وتجريدُ التوحيدِ لله ربِّ العالمين .. فكم غَفَلْنا وكم أسرفْنا على أنفُسِنا بالمعاصي، وهذه الأحداثُ والفتنُ النازلة مؤشراتٌ لأخطائِنا وذنوبِنا، وهي امتحانٌ لتوبتِنا ويَقَظتِنا، واللهُ تعالى في كتابِه الكريم يربطُ بين الذنوبِ والمصائبِ ويقول جلّ ذِكرُه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (¬1). وعن علي رضي الله عنه: «ما نزل بلاءٌ إلا بذنْبٍ، ولا رُفعَ إلا بتوبةٍ» فيا تُرى مَنْ منّا راجع نفسَه وتاب إلى ربه: «وكلُّ ابنِ آدم خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّاين التوَّابون» أم أن ¬

(¬1) سورة الشورى، الآية: 30.

الأكثريةَ منا مشغولةٌ بغيرِها ومتناسيةٌ لنفسها؟ ومَنْ منَّا زاد في عبادتِه لربِّه والرسولُ صلى الله عليه وسلم يقول: «العبادةُ في الهَرْج - يعني القتل والفِتَن - كهِجْرة إليّ»، ودَعُونا نطرحُ السؤالَ التالي وعليه يُقاسُ غيرُه على كلِّ واحدٍ منا: هل ما قرأتَ من كتابِ الله - في هذه الأيام - أكثرُ، أم ما قرأتَ من الصُّحف وتابعتَ من القَنَوات؟ وهل شكَوْنا إلى ربِّنا وتضرَّعْنا أم نسينا وقسَتْ قلوبُنا؟ وأنا هنا لا أَدعو إلى قلَّةِ الوعي .. ولكني أُشيرُ إلى خلَلٍ في التوازن بين الواجباتِ والمستحبَّات .. وإلى الاستجابةِ للعواطفِ أكثرَ من عملِ الصالحاتِ الباقيات - والتي بها تُدفَعُ الفتنُ وتُكشفَ النوازلُ والكُرُبات، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1). ومما يلفت النظرَ أنه برَغمِ التشويهِ الذي حصل للعربِ والمسلمين إلا أن الإسلام بات ينتشرُ في أوساطِ غير المسلمين، ونقرأُ ونسمعُ هذه الأيامَ أن الغربيين أقبلوا على نَسْخِ المصاحفِ يطالعون في القرآنِ ونَفِدَت - أو كادت - الكتبُ التي تتحدَّث عن الإسلام، ومن يدري فقد تكون هذه الأحداثُ بدايةَ انطلاقةٍ كبرى للإسلامِ والمسلمين، فهل يستثمرُ المسلمون ذلك لصالحِ إسلامِهم ودعوتِهم. 2 - السعيُ لإصلاحِ الآخرين وذلك بالدعوةِ إلى الله بكلِّ وسيلةٍ ممكنةٍ ومع كل طبقةٍ: الصغارِ والكبارِ، الرجالِ والنساءِ، الأغنياءِ والفقراء، المُثقَّفينَ والأُميِّين، داخلَ الحدودِ وخارجَها، وبالعربيةِ أو بغيرِها، وفي هذا الصددِ لابدَّ من إشعارِ المسلمين جميعًا أن قضيةَ الإسلام مسؤوليةٌ مشترَكةٌ لا يُعفَى أحدٌ من ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآيتان: 42، 43.

المساهمةِ في دفعِها ودَرْءِ المخاطر عن المسلمين إذا وقعتْ بهم نازلةٌ في أي مكان. إننا نخطئُ حين نَحصُر الاهتمامَ بالدِّين والدعوةِ على فئةٍ معيَّنة نسمِّيها بـ (الملتزمين) فالأُمة كلُّها - وفي ظلِّ هذه الظروف - مطالبةٌ بنُصْرة الدين، وكلُّ مسلمٍ لا يخلُو من خيرٍ، والإيمانُ شُعَبٌ منها الظاهرُ ومنها الباطن، ورُبَّ ذي مَظهرٍ إيمانيٍّ وقلبُه خاوٍ أو غافلٍ، ورُبَّ ذي مَظْهرٍ لا يدلُّ على ما في قلبِه من خيرٍ، وما في عقلِه من حكمةٍ ورشد .. فهل نخسرُ هذه الطاقةَ، وهل يَسُوغُ لنا أن نحيِّدَ هذه الفئةَ عن الدعوة أو تُحيِّدَ هي نفسُها عن المشاركةِ في الدعوة بحُجَّة أن لديها تقصيرًا؟ لقد أعلنَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صريحةً عامةً حين قال: «مَن رأى منكم منكم مُنكَرًا فليغيِّرْه بيدِه، فإن لم يستطعْ فبلسانِه، فإن لم يستطعْ فبقلبِه» وأعلَنها كذلك بالبلاغ عنه ولو بآيةٍ: «بلِّغوا عنّي ولو آيةً»، والكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (¬1)، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (¬2). ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 6. (¬2) سورة فاطر، الآية: 5.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ لله ربِّ العالمين، يحكُمُ ما يشاءُ ويفعل ما يريدُ، لا رادَّ لفضلِه ولا يكشفُ السوءَ إلا هو، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه وخِيرتُه من خلقِه، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلين. إخوةَ الإسلام: ويلزمُنا في ظلِّ هذه الأحداثِ والمتغيِّرات: 3 - أن نُحسِنَ الظنَّ بالله تعالى، وأنه لا يقع شيءٌ إلا بإذنِه وتقديره وقضائِه؛ وقضاؤُه خيرٌ، {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬1)، وألا نضخِّمَ دَوْرَ الأعداءِ ونُرجِفَ بأنفسِنا ومَن حولَنا، بل نتفاءَلُ، وقد مرَّتْ بالمسلمين في الماضي أزَماتٌ وتكالُباتٌ للأعداء فما زادهم ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا، وفَرْقٌ كبيرٌ بين من قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (¬2) وبين من قالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (¬3)، وأولئك قيلَ لهم: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (¬4). أما المؤمنونَ الصادقون الذين قيلَ لهم: إنَّ الناسَ قد جمعوا لكم فاخشَوْهم فزادَهم إيمانًا وقالوا: حسبُنا اللهُ ونعمَ الوكيل .. فكانت عاقبتُهم {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 19. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 22. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 12. (¬4) سورة الأحزاب، الآيات: 16، 17.

مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (¬1). 4 - إخوةَ الإيمان: ومع حُسنِ الظنِّ لابدَّ من العملِ ولابدَّ من تحقيقِ الإيمانِ في واقع الحياة، ومن لطائفِ القرآنِ - لمن تأملَ - أن الوعدَ بالنصرِ والعزةِ والنجاةِ لم تُعلَّقْ بمن اتَّصفَ بالإسلام فقط، بل خُصَّ ذلك بأهل الإيمان - والإيمانُ درجةٌ فوقَ الإسلام - وتَجِدُون مِصداقَ ذلك في مثلِ قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2) {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (¬3) {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (¬4) {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬5). أيها المسلمون: إن أمةً تعيشُ حالةَ الحربِ الشاملةِ يجب أن تكونَ أبعدَ الناسِ عن اللهوِ واللعب .. وأنَّى لأمةٍ أن تواجهَ أعداءَها وهي بعدُ لم تنتصرْ على أنفُسِها ولم تتغلَّبْ على شهواتِها، هل يتحقَّقُ النصرُ لمن لا يأتون الصلاةَ إلا وهم كُسَالى، أو يَزعُمون أنهم يؤمنون بالكتابِ والسُّنة .. وإذا قيل لهم: تعالَوْا إلى ما أَنزلَ اللهُ وإلى الرسولِ رأيتَ الصدودَ والإعراض؟ هل يتحققُ النصرُ لمن يَدَّعي الإسلامَ وهو يُضمِرُ العداوةَ للمسلمين أو يَسخَرُ بشيءٍ من أوامرِ الدين؟ وهل يتحققُ النصرُ لمن لا يهتمُّ بأمرِ المسلمين ولا يُقدِّمُ النُّصرةَ والمَشُورةَ والدعوةَ والدعاءَ للمسلمين؟ وباختصارٍ فإذا تأخَّر النصرُ؛ فلأنَّ الأُمةَ بعدُ لم تصلْ إلى مستوى النصرِ .. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 174. (¬2) سورة الروم، الآية: 47. (¬3) سورة فصلت، الآية: 18. (¬4) سورة المنافقون، الآية: 8. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 139.

5 - ومن توظيفِ الأحداثِ الواقعة تعميقُ الوعي في نفوسِ المسلمين وذلك بتحديدِ طبيعةِ المعركةِ وهويَّتِها، وطبيعةِ الأعداءِ وَمكْرِهم وأهدافهم والشعورِ بمُصابِ المسلمين ومآسيهم ومواساتِهم ونُصْرتهم، والموازنةِ بين المكاسبِ والخسائر، وتَجْليةِ حقيقة النصر ومفهومِ الهزيمة، إنَّ من الموازناتِ التي ينبغي أن لا تغيبَ عن المسلمين أنَّ مسلمًا يُقتَلُ بغير حقٍّ بل ظلمًا وعدوانًا - رجلًا كان أو امرأةً، طفلًا أو كبيرًا. شيءٌ عظيمٌ وخسارةٌ فادحةٌ في حقِّ المسلمين، كيف لا وحُرْمةُ المسلم عندَ الله أعظمُ من حُرمةِ الكعبة، ولكنَّ فردًا من المسلمين يُقتَلُ لتَحيا به أُمةٌ من الناس نصرٌ عظيم، ومكسبٌ للإسلام والمسلمين، وفي صحيح مسلم: أن الغلامَ المؤمنَ قُتِلَ باسمِ الله ربِّ الغلام فآمن الناسُ قائلين: آمنَّا بربِّ الغلام، آمنَّا بربِّ الغلام، آمنَّا بربِّ الغلام .. وإن خُدَّت لهم الأخاديدُ وأُحرِقوا (¬1). وإن قطرةَ دمٍ تنزفُ من جريحٍ مسلم أمرٌ مزعجٌ لنا معشرَ المسلمين، وهي خسارةٌ ونقصٌ في مخزونِ الدماءِ المسلِمة .. ولكنْ سَرَيانُ دمِ العِزّة والكرامةِ والرحمةِ والنُّصرة في عروقِ آخرين من المسلمين وربما غيرَ المسلمين فذاك نصرٌ كبير، وتعويضٌ عظيم. 6 - عبادَ اللهِ والأحداثُ الواقعةُ فرصةٌ لتوحيدِ الصفِّ الإسلاميِّ العربيِّ والأعجميِّ، الأسودِ والأبيض .. ذلكم أنَّ الهجمةَ على الإسلام والمسلمين مستنكَرةً من قِبَلِ الجميع .. وإنِ اختلفوا في أساليبِ التعبير أو أسرَّ بعضُهم وجهرَ آخرون .. وهذا الاستنكارُ فرصةٌ لمزيدِ جمعِ الكلمة وتوحيدِ القُوى - وهي الأمرُ المهمُّ الذي يَغيبُ في واقعِ المسلمين - حيث الفُرْقةُ والخصومةُ ¬

(¬1) مسلم/ كتاب الزهد.

والشَّتاتُ واختلافُ الأفهامِ والاهتماماتِ، وحين يُفلحُ المسلمون في توظيفِ هذه الأحداثِ للتقارُبِ والأُلفةِ وتحقيقِ الأخوَّة الإسلامية والتعاونِ على البرِّ والتقوى فذاك مكسبٌ عظيمٌ للأمة .. إنه ليس من حقِّ الإسلام ولا من حقِّ المعركة أن ينشغلَ المسلمون بعضُهم ببعضٍ باللسان ولا بالسِّنان، وأخطرُ من ذلك أن يتأوَّل أحدٌ في قتلِ أخيه المسلمِ بتأويلِ أو غيرِه، وفي الحديث: «إذا الْتقَى المسلمانِ بسَيفَيهِما فالقاتلُ والمقتولُ في النار»، «لا تَرجِعوا بعدي كفارًا يضربُ بعضُكم رقابَ بعضٍ». 7 - إخوةَ الإيمان: أيها العلماءُ والدعاةُ والخيِّرون والعقلاءُ، إن عليكم كِفْلًا كبيرًا في تطمينِ الناس وتهدأتِهم في أزمانِ الفتنِ والشدائدِ وفَتْحِ مجالاتِ العمل النافعةِ لهم ولأمَّتِهم، ونقلِهم من العواطفِ والطيش غيرَ المثمرِ إلى سلوكياتٍ نافعةٍ في العبادةِ والدعوةِ والعلمِ والعمل والتخطيطِ والابتكارِ والتربيةِ وتحمُّلِ المسؤولية .. فهذه وتلك طريقُ أمَّتِنا للنهوض .. وهي التي قادتْ أسلافَنا إلى التفوُّقِ والتميُّزِ على الآخرين. 8 - عبادَ الله: ومع اهتمامِنا بكلِّ قضيةٍ للإسلامِ والمسلمين فلا ينبغي أن تُنسِينَا الأحداثُ الواقعةُ قضيتَنا الكبرى في فلسطين، لاسيما والصهاينةُ المعتدون حاولوا استثمارَ الأحداثِ لصالحهم فباتوا يقتلون ويخرِّبون ويُفسِدون .. وحين يكون حديثُ العالَم عن الإرهاب فينبغي أن يرتفعَ صوتُنا بإرهابِ اليهود والنصارى والوقوفِ مع إخوانِنا الفلسطينيين المظلومين، وحين تَذكُر إحدى المجلاتُ الأمريكيةُ أن (58%) من الأمريكانِ يعتبرون تعاملَ أمريكا مع اليهودِ هو السبب فيما جرى لهم، فتلك فرصةٌ على المسلمين أن يستثمروها لصالحِهم لمزيدِ فَضْح اللُّوبي الصهيوني.

الشدائد محن ومنح ومحاذير ومبشرات

الشدائد محن ومنح ومحاذير ومبشرات (¬1) الخطبةُ الأولى: إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يَهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين وسلِّم تسليمًا كثيرًا. إخوةَ الإسلام: وفي أزْمانِ الشدائدِ والفتن تُمتحَنُ القلوبُ، وتُمتحَن الألسنُ وتُمتَحن العواطفُ والمشاعر، تتمايزُ الصفوفُ، ويَمِيزُ اللهُ الخبيثَ من الطيِّب، ويعلمُ اللهُ - وهو أعلم - الصادقينَ من الكاذبين، وأهلَ الإيمان وأهلَ النفاق، نعم تُمتحَن القلوبُ في الولاءِ والبَرَاء، وفي الخَشْيةِ والإنابة، والتوكُّلِ والاستعانةِ، والثقةِ واليأس، والألمِ والأمل، والحبِّ والبُغْض، والخوفِ والرجاء، وحسنِ الظنِّ أو سوئِه .. وتُمتحَن الألسنُ - في أزمان الفتن أكثرَ - على الصدقِ والكذب، والتثبُّتِ مما يُنقَل ويُقال، أو الإسراعِ بالقِيلِ والقال، ولو كان القولُ بظُلمٍ، ولو كان الحديثُ بهوى، ولو كان الناقلُ للحديثِ فاسقًا .. فكيف إذا كان كافرًا، والله يقول: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (¬2). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 10/ 8/ 1422 هـ. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 6.

تُمتحَن الألسنُ والأقلامُ في نُطْق الحقِّ والسكوتِ عن الباطل - وربما زلّ اللسانُ قال فُحشًا .. أو توارى عن كشفِ الباطلِ فكان شيطانًا ناطِقًا أو صامتًا، وربما كتب الغيورُ ناقدًا متأوِّلًا فزاد الجُرحَ عمقًا، وعكَّرَ صفوَ الاجتماع والأُلْفة، وياليتَ قومي يعلمون أنَّ ميدانَ المعركةِ مع عدوِّنا أرحبُ، ومجالاتِها لا تُحَدّ، وهم يُراهنون على إشعالِ الفتيل بين المسلمين، ومن نوادرِ الذهبيِّ رحمه الله قوله: «ربما آلَ الأمرُ بالبمعروف بصاحبِه إلى الغضبِ والحِدَّة، فيقعُ في الهِجْران المحرَّم، وربما أفضى إلى التكفيرِ والسعيِ في الدم» (¬1). نعم إنَّ الخطأ واردٌ، ولا عِصمةَ لأحدٍ إلا للأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام، ولكن لنترفَّقْ في النقدِ ولنُحسنِ الظنَّ بمن هم أهلٌ لذلك. وفي أزمانِ الفتن كذلك تُمتحَن المشاعرُ والعواطفُ أكثرَ، فهذا باردُ الإحساسِ عديمُ المشاعر، وذاك تتوهَّجُ عاطفتُه وتَغْلي حتى تغلبَ عقلَه، وفئةٌ ثالثة لديها مشاعرُ وأحاسيسُ حيةٌ، لكنها توظِّفُها في خدمة الحقِّ دون تهوُّرٍ، وفي فضحِ الباطل دون تشنُّجٍ. أيها المؤمنون: إن أيامَ الفتنِ شديدةٌ على النفوسِ لما فيها من الهَرْج والقتل، والخوفِ والقلق، واختلاطِ الحقّ بالباطل، ومن حقِّ المؤمن أن يتخَوَّفَ على نفسِه وعلى إخوانه من ملابساتِ الفتن، ولكنَّّ الفتنَ والنوازل كذلك فيها تجديدٌ للإيمان، وفيها إحياءٌ لمعالمَ في الدين - من ولاءٍ وبراءٍ، وخَشيةٍ وتوكل، وصبرٍ ومصابرة، ونُصرةٍ أو مظاهرة .. ومن هنا تتحوَّلُ المِحنُ إلى مِنَحٍ ربانية لمن وفَّقَهم اللهُ للحقِّ وهداهم للصراطِ المستقيم. وفي أواخرِ القرنِ السابعِ للهجرة هجمَ التترُ على بلادِ المسلمين فكانت الفتنةُ ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 17/ 41، فقه الائتلاف ص 329.

وكان القتلُ، وكان الخوفُ والقلقُ .. ولكنَّ العلماءَ الصادقين المجاهدين اعتبروا هذه المحنةَ مِنحةً ربانيةً تستوجبُ الشكرَ لله عليها. وقال شيخ الإسلام ابنُ تيميّة - رحمه الله - مخاطبًا جمهورَ المسلمين: «واعلموا - أصلحكم الله - أن من أعظمِ النعمِ على من أراد اللهُ به خيرًا أن أحياه إلى هذا الوقتِ الذي يُجدِّدُ اللهُ فيه الدينَ، ويُحيي فيه شعارَ المسلمين، وأحوالَ المؤمنين والمجاهدين، حتى يكونَ شبيهًا بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصارِ، فمَن قام في هذا الوقتِ بذلك كان من التابعين لهم بإحسانٍ، الذين رضيَ اللهُ عنهم ورَضُوا عنه، وأعدَّ لهم جناتٍ تجري من تحتِها الأنهارُ ذلك الفوزُ العظيم، فينبغي للمؤمنين أن يشكروا اللهَ تعالى على هذه المحنةِ التي حقيقتُها مِنحةٌ كريمةٌ من الله، وهذه الفتنةِ التي في باطنها نعمةٌ جسيمةٌ .. » (¬1). وتحدَّث شيخُ الإسلام - رحمه الله - عن أصنافٍ من الناس في فتنةِ التتار وهجومِهم على العالم الإسلامي - حتى بلغوا الشامَ - فقال: ((فهذه الفتنةُ قد تفرَّقَ الناسُ فيها ثلاثَ فرقٍ: الطائفة المنصورة وهم المجاهدون لهؤلاءِ القومِ المُفسِدين، والطائفة المخالفة وهم هؤلاء القومُ (يعني التترَ) ومَن تحيّزَ إليهم من حُثالةِ المنتسبين إلى الإسلام، والطائفة المُخذِّلة وهم القاعدون عن جهادِهم، وإن كانوا صحيحي الإسلامِ، فلينظر الرجلُ أيكونُ من الطائفة المنصورة أم من الخاذلة أم من المخالفة، فما بقيَ قسمٌ رابع)) (¬2). يا أخا الإيمان: وإذا وقعتِ الفتنُ وأنت حيٌّ فانظُرْ موقعَك فيها، وجرِّدْ نفسَك من الهوى ومن حبِّ الدنيا، وامتحِنْ خَشْيتَك وخوفَك أتكونُ لله وحدَه أم يدخلُ في ذلك الشركاءُ؟ ¬

(¬1) الفتاوى 28/ 420، 421. (¬2) الفتاوى 28/ 416، 417.

إن من الناس من تمرُّ الفتنُ والنوازلُ بإخوانِه المسلمين ولا تحرِّكُ فيه ساكنًا، بل وكأنها لا تعنيهِ بشيء .. إنه باردُ الإحساس مُعطَّل القُوى، لا يُسخِطُه ما يُسخِطُ اللهَ، إن ذلك نوعٌ من الغفلةِ والإعراض عن الله كما قال أبو عبد الرحمن العمري: ((إنَّ من غفلتِك وإعراضِك عن الله أن ترى ما يُسخِطُه فتجاوِزُه، ولا تأمرُ ولا تنهى خوفًا ممن لا يملِكُ ضُرًّا ولا نفعًا)) (¬1). وكم هي بليةٌ في الدِّين حين يرى المسلمُ مُنكَرًا ظاهرًا ولا يتمعَّرُ وجهُه لوقوعِه، بل يكون سلبيًا في التعاملِ معه، أو يرى معروفًا ثم لا يَفرَحُ به ولا يشاركُ في وجودِه ونشرِه .. وأولئك الصنفُ من الناسِ قال عنهم ابنُ القيمِ - رحمه الله -: ((وأيُّ دينٍ وأيُّ خيرٍ فيمن يَرَى محارمَ اللهِ تُنتهَكُ وحدودَه تُضيَّع، ودينُه يُترَك، وسُنةُ رسولِه صلى الله عليه وسلم يُرغَبُ عنها، وهو باردُ القلبِ ساكتُ اللسن، شيطانٌ أخرسُ، كما أن المتكلمَ بالباطل شيطانٌ ناطق، وهل بليةُ الدينِ إلا من هؤلاءِ الذين إذا سَلِمَت لهم مآكلُهم ورياستُهم فلا مبالاةَ بما جَرَى على الدِّين، وخيارُهُم المتحزِّنُ المُتلمِّظ، ولو نُوزِعَ في بعضِ ما فيه غضاضةٌ عليه في جاهِه أو مالِه لبذلَ وتبذَّلَ وجَدّ واجتهد، واستعمل مراتبَ الإنكارِ الثلاثةَ بحسب وُسْعِه، وهؤلاء مع سقوطِهم من عينِ الله ومَقْتِه لهم قد بُلُوا في الدنيا بأعظمِ بلِيّةٍ تكون وهم لا يشعرون، وهو موتُ القلب، فإنَّ القلبَ كلما كانت حياتُه أتمَّ كان غضبُه للهِ ورسولِه أقوى، وانتصارُه للدِّين أكملَ)) (¬2). يا أخا الإسلام: ومن الإمام ابنِ القيِّم - رحمه الله - إلى الإمام محمدِ بن عبد الوهاب - رحمه الله - .. حيث يُجمِعُ هؤلاءِ على ضرورةِ الانتصارِ للدين وحمايةِ الحُرُماتِ والقيامِ بواجب الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكَر، ويقول الشيخ حمدُ بن عتيق - رحمه الله -: ¬

(¬1) صفة الصفوة 2/ 181. (¬2) أعلام الموقعين 2/ 176.

فَلو قُدِّر أن رجلًا يصومُ النهارَ ويقومُ الليلَ ويزهدُ في الدنيا كلِّها، وهو مع ذلك لا يغضبُ ولا يتمعَّرُ وجهُه ولا يحمرُّ لله، فلا يأمرُ بمعروفٍ ولا ينهى عن منكرٍ، فهذا الرجلُ من أبغضِ الناسِ عند اللهِ وأقلِّهم دِينًا .. إلى قوله: وقد حدَّثني من لا أتَّهِمُ عن الشيخ محمدِ بنِ عبدِ الوهاب - رحمه الله تعالى - أنه قال مرةً: أرى أُناسًا يجلسون في المسجدِ على مصاحفِهم يقرؤون ويَبكُون، فإذا رأوا المعروفَ لم يأمُروا به، وإذا رأوا المنكرَ لم يَنهَوْا عنه، وأرى أناسًا يَعكُفون عندهم يقولون: هؤلاء لِحى غوانمُ، وأنا أقول: إنهم لِحى فواين، فقال السامع: أنا لا أقدرُ أقول: إنهم لِحى فواينُ، فقال الشيخ: إنهم من العُمْي البكْم (¬1). معاشرَ المسلمين: إنها خيريّةُ هذه الأُمةِ في قائمةِ شروطِها الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكَر .. والغضبُ لله والانتصارُ لدينهِ .. تُرى أتكفي العُزلةُ والتعبُّدُ بعيدًا عن المجاهدةِ والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر؟ إليكم هديَ واحدٍ من صحابةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومٍ اعتزلوا يتعبَّدون، فقد أخرج البغويُّ في (شرح السُّنة 10/ 54، 55) عن الشَّعْبي قال: ((خرج ناسٌ من أهلِ الكوفة إلى الجَبَّانةِ (¬2) يتعبَّدون، واتَّخَذُوا مسجدًا وبنَوْا بنيانًا، فأتاهم عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ فقالوا: مرحبًا بكَ يا أبا عبد الرحمن، لقد سرَّنا أن تزورَنا، قال: ما أتيتُكم زائرًا، ولستُ بالذي أَتركُ حتى يُهدَمَ مسجدُ الجَبَّان، إنكم لأهدى من أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! أرأيتُم لو أن الناسَ صنعوا كما صنعتُم، مَن كان يُجاهدُ العدوَّ، ومَن كان يأمرُ بالمعروف وينهى عن المنكرِ، ومن كان يُقيم الحدودَ؟ ارجِعُوا فتعلَّموا ممَّن هو ¬

(¬1) الدرر السنية 8/ 78. (¬2) الجبّانة: الصحراء.

أعلمُ منكم، وعلِّموا من أنتم أعلمُ منهم، قال: واسترجَعَ، فما بَرِحَ حتى قَلَعَ أبنيتَهم وردَّهم)). أعوذ بالله من الشيطانِ الرجيمِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 35.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: إخوةَ الإسلام: وحين نُورِدُ هذه النصوصَ وتلك الرُّؤَى لعلماءَ ربانيين .. لَنؤكِّدُ من خلالِها على قيمةِ الأمر بالمعروفِ والنهيِ عن المنكر والدعوةِ لدين الله .. وإذا كان ذلك مطلَبًا في كلِّ الأحوال والظروف فالأمرُ يتأكَّدُ في أزمانِ الفتن، وعلى حينِ غفلةِ الناس وانشغالِهم عن الأمرِ والنهي والدعوةِ وبذْلِ الخير. ونؤكِّد ذلك كذلك لأن أزمانَ الشدائدِ والنوازِل فرصةٌ لأصحاب الرِّيبِ وأهلِ الأهواء، وأصحابِ الشهوات .. لينطلقوا بباطلِهم وخُبْثِهم مُستغلِّين غفلةَ الناسِ عنهم بأحداثٍ نازلةٍ بهم، ومن هنا فلا بدَّ من التنبهِ والعمل والدعوةِ والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاصرةِ المُبْطِلين .. وكلُّ مسلمٍ على قَدْرِ طاقتهِ وجهدِه، ويكفيه أن يستشعرَ أنه على ثغرةٍ من ثغراتِ الإسلام، فاللهَ اللهَ أن يُؤتَى الإسلامُ من قِبَلِه، وليحذرْ أن يتسللَ الأعداءُ من ثغرِه. عبادَ الله: ومَن قرأَ التاريخَ بعنايةٍ وتمعَّن بالذاتِ في السيرةِ النبوية وجدَ أن المنافقين وأهلَ الريب يتربَّصون بالمسلمين الدوائرَ في كلِّ حين، ولكنهم يَنشَطُون أكثرَ في الأوقاتِ العصيبةِ على المسلمين، يُرجِفون ويتَّهمون، ويَسخَرُون ويتشَفَّوْن .. ومواقفُهم في غزوة (أُحدٍ) و (الأحزاب) و (المُريسِيع) و (تبوكَ) خيرُ شاهدٍ على ما نقول. أجل، لقد فَضَحَهم القرآنُ في (أُحد) بقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 167.

وكشَفَهم في (الأحزاب) بقوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (¬1)، وبقوله تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (¬2). وفي غزوة المُريسِيع و (بني المُصطَلِق) أخبر اللهُ عن لُؤْمِ المنافقين وسوءِ تعاملِهم مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬3). أما في غزوةِ تبوكَ فجاءتْ سورةُ براءةَ (التوبة) فاضحةً للمنافقين؛ ومما قال اللهُ عنهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬4). إنَّ القرآنَ الكريمَ يُذكِّرُنا بمواقفِ المنافقين في الماضي لنَحذرَهُم في الحاضرِ والمستقبل، ومن الخطأ أنْ ينصرفَ الناسُ كلُّهم لحدثٍ طارئٍ ويتركوا الساحةَ للمُبْطِلين وأهلِ الريبِ يتقوَّلُون بألسنتهم ويسخرون بكتاباتِهم، ويُشِيعون المنكرَ ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 12. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 19. (¬3) سورة المنافقون، الآيتان: 7، 8. (¬4) سورة التوبة، الآية: 49 - 51.

بسلوكياتهم، ويُرتِّبون لباطِلهم في حين غفلةِ الناسِ عنهم .. إن الأمرَ من الأهميةِ والخطورةِ بحيثُ يستدعي اهتمامَنا جميعًا بهؤلاء المتسلِّلين، وذلك على مستوى الفردِ والدولةِ حتى لا نفاجَأ بعدَ حين بعملٍ مُشين لأصحاب السوءِ أُحكِمَتْ خيوطُه على حينِ غفلةٍ؟ أيها المسلمون: ومع التحوُّط والحذرِ في كلِّ ما يهدِمُ المعتقدَ أو يُخِلُّ بالأمن - وتلك مسؤوليتُنا جميعًا - فَثمَّةَ مبشِّراتٌ في أزمانِ الشدائد تؤكِّدُ قولَه تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬1). فكم من شابٍّ غافلٍ سادرٍ في لهوِه لكنه استيقظَ على مطارقِ الأعداءِ يتَّهمون الإسلامَ ويُهدِّدون المسلمين، فتحرَّكتْ عاطفتُه وأقبلَ إلى ربِّه تائبًا مُنِيبًا واضعًا لنفسِه رقمًا صحيحًا في أعدادِ المسلمين. وكم من فتاةٍ كانت تركُضُ وراءَ الموضةِ وتغرَقُ في تقليدِ المرأة الأجنبيةِ الكافرة فجاءتِ الأزمةُ موقِظةً لضميرِها، محرِّكةً لأصالتِها، باحثةً عن هويتِها المسلمةِ، مدرِكةً لخطإِ مسيرتِها ومعاهدةً ربَّها على بُغضِ الكافراتِ وحبِّ المؤمنات، فعاد الحياءُ خُلُقَها، والحجابُ عزَّتَها وفخرَها. وكم من غنيٍّ أوجعتْهُ صيحاتُ الجَوْعى من المسلمين تملأُ الآفاقَ، وآلمَهُ الموتُ الجماعيُّ للأطفالِ والشيوخ والنساءِ مرضًا أو جوعًا أو قتلًا فأنفق من مالِه لهؤلاءِ وأولئك بسخاءٍ. أيها المسلمون: وحين تَنشَطُ الكنيسةُ الغربيةُ في هذه الأزمةِ، ويسافر البابا - رغمَ المخاطر - بحثًا عن نصيبِه في الغنيمة .. يأبى اللهُ إلا أن يُتِمَّ نورَه ويُظهِرَ دينَه الحقَّ - ولو في حين ضعفِ المسلمين - فتنفَدُ المصاحفُ في عددٍ من ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 216.

الدُّولِ الغربية، ويُقبِلُ الغربيون بشكلٍ عجيب على الكتبِ الإسلامية والتعرُّفِ من خلالِها على الإسلام .. وفي إحدى الصحفِ المحليةِ جاء العنوانُ التالي: رُبَّ ضارَّةٍ نافعة [نفادُ المطبوعاتِ التعريفيةِ بالإسلام في أمريكا] وتحت الخبرِ وردَ: إنَّ جميعَ المطبوعاتِ والنَّشَراتِ التعريفيةِ الخاصةِ بالمفاهيم الأساسية للدِّينِ الإسلاميِّ قد نَفِدَت كلُّها، وقد بعثَ المُشرِفُ على مكتبِ النَّدوةِ العالميةِ للشبابِ الإسلاميِّ في الولايات المتحدةِ مُفيدًا أن الحاجةَ ماسَّةٌ لإعادة طباعةِ أكثرَ من ستِّمائة ألفِ نشرةٍ تعريفيّةٍ عن الإسلام في الوقتِ الراهن، وتطلبُ الندوةُ المشاركةُ في دعمِ هذا المشروعِ الدَّعويِّ (¬1). ولعلَّ ذلك يقودُ أعدادًا كثيرةً للإسلام: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2). ¬

(¬1) الرياض، الجمعة 10/ 8/ 1422 هـ. (¬2) سورة يوسف، الآية: 21.

المسلمون بين فكي الكماشة

المسلمون بين فكَّيِ الكمّاشة (¬1) الخطبةُ الأولى: الحمدُ لله ربِّ العالمين شرَّفنَا بالإسلامِ وهَدَانا بالقرآن، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له جعلَنا خيرَ الأمم، وجعلَ كتابَنا مصدِّقًا للكتبِ السماوية السابقةِ ومُهَيمِنًا عليها، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه خاتَمُ المرسلين وأفضلُهم، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسَلين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (¬3). إخوةَ الإسلام: المتأمِّلُ في كتابِ الله يجِدُ فيه شعورًا كاذبًا عند اليهودِ والنصارى بالتميُّزِ على غيرِهم، وفضلًا مزيَّفًا لا يتَّسعُ لغيرِهم من الشعوب والأمم، وقد كذَّب اللهُ هذه الدعاوَى كما في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 24/ 8/ 1422 هـ. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬3) سورة لقمان، الآية: 33. (¬4) سورة المائدة، الآية: 18.

وإذا وَقَعَ هذا الشعورُ الخاطئُ في زمنِ النبوة، وتطاوَلَ اليهودُ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم حينما كلَّمَ نفرًا من اليهود ودعاهم إلى اللهِ عز وجل وحذَّرهم نقمتَه، فقالوا: ما تُخوِّفنا يا محمدُ؟ نحنُ أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤُه! فكذلك النصارى نَكَصُوا عن الحقّ واستكبروا عن إتِّباعِ المرسلين وإن أيقنوا بصِدْقِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومعرفتِهم بمبعثِه، بل قال هِرقلُ - عظيمُ الروم -: وقد كنتُ أعلمُ أنه - يعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم - خارجٌ، لم أكن أظنُّ أنه منكم، فلو أني أعلمُ أني أَخلُصُ إليه لتجشَّمتُ لقاءَه، ولو كنتُ عنده لغَسَلْتُ عن قدمِه .. بل قال هرقلُ - وقد جمع الرومَ في دَسْكَرَةٍ له بحمصَ -: يا معشرَ الروم: هل لكم في الفلاحِ والرُّشدِ وأن يَثبُتَ مُلْكُكُم؟ فتبايعوا هذا النبيَّ (¬1). ومع ذلك استكبرَ الخبيثُ وضنَّ بمُلكِه، وقاتلَ المسلمين في معركةِ مُؤْتة (¬2). أيها المسلمون: إذا وقعَ هذا الشعورُ الخاطئُ والاستكبارُ عن الحقِّ من اليهود والنصارى في زمنِ البعثةِ؛ والرسولُ صلى الله عليه وسلم هو الداعي، والمسلمون حينها أعزّةٌ - فمِن بابِ أَوْلى أن تتكررَ هذه المشاعرُ في زمنِ ضعفِ المسلمين وبُعدِهم عن زمنِ النبوة، وتكاثُرِ اليهود والنصارى وغلبتِهم. بل نجدُ في تقاريرِ اليهود اليومَ أكبرَ من هذا، ويقولون في أحدِ هذه التقارير: ((حينما نمكِّنُ لأنفسِنا فنكون سادةَ الأرض لن نُبيحَ قيامَ أيِّ دينٍ غيرِ دينِنا .. )) (¬3). وجاء في تلمودِهم: ((إن الإسرائيليَّ معتبَرٌ عندَ الله أكثرَ من الملائكة، فإذا ضرب أُمِّيٌّ إسرائيليًا فكأنه ضربَ العزّةَ الإلهية، وإن اليهوديَّ جزءٌ من الله، كما ¬

(¬1) صحيح البخاري، بدء الوحي، الفتح 1/ 32، 33. (¬2) الفتح 1/ 37. (¬3) العنصرية اليهودية؛ الزغيبي 1/ 130.

أن الابنَ جزءٌ من أبيه)) (¬1). تعالى اللهُ عما يقولُ الظالمون علوًا كبيرًا)). وهذا كلُّه لا يعني إغفالَ دعوتِهم لكنه بيانٌ لحقيقةٍ كامنةٍ عندهم، وتوجيهٌ لأسلوبِ التعامل معهم. أيها المؤمنون: إن القرآن مَورِدٌ لا يَنضَب، وقد كشفَ اللهُ للمؤمنين بالوحي خصائصَ وطبائعَ الأجدادِ ليُعلِّمَ المسلمين كيف يتعاملون مع الأحفادِ من اليهود، وهنا يمكنُ القولُ بأنَّ القرآنَ خاطبَ يهودَ البعثةِ بجرائمِ آبائِهم وأجدادِهم، وعَرَضَ لممارساتِهم مع النبوةِ، ونكولِهم عن العهدِ، وتحريفِهم للكَلِم، وكَنزِهم للذهبِ والفضة، وإشاعتِهم للربا، والإيمانِ ببعضِ الكتاب والكفرِ ببعضِه، وادِّعائِهم بأنهم أبناءُ اللهِ وأحبّاؤُه - إلى آخر صفاتِهم - مع أنَّ المسؤوليةَ في الإسلامِ فرديةٌ، فلا يُحمَّلُ الأبناءُ تَبِعَةَ وأوزارَ الآباء {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬2) ولكنَّ الحكمَ - والله أعلم - في إيراد هذه النماذجِ والانحرافاتِ السابقةِ لليهود .. للتأكيدِ على أنَّ هذه الصفاتِ والخصائصَ متأصِّلةٌ ومتوارثةٌ من الآباءِ إلى الأبناء، إلى درجةٍ أصبحتْ وكأنها جِبلَّةٌ لا ينفكُّ عنها يهودُ، وستَصدقُ على الأحفادِ كما مارسها الأجدادُ، بل سوف تستمرُّ وتبقى هذه الخصائصُ منحدرةً في نسلِ اليهود، خالدةً مع الزمن، متجدِّدةً عبرَ الأحداثِ والصراعات .. ما بقي اليهودُ. ونحن اليومَ نشهدُ على استمرارِ هذه الخصائصِ عند يهودَ (¬3). عبادَ الله: وإذا كان أهلُ القرآنِ لا يشكُّون في عداوةِ اليهودِ والنصارى ¬

(¬1) السابق 1/ 138. (¬2) سورة فاطر، الآية: 18. (¬3) اليهود والتحالف مع الأقوياء/ نعمان السامرائي ص 17.

للمسلمين، والله يقولُ في مُحكَم التنزيل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (¬1). فينبغي أن لا نشكَّ في تقارُبِ الديانتينِ والجنسينِ - رَغْمَ ما بينَهم من خلافٍ - وتعاونِهما في ضربِ المسلمين. وتقولُ الدراساتُ والبحوثُ: إن اليهود ساهموا في صياغةِ عقائدِ النصارى عبرَ القرون، وإنَّ عددًا من قادةِ النصارى يَرجِعون إلى أصولٍ يهودية، أو أصدقاءُ لليهود، من أمثالِ (كالفين) و (مارتن لوثر) وهما من زعماءِ حركاتِ الإصلاحِ الدِّيني في أوروبا - كما يزعمون - (¬2). بل يقال: إذا كان ستون بالمائةِ من الأمريكيين 60% هم بروتستانت فإن خمسةَ عشرَ بالمائة - تقريبًا - من قُسُسِ البروتستانت الذين يُمارِسون الوعظَ يومَ الأحدِ في الكنائسِ النصرانية من اليهود! وأن البروتستانت يستعملون في صلواتِهم التوراةَ (العهد القديم) وأنهم - يعني النصارى - يؤمِنون بفكرةِ أرضِ الميعاد، وإعادةِ بناءِ الهيكل والوعدِ الإلهي لإسرائيل (¬3). أيها المسلمون: ونحنُ على أرض الواقع اليومَ نشهدُ التحالفَ والتآزُرَ بينَ اليهودِ والنصارى .. بل نشهدُ ما هو أسوأُ من ذلك في حصارِ المسلمين من قِبَلِ اليهودِ والنصارى .. ففي الأراضي المقدَّسةِ وعلى مَرْأى العالمِ كلِّه يُمارس اليهودُ الصَّلف والانتقامَ بأبشع صُوَرِهِ، مستغلِّين الأوضاعَ العالمية الراهنةَ، وتَدخُل الجرافاتُ المدنَ الفلسطينية لتهدمَ البيوتَ على مَن فيها مِن النساءِ ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 120. (¬2) اليهود والتحالف مع الأقوياء، د. السامرائي/ المقدمة ص 19، 20. (¬3) اليهود والتخالف مع الأقوياء/ 19، 20.

والصِّبْية .. وتُصوِّبُ الأعيرةُ الناريةُ إلى صدورِ الرجالِ والشباب .. وفي كل يومٍ مذبحةٌ، وهناك يشاعُ الرعبُ عبرَ الطائراتِ والقنابلِ والمدفعيات، ولا تسألْ عن الإفسادِ في المقدَّسات وممارسةِ الحفرياتِ لبناء الهيكلِ المزعومِ. وعلى أرضِ أفغانستانَ يتنادى النصارى من كلِّ صَوْبٍ إلى هذا البلدِ الفقيرِ والشعبِ المسكين .. وعلى مدى ما يزيدُ على شهرٍ والطائراتُ تقصفُ تُشِيعُ الرعبَ وتقتلُ الآمنين، وتتقصَّدُ البُنَى لتجعلَها أنقاضًا حتى لا يُستفادَ منها مستقبلًا .. بل تجاوزتْ إلى المساجدِ المعمورة بالمصلِّين فهدَّمتْها وربما قتلتْ مَن فيها من المصلِّين - وإلى المساكنِ الآمنةِ حيث لم تَسلَم من قصفِ المجرمين .. وفي كل مرةٍ يقعُ مثلُ هذه الاعتداءاتِ الصارخة يُعتذَرُ بالخطأ، وعدمِ تحديد الهدفِ بدقَّةٍ أو تُضرَبُ الفنادقُ بحجةِ أن فيها مُحتمِين .. وهدفُ التدمير واضحٌ والظلمُ وإفسادُ الحرثِ والنسلِ قديمٌ يتجدَّد؟ تُرى أيهنَأُ للمسلمين عيشٌ وإخوانُهم المسلمون يتساقطون ضحايا بينَ فكَّيْ كمّاشةِ اليهودِ والنصارى؟ ! أيُّ قلبٍ يعتصرُه الأسى؟ وأيُّ عينٍ تبخلُ بالبكاء، وأيُّ يدٍ تَتردَّدُ في البذلِ والعطاء؟ أيُّ مشاعرَ لا تتحرَّكُ وسطَ بِرَكِ الدماء، وعلى أشْلاءِ القتلى والجرحى؟ ! والعالَمُ كلُّه يشهدُ أنّ البيِّنةَ غائبةٌ والتهمةَ كافيةٌ! يا أبناءَ فلسطينَ وشعبَ الأفغان في سبيلِ أن تحيا المشاعرُ الإسلاميةُ لأمةِ المِلْيار! ! ولتستمرَّ قنابلُ الغربِ التي بلغ وزنُ الواحدةِ منها مؤخَّرًا رقمًا خياليًا وهذه القنبلةُ (82) تستخدمُ اليومَ في حربِ أفغانستان، وقد اعترضتْ جماعةُ حقوقِ الإنسان على استخدامها، فالاتفاقياتُ الدوليةُ تَحظُر استخدامَها في المناطقِ

المأهولةِ بالسكان (¬1)، ومن المضحِكِ المُبْكي أن إحدى شعاراتِ هذه الحربِ في أفغانستان (العدالةُ)! ولكن مَن يضعُ هذه القوانينَ ومن يحميها؟ ومَن له حقُّ الاعتراضِ أو المناقشةِ فيها. تتفجر في أرضِ الأفغان ليتفجَّر معها كُرْهُ الشعوبِ المسلمة لرائدةِ السلامِ المزعوم، وينكشفَ القناعُ والخداع عن المصطلحاتِ الكاذبة من الحريةِ والعدل وحقوقِ الإنسان، ويعودَ المسلمون إلى هَدْيِ القرآن في معرفةِ الأصدقاء من الأعداء. إن من الخطأ أن يعتقد مسلمٌ أو غيرُ مسلمٍ أن جذورَ الإسلام تُجتَثُّ بهذه الممارساتِ البَشِعة .. بل إن هذا العدوانَ من اليهودِ والنصارى على المسلمين يُمثِّلُ أرضيةً تُنبِتُ العزةَ والكرامةَ للمسلمين، تُوقِظُ النائمين وتنبِّه الغافلين وتردُّ الشاردين، وتُحسِّس المسلمين أجمعَ بقيمةِ إسلامهم الذي أضحى خطرًا يهدِّد الآخرين، ويتحالفون من أجلِه لضربِ المسلمين، وصدقَ الله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬2). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (¬3). ¬

(¬1) جريدة الوطن 24/ 8. (¬2) سورة الصف، الآية: 8. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 36.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية: الحمدُ لله ربِّ العالمين يجعلُ بعدَ العُسرِ يسرًا، وبعدَ الكَرْبِ والشِّدةِ فَرَجًا ونصرًا، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} (¬1)، وحكمَ بأن جندَه هم الغالبون، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه جاهدَ في الله حقَّ جهادِه حتى أتاه اليقينُ .. بعد أن رسمَ الطريقَ للسالكين .. اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ النبيين والمرسَلين. إخوةَ الإسلام: وفي هذه الأيامِ يترقَّبُ المسلمون شهرَ الصيامِ وهم بينَ الألمِ والأمل .. لكنهم بكلِّ حالٍ فَرِحون إذ يحلُّ شهرُ رمضانَ ضيفًا عزيزًا، ومَرْتعًا خِصْبًا لعملِ الصالحات. إنَّ شهرَ رمضانَ شهرُ القرآن ففيه أُنزِلَ .. وفيه كان جبريلُ عليه السلامُ يُدارِسُ محمدًا عليه الصلاةُ والسلامُ القرآنَ. ورمضانُ فرصةٌ لمدارسةِ القرآنِ ومعرفةِ أحكامِه والاهتداءِ بهَدْيِه .. وكم في القرآنِ من هدايةٍ ودليلٍ طالما غابتْ عن المسلمين! وكم في القرآنِ من أحكامٍ ومفاهيمَ طالما هُجِرَت من نفرٍ من المسلمين! إنَّ في القرآنِ هدًى وشفاءً، فهل نهتدي ونتداوَى بالقرآن؟ ألا ويحَ من اتخذَ هذا القرآنَ مهجورًا؛ وهجرُ القرآنِ سواء كان بهجرِ تلاوِته أم بهجرِ العمل به. ويَفرَحُ المسلمون بشهرِ الصيام، لأن الصائمين يتزوَّدونَ بالصبرِ والتقوى، وهذانِ من أعظمِ الأسلحةِ الواقيةِ من الأعداء {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬2). ¬

(¬1) سورة المجادلة، الآية: 21. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 120.

ويفرحُ المسلمون بشهرِ رمضان حيثُ للدعاءِ فيه سهمٌ ومكانةٌ لا تخفى، كيف لا وآيةُ الدعاءِ في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (¬1). جاءتْ على إثرِ آياتِ الصيام وشهرِ رمضانَ. وإذا كان بعضُ المسلمينَ يجهلُ قيمةَ الدعاء، أو لا يقدِّرُ الدعاءَ حقَّ قدرِه .. فَثمَّة طوائفُ من أعداءِ هذا الدِّينِ - قديمًا وحديثًا - يُخِيفُهم الدعاءُ، ويتحاشَوْنَ دعاءَ المسلمين .. فهل يستثمرُ المسلمون شهرَ الصيام للدعاءِ لهم ولإخوانِهم المسلمين وعلى أعدائِهم من اليهودِ والنصارى والمشركين والمنافقين؟ هل يُلِحُّ الصائمُ على ربِّه في إصلاح قلبِه وفي حفظِ دينِه وأمانتِه في وقتٍ باتَتِ الفتنُ تَتْرَى على المسلمين، وبات التحدي العَقَدي يمثِّلُ منعطفًا واضحًا في حياة الأمم والشعوب، نعم إنَّ أحداثَ اليوم تقولُ للمسلم بلسانِ حالها ومقالِها: إن اليهوديَّ يتحمَّسُ لديانتِه، ويناضلُ من أجلِها، بل ويقتلُ ظلمًا وعدوانًا من يخالفُه عليها، وإن النصرانيَّ والبُوذيَّ وأضرابَهم كذلك، فأين يكون موقعُ المسلمِ صاحبُ الدِّينِ الحقِّ، وصاحبُ القِسْطاسِ المستقيم؟ أيظلُّ المسلمون في لَهْوِهم وغفلتِهم سادرون، والأعداءُ يَنهَشُون في أطرافِهم، وكلما أجهزوا على فئةٍ اتجهوا للأخرى .. وهكذا؟ إنَّ أخشى ما يخشاه أعداؤنا أن تحيا فينا مشاعرُ الإسلام الصادقةِ والمنضبطةِ والمُلْجَمة بلجامِ الشرع .. والمنبثقةِ من هَدْي القرآن وتعاليمِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. ولذا تردَّدَ الحديثُ عن إيقافِ الحَمَلاتِ العسكريةِ في شهر رمضان أَترونَ ذلك احترامًا لمشاعرِ المسلمين وتقديرًا لقُدْسيةِ شهرِ رمضان؟ فأين تقديرُ الحُرْمةِ للدماءِ المسلمة، وأين المشاعرُ النبيلةُ وأطفالُ المسلمين يموتون جوعًا أو قَصْفًا ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 186.

بحصارِهم وسلاحِهم .. إنها تحوُّطٌ وتخوُّفٌ لأنْ ينفجرَ البركانُ ويتحرَّكَ الإعصارُ .. لا سيما ومخزونُ الأمةِ المسلمة من الأسى والحسرة والكُرْه للمجرمين قد بلغ الزُّبَى .. واستفزازاتُ اليهودِ والنصارى للمسلمين في كلِّ مكان لا مَزِيدَ عليها. إن المسلمين حين يَرصُّون صفوفَهم ويوحِّدون كلمتَهم وينصرونَ إخوانَهم ينكشفُ عَوَرُ أعدائهم أكثرَ .. لا سيما وقد بدأ العَوَرُ يُكشَف وبدأتِ الصفحُ الغربية - غيرُ المسلمة - تُبرِزُ في عناوينها ما يكشفُ عن فشلِ الحملةِ العسكرية .. وخطأ القادةِ في خوض المعركة وبدؤوا يلومون غيرَهم ممن زوَّدهم بمعلوماتٍ مغلوطةٍ عن الأفغان كما يقولون. إن الغربَ يخسرُ بهذه المعركة غيرِ المتكافئة؛ يخسرُ سياسيًا واقتصاديًا - ويقال: إن تَكلِفةَ الحربِ يوميًا خمسُمائة مليونِ دولار، والله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (¬1)، ويخسرون اجتماعيًا وإعلاميًا، ونقرأُ في الأخبارِ أن الرأيَ العامَّ الغربيَّ بدأ يتململُ من الحرب ويصفُها بأنها لم تَعُدْ حربًا على الإرهابِ قدَرَ ما هي حربٌ على الأفغان، ويصفون هذه المغالطةَ بالظلم المُجحِف (¬2). وبدأَ الإعلامُ الغربيُّ يتخبَّطُ في التُّهمِ، فمرةً يشنُّ حربًا على كلِّ جمعيةٍ خيريَّةٍ - حتى ولو كانت إغاثيةً - ومرةً يشنِّعُ على الدولِ الإسلاميةِ، ثم يعودُ القادةُ يعتذرون .. وهكذا يَسُود التخبُّطُ والتناقضُ. ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 36. (¬2) جريدة الوطن، الجمعة 24/ 8/ 1422 هـ.

وتلك الخسائرُ كلُّها مؤشِّراتٌ للهزيمةِ، وفاضحاتٌ للرمزِ الوهميِّ، والعملاقِ المصطنع! {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬1)، {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (¬2). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 19. (¬2) سورة الحج، الآية: 18.

مشاريع رمضانية

مشاريع رمضانية (¬1) الخطبةُ الأولى: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ تفضّلَ على عبادِه بمواسمِ الطاعةِ ليتميزَ أُولو العزمِ والهمةِ .. ولينكشفَ على الحقيقة أصحابُ التراخي والمهانة، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لهُ، أثنى على نفسِه خيرًا، وثنَّى بالتحيةِ على عبادِه الذين اصطفى، {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} (¬2)، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه خيرُ البريةِ وأزكاها، صلى اللهُ عليه وعلى إخوانِه وآله، ورضيَ اللهُ عن الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ ومَن تَبعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدين. معاشرَ المسلمينَ: بُشراكم جميعًا بشهرِ الصيامِ، أهلَّهُ اللهُ علينا بالأمنِ والإيمانِ والسلامةِ والإسلامِ، وجعله اللهُ علينا وعلى المسلمينَ شهرَ بركةٍ وخيرٍ ومغفرةٍ للذنوبِ ورفعةٍ للدرجاتِ. عبادَ الله: يحقُّ لنا أن نفرحَ بهذا الضيفِ العزيزِ بعدَ طولِ عناءٍ، وبعدَ رحلةٍ شاقةٍ في دروبِ الحياةِ الدنيا، تُملأُ بالصدودِ والإعراضِ، والإسرافِ في الذنوبِ، والظلمِ للنفسِ أو للآخرينَ، يشهدُ الكونُ فيها على الجِراحِ النازفة، والبلايا والخطوبِ النازلة، والفتنِ والملاحمِ المتتابعةِ، والضعفِ والفُرقةِ والتخاذُلِ بين المسلمينَ - إلا من رحمَ ربُّكَ وقليلٌ ما همْ - كيفَ لا نفرحُ فيكَ يا شهرَ الصيامِ ونفرٌ من المسلمينَ لا يُحِسُّون بآلامِ الجوعِ إلا حينَ يصومونَ! ! ومِنْ إخوانهمْ مَنْ يتضوَّرونَ جوعًا وهمْ مفطرونَ! ! ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 1/ 9/ 1422 هـ. (¬2) سورة النمل، الآية: 59.

وكيف لا نفرحُ فيك يا شهرَ رمضانَ ونفرٌ من المسلمين تكادُ صِلتُهم بالقرآنِ مقطوعةً إلا في شهرِ رمضان! ! أجل لقد جَفّت مَآقِينا عن البكاء، فهل نجدُ فيك يا شهرَ الصيامِ باعثًا للبكاءِ من خَشْية الله؟ وطال سُباتُ نومِنا! فهل يكون شهرُ الصيام مُوقِظًا لقلوبِنا بالقيام، واختلط اللغوُ وكادت أصواتُ الخَنَا والغِناء أن تُصِمَّ الآذان، فهل تكونُ يا شهرَ الصيام سببًا لسلامةِ أسماعِنا؟ وتفنَّنَ الأعداءُ وأصحابُ الأهواء في إخراج الصُّورِ الفاضحةِ ليصدُّوا الناسَ ويَفتِنوهم - فهل يكون شهرُ رمضان سببًا في حفظِ أبصارِنا {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (¬1). معاشرَ الصائمين: إننا قبلَ الصيام وبعدَ الصيام مدعوُّون لأمرٍ عظيم هو غايةُ الصيام وحِكمتُه - وهو وصيةُ الله وكلمتُه - وسوقُه تَرُوج في الصيام أكثرَ من غيرِه، كيف لا وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬2). إن التقوى وصيةُ الله للأوَّلين والآخِرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (¬3). وهي وصيتُه سبحانه لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} (¬4). ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 36. (¬2) سورة البقرة، الآية: 183. (¬3) سورة النساء، الآية: 131. (¬4) سورة الأحزاب، الآية: 1.

تَقْوى الله وصيتُه سبحانه للمؤمنينَ خاصةً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (¬1). وهي وصيتُه للناس كافةً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (¬2). وبالتقوى أَوصى محمدٌ صلى الله عليه وسلم على الدوامِ حيثما كان الزمانُ والمكانُ: ((اتقِ اللهَ حيثُما كنتَ)). إنَّ تقوى اللهِ نورٌ في القلوب تظهرُ آثارُه على الجوارح .. إنها سببٌ للفلاح والنجاح {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3)، ومنبعٌ للصلاح والإصلاح {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} (¬4)، التقوى عِمادٌ للمؤمن في الدنيا وأَنيسُه في القبر، ودليلُه إلى جناتٍ ونَهَر. تقوى الله حِصنٌ حَصِين في الأزَمات، وذخيرةٌ عند الشدائدِ والمُلِمّات، وتثبِّتُ الأقدامَ في المزالق، وتربطُ القلوبَ في الفتن .. إنها أعظمُ كنزٍ يملكُه ويحملُه الإنسانُ في الدنيا، وأعظمُ زادٍ يَرِدُ به على اللهِ يومَ المَعادِ {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (¬5). أفلا تستحقُّ بضاعةٌ تلك بعضُ صفاتِها وآثارِها أن يُسعَى لها؟ فهذا أوانُها وذلك الشهرُ خيرُ مُعينٍ على تحقيقِها، كم يدخلُ علينا من رمضان ولم نمتحِنْ أنفسَنا على اكتسابِ التقوى، فهل يكونُ العامَ - بآلامِهِ وآمالِه - فرصةً أكبرَ للتفطُّنِ ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬2) سورة النساء، الآية: 1. (¬3) سورة المائدة، الآية: 100. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 29. (¬5) سورة البقرة، الآية: 197.

لها ومَلءِ القلوبِ بها، وتسييرِ الجوارحِ على مقتضاها - إنه كسبٌ عظيمٌ وتجارةٌ رابحة - نسألُ الله أن يُعِينَنا على تحقيقِ التقوى؛ ومساكينُ مَنْ دخل عليهم رمضانُ وخرج ورصيدُ التقوى جامدٌ لا يتحرَّك، أو يتحرَّكُ ببطءٍ لا يكاد يُرى، إنني أدعو نفسي وإياكم إلى تحقيقِ التقوى، وأفتحُ لنفسي ولكم مشاريعَ تُسهِمُ في تحقيق التقوى، ومَن عمل صالحًا فلنفسِه ومَن أساءَ فعليها. أيها المسلمون: وأولُ هذه المشاريعِ الجالبةِ للتقوى التوبةُ النَّصُوحُ، فالتوبةُ هي بدايةُ الطريقِ ونهايتُه، وهي وظيفةُ العمر، وبدايةُ العبدِ ونهايتُه، ودليلُه إلى الخيرِ وسائقُه. وهي المنزلةُ التي يفتقرُ إليها السائرون إلى اللهِ في جميعِ مراحلِ سفرِهم، وحيث حلُّوا أو ارتحلوا. إنَّ التوبةَ ليست من منازلِ العُصاةِ والمُخلِّطين فحسبُ كما يظنُّ كثيرٌ من الناس - وإن كان هؤلاء العصاةُ أَحْوجَ من غيرِهم إليها - بل هي عامَّةٌ للطائعين والعابدين، وهذا سيدُ الطائعين وإمامُ العابدين محمدٌ صلى الله عليه وسلم يخاطبُ الناسَ كافةً ويقول: ((يا أيُّها الناسُ تُوبُوا إلى اللهِ، فإني أتوبُ إلى الله في اليوم مائةَ مرةٍ)) رواه مسلم. وأهلُ الإيمان يُدعَوْنَ للتوبةِ ويقول سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1). إنه نداءُ الرحمن، أفلا تستجيبُ للديَّان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} (¬2). ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 31. (¬2) سورة التحريم، الآية: 8.

نعم يا عبادَ الله، كلُّنا محتاجٌ إلى التوبةِ النَّصُوح - فكلُّنا مخطِئون، وكلُّنا مُقصِّرون، وما أعظمَ ربَّنا وأرحمَه، وهو يَدعُونا إلى التوبةِ ليغفرَ لنا ذنوبَنا ويكفِّرَ سيئاتِنا وبها يدخلُنا ويُعِيذُنا من النار! إنها - أعني التوبةَ - تبدأُ بالهمةِ الصادقةِ وتستمرُّ بالعزيمةِ القوية، لتتحوَّلَ الشهواتُ المحرَّمة إلى طاعاتٍ وقُرُبات نأنَسُ بها في الدنيا، ونجدُ أجرَها يوم نرِدُ على الله. يا مَنْ غَلَبتْهم شهواتُهم وأهواؤُهم في رجبَ وشعبانَ - أفلا تَغلبِونها في رمضانَ ومِن بعدِ رمضان؟ ويا من سوَّفتَ في التوبة وأرجأتَ الإقلاعَ عن المعصية .. ها هو شهرُ رمضان حلَّ وما تدري أتدركُه عامًا آخرَ أم لا، بل ولستَ تدري أتُتِمُّ شهرَ الصيام حَيًّا .. أم تكونُ في عِدادِ الموتى وشهرُ الصيام لا يزال حيًّا؟ إنني أَدْعو نفسي وإياكَ للتوبةِ دائمًا .. وفي شهرِ الصيام فابدأْ وتوكَّلْ على الله، واعلمْ بأنك تَرِدُ على كريمٍ غفَّار يَبسُط يدَه بالليل ليتوبَ مسيءُ النهار، ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل - فلا تستكثرْ معاصِيَك عن التوبة .. وفتِّش وأنت أدري بنفسِك وبمعاصيك واعقِدِ العزمَ على التوبة، واحمَدْ ربَّك على أن بلَّغَك شهرَ رمضان، وستجدُ له طعمًا آخرَ حين تبدؤُه بالتوبةِ وتختمُه بالشكرِ والحمدِ لله، فما بكم من نعمةٍ فمِنَ الله .. ومَن شَكَر فإنما يشكُر لنفسه. أيها الراغبُ في التوبة، فإن قُلتَ: فما الطريقُ إلى التوبة، وهل من أمورٍ تُعِينُ على التوبة؟ فإليك عشرين طريقًا وسببًا للتوبة وهي: الإخلاصُ لله، وامتلاءُ القلبِ من محبَّتِه، المجاهدةُ، قِصَرُ الأمل، العلمُ، الاشتغالُ بما ينفعُ، البُعْدُ عن المُثِيراتِ ودواعي المعصية، غضُّ البصر، مصاحبةُ الأخيار، مجانبةُ الأشرار، النظرُ في العواقبِ، هجرُ العوائدِ، هجرُ العلائقِ - من دونِ الله -

إصلاحُ الخواطر، استحضارُ فوائدِ تَرْك المعاصي، استحضارُ أنَّ الصبرَ على الشهوةِ أسهلُ من الصبرِ على ما تُوجِبُه الشهوةُ، الدعاءُ، الحياءُ، شرفُ النفسِ وزكاؤها، عرضُ الحالِ على من يُعِين ويُشِير بالخير (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬2). ¬

(¬1) محمد الحمد: التوبة وظيفة العمر/ الفصل الأول من الباب الثاني. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 70.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ لله ربِّ العالمين، يَهدِي من يشاءُ ويُضِلُّ مَن يشاء، ومن يَهدي اللهُ فهو المهتدي، ومن يُضلِلْ فلن تجدَ له وليًا مرشدًا، والصلاةُ والسلام على المبعوثِ رحمةً للعالَمين، والسراجِ المنير، وعلى إخوانِه من النبيِّين. أيها الصائمُ: وثَمَّةَ مشاريعُ تؤكدُ حقيقةَ التقوى، ويُدلَّلُ بها على التوبةِ النَّصُوح - هذه المشاريعُ ساريةُ المفعولِ في كل حينٍ، ولكنها تَزكُو ويَعظُمُ أجرُها في شهرِ الصيام ومنها: مشروع الذِّكر والدعاء .. وكم نُفرِّط في الذِّكر وهو من أيسرِ العباداتِ وأزكاها، وخيرٌ من إنفاقِ الذهب والوَرِق، وخيرٌ لكم من أن تَلقَوْا عدوَّكَم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم .. وما أروعَ المسلمَ والمسلمةَ إذا ظلَّ لسانُهما رطبًا بذِكْر الله، وما أجملَ الصائمَ يُمضي شطرًا من ليلِه ونهارِه ذاكرًا لله .. يسجدُ ويَحمَدُ ويكبِّرُ ويهلِّلُ، يستغفرُ لنفسِه ولوالديهِ والمؤمنين، ويدعو بما شاءَ من خَيرَي الدنيا والآخرةِ، ولا يخصُّ بالدعوةِ نفسَه بل يشملُ غيرَه، ففضلُ الله واسعٌ والمَلَكُ الموكَّلُ بالدعاءِ للآخرين بظَهر الغيب يقول للداعي: ولكَ بمِثْلِ ما دعوتَ به. أيها الداعون ولا تنسَوْا أمواتَكم بالدعاء، وتعلَّموا آدابَ وسننَ الدعاء. يا عبدَ الله، كم في الذِّكرِ من فائدةٍ - وقد أوصلَها بعضُهم إلى المائة أو تزيدُ - وكم نُخطئُ بالليلِ والنهارِ وفي الاستغفار تُحرَقُ الخطايا وتذوبُ؟ وكم لنا من حاجةٍ؟ وكم بإخوانِنا المسلمين من بَأْساءَ؟ فهل نتضرَّعُ إلى اللهِ بالدعاء لرفعِها، والكريمُ يقولُ لنا: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬1) وللصائم دعوةٌ لا تُرَدُّ، لا سيما عندَ فِطْرِه، وفي الأسحارِ وبينَ الأذانِ والإقامة، وفي السُّجود، ¬

(¬1) سورة غافر، الآية: 60.

وحين تَلِينُ القلوبُ، ونحوِها من مواطنِ إجابة الدعاء - فهل نَستثمرُ فرصةَ الذِّكر والدعاء في رمضان؟ 2 - مشاريعُ الإنفاقِ والصدقة، أيها الصائم: شعاراتُنا وأدلتُنا في القرآن والسُّنة تقول لنا في كل حين: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} (¬1) ((اللهمَّ أعطِ منفِقًا خَلَفًا، وأعطِ ممسِكًا تلَفًا)). وفي شهرِ رمضانَ للنفقةِ والصدقة مزيَّةٌ؛ فرسولُنا وقُدْوتُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم كان أجودَ الناسِ بالخير .. وأجْودُ ما يكون في رمضانَ، فهل نقتدي، وهل تتضاعفُ صدَقتُنا في شهرِ مضاعفةِ الحسنات؟ فهذا مُعسِرٌ تفُكُّ من إعسارِه، وهذا محتاجٌ تسدُّ حاجتَه، وثالثٌ مَدِين تقضي ديْنَه، ورابع جائعٌ فتطعمُه وهكذا .. وفي الحديث: ((أفضلُ الأعمال أن تُدخِلَ على أخيك المؤمنِ سرورًا، أو تقضيَ عنه دَينًا، أو تطعمَه خبزًا)). إن فُرصَ النفقة والإحسان كثيرةٌ للأيامَى واليتامى والمساكين، وللشبابِ الراغبين في الزواج، وللمسلمين المتضرِّرين والمجاهدين الصادقين، وتفطيرِ الصائمين إن في داخلِ بلادِنا أو في عالمِنا الإسلامي، زكاةً وصدقةً، وهديةً وصِلةً .. إلخ مشاريعِ النفقةَ. عوِّد نفسَك - أخي المسلمَ - على الصدقةِ في كلِّ يومٍ من أيام رمضانَ قلَّ ذلك أم كثُرَ، ودرِّب أهلَك وأولادَك على الصدقةِ والإحسان، فهذا شهرُ الإحسان .. 3 - مشاريعُ الدعوة إلى الله .. وكم للدعوةِ من آثارٍ إيجابيةٍ على الداعي والمدعوِّ، وعلى الفردِ والمجتمع، وبالدعوةِ والأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ كُنا خيرَ الأُمم والدعاة، والآمرون بالمعروفِ والناهون عن المنكرِ هم ¬

(¬1) سورة سبأ، الآية: 39.

المفلِحون بشهادة القرآن: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬1) وهل أحسنُ قولًا من الدعوةِ والدعاة؟ والله يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬2). وفي رمضان تُفتَحُ القلوبُ للدعوة ويسمعُ الصائمون للدعاةِ، كيف لا وأبوابُ الجنة تُفتَح وأبوابُ النار تُغلَق، ومَرَدَةُ الشياطين تُصفَّد، إن روحانيةَ الصيام تشجِّع على الدعوة، وأنت أيها المسلمُ حريٌّ بك أن تمارسَ الدعوةَ وتتحيَّنَ الفرصَ المواتية لقَبُولِها - مع ابنِك وأخيك، وزَوْجِكَ وابنتِك، ومع جيرانِك، وزملائِك في العمل، ومع العاملِ والسائق والخادمة .. أيها المعلِّمُ هل جربتَ الدعوةَ مع طلابِك في رمضان؟ أيها البائعُ والمشتري هل مارستُما الدعوةَ حالَ البيعِ والشراءِ - إنَّ الدعوةَ قد تكون بكلمةٍ طيبة أو ابتسامةٍ لطيفة أو معاملةٍ حسنة .. فكيف بما هو فوقَ ذلك؟ معاشرَ الرجالِ والنساءِ، والشيوخِ والشباب والمتعلمين والأُميِّين: هل نجعلُ من رمضان فرصةً للدعوة بكلِّ وسيلة، وفي أيِّ مناسبة، ومع الناطقين بالعربيةِ أو غيرهم؟ بتوزيع الكتابِ المفيد والشريطِ النافع، بالهديةِ ومع الصدقة، ولا ينبغي لأحدٍ أن يَحقِرَ نفسَه عن هذه المهمّةِ الشريفة، والرسولُ محمد صلى الله عليه وسلم يقول: ((بلِّغوا عنِّي ولو آيةً)). 4 - مشاريعُ القيامِ وتلاوةِ القرآن .. إنَّ رمضان شهرُ القيام وشهرُ القرآن، وهل يُعجِزُك أخي المسلم أن تقومَ مع الإمامِ حتى ينصرفَ .. وهل تعلمُ أنه يُكتَب لك ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 104. (¬2) سورة فصلت، الآية: 33.

بهذا قيامُ ليلةٍ كاملةٍ .. أم يراودُك الشيطانُ ثم يخرجُك من المسجد لتذهبَ إلى القِيلِ والقالِ، أو مشاهدةِ ما هبطَ من الأفلامِ في البيوت الوهميةِ أو في البيوت الحقيقية؟ تذكَّرْ أخي المسلمَ أنَّ مَنْ قام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبِه، فوطِّنْ نفسَك على القيامِ من أولِ الشهرِ إلى آخره. ولئن قصَّرتَ في قيامِ الليل أو تلاوةِ القرآن فيما مضى من أيام فحنانَيْكَ أن تُضيِّعَ ذلك في شهرِ رمضان! إنني حين أنصحُك ونفسيَ بالإكثارِ من تلاوةِ كتاب الله أنصحُ لك بالتدبُّرِ في آياتِه والوقوفِ عند عجائبِه، وكم في القرآن من كنوزٍ تحتاج إلى تدبُّر، وربُّنا يقول لنا: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (¬1)، ويقول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬2). أُمّةَ القرآن: إن أهلَ القرآنِ أهلُ اللهِ وخاصتُه، وكيف يكونُ من أهل القرآنِ من اتخذَه مهجورًا؟ ونحن أُمةٌ أعزَّنا اللهُ بالإسلام وعلى قدْرَنا بالقرآن، فهل نجعلُ للقرآنِ من أوقاتِنا وعقولِنا وقلوبِنا ما يستحقّ؟ إن رمضان فرصةٌ لصلةِ تبدأ ولا تنتهي مع القرآن، وعلى قدْرِ محبَّتِك لمن أَنزلَ القرآنَ فاقرأ القرآنَ! وكفى. 5 - مشاريعُ اقتصاديةٌ: من مشكلاتِنا - بشكل عامٍّ - الإسرافُ وعدمُ الاقتصادِ، وفي رمضان دروسٌ عامةٌ ودرسٌ خاصٌّ بالاقتصاد .. فالصائمُ ممسِكٌ عن الطعام من طلوعِ الفجر إلى غروبِ الشمس، وهذا مشجِّعٌ على القضاءِ على التُّخمة ومروِّضٌ للنفس على الصبر، ومهذِّبٌ للأرواح، ومُرِيحٌ ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 24. (¬2) سورة ص، الآية: 29.

لوظائف الجسم .. مذكِّرٌ للصائم بمن يحتاجونَ للطعام فلا يَجِدُونه (صاموا أم أفطَروا) ولكن هذه المعاني وأمثالُها من اقتصادياتِ الصوم تَضِيع بل تُفهَمُ فهمًا خاطئًا عند قومٍ ما إن يتسامعوا بشهرِ رمضان حتى تمتلئَ بهم الأسواقُ فيشترون ما يحتاجون وما لا يحتاجون، ويجمعون ما لا يأكلون، ومن خلالِ الدراساتِ والتحقيقاتِ تبيَّن أن الإعلاناتِ التجاريةَ تمارِسُ دورًا كبيرًا في خِداع المستهلِك ودفعِه إلى المزيد من الشراءِ لأشياءَ كثيرةٍ لا حاجةَ له بها، بل يتجاوزُ الأمرُ مجرَّدَ الدعايةِ إلى التسهيلاتِ في عمليات الشراءِ، وحملِ السِّلَع إلى المستهلِك في قعرِ بيتِه، ثم يأتي أسلوبُ الدفعِ بالبطاقاتِ أو الأقساطِ أو مكافأةِ المشتري - كلما زاد من نسبةِ الشراء - وسيلةً ثالثةً تُسهِم في الإسراف ومَزيدِ الاستهلاك، فهل نتنبَّه لهذه المخاطرِ الاقتصاديةِ ونجعلُ من شهرِ الصيام فرصةً للاقتصاد غيرِ المُقتِّرِ لتسلمَ بطونُنا من التخمة، وجيوبُنا من النفقةِ المسرفة .. إنها ملاحظةٌ تستدعي النظرَ والعمل. وإذا شاع عند أبناءِ العالم الآخر مصطلَح (ولد ليشتري) فعندنا - معاشرَ المسلمين - المصطلحُ يقول: (ولد ليعبدَ الله) والشراءُ ليس هدفًا بذاتِه بل وسيلةً للعبوديةِ وعمارةِ الكون .. وبئسَ القومُ قومًا لا يتجاوزُ همُّهم البطونَ والفروج .. أولئك كالأنعامِ بل أضلُّ سبيلًا. ألا فلنستفِدْ من مدرسةِ الصيام في تحقيقِ الاقتصاد المشروع والبُعدِ عن الإسرافِ الممنوع، حتى لا يتحوَّلَ رمضانُ إلى أنواعٍ من المآكل والمشاربِ على حسابِ المشاريعِ العباديةِ والدَّعَوية والصدقة.

حالنا وأسلافنا مع القرآن

حالُنا وأسلافُنا مع القرآن (¬1) الخطبةُ الأولى: الحمدُ لله الذي أنزلَ على عبدِه الكتابَ ولم يجعلْ له عِوَجًا، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له نَزَّلَ الفرقانَ على عبدِه ليكونَ للعالَمين نذيرًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه أوحى إليه ربُّه {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} (¬2)، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ النبيِّين والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعينَ والتابعين ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬3). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}. أُمةَ القرآنِ: في شهرِ القرآنِ، كيف حالُنا مع القرآنِ، وكيف كان حالُ أسلافِنا مع القرآنِ؟ هل اختلفتْ حقائقُ القرآنِ، أم اختلَّتْ قناعاتُنا - نحن- مع القرآن؟ كيف السبيلُ للإصلاحِ، وكيف نتَّخذُ من رمضانَ مَعبَرًا للفَلاح؟ أيها المسلمون: نسمعُ فنستغربُ أن الإمامَ الشافعيَّ رحمه الله كان يختمُ القرآنَ في كلِّ ليلةٍ خِتمةً، فإذا كان في شهرِ رمضان ختمَ في كلِّ ليلة ختمةً، وفي كلِّ يومٍ ختمةً، فكان يختم في شهرِ رمضانَ ستين ختمةً (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموفق 8/ 9/ 1422 هـ. (¬2) سورة الشورى، الآية: 52. (¬3) سورة التوبة، الآية: 119. (¬4) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق.

وأغربُ من ذلك ما ذكره الذهبيُّ في ((الكاشفِ)) في ترجمةِ زُهَير بن محمدِ بنِ قُمَيْرٍ المَرْوَزي أنه كان يختمُ القرآنَ في رمضان تسعين ختمةً (¬1). ولم تكن هذه العنايةُ بالقرآنِ على مستوى العلماءِ والعامَّةِ، بل ذكرَ الخطيبُ في ترجمةِ الخليفةِ العباسيِّ المأمونِ عن ذي الرِّياستَينِ قال: ختمَ المأمونُ في شهرِ رمضان ثلاثًا وثلاثين خِتمةً حتى بُحّ صوتُه، لأنه كان يأخذ القرآنَ على محمدِ بن أبي محمدٍ اليَزِيدي وكان في أذنِه صممٌ، فكان المأمونُ يرفع صوتَه ليسمعَ (¬2). نعم إننا نستغربُ من هذه الحوادثِ وأمثالِها، ويقول قائلُنا: أيمكنُ أن يقعَ هذا؟ وهل يمكنُ لمن قرأَ هذا الكمَّ أن يتدبَّرَ القرآنَ؟ وكلُّنا في المقابلِ لا نستغربُ زهدَنا في القرآن، وقِلَّةَ المقروء عندنا للقرآن، وضآلةَ الوقتِ المخصَّصِ عندنا لتلاوةِ القرآن حتى في شهرِ رمضانَ! ! ولنا أن نتساءلَ: وهل هذه القِلَّةُ المقروءةُ مع تدبُّرٍ للقرآن؟ وهل بسبب التدبُّرِ والوقوفِ عند مواعظِ القرآن كان قلَّةُ مقروئِنا للقرآن، أم أننا أُصِبْنا بقلةِ القراءة للقرآن مع قلَّةِ التدبُّرِ والانتفاعِ بالقرآن! ! إن أسلافَنا كما تفوَّقوا علينا في كثرةِ المقروءِ للقرآن تفوَّقُوا كذلك في الخشوع للقرآن والتأثرِ بالقرآن، فهذا الإمامُ التابعيُّ الثقةُ العابدُ وقاضي البصرةِ زُرَارةُ بن أوفَى العامريُّ الحَرَشي العَصَري أمَّ المسلمين في مسجدِ بني قُشَيرٍ الفجرَ فقرأ سورةَ المدَّثِّر حتى إذا بلغ قولَه تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} (¬3) خرَّ ميتًا، يقول بَهْزُ بنُ حَكِيم - راوي الخبرِ -: فكنتُ فيمن حَمَلَه)) (¬4). ¬

(¬1) انظر: عبد الحميد السجياني: أخبار وحوادث في رمضان/ 8. (¬2) المرجع السابق/ 27. (¬3) سورة المدثر، الآيتان: 8، 9. (¬4) رواه ابن سعد: الطبقات 7/ 150، وأبو نعيم في الحلية 2/ 258، والمزي في تهذيب الكمال 9/ 341.

معاشرَ المسلمين: إلى اللهِ نَشكُو ضعفَ صِلَتِنا بكتابِ ربِّنا، فنحن في النهارِ - إلا من رَحِمَ اللهُ - مستغرقون في العملِ أو غائبون نائمون تحت الفُرُش، ولربما أضاع بعضُنا الصلواتِ المكتوبةَ مع الجماعة، أو لم يُصلِّ الصلاةَ حتى فاتَ وقتُها .. وأنَّى لهذا الصِّنف من المسلمين أن يُسابِقَ في تلاوةِ القرآنِ أو ينافسَ على فعلِ الخيراتِ بشكلٍ عامّ؟ ونحنُ في الليل - إلا من رحِمَ اللهُ - نتجوّلُ هنا وهناك وكأننا نبحثُ عمّا نُزجي به الفراغَ، فإنْ صادَفْنا قومًا مجتمعين على القِيل والقالِ وإضاعةِ الأوقات دون فائدةٍ شارَكْنا معهم في الاجتماع، وأسوأُ من ذلك حين نُمضِي شطرًا من الليل في النظرِ للمسلسَلاتِ الهابطة، والاستماعِ للأصواتِ الماجنة .. وكأنَّ لسانَ حالِنا ومقامِنا يقول: حتى شهرُ رمضان لم يَردَعْنا عن اقترافِ الحرام، وما بنا هِمّةٌ لطُولِ القيام مع المصلِّين ولو كان ذلك في العَشرِ الأخيرِ من رمضان. إنَّ هِممًا لا تتحرَّك للطاعةِ في شهرٍ تُضاعَفُ فيه الحسناتُ حَرِيّةٌ بالمحاسبةِ والمراجعةِ، وإن أقوامًا لا تُؤثِّر فيهم موعظةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ((مَن قامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذَنْبِه))، حريةٌ بأن تُراجِعَ رصيدَ إيمانِها، وتعالجَ مرضَ قلوبِها. آهٍ على صحةٍ لا تُشكَرُ، وفراغٍ لا يُستثمَرُ، وقوةٍ لا تُوجَّه، وطاقةٍ تُهدَر، أين نحن من هِمَم السابقين، وقد نقل المِزِّيُّ في ((تهذيب الكمال)) أن سُويَد ابن غَفَلةَ كان يؤمُّ الناسَ في رمضان في القيامِ وقد بلغ مائةً وعشرين عامًا؟ ودونَكم هذا النموذجَ من أعلامِ التابعين وكيف كانوا يَحْيَون بالقرآن، رغمَ المتاعبِ والمصاعب، فهذا أبو العاليَةِ الرِّياحيُّ رُفَيْعُ بن مِهْران عَلَمٌ من أعلامِ التابعين، إمامٌ مقرئ، حافظٌ مفسِّر، أدركَ زمنَ النبوَّة وأسلمَ في خلافةِ أبي بكرٍ الصِّدّيق رضي الله عنه .. ولْنَدَعْ له الحديثَ ليرويَ لنا كيف أسلمَ، وكيف كان يتعاملُ مع

القرآن- بعدما أسلمَ - يقول: ((وقعتُ أنا ونفرٌ من قومي أُسارَى في أيدي المجاهدين - يعني قبل أن يسلمَ وكان مشركًا من أهلِ فارسَ - ثم ما لَبِثْنا أن غَدَوْنا مملوكِين لطائفةٍ من المسلمين في البصرةِ، فلم يَمْضِ علينا وقتٌ طويلٌ حتى آمنَّا بالله وتعلَّقْنا بحفظِ كتابِ الله .. ))، ثم يُفسِّر لنا هذا التابعيُّ الأسيرُ المسلمُ طبيعةَ هذا التعلُّقِ بكتابِ الله ويقول: ((وكان مِنّا مَن يؤدِّي الضرائبَ لمالِكِيه، ومنَّا من يقومُ على خدمتِهم - وكنتُ واحدًا من هؤلاء - فكنَّا نختمُ القرآنَ كلَّ ليلةٍ مرةً، فشقَّ ذلك علينا، فجعلنا نختمُه مرةً كل ليلتين، فشقَّ ذلك علينا، فجعلنا نختِمه كلَّ ثلاثٍ، فشقَّ ذلك علينا، لِما كُنَّا نُعانِيه من جُهدٍ في النهارِ وسهرٍ في الليل، فلَقِينا بعضُ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وشَكَوْنا لهم ما نكابُده من السهرِ وقراءةِ كتابِ الله، مع قيامِنا بخِدْمةِ موالينا، فقالوا لنا: اختموه كلَّ جمعةٍ مرةً، فأخذْنا بما أرشَدُونا إليه، فجَعَلْنا نقرأُ القرآنَ طَرَفًا من الليلِ وننامُ طرفًا، فلم يَشُقَّ ذلك علينا)) (¬1). إذا كان هذا حالَ المَوالِي مع القرآن، وفي غيرِ شهرِ رمضان - فكيف حالُهم أو حالُ غيرِهم في شهرِ القرآن؟ أيها المسلمون: إن اللهَ يرفعُ بهذا القرآنِ أقوامًا ويَضَعُ آخرين، ولقد كان أبو العاليةِ الرِّيَاحيُّ ممن رَفَعَهم اللهُ بالقرآن، فقد دخل يومًا على ابن عباسٍ رضي الله عنهما - وهو أميرٌ على البصرة - فرحَّبَ به ورفع منزلتَه وأجلسَه على سريرِه، وكان في المجلس طائفةٌ من سُدَّة قريشٍ، فتغامَزُوا وتهامسوا بينهم وقال بعضُهم لبعضٍ: أَرأيتُم كيف رفعَ ابنُ عباسٍ هذا العبدَ على سريرِه؟ فأدرك ابنُ عباس ذلك والْتفتَ إليهم قائلًا: إن العلمَ يزيدُ الشريفَ شرفًا، ويرفعُ قَدْرَ أهلِه عندَ الناس، ويُجلِسُ ¬

(¬1) الطبقات لابن سعد 7/ 113، سير أعلام النبلاء 4/ 209.

المماليكَ على الأسرَّةِ. وقد رفع اللهُ أبا العاليةِ بالقرآن حتى قيل: ليس أحدٌ بعدَ الصحابة أعلمَ بالقرآنِ من أبي العالية (¬1). وكما كان لأبي العاليةِ هِمّةٌ في تعلُّمِ القرآنِ وقراءتِه، فقد كانت له همَّةٌ في تعليمِ القرآن وكَشْفِ حقائقِه للمتعلِّمين، وهو الذي كان يقول: إن اللهَ قَضَى على نفسِه أنَّ مَن آمنَ به هداه، وتصديقُ ذلك في كتاب الله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (¬2)، ومَن توكَّلَ عليه كَفَاه، وتصديقُ ذلك في كتاب الله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬3)، ومن أقرضَه جازاه، وتصديقُ ذلك في كتاب الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (¬4)، ومن دعاهُ أجابَه، وتصديقُ ذلك في كتابِ الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (¬5). وكم نحنُ بحاجةٍ إلى تعلُّمِ حقائقِ القرآن، وإلى الإيمانِ بوَعْدِ القرآن، والخوفِ من وعيدِه، وكم هو مؤلمٌ أن نَهجُرَ تلاوةَ القرآن، أو نهجُرَ العملَ بالقرآن، فنظلَّ نردِّدُ القرآنَ ولكنه لا يكادُ يجاوزُ حناجرَنا. ودونَكم - معاشرَ المسلمين - مَقُولَة واحدٍ من صحابةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يحكي واقعَهم وغيرَهم مع القرآنِ والإيمان، يقول عبدُ الله بنُ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنهما: ((لقد عِشْنا دهرًا طويلًا، وأحدُنا يُؤتَى الإيمانَ قبلَ القرآنِ، فتنزلِ السورةُ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم يتعلّمُ حلالَها وحرامَها، وآمرَها وزاجرَها، وما ينبغي أن يقفَ عندَه ¬

(¬1) السير للذهبي 4/ 208، خطب الشيخ عبد الرحمن المحمود ص 558، 559. (¬2) سورة التغابن، الآية: 11. (¬3) سورة الطلاق، الآية: 3. (¬4) سورة البقرة، الآية: 245، وانظر سير أعلام النبلاء 4/ 211. (¬5) سورة البقرة، الآية: 186.

منها، ثم لقد رأيتُ رجالًا يُؤتَى أحدُهم القرآنَ قبلَ الإيمانِ، فيقرأُ ما بين فاتحتِه إلى خاتمتِه لا يدري ما آمرُه ولا زاجرُه، وما ينبغي أن يقفَ عندَه، يَنثرُه نَثْرَ الدَّقَل. أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (¬1). ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآيتان: 9، 10.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ لله ربِّ العالمين حكَمَ بإعجازِ القرآن فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (¬1). وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه، لا شريكَ له، أبَانَ عن شفاءِ القرآن ورحمتهِ فقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (¬2). وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه كان جبريلُ عليه السلامُ يدارسُه القرآنَ في رمضان، وحين يدارسُه القرآنَ يكونُ صلى الله عليه وسلم أجودَ بالخيرِ من الريحِ المرسَلَةِ - اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين. إخوةَ الإسلام: إنَّ القرآنَ الكريمَ كتابُ هدايةٍ لمن أراد السيرَ على الصراطِ المستقيم: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬3). وكم ضَلَّت الأمّةُ المسلمةُ حين تنكَّبَتْ عن هَدْيِ القرآن، وكم ضاعَ المسلمون حين أضاعوا تعاليمَ القرآنَ؟ وفي القرآنِ أمانٌ واطمئنان، وراحةٌ وأنسٌ بالمَلِكِ الديّان، قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: إنَّ هذا القرآنَ مأدُبَةُ اللهِ، فمن دخل فيه فهو آمنٌ (¬4). ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 88. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 82. (¬3) سورة الشورى، الآية: 52. (¬4) رواه ابن المبارك في الزهد (787)، وابن أبي شيبة 10/ 484.

ولقد كانَ المسلمون في أزمانِ العِزَّة يعيشون هذا الأمنَ بالقرآن، روى ابنُ المبارَكِ ووكيعٌ في ((الزهد)) بإسنادٍ صحيح عن أبي الأحوصِ الجُشَميِّ قال: إنْ كان الرجلُ ليَطرُقُ الفُسْطاطَ طُروقًا - أي: يأتيه ليلًا -، فيسمعُ لأهلِه دويًّا كدَوِيِّ النحل - أي: بالقرآن - قال: فما بالُ هؤلاء يَأمَنُون، ما كان أولئك يخافون (¬1). وهذا رسولُ الهُدى صلى الله عليه وسلم يَشهَدُ للأشعريِّين بتميُّزِ أصواتِهم في القرآن، ويشهدُ لهم بالتلاوة، ويَعرِفُ بها منازلَهم من غيرِهم إذ يقول: ((إني لأعرفُ أصواتَ رُفْقةِ الأشعريِّين بالليلِ حين يدخلون، وأعرفُ منازلَهم من أصواتِهم بالقرآنِ بالليل وإن كنتُ لم أرَ منازلَهم حين نزلوا بالنهار)) رواه البخاري ومسلم (¬2). فأين الذين يُحْيُونَ الليلَ بالقرآنِ في رمضانَ أو غيرِ رمضان؟ أينَ الذين يُعطِّرون بيوتَهم بآياتِ القرآن، وهذا أبو هريرةِ رضي الله عنه يقول: ((البيتُ الذي يُتلَى فيه كتابُ الله كَثُرَ خيرُه، وحضَرتْه الملائكةُ، وخرجتْ منه الشياطينُ، والبيتُ الذي لا يُتلَى فيه كتابُ الله ضاقَ بأهلِهِ، وقلَّ خيرُه، وحضرتْه الشياطينُ، وخرجت منه الملائكةُ)) (¬3). آهٍ على بيوتِ المسلمين حين تَعُجُّ بالأصواتِ المُنكَرة، والصُّوَرِ الفاضحةِ، وتَرى فيها كلَّ شيء إلا بالقرآنَ .. أو ترى القرآنَ ولكن لا ترى عليه أثرًا للقراءةِ وكأنَّ البَرَكةَ تكفي لوجودِه ولو اتُّخِذَ مهجورًا. يا أُمةَ القرآنِ: كتابُ الله تتسعُ له الصدورُ، وهو لها نورٌ وشفاءٌ، فكم في ¬

(¬1) الزهد لابن المبارك 98، وكيع/ 52. (¬2) البخاري ح (4232)، مسلم ح (2499). (¬3) المحمود: خطب جمعة، ص 556.

أجوافِنا من القرآن؟ ولن يُعذِّبَ اللهُ قلبًا وَعَى القرآنَ، ومَن كان معه القرآنُ فلا أحدَ أكثرُ منه اغتِباطًا وعطاءً. قال عبدُ الله بنُ عَمْرِو بنِ العاصِ رضي الله عنهما: مَن قرأَ القرآنَ فقد أُدرِجَتِ النبوةُ بين جنبيهِ إلا أنه يُوحَى إليه، ومَن قرأَ القرآنَ فرأى أحدًا من خَلْق اللهِ أُعطِيَ أفضلَ مما أُعطِيَ فقد حَضَرَ ما عظّمَ اللهُ وعظَّمَ ما حَضَرَ اللهَ، وليس ينبغي لحاملِ القرآن أن يَجهَلَ فيمن يجهَلُ، ولا يَحِدُّ فيمن يَحِدّ، ولكن يَعفُو ويصفحُ (¬1). ألا فاعرِفوا قَدْرَكم يا أهلَ القرآن - والبابُ مفتوحٌ من الهِمّةِ والصِّدق والإخلاص لمن أرادَ أن يكونَ من أهلِ القرآن. ومساكينُ من يُمْضُون في قراءةِ الجرائدِ ونحوِها - كلَّ يوم - أضعافَ ما يُمضُونَه لقراءةِ القرآن. ومساكينُ من يقفون على أقدامِهم أو يَجلِسون على الأرائِكِ الساعاتِ الطوالَ - بأحاديثَ أقلُّ ما يقالُ عنها: إنها ليست ذاتَ فائدةٍ كبيرةٍ، ثم هؤلاء تراهم يتضايقون حين يَجلِسون دقائقَ معدودةً لقراءةِ القرآن؟ كم هو مؤلمٌ حين يُفرِّطُ الدعاةُ وطلبةُ العلم في وِرْدِهم اليوميِّ من كتابِ الله لأدنى الأسباب! وكم هو مؤلمٌ حين تتقلَّصُ صِلةُ أقوامٍ بالقرآنِ من رمضانَ إلى رمضانَ أو من الجمعةِ إلى الجمعةِ؟ أو في المناسباتِ والاحتفالات؟ وكم هو مؤلمٌ حين تسمعُ لقراءةِ طالبٍ أو طالبةٍ في الجامعة .. وكأنه أعجميٌّ إذ يقرأُ القرآنَ، وأشدُّ من ذلك إيلامًا حين يقعُ اللَّحنُ في القرآنِ من المعلِّمين والمعلِّمات .. وكيف يَفقَهُ القرآنَ ويتدبَّرُه من لا يقيمُ حروفَه ويستقيمُ له نُطْقُه؟ إننا بحاجةٍ جميعًا إلى أن نراجعَ صِلَتَنا بالقرآنِ رجالًا ونساءً مُعلِّمين ¬

(¬1) الزهد لابن المبارك (275).

ومتعلِّمين، دعاةً ومُربِّين، وعلماءَ وعامَّةً .. ألا فلنجعلْ من رمضان نقطةَ الانطلاق، ولنأخُذْ على أنفسِنا أن يكونَ لنا وِرْدٌ يوميٌّ في القرآنِ .. أولئك يَحفظُهم اللهُ بالقرآن، وتستنيرُ قلوبُهم - كلَّ يومٍ - بالقرآن. عبادَ الله: وحين نَغبِطُ الذين يُعلِّمون القرآنَ والرسولُ صلى الله عليه وسلم يشهدُ لهم بالخيريّةِ ويقول: ((خيرُكم مَن تَعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَه)) نشدُّ على أيديهم بعدمِ المللِ واليأسِ، ونذكِّرُهم بأمثالِ أبي عبد الرحمنِ السُّلَميِّ التابعيِّ رحمه الله حيث جلس يُعلِّمُ الناسَ القرآنَ سبعين سنةً. ونُذكِّر أهلَ القرآن عامةً بوصيَّةِ أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه حين جمع ثلاثَمائةٍ من قُرّاءِ البصرة وقال لهم: أنتم خيارُ أهلِ البصرة وقرَّاؤُهم فاتْلُوه، ولا يَطُولَنَّ عليكم الأمدُ فتَقسُو قلوبُكم كما قستْ قلوبُ مَن قبلَكم. ونذكِّرُهم أن يهتَدُوا بهَدْي القرآن، وأن يَدْعُوا غيرَهم لهَدْي القرآن. يا عبدَ الله: فإنْ لم تستطعْ أن تكونَ من مُعلِّمي القرآنِ بنفسِك وعلمِك، فلتكن معلِّمًا للقرآن بدَعْمِك ومالِك، فالدالُّ على الخيرِ كفاعلِه، ومَن جهّزَ غازيًا فقد غزا، والله يقول: {تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى}. يا أُمةَ القرآن .. هذا هو شهرُ القرآنِ فهل تُستنهَضُ الهِممُ في رمضان .. وهل نأخذُ على أنفسِنا العهدَ بالاهتداءِ بالقرآن، وتلاوةِ القرآن، وتعليمِ القرآن، والدعوةِ للقرآن .. ذاك كسبٌ عظيمٌ، وتلك نفحةٌ مباركَةٌ من نَفَحاتِ شهرِ الصيام، ومَن تَزكَّى فإنما يتزكَّى لنفسِه .. ومن أبصرَ فلنفسِه، ومن عميَ فعليها.

معالم ووقفات في الأزمة المعاصرة

معالم ووقفات في الأزمة المعاصرة (¬1) الخطبةُ الأولى: إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وسلِّم تسليمًا كثيرًا. إخوةَ الإسلام: وليس يخفى أنَّ المواجهةَ بين المسلمينَ وأعدائِهم لم تتوقَّفْ منذُ فجرِ الإسلام، والرسولُ صلى الله عليه وسلم حيٌّ، والقرآنُ غضٌّ طريٌّ، واستمرَّ العدوانُ في عهودِ الراشدين، وفي دولِ الإسلام عبرَ التاريخ، وستستمرُّ المواجهةُ ما بقيَ الحقُّ والباطل، وفي مُحكَم التنزيل: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (¬2). فالمعركةُ مستمرةٌ وإن تعددتْ ساحاتُها وتبدلتْ أسلحتُها، لأن الشرَّ من لوازمِ الخير، وإذا كان للأنبياءِ عليهم السلام أعداءٌ - وهم أتقى الأمةِ وخيارُها - فالعداوةُ لغيرِهم من المسلمين والمؤمنين من باب أَوْلى. يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (¬3). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 20/ 10/ 1422 هـ. (¬2) سورة البقرة، الآية: 217. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 31.

عبادَ الله: وهناك عِدةُ معالمَ لا بدَّ أن أنعتَها في معركتنا مع عدوِّنا، ومنها: أولًا: المسلمون مستهدَفون - بالعداوة - بأصلِ إيمانهم وليس بسبب كسبِهم أو فعلتِهم في كثيرٍ من الأحيان، كما قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (¬1). والأعداءُ يتحيَّنون كلَّ فرصةٍ، ويتصيَّدون كلَّ غفلةٍ يَغفلُ فيها المسلمون عن تعاليمِ دينِهم، ليَهجمُوا عليهم ويستأصلوا شأْفتَهم ومع واعظِ القرآنِ للمسلمين إلا أنهم قد يَغفُلون فيمكِّنون للأعداءِ من حيثُ يشعرونَ أو لا يشعرون، ومن تنبيهاتِ القرآنِ للمسلمينَ قولُه تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} (¬2). ثانيًا: مِن فَضْلِ الله ورحمتِه بهذه الأُمةِ أن تسليطَ العدوِّ على المسلمين ليس تسليطَ استئصالٍ وإبادةٍ - لأن المسلمين أمةُ الخيرِ، وأمةُ النبوةِ الخاتمةِ، والشهداءُ على الناسِ، وفيهم الطائفةُ المنصورةُ حتى يأتيَ وعدُ الله - وإنما تسليطُ الأعداءِ عليهم تسليطُ إيذاءً وعقوبةٍ على المعاصي الفكريةِ والأخلاقيةِ والسياسيةِ ونحوِها من الأخطاء، ليتوبوا ويكفِّرَ اللهُ عن سيئاتِهم، ولينكشفَ فيهم الخبيثُ والطيبُ ويعلمُ اللهُ - وهو أعلمُ - الصادقينَ مع الكافرين. إنه الأذى الذي قال اللهُ عنه: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} (¬3). قال القرطُبيُّ رحمه الله: فالآيةُ وعدٌ من اللهِ لرسولِه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أن أهلَ الكتابِ لا يَغلِبُونَهم وأنهم منصورونَ عليهم، لا ينالُهم منهم اصطِلامٌ - يعني استئصال - ¬

(¬1) سورة البروج، الآية: 8. (¬2) سورة النساء، الآية: 102. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 111.

إلا إيذاءٌ بالبُهْتِ والتحريف، وأما العاقبةُ فتكونُ للمؤمنين)). أهـ (¬1) وقد يُقال: إن هذا وعدٌ من اللهِ لرسولِه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، وفي الآية معجزةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، لأن مَن قاتَلَه من اليهودِ ولّى دُبُرَه (¬2). ولكنَّ النصرَ للمؤمنين والعاقبةَ للتقوى، والغلبةَ لجُندِ الله جاءت مؤكَّدةً في آياتٍ آُخَر .. والعبرةُ بعمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السبب، ولكن بشرطِ توفُّرِ الإيمان، ووجودِ المؤمنين. وينبغي أن يُعلَمَ أنَّ هذا الأذى الواقعَ على المسلمين من عدوِّهم ليس هو شرًّا دائمًا، بل هو في كثير من الأحيانِ خيرٌ كما قال تعالى: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬3)، وكما قال تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬4). ثالثًا: هزيمةُ الأعداءِ للمسلمين عسكريًا ليست هي المشكلةَ، وتفوُّقُهم عليهم في السلاحِ والعَتادِ ليست وسيلةً لتخاذُلِهم ولا مبرِّرًا لقعودِهم .. وما فَتِئَ المسلمون - عبرَ العصور - يَغلِبون ويُغلَبون، ولكن الهزيمةَ المرَّةَ حين يُهزَمون من داخلِ نفوسِهم، فيضعفُ الإسلامُ في نفوسِهم، وتُحِيط بهم الشكوكُ، وتستحوِذُ عليم الشبهاتُ والخواطرُ السيئة .. هزيمةُ المسلمين حين يتشكَّكون في باطلِ الأعداء وأنَّ مصيرَهم إلى النار، أو أنهم يُعجِزون اللهَ، واللهُ يقول ويحكم: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} (¬5) ويقول: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن 4/ 173، 174. (¬2) السابق 4/ 174. (¬3) سورة النور، الآية: 11. (¬4) سورة النساء، الآية: 19. (¬5) سورة الأنفال، الآية: 59.

مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} (¬1). لا بدَّ للمسلمين أن يستحضِروا هذه المعانيَ القرآنيةَ التي وصفَ اللهُ بها الكافرين وكيدَهم ومكرَهم، وألا يغترُّوا بتقلُّبِهم في البلادِ واللهُ يقول: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (¬2). وألا يرتابوا في أن اللهَ مطَّلِعٌ وغيرُ غافلٍ عن ظُلمِهم وإفسادِهم في الأرض {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (¬3). رابعًا: وعلى المسلمين أن يُدرِكوا ثمنَ النصرِ وقيمتَه، وإذ لم يحصلْ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم حتى أُوذيَ وطُورِدَ، واتُّهِم وهاجر، وشُجَّ وجهُه وكُسِرت رَباعيَتُه، ووُضِعَ له السحرُ والسمُّ، وحاول قتلَه اليهودُ، وجهَّزت دولةُ النصارى معركةً ضاريةً للمسلمين والرسولُ صلى الله عليه وسلم حيٌّ، وأَرجفَ به المنافقون - في أكثرَ من غزوةٍ - بل اتهموه في عِرضِه ونسبوا (الإفكَ) إلى أهلِه .. إلى غيرِ ذلك من ضروبِ الجهادِ والمجاهدةِ وألوانِ العداوة وتعدُّدِ الأعداءِ وكثرةِ أساليبهم - إذا لم يتحققِ النصرُ للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه إلا بعدَ ذلك وبعدَ أن زُلزِلَ المسلمون زِلزالًا شديدًا، فأنَّى لغيرِهم أن يحصُلوا على النصرِ وهم على الأرائكِ متَّكِئون، أو في لهوِهم يلعبون، أو وهم يحبُّون الإسلامَ ويكرهون الكفارَ لكنهم يُؤْثِرون السلامةَ ويرغبون في الدَّعَةِ ويَضِنُّون بتقديم الأنفسِ رخيصةً في سبيل الله. ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 18. (¬2) سورة آل عمران، الآيتان: 196، 197. (¬3) سورة إبراهيم، الآية: 42.

أجل أيها المسلمون، ودُعوني أنقُلْكم إلى واحدةٍ من معاركِ المسلمين في عصرِ الراشدين كان ميدانُها البحرَ ليس البرَّ .. لتروْا كيف قدّم المسلمون من شهداءَ حتى جاء النصرُ. قال المؤرِّخون عن معركةِ (ذات الصَّواري): كانت معَ الرومِ النصارى، وحين الْتَقْوا مع المسلمين قال لهم المسلمون: إنْ شئتُم كانت المعركةُ في الساحل حتى يموتَ الأعجلُ مِنا ومنكم، وإن شئتم فالبحرَ، فنَخَرَ الرومُ نخرةً واحدةً وقالوا: الماءَ، فدنى منهم المسلمون وربَطُوا السُّفنَ بعضَها ببعض حتى كانوا يضربون بعضُهم بعضًا على سفنِ المسلمين والنصارى، ووَثَبَ الرجالُ على الرجال يضطربونَ بالسيوف، ويتواجَؤُون بالخناجرِ حتى رجعتِ الدماءُ إلى الساحل تضربُها الأمواجُ، وطرحتِ الأمواجُ جثثَ الرجال رُكامًا، ولقد قُتِل من المسلمين يومئذٍ بشرٌ كثير، وقُتِل من الكفارِ ما لا يُحصى، وصَبَروا يومئذٍ صبرًا لم يصبِروا مثلَه في موطنٍ قطُّ، حتى أنزلَ اللهُ نصرَه على أهلِ الإسلام وولَّى النصارى الأدبارَ منهزمين (¬1). إنَّ ثمنَ النصرِ كبيرٌ، وإن سلعةَ الله غاليةٌ، وصدَقَ اللهُ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (¬2). ولا بدَّ من قراءةِ التاريخ لمعرفةِ أسبابِ النصرِ وعواملِ الهزيمةِ، وفي تاريخ الأُمةِ المسلمةِ وصراعِها مع الأعداءِ لم تُهزَمْ من قلةِ عددِها أو ضعفِ عُدَّتِها، بل يُثبِتُ التاريخُ أنهم حقَّقوا النصرَ - في أكثرَ من معركةٍ - وعددُهم قليلٌ، وعَتادُ ¬

(¬1) تاريخ الطبري 4/ 290، 291. (¬2) سورة البقرة، الآية: 214.

غيرِهم أقوى من عتادِهم .. لكنهم دخلوا بالإيمانِ ساحةَ المعركةِ فخرجوا منتصرين، وحين يضعُفُ إيمانُهم أو تتفرَّقُ كلمتُهم تكون الغلبةُ لعدوِّهم، ودعونا نُطِلّ على أحوالِ المسلمين حين اجتاحَهُم الصليبيون - وما أشبهَ الليلةَ بالبارحةِ - لقد دبَّ الخلافُ والفُرْقةُ بين أمراءِ المسلمين، بل منهم من كاتبَ النصارى ودلَّهم على عوراتِ المسلمين، بل وصلَ الحالُ إلى أن قَتَلَ عساكرُ المسلمين بعضُهم بعضًا - فواتتِ الفرصةُ النصارى وأغارُوا على المسلمين واستولَوْا على مقدَّساتِهم، يقول ابنُ الأثير في حوادث سنة 497 هـ: ((لمَّا استطالَ - خَذَلَهُم اللهُ تعالى - بما مَلَكُوه من بلادِ الإسلام، واتَّفق لهم اشتغالُ عساكرِ الإسلام وملوكِه بقتالِ بعضهم بعضًا فتفرَّقت حينئذٍ بالمسلمين الآراءُ، واختلفتِ الأهواءُ، وتمزَّقتِ الأموالُ)). بل ذكرَ ابنُ الأثيرِ أن بعضَ القِلاعِ حين امتنعتْ على النصارى راسَلَهم بعضُ سلاطينِ المسلمين وصالحهم عليها .. كما وقع ذلك في (مَعَرَّةِ النعمان) و (حمص) في (حوادث سنة 491). أيها المسلمون: ولم تقفِ الخِلافاتُ - زمنَ الصليبيين - على الأمراءِ والسلاطينِ، بل شَمِلت العلماءَ الذين يُفترضُ فيهم جمعُ كلمةِ المسلمين، وإصلاحُ شأنهم. قال ابن الأثير: وفي سنة (447 هـ) وقعتِ الفتنةُ بين الفقهاءِ الشافعية والحنابلةِ ببغدادَ، وأنكر الحنابلةُ على الشافعيةِ الجهرَ ببسمِ الله الرحمن الرحيم، ومَنَعوا من التَّرجيعِ في الأذان، والقنوتِ في الفجر، ووصلوا إلى ديوانِ الخليفة، ولم تهدأ الأحوالُ، بل أتى الحنابلةُ إلى مسجدِ باب الشعير فنهَوْا إمامَه عن الجهرِ بالبسملة، فأخرجَ مُصحفًا وقال: أزِيلوها من المصحفِ حتى لا أتلوَها. وقال ابنُ كثير في حوادث 447 هـ: وفيها وقعتِ الفتنةُ بين الأشاعرةِ

والحنابلةِ، فقويَ جانبُ الحنابلةِ قوةً عظيمةً بحيثُ إنه كان ليس لأحدٍ من الأشاعرة أن يشهدَ الجُمعةَ ولا الجماعاتِ .. اهـ حقًا إنها مأساةٌ عظيمة أن يكون الشِّقاقُ والخِلافُ والتناحرُ بين العلماء في مسائلَ يَسَعُ الخلافُ فيها، وأن تصلَ الحالُ بهم إلى تركِ ما هو أعظمُ من تلك المسائلِ الخلافية .. مثل تركِ الجمعةِ والجماعة (¬1). وكم يجدُ الأعداءُ فرصتَهم حين تقعُ الأمةُ في شيءٍ من التنازعِ فيضربوا بعضَهم ببعض، ويستفيدوا من ضعفاءِ النفوس لتحقيق أغراضِهم ومآربِهم حتى إذا انتهَوْا منهم رَكَلُوهم بأقدامِهم، وربما أتبَعُوهم بأصحابِهم! فهل يا تُرى يقرأ المسلمون - عامةً - التاريخَ، وهل يستفيدُ الأمراءُ والحكامُ والعلماءُ والدعاةُ من تجاربِ الماضي .. حتى لا تتكررَ المآسي وحتى لا يظلَّ الأعداءُ يسخرونَ بالمسلمين، ويضربوا المسلمين ببعضِهم. إنَّ الأزْمَة الراهنةَ - مع الأسف - تؤكِّدُ عدمَ استفادةِ المسلمين من تجاربِ إخوانِهم السابقين .. ولذا تتكرَّرُ المآسي .. ويتكررُ معه مكرُ الأعداءِ وغلَبتُهم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (¬2). ¬

(¬1) د. أحمد الزهراني، مقال في جريدة البيان عدد 169 رمضان 1422 هـ بعنوان: ما أشبه الليلة بالبارحة. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 159.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ لله القويِّ العزيزِ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له في ربوبيتِه وألوهيتِه وأسمائِه وصفاتِه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه وخِيرتُه من خَلْقه .. إخوةَ الإسلام: المَعْلَمُ السادسُ في معركتِنا مع عدوِّنا - أن تستثمرَ كلّ طاقةٍ مع الأمةِ رجلًا كان أو امرأةً، صغيرًا أم كبيرًا، مُلتزمًا أو غيرَ ذلك. فالمواجهةُ - اليومَ - مع المسلمين، عالميةٌ، ومن الخطأ اليومَ أن نقتصرَ في خطابِنا الدعويِّ على فئةٍ دونَ أخرى من المسلمين، بل لا بدَّ أن نشملَ بخطابِنا الدعويِّ غيرَ المسلمين - معذرةً إلى ربِّكم، وعسى أن يصلَ الحقُّ إلى آذانٍ غافلةٍ أو مُلبَّسٍ عليها .. فتصحُوا على قوارعِ الحقِّ وحُجَجِ الإيمان .. لكن من المهمِّ أن تكون الخِطاباتُ الموجَّهةُ مناسبةً ومقنِعةً لمن وُجِّهت له. إن الدفاعَ عن حِياضِ الإسلام - اليومَ وغدًا - لا يتحمَّسُ له الأخيارُ والدعاةُ والعلماءُ وحدَهم، بل بات عوامُّ المسلمين ومَن قَصَّروا في الالتزام .. بات هؤلاءِ جميعًا تتحرَّكُ عواطفُهم وتتفطَّرُ أكبادُهم لما يصنعُه اليهودُ والنصارى ومَن حالفهم بالإسلامِ والمسلمين، وعدمُ إشراكِ هؤلاء وجمهورِ المسلمين في الدعوة وصدِّ هجماتِ الأعداءِ خسارةٌ في ميدانِ المعركة الواقعةِ والمستقبلية .. وفي هذا الصددِ على العلماءِ والدعاة والقادةِ أن يُوجِّهوا السفينةَ وأن يفتِّحوا من الفرصِ النافعةِ للدعوة ما يُمكِّنُ للجميع أن يساهمَ في تحمُّل المسؤولية، ومقارعةِ الأعداء. إن الأزْمةَ الراهنةَ ينبغي أن تجمعَ الأُمةَ المسلمةَ على كلمةٍ سواء .. وعالميّتُنا قبل عولمتِهم، وولاؤُنا لبعضٍ خيرٌ وأزكى من تحالُفِهم، وأهدافُنا أسمى من أهدافِهم.

سابعًا: ولا بدَّ هنا - وحين يكون الحديثُ عن الولاءِ للمؤمنين والبراءةِ من الكافرين - من تصحيحِ مفهومٍ قد لا يتفطَّنُ له بعضُ المسلمين، وهم يظنُّون أن تحقيقَ الولاءِ والبراءِ قد يؤدِّي إلى نفورِ الكفَّار عن الإسلام؟ وليسَ الأمرُ كذلك، فإن اللهَ هو الذي شرعَ عقيدةَ الولاءِ والبراءِ وأمرَ المسلمين بها - وهو العليمُ الخبيرُ .. بل إنَّ الالتزامَ بهذه الشعيرةِ - وسائرِ شعائرِ الإسلام - سببٌ في ظهورِ الإسلام وغلبةِ المسلمين، ولربما دخل غيرُ المسلمين - بسببه - في الإسلام، وفي ((سيرةِ ابنِ هشام)) أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد قتلِ كعبِ بن الأشرفِ: ((مَنْ ظَفِرتُم به من رجالِ يهودَ فاقتُلُوه، فوَثَبَ مُحَيِّصةُ بنُ مسعودٍ على ابن سُنينةَ - رجلٍ من تُجارِ اليهود يُبايِعهُم - فقتله، وكان حُويِّصةُ بنُ مسعودٍ (أخوه) إذ ذاكَ لم يُسلِم، وكان أسنَّ من مُحيِّصةَ، فلما قتله جعلَ حويِّصةُ يضربُه ويقول: أيْ عدوَّ اللهِ أقتلتَه؟ أمَا واللهِ لرُبَّ شحمٍ في بطنِك من ماله! قال مُحيِّصةُ: واللهِ لقد أمرني بقتلِه مَن لو أمرني بقتلِكَ لضربتُ عُنقَكَ، قال: فواللهِ إن كان لأولَ إسلامِ حُويِّصةَ، قال: آللهِ لو أمركَ محمدٌ بقَتْلي لَقتلْتَني؟ قال: نعم، واللهِ لو أمرَني بضربِ عُنقِك لضربتُها، قال (حويِّصةُ): واللهِ إنَّ دينًا بلغَ بك هذا لَعَجَبٌ! فأسلَمَ حويصةُ (¬1). بل يُثبِتُ الواقعُ أن المسلمين كانوا كلَّما ذلُّوا أمامَ أعدائِهم، زاد العدوُّ في ذِلَّتِهم، وكلما ارتمَى المسلمون في أحضانِ اليهودِ والنصارى - أو سواهم من مِلَلِ الكفر - صَغُروا في أعينِهم واستحوَذوا على خيراتِهم وزادوا في التدخُّلِ بشؤونهم {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} (¬2). ¬

(¬1) السيرة لابن هشام، الإصابة لابن حجر في ترجمة حويصة 2/ 304. (¬2) سورة الحج، الآية: 18.

ومن جانبٍ آخر يُقرِّر ابنُ القيِّم رحمَه اللهُ (¬1) أن علماءَ السوءِ كلَّما عَمَدُوا إلى تحليلِ ما حرَّمَ اللهُ تعالى بأدنى الحِيَلِ كان ذلك سببًا في الصدِّ عن دينِ الله تعالى وامتناعِ الكثيرِ من الدخولِ فيه. وفي مقابلة يُقرر شيخُه شيخُ الإسلام أن الإصرارَ والأغلالَ التي على أهلِ الكتاب، وإذلالَ المسلمين لهم، وأَخْذَ الجزيةِ منهم، قد يكون داعيًا لهم أن يَنظُروا في اعتقادِهم، هل هو حقٌّ أم باطل، حتى يتبينَ لهم الحقُّ، وقد يكون مُرغِّبًا لهم في الخروجِ من هذا البلاءِ، وقد يكون أسْرُهم - من قِبَلِ المسلمين - داعيًا لهم للنظرِ في محاسنِ الإسلام (¬2). إخوةَ الإسلام: وهنا لا بدَّ من التنبيهِ إلى أنه ليسَ من لوازمِ الولاءِ والبراءِ سوءُ المعاملةِ إنْ بالقولِ أو بالفعل، ولا التسلطُ والإيذاءُ - دون هدفٍ - بل إن حُسنَ التعامُلِ - دون تنازلٍ -، والعزةَ - دون استكبارٍ - والمداراةَ - دون المداهنةِ - والدعوةَ بالحكمةِ والموعظةِ الحَسَنة، والمجادلةَ بالتي هي أحسنُ - كلُّ ذلك يدعو غيرَ المسلمين للنظرِ في الإسلام، وكم من شعوبٍ دخلتِ الإسلامَ لإعجابِهم بأخلاقِ المسلمين وحُسْنِ تعاملِهم؛ وفي قصة ثُمامةَ بن أُثَالٍ رضي الله عنه - في السيرة - أو غيرِه ممن أَسلمَ من الأُممِ والشعوبِ عبرَ التاريخ عِبرةٌ لمن تأمَّلَ، ومعالمُ تُضيءُ الطريقَ لك. ثامنًا: وفي سبيلِ المواجهةِ مع أعدائِنا علينا أن نُفكِّرَ ونختارَ سُبُلَ المواجهةِ التي أعدَدْنا العُدَّةَ لها، وألا نَدَعَ الفرصةَ للعدوِّ ليختارَ نوعَ المعركةِ وزمانَها التي يريدُ، وقد لا نكونُ على استعدادٍ لخوضِها - لسببٍ أو لآخرَ -، لكن إذا فَرَضَ ¬

(¬1) في إعلام الموقعين 3/ 41. (¬2) جامع الرسائل 3/ 238 بتصرف. وانظر مقال د. عبد العزيز العبد اللطيف في جريدة البيان، رمضان 1422 هـ.

العدوُّ علينا المعركةَ - دون استعجالٍ منا - فعلينا ألا نتخاذلَ ونتلاومَ، بل نُسارِعُ لجميعِ القُوى واستنهاضِ الهِمَمِ، واستثمارِ الطاقات .. وعلينا كذلك - حينُ تُفرَضُ المعركةُ علينا - أن نُكثِّرَ جَمْعَنا بالإيمانِ واليقين، وأن نزيدَ من فاعليتِنا بالمَشُورة وتأليفِ القلوب، وجمعِ الكلمة، وألا تكونَ أفعالُنا وخطواتُنا ردودَ أفعالٍ بل خطواتٍ مدروسةً وبرامجَ وخِططًا - طويلةَ المدى، وساريةَ المفعولِ ولا يمنعُ ذلك من استخدامِ مسكِّناتٍ عاجلةِ المفعول حين تتصاعدُ الأزْمةُ. إن المعركةَ بيننا وبينَ أعداءنا طويلةُ الأجل، ولا ينبغي أن نستعجلَ النصرَ قبل أن نستعدَّ له، وليس بالضرورةِ - أن يتحققَ النصرُ على أيدينا - بل إنَّ من مسئوليتِنا أن نُسلِّمَ الأجيالَ بعدَنا رصيدًا من البرامجِ المدروسة ليقوموا بتنفيذِها في وقتِها، وعلى هذه الأجيالِ أن تُحسِنَ التعاملَ مع هذه البرامجِ، وأن تستمرَّ في تطويرِها ومتابعةِ رسمِ البرامج بعدها، وأن يجدوا في تاريخِنا نماذجَ وطرائقَ لجهادِ الأعداء بكل وسيلةٍ ممكنة. إنَّ من الخللِ أن نتَّهمَ دينَنا أو مناهجَنا - كلَّما حلَّتْ بنا مصيبةٌ - ومن الهزيمةِ أن يُوحيَ إلينا أعداؤنا ضرورةَ التغيير في هذه المناهجِ، لا إلى الأحسنِ بل لتفريغِها من محتواها العَقَديِّ والجهادي - مما يتخوَّفُ له الأعداءُ، وكم تُصابُ الأمةُ في مَقْتَلها حين يكونُ من أبنائِها مَن يُروِّجون لدعاوى الأعداءِ ويُحسِّنون للأُمة ما يريدُه الأعداءُ، ونحن في زمنٍ باتتْ هويةُ الأُمةِ جزءًا من كيانِها وسببًا لبقائها، والأعداءُ حين أفلسوا في سَحْقِ المسلمين عسكريًا باتوا يُخطِّطون لسحقِهم معنويًا، وإذا عُنيَ اليهوديُّ والنصرانيُّ والبُوذيُّ والشيوعيُّ وأشباهُهم بدياناتِهم ولغتِهم .. فهل يضعفُ أهلُ الإسلام وأصحابُ لغةِ القرآن عن أصَالتِهم ويستجيبوا لتوصياتِ أعدائِهم وأهوائِهم {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} (¬1). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 120.

عبادَ الله: ومثلُ ذلك يُقال فيما يريدُه الأعداءُ للمرأةِ المسلمةِ، وإيحاءاتُهم للبسطاءِ أنَّ رقيَّ المرأةِ وتطوُّرَها لا يكون إلا بنزعِ الحجابِ والاختلاطِ بالرجال، وهدمِ كيانِ الأسرة، وما يستتبعُ ذلك من خططٍ ماكرةٍ وأساليبَ ملتويةٍ تجعلُ من الأسوَدِ أبيضَ، ومن القبيح حسنًا .. ولكن مما يُفرِحُ أن فِئامًا من المسلمين باتتْ تدركُ سرَّ وأهدافَ مخططاتِ الأعداء .. ويظلُّ المنافقون والعِلْمانيون في العالم الإسلامي معوِّقين للأُمةِ ومُرجِفين بها ورجعًا للصَّدَى في صيحاتِ أسيادهم، ولكنَّ شموليةَ الوعي واتساعَ دائرةِ الخير والأخيار، وتغليبَ صوت الحكمةِ والعقل، وشيوعَ مصطلَح الأصالةِ ونبذَ مصطلحِ التبعيّةِ، وبروزَ الوجهِ الكالح للحضارة الغربيةِ وقيَمِها المادية - لا سيما في هذه الأزْمةِ - كلُّ ذلك مُعِينٌ بإذنِ الله على تجاوزِ الأزمةِ، وثباتِ الأُمة .. لكن مع بذلِ مزيدٍ من الجُهد والدعوةِ وعدمِ الاتكالية، أو الاكتفاءِ بالتلاومِ والتحسُّر، بل شعارُ كلِّ مسلم {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (¬1) وبمفهومِ العبادةِ الشامل، ودليلُ كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ ((أنتَ على ثَغْرةٍ من ثَغراتِ الإسلام، فاللهَ اللهَ أن يؤتَى الإسلامُ من قِبَلِك .. اللهمَّ اهدِنا وسدِّدْنا وباركْ في أعمالِنا وأعمارِنا وقِنَا شرَّ شِرارِ أعدائِنا. ¬

(¬1) سورة الحجر، الآية: 99.

الجنائز والقبور مشاهد صامتة

الجنائز والقبور مشاهد صامتة (¬1) الخطبةُ الأولى: إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. إخوةَ الإيمان: حَكَم اللهُ بالفناءِ على هذه الدنيا بما فيها من الحياةِ والأحياءِ وكتبَ له البقاءَ وحدَه، فقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (¬2)، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬3). والعِبرةُ بما بعدَ الموتِ، ومن وصايا أبي عُبيدةَ عامرِ بن الجرَّاح رضي الله عنه حين حضرتْه الوفاةُ بالشام على إثرِ إصابتِه بالطاعون في أرضٍ يُقال لها (عَمَواس) حين جمعَ المسلمين مودِّعًا لهم فقال: إنِّي مُوصِيكم بوصيةٍ فاقبَلُوها، فإنكم لن تزالوا بخيرٍ ما بقيتُم متمسِّكين بها وبعد موتِكم: أقِيموا الصلاةَ وآُتوا الزكاةَ، وصوموا وتصدَّقوا، وحُجُّوا، وتواضَعُوا، وتباذَلُوا، وتواصَوْا، وانصَحُوا أمراءكَم، ولا تغرَّنَّكم الدنيا، فإن أحدَكم لو عُمِّر ألفَ سنةٍ ما كان به بدٌّ من أن يصيرَ إلى مثلِ مَصِيري هذا الذي ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 11/ 11/ 1422 هـ. (¬2) سورة القصص، الآية: 88. (¬3) سورة الرحمن، الآيتان: 26، 27.

تَروْنَ، لأنَّ الله قد كتبَ الموتَ على بني آدم فهمُ مُتَوفَّوْنَ، وأكْيسُهم أطوَعُهم لربِّه وأعملُهم ليومِ معادِه (¬1). ثم استخلفَ من بعدِه معاذَ بنَ جبلٍ رضي الله عنه ليُصلِّيَ بالمسلمين وشاء الله - بعد فترةٍ وجيزةٍ من الزمن - أن يلحقَ معاذٌ بأخيه أبي عُبَيدة وأن يصيبَه ما أصاب صاحبَه .. وعلى فراشِ الموتِ، والناسُ يَغْدُون على معاذٍ يزورونَه ويدْعُونَ له بالعافيةِ والسلامة، كان يَعِظُهم ويذكِّرهم، ومما قاله لهم: أيها الناسُ: اعملوا وأنتم تستطيعون العملَ من قبلِ أن تتمنَّوا العملَ فلا تجدونَ إلى ذلك سبيلًا، أيها الناس: أَنفِقُوا مما عندَكم ليومِ مَعادِكم من قبلِ أن تَهلِكوا وتَذرُوا ذلك كلَّه ميراثًا .. ثم أوصاهم بالعلمِ تَعلُّمًا وتعليمًا وأبان لهم عن شيءٍ من فضلِ العلم، وفضائلِ العلماءِ حين قال: عليكم بطلبِ العلمِ فاطلُبوه وتعلَّموه فإنَّ طلبَه عبادةٌ، وتعلُّمَه لله خَشْيةٌ، ومذاكرتَه تسبيحٌ، والبحثَ عنه جهادٌ، وتعليمَه لمن لا يعلمُه صَدَقةٌ، وبذْلَه لأهلِه قُربةٌ .. إلى قوله: يرفع اللهُ عز وجل بالعلم أقوامًا فيجعلُهم في الخيرِ قادةً يُقتدَى بهم، وأئمةً في الخير يُقتَصُّ آثارُهم، ويُهتدَى بهدايتِهم وأفعالِهم، ويُنتَهى إلى رأيهم، ترغبُ الملائكةُ في خُلَّتِهم، وبأجنحتِها تمسحُهم، يستغفرُ لهم كلُّ رطبٍ ويابسٍ، وحيتانُ البحرِ وهوامُّه، وسباعُ البرِّ وأنعامُه، لأن العلمَ حياةُ القلوبِ من العَمَى ونورُ الأبصار من الظُّلمة، وقوةُ الأبدانِ من الضعف، يبلغُ العبدُ بالعِلم منازلَ الأبرار، ومنازلَ الملوك، والدَّرجاتِ العُلى في الدنيا والآخرة .. ألا وإن المتقينَ سادةٌ، والفقهاءَ قادةٌ (¬2). ¬

(¬1) الفتوح لابن أعثم الكوفي 1/ 238. (¬2) المصدر السابق 1/ 242، 243.

أيها المسلمون: كم تَنزِلُ بنا نوازلُ الموتِ من قريبٍ أو بعيدٍ، أو عالِمٍ أو عاميٍّ، ومن ذكرٍ أو أنثى، صغيرٍ أو كبيرٍ .. فهل تُحرِّكُ قلوبَنا للطاعةِ والتوبة، وهل نتذكَّرُ بها مقامَ الصِّدِّيقين والشهداءِ، ومنازلَ الفجارِ ومصيرَ الأشقياء هل نعتبرُ بمن مات فيكونَ الدرسُ بليغًا، والعبرةُ مُوقِظةً، وهل نتذكرُ أن الجنائزَ المحمولةَ يومًا كانت حاملةً. إن مشاهدَ القبورِ دروسٌ صامتة، وكم في القبورِ من وَحْشةٍ وأُنْس، ونعيمٍ أو عذاب، وإن عَفَى عليها الزمنُ، وتحوَّلتِ العظامُ إلى رميمٍ، واللحمُ الطريُّ إلى مخازنَ للدُّود؟ أجل إن الجنازةَ المحمولةَ موعِظةٌ للحامِلين، وذِكْرى للغافلين، وغدًا أو عن قريبٍ سيكونُ الحاملون للجنازةِ محمولِين. ولكن السؤالَ المهمَّ: ماذا حَمَلتِ الجنازةُ إلى مَثْواها الأخيرِ؟ إنها لا تحملُ من الدنيا شيئًا ولو كان صاحبُها يملكُ القناطيرَ المقنطرةَ من الذهب والفضةِ والنقودِ والعَقَار والأنعامِ والحَرْثِ، ولا تحملُ من البأسِ شيئًا ولو كان صاحبُها - من قبلُ - من أشجعِ الناسِ وأحكمِ الناس وأصبرِ الناسِ وأكثرِهم دهاءً وحِيلةً، وما أضعفَ موقفَ صاحبِ الجنازةِ حين السؤالِ وليس له من مُجِيرٍ ولو كان في الدنيا يُحاطُ بالبنينِ والحَشَم والخدم، ولو كان صاحبَ جاهٍ وسلطانٍ وصولجانٍ وخِلَّان {فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} (¬1)، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (¬2) وما أعظمَ الهولَ حين يُنفَخُ في الصورِ، وربُّنا تبارك وتعالى يقول: ¬

(¬1) سورة سبأ، الآية: 42. (¬2) سورة المدثر، الآية: 38.

{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} (¬1)! عبادَ الله: إن مشاهدَ الموتى وأخبارَ الجنائزِ موقِظةٌ للقلوبِ الحيَّة، فكيف إذا كانت الجنازةُ مشهودةً، والميِّتُ عالِمًا من علماءِ السُّنّة، ومن أهلِ الجهادِ بالكلمة؟ إن موتَ عالِمٍ ثُلْمةٌ في الدِّين، والخَطْبُ أعظمُ حين تكون الأُمةُ المسلمةُ محاطةً بالخُطوب، مهدَّدةً من قِبَلِ الأعداءِ. إن الأمةَ في ظرفِ محنتِها وفي أحوالِ شدائدِها أحوجُ ما تكون إلى علماءَ صادقين يقوُّون من عزائِمها، ويدافعون عن حِياضِ عقيدتِها، يُنبِّهون إلى مكرِ الأعداء، ويكشِفون للأُمة خُططَ الأدعياء؟ إن حاجةَ الأمةِ ماسَّةٌ إلى كلمةِ حقٍّ يُدافَعُ بها عن غَشمٍ ويُنتصَرُ بها لمظلوم. أما حين تجتمعُ المِلَلُ الكافرةُ على الإسلامِ وأهلِه، فتلك النازلةُ تحتاج إلى رصِّ الصفوف، وتوحيدِ السِّهام، وجمعِ الكلمةِ واستثمارِ كلِّ طاقةٍ في الأُمة. كم هو مؤلمٌ حين تُصبِحُ البلادُ الإسلاميةُ مَرتَعًا لخُططِ العَلْمنة والتغريب، وهدفًا للعولمةِ وطمسِ الهويةِ المسلمةِ، هنا يلتفتُ الناسُ بحثًا عن منقِذِين للسفينةِ قبلَ الغرق، وحفاظًا على الأرواحِ قبل أن تُزهَقَ، وعلى القيمِ والمبادئِ الإسلاميةِ قبل أن تُلوَّثَ أو تُجتَثَّ؟ ! وما أَحْرى العلماءَ والدعاةَ وطلبةَ العلمِ بالقيام بهذا الدَّورِ، فهم مصابيحُ ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآيات: 101 - 104.

الهدى، وعليهم أُخِذَ الميثاقُ بالبيانِ وعدمِ الكِتْمان - ولكن ذلك لا يُعفِي غيرَهم من المسؤوليةِ والبيانِ ((فمنَ رأى منكم مُنكَرًا فليغيِّرْه بيدِه، فإن لم يستطعْ فبلسانِه، فإن لم يستطعْ فبقلبِه وذلك أضعفُ الإيمان)). إن الناظرَ في واقعِنا اليومَ لَيُدرِكُ أن الأمةَ مستهدَفةٌ في عقيدتِها وقيمِها، بل وفي أصلِ وجودِها، والنائمون إذا لم يستيقِظوا على هذه الضَّرباتِ الموجِعةِ هنا وهناك فمتى يستيقظون؟ لا سيما وأعداءُ المِلَّةِ قد أعلَنُوها وقد رسموا فصولَها وحدَّدوا مراحلَ وأولوياتٍ لضرب العالمِ الإسلاميِّ والدعواتِ الإسلامية؟ وإذا كانت الحركاتُ الجهاديةُ هدفَهم الأولَ، فستكون الحركاتُ والمنظَّماتُ والهيئاتُ الإسلامية هدفَهم الآخِر، ويمكرون ويمكرُ الله واللهُ خيرُ الماكرين، وصدق اللهُ: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة التوبة، الآيتان: 32، 33.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ لله العليِّ الأعلى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الأسماءُ الحُسْنى والصِّفاتُ العُلَى، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه طاب حيًا وميتًا، اللهم صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين. إخوةَ الإسلام: ما رُزئَ المسلمون بفَقْدِ أحدٍ كما رُزِئوا بفقدِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومِن فِقْه أبي بكرٍ وحصافةِ رأيِه أنه جاء إلى المسلمين والمصابُ فيهم بلغَ مبلغَه .. فتقدَّمهم خطيبًا وقال: أيها المسلمون، من كان يعبدُ محمدًا فإن محمدًا قد ماتَ، ومن كان يعبدُ اللهَ فإن الله حيٌّ لا يموتُ .. ثم تلا قولَه تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (¬1). وأبو بكرٍ أقربُ الناسِ إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأكثرُهم خُلَّةً له وأعظمُهم إيمانًا به وبما جاء به - لكنه الفِقهُ والثباتُ ومواصلةُ الطريقِ الذي ابتدأَه، وفعلًا قام أبو بكرٍ بالمهمَّةِ والدعوةِ إلى الإسلام وحَفَلَتْ خلافتُه القصيرةُ الأمدِ بجلائلِ الأعمالِ، ومن أعظمِها حربُ المرتدِّين وتثبيتُ الدِّين في قلوب المرتابين بعد موتِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وجمعُ القرآن، وابتدأَ حركةَ الفتحِ الإسلاميِّ في الشامِ والعراق. والأمةُ على مرِّ العصور كانت تفقِدُ خِيرةَ رجالاتِها، فلا تهِنُ عزائمُهم ولا يتوقَّفُ مدُّهم .. بل هي أُمةُ أبدالٍ .. أمةٌ وَلُودٌ كلَّما مات سيدٌ منها قامَ آخرُ وهكذا. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 144.

وإذا كان من حقِّ الأمواتِ على الأحياءِ المسلمين أن يُذكِّروهم بالخيرِ وأن يترحَّموا عليهم، فلا ينبغي لأحدٍ أن يظنَّ أن الدِّينَ سيَضعُفُ بموت فلانٍ، أو أن الدعوةَ ستتوقَّفُ لرحيلِ فلان .. ذلكم لأنَّ في المسلمين خيرًا والحمدُ لله .. وقد يَنشَطُ جمعٌ من الناسِ لموتِ واحد، بل حصلَ أكثرُ من هذا في تاريخِ وَفياتِ الأعيانِ من المسلمين حين أسلمَ جمعٌ من اليهودِ والنصارى على إثرِ هذه الوفياتِ، فضلًا عن توبةِ مَن تابَ من المسلمين، وانبعاثِ نفرٍ من المسلمين للعِلْم والدعوة. وفي المقابلِ لا ينبغي للأحياءِ أن يتجنَّوْا على الأموات بعدَ مماتِهم فينسُبوا إليهم ما ليس فيهم، أو يُحمِّلوهم ما لم يتحمَّلوا، وإذا كانت غِيبةُ المسلم لا تجوزُ بنصِّ القرآن والسُّنّة، فالبُهْتان أعظمُ جُرْمًا وأغلظُ تحريمًا. ومَن دافعَ عن عِرضِ أخيه المسلم كان أجرُه على الله، وفي الحديث: ((مَن ذبَّ عن عِرضِ أخيه بالغِيبة كان حقًا على اللهِ أن يُعتِقَه من النار)) رواه أحمدُ وغيره (¬1). إنَّ العصمةَ قد انقطعتْ بعدَ الأنبياء، وكلُّ أحدٍ بعدَهم يُؤخَذُ من كلامِه ويُردُّ، وما فتِئَ العلماءُ قديمًا وحديثًا يردُّ بعضُهم على بعضٍ لكن بهدفِ بيان الحقِّ، ومع الأدبِ والتقدير، وإنَّ المحذورَ تقصُّدُ الردِّ للتشفِّي والتجاوزُ في التُّهمَ، وتناسي ما للمردودِ عليه من فضائلَ، فذلك الذي يُثيرُ الأحقادَ ويبعثُ على الضغائن ويُشِيعُ التُّهَمَ بالباطل، واللهُ تعالى حرَّمَ الظلمَ على نفسِه وجعلَه بينَ عبادِه محرَّمًا. وقد أمر سبحانه بالعدلِ مع الأعداء. عبادَ اللهِ: ثمةَ تنبيهاتٌ وملاحظاتٌ على حضورِ الجنائزِ وتشييعِها؛ ومنها: ¬

(¬1) وهو في صحيح الجامع 5/ 290.

أولًا: أن يكونَ الدافعُ لشهودِ الجنازةِ احتسابَ الأجرِ عندَ الله والناسُ يختلفون في الباعثِ على اتِّباعِ الجنائز، لكنّ الأجرَ المذكورَ فيها خاصٌّ بمن اتَّبعَها إيمانًا بوعدِ الله واحتسابًا للأجرِ، وفي ((صحيحِ البخاريِّ)) عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ((من اتبع جَنَازةَ مسلمٍ إيمانًا واحتسابًا وكان معه حتى يُصلَّى عليه ويُفرَغَ من دفنِها، فإنه يرجعُ من الأجرِ بقِيراطَينِ كلُّ قيراطٍ مثلَ أُحدٍ، ومَن صلَّى عليها ثم رجعَ قبل أن تُدفنَ، فإنه يرجعُ بقيراطٍ)) (¬1). فهل تَستحضرُ هذه النيةَ - أخي المسلمَ - حين تشهدُ جنازةَ مسلمٍ، ليحصلَ لك هذا الأجرُ العظيم؟ ثانيًا: التزاحمُ على النَّعشِ وكثرةُ الحاملينَ للجنازةِ، عن قَتَادةَ قال: شهدتُ جنازةً فازدَحَمُوا على الجنازةِ، وقال أبو السَّوَّار العَدَوي: نرى هؤلاءِ أفضلَ أو أصحابَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، كان أحدُهم إذا رأى مَحمَلًا حَمَل، وإلا اعتزلَ ولم يُؤْذِ أحدًا (¬2). وقال مباركُ بنُ فَضَالةَ: حضر الحسنُ البصريُّ جنازةَ بكرِ بنِ عبدِ اللهِ - أحدِ الأئمةِ الثِّقاتِ من سادةِ التابعين - وكان على حمارٍ، فرأى الناسَ يزدحمون، فقال الحسنُ: (ما يُوزَرون أكثرُ مما يُؤجَرون، كانوا - لعلَّه يقصدُ الصحابةَ - ينظرونَ فإنْ قَدَرُوا على حَمْلِ الجنازةِ أعقَبُوا إخوانَهم) (¬3). وقد عدَّ ابن حَزْمٍ رحمَه اللهُ التزاحمَ على الجنازةِ من البِدَع (¬4)، وفي ¬

(¬1) البخاري (47)، أحمد الزومان: من أحكام الجنائز، 6. (¬2) رواه ابن أبي شيبة 3/ 367، وإسناده صحيح، أحمد الزومان: من أحكام الجنائز ص 7. (¬3) الذهبي، سير أعلام النبلاء 5/ 535، وانظر: ابن سعد: الطبقات 7/ 211. (¬4) المحلى 5/ 178.

((حاشيةِ الروض المُربِع)) لابن قاسم قال: ولو كان ازدحامُ الحاملين مسنونًا لتوفَّرتِ الهِممُ والدواعي على نقلِه، نقلًا لا يَقبَلُ الاختلافُ، ولكان السلفُ الأوَّل أَوْلى بالمسارعةِ إليه، فعُلِم أنه لم يكن الأمرُ كذلك وأن الازدحامَ الموجبَ للدَّبيبِ بها بدعةٌ، لمخالفةِ الإسراع المأمورِ به (¬1). ثالثًا: اللغطُ وارتفاعُ الأصواتِ في المقابرِ ليس من هَدْيِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ولا هديِ أصحابِه، بل كان شأنُهم السكونَ والخشوعَ، وفي حديثِ البراءِ ابنِ عازبٍ رضي الله عنه قال: خرجْنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في جَنازةِ رجلٍ من الأنصار، فانتهَيْنا إلى القبرِ ولم يُلحَدْ، فجلسَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وجلسْنا حولَه، وكأنَّ على رؤوسِنا الطيرَ. رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكمُ وصححه ووافقه الذهبي (¬2). وقولُه: ((وكأنَّ على رؤوسِهم الطيرَ)) وَصَفَهم بالسكونِ والوَقارِ، لأن الطيرَ لا تكاد تقعُ إلا على شيءٍ ساكن، وكان عثمانُ رضي الله عنه إذا وقفَ على القبرِ يبكي حتى يبلَّ لحيتَه. رواه الترمذي وابنُ ماجه وحسَّنه الحافظ ابن حجر والألباني (¬3). ¬

(¬1) حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع، لابن قاسم 3/ 109. (¬2) المستدرك 1/ 38. (¬3) انظر: الفتوحات 4/ 193، صحيح سنن ابن ماجه 2/ 421، أحمد الزومان: من أحكام الجنائز، ص 20.

فقه الجنائز

فقه الجنائز (¬1) الخطبةُ الأولى: الحمدُ لله ربِّ العالمين جعلَ لكل شيءٍ قَدَرًا، وخَلَق الموتَ والحياةَ ليبلُوَكم أيُّكم أحسنُ عملًا، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له جعلَ الليلَ والنهارَ خِلْفةً لمن أراد أن يَذَّكَّرَ أو أرادَ شكورًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه توفَّاه ربُّه بعد أن أكملَ به الدينَ ونشر رحمتَه في العالمين - اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلين، وارضَ اللهمَّ عن صحابتِه أجمعين، والتابعينَ ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. أيها المسلمون: حين يكونُ الحديثُ عن الموتِ والجنائزِ فذاك حديثٌ إلى كلِّ واحدٍ منا، وتذكيرٌ بمصيرِنا جميعًا، ولا مَفرَّ من الموتِ ولو رَغِبْنا {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} (¬2) وإذ كان كأسُ الموتِ مَشربَنا جميعًا، فالسعيدُ منا من زُحزِحَ عن النار وأُدخِل الجنةَ فقد فاز، وما الحياةُ الدنيا إلا متاعُ الغُرور. إخوةَ الإسلام: ومع ما في ذِكْر الموت من تليين القلوبِ والزهدِ في الدنيا، ولذا كانت وصيةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثِروا ذِكرَ هاذِم اللذاتِ)) يعني الموتَ (¬3). ففي ذكرِ الجنائز تنبيهٌ على أمورٍ يَحسُن التنبُّهُ لها، وتحذيرٌ من أمورٍ ينبغي الحذرُ منها، وقد نَغفُلُ حين تقعُ المصيبةُ عن هذا أو ذاك، وهذه بعضُ الوَقَفاتِ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 18/ 11/ 1422 هـ. (¬2) سورة الجمعة، الآية: 8. (¬3) صحيح سنن الترمذي 2/ 266، صحيح سنن ابن ماجه 2/ 419.

والتنبيهاتِ حولَ الموتِ والجنائز: أولًا: مَنْ أَكْيسُ الناسِ؟ سألَ رجلٌ من الأنصار رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيُّ المؤمنين أفضلُ؟ قال: ((أحسنُهم خُلُقًا)) قال: فأيُّ المؤمنين أَكْيسُ؟ [أي أعقلُ] قال رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثرُهم للموتِ ذِكْرًا، وأحسنُهم لِمَا بعدَه استِعدادًا، أولئك الأكياسُ)) حديث حسن (¬1). وهكذا فالكيِّسونَ لا يَكتفُون بذِكْرِ الموت، بل يُحسِنُون الاستعدادَ له. ثانيًا: لماذا الخوفُ من القبرِ؟ في ((صحيحِ سنن التِّرمذيِّ))، و ((صحيحِ سنن ابن ماجه)): أن عثمان بن عَفَّانَ رضي الله عنه كان إذا وقفَ على قبرٍ بكى، حتى يَبُلَّ لحيتَه، فقيل له: تَذكُرُ الجنةَ والنارَ فلا تبكي وتبكي مِن هذا؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ القبرَ أولُ مَنزِلٍ من منازلِ الآخرةِ، فإنْ نَجَا منه فما بعدَه أَيسرُ منه، وإن لم يَنْجُ منه فما بعدَه أشدُّ منه)) قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما رأيتُ مَنظَرًا قطُّ إلا القبرُ أفظعُ منه)) (¬2). فهل نتذكَّرُ هَوْلَ هذا المنظرِ ونستعدُّ لما بعدَه، وهل ننظرُ للقبورِ حين نزورُ المقابرَ بهذه النظرةِ الواعيةِ العاملة؟ ثالثًا: حُسْنُ الظنِّ بالله دائمًا ولا سيما عند نزولِ الموت، وهذا الخوفُ من القبرِ وما بعدَه لا ينبغي أن يُغيِّبَ عَنَّا حُسنَ الظنِّ بالله ورجاءَ عفوِه ومغفرتِه، مع الخوفِ منه وحُسنِ العملِ له، فقد دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم على شابٍّ وهو في الموتِ فقال: ((كيف تَجِدُك؟ )) قال: أرجُو اللهَ يا رسول الله، وأخافُ ذُنوبي، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يَجْتمعانِ في قلبِ عبدٍ - في مثلِ هذا الموطنِ - ألا أعطاه ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 419. (¬2) صحيح سنن الترمذي 2/ 267، صحيح سنن ابن ماجه 2/ 421.

اللهُ ما يَرجُو، وآَمَنَه مما يخافُ)) (¬1)، وفي ((صحيح مسلم)) قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يَمُوتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسِنُ الظنَّ باللهِ)). رابعًا: حضورُ الميِّت وتلقينُ المحتضَرِ، كم يتهاونُ البعضُ منّا، أو يتخوَّفُ في حضورِ المُحتضَرِين! أو نَحضرُ دون أن يستفيدَ الأمواتُ من حضورِنا، وفي صحيح مسلمٍ قال صلى الله عليه وسلم: ((لَقِّنُوا مَوتاكُم لا إله إلا الله)) (¬2)، وهذه الساعاتُ لها ما بعدَها. وفي حديث معاذٍ رضي الله عنه: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَن كان آخرُ كلامِه لا إله إلا اللهُ، دَخَلَ الجنةَ)) (¬3). ومِن هنا يتبيَّن أهميةُ حضورِ الموتى وإعانتِهم وتذكيرِهم على النُّطقِ بالشهادة، فذلك من حقوقِ المسلمِ على أخيه، قال القُرْطبيُّ رحمه الله: وفي أمرِه عليه الصلاة والسلام بتلقينِ الموتى ما يدلُّ على تعيُّنِ الحضورِ لتذكيرِه وإغماضِه والقيامِ عليه، وذلك من حقوقِ المسلمِ على المسلمين (¬4). والتلقينُ ينبغي أن يكونَ برِفْقٍ ودونَ إكثارٍ على المحتَضَر، فقد رُوي عن ابن المبارَك رحمه الله أن رجلًا حَضَرَه عند الوفاةِ فجعل يُلقِّنه لا إله إلا الله، وأكثَرَ عليه فقال له عبدُ الله: إذا قلتُ مرةً فأنا على ذلك ما لم أتكلَّم بكلام (¬5). ¬

(¬1) حديث حسن: صحيح سنن ابن ماجه 2/ 420، السلسلة الصحيحة 1051. (¬2) حديث رقم (916). (¬3) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي في المستدرك 1/ 351. (¬4) المفهم 2/ 570، أحكام الجنائز، الزومان/ 4. (¬5) سنن الترمذي 3/ 307، 308، الزومان/ 3. وعلى من حضر عند من به نَزْعُ الموتِ أن يدعوَ له ولا يقولَ في حضوره إلا خيرًا قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا حضرتم المريضَ أو الميتَ فقولوا خيرًا فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون)) رواه مسلم 917.

خامسًا: والوصيةُ لا تقرِّبُ الموتَ ولا تبعدُه، ويخطئُ بعضُ الأموات حين يتراخَوْنَ في الوصيةِ حتى يَبغَتَهم الموتُ فجأةً، والرسولُ صلى الله عليه وسلم يُذكِّر المسلمين بهذه الوصيةِ ويقول: ((ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يُوصِي فيه يَبِيتُ ليلتينِ إلا ووصيَّتُه مكتوبةٌ عندَه)) (¬1). ويَحرُمُ الإضرارُ بالوصيةِ كأن يُوصِيَ لبعضِ الوَرَثةِ أو يُفضِّلَ بعضَهم على بعض، وعلى مَن عَلِمَ من مُوصٍ جَنَفًا أو إضرارًا أن يذكِّرَه ويخوِّفَه بالله، وعلى الموصَى له أن يُصلحَ الوصيةَ لتكونَ وَفْقَ المشروعِ كما قال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2). قال ابن كثيرٍ: وأحسنُ ما وردَ في النهيِ عن الحَيْفِ في الوصيةِ قولُه صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الرجل ليعملُ بعملِ أهلِ الخير سبعينَ سنةً، فإذا أوصَى حافَ في وصيِته فيُختَمُ له بشرِّ عمله فيدخلُ النارَ، وإنَّ الرجلَ ليعملُ بعملِ أهلِ الشرِّ سبعينَ سنةً فيعدِلُ في وصيتِهِ فيُختَمُ له بخيرِ عملِه فيدخلُ الجنةَ)) قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (¬3). سادسًا: فإذا مات الميتُ شَخَصَ بصرُه إلى السماء؛ لأنَّ البصرَ يَتبعُ الروحَ، ولذا يُسَنُّ تغميضُ عينَي الميت، وأن يُغطَّى بما يَستُر جميعَ بدنِه إلا من كان مُحْرِمًا فلا يُغطَّى رأسُه ولا وجهُه، ويُعجَّل بتجهيزِه والإسراع في دفنِه، وفي الحديث: ((أَسرِعوا بالجَنازةِ، فإنْ تكُ صالحةً فخيرٌ تُقدِّمونَها إليه، وإنْ تكُ سوى ذلك فشرٌّ تَضعُونَه عن رقابِكم)) متفق عليه (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري 3/ 186. (¬2) سورة البقرة، الآية: 182. (¬3) سورة البقرة، الآية: 229. وانظر تفسير ابن كثير عند آية البقرة 182 - 1/ 305. (¬4) صحيح الجامع الصغير 1/ 325.

وفي ((صحيحِ البخاريَّ)) وغيرِه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا وُضِعَتِ الجنازةُ واحتملَها الرجالُ على أعناقِهم، فإنْ كانت صالحةً قالت: قَدِّموني وإن كانت غيرَ صالحةٍ قالت لأهلها: يا ويلَها أين تذهبونَ بها؟ يَسمَعُ صوتَها كلُّ شيءٍ إلا الإنسانَ، ولو سمعَها الإنسانُ لصَعِقَ)) (¬1). وحين تُوضَعُ الجنازةُ في القبر يُسنُّ القولُ: باسمِ الله على سنَّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم (¬2). ومن السُّنة إدخالُ الميتِ القبرَ من قِبَلِ رِجْلَي القبرِ. سابعًا: ويجوزُ الإخبارُ عن الميتِ ليكثُرَ المصلُّون عليه، لا للمباهاةِ بل للدعاءِ له، وفي الحديث ((ما من ميّتٍ تُصلِّي عليه أُمّةٌ من المسلمينَ يَبلُغونَ مئةً كلُّهم يَشفَعُون له إلا شُفِّعوا فيه)) رواه مسلم. وروى مسلمٌ - أيضًا - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما مِن رجلٍ مسلمٍ يموتُ فيقومُ على جنازتِه أربعونَ رجلًا لا يُشرِكُون بالله شيئًا، إلا شَفَّعَهم اللهُ فيه)). ومن فاتته الصلاةُ على الميتِ في المسجد فليصلِّ عليها في المقبرةِ أو على القبرِ بعد دفنِه - وكَرِهَ بعضُهم ذلك وقتَ النهي بعد دفنِه؛ كابن عثيمين رحمه الله. ومن فاتته بعضُ صلاةِ الجنازة فإنه يقضيهِ في الحالِ، فإذا أدركَ مع الإمام التكبيرةَ الثالثةَ فإنه يُكبرُ ويقرأُ الفاتحةَ، وإذا كبَّر الإمامُ الرابعةَ فإنه يُكبِّر الثانيةَ - بالنسبة له - ويُصلِّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإذا سلَّمَ الإمامُ كبّرَ الثالثةَ ودعا للميتِ، ثم يُكبّر الرابعةَ ويُسلِّم (¬3). وفي الصلاةِ على الجنازةِ وحضورِها حتى تُدفنَ قِيراطانِ، وفي الصلاةِ ¬

(¬1) صحيح الجامع 1/ 289. (¬2) صحيح الجامع الصغير 1/ 289. (¬3) نُقل ذلك عن الشيخ ابن باز رحمه الله، الشيخ صالح الخضيري، فقه الجنائز (خطبة).

قيراطٌ، والقِيراطُ مثل أُحدٍ، ولا بدَّ من الإخلاصِ والاحتسابِ في ذلك لقولِه صلى الله عليه وسلم: ((مَن تَبعَ جنازةَ مسلمٍ إيمانًا واحتسابًا))، وحين سمع ابنُ عمرَ رضي الله عنهما من أبي هريرة رضي الله عنه حديثَ القيراطَينِ في الجنائز قال: لقد فرَّطْنا في قراريطَ كثيرةٍ. وإذا قال هذا أمثالُ ابنِ عمرَ، فماذا يقولُ أمثالُنا؟ ممّن يُفرِّط في قراريطَ كثيرةٍ. ثامنًا: إخوةَ الإيمان: وعلى أهل الميتِ أن يَصبِرُوا عند المصيبةِ وأن يحتسبوا الأجرَ على الله، فلا تَسخُّطَ ولا جَزَعَ ولا نياحةَ؛ بل رضا وصبرٌ وحَمْدٌ واسترجاعٌ ألا وإنها البِشارةُ للصابرين {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬1). وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما مِن مُسلمٍ تُصِيبُه مصيبةٌ فيقولَ ما أمرَه اللهُ: إنا للهِ وإنا إليه راجعونَ، اللهمَّ أجُرْني في مُصِيبَتي، وأَخلِفْ لي خيرًا منها، إلا أخلفَ اللهُ له خيرًا منها)) رواه مسلم. وتَحرُم النياحةُ على الميت، وهي من كبائرِ الذنوبِ ومن صفاتِ أهل الجاهلية، وهي فوقَ البكاءِ، وذلك بوقوفِ النساءِ متقابِلاتٍ يَصِحْنَ ويضربنَ وجوهَهنَّ ويَحثيِنَ الترابَ على رؤوسهنَّ، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال عن النائحةِ: ((النائحةُ إذا لم تَتُب قبلَ موتِها تُقامُ يومَ القيامةِ وعليها سِرْبالٌ من قَطِرانٍ ودِرْعٌ من جَرَبٍ)) رواه مسلم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (¬2). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيات: 155 - 157. (¬2) سورة الأنبياء: الآيتان: 34، 35.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ لله خَلَقَ الموتَ والحياةَ ليبلوَكم أيُّكم أحسنُ عملًا وهو العزيزُ الغفورُ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له أماتَ وأحيى، وخَلَق الزوجينِ الذكرَ والأنثى من نُطْفةٍ إذا تُمْنَى وأنَّ عليه النَّشأةَ الأخرى، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه أَوحى إليه ربُّه فيما أَوحى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (¬1) اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين. إخوةَ الإسلام: مشهدٌ غائبٌ وفجأةً يَحضُر، وآمالٌ بعيدةٌ والآجالُ دونَها، ويحَكَ يا ابنَ آدمَ حين يأخذُك الموتُ على غِرّةٍ ودونَ استعدادٍ ليوم المَعَاد، أين أنت من ظُلْمة القبرِ ووَحْشتِه، ومن هَوْلِ الحساب وعَرَصاتِ القيامة، فذاكَ الذي تَشِيبُ له النواصي، وتَذهلُ المراضعُ عمّا أرضَعَتْ، وتضعُ كلُّ ذاتِ حَمْلٍ حملَها، ألا وأنَّ القبرَ أولُ مشاهدِ القيامةِ، وعنه قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الميتَ يصيرُ إلى القبرِ فيُجلَسُ الرجلُ الصالحُ في قبرِه غيرَ فَزِعٍ ولا مِشعُوف، ثم يقال له: فيمَ كنتَ؟ فيقول: كنتُ في الإسلام، فيُقال له: ما هذا الرجلُ؟ فيقول: محمدٌ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، جاءنا بالبيِّناتِ من عندِ الله فصدَّقْناه، فيُقال له: هل رأَيتَ اللهَ؟ فيقول: ما ينبغي لأحدٍ أن يَرَى اللهَ، فيُفرَج له فُرْجةٌ قِبَل النار فيَنظرُ إليها يَحطِمُ بعضُها بضعًا فيُقال له: انظُرْ إلى ما وَقَاكَ اللهُ، ثم يُفرَج له قِبلَ الجنة فينظرُ إلى زَهْرتِها وما فيها فيُقال له: هذا مقعدُك، ويقال له: على اليقينِ كُنتَ، وعليه مُتَّ، وعليه تُبعَثُ إن شاء الله، ويُجلسَ الرجلُ السوءُ في قبرِه فَزِعًا مِشْعُوفًا، فيُقال له: فيم كُنتَ؟ فيقول: لا أدري، فيُقال له: ما هذا الرجلُ؟ فيقولُ: سمعتُ الناسَ يقولون قولًا فقلتُه، فيُفرَج له قِبَلَ الجنةِ، فينظرُ إلى زَهرتِها وما ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 30.

فيها، فيقال له: انظُرْ إلى ما صَرَفَ اللهُ عنك، ثم يُفرَج له فُرْجةٌ قِبلَ النارِ، فينظرُ إليها يحطِمُ بعضُها بعضًا، فيُقال له: هذا مقعدُك، على الشكِّ كنتَ، وعليه مُتَّ، وعليه تُبعَثُ إن شاءَ الله)) (¬1). تاسعًا: أيها المسلمون: تَذكَّروا حين تدخلون المقبرةَ أنها دارُكم، وحين تَرَوْنَ القبورَ أنكم بعد حينٍ ستَلحَقُون بهم، ولذا فالمشروعُ حين تدخلون المقبرةَ أن تَدُعوا لهؤلاءِ الأمواتِ ولأنفسِكم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعلِّمُ أصحابَه كيف يدعونَ ويقول: ((السلامُ عليكم أهلَ الديارِ من المؤمنينَ والمسلمينَ، وإنّا إن شاء اللهُ بكم لاحقونَ، نسألُ اللهَ لنا ولكم العافيةَ)) رواه مسلم. أو نحوَ ذلك من الأدعيةِ الصحيحةِ في زيارةِ المقابر. أما الجنازةُ التي دفنتموها فادْعُوا لصاحبِها واستَغفِرُوا له وسَلُوا اللهَ له الثباتَ، فقد كان من هَدْي النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذا فَزَعَ من دفنِ الميت أن يقفَ عليه ويقول: ((استَغفِرُوا لأخيكم، وسَلُوا له التثبيتَ، فإنه الآن يُسألُ)) (¬2). وإياكم معاشرَ المسلمينَ أن تَمتهِنُوا القبورَ بالوَطْء أو الجلوسِ عليها ونحوِ ذلك، وفي ((صحيحِ مسلم)) من حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لأنْ يجلسَ أحدُكم على جَمْرةٍ فتَحرِقَ ثيابَه فتَخلُصَ إلى جلدِه خيرٌ له من أن يجلسَ على قبرٍ)) (¬3). عاشرًا: التعزيةُ المشروعةُ وثوابُها: من السُّنةِ تعزيةُ أهلِ الميتِ، ومعناها الدعاءُ لهم، وتسليتُهم وتصبيرُهم؛ والتعزيةُ المشروعةُ مشهَدٌ من مشاهدِ التكافلِ ¬

(¬1) رواه ابن ماجه وغيره بإسناد صحيح، صحيح سنن ابن ماجه 2/ 422. (¬2) رواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه ابنُ حجر في الفتوحات، والنووي في الخلاصة، وغيرُهم - أحمد الزومان/ 15. (¬3) الحديث رقم 971.

الاجتماعي، وصورةٌ معبِّرةٌ لترابُطِ المسلمين، وإحساسُ بعضِهم بمشاعرِ إخوانِهم، وفي ثوابِها وَرَدَ الحديثُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ما مِن مؤمنٍ يُعزِّي أخاه بمُصيبتِه إلا كَسَاهُ اللهُ عز وجل من حُلَلِ الكرامةِ يومَ القيامةِ)) (¬1). حادي عشر: وثمةَ إحدادٌ مشروعٌ وآخرُ محظورٌ، وعنه قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِر أن تُحِدَّ على ميتٍ فوقَ ثلاثِ ليالٍ، إلا على زوجٍ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا)) متفقٌ عليه. قال سماحةُ الشيخِ ابنِ بازٍ رحمه الله: جَرَتْ عادةُ الكثيرِ من الدول الإسلاميةِ في هذا العصرِ بالأمرِ بالإحداد على من يموتُ من الملوكِ والزعماءِ لمدة ثلاثةِ أيامٍ أو أقلَّ أو أكثرَ، مع تعطيلِ الدوائرِ الحكومية وتنكيسِ الأعلامِ، ولا شكَّ أن هذا العملَ مخالفٌ للشريعةِ المحمَّدية، وفيه تشبيهٌ بأعداءِ الإسلام، وقد جاءت الأحاديثُ الصحيحةُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تَنهَى عن الإحداد وتُحذِّرُ منه إلا في حقِّ الزوجة فإنها تُحِدُّ على زوجِها أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، كما جاءتِ الرخصةُ عنه صلى الله عليه وسلم للمرأةِ خاصةً أن تُحِدَّ على قريبِها ثلاثةَ أيام، أما ما سوى ذلكَ من الإحدادِ فهو ممنوعٌ شرعًا (¬2). ثاني عشر: إخوةَ الإسلام: تذكَّروا موتاكُم ولا يكنْ دفنكم لهم آخرَ العهدِ بهم، فكم هم بحاجةٍ إلى دعائِكم وصَدَقاتِكم وزيارتِكم، وصِلَةِ أصحابِهم، إلى غيرِ ذلك من قُرُباتٍ مشروعةٍ للأموات، فهم رُهنَاءُ في قبورِهم، فلا تَبخَلُوا عليهم وعلى أنفسِكم، ألا وإنَّ بإمكانِكم - معاشرَ الأحياء - أن تتسبَّبُوا اليومَ فيما يعودُ عليكم نفعُه وأَجرُه بعد مماتِكم، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ مما يلحقُ ¬

(¬1) رواه ابن ماجه، وحسن النووي إسناده في ((الأذكار)) صالح الخضيري، من فقه الجنائز. (¬2) الفتاوى 1/ 415، أحمد الزومان: من أحكام الجنائز/ 21.

المؤمنَ من عملِه وحَسناتِه بعد موتِه عِلمًا عَلَّمَه ونَشَرَه، وولدًا صالحًا تركَه، ومُصحَفًا وَورَّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناه، أو نهرًا أَجْراه، أو صدقةً أخرجَها من مالِه في صحَّتِه وحياتِه يَلحقُه من بعدِ موتِه)) أخرجه ابنُ ماجه بسند حسن (¬1). عبادَ الله: كم تقرَعُ أسماعَنا أخبارُ الموتى، فهذا حريقٌ وهذا غريقٌ، وذاك بحادثٍ، وآخرُ فجأةً، وخامسٌ عانى من المرضِ حتى وفَّى الأجلَ، موتٌ جماعي، وآخرُ فردي، موتٌ في الأطفالِ وفي الشبابِ والشيوخ وعلى مستوى الذُّكرانِ والإناث، لا فرقَ بين الغنيِّ والفقير، والعالِم والأُميِّ، والأميرِ والمأمور، إنه قطارُ الموتِ لا يتوقَّفُ، ومَلَكُ الموتِ لا يُحابي ولا يُنذِرُ، ولا يستبقي حكيمًا لحِكْمتِه ولا كريمًا لكرمِه، أو شجاعًا لشجاعتِه، أو صاحبَ جاهٍ ومنصبٍ لجاهِهِ ومنصبه، كما لا يستعجلُ ربُّكَ أخْذَ ظالمٍ لظُلمِه، بل ربما أخَّره ليومٍ تَشخَصُ فيه الأبصارُ. إننا نسمعُ كلَّ حينٍ أخبارَ الموتى فنتأثرُ حينَها ثم ننسى، وربما غَرِقنا في همومِ الدنيا فأنسَتْنا الاستعدادَ لحياتِنا الحقيقيةِ، فإن قُلتم: هذا مصابُنا جميعًا فما العلاجُ؟ قلتُ: إليكم هذا الهَدْيَ النبويَّ فاعقِلُوه، يقول صلى الله عليه وسلم: ((من جعلَ الهمومَ همًّا واحدًا، همَّ المَعادِ، كفاه الله همَّ دنياه، ومن تَشعَّبت به الهمومُ في أحوالِ الدنيا لم يُبالِ اللهُ في أيِّ أوديتِه هلك)) رواه ابن ماجه بسند حسن (¬2). اللهمَّ ارحَمْ موتانا واشفِ مرضانا، ووفِّقْ للخيرِ أحياءَنا، واختِمْ بالصالحاتِ أعمالَنا. ¬

(¬1) أحكام الجنائز/ 77. (¬2) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 393.

معالم ووقفات في نهاية العام وعلى أثر الحج

معالم ووقفات في نهاية العام وعلى أثر الحج (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضلَّ لهُ، ومنْ يضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ وتابعيهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. إخوةَ الإسلامِ: في هذهِ الأيامِ تتسارعُ الساعاتُ والأيامُ مؤذنةً بنهايةِ عامٍ مليءٍ بالأحداثِ والعِبَرِ مثقلة بالرَّزايا والمصائبِ والمحنِ، ومنْ فضلِ اللهِ على هذهِ الأمّةِ أنْ يكونَ ختامُ العامِ على أثرِ حجِّ بيتِ اللهِ الحرامِ، وعلى أثرِ ليالٍ عشرٍ أقسمَ اللهُ بها في كتابِهِ، وجاءتْ سنةُ المصطفى صلى الله عليه وسلم مبيِّنةً لفضلِها وأجرِ عملِ الصالحاتِ فيها. أجلْ إنَّ الحجَّ المبرورَ ليسَ لهُ جزاءً إلا الجنةُ. ويُقالُ للحاجِّ الموفَّقِ: ((منْ حجَّ للهِ فلمْ يَرْفُثْ ولمْ يفسقْ رَجَعَ كيومِ ولدتْه أمُّه)) (¬2). ولغيرِ الحاجِّ يُقالُ لمنْ عملَ الصالحاتِ في عشرِ ذي الحجّةِ وتقبَّلَ اللهُ منهُ: إنكمْ بلغتُمْ منزلةَ المجاهدِ في سبيلِ اللهِ، الذي عَقَرَ جوادَه فقاتلَ حتى قُتلَ فلمْ يرجعْ بنفسِه ولمْ يرجعْ مالُه. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 17/ 12/ 1422 هـ. (¬2) أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه، ((صحيح الجامع الصغير)) 5/ 281.

ويقالُ لمنْ صامَ عرفةَ: أليسَ مِنْ رحمةِ اللهِ وفضلِه عليكَ أنْ كفَّرَ اللهُ عنكَ بهذا الصيامِ سنتينِ؟ إذًا صحائفُ الموفَّقينَ والمشمِّرينَ للطاعةِ في هذهِ الأيامِ بيضاءُ، وخطاياهمْ تكفَّرُ والأوزارُ والأثقالُ عنهمْ تُحطُّ وتُغفرُ .. فيَختِمونَ عامَهمْ بخيرِ ما ينبغي أنْ يُختمَ به، وهنا أقفُ مذكِّرًا لنفسي وإخواني بما ينبغي أنْ نكونَ عليهِ دائمًا، وبالأخصِّ حينَ نودِّعُ عامًا أودعْنا فيهِ ما شاءَ اللهُ منَ الصالحاتِ وأخطأنا واقترفنا فيه منَ السيئاتِ ما كتبَ اللهُ. المَعلمُ الأول: الشكرُ للهِ .. فالشكرُ يزيدُ النِّعَمَ ويُذكرُ بفضلِ المُنعِمِ: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (¬1)، {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (¬2)، فمنِ الذي هيّأَ لكَ رحلةَ الحجِّ وأعانكَ على إتمامِ المناسكِ، ورزقَكَ المالَ، وأمدَّكَ بالعافيةِ حتى أتممتَ حجَّكَ وقضيتَ مناسكَك؟ إنهُ اللهُ العليُّ الكبيرُ .. وشكرُك للهِ أولًا وآخرًا لا ينبغي أن يُنسيَكَ شكْرَ المخلوقينَ ممن بَذَلَ واجتهدَ في تيسيرِ مناسكِ الحجِّ وأمَّن السُّبلَ وقامَ بخدمةِ الحجيجِ، سواءٌ على مستوى الدولةِ أو على مستوى الأفرادِ والمؤسساتِ. واشكرْ ربَّكَ كذلكَ إذْ وفَّقكَ وهداكَ لعملِ الصالحاتِ في العَشْرِ، وكمْ منْ محرومٍ أو متكاسلٍ فاتهُ الركْبُ، فلا هوَ في عدادِ الحجّاجِ، ولا هوَ منَ المسابقين للخيراتِ في هذهِ العشرِ، وفوقَ هذا فلا تنسَ الشكرَ للهِ؛ إذْ أعانكَ ويسَّرَ لك عملَ الصالحاتِ في سائرِ العامِ. ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 7. (¬2) سورة البقرة، الآية: 152.

إنَّ الشكرَ عبادةٌ تنبعثُ منَ القلب إقرارًا بفضلِ اللهِ وثناءً عليه وحمدًا للهِ، ثمَّ تنبعثُ الجوارحُ لاهجةً بالذِّكرِ والشكرِ، مُظهرةً فضلَ اللهِ، متحدّثةً بِنِعَمِ الله، وما أحوجَنا - جميعًا - إلى الشكرِ في كلِّ أحوالِنا، وعلى نِعَمِ اللهِ علينا {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (¬1)، وما أعظمَ الشكرَ إذا انبعثَ منَ القلب وصدّقتْه الجوارحُ. المَعْلَم الثاني: الاستغفارُ .. والاستغفارُ سنّةُ المرسلينَ ووصيّتُهمْ لأقوامِهمْ منذُ قالَ نوحٌ لقومهِ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (¬2)، إلى أنْ نزلَ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم قولُه تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (¬3). والاستغفارُ جاءَ ذكرُه مرادفًا لركنَيْنِ منْ أركانِ الإسلامِ، هما: الصلاةُ والحجُّ، أمّا الصلاةُ (¬4) فأولُ ما يَبدأُ المرءُ بهِ بعدَ السلامِ منَ الصلاةِ قولُه: أستغفرُ اللهَ، (ثلاثًا). وأما الاستغفارُ في الحجِّ فعنهُ قالَ تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 34. (¬2) سورة نوح، الآيات: 10 - 12. (¬3) سورة النصر، الآيات: 1 - 3. (¬4) فعلى إثر أمره صلى الله عليه وسلم وطائفةٍ من المؤمنين معه بصلاة الليل جاء الأمر بالاستغفار: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20].

قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1). أيها المسلمون: الاستغفارُ شعورٌ بالتقصيرِ منْ جانبِ العبدِ، وتَفَضُّلٌ بالصفحِ والعفوِ والمغفرةِ منْ قِبَلِ الخالقِ، ولذلكَ جاءَ الحثُّ على الاستغفارِ في كلِّ حينٍ .. حينَ يعملُ المرءُ المعصيةَ يستغفرُ ربَّه منْ فِعْلها وآثارِها .. وحينَ يعملُ الطاعةَ يستغفرُه عنْ أيِّ خطإٍ أو خللٍ وقعَ فيها. وللاستغفارِ أثرٌ في تفريجِ الهمومِ وتوسيعِ الضوائقِ وسَعةِ الرزقِ، وفي الحديثِ: ((مَنْ لزمَ الاستغفارَ جعلَ اللهُ لهُ منْ كلِّ ضيقٍ مَخرجًا، ومنْ كلِّ همٍّ فرجًا، ورزقَه منْ حيثُ لا يَحتسبُ)) (¬2). يا عبدَ اللهِ: أفلا يليقُ بكَ ملازمةُ الاستغفارِ في كلِّ حينٍ، وهذا رسولُ الهُدى صلى الله عليه وسلم - وقدْ غَفَرَ اللهُ لهُ ما تقدَّمَ مِنْ ذَنْبِه وما تأخَّرَ - يقولُ: ((إنه لَيُغانُ على قلبي حتى أستغفرَ اللهَ في اليومِ مئة مرةٍ))، وفي روايةٍ: ((توبوا إلى ربِّكمْ، فواللهِ إني لأتوبُ إلى ربي تباركَ وتعالى مئةَ مرةٍ في اليومِ)) (¬3). وقوله: ((يُغانُ على قلبي)) أي: يُغطَّى ويُغشى، والمرادُ به السهوُ؛ لأنه كانَ صلى الله عليه وسلم لا يزالُ في مزيدٍ منَ الذِّكرِ والقُربةِ ودوامِ المراقبةِ، فإذا سها عنْ شيءٍ منها في بعضِ الأوقاتِ أو نسيَ عدَّه ذَنْبًا على نفسِهِ ففزعَ إلى الاستغفارِ (¬4). وأينَ أنتَ منْ سيّدِ الاستغفارِ وما جاء فيهِ منَ الفضلِ؟ والرسولُ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيتان: 198، 199. (¬2) أخرجه أبو داود وأحمد (2234)، وصحح إسناده أحمد شاكر ((جامع الأصول)) 4/ 389 هامش رقم 1. (¬3) رواه مسلم وغيره، ((جامع الأصول)) 4/ 386. (¬4) السابق 4/ 387.

((سيّدُ الاستغفارِ أنْ يقولَ: اللهمَّ أنتَ ربِّي لا إلهَ إلا أنتَ، خلقْتَني وأنا عبدُكَ، وأنا على عهدِكَ ووعدِكَ ما استطعتُ، أعوذُ بكَ منْ شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لكَ بنعمتِكَ عليَّ وأبوءُ لكَ بذَنْبي، فاغفرْ لي ذنوبي، فإنهُ لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنتَ)). قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قالها منَ النهارِ مُوقِنًا بها فماتَ منْ يومِه قبلَ أنْ يُمسيَ فهوَ منْ أهلِ الجنةِ، ومَنْ قالَها منَ الليلِ وهوَ موقِنٌ بها فماتَ قبلَ أنْ يُصبحَ فهوَ منْ أهلِ الجنةِ)) (¬1). قالَ ابنُ أبي جَمْرةَ: جمعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديثِ منْ بديعِ المعاني وحُسنِ الألفاظِ ما يحقُّ لهُ أنْ يُسمى سيدَ الاستغفارِ، ففيه الإقرارُ لله وحدَه بالإلهيةِ والعبوديةِ، والاعترافُ بأنه الخالقُ، والإقرارُ بالعهدِ الذي أخذَه عليهِ، والرجاءُ بما وَعَدَ به، والاستعاذةُ منْ شرِّ ما جنى العبدُ على نفسِه، وإضافةُ النَّعماءِ إلى مُوجِدِها، وإضافةُ الذَّنْبِ إلى نفسِهِ، ورغبتُه في المغفرةِ، واعترافُهُ بأنهُ لا يَقدرُ أحدٌ على ذلكَ إلا هوَ (¬2). وهنا - معشرَ المسلمينَ - يُطرحُ سؤالٌ مهمٌّ، أوْ سؤالانِ مهمَّانِ: الأولُ منهما يقولُ: ما مدى علمِنا وعملِنا بهذا الحديثِ؟ وهلْ نعتبرُه منْ وِرْدِنا في الصباحِ والمساءِ؟ وهلْ نُعَلِّمُه لأهلِينا وأولادِنا؟ والسؤالُ الآخرُ؟ : ما مدى يقينِنا بهذا الذِّكرِ الذي نقولُ والرسولُ صلى الله عليه وسلم قيَّد الجنّةَ بهذا الحديثِ لمنْ قالهُ مُوقنًا بماء جاءَ فيهِ؟ تأمَّلوا لفظَ الحديثِ وكلماتهِ وردِّدوها في الصباحِ والمساءِ ولا تلهجْ بها ألسنتُكمْ وقلوبُكمْ غافلةٌ، بل اعقِلُوها ¬

(¬1) أخرجه البخاري والنسائي والترمذي، واللفظ للبخاري (6306). (¬2) الفتح 11/ 100.

وأيقنوا بما تقولونَ فيها، قال ابنُ حجرٍ: ((موقنًا بها)) أي: مخلصًا منْ قَلْبِهِ مصدِّقًا بثوابِها (¬1). أيها المسلمونَ: وأنتمْ على مشارفِ عامٍ ستُطوى صحائفُه .. وعلى إثرِ طاعةٍ لا تدرونَ أَقُبلتْ منكمْ أمْ لمْ تُقبلْ .. أفلا يجدرُ بكمْ كثرةُ الاستغفارِ لعلَّ اللهَ أنْ يمحوَ ذنوبًا سلفتْ، ويتجاوزَ عنْ تقصيرٍ وقعَ في طاعةٍ عُملتْ، وطوبى لمن خَتَمَ عملَهُ وعامَه بالاستغفارِ. يا عبدَ اللهِ: وحينَ تستغفرُ ربَّكَ تذكَّرْ قولَه تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬2). وإليكَ هذا الهَدْيَ النبويَّ في قيمةِ الوضوءِ والصلاةِ والاستغفارِ في مغفرةِ الذنوبِ، يقولُ عليٌّ رضيَ اللهُ عنهُ: كنتُ إذا سمعتُ حديثًا من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَفَعَني اللهُ بما شاءَ أنْ ينفعَني منهُ، وإذا حدَّثني رجلٌ استحلفتُه، فإذا حلفَ صدّقتُه، وإنه حدّثني أبو بكرٍ - وصدقَ أبو بكرٍ - قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((ما منْ رجلٍ يُذنبُ ذَنْبًا ثمَّ يقومُ فيتطهَّرُ، ويصلِّي، ثمَّ يستغفرُ اللهَ، إلا غفرَ لهُ)) ثمَّ قرأ: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (¬3). فهلْ يَنفعُك اللهُ - أخي المسلمَ - بهذا الحديثِ كما انتفعَ بهِ عليٌّ وأمثالُه؟ وإنْ فاتَ عليكَ تطبيقُ هذا الحديثِ في شهورٍ خلتْ، فهلْ تطبِّقُه وأنتَ في نهايةِ العامِ ¬

(¬1) الفتح 11/ 100. (¬2) سورة النساء، الآية: 110. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 25. رواه الترمذي، وأبو داود، وإسناده حسن، ((جامع الأصول)) 4/ 390.

لتستغفرَ ربَّكَ منْ ذنوبٍ وآثامٍ قد تذكرُ بعضَها وقدْ تنسى الكثيرَ منها؟ إنَّ الاستغفارَ أمانٌ منَ العذابِ بإذنِ الله، واللهُ يقولُ - وهوَ أصدقُ القائلينَ -: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (¬1). نفعني اللهُ وإياكمْ بهَدْيِ كتابهِ وسنّةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ، فاستغفروهُ يغفرْ لكمْ. ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 33.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانيةُ: الحمدُ للهِ أعطى كلَّ شيءٍ خَلْقَه ثمَّ هدى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، يُحبُّ التوابينَ ويُحبُّ المتطهِّرينَ ويحبُّ المحسنينَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أرشدَ الأمّةَ إلى ما يَنفعُها في دِينِها ودنياها، وتركَها على مَحجّةٍ بيضاءَ لا يَزيغُ عنها إلا هالكٌ .. اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليهِ وعلى سائرِ النبيِّينَ. أيها المسلمونَ: المَعلمُ الثالث: ترويضُ النفسِ على الطاعةِ والعبوديةِ للهِ، وتدريبُها وتذليلُها على خصالِ الخيرِ، وفِطامُها عنِ الشهواتِ المُهلِكةِ والأهواءِ المضلِّلةِ، لا سيما بعدَ أنْ ألِفتِ الطاعةَ وعاشتْ مناسباتٍ إيمانيةً غاليةً، وما أحوجَ العبدَ إلى العبوديةِ والاستعانةِ، فالعبوديةُ هي الغايةُ التي خُلقَ الخَلْقُ لها، والاستعانةُ وسيلةٌ إليها، وتأمَّلوا هذهِ الآيةَ التي نتلوها في كلِّ صلاةٍ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬1). وما أعظمَه منْ دعاءٍ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، لوْ تأمَّلَهُ وعملَ بهِ المسلمونَ، فلا عبوديةَ إلا لله، ولا استعانةَ إلا باللهِ. يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ - رحمه الله -: تأمَّلتُ أنفعَ الدعاءِ، فإذا هوَ سؤالُ العونِ على مرضاتهِ، ثمَّ رأيتُه في الفاتحة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وهناكَ سُنّةٌ منْ سننِ اللهِ في خَلْقهِ ينبغي التفطُّنُ لها، فكلُّ مَنْ أعرضَ عنْ عبوديةِ اللهِ لا بدَّ أنْ يقعَ في العبوديةِ لغيرِه، وكلُّ مَنْ لمْ يستعنُ بهِ وحدَه تورّطَ في ¬

(¬1) سورة الفاتحة، الآية: 5.

الاستعانةِ بغيرهِ، وفرْقٌ بينَ العبوديةِ للهِ والاستعانةِ بهِ، وبينَ العبوديةِ والاستعانةِ بغيرهِ. فالمشركونَ الذينَ تكبَّروا عنْ عبادةِ اللهِ وحدَه رَضُوا لأنفسِهمْ بعبادةِ الأشجارِ والأحجار، أوْ ما شابَهها منْ آلهةٍ لا تملكُ لهمْ نفعًا ولا تدفعُ عنهمْ ضُرًّا. وإبليسُ تكبّرَ عنِ السجودِ لآدمَ، فأورثَه اللهُ ذُلًا ومهانةً في الدنيا ويومَ يقومُ الأشهادُ، ومَنْ رغبَ عنْ إنفاقِ مالِهِ في طاعةِ الله ابتُلي بإنفاقهِ لغيرِ اللهِ وهوَ راغمٌ، وهكذا مَنْ نقصتْ محبّتُه لربِّه تعلَّق قلبُه بغيرِ اللهِ، فتفرقتْ به الأهواءُ. ومَنْ نقصَ خوفُه منْ ربِّه خافَ منْ غيرهِ، ومنْ نقصَ رجاؤهُ لربِّه تعالى تعلَّقَ قلبُه بغيرِ اللهِ فصارَ يرجوهُ في جَلْبِ نفعٍ أو دفعِ ضررٍ لا يقدرُ عليهِ إلا اللهُ. أيها المسلمون: إنَّ الأبرارَ في نعيمٍ في الدنيا، وهمْ في الآخرةِ أعظمُ نعيمًا وأبقى. إنَّ النفسَ ذلولٌ لصاحبها، فإنْ ذلَّلها للخيرِ ودرَّبَها عليهِ استقرَّتْ واستقامتْ، وإنْ هيَ ذُلِّلتْ للشرِّ وتُركتْ ترتفعُ أَلِفَتْ ذلكَ وأصابَها منَ القلقِ والهمومِ والأوهامِ والضيقِ والضَّنكِ ما اللهُ بهِ عليمٌ. ألا فتأمَّل نفسَكَ أيها الناصحُ! وانظرْ ما أنتَ فيه، ووعدُ اللهِ حقٌّ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (¬1). المَعلمُ الرابعُ: قيمةُ الحياةِ، وقدْرُ الزمنِ، والفراغُ القاتلُ، ذلكَ معلمٌ رابعٌ لا بدَّ أنْ تُقدرهُ في كلِّ حينٍ، ولا سيما حينَ تُحاسبُ نفسَكَ في نهايةِ العامِ. ¬

(¬1) سورة طه، الآية: 124.

نَعَمْ إنَّ الحياةَ ليستْ لهوًا ولعبًا وأكلًا وشربًا وضحكًا وأُنسًا ثمَّ لا شيءَ بعدهُ، وإنَّ الزمانَ مسؤوليةٌ وميدانٌ للحرثِ. أمّا الفراغُ فهوَ قاتلٌ بطيءٌ، سواءٌ كانَ فراغًا عقليًا، يعيشُ صاحبُه بلا هدفٍ، أو فراغًا قلبيًا حينَ يفرغُ القلبُ منَ الإيمانِ الحقِّ ولذةِ العبوديةِ والطاعةِ لله، أوْ فراغًا نفسيًا بحيثُ تحيطُ بهِ الشكوكُ والأوهامُ وتقتلُه الظنونُ والوساوسُ. يا مسلمُ يا عبدَ اللهِ! إنَّ منْ فضلِ اللهِ عليكَ أنكَ تختلفُ عنْ غيرِكَ في تقديرِ قيمةِ هذهِ الحياةِ .. وتختلفُ عنْ غيركَ في الإيمانِ بالحياةِ الحقيقيةِ {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (¬1). وكمْ يهزُّك هذا الحديثُ النبويُّ حينَ تُرعى له سمْعَك وجوارحَكَ، والرسولُ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((لا تزولُ قدما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عنْ أربعٍ: عنْ عُمرِه فيما أفناهُ، وعنْ شبابِهِ فيمَ أبلاهُ، وعنْ مالِه منْ أينَ اكتسبَه وفيمَ أنفقهُ، وعنْ عِلْمِهِ ماذا عملَ بهِ)) (¬2). إنَّ العُمرَ أمانةٌ، والشبابَ والطاقةَ أمانةٌ، والمالَ أمانةٌ، والعلمَ أمانةٌ .. ويومَ تَرعى هذه الأماناتِ كلَّها وتعتقدُ أنك مسئولٌ عنها فذلكَ بدايةُ الفلاحِ، ومؤشِّرُ السعادةِ، وفرْقٌ بينَ هذا الصنفِ الواعي لرعايةِ هذه الأماناتِ أوْ سواها مما ائتمنَ اللهُ، وبينَ مَنْ يخوضُ ويلعبُ، ويتخبَّطُ حتى تفجأَه المنيّةُ، ويثويَ العمرُ، ويَنخرمَ الشبابُ، ويُورَثَ المالُ. أيها المسلمُ: شابًا كنتَ أوْ شيخًا أنتَ على خيرٍ ما دمتَ ترعى حقوقَ اللهِ وتأتمرُ بأمرِه وتنتهي عندَ نواهِيهِ، فالشابُّ الذي ينشأ في طاعةِ اللهِ أحدُ السبعةِ ¬

(¬1) سورة العنكبوت، الآية: 64. (¬2) حديث صحيح أخرجه الترمذي وغيره.

الذين يظلُّهمُ اللهُ في ظلِّهِ يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه. والشيخُ الذي شابَ في الإسلامِ لهُ أجرُه ونورُه، وفي الحديثِ الصحيحِ قالَ صلى الله عليه وسلم: ((والشيبُ نورُ المؤمنِ، لا يَشيبُ رجلٌ شيبةً في الإسلامِ إلا كانتْ له بكلِّ شيبةٍ حسنةٌ، ورُفع بها درجةً)) (¬1). أيها المسلمونَ: اختموا عامَكمْ بالتوبةِ والاستغفارِ، والذِّكرِ والشكرِ والعزيمةِ على الرُّشدِ والغنيمةِ منْ كلِّ بِرٍّ، والسلامةِ منْ كلِّ إثمٍ، واسألوا ربَّكمْ السلامةَ منَ الفتنِ، والعفوَ والعافيةَ. واحرصوا على الإكثارِ منْ عملِ الصالحاتِ في أيامِ نهايةِ العامِ، لعلَّ اللهَ أنْ يرفعَ درجاتِكمْ ويكفِّرَ عنْ سيئاتِكمْ، والأعمالُ بالخواتيمِ. وادعوا ربَّكمْ أنْ يتقبلَ طاعاتِكمْ، ويغفرَ ذنوبَكم، فليسَ الشأنُ عَمَلَ الصالحات، وإنما الشأنُ كلُّ الشأنِ في القَبُولِ، واللهُ يقولُ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (¬2). وكانَ سلفُ الأُمَّةِ يَجتهدونَ في عملِ الطاعة فترةً منَ الزمنِ، ثمَّ يَجتهدونَ فترةً أخرى في الدعاءِ وسؤالِ اللهِ القَبولَ، وما يزال العبدُ يدعو ويتضرَّعُ ويستغفرُ حتى يستجيبَ اللهُ دعاءَه ويغفرَ ذَنْبَه ويرفعَ درجتَه. ¬

(¬1) ((السلسلة الصحيحة)) للألباني (1243). (¬2) سورة المائدة، الآية: 27.

الوصايا والوقف الناجز

الوصايا والوقف الناجز (¬1) الخطبةُ الأولى: إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. أيها المسلمون: الأوقافُ والوصايا ماذا يُعلَمُ عنها، وبماذا يُعملُ؟ ما هي أغراضُها؟ وما منافعُها؟ كيف كان هديُه صلى الله عليه وسلم فيها؟ وكيف كان هديُ سلفِ الأُمةِ من بعدِه فيها؟ ما الوقفُ الناجزُ وما الوقفُ المؤجَّل؟ ما هي الأخطاءُ والسلبيّاتُ التي تحصلُ في بعضِ هذه الأوقافِ وكيف الحلُّ، وهل يمكن أن تُستثمَرَ الأوقافُ والوصايا لدعمِ الدعوة لدينِ الله والجهادِ في سبيلِه، وتُعمَّمُ مصالحُها؟ إلى غيرِ ذلك من أسئلةٍ مهمَّةٍ تتعلَّقُ بالأوقافِ والوصايا، وهنا وقبلَ الإجابةِ على هذه الأسئلةِ لا بدَّ من القولِ: إن الأوقافَ والوصايا في الإسلامِ مظهرٌ من مظاهرِ البرِّ والإحسان، وصورةٌ رائعةٌ من صورِ التكافلِ الاجتماعيّ .. يستشعرُ معها أهلُ اليَسَارِ والغِنى حاجةَ إخوانِهم المسلمين لأمرٍ من الأمورِ فيُوقِفُون ويُوصُون من أموالِهم ما يَخدُمُ غيرَهم من المحتاجين، ويسدُّ حاجتَهم. إنَّ الوقفَ سنَّةٌ نبويةٌ سارتْ عليه الأُمةُ في عصورِها الزاهيةِ وإلى يومِنا هذا، ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 24/ 12/ 1422 هـ.

وسيظلُّ ما بقيَ الدِّينُ قائمًا والمسلمون أحياءَ. والوقفُ نوعٌ من أنواعِ الصدقةِ في الإسلام، ويُعرَفُ بأنه حبسُ الأصلِ وتسبيلُ منفعتِه. وقد أرشدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليه نفرًا من الصحابةِ جاؤوا يستشيرونَه، ففي ((صحيح البخاريِّ)) وغيره: أن عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه أصاب أرضًا بخيبرَ، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يستأمرُه فيها، فقال: يا رسولَ الله، إني أصبتُ أرضًا بخيبرَ لم أُصِبْ مالًا قطُّ أنفسَ عندي منها، فما تأمرُ به؟ قال: ((إن شئتَ حَبَستَ أصلَها وتصدَّقتَ بها)) قال: فتصدَّقَ بها عمرُ أنه لا يُباعُ ولا يُوهب ولا يورَثُ، وتصدَّقَ بها في الفقراءِ وفي القُربَى، وفي الرِّقاب، وفي سبيلِ الله وابن السبيل، والضيفِ، ولا جُناحَ على مَن وَلِيَها أن يأكلَ منها بالمعروف ويُطعِمَ غيرَ متموِّلٍ (¬1). عبادَ الله: هذه مشروعيةُ الوقفِ وبعضُ منافعِه، كما في وصيةِ عمرَ ومَشُورةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهذا نموذجٌ من نماذجِ الوقفِ في عصرِ النبوة. وإليكم نموذجًا آخرَ والمشيرُ فيه كذلك رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم في قصةِ أبي طَلْحةَ رضي الله عنه وبَيْرَحاءَ، فعند أحمدَ والبخاريِّ ومسلمٍ عن أنس لما نزلتْ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (¬2) جاء أبو طلحةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، يقول تعالى في كتابه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرَحاءُ، قال: وكانت حديقةً كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدخلُها ويستظلُّ بها ويشربُ من مائِها - فهي إلى الله عز وجل وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم أرجو بِرَّه وذُخْرَه، فضَعْها - أيْ رسولَ الله - حيثُ أراكَ اللهُ، فقال ¬

(¬1) البخاري (2737)، ومسلم (1632)، وأحمد 2/ 12. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 92.

رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((بخ يا أبا طلحةَ، ذلك مالٌ رابحٌ، قَبِلْناه منكَ، ورَدَدْناه عليكَ، فاجعَلْه في الأقربينَ)) فتصدَّقَ بها أبو طلحةَ على ذَوِي رحمِه - وفي لفظٍ: فَقَسَمَها أبو طلحة في أقاربِه وبني عمِّه)) (¬1). أيها المسلمون: ومن خلالِ هذينِ النموذجينِ في الأوقافِ والصدقاتِ تتبيَّنُ الأمورُ التالية: 1 - إن هذا الجيلَ كان حريصًا على الخيرِ والبَذْل، والدليلُ على ذلك أنهم كانوا يَبذُلون أغلى ما يَملِكون، ومن رامَ التشبيهَ بهم فليتخلَّصْ من شُحِّ نفسِه، وليستجيبْ لنداءِ ربِّه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. 2 - وإنَّ الوقفَ أو الصدقةَ الناجزةَ أَوْلى من الوقفِ بعد المماتِ ولماذا؟ لأن في ذلك انتصارًا على شُحِّ النفس، فالحيُّ يخشى الفقرَ ويأملُ الغِنى بعكس الميتِ، فالمالُ من بعدِه للوارثِ. 3 - ولأن المُوقِفَ يَرى في حياتِه أثرَ وقفِه ويتصرَّفُ فيه بما يُصلِحُه ويُدِيم نفعَه، ومهما بلغَ الوارثُ من الحرصِ على وقفِ مورِّثِه أو وصيتِه فلن يكونَ بدرجةِ حرصِ المُوقِف نفسِه. 4 - بل ربما تعرَّضَ الوقفُ المؤجَّلُ إلى معوِّقاتٍ ومشاكلَ، والواقعُ يشهدُ على تعطُّلِ منافعِ عددٍ من الوصايا والأوقافِ، بل ربما زادَ الأمرُ فأحدثتْ هذه الوصايا والأوقافُ من المشاكلِ بين الوَرَثةِ والقطيعةِ بين الأرحامِ ما يَندَى له الجبينُ. إخوةَ الإسلام: ولا نعني بذلك التحذيرَ من الأوقافِ والوصايا المنفَّذةِ بعد الممات، فالوصيةُ بجزءٍ من المال بعد الموتِ أمرٌ مشروعٌ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الثلثُ ¬

(¬1) البخاري (2758)، ومسلم (998)، وأحمد 3/ 141.

والثلثُ كبيرٌ)) (¬1)، ولكنّ المقصودَ التنبيهُ إلى ما قد يَغفُلُ عنه كثيرٌ من الناسِ حين يعتقدون أن كلَّ صدقاتِهم لا تُنفَّذ إلا بعدَ المماتِ، أو أن الوقفَ لا تسري منافعُه حتى يموتَ مُوقِفُه - فذلك الخطأُ الذي ينبغي التنبيهُ له، وينبغي أن يستشعرَ الأغنياءُ قيمةَ وأهميةَ ونفعَ الوقفِ الناجزِ، ولئِنْ كان الواقعُ يشهدُ بوجودِ هذا النوع من الأوقافِ الناجزة - فلا يزالُ عددٌ من الأغنياءِ لا يعتمدونَ هذا النوعَ من الأوقاف. وواقعُ المسلمين الحاضرُ يشهدُ على الحاجةِ لذلك، فكم من الفقراءِ والمحتاجين في الداخلِ أو في الخارجِ يحتاجون إلى إنفاقٍ دائم، ومع ما تقومُ به الجمعياتُ والمؤسساتُ الخيريّةُ، وما يقومُ به الأغنياء من أُعطِيَاتٍ وصدقاتٍ، إلا أنَّ هذه الأوقافَ - حين توجدُ وتتكاثرُ - ستسدُّ حاجةً كبيرةً لهؤلاء. والدعوةُ إلى اللهِ بمشاريعِها الواسعةِ وبنفقاتِها المتعدِّدةِ تقومُ اليومَ في عددٍ من الدولِ والمؤسَّساتِ على صدقاتٍ مقطوعةٍ، ومعوناتٍ متقطِّعةٍ يُؤثِّرُ توقفُها أو ضعفُها على انتشارِ الدعوة ونشاطِ الدعاة، وحين تتكاثرُ الأوقافُ الناجزةُ والهِبَاتُ والعطايا العاجلةُ، لا شكَّ أنها تُسهِم في نشاطِ الدعوة وحيويةِ الدعاة. وستظلُّ هذه الأوقافُ المحبوسةُ الأصولِ مورِدًا للدعمِ ما بقيتْ هذه الأوقافُ. إنَّ طباعةَ الكتبِ وتوزيعَ الأشرطةِ النافعةِ تحتاجُ إلى دعمٍ مستمرٍّ، وإطعامَ الجَوْعى وسقيَ العَطْشى، وتأمينَ الغذاءِ والكساءِ لمن يحتاجُ إلى استمرارِ الصدقاتِ وتدفُّقِ التبرُّعات، والأوقافُ والوصايا ينبغي أن تُسهِمَ بتمويلِ هذه المشاريع لصالحِ الدعوةِ وحمايةِ المسلمين من مَعُونةِ غيرِ المسلمين، إذِ المعونةُ من غيرِ المسلمين تسيرُ في الغالبِ لأهدافٍ تنصيريةٍ أو على الأقلِّ لطمسِ معالمِ الهُويةِ المسلمةِ. أيها المسلمون: إنَّ المتأملَ في تاريخِ المسلمين يرى أنَّ هذه الأوقافَ ¬

(¬1) البخاري (1295)، ومسلم (1628).

ساهمتْ في بناءِ المساجد، والإنفاقِ على المجاهدين وأصحابِ الثُّغور، وإصلاحِ الطرق، وشقِّ الأنهار، وحفرِ الآبار، وإطعامِ الطعامِ وخدمةِ المسافرين، وفي خلافةِ عمرَ رضي الله عنه أمر باتخاذِ دورٍ للطعامِ من دقيقٍ وغيرِه لعابِرِي السبيلِ والمنقطِعين (¬1). وشَمِلَتْ هذه الوصايا والأوقافُ خدمةَ الموتى، وذلك بوقفِ المقابرِ، بل تجاوزتْ وصايا وأوقافُ المسلمين إلى غيرِهم من أهلِ الذِّمَّة رحمةً وتأليفًا لهم ودعوةً للإسلام، فقد نُقِلَ أمرُ عثمانَ وعليٍّ رضي الله عنهما بحفرِ أنهارٍ لأهل الذمة، ويُروى أن عليًا رضي الله عنه كتبَ إلى أحدِ أمرائِه يقول: ((أما بعدُ، فإن رجالًا من أهلِ الذمةِ من عملِك ذكروا نهرًا في أرضِهم قد عَفَا وادَّفنَ، وفيه عِمارةٌ على المسلمين، فانظُرْ أنتَ وهُم، ثم اعمُرْ وأصلِحِ النهرَ، فلَعَمْري لأنْ يعمروا أحبُّ إلينا من أن يخرجوا، وأن يَعجِزوا أو يُقصِّروا في واجبٍ من صلاحِ البلادِ، والسلام)). نعم إنَّ الأوقافَ كما تكونُ من الأفرادِ تكونُ من الدولِ، وكما تكون من الأغنياءِ تكونُ من غيرِهم، وهذا خالدُ بنُ الوليدِ رضي الله عنه لا يملكُ كما يملكُ غيرُه من الضِّياع والأموال .. لكنه يُوقِفُ أغلى ما يملكُ آلتَه وسلاحَه وعتادَه الحربيَّ، ويُثْني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على خالدٍ ويقول: ((إنَّكم تَظلِمونَ خالدًا وقد احتَبَسَ أدراعَه وأعتادَه في سبيل الله .. )) رواه مسلم (¬2). أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (¬3). ¬

(¬1) تاريخ عبد الملك بن حبيب، 106. (¬2) في كتاب الزكاة: باب تقديم الزكاة، ح (983). (¬3) سورة البقرة، الآية: 177.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: إخوةَ الإسلام: ومن فضلِ اللهِ علينا - معاشرَ المسلمين - أننا نُوقِفُ ما نوقفُ من مالِ اللهِ الذي آتانا، ثم يَأجُرُنا اللهُ على ما نُوقِفُ من مالِه وغيرُنا يوقِفُ، ولا يُؤجَر، ممن قال اللهُ عنهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (¬1). أجلْ، إنَّ الوقفَ كان قبلَ الإسلام، والأوقافَ كانت عندَ غيرِ المسلمين، فالمَجُوسُ والنصارى كانت لهم أوقافُهم .. ولكم أن تَعجَبُوا حين تعلمونَ أنَّ الملوكَ والعامَّةَ من هؤلاءِ القوم الكافرين - كانوا يتنافسون على تخصيصِ الأملاكِ المختلفةِ التي تُدِرُّ الأموالَ على رجالِ المجوسيّةِ ومعابِدِها، وعلى طبقةِ الأشرافِ والدهاقين. ولكم أن تَعجَبُوا كذلك حين تعلمونَ أنَّ العربَ كانوا يُوقِفُونَ بعضَ أموالِهم على أصنامِهم، أو على أماكنَ معيَّنةٍ لمناسباتٍ خاصَّةٍ كالحج وغيرِه (¬2). ويزدادُ العجبُ حين تعلمون أنَّ عددًا من النصارى واليهود اليومَ يُوقِفُون ويُنفِقون الكثيرَ من أموالِهم لخدمةِ دينِهم والدعوةِ إلى معتقداتِهم؟ ! ويقولُ أحدُ التقارير: إن النصارى - وفي أمريكا فقط - يتبرَّعونَ للكنيسةِ بنحو ستينَ ألفَ مليونِ دولارٍ سنويًا؟ أفيكونُ المسلمون أقلَّ من غيرِهم في خدمةِ دينِهم والتبرُّعِ والإنفاقِ في سبيلِ الدعوةِ لإسلامهم؟ ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية: 23. (¬2) البلاذري: أنساب الأشراف، تحقيق محمد حميد الله 1/ 78، 99، المفصل: جواد 6/ 251.

عبادَ الله: وهناك مفهومٌ خاطئٌ حين يظنُّ البعضُ أن الأوقافَ لا تكون إلا من الأغنياءِ أو من كبارِ السن، والحقُّ أن الأوقافَ أو الوصايا تكونُ من الشبابِ، ومن متوسِّطي الحالِ، وسواءً كانوا من الرجالِ أم النساء، وقد نقَلَ صاحبُ ((المُغْني)) عن جابرٍ رضي الله عنه قال: لم يكن أحدٌ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذو مَقدِرةٍ إلا وقَفَ. فإن قيل: وكيف يُوصِي أو يُوقِفُ شابٌّ لا يملكُ إلا مرتَّبًا شهريًا قد لا يأتي الشهرُ إلا وقد احتاجَ للمرتَّب الآخَر، أو شخصٌ مكتسِبٌ يُحصِّلُ كلَّ يوم ما يكفيهِ ومَن يَعُول؟ وليس لديه رصيدٌ ثابتٌ يُوقِفُ منه؟ وهنا أُجيبُ وأذكِّر بوسيلةٍ وَقْفيةٍ غير مُكلِفة ولا مُرهِقة، وهي على المدى البعيدِ وبالتعاونِ مع الآخرين ذاتُ أثرٍ وفاعليةٍ وجدوى، وذلك حين يتَّفقُ مجموعةٌ (ذكورًا كانوا أم إناثًا) على اقتطاعِ جزءٍ يسيرٍ من دَخْلِهم الشهريِّ ولمدةٍ متعيَّنةٍ سنتين أو ثلاثًا أو خمسًا أو أقلَّ أو أكثر، حتى إذا اجتمعَ لديهم المبلغُ المحصَّلُ جعلوه وَقْفًا يحبسون أصْلَه ويُنفِقون من رَيْعِه على أيِّ مشروع يَخدُمُ دينَ الله أو يُسهِمُ في مساعدةِ المحتاجين، وما أكثرَ المشاريعَ الخيريةَ التي تحتاجُ إلى دعمٍ! وما أكثرَ المحتاجين إلى المساعدةِ! ويمكن لأصحابِ هذا الوقفِ أن يجعلوا نفقةَ رَيْعِه عامةً، أو يُخصِّصوها على مشروعٍ معيَّن. إننا بهذِه الطريقةِ الوَقْفيةِ الجماعيةِ سنسُدُّ ثَغَراتٍ محتاجةً، وسنتيحُ الفرصةَ لكلِّ راغبٍ في الوقف - مهما كان دخلُه - أن يوقِفَ، وهذه من باب التعاونِ على البِرِّ والتقوى، ونحن مأمورون بذلك، وبهذه الطريقةِ الوقفيةِ التعاونيةِ لن تعودَ الأوقافُ قصرًا على الأغنياء وكبارِ السن، بل ستشملُ شريحةً عريضةً في المجتمعِ هم الموظَّفون والمدرِّسون والمدرِّساتُ، وستشملُ كذلك المتسبِّبين وأصحابَ الحِرَف الأخرى، فهل نستجيبُ لنداءِ ربِّنا {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، وهل نفكِّرُ جميعًا بحاجة الفقراءِ والمساكين

ونُسهِمُ في علاجها، وهل نستشعرُ جميعًا حاجةَ الدعوة إلى دين الله إلى الدعمِ الماديِّ فنَنشَطُ في الدعوةِ بأموالِنا - إن قصَّرْنا في الجوانبِ الأخرى. إننا جميعًا قد نُدعَى للإنفاق الطارئ لمشروعٍ أو لآخرَ فنستجيبُ، وهذا الإنفاقُ بأَجْرِه، وسيجد المنفقُ المخلِصُ أَجْرَه وثوابَه عندَ الله أحوجَ ما يكونُ إليه، ولكنَّ الإنفاقَ المستديمَ عن طريقِ الأوقاف أَوْلى وأَدْوَمُ من الإنفاق المتقطِّع. وكم يَسعَدُ الإنسانُ حين يرى مساهمتَه في الخيرِ وهو حيٌّ، وكم يُسَرُّ حين يرى أن مالًا يسيرًا في البدايةِ اقتطعه، ثم أصبح يُثمِرُ ويستثمَرُ في صالحِ الدعوة إلى دينِ الله. وكم هو مؤلمٌ حين نسمعُ عن أخبارِ بعض الوصايا المنفَّذة بعدَ المماتِ، مما يعتريها من مشاكلَ، وما يَعُوقُها عن التنفيذ، وقد حُدِّثتُ أن شخصًا مُوسِرًا أوصى بثلثِ مالِه بعد مماتِه، وهذا الثلثُ نحو ستين مليونًا، وقد مضى على وفاتِه قُرابةُ عشرِ سنوات ولم يُستفَدْ حتى الآن من ثلثِه شيءٌ .. لا لشيءٍ إلا لاختلافِ ورثتِه، وإلا فالوصيةُ مكتوبةٌ، وبموجبِ صكٍّ شرعيٍّ مضبوطٍ .. لكن هكذا يَجْني الورثةُ أحيانًا على مورِّثِهم. فهل يعتبرُ الأحياءُ من أحوالِ ووصايا بعضِ الأموات؟ فيُنجِزونَ أوقافَهم في حياتِهم. وكلمةً أخيرةً أيها الشابُّ: هل تضمنُ حياتَك حتى تبلغَ المشيبَ فتوصى أو توقِفَ؟ وأيها المتوسطُ الحالِ إياك أن يخدعَك الشيطانُ بالانتظارِ في الوصيةِ أو الوقفِ حتى تبلغَ مبلغًا من الغِنى .. بل عليكم بالبِدَارِ ببذلِ الخير حسبَ القُدْرةِ، فلا تدري نفسٌ ماذا تكسب غدًا.

أيها المسلمون: ومما ينبغي التنبُّهُ إليه في الوصايا أن حوائجَ الناسِ اليومَ تختلفُ عن حوائجِهم بالأمسِ، ولذا ينبغي للمُوصِي حين يكتبُ الوصيةَ أن يجتهدَ في كتابتها بعباراتٍ تُوسِّع دائرةَ استخدامِها وتعمِّمُ نفعَها في الحاضرِ والمستقبل، حتى لا يُقيَّد المنفِّذون للوصيةِ بعباراتِ الموصي المحدَّدةِ، من مثلِ عبارةِ: سدِّ حاجةِ المحتاجين، ودعمِ الدعوةِ إلى دين الله، وتعليمِ كتاب الله، ونشرِ العلم النافعِ، وما يستجدُّ من حوائجَ للمسلمين، فمثلُ هذه العبارات توسِّعُ الدائرةَ وتزيدُ من نفعِ الوصيةِ بإذن الله.

على هامش الحدث (مقارنات ومفارقات)

على هامش الحدث (مقارنات ومفارقات) (¬1) الخطبةُ الأولى: إن الحمدُ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلينَ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. إخوةَ الإسلام: وعلى هامشِ أحداثِ الدَّمْج الأخير، دَعُونا نقفْ على مقارناتٍ مُعِّبرة، ومفارقاتٍ غريبةٍ، فالشيءُ بضدِّه يُعرَفُ، والحقُ يَكشفُ الباطلَ ويُزهِقُه. أولًا: المرأةُ بين قَتْلينِ: نعم لقد قَتَلت الجاهليةُ الأولى المرأةَ خشيةَ الفقرِ أو العار، وبلغ من جَفاءِ أهلِ الجاهلية الأولى أن يقتلَ الرجلُ ابنتَه وهي حيّة، وربما نَفَضَت التُرابَ العالقَ بلحيتِه وهو يدفنُها، ومهما حُمِدَ لهؤلاء الجاهليّين غَيْرتهُم على محارمِهم وتخوّفُهم من العارِ الذي يَصِمُهم، فلا شكَّ بمسلكِهم الخاطئ، فلقد أنكر القرآنُ صنيعَهم، وأنزل اللُه ذمَّ تصرُّفاتِهم في قرآنٍ يُتلَى إلى يومِ القيامة {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} (¬2). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 22/ 1/ 1423 هـ. (¬2) سورة التكوير، الآيتان: 8 - 9.

ولكنَّ هذا القتلَ يتكررُ للمرأةِ في الجاهليةِ المعاصرة، وبصورةٍ أخرى، إنها تُقتَلُ في حيائِها وعفَّتِها، وتُوأَد في صَونِها وكرامتِها، وهل أعظمُ من وأدِ القيمِ والأخلاق؟ ومن تأمَّلَ واقعَ المرأة في كثيرٍ من البلدان أبصرَ كيف قُتِلَت المرأةُ وإن جاءت بلهجةِ التحرير، أو تحتَ عباءَةِ المطالبةِ لها بالحقوقِ، أو نحوِ ذلك من عباراتٍ فَضْفاضةٍ تخدعُ الدهماءَ والبسطاءَ، ويعلمُ زيفَها الراشدون من الرجالِ والنساء. ولئن كان هناك تشابهٌ بين الوأْدَينِ، فهناك اختلافٌ بين الموءودةِ في الجاهليتينِ، إذِ المرأةُ في الأولى لم ترضَ بل ولم تُستشَرْ، وإلا لكان لها رأيُها وموقفُها .. ولكنَّ المصيبةَ حين تُدخَلُ المرأةُ المعاصرةُ في نفقٍ مظلمٍ تُبصِر أولَه، ولا تدري ما نهايتُه، وربما خُوِّفت النهايةَ، فخدعها بريقُ البدايةِ، أو دُفعت بالقوةِ لدخولِ النفق .. ألا فانتبهي أُختي المسلمةَ إلى الوأدِ الجديد، واحذري لصوصَه الماكرين. ثانيًا: بينَ التصريحاتِ المسكِّنة والمواقفِ المحفوظة .. ! فالناسُ وإن فَرِحوا بكل تصريح يُهدِّئ ويسكِّن، ويَعِدُ بالمحافظةِ على هُويةِ المرأةِ في تعليمها، وعدم تسلُّق الحصون سعيًا إلى اختلاطِها .. فهم كذلك يحتفظون بمواقفَ منكَرة، وحواراتٍ وتصريحاتٍ قديمةٍ وحديثةٍ مقلقةٍ، تطرحُ الاختلاطَ في الصفوفِ الأولى، وتقترحُ الأنديةَ للنساء، وترى إدخالَ التربيةِ البدنية في مدارسِ البنات .. أو نحوِ ذلك من طروحاتٍ حُفظت عن أشخاصٍ نافحوا عنها، فهل التصريحاتُ الأخيرةُ نسخًا للأفكارِ القديمة، فذلك حسنٌ، أم هي تهدئةٌ مؤقَّتة، وانحناءٌ للعاصفةِ، فذلك الذي لا يُقبَل، وإحسانُ الظنِّ مطلَب، واليقظةُ وعدمُ التغفيلِ مطلبٌ آخرُ.

ثالثًا: بين إعلامِنا وإعلامِ الغرب؟ كم هو مؤسفٌ حين يكونُ الإرجاف في إعلامِنا، وتضخيمُ الأحداثِ، وتشويهُ الحقائقِ سبيلًا لتهجُّم الإعلامِ الغربيِّ على بلادِنا، وفرصةً لغيرِ المسلمين لتشويهِ إسلامِنا وأخلاقِنا .. فقد نشرت مجلةُ (الماريان) الأسبوعيةُ الفرنسيةُ مقالًا في عددِها الأسبوعي (25 - 31 مارس 2002) تحت عنوان: [خمسَ عشرةَ طالبةً أُحرقنَ أحياءً لأنهن لم يرتدينَ الحجابَ! ] وكتبتْ تحتَ المقالِ تقول: في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ حريقٌ في مدرسةٍ نجتْ منه المبادئُ الأخلاقيةُ فماتتِ الطالباتُ، ثم تقول: عندما شبَّ حريقٌ في مدرسةٍ للبناتِ في مدينةِ مكة استعدَّ رجالُ الإنقاذِ والدفاعِ المدنيِّ للتدخل، ولكن بالنسبة لممثِّلي الشرطةِ الدينية المكلَّفين بالمحافظةِ على احترام نظامِ الأخلاقِ في المملكةِ كان فصلُ الرجالِ عن النساء يأتي في المقامِ الأولِ وقبلَ كلِّ شيء، مهما كانت الظروفُ، حتى لو كلَّفَ الأمر حياةَ الأبرياء! ثم تقولُ المجلَّة: وفي مواجهةِ أّلْسنةِ اللهبِ مَنَعَت هذه الشرطةُ المشؤومةُ (الهيئةُ) المتيقِّظةُ جدًا حولَ هذا الموضوعِ، منعت الطالباتِ من الخروجِ من المدرسة التي تحترقُ، لأنهنَّ نَسِينَ -في خِضَمِّ المعمعةِ- أن يرتدين الحجابَ، مع أنه لباسٌ إسلاميٌّ إجباريٌ في المملكة- وبنفسِ التفكيرِ منعَ هؤلاءِ الغيورون وحُماُة الأخلاقِ الحميدةِ أفرادَ الدفاعِ المدنيِّ من الذكورِ من دخولِ هذه المدرسةِ لإنقاذِ الطالبات خوفًا من أن يَحدُثَ اختلاطٌ بين الرجالِ والنساء؟ إلى أن تقولَ المجلةُ: الحصيلة: وفاةُ خمسَ عشرةَ طالبةً، وجرحُ خمسين .. إلخ. أيها الإخوةُ: نحن وإنْ رأَيْنا هذا الهجومَ من إعلامٍ في بُلدانٍ تدَّعي العدالةَ وخدمةَ الحقيقةِ، فلا غرابةَ أن يقعَ ذلك من غيرِ إعلامِنا، ومن قومٍ أعداءٍ لنا، ودينُهم غيرُ دينِنا، وأخلاقُهم غيرُ أخلاقِنا .. ولكن المستغربَ حقًا أن يصدرَ مثلُ

ذلك في إعلامِنا ومن بعضِ كتَّابنا، ألم يقل بعضُهم في وصفِه للهيئات (هيئةُ الأمرِ بالموتِ والنهيِ عن الحياة) ألم يُشنِّع آخرون -من هؤلاء الكَتَبةِ- في رجالاتِ الرئاسة وقالوا: إنها رئاسةُ (قتل البنات) وقالوا كذلك: إن الرئاستين معًا تعاونتا على تقليصِ الكائناتِ التي تُشكِّلُ عارًا على الفحولةِ، وذلك بتطبيق المثل الصعيديِّ القائل: (النارُ ولا العارُ) (¬1). أوليسَ من الخللِ أن يكونَ صحفِنا مادةٌ سيئةٌ يتكئ عليها الإعلامُ الغربيُّ في تشويهِ صورةِ إسلامِنا وسمعةِ بلادنا؟ أوليسَ من العيبِ أن نتهجَّمَ على أنفسِنا ومؤسساتِنا، وندعَ الفرصةَ للآخرين ليشمَتُوا بنا؟ إن تضخيمَ الحدَثِ، وتهويلَ الخطأ -في حدِّ ذاته- ليس مقبولًا شرعًا ولا عقلًا، فكيف إذا انتهتِ التحقيقاتُ إلى براءةِ المُتَّهمِ، والتجنِّي على الأشخاصِ والهيئات؟ أيُّ فرقٍ في التعبيرِ والسُّخريةِ بين صحفيٍّ كافر، وآخرَ مسلمٍ، وبين مجلةٍ غربيةٍ وصحيفةٍ تصدرُ بجِوارِ مكة؟ إننا بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى إعادةِ النظرِ في تطبيقاتِ سياستنا الإعلاميةِ بما يَخُدم البلادَ والعبادَ، ووَفْقَ اللوائحِ والبنودِ المنظَّمة، حتى لا نُخترَقَ ولا نغرقَ. رابعًا: بين مصداقيةِ الخبرِ، وشهود الواقع: نحن في زمنِ الوَعْي، ولا يَسُوغُ بحالٍ أن تتدخَّلَ صحيفةٌ أو مطبوعةٌ ما في صميمِ الخبر، لتعبِّر -وباسمِ المواطنين- عن انفعالاتِها وتوجُّهاتِها الخاصةِ، وذلك حين يصدرُ قرارٌ (ما) مسًاء ثم يأتي التعبيرُ في الصباح الباكرِ عن ارتياحِ ¬

(¬1) عكاظ 1/ 1/ 1423 هـ.

عمومِ المواطنين لهذا القرارِ، والذي ربَّما لم يعلمْ به طائفةٌ منهم أصلًا، ولم يرضَهُ طوائفُ وإن علموا، وهنا يَرِدُ السؤال: ومتى تسنَّى لهذه الجريدةِ هذا الاستفتاءُ النزيهُ الذي قاربتْ نسبتُه تسعةً وتسعين وتسعةً بالعشرة بالمائة؟ إننا مُؤتمَنون على الكلمةِ وعلى نقلِ مشاعرِ المجتمع للمسؤولين، ومن هذا المنطلقِ نقول، وفيما يخصُّ قرارَ الدمجِ الأخير: إنَّ من قُدِّرَ له أن يزورَ (الرياض) هذه الأيامَ يرى مشاهدَ حيةً، وتجمُّعاتٍ حاشدةً هنا وهناك، فهذه جموعٌ تحتشدُ عند أهلِ العلمِ والفتوى تبلِّغها الاستنكارَ، وجموعٌ أخرى تَطرُق أَبوابَ المسؤولين راجيةً إعادةَ الأمور، وإلغاءَ القرارِ، وجموعٌ ثالثة تكتبُ أو تُبرِقُ أو تهاتفُ مستغرِبةً ما حدثَ، ورابعةٌ لا تزال في حَيْرةٍ من هولِ الصدمة وعِظَم المُصَاب، وخامسةٌ من العامَّة والخاصَّة لم ترضَ عن القرار ولكنها لم تُعبِّرْ علانيةً إما لاكتفائها بمن عبّرَ، وكأَنَّ لسانَ حالها يقول: المشايخُ والدُّعاةُ ما قصَّروا في التعبيرِ عنَّا وعنهم، وهذا وإن كان تقصيرًا منهم في البلاغِ، إذِ الكلُّ مطاَلبٌ بالإفصاح وإيصالِ رأيهِ للمسؤولين، إلا أنَّ هؤلاءِ بكلِّ حالٍ يُعَدُّون في إحصائيةِ المستنكِرين، والصنفُ الآخرُ الذين لم تظهرْ منهم مواقفُ معلَنة -وإن كانوا غيرَ راضين- فهؤلاء يرونَ التعبيرَ بطرقٍ مشروعةٍ أخرى بحُكْم مواقعِهم الإداريةِ وصِلَاتِهم الشخصية، وبكلِّ حالٍ فيكفيكَ أن تسمعَ من عالمٍ له وزنُه في تقييمِ الحَدَث يقول: (إنها زلَّة)، وآخرُ لا يقلُّ شأنًا عنه يقول: (إنها مصيبة)، ثم تسمع من خبيرٍ ممارسٍ قوله: (إنَّ ما وقعَ نتيجةُ تخطيطٍ مُسبَق، ما فَتِئَ العِلمانيون ومنذ زمنٍ بعيدٍ يسعَوْنَ ويخطِّطون له). إذًا الوعيُ شائعٌ، والاستنكارُ عامٌ وذائع -وفي صفوفِ الرجال والنساءِ، فأين ذلك من التقوُّلِ بارتياحِ الجميع، أهذه مِصداقيةٌ تليقُ بصحافتِنا؟

خامسًا: بين نوعينِ من المطالب: عجبٌ وأيُّ عجبٍ، ففي مرحلةِ تطويرِ أجهزةِ الدولةِ والاتِّجاه نحوَ (الخصخصة) فَرِحَ أهلُ العلمنةِ بدَمْج الرئاسةِ للوزارةِ، وفي مقابلِ دعواهم للمطالَبةِ بحقوقِ المرأة وإنصافِها تنتهي طموحاتُهم إلى أن يكونَ تعليمُ المرأةِ تابعًا وجزءًا من تعليمِ الرجل، هذا في ظاهرِ الأمر، وما يتمنَّونَهُ ويُطالِبون به من خطواتِ ما بعدَ الدمجِ أشدُّ سوءًا، وأتعسُ حظًا للمرأة، بل وللمجتمعِ بأَسرِه؟ أمّا سواهم من أهل العلمِ والمعرفةِ والرُّشد والحكمةِ والنُّصح للدولة، فيتساءلون: أتُدمَجُ الرئاسةُ مع الوزارة، وتُفصَل المياهُ عن الزراعةِ؟ ويُضَمُّ تعليمُ المرأةِ بنجاحاتِه وتفوُّقاته إلى تعليمٍ آخر له نجاحاتُه وتفوُّقاتُه .. لكنه كذلك مُثقَلٌ بالمشاكل، مُثخَنٌ بالتبِعاتِ، على حين يُفصَلُ الحجُّ عن الشؤون الإسلاميةِ والأوقاف. وما من عاقلٍ مطَّلِع على أحوالِ الدول والأُمم إلا ويُبصِرُ التعليمَ في طليعةِ الاهتمامات، أما الحديثُ عن الظروفِ المادية والمخصَّصاتِ المالية، فما يَسُوغُ الحديثُ عنه في بلدٍ أنعمَ اللهُ عليه بالرخاءِ، والمسؤولون فيه يُنفِقون على العِلمِ والعلماءِ بسخاءٍ! ! لقد باتتْ دولٌ متحضِّرةٌ تُنفِق على التعليم بسخاءٍ حتى استغنتْ به عن وزاراتٍ بكاملِها؛ لأن الفردَ المتعلِّم الواعيَ ربما أعاضَها عن كثيرٍ من الجهاتِ والجنود، وإذا كنَّا -أو بعضُنا- طالما تحدَّثَ عن تجربةِ بلدٍ كاليابان في التعليم .. أفتكون المادةُ معوِّقًا لنا، حتى نضطرَّ إلى الدمج؟ إننا على صعيدِ الواقعِ نُدرِكُ نجاحَ تجربتِنا في التعليمِ عمومًا، وتميُّزَنا عن العالَمِ تميُّزًا ناجحًا في تعليمِ المرأة خصوصًا .. والُمخرَجاتُ لا تُقارَن

بالمُدخَلات .. أفننسى ذلك جميعًا؟ على أنَّ مطالبَ هؤلاء الراشدين لا تنتهي عند إلغاءِ الإلغاء، وبقاءِ الرئاسةِ في مركزِ الرئاسة، بل يزيدون في طلبِ الدعم لجهازِ تعليم البنينَ والبناتِ، ويطالبون بإصلاحِ الإعلام وَفْقَ السياسةِ الإعلاميةِ للمملكة، ويروْنَ ضرورةَ فَضْحِ أو معاقبةِ من شوَّهوا سمعةَ البلدِ ومؤسَّساتِه وتمتدُّ مطالبُهم في التحوُّط لأيِّ جهةٍ أو هيئةٍ مستهدفةٍ كالهيئات والجامعات الإسلاميةِ، إنهم يُطالبون بكلِّ ما فيه مصلحةٌ حقيقيةٌ للبلادِ والعباد، ويُلِحُّون عن كلِّ خطوةٍ تجمعُ ولا تفرِّق، وتؤلِّف ولا تُنفِّر، وتهدِي للتي هي أحسنُ، وملفُّ المرأةِ في بلادِ الحرمين واحدٌ من القضايا الملحَّةِ التي بات الغيورون يطالبون بإعادةِ النظرِ فيه وَفْقَ ثوابتِ الدولة ومسلَّماتِ العقيدة، لا وفقَ طروحاتِ العلمانيين وصيحاتِ المُغرِضين؟ سادسًا: جِراحات ومُعوِّقون: نشكو إلى اللهِ ما حلَّ بإخوانِنا المسلمين من محنٍ وبلايا نازلةٍ، في معاركَ يُصفِّي فيها الصهاينةُ الحاقدون حساباتِهم مع إخوانِنا في فلسطين، وفي غَطْرسةٍ وكبرياءٍ يتعاملُ بها النصارى والمُلحِدين مع إخوانٍ لنا في عددٍ من المواقعِ والبلدان. إنها معاركُ ملتهِبةٌ، تَقطُرُ الأرضُ فيها دمًا، ويُرسَّخ الظلمُ والعدوان ترسيخًا بَشِعًا، كيف لا، وتَرسانةُ الأسلحةِ المتطوِّرة تجرَّبُ على صدور إخوانِنا .. قبورٌ جماعيةٌ للقتلى، واعتداءاتٌ غيرُ إنسانيةٍ على العزَّلِ والأطفال والشيوخ والنساء، حصارٌ للمخيَّمات، واقتحامٌ للبيوت، وهدمٌ للمساجدِ، واستخدامٌ أرعنُ لسياراتِ الإسعافِ لأغراضٍ قتالية، مما يُعَدُّ سابقةً خطيرةً، وجريمةً كبرى ... وحدِّث ما شئتَ .. وما لم يخطُرْ لك ببالٍ -في قاموس مُجرِمِي الحرب، صانعِيها والساكتينَ عنها.

ومما يزيدُ الجرحَ أَلمًا .. أن الأُمةَ وسطَ هذه المِحَن والبلايا تُشغَلُ بقضايا داخلية أُخرى، تَشُلُّ تفكيرَها، وتجتزئُ قدرًا كبيرًا من طاقتِها، ثم تظلُّ ترقِّعُ في خروقِ أبنائها، وتُرمِّم التصدعَ الحاصلَ في جدرانِ بيوتها .. ولا كثَّر اللهُ من نفرٍ يُعوِّقون الأمةَ، ويَشغَلُونها عن القضايا الكبرى، حقًا إنك لتعجَبُ حين تقرأُ أو تسمعُ عن تظاهراتٍ في (بروكسل) و (لاهاي) و (برلين) ونحوها، تُندِّد بالممارساتِ اليهودية ضدَّ شعبِ فلسطينَ، ثم ترى أو تقرأُ ذهولًا عن القضيةِ برمَّتِها في عددٍ من البلادِ الإسلامية، وانشغالًا عند المسلمين بقضايا أو فِتَنٍ داخلية شَغَلَهم بها المعوِّقون والمُرِجفون، وكلما خَبَتْ فتنةٌ أشعلوا أخرى، وهكذا .. ولكنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم حين شُغِل فَزِعَ إلى ربِّه بالدعاء قائلًا: «شَغَلُونا عن صلاةِ العصرِ ملأ اللهُ قبورَهم وبيوتَهم نارًا» متفق عليه. أفلا يتذكَّرُ هؤلاء وأولئك كم يُعوِّقون الأُمةَ، وكم يَصرِفُون من طاقتِها .. فأين هم من دعاوَى: وَعْيِ الأُمة، والتقدُّم بها، خابُوا وخَسِروا، وأفلحَ وأنجحَ من جاهدَ الكافرين والمنافقين جميعًا، ذلك مقتضى توجيهِ كتابِ ربِّنا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬1). ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 73.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانيةُ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، أحمدُه تعالى وأشكرُه وأُثْني عليه الخيرَ كلَّه .. أيها المؤمنون: 1 - وليس يَخْفَى أن الحملةَ على المرأةِ والتشكيكَ بالقيمِ، قديمةٌ، ومَن تتبَّع ما نُشِر في الصحف -قديمًا- رأى أن طبولَ الحربِ كانت تُقرَعُ منذُ زمنٍ، ولا مانعَ من ذكرِ نموذجٍ عاصره سماحةُ شيخِنا العلامةُ عبدُ العزيز بنُ باز رحمه الله، وكانت له فيه وقفةٌ حَفِظَها التاريخُ، وفتوى مدوَّنةٌ في الكتب، ففي عام 1412 هـ كتبتْ كاتبةٌ في جريدةِ عُكَاظ تنتقدُ من يعتقدُ أن المرأة ناقصةُ عقلٍ ودينٍ، وأن الرجالَ قوَّامونَ على النساء؟ فأصدرَ الشيخُ فتواه بالكاتبةِ والجريدةِ وهذا نصُّها: «لقد دُهِشتُ لهذا المقالِ الشنيع، واستغربتُ جدًا صدورَ ذلك في مهبطِ الوحي، وتحتَ سمعِ وبصرِ دولةٍ إسلامية تُحكَمُ بالشريعةِ الإسلامية وتدعو إليها، وعجبتُ كثيرًا من جُرأةِ القائمين على هذه الجريدةِ، حتى نشروا هذا المقالَ الذي هو غايةٌ في الكفرِ والضلالِ والاستهزاء بكتابِ الله وسنَّةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، والطعنَ فيهما» ثم قال عن الجريدةِ: «وليس هذا ببِدْعٍ على القائمينَ على هذه الصحيفةِ، فقد عُرِفَتْ بنشرِ المقالاتِ الداعيةِ إلى الفسادِ والإلحادِ والضَّررِ العظيمِ على المجتمع، كما عُرِفَت بالحقدِ على علماءِ الإسلام والاستطالةِ في أعراضِهم والكذبِ عليهم». واختتم الشيخُ رحمه الله فتواه الطويلةَ بقوله: إن هذه الصحيفة قد تجاوزتِ الحدودَ واجترأتْ على محاربةِ الدِّين والطعنِ فيه بهذا المقالِ الشنيع جرأةً لا يجوزُ السكوتُ عنها، ولا يَحِلُّ لوزارةِ الإعلام ولا للحكومةِ الإغضاءُ عنها، بل يجبُ قطعًا معاقبتُها معاقبةً ظاهرةً بإيقافِها عن الصدور، ومحاكمةِ صاحبةِ الَمقالِ،

والمسؤولِ عن تحريرِ الصحيفة، وتأديبُهما تأديبًا رادعًا، واستتابتُهما عما حصلَ منهما؛ لأنَّ هذا المقالَ يُعتبَرُ من نواقضِ الإسلام، ويوجِبُ كفرَ ورِدَّةَ مَن قاله أو اعتقده أو رضيَ به، لقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (¬1) فإنْ تابت، وإلا وجبَ قتلُهما لكفرِهما ورِدَّتِهما» (¬2). وفي هذا الزمنِ تُثارُ الأسئلةُ التالية: هل توقَّفتْ هذه الجريدةُ عن هذه الحربِ؟ وما الفرقُ كمًّا ونوعًا بين ما نشرتْه في الماضي وما تنشرُه ومثيلاتُها في هذه الأيام؟ وهل نسمعُ فتاوى ومطالبةً بالمحاكمةِ لكتَّابٍ وكاتباتٍ من أمثالِ هؤلاء من العلماءِ المعاصرين؟ وإلى متى يستمرُّ نشرُ الفجورِ والفسوقِ والسخريةِ والاستهزاءِ بأحكام الشرع وحملتِه في بلاد الحرمين الشريفين؟ ! لقد بلغَ السيلُ الزُّبى، وآن الأوانُ لوقفةٍ جادَّةٍ تضعُ حدًّا للموتورينَ وتنتصرُ للحقِّ وأهلِه، وتقمعُ الباطلَ وجندَه، فمَن يا تُرى يَنذُرُ نفسَه لهذه المهمَّةِ الجليلة؟ وهذا جزءٌ من واجبِنا جميعًا في إنكارِ المنكَر والردِّ على المبطِلين، فالعالِمُ يُفتي ويكتب، وغيره يُطالِب ويتابع. 2 - وجزءٌ آخرُ من واجبِنا تجاهَ هذه الحَمَلاتِ والحَرَكات أن نُسهِمَ في الدفاعِ عن الأعراض، ونمنعَ بقَدْرِ المستطاع أن تصيرَ بلادُنا إلى مثلِ ما صارتْ إليه البلادُ الأخرى، فالمرأةُ -بلا شكٍّ- إذا تُرِكَت لدَعَواتِ المُغرِضين -بأهدافِهم السيئةِ ووسائِلهم المنكَرة- ستصبح بوابةً كبرى للفسادِ، وما نَطَقَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم عن الهوى وهو القائل: «ما تركتُ بعدي فتنةً أضرَّ على الرجالِ من النساءِ» (متفق عليه). ¬

(¬1) سورة التوبة، الآيتان: 65 - 66. (¬2) مجلة البحوث عدد 32 سنة 1412 هـ.

ونحنُ لا نتعاملُ مع المرأةِ -دائمًا- على أنها فتنةٌ، بل عضوٌ صالحٌ في المجتمع، في إطارِ القِيَمِ العاليةِ وتعاليمِ الشريعة السَّمْحة، ولكنَّ هؤلاء يُريدونَها فتنةً وعارضةَ أزياء؟ إنَّ غَيْرتَنا على المحارمِ لا تَقِلُّ بل تزيدُ وتُهذِّب من غَيْرةِ الرجلِ الجاهليِّ الذي كان يتصرَّفُ خطأً وجهلًا بقتِلها خَشْيةَ العارِ أو خشيةَ الفقر، وسلوا {بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} (¬1) تجدونَ خلفَها شهامةً جاهليةً نريد نحنُ المسلمين أن نحميَها دُرَّةً مصونةً عن عَبَثِ العابثين، وحين نستنكرُ قتلَ أهلِ الجاهلية الأولى للمرأةِ قتلًا حِسِّيًا، فإننا نستنكرُ قتلَ الجاهليةِ المعاصرة لها قِيَميًّا وأخلاقيًا. 3 - ومن واجبِنا أن تتظافرَ جهودُنا مع علمائِنا ومشايخِنا في الاستنكارِ والمدافعةِ لكلِّ باطل مُلبَّس، والعلماءُ -كِبارًا وصغارًا- يُوصُون الجميعَ هذه الأيامَ بالاستمرارِ في الإنكار، وإبلاغِ الصوتِ للمسؤولين- بعقلٍ وحِكْمة وقوةٍ واستمرار، لا يُضعِفُها عباراتُ التهدئة ولا يُخفِّفُ منها التصريحاتُ والمقابلاتُ المسكِّنة وقتيًا، فقد عوَّدَتْنا الأيامُ- أن يَهدأَ هؤلاء المُغرضون حين يتحرَّك الخيِّرون، ويَحُنون رؤوسَهم للعاصفة، وهم فيما بينهم يقولونَ: إنها مجرَّدُ عواطفَ ثم تنتهي، وحماسٌ وقتيٌ لا بدَّ أن نستَلَّه، ثم نمضي بعد حينٍ في مواصلةِ المَسِير، وتحقيقِ المخطَّطِ المرسوم خطوةً خطوةً، ومما يَسُّر ويُبطِلُ هذا الكيدَ المؤجَّل، ما فَهِمناه من العلماءِ أنهم سيستمرُّون على مواقفِهم القويةِ واستنكارِهم ولو طالَ الزمانُ حتى يُعادَ الحقُّ إلى نصابِه، ويُنزعَ فتيلُ الفتنةِ من جذورِه. وأنتم معاشرَ المسلمين -بمواقفِكم واستمرارِ جهادِكم وتنوُّعِ جهودِكم- رافدٌ ¬

(¬1) سورة التكوير، الآية: 9.

قويٌ للعلماء، لقد أعلنَ العلماءُ قَلَقَهم لما حَدَث، واستغرابَهم لما وقع، ومفاجأتَهم بما صار، وأخذوا على عاتِقِهم الوقوفَ في وجهِ هذا الطُّوفانِ، وبالتفاهمِ مع المسؤولين بما يحقِّقُ مصلحةَ البلادِ والعباد، وكشْفَ عَوَرِ من يريدُ بهذا المجتمعِ سوءًا، ورَدْعَهم وتأديبَهم، وبالمطالبةِ بكل ما يُحققُ الخيرَ ويصدُّ الشرورَ والفتنَ، وأوصَوْا بأن يتحمَّلَ كلُّ مسلمٍ مسؤوليتَه في الإنكارِ بالطرق المشروعة، وحذَّروا من القيام بأعمالٍ غير مدروسةٍ ولا حكيمةٍ تضرُّ ولا تنفع. يا أخا الإسلام: فإن قال قائلٌ: وبإزاءِ هذا المنكَرِ أو غيرِه ماذا نصنعُ؟ أُجيب: لو كان أمرًا دُنْيويًا لفكرتَ مليًّا ثم وجدتَ الوسيلةَ المناسبةَ لإسهامِكم، أفيكونُ الدينُ عندَكَ أقلّ شأنًا {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (¬1) لكنْ نُوصِيكَ بالحكمةِ في الأمرِ والنهي، والرِّفقِ فيما تعملُ أو تَدَعُ، واستخدامِ الطُّرقِ المشروعة، والقنواتِ الرسمية، والمشورةِ لأهل العلم، والنُّصح للمسؤولين، والزيارةِ، والمهاتَفَةِ، والكتابةِ، وتوضيحِ الحقِّ وكشفِ الباطل عبرَ المحاضرةِ والندوةِ والمطويَّةِ والكتاب، والعنايةِ بالبرامجِ البيتية، والتوجيهِ عبرَ مُلتقَياتِ الأسرة، والعنايةِ بالحصانةِ الفكرية، ومقاومةِ أسبابِ الفاحشةِ، والتفكيرِ الجادِّ في إيجادِ منابرَ ومحاضنَ مطمئنةٍ لتربيةِ الناشئةِ من الجنسين، لا بدَّ من تعميمِ الوَعْي والشعورِ بجرأة الخطوةِ وما وراءَها، وعدمِ القناعة بأنصافِ أو جزئياتِ الحلول. أيتها المرأة أُمًا وبنتًا وزوجةً وأختًا، طالبةً ومعلمة وموظَّفةً وربّةَ منزل، لا تكتفي بحديث الآخرينَ عنكِ، هل أنتِ راضيةٌ عن هذه الخُطوةِ؟ ماذا صنعتِ في قرارٍ يخصُّكِ أكثرَ من غيرك؟ هل وصلتْ وجهةُ نظرِك للآخرين؟ وهل مَن تحدَّثَ ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآية: 2.

من الصحفيين والصحفيات يُعبِّرُ عنكنَّ؟ لكِ الحقُّ أن يُسمَعَ منك كما سُمع من غيرِك، وتستطيعين التعبيرَ عن وجهةِ نظرِكِ بأيِّ وسيلةٍ ترينَها مناسبةً ومشروعةً في المنزلِ والمدرسة، وعبرَ الهاتفِ أو الجريدةِ أو الرسالةِ، وبالمحاضرةِ والندوة. أيها المسلمون: اتقوا اللهَ فيما تعملون وما تدعون، وليقدِّرْ كلٌّ منكم مسؤوليتَه أمامَ الله، وواجبَه أمامَ أهلِه وعشيرتِه، وحقوقَ الولاةِ والمجتمع عليه من النُّصحِ والمشورة، وليؤدِّ دورَه في فضحِ المُبْطِلين، وكشفِ مَن يريد للبلادِ والعبادِ سوءًا، اللهمَّ احفَظْ بلادَنا وبلادَ المسلمين من كل سوءٍ ومكروه، واجعلْ هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا وسائر بلادِ المسلمين.

النفاق والمنافقون

النفاق والمنافقون (¬1) الخطبةُ الأولى: إن الحمدُ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلينَ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. إخوةَ الإيمانِ: يُخطئُ منْ يظنُّ أنَّ النفاقَ الذي أفاضَ القرآنُ في الحديثِ عنْه وأنَّ المنافقينَ الذينَ أسهبَ القرآنُ في التحذيرِ منهُم، كانَ يُمثلُ مرحلةً تاريخيةً انقضَتْ بدخولِ الناسِ في دينِ اللهِ أفواجًا، فالعصرُ الذهبيُّ للبشريةِ عامةً -وللمسلمينَ خاصةً- والذي شهدَتِ الأرضُ طُهرَه أيامَ الرسالةِ المحمديةِ، لمْ يخلُ منْ ظُلمِ النفاقِ وظُلماتِه، فهل تُعصمُ منْه العصورُ التاليةُ؟ إنّ جوهرَ النفاقِ وطينةَ المنافقينَ واحدةٌ على مرِّ العصور، ولكنَّ الفرقَ في الظروفِ المتوفرةِ للمنافقينَ بينَ الأمسِ واليومِ، فالنفاقُ في مراحلِ تمكينِ الدينِ وغلبةِ المسلمينَ كانَ ذُلًا لا يستخفي، وضعفًا يتوارَى، وخضوعًا مقموعًا، يمثلُه عمالقةٌ -في الظاهرِ- وفي الحقيقةِ همْ أقزامٌ ورؤوسُ أزلامٍ، وهمْ حياتٌ وعقاربُ موطوءةٌ تكادُ ألا تنفثَ السمَّ إلا وهيَ تلفظُ الحياةَ. كانَ تمكينُ الدينِ وقَتها يُمكِّنُ المؤمنينَ من جهادِ أولئكَ المنافقينَ الأسافلِ باليدِ واللسانِ والقلبِ وإقامةِ الحدودِ، وكانَ القرآنُ ينزلُ كاشفًا لخبايا نفوسِهم ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 22/ 2/ 1423 هـ.

وخُبثِ طويَّتِهم، ولذا فلا يُرى أحدُهم إلا وهو محاصَرٌ مكدودٌ، أو محدودٌ أو مجلودٌ .. أو معتذرٌ مكشوفٌ؟ أما اليومَ فالنفاقُ صرحٌ ممرَّدٌ، وقواعدُ وجيوشٌ تتحركُ، وقلاعٌ تُشيَّدُ إنه اليومَ دولةٌ بل دولٌ ذاتُ هيئاتٍ وأركانٍ، وأحلافٌ وتكتلاتٌ ومعسكراتٌ وسلطانٌ .. سلطانٌ سياسيٌّ واقتصاديٌّ وإعلاميٌّ وثقافيٌّ يُمارسُ الضرارَ في كلِّ مضمارٍ؟ ! ومنْ هنا -معاشِرَ المسلمينَ- وجَبَ الحذرُ والتحذيرُ منَ النفاقِ، وكشفُ المنافقينَ ويكفيكَ -يا أخا الإسلامِ- أن تُطالعَ في القرآنِ وفي صحيحِ السنةِ والسيرةِ النبويةِ -كشفَهم وملامحَهم وأساليبَهم- فبضاعتُهم الحَلِفُ والكذبُ {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 15]. وسيماهُم لمزُ المطِّوعينَ منَ المؤمنينَ، أنهُمْ بُخلاءُ جُبناءُ، حائرونَ مترددونَ كالشاةِ العائرةِ بِينَ الغنَميْنِ (¬1) وهيَ المترددةُ بينَ قطيعينِ لا تدري أيَّهما تتبعُ: مذبذبونَ في توجهاتِهم وسلوكياتِهم لا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ منكوسةٌ فطرُهم إذْ يأمرونَ بالمنكرِ وينهونَ عنِ المعروفِ، ومعوجَّةٌ أخلاقُهُم إذ يحلفونَ على الكذبِ وهمْ يعلمونَ، ومطبوعٌ على قلوبِهم فهمْ لا يفقهونَ، مظاهرُ جوفاءُ رعاديدُ عندَ المواجَهةِ واللقاءِ {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4]. أركسَهُمُ اللهُ بما كَسبوا .. وفي الفتنةِ سقَطوا، يُقلِّبونَ الأمورَ، ويسخرونَ بالمؤمنينَ، ومن هَلَعِهم وفَرَقِهم {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجًا أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة: 57] ألسنتُهُم -ظاهرًا- مع المسلمينَ وقلوبُهم معَ الكافرينَ {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ} [التوبة: 56] يخشَوْنَ الدوائرَ ¬

(¬1) مسلم والنسائي جامع الأصول («/ 571).

ويسارعونَ في موالاةِ الكافرينَ وشعارُهم {نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} [المائدة: 52] يُحبُّون أن تشيعَ الفاحشةُ في الذينَ آمنوا .. ورؤوسُهم يمارسونَ إكراهَ فتياتِهم على البغاءِ؟ فتاريخُهم حافلٌ بإفسادِ المرأةِ وشرُّهم سابقٌ في إشعال الفتنةِ. إنهمْ عيونُ الأعداءِ على المسلمينَ -كما وصفَهم الطبريُّ في جامع البيان (30/ 70) وابنُ الجوزيِّ في زادِ المسيرِ (8/ 286) والواقعُ يثبتُ يومًا بعد يومٍ أنَّ نكبةَ الأمةِ بالمنافقينَ تسبقُ كلَّ النكباتِ فالكافرُ الظاهرُ -على خطرِه وضررِه- يعجزُ في كلِّ مرةٍ تواجهُ فيها أمةُ الإسلامِ أنْ ينفردَ بإحرازِ نصرٍ شاملٍ عليها ما لمْ يكنْ مَسْنُودًا بجيشِ المنافقينَ يُخلصُ لهم في النصحِ، ويفتح لهمُ الأبوابَ، ويُذلّلُ أمامَهم العقباتِ .. وقاتلَ اللهُ المنافقينَ كمْ جنَوْا على بلادَهم وأبناءِ جلدتِهم منَ الويلاتِ والنكباتِ، ومن يُهنِ اللهُ فما له منْ مُكرِمٍ، وقاتلَ اللهُ المنافقينَ أنى يؤفكونَ. معاشرَ المسلمينَ: إنَّ الحديثَ عن المنافقينَ يطولُ، كيفَ لا وآياتُ القرآنِ صرّحتْ بذكرِ النفاقِ والمنافقينَ في نحوِ سبعٍ وثلاثينَ آيةً، وفصلَتْ وفرعَتْ في الكلامِ عنهمْ أضعافَ ذلكَ منَ الآياتِ موزعةً على إحدى عشرةَ سورةً (¬1). أما الحديثُ عنْ (منْ في قلوبِهم مرضٌ) فكثيرٌ أيضًا .. وهؤلاءِ مرضَى القلوب فئةٌ منهُمْ منَ المنافقينَ، وفئةٌ أخرى رديفةٌ لهمْ، ومخزونٌ احتياطيٌّ لهمْ .. ومنْ هنا وجبَ الحذرُ منْ مرضِ القلبِ -بالشهوةِ أو الشهيةِ- ومعالجةُ ذلك عاجلًا بالصدقِ والإيمانِ والمجاهَدِة .. ذلكُم أنَّ المتأملَ في حديثِ القرآنِ عنْ مرضَى القلوبِ يمكنُ أن يستنتجَ أنَّ هؤلاءِ لديهمُ الاستعدادُ لأنْ يكونوا ¬

(¬1) بل قيل إن الحديث عنهم استغرق ما يقرب من ثلاثمائة وأربعين آية (د. عبد الحليم العبد اللطيف: حديث الإفك) وقال ابن القيم رحمه الله: كاد القرآن أن يكون كله بشأن المنافقين (المدارج 1/ 388) ص 40 - 41.

منافقينَ معلومي النفاقِ بما لديهمْ من شهوةٍ أو شُبهةٍ، فهمْ قومٌ ضعيفوا الإيمانِ إلى أدنى حدٍّ، حتى أنَّ أحوالَهم تكادُ تنقلبُ إلى معسكرِ النفاقِ الصريحِ لفرطِ قنوطِهم وفتورِهم وقلِة يقينِهم ولشدّةِ تعلُّقِهم بالدنيا ومطامعِها. ويُقالُ: إنَّ مرضَى القلوبِ يمارسونَ تطرفًا صارخًا باتجاهَيْنِ، فهمْ يتطرفونَ في بُغضِ أهلِ الدينِ وإساءةِ الظنِّ بهمْ، ويتطرفونَ في الدفاعِ عنِ الكفارِ وحسنِ الظنِّ بهمْ -وهذا جوهرُ مرضَى القلوبِ (¬1). ألا ففتِّشوا عن أنفسِكم ومدَى ولائكمْ ومحبتِكم للمؤمنينَ -وإنْ كانوا ضعفاءَ مقهورينَ -وبغضِكم وبراءتِكم منَ الكافرينَ، وإنْ كانوا ظاهرينَ متسلطينَ وخلّصوا أنفسَكم من قلوبِكم منَ النفاقِ وسماتِ المنافقينَ. عبادَ اللهِ: ومنْ واقعِ السيرةِ النبويةِ .. ومواقفِ المنافقينَ في عهدِ النبوّةِ يستطيعُ القارئُ الفطِنُ أَنْ يرصدَ تعاونَ المنافقينَ مع أكثرِ منْ طرفٍ، فهمْ معَ المشركينَ على المسلمينَ، وهمْ حلفاءُ بلْ إخوانٌ لليهودِ - بنصِّ القرآن- وهمْ متحالفونَ معَ الأحزابِ وهمْ عونٌ للنصارَى في حربِهم ضدَّ المسلمينَ وإليكُمُ البيانَ: ففي غزوة أحُدٍ -حينَ جاءَتْ قريشٌ بكبريائها تريدُ الثأرَ لقَتلاها في بدرٍ، قامَ المنافقونَ وفي أحلَكِ الظروفِ بخذلانِ المؤمنينَ، وانسحبَ زعيمُهم عبدُ الله بنُ أبيٍّ بثلثِ الجيشِ ودخلَ المدينةَ بأتباعِهِ تاركًا المسلمينَ وحدَهم في ساحاتِ الجهادِ يُواجهونَ عدوًا يفوقُهم في العدَدِ والعُدةِ الحربيةِ، وهذا الانسحابُ المخزي أوشكَ أنْ يوقعَ الفشلَ في طوائفَ منَ المؤمنينَ؛ قال اللهُ عنهمْ: {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬2) وأحدث ¬

(¬1) عبد العزيز كامل، جهاد المنافقين، البيان شهر 11/ 1422 هـ. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 122.

هذا التراجعُ المُذلُّ منَ المنافقينَ اختلافًا بينَ المؤمنينَ في التعاملِ مع المنافقينَ. فرقةٌ تقولُ: نقتلُهم، والأخرى تقولُ: لا نقتلُهم، فأنزلَ اللهُ: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} (¬1)، وحينَها قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنها طيبةُ» وإنها تنفي الخبثَ كما تنفي النارُ خَبَثَ الفضةِ» (¬2). أما المنافقونَ فقدْ ظنوا باللهِ الظنونَ السيئةَ وكشفَ القرآنُ خبيئَتَهم فقالَ تعالى: {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ} (¬3)، وحينَ انكشفَتِ المعركةُ وأصيبَ منْ أصيبَ منَ المؤمنينَ تشفّى المنافقونَ وسُرُّوا لمصابِهم، واشتركوا معَ اليهودِ في المشاعرِ الفاسدةِ، قالَ ابنُ حجرٍ: «حينَ بكَى المسلمونَ على قتلاهُم سُرَّ المنافَقونَ، وَظَهرَ غشُّ اليهودِ، وفارت المدينةُ بالنفاقِ، فقالَت اليهودُ: لو كانَ نبيًا ما ظهروا عليهِ -يعني المشركينَ- وقالَ المنافقونَ: لو أطاعونا ما أصابَهم هذا؟ (¬4). بلْ جعلوا يقولونَ لأصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لو كانَ منْ قُتِلَ منكُمْ عندَنا ما قُتِلَ، وهم يهدفونَ إلى تفريقِ المؤمنينَ والتخذيلِ عن صحابة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّى لهم ذلكَ معَ قومٍ قالوا لمَنْ قالَ لهُمْ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (¬5). ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 88. (¬2) أخرجه أحمد والشيخان. (خ) (في تفسير سورة النساء ومسلم في المنافقين). (¬3) سورة آل عمران، الآية: 154. (¬4) الفتح 7/ 347. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 173.

عبادَ اللهِ: أما علاقةُ المنافقينَ باليهودِ فيكفي تعبيرُ القرآنِ عنها بقوله تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (¬1). إنهُمْ بحُكْمِ القرآنِ إخوانٌ لليهودِ، وهمْ جاهزونَ للخروجِ معَهم لو أُخرِجوا ومستعدّونَ للقتالِ معهُمْ -ولوْ باللسانِ- إنْ قوتِلوا؟ فهلْ بعدَ هذا منْ نصرةٍ وتقاربٍ بينَ المنافقينَ واليهودِ، ومن رامَ تفصيلَ ذلكَ فليقرأ في تفسيرِ الآيةِ، وليقفْ عندَ حوادثِ السيرةِ النبويةِ. والمنافقونَ كذلكَ مصانعونَ للنصارَى وفي غزوةِ العُسرةِ ظهرَ تخذيلُهم للمسلمين وتعظيمُهم للنصارَى، فقدْ قالَ أحدُهم: «يغزو محمدٌ بني الأصفرِ (أي الرومَ) واللهِ لكأني أنظرُ إلى أصحابِه مُقرّنينَ في الحبالِ». وما سلمَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم منْ شرهمْ في هذه الغزوةِ، مَنْ قعدَ منهم عنِ الخروجِ ومَنْ خرجَ فلم يزد إلا خبالًا وفتنةً .. أجلْ، لقدْ أرجفَ نفرٌ منهُمْ بالمؤمنينَ عنِ الخروجِ وقالوا: {لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} وقالوا: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} ولمَزَوا المؤمنينَ المطّوِّعين في الصدقاتِ فمن أنفقَ بسخاءٍ قالوا: أنفقَ رياءً، ومن أنفقَ القليلَ الذي يجدُ قالوا: إنَّ الله غنيٌ عنْ صدقة هذا؟ ومَنْ خلّفَهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم في المدينةِ لغرضٍ كعليٍّ رضيَ اللهُ عنهُ قالوا: إنما خلَّفَهُ استثقالًا لَهُ؟ وهكذا لمْ يسلَمِ المسلمونَ منْ شرِّهم في مجابهةِ النصارَى، فالذين خرجوا نفاقًا استهزؤوا بالصحابة، وكفَّرهم اللهُ وإن اعتَذَروا، بلْ وصلَ الأمرُ بهم أنْ خطَّطوا ¬

(¬1) سورة الحشر، الآية: 11.

لقتلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في مرجعِه منْ تبوكَ كما في قصةِ أصحابِ العقبةِ الواردةِ في صحيحِ مسلمٍ (¬1). أما الذينَ بَقُوا فوجدوها فرصةً للتخطيطِ والاجتماعِ بأطرافٍ معاديةٍ منْ خارجِ المدينةِ، وكانَ المشروعُ النكِدُ في بناءِ مسجدِ الضرارِ بتنسيقٍ بين منافقي المدينةِ وأبي عامرٍ الفاسقِ الذي يُقيمُ عندَ الرومِ، وهذا الرجلُ منَ الخزرجِ وقد تنصَّرَ، فلما جاءَ الإسلامُ ودخلَ فيه الأنصارُ شَرِقَ أبو عامرٍ بالإسلامِ، فخرجَ إلى قريش وألَّبَهم على المسلمينَ، وحينَ لمْ يفلحْ، خرجَ إلى هرقلَ ملكِ الرومِ واسنتصرَهُ على ضربِ المسلمينَ، واتخذَ منَ المنافقينَ في المدينةِ أداةً للتخطيطِ، فأمرهم أنْ يتخذوا لهُ معقِلًا يقدمُ عليهِم فيهِ مَنْ يقدُمُ مِنْ عندِه لأداءِ كُتبِهِ ويكونُ مرصدًا لهُ إذا قدمَ عليهمْ بعدَ ذلكَ، فشَرَعَ المنافقونَ في بناءِ مسجدٍ مجاورٍ لمسجدِ قباءَ وأحكموهُ وفرَغوا منه قبلَ خروجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى تبوكَ وطلبوا منه أن يُصليَ فيه ليحتجُّوا بصلاتِهِ على إقرارِهِ وإثباتِهِ، فاعتذرَ إليهمْ بالسفرِ، فلما رجعَ منْ تبوكَ نزلَ الوحيُ عليهِ مسميًا هذا المسجدَ بمسجدِ الضرارِ كاشفًا ما اعتمدوهُ فيه من الكفرِ والتفريقِ بينَ المؤمنينَ، فبعثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم للمسجدِ مَنْ هَدَمَهُ وأحرقَه (¬2). وبقيَ وحيُ السماءِ موعظةٍ وذكرى لكلِّ عملٍ ظاهرُه الحُسنَى وباطُنه النفاقُ والكفرُ. أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى ¬

(¬1) (4/ 2144). (¬2) تفسير ابن كثير لآيتي التوبة (107 - 108).

وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (¬1). نفعني اللهُ وإياكُمْ بهدْيِ القرآنِ وسنِةِ محمد عليه الصلاة والسلام. ¬

(¬1) سورة التوبة، الآيتان: 107، 108.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانيةُ: أيها المسلمونَ: ولا تقتصرُ جهودُ المنافقينَ على التعاونِ مع المشركينَ أو اليهودِ أو النصارى، بلْ همْ جاهزونَ للتعاونِ مَعَ كلِّ من تحزَّب ضدَّ الإسلامِ والمسلمينَ، وفي معركةِ الخندقِ وحينَ تحزَّبَ الأحزابُ على المسلمينَ في المدينةِ في جمعٍ لمْ تشهدْه المدينةُ مِنْ قبلُ، وبلغَ الكربَ بالمسلمينَ مَبْلغَه -كانَ للمنافقينَ دَورُهم وسهامُهم مَعَ أولئكَ الأحزابِ، حتى ابتُلي المسلمونَ وزُلزلوا زلزالًا شديدًا، وفي ظلِّ هذه الظروفِ الصعبةِ كانَ المنافقونَ يقولون: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا} (¬1). وهكذا شكَّلَ المنافقونَ دورَهم مَعَ الأحزاب في الإرجافِ والتخذيلِ، ومحاولةِ التسللِ والاعتذارِ عنْ حَفْرِ الخندقِ أولًا، وعن مجابهةِ العدوِّ ثانيًا، وأنَّى لأولئكَ المنافقينَ أنْ ينكأوا في العدوِّ وهمُ القائلونَ لإخوانهم: {هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلًا} (¬2) فلمّا استحكمَ الخوفُ بهمْ {رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} (¬3). عبادَ اللهِ: وظلّتْ مسيرةُ النفاقِ في عصورِ الراشدينَ، وساهموا بإشعالِ فتيلِ الفتنةِ، واستمرَّ دَورُهم في عصرِ الأمويِّينَ والعباسيينَ يُسمَّونَ بالمنافقينَ حينًا، ويوصفُونَ بالزنادقةِ حينًا آخرَ، وبالباطنِّينَ فترةً وبالعِلْمانيينَ أخرى .. وليستْ تُهمُّ الأسماءُ؛ فالمسمَّيات تتغيَّرُ، ولكنّ السِّماتِ والوسائلَ والأساليبَ تكادُ تتكرَّرُ ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآيتان: 12، 13. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 18. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 19.

وتتجدَّدُ .. وكلُّهم تعرفُهم في لَحْنِ القولِ (¬1)، وجميعُهم يزعمُ الإصلاحَ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (¬2). والقواسمُ المشتركةُ بينَ المنافقينَ قديمًا وحديثًا هي: بُغضُ المؤمنينَ والسخريةُ بالمتديِّنينَ، وموالاةُ الكفارِ والمسارعةُ فيهم، لا يَثبتونَ على مبدأٍ، ولا يستمرُّونَ في الصداقةِ لأحدٍ، بلْ يتقلَّبونَ ويتلوَّنونَ كالحرباءِ، وأينما هبَّتِ الريحُ لمصلحتهمْ هبُّوا مَعَها، فلديهمُ استعدادٌ للتعاونِ مَعَ شياطينِ الإنسِ والجنِّ لتحقيقِ أغراضِهم، ولديهمَ استعدادٌ للتضحيةِ بأقربِ الناسِ إليهمْ إذا خالفوهمْ في توجُّهِهم! والمرأةُ وَتَرٌ طالما ضربوا عليه، ورغبوا في إشاعةِ الفاحشةِ منْ خلالْها، وفي قولِه تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} (¬3)، وقولِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} (¬4) نموذجانِ بلْ وجهانِ قبيحانِ للمنافقينَ مَعَ المرأةِ. وموتُ الصالحينَ يسرُّهم، وإذا مات المجرمونَ والفسقةُ نعَوْهمْ وأسِفُوا لموتِهمْ! وهلْ تعلمونَ أنَّ المنافقينَ همُ العنصرُ الشاذُّ الذي فرحَ بموتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قالَ ابنُ عمرَ: وكانَ المنافقونَ قدِ استبشَروا بموتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم (¬5). ¬

(¬1) واللاحق منهم أسوأ من السابق، حتى قال حذيفة رضي الله عنه -خبير المنافقين-: المنافقون الذين فيكم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال: إن أولئك كانوا يسرون نفاقهم وإن هؤلاء يعلنون! (الفريابي: صفة المنافق/ 53). وإذا قال حذيفة هذا عن المنافقين في عصر الصحابة والتابعين وفي ظروف انحطاط المسلمين، فماذا عساه يقول لو أبصر المنافقين في العصور المتأخرة؟ (¬2) سورة البقرة، الآية: 11. (¬3) سورة النور، الآية: 33. (¬4) سورة النور، الآية: 11. (¬5) رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (المغازي) ص 410.

إخوةَ الإسلامِ! وماذا بعدُ؟ وما الدورُ المطلوبُ تجاهَ المنافقينَ؟ أولًا: لا بدَّ منَ العلمِ بهمْ ومَكْرِهمْ، وأساليبِهمْ، وقراءةِ تاريخِهمْ ونماذجِهمْ بوعي في الماضيْ والحاضرِ، فالعلمُ بالشيءِ فرعٌ عنْ تصوُّرِه، والوعيُ خطوةٌ أُولى، وما زالَ القرآنُ يَنزلُ ويقولُ تعالى فيهمْ وفيهمْ حتى كشفَ اللهُ النفاقَ والمنافقينَ في قرآنٍ يُتلى إلى يومِ القيامةِ. ثانيًا: وبعدَ العِلْمِ لا بدَّ مِنَ الحذرِ منهمْ والتحذيرِ منْ مخطَّطاتِهمْ وأهدافِهمْ، وقدْ نزَّلَ اللهُ على رسولِهِ صلى الله عليه وسلم {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} (¬1) والخطابُ عامٌ للأمَّةِ في الحذرِ منَ المنافقينَ. ثالثًا: والنهيُ عنْ طاعتِهمْ توجيهٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأمّتُه تَبَعٌ لهُ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (¬2)، قالَ القرطبيُّ: ودلَّ بقولِهِ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} على أنه كانَ صلى الله عليه وسلم يميلُ إليهمْ استدعاءً لهمْ إلى الإسلامِ، أي: لو علمَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- أنَّ مَيْلَكَ إليهمْ فيهِ منفعةٌ لَمَا نهاكَ عنهُ؛ لأنهُ حكيمٌ عليمٌ، ثمَّ قيلَ: الخطابُ لهُ ولأمّتِه (¬3). رابعًا: جهادُ المنافقينَ كما يُجاهَدُ الكفارُ، بلْ والإغلاظُ عليهمْ، قالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬4). عنْ عليٍّ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: بُعثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأربعةِ أسيافٍ: سيفٍ للمشركينَ: ¬

(¬1) سورة المنافقون، الآية: 4. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 1. (¬3) الجامع لأحكام القرآن 14/ 115. (¬4) سورة التوبة، الآية: 73.

{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬1)، وسيفٍ للكفارِ أهلِ الكتابِ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬2)، وسيفٍ للمنافقينَ بهذهِ الآيةِ، وسيفٍ للبُغاةِ: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (¬3). ثمَّ علَّقَ ابنُ كثيرٍ: وهذا يقتضيْ أنهمْ يُجاهَدونَ بالسيوفِ إذا أَظهروا النفاقَ، وهوَ اختيارُ ابنِ جريرٍ (¬4). لقدْ فهمَ البعضُ أنَّ هذهِ الآيةَ في المنافقينَ تدلُّ على أنَّ النفاقَ سيظلُّ موجودًا وسيظلُّ محسوسًا ملموسًا منْ أشخاصٍ ترىُ فيهمْ آياتُ النفاقِ (¬5)، وإذا رأى طائفةُ أهلِ العلمِ مجاهدةَ المنافقينَ بالسيفِ -إذا أَظهروا نفاقَهمْ- فلا شكَّ أنَّ مجاهدتَهمْ باللسانِ والحُجةِ والبيانِ منْ بابِ أَولى، وقالَ القرطبيُّ: وهذهِ الآيةُ نَسختْ كلَّ شيءٍ منَ العفوِ والصُّلحِ والصفحِ. خامسًا: الحذرُ منْ سِماتِ المنافقينَ، والبُعدُ عنْ كلِّ ما يؤدِّي إلى النفاقِ، قد سمعتُمْ أنَّ مرضَ القلوبِ درعٌ للمنافقينَ، ويمكنُ أنْ يتحوَّلوا إليهمْ ويَنخرطوا في سِلْكِهمْ، فلْيحذرِ المسلمُ ولْيعالجْ نفْسَه ويفطمْها عنْ أمراضِ الشهواتِ والشبهاتِ، ومَن رعى حولَ الحِمى أوشكَ أن يَقَعَ فيهِ! وأنتَ أيها المسلمُ والمسلمةُ مطالبٌ بمجاهدةِ المنافقينَ على قَدْرِ طاقِتكَ، فإنْ لمْ تستطعْ فلا أقلَّ منْ بُغضِهمْ والحذرِ منْ أفعالِهمْ، والتحذيرِ منْ شرورِهمْ. ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 5. (¬2) سورة التوبة، الآية: 29. (¬3) سورة الحجرات، الآية: 9. (¬4) تفسير ابن كثير 4/ 118. (¬5) عبد العزيز كامل/ البيان.

سادسًا: عدمُ موالاةِ المنافقينَ والحذرُ مِنِ اتخاذِهمْ بطانةً للمؤمنينَ، وكفى بالقرآنِ حَكَمًا وواعظًا، واللهُ يقولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَاأَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (¬1). سابعًا: عدمُ المجادلةِ والدفاعِ عنهمْ: {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} (¬2). ثامنًا: وعظُ المنافقينَ وتذكيرُهمْ برقابةِ اللهِ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} (¬3). تاسعًا: وإذا كانَ المنافقونَ بالكثرةَ التي قالَ عنها حذيفةُ رضيَ اللهُ عنهُ: لوْ هَلكَ المنافقونَ لاستوحشتُمْ في الطرقاتِ لقلَّةِ السالكينَ -فالأمرُ يستدعيْ تجييشَ الأمّةِ والمجتمعِ كلِّه لمجاهدةِ المنافقينَ برجالِهِ ونسائهِ، بكبارهِ وصغارهِ، بعلمائهِ وعامّتهِ، وكلٌ حَسَبَ استطاعتهِ. عاشرًا: ونحنُ لا نتألَّى على اللهِ ولا يحقُّ لأحدٍ أنْ يقولَ: لا يهديْ اللهُ فلانًا ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيات: 118 - 120. (¬2) سورة النساء، الآيتان: 107، 108. (¬3) سورة النساء، الآية: 63.

ولن يصلحَ فلانًا منَ الناسِ، فالهدايةُ بيدِ اللهِ، وقلوبُ العبادِ بينَ أصبعَيْنِ منْ أصابِعِهِ يُقلِّبُها كيفَ يشاءُ، وأهلُ الخيرِ والعلمِ والدعوةِ يفرحونَ بتوبةِ التائبِ ويُسَرُّونَ لعودةِ الشاردِ، ويودُّونَ أنْ يفتحَ اللهُ على قلوبِ العُصاةِ والمستنكِرينَ بأسرعِ حالٍ، وإنهمْ حينَ يتحدَّثونَ عنِ النفاقِ والمنافقينَ لا يتشفَّون بأحاديثِهمْ ولكنهمْ مؤتمَنونَ على البلاغِ وكشفِ الباطلِ واستبانةِ سبيلِ المجرمينَ، وهمْ مَعَ ذلكَ يَدعُونَ مَنْ لُبِّسَ عليهِ، ومَنْ غلبتْ عليهِ شهوتُه أو أصرِّ على الخطأِ حفاظًا على شهرتِه، أو استحوذَ عليهِ الشيطانُ فأضلَّه .. يدعُونَ كلَّ هؤلاءِ للتبصُّرِ في أحوالِهمْ والنظرِ في عاقبةِ أمْرِهمْ، والتوبة لخالقهم. و {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} (¬1) .. اللهمَّ اهدِ ضالَّ المسلمينَ، وبصِّرْنا بالحقِّ. ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 15.

من يخرق السفينة؟

مَن يخرق السفينة؟ (¬1) الخطبةُ الأولى: الحمدُ للهِ يَهدي مَنْ يشاءُ، ومَنْ يُضلِلِ اللهُ فما لهُ منْ هادٍ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، كَتَبَ الفناءَ على هذهِ الدنيا، والخلودَ في دارِ النعيمِ والجحيمِ في الأُخرى، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُهُ، أَمَرَ ونَهى ونصحَ وجاهدَ، وتركَ الأمةَ على مَحجَّةٍ بيضاءَ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلينَ، ورضيَ اللهُ عنْ صحابتهِ أجمعينَ والتابعين ومَنْ تبعَهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3). أيُّها المسلمونَ: نحنُ في هذهِ الحياةِ في مركبٍ واحدٍ، وكلُّنا مسؤولٌ عنْ سلامةِ هذا المركبِ، ولا ريبَ أنَّ ثمةَ مخاطرَ تُهدِّدُ المركبَ، وهذهِ المخاطرُ خارجيةٌ لا دخلَ لأهلِ المركبِ في إيجادِها -وإنْ كانَ بإمكانهمْ أنْ يخفِّفوا منها وأنْ يصمُدوا لرياحِها- ومخاطرُ داخليةٌ تعودُ إلى مَن همْ بداخلِ المركبةِ، ويُساهمُ رُبَّانُ المركبةِ وراكُبوها في عَطَبِها أوْ إنقاذِها، وذلكَ هوَ الأهمُّ في الحديثِ عنِ المركبةِ وسلامتِها. والحديثُ عنْ هذهِ المركبةِ يُهمُّنا جميعًا، ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 5/ 3/ 1423 هـ. (¬2) سورة التوبة، الآية: 119. (¬3) سورة المائدة، الآية: 35.

والرسولُ صلى الله عليه وسلم وصفَ لنا سفينةَ المجتمَعِ، وكشفَ عنْ أسبابِ سلامتِها، وحذَّر مِنْ خَرْقِ السفينةِ ومَنْ يخرِقُ السفينةَ، وحذَّر منَ النتيجةِ المُرَّةِ لغرقِ السفينةِ .. موضِّحًا بذلكَ أهميةَ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكرِ عبرَ مثالٍ يَعقلُه العالِمُ والعامّيُّ، والرجلُ والمرأةُ، والصغيرُ والكبيرُ، فتعالَوْا بنا نقرأْ هذا المثلَ النبويَّ، ونسترشدْ بالهدْيِ الربّانيِّ في تشخيصٍ بديعٍ للقائمِ على حدودِ اللهِ، والواقعِ فيها، وحُماةِ السفينة، والخارقينَ لها، يقولُ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الذي أخرجه البخاريُّ في «صحيحه» (2493) عنِ النعمانِ بن بَشيرٍ رضيَ اللهُ عنهُ: «مَثَلُ القائمِ على حدودِ اللهِ، والواقعِ فيها كمَثَلِ قومٍ استَهَموا على سفينةٍ، فأصابَ بعضُهمْ أعلاها، وبعضُهمْ أسفلَها، فكانَ الذينَ في أسفلِها إذا استقَوْا منَ الماءِ مرُّوا على مَنْ فَوْقَهمْ، فقالوا: لوْ أنا خَرَقْنا في نصيبِنا خَرْقًا ولمْ نؤذِ مَن فوقَنا، فإنْ يتركوهمْ وما أرادوا هَلكوا جميعًا، وإنْ أخذوا على أيديهم نجَوْا ونجَوْا جميعًا». أيها المسلمُ والمسلمةُ: إنَّ منَ الأسئلةِ المهمَّةِ -تجاهَ هذا الحديثِ- سؤالًا يقولُ: هلْ أنتَ منْ حُماةِ السفينة أوْ منَ الخارقينَ فيها؟ وقبلَ أنْ تُجيبَ لا بدَّ أنْ تستيقنَ أنهُ ليسَ منْ طرفٍ ثالثٍ غيرَ هذينِ الصنفَيْنِ يتحكَّمُ في مصيرِ السفينةِ، فإمّا قيادةُ حُماةِ السفينةِ، حيثُ تكونُ سلامةُ المركبِ، وإمّا قيادةُ الخارقينَ لها، حيثُ يكونُ الغرقُ، ومنْ هنا فلا مجالَ للصمتِ والسلبيةِ في وقتٍ يتحركُ فيهِ الخارقونَ للسفينةِ وينشطونَ لإفسادِها .. وإن زَعموا الإصلاحَ أو ظنوا -خطًا- أنهمْ يريدونَ الإنقاذَ! إنَّ المتأملَ في أيِّ مجتمعٍ منَ المجتمعاتِ لا يَراهُ يخرجُ عنْ إحدى حالاتٍ ثلاثٍ: فإمّا أن ينتشرَ المعروفُ ويَكثرَ المصلِحونَ، وإمّا أنْ يشيعَ المنكَرُ ويتطاولَ المبطِلونَ، وإمّا أنْ يكونَ دُولةٍ بين الأخيارِ والأشرارِ، ويشيعَ فيهِ المعروفُ والمنكرُ على حدٍّ سواء.

ولكنَّ الشيءَ الذي ينبغي أنْ يُدرَكَ جيدًا، أنَّ ضعفَ الأمرِ بالمعروفِ وانحسارَ النهيِ عنِ المنكرِ في مجتمعٍ ما منَ المجتمعاتِ ذو خطورةٍ بالغةٍ ومضاعفةٍ، فليستِ المشكلةُ في ضعفِ الأمرِ والنهيِ وقلّةِ الخيرِ وضعفِ الأخيارِ، بلْ فوقَ ذلكَ قوةُ المنكرِ وسيطرةُ الأشرارِ والنهيُ عنِ المعروفِ وغيابُ الأخيارِ .. وحينَ يبلغُ الفسادُ بالمجتمعِ هذا المبلغَ فقُلْ: على الفضيلةِ السلامُ، وصلِّ صلاةَ الغائبِ على الأخيارِ، إلا أنْ يتداركَهمُ اللهُ برحمتهِ، ويبعثَ فيهمْ مَنْ يوقظُهمْ منْ رقدتِهمْ. عبادَ اللهِ: وإذا اختلفَ الناسُ في أسبابِ الفلاحِ، وعواملِ البقاءِ، وأسبابِ الشقاءِ، وعواملِ الفناءِ، فالحُكمُ للهِ، والمرجعُ شرعُ اللهِ .. واللهُ يقصُّ الحقَّ وهوَ خيرُ الفاصلينَ، ويقولُ في مُحكمِ التنزيلِ (موضِّحًا أسبابَ النجاةِ والهلاكِ): {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} (¬1). ويقولُ تعالى في سورةٍ أخرى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (¬2). أيُّها الناسُ: ومنذُ القِدَم والناسُ منهمْ مؤمنونَ ومؤمناتٌ يأمرونَ بالمعروفِ ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآيات: 96 - 100. (¬2) سورة الجن، الآيتان: 16، 17.

وينهَوْنَ عنِ المنكرِ .. ومنافقونَ ومنافقاتٌ يأمرونَ بالمنكرِ وينهَوْنَ عنِ المعروفِ، وفضلُ اللهِ يؤتيهِ مَنْ يشاءُ، فمنهمْ مفتاحٌ للخيرِ مغلاقٌ للشرِّ، وآخرونَ مغاليقُ للخيرِ مفاتيحُ للشرِّ، يَضعفُ إيمانُهمْ باللهِ ويستبعِدونَ الجزاءَ في اليومِ الآخرِ، فتنتكسُ فِطرُهمْ، ويزعمونَ أنهمْ مصلحونَ، وهمْ مفسدونَ، ويَسحبونَ أنهمْ يُحسنونَ صُنعًا، وهمْ يَجنُونَ على أنفسِهمْ وعلى مجتمعِهمْ شرورًا وفِتَنًا، والمنافقونَ بلا ريبٍ ممنْ يخرقُ السفينةَ ويُغرِقُ أهلَها، على أننا حينَ نستقرأُ الواقعَ نجدُ أصنافًا أخرى غيرَ هؤلاءِ المنافقينَ يُسهمونَ في خرقِ السفينةِ .. ولذا لا بدَّ أنْ نفتِّشَ عنْ مَنْ يخرقونَ السفينةَ، ونحدِّدَ ملامحَهمْ ونُحذِّرَ مِن صنيعِهم، ومِنْ هؤلاءِ: 1 - المُتَّبعونَ للشهواتِ الغارقونَ في الملذَّاتِ سواءٍ صحَّ طريقُها أوْ لمْ يصحَّ، وسواء كانتْ شهواتٍ مباحةً أوْ محرَّمةً، أولئكَ يُنقِّبونَ في السفينةِ، ولوْ مالتْ بأهلِها مَيْلًا عظيمًا، وصدقَ اللهُ: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} (¬1). 2 - البطَّالونَ الضائعونَ، الذينَ لا يريدونَ أنْ يَبذلوا جُهدًا لمدافعةِ الشرِّ أو يَدفعوا مالًا لنصرةِ الحقِّ، بلْ ربَّما سرقوا مالًا، أوْ روَّجوا مُخدِّرًا، أوِ ارتكبوا محظوراتٍ أخرى، فأولئكَ كذلكَ يَخرِقون في السفينةِ ولا يُصلِحونها. 3 - أهلُ الغرورِ والكبرياءِ الذينَ يرَوْن الرشدَ بعقولِهمْ وحدَهمْ دونَ أنْ يَلتفتوا إلى عقولِ الآخرينَ، بلْ ربَّما حَكَموا على عقولِ غيرِهم قبلَ أنْ يَعلموها، وربما صادروا آراءَ الآخرينَ قبلَ أنْ يَستبينوها، وقدْ عابَ القرآنُ على فرعونَ مقولتهَ: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (¬2)، وما نفعه الوعي حين جاء ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 27. (¬2) سورة غافر، الآية: 29.

الغرق {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬1)، قال اللهُ له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (¬2). 4 - ويخرقُ السفينةَ عالِمِونَ آكلونَ بعِلْمهمْ، مستفيدونَ لأنفسِهمْ، مضلِّلونَ لأمتهم، يَنسلخونَ منَ العلمِ، ويتخلَّونَ عنْ نُصحِ الخَلْق، إنهمْ لا يَجهلونَ لكنْ يتجاهلونَ، وهمْ لا يُخدعونَ لكنهمْ يَخدَعُونَ، يعرفونَ الحقَّ ولا يَدعُونَ إليهِ، ويعرفونَ المنكرَ ولا يستنكرونهُ .. أولئك خَرْقُهمْ في السفينةِ عظيمٌ، وفتنُتهمْ للناسِ كبيرةٌ، ونماذجُهمْ في الأممِ السالفةِ: {إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (¬3) {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬4). وتتكرَّرُ هذهِ النماذجُ في أمّةِ الإسلام، ويكونُ أحدَ الثلاثةِ الذينَ همْ أولُ مَنْ تسعَّرُ بهمُ النارُ يومَ القيامة رجلٌ جَمَعَ القرآنَ، فيقولُ اللهُ لهُ يومَ القيامةِ: ألمْ أعلِّمْكَ ما أنزلتُ على رسولي؟ فيقولُ: بلى يا ربِّ، قال: فماذا عَمِلتَ فيما عَلِمتَ؟ قالَ: كنتُ أقومُ به آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، فيقولُ اللهُ له: كذَبتَ، وتقولُ ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 90. (¬2) سورة يونس، الآيتان: 91، 92. (¬3) سورة التوبة، الآية: 34. (¬4) سورة الأعراف، الآيتان: 175، 176.

لهُ الملائكةُ: كذبتَ، ويقولُ اللهُ له: بلْ أردتَ أنْ يُقالَ: فلانٌ قارئٌ، وقدْ قيلَ ذلكَ (¬1). وعندَ مسلمٍ: «إنَّ أولَ الناسِ يُقضى عليهِ يومَ القيامةِ .. إلى قوله: «ورجلٌ تعلَّمَ العلمَ وعلَّمهُ، وقرأَ القرآنَ .. » وفيه: «تعلمتَ العلمَ ليُقالَ: عالمٌ، وقرأتَ القرآنَ ليُقالَ: هوَ قارئٌ، فقدْ قيلَ، ثمَّ أُمرَ بهِ فسُحِبَ على وجهِه حتى أُلقيَ في النارِ» (¬2). وفي محكم التنزيل بيانٌ ووعيد: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬3). اللهمَّ انفعْنا بهَدْيِ القرآنِ وسنّةِ محمدٍ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، اللهمَّ إنّا نستغفرُكَ فاغفرْ لنا، ونستهديكَ فاهدِنا، أنتَ الهادي وأنتَ الغفورُ الرحيمُ. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي «جامع الأصول» 4/ 540. (¬2) «جامع الأصول» 4/ 541. (¬3) سورة هود، الآيتان: 15، 16.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانيةُ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، نصرَ عبدَهُ، وأعزَّ جندَه، وهزمَ الأحزابَ وحدَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، كلَّ يومٍ هوَ في شأنٍ، وله الحُكمُ وإليهِ تُرجَعونَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، قامَ في ذاتِ اللهِ، وبلَّغَ رسالةَ ربِّهِ، ونصحَ للأمّةِ، وجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادهِ .. صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ. إخوةَ الإيمانِ: 5 - ويخرقُ السفينةَ أنانيُّونَ لا يَشعرونَ إلا بأنفسِهم، ولا يُفكِّرونَ إلا بذواتِهمْ، وإن لاحتْ لهمْ بوادرُ الخَطَرِ لا يهمُّهمْ صلاحُ المجتمعِ أو فسادُهُ، ولا تتمعَّرُ وجوهُهمْ للمنكَراتِ تشيعُ هنا وهناكَ، دائرةُ تفكيرِهمْ ضيقةٌ، ومساحةُ الغيرةِ عندَهمْ محدودةٌ. 6 - ويُسهمُ في خَرْقِ السفينةِ سطحيُّونَ لا يُدرِكونَ حجْمَ الخطرِ، ولا يتصوَّرونَ ضخامةَ المصيبةِ النازلةِ، ولا يَنظرونَ إلى مستقبلِ الأيامِ بعمقٍ وروّيةٍ، لا يَسمعونَ للنداءاتِ المحذِّرةِ، وإنْ سَمعوا لمْ يَستجيبوا، إذا علا صوتُ النذيرِ رأَوْه مبالِغًا، وإذا اتضحَ هدفُ المفسِدينَ لم يُحرِّكوا ساكنًا ولمْ يدفعوا باطلًا. 7 - ويخرقُ السفينةَ أحمقُ متهوِّرٌ يريدُ أنْ ينتقمَ لنفسِه أوْ ينتقمَ منَ الآخرينَ، فيحاولُ بكلِّ وسيلةٍ إغراقَ أهلِ المركبةِ، وإنْ كانَ هوَ ضمنَ قائمةِ الغرقى، وتضيقُ بهِ مساربُ الحياةِ فيختارُ تحطيمَ نفسِهِ والآخرينَ معهُ. 8 - ويُسهمُ في غرقِ السفينةِ متعجِّلٌ -وإنْ كانَ هدفهُ خيرًا- وغيرُ حكيمٍ-وإنْ كانَ قصدُه حسنًا-، فقدْ يقودُه اجتهادُهُ إلى نزعِ خشبةٍ في السفينةِ ليسدَّ بها خرقًا آخرَ، فإذا الخرقُ الذي أحدثَ أشدُّ ضررًا وأدعى للغرقِ! وفاتَه أنْ يستشيرَ غيرَهُ قبلَ أن يُحدثَ الضررَ الذي أحدثَ.

أيها المسلمونَ: أمّا حماةُ السفينةِ .. ومَنْ يقفُ في وجهِ هؤلاءِ الخارقينَ: فهمُ الآمرونَ بالمعروفِ والناهونَ عنِ المنكرِ، الذينَ يُتعِبونَ أنفسَهمْ منْ أجلِ أنْ يستمتعَ ويستريحَ غيرُهمُ، الذينَ يَسهرونَ منْ أجلِ أنْ يطمئنَّ غيرُهمْ، والذينَ يُخاطِرونَ بأنفسِهمْ من أجلِ أنْ يأمَنَ غيرُهمْ، بلْ مِنْ هؤلاءِ الحُماةِ المنقذينَ للسفينةِ ومَنْ عليها مَنْ قدْ لا يُجد لسدِّ خرقِ السفينةِ إلا رِجْلَه أو يدَهُ، تنهشُه الأسماكُ، وتُزعجُهُ دوابُّ البحرِ، ومَعَ ذلكَ لا يتحرّكُ حرصًا على سلامة الآخرينَ، وهؤلاءِ الناصحونَ المرابطونَ قدْ يسخرُ منهمْ بعضُ الجُهّالِ في المركبِ، لطولِ وقوفِهمْ على خُروقِ السفينةِ وعظيمِ تضحيتهمْ، بلْ قدْ يؤذيهمْ خارقو السفينةِ، وقدْ يشوِّهونَ سمعتَهمْ ويشكِّكونَ في مصداقيةِ حراستهِمْ للسفينةِ .. وما يضيرُهمْ إذا كانَ اللهُ معهمْ، يعلمُ قصدَهمْ، وهو المطَّلعُ على حُسنِ نواياهمْ، والمقدِّرُ لجهدِهمْ وجهادِهمْ. إنَّ هؤلاءِ المنقذينَ أصنافٌ كثيرةٌ، منهمُ الرجالُ والنساءُ، ومنهمُ العلماءُ والعوامُّ، ومنهمُ الدعاةُ وطلبةُ العلمِ، فيهمُ الأغنياءُ والفقراءُ، وفيهمُ المجاهدُ بنفسِهِ ومالِه ومَنْ لا يملكُ إلا الدعاءَ، منهمْ من يعملُ بنفسِه، ومنهمْ مَنْ لا يملكُ إلا المشورةَ والرأيَ، منهمْ مَنْ يتصدَّى لمنْ يخرقُ السفينةَ، ومنهمْ مَنْ يرصدُ ويكشفُ عوراتِ هؤلاءِ الخارقينَ، ومِنَ المنقذينَ للسفينةِ: أصحابُ الغيرةِ على المحارمِ، وإنْ لمْ يكونوا ملتزمينَ بأحكامِ الإسلامِ كلِّها، وأصحابُ العقول المقدِّرةِ لعواقبِ الأمورِ، وإنْ كانوا ظالمينَ لأنفسِهمْ مسبوقينَ في عملِ الصالحاتِ، ففَرْقٌ بينَ من يأتي المنكرَ وهوَ له كارهٌ، ويودُّ ألاّ يقعَ غيرُه فيما وقعَ هوَ فيهِ، وبينَ مَن يُقدِمُ على المنكرِ كما لو أقدمَ على معروفِ، بلْ يودُّ أنْ يكونَ هذا المنكرُ سلوكًا شائعًا في المجتمعِ كلِّه، نَعَمْ فرقٌ بين الانتهاكاتِ السلوكيةِ، والانتهاكاتِ القِيَميةِ.

إنَّ أرقى المجتمعاتِ -مجتمعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم- لمْ يسلمْ منْ ممارسةِ المنكرِ، لكنْ فرقٌ بينَ مَنْ يقولُ: زنيتُ يا رسولَ الله فطهِّرْني، وبينَ مَنْ يزني وهوَ يرى الزنى سلوكًا حضاريًا أو حريةً شخصيةً يتَّهمُ مَنْ ينكرُها! أيها المسلمونَ: ليجعلْ كلُّ واحدٍ منكمْ نفسَه منقذًا للسفينةِ، لا خارقًا فيها، وليسَ يَخفى أنه ما منْ منكَرٍ يتصدَّى له الناسُ بالإنكارِ، إلا توارى هذا المنكَرُ أو جلُّه، أو دفعَ اللهٌ بهذا الإنكارِ منكَرًا آخرَ سيترتَّبُ على المنكَرِ قبلَه، ولوْ لمْ يكنْ منْ ذلكَ شيءٌ فتكفي المعذرةُ: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (¬1). وإذا كانَ الناسُ كلُّهم إذا مُسَّتْ مصالحُهمُ الدنيويةُ ثاروا واستنكَروا دونَ أنْ يُنيبَ أحدٌ منهمْ غيرَهُ، فأصحابُ الغيرةِ والذينَ تتمعَّرُ وجوهُهمْ للمنكرِ همُ الذين يَستنكِرونَ ويتحرَّكونَ إذا اعتديَ على الدِّينِ واستُخفِّ بالقِيَمِ والأخلاقِ والسلوكياتِ الحميدةِ. وتلكَ شهادةٌ عاجلةٌ لهمْ بالإيمانِ في الدنيا، وأجرُهمْ على اللهِ يومَ يلقَوْنه وقدْ قاموا بأمرهِ: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (¬2). إخوةَ الإيمانِ: دعوني أختمْ لكمْ بقصةٍ واقعيةٍ تبيِّنُ أثرَ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكرِ في إزالةِ المنكَرِ واستصلاحِ المخطئينَ .. حدَّثَ صاحبي وقالَ: في صالةِ المطارِ كانَ الشابانِ يَستعدّانِ للسفرِ، وقدْ غيرَّا ملابسَهما، وقصّا شعورَهما، وربَّما خُتمتْ جوازاتُهما .. وهما يستعدّانِ للسفرِ، إذْ أبصرَهما ناصحٌ مشفقٌ عليهما، وسائلَهما قائلًا: إلى أينَ السفرُ يا أحبّائي؟ فتَلَعْثما في ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 164. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 115.

الإجابةِ، فسبقَهما قائلًا: كأنكما تريدانِ السفرَ إلى بلادِ كذا .. حيثُ تشيعُ الفاحشةُ، وتنتشرُ الرذيلةُ، وتوضعُ المصائدُ للشبابِ؟ وإني لكما ناصحٌ وعليكما مشفقٌ، إلاَّ راجعُتما أنفسَكما واستخرتُما اللهَ عنْ هذا السفرِ، فهل تعتقدانَ أنَّ اللهَ غافلٌ عنكما أينما كنتما؟ وما رأيُكما لوْ وافتْكما المنيةُ على حالٍ لا ترضَوْن أنْ تكونَ خاتمةً لحياتِكما؟ أليسَ واردًا أنْ تذهبا أحياءً وتعودا في التوابيتِ أمواتًا؟ ما حجمُ فضيحتِكمْ في الدنيا؟ وكيفَ بكمْ إذا قدمتُما على اللهِ تحملانِ أوزاركما على ظهورِكما يومَ القيامةِ؟ وما زالَ الناصحُ يقرعُ أسماعَهما بالحديثِ ويضربُ لهما الأمثالَ .. حتى التفتَ أحدُهما إلى صاحبهِ قائلًا: ما رأيُك في إلغاءِ السفرِ؟ فتردَّدَ الآخرُ ثمَّ وافقَهُ على إلغاءِ السفرِ .. أما الناصحُ لهما فقدْ تشجَّعَ .. رغمَ أنَّ وقتَ سفرِه قريبٌ، فما كانَ منهُ إلا أنْ ذهبَ بهما إلى صديقٍ لهُ صالحٍ، وأوصاهُ فيهما خيرًا، فاستقبلَهما صاحبُه وأكرمَ ضيافَتهما، ثمَّ عرضَ عليهما أنْ يذهبوا سويًا للطائفِ للمتعةِ والأنُسِ جميعًا، فوافقا، ثمَّ قالَ لهما: وما رأيُكما لو أخذْنا عُمرةً في طريقِ ذهابِنا؟ فوافقا .. وكانَ الوقتُ ليلًا، قالَ: إذًا فاستريحا حتى إذا كانَ الصباحُ تحرَّكْنا .. فتركَهما الضيفُ في مجلسِهِ وذهبَ إلى غرفةِ نومهِ، ولكنَّ الشابين استطالا الليلَ، وربما عاودَهما الشيطانُ بنزغِهِ، فخرجا منَ البيتِ وقرعا الجرسَ في ساعةٍ متأخِّرةٍ منَ الليلِ، ليستأذنا مُضيفَهما في الانصرافِ، وحينَ استيقظَ وسمعَ كلامَهما، قال: ما رأيكما أنْ نبدأَ الرحلةَ الآنَ؟ فوافقا، فأحرمَ الثلاثةُ كلُّهمْ ولبَّوا بالعمرةِ مخلصينَ للهِ، وكانتْ آخرُ كلماتِهم: لبَّيكَ اللهمَّ لبيكَ، لبيكَ لا شريكَ لكَ لبَّيكَ، إنَّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والمُلكَ، لا شريكَ لكَ لبَّيكَ .. ويا لها منْ كلماتٍ لو تأمَّلهَا المُحرِمونَ .. وكانتِ المنيةُ تنتظرُهمْ وهمْ مُحرمونَ، وعلى بضعِ كيلوات وقعَ الحادثُ وتوفيَ الثلاثةُ قبلَ وصولِهمْ

إلى مكةَ .. وحُملوا إلى المستشفى ثمَّ إلى المقبرةِ وأكفانُهم ثيابُ الإحرامِ، وآخرُ عهدِهمْ بالدنيا الذِّكرُ والطاعةُ، وفرقٌ بينَ مَنْ يُبعثُ يومَ القيامة مُلبّيًا، وبينَ من يموتُ في بلادِ الخيانةِ والفجورِ مُجرمًا فاسقًا .. وبعدَ حينٍ اتصلَ صاحبُهما الأولُ على صاحبهِ ليسألَ عنْ حالِ الشابَّينِ .. فأجهشَ محدِّثُه بالبكاءِ وهوَ يَقصُّ عليهِ نهايةَ الثلاثةِ، فما تمالكَ نفسَهُ عنِ البكاءِ .. لكنهُ حَمِدَ اللهَ أنْ كانَ سببًا في هدايتهِما وحُسنِ خاتمتِهما.

على أسوار القسطنطينية

على أسوار القسطنطينية (¬1) الخطبةُ الأولى: إن الحمدُ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلينَ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2). أيها المسلمون: وفي الأيامِ الحالكةِ، وفي ظروفِ الأَزَماتِ والشدةِ علَّمَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم أصحابَه والمؤمنين من بعدِهم، التفاؤلَ بنصرِ الله، وبشَّرهم بالفتوحِ الإسلامية والمشركون يغزونَهم في عُقْر دارِهم، ووَعَدَهم التمكينَ في الأرض والنصرَ على الأعداء. أجل، لقد بلغ الكربُ في غزوةِ الأحزاب ما قصّ اللهُ في كتابه: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (¬3). وبلغ الفألُ عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اعترضتْ صخرةٌ للصحابةِ وهم يَحفِرون الخندقَ، فاستنجدوا برسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فضربها ثلاثَ ضَرَباتٍ فتفتَّتتْ وقال إِثرَ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 12/ 3/ 1423 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 1. (¬3) سورة الأحزاب، الآية: 11.

الضربةِ الأولى: «الله أكبرُ، أُعطيتُ مفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لأبصرُ قصورَها الحمراءَ الساعةَ»، ثم ضربها الثانيةَ فقال: «اللهُ أكبر، أُعطيتُ مفاتيحَ فارسَ، واللهِ إني لأبصرُ قصرَ المدائنِ أبيضَ» ثم ضرب الثالثةَ وقال: «اللهُ أكبرُ، أُعطِيتُ مفاتيحَ اليمن، واللهِ إني لأبصرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذه الساعةَ» الحديث رواه أحمدُ والنَّسائيُّ بإسنادٍ حسن كما قال ابنُ حجر في الفتح 15/ 280 .. وغيرهما. اللهُ أكبر، كم بينَ مشاعرِ المسلمين في هذه اللحظةِ الشديدةِ التي عبَّر عنها بعضُ المنافقين بقوله: كيف يَعِدُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم كنوزَ كسرى وقيصرَ وأحدُنا لا يستطيعُ أن يقضيَ حاجتَه (¬1). وكَشَفَهم القرآنُ الكريمُ بقوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} (¬2). أقولُ: كم بينَ هذه المشاعرِ اليائسةِ من قِبَل المنافقين، والمُزلزَلَةِ من قِبَل المؤمنين، وبين بُشرى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من مسافةٍ، وصَدَقتِ البشرى، وكانت تلك الكلماتُ منه صلى الله عليه وسلم دلائلَ نبوةٍ وبشرى، ووعدًا صادقًا بفَتْح المسلمين مستقبَلًا لهذِه البلاد، ودينونةِ أهلِها بالإسلام، بل وانسياحِ الإسلامِ فيما وراءَها من بلادٍ وأُممٍ كانت تعيشُ الظُّلمَ والظلامَ، فانقلبتْ بعد الإسلامِ تتفيَّءُ نورَ الإسلام، وتتقلَّبُ في العدلِ والأمان. إخوةَ الإيمان: لكنَّ هذه الفتوحَ لم تُهدَ المسلمين على أطباقٍ من الدَّعَةِ والاسترخاء، وإنما تمَّتْ بعد بذلِ الأرواحِ والُمهَج، وإنفاقِ الغالي والنفيس، ¬

(¬1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 14/ 147. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 12.

وجمعِ طاقةِ الأمُة والارتفاعِ بهِمَمِها، والمرابطةِ على الثغورِ عدَّةَ سنين، والتنافسِ على الموتِ في سبيل الله أو تحقيقِ النصر لدين الله. أيها المسلمون: وهلمُّوا معي أقصُّ عليكم بناءَ ملحمةٍ من ملاحمِ المسلمين مع أعدائِهم الروم، وإن شئتَ فقُلْ: فصلًا من فصولِ الجهادِ في سبيل الله، ومحاولةً من محاولاتِ المسلمين لفتح القسطنطينية (مَعقِل الروم) وعلى أسوارِ القسطنطينية أقِفُ وإياكم، وعن جهودِ الأُمويِّين أحدِّثُكم. ومرةً أخرى أعودُ إلى هَدْيِ النبوة، وفي «صحيحِ البخاري» في كتاب الجهاد، باب: ما قيلَ في قتالِ الروم، عن أمِّ حَرَامٍ زوج عُبادةَ بنِ الصامت رضي الله عنهما قالت: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «أولُ جيشٍ من أُمَّتي يغزونَ البحرَ قد أَوجَبُوا» قالت أمُّ حرامٍ: قُلتُ: يا رسولَ الله، أنا فيهم؟ قال: «أنتِ فيهم» ثم قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أولُ جيشٍ من أُمتي يغزونَ مدينةَ قيصرَ مغفورٌ لهم» فقلتُ: فيهم يا رسولَ الله؟ قال: «لا» (¬1). وأقفُ مع هذا الحديثِ، ومع أولِ محاولاتِ المسلمين لفتح القسطنطينية عِدةَ وَقَفاتٍ: 1 - هِمّةُ هذه المرأةِ المسلمةِ على فعلِ الخير والجهادِ في سبيل الله، رجاءَ مغفرةِ الذنوب ورِفْعةِ الدرجاتِ، وقد وَرَدَ في روايةٍ أخرى عند البخاري: أن أمَّ حرامٍ رضي الله عنها حين سمعتْ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن نفرٍ من أُمتِه يركبون ثَبَجَ البحرِ مجاهدين في سبيل الله قالت: يا رسول الله، ادْعُ اللهَ أن يجعلَني منهم، فقال: «اللهمَّ اجعَلْها منهم». وقد كان وركِبَتْ أمُّ حرامٍ البحرَ مع المجاهدين، وشاء اللهُ أن تُستشهَدَ وهي ¬

(¬1) الفتح 6/ 102، ح 2924.

غازيةٌ على أثرِ وَقْصِ دابتِها (¬1). وفرقٌ بين هِمَّةِ هذه المرأةِ في الجهادِ والاستشهاد، وهِمَمِ نساءٍ أُخرَ لا يتجاوزنَ المطعمَ والمشربَ والمُودِيل والمُوضة .. ، وأعظمُ من ذلك إذا كانت بَرِيدًا للفتنة مُستخدمة لإشاعةِ الفاحشة، ومع ذلك فلا يزالُ في عددٍ من نسائِنا خيرٌ كثيرٌ، ومنهنَّ من تتطلَّعُ إلى همَّةِ أم حرامٍ، وتودُّ أن تنتهيَ كنهايتِها. 2 - في الحديثِ -كما قال أهلُ العلم- مَنقِبةٌ لمعاويةَ رضي الله عنه لأنه أولُ مَن غزا البحرَ، ومنقبةٌ لولدِه يزيدَ لأنه أولُ من غزا مدينةَ قيصرَ (القسطنطينية) (¬2). 3 - وفي الحديثِ كذلك منقبةٌ لأبي أيوبَ الأنصاريِّ رضي الله عنه، الذي كان ضمنَ هذا الجيشِ الغازي للقسطنطينيةِ، بل استُشهِدَ عند أسوارِها، وأَوصى أن يُدفَنَ عند بابِ القسطنطينية، وأن يُعفَى قبرُه، ففُعِل ذلك به، ويقال: إن الرومَ صاروا بعد ذلك يَستسقُون به (¬3). 4 - وعيُ معاويةَ رضي الله عنه وحرصهُ على حربِ الروم جعلَه يُعِدُّ العُدَّة ويرسلُ البعوثَ لمحاصرةِ الروم وإشغالِهم عن المسلمين من جانبٍ، وفتحِ بلادِهم ونشرِ الإسلام فيها من جانبٍ آخرَ، وفوقَ هذا وذاك فهو منه إدراكٌ واعٍ لموقعِ الروم فيِ الأُمم، تلك التي عبرَّ عنها رضي الله عنه بقوله: «شُدُّوا خِنَاقَ الرومِ فإنكم تَضبِطون بذلك غيرَهم من الأمم» (¬4). 5 - وشارك معاويةَ رضي الله عنه في هِمّةِ جهادِ الروم خلفاءُ آخرون في دولةِ بني أُميَّة، ¬

(¬1) البخاري، الجهاد: غزو المرأة في البحر، الفتح 6/ 76 ح 2877، 2878. (¬2) الفتح 6/ 102. (¬3) الفتح 6/ 103. (¬4) تاريخ خليفة بن خياط ص 220.

ومن أبرزِ هؤلاء عبدُ الملك بنُ مروانَ وسليمانُ بنُ عبدِ الملكِ رحمه الله حيث جمعَ الجموعَ وحشدَ الحشودَ لغزوِ الروم، وشاركه الهِمةَ جماعةٌ من الفقهاءِ والمحتسبين، وهمَّ الخليفةُ سليمانُ بالإقامة في بيتِ المقدسِ لجمعِ الناسِ والأموالِ، ولكنه عَدَلَ عنها إلى (دابق) شمالًا (وهي قريةٌ قربَ حلب) وذلك ليكونَ أَقربَ إلى ميدانِ القتال، وليرفعَ من روحِ المقاتلين، بل لقد حَلَفَ ألا يعودَ حتى تُفتحَ القسطنطينيةُ أو يموتَ دون ذلك، وقد برَّ بيميِنه فمات هناك، قال ابنُ كثير: فحَصَلَ له بهذه النيةِ أجرُ الرِّباطِ في سبيل الله، فهو -إن شاء اللهُ- ممَّن يُجرى له ثوابُه إلى يومِ القيامة رحمه الله (¬1). 6 - ومَسلمةُ بنُ عبدِ الملكِ، وعمرُ بنُ هُبَيْرةَ الفَزَاريُّ ومَسْلمةُ بنُ حبيبٍ الفِهْري وأبو يحيى البَطَّال وغيرُهم من قادةِ الجيوش، أو سائرِ رجالات الجيشِ الغازي .. كلُّ هؤلاء أبلَوْا بلاءً حسنًا وتحمَّلوا عناءَ السفرِ ومشقَّةَ الجهاد، ومنهم من قَضَى نحبَه شهيدًا صادقًا، ومنهم مَن انتظرَ مرابطًا صابرًا محتسبًا على صعوبةِ العيش وبَرْدِ الشتاء، ودونَكم هذه الروايةَ عن شاهدِ عِيانٍ تحكي شيئًا من معاناةِ المجاهدين هناك، يقول الذهبيُّ: قال محمدُ بن زيادٍ الأَلْهاني: غَزوْنا القسطنطينيةَ، فجُعْنا حتى هلكَ ناسٌ كثير، فإنْ كان الرجلُ يخرجُ إلى قَضاءِ الحاجَةِ، والآخرُ ينظرُ إليه، فإذا قام أقبلَ ذلك على رجيعِه فأكلَه (¬2). وهل تعلمونَ أنَّ عمرَ بنَ عبدِ العزيز رحمه الله حين استُخِلفَ -بعدَ سليمانَ- وأَمرَ بعودةِ الجيشِ المرابطِ على أسوارِ القسطنطينية، لم يرجِعْ هذا الجيشُ إلا بعد تردُّدٍ، وكان رجوعُه استجابةً لمطلبِ الخليفةِ؟ ¬

(¬1) البداية والنهاية 9/ 205. (¬2) سير أعلام النبلاء 4/ 502.

7 - درسٌ من التاريخِ يُعلِّمنا عدمَ الركونِ للأعداءِ والثقةِ إليهم ومحالفتِهم، ففي هذه الحملةِ على القسطنطينيةِ، حاصرَ المسلمون في طريقِهم- عمُّوريةَ، فكتب حاكمُها النصرانيُّ (أَليون) إلى مَسْلمةَ بنِ عبد الملك يُخبِرُه بما تحتَ يدِه، ويطلبُ منه الإذنَ بمقابلتِه، ويعَرِضُ عليه النصحَ والنصرةَ لفتحِ القسطنطينية، فلما قرأ مَسلمةُ الكتابَ، استشار أمراءَه وأهلَ مشورتِه، فأشاروا عليه جميعًا بالموافقةِ على المقابلةِ والعرضِ إلا رجلًا واحدًا هو مَسْلمةُ بن حَبيبٍ الفِهْري الذي رفضَ ذلك بحُجَّةِ أن الرومَ أهلُ مكرٍ وخداع، وهذه إحدى مكرِهم فلا تُعطِهِ إلا السيفَ (¬1). ولكنَّ المجتمعين خالفوه الرأيَ، بل ضَحِكوا من رأيِه، وقالوا: كبِرَ الشيخُ، وهوَّنوا من شأنِ (أليون)، فأذِنَ لصاحبِ عمُّوريةَ وجاء إلى مَسلمةَ ومعه اثنا عشرَ ألفًا من قوَّادِه، فاتفقا على أن يدلَّ أليونُ المسلمين على فتحِ القسطنطينية في مقابلِ تمليكِه على الروم، وابتدأ تنفيذُ الاتفاقِ بفكِّ الحصارِ عن (عمورية)، وصاحَبَ (أليون) المسلمين حتى وصلوا إلى القسطنطينيةِ، وظلَّ يتحيَّنُ أدنى فرصةٍ للغَدْرِ بالمسلمين، ولسببً أو لآخر تختلفُ الروايات في تحديده، دخلَ (أليون) إلى القسطنطينيةِ واتفق مع أهلِها أن يُملِّكوه عليهم مقابلَ تصدِّيه لمسلمةَ وجيشِ المسلمين والغدرِ بهم، وهنا أَحسَّ مسلمةُ والمسلمون معه بغَدْر النصارى ومكرِهم وظهرَ لمسلمةَ ومن شاركه الرأيَ خطؤُهم، واشتدَّ أسَفُهم وغَلبتْهم الكآبةُ وأصابهم نتيجةَ هذا الغدرِ -همٌ عظيمٌ .. ولكن هيهاتَ بعدَ فواتِ الأوان، وحين بعثَ مسلمةُ بعضَ رجالاته لمناقشةِ (أليون) في غدرهِ وتذكيره بما عاهدَ المسلمين عليه، أجابهم (أليون) بكلِّ صراحة قائلًا: لئن ظنَّ مسلمة أني أبيعُ ¬

(¬1) تاريخ دمشق 58/ 21.

مُلكَ الروم بالوفاءِ له لبئسَ ما ظنَّ (¬1). وبقي الدرسُ الجليُّ لمَسْلمةَ والمسلمين معه، بل وللمسلمين من بعدِه بعدمِ الركونِ للكافرين، والتعاملِ الواعي والمشروعِ مع الكافرين وَفْقَ عقيدةِ الولاءِ والبرَاءِ، ووَفْقَ توجيهاتِ العليمِ الخبير، وكفى بالقرآنِ واعظًا، والله يقول: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًا وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} (¬2). ¬

(¬1) تاريخ دمشق 66/ 246، 247، الذهبي: تاريخ الإسلام 81 - 100 ص 271، وانظر: د. سليمان السويكت، الحملة الأخيرة على القسطنطينية في العصر الأموي/ 23. (¬2) سورة التوبة، الآية: 8.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانيةُ: الحمدُ للهِ أمرَ بجهادِ الكافرين والمنافقين والغِلْظةِ عليهم، كما أمرَ بالقِسْط والبِرِّ عن الذين لم يُقاتِلُوكم في الدّين ولم يُخرِجُوكم من ديارِكم، والله يُحبُّ المُقسِطين، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، نهى عن موالاةِ الكافرين واتخاذِ بطانةٍ لا يَأْلونَ المسلمين خَبالًا. وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولهُ قال: وجُعِلَ رزقي تحتَ ظِلِّ رمحي، والذلُّ والصَّغَارُ على مَن عَصَاني، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلينَ. 8 - إخوةَ الإسلام: وثَمةَ درسٌ ثامنٌ من هذه الحملةِ المبكِّرةِ لمحاولة فتحِ القسطنطينية يقول: الهوَّيةُ الدينيةُ أمكنُ من الهويةِ العِرْقية .. كيف هذا؟ وما دليلُه في هذه الحملةِ؟ لقد جاءَ في بعض الرواياتِ التاريخيةِ أنه كان يعيشُ في بلادِ الروم في ذلك الزمان عناصرُ عربيةٌ نصرانية، وكانت تُقاتِلُ جنبًا إلى جنبٍ في صفوفِ الرُّوم النصارى، بل كان بعضُهم شديدًا على المسلمين، كما في قصةِ خالدِ ابن عُمَير السُّلَمي الذَّكْواني الذي بارزَ رجلًا من المسلمين أثناءَ الحِصار، فأُسِرَ هذا النصرانيُّ العربيُّ وبُعِثَ به إلى هشامِ بنِ عبدِ الملكِ وهو بِحرَّانَ والٍ عليها، فقُتِلَ بينَ يديه لما أصرَّ على الكفرِ (¬1). ومن هنا فلا بدَّ من التأكيدِ على ولاءِ العقيدةِ ورابطةِ الأُخوَّةِ الإسلامية وعدمِ المبالغةِ والاتكاءِ على روابطِ الجنسِ واللغةِ واللون، فتلك لا يقامُ عليها بنيانٌ، ¬

(¬1) تاريخ دمشق 16/ 179، معجم البلدان 3/ 43 - 44، د. سليمان السويكت، الحملة 25.

ولا يُعتمَدُ على أصحابِها في الجهادِ ونكايةِ العدو، وتحريرِ المقدَّسات. وأخوَّتُنا -معاشرَ المسلمين- بالإيمان {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬1) وكرامتُنا بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬2)، وعلى صعيدِ الواقع كم حصل في مجتمعاتِ المسلمين من خياناتٍ لم تنجُ منها العروبةُ وروابط القوميةِ، ووَحْدةُ الأرضِ واللغة؟ ! 9 - أيها المؤمنون: ولئن لم تُفتحِ القسطنطينيةُ في هذه الحَمَلاتِ والمحاولاتِ أيامَ الأُمويين، فلم تَضِعْ جهودُ المسلمين سُدًى، ويَكفِيهم أن كَتَبَ اللهُ منهم حينَها شهداءَ، وكان لبعضِهم فضلُ الرِّباطِ في سبيلِ الله، ورباطُ يومٍ في سبيلِ الله خيرٌ من الدنيا وما فيها. ومَهَّدَ هؤلاء لفتحٍ مرتَقَبٍ أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عنه وعن أصحابهِ بقوله: «لتُفتحَنَّ القسطنطينيةُ، فلنِعمَ الأميرُ أميرُها، ولنِعمَ الجيشُ ذلك الجيشُ» (¬3). وكان العثمانيونَ أصحاب هذا الفتحِ، وكان محمدٌ الفاتح أميرَ الجيش، وفضلُ الله يؤتيهِ من يشاءُ. 10 - على أنَّ هؤلاءِ المسلمين الأوائلَ المحاولينَ لفَتْح القسطنطينيةِ وإن لم يُكتَبْ لهم فتحُها فقد تركوا فيها من المآثرِ ما به يُذكَرُ اللهُ، والمساجدُ شعارُ المسلمين أين حلُّوا وأين ارتحلوا، وابنُ تيميَّةَ في زمنِه يذكرُ مسجدًا بناه المسلمون الأُمَويُّون ويقول: وأَقاموا على حصارِ القسطنطينيةِ عدةَ سنين في زمنِ عبد الملكِ بن مروانَ حين بعث ابنه مَسْلمةَ بجيشٍ عظيم إليها قال: ثم صالحوهم ¬

(¬1) سورة الحجرات، الآية: 10. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 13. (¬3) رواه أحمد في مسنده 4/ 335، والهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 218 وقال: رجاله ثقات.

على أن يَدخُلوها، وبنَوْا فيها مسجدًا، وذلك المسجدُ باقٍ إلى اليوم (¬1). وكذلك يُعلِّمُنا التاريخُ أن اللاحقَ من المسلمين يُكمِلُ ما بدأَه السابقُ ومن لم يُقدَّرْ له الفتحُ والنصرُ على الأعداءِ في حينِه فحَسْبُه الأجرُ على ما قدَّمَ لنفسِه وهيَّأَه لمن يأتي بعدَه. ذلكُم -معاشرَ المسلمين- فصلٌ من فصولِ ملاحمِنا مع الرومِ النصارى، وتلك نماذجُ لهِمَمِ رِجالِنا ونسائنا، وتلك دروسٌ في علاقاتِنا مع الأُمم من حولِنا. إنها ليست صفحاتٍ مطويَّةً في غابرِ الزمن، بل هي رصيدٌ وتجربةٌ علينا أن نُفِيد منها، ونستفيدَ من عِبَرِها، ونحن أُمةٌ لها تاريخٌ مجيدٌ لا يكفي أن نفتخرَ به، بل لا بدَّ من تجديدِ ما اندثرَ، وإحياءِ ما ذَبُلَ، والتذكيرِ بما نُسي، ومن تذكَّر فإنما يتذكَّرُ لنفسه، وفي محكمِ التنزيل: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (¬2). أيها الناسُ: وفي زمنِ الامتحاناتِ -كهذه الأيام- حريٌ بنا أن نَذْكرَ ونَتذكَّرَ قيمةَ العلمِ، وقيمة السلوكِ، وعلى المُربِّين والمعلِّمين ألا يجعلوا الامتحانَ هدفًا بذاتِه، بل هو وسيلةٌ يمكنُ من خلالِها أن يربَّي الطلابُ والطالباتُ على مزيدِ الثقة والطمأنينةِ والأمانةِ والجديّةِ، وحريٌ بالآباء أن يُسهِموا في تحصيل أبنائهم وتوفيرِ الأجواءِ المناسبةِ والصالحةِ لاستذكارهم، وأن يَحذَرُوا -وهنا وقفةٌ مهمَّة- أن يَحذَروا من لصوصِ الامتحانات .. فثَمَّةَ نوعيةٌ من آحادِ الشباب تُصطادُ في مثلِ هذه الظروف، بدايةً بإهداءِ الحبوب المساعدةِ على السهر، ¬

(¬1) الفتاوى 18/ 352. (¬2) سورة الحج، الآية: 46.

وانتهاءً بالمخدّراتِ والمسكِّرات .. وتلك نهايةُ الوحلِ وبدايةُ مشوارِ الدمارِ والعَطَب، واحذروا على فَتَياتِكم من أصحابِ الأرقام المقذوفةِ .. وما تجرُّه من مكالماتٍ هاتفيةٍ هي بدايةُ السقوط للفتاة -لا قدَّر اللهُ-. إنَّ علينا جميعًا أن نَحذَرَ من رُفَقاءِ السُّوء لأبنائِنا وبناتِنا في كلِّ حينٍ، وعلينا في هذه الأيامِ أن نركِّزَ اهتمامَنا أكثرَ حيثُ تبدأُ علاقاتٌ للامتحان بحُجَّةِ الدراسة، ثم تتحوَّلُ إلى علاقاتٍ مشبوهةٍ تنتهي بتَرْك الدراسة وتتطوَّرُ إلى أمورٍ أخرى يَنْدَى لها الجبينُ، فتنبَّهوا معاشرَ الشباب ومعاشرَ الفتياتِ لأهل الِخداع والمكرِ، وقل لي مَن تصادقْ، أقلُ لك من تكونُ في الحاضرِ والمستقبل .. اللهمَّ احفَظْ أبناءَنا وبناتِنا من كلِّ مكروه، ووَفِّقْهم للنجاحِ في امتحانِ الدنيا والآخرةِ.

الإجازة بين فئتين ملاحظات ومقترحات

الإجازة بينَ فئتينِ ملاحظاتٌ ومقترحاتٌ (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدُ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ، ومنْ يضْلِلْ فلا هاديَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلينَ، وارْضَ اللهمَّ عنِ الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ وتابعيهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. أيُّها المسلمونَ: في كلِّ حينٍ تُمتَحنُ الهمَمُ، فهذا عالٍ في همّتِهِ، طَموحٌ في أهدافهِ الخيّرةِ، وآخرُ دونيُّ الهمّةِ، متكاسلٌ في عملِ الخيرِ لنفسِهِ، ومن بابِ أوْلَى فهو أضعفُ منْ أن يُقدِّمَ الخيرَ لمجتمعِه وأمتِه ولكنَّ أوقاتَ الفراغِ تكشفُ أكثرَ تفاوتَ الهممِ، والقدرةَ على استثمارِ الأوقاتِ بما ينفعُ. يُقال ذلكَ ونحن مُقبلونَ على الإجازةِ الصيفيةِ، ففيها يفرُغُ الطلابُ والطالباتُ من تكاليفِ الدراسةِ، ويتمتعُ عددٌ كبيرٌ منَ الموظفينَ بالإجازةَ لمدةٍ تطولُ أو تقصُرُ. وهنا تُمتحَنُ الهممُ أكثرَ، ويحتاجُ المسلمُ إلى إعادةِ النظرِ في قيمةِ وقتِه واستثمارِ فراغِه -سواءٌ حلَّ أمِ ارتحلَ. إنَّ منَ الناسِ مَنْ لا يُقدِّرُ قيمةَ الزمنِ، ولا يسألُ نفسَه عما حقَّقَ وأنجزَ، يَكفيهِ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 19/ 3/ 1423 هـ.

أنْ يُمضيَ سحابةَ نهارِه وشطرًا مِنْ ليلِه في أُنسٍ وفُكاهةٍ ومطعمٍ ومشربٍ، لا يكترثُ بمَ يُقضَى الوقتُ، ولا فرقَ عندَه بنوعيةِ ما يسمعُ أو يُشاهدُ ... ولو كانَ في دائرةِ الفسوقِ والفجورِ -ولهؤلاءِ وأمثالهم يُقال: إن في دينِنا -دينِ الإسلام- فُسحةً للترويحِ عنِ النفسِ، والأُنسِ بالأصحابِ، والمحادثةِ مع الخِلّانِ، والاستمتاعِ بالنظرِ، وتشويقِ الأذنِ للسمع .. ولكنْ في سياج الشرعِ المطهَّرِ، وفي حدودِ الفضيلةِ، وفي إطارِ المكارمِ والمحامدِ -وهذه الفضائلُ والمكارمُ، والحدودُ الآمنةُ- فيها غُنيةٌ للنفسِ وإراحةٌ للضميرِ، وطمأنينةٌ للقلبِ. أجَلْ، إنَّ الدراساتِ والتقاريرَ الميدانيةَ تكشفُ أنَّ أكثرَ الناسِ إصابةً بالأمراضِ النفسيةِ، همُ المنفتحونَ على كلِّ شيءٍ، والمشاهدونَ لكلِّ شيءٍ، والمستمعونَ لكلِّ لَغْوٍ .. والمتخفِّفونَ من تكاليفِ الشرعِ فلم تَزدْهم هذه الغفلةُ والمؤانسةُ المنحرفةُ إلا همًّا وكمَدًا. وأصبحَ الواحدُ منهُم بلسانِ حالِهِ يقولُ: لقدْ مارستُ كلَّ شيءٍ .. ولكنَّ هذه وتلكَ عادتْ عليَّ بالضيقِ والضجَرِ والكآبةِ والحسرةِ. وعادَ هؤلاءِ يبحثونَ عن السعادةِ التي فَقَدوها، وأدرَكوا بعدَ حينٍ أنَّ الإعراضَ عنِ اللهِ وذكرِهِ وعبادتِه السببُ الأولُ والأخيرُ لهذه الأمراضِ النفسيةِ والانحرافاتِ السلوكيةِ .. وكأنَّهُم لأول مرةٍ يقرؤونَ قولَه تعالَى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} (¬1). وكأنَّهُم لأولِ مرَّةٍ يسمعونَ النداءَ: {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬2). يا عبدَ اللهِ: أيُّ مشروعٍ تُفكرُ فيه في هذه الإجازةِ، لا بد أنْ تُحدِّدَ -ابتداءً- ¬

(¬1) سورة طه، الآية: 124. (¬2) سورة الرعد، الآية: 28.

الهدفَ منْهُ، ولا بدَّ -ثانيًا- أنْ تُفكرَ في الوسيلةِ المناسبةِ لتنفيذِهِ، ولا بد -ثالثًا- منْ تقييمِ المشروع بعد انتهاءِ العملِ منْهُ .. وكلَّما كانَ الهدفُ خيِّرًا، والوسيلةُ صالحةً والتقييمُ دقيقًا .. كلَّما تحققَتِ النتائجُ بشكلٍ أفضلَ، وأورثَتْ صاحبَ المشروعِ أُنْسًا وسعادةً، يُحسُّ بها في الدنيا، ويجدُ جزاءَها يوم يلقى ربَّه حينَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا مَنْ أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ، وإذا كان المالُ والبنون زينةَ الحياة الدنيا، فالباقياتُ الصالحاتُ خيرٌ عند ربِّك ثوابًا وخيرٌ أملًا. يا أخا الإسلام: وفي زمنٍ يتصلُ العالَمُ بعضُهُ ببعضٍ، وتكثرُ المغُرياتُ وتهيجُ أعاصيرُ الفتنِ هُنا وهُناك، يتآمرُ أبناءُ المللِ على تشويهِ صورةِ الإسلامِ، ويصبحُ المسلمونَ هدفًا للإبادةِ .. وتنشطُ الإرسالياتُ التبشيريةُ في مشاريعها المُفسِدةِ، وتفوحُ روائحُ العداءِ والتشفِّي منَ المسلمينَ على أصْداءِ القمعِ الوحشي لليهود الصهاينةِ، ويكشفُ الهندوسُ والبوذيونَ، والشيوعيونَ، والباطنيونَ والمنافقونَ، والشهوانيونَ، وأهلُ الأهواءِ، عنْ وجوهِهِم الكالحةِ ويتقدمون بمشاريعِهِم المنحرفةِ. هنا -وفي كلِّ هذه الظروفِ الصعبةِ- أفَيليقُ بمسلمٍ ومسلمةٍ يقدرُ مسؤوليتَهُ أمامَ اللهِ، ومسؤوليتَهُ تجاهَ قضايا أمتِهِ، وواجبَهُ تجاهَ دينِهِ .. أنْ يُضيعَ وَقتَه سُدًى؟ أو يكتفي بالحوقلةِ وعدم الرِّضَى .. فضلًا أنْ يشاركَ الآخرينَ في الفسادِ بأيِّ شكلٍ مِنَ الأشكالِ؟ ! إخوةَ الإسلامِ: والأشياءُ التي يُقضَى بها الوقتُ بما يضرُّ ولا ينفعُ كثيرةٌ، ولا مجالَ لحَصْرِها الآنَ .. ولكنْ دَعونا نركِّزُ على أمورٍ ثلاثةٍ فقطْ، تستحوذُ على اهتمامِ طائفةٍ منَ الناسِ، ولا بدَّ أنْ يدركوا مخاطرَها. أولاها: العكوفُ على القنواتِ الفضائيةِ وشبكاتِ «الإنترنت» الفاسدةِ، وهذه كما تسرقُ الأوقاتَ، تسرقُ القيمَ وتُفسد السلوكياتِ، بلْ تُلوِّثُ الأفكارَ، وتُشوِّهُ

الثقافةَ النزيهةَ، وتُسيءُ إلى الإسلامِ وتستعمرُ المسلمينَ. إنها تحملُ الإرهابَ الفكريَّ، وتنقلُ الإيدزَ الأخلاقيَّ، وتحلُّ محلَّ الاستعمارِ العسكريِّ وتدعو للعقائدِ المنحرفةِ، وتُشوِّهُ العقيدةَ الصحيحةَ، وتُبرزُ الرذيلةَ وتدعو لممارسةِ الفاحشةِ، تُموَّلُ منْ تُجارِ اليهودِ والنصارَى وتُخْتارُ بَرامجُها بعنايةٍ، ويُخطَّطُ لأهدافِها بدقةٍ. فهلْ نَعِي الحقيقةَ ونُدركُ الخطرَ، أم نظلُّ سُكارَى حتى نُرْتَهنَ؟ ! وثانيها: السَّفرياتُ الخارجيةُ المسرفةُ، تلك التي يندسُّ أصحابُها في أماكنَ مشبوهةٍ، ويقصِدونَ الرحلةَ إلى بيئاتٍ غير نزيهةٍ -وأولئكَ كذلكَ تُسرَقُ أخلاقُهم وقيمُهم قبلَ أنْ تُسرَقَ جيوبُهم، وتُمتَهنُ كرامتُهم، ويحَ هؤلاءِ لو سألوا أنفسَهُمْ عن المالِ كيف أنفَقوه؟ وعنِ الوقتِ كيف أضاعُوه؟ وعن الفضيلةِ كيفَ أزهقوها؟ وعنْ شخصياتِهمْ كيفَ أهانوها؟ وعنْ إسلامِهم كيفَ دنَّسوه؟ وعنْ بلادِهم كيفَ شوَّهوها؟ هلْ يُدركُ هؤلاءِ أنهُمْ ربَّما أنفقوا درهَمًا ذَبحوا فيهِ أنفسَهم وكانوا سببًا في ذبحِ إخوانِهِمُ المسلمينَ؟ بلى، إنَّ تعزيزَ اقتصادياتِ أعدائنا يرجعُ سِلاحًا تُطحنُ به صدورُ إخواننا؟ وهكذا تكونُ الجريمةُ مضاعفةً، والبليةُ شاملةً! نسألُ اللهَ العفوَ والعافيةَ لنا ولإخواننا المسلمين. ثالثًا: الاهتمامُ بالرياضةِ إلى حدِّ الهوَسِ، والمتابعةُ للمبارياتِ بشكلٍ ملفتٍ، وهذه ربَّما ظنَّ البعضُ أنَّها أهونُ المسالكِ وأخفُّ الأضرارِ وليسَ الأمرُ كذلك، وقد طالعْتُ بالأمسِ -في إحدى الصُحفِ المحليةِ- مقالًا جميلًا بعنوان (الكُرةُ أفيونُ الشعوبِ) وابتدأَ صاحبُ المقال مقالّهُ قائلًا: غدًا سيبدأُ كأسُ العالمِ، ويبدأ معه موسمُ الجُنونِ والغفلةِ، (الجنونُ) لأنَّها الحالةُ الوحيدةُ التي تَسْتولي على كافةِ العقولِ، و (الغفلةِ) لأنها الفترةُ الوحيدةُ التي تَنسَى فيها الشعوبُ

مصائبَها، وتُغمضُ الطَّرْفَ عن مصائبِ الآخرينَ. ثمَّ يقولُ الكاتبُ: وكرةُ القدمِ تستحقُّ لقبَ (أفيونِ الشعوبِ) لأنَّها فترةُ خَدَرٍ لذيذةٍ طالما استغلَّها السياسيون لصالحِهم .. ثمَّ ذكرَ الكاتبُ نماذجَ عالميةً لاستغلالِ الساسةِ لمبارياتِ كرةِ القدمِ في تحقيقِ أهدافِهم ثمَّ ختمَ الكاتبُ مقالَهُ قائلًا: وشخصيًا ما زلتُ أذكرُ كيفَ استغلَّتْ إسرائيلُ انشِغالَنا ببطولةِ 1982 م فغزتْ لبنانَ، ودمّرَتْ بيروتَ، وارتكبَتْ مجازرَ صَبرا وشاتيلَّا، وأتوقَّعُ أنَّها سُتبادرُ (خلالَ البطولةِ الحاليةِ) إلى اقتحامِ غزةَ، وتدميرِ السلطةِ في مخطَّطٍ أجّلتْه لكأسِ العالمِ، وبالطبعِ كلُّ ما تحتاجُه عمليةَ استشهادٍ صغيرةٍ أهـ. فهلْ يا تُرى يُدركُ العقلاءُ ما لهذِهِ الرياضةِ مِنْ مخاطرَ وأهدافٍ؟ ؟ (¬1). أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (¬2). اللهمَّ انفَعْنا بالقرآنِ. ¬

(¬1) فهد عامر الأحمدي، جريدة الرياض، الخميس 18/ 3/ 1423 هـ. (¬2) سورة المؤمنون، الآيتان: 115، 116.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانيةُ: الحمدُ للهِ جلَّ ثناؤه وتقدسَتْ أسماؤه، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلينَ. وبعدُ: فمِنَ الإنصافِ أنْ نقولَ: إنَّ عددًا كبيرًا مِنَ الناس باتوا يدركِونَ هذه المخاطرَ وغيرَها، وأقلعَ عنْها أناسٌ طالَما فُتِنوا بها، وثَمةَ فئةٌ ربّما مارسَتْها وهي لها كارهةٌ، وعسَى اللهُ أن يُعجِّل بتوبةِ المخطِئينَ، ويغفِرُ للمستغفِرينَ، وليسَ بينَ العبدِ وربِّه من حُجُبٍ، وربُّكَ الغفورُ الرحيمُ. أيُّها المؤمنونَ: وحينَ نلتفتُ إلى الفئةِ الأخرَى الحريصةِ على وقتِها والراغبةِ في دعوةِ الآخرينَ، نجدُ خيرًا كثيرًا، ونجدُ أصداءً ونتائجَ لهذه الدعوةِ .. ولكنْ ولمزيدِ التفعيلِ أكثرَ، وفي سبيلِ نقدِ الذاتِ لتقديمِ عطاءٍ أفضلَ نقولُ: إنَّ ثمةَ معوقاتٍ للدعوةِ منْ داخلِ الدعاةِ وبإمكانِهم أنْ يعالجوها، ويُجدِّدوا في الدعوةِ ويخطِّطوا لَها. ومنْ أدوائِنا في الدعوةِ: 1 - الفرديةُ في العملِ، والأحاديةُ في الرأيِ، فروحُ الفريقِ المتفاهِم أنجحُ، والمشورةُ لا تأتي إلا بخيرٍ، فلو أنَّ مجموعةً مِنَ الناس فكَّروا جميعًا في مشروعٍ دَعَويٍّ أو تعليميٍّ، ثمَّ صاروا بعدَ التفكيرِ إلى التنفيذِ - لكانَ ذلكَ أسهلَ في العملِ، وأثمرَ في الإنتاجِ. إنَّ عددًا مِنَ الناسِ لديهمُ القدرةُ على الاجتماعِ لرحلةٍ أو لقاءٍ أسبوعيٍّ أو

شهريٍّ .. ولكنَّ هذا اللقاءَ ينتهي عندَ حدودِ الأحاديثِ الودّيةِ، وتناقلِ الأخبارِ المحليةِ والعالميةِ، وتناولِ وجبةِ الطعامِ ليسَ إلّا. أفَلا يستطيعُ هؤلاءِ أنْ يفكِّروا بمشروعٍ للدعوةِ في سبيلِ اللهِ؟ وهنا تتحوّلُ هذه اللقاءاتُ إلى الإيجابِ بدلَ السلبِ، وإلى حفظِ الأوقاتِ بدلَ إضاعتِها؟ ولو كانَ ذلكَ مرةً في الفصلِ، فلا تحقرنَّ منَ المعروفِ شيئًا؟ 2 - ومنْ أخطائنا: ضَعفُ التخطيطِ فنحنُ نهتمُّ بالفكرةِ ويضعُفُ تفكيرُنا بحسنِ التخطيطِ لها، وإدارةِ الوقتِ لها؛ والتخطيطُ والإدارةُ فنٌ، بلْ عِلمٌ مهمٌّ، لا يسوغُ أنْ يضعفَ الأخيارُ فيه ويتفوّقَ غيرُهم، والتخطيطُ السليمُ لا يُفيدُ فقطْ في حسنِ الإنتاجِ ومضاعفةِ الثمارِ، بلْ يُسهمُ في دفعِ العاملينَ للعملِ، وفي سهولةِ التنفيذِ، وفي تلافي كثيرٍ من السلبياتِ والمعوّقاتِ، فهلْ يا تُرى نُعنَى بالتخطيطِ؟ وهل نقرأُ في الإدارةِ؟ وهل نُفكر في دورات من هذا القبيل؟ 3 - ونضعفُ كذلكَ في إشراكِ الآخرينَ في التمويلِ والتنفيذِ. إنَّ بعضَ المخلِصينَ يظنُّ أنَّ مشروعَ الخيرِ الذي يُفكرُ فيه ينبغي أنْ يبدأَ وينتهي منْ عندِه، ولذلكَ فلربَّما وأَد المشروعَ في مهدِهِ نظرًا لعدمِ قدرتِه على تنفيذِ جميعِ مراحلِه .. ولكنَّ إشراكَ الآخرينَ يدفعُ المشروعَ إلى الأمامِ، فهناكَ في المجتمعِ موسِرونَ أو أصحابُ وجاهةٍ لديهِمُ الرغبةُ في دعمِ الخيرِ بأموالِهم وآرائهم إنْ لم يستطيعوا بأنفسِهم .. لكنَّهم يحتاجونَ إلى منْ يطمئنُهم ويدلُّهم على مشروعٍ ناجحٍ تنقصُهُ النفقةُ فقطْ، أو يحتاجُ للرأيِ الناجحِ ومنْ حقِّهم أن يطمئنوا، ومن واجباتِ الأخيارِ أن يشركوهُم في الدعوةِ إلى دينِ اللهِ منْ خلالِ أموالِهم أو آرائهمْ أو كليهِما .. هذا شيءٌ .. وشيءٌ آخرُ لا بدّ منْ التفطُّنِ له وهوَ إشراكُ أكبرِ شريحةٍ ممكنةٍ في التنفيذِ .. ولوْ كانَ هؤلاءِ المشتركونَ في التنفيذِ أقلَّ من غيرِهم -فيما يبدو

لَنا- فهذه فرصةٌ لتدريبهِم، وتلكَ وسيلةٌ منْ وسائلِ إشراكِهم في عملِ الخيرِ، وكسبِهم للدعوةِ. إنَّ منْ أخطائنا -أحيانًا- أن نفترضَ أنَّ صاحبَ المشروعِ هو المفكّرُ والمخطّطُ والمموِّلُ والمنفّذُ .. وهذا ما فيه من إجهادِ النفسِ وتعويقِ العملِ، ففيه كذلكَ خسارةٌ لشريحةٍ كبرى منَ المجتمعِ يمكنُ أن تُستثمَرَ وقد تنتجُ وتنجحُ أكثرَ منْ غيرِها .. فهلْ تُفكرُ في هذا وتمارسُه عمليًا؟ يا صاحبَ الخيرِ، ويا ذا الهمَّةِ والرغبةِ في الدعوةِ لدينِ اللهِ وقد تسألُ عنْ مشروعٍ أو أكثرَ للدعوةِ -في مثلِ هذه الإجازةِ أو غيرِها- وتُجابُ بأنَّ المشاريعَ كثيرةٌ والفرصَ متاحةٌ، وقدْ يرى شخصٌ أو أشخاصٌ مجالًا مهمًا، ويرى آخرونَ غيرَه، والمجالُ متسعٌ للجميعِ .. ولكنْ ومنْ بابِ الذكرَى أذكرُ لكَ -وعلى نسقِ ما مَضَى- ثلاثةً منَ المشاريعِ الدعويةِ تشمَلُ الداخلَ والخارجَ، ويمكنُ أنْ ينتفِعَ بها الذكرُ والأنَثى بإذنِ اللهِ. 1 - مشروعُ الدعوةِ والتعليمِ في القرى والهُجُرِ النائيةِ .. وكمْ يحتاجُ سكانُ هذه وتلكَ إلى العلمِ النافعِ والدعوةِ إلى الخيرِ، في زمنٍ باتَتْ القنواتُ مصدرَ التوجيهِ لهؤلاءِ، وربّما فتكَتْ المخدراتُ ببعضِهم، فكيفَ إذا انضافَ إلى ذلكَ حاجةٌ ومسغَبةٌ وكادَ الفقرُ أنْ يكونَ كفرًا .. فدعوةُ هؤلاءِ وإعانتُهم مشروعٌ نبيلٌ. 2 - ومشروعٌ آخرُ للدعوةِ والتعليمِ والإغاثةِ لأقليةٍ منَ الأقلياتِ المسلمةِ في مشرقِ الأرضِ أو مَغرِبِها .. وكمْ يحتاجُ هؤلاءِ إلى عَوْنِ إخوانِهم! وكمْ يتطلعونَ إلى المسلمينَ كافةً وإلى أهلِ بلاد الحرمين خاصةً لتعليمهم ودعوتِهم وإغاثتِهم! فهل نُساهم بأنفسِنا أو بالتنسيق مع الهيئاتِ والمؤسساتِ الإسلاميةِ لدعوةِ وتعليمِ وإغاثة هؤلاء؟ ذلك مشروعٌ نبيلٌ كذلك.

3 - مشروعٌ تعليميٌّ ودَعَويٌّ للمرأةِ المسلمةِ وللشبابِ وللطفلِ المسلمِ لا سيّما والغزوُ موجَّهٌ لهُمْ أكثرَ منْ غيرِهم، وإذا صلَحَ هؤلاءِ كانوا دِعامةً أساسيةً لصلاحِ المجتمعِ كلِّه، فهلْ نسابقُ الزمنَ؟ وهلْ ننافسُ المفسدينَ لهؤلاءِ على الإصلاحِ والدعوةِ؟

من مشاهد القيامة

من مشاهد القيامة (¬1) الخطبةُ الأولى: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬2)، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (¬3)، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، قصّ اللهُ عليه في كتابه {وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} (¬4) وأَتبعَهُ بهَولِ الأُمم في ذلك المقام فقال: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬5). اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (¬6). يا أخا الإيمان: وبدون مقدِّماتٍ دَعْني أذكِّرْ نفسي وإياك بموقفٍ مَهُول، ومشهدٍ عظيم، تنوَّعت أسماؤُه، واتفقتْ حقيقتُه، وكشَفَ القرآنُ الكريم ما يزيدُ على عشرين اسمًا له، إنه يومُ الخُروج: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 10/ 4/ 1423 هـ. (¬2) سورة هود، الآية: 56. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 38. (¬4) سورة الجاثية، الآية: 38. (¬5) سورة الجاثية، الآية: 28. (¬6) سورة لقمان، الآية: 33.

الْخُرُوجِ} (¬1)، ويومُ الفَصْل {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ} (¬2) ويوم الدين {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (¬3)، إنه يومُ الحَسْرة {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (¬4). ويومُ الوعيد {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} (¬5)، ويومُ الجَمْع {وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (¬6)، ويومُ الآزفَة {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} (¬7)، ويومُ التَّلاق {لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (¬8). قال ابنُ عباس: يلتقي فيه آدمُ وذريتُه، وقيل: يلتقي أهلُ السماء وأهلُ الأرض، والخالقُ والخَلْق، والظالمُ والمظلوم، وقيل: كلُّ عاملٍ سيَلقَى ما عملَه من خيرٍ أو شرٍّ (¬9). وهو يومُ التنَادِ {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (¬10) قيل: سُمِّيَ بذلك لكثرة ما يحصلُ ¬

(¬1) سورة ق، الآية: 42. (¬2) سورة المرسلات، الآية: 38. (¬3) سورة الإنفطار، الآيات: 17 - 19. (¬4) سورة مريم، الآية: 39. (¬5) سورة ق، الآية: 20. (¬6) سورة الشورى، الآية: 7. (¬7) سورة غافر، الآية: 18. (¬8) سورة غافر، الآيتان: 15، 16. (¬9) تفسير ابن كثير 6/ 130. (¬10) سورة غافر، الآيتان: 32، 33.

من نداءٍ في ذلك اليوم، فكلُّ إنسانٍ يُدْعَى باسمِه للحسابِ والجزاءِ، وأصحابُ الجنةِ يُنادُونَ أصحابَ النار، وأصحابُ النار يُنادُون أصحابَ الجنة، وأهلُ الأعراف ينادون هؤلاءِ وهؤلاء. إنه يومُ التغابنُ: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (¬1). يا عبدَ الله: ما أعظمَ الهولَ حين تكون {الْقَارِعَةِ}، وإذا جاءت (الصاخة) و (الطامة الكبرى)، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} و {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} كم هو مُذهلٌ حين تكون {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} وإنما سُمِّيت بذلك لأن فيها يتحقَّقُ الوعدُ والوعيد (¬2). ألاَ ويحَ نفسٍ كذبتْ وتمادَتْ ثم أُخِذت على حين غِرَّة {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ} (¬3). إنها نفخةٌ هائلةٌ مدمِّرة يسمعُها المرءُ فلا يستطيعُ أن يوصِيَ بشيء، ولا يَقدِرُ على العودةِ إلى أهلِه وخِلَّانه. {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} (¬4). قال عليه الصلاة والسلام: «كيف أَنعَمُ وقد الْتقمَ صاحبُ القرنِ القرنَ، وحَنَى جبهتَه، وأَصغَى سمعَه، ينتظرُ أن يُؤمَرَ فيَنفُخَ» قال المسلمون: فكيف نقولُ يا رسولَ الله؟ قال: «قولوا: حَسبُنا اللهُ ونِعمَ الوكيلُ، توكَّلْنا على اللهِ ربِّنا» (¬5). ¬

(¬1) سورة التغابن، الآية: 9. (¬2) تفسير ابن كثير 7/ 99. (¬3) سورة الزمر، الآية: 68. (¬4) سورة يس، الآيتان: 49، 50. (¬5) رواه الترمذي وحسنه، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/ 66.

وقال عليه الصلاة والسلام واصفًا سرعةَ هلاكِ الناس حين تقومُ الساعةُ: «ولَتقُومَنَّ الساعةُ وقد نَشَرَ الرجلانٍ ثوبَهما بينَهما فلا يَتبايَعانِه ولا يَطْوِيانِه، ولَتقومَنَّ الساعةُ وقد انصرفَ الرجلُ بلبنِ لِقْحتِه فلا يَطعَمُه، ولتقومَنَّ الساعةُ وهو يُلِيطُ حوضَه فلا يسقي فيه، ولتقومنَّ الساعةُ وقد رفَعَ أُكلتَه إلى فيهِ فلا يَطعَمُها» رواه البخاريُّ في كتاب الفتنِ والرِّقاق. أيها المسلمون: والساعةُ أَدْهى وأمرُّ، والمَشاهِدُ فيها تشِيبُ لها مفارقُ الوِلْدان، وتضعُ الحواملُ حملَها، وترى الناسَ سُكارَى وما هم بسُكارَى ولكنَّ عذابَ اللهِ شديدٌ. إي وربِّي، وفي لحظةٍ من الزمن ينفرطُ عِقدُ الكون، ويَحِيقُ الدمارُ الشاملُ، وينتهي أمدُ الحياة، وتتغيرُ المَعالِمُ، فالأرضُ تُزلزَلُ وتُدَكّ، والجبال تُسيَّر وتُنسَفُ، والبحارُ تُفجَّرُ وتُسجَّرُ، والسماءُ تتشقَّقُ وتَمُور، والشمسُ تُكَوَّرُ وتذهبُ والقمرُ يُخسَفُ، والنجومُ تنكدِرُ ويذهبُ ضَوؤُها (¬1). وفي لحظةٍ أخرى تُبدَّل الأرضُ غيرَ الأرضِ، ويُساقُ الناسُ إلى أرضِ المحشَرِ، روى البخاريُ ومسلمٌ عن سَهْل بن سعدٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «يُحشَرُ الناسُ يومَ القيامةِ على أرضٍ بيضاءَ عَفْراءَ كقُرْصةِ النَّقِيَّ» قال سهلٌ أو غيرُه: ليس فيها مَعْلَمٌ لأحدٍ (¬2). وفي تفسيرِ قولِه تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} (¬3). قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: تُبدَّلُ الأرضُ أرضًا كأنها الفِضَّةُ، لم يُسفَكْ عليها دمٌ ¬

(¬1) عمر الأشقر: القيامة الكبرى/ 100. (¬2) البخاري: كتاب الرقاق، مسلم: كتاب صفات المنافقين، واللفظ للبخاري. (¬3) سورة إبراهيم، الآية: 48.

حرامٌ، ولم يُعمَلْ عليها خطيئةٌ (¬1). يا أخا الإسلام: ومِن هَوْلِ الأرضِ المُبدَّلةِ والبروزِ للهِ الواحدِ القهّار .. إلى هولِ الصراطِ والعبورِ عليه، وفي «صحيح مسلمٍ» عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: سألتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن قولِه عز وجل {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} فأين يكونُ الناسُ يا رسول الله؟ فقال: «على الصَّراطِ» (¬2). وعن حالِ الناس حين المرورُ على الصراطِ، روى البيهقيُّ بسندِه عن مسروقٍ عن عبدِ الله قال: يَجمَعُ اللهُ الناسَ يومَ القيامةِ، إلى أن قال: فمنهم من يُعطَى نورُه مثلَ الجبلِ بين يديهِ، ومنهم من يُعطَى نورُه فوقَ ذلك، ومنهم من يُعطَى نورُه فوقَ ذلك، ومنهم من يُعطَى نورُه مثلَ النَّخلة بيمينِه ومنهم من يُعطَى دونَ ذلك بيمينِه، حتى يكونَ آخِرُ من يُعطَى نورُه في إبهامِ قدمِه يُضيءُ مرةً ويَطفَأُ أخرى، إذا أضاء قدَّمَ قدمه، وإذا أطفأَ قامَ، قال: فيمرُّون على الصراطِ، والصراطُ كحدِّ السيفِ دَحْضَ مَزلَّةٍ، ويقال لهم: امضُوا على قَدْرِ نورِكم، فمنهم من يمرُّ كانقضاضِ الكوكب، ومنهم من يمرُّ كالريحِ، ومنهم من يمرُّ كالطَّرْفِ، ومنهم من يمرُّ كشدِّ الرَّحْل يَرمُل رَمْلًا على قدْرِ أعمالِهم، حتى يمرَّ الذي نورُه على إبهامِ قدمِه تخرُّ يدٌ وتَعلَقُ يدٌ، وتخرُّ رِجْلٌ وتَعلَقُ رجلٌ، وتصيبُ جوانبَه النارُ، فيَخلُصون، فإذا خَلَصُوا قالوا: الحمدُ للهِ الذي نجَّانا منكِ بعدَ أن أراناكِ، لقد أعطانا ما لمْ يُعطِ أحدٌ» رواه الحاكمُ وصحَّحه ووافقه الذهبيُّ، وقال الألبانيُّ: في أحدِ رُواتِه ضعفٌ وقد تُوبعَ، فالحديثُ صحيح (¬3). وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «وتُرسَلُ ¬

(¬1) موقوف صحيح، وأخرجه البيهقي مرفوعًا وقال: الموقوف أصح، فتح الباري 11/ 375. (¬2) مسلم كتاب صفة المنافقين، باب البعث، والنشور (2791) 4/ 2150. (¬3) شرح الطحاوية/ 470.

الأمانةُ والرحِمُ فتقومانِ على جَنَبَتَيِ الصراطِ يمينًا وشمالًا، فيمرُّ أوَّلُكم كالبرقِ ثم كمَرِّ الريح، ثم كمَرِّ الطيرِ وشدِّ الرِّحالِ، تجري بهم أعمالُهم، ونبيُّكم قائمٌ على الصراطِ يقول: ربِّ سلِّمْ سلِّمْ، حتى تعجزَ أعمالُ العبادِ، حتى يجيءَ الرجلُ فلا يستطيعُ السيرَ إلا زحفًا، قال: وعلى حافَتَي الصراطِ كلاليبُ معلَّقةٌ مأمورةٌ بأخذِ مَن أُمِرَتْ به، فمخدوشٌ ناجٍ، ومكدوسٌ في النار» (¬1). يا عبدَ الله، أيُّ نورٍ سيكونُ لك على الصراطِ؟ ساءِلْ نفسَكَ عن درجةِ الإيمانِ واليقينِ وعملِ الصالحاتِ في الدنيا، وستجدُ الخبرَ اليقينَ في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2). وحَذَارِ من النفاقِ والمنافقينَ، فهناك تتعالَى صيحاتُهم ثم لا يُجابُونَ {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (¬3). ربَّنا أتمِمْ لنا نورَنا واغفِرْ لنا إنك على كلِّ شيءٍ قديرٌ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ. ¬

(¬1) مسلم: كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة، ح (195). (¬2) سورة الحديد، الآية: 12. (¬3) سورة الحديد، الآيات: 13 - 15.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانيةُ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، يُحيي ويميتُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، بدأَ خلقَ الإنسانِ من طينٍ ثم جعل نسلَه من سُلالةٍ من ماءٍ مَهِين ثم سوَّاهُ ونفخَ فيه من رُوحِه وجعل لكم السمعَ والأبصارَ والأفئدةَ قليلًا ما تشكرون، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه أجابَ وحيَ السماءِ الذي قال: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (¬1). اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ النبيِّين. عبادَ الله: وهناك في عَرَصاتِ القيامةِ تكون الشفاعةُ العظمى لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم حين يعتذرُ الأنبياءُ عنها -لهولِ الموقفِ وشدَّتِه- وقد صحَّ في الخبرِ عنه صلى الله عليه وسلم: «لكلِّ نبيٍّ دعوةٌ دعاها لأُمتِه، وإني اختبأتُ دعوتي شفاعةً لأُمتي يومَ القيامةِ» متفق عليه (¬2). وكما يُكرَمُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم بالشفاعةِ في الموقفِ العظيم يُكرمُه اللهُ بإعطائِه حوضًا واسعَ الأرجاءِ، ماؤُه أبيضُ من اللبنِ، وأحلى من العسلِ، وريحُه أطيبُ من المسكِ، وكِيزاُنه كنجومِ السماء، يأتيه الماءُ من نهرِ الكوثرِ، مَن شربَ منه لا يظمأُ بعدَها أبدًا. روى مسلمٌ في «صحيحه» عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ حَوْضي أبعدُ من من (أيْلَةَ) مِن (عَدَنٍ) و (أيلةُ) مدينةُ العقبةِ في الأردنِّ، وعَدَنٌ ¬

(¬1) سورة يس، الآيتان: 78، 79. (¬2) جامع الأصول 10/ 475.

في اليمنِ -كما هو معروف. وعند البخاريِّ: «حَوضِي مسيرةُ شهرٍ، وزواياهُ سواءٌ». «لهوَ أشدُّ بياضًا من الثلجِ وأحلى من العسلِ باللبنِ، ولآنيتُه أكثرُ من عددِ النجومِ، وإني لأَصُدُّ الناسَ عنه كما يصدُّ الرجلُ إبلَ الناسِ عن حوضِه» قالوا: يا رسولَ الله، أتعرفُنا يومئذٍ؟ قال: «نعمْ، لكم سيمَا ليستْ لأحدٍ من الأممِ، تَرِدُونَ عليَّ غُرًّا مُحجَّلين من أثرِ الوضوءِ». أيها المسلمُ يا عبدَ الله: بشراكَ حين تَرِدُ الحوضَ مع الوارِدِين، وإياكَ أن تُصَدَّ بسوءِ عملِك، فقد روى البخاريُّ ومسلمٌ عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليَرِدَنَّ على الحوضِ رجالٌ من أُمَّتي حتى إذا رأيُتهم ورُفِعوا إليّ اختُلِجُوا دوني، فأقولُ: أصحابي أصحابي، فيقالُ لي: إنكَ لا تدر ما أَحدَثُوا بعدَك» .. وفي روايةٍ: «فأقولُ: سُحْقًا لمن بدَّلَ بعدي» (¬1). وبُشراكَ -يا أخا الإسلام- حيث تَعبُرُ الصراطَ آمنًا، وتَنجُو من جهنمَ سالمًا واللهُ يقولُ: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} إنها التقوى، والتقوى وحدَها سببٌ للنجاةِ من النار {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (¬2). ما موقفُك عند هذه الآيةِ؟ وما مشاعرُك تجاهَ هذا المشهدِ يومَ القيامة؟ لقد غيَّرتْ هذه الآيةُ أحوالَ الصالحين، فأسهرَت ليلَهم، وعكّرتْ عليهم صَفْوَ عيشِهم، فقد ذُكِر أن أبا ميسرةَ كان إذا أَوى إلى فراشه قال: يا ليتَ أُمي لم تلدْني، ثم يبكي فقيلَ له: ما يُبكيكَ يا أبا ميسرةَ؟ فقال: أُخبِرْنا أنّا وارِدُوها ولم نُخبَرْ أنا صادرونَ عنها. ¬

(¬1) جامع الأصول 1/ 468. (¬2) سورة مريم، الآيتان: 71، 72.

وقال عبدُ الله بنُ المبارَكِ عن الحسن البصريِّ -رحمهما اللهُ-: قال رجلٌ لأخيه: هل أَتاكَ أنك واردٌ النار؟ قال: نعم، قال: أتاك أنك صادرٌ عنها؟ قال: لا، قال: ففيمَ الضحك؟ قال: ما رُئِيَ ضاحكًا حتى لَحِقَ بالله (¬1). أين نحنُ من قومٍ صَحِبُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا في سبيل الله، ثم هم يخافونَ سوءَ الحساب، فقد ذُكِرَ أن عبدَ الله بنَ رَوَاحةَ رضي الله عنه وضعَ رأسَه على حِجر امرأتِه فبكى، فبكتِ امرأتُه، قال لها: ما يُبكيكِ؟ قالت: رأَيتُكَ تبكي فبكيتُ، قال: إني ذكرتُ قولَ الله عز وجل: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} فلا أدري أَنجُو منها أم لا (¬2). يا عبدَ الله، أين اليقينُ بلقاءِ الله؟ وأين شواهدُ اليقينِ من الخوفِ والرجاءِ والصدقِ والإخلاص، والرغبةِ في الآخرةِ والزهدِ في الدنيا، أو على الأقلِّ في الاكتفاءِ منها بالحلالِ دونَ الحرام -إنَّ الحساب عسيرٌ، ومن نُوقِشَ الحسابَ عُذِّب، والميزانُ عدلٌ -ولا يظلِمُ ربُّكَ أحدًا- والموقفُ رهيبٌ، والشهودُ منكَ عليك .. فلا مَحيصَ ولا إنكارَ، أخرج مسلمٌ وغيرُه من حديث أبي سعيدٍ وأبي هريرةَ رضي الله عنهما قالا: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يلقى العبدُ ربَّه، فيقول اللهُ: ألم أكرِمْكَ وأُسوِّدْكَ وأزوجْكَ؟ وأسخِّرْ لك الخيلَ والإبلَ، وأَذَرْكَ ترأَسُ وترَبَعُ؟ فيقول: بلى أيْ ربِّ، فيقولُ: أظننتَ أنكَ مُلاقِيَّ؟ فيقول: لا، فيقال: إني أنساكَ كما نَسِيتَني، ثم يلقى الثانيَ فيقولُ له مثلَ ذلك، ثم يلقى الثالثَ فيقولُ له مثلَ ذلك، فيقول: آمنتُ بكَ وبكتابِكَ وبرسولِكَ وصلَّيتُ وصمتُ وتصدقتُ، ويُثْنِي بخيرٍ ما استطاعَ، فيقولُ: ألا نبعثُ شاهدَنا عليك؟ فيفكِّرُ في نفسِه مَن الذي يشهدُ عليَّ، فيُختَمُ على فيهِ، ويقال لفخذِه: انطِقي، فتنطقُ فخذُه وفمُه ¬

(¬1) أورده ابن كثير -ونسبه إلى ابن جرير- 3/ 217. (¬2) تفسير ابن كثير 3/ 217.

وعظامُه بعملِه ما كان، وذلك ليُعذَرَ من نفسِه، وذلك المنافقُ الذي يُسخَطُ عليه» (¬1). يا عبدَ الله: هل حضَّرت لهذا السؤالِ جوابًا؟ يا غافلًا عن هذه المقاماتِ تذكَّرْ، جاهِدْ نفسَك على عملِ الصالحات، كيف حالُكَ والصلاةَ؟ وهي أولُ ما يُحاسَبُ عنه العبدُ يومَ القيامة؟ وكيف أنتَ والزكاةَ؟ بل وعنِ المالِ كلِّه من أين تجمَعُه وكيف تُنفِقُه، كيف علاقتُكَ بربِّكَ خاصةً وبالخلقِ عامةً، وما من مَظلِمةٍ إلا وسيَرِدُ عليكَ أصحابُها في يومٍ أنت أحوجُ فيه إلى مِثْقالِ ذَرّةٍ من الحسنات، وما بك حاجةٌ إلى شيءٍ من السيئات؟ هل أنت من أهلِ القرآنِ تلاوةً وعملًا؟ أم أنتَ في عِدادِ من اتخذَ القرآنَ مهجورًا؟ وكيف حالُ لسانِك مع ذِكْرِ الله؟ وهو مما يُثقِّلُ الميزانَ «كلمتانِ خفيفتانِ على اللسانِ ثقيلتانِ في الميزان، حبيبتانِ إلى الرحمن: سبحانَ اللهِ وبحمدِه، سبحانَ الله العظيمِ». ما جهودُك في الدعوةِ إلى دينِ الله {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} (¬2). وماذا تصرفُ من وقتِكَ لطلبِ العلمِ النافعِ «ومَن سلكَ طريقًا يلتمسُ فيه عِلمًا سهَّلَ الله له به طريقًا إلى الجنة»، كيف إحسانُك إلى الفقراءِ، «والصدقةُ تُطفِئُ الخطيئةَ كما يطفئُ الماءُ النارَ»، وكيف أنت وصِلةُ الأرحام «والرحِمُ على جَنَباتِ الصراطِ والرحمنُ يقول: مَن وَصَلَها وصلْتُه، ومن قطعَها قطعْتُه»، وأين أنتَ من حُسْن التعامل مع الجيرانِ وحُسْن الخُلُقِ مع عمومِ خَلْقِ الله، وصاحبُ الخلقِ الحَسَنِ يبلغ درجةَ الصائمِ القائمِ -إلى غير ذلك من أعمالٍ صالحةٍ تُدلِّلُ على ¬

(¬1) مسلم 4/ 2280، ح 2969. (¬2) سورة فصلت، الآية: 33.

ترقُّبِكَ ليومِ الحساب، ومع ذلك كلِّه فلا تغترَّ بعملٍ عملتَه، وأسألْ ربَّكَ القَبُولَ والمغفرةَ والثباتَ على الحقِّ إلى أن تلقاه .. وليكن شعارُك في هذه الحياةِ {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (¬1). أيها الناسُ: إن نفرًا من المسلمين شَغَلتهُم الحياةُ الدنيا ببهجتِها وزُخرفِها وغرورها عن مَشاهدِ القيامة، وفَرِحوا بالحياة الدنيا وما الحياةُ الدنيا إلا متاعُ الغُرور .. لم يتَّعِظوا بصَرْعاها وفي كلِّ يومٍ لها صريعٌ، ولم يأخذوا العبرةَ من غيرِهم بل كانوا لغيرِهم عبرةً. ما أَحوجَنا إلى صيحةِ صادقٍ كالذي قال لقومه: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (¬2). وما أحوجَنا إلى واعظٍ كالذي قال لأبي ذرٍّ رضي الله عنه: يا أبا ذرٍّ أكثِرْ من الزادِ فالسفرُ طويلٌ، وخفِّفِ الظهرَ فالعقبةُ كَؤُودٌ، وأصلِح العملَ فالناقدُ بصيرٌ. وما أَحوجَنا إلى ذِكْرى أُويس القَرْني -سيد التابعين- لعمرَ وعليٍّ وهما من ساداتِ المؤمنين وقد قال أويسٌ: إن بيني وبينَكما عَقَبةً كؤودًا لا يتجاوزُها إلا مُخِفّ. اللهمَّ خفِّفْ أوزارنَا .. وثقِّلْ في عَرَصاتِ القيامة موازينَنا، وارحمْ يومَ العرضِ عليك مقامَنا. ¬

(¬1) سورة الحجر، الآية: 99. (¬2) سورة غافر، الآية: 39.

الدين والتدين عشر معالم

الدين والتدين عشر معالم (¬1) الخطبةُ الأولى: الحمدُ لله {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (¬2)، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الدينُ واصبًا (أي الطاعةُ دائمًا) وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه بَعَثَه اللهُ بالإسلام دِينًا خاتمًا وحقًا، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬3). اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ النبيِّينَ والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين ومن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬4). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬5). أيها الناسُ: الدينُ والتدينُ فِطرةٌ ربانيةٌ، وحاجةٌ ملحَّةٌ، ومطلبٌ ينتهي بالمرءِ إلى السعادةِ أو الشِّقْوة (¬6)، ومَن أبصرَ واقعَ الشعوبِ اليومَ وغدًا، وبالأمسِ وفي ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة يوم الجمعة الموافق 17/ 4/ 1423 هـ. (¬2) سورة الشورى، الآية: 13. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 85. (¬4) سورة التوبة، الآية: 119. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬6) وفي التنزيل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، وفي الصحيحين واللفظ للبخاري قال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام (الفتح 3/ 248) وإن وردت أقوال أخرى (تفسير القرطبي 14/ 28).

غابرِ الزمن، رأى أنه ما من مجتمعٍ أو أُمةٍ إلا ولها دينٌ ومعتقَد، ولكنَّ هذا الدين قد يكون حقًا فيُفلِحُ معتنِقُوه في الدنيا ويَسعَدُون في الآخرةِ، وقد يكون الدينُ باطلًا فيورِّث أتباعَه الشقاءَ في الدنيا والعذابَ والخزيَ في الآخرة. إن المتأمِّلَ في حديثِ القرآنِ عن الدين يجِدُ إشارةً لهذا وذاك، ويجدُ توجيهًا ربانيًا بالتزامِ الدين الحقِّ، وتأكيدًا على الإسلامِ على أنه الدينُ الذي أراده اللهُ ونَسَخَ به الأديانَ كلَّها. تأمَّلوا في عددٍ من آياتِ القرآن في وصفِ الدين الذي يريدُه اللهُ، فاللهُ يقول: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (¬1)، ويقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} (¬2)، {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬3)، ويقول: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} (¬4)، ويقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ} (¬5). وفي الجانبِ الآخر -وعن الأديانِ الباطلةِ- يقول تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} (¬6)، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} (¬7)، {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} (¬8)، {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬9). ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 3. (¬2) سورة الروم، الآية: 3. (¬3) سورة يس، الآية: 105. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 19. (¬5) سورة البقرة، الآية: 193. (¬6) سورة الشورى، الآية: 21. (¬7) سورة النساء، الآية: 171. (¬8) سورة غافر، الآية: 26. (¬9) سورة البقرة، الآية: 217.

أيها المسلمون: إننا بإزاءِ هذه الآياتِ القرآنيةِ، أو سواها من آياتٍ وأحاديثَ نبويةٍ، نقفُ على عِدَّة (معالمَ) حول الدِّينِ والتديُّن. المَعْلَم الأول: حاجةُ الإنسانِ إلى الدين، فلا اليهوديُّ ولا النصرانيُّ، ولا الوَثَنيُّ، ولا البُوذيُّ، ولا المجوسيُّ، ولا الصابئيُّ ولا سواهم -ممن أضلَّهم الله- يعيشُ بلا دينٍ .. ولكنَّ فضلَ الله في الهدايةِ والتوفيقِ يُؤْتيه من يشاءُ، وعلى من وفَّقه اللهُ للدينِ الحقِّ أن يشكرَ اللهَ على هذه النعمةِ التي سُلِبَها وضلَّ عنها أممٌ وشعوبٌ كثيرة، قال اللهُ عنهم: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1). وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (¬2). إنَّ الإسلامَ والإيمان مِنَّةٌ ربانيةٌ، وعلى المسلمين أن يَشكُروا ربَّهم عليها، وأن يعترفوا له بالفضلِ سبحانه إذْ هداهم إليه. {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (¬3). {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (¬4). {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (¬5). المعلم الثاني: ومِن عجبٍ أَن ترى أو تسمعَ عن حماسِ أصحاب الدياناتِ ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 116. (¬2) سورة يوسف، الآية: 103. (¬3) سورة الحجرات، الآية: 17. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 43. (¬5) سورة الشورى، الآية: 13.

الباطلة، والمِلَلِ المنحرفةِ، لأديانِهم ومِلَلِهم إلى حدِّ الغلوِّ في الدين والرهبانيةِ المبتدَعَة، بل يبلغُ الحماسُ إلى التواصي بالصبرِ على هذه الآلهةِ وإن كانتْ فاسدةً؟ أجلْ، إنَّ من يقرأُ ما قصَّهُ اللهُ في كتابِه من أخبار الأُمم الماضيةِ يجدُ غُلوًّا عندَ أهلِ الكتاب قال اللهُ عنه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} (¬1)، وقال عنها: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (¬2). ويجدُ حماسًا وصبرًا عند المشركين على آلهتِهم الباطلةِ: {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} (¬3). {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالًا} (¬4). فهل يَسُوغُ أن يتحمَّسَ أصحابُ الباطلِ لأديانِهم ومعتقَداتِهم ويتراخى ويَضعُفَ أصحابُ الدين الحقِّ عن الصدقِ والحماسِ لدينِهم؟ المَعلَمُ الثالث: بل يجدُ المُطالعُ لآياتِ القرآنِ وأخبارِ الأمم السالفةِ واللاحقةِ محاوَلةً من أهلِ الباطل لتشويهِ الدِّين الحقِّ، ورَمْيِ المؤمنين بالباطل واتهامِهم بالفسادِ، بل ومحاولةِ قتلِهم والتخلُّص منهم. لفد حفِظَ القرآنُ مقولةَ فرعونَ الآثمةِ الكاذبةِ {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 77. (¬2) سورة الحديد، الآية: 27. (¬3) سورة ص، الآية: 6. (¬4) سورة نوح، الآيتان: 23، 24.

وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} (¬1). وفي قصةِ إبراهيمَ عليه السلام مع قومِه: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} (¬2)، وقوم لوطٍ قالوا لِلُوطٍ عليه السلام: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (¬3). أما ثمودُ فكان جزاءُ صالحٍ عليه السلام حين دعاهم إلى عبوديةِ الله وحدَه أن يُقسم الرهطُ المفسِدون {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (¬4). ولا يزالُ المفسِدونَ من اليهودِ والنصارى والمشركين يتربَّصونَ بالمسلمين الدوائرَ يقتلون ويُحاصرون ويَسخَرون ويتَّهمون {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} (¬5). ولا تزالُ التهمُ تُكال جُزَافًا للإسلام والمسلمين بالتطرُّفِ والإرهابِ ونحوها. المَعْلَم الرابعُ: وهل تعلمونَ أن هؤلاءِ الكفَّارَ -قديمًا وحديثًا- الذين يتهمون المسلمين بالتطرُّف هم المتطرُّفون، لقد قال فرعونُ -مرة أخرى- لقومه: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (¬6) وهذه قِمَّةُ التطرفِ والانحراف. وفي المقابل استهجنَ موسى عليه السلام وازدَرَاهُ قائلا: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} (¬7). ¬

(¬1) سورة غافر، الآية: 26. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 68. (¬3) سورة النمل، الآية: 56. (¬4) سورة النمل، الآيتان: 49 - 50. (¬5) سورة البروج، الآية: 20. (¬6) سورة القصص، الآية: 38. (¬7) سورة الزخرف، الآية: 52.

وقريشٌ الوثنيّةُ كانت في وجهِها الآخَرِ متطرِّفةً في الدين حين ألزمتْ نفسَها بتشريعاتٍ لم يأْذنْ بها اللهُ، وخصَّت نفسَها بخصائصَ وابتدعت (الحُمْسَ) وما أدراك ما الحُمْسُ؟ قال أهل اللغة: الحُمْس: قريشٌ؛ لأنهم كان يتحمَّسونَ في دينِهم، أي: يتشدَّدون (¬1). وروى ابنُ سعدٍ في الطبقات: «التحمُّس أشياءُ أحدثُوها في دينِهم، تحمَّسوا فيها، أي: شدَّدوا على أنفسِهم فيها» (¬2). ومن الجاهلياتِ الأولى إلى الجاهلياتِ المعاصرةِ حيث لا يكتفي أهلُها بالتُّهم الباطلةِ بل يمارِسونَ القتلَ والحصارَ بكلِّ أشكالِه الماديةِ والمعنويةِ، وتجتمعُ وتتحالفُ قُوى الكفرِ كلُّها -اليومَ من يهودَ ونصارى وشيوعيين وهندوسٍ ووثنيين على حربِ المسلمين وإبادتِهم، ويَمكُرون ويمكرُ الله. ولم يكن تطرُّفُ قريشٍ في الحجِّ وحدَه، بل إن تسييبَ السوائب، وهي ما يُسيِّبونَه من الأنعامِ لآلهتِهم إن شُفِيَ لهم مريضٌ أو قُضِيتْ لهم حاجةٌ، وجَعْلَ (البحَيرة) و (الوَصيلة) و (الحامِ) من معتقَداتٍ لم يأذنْ بها الله تطرُّفٌ قرشيٌّ أنكره القرآنُ {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (¬3). {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} (¬4). ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة 2/ 104 مادة (حمس). (¬2) الطبقات 8/ 720 عن الواقدي. (¬3) سورة المائدة، الآية: 103. (¬4) سورة المائدة، الآية: 104.

ومن تطرُّفِ قريشٍ وافترائِها على الله ما قَصَّه الله عليهم في سورة الأنعام: {وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} إلى قوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}. {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} إلى قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)} (¬1). روى البخاريُّ ومسلمٌ رحمهما الله -في صحيحيهما- عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كانت قريشٌ في الجاهليةِ ومن دانَ بدينِها يَقِفُونَ بالمزدلِفَةِ عند المَشعَرِ الحرام، وكان سائرُ العربِ يقفونَ بعرفاتٍ» (¬2). والمعنى أن قريشًا خصَّتْ نفسَها وميَّزتْها بالوقوفِ -في الحجِّ- في مزدلِفةَ دونَ سائرِ العربِ التي كانت تُفِيضُ من عرفاتٍ -يعني من الحِلِّ- وهي تمارسُ هذا التطرُّفَ الدينيَّ كانت تعلمُ أن الوقوفَ بعرفةَ من مشاعرِ الحجِّ التي مضى عليها إبراهيمُ عليه السلام، ولكن قريشًا تريدُ أن تُميِّزَ نفسَها عن الآخرين، ولم تكن هذه هي وحدَها أفكارَ قريشٍ في التطرُّف والتشريع بما لم يأذنْ به اللهُ، فقد كان من آرائِهم البِدْعيةِ الحُمْسيةِ أنهم حرَّموا على أنفسِهم في حالِ إحرامِهم: ألا يأْتطِقُونَ الأقِطَ -أي: لا يصنعونه وهم مُحرِمون-، ولا يَسْلُون السمنَ -أي: يذيبونه- ولا يأكلونه وهم مُحرِمون، ولا يأكلون اللحمَ أو شيئًا من نباتِ الحَرَم وهم مُحرِمون .. في جملةٍ من المحرَّماتِ ابتدعوها وأَلزمُوا بها أنفسَهم ومن وافقَهم، ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآيات: 136 - 140. (¬2) البخاري رقم 4520، ومسلم رقم 1218.

ما أنزلَ اللهُ بها من سلطانٍ وكانوا لا يَطُوفون بالبيتِ إلا وعليهم ثيابُهم، وألزموا غيرَهم من أهل الحِلِّ ألا يطوفوا بالبيتِ إذا قَدِموا -أولَ طوافِهم- إلا في ثيابِ الحُمْس، ومن لا يجدُها شِراءً أو إعارةً، فعليه أن يطوفَ بالبيتِ عُرْيانٌ- واستمرَّتْ هذه العوائدُ الجاهليةُ المتطرِّفةُ حتى أعلَنَ منادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: ألَّا يحجَّ العامَ مشرِكٌ ولا يطوفَ بالبيتِ عُرْيانٌ، وأبطلَ اللهُ عوائدَ قريشٍ وما ابتدعتْه في الحج حين نزلَ القرآن: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬1). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيتان: 198، 199.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانيةُ: الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، شَرَعَ لنا أكملَ الدِّينِ، وخصَّنا ببعثةِ خاتمِ المرسَلين، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، لا يُعبَدُ إلا بما شَرَعَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، قال وهو الصادقُ المصدوق: «مَن عَمِلَ عملًا ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ» صلى اللهُ وسلَّمَ عليه وعلى سائرِ الأنبياء والمرسلين. إخوةَ الإسلام. المَعْلَم الخامسُ: وإذا تفاخرتِ الأُممُ بأديانِها وتشبَّثت الشعوبُ بمعبوداتِها -من دونِ الله- فحُقَّ للأُمةِ الإسلامية أن تفَخَرَ بدينِها الحقِّ، وأن تتمسَّك بعبادتِها الصحيحة، وتَثبُتَ على هَدْي السماء، شعارُها: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (¬1). ودليلُها ومُؤنِسُها قولُه تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} (¬2). المَعلُم السادس: ولا ينبغي للأُمةِ المسلمة وللفَرْدِ المسلم أن يصدَّه عن اتِّباعِ ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآيات: 161 - 164. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 70.

الدِّين الحقِّ والدعوةِ إليه ما يَجِدُه من هَجَماتِ الأعداء ومَكْرِهِم، فتلك هجماتٌ وفتنٌ قديمةٌ تتجدَّد، ووعدُ اللهِ حقٌّ {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (¬1)، {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (¬2). المَعلَم السابع: وثمةَ مصطلحاتٌ خادعةٌ وأفكارٌ مرفوضةٌ تُطلَقُ بين الفَيْنة والأخرى باسمِ (وَحْدةِ الأديان) أو (التقريبِ بين الأديان) أو نحوها من مصطلحاتٍ وآراءٍ تُلبِسُ الحقَّ بالباطل، وتَنْأى عن منهجِ القرآن في محاورةِ أَهلِ الكتاب على أساسِ قولهِ تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (¬3)، هذا حكمُ القرآن ومَن أحسنُ من الله حُكمًا لقومٍ يُوقِنون، أما الواقعُ التاريخيُّ فقد اتَّسمَ تاريخُ العَلاقاتِ بين المسلمين وأهلِ الكتاب بالعَداءِ والجهادِ المستمرِّ، وكان فتحًا مُبِينًا في القرونِ الفاضلة الأولى، وسِجالًا في العصورِ الوسيطة، وانحسارًا في العصورِ الحديثة، وكان النصرُ والتمكينُ متناسبًا تناسبًا طرديًّا مع التزامِ المسلمين بدينِهم وأَخْذِهم بأسبابِ القوة المعنويّةِ والماديةِ عبرَ مراحلَ تاريخيةٍ متمايزةٍ، دون أن تشهدَ على الإطلاق أيَّ لونٍ من (الوِفاق الدِّيني) أو (التقاربِ العَقَدي) وستظلُّ هذه السِّمَةُ باقيةً وملازمةً للطائفةِ المنصورةِ حتى قيامِ الساعة، لا يضرُّهم من خَذَلَهم ولا من خالفهم -كما قال رسولُ الهدى (¬4). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 217. (¬2) سورة، الآية: 120. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 64. (¬4) د. أحمد القاضي: دعوة التقريب بين الأديان 4/ 1630 بتصرف.

المَعلَم الثامن: إنَّ هذه الأفكارَ المرفوضةَ في الدعوةِ (لتوحيد الأديانِ) أو (تقارِبها) لا تُلغِي أهميةَ الحوارِ بين المسلمين وأتباعِ الأديانِ الأُخرى من قِبَلِ علماءَ متخصِّصين راسخين في العلمِ والدين، ويجيدون لغةَ الحوار مع الآخرين مع الشعورِ بعزَّةِ الإسلام، وذلك لدعوةِ الآخرين للحقِّ، والبلاغِ المبين، وتوضيحِ الإسلام بصورتِه الساطعة، وكشفِ الباطلِ والوصولِ بالإسلام إلى شعوبٍ طالما حُجِبَت عن نوره الوضَّاءِ، وذلك باستخدامِ وسائلِ الإعلام بمختلفِ قَنَواتِها، والتقنياتِ الحديثة ووسائِلها المختلفةِ .. فتلك من واجباتِ المسلمين في الدعوةِ والبلاغ. المَعلَم التاسع: ويبقى بعدَ ذلك التديُّنُ بالإسلامِ الحقِّ أمانٌ من الفتنِ بإذنِ الله، وطريقٌ للسعادةِ في الدنيا والنعيمِ المقيمِ في الآخرة .. إنه -أعني التديُّنَ المشروعَ- طريقُ الجنة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} (¬1). وهو السبيلُ لمحبةِ الناسِ وتقديرِهم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (¬2). وبه يحصلُ الأمنُ في الأوطان {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (¬3). ويتوفَّرُ رَغَدُ العيشِ {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (¬4)، بل إنَ بَنِي الإنسانِ كلَّهم خاسرون إذا لم يتديَّنوا ويعملوا ¬

(¬1) سورة الكهف، الآيتان: 107، 108. (¬2) سورة مريم، الآية: 96. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 82. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 96.

وَفْقَ ما شَرَعَ الله {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (¬1)، يطمئنُّ الناسُ لأهلِ الدين، ويَثِقُون بالمتديِّنين، ويَغبِطون الملتزمين، فماذا يمنعُك أخا الإسلام أن تكون في طليعةِ المتديّنين الصادقين؟ المَعلَم العاشر: ولا يَسُوغُ بحالٍ أن يتديَّنَ اليهوديُّ وهو يستمدُّ ديانتَه من (توراة عزِرا) و (تُلموذِ الحاخامات)، ويتديَّنُ النصرانيُّ وهو يستندُ في ديانتِه إلى (الإنجيل المحرَّفة) و (رسائل بولس) وهي خليطٌ من التثليثِ وتأليهِ المسيح وسائرِ البِدَعِ العَقَديَّةِ، ويتديَّن الشيوعيُّ وعقيدتُه تقومُ على الإلحادِ وإنكارِ خالقِ الوجود، ويتديَّنُ الهنادكةُ وهم يعبدونَ البقرَ، ويتديَّنُ غيرُهم وهم يعبدون الشياطينَ أو يعبدون الفروجَ أو نحوَها من ضلالاتٍ ما كان للعقلِ البشريِّ أن ينحطَّ إليها في عصرِ العلمِ والمعرفةِ، ثم لا يَسُوغُ بحالٍ أن تَرُوجَ هذه الدياناتُ الباطلةُ ويتوارى المسلمُ بديانتِه الحقَّة أو يَضعُفُ في الالتزامِ بديِنه، أو يقعدُ عن الدعوةِ وإنقاذِ الحَرْقَى والغرقَى والجُذامَى ومَن بِهِم صرعٌ أو جنون، لقد أظلمَ الكونُ بمعبوداتٍ ضالَّةٍ، فهل يُنقِذُ المسلمون أنفسَهم أولًا من الضعفِ والوهنِ - ثم ينتقلوا لإنقاذِ الآخرين .. ؟ ¬

(¬1) سورة العصر، الآية: 1، 2.

الجزء العاشر

شعاع من المحراب الجزء العاشر إعداد د. سليمان بن حمد العودة

الأخوة الإسلامية

الأخوَّة الإسلامية (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله. اللهم صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلِّم تسليمًا كثيرًا. أيها المسلمون: مظهرٌ عظيمٌ من مظاهرِ قوتِنا، وسِمةٌ جليلةٌ من سماتِ وحدتِنا، وتعبيرٌ صادقٌ لتكافُلِنَا ومودَّتِنَا .. لا يتوفرُ مثلُها عندَ غيرِنا منَ الأمم، ولم تحفلْ بها الشرائعُ والأديان كما احتفل بها الإسلامُ .. إنها الأُخوَّةُ الإسلاميةُ، نزلَ تشريعُها منْ فوقِ سبعِ سماوات {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬2)، وتمثَّلها المسلمونَ واقعًا علميًا، بل ضربوا بها أروعَ الأمثلةِ محبةً وإيثارًا حتى خلّدَ القرآنُ ذكرَهم، وأثنى على صنيعِهم، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬3). كَمْ للأخوّةِ منْ فضائلَ ومزايا حَرِيةّ أن نعيَها ونعملَ بها، وكمْ لها منْ مقاصدَ نبيلةٍ وآدابٍ راقيةٍ، وحقوقٍ مشروعةٍ، وكم لها من مفاسدَ وآفاتٍ .. وحَريٌ بنا أن نعلم هذا أو ذاك، فهي موثقةٌ لعُرى الإيمان «أوثقُ عُرَى الإيمانِ الحبُّ في اللهِ والبغضُ في الله». ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبةُ يوم الجمعة الموافق 24/ 4/ 1423 هـ. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 10. (¬3) سورة الحشر، الآية: 9.

وهيَ منْ كمالِ الإيمانِ قالَ صلى الله عليه وسلم: «من أحبَّ للهِ وأبغضَ للهِ، وأعطى للهِ ومنعَ للهِ فقد استكملَ الإيمانَ» (¬1). بالأخوةِ تُستجلبُ محبةُ الله «وجَبَتْ محبَّتي للمتحابين فيَّ والمتجالسينَ فيَّ والمتزاورينَ فيَّ» حديث قدسي (¬2)، وبالأخوة يُظلُّ المتآخونَ المتحابونَ تحت ظلِّ إلا ظلُّه، فأحدُ السبعةِ منْ هؤلاء، رجلانِ تحابَّا في اللهِ، اجتمعا عليهِ وتفرَّقا عليه. وبهذهِ الأخوَّةِ ولوازمِها تُحَتُّ الخطايا وتُغفرُ الذنوبُ؛ قالَ صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ مسلِمَيْن يلتقِيانِ فيتصافَحان إلا غَفَرَ اللهُ لهما قبلَ أنْ يَفْتَرْقا» (¬3) والأخوَّةُ- لمنْ وُفِّقَ لأداءِ حقوقِها- طريقٌ إلى الجنَّة، ففي الحديث الصحيح: «من عاد مريضًا أو زار أخًا له في الله ناداه منادٍ: أن طبتَ وطاب مَمْشاك وتَبوَّأتَ من الجنةِ منزلًا» (¬4) معاشرَ المسلمين: كمْ نُفرِّط في هذه المعاني واللوازم للأخوَّة، وفضلُها وآثارُها كما علِمْتم! وكَمْ نحن سعداء بهذه الأخوِّة، في الدنيا والآخرة! فهل نَسْتشعِرها، هلْ نُدْرك مقاصِدها؟ إنَّ منْ مقاصدِ الأخوَّة الإسلاميةِ التعاونَ على الإيمانِ والبرِّ والتقوى والتواصي بالحق والصّبر، وإذا خَسِرَ بنو الإنسانِ، فأُولئكَ هُم الفائزوِن. وثَمَّةَ مقصدٌ آخرُ للإخوة، ألا وهو الاستعانةُ بالأخوَّةِ على نوائب الدّهر ¬

(¬1) رواهُ أبو داود (4681) وصحَّحهُ الألباني، صحيح الجامع ح 5965. (¬2) رواه أحمد في المسند 5/ 223. (¬3) أخرجه أبو داود (ح 5112) وأحمد (4/ 289) وصحَّحه الألباني في الصحيحة (ح 525). (¬4) صحيح الجامع ح 6387.

وحاجاتِ الزمَان، وأوقات الشدائد، ومنْ مأثورِ قولِ العارفين: «إنَّا نَحْتاج إلى إخوانِ العُشرةِ لوقتِ العُسْرة» (¬1). فهل نُثمِّنُ هذه المقاعد للأخوة، ويكونُ الأخُ إنما صادقًا في زمنِ الرخاء والشِّدة، ناصِحًا ومشيرًا، وفازِعًا ومُنقِذًا؟ وإذا كانَ إخوانُ الرَّخاءِ كَثْرةً، فهُمْ أقلُّ في زمنِ الشدائد. على أنَّ مقاصدَ الأخوَّة تتجاوزُ الفردَ إلى الجماعةِ، بلْ وتصلُ إلى الأمةِ المسلِمَة بأسرِها، وتلكَ التي عبرَّ عنها الرسولُ صلى الله عليه وسلم بقوله: «مثلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفهِم، كَمَثل الجسدِ الواحدِ إذا اشتَكى منه عُضْوٌ تَدَاعى له سائرُ الجسَدِ بالسَّهرِ والحُمَّى» رواه البخاري. إنَّ هذا المقصدَ للأخوةِ مظهرٌ منْ مظاهرِ قوَّتِنا وترابُطِنا وتعاونِنا. معشرَ المسلمين: وتلكَ إذا حقَّقْناها مُغيظةٌ لأعدائِنا مرهْبةٌ لِقُوى الكفرِ المتربِّصين بنا .. إنَّ المسلمَ حينَ ينصرُ أخاه المسلمَ، ويشعرُ بآلامه يُقوّي أخاهُ ويُضعفُ منْ هَيْبِة أعدائه، ويستجيب لدعوةِ نبيهِ صلى الله عليه وسلم: «انصُرْ أخاكَ ظالِمًا أو مظلومًا». أيها الأخوةُ المؤمنون: وحينَ نعلَمُ فضائل الأخوةِ وشيئًا منْ مقاصِدِها لا بدَّ أنْ نعلمَ شيئًا من حقوقِ الأخوَّةِ، ولا بدَّ أنْ نعلمَ شيئًا من حقوقِ الأخوَّةِ، ولا بدَّ أَنْ نُساءِل أنفُسنا: هلْ قُمنا بها أو بمُعْظَمِها، أم فرَّطْنا فيها أو بمعظمها؟ إنَّ منْ حقوقِ الأخوّةِ إفشاءَ السلام .. وكَمْ لإفشاءِ السلامِ مِنْ أثرٍ في مجتمعِ المسلمين؛ عنْ عبدِ الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اعبُدوا الرحمن، وأطعِموا الطعامَ، وأفشوا السلامَ، تدخلوا الجنانَ» (¬2). ¬

(¬1) الصعلوكي، سير أعلام النبلاء (17/ 208). (¬2) رواهُ البخاريُّ في «الأدب المفرد» وصحَّحهُ الألباني، صحيح الأدب المفرد/ 377.

إن خير المتهاجرين من بدأ صاحبه بالسلام وأبخل الناس من يبخل بالسلام (¬1). ومِنْ حقوقِ الأخوّة: عيادة المريض- وليس يَخْفى ما فيها من الأَجرِ والمغنم، فَضْلًا عن إيناسِ المريضِ والتسْرِية عنه. واتباعُ جنازة المسلم حقٌ من حقوقهِ، وكذا تشميتُهُ إذا عَطَسَ وحَمَدَ اللهَ. ونصرة المظلوم، وإجابةُ الدعوةِ، وبذلُ النصيحةِ له، وقبولُها منه .. كلُ ذلك من حقوقِ الأخوَّة الإسلاميةِ. إنها حقوقٌ تُشيعُ المحبةَ وتنشرُ التكافلَ، وتُعَمِّمُ الخيرَ، وتوسِّعُ دائرةَ النُّصْحِ، تُسرِّي وترفعُ الضَّيْمَ .. وما أروعَ خُلُقَ المسلمِ وهو يشاركُ أخاه في أفراحِهِ ومسرَّاتِهِ، ويشاركُهُ في أَتْراحِهِ ويخفِّفُ مِنْ آلامِهِ وأَحْزانِهِ .. نَعَم، إنَّ دينًا يَجْزي على الابتِسامةِ في وجهِ المسلمِ ويعتبرُها صدقةً من الصدقاتِ لَدِينٌ عظيم، فكيفَ إذا فرّجَ عنهُ كربةً أو شاركَهُ في نازِلةٍ، أو نَصَرهُ في مَظْلَمةٍ ظُلِمَها؟ ! يا أخا الإسلام، لا تَحقِرنَّ مِنَ المعروف شيئًا، ولا تَقْصُرْه على القريب- وإنْ كانَ أَوْلى- ولا على الحبيبِ- وإنْ كانتِ النفسُ تميلُ إليهِ ميلًا- ولكنِ احرصْ على نشرِ الخيرِ والإحسانِ جَهدَك، ومَنْ لَمْ تستَطِعْ أن تُقدِّمَ له عَوْنًا بمالِكَ فبِجاهِك، أو بِحُسنِ خطابكَ ولطفِ استقبالِكَ ولا تَنْسَ الدعاءَ لإخوانِكَ المسلمين فهوَ لا يكلِّفُك شيئًا، بل يُجيبُك مَلَكٌ: ولَكَ بِمِثْلِ ما دَعوتَ به، فلا تحرِمْ نفسَك وإخوانَكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ، واقصِدْ من وراءِ ذلكَ كلِّه وجْهَ اللهِ! أيها المسلموِن: وهناكَ آدابٌ للأخوّة لا بدَّ كذلكَ مِنْ مُراعاتِها فاعْلَمْها واحرصْ على التأَدُّبِ بها، ومِنْ هذه الآداب: ¬

(¬1) صحيح الأدب المفرد/ 397.

الحرصُ على أدب الحديثِ؛ وذلكَ بجميلِ العبارةِ، فاللهُ يقول: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬1). والاستماعُ بأدبِ الحديث دونَ مقاطعةٍ أو تسفيهٍ أو ازدِراء. ومِنْ آدابِ الأخوةِ الصفحُ عنِ العثرةِ والتجاوزُ عن الزَّلَّةِ، فَمَنْ حاسَب إخوانَه عندَ كلَّ زلَّةِ أمسى وأصبحَ ولا إخوان له، فكلُّ ابن آدم خطَّاءٌ، ومَنْ ذا الذي تُرْضى سَجَاياه كلها- كفى المرءَ نُبْلًا أن تُعدَّ معايبهُ، ومنْ آدابِ الأخوّةِ إحسانُ الظنِّ بالأخِ، وحمْلُه على المحاملِ الطَّيِّبةِ، فتلك تضيِّقُ مسالِكَ الشيطانِ وتُديمُ حبْلَ الودِّ. ومِنْ هذه الآدابِ: إخبارُكَ لأخيكَ أنَّكَ تُحبُّهُ في الله، فذلك يُعمِّقُ الأخوَّة ويشيعُ المحبَّةَ ويزيدُ في الأُلفَةِ، وفي الهَدْي النبويِّ: «إذا أحبَّ أحدُكُمْ أخاه في الله، فَلْيُعْلِمْهُ، فإنَّه أَبْقى في الأُلفَةِ، وأَثْبتُ في المودّةِ» (¬2). وفي لفظ: «إذا أحبَّ أحدُكُمْ صاحِبَه فَلْيأتِهِ في منزِلِه، فليُخْبِرْه أنهُ يحِبُّهُ في الله» (¬3). ومنْ آداب الأخوةِ: المشاورُ والمناصَحة، والانبساط وحُسْنُ العشرةِ، والهديَّةُ والدعوةُ الصادقة، وحسن الطَّوِيَّة، والبعدُ عنْ كل ما يُنَغِّصُ المودةَ أو يقطعُ حبل الأخوة؛ تعفو إذا أخطأ عليك، وتَعْتذرُ حينَ يقعُ الخطأُ منكَ، وإياكَ ¬

(¬1) سورة الإسراء. (¬2) صحيح الجامع (1/ 137). (¬3) صحيح الجامع (1/ 137).

أَنْ تبلُغَ في طلبك لهُ مبلغَ الإحراجِ، فلا يستطيعُ تلبيةَ طلبكَ ويستحي منْ مصارحَتِك، كُنْ أبِيًّا شَهْمًا، لَمَّاحًا أريِبًا، تبذلُ حين تسأل، وتشكرُ حينَ تُعطي. أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬1) ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 71.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية الحمدُ لله ربِّ العالمين، كما ينبغي لجلالِ وجهِهِ وعظمةِ سلطانهِ، وأشكرهُ على نعَمِه وآلائه، وقَدْ تَأَذَّنَ بالمزيدِ لمنْ شَكَره {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} (¬1). وأشهدُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له في ربوبيَّتِهِ وألوهِيَّته وأسمائِهِ وصفاتِهِ، وأشهدُ أَنْ محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانِه- اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليهِ وعلى آله وصَحْبه .. إخوةَ الإسلام: ولعِظَم حقوقِ المسلمِ على أخيهِ المسلمِ قالَ صلى الله عليه وسلم: «كلُّ المُسْلِمِ على المُسْلِم حرامٌ؛ دمُه؛ ومالُه، وعِرْضُه» وكانَ يتحدثُ للمسلمينِ بهذا ويخطبُ مذكرًا بهذه الحقوقِ في المجامعِ العظيمةِ كيومِ عرفةَ والنَّحْر. أيها المسلمُ: وإذا عرفتَ فضائلَ الأخوّةِ، ومقاصِدَها، وحقوقَها وآداَبها، فبقيَ أنْ تعلمَ آفاتِ الأخوةِ وما يُفسدَها. ومِنْ أوائلِ هذه الآفاتِ والمفسِداتِ للأخوةِ: 1 - الإخلالُ بحقوقِ الأخوةِ وعدمُ الاهتمامِ بآدابها؛ فحينَ لا تَنْصرُ أخاكَ ولا تَنصحُه ولا تحترمُه ولا تهتمُّ بشئونهِ، وتسيءُ التعامل معهُ بشكلٍ عام- فذلكَ مفسدٌ للأخوةِ قاطعٌ لحبل المودَّة. 2 - ومنْ مُفسداتِ الأخوةِ أنْ تكون شحيحًا بوقتكَ فلا تصلُه، وبخيلًا بمالِك فلا تساعِدُه، وكمْ تعجبُ حينَ تقرأ في «صحيحِ الأدبِ المُفْردِ» للبخاري: أن سَلْمانَ الفارسيَّ رضيَ اللهُ عنهَ زار أخاهُ في اللهِ أبا الدرداءِ، وجاءَ إليهِ منَ المدائِن إلى الشام ماشيًا (¬2)، وربما عجزَ أو تكاسلَ أحدُنا في زيارةِ أخيهِ ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 7. (¬2) صحيح الأدب المفرد/ 139.

في البلدةِ الواحدة، ومعَ توفرِ السيارةِ الفاخرة. 3 - ومِنْ مُفسداتِ الأخوّةِ: الإفراطُ في المعاتَبةِ وكثرةُ اللَّوْم، والنظرُ إلى السلْبياتِ فيهِ دونَ الإيجابيات، وعدمُ الاعتذار عنه والتسامحِ معه، قالَ رجاءُ بنُ حَيْوَةَ رحمَهُ الله: (من لم يُؤاخِ إلا مَنْ لا عَيْبَ فيه قلَّ صديقُه، ومنْ لمْ يرضَ مِنْ صديقِه إلا بالإخلاصِ لَهُ دام سُخْطُه، ومنْ عاتبَ إخوانَهُ على كلِّ ذَنْبٍ كثُرَ عدوُّه) (¬1) وكَمْ نحتاجُ إلى مثلِ هذهِ الكلماتِ في التعاملِ معَ إخوانِنا. 4 - وسوءُ الظنِّ بالأخِ المسلمِ مفسدٌ للمودَّة، وكَمْ نسجَ الشيطانُ في عقلِ الإنسان أوهامًا عن أخيهِ المسلم، فهَجَرَهُ فترةً من الزمن أو وقعَ بَيْنه وبَيْنه منَ الخصومةِ ما اللهُ بهِ عليم، ثمَّ تبيَّنَ بعدَ حينٍ أنَّ هذا الظنَّ كاذبٌ، وأَنَّ هذا الهجرَ لا مُبرِّر له، فاحذَرْ أخي المسلم سوءَ الظنِّ- واحملْ إخوانَكَ على المحامِلِ الطبِّية ما وجدتَ لذلكَ سبيلًا. 5 - ومنْ مفسداتِ الأخوةِ اقترافُ المعاصي والذنوب، ومِنْ هديِ النبوة: «ما توادَّ اثنانِ في الله فيُفرَّقَ بينهما إلا بذنبٍ يحدِثُهُ أحدُهما» (¬2). 6 - ومنْ مفسداتِ الأخوةِ: الحسدُ؛ فذاك داءُ الأمم، ومنْ باب أولى أن يكونَ داءَ الأفراد، وكمْ قطع الحسدُ مودة، وكَمْ نَغَّضَ مِنْ عيش، فتَعوَّذوا باللهِ مِنَ الحَسَد، واقرءوا معَ وِرْدِ الصباح والمساء: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (¬3). 7 - ومِنْ مفسداتِها الإفراطُ والغلوُّ في المحبَّةِ وكثرةُ المِزاحِ المفضيَةُ إلى ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (4/ 558). (¬2) رواهُ البخاريُّ في الأدب المفرد وصحَّحه الألبانيُّ في صحيح الجامع الصغير 5/ 139 ح 5479. (¬3) سورة الفلق، الآية: 5.

القَطيعةِ، وما زادَ عنِ الحدِّ انقلبَ إلى الضِّدِّ، وفي الحديث: «أَحْبِبْ حبيبَكَ هَوْنًا ما، عَسَى أنْ يكونَ بغيضَك يومًا ما، وابغِضْ بغيضَك هَوْنًا ما، عسى أَنْ يكون حبيبَك يومًا ما» (¬1). إلى غيرِ ذلكَ منْ مفسداتٍ للأخوةِ قدْ تعرفُها أيها الأخ، وتجدُها على صعيدِ الواقع .. والمقصودُ اجتنابُ كلِّ خُلُقٍ وعملٍ يؤدي إلى فسادِ ذات البَيْن بينَ الأخَوَيْن .. ذلكَ أنَّ قطيعةَ الأخوَيْنِ المسلمَيْن عظيمةٌ عندَ اللهِ وعندَ رسولهِ صلى الله عليه وسلم، ويكفي تحذيرًا لذلكَ قولَهُ صلى الله عليه وسلم: «تُعرَضُ أعْمالُ الناسِ في كلِّ جمعةٍ مرتين؛ يومَ الاثنينِ ويومَ الخميس، فيُغفرُ لكلِّ عبدٍ مؤمنٍ إلا عَبْدًا بينَهُ وبينَ أخيهِ شَحْناءُ، فيُقال: اترُكوا هذينِ حتى يَفِيئا» (¬2). وإياكَ- أخي المسلم- أنْ يغرَّكَ الشيطانُ فيقولَ لك: صاحبكَ هوَ المخطِئُّ وهوَ الذي يتحملُ الإثمَ وحدَه الإثمَ وحدَه- فإنَّ صاحبَكَ يقولُ في نفسهِ كما تقولُ أنتَ- والرسولُ صلى الله عليه وسلم حَكمٌ بينكما، وقدْ قال: «وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام» فهلْ تكونُ الخيِّرُ أنتَ؟ إخوةَ الإسلام: إنَّ الأخوةَ الصادقة تحتاجُ- بشكلٍ عامٍ- إلى رحابةِ صَدْرِ وسعةِ عَطْفٍ، وبذلِ مالٍ وجاهٍ ووقتٍ، كما تحتاجُ قبلَ ذلكَ وبعدهُ إلى احتساب الأجر عندَ الله .. وحينَ يعي المسلمونَ حقوقَ الأخوةِ ويتمَثَّلوها في واقعهمْ تنقلبُ مجتمعاتُهمْ إلى ميادينَ للحبِّ والوفاء، يُعانُ الضعيفُ ويُنصرُ المظلومُ، وتُكَفكَفُ دموعُ اليتامى، ويُزار المرضى، ويُتَرحَّمُ على الموتى، ويُواسَى المخزون. ¬

(¬1) رواه الترمذيُّ وهو في «صحيح الجامع» 178. (¬2) رواه مسلمٌ عن أبي هريرة انظر: صحيح الجامع 3/ 2955.

إن الحياةَ كَبَدٌ، فاسقوها بسلسبيلِ الأخوةِ .. والحياةُ غرورٌ زائلٌ فمدُّوها بحبالِ الأخوةِ إلى رحابِ الآخرة .. فهلْ بعدَ هذا منْ جزاءٍ، ألا كمْ تغيبُ هذهِ المعاني الحاصلةُ من الأخوةِ الإسلاميةِ عن المجتمعاتِ الأخرى التي لا تسْتظلُّ بظلِّ الإسلامِ ولا تهتدي بنور القرآنِ والإيمان .. فلنكنْ- معاشرَ المسلمينَ- نماذجَ تضيءُ في هذا الكونِ بأخوتنا الصادقة .. بدلَ أنْ تغْدو الحياةُ تهاوُشًا وظلمًا وعُدوانًا، وقطيعةً وشحناءَ.

عظمة الخالق في خلقه

عظمةُ الخالقِ في خَلْقِه (¬1) الخطبةُ الأولى: الحمدُ لله ربِّ العالمين، لهُ الكبرياءُ في السماواتِ والأرضِ وهو العزيزُ الحكيم، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (¬2)، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬3) وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدهُ ورسولُه وخِيرَتُه منْ خلقِه، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين. أيها المسلمون: الكونُ كلُّه بمخلوقاتِه العظمى، وبأحيائه مِنَ الإنسِ والجنِّ والحيوانِ والطيرِ، وبجَماداتِهِ مِنَ الشَّجرِ والحجَرِ والماءِ والزروعِ والثمار، وعالمُ السماءِ بما فيها منْ ملائكةٍ غلاظٍ أشداءَ، وأحياءَ أخرى كلُّ ذلك برهانٌ على عظمةِ الخالقِ، فتباركَ اللهُ أحسنُ الخالقين. إخوةَ الإيمان: والقرآنُ الكريمُ- لمَنْ تأمَّلَ- يأخُذُنا في جولاتٍ تُعمِّقُ الإيمانَ وتزيدُ في اليقين، نرتادُ آفاقَ السماءَ، ونجولُ في جنَباتِ الأرض، تَقِفُ بنا آياتُ القرآنِ الكريمِ عندَ زهراتِ الحقولِ وجنانِ الأرض، ثم تصعدُ بنا إلى النجومِ في مداراتها وتَسْبحُ بنا عالمِ البحارِ بأعماقِها ومخلوقَاتها، ثمَّ تطوفُ بنا حولَ أنفسِنا وعظيمِ خلْقِها ودقَّةِ تكوينها؛ مشعرةً إيانا بعظمةِ الله وعبوديةِ الكون له. ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 2/ 5/ 1423 هـ. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 38. (¬3) سورة الزمر، الآية: 67.

إنهُ حديثٌ طويلٌ في كتابِ اللهِ يُطالِعُكَ في طِوال السُّوَرِ وقصارِها حديثٌ تنْصِتُ له النفوسُ وتخشَعُ له القلوب، يستثيرُ المشاعرَ الحيَّةَ وتستجيبُ له الأحاسيسُ المؤمنة. كيفَ لا، وفَلْقُ الحبَّةِ والنَّوى، وإخراج الميِّتِ مِنَ الحيِّ وعكسُه، وفَلْقُ الإصباحِ وسكنُ الليل، وحُسْبانُ الشمسِ والقَمَر .. كلُّ ذلكَ يَردُ في أقْصرِ عبارةٍ وأبلغِها: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (¬1). يا أهلَ القرآنِ: وإذا تفاخرتِ الأممُ بأبحاثِها في الفَضاء، وتوصَّلَ باحثوها إلى نتائجَ تَحْتملُ الصحةَ والخطأ، فَدونَكُم القُرآنَ يُحدِّثُكُم العليمُ الحكيمُ عن مشهدِ السحابِ كيفَ يكوِّنُهُ الله، ومَنْ يُصابُ به ومن يُصرَفُ عنه، وعَنْ سَنَا بَرْقِهِ وأَثرِهِ في الأبْصَار .. استمعْ إلى ذلكَ متأمِّلًا خاشعًا لله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} (¬2)، ومنْ سحابِ السماءِ إلى سحابِ البحار، ومنْ برْقِ السماءِ الخاطفِ، إلى ظلماتِ البحارِ ولُجِّها ومَوْجِها يأخُذُكَ القرآنُ مُذكِّرًا وهادِيًا: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (¬3). ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآيتان: 95 - 96. (¬2) سورة النور، الآية: 43. (¬3) سورة النور، الآية: 40.

يا أخا الإسلام: وهلْ رفعتَ بصَرَك إلى السماء فتتفكَّرَ في خلق الله، فمَنْ رفَعَ السماءَ بلا عَمَدٍ؟ وكَمْ فيها مِنْ مَلَكٍ راكعٍ لله أو ساجد؟ روى ابنُ مردويه عَنْ أنسٍ رضيَ اللهُ عنْه قال: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَطَّتِ السَّماءُ ويحقُّ لها أَنْ تَئِطَّ، والذي نَفْسُ محمدٍ بيدِهِ ما فيها مَوْضعُ شِبْرٍ إلا وفيه جَبْهَةُ مَلَكٍ ساجدٍ يُسبِّحُ اللهَ بحَمْدِه» (¬1). والأَطيطُ: صَوْتُ الأَقْتابِ، وأطِيطُ الإبلِ: أصواتُها وحَنِينُها، والمعنى: إنَّ كثْرَةَ ما في السماءِ منَ الملائكةِ أثقَلَها حتى أطَّت، والمرادُ: تقريرُ عظمةِ اللهِ تعالى (¬2). فكيفَ إذا تصورتَ عِظَمَ خلْقِ السماواتِ والأرْض، واللهُ يقول: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (¬3) وكيفَ إذا تصورتَ أبعادَ السماواتِ عنْ بعضِها، وفي الحديثِ الذي رواهُ ابنُ خزيمةَ والبيهقيُّ وصحَّحُه ابنُ القيِّم، عنِ ابنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَ السماءِ الدنيا والتي تَليِها خَمْسُ مائة عامٍ، وبَيْنَ كلِّ سَمَاءٍ وسماءٍ خَمْسُ مائة عامٍ، وبينَ السماءِ السابِعَةِ والكرسيِّ خَمْسُ مائة عام، وبَيْنَ الكرسيِّ والماءِ خَمْسُ مائة عام، والعرشُ فوق الماءِ، واللهُ فوقَ العَرْش، لا يَخْفى عليه شيءٌ من أَعْمالِكم» (¬4). يا عبدَ الله: والملائكةُ- في السماءِ- خَلْقٌ عَجيبٌ، ومنهمُ الموَكَّلُ بحَمْلِ ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير 1/ 340. (¬2) ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث 1/ 54. (¬3) سورة غافر، الآية: 57. (¬4) الهاملي، الإيمان بالخالق وأثره في سعادة الخلائق/ 8.

العَرْشِ، ومنهمْ خَزَنةُ النَّار، ومِنْهُم الموَكَّلُ بِالعذاب، ومِنهمْ ومِنهم .. وكلُّهم لا يَعْصونَ اللهَ ما أمَرَهُم ويفعَلون ما يُؤْمرون، وحينَ تَسْمعُ عَنْ حَمَلةِ العَرْش، قولَهُ تَعَالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (¬1). فاسمعْ إلى عظمةِ خَلْقِ هؤلاءِ في خَبَر الذي لا يَنْطِقُ عن الهَوى، إذ يقولُ صلى الله عليه وسلم: «أُذِنَ لي أَنْ أُحدِّثَ عن مَلَكٍ منْ ملائِكَةِ اللهِ تعالى مِنْ حملةِ العرْش، إنَّ ما بَيْنَ شَحْمةِ أُذُنِه إلى عاتِقِه سبْعُ مئةِ سنةٍ» (¬2). أيها الناسُ: وهناكَ مشاهدُ كونيةٌ يراها الناسُ بأعينهمْ تتكررُ في الصباحِ والمساء، وهيَ جزءٌ منْ عظمةِ اللهِ في كونه- وآيةٌ على وحدانيتهِ وداعيةٌ إلى العبوديةِ والشكرِ له سبحانه: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ، لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ، سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} (¬3). نعم، إنَّ الحياةَ معجزةٌ لا تملكُ يدُ البشرِ أنْ تُجربَها، إنما هيَ يدُ اللهِ تُجري المعجزاتِ، وتبثُّ روحَ الحياةِ في المواتِ، فإذا الجنانُ الوارفةُ، والثمرُ اليانع- يُسقى بماءٍ واحد ويختلفُ في أكلُهِ وطعمِه-، الخالقُ واحدٌ، والمخلوقُ متنوعٌ؛ ذكرٌ وأنثى، حلوٌ وحامضٌ، رطبٌ ويابسٌ، أبيضُ، وأحمرُ، وغرابيبُ سود، {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} (¬4)، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬5)، {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ¬

(¬1) سورة الحاقة، الآية: 17. (¬2) رواه أبو داود، عون المعبود 4712، وصححه الألباني في الصحيحة رقم 151. (¬3) سورة يس، الآيات: 33 - 36. (¬4) سورة يس، الآية: 36. (¬5) سورة الملك، الآية: 14.

الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬1). عبادَ الله: أمَّا قدومِ الليل، والنورُ يختفي والظلمةُ تغشى فمشهدٌ مكررٌ يراه الناسُ كلَّ يومٍ وفي كل بقعةٍ- ما عدا مناطقَ قطبيةٍ قد يدومُ فيها الليلُ أسابيعَ وأشهرًا- أو يدومُ فيها النهارُ كذلك. إنها آيةٌ ما أكثرَ منْ يراها وما أقلَّ منْ يتأمل عظمةَ اللهِ من خلالها! {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (¬2). يا أخا الإيمانِ: وحينَ تتصورُ حجمَ الشمسِ ثمَّ تدركُ كيف تجري، تدركُ بعدَ ذلك عظمةَ اللهِ في تيسيرِ هذه الكُتلةِ العظيمةِ التي قيلِ أنها تبلغُ نحوَ مليون ضعفٍ لحجمِ الأرضِ التي نعيشُ عليها، وهذه الشمسُ بضخامتها تسيرُ بسرعةٍ حسبَها الفلكيونَ فقدَّروها باثني عشرَ ميلًا في الثانية، وهذا يعني أنها تقطعُ في الدقيقةِ الواحدةِ سبعَ مئةٍ وعشرين ميلًا .. فكمْ تسيرُ في الساعةِ، وكمْ تقطعُ في اليومِ والليلة؟ ! فمنْ يسيِّرُها ومنْ يضبطُ حركَتَها؟ إنهُ اللهُ العليمُ القدير. إننا حينَ ندركُ هذا الخلقَ العظيمَ للشمس، وهذه الحركةَ المنضبطةَ في الكونِ وتصريفَ الليلِ والنهارِ، ندركُ طرفًا من قدرةِ اللهِ فيما خلق، وندركُ ضعفَنا وعجزَنا من خلقِ الله، ومن ثَمَّ نعلمُ حاجَتنا إلى عبوديةِ ربنا وشكره {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 6. (¬2) سورة يس، الآيات: 37 - 40.

تَسْمَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ، وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬1). اللهمَّ اجعلْنا لكَ ذاكرينَ شاكرين، ولا تجعلْنا منَ الغافلين. ¬

(¬1) سورة القصص، الآيات 71 - 73.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ لله {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ، الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} (¬1). وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، جاعلُ الملائكةِ رسلًا أولي أجنحةٍ مثنى وثلاثَ ورباعَ، يزيدُ في الخلقِ ما يشاءُ إنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، كان أكثرَ الناس علْمًا وأحسنَهم عملًا وأكثرَهم لله خشيةً وعليهِ نزَّل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬2). أمةَ القرآنِ: وعجائبُ القرآنِ لا تنقضي في عرْضِ دلائلِ الإيمانِ في الكونِ والأنفسِ والآفاق، والدعوةُ قائمةٌ للتأملِ والتفكيرِ في السماءِ والأرض: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (¬3). وفي الأنفس وخلقِها وتقويِمها: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (¬4). {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} (¬5). وفي الحيواناتِ وعظيمِ خَلْقِها: {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} (¬6). وفي الطيرِ وكيفَ يسبحُ في جوِّ السماء {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ ¬

(¬1) سورة الملك، الآيات: 2 - 4. (¬2) سورة فاطر، الآية: 28. (¬3) سورة يونس، الآية: 101. (¬4) سورة الطور، الآية: 35. (¬5) سورة الذاريات، الآية: 21. (¬6) سورة الغاشية، الآية: 17.

السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬1)، وإلى الأنعامِ وكيفَ تُستخرجُ ألبانها: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} (¬2). أما النحلُ فآيةٌ في خلقِها وتدبيرِها وما يخرجُ منْ بطونِها: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬3). وفي «شفاءِ العليل» لابن القيمِ رحمهُ الله كلامٌ طويلٌ وتفصيلٌ في هدايةِ اللهِ للنحل، وعالمِ النحل، ومملكةِ النحل وأعاجيبها (¬4)! ومنْ أمةِ النحلِ إلى أمةِ النمل؛ حيثُ كشفَ اللهُ سرًا من أسرارِهِ وهدايته للنملِ في خبرِ سليمانَ عليهِ السلام، يكفي منها آيةٌ، قولُه تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (¬5). وبالجملةِ فرُّبنا تباركَ وتعالى {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (¬6)، وفوقَ ذلكَ ألهَمَ مخلوقاتهِ العبوديةَ له والتسبيحَ بحمدِه وإنْ كنا لا نفقَهُ تسبيحَهم. أجل، ما أجهَلَكَ يا ابنَ آدم، وما أظلَمَك حينَ تشذُّ عنِ العبوديةِ لله، وغيرُك يُسبحُ بحمدِ الله: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (¬7). يا ابنَ آدم، اصطفاكَ ربُّك وأكرَمَك، وعلَّمكَ ما لم يُعلِّمْ غيرك، أفلا تشكرُ ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 79. (¬2) سورة النحل، الآية: 66. (¬3) سورة النحل، الآية: 69. (¬4) ص 101. (¬5) سورة النمل، الآية: 18. (¬6) سورة طه، الآية: 50. (¬7) سورة الإسراء، الآية: 44.

وتذكرُ وتُنيبُ وتُسلِمُ: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ} (¬1). لقدْ عُرضتِ الأمانةُ على السماواتِ والأرضِ فأبيْنَ أنْ يحملْنَها وأشفقْنَ منها .. وحملتَها أنتَ .. أفلا تفي بعهدِك مع الله؟ أفنيستَ الميثاقَ؟ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (¬2). عجبًا لكَ يا ابنَ آدم حين تعصي ربَّكَ وغيرُكَ يطيعه، وتفجرُ وتفسقُ وغيرُك يركعُ ويسجد. يا ابنَ آدم، خلقك اللهُ في أحسنِ تقويم، ضمِنَ رزقَك، وأحصى أجلَك وما يريدُ منك إلا عبادتهُ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬3) أفتستنكِفُ وتستكبرُ عن العبوديةِ لله .. وكلُّ منْ في الكونِ عبدٌ لله؟ إنكَ بينَ خياريْن؛ فإما أنْ تكونَ عبدًا لله- وهو يستحقُ العبوديةَ ويجزي عليها- وإما أن تكونَ عبدًا لغيرِه منَ الأهواءِ والشهواتِ والمعبوداتِ، فتلكَ الشِّقْوةُ في الدنيا والخسرانُ المبينُ في الآخرة: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (¬4). ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 54. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 172. (¬3) سورة الذاريات، الآيات: 56 - 58. (¬4) سورة الجاثية، الآية: 23.

يا أخا الإسلام: إنكَ تستطيعُ تحقيقَ العبوديةِ للهِ على كل حالٍ من أحوالِك وفي كلِّ شأنِ من شئونك، تحققُّ العبوديةَ للهِ في المسجدِ وفي بيتِك، وتحققُّ العبوديةَ للهِ متجرك أو وظيفتك، تحققُّ العبوديةَ للهِ في حضَرِكَ وسفرِكَ، وتحققُّ العبوديةَ في علاقتكَ مع ربكَ وحُسنِ خُلُقكَ مع الناسِ منْ حولِكَ. إنكَ خُلقتَ وهُيِّئتَ منْ أجلِ أن تكونَ خليفةً في الأرضِ تعمُرُها بذكرِ الله، وتحرثُ الأرضَ فيكونُ المحصولُ غذاءً للناسِ لِيَتَقَووْا به على طاعةِ الله، وتتخذُ مصانعَ لتنتجَ من الآلياتِ والسلاحِ ما يُستعانُ به على تحقيقِ الدَّنيوية لله، لا من أجلِ أن يكونَ سلاحًا يُدمرَ البشريةَ ويهلكَ الحرثَ والنسل، تتعلمُ العلمَ ليكونَ دليلَكَ إلى اللهِ وليقودَك إلى الإيمانِ بالله .. فالعلمُ الحقُّ يدعو للإيمان .. إنَّ البشريةَ حينَ تضلُّ في مسارها عنِ العبوديةِ للهِ تغدو الحياةُ مسرحًا تتهارشُ عليه الذئاب، وتتصارعُ فيها القوي، فلا ينتصرُ الأقوى حتى يدمرَ مَنْ دونَهُ من الضعفاء .. أفبهذا يُعمَّرُ الكونُ .. وهل تُحقَّقُ العبوديةُ للهِ بهذا اللونِ من الظلم؟ إنَّ على المسلمينَ الذينَ يقرأونَ القرآنَ فيجدونَ فيه تسبيحَ الكونِ بأحيائهِ وجماداتهِ للهِ .. عليهم أنْ يدركوا هذه الحقائقَ وأنْ يصلحوا ذواتِ أنفسِهم، ثم ينتقلوا بالإصلاحِ والدعوةِ إلى أممٍ أخرى بلغَتْ من العلمِ الماديِّ والحضارةِ والتقنيةِ مبلغًا عظيمًا .. لكنها أميةٌ في تحقيقِ العبوديةِ لله، وضالةٌ أو مغضوبٌ عليها بسببِ تجاهلِها لرسالاتِ السماء، ألا فابدأ بنفسِك أيها المسلم، وتأملْ هذا الكونَ ومنْ خَلقَهُ ولماذا خَلَقَه؟ وستجدُ الجوابَ في مثلِ قولهِ تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (¬1). ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآيات 16 - 18.

وفي مثلِ قولهِ تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (¬1). وفي مثل قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (¬2). {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (¬3). أخي المسلم: وبقيتْ همسةٌ في أذنِك .. هل تقرأُ القرآنَ، وما وِرْدُكَ فيه؟ وإذا قرأتَ، هل تتأملُ هذه المعانيَ وأمثاَلها في القرآن، إني أعظُكَ ونفسي أنْ تكونَ ممنْ قالَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم عنهم، {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (¬4) .. فإياكَ وهجرَ القرآنِ .. تلاوةً أو تدبرًا أو علْمًا أو عمَلًا؟ ¬

(¬1) سورة الحجر، الآية: 85. (¬2) سورة الملك، الآية: 2. (¬3) سورة ص، الآيتان: 27 - 28. (¬4) سورة الفرقان، الآية: 30.

مظاهر صيفية

مظاهرُ صيفية (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونعوذ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولهُ، اللهمَّ صلِّ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عنْ الصحابةِ أجمعين، والتابعينَ وتابعيهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدين وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. أيها الناسُ: في مواسمِ الإجازات تنشأُ ظواهرُ، وتطرأُ عوائدُ حرِيةٌ بالتنبيهِ والبيان، فالفراغُ نعمةٌ ولكنْ له ضريبة، والصحةُ نعمةٌ ولكن لها ضريبةٌ لمنْ لم يُقدرها حقَّ قدرِها .. ولهذا قالَ عليهِ الصلاةُ والسلام: «نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ مِنَ الناس: الصحةُ والفراغ» (¬2). وحينَ أتحدثُ إليكمْ عن بعضِ هذهِ الظواهرِ أخاطب نفسي وإياكُم وأتحدثُ إلى الوليِّ والشاب، والرجلِ والمرأة، إنهُ حديثٌ إلينا جميعًا ليصلِحَ كلُّ واحدٍ منا ما يوجد عنده من أخطاء. عباد الله: وأولُ هذه الظواهرِ الصيفيةِ ظاهرةُ السهر إلى ساعاتٍ متأخرةٍ من الليل، وحين تسألُ عنِ الوقتِ الذي يُقضى فيه السهرُ لا ترى فائدةً تُذكر، بلْ غالبًا على القيلِ والقال، والأكلِ والشربِ والضحك .. وأسوءُ منْ ذلكَ إن كانَ السهرُ على مسلسلاتٍ هابطة، أو جولاتٍ في زُبالاتِ القنواتِ الفضائية، ومِنَ ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 9/ 5/ 1423 هـ. (¬2) رواه البخاري والترمذي وغيرُهما. صحيح الجامع الصغير 6/ 32.

الناسِ مَنْ يقضي ليلَهُ كلَّه متنقلًا بين الحدائق، أو متسكِّعًا في الشوارعِ أو عابثًا في السيارةِ على الخطوطِ الدائريةِ والطرقِ السريعة! إنَّ استدامةَ السهرِ ليلًا ضارٌّ بالصحةِ كما يعرفُ الأطباءُ، وقبلَ ذلكَ مقررٌ في شرعِ اللهِ أنَّ الليلَ سَكَنٌ، بلْ منْ رحمةِ اللهِ أنْ جعلَ لكمُ الليلَ لتسكنوا فيه، والنهارَ معاشًا، لتبتغوا مِنْ فضله، فهلْ تُعكسُ الصورة؟ ومهما طالَ نومُ النهارِ فلا يُعَوِّضُ عنْ نومِ الليل، وكمْ يفوّتُ النائمُ نهارًا على نفسِهِ من المصالح .. وكمْ يخسرُ المجتمعُ من طاقةٍ كان لها أن تعملَ وتنتِجَ في سحابةِ النهار .. أمّا إنْ فوَّت النائمُ نهارًا شيئًا من الصلواتِ المفروضةِ فتلك خسارةُ الدينِ والدنيا .. أما السهرُ ليلًا فهوَ كذلكَ سببٌ لكثيرٍ مِنَ الحوادثِ والبلايا، إذْ إنَّ نفرًا مِنْ ضِعافِ النفوسِ ربما استغلوا سوادَ الليل وغفلة الناسِ فأفسدوا وجَنَوْا على أنفسهم وعلى مجتمعهم .. وسلُوا رجالَ الأمنِ والهيئاتِ عن نِسَب الجرائمِ ليلًا .. أما إنْ كان السهرُ سببًا في تركِ صلاةِ الفجرِ فالطامّةُ كبرى وأولئك أقوامٌ بالَ الشيطانُ في أفواهِهم وآذانهم. عبادَ الله: ظاهرةُ السهر- دون فائدة- مسئوليتُنا جميعًا، وتحتاجُ إلى تعاونٍ يقضي، أو على الأقلِّ يُخففُ من آثارِ هذهِ الظاهرةِ، فالجهاتُ الرسميةُ يمكنُ أن تنظمَ أوقاتَ فتحِ المحلاتِ في ساعةٍ معينةٍ مِنَ الليل، وإذا كانَ هذا معمولًا به في بلادِ لا تقيمُ للشرعِ وزْنًا، فهو أحرى وأولى بأهلِ الشريعةِ ومن يَرعون الأمنَ، ويوفِّرون العيشَ الهنيَّ، والأولياءُ لا بدَّ أنْ يُسهِموا- بحكم ولايَتهِم على بيوتهم بالقضاءِ على هذهِ العادةِ السيئة، والمربُّون والمعلمونَ لا بدَّ أنْ يتحدثوا عن مخاطرِ السهرِ، ووسائلُ الإعلامِ لا بدَّ أنْ تُعني في برامجِها وزواياها ومقابلاتها بدراسةِ هذه الظاهرةِ وعلاجِها. والشبابُ والفتياتُ لا بد أنْ يَسألوا أنفسَهم عن حصادِ السهرِ، ماذا حققَّ

لهم، بل وماذا فوتّ عليهم ... إنْ في مصالحِ الدينِ أو الدنيا، أو كليهما؟ إنها ظاهرةٌ تستشري وتؤذي، وتشكلُ خطرًا أمنيًا، وتخلِّفُ آثارًا في الصحةِ والأخلاق، والاقتصاد، والعوائدِ الاجتماعية، وهي سبيلٌ لفناءِ الأوقاتِ وإضاعةِ الزمن ومنْ وراء ذلك ضياعٌ الشباب .. فهل ننتبهُ ونسارعُ للعلاج؟ أيها المسلمون: وثاني هذهِ المظاهرِ ما ابتُليتْ به بعضُ العوائلِ من كثرةِ الترددِ على الحدائق، وبعضُ الأولياءِ يبلغُ بهِ التغفيلُ أو اللامبالاةُ بمصير عائلتِهِ، بحيثُ يرميهمْ في هذهِ الحديقةِ ويذهبُ لشأنه، وربما قَضى شطرًا من الليلِ ساهرًا مع شِلَلِه، أو نائمًا في فراشِه موكَّلًا لأحدِ أبنائه أو السائقِ بالمرور عليهم في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، وهناكَ في الحدائقِ تتجول الفتياتُ المراهقاتُ في طولِ الحديقة وعرضِها، وربما تعرَّضَ لها شبابٌ مستهترون فآذوهنُّ أو عقدوا صلاتٍ معهنَّ، وربما رموا بأرقامٍ هاتفيةٍ عليهنَّ فكانت البدايةُ لصلاتٍ مشبوهة، وعلى أقلِّ تقديرٍ ربما كانتِ الحديقةُ سببًا لعقدِ صِلاتٍ مع فتياتٍ مستهتراتٍ .. فكانت البداية للانحرافِ عبرَ هدايا للصورِ الخليعةِ، أو الأشرطةِ الماجنةِ أو التعريفِ على أصدقاءِ سوءٍ، أو نحوِ ذلك من أمورٍ لا تُحمدُ عقباها .. فأينَ أنتَ أيها الولي .. أبلَغَ بكَ الاهتمامُ بأسرتِكَ هذا المبلَغ؟ أم بلَغَ بك التغفيلُ والبساطةُ هذا المستوى؟ إنَّ الأسرةَ أمانةٌ في عنقِكَ، وكمْ تتحملُ منْ عارٍ- لا قدَّرَ الله- لو حصلَتْ في بيتك أو لأحدِ أفرادِ أسرتكَ كارثةٌ .. وأنتَ سببٌ فيها .. ألا إنَّ الوقايةَ خيرٌ من العلاج، والسلامةُ لا يعدِلُها شيءٌ، وكنْ فطِنًا حذِرًا، ومن يتقِ اللهَ يجعلْ لهُ مخرجًا. أيها الناس: أما الظاهرةُ الثالثةُ فهيَ كثرةُ ترددِ النساءِ على الخياطينَ، سواءً كانت وحدَها، أو بصحبةِ وليِّها- الذي يكتفي أحيانًا بإيصالها، ثم يمكثُ في سيارتِهِ تاركًا المرأةَ تتحدثُ وتتفاوضُ معَ الرجلِ، دونَ أنْ يُشاركَها في الوقوفِ

والحديث .. وبحجةِ أنَّ هذهِ أمورٌ تخصُّ المرأة، وينسى هذا الرجلُ أنَّ وقوفَهُ مع زوجتهِ شرفٌ له وكرامة، وحفظٌ لمحرَمِهِ، لا سيما أنَّ بعضَ النساءِ تتسامحُ في المزاحِ معَ الخياط .. ولربما أظهرتْ مِنْ مفاتِنِها عندَه ما يكفي لشيوعِ المنكرِ وإثارةِ الغرائز! فكيفَ الحالُ إذا أعطتهُ المرأةُ رقمًا خاصًا- هاتفًا أوجوالًا- يُكلمُها عليهِ للاستفسارِ عنْ أيِّ شيء! أو أعطاها هو رقمًا خاصًا تكلمُهُ عليهِ للاستفسارِ عنْ أيِّ شيء! أو أعطاها «البُردات» والصورَ الخاصةَ بالموديلات لتطلعَ عليها ثم تُكلمهُ وحدَها منْ بيتها .. إنها وسائلُ تفضي للفساد وتدعو للفتنةِ، ومهما كانت الثقةُ بالمرأة- وهي أهلٌ لذلك- فقطْعُ دابرِ الفتنةِ أولى، والتحوّطُ لحمايةِ الفضيلةِ وحراستِها أحرى، وإذا قيلَ هذا عنْ مشاغلِ الرجالِ قيلَ كذلكَ في الاحتياطِ منْ مشاغلِ النساء، لا سيما تلكَ التي تتوفرُ بها نساءٌ كافراتٌ .. أو مسلماتٌ مستهترات. إنها أمورٌ بُلينا بها جميعًا .. فلا أقلَّ مِنْ أنْ نحتاطَ وننتبهَ ونفعلَ الأسبابَ. أيها المسلمون: أما الظاهرةُ الرابعةُ فهي ترددُ بعضِ النساءِ- هداهنَّ اللهُ- على الأسواقِ والمحلات، وفي ساعاتِ الليلِ والنهار، وهناكَ لا تسأَلْ عن ابتزازِ الأموال، وعنِ التسامحِ بالحجاب، وتبادل الضحكاتِ والمزاحِ، ولربما انفردَ البائعُ بالمرأةِ وحدَها في المعرض؟ وما خلا رجلٌ بامرأةِ إلا كانَ الشيطانُ ثالثهُما، وثمَّةَ ذئابٌ تتسلقُ وبمهارةٍ أبوابَ الفضيلة، وتهتكُ الحياءَ، وتتطاولُ على القِيَم، فهلْ ترضي أيها الوليُّ لأحدٍ منْ أهلِك أن تُسرق أخلاقُه معَ سرقةِ ماله؟ هلْ يكفيكَ أنْ تُوصلَ أهلَك إلى السوقِ ثم تتفقُ معهمْ على موعدٍ للعودة؟ وهلْ تدري ما يجري لهم؟ ومهما بلغتْ مشاغلُك وحرصُك على وقتِكَ، أفيكونُ ذلك عندكَ أهمَّ منْ حرصكَ على جاهِكَ وشرفِك؟ إنَّ أمورًا نسمعُها منْ بعضِ النساءِ وبعضِ الباعةِ في الأسواق، تُدمي القلبَ

فهلِ اتعظتَ بغيرك؟ وهلْ أشعرتَ أهلكَ بمخاطرِ الترددِ على الأسواقِ بشكلِ عام، وضرورةِ مصاحبتكَ أو أحدِ أبنائِكَ لهم عندَ الاقتضاء؟ إنّ بعضَ الأولياء- هداهمُ الله- يُعطي المرأةَ مِنَ المالِ ما تحتاجُهُ وما لا تحتاجه، وبالتالي فهيَ تشتري مِنَ السوقِ ما تحتاجُ وما لا تحتاج، وهذهِ الأموالُ الواردةُ للمرأةِ دونَ تعب، يستغلها بعضُ الباعةٍ أبشعَ استغلالٍ؛ فيزيدُ في ثمنِ السلعةِ، ولكن الأسوءَ منْ ذلكَ حينَ يُدغدغُ باعةٌ مستهترون مشاعرَ المرأةِ، فتنشأُ علاقاتٌ ربما تطورتْ إلى الأسوءِ مستقبلًا، والوليُّ عنْ كلِّ هذا غافلٌ حتى تحصلَ فواجعُ ومشاكلُ، وحينها يكونُ الندمُ والتحسُّر.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ للهِ أهلِ المجد والثناء {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬1) وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريك له، أمرَنا بالبشرِّ والإحسانِ والوقايةِ للنفسِ والأهلِ منْ مكايدِ الشيطان، ونهانا عن الفُحشِ والبذاءِ وهتكِ حدودِ الله {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (¬2)، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، دعا الأمةَ إلى كلِّ خبرٍ وحذَّروها منْ كلِّ خيرٍ وحذَّروها منْ كلِّ شر، وأخبرَ- وهو الصادقُ المصدوقُ- أنَّ أولَ فتنةِ بني إسرائيل كانتْ في النساء، وأخبرَ- وخبرهُ الصدقُ واليقين- فقال: «ما تركتُ بعدي فتنةً أضرَّ على الرجالِ منَ النساء» اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليهِ وعلى سائر الأنبياءِ والمرسلين. إخوة الإسلام: وخامسُ المخاطرِ: السفرُ بلا ضوابط، ولا سيما إلى بلادِ الكفرِ والعهر، وبصحبةِ النساءِ والذرية، وهناكَ لا تسأَلْ عنْ وأدِ الفضيلةِ واختزالِ الحياء، وإضاعةِ الأوقاتِ والتفريطِ بالواجبات، ولئنْ كان ثمةَ ابتزازٌ بشعٌ للأموالِ فأعظمُ من ذلكَ ابتزازُ القيمِ والأخلاق، والتعرضُ لمخاطرَ أمنيةٍ لا مسوّغَ لها، وفي طولِ بلادِنا وعرضِها تتوفرُ الجبالُ والسهولُ والبرُ والبحرُ والأجواءُ الباردةُ والمعتدلة، وأعظمُ منْ ذلكَ توفرُ الأجواءِ الإيمانيةِ حيثُ البقاعُ المقدسةُ والحرمان الشريفان، مهوى الأفئدة، ومنيةُ المسلمين للزيارةِ في كلِّ مكان .. إنَّ نفرًا منَ الناسِ باتَ السفرُ عندَهم- لعوائِلهم- للخارجِ وسيلةً للفخرِ والمباهاة، وآخرينَ أصبحَ السفرُ عندهمْ فرصةً للانطلاقِ دون رقيبٍ أو حسيب، ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 53. (¬2) سورة البقرة، الآية: 229.

فيقَعون في الشهواتِ ما شائوا، وما ربُّكَ بغافلٍ عما يعملون. وآخرونَ يترخَّصون بكلِّ رخصةٍ، وربما تزوَّجوا وطلَّقوا دونما حاجةٍ، وربما خلَّفَ الزواجُ مشاكلَ لا يأبهونَ بها، وربما شوَّهوا صورةَ الإسلامِ منْ حيْثُ يشعرون أو لا يشعرون! وفئةٌ من الخيِّرين ربما سافروا بهدفِ الدعوةِ، لكنهم حين وَصَلوا شُغلوا بالمظاهرِ السياحيةِ الأخرى، فلمْ يكنْ للدعوةِ نصيبٌ إلا في نواياهم الأولى. أيها المسلمون: وحين نُعدِّدُ مظاهرَ سلبيةً تحصلُ بشكلٍ أوضحَ في الإجازةِ ونهدفُ إلى التحذيرِ مِنْ مخاطِرِها .. وحمايةِ البيوتِ والمجتمعِ مِنْ آثارِها وويلاتِها .. فلا ينبغي أن نغفلَ عنْ ذكرِ مظاهرَ حسنةٍ- تحدثُ بشكلٍ أوضحَ في الإجازةِ أيضًا- وهذهِ المظاهرُ الحسنةُ نذكرُها لنتحدثَ بنعمةِ اللهِ من جانب ولنشجعَ على كثرتِها منْ جانبٍ آخر. وثمة سفريات محترمة، ومسافرون ملتزمون بإسلامهم أينما حلوا أو ارتحلوا، ولوحة صادقة لبلادهم أينما اتجهوا، ما أجمل السفر لأداء العمرة أو لأحد مصايفنا الجميلة أو حيث نستنشق عليل البحر، مع استشعار عظمة الله فيما خلق والمحافظة على الخلق الإسلامي حيثما حلّ المسافر وارتحل. ومنْ هذهِ المظاهرِ الحسنةِ الدوراتُ العلميةُ وفي مختلفِ التخصصات، فدوراتٌ متقدمةٌ، وأخرى مُركَّزة، وثالثةٌ للمبتدئينَ وهكذا .. وفي كلِّ دورةٍ تجدُ بحمدِ الله أعدادًا من طلبةِ العلمِ يتنافسون في الحضورِ والتحضيرِ والحفظِ والتسميع. بلْ بِتْنا نسمعُ مؤخرًا عنْ دوراتٍ لحفظِ القرآنِ الكريمِ كاملًا وفي مدةٍ لا تتجاوزُ الشهرين، ومهما كانَ الأمرُ صعبًا في هذهِ المدةِ لحفظِ القرآنِ كاملًا وفي مدةٍ لا تتجاوزُ الشهرين، ومهما كانَ الأمرُ صعبًا في هذهِ المدةِ لحفظِ القرآنِ كاملًا فهيَ

مؤشرةٌ للهممِ العاليةِ والتوفرِ لحفظِ كتاب الله، وبإمكانِ أصحابِ الدورةِ أنْ يقوِّموا نتائجَ الدورةِ ومدى تحقيقِ الهدفِ منها. ونسمعُ كذلك- عنْ حفظِ «الصحيحين» في دوراتٍ لا تزيدُ مدتُها عنْ سبعينَ يومًا، وهي في هذا العامِ تطبقُ لعامِها الثاني، وهذه كذلكَ مهما كانتْ مكلِفةً للطلابِ فهيَ الأخرى نموذجٌ لعلوِّ الهِمَمِ والعنايةِ بحفظِ السُّنةِ، وعلى القائمينَ عليها أنْ يقوِّموا التجربةَ ويستفيدوا مِنْ ذلكَ لمستقبلِ الأيام، وأجرُهمْ على الله. ومنَ المظاهرِ الحسنةِ انتشارُ المراكزِ الصيفيةِ هنا وهناك، تلكَ التي تضمُّ مجموعاتٍ مِنَ الشباب، تصقلُ مواهبَهم وتحفظُ أوقاتَهم، وتعلِّمهُم وتُرَبِّيهم، وجزى اللهُ الجهاتِ المسئولةَ والعاملينَ عليها- كلَّ خير. ومن المظاهرِ الحسنةِ للفتيات الدورُ النسائيةُ، تلكَ التي يمتدُّ نشاطُها في الصيف، وتُعني بكتابِ الله وما يخدمُهُ من علمٍ وآدابٍ وسلوكياتٍ حسنةٍ أحوجُ ما تكونُ إليها بناتُنا- وجزى الله الجهاتِ المشرفةَ والعاملاتِ فيها كلَّ خير. وإذا كانتْ تلكَ مظاهرَ حسنةً ومعلنةً فلا شكَّ أنَّ هناكَ مظاهرُ حسنةٌ وغيرُ معلنةٍ يقوم بها أفرادٌ لأنفسهم، فيحفظونَ منْ كتابِ اللهِ أو يقرأونَ في كتبِ العلم ما يستثمرونَ بهِ وقتَ فراغهم، وقدْ حدثني شابٌ في مقتبلِ عمرِهِ أنهُ يقضي ما يقربُ من خمسةَ عشرَ ساعةً في اليومِ للقراءةِ في الكتبِ النافعة، ومعَ ذلكَ فوِردُهُ اليوميُّ مِنَ القرآنِ ثلاثةُ أجزاءٍ، زادَنا اللهُ وإياهُ والمسلمين منْ فضلِهِ، ورزَقَنا العلمَ النافعَ والعملَ الصالحَ، وهلْ تعلمْ أنَّ الدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها إلا بذكرُ الله؟

سنة الله في تدمير الظالمين

سنة الله في تدمير الظالمين (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلِّم تسليمًا كثيرًا. إخوةَ الإيمان: يرى الناظرُ اليومَ على مسرحِ الحياةِ قتلًا وعدوانًا، وتشريدًا وإرهابًا، ويسمعُ الناسُ بينَ الفينةِ والأخرى طبولَ الحربِ تُدقُّ، والمؤامراتُ تُحاكُ في الخفاء، والمستهدفُ الأولُ والأخيرُ هم المسلمون بدينهِم وأنفسِهم ومقدراتِهم، فما أنْ توشكَ عاصفةٌ على النهايةِ حتى يبدأَ الاستعدادُ لأخرى .. وهكذا .. فماذا أعدَّ المسلمونَ لهذهِ النوازل، وما هوَ موقعُهمْ في خِضَمِّ الصراعِ المُحتدمِ .. وقبلَ ذلكَ هلْ عقلوا سُننَ اللهِ في الكون، وحركةَ التاريخِ في التغيير، ونهايةَ الظلمِ والظالمين، وسننَ اللهِ في النصرِ والتمكين؟ أيها المسلمون: المتأملُ في سننِ اللهِ الكونيةِ يرى أنها جاريةٌ لا تتبدلُ {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (¬2). والمتأملُ في حركةِ التاريخ يرى أنها لا تتوقف، فثمة أممٌ تفنى وأخرى تنشأ ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 7/ 6/ 1423 هـ. (¬2) سورة فاطر، الآية: 43.

وتحيا، وأفرادٌ يولدون وآخرون يموتون، نصرٌ وهزيمة، وعِزٌّ وذُل، غنيً وفقرٌ، رخاءٌ وشدائدُ، أحزانٌ ومسراتٌ .. وهكذا يقلبُ اللهُ الليلَ والنهار، ويتقلبُ الخلقُ- بأمرِ الله- منْ حالٍ إلى حال {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (¬1). عبادَ الله: ومنذُ قتلَ أحدُ ابني آدمَ أخاه وقطارُ البغيِ والفسادِ في الأرضِ جارٍ بقدرِ اللهِ وإرادتهِ وحكمهِ، لا يتوقفُ الأمرُ عندَ حدودِ اعتداءِ شخصٍ على آخرَ بغيرِ حقٍّ- بل قامت أممٌ على الاعتداءِ وسحق الآخرين ظلمًا وعدوانًا، ونشأتْ شعوبٌ مكَّنَ اللهُ لها في الأرضِ فأصابها مِنَ الغرورِ والاستكبار حدًا قالوا معه: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (¬2). هذهِ القوةُ الغاشمةُ الظالمةُ، انظروا كيفَ كانتْ نهايتُها في الدنيا، ومصيرُها في الآخرة، يقولُ تعالى عن عاد {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ} (¬3). نعمْ إنَّ القوةَ- مهما بلغت- لا تمنعُ انتقامَ اللهِ وبأسَه، والكبرياءُ- مهما تعاظَمَ أصحابُها- لا تدفعُ أمرَ اللهِ إذا حلَّ بساحةِ قومٍ .. وإلا فـ (عادٌ) هذه {لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} (¬4). كما أخبرَ اللهُ عنهم. وفي آيةٍ أخرى: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} (¬5). ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 35. (¬2) سورة فصلت، الآية: 15. (¬3) سورة فصلت، الآية: 16. (¬4) سورة الفجر، الآية: 8. (¬5) سورة الفجر، الآية: 8.

قالَ ابنُ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما في وصفِهم: كان أطولُهم مئةَ ذراع، وأقصرُهم ستين ذراعًا، وهذه الزيارةُ كانت على خلقِ آبائهم. وقالَ وهْب: كانَ رأسُ أحدِهم مثلَ قبةٍ عظيمة، وكانَت عينُ الرجلِ يُفرِّخُ فيها السباع، وكذلك مناخرُهم. وروى شهرُ بنُ حوشبٍ، عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه قال: إنْ كانَ الرجلُ من قومِ عادٍ يتخذُ المِصْراعيْن من حجارة، لو اجتمعَ عليها خمسُ مئة رجلٍ من هذه الأمةِ لم يُطيقوه، وإنْ كان أحدُهم ليغمزُ برجلِهِ الأرضَ فتدخلُ فيها (¬1). وهنا يرِد السؤالُ: أينَ هذه القوةُ؟ وماذا بقيَ من أخبارِها؟ لقد بادَتْ وانتهتْ من الوجودِ وبقيَ خبرُها عبرةً للمعتبرين ودروسًا للمكذِّبين والمتطاولين: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ (19) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} (¬2). أيها المؤمنون: وحركةُ التاريخِ وبأسُ اللهِ لمْ يتوقفا عندَ قومِ عاد، فثمةَ (ثمود) الذينَ جابوا الصخرَ بالواد، وبوَّأهم اللهُ في الأرضِ يتخذونَ من سهولِها قصورًا وينحتونَ من الجبالِ بيوتًا، آتاهمْ الناقةَ آيةً مبصرةً على صدقِ صالحٍ عليه السلامُ فظلموا بها، وانبعثَ أشقاهمْ فعقرَ الناقة، وعتوْا عنْ أمرِ ربهم، {وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (¬3). فكانتْ نهايتُهم: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (¬4) وفي آية ¬

(¬1) تفسير القرطبي 7/ 236، 237. (¬2) سورة القمر، الآيات: 18 - 21. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 77. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 78.

أخرى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} (¬1). وبقيتِ العبرةُ {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (¬2). ومنْ عادٍ وثمودَ - ورغمَ فاصلِ الزمان - إلى فرعونَ وقارونَ، حيثُ يتكررُ الطغيانُ والاستكبار .. ثم تتجددُ معهُ سُنةُ اللهِ في تدميرِ الطغاةِ والمستكبرين. أجل؛ لقدْ بلغَ فرعونُ منَ الطغيانِ حدًا قالَ معه: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (¬3). وبلغَ منَ السخريةِ بموسى وربِّه أنْ قال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ} (¬4). وتسلطَ فرعونُ على المؤمنين، وجيَّشَ جنودَه لمطاردتهم {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} وسخِرَ بموسى ومنْ معهُ منَ المؤمنين قائلًا {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} (¬5). {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52]. وتطاولَ فرعونُ وجنودُه، فطاردوا المؤمنينَ حتى وهم يجاوِزون البحرَ {بَغْيًا وَعَدْوًا} (¬6) .. واتخذوا لمنْ لمْ يستطعِ الفرارَ حبالًا وأوتادًا، ومنْ عجبٍ أنَّ هؤلاءِ الطغاةَ لا ¬

(¬1) سورة القمر، الآية: 31. (¬2) سورة القمر، الآية: 32، (¬3) سورة القصص، الآية: 38. (¬4) سورة غافر، الآيتان: 36، 37. (¬5) سورة الشعراء، الآيات: 53 - 56. (¬6) سورة يونس، الآية: 90.

صاحبَ لهم إذا خالفَ توجُّهَهم، ولا حرمةَ ولا رحمةَ لحبيبٍ أو صديقٍ إذا لمْ يستجبْ لكلِّ مطالبهم. ألا ترونَ فرعونَ شملَ بالعذابِ زوجتَه وأقربَ الناسِ إليه، ولمْ تسلمْ منَ الأذى كذلكَ ماشطةُ ابنتهِ حينَ انضمَّتا إلى قافلةِ المؤمنين، وإنْ كانوا قلةً ومطاردين. وتوجهتْ امرأةُ فرعونَ إلى اللهِ بالدعاءِ متحديةً فرعون وأوتادَه {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬1). ونجتْ المرأةُ المؤمنةُ الصابرةُ وخلّدَ القرآنُ ذكرَها مثالًا للإيمانِ ونموذجًا للمؤمنين. أيها المسلمون: وبعدَ مسلسلِ الظلمِ والجبروتِ الذي مارسَهُ فرعونُ وجندُه، تحققتْ فيهم سُنةُ اللهِ في هلاكِ الظالمين {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} (¬2) {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} (¬3). {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ، فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} (¬4). وبقِيَتِ الآيةُ، لكنْ لمن؟ لمنْ يعقلونَ ويتفكرون، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (¬5). عبادَ الله: أما قارونُ ببغيهِ وجحودهِ فجاءَ في معرضِ الحديثِ عن قصتِهِ قولُه تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً ¬

(¬1) سورة التحريم، الآية: 11. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 36. (¬3) سورة القمر، الآية: 42. (¬4) سورة القصص، الآيتان: 39 - 40. (¬5) سورة يونس، الآية: 92.

وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (¬1). وكانتِ النهايةُ المؤلمةُ والعبرةُ الموقِظةُ {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ}. وكانَ ختامُ القصة، يقولُ تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (¬2). اللهمَّ انفعْنا بمواعظِ القرآنِ، واهدِنا بهديِ القرآن، أقولُ ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم. ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 78. (¬2) سورة القصص، الآية: 83.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: أمةَ القرآنِ: وبعدَ قرونٍ متطاولةٍ وبعدَ أحاديثَ وقصصٍ عنْ مصارعِ الغابرينَ المستكبرين، يعرضُ القرآنُ على مشارفِ بعثةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم قصةَ أصحابِ الفيل، الذينَ انساحوا في الأرضِ يسفكونَ الدماءَ ويذِّلونَ الأعزاءَ وينهبون الأموالَ ويسيطرونَ على المقدَّرات .. والهدفُ في النهاية قريشٌ وبيتُ اللهِ الحرام .. ولئنْ تحققَّ لأبرهة وجيشهِ جزءٌ من النصرِ على تجمعاتِ سحقوها وشعوبٍ أذلوُها، فقد كانَ موعدُ قدر اللهِ فيهم عندَ بيتهِ المحرَّم، وكانت سنةُ اللهِ في إهلاكهم بجندٍ من السماءِ حَصَبتْهم حتى هلَكَ منْ هلَكَ منهم، وعادَ خاسئًا منْ عادَ منهم، وماتَ في الطريق منْ ماتَ منهم، وخُلِّدت الحادثةُ في كتابِ اللهِ، تشهدُ على سحْقِ الباطلِ وتدميرِ المجرمين، وإبطالِ كيدِ الكائدين {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} (¬1). أيها المسلمون: وبعُثَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم بالهدى ودينِ الحقِ وشعَّ نورُ الإسلام، فما فتئ الأعداء يتربصونَ بالمسلمينَ الدوائرَ؛ أوذيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنونَ في مكة، فهاجرَ منْ هاجرَ منهمْ إلى الحبشة، وماَت تحتَ التعذيبِ منْ مات، وأخيرًا ارتحلَ المسلمونَ عن مكةَ مهاجرينَ إلى المدينةِ على إثرِ مطاردةِ قريش وتضييقها، وكانَ القرآنُ ينزلُ مسلِّيًا لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ومذكِّرًا لهمْ بسنةِ اللهِ في الإيذاءِ وما يعقبهُ من تمكين، وكانَ فيما نزلَ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم قولهُ تعالى: {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلًا، ¬

(¬1) سورة الفيل، الآيات: 1 - 5.

سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} (¬1). وهاجرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إلى المدينةِ وابتدأتْ مرحلةٌ جديدةٌ منَ الجهاد، فقريشٌ لمْ تكفَّ عنْ مطاردةِ المؤمنينَ وهمْ خارج حدودِها، وكانتْ غزوةُ الأحزابِ ذروةَ الصراعِ بين الحقِّ والباطلِ، حيثُ تجمعتِ الأحزابُ وتألَّفتْ الأعداءُ وتحالفَ اليهودُ مع المشركين، وانضمَّ إليهمُ المنافقون في مشهدٍ زلزلَ المؤمنين، وزاغتِ الأبصارُ وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ .. فلما صدَقَ المسلمونَ معَ ربِّهم وثَبتوا مع نبيِّهم جاءَ الفرجُ، ودافعَ اللهُ عن أوليائه {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} (¬2). وما فتئ اليهودُ يتحرشونَ بالمسلمين، تارةً، ويتحيَّنونَ الفرصةَ للقضاءِ على الرسولِ صلى الله عليه وسلم أخرى، حتى أبطلَ اللهُ كيدَهم وخُضِّدَت شوكتُهم، بلْ دخلَ في الإسلام مُنقادًا منْ فتحَ اللهُ على قلبهِ منهم. وهكذا النصارى أجلَبوا على المسلمين، وهمُّوا باقتحامِ المدينةِ، فأرسلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه لمنازَلَتهم وكانتْ وقعةُ مؤتة، ورغمَ ما فيها منْ شهداءِ المسلمينَ بدايةّ لجهادِ النصارى، حتى تحطمتْ دولُتهم، وورثَ المسلمونَ أرضَهم وديارَهم، ومنْ يتأملُ الفرقَ بينَ (مؤتَة) في السنةِ الثامنةِ للهجرة، واليرموكَ في السنةِ الثالثةِ عشرةَ أو الخامسةَ عشرةَ- كما قالَ المؤرخون- يرى أنَّ فارق الزمانِ ضئيلٌ بين قوةِ الرومِ العظمى في مؤتة، وبينَ تحطيمِ قوتِهم وانتصارِ المسلمين عليهم في اليرموك. ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآيتان: 76 - 77. (¬2) سورة الأحزاب، الآيتان: 25.

أيها المسلمون: وبعدَ نحوِ ستةِ قرونٍ كانتْ موجاتُ المغولِ وحملاتُ الصليبيين، وكان إعصارًا مدمِّرًا وغزوًا ساحقًا، أُبيدتْ الدولُ والممالكُ وأفنيتْ الشعوبُ وأُهلكَ الحرثُ والنسلُ .. فلما بلغَ الظلمُ نهايتَه حلَّتْ بهم سُنةُ الله في التدميرِ والفناءِ، ولم يبقَ إلا أخبارُهم تُروى عبرةً للمعتبرين. وبعدُ يا عبادَ الله: فهذا الاستعراضُ التاريخيُّ لبيانِ طرفٍ منْ سننِ اللهِ في تدميرِ الظالمين، والدرسُ يقولُ: إن لكلِّ أجلٍ كتابٌ، ولكلِّ بدايةٍ نهايةٌ، ولكلِّ قوةٍ ضعفٌ، وآياتُ القرآن الحكيم تعرضُ لهذه السنَّةِ الربانيةِ في عددٍ منْ سورِ القرآنِ وآياتهِ، فهلْ نسمعُ ونعقلُ منها منْ مثل قولِهِ تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} (¬1) وقوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2)، وقوله: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا، وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَكُلًا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} (¬3). أيها المسلمون: ويبقى بعدَ ذلكَ السؤالُ المهمُّ: ماذا عنْ سُنن اللهِ في نصرِ المؤمنين، وهلْ منْ نماذجَ منْ نصرِ القلةِ المؤمنةِ على الكثرةِ الكافرةِ؟ ذلكَ ما سأعرضُ له فيالخطبةُ القادمةِ إن شاءَ الله. ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 11. (¬2) سورة الأنعام، الآيتان: 44 - 45. (¬3) سورة الفرقان، الآيات: 37 - 39.

نعمْ، إذا كانَ للهِ سُننٌ في التدمير والإهلاكِ، فلهُ كذلكَ سننٌ في النصرِ والتمكين ... وعلى المسلمينَ أنْ يعلموا هذه السننَ، ويعملوا بها إنْ أرادوا نصرًا وتمكينًا وعزًا وفتحنًا مبينًا. اللهم انصرْ دينَك وعبادَك، وانتقمْ منَ الكافرينَ الظالمين.

من سنن الله في نصر المؤمنين

من سنن الله في نصر المؤمنين (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله. اللهم صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلِّم تسليمًا كثيرًا. أيها الناس: كانَ الحديثُ في الجمعةِ الماضيةِ تذكيرًا بمصيرِ الظالمينَ وعقوبة المستكبرين .. لتأكيد {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا} (¬2) وإنَّ اللهَ يمهلُ ولا يُهمل، وإن كيدَ الكافرين في تباب. وتلكَ سُنَّةٌ ربانيةٌ ماضيةٌ تتجددُ كلما تجددَ العدوانُ والظلمُ والاستكبار. أما حديثُ اليومِ فهوَ عنْ سُنةٍ ربانيةٍ أخرى في نصرِ المؤمنينَ والتمكينِ للمسلمين في الأرض، وهذا النصرُ والتمكينُ لا يكفي فيه مجردُ الانتسابِ للإسلام، أو دعوى حبِّ اللهِ ورسوله، أو مجردُ العلمِ بأن ظاهر الإسلامَ ظاهرٌ وأنَّ الغلبةَ للمسلمينَ وهمْ غارقونَ في وحلِ الفساد، بعيدونَ عن أسبابِ النصر. وأُولى هذهِ السنن أنَّ البأساءَ والضراءَ- مع الصبرِ والمجاهدةِ- مقدماتٌ للنصر. ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 14/ 6/ 1423 هـ. (¬2) سورة البقرة، الآية: 165.

أيها المسلمون: لقد امتُحنَ المؤمنونَ السابقونَ على النصرِ، وزُلزلوا وفيهمُ الأنبياءُ والمرسلونَ حتى إذا صبروا وصدقوا جاءهمْ نصرُ الله {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (¬1). ثم ذُكِّرَ المسلمونَ اللاحقونَ لهمْ بهذهِ السُنَّة، وقيلَ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (¬2). ومنْ هنا يمكنُ القولُ: إنَّ منْ سُننِ اللهِ أنَّ حلولَ الباساءِ والضراءِ- بأهلِ الإسلام- مقدماتٌ للنصر، إذا صبروا وجاهدوا، وأخلَصوا في صدقِ توجُّههمْ إلى الله. نعمْ إنَّ الأمةَ قد تُصابُ بالنكباتِ والويلاتِ والمحنِ والمآسي، ولكنها تُخطئُ الطريقَ في توجُّهِهَا، فتستجدي الكافرين، أو تطلبُ النصرَ منْ أعدائِها، وقد تغضُّ الطرفَ عنْ موالاةِ المؤمنينَ في حالِ محنتِهم وحاجتِهم للنُّصرة، فيحلُّ بهمْ ما حلَّ بإخوانهم ومُحالٌ أن يأتيَ النصرُ حتى يتوجَّهُ المسلمون بكلِّيتهم إلى الله، ويحققوا مفهومَ الولاءِ مع المؤمنين، والبراءِ منَ الكافرين، وفي هذا توجيهُ ربِّنا تباركَ وتعالى يقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬3). 2 - الفسادُ والفسوقُ معوقاتٌ عنِ النصر: وفي مقابل السُّنة الماضيةِ فإنَّ ظهور الفسادِ وشيوعَ الفسقِ وطغيانَ الترفِ، ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 214. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 142. (¬3) سورة التوبة، الآية: 16.

معوقاتٌ عنِ النصرِ .. ومنْ يتأملُ واقعَ المسلمين يرى أنَّ الفسادَ ظاهرٌ في البرِّ والبحر، على مستوى الرجلِ والمرأةِ والمجتمعِ والدول، فسادٌ في القيم والأخلاق، وفي الإعلامِ والاقتصاد، وسائرِ جوانبِ الحياةِ إلا منْ رحمَ اللهُ. بل إن الفسادَ عقوبةٌ {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} وهو امتحانٌ للتوبة والرجوع {النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬1). وعاقبةُ الفسادِ وخيمةٌ، واللهُ يقول: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} (¬2). وفسقُ المترَفين يُدمِّرهم وغيرَهم {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (¬3). واللهُ تعالى لا يُصلحُ عملَ المفسدين، ويكرهُ الفسوقَ والعصيان. 3 - التضرعُ لله: ومنْ سُننِ اللهِ أنهُ تعالى يرفعُ ما حلَّ بالناسِ منْ بلاءٍ ومحنةٍ وفسادٍ ومصائبَ، إذا هم تضرَّعوا إليه وحدَه وسألوه بقلوبٍ وجلةٍ كشفَ الغمةِ {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (¬4). إنَّ المصيبةَ مضاعفةٌ حينَ تغفلُ القلوبُ وتقسوا وهي تعيشُ في ذُلِّ المعصيةِ وتتجرعُ كئوسَ البأساءِ والضراءِ، تلكَ أمةٌ ما عقلَتْ المصيبةَ وأسبابَها، ولا عرفتْ بعدُ طُرقَ النجاةِ منها، وأولئكَ قالَ اللهُ عنهم: {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬5). ¬

(¬1) سورة الروم، الآية: 41. (¬2) سورة الفجر، الآية: 13. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 16. (¬4) سورة المؤمنون، الآية: 76. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 43.

إنَّ قسوةَ القلوبِ -يا عبادَ الله- مرضٌ عضالٌ لا بدَّ مِنَ المسارعةِ بعلاجه، ولقد حُذرتْ هذهِ الأمةُ من ذلكَ وضُربتْ لها الأمثالُ لتحذرَ هذا المسلَك {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (¬1). 4 - لا بدَّ منَ التغييرِ في النفوسِ للأصلح: فثمَّة سنةٌ ربانيةٌ قال اللهُ عنها: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬2)، والتغييرُ في مألوفاتِ النفوسِ صعبٌ في البداية، ولكنهُ مُثمرٌ في النهاية، والصبرُ على مرارةِ الدواءِ ابتداءً أيسرُ منْ معاناةِ المرضِ ومخلَّفاتهِ، وربما أدى المرضُ إلى الوفاة. إنَّ الفردَ الجادَّ هو الذي يُذلِّلُ نفسَه ويوطنُها على التحولِ منْ حالٍ إلى أخرى أحسنَ منها، والأمةُ الجادةُ هي التي تطوَّع أبناءَها على التغييرِ للأصلح، ومنْ قرأ عنْ عظماءِ التاريخِ أو عن الأممِ المنتصرةِ وجدَ بداياتٍ جادةً في التغييرِ قادتْ إلى النصرِ والسؤدُد. إنَّ مجرَّد التمنِّي لا يصنعُ منَ الفردِ ولا منَ الأممِ شيئًا يُذكر، وتعليقُ أخطائِنا على غيرِنا لا ينقلُنا من حالِ الذلِّ والمهانةِ إلى مراقي العزِّ والكرامة، وإذا وُجدَ في الأممِ غيرِ المسلمةِ دولٌ ضُربتْ حتى كادتْ تنتهي من الوجودِ فأعادتْ نفسَها بجدِّ وألزمتْ شعبَها بنوعٍ من التربيةِ والعمل، فعادتْ قوتُها منْ جديد، وبرزتْ في ميدانِ الصراعِ العالمي منافسًا يُحسبُ له الحساب. أفتعجزُ أمةُ الإسلامِ وحاملةُ القرآنِ أنْ تُعيدَ نفسَها وترتبَ صفوفَها، وتنهضَ ¬

(¬1) سورة الحديد، الآية: 16. (¬2) سورة الرعد، الآية: 11.

بأبنائِها منْ جديد، وهمْ أصحابُ منهجٍ يقولُ لهم: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (¬1) وتوجيهٌ ربانيٌّ يعلمُهم: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬2). 5 - ولا بدَّ معَ إصلاحِ الذات منْ إصلاحِ الآخرين: نعمْ، إنَّ صلاحَ الفردِ بذاتِه مطلبٌ محمودٌ .. ولكنْ لا بدَّ منْ إصلاحِ المجموعةِ حتى لا ينخرَ في السفينةِ منْ يغرِقُها. إنَّ منْ سُننِ اللهِ في النصرِ والتمكينِ إقامةَ شرعِ اللهِ والحفاظَ عليهِ والأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكر {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (¬3). وإذا رأى الناسُ الظالمَ ثمَّ لمْ يأخذوا على يديهِ أوشكَ أنْ يعمَّهم اللهُ بعقابٍ منْ عندِه .. عبادَ الله: إنَّ هناك ارتباطًا وثيقًا بينَ شيوعِ الفواحشِ والمنكرات، وبينَ مصائبِ الأمةِ ونكباتها، يجلِّيها لنا الذي لا ينطقُ عن الهوى صلى الله عليه وسلم ويقول: «يا معشرَ المهاجرين: خِصالٌ خمسٌ إذا ابتليتمْ بهنّ- وأعوذُ باللهِ أنْ تدركوهنَّ- لمْ تظهرْ الفاحشةُ في قومٍ قطُّ حتى يُعلنوا بها إلا فَشا فيهمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لمْ تكنْ مضتْ في أسلافهمْ الذينَ مضوْا، ولم ينقُصوا المكيالَ والميزانَ إلا أُخذوا بالسنينَ وشدَّةِ المؤنةِ وجوْرِ السلطانِ عليهم، ولمْ يمنعوا زكاةَ أموالِهم إلا مُنعوا القطرَ منَ السماءِ ولولا البهائمُ لمْ يُمطروا، ولمْ ينقضوا عهدَ اللهِ ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 105. (¬2) سورة الرعد، الآية: 11. (¬3) سورة الحج، الآية: 41.

ورسولِهِ إلا سلّطَ اللهُ عليهمْ عدوَّهمْ منْ غيرهمْ فأخذوا بعضَ ما كانَ في أيديهم، وما لمْ تحكمْ أئمتُهمْ بكتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ ويتحروا فيما أنزلَ اللهُ إلا جعلَ اللهُ بأسَهمْ بينَهم» (¬1). والسؤال: ما واقعُ الأمةِ المسلمةِ منْ هذهِ المنكراتِ، وما نصيبُ كلَّ فردٍ منها؟ ! نعوذُ باللهِ من جَهْدِ البلاء، ومنْ دَرَكِ الشقاءِ، ومنْ شماتةِ الأعداء. إخوةَ الإسلام: 6 - ومنْ سُننِ اللهِ في النصرِ عدمُ اعتبارِ القلةِ والكثرةِ في ميزانِ النصر، فقد تنتصرُ القلةُ المؤمنةُ الصابرة على الكثرةِ الكافرة: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬2)، وقدْ ينصرُ اللهُ الفئةَ المستضعَفةَ على الكثرةِ المستكبرة: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} (¬3) فاللهُ يدافعُ عن الذين آمنوا، واللهُ ينتقمُ من الكافرينَ بأيدي المؤمنين {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} (¬4). {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (¬5). 7 - لكنْ لا بدَّ من العلمِ كذلكَ أنَّ منْ سُنن اللهِ أنَّ النصرَ قدْ يتأخرُ وقدْ تكونُ جولاتٌ وجولاتٌ بينَ معسكرِ الحقِّ والباطلِ؛ ليميزَ اللهُ الخبيثَ من الطيب، ويتبينَ الصادقونَ من المنافقين، وقد يتأخرُ النصر، بلْ تحصلُ المصيبةُ على ¬

(¬1) صحيح الجامع الصغير 6/ 306. (¬2) سورة البقرة، الآية: 249. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 123. (¬4) سورة التوبة، الآية: 14. (¬5) سورة الأنفال، الآية: 17.

المسلمين ليكرِمَ اللهُ منْ يُكرمُ بالشهادةِ ويمحصَّ المؤمنين ويمحقَ الكافرين، وفي هذا يقولُ ربُّنا مخاطبًا خيرةَ المرسلين وخيرَ القرون {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (¬1). ومهما تأخرَ نصرُ المؤمنين، ومهما تسلطَ الكافرون فثمةَ أجلٌ محددٌ ينتهي فيه الظلمُ ويهلكُ الظالمون، ذلك أنَّ الناسَ قدْ يرونَ موجباتِ العذابِ، وأسبابَ الانهيار قد حلَّتْ بأمةٍ من الأممِ والدولِ ثمَّ لا يرونَ زوالَها بأنفسِهم، وسنةُ الله ماضيةٌ لكنْ قدْ يكونُ عمرُ هذه الدولةِ الظالمةِ أطولَ منْ عمرِ الأفرادِ المعاصرين لها، ولا بدَّ من استيفاءِ الأجلِ كما قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (¬2). وقالَ تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} (¬3). اللهمَّ انفعْنا بالقرآن. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيتان: 140 - 141. (¬2) سورة الحجر، الآية: 34. (¬3) سورة الكهف، الآية: 59.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ للهِ، أزمَّةُ الأمورِ بيدِه، وأمورُ الكونِ والخلقِ لا تخرجُ عن قدرتِه ومشيئتِه، وأشهدُ أنْ لا إله اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه وخيرتُه من خلقِهِ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين. عبادَ الله: 8 - وثمةَ أمرٌ بالغ الأهميةِ في تحقيقِ النصرِ للمسلمين ألا وهوَ صدقُ التوكلِ على الله وحدَه، وصرفُ الخوفِ منهُ وحدَه. نعمْ، إنَّ الناسَ في حالِ الرخاءِ يرددونَ هذه المعاني ويعقلونها، ولكنَّ الخللَ يحدثُ حينَ تقعُ الأزماتُ وحينَ يستشري العدوُّ ويُهددُ ويُزبد، ويزدادُ القلقُ أكثرَ حينَ تُحاطُ الأمةُ بأعداءَ مِنَ الخارجِ والداخل، وحينَ يقلُّ النصرُ، ويضعفُ المُعين .. هنا وفي ظلِّ هذه الظروفِ الحرجةِ يُساورُ النفوسَ الضعيفةَ الشكوكُ، ويستولي عليها الخوفُ مِنَ البشر، فيضعفُ يقينُها بالله، ويخفُّ ميزانُ التوكلِ على اللهِ وحدَه. والقرآنُ يُطمئِنُ المؤمنين، بلْ يربطُ بين هذه المعاني وبينَ الإيمانِ ويقولُ تعالى {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (¬1). والمرسلونَ ما فتئوا يعلِّمونَ الناسَ التوكلَ على اللهِ، لا سيما في الشدائد، وتأملْ توجيهَ موسى عليه السلام لقومِهِ على إثرِ تخوفهمْ منْ فرعونَ وعُلوِّه. واللهُ يقول: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 175.

يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ، وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ، فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (¬1). والمؤمنونَ مع محمدِ صلى الله عليه وسلم حين خُوِّفوا بجمع الكافرين وتهديدِهم لجئوا إلى سلاح التوكل وآووْا إلى ركنٍ شديد {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} ثم قالَ مبيِّنًا مصدرَ الخوفِ مِنْ غيرِ الله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (¬2). وخرجَ المسلمون إلى حمراءِ الأسدِ ومصابُهم كبيرٌ في أُحد، وجراحاتُهم تثعبُ دمًا .. لكنه الصدقَ مع اللهِ والخوفَ منهُ وحدَه .. والصبرَ والتحملَ في ذاتِ الله .. الأمرُ الذي أرهبَ العدوَّ فولَّوْا مدبرين. كمْ نحنُ بحاجةٍ إلى إحياءِ هذه المفاهيم- حينَ تحزُبُ الأمورُ- ليكونَ الخوفُ كلُّه من الله، وليكونَ التوكلُ جميعُه على الله، لا أنْ تكونَ هذه المفاهيمُ نرددُها في حالِ السراءِ، ثم تغيبُ عنّا- أو عنْ بعضِنا- في حالِ الضراء! أيها المسلمون: ومنْ عجبِ أنَّ المؤمنينَ الصادقينَ لا تزيدُهم الشدائدُ إلا قوةً وإيمانًا وتسليمًا، بخلافِ غيرهمْ ممن يَفرَقونَ عندَ أدنى مصيبة، بلْ ويحسبونَ كلَّ صيحةٍ عليهم. ودعوني أقفُ وإياكمْ على قصةِ المسلمين حين دهمَتْهم الأحزابُ في المدينة، لا كما تعرضُها كتبُ السيرةِ، فتلك مطوَّلة وإن كانت مفيدةٌ، ولكنْ ¬

(¬1) سورة يونس، الآيات: 83 - 86. (¬2) سورة آل عمران، الآيات: 173 - 175.

كما يعرضُها القرآنُ فهم أخصرُ وأبلغُ في التعبير. نعم، لقد زُلزلَ المؤمنون لهذا التجمعِ العداونيِّ الغاشم، وزاغتِ الأبصارُ وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ .. ولكنَّ الله تعالى اعتبرَها نعمةً على المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} (¬1) الآية، وهلْ تكونُ البليةُ نعمةً؟ نعم لأنَّ بها يزدادُ رصيدُ المؤمنين وينكشفُ المنافقون ويُردُّ بأسُ الكافرينَ، ويتنزلُ نصرُ اللهِ ورحمتُه بعدَ البلاءِ والتمحيص. أما المؤمنون- فرعمَ هولِ الموقفِ وزلزلته- فقدْ استبشروا باللقاءِ والكربِ لأنه طريقٌ إلى النصر {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (¬2). لقد اتخذَ المؤمنونَ من شعورِهم بالزلزلةِ سببًا في انتظارِ النصر، ذلكَ أنهم صدَّقوا قولَ الله من قبل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (¬3). إخوةَ الإسلام: ومهما قيل عنْ أسبابِ النصرِ وعواملِ التمكينِ للمسلمينَ في الأرض، فالإيمانُ الحقُّ بدؤُها ونهايُتها وأولُها وآخرها، هو ضمانةٌ للنصر {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (¬4). ووعدٌ محققٌ بهِ للنصر {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬5) بسلاحِ الإيمانِ ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآيات: 9. (¬2) سورة الأحزاب، الآية: 22. (¬3) سورة البقرة، الآية: 214. (¬4) سورة الصافات، الآية: 173. (¬5) سورة الروم، الآية: 47.

ولوازمهِ، وبيقظةِ المسلمينَ يُرهبُ الأعداءُ، قديمًا وحديثًا؛ وهنا أسوقُ لكم خبرًا وتعليقًا جاء في إذاعة «إسرائيل» ونصّهُ: «أنَّ على اليهودِ وأصدقائِهم أنْ يدركوا أنَّ الخطرَ الحقيقيَّ الذي تواجههُ «إسرائيلُ» هو خطرُ عودةِ الروحِ الإسلاميةِ إلى الاستيقاظ من جديد ... وإنَّ على المحبينَ لإسرائيلَ أنْ يبذلوا كلَّ جُهدِهم لإبقاءِ الروحِ الإسلاميةِ خامدةً؛ لأنها إذا اشتعلتْ منْ جديدٍ فلنْ تكونَ إسرائيلُ وحدَها في خطر، ولكنَّ الحضارةَ الغربيةَ كلَّها ستكونُ في خطر» (¬1). فهل يدركُ المسلمونَ مكمنَ القوةِ عندهم، فيستعلُموا بإيمانِهم ويجدِّدوا في توبتِهم إلى بارئِهم مُستحبيبين لنداءِ الرحمن {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬2). كمْ نحنُ بحاجةٍ إلى التوبةِ أفرادًا وشعوبًا ودولًا، توبةً مما يعلَمُه الناسُ عنا، وتوبةً مما لا يعلمُه إلا اللهُ عنْ كلِّ أحدٍ منا، لا بدَّ من التوسلِ إلى اللهِ في كلِّ حينِ والتضرع إليه حينَ الخطوبِ، والخروجِ منْ وَحَلِ الموبقاتِ وتطهيرِ الأنفسِ من السيئاتِ .. لعلَّ الله أنْ يرحمَنا ويدفعَ عنّا ويصرفَ عنْ إخواننا المسلمين ما حلَّ بهم من الضراءِ والكربات .. فهو وحدَه فارجُ الكُرباتِ، وهو وحدَه كاشفُ البليَّاتِ .. هوَ حسبُنا ونعمَ الوكيلُ، على اللهِ توكلْنا وعليه فليتوكلِ المؤمنون .. اللهمَّ فارجَ الكرباتِ .. فرّجْ عنا وعنْ إخوانِنا كلَّ كرب وانصرنا على عدوكّ وعدونا. ¬

(¬1) ليالي تحت القمر، علي بن محمد المسعود/ 46. (¬2) سورة النور، الآية: 31.

فكاك الأسير

فكاك الأسير (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ لهُ، ومَنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ وتابعيهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وسلمْ تسليمًا كثيرًا. أيها المسلمون: دينُنا دينُ التكاتفِ والتكافلِ الاجتماعي، دينٌ تنصُّ تعاليمُه على كفالةِ اليتيم، وإعانةِ المحتاج، وفكاكِ الأسير، ورعايةِ ابنِ السبيلِ وعيادةِ المريضِ، ورعايةِ المُسِنِّ، والإعانةِ على نوائبِ الحقِّ، والتنفيسِ عن مُعْسرٍ، وتفريجِ كربِ المكروب .. ونحوِ ذلكَ منْ سلوكياتٍ تُلبسُ المجتمعَ الإسلاميَّ لَبُوسَ المودةِ والإخاءِ، وتشيعُ المحبةَ والتعاونَ بينَ المسلمين. ولكنَّ آفةَ المسلمينَ حينَ يغفلونَ عنْ هذهِ المعاني، ويفرِّطونَ، في رعايةِ هذهِ القيمِ أو شيءٍ منها؛ فيظلُّ الفقيرُ يكابدُ الآمَ الفقرِ والحرمانِ وحدَه بعيدًا عنْ مشاعرِ المسلمينَ ومعونَتِهم، وتتراكمُ الهمومُ على مسلمٍ مهمومٍ فلا يجدُ-على الأقل- منْ يسرِّي عنهُ ويسألُ عنْ أحوالِه، ويفيضُ عليهِ مِنْ المشاعرِ المؤنسةِ ما ينفسُ كربَته أو يخففُ عليهِ ضائقتَه. وهكذا يظلُّ المريضُ يعاني منْ ألمِ المرضِ ووحشةِ الزوارِ، فلا يُسألُ عنْ حالهِ ولا يُزارُ فيُدعى له بالشفاءِ والعافية، وينقطعُ ابنُ السبيلِ فلا يكادُ يلتفتُ إليهِ ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 21/ 6/ 1423 هـ.

أحدٌ ليسألَ عنْ حالهِ ويقدّمُ لهُ العونَ في سفرهِ وغربتهِ، وقلْ مثلَ ذلكَ حينَ يشعرُ كبارُ السنِّ أنهمْ أصبحوا عالةً على المجتمعِ فلا يُقدَّرونَ حقَّ قدرهِم، ولا تُقدّرُ سابقُتهم ولا يُستفادُ من تجاربِهم. وحينَ يضطرُّ المحتاجُ في سبيلِ قضاءِ حاجتهِ إلى ممارساتٍ لم يأذنْ بها اللهُ، إما عنْ طريقِ السرقة، أو النصبِ والاحتيالِ أو الاستقراضِ الرِّبَوي .. وكلها ظلماتٌ بعضُها فوقَ بعض. إخوةَ الإيمان: أما حينَ تشتعلُ الحروبُ وتُستخدمُ لغةُ القوةِ، ويكونُ المسلمونَ هدفًا يُبتغى، هنا يكثرُ الجرحى والأسرى وتشتدُّ حاجةُ الأيامى واليتامى، ومِنَ المؤسفِ والمؤلمِ أنْ تسبقَ إلى إيواءِ هؤلاءِ وإعانتِهم جمعياتٌ تنصيريةٌ يكفيها أنْ تصرفَهم عن الإسلامِ ولوْ لمْ تُدخِلْهُم النصرانيةَ، ويكفيها أنْ تشعرَهم أنَّ النصارى كانوا أقربَ إليهم منْ إخوانِهم المسلمين وإنْ لمْ يُدخلوهم في منظومةِ النصارى وحقوقهِم، هنا تقعُ الفتنةُ ويضعفُ حبلُ الإخاءِ ويطيشُ ميزانُ التكافلِ الاجتماعيِّ عندَ المسلمين. أما الأسارى المرتَهنون عندَ قومٍ كافرين، فكمْ لهمْ من الحقوقِ على إخوانهمْ المسلمين، وهذا رسولُ الهدى والرحمةِ يستصرخُ المسلمينَ كافةً لنجدتهمْ والسعيِ في فكِّ أسرِهم ويقول: «فكُّوا العاني (أي الأسيرَ) وأجيبوا الداعي، وأطعِموا الجائعَ وعودوا المريضَ» رواه أحمد والبخاري (¬1). ولأهميةِ هذا الأمرِ بوَّبَ البخاريُ في «صحيحه» بابًا في (فكاكِ الأسير) وبه ساق الحديث. عنْ أبي موسى الأشعريِّ رضي اللهُ عنهُ قالَ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «فكُّوا العاني -يعني ¬

(¬1) انظر: صحيح الجامع الصغير 4/ 90.

الأسيرَ- وأطمعوا الجائعَ، وعودوا المريض». وساقَ حديثا آخرَ فيما اشتملتْ عليه الصحيفةُ من فكَاكِ الأسيرِ (¬1). ونقلَ ابنُ حجر عن ابنِ بطَّال: فكاكُ الأسيرِ واجبٌ على الكفاية، وبهِ قال الجمهور (¬2). تُرى ما حجمُ اهتمامِ المسلمينَ بأسراهم عندَ اليهودِ أو النصارى أو عندَ غيرِهم مِنَ الأممِ والشعوبِ المعاديةِ للمسلمين! وهذا الإمامُ مالكٌ رحمه اللهُ تعالى يقول: «واجبٌ على الناس أن يفدوا الأسارى بجميعِ أموالِهم، وهذا لا خلافَ فيه، لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: «فكُّوا العاني». أما شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمهُ اللهَ فقدْ كتبَ رسالةً مطوَّلةً إلى «سرجوان» عظيمِ أهلِ ملةِ النصارى، بمناسبةِ أسرهِ لفئةٍ من المسلمين، ومما قالهُ في هذه الرسالة: «ومنَ العجب كلِّ العجبِ أنْ يأسرَ النصارى قومًا غَدْرًا أو غيرَ غدرٍ ولمْ يقاتلوهم، والمسيحُ يقول: «مَنْ لطمكَ على خدِّكَ الأيمنِ فأدِرْ له خدَّكَ الأيسرَ، ومنْ أخذَ رداءَك فأعطِه قميصَك» وكلَّما كثرتِ الأسرى عندَكُم كانَ أعظمَ لغضبِ اللهِ وغضبِ عبادِه المسلمين، فكيفَ يمكنُ السكوتُ على أسرى المسلمينَ في قبرص، سيَّما وعامةُ هؤلاءِ الأسرى قومٌ فقراءُ وضعاء، ليسَ لهمْ منْ يسعى فيهم .. » (¬3). ثمَّ يخاطبُ الشيخُ عظيمَ النصارى مبينًّا له فرقَ معاملةِ المسلمين لمن عندهمْ من النصارى، عنْ معاملةِ النصارى لمن عندهمْ منَ المسلمين ويقول: «أما يعلمُ ¬

(¬1) انظر الفتح: 6/ 167 ح 3046، 3046. (¬2) الفتح 6/ 167. (¬3) الفتاوى 28/ 625.

الملكُ أنَّ بأيدينا منَ النصارى أهلِ الذمةِ والأمانِ ما لا يُحصي عددَهم إلا اللهُ، ومعاملتُنا فيهم معروفةٌ، فكيفَ يعامِلونَ أسرى المسلمينَ بهذه المعاملةِ التي لا يرضى بها ذو مروءةٍ ولا ذو دين؟ » (¬1). أيها المسلمون: وإذا كانَ هذا طرفًا منْ مواقفِ العلماءِ معَ أسارى المسلمين، فدونكم طرفًا منْ مواقفِ الأمراءِ والولاةِ مع الأسرى. فعمرُ بنُ عبدِ العزيز -رحمهُ الله- يكتبُ إلى بعضِ عمَّالِهِ: أنْ فادِ بأسارى المسلمين، وإِنْ أحاطَ ذلكَ بجميعِ ما عندهمْ مِنَ المال. وسمعَ الحكمُ بنُ هشامٍ أميرُ الأندلسِ أنَّ امرأةً مسلمةً أُخذتْ سبيّةً فنادتْ: واغوثاهُ يا حكَم! فعظُمَ الأمرُ عليهِ وجمعَ عسكَرَهُ واستعدَّ وحشدَ وسارَ إلى بلادِ الفرنجِ سنةَ ستًّ وتسعينَ ومائة، وأثخنَ في بلادِهم وافتتحَ عدةَ حصون، وخرَّب البلادَ ونهبَها، وقتلَ الرجالَ وسبي الحريمَ، وقصدَ الناحيةَ التي كانتْ بها تلكَ المرأةُ التي خلَّصَها من الأسرِ، ثمَّ عادَ إلى قرطبةَ ظافرًا. أما المنصورُ بنُ أبي عامرٍ فهوَ -كما قال الذهبي- البطلُ الشجاعُ الغزَّاءُ العالِمُ، جمُّ المحاسن، كثيرُ الفتوحات، ملأَ الأندلسَ سبْيًا وغنائمَ، وأكثرَ منْ غزوِ النصارى، حتى اجتمعَ لهُ من غبار المعاركِ التي خاضَها ما عملتْ منهُ لَبِنةٌ وأُلحدَتْ على خدِّه، أو ذُرَّ ذلك على كفنِهِ .. (¬2). هذا البطلُ المغوارُ ساقَ له الذهبيُّ موقفًا رائعًا في فكِّ أسرى المسلمينَ فقال: ومنْ مفاخرِ المنصورِ أنه قدِمَ منْ غزوةٍ، فتعرضتْ له امرأةٌ عندَ القصرِ فقالتْ: يا منصور، يفرحُ الناسُ وأبكي؟ إنَّ ابني أسيرٌ في بلادِ الرومِ، فثَنى عنانَه ¬

(¬1) الفتاوى 28/ 622. (¬2) سير أعلام النبلاء 17/ 15، 16، 123، 124.

وأمرَ الناس بغزوِ الجهةِ التي فيها ابنها (¬1). أيها المسلمون: هكذا كانَ أسلافُنا مع أسرى المسلمين .. عنايةً واهتمامًا ونجدة، يلبُّونَ النداءَ ويسمعونَ صوتَ المنادي، وتُجهَّزُ الجيوشُ، وتكتبُ الرسائلُ منْ أجلِ أسارى المسلمين، ثمَّ استدارَ الزمانُ وغَفى المسلمونَ الطلقاءُ من الأسر، وبقيَ الأسرى المسلمونَ في غياهبِ سجونٍ مظلمةٍ أو مرتَهنينَ في أقفاصٍ حديديةٍ مؤلمةٍ، لا مجيرَ لهمْ ولا ناصرَ إلا الله .. يتفننُ العدوُّ في أذيَّتهمْ وأسلوبِ التعاملِ معهم، ويستصرخونَ إخوانَهم المسلمينَ ولا مجيبَ؛ بلْ يُطْبِقُ الصمتُ الرهيبُ إلا مَنْ رحَم اللهُ، وأكثرُ إيلامًا أن تدافعَ عنْ حقوقهمْ منظماتٌ وهيئاتٌ لا تمتُ للإسلامِ والمسلمينَ بصلة، فهل أنفسُ المسلمينَ وحقوقُهم رخيصةٌ إلى هذا الحدِّ منَ الإهمال؟ فإلى اللهِ المشتكى وهوَ وحدَه المستعانُ. اللهم نفِّسْ كربَ المكروبين منَ المسلمين، اللهم فكَّ أسرى المأسورينَ من المسلمين، واحفظْ عليهم دينَهم ولا تجعلْهم فتنةً للكافرين، اللهم آنِسْ وحشتَهم، وارحمْ غربتَهم. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 17/ 125، 126.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمد لله فارج الكربات مغيث اللهفات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالعدل والقسط والإحسان، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي والعدوان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قال وهو الصادق الأمين: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» (¬1). اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. إخوة الإيمان: وإذا أردتم أن تدركوا حجم المأساة والظلم التي تلحق بالمستضعفين من المسلمين، فانظروا كيف يعامل مجرمو الحرب من اليهود والنصارى، وكيف يحاكمون وماذا ثبت عليهم من العقوبات الواقعية لا مجرد الأحكام الصورية .. وبين معاملة المسلمين الواقعين في أسر اليهود والنصارى؟ ! ألا بواكي للمسلمين؟ أين صوت العلماء؟ أين شهامة الأمراء؟ أين رجالات الإعلام؟ أين أصحاب الأموال، وأين عوام المسلمين وخواصهم من الدعاء؟ وفي سيرة محمد صلى الله عليه وسلم دعوة للدعاء للأسرى ومن وقع من المسلمين تحت طائلة فتنة الكافرين وعلى من قتل أحدا من المسلمين، وفي «صحيح البخاري» باب الدعاء على المشركين، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قال: «سمع الله لمن حمده» في الركعة الآخرة من صلاة العشاء قنت: «اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم ¬

(¬1) رواه مسلم صحيح الجامع 5/ 64.

اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف» (¬1)، وفي «البخاري» أيضًا من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية يقال لها القراء، فأصيبوا، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وجد على شيء ما وجد عليهم، فقنت شهرا في صلاة الفجر ويقول: «إن عصية عصت الله ورسوله» (¬2). فهل يا ترى يعجز المسلمون عن الدعاء لإخوانهم المستضعفين، وهو من سنة المصطفى (ص)؟ هل من دعوات صادقة تطلق في الأسحار؟ وهل يتحين المسلمون أوقات إجابة الدعاء، فيدعون لرفع ما حل بالأمة من محن وبأساء؟ عباد الله: وهل يسوغ لنا نسيان هؤلاء المستضعفين؟ هل من جهة تطالب بحقوقهم وترفع الضيم عنهم؟ اللهم إنهم ضعفاء فانصرهم، ومأسورون ففك أسرهم، اللهم آنس وحشتهم واحفظ عليهم دينهم وفرج كربتهم. إخوة الإسلام: وإذا طالبت منظمة العفو الدولية بحقوق الإنسان المنتهكة في (جوانتانامو) وطالبت بزيارة الأسرى، وتعيين محامين مستقلِّين فورًا لهؤلاءِ الأسرى- كما نقلتْ وكالاتُ الأنباء- فأينَ مطالبةُ المنظماتِ الإسلامية؟ ! وإذا سمحَ لوفدِ (اللجنةِ الدوليةِ للصليبِ الأحمر) بزيارةِ هؤلاءِ الأسرى، وسمحَ كذلك لوفدِ المسئولين البريطانيين بزيارة الأسرى البريطانيين .. فهلْ يا ترى يسمحُ لعددٍ منَ الهيئاتِ الإسلامية، ووفودٍ من الدول التي لها أسرى بزيارات مماثلة؟ . ¬

(¬1) الفتح 11/ 193، ح 6393. (¬2) الفتح 11/ 194، ح 6394.

وإذا نقلت الصحف الأمريكية وغيرها تحالف مجموعة من رجالِ الدينِ والمحامينَ وأساتذةِ الجامعاتِ الأمريكان للدفاعِ عنِ المعتقلين .. فهل وقعَ مثلُ ذلك عندَ المسلمين؟ لقد نشرتْ صحيفةُ «الواشنطن بوست» أنَّ منظمةَ العفوِ الدوليةِ ذكرتْ في تقريرِها السنويِّ أنَّ الولاياتِ المتحدةَ الأمريكيةَ خاضتِ الحربَ على الإرهابِ على حسابِ حقوقِ الإنسان، وهوَ الأمرُ الذي يضعفُ مصداقيةَ أمريكا كزعيمٍ عالميٍّ في القضايا الإنسانية؟ إننا معاشرَ المسلمين لا نعولُ كثيرًا على هذهِ المنظماتِ الغربيةِ في الدفاعِ عنْ قضايانا والمطالبةِ بحقوقِ إخوانِنا المسلمين .. لكننا حينَ نذكرُ ذلكَ للعلمِ بأنَّ سوءَ المعاملةِ وهضمَ حقوقِنا الإنسانيةِ وصلَ حدًّا ضجرتْ منه منظماتُ القومِ، على حينِ تبقى عددٌ مِنَ المنظماتِ المعينةِ بالأمرِ صامتةً؟ فإلى متى يظلُ الصمتُ؟ وأحوالُ المعتقلينَ تزدادُ كلَّ يومٍ سوءًا، ومصاُبهم وجرحُ أهاليهم باتَ عظيمًا، كمْ منْ دمعةٍ حرَّى أراقَها المعتقلونَ أو أُريقَتْ لهم؟ فمنْ يحسنُّ بهذهِ الدموعِ ويؤنسُ الملهوفَ وينتصرُ للمظلوم؟ ومنْ هديِ النبوةِ «انصرْ أخاكَ ظالمًا أو مظلومًا» وفي مسطورِ التاريخِ (وامعتصماه) تلكَ التي سُيرتْ لها الجيوشُ، وكان الفتحُ الأعظمُ لعموريةَ والانتصارُ للمظلومين .. ربَّ وامعتصماهُ انطلقتْ ... ملءَ أفواهِ الصبايا اليُتَّمِ لامسَتْ أسماعَهُمْ لكنَّها ... لمْ تلامِسْ نخوةَ المعتصمِ وربَّ وامعتصماهُ انطلقتْ ... ملءَ أفواهِ الأسارى العزَّلِ لامسَتْ أسماعَهُمْ لكنَّها ... لمْ تلامِسْ نخوةَ المعتصمِ عبادَ الله: ومهما تشدَّقَ الآخرون بمنظماتِهم الإنسانيةِ لحمايةِ حقوقِ الإنسان، فيبقى الإسلامُ شامخًا في حمايةِ حقوقِ الإنسان، ويبقى ميثاقُ القرآنِ

أقوى وأسبقُ وأصدقُ والله يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (¬1). ويقولُ جلَّ شأنه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ .. } (¬2). بلْ يجدُ المنصفونَ في تعاليمِ إسلامِنا رعايةً ورحمةً بالحيوانِ، فضلًا عنِ الإنسان، وفي «الصحيحِ» «أنَّ رجلًا اشتدَّ بهِ العطشُ فنزلَ بئرًا فشربَ منها ثمَّ خرج، فإذا بكلبٍ يلهثُ يأكلُ الثَّرى من العطشِ، فقال الرجل: لقدْ بلغَ هذا الكلبُ منَ العطشِ مثلَ الذي بلَغَني، فنزلَ البئرَ فسقى الكلبَ، فشكرَ اللهُ وغفر له» فقالَ الصحابة: يا رسولَ الله، وإنَّ لنا في البهائمِ لأجرًا؟ قال: «في كلِّ كبدٍ رطبةٍ أجرٌ». ولئنْ كانتْ الرحمةُ بالكلبِ تغفرُ ذنوبَ البغايا، كما في الرواية الأخرى، فإنَّ الرحمةَ بالإنسانِ تصنعُ العجائب (¬3)، فأين المسلمونَ منْ تعاليمِ دينِهم ونصرةِ إخوانهم؟ ! ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 70. (¬2) سورة النحل، الآية: 90. (¬3) الغزالي، خلق المسلم 263.

عشر وقفات في الرؤيا والمعبرين

عَشْرُ وَقَفاتٍ في الرؤيا والمُعبرين (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ وتابعيهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، وسلمْ تسليمًا كثيرًا. إخوةَ الإسلام: يعرضُ للمرءِ- في حالِ اليقظة- أمورٌ تحتاجُ منهُ إلى صبرٍ ومصابرة، فأمورُ الحياة كثيرٌ كَدَرُها، والإنسانُ- كما أخبرَ الله- خُلِقَ في كبدٍ، والحياةُ الدنيا- بجُمْلتِها- متاعُ الغُرورِ. وهذا ليس مجالُ الحديثِ اليومَ، بلْ يتجهُ الحديثُ إلى ما يعرضُ للمرء في حال المنام، إذْ تطوفُ الروحُ في عالمٍ وتخيُّلاتٍ ورؤى لا يعلمُها إلا الله، وفي المنام- بشكلٍ عام- آيةٌ من آياتِ الله {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (¬2). ولربما نامَ المرءُ فقامَ فزعًا على إثْرِ رؤيا رآها، أو مشهدٍ تخيَّلهُ واقعًا، فلما استيقظَ لم يجدْ من ذلك شيئًا. عبادَ الله: والناسُ في النظرِ إلى الرؤى وتعبيرِها طرَفانِ ووسطٌ؛ الطرفُ الأولُ يُعظِّمُ الرؤيا ويُسرفُ في تعبيرِها وربما ألزمَ نفسَهُ بما يتراآى له من ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 20/ 7/ 1423 هـ. (¬2) سورة الروم، الآية: 23.

تعبيرها -وإنْ كانتْ أضغاثَ أحلام- ومنْ هذا القبيلِ (الصنف) ما ذكرهُ الإمامُ الشاطبيُّ- رحمه الله- أن شريكَ بنَ عبد الله القاضي -رحمه الله- دخلَ على الخليفةِ المهديِّ رحمه الله، فلما رآه قال: عليَّ بالسيفِ والنَّطْعِ، قال: ولمَ يا أميرَ المؤمنين؟ قال: رأيتُ في منامي كأنك تطأُ بساطي، وأنتَ مُعرضٌ عَنِّي فقصصتُ رؤيايَ على من عَبَّرها فقال لي: يُظهرُ لك طاعةً ويضمرُ معصيةً، فقال له شريكٌ: واللهِ ما رؤياكَ برؤيا إبراهيمَ الخليلِ -عليهِ السلام- ولا أن مُعبِّرَكَ بيوسفَ عليه السلام، أفبالأحلامِ الكاذبةِ تضربُ أعناقَ المؤمنين؟ فاستحي المهديُ وقال: اخرجْ عني (¬1). والطرفُ المقابلُ لهذا الطرفِ من لا يهتمُّ بالرؤيا، ولا يُعيرُها أيَّ اهتمامٍ ولا فرقَ عندَه بين الرؤيا الصالحةِ وبينَ أضغاثِ الأحلام. أما الطرفُ الوسطُ- وهم المحقُّون- فهمُ الذينَ لا يُنكرونَ ولا يُبالغونَ في الرؤى، بل ينطلقونَ مُنطلقًا شرعيًا مُتَّزِنًا، سندُهم في ذلك قولُ المصطفى صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا الصالحةُ- وفي روايةٍ (الصادقة) - منَ الله، والحُلُمُ من الشيطان .. » (¬2). وهنا وفي مجالِ الرؤى والمناماتِ والمعبرينَ أذكِّرُ بالأمورِ العشرةِ التالية: 1 - الرؤيا الصالحةُ جزءٌ من ستةٍ وأربعينَ جزءًا من النبوة، فقدْ روى البخاريُّ وغيرُه عن عُبادةَ بنِ الصامت، وأبي هريرةَ وأنسٍ رضي الله عنهمْ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «رؤيا المؤمنِ جُزءٌ من ستةٍ وأربعين جُزءًا من النبوة» (¬3). قال ابنُ حجر، إنما كانت جزءًا من أجزاءِ النبوةِ لكونِها منَ اللهِ تعالى، بخلافِ التي من الشيطان، فإنها ليستْ من أجزاءِ النبوة (¬4). ¬

(¬1) الاعتصام 1/ 261. (¬2) رواه البخاريُّ ومسلم وغيرُهما (خ 6987). (¬3) خ 6987. (¬4) الفتح 12/ 374.

2 - والرؤيا من المبشِّراتُ: كما أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: «لم يبقَ من النبوةِ إلا المُبشِّراتُ» قالوا: وما المبشِّراتُ؟ قال: «الرؤيا الصالحةُ يراها المسلمُ أو تُرى له» (¬1). قال ابنُ التِّين: معنى الحديث: أنَّ الوحيَ ينقطعُ بموتِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم ولا يبقى ما يُعلم منه ما سيكون إلا الرؤيا .. (¬2) 3 - ورؤيا المؤمنِ تكادُ لا تكذب .. أخرجَ البخاريُّ في «صحيحه» عن أبي هريرةَ قال صلى الله عليه وسلم: «إذا اقتربَ الزمانُ لم تكدْ رؤيا المؤمنِ تكذبُ، ورؤيا المؤمن جزءٌ من ستةٍ وأربعينَ جزءًا منَ النبوة، وما كانَ من النبوةِ فإنه لا يكذبُ» (¬3). قال أهلُ العلم: إذا اقتربتِ الساعةُ وقُبضَ أكثرُ العلم، ودَرَستْ معالمُ الديانةِ بالهرجِ والفتنةِ، فكانَ الناسُ على مثلِ الفترةِ محتاجينَ إلى مُذكِّرٍ ومجددٍ لِما دَرَسَ من الدين كما كانتِ الأممُ تُذكرُ بالأنبياء، لكنْ لمَّا كانَ نبيُّنا خاتمَ الأنبياء، وصارَ الزمانُ المذكورُ يُشبهُ زمانَ الفترةِ عُوِّضوا بما مُنعوا من النبوةِ بِعدَه بالرؤيا الصادقةِ، التي هيَ جزءٌ من النبوةِ الآتيةِ بالتبشيرِ والإنذار (¬4). 4 - تعبيرُ الرؤى، والاجتهادُ في حملها على الخير: لا ينبغي الاستعجالُ بتعبير الرؤى، فقدْ وردَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال: «الرؤيا على رِجْلِ طائرٍ ما لم تُعبَرْ، فإذا عُبِرَتْ وَقَعتْ» أخرجه أبو داود والترمزي وابن ماجه بسند حسَّنه الحافظُ ابنُ حجر وصحَّحه الحاكم (¬5). ¬

(¬1) رواه البخاريُّ ومسلم وغيرهما (الفتح 12/ 375). (¬2) الفتح 12/ 376. (¬3) خ 7017. (¬4) الفتح 12/ 405. (¬5) الفتح 12/ 432.

وعنْ عطاء: كان يُقال: الرؤيا على ما أُوِّلت، بسند حسن (¬1). وإليكمْ هذهِ الرؤيا وتوجيهِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فيها: فقدْ أخرجَ الدارميُّ بسندٍ حسنٍ- كما قالَ الحافظُ ابنُ حجر- عنْ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالت: كانتْ امرأةٌ من أهل المدينةِ لها زوجٌ تاجرٌ يختلفُ- يعني في التجارة- فأتتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالتْ: إنَّ زوجي غائبٌ وترَكني حاملًا، فرأيتُ في المنامِ أن ساريةَ بيتي انكسرت، وأني ولدتُ غلامًا أعورَ، فقالَ صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: «خيرٌ، يرجعُ زوجُك إن شاءَ اللهُ صالحًا، وتلدينَ غلامًا برًّا» فذكرتُ ذلكَ ثلاثًا، فجاءتْ ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم غائبٌ، فسألتُها فأخبرَتْني بالمنام، فقلت (أي عائشة): لئنْ صدقَتْ رؤياكِ ليموتنَّ زوجُك، وتلدينَ غلامًا فاجرًا، فقعدتْ تبكي، فجاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «مهْ يا عائشةُ، إذا عَبَّرتمْ للمسلم الرؤيا فاعبُروها على خيرٍ، فإنَّ الرؤيا تكونُ على ما يُعبِرُها صاحبُها» (¬2). ومن هنا يُقالُ لأهلِ التعبيرِ وغيرِهم: على رِسْلِكم في التعبير، لا سيَّما وقدْ غلبَ على بعضِ أهلِ هذا العصرِ الانهماكُ في الرؤى والمناماتِ، فصار سؤالُهم عنْ أحلامِهم آكدَ وأهمَّ من السؤال عن أمور دينهم، كما تزايد عددُ المعبِّرين وصاروا يتصدَّرون المساجدَ والمجالسَ والقنواتِ الفضائيةِ والمجلاتِ، وغالى بعضُ هؤلاءِ المعبِّرينَ فجزمَ بأمورٍ دقيقةٍ وقطعَ بأمورٍ غيبيةٍ مستقبلية، لمجردِ رؤيا أو عددٍ من الرؤى، وكان كما لو كانَ له رَئيٌّ من الجِنِّ، نسأل اللهَ العفوَ والسلامةَ (¬3). ¬

(¬1) الفتح 12/ 432. (¬2) الفتح 12/ 432. (¬3) د. عبد العزيز العبد اللطيف، على رسلكم يا أهل المنامات، مجلة البيان رجب 1423 هـ.

5 - من يُعبِّرُ الرؤى؟ حينَ يقالُ: لا ينبغي أن يتصدرَ كلُّ أحدٍ لتعبيرِ الرؤى، يُقالُ كذلك- لأصحاب المناماتِ-: ألاَّ يقصُّوا رؤياهم على كلِّ أحدٍ إلا على وادٍّ ناصح، أو ذي رأي؛ وفي روايةٍ: «لا يقصُّ الرؤيا إلا على عالمٍ أو ناصح». قال ابنُ العربي: أما العالمُ فإنه يئولها على الخيرِ مهما أمكنَه، وأما الناصحُ فإنهُ يرشدُ إلى ما ينفعُه ويعينُه عليه، وأما اللبيبُ- وهو العارفُ بتأويلها- فإنهُ يعلمُه بما يعوَّلُ عليه في ذلكَ أو يسكتُ، وأما الحبيبُ فإنْ عرفَ خيرًا قاله، وإنْ جهلَ أو شكَّ سكتَ (¬1). ويرحمُ اللهُ الإمامَ مالكَ بنَ أنس، فقد سُئل: أيعبرُ الرؤيا كلُّ أحد؟ فقال: أبالنبوةِ يُلعبُ، ثم قال: الرؤيا جزءٌ من النبوةِ، فلا يُلعبُ بالنبوة (¬2). وإذا كانَ الإمامُ ابنُ سيرين- رحمهُ الله- وهو المشهورُ بتعبير الرؤى يُسأل عن مائةِ رؤيا فلا يُجيبُ فيها بشيءٍ إلا أنْ يقولَ: اتقِ اللهَ وأحسِنْ في اليقظة، فإنهُ لا يضرُّك ما رأيتَ في المنام، وكان يقول: إنما أُجيبُه بالظنِّ والظنُّ يُخطئُ ويصيبُ (¬3). إذا كان هذا منهج ابن سيرين فكيف بمن دونه من المُعبرين؟ وكمْ هي لفتةٌ ودعوةٌ قد تغيبُ عن بعضِ المعبرين، وذلكَ بتذكيرِ صاحبِ الرؤيا بالتقوى وعمل الصالحاتِ في حال اليقظةِ، والتحذير من المخالفاتِ الشرعية، فهذه وتلك تدفعُ- بإذنِ الله- السوءَ والمكروه، وصنائعُ المعروفِ تقي مصارعَ السوءِ، كما في الخبر الصحيح. ¬

(¬1) الفتح 12/ 369. (¬2) الفتح 12/ 363. (¬3) الآداب الشرعية لابن مفلح 4/ 101.

6 - حتى لا تضرَّ الرؤيا: قد يرى المسلمُ في رؤياهُ ما يزعجُه، وقدْ يتخوّفُ من تأويلِ الرؤى، وهنا أرشدَ المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى عدةِ أمورٍ تدفعُ بإذنِ اللهِ ضررَ هذهِ الرؤيا، ففي «صحيح البخاريِّ» أنَّ أبا سلمة قال: لقدْ كنتُ أرى الرؤيا فتمرِضُني، حتى سمعتُ أبا قتادةَ يقول: وأنا كنتُ أرى الرؤيا تُمرِضُني، حتى سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «الرؤيا الحسنةُ من الله، فإذا رأى أحدُكمْ ما يُحبُّ فلا يُحدِّثْ بهِ إلا منْ يُحبُّ، وإذا رأى ما يكرهُ فليتعوذْ باللهِ من شرِّها ومن شرِّ الشيطانِ، ولْيَتْفِلْ ثلاثًا ولا يُحدِّثْ بها أحدًا، فإنها لن تضرَّه» (¬1). وفي «صحيح مسلم»: «وليتحولْ عنْ جَنْبهِ الذي كانَ عليه .. » (¬2)، وفي أخرى عند مسلم- أيضًا-: «فإذا رأى أحدُكم ما يكرهُ فليَقُمْ فليُصَلِّ» (¬3). قال ابنُ القيم رحمهُ اللهُ: فأمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم- منْ رأى في منامِهِ ما يكرهُه- بخمسةِ أشياء: أن يَنْفِثَ عنْ يساره، وأنْ يستعيذ باللهِ من الشيطان، وأنْ لا يخبرَ بها أحدًا، وأنْ يتحوَّلَ عن جَنْبِهِ الذي كانَ عليه، وأنْ يقومَ يصلي، ومتى فعلَ ذلكَ لم تضرّهُ الرؤيا المكروهةُ، بل هذا يدفعُ شرَّها (¬4). أعوذُ باللهِ منَ الشيطان الرجيم: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُئوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ ¬

(¬1) ح 7044. (¬2) م 2262. (¬3) م 2263. (¬4) زاد المعاد 2/ 458.

تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} (¬1) نفعني اللهُ وإياكمْ بهديِ القرآن، وسنةِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفر اللهَ لي ولكمْ ولسائرِ المسلمين منْ كلِّ ذنبٍ فاستغفروه وتوبوا إليه. ¬

(¬1) سورة الفتح، الآية: 27.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ للهِ جلَّ ثناؤُه وتقدستْ أسماؤه، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى إخوانه وآله وأصحابه. أيها الناسُ: 7 - وفي أنواع الرؤيا .. يخلطُ كثيرٌ من الناسِ بينَ أنواعٍ من الرؤيا، وربما ظنَّ البعضُ أنَّ كلَّ ما رآه في المنامِ رؤيا حقٍّ تستحقُّ التعبيرَ .. وليسَ الأمرُ كذلك، بل الرؤيا ثلاث: «حديثُ النفسِ، وتخويفُ الشيطان، وبُشْرى من الله .. » هكذا روى البخاري عن ابن سيرين (¬1). وفي «صحيح مسلم» عنْ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اقتربَ الزمانُ لمْ تكدْ رؤيا المسلمِ تكذبُ، وأصدقُكم رؤيا أصدَقُكم حديثًا، ورؤيا المسلمِ جزءٌ مِنْ خمسةِ وأربعين جزءًا من النبوةِ، والرؤيا ثلاثة: فالرُّؤْيا الصالحةُ بُشرى من الله، ورؤيا تحزينٌ من الشيطان، ورؤيا مما يُحدِّثُ المرءُ نفسَه، فإنْ رأى أحدُكم ما يكرَه فليقمْ فليصلِّ، ولا يُحدِّثْ بها الناسَ .. » (¬2). ولهذا لا ينبغي للمرءِ أن يُخبرَ عنْ كلِّ رؤيا رآها، وإلى هذا أرشدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأعرابيَّ الذي جاءَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم يقولُ له: رأيتُ في المنامِ كأنَّ رأسي قطِعَ، فأنا أتبعُهُ، فضحِك النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال: «إذا لعبَ الشيطانُ بأحدِكم في منامِهِ فلا يُحدِّثْ به الناسَ» (¬3). ¬

(¬1) ح 7017، الفتح 12/ 407. (¬2) م 2263، 4/ 1773. (¬3) مسلم ح 2268، 4/ 1776، 1777.

8 - نماذجُ للرؤيا الصالحةِ وعلاماتُ الرؤيا الفاسدةِ: من الرؤيا ما هو صالحٌ ومبشِّر، فمنْ رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنامِ فكأنَّما رآهُ في اليقظة؛ بل جاءَ في «صحيح مسلم» منْ حديثِ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «منْ رآني في المنامِ فسيراني في اليقظة، أو لكأنما رآني في اليقظة، لا يتمثلُ الشيطانُ بي» (¬1). والقيدُ في المنام ثباتٌ في الدِّين (¬2). واللبنُ في الرؤيا: العلمُ (¬3). وجرُّ القميصِ: الدِّين (¬4). والعينُ الجارية: عملٌ يجري لمنْ رُئيت له (¬5). هذه وأمثالُها وردتْ في صحيحِ السنة، لكنَّ المعبِّرَ لها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ويكلِّ حالٍ فالرؤيا- كما رويَ عن الإمامِ أحمد- تسرُّ ولا تَغُرُّ، وعلى منْ رأى أو رُؤيَ له ما يُسرُّ أنْ يستبشرَ ولا يغترَّ. أما الرؤيا الفاسدةُ فسبقتِ الإشارةُ إلى نهيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عنْ حديثِ الإنسانِ عن تلاعبِ الشيطانِ به في المنام. وقد ذكرَ العلماءُ- كابن الصَّلاحِ- أماراتٍ للرؤيا الفاسدة، كأنْ يرى مستحيلًا، أو يرى في المنامِ ما رآه في اليقظة، أو يرى ما قدْ حدثتْهُ به نفسُه في ¬

(¬1) مسلم ح 2266، 4/ 1775. (¬2) البخاري 7017. (¬3) البخاري 7006. (¬4) البخاري ح 7008، 7009. (¬5) ح 7018.

اليقظة .. ونحوها من علامات (¬1). 9 - نعمْ الرؤيا تَسرُّ ولا تغرُّ، ولا يُترتَّبُ عليها أحكامٌ شرعية، ويمكنُ أنْ يستفادَ من الرؤيا لزيادةِ عملِ الصالحات، وفي رؤيا ابن عمرَ رضيَ اللهُ عنهما عبرةٌ لمَنِ اعتبرَ، فقدْ أخرجَ البخاريُ في «صحيحه» أنَّ ابن عمرَ رضي الله عنهما قال: إنَّ رجالًا من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانوا يرونَ الرؤيا على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيقصُّونَها على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيقولُ فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما شاءَ الله، وأنا غلامٌ حديثُ السنِّ، وبيتي المسجدُ قبلَ أنْ أنكِح، فقلتُ في نفسي: لو كانَ فيكَ خيرٌ لرأيتَ مثلَ ما يرى هؤلاء، فلما اضطجعتُ ليلةً قلتُ: اللهمَّ إنْ كنتَ تعلمُ فيَّ خيرًا فأرِني رؤيا، فبينما أنا كذلكَ إذْ جاءني مَلكانِ في يدِ كلِّ واحدٍ منهما مقمعةٌ من حديد، يُقبلان بي إلى جهَّنمَ وأنا بينهما أدعو الله: اللهمَّ أعوذُ بكَ منْ جهنَّمَ، ثمَّ أُراني لقيني ملكٌ في يده مقمعةٌ من حديدٍ فقال: لنْ تُراعَ، نِعْمَ الرجلُ أنتَ لو تكثرُ الصلاةَ .. إلى قوله: فقصصتُها على حفصةَ، فقصَّتْها حفصةُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ عبدَ اللهِ رجلٌ صالحٌ» وفي الروايةِ الأخرى قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ عبدَ الله رجلٌ صالحٌ لو كانَ يكثرُ الصلاةَ من الليل» (¬2) فقالَ نافع: لم يزلْ بعدَ ذلكَ يكثرُ الصلاةَ (يعني ابنَ عمرَ) (¬3). قال ابنُ حجر: قالَ أهلُ التعبير: منْ رأى أنه خائفٌ من شيءٍ أمِنَ فيه، ومن رأى أنه أمِنَ من شيءٍ فإنه يخافُه (¬4). ¬

(¬1) فتاوى ابن الصلاح في مجموعة الرسائل المنيريّة 4/ 7 عن د. عبد العزيز العبد اللطيف/ مجلة البيان. (¬2) ح 7031. (¬3) ح 7028. (¬4) الفتح 12/ 418.

وبكلِّ حال، فابن عمرَ بشهادةِ المَلَكِ رجلٌ صالح، وكذلك عبَّرَها الرسولُ صلى الله عليه وسلم وشهدَ له بالصلاح، وقدْ استفادَ الغلامُ من التذكيرِ بقيمةِ الصلاةِ، ولا سيما صلاةُ الليلِ (¬1). فكانَ بعدَ ذلكَ يكثرُ منها، قالَ الزُّهْريُّ: وكانَ عبدُ الله بعدَ ذلكَ يُكثرُ الصلاة من الليل (¬2). لكنْ ومعَ ذلكَ فالرؤيا لا يُرتَّبُ عليها أحكامٌ شرعيةٌ ما لمْ تكنْ من الأنبياء، إلا أن تُعرضَ على ما في أيدينا من الأحكامِ الشرعية، فإنْ سوَّغَتْها عُمِلَ بمقتضاها، وإلا وجبَ تركُها والإعراضُ عنها (¬3). 10 - منْ كَذَبَ في حُلْمه .. أيها المسلمون: وإذا كانَ الكذبُ مذمومًا في حالِ اليقظةِ، فهوَ كذلكَ- أو أشدُّ- في حالِ المنام، وفي «البخاري» من حديثِ ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تَحَلَّمَ- أي تكلَّفَ الحُلْمَ- بِحُلْمٍ لم يرهُ كُلِّفَ أن يعقدَ بين شَعِيرتيْن، ولنْ يفعلَ .. » (¬4). وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أفرى الفِرَى أن يُري الرجل عينيه ما لم ترى» (¬5). قال الإمامُ الطبريُّ: إنما اشتدَ الوعيدُ (في الكذبِ في الحُلْم) مع أنَّ الكذبَ في اليقظةِ قد يكونُ أشدَّ مفسدةً منه؛ إذ قدْ تكونُ شهادةً في قتلٍ أو حدٍّ أو أخذِ مال قال: لأنَّ الكذبَ في المنامِ كذبٌ على الله، لحديث: «الرؤيا جزءٌ من ¬

(¬1) الفتح 12/ 419. (¬2) البخاري ح 7031. (¬3) الاعتصام للشاطبي 1/ 260، الآداب الشرعية لابن مفلح 4/ 95. (¬4) البخاري ح 7042. (¬5) البخاري ح 7043.

النبوة» وما كانَ من أجزاءِ النبوةِ فهو من قِبَل اللهِ تعالى (¬1). ألا فاجتنبوا- عبادَ الله- الكذبَ في كلِّ حالٍ، واجتنبوه في المنامِ، فقدِ اعتبره العلماءُ من أعظمِ الأكاذيب (¬2). هذه- معاشر المسلمين- عشرُ وقَفاتٍ في الرؤيا والمناماتِ والمعبرين، فاعقلِوها لعلكمْ تفلحون، وإياكمْ والإسرافَ في عالمِ الأحلامِ أو الاستسلامِ للمنامات هروبًا من واقع، أو تنصُّلًا من واجباتٍ وتَبعات، بل المتعيَّنُ: الاشتغالُ بالنافعِ والواقع من تحصيلِ علمٍ نافع، والاجتهادُ في العملِ الصالح، والمساهمةُ في الدعوةِ لدين اللهِ والجهادُ في سبيله، فذلكَ توجيه خالقنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3). ¬

(¬1) الفتح 12/ 428. (¬2) ابن حجر، الفتح 12/ 430. (¬3) سورة المائدة، الآية: 35.

الحيل

الحِيلَ (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، اللهم صلِّ وسلمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عنْ الصحابةِ أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. عبادَ الله: الحِيلُ والتحيُّلُ مما عَمَّتْ بهِ البَلْوى في هذا الزمنِ، والمسلمُ الحقُّ هو الذي يخافُ اللهَ ويراقبُه في كلِّ ما يعملُ أو يذَر، وحينَ يغيبُ الخوفُ من عقابِ اللهِ أو منْ عقوبةِ الدنيا، ويُفتنُ الناسُ بالدنيا فلا يُبالي المرءُ بما جمعَ أمِنْ حلالٍ أو منْ حرام، وحينَ تضيعُ الحقوقُ وتُنسى الواجباتُ وتهدرُ كراماتُ بني آدم، هنا يروجُ سوقُ الحِيَل وترتفعُ أسهمُ المحتالين، بل ربما انتكستِ الفِطرُ، فينظرُ إلى منْ يتورعُ عن الحيلِ بأنه إنسانٌ بسيطٌ أو مسكينٌ لا يجيدُ التعاملَ مع الناسِ، ولا يستفيدُ منَ الفُرَصِ .. أو نحوِ ذلكَ منْ عباراتٍ تُطلَقُ جُزافًا وتروّجُ للمنكر، وتوسعُ دائرةَ الحيلِ والمحتالين. ومن هنا فلا بدَّ من التنبيه على مثلِ هذه الحيلِ وأنواعِها، وموقفِ الشرعِ منها، فما معنى الحيل؟ وما ضابطُها، وما أنواعُها؟ ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 27/ 7/ 1423 هـ.

ومن أقصرِ التعاريفِ للحِيَل: أنها جمعُ حيلة، وهي ما يتوصلُ به إلى مقصودٍ بطريقٍ خَفِيٍّ (¬1). وضابطُها: إنْ كانت للفرارِ من الحرامِ والتباعدِ من الإثم فحسن، وإنْ كانت لإبطالِ حقِ مسلمٍ فلا، بلْ هي إثمٌ وعدوان (¬2). وأقسامُها- عند العلماء- بحسبِ الحاملِ عليها: 1 - فإنْ تُوصِّلَ بها- بطريقٍ مباحٍ- إلى إبطالِ حقٍّ أو إثباتِ باطلٍ فهي حرام، أو إلى إثبات حقٍّ أو دفعِ باطلٍ فهي واجبةٌ أو مستحبة. 2 - وإنْ تُوصِّلَ بها- بطريقٍ مباح- إلى سلامةٍ من وقوعٍ في مكروه فهي مستحبةٌ أو مباحة، أو إلى تركِ مندوبٍ فهي مكروهة (¬3). أيها المسلمون: وتقعُ الحيلُ في البيعِ والشراءِ والنكاحِ والطلاقِ والزكاةِ والصدقة، والتعاملِ بين الرجلِ والمرأة، والهبةِ والشُّفعة، وهدايا العمال .. ونحو ذلك من أنواع الحِيَل. ولكنْ دعونا نقفْ على ثلاثةِ أنواعٍ من الحيل تتعلقُ بالبيعِ والشراءِ والنكاح، واحتيالِ العمَّالِ في أعمالهم .. أما الحِيلُ في البيعِ والشراءِ فكثير، منْ إخفاءِ العيب، والكذبِ في الحديث، والنَّجَشِ، واستقبالِ الرُّكْبان، والتحايلِ على الرِّبا وتسميتهِ بغيرِ اسمهِ وهكذا .. وفي الحيلِ في البيوع بوّبَ البخاريُّ في «صحيحه» (بابُ ما يُكره منَ الاحتيالِ في البيوع، ولا يُمنعُ فضلُ الماءِ ليمنعَ به فضلَ الكلأ). ¬

(¬1) ابن حجر، الفتح 12/ 326. (¬2) الفتح 12/ 326. (¬3) السابق 326.

ثمَّ ساقَ الحديثَ عنْ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُمنعُ فَضْلُ الماءِ ليَمْنعَ بِه فَضْلَ الكلأ» (¬1). وعنْ معنى هذه الحيلةِ قالَ العلماء: المرادُ بالحديث: رجلٌ كانَ له بئرٌ وحولَه كلأٌ مباحٌ، فأراد الاختصاصَ به، فيمنعُ فضلَ ماءِ بئرِه أن تَرِدَه نَعَمُ غيرهِ للشُّرب، وهو لا حاجةَ به إلى الماءِ الذي يمنعُه، وإنما حاجتُه إلى الكلأ، وهو لا يقدرُ على منعهِ لكونهِ غيرَ مملوكٍ له، فيمنعُ الماءَ فيتوفرُ له الكلأ، لأن النَّعمَ لا تستغني عن الماء، بلْ إذا رعتِ الكلأَ عطشتْ، ويكونُ ماءُ غيرِ البئرِ بعيدًا عنها فيرغبُ صاحبُها عن ذلك الكلأ فيتوفرُ لصاحبِ البئرِ بهذه الحيلة (¬2). وتمامُ هذا التحيلِ في البيع- أن صاحبَ هذه البئرِ حينَ يمنعُ الرعاةَ منْ فضلِ ماءِ ليحتاجَ من احتاجَ إلى الكلأ أنْ يشتريَ منه ماءَ بئروهِ ليسقيَ ماشيته (¬3). وفي بابٍ آخرَ- عند البخاري- قال: بابُ ما يُنهي من الخِداعِ في البيوع، وقالَ أيوب: يخادعونَ اللهَ كأنما يُخادعونَ آدميًا، ولو أَتَوْا الأمرَ عِيانًا كانَ أهونَ عليّ. ثمَّ ساقَ الحديثَ عنْ ابن عمرَ رضيَ اللهُ عنهما أنَّ رجلًا ذكرَ للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يُخدعُ في البيوعِ، فقال: «إذا باعيتَ فقلْ: لا خِلَابةَ» (¬4). ومعنى قولِه صلى الله عليه وسلم: «لا خِلَابةَ» أي: لا تخدعوني، فإنَّ ذلك لا يحلُّ، أي إنْ ظهرَ في العقدِ خِداعٌ فهو غيرُ صحيح (¬5). ¬

(¬1) ح 6962. (¬2) الفتح 12/ 335. (¬3) الفتح 12/ 335. (¬4) ح 6964. (¬5) الفتح 12/ 336.

هذه -معاشرَ المسلمين- نماذجُ للحيلِ والخداعِ في البيوعِ حذَّرَ منها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ووضعَ الاحتياطَ لها .. فهلْ يتقي اللهَ الباعةُ والمشترون فيما يبتاعون ويشترون، فيصدُقون مع اللهِ ومع خلقِه ليباركَ اللهُ لهمْ في بيعِهم وشرائِهم، فالرسولُ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «فإنْ صدَقا وبيَّنا وبورِك لُهما في بَيْعِهما، وإن كذَبا وكتَما مُحِقَتْ بركةُ بَيْعهما». إنَّ الخداعَ في البيعِ والشراءِ ليس من النَّجابة والذَّكاءِ .. لكنه ضعفٌ في الدِّيانة، ولؤمٌ في المعاملة، وخِداعٌ للهِ ولخَلْقِه، فهل ينتهي المخادعونَ وأصحابُ الحيلِ المحرَّمةِ؟ أيها المسلمون: ومنْ حِيَل البيعِ والشراءِ، إلى حِيَل النكاحِ، كأنْ يُغرَّرَ بالمرأةِ عن الرجل بخلافِ واقعِه، أو يغرَّرَ بالرجلِ عن المرأةِ بخلافِ حالِها .. أو نحوِ ذلك. وفي «البخاري»: (بابُ الحيلةِ في النكاحِ)، ثمَّ ساقَ به النهيَ عن الشِّغَارِ، فعنْ عبدِ الله بنِ عُمرَ رضيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عنْ الشغار. قلتُ لنافع: ما الشِّغارُ؟ قال: يَنكِحُ ابنةَ الرَّجُلِ، ويُنكِحُهُ ابْنَتَه بغيرِ صَدَاقٍ، وَينكِحُ أختَ الرجلِ، ويُنكِحَهُ أختَه بغيرِ صَدَاقٍ .. » (¬1). ومما ذكرهُ العلماءُ منْ عللِ النهيِ لهذا النوعِ منَ النكاحِ (الشِّغار): أنهُ جعلَ بَضْعَ كلِّ واحدةٍ مهرًا للأخرى، وهي لا تنتفعُ به، فلمْ يرجعْ إليها المهرُ، بل عادَ المهرُ إلى الوليِّ، وهو مِلْكُه لبَضْعِ زوجتِه بتمليكِه لبَضْعِ موليتهِ، وهذا ظلمٌ للمرأتينِ، حيثُ لم تنتفِعا بمهرِهما (¬2). ¬

(¬1) ح 6960. (¬2) فقه السنة. سيد سابق 2/ 55.

ومنَ الحِيلِ المحرَّمةِ في النكاح: زواجُ التَّحليل، وهوَ أنْ يتزوجَ الرجلُ المطلقةَ ثلاثًا بعدَ انقضاءِ عِدَّتِها، أو يدخلَ بها، ثم يطلقَها ليُحِلَّها للزوجِ الأول .. وهذا النوعُ من الزواجِ كبيرةٌ من كبائرِ الإثمِ والفواحش، حرَّمه اللهُ ولَعَنَ فاعلَه (¬1). قال صلى الله عليه وسلم: «لعنَ اللهُ المُحَلِّلَ والمحلَّلَ له» (¬2). وفي حديثٍ آخرَ سمى النبيُّ صلى الله عليه وسلم صاحبَ هذهِ الحيلةِ بالتيسِ المُستعار. قال ابنُ القيمِ رحمهُ الله: ولا فرقَ بينَ اشتراطِ ذلك بالقولِ أو بالتواطئ والقصد، فالأعمالُ بالنيات (¬3). إخوةَ الإسلام: ومنْ حيلِ البيعِ والشراءِ وحيلِ النكاحِ إلى حيلِ العمالِ وأخذِ الهدايا- وإنْ شئتَ فقل: (الرِّشاوى) والخَطْبُ فيها أعظمُ! ثمَّ ساقَ الحديثَ عنْ أبي حُميدٍ الساعديِّ رضيَ اللهُ عنه قال: استعملَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجلًا على صدقاتِ بني سُليم يُدعى ابنَ اللُّتْبيَّةِ، فلما جاءَ، حاسبَه، قال: هذا مالكُم وهذا هدية، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فهلا جلستَ في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتُك إن كنتَ صادقًا»، ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللَّهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أَفَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ! وَاللَّهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ¬

(¬1) فقه السنة 2/ 46. (¬2) رواه أحمد بسندٍ حسن. (¬3) انظر: فقه السنة 2/ 47.

فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ» ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ وقال «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ » (¬1) عبادَ الله: كمْ بُليَ نفرٌ منَ المسلمينَ بهذهِ الهدايا والرِّشاوى؟ وكمْ ضاعتْ حقوقُ من لا يستطيعونَ أو يتورَّعونَ عنْ دفعِ هذهِ الهدايا والرِّشاوى .. إنَّ علينا أن نتقيَ اللهَ في مطعمِنا كما نَتَّقيهِ في منكحِنا وفي بيعِنا وشراءنا، أعوذُ بالله من الشيطانِ الرَّجيمِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬2). ¬

(¬1) ح 6979. (¬2) سورة التوبة، الآية: 119.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ لله، أحلَّ الحلال وبيَّنهُ، وحرّمَ الحرامَ ونهى عنه، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلمْ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين. وبعدُ: إخوةَ الإيمانِ، فقدْ كشفَ العلماءُ عنْ أنواعٍ كثيرةٍ منَ الحِيَل، وفي «إعلامِ الموقِّعين» لابنِ القيمِ رحمهُ الله من ذلكَ شيءٌ كثير، وبه ناقشَ حُججَ المجيزين للحيلِ إجمالًا وتفصيلًا .. وخوّفَ المحتالينَ باللهِ وحذَّرهمْ منْ مغبَّةِ الوقوفِ بين يديه فقال: فحقيقٌ بمنِ اتقى اللهَ وخافَ نكالهَ أنْ يحذرَ استحلالَ محارمِ اللهِ بأنواعِ المكرِ والاحتيال، وأنْ يعلمَ أنَّ للهِ يومًا تكِعُّ فيه الرجالُ وتُنسفُ فيهِ الجبالُ، وتترادفُ فيهِ الأهوالُ، وتشهدُ فيهِ الجوارحُ والأوصالُ، وتُبلى فيه السرائرُ وتظهرُ فيهِ الضمائرُ، ويصيرُ الباطلُ فيه ظاهرًا والسرُّ علانيةً والمستورُ مكشوفًا، والمجهولُ معروفًا ويُحصَّلُ ويبدو ما في الصدورِ كما يُبعْثَرُ، ويخرجُ مَنْ في القبورِ وتُجرى أحكامُ الربِّ تعالى هنالكَ على القَصْدِ والنباتِ كما جرتْ أحكامُه في هذهِ الدارِ على ظواهرِ الأقوالِ والحركات، يومَ تبيَضُّ وجوهٌ بما في قلوبِ أصحابِها منَ النصيحةِ للهِ ورسولهِ وكتابهِ وما فيها منَ البرِّ والصدقِ والإخلاصِ للكبير المُتعالِ، وتسودُّ وجوهٌ بما في قلوبِ أصحابِها من الخديعةِ والغشِّ والكذبِ والمكرِ والاحتيالِ، هنالك يعلمُ المخادعونَ أنهمْ لأنفسهمْ كانوا يخدعون، وبدينهم كانوا يلعبونَ وما يمكرونَ إلا بأنفسهمْ وما يشعرون (¬1). ¬

(¬1) إعلام الموقعين 3/ 163، 164.

عبادَ الله: والحِيلُ كانتْ في الأممِ السابقة، وكانَ لليهودِ فيها قدحٌ مُعلى، حتى كشفَ القرآنُ خداعهم في أكثرِ منْ موضعٍ في كتابه .. وفضحَ تلاعبَهم في أحكامِ الدينِ في أكثرِ من موقف، ومنْ ذلكَ قولُه تعالى: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (¬1). أجلْ، لقد نهى اللهُ اليهودَ أن يصيدوا الحيتانَ يومَ السبتِ تعظيمًا لهذا اليومِ وامتحانًا لهم، فابتلاهم الله بكثرة الحيتان يومَ السبتِ، فتحيَّلوا على الصيد، فكانوا يحفرونَ لها حُفرًا ويتصيدونَ لها الشباك، فإذا جاءَ يومُ السبتِ ووقعتْ في تلكَ الحفرِ والشباكِ لمْ يأخذوها في ذلكَ اليوم، فإذا جاءَ يومُ الأحدِ أخذوها .. (¬2). فكانتْ تلكَ واحدةً منْ حيلِ اليهود، وأخرى قالَ عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لعنَ اللهُ اليهودَ، حُرِّمتْ عليهمْ الشحومُ، فَجَمَلُوها (أذابوها)، فباعُوها» متفقٌ عليه (¬3). ومنْ هنا لعنَ السلفُ منْ شاَبهَ اليهودَ في تَحَايُلِهِم على ترويجِ الحرام، وفي «البخاري» و «مسلم» عنْ ابن عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما قال: بلغَ عمرَ بنَ الخطابِ رضيَ اللُه عنهُ أنَّ فلانًا باعَ خمرًا فقال: قاتلَ اللهُ فلانًا، ألمْ يعلمْ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «لعنَ اللهُ اليهودَ، حُرِّمتْ عليهمْ الشحومُ، فَجَمَلُوها .. (الحديث). وجاءَ نهيُ هذهِ الأمةِ لمشابهةِ اليهودِ في أيِّ حيلةٍ وقال صلى الله عليه وسلم: «لا ترتكبوا ما ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 163. (¬2) تفسير السعدي 3/ 106، 107. (¬3) جامع الأصول 1/ 450.

ارتكبتِ اليهودُ فتَسْتَحِلُّوا محارمَ اللهِ بأدنى الحِيَلِ .. ». عبادَ الله: إنَّ اللهَ إذا حَرَّمَ على قومٍ أكلَ شيءٍ حرمَ عليهمْ ثمنَه- هكذا أخبرَ المصطفى صلى الله عليه وسلم (¬1). أيها المسلمون: اتقوا اللهَ واجتنبوا الحرامَ وإياكمْ والمُشتَبَهات، فمنْ وقعَ في الشُّهباتِ وقعَ في الحرام، واحذروا المترخِّصين في الفتوى (بغير علم) والمُتَحايلينَ على النصوصِ بالحيلِ الباطلة. وللأئمة- رحمهمُ اللهُ- كأحمدَ وغيرهِ كلامٌ في المفتينَ بالحيلِ حتى قالوا: إنَّ منْ أفتى بهذهِ الحيلِ فقدْ قلبَ الإسلام ظهرًا لبطن، ونقضَ عُرَى الإسلامِ عُروةً عُروةً. هكذا نقلَ ابنُ القيمِ عنهمْ في «إعلام الموقعين» (¬2). أيها المؤمنون: ومنْ حيلِ الأفرادِ إلى حيلِ الدول، حيث تُرسمُ السياساتُ وتُبني الخططُ على المكرِ والخديعةِ والحيل، ويظهر للناس شيءٌ وفي الباطنِ أشياء، ومنْ أعظمِ المصائبِ أن توضعَ المصائدُ لأمةِ الإسلام بحيلِ اليهودِ والنصارى، وتكونُ بلادُ المسلمين أرضًا وسكانًا .. ومواردَ وقيمًا .. مجالًا تُمارَسُ فيه أنواعُ المكرِ والخديعةِ والحيل، وأعظمُ منْ ذلكَ أنْ يروَّجَ هذا المكرُ على نفرٍ من المسلمين أو غيرِ المسلمين، فلا يقفُ تأثيرُ الأزمةِ المعاصرةِ على تغييرِ الخرائطِ الجغرافيةِ والسياسية، بل تتغيرُ خرائطُ العقولِ والأفكار- إلا منْ رحمَ اللهُ- وهنا يحتاجُ الناسُ كافةً والمسلمونَ خاصةً، إلى تثبيتٍ على الدينِ الحقِّ .. ذلك الدينُ الحقُّ الذي ارتضاهُ اللهُ لها وختمَ به شرائعَ السماء، وهو وحدَه المنقذُ للعالمِ من التخبُّطِ والضياع، وهوَ وحدَه الدينُ الذي ¬

(¬1) رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح. جامع الأصول 1/ 451. (¬2) جامع الأصول 1/ 450.

يمكنُ أنْ يعيشَ الناسُ- كلُّ الناسِ- في ظلِّ آمنينَ بلا خوف، وفي عدلٍ بلا ظلمٍ، وكما ينقشعُ به الظلمُ تزولُ يه الظلماتُ، وصدقَ الله: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (¬1). أيها المسلمون: وأختمُ الحديثَ هنا عن الحيلِ بطرحِ عددٍ منَ الأسئلةِ، وأرجو أنْ يسألَ كلُّ محتالٍ نفسَه عنها: وهل الحيلُ كرمٌ ومروءةٌ، أم جشعٌ وخبثٌ في الطويَّة؟ - هلْ ترغبُ أيها المسلمُ أنْ يكونَ فيكَ شَبَهٌ من اليهود؟ - وهل ترضى أيها المحتالُ على الآخرينَ أنْ يحتالَ الناسُ عليك؟ - وهلْ تعتقدُ أنَّ الحيلَ ستدفعُ لكَ رزقًا لمْ يكتبْه اللهُ لك، أو توصلُك إلى منزلةٍ لمْ يقدِّرْها اللهُ لك؟ - هلْ تعتقدُ أنَّ الدنيا نهايةُ المطافِ؟ وما ظنُّكَ إذا وقفتَ بينَ يدي اللهِ وقدْ خَدعتَ هذا واحتلتَ على ذاك؟ اللهمَّ اشرحْ صدورَنا للإسلام، ونوِّرْ قلوبَنا بالقرآن، واكفِنا شرَّ الأشرارِ وكيدَ الفُجّارِ. اللهمَّ اهدِنا لما اختُلفَ فيهِ منَ الحقِّ بإذنك. اللهمَّ اكفِنا بحلالِك عنْ حرامِك، وأغنِنا اللهمَّ بفضلِك عمَّنْ سواك. ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 22.

الجنة حين تزين في رمضان

الجَنَّةُ حينَ تُزيَّنُ في رمضان (¬1) الخطبةُ الأولى: الحمدُ للهِ أورثَ عبادَه المؤمنين الجنةَ بما كانوا يعملون، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله، ندبَ عبادَه إلى المسارعةِ للخيراتِ، وادَّخرَ لهمُ الثوابَ ليومِ المَعَادِ، {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (¬2)، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه كان أعلمَ الناسِ باللهِ وأخوفَهم له، وأكثرَهم له عبادةً حتى أتاه اليقينُ .. صلى اللهُ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، ورضيَ اللهُ عن صحابتهِ أجمعينَ والتابعينَ ومنْ تبعهمْ بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلِّم تسليمًا كثيرًا. يتواصى المسلمونَ بالتقوى في كلِّ حين .. فكيفَ بالتقوى في شهرِ التقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬3). إخوةَ الإسلام: أهنِّؤكمْ ونفسي والمسلمينَ بحلولِ شهرِ رمضانَ، وأسألُهُ تعالى أن يجعلَه طريقًا موصِلًا إلى الجِنَانِ في الآخرةِ وسبيلًا لعزِّ المسلمينَ وتمكينهِم في الدنيا، وحُقّ لكلِّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ إذا ذكرتِ الجنةُ أن ترجفَ منهمُ الأفئدةُ، وترْتعدَ الفرائصُ وتسيلَ دموعُ العينِ رغبًا لها، وإذا ذُكرَ نعيمُها وبهجتُها وسرورُها كادوا أن يطيروا شوقًا إليها. ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 3/ 9/ 1423 هـ. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 47. (¬3) سورة البقرة، الآية: 183.

يا أخا الإيمان: وشهرُ رمضانَ شهرُ القرآن، وشهرُ الصيام، وشهرٌ تتقوى فيه النفوسُ على فعلِ الخيراتِ والإحسان، شهرٌ يسارعُ المؤمنون فيهِ إلى مغفرةٍ منْ ربِّهمْ وجنةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ، البشارةُ للمؤمنين بالجنةِ حقٌ، وأنواعُ النعيم لا تُحدُّ ولا توصفُ {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬1). إخوة الإيمان: وإذا كانَ حديثُ الجنةِ يطيبُ في كلِّ حينٍ فهوَ في شهرِ الصيامِ يطيبُ أكثرَ وأكثرَ، لماذا؟ وهنا وقفاتٌ عن الجنةِ وتذكيرٌ بالطرقِ إليها: 1 - لأن في شهرِ رمضانَ يُزينُ اللهُ جنتَه كلَّ يوم، ويقولُ: يوشكُ عباديَ الصالحونَ أنْ يلقوا عنهمُ المئونةَ والأذى ثمَّ يصيروا إليك، فيا باغيَ الخيرِ أَقْبلْ. وأهلُ السنةِ والجماعةِ يؤمنونَ بأنَّ الجنةَ حقٌّ والنارَ حقٌّ، ويعتقدونَ أنَّ الجنةَ والنارَ مخلوقتان وموجودتان الآن، ولمْ يشذَّ عنْ ذلكَ إلا بعض المُبْتَدِعةِ. 2 - ويؤمنونَ كذلكَ أنَّ منْ ماتَ قامتْ قيامتُه، ثم عُرضَ عليه مقعدُه من الجنةِ أو النار، وفي «الصحيحين» منْ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضيَ الله عنهما أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيُقَالُ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬2). وفي «المسند» وغيرِه منْ حديثِ البراءِ بنِ عازبٍ رضيَ اللهُ عنهُ قال: خَرَجْنَا مَعَ ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 25. (¬2) البخاري 1379، ومسلم 2866.

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ- فذكرَ الحديثَ بطوله، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا ... الحديث (¬1). 3 - ويُؤْمَنُونَ بل يُغْبَطُونَ منْ بشَّرهمْ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالجنةِ، وهمْ بعدُ في الدنيا .. وثمَّةَ عددٌ من الصحابةِ بُشِّروا بالجنة، بل رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قصورًا في الجنة لأعيانٍ من الصحابة، وعلى سبيل المثال لا الحصرِ أكتفي بنموذجٍ للرجال وآخرَ للنساء، فقَصْرُ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ جاءَ في «صحيحِ مسلم» منْ حديثِ جابرِ بنِ عبدِ الله رضيَ اللهُ عنهما قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ فِيهَا قَصْرًا ودَارًا، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ فقيل: لرجلٍ منْ قريش، فقيل: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ» قال: فَبَكَى عُمَرُ، وَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ أَوَ عَلَيْكَ يُغَارُ؟ ! (¬2). أما خديجةُ رضيَ اللهُ عنها، فالبشارةُ لها ببيتٍ في الجنةِ أتي بها جبريلُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ومعه السلامُ منْ ربِّها، وقال- كما في «صحيح البخاري» -: «هذهِ خديجةُ قدْ أتتْ معها إناءٌ فيه إدامٌ أو طعامٌ أو شرابٌ، فإذا هي أَتَتْكَ فاقرأْ عليها السلامَ من ربِّها ومنِّي، وبشِّرها ببيتٍ في الجنةِ منْ قَصَبٍ، لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ» (¬3). 4 - الجنةُ مغريةٌ والنارُ موحِشةٌ، ولكنْ أينَ لِجَامُ الشهواتِ والمَكَارِهِ؟ في «السنن» والمسند منْ حديثِ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَالَ: انْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ ¬

(¬1) أحمد في «المسند» 4/ 187، والحاكم: المستدرك 1/ 37، 38. (¬2) مسلم 2394 في فضائل الصحابة باب من فضائل عمر رضي الله عنه. (¬3) البخاري، مناقب الأنصار، تزويج خديجة وفضلها ح 3820.

لِأَهْلِهَا فِيهَا، قَالَ: فَجَاءَهَا فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، قَالَ فَرَجَعَ إِلَيْهِ، قَالَ فَوَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهَا فَانْظُرْ إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ حُفَتْ بِالْمَكَارِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ. فقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خِفْتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ: اذْهَبْ إِلَى النَّارِ فَانْظُرْ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِهَا فِيهَا، فَإِذَا هِيَ يَرْكَبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَرَجَعَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَا يَسْمَعَ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلَهَا، فَأَمَرَ بِهَا فَحُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ، فَقَالَ: ارْجعْ إِلَيْهَا، فَقَالَ: وَعِزَّتِكَ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَنْجُوَ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا» قالَ الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيح (¬1). ألا فجاهدْ نفسَك يا مسلمُ عنْ الشهواتِ المحرمةِ، وصبِّرْها على المكارهِ المصاحبةِ للطاعةِ فذاك رهانُ الجنة. 5 - منْ نعيمِ الجنةِ كلُّ ما خطرَ ببالكَ وحلَّقَ إليهِ خيالُكَ، ففي الجنة أعظم من ذلك، عنْ أبي هريرةَ رضي اللهُ عنهُ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2). وَفِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} (¬3). وَمَوْضِعُ سَوْطٍ من الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} (¬4)» رواهُ بهذا ¬

(¬1) 2560، والمسند 2/ 333. (¬2) سورة السجدة، الآية: 17. (¬3) سورة الواقعة، الآية: 30. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 185.

السياقِ واللفظِ الترمذيُّ والنسائيُّ وابنُ ماجه، وصدرهُ في «الصحيحين» (¬1). 6 - هل تُدخَلُ الجنةُ بالعملِ أمْ برحمةِ الله؟ المتقررُ شرعًا أنها تُدخلُ برحمةِ الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لنْ يُدخِلَ أحدًا عَمَلُه الجنَّةَ» وفي لفظ: «لنْ يُنْجِي أحدًا منكمْ عَمَلُهُ» (¬2). ولكن العملَ سببٌ في دخول الجنة، كما قال تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]. قالَ العلماءُ: والجمعُ بين الآيةِ والحديث: أن النفيَ الذي في الحديثِ هو نفيُ المعاوضةِ التي يكونُ فيها أحدُ العوضينِ مقابلًا للآخر، والباءُ التي في الآيةِ هي باءُ السببيةِ التي تقتضي أنَّ العملَ سببٌ لدخولِ الجنة وإن لم يكنْ مستقلًّا بحصولِها (¬3). إذًا لا بدَّ للجنةِ منْ عملٍ ابتداءً، ولكنَّ رحمةَ اللهِ بوابةٌ للدخولِ في النهاية. 7 - ما هي موجباتُ دخولِ الجنة؟ هي كثيرةٌ وثابتةٌ في آياتِ الكتابِ وصحيحِ السنة، كالذِّكرِ والسُّننِ الرواتبِ والصدقةِ، والصومِ وحُسْنِ الخُلُق، والحجِّ والجهادِ وبرِّ الوالدين، والزيارة .. وقدْ أحصى بعضُهم ما يزيدُ على ستينَ موجبًا للجنةِ منْ صحيحِ السنة، وقال الشيخُ عبدُ الله الجعيثن في كتابهِ «موجباتُ الجنةِ في ضوء السنة» - وفقَّه اللهُ- تَنوُّعُ الأسبابِ الموجبةِ للجنةِ وكثرتُها رحمةٌ منَ اللهِ بعباده، فقد يتهيأُ لبعضِ المؤمنينَ بعضُ هذهِ الأسبابِ ويتعذرُ عليهمْ بقيتُها، وفدْ يوفَّقُ المؤمنُ ويفتحُ له في بعضُ هذهِ الأسبابِ ويتعذرُ عليهمْ بقيتُها، وفدْ يوفَّقُ المؤمنُ ويفتحُ له في بعضِ الأسبابِ وتتيسرُ له دونَ سواها، وعلى المسلمِ أنْ ¬

(¬1) ابن القيم، حادي الأرواح 223. (¬2) متفق عليه، خ 5673، مثلًا 2816. (¬3) حادي الأرواح 61.

يغتنمَ الفرصةَ في أيِّ بابٍ فتحَ لهُ إلى الجنة، ويجتهدُ في تحقيقِ بقيةِ الأسباب (¬1). قالَ أحدُ التابعين: إذا فُتحَ لأحدكمْ بابُ الخيرِ فليُسْرِعْ إليه، فإنهُ لا يدري متى يُغلَق عنه (¬2). يا عبدَ الله: وإذا بلّغكَ اللهُ شهرَ رمضانَ وهوَ شهرُ الصيامِ والقرآن، والإحسانِ والصلاة، والدعاءِ .. ونحوِها منْ موجباتِ الجنة، فلا تَدَعِ الفرصةَ تضيعُ عليك وسارعْ وبادر، وأَنِبْ إلى ربِّك وأخبتْ له .. عسى أنْ تكونَ منَ المفلحين. 8 - الغفلةُ صدودٌ عنِ الجنةِ .. والعجبُ كلُّ العجبِ ممنْ يَغْفلُ عنْ مصيرينِ لا يستويان، والعجبُ كذلكَ ممنْ تُسرعُ بهِ مطايا الليلِ والنهار، ولا يتفكرُ إلى أنْ يُحملَ ويُسارَ به أعظمَ منْ سيرِ البريد، ولا يدري إلى أيِّ الدارين يُنقلُ .. أجلْ، لقدْ نُوديَ إلى الجنةِ في سوقِ الكسادِ فما قَلَب هذا المسكينُ الغاقل- ولا اسْتام، وغيرُه قدْ شمَّرَ عنْ ساق .. فواعجبًا لها كيفَ نامَ طالبُها، وكيفَ لمْ يَسْمح بمهرِها خاطبُها، وكيفَ طابَ العيشُ في هذهِ الدارِ بعدَ سماعِ أخبارها، وكيفَ قرَّ للمشتاقِ القرارُ دونَ معانقةِ أبكارها؟ وكيفَ صدفتْ عنها قلوبُ أكثرِ العالمين؟ ! (¬3). 9 - حُدَاء الجنة .. ودونكَ حُداءُ المشتاقينَ وحنينُ العارفين، يتغنونَ بالجنانِ وكأنهمْ يرونها .. ويدعونكَ للجدِّ والاجتهادِ في طلبها، وهمْ يصفونَ لكَ شيئًا منْ نعيمها .. ¬

(¬1) د. عبد الله الجعيثن، موجبات الجنة في ضوء السنة/ 5. (¬2) رواه أحمد في «الزهد» ص 384، عن الجعيثن «موجبات الجنة» / 6. (¬3) ابن القيم، حادي الأرواح 26 - 28.

ويقولُ ابنُ القيم- رحمه الله- منْ قصيدةٍ طويلةٍ وشعرٍ في وصفِ الجنة: وما ذاكَ إلا غَيرةٌ أنْ ينالَها ... سوى كُفْئِها والربُّ بالخَلْقِ أعلمُ وإنْ حُجبتْ عنَّا بكلِّ كريهةٍ ... وحُفَّتْ بما يؤذي النفوسَ ويؤلمُ فللهِ ما في حشوِها منْ مَسَرَّةٍ ... وأصنافِ لذاتٍ بها يُتنعَّمُ وللهِ بَردُ العيشِ بينَ خيامِها ... وروضاتِها، والثغرُ في الروضِ يَبسمُ وللهِ واديها الذي هو موعدُ ... المزيد لوفدِ الحبِّ لو كنتَ منهمُ فيا لذةَ الأبصارِ إنْ هي أقبلتْ ... ويا لَذَّةَ الأسماعِ حينَ تكلَّمُ ويا خجلة الغصنِ الرطيبِ إذا انثنتْ ... ويا خجلةَ الفجرينِ حينَ تبسَّمُ عناقيدُ منْ كرمٍ وتفاحُ جنةٍ ... ورمانُ أغصانٍ بهِ القلبُ مغرمُ تَقَسَّمَ فيها الحسنُ في جمعِ واحدٍ ... فيا عجبًا من واحدٍ يتقسَّمُ فيا خاطبَ الحسناءِ إنْ كنتَ راغبًا ... فهذا زمانُ المهرِ فهو المقدَّمُ وصُمْ يومكَ الأدنى لعلكَ في غدٍ ... تفوزُ بعيدِ الفطرِ والناسُ صُوَّمُ وأقدمْ ولا تقنعْ بعيشٍ منغضٍ ... فما فازَ باللذاتِ منْ ليسَ يقدمُ فحيَّ على جناتِ عدنٍ فإنها ... منازلكَ الأولى وفيها المخيمُ (¬1) أما هاتفُ القرآنِ وأما دعوةُ الرحمن، فنقول لكلِّ مسلمٍ ومسلمة: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ¬

(¬1) حادي الأرواح، ص: 30 - 31.

الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬1). اللهمَّ انفعْا بهدىِ القرآنِ وسنةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيات: 133 - 135.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ للهِ على توافرِ نعمهِ وعظيمِ آلائهِ، وأشكرهُ على فضلهِ ومنتعهِ، وأسألهُ المزيدَ من فَضْلِه، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلمْ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين. أيها الصائمون: هنيئًا لكمْ بشهرِ رمضانَ، إذْ تفتح أبوابُ الجنة، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقولُ في الحديثِ المتفقِ على صحته: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ» (¬1). وهنيئًا لكمْ بالصدقةِ- في كل حين- ولا سيما في رمضانَ، وهي سببٌ لدخولِ الجنةِ، وعن حذيفةَ رضيَ اللهُ عنهُ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «منْ تصدَّقَ بصدقةٍ ابتغاءَ وجهِ اللهِ، خُتمَ لهُ بها دخلَ الجنة» رواهُ أحمد، وصححَّ إسنادَه العلماءُ كالمنذري والألباني (¬2). وهنيئًا لكم معاشرَ المسلمينَ الصائمينَ بالدعاءِ وقبولِه .. وللصائمِ دعوةٌ لا تردُّ، فاسألوا اللهَ من فضلهِ ما شئتم، واسألوهُ الجنةَ ثلاثًا يستجبْ لكمْ، وفي الحديثِ الصحيح: «مَنْ سألَ اللهَ الجنةَ ثلاثَ مراتٍ، قالتْ الجنةُ: اللهمَّ أدْخِلْهُ الجنةَ، ومنْ استجارَ منَ النارِ ثلاثَ مراتٍ قالتِ النارُ: اللهمَّ أجِرْهُ من النار» (¬3). وهنيئًا لأهلِ التوبةِ بدخولِ الجنةِ، واللهُ يقول: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ¬

(¬1) خ 1898، م 1079. (¬2) صحيح الترغيب والترهيب 1/ 412. (¬3) رواهُ الترمذي والنسائيُّ وابنُ ماجه والحاكمُ وصححه، ووافقهُ الذهبي، وحسَّنهُ في «السير»، وصححهُ الألباني. المستدرك 1/ 534، سير أعلام النبلاء 8/ 252، صحيح الجامع رحمه الله 6275.

فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} (¬1). فتوبوا إلى اللهِ جميعًا أيها المؤمنونَ لعلكم تفلحون .. وإذا نوديَ أهل الإيمانِ للتوبةِ فغيرهمْ بالدعوةِ أَحْرى، وبالتوبةِ أَوْلى. ورمضانُ فرصةٌ واسعةٌ للتوبة، وعونٌ للتائبين، فهل من مُدَّكِر؟ أيها المؤمنون: وهاكمْ خِصالًا تُدخلُ الجنةَ، فقدْ جاءَ أعرابيٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، علِّمْني عملًا يُدْخِلُني الجنةَ، قال صلى الله عليه وسلم: «لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَالخطبةُ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ، أَعْتِقْ النَّسَمَةَ، وَفُكَّ الرَّقَبَةَ» قَالَ: أَوَلَيْسَتَا بِوَاحِدَةٍ؟ قَالَ: «لَا، إِنَّ عِتْقَ النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكَّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا، وَالْمِنْحَةُ الْوَكُوفُ (وهي غَزِيرةُ اللَّبن)، وَالْفَيْءُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ القاطع (أي العطفُ عليهِ والرجوعُ إليه بالبرِّ)، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَاكَ فَأَطْعِمْ الْجَائِعَ، وَاسْقِ الظَّمْآنَ، وَمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ الْخَيْر» (¬2). ألا ما أعظمَ فضلَ الصدقةِ في كلِّ حين! وفضلُها يزدادُ في رمضانَ، وحينَ تشتدُّ حاجةُ المسلمينَ إليها في أيِّ مكانٍ وفي أيِّ لونٍ ونوعٍ من الدَّعم، فلنحرصْ على مواساةِ إخوانِنا المسلمينَ والمشاركةِ لهمْ في هُمومِهم لتخفيفِ معاناتِهم، والمسلمُ للمسلمِ كالبنيانِ يشدُّ بعضُه بعضًا. يا مسلمُ يا عبدَ الله، وإياكَ أن تُذادَ عنْ الجنةِ بسوءِ عملِكَ .. وهل عملتَ سَعَةَ أبوابِ الجنةِ؟ وبينَ المِصْراعيْنِ منْ مصاريعِها مسيرةُ أربعينَ عامًا، وليأتينَّ ¬

(¬1) سورة مريم، الآية: 60. (¬2) أخرجهُ الطيالسيُّ وأحمدُ وابنُ حبان- واللفظ له- وصححه الهيثمي والألباني (مجمع الزوائد 4/ 240)، (الاحسان 1/ 296 ح 375) (مشكاة المصابيح رحمه الله 3384).

عليهِ يومٌ وإنه لكظيظ. أخرجهُ أحمدُ ورجالُه ثقات (¬1). وفي «البخاري»: «إنَّ ما بينَ المصراعينِ منْ مصاريعِ الجنة، لكما بينَ مكةَ وهجَر أو هجرَ ومكة، أو كما بينَ مكةَ وبُصرى» (¬2). وفي روايةِ ثالثة: «البابُ الذي يدخلُ منهُ أهلُ الجنةِ مسيرةُ الراكبِ المجوِّد ثلاثًا، ثمَّ إنهمْ ليضَّطغطونَ عليه حتى يكادُ مناكبُهم تزول» (¬3) وقال ابنُ القيم: وهذا مطابقٌ للحديثِ المتفقِ على صحته (كما بينَ مكةَ وبصرى). يا عبدَ الله، وحينَ تعلمُ أنَّ الجنةَ درجاتٌ فاجتهدْ في بلوغِ أعلاها منزلةً في العملِ والدعاء، فقدْ صحَّ الخبرُ أنَّ في الجنةِ مائةَ درجة، ما بينَ كلِّ درجةٍ ودرجةٍ كما بينَ السماءِ والأرض، والفردوسُ أعلاها درجةً، منها تفجَّرُ أنهارُ الجنةِ الأربعة، ومنْ فوقها يكونُ العرشُ، فإذا سألتمُ اللهَ فاسألوهُ الفردوسَ (¬4). وفي مثلِ هذا الشهر- بصيامِ نهارهِ وقيامِ ليلهِ وزيادةِ البرِّ والخيرِ فيه- فرصةٌ للعملِ والدعاء، فلا تكُ منَ المحرومينَ أو الكسالى. آهٍ ثم آهٍ على منْ فرّطَ في سلعةِ اللهِ الغالية، ولطالما امتدتْ إليها الأعناقُ، وتقربَ إليها المُشَمِّرون بصنوفِ الطاعاتِ، فهذا مجاهدٌ في سبيلِ الله يحملُ سلاحَه بيد، ومنيَّتُه بالأخرى ينتظرُ الشهادةَ والجنةَ، وآخرُ قانتٌ آناءَ الليلِ ساجدًا وقائمًا يحذرُ الآخرةَ ويرجو رحمةَ ربِّه، وثالثٌ أواهٌ مُخبتٌ مُنيبٌ صادقٌ في نيتهِ ¬

(¬1) حادي الأرواح ص 89. (¬2) خ 3340، 3361. (¬3) حادي الأرواح/ 90. (¬4) أخرجه الترمذي، جامع الأصول 10/ 500، قال المحقق صحيح، وهو عند البخاري بأتم منه.

وعملهِ، ورابعٌ لا يفترُ عنْ ذكرِ الله قائمًا وقاعدًا وعلى جَنبهِ، وخامسٌ له همةٌ في الصدقةِ والإحسان .. وهكذا منْ ضروبِ العبادةِ والجهاد .. وحَقٌّ على كلِّ مجتهدٍ يبتغي الجنةَ أن يسعى ما وسعهُ الجهدُ فالمقامُ هناكَ طويلٌ .. والحبورُ كثيرٌ .. والفوزُ عظيمٌ والخسارةُ فادحةٌ، روى مسلمٌ في «صحيحه» منْ حديثِ أبي سعيدٍ وأبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهما عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «يُنَادِي مُنَادٍ يا (أهلَ الجنة) إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا» فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬1)» (¬2). أيها المسلمون: يا أهلَ القرآن لا تغرنَّكُمُ الحياةُ الدنيا ولا يغُرنَّكُمْ باللهِ الغرور، ولا تقعدْ بكمُ الشهواتُ الزائلةُ عنْ الجنانِ العاليةِ والأنهارِ الجاريةِ والحورِ والسعادةِ الحَقَّةِ، والموتُ هناك يُنحرُ، وعلائمُ الفرحةِ أو الحسرةِ تظهرُ ... وفي «صحيح مسلم»: «يُؤتى بالموتِ بينَ الجنةِ والنار- فيعرفونه- ثم يُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا» (¬3). عبادَ الله: والطريقُ إلى الجنةِ- مع أنه محفوفٌ بالمكاره- إلا أنه يسيرٌ على من يسَّرهُ اللهُ عليه، وجاهدَ نفسَه في الصبرِ عليه، وأختمُ الحديثَ هنا بذكرِ طريقينِ للجنةِ أحدُهما في العلمِ وآخرُ في العمل، قال صلى الله عليه وسلم عنِ الأول: «مَنْ سَلَكَ ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 43. (¬2) مسلم 2837. (¬3) مسلم 2849.

طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّة» (¬1)، وعنِ الثاني قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حَتَّى يَخْتِمَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّة» (¬2). ¬

(¬1) رواه مسلم 2699. (¬2) أخرجه أحمد في «مسنده»، وحسنه الألباني في «السلسلة» 589، وصححه في «صحيح الجامع الصغير» 6472.

رمضان مدرسة الأخلاق

رمضانُ مدرسةُ الأخلاق (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالنا، منَ يَهْدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلينَ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابة أجمعينَ والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسلِّم تسليمًا كثيرًا. أيُّها المسلمون: حقًا إن رمضانَ مدرسةُ الأخلاقِ، ومَجمَعُ المكارمِ ومُلتقى الفضائل .. ولكنّ آفةَ عددٍ من الصائمين أنهم لا يُدرِكون هذه الأسرار، أو قد تَغِيبُ عنهم أشياء من حِكَمِ الصيام، ودَعُونا نقفُ اليومَ مُذكِّرين أنفسَنا بشيءٍ من هذه المعاني للصيام، وارتباطِها بتقوية القيَم ومحاسنِ الأخلاق .. وإذا كانت (التقوى) هي الحكمةَ النافعةَ من الصيام، والله تعالى يُذكِّرنا بهذه الحكمةِ الجليلة ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬2)، فثَمَّةَ حِكمٌ وأسرارٌ وتأثيرٌ للصيام في بناءِ الأخلاقِ الفاضلةِ لمن تأمَّل وحَفِظَ الصيام .. ولو قال قائلٌ: إن للصيام أثرًا عظيمًا في الإخلاصِ والصبرِ، والخوفِ والرجاء، والبِرِّ والصِّلَة، والذِّكرِ والدعاء، والمراقبةِ والحياء، والعِزَّة والحِلْم، والتوبةِ والاستغفار، والحُرية وتهذيبِ الغرائز، والدعوةِ والتربية، والجهادِ والجُود، ونحوِها من الفضائل ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 10/ 9/ 1423 هـ. (¬2) سورة البقرة، الآية: 183.

والمكارم، لما كان مُبالغًا، وليس الخبرُ كالمعاينَةَ، فلتقِفْ على شيءٍ من هذا. فالصائمُ يُربِّي نفسَه على (الإخلاص) وهو يستجيبُ لدعوةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: «مَن صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تَقدَّم من ذَنْبِه» فلا يصومُ رياءً ولا سمعةً ولا مجرَّدَ تقليدٍ للصائمين، بل يصومُ مُخلِصًا لله، راجيًا لثوابِه .. وفي الحديثِ الآخر عند البخاريِّ: «يَتُرك طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أَجْلي، الصيامُ لي وأنا أَجْزي به» وأيّ درسٍ في الإخلاص أعظمُ من هذا؟ إن الصومَ- معاشرَ الصائمين- عبادةٌ خفيةٌ، وسرٌّ بين العبد وربِّه، ولهذا قال بعضُ العلماء: الصومُ لا يَدخُلُه الرياءُ بمجرَّد الأعمالِ، فإن الرياءَ قد يدخلُها بمجرَّد فعلِها (¬1). وفي الصوم درسٌ عمليٌّ للصبرِ ليس في الامتناعِ عن أكلِ أو شربِ ما حرّم اللهُ فحسبُ، بل وعمَّا أحلَّ اللهُ من طلوعِ الفجرِ إلى غروبِ الشمس، وفي ذلك ترويضٌ للنفسِ وتهذيبٌ للغرائز، وطردٌ للجَشَعِ والطَّمَع. ومَن يُطعمِ النفسَ ما تشتهي ... كمَن يُطعم النارَ جَزْلَ الحَطَبْ لا، بل إنَّ الصيام يُدرِّب الصائمَ على الصبرِ في تَحمُّل الأذى، والحِلْمِ والصَّفْحِ لمن أساءَ له مُكتفيًا بالقولِ: «إني صائم». أيها الصائمون: أما أَثرُ الصيامِ في الخوفِ والرجاء- وهما جناحانِ لا بُدَّ للمَرْءِ أن يطيرَ بهما إلى الله ونعيمِ الآخرة- فالصائمُ يخافُ ربَّه وحدَه في الحفاظِ على صيامه، وهو يَرجُوه وحدَه في المَثُوبة على صيامه، وإذا كان الصائمُ إنما يصومُ إيمانًا بالله فلا شكَّ أنَّ الإيمانَ خوفٌ ورجاء، خوفٌ من عذابِ الله ورجاءُ رحمتِه وطمعٌ في جنَّتِه .. وهكذا يحقِّقُ الصائمُ المحتسِبُ مَنزِلَتَي الخوفِ ¬

(¬1) محمد الحمد: رمضان دروس وعبر، ص 62.

والرجاء، ولا شكَّ أن الصومَ من بواعثِ الخوف، ومُحفِّزاتِ الرجاء، ومَن عَبَدَ اللهَ بالحبِّ والخوف والرجاء فهو المؤمنُ الموحِّد (¬1). إي وربِّي إن الصائمَ في رمضانَ مع ما يَعظُمُ عنده من خوفٍ لله .. يَعظُمُ عنده الرجاءُ وهو يسمع «مَن صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبِه، ومَن قام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبِه، ومَن قام ليلةَ القَدرْ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبِه». فهل نُدرِكُ هذه المعاني في الخوفِ والرجاء وفي شهرِ الصيامِ بالذات؟ أيها الصائمون: أما خُلُقُ (المراقبة) فالصيامُ يُزكِّيه ويُنشِّطُه، ذلكم أنَّ الصائمَ يُمسِك عن المُفطِرات كلِّها- الحِسيِّ منها والمعنويِّ- طِيلةَ النهار، فتراه أمينًا على نفسِه رقيبًا عليها، متمثلًا هيبةَ مولاه، ومُقدِّرًا رقابتهَ عليه واطِّلاعَه على كل حركاتِه، فلا يَخطُرُ ببالِه أن يَخْرِمَ صيامَه ولو توارى عن الأعيُن، بل هو متواطئٌ أن الله يراه حيثُ كان .. وتلك منزلةُ الإحسان العُظْمى، وثمرةُ المراقبةِ في شهرِ الصيام، وكم يحتاج المسلمُ إلى أن يُربِّيَ نفسَه على مراقبةِ الله دائمًا، والعارفون يقولون: لا يُحسِنُ عبدٌ فيما بينَه وبينَ الله إلا أحسنَ اللهُ فيما بينَه وبينَ الناس، والضدُّ بضدِّه .. ويقولون عن أَثَر المراقبة: «إن للخَلْوةِ تأثيراتٍ تَبِينُ في الجَلْوة، كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمُه عند الخَلَوات فيتركُ ما يشتهي حذرًا من عقابِه أو رجاءً لثوابِه أو إجلالًا له، فيكونُ بذلك الفعلِ كأنه طرحَ عودًا هنديًا على مَجْمَر فيفوحُ طِيبُه فيستنشقُه الخلائقُ ولا يدرون أين هو؟ » (¬2). عبادَ الله: أما (الحياءُ) فهو خُلُق يَبعَث على فعل الحسنِ وتركِ القبيح، ويَمنَع ¬

(¬1) محمد الحمد: رمضان دروس وعبر، ص 238. (¬2) المرجع السابق، ص 181.

من التقصير في حقِّ ذي الحقِّ .. وهذا يَدعمُه الصيامُ ويقوِّيه رمضانُ، والصائم بحِفْظه لصيامِه يراقبُ اللهَ ويستحي منه، إذ كيف يُقدِمُ على منكرٍ من القول أو الفعل وهو صائمٌ، ويستحي أن يؤذيَ مسلمًا وهو صائم، وهكذا يَغلِبُه الحياءُ كلما همّت نفسُه الأمّارةُ بالسوءِ بما يَخرِمُ الصيامَ ولا يتناسب وشهرَ الصيامِ .. ألاَ ما أحوجَنا إلى الحياء في حياتنا كلِّها، والحسنُ رحمه الله يقول أربعٌ مَن كُنَّ فيه كان عاقلًا، ومن تعلّق بواحدةٍ منهنَّ كان من صالِحِي قومِه: دينٌ يُرشِدُه، وعقلٌ يُسدِّدُه، وحَسَبٌ يصونُه، وحياءٌ يقودُه. ومن حِكَم الشِّعر: ولقد أَصرفُ الفؤادَ عن الشيءِ ... حياءً وحبُّه في الفؤاد أُمسِكُ النفسَ بالعفافِ وأُمسي ... ذاكرًا في غدٍ حديثَ الأعادي أيها المسلمونَ: أما (الحِلْم) وما أدراك ما الحِلمُ؟ ذلك الخلق العزيزُ، فلِلصَّوم تأثيرٌ ظاهرٌ فيه، كيف لا والصائمُ يُقال له: «وإذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يَرفُثْ ولا يَصْخَبْ، فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتَلَه فبيقلْ: إني امرُؤٌ صائمٌ» أخرجاه في «الصحيحين». إن الصائمَ تهدأُ نفسُه ويسيطر على مشاعرِه، ويتنازلُ عن جهلِ الآخرين عليه، ولا يُستفَزُّ فينتقمُ لنفسه، بل يعفو ويصفحُ ويتجاوز ويَغفِر .. وهذا مِقْودُ الحِلْم والصَّفح وإن قَدِروا على المجازاةِ والانتقام، وفي هذا يُذكَر أن الأحنفَ بنَ قيسٍ شَتَمَه رجلٌ وجعل يَتْبعُه حتى بلغ حَيَّه، فقال له الأحنف: يا هذا، إنْ كان بقيَ في نفسِك شيءٌ فهاتِه وانصرِفْ، لا يَسمَعْك بعضُ سفهائنا فتلقى ما تكرَهُ .. وذا تغنَّى الشعراءُ بهذه النوعيةِ من الأصحاب التي تقتربُ من صاحبها وإن جَفَى عليها، ويقول أحدُهم (أبو العتاهيَة):

وإني لمَشتاقٌ إلى ظلِّ صاحبٍ ... يَرِقُّ ويَصفُو إن كَدِرْتُ عليهِ فهل نتعلَّمُ- يا تُرى- من رمضانَ الحِلمَ، ونمارسُ الحِلْمَ في رمضان وغيرِه؟ أيها المسلمون: أمّا (الجهادُ والجِدُّ) ففي مدرسةِ رمضانَ متسعٌ لهما، كيف لا وأسلافُنا- وفي مقدّمتِهم نبيُّنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، خاضوا أكثرَ من معركةٍ في رمضان ابتداءً من يوم الفُرْقان في (بدرٍ) وانتهاءً بالفتح الأعظم في (فتح مكةَ) ودخولِ الناس في دينِ الله أفواجًا، وما فَتِئَ المسلمون بعدَهُم وما زالوا يجاهدونَ أعداءَ الإسلام في رمضان، حتى زمانِنا هذا. وفوق ذلك فجهادُ المسلمِ في رمضان وجِدّيُته وصقلُ إرادتِه في شهر الصيام لا تقفُ عند حدِّ المعاركِ الحربية، بل تتعدَّاها إلى جهادِ النفس ومغالبة الشهواتِ والانتصارِ على دواعي الرذيلةِ ومُنكَراتِ الأقوال والأفعال .. أجلْ إن الصائم الحقَّ يحفظُ لسانَه عن الكذب والغِيبةِ وقولِ الزُّور، ويحفظ سمعَه وبصرَه عن السماع والنظرِ والمحرَّم أيًّا كان شكلُه، ومهما كانت دواعِيَه، كما يحفظ رجِلَه عن المشي للحرامِ، ويدَه من تناولِ الحرام، وهكذا ينتصرُ الصائمُ في معؤكة الشهواتِ والشُّبُهات، ويجاهدُ نفسَه وشيطانَه فتكتملُ له أسهمُ الجهاد .. ويتوفرُ له الجِدُّ، وهذه التربية الجهاديةُ حَرِيّةٌ بأن تستمرَّ مع المسلمِ بعد رمضان، فالعبادةُ لله لا أَجَلَ لها دون الموتِ {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (¬1).، واللهُ يهدي المجاهدي ويُسدِّدُهم {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (¬2). ¬

(¬1) سورة الحجر، الآية: 99. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 69.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ لله صاحبِ الفضلِ والجُودِ والإحسان، أَحمَدُه تعالى وأشكرُه وأسألُه المزيدَ من فضلهِ، والتوفيقَ لنَفَحَاته، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، أعطى ومَنَع، وهو أحكمُ وأعلم، ومن يَسألِ اللهَ يُوصَل، واللهُ أغنى أكرمُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله .. كان مثالًا للخُلُق الكريم، والجُود العميم، وهو في رمضانَ أَجْودُ، وما فَتِئ يُذكِّر أُمتَه ويدعوها إلى مكارمِ الأخلاق ومعالي القِيَم حتى أتاه اليقينُ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى سائرِ النبيين والمرسَلين. أيها المسلمون: يتفاوت الناسُ في الاستفادةِ من مدرسة الصوم وتطويعِ النفس على الأخلاقِ الفاضلة على الدوام، فمِنَ الناس من لا يستفيدُ- ولا في رمضانَ- في إصلاح خُلُقِه وتزكية نفسِه، وهذا الصنفُ ظنَّ أن الصيامَ إمساكٌ عن الطعامِ والشراب فحسبُ، وجَهِلَ حكمةَ الصيام وتقوى الصيام- وعسى أن تكون هذه الفئةُ قليلةً في مجتمع المسلمين- ومن الناس من يستفيدُ من درسِ رمضانَ ويَنهَلُ من مدرسةِ الأخلاق في شهرِ الصيام لكنه يَضعُف عن المواصلة بعدُ، وربما فَهِمَ خطأ أنَّ تركَ الحرام، أو عدَم التقصير في الواجبات من سِمَات رمضانَ فقط، فإذا انتهى شهرُ رمضانَ عاد إلى ما كان عليه من تَرْكِ الواجباتِ كالمحافظة على الصلواتِ مع جماعةِ المسلمين، ونحوِها من واجبات الدِّين، وإلى فِعْل المحرَّمات كأكل الربا والغِشِّ والخداع والغِيبةِ والنَّميمة والفُحْش والبِذاءِ وشُرْب الدخانِ، وربما تجاوز إلى المخدِّرات .. أو نحوها من المحرَّمات. ولهؤلاء يُقال: إنّ رمضانَ محطةٌ للتزوُّد، ووسيلةٌ لتربية النفسِ في رمضانَ وبعدَ رمضان، وبئسَ القومُ لا يعرفونَ اللهَ ويَخشَوْنَهُ إلا في رمضانَ.

أما الصنفُ الثالث فهم المُصطَفَوْنَ الأخيار، وهم الذين وفَّقهم الله لتزكية نفوسِهم في رمضان، ثم واصلوا تزكيتَها في سائرِ العام، وكلما مَسَّهم طائفٌ من الشيطان أو ضَعُفت نفوسُهم عن المَعالي، تذكَّروا فإذا هم مبصرون، وتابوا وأنابوا إلى ربِّهم، وما يزالون في جهادٍ لأنفسِهم ومجاهدةٍ لأهوائهم حتى يَلقَوْا ربَّهم. وهنا لَفْتةٌ وتنبيهٌ وذِكرى للصائمين عن أمرٍ نحتاجُ إليه جميعًا، وهو في عِداد مدرسةِ الصوم والأخلاقِ الفاضلة في رمضان- إنها التوبةُ، وإنما يَحسُن الحديثُ عن التوبةِ في كل حين، ولكنه يَطِيبُ أكثرَ في رمضان، لأنه موسمٌ للرجوعِ والإنابة، والنفوسُ تَجِدُ في هذا الشهرِ عَوْنًا على التوبة من الأخطاءِ والسيئاتِ أكثرَ من غيره، وإلا فكلُّنا وفي كل حينٍ مدعوُّون من ربِّنا للتوبةِ {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬1). ولكنَّ التوبةَ منها ما هي واجبةٌ ومنها ما هي مستحبَّةٌ، فالتوبةُ الواجبةُ هي التي تكون من فِعْل المحرَّماتِ وتركِ الواجباتِ، وهذه لا ينبغي التساهلُ والتأخيرُ فيها، والتوبةُ المستحبَّة إنما تكون من فعل المكروهاتِ وتركِ المستحبَّاتِ، وهذه يليقُ بالمسلم أن يدرِّبَ نفسَه عليها حتى لا تخترقَ المكروهاتِ إلى المحرَّمات، وحتى لا تتجاوزَ في التساهل من المستحبَّاتِ إلى الواجبات. وإذا دعانا اللهُ إلى (التوبةِ النَّصُوح) فقد قال أهلُ العلمِ عنها: إنها الخالصةُ الصادقةُ، الناصحةُ، الخاليةُ من الشوائبِ والعِلَل، وهي التي تكون من جميعِ الذنوبِ فلا تَدَعُ ذنبًا إلا تناولَتْهُ، وهي التي تدعو صاحِبَها إلى عدم الترددِ والتلوُّمِ ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 31.

والانتظار، وهي التي تقعُ لِمَحْضِ خوفِ الله وخَشْيتِه، والرغبةِ والرهبةِ له سبحانه .. (¬1). وهنا بُشرى وذِكْرى للتائبينَ، إذ يُقرِّر العلماءُ رجوعَ الحسناتِ إلى التائب بعدَ التوبة، فإذا كان للعبدِ حسناتٌ ثم عمل بعدَها سيئاتٍ استغرَقَتْ حسناتِه القديمةُ وأبطلَتْها، ثم تاب بعدَ ذلك توبةً نَصُوحًا، عادت إليه حسناتُه القديمةُ، ولم يكن حكمُه حكمَ المستأنِفِ لها، بل يُقال له: تُبتَ على ما أسلفتَ من خير، وفي هذا يقول ابنُ القيِّم رحمه الله مبيِّنًا العِلَّةَ في ذلك: «وذلك لأن الإساءةَ المُتَخَلَّلةَ بين الطاعتينِ قد ارتفعَتْ بالتوبةِ وصارت كأنها لم تكن، فتلاقتِ الطاعتانِ واجتمعتا، والله أعلم» (¬2). ألاَ ما أعظمَ فضلَ الله عل التائبينَ! ألا أن رمضانَ فرصةٌ للتوبة وبابٌ للسعادةِ، ومدرسةٌ للأخلاقِ الفاضلة، ونافذةٌ للفلاحِ والاستقامةِ. أخي الصائمَ، اربَأْ بنفسِكَ أن يمرَّ عليكَ شهرُ دون أن تستفيدَ من حِكَمِه وأسرارِه، وحَنانَيكَ أن تَقصُرَ هذه الفائدةَ على أيامٍ معدودة، بل اجعل من رمضان فرصةً لزكية نفسِك طِيلةَ العامِ، والله يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} (¬3) أي: طَهَّرَها من الذنوبِ ورقَّاها بطاعةِ الله، وعلّاها بالعلمِ النافع والعمل الصالح، واحذَرْ من إخفاءِ نفسِك الكريمةِ وتدنيسِها بالرذائل، واستعمالِ ما يَشِينُها ويدنِّسُها، والله يقول: {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (¬4) أي: أخفاها في مزابلِ ¬

(¬1) محمد الحمد: رمضان دروس وعبر، ص 214. (¬2) عن: محمد الحمد: رمضان دروس وعبر، ص 216. (¬3) سورة الشمس، الآية: 9. (¬4) سورة الشمس، الآية: 10، تفسير السعدي 7/ 633.

المعاصي، وأماتَ استعدادَها للخير بالمداومةِ على اتّباع طرقِ الشيطان وفعل الفجور (¬1). أيها المسلمُ، أيها الصائمُ: واختِمْ بما ينبغي أن يُختَمَ به، فما هو؟ إذا أردتَ تكميلَ عملِك وترقيعَ خطئِك فعليك بـ (الاستغفار) فاختِمْ به كلَّ عملٍ تؤدِّيه، فقد خُتِم به في الصلاة، والحجّ، وقيامِ الليل، والمجالس، وبه خُتِم عُمرُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وجهادُه {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} (¬2)، وبه يُختَم شهرُ رمضانَ بالاستغفارِ وصدقةِ الفِطْر» (¬3). إن الاستغفارَ يَسِيرٌ في نُطقه، عظيمٌ في مدلولِه وأَثرِه، فقد جَمَعَ اللهُ بينَه وبينَ التوحيدِ كما في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} (¬4) وقال شيخُ الإسلام: ومِن هنا رَوَى أبو هريرةَ رضي الله عنه قال: «ما رأيتُ أحدًا أكثرَ أن يقولَ: أَستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه، من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم»، فهذا أكملُ الخَلقِ إيمانًا أكثرُهم استغفارًا. ويُروَى من وصايا لُقْمانَ لابِنه: «يا بنيَّ عَوِّدْ لسانَك الاستغفارَ، فإن لله ساعاتٍ لا يَردُّ فيها سائلًا» (¬5). وقال قَتَادةُ رحمه الله: «إنَّ هذا القرآنَ يدلُّكم على دائِكم ودوائِكم، فأما داؤكم فالذنوبُ، وأما دواؤُكم فالاستغفارُ». ¬

(¬1) محقق تيسير الكريم الرحمن- تفسير السعدي 7/ 633. (¬2) سورة النصر، الآية: 3. (¬3) محمد الحمد: رمضان دروس وعبر، ص 192. (¬4) سورة محمد، الآية: 19. (¬5) محمد الحمد: رمضان دروس وعبر، ص 193.

ألا فأكثرِوا من الاستغفارِ معاشرَ المسلمين ليرقعَ أخطاءَكم، وأَكثرِوا من الاستغفارِ معاشرَ الصائمين ليرقعَ ما انخَرَمَ من صيامِكم، وبذِكْر الله عمومًا تطمئنُّ القلوبُ، وبالاستغفارِ تنصرِمُ الذنوبُ. وبعدُ: فحقٌ على كلِّ صائمٍ إن يسأل نفسَه: وماذا بقي له من آثارِ الصيام؟ وماذا سيخلّفه في حُسْن الأخلاق وكريمِ الخِلَال؟ اختبِرْ نفسَك في الإخلاصِ في رمضانَ وبعدَ رمضان .. وصارحْ نفسَك عن المراقبةِ والحياء، والحِلْم والكَرَم والجِدّ والجهاد والبِرّ والصِّلة، والذِّكرِ والدعاءِ والتوبةِ والاستغفارِ ونحوها .. ما حالُها في رمضانَ وبعدَ رمضان؟ يقول ابنُ تيميَّةَ رحمه الله: شهادةُ الوحيدِ تفتحُ بابَ الخير، والاستغفارُ يُغلِقُ باب الشر (¬1). ويُروَى عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: الغِيبةُ تَحرِقُ الصيامَ والاستغفارُ يَرقَعُه، فمنِ استطاعَ منكم أن يأتيَ بصيامٍ مُرقع فليفعل (¬2). اللهمّ إنا نستغفرُك ونتوبُ إليكَ من جميعِ الذنوب والخطايا، اللهمَّ أنت ربُّنا لا إله إلا أنت خلقتَنا ونحن عبيدُك ونحن على عهدِك ووعدِك ما استطعْنَا، نعوذُ بك من شرِّ ما صنعْنَا، نَبُوءُ لك بنِعمَتِك علينا ونبوءُ بذنوبِنا فاغفِرْ لنا، فإنه لا يَغفِرُ الذنوبَ إلا أنت. ¬

(¬1) محمد الحمد: رمضان دروس وعبر، ص 194. (¬2) محمد الحمد: رمضان دروس وعبر، ص 192.

هجمات (التتر) بين الماضي والحاضر

هجمات (التتر) بين الماضي والحاضر (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفُسنا ومن سيئاتِ أعمالِنا .. إخوةَ الإسلام، يظن بعضُ الناس أنَّ الهجومَ التتريَّ الشرِسَ على العالم الإسلامي حِقْبةٌ زمنية وانتهت، وأن الحملاتِ الصليبيةَ الوحشيةَ على المسلمين ومقدَّساتِهم نمطٌ من أنماطِ العداوة بين الكفارِ والمسلمين لن يتكررَ لها مثيلٌ، وهذا ظنٌ خاطئٌ، يكذِّبُه الواقعُ المعاصر ويعيدُ اليهودُ والنصارى فصولَه هذه الأيام ... ولعل من المناسبِ أن نَعرِضَ للهجمتين التتريَّتينِ في الماضي وكيف كان موقفُ المسلمين فيهما .. ثم نَعرِض لشيء من الهجماتِ التتريةِ المعاصرة وأهدافِها، وماذا ينبغي أن يكون موقفُ المسلمينَ حِيالَها. أيها المسلمون: لم يكن بين فاجعةِ المسلمين في بغدادَ وسقوطِ الخلافةِ العباسية على أيدي التترِ سنة (656 هـ)، وبين عزِّ المسلمين وانتصارِ الإسلام وهزيمة التتار في عين جالوتَ (658 هـ) سوى عامينِ فقط .. فما هي أسبابُ الذلِّ والهوانِ في الأُولى؟ وما هي عواملُ النصرِ والعزّة في الأخرى؟ إن المتأملَ في أحداث التاريخِ يرى أن إعصارَ التتر كان جارفًا قَدِمَ من المشرقِ فأباد عددًا من الدول والممالِكِ، وأفنى ما لا يُحصَى من البشر، وعاثَ جيشُه في الأرضِ الفسادَ ... لا ينتهي عند حدودِ السيطرةِ السياسية والمكاسبِ الاقتصادية، بل قَصَدَ الدينَ والخُلُق والعِرضَ بالفساد ... ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 9/ 10/ 1423 هـ.

وكذلك يفعلُ المجرمون. وحين كان التتارُ على أعتابِ بغدادَ هُزم المسلمون من داخلِهم قبل أن تَحِيقَ الهزيمةُ بهم على أيدي عدوِّهم ... أجل لقد كان الوزيرُ الرافضيُّ ابنُ العلقميِّ متمكنًا في الدولة وصاحبَ رأي عند الخليفة المستعصِم بالله، وهو الذي أشارَ على الخليفة: أن لا قِبَلَ للخلافةِ الإسلامية بمقاومة الجيش التتريِّ، وأنَّ على الخليفة أن يبعثَ بوفدِ سلامٍ إلى هولاكو محمَّلًا بالهدايا القيِّمة، فوافق الخليفةُ على هذا العرضِ ونفَّذ الرأيَ المتهالِك. واعتبر التترُ هذه الهدايا جزءًا مما يستحقونَ ولم يَمنعْهم ذلك من الهجوم الوحشيِّ على البلادِ والعباد، حتى كانت المصيبةُ المشهورة والتي لم يَسلَمْ منها الأميرُ والمأمور والمستشيرُ والمستشار، بل شَمِلَت- كما قال ابنُ كثير رحمه الله- مَن قدروا عليه من الرجالِ والنساءِ والوِلْدان والمشايخِ والكهولِ والشبان .. أيها المسلمون: وحين نتوقفُ عند هذه الحادثة بفصولهِا وملابساتِها نرصدُ الدروسَ التالية: 1 - أثرُ المنافقين في فَناءِ الدُّول وتدميرِ الشعوب، ولئن كان عددٌ من الأسبابِ وراءَ مأساة المسلمين في بغدادَ، فإن دَوْرَ الرافضةِ والمنافقينَ ولا شكَّ كان من أقوى هذه الأسبابِ في تدميرِ التتر لبلادِ المسلمين. 2 - إن الفسادَ الواقعَ من فئةٍ، والتخاذلَ الحاصلَ من الملأ لا يقفُ بآثاره عليهم وحدَهم، أو من يَدُور في فَلَكِهم، بل يَشمَلُ غيرَهم ... وفي مأساةِ بغدادَ أحصى المؤرِّخون ألفي ألفِ نفسٍ قُتلت، أي (مليونَي قتيلٍ) من الرجالِ والنساءِ والشيوخ والأطفال ... هذا فضلًا عن تدميرِ الدولِ ونهاية الخلافةِ الإسلاميةِ في بغداد.

3 - ولو أنّ الخلافةَ قاومَتْ والمسلمينَ جاهدوا لَمَا خَسِروا هذا العدد، ولو هُزِمُوا لكان لهم عذرٌ في الهزيمة ... أما إذ وقعتِ الهزيمةُ أولًا وآخرًا، واستسلمَ المسلمون للعدوِّ وما سَلِموا، فتلك هي المصيبةُ العُظْمى والخسارةُ المضاعَفة. 4 - والعدوُّ إذا ظَفِرَ بالمسلمين لا ينظر للأُعطيات ولا يلتفتُ للهِباتِ، ولا يتوقفُ عند حدودِ المقدَّرات المادية، بل يريد الوصولَ إلى الأخلاقِ والقَيِم وتدمير الهُوية وسَلْخ الأمة عن عقيدتها ودينِها، وكذلك صنع التتارُ بالمسلمين، وكذلك يحاول خلَفُهم من بعدِهم. إخوة الإيمان: أما الحادثة الأخرى فكانت سنة (658 هـ) وكان موعد التتر مع المسلمين مع حاكم مصر مع الملك المظفر (قطز) وذلك بعد أن دمر التتر بغداد، وواصلوا زحفهم إلى بلاد الشام فدخلوا (حلب) بالأمان ثم غدروا بأهلها، ونهبوا الأموال، وسبوا النساء والأطفال، وجرى على أهل حلب قريب مما جرى على أهل بغداد (¬1)، فجاسوا خلال الديار، وجعلوا أعزة أهلها أذلة .. ثم وردوا (دمشق) فأخذوها سريعًا من غير ممانع ولا مدافع .. وهكذا نهبوا البلاد كلها حتى وصلوا إلى (غزة). وحين بلغ الخبر (قطز) صاحب مصر .. أدرك أن هؤلاء المتوحشين لا أمان لهم ولا عهد، فأراد أن يبادرهم قبل أن يبدئوه ... واستشار الرجال من حوله فأيدوه ... وكان في مقدمة مستشاريه الأئمة والعلماء والقادة وأهل الجهاد ... وكان يوم الخامس والعشرين من شهر رمضان - في هذه السنة - موعدًا للنصر والظفر والعزة للإسلام وأهله في معركة (عين جالوت) الشهيرة. ¬

(¬1) كما قال ابن كثير في «البداية والنهاية» 13/ 207.

ووقفتنا لهذا النصر في عين جالوت تتمثل في النقاط التالية: - 1 - الفرق بين البطانة كبير بين هزيمة المسلمين في بغداد وانتصارهم في (عين جالوت) .. والفرق كذلك بين همم القادة للجهاد .. واستسلامهم للعدو يؤثر على مجريات الأحداث ونتائج المعارك. 2 - الجهاد وسيلة الأمة المسلمة للنصر والتمكين، وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا وأصيبوا من قبل الأعداء، والتاريخ خير شاهد. 3 - لم يكن ينقص المسلمين في بغداد العدد والعدة، ولكنه الضعف والهوان والخيانة وبطانة السوء ... ولم يكن المسلمون في (عين جالوت) أكثر عددًا ولا عدة ... ولكنها القوة الإيمانية والشعور بالعزة ورفض الهوان والتبعية، وصدق المشورة وأثر البطانة الصالحة قادت أولئك إلى النصر والغلبة، وعكسها أذل المسلمين وهزمهم في بغداد. 4 - ولم يكن التترُ المنهزمون في عين جالوت أقلَّ عددًا ولا أقلَّ عُدَّة منهم حين دخلوا بغداد .. بل إن انتصاراتهم في بغدادَ والشامِ زادت من قوّتِهم ورفعت من سهامِهم وعاظمت من كبريائِهم، ومع ذلك قاومهم المسلمون في عين جالوت ولم يَهِنوا في مقاتلةِ عدوِّهم حتى مَكَّنهم الله من رقابِهم فردُّوهم على أعقابهم خاسرين، بل أعادوا للمسلمين هيبتَهم وللإسلامِ عزَّه ومجدَه. إخوةَ الإسلام: والتاريخُ عِبَر، والأيامُ دُوَل، وما أشبهَ الليلةَ بالبارحةِ ... واليومَ يجتاح العالمَ الإسلاميَّ غزوٌ تتريٌّ معاصرٌ بهُويّةٍ صليبيةٍ صُهْيونية ... يُعِدُّ لمعركةٍ في بلد حتى إذا أفنى الحرثَ والنَّسلَ انتقل إلى أخرى .. ثم هو يجهِّز الثالثةَ وهكذا، وهو في كلِّ معركةٍ يبحث له عن مبرِّرٍ، ويخدع السُّذجَ

بأسبابِ وأهدافِ الحربِ، ومهما اختلفت وجهاتُ النظرِ في أسباب ضربِ الأمريكانِ للأفغان .. فلا أظنُّها تختلفُ في عدم وجود مبرِّرٍ لها في ضربِ العراق ... وما عَلاقةُ حصارِ العراق وضربِه بأحداث الحادي عشرَ من سبتمبر؟ ومع أن العراقَ حاول قطعَ الطريقِ على أمريكا فسمح للمفتِّشينَ بدخولِ العراق ... إلا أن أمريكا فيما يظهرُ مصرَّةٌ على ضربِ العراق، حتى ولو غنَّى أبناءُ بغداد النشيدَ الوطنيَّ لأمريكا - كما قيل -، ومهما كان نظامُ صدَّام غاشمًا فهل يجيزُ ذلك ضربَ شعبِ العراق واحتلالَ أرضِه ومقدَّراتِه؟ هذا لو كان المخطَّطُ يقف عند حدودِ العراق، فكيف والمخططُ أبعدُ من ذلك؟ وهنا يَرِدُ السؤالُ: ما موقفُ العالمِ الإسلاميِّ من هذا الهجوم الغربي على بلادِ المسلمين؟ وهل يجوز السكوتُ والعالمُ النصرانيُّ وبمؤازرةٍ من اليهود يَعِيثون فسادًا في بلادِ المسلمين؟ وكلما انتَهَوا من معركةٍ استعدُّوا لأختها .. في مخططٍ واسعِ الانتشار بعيدِ الأمد .. من الخطأ والتغفيل أن يوقفَ عند حدود الحادي عشرَ من سبتمبر .. بل هو يُعَدُّ ويُصنَع في دهاليز الساسةِ واللجانِ المتخصصةِ قبل ذلك بسنينَ. فإن قيل: فما الدليلُ؟ أجيب: بأن قانونَ الاضطهادِ الغربيَّ الأمريكيَّ خيرُ برهانٍ. فما الذي يَهدِفُ إليه القانون؟ ومتى صدر؟ لقد صدر القرارُ في أيام (كلنتون) عام 1997 م. وهذا القانون يرفضُ في الواقع الدينَ والثقافةَ والتقاليدَ التي ترى أمريكا أنها عقبةٌ أمام حرّيةِ الأديان؟ ويؤكد القانونُ على أن تتحوَّل الدولُ الإسلاميةُ -بعد سنواتٍ- إلى أن تكونَ دولًا عِلْمانيةً وتنتهجُ سياسةَ المساواةِ في الأديانِ، وتُستبدَلُ وزاراتُ الشئونِ الإسلامية بوزاراتِ الأديان، ويتيحُ القانونُ لأمريكا حقَّ مَنْحِ المساعدات أو الحصارِ حَسَبَ تعاملِ هذه الدول مع الأقلِّيّات الدينية

في بلادِها .. إلى غيرِ ذلك من بنودِ هذا القانونِ الظالم (¬1)، والذي يمارَسُ هو تطبيقُ فصولِه هذه الأيام .. ولكن {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (¬2)، وصدق الله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا، وَأَكِيدُ كَيْدًا، فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (¬3). ¬

(¬1) انظر إلى أسرار قانون الاضطهاد في صحيفة المحايد، العدد 42 في 24/ 8/ 1423 هـ. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 30. (¬3) سورة الطارق، الآيات: 15 - 17.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: أيُّها المسلمون: لقد أصبحَ الإسلامُ وعالَمُه -بعد أحداثِ الحادي عشرَ من سبتمبر- مستهدَفًا من قِبَل الإدارةِ الأمريكيةِ والقُوى الصُّهيونية، وأصبح زعماؤُها يروِّجون لأنواعِ من الاستعمارِ الجديد والهيمنةِ على عددٍ من البُلدانِ الإسلامية، وها هيِ إسرائيلُ اليومَ تحاصرُ الفلسطينيين، بل تحاول أن تجتثَّهم من الوجود، تَهدِمُ بنيانَهم، وتقتلُ أبناءَهم، وتشرِّدُ أطفالَهم ونساءَهم وتستعمرُ أراضيَهم .. بل وفوقَ ذلك فهي تحلُمُ بإسرائيلَ الكبرى -من النيلِ إلى الفُرات- وإن تراجعَتْ هذه الأحلامُ في هذه الأيامِ على أيدي المجاهدين الفلسطينيين حيث باتَ اليهودُ لا يَأمَنون -وهم في داخلِ الأراضي المحتلَّة- على أنفسِهم، وأصبحوا يعيشونَ حالةً من الفزعِ والارتباكِ والوقوعِ في براثن الموت المُتَرصِّد لهم في كل مكان -في وسائلِ النقلِ العام، وفي الحدائقِ العامة، والمجمَّعات التجارية، بل وهم يأكلون أو يَلهُون في حال نومِهم أو يقظتِهم، وفي حال عملِهم أو عُطلتِهم. وذلك مردودٌ إيجابيٌّ لحركةِ الجهادِ والعملياتِ البطوليةِ التي ينفِّذُها أبطالُ المقاومة. أيها المؤمنون: إذا كان ما يصنعُه اليهود جِهارًا نهارًا في الأراضي المحتلّةِ في مقدَّساتِ المسلمين .. فطرَفُ الأفعى الأخرى يمثِّلُها النصارى الذين باتوا يتسلَّلون جِهارًا كذلك لبلادِ المسلمين. وإن ما يجري في أفغانستانَ وفلسطينَ، واستهدافَ العراقِ والسودانَ، والإشارةَ إلى تقسيمِ بعضِ البلدان المجاورةِ وتهديدِها، ما هو إلا بعضُ ما ظهرَ من خفايا الإستراتيجيةِ الأمريكيةِ ونواياها تجاهَ البلدان الإسلامية، وما الهجومُ العنيفُ الذي يَشُنُّه الإعلامُ الأمريكيُّ -هذه الأيامَ- ومِن ورائِه القوى الصهيونيةُ

والنصرانيةُ واليمينية المتطرِّفةُ ضدَّ الإسلامِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم وشعوبِ العالم الإسلاميِّ ودولِه -وفي مقدمتِهم المملكةُ العربيةُ السعودية- إلا فصلٌ من فصولِ تلك الهجمة الشرِسَة. وإن إصرارَ الإدارةِ الأمريكيةِ على استخدام القوة والتعدِّي على دولِ المنطقةِ يعيد إلى الأذهانِ الحَمَلاتِ الصليبيةَ وحِقْبةَ الاستعمار. أيها المسلمون: وإزاءَ ما يجري هذه الأيامَ وما يُخطَّط له في المستقبلِ لا بدَّ من التذكيرِ بالأمور التالية: 1 - الشعور الواعي بما يُراد للأُمةِ المسلمةِ شعوبًا ودولًا، قيمًا واقتصادًا وسياسةً ومصيرًا مظلمًا. 2 - ولا بدَّ من إدراكِ الدوافع وراءَ هذه الحَمَلات العسكرية والإعلامية، والعالمِون يقولون: إن من دوافعِ الإدارةِ الأمريكية لضربِ العراق والعَبَثِ بأمنِ المنطقة العربية، تدميرَ هُويةِ الأمة المسلمة ونشرَ الثقافةِ الغربية في المنطقة، والسيطرةَ على ثرواتِها من بترولٍ وغيرِه، والتغطيةَ على فشلِها في تحقيق أهدافِها التي أعلنَتْها في أفغانستان، وإشغالَ المنطقةِ بالمزيدِ من التوتُّرِ والقلاقل، والحيلولةَ دونَ التنمية، وحمايةَ أمنِ إسرائيل وضمانَ تفوُّقِها في المنطقة، والقضاءَ على الانتفاضةِ المبارَكة التي أقلقت أمنَ إسرائيل وضربتْ اقتصادَها في الصميم. أيها المسلمون: ومن المفارَقاتِ العجيبةِ أن العدوَّ الغاشمَ لا يقيم وزنًا للجثث الهامدةِ من أبناءِ المسلمين، ولا يتورَّعُ عن ضربِ الأطفال الرضَّع والشيوخِ الركَّع السجَّد، والنساءِ الضعيفاتِ العُزَّل، في وقتٍ تقوم شعوبُهَ على تدليلِ الحيوانات والعنايةِ بها إلى حدِّ تقول معه التقاريرُ: يعيش أكثرُ من 60

مليون كلبٍ وقطة مدلَّلةٍ في بيوتِ الأمريكان، وهذا العددُ يقارب عددَ سكان الخليج بثلاثِ مرات. وتقول لغةُ الأرقامِ كذلك: إن المبالغَ المصروفةَ على الكلاب بلغت في بعضِ دول أوروبا إلى 3.45 بلايين جُنيهٍ إسترليني، منها بليونا جنيهٍ ثمنُ طعامها فقط، وباقي المصروفاتِ توزَّعت على أجورِ الأطباء والترفيهِ والتأمينِ ضدَّ الأمراض الذي وصل وحدَه إلى 148 مليون جنيه إسترليني (¬1). قارنوا بينَ ما تَحظَى به الكلابُ من نعيمٍ في بلادِ الغرب، وما تلقاه الشعوبُ المسلمةُ من نَكَالٍ وجحيمٍ على أيدي الغربِ أنفسِهم. تلك حضارتُهم وتلك نظرتُهم لشعوبنا وترفيهُهم لكلابهم؟ 3 - ولا بدَّ للعالَم الإسلاميِّ بشعوِبه وحكوماته -وبإزاءِ هذه الهجمةِ الشَّرِسة- من استشعارِ الخطر والتفكير الجادِّ في الحلول الصادقةِ بَدْءًا من استصلاحِ النفوس وصِدْقِ التوجُّه إلى الله على مستوى الأفرادِ ومرورًا بإعدادِ العُدَّة التي أمر اللهُ المؤمنين بها في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (¬2) على مستوى الدول، ولا بدَّ على مستوى الأُمة من توحيدِ الكلمة وجمعِ الصفوف ونَبْذِ الفُرقةِ والخلافِ والتشرذُم، فتلك أدواءٌ يطربُ لها العدوُّ ويتسلَّل إلى المسلمينَ على جسورِها. 4 - ولا بدَّ أن تدركَ الأمةُ المسلمةُ أن الجهادَ في سبيل الله قَدَرُها وسبيلُ عزَّتها وكرامتِها، وهو السبيلُ لمقاومةِ الغزو التتريِّ المعاصرِ كما كان من قبلُ سبيلَها لمقاومةِ الغزو التتريِّ في الماضي، لا بدَّ أن تَعِيَ الأمةُ المسلمةُ وصيةَ ¬

(¬1) زمن الكلاب: فهد عامر الأحمدي، جريدة الرياض، الخميس 8/ 10/ 1423 هـ. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 60.

نبيِّها محمدٍ صلى الله عليه وسلم حيث قال: «وما تَرَكَ قومٌ الجهادَ في سبيلِ الله إلا ذَلّوا». 5 - ولا بدَّ للأُمة أن تتخلَّصَ من المنافقينَ والأدعياءِ وأدلاَءِ الطريق للعدوِّ .. فأولئك -هم العدوُّ- كما أخبرَ اللهُ، وأولئك لا يريدون للأمةِ إلا توهينَها وضعفَها، ولو خرجوا مع المجاهدينَ ما زادوهم إلا خبالًا ولأوضعوا خلالَهم يبغونَهُم الفتنةَ .. وكم غُزِيَت الأمةُ بالتعاونِ مع هؤلاء، وكم سُلِبت البلادُ بفعل خيانةِ هؤلاء. 6 - ولا بدَّ للعلماءِ والدعاةِ والمفكرين أن يتقدموا الأُمةَ ويضعوا لها الحلولَ الشرعيةَ المناسبة، يُثبِّتَونها في المِحَن ويقودون مسيرتَها في جهادِ الكلمةِ الصادقة الناصحة أولًا، وجهادِ السِّنان وحربِ الأعداء ثانيًا، كما صنع أسلافُهم من قبلُ. 7 - ولا بدَّ للقادةِ والحكام والأمراءِ والمسئولين من تعظيم المسئولية فيما استُؤمِنوا عليه من مسئولياتٍ ومراكزَ، وكلٌّ بحَسَبِه، فالخيانةُ فضيحةٌ في الدنيا -والتاريخ سِجِلٌّ حافظ- والفضيحةُ يومَ القيامة أدهى وأمرُّ حين يُعَرضُ الخلقُ لا تخفى منهم خافيةٌ {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1). أيها المسلمون: اتقوا اللهَ جميعًا وتضرَّعوا إلى خالِقِكم بالنصرِ لكم ولإخوانكم، وجاهِدوا الكفارَ بألسنتِكم وأموالِكم وأنفسِكم، والإسلام اليومَ أمانةٌ في أعناقِنا، وما يَحِيقُ بالشعوبِ المسلمة من ويلاتٍ ومِحَن مسئوليتُنا جميعًا. وما لم يُدفع العدوُّ اليومَ فسيتجاوز غيرَنا إلينا، كما تجاوَزْنا إلى غيرنا، والمؤمنون إخوةٌ والعدوُّ شرِس، والمخطَّط كبير، ومن جاهدَ فإنما يجاهدُ لنفسه. ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 24.

أيها المسلمون: إن مما يَجرَحُ الفؤادَ ويُعظِّم من المُصاب أن المسلمين -وفي مقدمتهم العلماءُ والأمراءُ فضلًا عن العامة وسوادِ الناس- ورغمَ هذه النوازلِ المهدِّدة، والاستعدادِ للغزو والسيطرةِ، لم يُعْطوا الأمرَ ما يستحقُّه من العنايةِ والاهتمام، والتحذيرِ والاستعداد، وكم نحن بحاجةٍ اليومَ أكثرَ مما مضى إلى التعاونِ والمَشُورة وحمايةِ البلادِ والعبادِ من كيدِ الكائدين ومخطَّطات المستعمِرين .. وربُّنا يخبرُنا أن أعداءَنا لا يَرقُبون فينا إلًّا ولا ذِمّةً، وهُم إنْ يثقَفُونا يكونوا لنا أعداءً ويبسطوا إلينا أيديَهم وألسنتَهم بالسوء وودُّوا لو تكفرون. إن التلاومَ حينَ خرابِ الديار لا يُجْدي، والتباكي حين يجوسُ العدوُّ خلالَ الديارِ لن يُنقِذ، وما لم يتحرَّكِ العقلاءُ في وقتِ الرخاءِ والمُهلة فلن يفلحوا إذا حَزَبَت الأمورُ وتوغَّل العدوُّ في الديارِ لا قَدَّرَ اللهُ، والأمةُ الواعية والشعوبُ الأبيّة هي التي تُحصِّنُ نفسَها بما استطاعت من قوةٍ، ثم هي تتوكلُ على بارئها في مقارعةِ المعتدين ومنازلةِ الغاصبين. وإذا لم يكنْ إلا الأَسنَّةُ مَركَبًا ... فما حِيلةُ المضطرِّ إلا ركوبُها ومَن يتوكلَّ على الله فهو حَسْبُه .. ومن ينصرِ الله يَنصرْه، والعاقبةُ للتقوى، وجندُ الله هم الغالبون، والأرضُ لله يُورِثُها من يشاءُ من عباده، والله يُمْلي للظالمِ ولا يُهمِلُه، وكيدُ الكافرين في تَبَاب، ولكن لا بدَّ من تحقيقِ السُّنّة الربانية {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬1). اللهم انصرْ دينَك وعبادَك المسلمين .. اللهم دَمِّرْ أعداءَ الدِّين واجعلْ كيدَهم في نحورِهم .. اللهم احفَظْ على المسلمين أَمْنَهم وإيمانَهم .. وصلِّ اللهم على نبيِّنا محمد. ¬

(¬1) سورة الرعد، الآية: 11.

مصيبة الأمة ونقفور النصارى

مصيبة الأمة ونقفور النصارى (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسوُله. اللهمَّ صلِّ وسلمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعين والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. أيها المسلمون: أخرجَ الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ والنسائيُّ منْ حديثِ خَبْابِ بنِ الأرتِّ رضي اللهُ عنه قالَ: وافيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ صلَّاها كلَّها حتى كانَ معَ الفجر، فسلَّمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم منْ صلاته، فقلتُ: يا رسولَ الله، لقدْ صليتَ الليلةَ صلاةً ما رأيتُك صليتَ مثلَها، قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أجلْ، إنها صلاةُ رَغَبٍ ورَهَب، سألتُ ربي عزَّ وجلَّ فيها ثلاثَ خصالٍ، فأعطاني اثنتينِ ومَنَعَنِي واحدةً، سألتُ ربي عزَّ وجلَّ ألا يهلكَنا بما أهلكَ بهِ الأممَ قبلَنا فأَعْطَانِيها، وسألتُ ربي عزَّ وجلَّ ألّا يُظهرَ علينا عدوًا من غيرِنا فأَعْطَانِيها، وسألتُ ربي عزَّ وجلَّ ألا يُلبسَنا شِيَعًا ويُذِيقَ بعضَنا بأسَ بعضٍ فَمَنَعنِيها». إنَّ هذا الحديثَ وأمثالَه منْ مشكاةِ النبوةِ يُحددُ مَكْمنَ الخطرِ على هذهِ الأُمةِ، فهيَ لنْ تُهْلَكَ بسَنَةٍ بعامَّةٍ كما أُخذتِ الأممُ السابقةُ المكذِّبةُ، ولنْ تُهلكَ وتُجْتَثَّ منْ عدوٍّ خارجيٍّ -مهما كانتْ قوةُ هذا العدوِّ- حتى وإنْ ظفرَ عليها هذا العدوُّ فترةً، وانتصرَ عليها حقبةً من الزمن .. وإنما تؤتى الأمةُ المسلمةُ منْ قِبَلِ ذاتِها ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 23/ 10/ 1423 هـ.

ومنْ داخل صفوفِها، ومنْ هنا فلا بدَّ للأمةِ أنْ تتقيَ اللهَ في ذاتِ نفسِها، وتصلحَ ذاتِ بينها. قال العالمون: إنَّ هذهِ العقوباتِ التي تنزلُ بالمسلمين، وهذهِ الفتنَ التي تحلُّ بهمْ إنما هيَ منْ أنفسِهم وبذنوبِهم، واللهُ يقول: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (¬1). ويقول جلَّ ذكرُه: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (¬2). معاشرَ المسلمين: كمْ نغفلُ عنْ هذا الداء، وكمْ نقعُ فيهِ من أخطاء، ولربما أحالَ كلُّ واحدٍ منا المسئوليةَ على غيره، والتفتَ إلى كلِّ أحدٍ ولمْ يلتفتْ إلى نفسه، والخطأُ واردٌ والتقصيرُ حاصل، لا في العوامِّ بلْ وفي الخاصةِ والعلماء، وليس في الأشرارِ فقط بلْ وفي الأخيارِ وكلٌ بحَسَبهِ، نعمْ، خطأٌ وتقصيرٌ وغفلة على مستوى الرجالِ والنساءِ والأمراءِ والمأمورين، وفي الصغرِ وفي الكبار، وفي الأغنياءِ والفقراءِ وفي البرَّ والبحرِ ولا بدَّ لرفعِ العقوبةِ منْ توبتِنا جميعًا، ومن إنابتِنا جميعًا .. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬3). إنَّ منَ الخطأ البيِّنِ أنْ تُعْزى المصائبُ الواقعةُ بالمسلمينَ اليوم -سواءً كانت أمنيةً أو سياسيةً أو اقتصاديةً أو نحوَها- إلى أسبابٍ ماديةٍ بحتة، وننسى أنَّ وراءَها أسبابًا شرعيةً هي أقوى وأمضى وأكثرُ أثرًا. إنَّ منَ العقلِ تدبُّر الذاتِ وإصلاحَ النفوس، ومنْ أسبابِ رفعِ البلاءِ أنْ يُحدثَ ¬

(¬1) سورة الشورى، الآية: 30. (¬2) سورة النساء، الآية: 79. (¬3) سورة الروم، الآية: 41.

المذنبون لكلِّ عقوبةٍ توبةً، ولكلِّ ذنبٍ استغفارًا، ولكلِّ بليةٍ وبأسٍ رجوعًا إلى اللهِ وتضرعًا {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} (¬1) ومنَ السَّفهِ أن يتمادى المرءُ في المعاصي، واللهُ يمدُّهُ بالنعمِ ويُجزلُ له العطايا، ومنْ مكرِ اللهِ أن يُستدرجَ به وهو لا يعلم، قالَ بعضُ السلفِ: إذا رأيتَ اللهَ يُنعمُ على شخصٍ، ورأيتَ هذا الشخصِ متماديًا في معصيةِ الله، فاعلمْ أن هذا منْ مكرِ اللهِ به وإنهُ دخلَ في قولهِ تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (¬2). لقدْ قصَّرَ المسلمون في محاسبةِ أنفسِهم، وفي تعظيمِ شعائرِ ربَّهم، وتجاوزوا الحلالَ إلى الحرام، وغلبتهمْ الشهواتُ، وتورَّطوا في مستنقعِ الشُّبهاتِ -إلا منْ رحمَ ربُّك- فكانَ تسليطُ الأعداءِ عليهم جزءًا منْ قدرِ اللهِ في عقوبتهِم .. فهلْ يا تُرى يدركونَ مكمنَ الخطأ، وهل يُراجعون أنفسَهم ويرجعوا إلى بارئهم؟ إنَّ اللهَ بحكمتِهِ ورحمتِهِ لهذهِ الأمةِ جعلَ عقوبتَهم على ذنوبِهِمْ ومعاصيهمْ بأنْ يُسلطَ بعضَهم على بعضٍ فيُهلكَ بعضُهمْ بعضًا ويسبي بعضُهمْ بعضًا، كما قالَ تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (¬3). روى البخاريُّ في «صحيحه» عنْ جابرٍ رضيَ اللهُ عنهما قال: لما نزلتْ هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ} قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أعوذُ بوَجْهِك» {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال صلى الله عليه وسلم: «أعوذُ بوجهك» {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} قال صلى الله عليه وسلم: «هذه أهونُ وأَيسرُ». ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 43. (¬2) سورة القلم، الآيتان: 44، 45. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 65.

أيها المؤمنون: لا بدَّ من التعرُّفِ على اللهِ في الرخاءِ وشكرِه في السَّرَّاء، حتى يعرفَنا في الشدةِ ويصبِّرَنا على البلاءِ ويدفعَ عنا الأذى. إنَّ الذي يُنصتُ إلى خطابِ الفِطرةِ في نفسهِ يسمعُ نداءً عميقًا يترجمُ الرغبةَ في معرفةِ من أسدى إلى نعمةَ الوجود .. إنهُ اللهُ الذي خلقَ فسوَّى وقدَّر فهدى .. وحركةُ الخلقِ هذه تحدَّى بها الخالقُ سبحاَنه كلَّ العالمين أن يخلُقوا ولو ذبابًا، ولو اجتمعوا له، أجلْ تقدَّسَ اللهُ وتعاظمَ وتحدَّى بالخلقِ فقال: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (¬1). إنَّ تذكُّرَ العبدِ لقصةِ الوجودِ من عدم، والخلقِ بلا مثالٍ سابقٍ تدعوهُ للإيمانِ واليقينِ والشكرِ والاستقامةِ على الطريقِ المستقيم. وقد قيل: إن الخلقَ مفهومٌ منْ أغربِ مفاهيمِ القرآنِ العظيم، ومنْ أكثرِها استعصاءً على الفهمِ والإدراكِ، وتأملْ أولَ الخليقةِ آدمَ -عليه السلام- وكيفَ خُلِق، ترى عجبًا ما بعدَهُ عجب .. فكيفَ صنعَ اللهُ منَ الطينِ بشرًا سوِّيًا يفيضُ جمالًا وحيوية، عجبًا عجبًا! ! وكيفَ كانتْ كُتَلُ الطينِ في جسمِ آدمَ تتحولُ إلى شرايينَ وشعيراتٍ دمويةٍ وعظامٍ ولحمٍ طري، عجبًا عجبًا! ! كيفَ تحوَّل الصَّلصالُ في مَحَاجرهِ -عليه السلام- بصرًا يَبْرُقُ ويشعُّ بنورِ الحياةِ ويرى الألوانَ والأشياءَ، ويسيلُ بالدموعِ فرحًا وحزنًا، عجبًا عجبًا! ! كيفَ تخلّقَ الترابُ في جمجمتهِ دماغًا مائعًا متكوِّنًا منْ ملايينِ الخلايا اللطيفةِ الحساسة، تجري شعيراتُها بالدم الدَّافِقِ، وتختزنُ ملايينَ المعلوماتِ والذكريات، وتتأهَّبُ للتفكيرِ في أدقِّ الخطراتِ والنظرات؟ ! ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 17.

ثمَّ تأملْ في مشهدِ الخلقِ الآخرِ في النبات، وكيفَ جعلَ من الطينِ والماءِ نباتًا جميلًا، فصارتْ له أزهارٌ تملأُ الأنوفَ عبيرًا أخَّاذًا، وثمارًا تملأُ القلوبَ بهجةً وجمالًا، ذلكَ هو الخلقُ العجيبُ وذلكَ هو الخلاقُ العليم، ومن هنا استحقَّ العبوديةَ والطاعة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1). إنّ معرفةَ اللهِ تبدأُ بالشعورِ بالفرحِ بهِ تعالى ربًا خالقًا، والأُنسِ بهِ سبحانه إلهًا رحيمًا، فيمتلئُ القلبُ شوقًا إليه، ثمَّ تنشطُ الجوارحُ للسيرِ إلى بابهِ الكريم، والعروجِ إلى رضاه، عبرَ مدارجِ السالكين ومنازلِ السائرين، وكلما ازدادتْ معرفتهُ باللهِ زادَ أُنسهُ به، وكلَّما تعرفَ عليهِ زادَ في محبَّتهِ وطاعتهِ، وويلٌ لمن جهلَ ربَّه أو نسيَ ذكرَه، أو بارزَهُ بالمعصية، فذاكَ الذي يسيرُ في أرضٍ فلاةٍ مهلكةٍ، ولنْ يبالِ اللهُ به في أيِّ وادٍ هَلَكَ. إخوةَ الإسلام: فإنْ قيل: فما السبيلُ للخروجِ من المأزقِ الذي تعيشُه الأمةُ؟ 1 - لا بدَّ أنْ تتنادى الأمةُ عمومًا، وأخيارُها على الخصوصِ للنظرِ في هذهِ الأزمةِ والتشاورِ في المخرجِ منها، ومؤلمٌ أنْ يستنفرَ الأعداءُ قواهمْ والمسلمونَ غارقونَ في لهوهِمْ، غافلونَ عما يُرادُ بهم. 2 - لا بدَّ منَ التعلُّق بأسبابِ النجاةِ منَ الإيمانِ واليقينِ والتوكلِ، فاللهُ يقول: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬2) ويقول: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (¬3)، ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيتان: 21، 22. (¬2) سورة الطلاق، الآية: 3. (¬3) سورة الطلاق، الآية: 2.

فالتقوى والتوكلُ على اللهِ وصيَّتانِ منَ اللهِ، وهما مخرجٌ منَ الأزمات. 3 - ولا بدَّ أنْ نعتقدَ بأنَّ الإيمانَ سببٌ للأمن، وأنَّ الشركَ سببٌ للرُّعْب، تجدونَ ذلك في الكتاب العزيز {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (¬1) وعن الأخرى {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} (¬2). 4 - والاجتهاداتُ في العبادةِ سببٌ لتثبيتِ العبدِ وتوفيقِه على كلِّ حال، ولا سيَّما في أوقاتِ الفتنِ، ووصيةُ الرسولِ الكريمِ صلى الله عليه وسلم لنا: «بادِروا بالأعمالَ فِتَنًا كقطعِ الليلِ المُظلمِ، يُصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويُمسي كافرًا .. » الحديث. 5 - للنصر أسبابٌ؛ منها: أ- نصرُ دينِ الله {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} (¬3). ب- الصبرُ، قال صلى الله عليه وسلم: «واعلمْ أنَّ النصرَ معَ الصَّبرِ». ج- العدلُ، فاللهُ يقيمُ الدولةَ العادلةَ وإنْ كانتْ كافرةً، ولا يقيمُ الظالمةَ وإنْ كانتْ مسلمةً، كذا قررَ العلماءُ. د- ومنها اجتماعُ الكلمةِ وتوحيدُ الصفِّ: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (¬4). 6 - ولتسليطِ الأعداءِ أسبابٌ: ومنها: معاداةُ أولياءِ الله، قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ في الحديثِ القدسيِّ: «مَنْ عادى لي ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 82. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 151. (¬3) سورة الحج، الآية: 40. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 46.

وليًّا فقدْ آذَنْتُ بالحربِ» رواهُ البخاري. ومنها: أكلُ الربا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬1). والذنوبُ عمومًا سببٌ للبلاءِ وتسلطِ الأعداء، والاشتغالُ بتوافهِ الأمورِ وضعف الهممِ عن المعالي سببٌ لضياعِ الأمةِ وتسليطِ العدو، وفي هذا يقولُ ابنُ القيم في «مدارج السالكين» -والذي شاهدناهُ نحنُ وغيرُنا وعرفناهُ بالتجاربِ-: أنهُ ما ظهرتِ المعازفُ وآلاتُ اللهوِ في قومٍ، وفشتْ فيهمْ واشتغلوا بها، إلا سلّطَ اللهُ العدوَّ، وبُلوا بالقحطِ والجدبِ وولاةِ السوءِ» (¬2). مؤلمٌ يا عبادَ الله، حين يشتغلُ المسلمونَ بالكأسِ والغانيةِ، وما يُسمى بالفنِّ والرياضة، ويشتغلُ غيرُهمْ بتصنيعِ السلاحِ والتدريبِ على حربِ المسلمين بأنواع الأسلحةِ الفتَّاكةِ. 7 - لا بدَّ من تقويةِ شعيرةِ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكر، ولا بدَّ منْ تعميقِ الاحتسابِ في الأمة، والتجديدِ في أساليبِ الدعوةِ إلى اللهِ حتى يعمَّ الخيرُ ويتقلَّصُ المنكرُ، ولا بدَّ لكلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ أنْ يقومَ بواجبِهِ في هذا الميدان. 8 - والدعاءُ سلاحٌ يصلُنا بربِّنا ويُرهبُ أعداءنا، وهوَ سهلُ الكلفةِ عظيمُ الأثر، بلْ طريقُ النصر؛ «هلْ تُنصرونَ وتُرزقونَ إلا بضعفائِكم؟ ! » (¬3). وكمْ نحنُ بحاجةٍ للدعاءِ في كلِّ حين .. ولا سيَّما في وقتِ الشدائدِ والأزمات، فهوَ الذي يجيبُ المضطرَّ إذا دعاهُ ويكشفُ السوءَ ويجعلكمْ خلفاءَ الأرضِ. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيتان: 278، 279. (¬2) 1/ 500. (¬3) رواه البخاري.

اللهمَّ فارجَ الهمِّ كاشفَ الغمِّ سميعَ الدعاء، اللهمَّ إنا نستغفركَ منْ ذنوبِنا فاغفرْ لنا، ونستنصرُكَ على عدوِّنا فانصرْنا، ونسألكَ كشفَ الغُّمةِ عنْ أمتِنا وإخوانِنا، ونسألك أنْ تحبطَ كيدَ الكافرين وأنْ تكشفَ خَبَثَ المنافقين، وأنْ تجعلَ الدائرةَ على الكافرين، والعاقبةَ للمؤمنين {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (¬1). أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكمْ ولسائرِ المسلمين، فاستغفروهُ وتوبوا إليهِ يغفرْ لكم. ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 286.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ للهِ القويِّ العزيز، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ الرحمنُ الرحيمِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه جاهدَ في اللهِ حقَّ جهادِه حتى جاءَهُ اليقينُ، فالصلاةُ والسلامُ عليهِ وعلى سائرِ النبيينَ والمرسلين. إخوةَ الإسلام: ومنْ سُننِ اللهِ الكونيةِ أنَّ اللهَ يُديلُ على المسلمينَ أعداءهم إذا همْ خالفوا أمرَه، وحادوا عنْ شريعتِه، وكَثُر فيهم الفسوقُ والعصيان، وانتشرتِ البدعُ وكانوا شِيَعًا وأحزابًا .. تلكَ سنةٌ ماضيةٌ تتجدَّدُ. وإليكمْ توصيفًا لحالِ المسلمينَ ووَهْنِهم ونهبِ بلادِهم وقتلِ رجالهِم ونسائِهم، والسخريةِ بدينهِم ونبيِّهم عليهِ الصلاةُ والسلام، بلْ وتهديدِ مقدساتِهم على يدِ أحدِ ملوكِ النصارى، الذي قالَ عنهُ ابنُ كثير: كانَ هذا الملعونُ أشدَّ الملوكِ كفرًا وأغلظَهم قلبًا وأقواهُم بأسًا وأحدَّهم شوكةً، وأكثرَهم قتلًا وقتالًا للمسلمينَ في زمانِه .. فمنْ يكونُ هذا الملكُ النصراني؟ وماذا صنعَ ببلادِ المسلمين؟ قال ابنُ كثيرٍ في «البداية والنهاية»: وفي سنةِ ثنتين وخمسينَ وثلاثِ مئةٍ ماتَ ملكُ الأرمن، واسمه النُّقْفُور، وهوَ الذي استحوذَ في أيامه- لعنهُ اللهُ- على كثيرٍ منَ السواحل، وأكثرُها انتزعَها من أيدي المسلمينَ قَسْرًا، واستمرتْ في يدهِ قهرًا، وأضيفتْ إلى مملكةِ الروم قدرًا .. ثمَّ قالَ ابنُ كثير- مُشخصًا حالَ المسلمينَ وموضحًا أسبابَ ذلِّهم وهزيمتهم-: وذلك لتقصيرِ أهلِ ذلك الزَّمان، وظهورِ البِدَعِ الشَّنيعِة فيهم وكثرة العصيانِ منَ الخاصِّ والعامِّ منهم، وفُشُوِّ البدعِ فيهم، وكثرةِ الرفضِ والتشيعِ منهم وقهرِ أهلِ السنةِ بينهم، فلهذا أُدِيلَ عليهمْ أعداءُ الإسلام فانتزعوا ما بأيديهم منَ البلادِ معَ

الخوفِ الشديد ونكدِ العيشِ والفرارِ من بلادٍ إلى بلاد، فلا يبيتونَ ليلةً إلا في خوفٍ من قوارعِ الأعداءِ وطوارقِ الشرورِ المترادفة، والله المستعان. وقد وردَ (حلب) في مائتي ألف مقاتلٍ بغتةً في سنةِ إحدى وخمسينَ وثلاثِ مئة، وجالَ فيها جولةً ففرَّ منْ بينِ يديهِ صاحبُها سيفُ الدولةِ، ففتَحها اللعينُ عنوةً، وقتلَ منْ أهلها من الرجالِ والنساءِ ما لا يعلمهُ إلا اللهُ، وأخذَ أموالَها وحواصلَها وبدَّدَ شملَها .. وبالغَ في الاجتهادِ في قتالِ الإسلامِ وأهلِه، وجدَّ في التشمير، فالحكمُ للهِ العليِّ الكبير. وقد كانَ- لعنهُ الله- لا يدخلُ في بلدٍ إلا قتلَ المقاتلةَ وبقيةَ الرجالِ وسبى النساءَ والأطفالَ، وجعلَ جامعتَها إصطبلًا لخيولِه. ولمْ يزلْ ذلكَ من دأبهِ حتى سلَّطَ اللهُ عليهِ زوجتَهُ فقتلتْهُ بجواريها في وسطِ مسكنهِ، وأراحَ اللهُ منهُ الإسلامَ وأهلَه. أما أطماعُه وتطلعاتُه وعتوُّهُ واستكبارُه، فقد بلغتْ حدًّا كتبَ معه إلى الخليفةِ المطيعِ للهِ بقصيدةٍ تعرضَ فيها لسبِّ الإسلامِ والمسلمينَ، وتوعدَ فيها أهلَ حوزةِ الإسلام، بأنهُ سيملكُها كلَّها- حتى الحرمين الشريفين- عمّا قريب، قالَ ابنُ كثيرٍ رحمه الله: وهوَ أقلُّ وأذلُّ وأخسُّ وأضلُّ من الأنعام، ويزعمُ الخبيثُ أنهُ ينتصرُ في هذهِ القصيدةِ لدينِ المسيحِ- عليهِ السلام- وربما يعرِّضُ فيها بجنابِ الرسول صلى الله عليه وسلم. وحيثُ نقلَ ابنُ كثيرٍ هذه القصيدةَ بطولِها .. فأنقلُ لكمْ شيئًا منها يكفي للعلوِّ والاستكبارِ والسخرية والاستهزاء .. ومما جاءَ فيها قولُ ناظِمها على لسانهِ: سألقى جيوشًا نحوَ بغدادَ سائرًا ... إلى باب طاق حيث دار القماقم وأحرقُ أعلاها وأهدمُ سورَها ... وأسبي ذرارِيها على رغمِ راغمِ وأسري بجيشٍ نحو الأهوازِ ... مسرعًا لإحرازِ ديباجٍ وخزِّ السواسم وأشعلُها نهبًا وأهدُم قصورَها ... وأسبي ذرارِيها كفعلِ الأقادمِ

ومنها إلى شيرازَ والريَّ فاعلموا ... خراسانَ قصري والجيوش بحازمِ وسابورَ أهدمُها وأهدمُ حصونَها ... وأوردُها يومًا كيومِ السمائمِ وكرمانَ لا أنسى سجستانَ كلَّها ... وكابُلَها النائي وملكَ الأعاجمِ أسيرُ بجندي نحوَ بصرتِها التي ... لها بحرٌ عجاجٌ رائعٌ متلازمِ إلى واسطَ وسطَ العراقِ وكوفةٍ ... كما كان يومًا جندُنا ذو العزائمِ وأخرجُ منها نحو مكةَ مُسرعًا ... أجرُّ جيوشًا كالليالي السواجمِ إلى قوله: أعودُ إلى القدسِ التي شُرفت بنا ... بعزٍّ مكينٍ ثابتِ الأصل قائمِ وأعلو سريري للسجودِ معظمًا ... وتبقى ملوكُ الأرضِ مثلَ الخوادمِ هنالكَ تخلو الأرضُ منْ كلِّ مسلمٍ ... لكل تقيِّ الدين أغلفِ زاعمِ إلى أن يقول: سأفتحُ أرضَ اللهِ شرقًا ومغربًا ... وأنشرُ دينًا للصليبِ بصارمي فعيسى علا فوقَ السماواتِ عرشُهُ ... يفوزُ الذي والاهُ يومَ التخاصُمِ وصاحبُكمْ بالتربِ أودى به الثرى ... فصارَ رفاتًا بينَ تلكَ الرمائمِ (¬1) وهنا يردُ السؤال .. هل تحققَّ لهذا الصليبي حُلمُه؟ وكيفَ كانتْ نهايته؟ لقدْ كفى اللهُ المسلمينَ شرَّه، وحمى بلادَ الحرمينِ منْ صُلبانه، وماتَ ولمْ يحققْ أهدافَه، وشاءَ اللهُ أنْ يميتَه بأقربِ الناسِ إليه، وقتلَهُ أحدُ الضعيفين، ومنْ مأمنهِ جاءَهُ ما يَحذرُ، وكانتْ نهايتُهُ على يدِ زوجتهِ وفي بيته، قالَ ابن كثير: وما زالَ هذا المستكبرُ متسلِّطًا حتى سلَّطَ اللهُ عليهِ زوجتَهُ فقتلَتْهُ بجواريها في وسطِ مسكَنِه، وأراحَ اللهُ منهُ الإسلامَ وأهلَه (¬2). ¬

(¬1) البداية والنهاية 11/ 275، 276. (¬2) المصدر السابق 11/ 273.

أيها المسلمون: ونوقنُ- نحن المسلمين- أنَّ اللهَ يُملي للظالمِ حتى إذا أخذَهُ لم يفلِتْه، ونقرأُ في كتابِ ربِّنا: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (¬1). ولكنا نقرأُ في مقابلِ ذلكَ خطابَه تعالى للمؤمنينَ بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬2). ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 58. (¬2) سورة المائدة، الآية: 54.

أشج بني أمية ومجيبها

أشجُّ بني أمية ومجيبها (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدهِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلمْ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عنِ الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ وتابعيهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ وسلمْ تسليمًا كثيرًا. أيها المسلمون: في تأريخِنا مفاخرُ العلماءِ، وعدلُ الأمراءِ، وزهدُ النُّبلاءِ .. ولكنْ ماذا عنْ مَن جمعَ هذهِ المكارمَ كلَّها؟ ! طلب العلمَ في صباهُ فقادَهُ العلمُ إلى الخشيةِ والرضا واليقين، وكانَ به وريثَ الأنبياء، وتولى إمرةَ المدينةِ فكانَ نعمَ الأميرُ لها، ثمَّ تولى الخلافةَ فملأَ الأرضَ عدْلًا وبرًا وإحسانًا، أطبقَ ذكرُهُ في الخافقين، وملأتْ محبتُه قلوبَ المسلمين، وشهدَ له بالخيريةِ والصلاحِ غيرُ المسلمين، إنهُ الخليفةُ الزاهد، والعالمُ الراشد، أشجُّ بني أميةَ ونجيبُها عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ بنِ مروانَ رحمهُ اللهُ. كانَ حسنةً من حسناتِ سليمانَ بنِ عبدِ الملكِ- رحمهُ الله- حيثُ خصَّهُ بالخلافةِ متجاوزًا نمطَ الولايةِ لأبناءِ الخليفةِ ثمَّ أبناءِ أبنائِه. وكانَ منقبةً من مناقبِ العالمِ والوزيرِ والمستشارِ الناصحِ رجاءَ بنِ حَيْوَيةَ رحمهُ الله .. حيثُ أشارَ على سليمانَ بكتابةِ العهدِ إلى عمرَ من بعدِه. ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 29/ 10/ 1423 هـ.

أيها المؤمنون: وهلْ تعلمونَ أنَّ هذا الخليفةَ الذي ملأ الأرضَ عدلًا وذكرًا حسنًا ماتَ ولمْ يبلغِ الأربعين منْ عُمُره؟ وما يَضِيرهُ أنْ دفعَ حياتَه ثمنًا للعدلِ وإحقاقِ الحقِّ، وما بلغتْ خلافتُه ثلاثَ سنين؟ تقلّبَ في حياةِ النعيمِ، فما غرّهُ زهرةُ الدنيا عنْ نعيمِ الآخرة، وتربعَ على مناصبِ الوزارةِ والإمارةِ والخلافةِ فما داخلَهُ العجْبُ ولا فتنةُ الكبرياء، بلْ كانَ سيدَ العابدين، وإمامَ الزاهدين، ونموذجَ القانتين، أتتْهُ الخلافةُ على كُرهٍ منه، فاستشعرَ المسئوليةَ وأدّى الأمانةَ، ونصحَ للأمة، وطوّفَ بالإسلامِ في مشرقِ الأرضِ ومغربِها .. وشهدَ على عدلِه البَرُّ والفاجرُ، وأشادَ به أهلُ الكتابِ فضلًا عن المسلمين. كانَ لتربيتهِ في الصغر أثرٌ في حياتِهِ في الكِبَر. وقدْ أحسنَ والدُه اختيارَ أمِّه- والعرقُ دسَّاسٌ، والعزُّ في أوراك النساء، كما يُقال- وأمُّهُ منْ بيتِ عمر الفاروقِ رضيَ الله عنه؛ فهيَ أمُّ عاصمٍ بنتِ عاصمِ بنِ عمرَ بنِ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهمْ أجمعين، فعمرُ جدُّه لأمهِ، ووالدُه عبدُ العزيزِ بنُ مروانَ حينَ أرادَ أنْ يتزوجَ أمَّ عمرَ بنِ عبدِ العزيز قالَ لقيِّمه: اجمعْ لي أربعَ مئةِ دينار منْ طيِّبِ مالي، فإني أريدُ أنْ أتزوجَ إلى أهلِ بيتٍ لهمْ صلاح، فتزوجَ أمَّ عمر، وهكذا «فاظفرْ بذاتِ الدينِ تَرِبتْ يداك» (¬1). معاشرَ المسلمين: والحديثُ يطولُ عنْ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ العالمِ الرباني، والخليفةِ الزاهد، والمجاهدِ الشهيد .. ولكنْ دعونا نقفُ على معالمَ مضيئةٍ من جوانبِ سيرتهِ تتمثل في ما يلي: أولًا: أثرُ التربية .. لاشكَّ أنَّ اللهَ هو الهادي والموفقُ منْ شاء، ولكنْ لتربيةِ الوالدينِ وعنايتهمْ بالولدِ أثرًا لا يُنكر .. وليسَ يخفى أنَّ الغلامَ عمرَ أذنَ لهُ والدُه ¬

(¬1) ابن سعدن الطبقات 5/ 331.

بالخروجِ منْ دارِ الإمارةِ بمصرَ- حيثُ كانَ أبوه أميرًا على مصرَ- وتوجَّه إلى دارِ الهجرةِ والعلمِ، المدينة، وبها عكفَ على العلمِ وتأدبَ بأدبِ العلماء، فاشتهرَ بالعلمِ والعقلِ مع حداثةِ سِنِّه .. وللعلمُ نورٌ وبركةٌ لا تُخفى. وحينَ بعثَهُ أبوهُ إلى المدينةِ ليتعلمَ ويتأدبَ بها، كتبَ إلى صالحِ بن كيسانَ يتعاهَدُه، وكان يُلزمه الصلوات، فأبطأ يومًا عنِ الصلاة، فقال: ما حَبسكَ؟ قال: كانت مُرجِّلتي تُسكِّن شعري، فقال: بلغَ منْ تسكينِ شعركَ أنْ تؤثرَه على الصلاة؟ وكتبَ بذلكَ إلى والده، فبعثَ والدُه رسولًا إليه، فما كلّمه حتى حلقَ شعرَه (¬1). وهكذا شأنُ التربية، وكذلكَ تكونُ العنايةُ بالصلاةِ على وجهِ الخصوص. ثانيًا: عمرُ وزيرُ صدقٍ يعظُ الخليفةَ ويبكيهِ وينصح للرعية؛ حينَ وليَ سليمانُ بنُ عبدُ الملكِ الخلافةَ قالَ لعمرَ بنِ عبدِ العزيز: أبا حفص، إنَّا وُلينا ما قدْ ترى، ولمْ يكنْ لنا بتدبيرِه علْمٌ، فما رأيتَ منْ مصلحةِ العامةِ فمُرْ به. فكانَ من ذلك عزلُ عُمالِ الحجّاج، وأُقيمتِ الصلواتُ في أوقاتها بعدما كانتْ أُمِيتَتْ عنْ وقتِها، معَ أمورٍ جليلةٍ كانَ يسمعُ منْ عُمرَ فيها .. وفي إحدى السنواتِ حجَّ سليمانُ فرأى الخلائقَ بالموقف فقالَ لعمرَ: أما ترى هذا الخلقَ الذي لا يُحصي عددَهم إلا اللهُ؟ قال (عُمر): هؤلاءِ اليومَ رعيتُك، وهمْ غدًا خُصماؤُك، فبكى (الخليفةُ) بكاءً شديدًا. قال الذهبي: كانَ عمرُ لسليمانَ وزيرَ صِدْقِ (¬2). وهكذا ينبغي أنْ يكونَ المستشارون وكذلكَ يكونُ الوزراءُ الناصحون. ¬

(¬1) الذهبي، سير أعلام النبلاء 5/ 116. (¬2) السير 5/ 135.

ثالثًا: عُمرُ وَهَمُّ الأمةِ .. وُلِّيَ عمرُ الخلافةَ وهوُ لها كاره، فاستعانَ باللهِ، وأعانه. وإذا نظرَ غيرُ عمرَ إلى المسئوليةِ على أنها مغنمٌ فقدْ رأها الخليفةُ عمرُ مغرَمًا .. ومسئوليةً وهمًّا .. وطالما بكى- وحقَّ له البكاء- لعظمِ الحمالةِ التي يحملها .. وهذه زوجتهُ فاطمةُ بنتُ عبدِ الملك- رحمَها الله- تقول: دخلتُ على عمرَ وهوَ في مُصلاه واضعًا يدَهُ على خدِّه، سائلةً دموعَه، فقلتُ: يا أميرَ المؤمنين: ألشي حدَث (تبكي)؟ ! قال: يا فاطمةُ، إني تقلدتُ أمرَ أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فتفكرتُ في الفقيرِ الجائع، والمريضِ الضائع، والعاري المجهودِ، والمظلومِ المقهور، والغريبِ المأسور، والكبيرِ وذي العيال في أقطارِ الأرض، فعلمتُ أنَّ ربي سيسألُني عنهم، وأنَّ خصمَهم دونَهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فخشيتُ ألا تثبتَ لي حُجَّةٌ عندَ خصومتهِ، فرحمتُ نفسي فبكيت (¬1). رابعًا: ممَّ يخافُ عمر؟ في ترجمةِ عمرَ خوفٌ وبكاء، وتحسبٌ واعٍ ليومِ المعاد، فما كانَ يخافُ ذهابَ الملك منْ يده .. وهو الذي قبلَ الخلافةَ على كُرْه، وما كانَ عمرُ يرهبُ الموتَ لذاتِ الموت، فقدْ كانَ يراهُ سُنةً ماضيةً في الأولينَ والآخرين (¬2)، وحينَ طلبَ منهُ نفرٌ أنْ يتحفظَ في طعامه، ويسألونهُ أنْ يكونَ لهُ حرسٌ إذا صلى، لئلا يُقتلَ غِيْلةً، وسألوهُ أن يتنحَّى عن الطاعون، ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 5/ 131، 132. (¬2) وهو القائل: من كان حين تصيب الشمس جبهته أو الغبار يخاف الشين والشعثا ويألف الظل كي تبقى بشاشته فسوف يسكن يومًا راغمًا جدثًا في قعر مظلمة غبراء موحشة يطيل في قعرها تحت الثرى اللبثا تجهزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثًا

ويخبرونهُ أنَّ الخلفاءَ قلَبه كانوا يفعلون ذلك. أجابَهم عمرُ قائلًا: فأينَ هؤلاء؟ فلما أكثروا عليهِ (التحوطَ) قال: اللهمَّ إنْ كنتَ تعلمُ أني أخافُ يومًا دونَ يومِ القيامةِ فلا تُؤمِّن خوفي (¬1). لقدْ تكاثرَ الشهودُ على خوفِ عمرَ منَ الله، فهذا مزيدُ بنُ حَوْشَبٍ يقول: ما رأيتُ أخوفَ من الحسينِ وعمرَ بنِ عبدِ العزيز، كأنَّ النارَ لمْ تخلقَ إلا لهما (¬2). ومكحولٌ يقول: لو حلفتُ لصدقت، ما رأيتُ أزهدَ ولا أخوفَ للهِ منْ عمرَ بنِ عبد العزيز (¬3). وقالتْ زوجتُهُ فاطمة: حدَّثنا مغيرةُ أنهُ يكونُ في الناسِ مَنْ هوَ أكثرُ صلاةً وصيامًا من عُمرَ بن عبدِ العزيز، وما رأيتُ أحدًا أشدَّ فرَقًا منْ ربِّه منه، كانَ إذا صلى العشاءَ قعدَ في مسجده، ثمَّ يرفعُ يديهِ يبكي حتى تغلبَهُ عينُه، يفعلُ ذلكَ ليلَه أجمعَ (¬4). وعنْ عطاءٍ قال: كانَ عمرُ بنُ عبدِ العزيز يجمعُ كلَّ ليلة الفقهاءَ، فيتذاكرونَ الموتَ والقيامةَ والآخرةَ ويبكون (¬5). وهكذا فمنْ كانَ باللهِ أعرفُ كانَ منهُ أخوفُ .. ومنْ خافَ في الدنيا أمِنَ في الآخرة، ومنْ خافَ أدْلجَ، ومَنْ أدلجَ بلغَ المنزلةَ. خامسًا: عمرُ وسياسةُ الأمةِ واستغناءُ الفقراء: ما كانَ خوفُ عمرَ سلبيًا. وما ¬

(¬1) الطبقات 5/ 398. (¬2) الطبقات 5/ 398. (¬3) سير أعلام النبلاء 5/ 137. (¬4) سر أعلام النبلاء 5/ 137. (¬5) السير 5/ 138.

أضاعَ عمرُ رعيته إذْ زهدَ وبكى وخافَ ربَّه، بلْ ترجمَ الخوفَ إلى عملٍ وأنتجَ زهدُ عمر زهدًا في الأمة .. وحينَ عفَّ عمرُ عفتْ رعيتُه. وإن كان الفقراءُ قد استغنوْا في خلافتهِ حتى جعلَ الرجلُ يأتي بالمالِ العظيمِ فيقول: اجعلوه حيثُ شئتم، فما يبرحُ حتى يرجعَ بمالهِ كلِّه، وذلكَ أنَّ عمرَ قدْ أغنى الناسَ .. فما عادَ محتاج، فالمتأملُ في خلافتهِ يرى أنَّ مواردَ الدولةِ ما زادتْ إلى حدٍّ يستغني معهُ كلُّ الناس، بل نقصَ منْ مواردِ بيتِ المال ما كانَ يؤخذُ منْ جزيةٍ على النصارى الذين أسلموا، وحينَ كتبَ إلى عمرَ عاملُه على مصرَ يقول: إنَّ أهلَ الذمةِ قدْ شرعوا في الإسلامِ وكسروا الجزيةَ، فكتبَ عمرُ يقول: إنَّ اللهَ بعثَ محمدًا داعيًا ولمْ يبعثْهُ جابيًا، فإذا أتاكَ كتابي فإنْ كانَ أهلُ الذمةِ أشرعوا في الإسلامِ وكسروا الجزيةَ فاطوِ كتابَك وأقبلْ (¬1). أجلْ، لقدْ كانَ لزهدِ عمرَ في الدنيا ونزاهتِه في أموالِ المسلمين، ولقدْ سرتْ نزاهتُهُ على ولاته .. وسرى الزهدُ في أهلِ بيتِه .. وألزمَ عشيرتَه مما ألزمَ بهِ نفسَه .. ولمْ يقبلِ الشفاعةَ فيما أخذَ الأمةَ بهِ منَ العدلِ وإحقاقِ الحقِّ، ولقدْ فزعتْ بنو أميةَ وضجروا مما ألزمَهُمْ به منْ ردِّ المظالمِ وسياسةِ المال، حتى وسَّطوا عمَّتَه فاطمةَ بنتَ مروان، فقدَّرَ لها رحِمَها وحقَّها، ولكنهُ أبانَ لها عنْ سياستِهِ وعظيمِ مسئوليته، وما زالَ يُحدِّثُها حتى قالت: حَسْبُكَ، فلستُ بذاكرةٍ لكَ شيئًا، ورجعتْ إلى بني أميةَ وأبلغتْهم رسالتَه (¬2). أجل، ما كانَ عمرُ رحمهُ اللهُ يأمرُ عشيرَتَهُ بشيءٍ ويخالفُه .. وحَسْبُكَ أنْ تعلمَ رصيدَهُ قبلَ الخلافةِ وبعدَها، وهذا أحدُ أبنائِهِ عبدُ العزيِز بنُ عمرَ يقول: دعاني ¬

(¬1) السير 5/ 147. (¬2) السير 5/ 129.

المنصورُ أبو جعفرَ فقال: كمْ كانتُ غلةُ عمرَ حينَ استُخلِف؟ قلتُ: خمسونَ ألف دينار، قال: كمْ كانتْ يومَ موته؟ قلتُ: مائتا دينار (¬1). مات الخليفة وكان آخر آية قرأها قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]. حدثت زوجته فاطمة عن آخر لحظاته فقالت: كنتُ أسمع عمر في مرضه يقول: اللهم اخف عنهم أمري ولو ساعة، قالت فقلت له: ألا أخرج عنك فإنك لم تنم، فخرجت فجعلت اسمعه يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} مرارًا، ثم أطرق، فلبث طويلًا لا يسمع له حسٌّ، فقلت لوصيف كان يخدمه، ويحك انظر، فلما دخل صاح، فدخلت فوجدته ميتًا، قد أقبل بوجهه إلى القبلة وغمضّ عينيه بإحدى يديه وضمَّ فاه بالأخرى (¬2). ¬

(¬1) الحلية 5/ 258، والسير 5/ 134. (¬2) (حلية الأولياء 5/ 335، السير 5/ 141).

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، يُعزُّ منْ يشاءُ ويُذلُّ منْ يشاء، ويهدي منْ يشاءُ ويضلُّ منْ يشاءُ وهوَ العليمُ الحكيم، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، إذا أحبَّ عبدًا نشرَ محبَّته بينَ خلْقِه، ومنْ هَتَكَ أستارَ اللهِ وتعدَّى على محارمِهِ فَضَحَهُ اللهُ في الدنيا، والفضيحةُ في الآخرة أشدُّ وأنكى، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه إمامَ المتقينَ وسيدَ العابدين، وقائدَ المجاهدين، وخيرةَ الخلقِ أجمعين، اللهمَّ صلِّ وسلمْ عليهِ وعلى سائرِ النبيينَ والمرسلين. إخوةَ الإسلامِ: وسياسةُ عمرَ بنِ عبدِ العزيز للأمةِ لمْ تكنْ بالغلظةِ والشدة، بلْ كانَ يجتهدُ في مُدَاراتِهم حتى قال: لو أقمتُ فيكمْ خمسينَ عامًا ما استكملتُ فيكمُ العدلَ، إني أُريدُ الأمرَ من أمرِ العامَّةِ، فأخافُ ألا تحملَه قلوبُهم، فأخرجُ معه طمعًا منْ طمعِ الدنيا، فإنْ أنكرَتْ قلوبُكُم هذا سكنتُ إلى هذا (¬1). سادسًا: أهلُ الكتابِ يشهدونَ لعمرَ بنِ عبدِ العزيز: لم يكتفِ عمرُ بالإحسانِ إلى أهلِ الإسلام، بلْ شملَ بعدلِهِ وإحسانِهِ أهلَ الكتاب .. ولم يكنْ إحسانُ عمرَ لأهلِ الكتابِ مصانعةً، أو تبعيةً لهم، لكنها الجديةُ في الدعوةِ والعدلُ في المعاملة؛ فمن أسلمَ رفعَ عنه الجزيةَ. ومنْ أعرضَ أو جهلَ الإسلامَ بعثَ لهُ بالدعوةِ للدينِ الحقِّ .. ولقدْ بعثَ عمرُ وفدًا إلى (قيصر) يدعوهُ إلى الإسلام، فتهيأَ للوفد، وأقامَ البطارقةَ على رأسه، ثمَّ استدعى واحدًا من وفدِ عمرَ إليه، وأخبرهُ أنَّ أحدَ رجالِهِ كتب إليهِ يقول: إنَّ الرجلَ الصالحَ عمرَ بنَ عبدِ العزيز مات، قالَ يزيدُ -وهو ¬

(¬1) السير للذهبي 5/ 130.

وافدُ المسلمينَ على (قيصرَ) - فبكيتُ واشتدَّ بكائي وارتفعَ صوتي، فقالَ (قيصرُ): ما يبكيك؟ ألِنَفْسِك تبكي، أمْ له، أم لأهلِ دينِكَ؟ قلتُ: لكلٍّ أبكي، قال: فابكِ لنفسكَ ولأهلِ دينك، فأما عمرُ فلا تبكِ له، فإنَّ اللهَ لمْ يكنْ ليجمعَ عليهِ خوفَ الدنيا وخوفَ الآخرة، ثمَّ قال: ما عجبتُ لهذا الراهبِ الذي تعبدَ في صومعته وتركَ الدنيا، ولكن عجبتُ لمن أتتْهُ الدنيا منقادةً حتى صارتْ في يدهِ ثمَّ خلّي عنها (¬1). سابعًا: منْ سلوكياتِ عمرَ، يروعكَ في شخصيةِ الخليفةِ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ عدةُ جوانبَ سلوكيةٍ مضيئة .. فهو الصادقُ الأمين، وما حملتْهُ مسئولياتُه وتعاملاتُه على الكذب، بلْ قالَ عنْ نفسه: ما كذبتُ منذُ علِمتُ أنَّ الكذبَ يضرُّ أهلَه (¬2). وهو المتواضعُ رغمَ ما قدَمهُ لإسلامِهِ وأمَّتهِ، وقدْ قالَ رجلٌ لعمر جزاكَ اللهُ عن الإسلامِ خيرًا، قال: بلْ جزى اللهُ الإسلامَ عني خيرًا (¬3). وهو الزاهدُ رغمَ أبَّهةِ الملكِ وسلطانِ الخلافة، ولذا قالَ مالكُ بنُ دينار: الناسُ يقولونَ: مالكُ بنُ دينارَ زاهدٌ، إنما الزاهدُ عمرُ بنُ عبدِ العزيز الذي أتتْهُ الدنيا فتركَها (¬4). وهوَ الصائمُ القائمُ رغمَ أعباءِ الخلافة، والقارئُ لكتابِ اللهِ وإنْ كَثُرتْ مسئولياتُهُ، فقدْ وردَ أنهُ كانَ يصومُ الاثنينِ والخميسَ (¬5) وكان قلَّما يَدَعُ النظرَ في المصحف (¬6). ¬

(¬1) السير 5/ 143. (¬2) السير 5/ 121. (¬3) السير 5/ 147. (¬4) الحلية 5/ 257. (¬5) الطبقات 5/ 333. (¬6) الطبقات 5/ 366.

ثامنًا: عمرُ الناصحُ لولاتِهِ وأمتهِ: لم يألُ، عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ النصحَ لولاتهِ وعمومِ المسلمين، كتبَ يومًا إلى أحدِ عمالِهِ يقول: أما بعدُ، فإني أوصيكَ بتقوى اللهِ ولزومِ طاعته، فإنَّ بتقوى اللهِ نجا أولياءُ اللهِ منْ سخطِه، وبها تحقَّق لهمْ ولايتُه .. التقوى عصمةٌ في الدنيا منَ الفتن، والمخرجُ منْ كربِ يومِ القيامة .. إلى أنْ يقول: فقدْ رأيتُ الناسَ كيفَ يموتونَ وكيفَ يتفرقون، ورأيت الموتَ كيفَ يعجلُ التائبَ توبَته، وذا الأملِ أملَه، وذا السلطانِ سلطاَنه، وكفى بالموتِ موعظةً بالغةً وشاغلًا عن الدنيا، ومرغبًا في الآخرة إلخ ... (¬1). ونصحَ عمرُ المستترينَ بالمعاصي عنْ أعينِ الخلقِ، وعينُ اللهِ ترقبُهم فقال: يا معشرَ المستترين، اعلموا أنَّ عندَ اللهِ مسألةً واضحة، قالَ اللهُ تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2). (¬3). ونصحَ عمرُ عمومَ المسلمينَ بعدمِ الاغترارِ بالدنيا ... وقدْ تصورَ حالَ أهلِ القبورِ وما آلوا إليهِ وما كانوا مشغولينَ به، وحذرَ من الغفلةِ، والغرورِ، وتمثلَ قولَ القائل: تُسَرُّ بما يفنى وتُشغلُ بالصِّبا كما غُرَّ باللذاتِ في النومِ حالمُ نهارُكَ يا مغرورُ سهوٌ وغفلةٌ وليلُكَ نومٌ والردى لكَ لازمُ وتعملُ فيما سوفَ تكره غِبَّهُ كذلكَ في الدنيا تعيشُ البهائمُ (¬4) ولمْ ينسَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ نصيحةَ منْ سيخلفُه، فقدْ كتبَ إلى يزيدَ بنِ عبدِ الملكِ حينَ حضرهُ الموتُ يقول: سلامٌ عليكَ أما بعد، فإني لا أراني إلا ¬

(¬1) حلية الأولياء 5/ 278. (¬2) سورة الحجر، الآيتان: 92، 93. (¬3) الحلية 5/ 288. (¬4) السابق 5/ 263.

لما بي، ولا أرى الأمرَ إلا سيُفضي إليك، واللهَ اللهَ في أمةِ محمدٍ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فتدعُ الدنيا لمنْ لا يَحْمَدُك، وتفضي إلى منْ لا يعذِرُك، والسلامُ عليك (¬1). تاسعًا: قالوا عنْ عمرَ بنِ عبدِ العزيز: الناسُ شهودُ اللهِ في أرضه .. وقدْ أثنى كثيرٌ على عمرَ وخلافته، بلْ تحققَ فيه مقولةُ جدِّهِ لأمهِ عمرَ بنِ الخطابِ- وإنْ لمْ يَرَهُ- حيثُ وردَ أنهُ قال: منْ ولدي رجلٌ بوجْهِه شَجَّةٌ يملأُ الأرضَ عدلًا .. (¬2). وسئلَ محمدُ بنُ عليِّ بنِ الحسينِ عنْ عمرَ بنِ عبدِ العزيز فقال: هوَ نجيبُ بني أُميةَ، وإنه يُبعثُ يومَ القيامةِ أمةً وحدَه (¬3). وقالَ ميمونُ بنُ مهرانَ: كانتِ العلماءُ معَ عمرَ بنِ عبدِ العزيز تلامذةً (¬4). وقالَ مالكُ بنُ دينار: لمّا وليَ عمرُ بنُ عبدِ العزيز قالتْ رعاءُ الشاءِ: منْ هذا الصالحُ الذي قامَ على الناس خليفةً؟ عدلُه كفَّ الذئابَ عنْ شائِنَا (¬5). عاشرًا: جلساءُ عمرَ وأصحابُ مشورتِهِ: كانَ العلماءُ والفقهاءُ والناصحون همْ جلساءَ عمرَ وأصحابُ مشورته، ومنذ كانَ واليًا على المدينةِ استدعى عشرةً منْ خيارِ أهلِ المدينة وفقهائِها، وقال: إني دعوتُكمْ لأمرِ تؤجَرونَ فيه، ونكونُ فيه أعوانًا على الحقِّ، ما أريدُ أنْ أقطعَ أمرًا إلا برأيكمْ أو برأيِ منْ حضرَ منكم، فإنْ رأيتمْ أحدًا يتعدَّى، أو بلغَكم عنْ عاملٍ ظُلامةٍ، فأُحرِّجُ باللهِ على منْ بلغهُ ¬

(¬1) الطبقات 5/ 406. (¬2) السيوطي: تاريخ الخلفاء ص 363. (¬3) المصدر السابق/ 365. (¬4) السابق/ 365. (¬5) السابق/ 370.

ذلكَ إلا بلّغني، فجزَوْهُ خيرًا وتفرقوا (¬1). أما الشعراءُ والمداحونَ فلمْ يكنْ لهمْ سوقٌ في خلافةِ عمرَ، وعنهمْ يعبرُ الشاعرُ جريرٌ الذي قدمَ إلى عمرَ وطالَ مقامُه على بابِ عمرَ، ولم يلتفتْ إليهِ فكتبَ إلى عونِ بنِ عبدِ الله وكانَ خصيصًا بعمر يقول: يا أيها القارئُ المرخِّي عمامتَهُ ... هذا زمانُكَ إني قدْ مضى زمني أبلغْ خليفَتَنا إنْ كنتَ لاقِيَهُ ... أني لدى البابِ كالعصفورِ في قرنِ (¬2) أيها المسلمون: هذه نماذجُ غاليةٌ في تاريخِنا .. وأولئكَ النبلاءُ منْ رجالِنا، وحقَّ للتاريخِ أنْ يسطرَ مآثرَهم بمدادٍ منْ ذهب، وحقَّ للمسلمينَ أن يفخروا بمثلِ هؤلاء، إنهمْ رجالٌ عرفوا قيمةَ الدنيا وقدرَ الآخرة، افتخروا بالإسلامِ فافتخرَ بهمُ المسلمون، ومثَّلوا الإسلامَ فاستجابَ لهمْ غيرُ المسلمين. أولئك آبائي فجئني بمثلهِمْ ... إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ وليسَ عمرُ فلتةً في التاريخ، بل لهُ نظائرُ قبلَه وبعده، ولا يزالُ الخيرُ في هذهِ الأمة، ولئنْ غَفَتْ هذه الأمة فترةً من الزمن، فما أسرعَ ما يستيقظُ النائمُ، ولئنْ ذَلَّتْ وعَزَّ أعداؤُها فالأيامُ دولٌ .. والعاقبةُ للمتقينَ ولا عدوانَ إلا على الظالمين. ولكنْ قراءةُ التاريخِ بعمقٍ واحدةٌ من سبلِ نهضةِ المسلمين وعزتِهم؛ ففي التاريخِ عبرةٌ، وفي أحداثِ الزمانِ موعظةٌ لأولي الألباب. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 5/ 118. (¬2) السيوطي/ 379.

مكر الأعداء في القرآن الكريم

مكر الأعداء في القرآن الكريم (¬1) الخطبةُ الأولى: الحمدُ للهِ القويِّ العزيزِ، لهُ العزةُ جميعًا ولهُ المكرُ جميعًا، وهوَ الكبيرُ المتعالُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، أهلكَ عادًا الأُولى وثمودَ فما أبقى والمؤتفكةَ أهوى، وبأسُه لا يُردُّ عن القومِ المجرمينَ قديمًا وحديثًا ومستقبَلًا، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أحاطتْ بهِ الأعداءُ ومَكَرَ بهِ الماكرونَ وتطاولَ عليهِ المجرمونَ فما وَهَنَ ولا استكانَ، بلْ صبرَ وجاهدَ حتى نصرَهُ اللهُ، وردَّ اللهُ الذين كفروا بغيظهمْ لمْ يَنالوا خيرًا، وكفى اللهُ المؤمنينَ القتالَ وكانَ اللهُ قويًا عزيزًا .. اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلينَ، ورضيَ اللهُ عنِ الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ. أوصيكمْ ونفسي بتقوى اللهِ. أيها المسلمون: يتكالبُ أعداءُ الإسلامِ في كلِّ زمنٍ محاربينَ دِينَ اللهِ ورسلَه والمؤمنينَ، ويتفنَّنُ أولئكَ الأعداءُ في كلِّ عصرٍ بما يُناسبُه منْ وسائلِ الحربِ والعداءِ. وفي أيامِنا هذهِ تشتدُّ هجمةُ الأعداءِ، ويتجدّدُ مكرُهمْ، وتتوحَّدُ قُواهم لضربِ المسلمينَ وحِصارِهمْ .. والمسلمونَ كلَّما دهمتْهم الخطوبُ رجعوا إلى كتابِ اللهِ فوجدوا فيهِ الشفاءَ والهدى والنورَ والضياءَ .. وحديثُ اليومِ عنْ مكرِ الأعداءِ من خلالِ آياتِ الكتابِ العزيزِ .. ذلكَ الكتابُ المُعجِزُ المتجدِّدُ في عرضِه وعِبَرِه، فماذا نجدُ فيهِ عنْ مكرِ الأعداءِ وعاقبتِهمْ ونهايتِهم؟ ¬

(¬1) ألقيت هذه المحاضرة يوم الجمعة الموافق 7/ 11/ 1423 هـ.

أولًا: العداءُ والمكرُ سُنّةٌ جاريةٌ، وقَدَرٌ إلهيٌّ، قالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (¬1). قال ابنُ كَثيرٍ رحمهُ اللهُ: وكما جعلْنا في قريتِكَ يا محمدُ أكابرَ منَ المجرمينَ، ورؤساءَ ودعاةً إلى الكفرِ والصدِّ عنْ سبيلِ اللهِ، وإلى مخالفتِكَ وعداوتكَ، كذلكَ كانتِ الرسلُ منْ قَبْلِك يُبتلَوْنَ بذلكَ، ثمَّ تكونُ العاقبةُ لهمْ .. وقالَ تعالى: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} (¬2). ثانيًا: هذا المكرُ والعداءُ يتعاونُ عليهِ شياطينُ الإنسِ والجنِّ، كما قالَ ربُّنا تباركَ وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (¬3). عنْ أبي ذرٍّ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهوَ في المسجدِ، فجلستُ، قالَ: «هلْ صلَّيتَ»؟ قلتُ: لا، قالَ: «قُمْ فصلِّ»، قالَ: فقمتُ فصلَّيتُ، ثمَّ جلستُ، فقالَ: «يا أبا ذرٍّ! تعوَّذْ باللهِ منْ شرِّ شياطينِ الإنسِ والجنِّ»، قالَ: قلتُ: يا رسولَ اللهِ وللإنسِ شياطينُ؟ قال: «نعمْ {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (¬4)». ثالثًا: وهذا المكرُ مع غرورهِ تَصغَى إليهِ أفئدةُ مَن لا يؤمنونَ {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} (¬5). إن هؤلاءِ المغرورينَ بالزُّخرفِ يَعملونَ ما يعملونَ منَ العداوةِ للهِ ولرسلهِ ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 123. (¬2) سورة الرعد، الآية: 42. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 112. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 112. (¬5) سورة الأنعام، الآية: 113.

وللمؤمنينَ، فهمْ لا يكتفونَ بالإصغاءِ والسَّماعِ .. ولا يَقِفُونَ عندَ حدِّ الرِّضاءِ والقبولِ، بل يقترفونَ ويخطِّطون ويَعملون. إنها آيةٌ ظاهرةٌ في تعاونِ الأعداءِ فيما بينهمْ ضدّ الإسلامِ والمسلمينَ، والمعركةُ التي يقودُها الباطلُ والمبِطلون ضدَّ الحقِّ يتجمِّعُ فيها أصنافُ الشياطينِ، ويتعاونونَ لإمضاءِ خطّةٍ مدبَّرةٍ. فبعضُهمْ يوحِي إلى بعضٍ، وبعضُهم يُغوي بعضًا. رابعًا: ولكنَّ هذا الكيدَ والمكرَ مهما بلغَ شأنُه واجتمعَ لهُ الخصومُ منْ كلِّ صوبٍ فليسَ طليقًا .. بلْ هوَ مقيَّدٌ بقَدَرِ اللهِ، ومُحاطٌ بمشيئتهِ سبحانَه {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} (¬1)، إنهُ لا ينطلقُ كما يشاءُ بلا قيدٍ ولا ضابطٍ، ولا يصيبُ مَن يشاءُ بلا مُعقِّبٍ ولا رادعٍ .. وإنَّ الأعداءَ مهما بلغتْ قوتُهم وإرادتُهمْ فهيَ مقيَّدةٌ بمشيئةِ اللهِ ومحدودةٌ بقَدَرِ اللهِ .. وهنا يتعلَّقُ المؤمنُ باللهِ ويُسلّي نفسَه موقِنًا بأنَّ القوةَ للهِ جميعًا .. وأنَّ الخَلْقَ مهما صَنعوا فهمْ لا يشاءونَ إلا أنْ يشاءَ اللهُ، فيعتصمُ المؤمنُ باللهِ وحدَه، ويتوكَّلُ عليهِ وحدَهُ، ويخافُه وحدَهُ، ويرجوهُ وحدَه، معَ فعلِ الأسبابِ والأخذِ بسُبلِ النجاةِ. خامسًا: والماكرونَ لهمْ عذابٌ شديدٌ، ومكرُهمْ يبورُ، {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} (¬2)، قالَ أبو العاليةِ: همُ الذينَ مكروا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم لمّا اجتمعوا في دارِ النَّدْوةِ (¬3). ونهايةُ مكرِهمْ في تبابٍ، واللهُ يدافعُ عنْ أوليائهِ المؤمنينَ ويحفظُهمْ منْ مكرِ ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 112. (¬2) سورة فاطر، الآية: 10. (¬3) تفسير القرطبي 14/ 332.

الماكرينَ، وهذهِ قريشٌ تجتمعُ وتُخطِّطُ وتُدبِّرُ المكائدَ وتصنعُ المؤامراتِ لإنهاءِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ يُبطِلُ اللهُ كيدَهمْ ويُفشلُ مخطّطَهم، ويوحي إلى نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم بما ائتمروا بهِ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (¬1). سادسًا: المكرُ السيئُ يَحيقُ بأهلِهِ: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} (¬2) وفي أمثالِ العربِ: «مَنْ حفرَ لأخيهِ جُبًّا، وقعَ فيه مُنْكبًا»، وروى الزهريُّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمكرْ ولا تُعِنْ ماكرًا، فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ}» (¬3). وربُّك يُمهلُ الظالمَ حتى إذا أخذَهُ لم يُفلتْه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (¬4). سابعًا: والعاقبةُ للمكرِ والماكرينَ هيَ الهلاكُ والتدميرُ عاجلًا في الدنيا ومؤجَّلًا في الآخرةِ: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬5). أجلْ لقدْ تجاوزَ التدميرُ التسعةَ الرهطَ المفسدينَ إلى قومِهمْ أجمعينَ، وكذلكَ يُحيطُ عذابُ اللهِ بالمفسِدينَ والمتعاونينَ والساكتينَ الراضينَ .. وما ربُّكَ بغافلٍ عمّا يعملونَ. أيها المسلمونَ: ومَنْ تأمَّلَ في آياتِ القرآنِ وَجَدَه يَعرضُ عنْ أُممٍ مَكَرتْ ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 30. (¬2) سورة فاطر، الآية: 43. (¬3) تفسير القرطبي 14/ 360. (¬4) سورة هود، الآية: 102. (¬5) سورة النمل، الآيتان: 51، 52.

فحلَّتْ بها عقوبةُ اللهِ في الدنيا، وما ينتظرُها في الآخرةِ أشدُّ وأخزى، وهذا محمدٌ صلى الله عليه وسلم يُسلِّي ويسرِّي عنه ربُّه ويُصبِّرُه على مَكْرِ قريشٍ بذكرِ مكرِ الأُمم الماضيةِ ومصيرِهم، ويقولُ تعالى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ .. } (¬1). نَعَمْ لقدْ مكرَ الذينَ منْ قَبْلِ قريشٍ، ومكرتْ قريشٌ، ومكر من بعد قريش وما يزال المكرُ ساريًا والنتيجة واحدة {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ} فانهدمَ عليهمُ البنيانُ الذي شيَّدوهُ، وكانَ مقبرةً لهمْ، {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} (¬2)، وكذلكَ يحيقُ المكرُ السيئ بأهلهِ، وتلك سُنّةُ اللهِ معَ جميعِ الماكرينَ: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} (¬3). إخوةَ الإيمانِ: قدْ يُزيَّنُ للماكرينَ مكرُهمْ، وقدْ يغترُّ المبطِلون بباطلهمْ، ولكنَّ ذلكَ لا يُلغي حقيقةً قرآنيةً بأنهمْ -هؤلاءِ الماكرينَ- صدُّوا عنِ السبيلِ، وبأنهم ضالُّون عنِ الطريقِ الحقِّ، ومَنْ يضلِلِ اللهُ فما لهُ منْ هادٍ، اسمعْ إلى ذلكَ كلِّه في قولهِ تعالى: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (¬4)، والنتيجةُ المُرتقبةُ لهؤلاءِ: {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} (¬5)، فهمْ إنْ أصابتْهم قارعةٌ، أو حلَّتْ قريبًا منْ ¬

(¬1) سورة النحل، الآيتان: 26، 27. (¬2) سورة النحل، الآية: 26. (¬3) سورة الرعد، الآية: 42. (¬4) سورة الرعد، الآية: 33. (¬5) سورة الرعد، الآية: 34.

دارِهمْ فهوَ الرعبُ والقلقُ والتوقُّعُ وإلا فجفافُ القلبِ منْ نورِ الإيمان عذابٌ، وحيرةُ القلبِ بلا طمأنينةِ الإيمانِ عذابٌ، ومواجهةُ كلِّ حادثٍ بلا إدراكٍ للحكمةِ الكبرى وراءَ الأحداثِ عذابٌ، ثمَّ {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} (¬1). أمّا المؤمنونَ الصادقونَ في إيمانِهمْ فقدْ ينالُهم بأسٌ منْ مكرِ الماكرينَ، وقدْ يتعرَّضونَ لأذىً منْ كيدِ الكائدينَ، وذلك ليبتليَ اللهُ المؤمنينَ ويُمحِّصَهمْ ويَمحقَ الكافرينَ ويكشفَ المنافقينَ .. إنها البأساءُ والضرّاءُ يُمتحنُ بها المسلمونَ للثباتِ على الإسلامِ وإنْ هُوجمَ .. وللصبرِ على الحقِّ وإن طُورِدَ، وعدمِ الفتنة بالباطلِ وإنْ علتْ رايتُه فترةً منَ الزمنِ، والنصرةِ للمسلمينَ وإن كانوا قِلّةً مُضطهدينَ. إنَّ ممّا يُسلِّي المؤمنينَ ويُصبِّرُهم ويُكثّرُ قلَتَهم، ويُقوِّي ضعفَهمْ أنهم لا يخوضونَ المعركةَ معَ الكافرينَ وحدَهمْ، بلِ اللهُ معهمْ، وهو حسبُهمْ وناصرُهم والمدافعُ عنهمْ والمنتقمُ منْ أعدائهمْ، تجدونَ مصداقَ ذلكَ في عددٍ منْ آياتِ القرآنِ: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} (¬2)، {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، ثم قال بعدها: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} (¬3)، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (¬4). ¬

(¬1) في ظلال القرآن 4/ 2063. (¬2) سورة التوبة، الآية: 14. (¬3) سورة الأنفال، الآيتان: 17، 18. (¬4) سورة الحج، الآيتان: 38، 39.

وبعدَ هذا العرضِ لشيءٍ منْ آياتِ المكرِ في القرآنِ يَرِدُ السؤالُ: وأينَ المسلمونَ منْ هذهِ التوجيهات وغيرِها في القرآنِ؟ أينَ همْ منها عِلمًا وعملًا .. ومعرفةً ويقينًا. وصدق اللهُ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (¬1). اللهمَّ انفعْنا بهَدْيِ القرآنِ. ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآيتان: 9، 10.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والعاقبةُ للمتقينَ، ولا عدوانَ إلا على الظالمينَ، ومَنْ يُهِنِ اللهُ فما لهُ منْ مُكرِمٍ. إخوةَ الإسلامِ: ونحنُ هذهِ الأيامَ أمامَ هجمةٍ شرسةٍ بكلِّ المقاييسِ وأنواعِ الهجومِ، وفي ظلِّ أزمةٍ لا يعلمُ مَداها إلا اللهُ فالمستقبلُ مظلمٌ، ومؤشِّراتُ الملاحمِ والفتنِ تملأُ الآفاقَ، والمصيبةُ أنَّ المسلمينَ في غفلةٍ عنْ هذا، على حينِ يتحرَّكُ الأعداءُ ويجتمعونَ ويخطَّطونَ، والبوارجُ الكبرى تمخرُ عُبابَ البحرِ محمَّلةً بأنواعِ الأسلحةِ .. وأساطيلُ الجوِّ تتحرَّكُ منْ مغربِ الأرضِ إلى مشرقِها .. والمناوراتُ العسكريةُ منْ قِبَلِ جنودِ النصارى واليهودِ على أشُدِّها، أيستحقُ العراقُ كلِّ هذهِ الحشودِ؟ وما هيَ الخطوةُ الأخرى بعدَ العراقِ؟ وهلْ يسوغُ أنْ يظلَّ المسلمونَ يتفرَّجون والعدوُّ يحتل بلادَهمْ، ويقتلُ أبناءَهمْ، ويسيطرُ على مقدَّراتِهم؟ تلكَ أسئلةٌ كثيرًا ما تُثارُ .. فمنْ يجيبُ عنها بصدقٍ؟ لقدْ أصيبَ المسلمونَ بُذلٍّ، وهمُ الأعزّاءُ، وتفرَّقتْ كلمتُهمْ وهمُ الأمّةُ الواحدةُ .. وأصبَحوا هدفًا للغزوِ بعدَ أنْ كانوا قادةَ الفتحِ، والإسلامُ لا خوفٌ عليهِ ولكنَّ الخوفَ على المسلمينَ، فاللهُ يقولُ: {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (¬1) فإلى متى يظلُّ المسلمونَ هدفًا لمخططاتِ الأعداءِ؟ إنَّ الإسلامَ يأبى الذوبانَ في المِللِ الأخرى .. بلْ يظلُّ مدُّه حتى في الأزماتِ .. واليومَ يشهدُ الناسُ أنَّ دينَ اللهِ يسيحُ في أرضِ اللهِ رغمِ المطاردةِ والتهمِ والإرجافِ والإرهاب، وفي بلادِ الغربِ نفسِها نطالعُ كلَّ يومٍ خبرًا عنْ ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 38.

إسلامِ مجموعةٍ منْ غيرِ المسلمينَ، ولمْ يَعُدِ الأمرُ قصرًا على الرجالِ بلْ شملَ النساءَ ناهيكَ عنْ مدِّهِ في آفاقِ الأرضِ كلِّها. ولعلَّ هذا المدَّ الإسلاميَّ بشكلٍ عامٍّ أحدُ المخاوفِ الكبرى التي أثارتِ الغربَ فرأَوا تعجيلَ الضربةِ للمسلمينَ قبلَ أنْ يكتسحَهم الإسلامُ .. أمّا في البلادِ الإسلاميةِ فتستمرُّ ثمارُ الصحوةِ لتغطّيَ مساحةً أوسعَ ولتشمل كافةَ القطاعاتِ المدنيةِ والعسكريةِ وعلى مستوى الرجالِ والنساءِ .. ولعلَّ هذهِ الحملاتِ الغربيةَ .. وتلكَ الصورَ اليهوديةَ المأساويةَ لإبادةِ المسلمينَ تزيدُ مِنْ تنامي الصحوةِ وتعجِّلُ بيقظةِ المسلمينَ .. وهكذا يمكرُ الأعداءُ ويمكرُ اللهُ واللهُ خيرُ الماكرينَ، وكلَّما ظنُّوا أنهمْ أوشكوا على القضاءِ على المسلمينَ وإذا بالإسلام يُثبِّتُ أقدامَهم، ويُوقظُ عزائمَهمْ. أيها المسلمونَ: والنصرةُ للمسلم حقٌ مشروعٌ، والرسولُ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «انصْر أخاكَ ظالمًا أوْ مظلومًا» .. وحينَ يُبيتُ شعبُ العراقِ المسلمُ (مظلومًا) منْ ليلٍ أو نهارٍ فلا يسوغُ للمسلمينَ أن يَسكتوا .. ومنْ حقِّهمُ الدفاعُ عنْ أنفسِهمْ وإخوانِهم بكلِّ ما يستطيعونَ. إخوةَ الإيمانِ: وإذا أصرَّ المتجبِّرونَ على طغيانِهم وحقَّقوا ضربتَهم، فلعلَّها أن تكونَ بدايةَ النهايةِ .. وعساها أنْ تكونَ مرحلةً لضعفِ القوةِ ونهايةِ الظُّلمِ والغطرسةِ .. وسُننُ اللهِ ماضيةٌ في الفناءِ والهلاكِ على كلِّ مستكبرٍ ظالم غشومٍ جاحدٍ بآياتِ اللهِ: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئون} (¬1). {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ ¬

(¬1) سورة الأحقاف، الآية: 26.

قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (¬1). أيها المسلمونَ: هلْ تُوقِظُ هذهِ الملاحمُ والفتنُ المتوقَّعةُ ضمائرَ المسلمينَ فيحاسبوا أنفسَهمْ ويعودوا إلى بارئِهمْ .. ويبادروا بالأعمالِ الصالحةِ كما أوصاهم حبيبُهمْ وناصحُهم ونبيُّهمْ صلى الله عليه وسلم إذ يقولُ: «بادِرُوا بالأعمالِ فِتَنًا كقِطَعِ الليلِ المُظلِمِ». وهلْ تدعوهمْ هذهِ الأزماتُ وتجمعُ الأعداءِ إلى نّبْذِ الفُرقةِ واجتماعِ الكلمةِ وتوحيدِ الهدفِ، فتلكَ القوةُ التي لا تُغلَبُ. ومنْ مخارجِ الأزمةِ: الإيمانُ باللهِ واليقينُ بنصرِه والتوكلُ عليهِ وحْدَه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (¬2). أجلْ حسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، قالَها إبراهيمُ عليهِ السلامُ حينَ أُلقيَ في النارِ، فكانَ الجوابُ: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} (¬3). وقالها المؤمنونَ معَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم حينَ قيلَ لهمْ: إنَّ الناسَ قد جَمَعوا لكمْ فاخشَوْهم، في حمراءِ الأسدِ، فكانَ الجوابُ: {فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (¬4). وما زالَ التوكلُ على اللهِ واليقينُ بنصرهِ سلاحًا يتدرَّعُ بهِ المؤمنونَ كلَّما ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 58. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 173. (¬3) سورة الأنبياء، الآيتان: 69، 70. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 174.

اشتدتِ الأَزماتُ وتكالبَ الأعداءُ، ولكنْ لا بدَّ معَ الإيمانِ منْ عملٍ، ومعَ اليقينِ منْ جهدٍ يُبتلى فيهِ الإيمانُ ويتميَّزُ الصادقونَ من الكاذبين: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (¬1). إنَّ منْ معوِّقاتِ النفسِ عن الجهادِ: حبَّ الآباءِ والأبناءِ والإخوانِ والأزواجِ والعشيرةِ والأموالِ والتجارةِ التي يُخشى كسادُها، والمساكنِ التي تُرضى، وإيثارَ السلامة والإخلادِ للراحةِ والدَّعَةِ .. وتلكَ التي حذَّرَ اللهُ منها المؤمنينَ بقولِهِ: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (¬2). إنَّ ما عند اللهِ خيرٌ وأبقى .. وهذهِ الحياةُ الدنيا متاعٌ، والآخرةُ هيَ دارُ القرارِ. وماذا بعدَ أنْ تُهانَ كرامةُ المسلمينَ ويُسخَرَ بديِنِهمْ ونبيِّهم، ويُهدَّدوا بالاحتلالِ في قعرِ ديارِهمْ .. إنَّ المسلمينَ وُعِدوا إحدى الحسنَييْن: فإمّا النصرُ وإمّا الشهادةُ. مَنْ لمْ يمُتْ بالسيفِ ماتَ بغيرِهِ ... تنوَّعتِ الأسبابُ والموتُ واحدُ فإمّا حياةٌ تسرُّ الصديقَ ... وإمّا مماتٌ يّغيظُ العِدا ولنْ تموتَ نفسٌ حتى تستكملَ رزْقَها وأجلَها، لقدْ أصيبَ المسلمونَ بالوهنِ، وطغى عليهم حبُّ الدنيا وكراهيةُ الموتِ، ومن عجبٍ أنَّ غيرَ المسلمينَ باتوا يُفادُونَ بأنفسِهمْ وهمْ على الباطلِ، ويَرحلونَ منْ بلادِهم ويهاجِمونَ دونَ هدفِ ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 142. (¬2) سورة التوبة، الآية: 24.

خيرٍ، على حينِ يبخلُ المسلمونَ بأنفسِهم، وهمْ على الحقِّ .. ويَعجزونَ عنِ الدفاعِ عن أنفسِهمْ وإخوانِهم وبلادِهمْ ومقدَّساتِهم، وهمْ يُهاجَمونَ .. وللهِ في خَلْقِه شئونٌ .. ومهما بلغتْ قوةُ الأعداءِ .. ففيهمْ منَ الرعبِ والخوفِ والضعفِ والَخوَرِ .. ما اللهُ بهِ عليمٌ .. فلوْ صدقَ المسلمونَ لأرهبوهمْ، ولوِ اجتمعتْ كلمتُهمْ لأخافوهمْ .. ولوْ دافعوا عنْ دينِهمْ وحُرُماتِهم لدافعَ اللهُ عنهمْ. اللهمَّ انصرْ دِينَكَ، وعبادَكَ .. وانتقمْ ممنْ أرادَ بالمسلمينَ سوءًا، يا عزيزُ يا جبَّارُ.

النعمان وفتح الفتوح، والمستقبل للأمة

النعمان وفتح الفتوح، والمستقبل للأمة (¬1) الخطبةُ الأولى: إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئات أعمالِنا، من يَهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسَلين، وارضَ اللهم عن الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ وتابعِيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين وسلِّم تسليمًا كثيرًا. إخوةَ الإيمان: صحابيٌّ جليلٌ ومعركةٌ كُبرى من معاركِ المسلمين، بل (فتحْ الفتوح)، أذكِّرُكم ونفسيَ بها، شاء اللهُ لهذا الصحابيِّ أن يكون قائدَ المعركةِ وأولَ الشهداءِ فيها، وجمعَ اللهُ له بينَ النصرِ والشهادة كما تمنّى ودعا، كان هذا الصحابيُّ مُجابَ الدعوة، وسألَ ربَّه الشهادةَ فأعطاه إياها، وكانت هذه المعركةُ التي خاض غِمارَها -والمسلمون معه- نهايةً للفُرسِ وبدايةً للمدِّ الإسلامي في أرضِ المشرِق .. ومع انتصارِ المسلمين في هذه المعركةِ وفرحتِهم إلا أن ذلك لم يَمنعْهم من البكاءِ على قائدِهم وقد ضرَّجَتْه الدماءُ في أرضِ المعركة .. بل بَكَى المسلمون في المدينةِ وفي مقدّمتِهم الخليفةُ عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه حين بلغهم استشهادُ هذا الصحابيِّ رضي الله عنهم أجمعين، فمن يكونُ هذا الصحابيُّ؟ وما هي المعركةُ ولماذا انتصرَ المسلمون؟ هو أبو حكيم، وقيل: أبو عَمْرو النعمانُ بن مُقرِّنٍ المُزنَي، وفدَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، مع وفدِ قبيلتِه (مُزَيْنةَ) وشاركَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 14/ 11/ 1423 هـ.

جهادِه ومغازِيه وكان إليه لواءُ قومِه يومَ فتحِ مكة (¬1). وبعدَ أن لَحِقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالرفيقِ الأعلى، استمرَّ النعمانُ رضي الله عنه في عهدِ أبي بكرٍ مجاهدًا في سبيلِ الله مشارِكًا في الفتوحِ الإسلامية، حتى إذا كان عهدُ أبي بكرٍ مجاهدًا في سبيلِ الله مشارِكًا في الفتوحِ الإسلامية، حتى إذا كان عهدُ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه فَتَحَ (النعمانُ) مدينةَ (كَسكَر) فولاّه الخليفةُ إمارتَها .. ولكنَّ النعمانَ لم يرغبْ في حياةِ الإمارةِ الهادئةِ فكتب إلى عمرَ يستعفيهِ من هذِه المهمّةِ ويطلبُ منه الإذنَ له بالانضمامِ إلى صفوفِ المجاهدينَ في سبيل الله، النعمان هو بشير عمر بفتحِ القادسية، وهو فاتحُ أصبهان .. وشهيدُ نَهاوَنْدَ (¬2). وبعدَ انتصاراتِ المسلمين في (القادسيةِ) (والمدائنِ) انحازَ (يَزدَجَرْدُ) ملكُ الفُرس على (نهاوند) -وهي في وسَطِ إقليمِ فارسَ، وفي قِبْلة همذانَ- وجمع هذا الملكُ الفارسيُّ كلَّ ما يستطيعُ جمعَه، واعتبر هذا المكانَ والمعركةَ (نهاوندَ) معركةً مصيريَّةً مع المسلمين. أما الخليفةُ عمرُ رضي الله عنه فقد أهمَّه أمرُ (يزدجردَ) وجمعُه في (نهاوندَ) فجمع المسلمين واستشارَهم، وهمَّ أن يرحلَ بنفسِه ليكون قريبًا من منازلةِ مِلك الفُرْس، ولكن المسلمين لم يُشِيروا عليه بتركِ المدينة، وإنما أشاروا عليه أن يختارَ قائدًا للمعركةِ يَكْفيهِ هذه المهمةَ ونَثَرَ الفاروقُ كِنانتَه ليختار -وكلُّ الصحابةِ أخيار- ولكنّ الاختيارَ هذه المرةَ وقع على النعمانِ، ودعاه عمرُ لقيادةِ جيشِ المسلمين في نهاوندَ وقال له: «إذا أتاكَ كتابي هذا فسِرْ بأمرِ الله، وبنَصْر الله بمن مَعَك من المسلمينَ ولا تُوطِئهم وَعْرًا فتؤذيَهم، ولا تمنعْهم حقًا ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/ 356، 357. (¬2) الإصابة 1/ 170.

فتكفِّرَهم .. » (¬1). واستجابَ النعمانُ لأمير المؤمنين وسار إلى أرضِ المعركةِ ومعه عددٌ من وجوهِ الصحابة فيهم: حُذَيفةُ بن اليَمانِ وعبدُ الله بنُ عمرَ، وجَرِيرُ بنُ عبدِ الله البَجَلِي، والمغيرةُ بن شُعْبة .. وسِواهم رضي الله عنهم أجمعين. وحين وَصَلَ النعمانُ إلى (نهاوندَ) نظَّمَ أصحابَه وهم ثلاثون ألفًا، وجعلَ على المقدّمةِ نُعَيم بنَ مقرِّنٍ المُزَني، وعلى الميمنةِ حذيفةَ بنَ اليمانِ، وعلى الميسرةِ سُويدَ بن مقرِّن، وعلى الساقةِ مُجاشعَ بنَ مسعودٍ رضي الله عنهم، وابتدأت المعركةُ يومَ الأربعاءِ سنةَ إحدى وعشرين للهجرة- وكان الفُرسُ قد تحصَّنوا بخنادقَ حفروها وربطوا أنفسَهم بالسلاسل حتى لا يَفِرُّوا .. وفرقٌ بين أولئكَ الجبناءِ وهم في أرضِهم وبين طلائعِ الشهادةِ من المسلمين وقد وَطِئوا أرضَهم، أولئك الذي آلُوا على أنفسِهم أن يقتتِلوا مع عدوِّهم حتى يموتَ الأعجلُ منهما .. أو أن يُذعِنوا للإسلام الدينِ الحقِّ فيكونَ لهم ما للمسلمينَ وعليهم ما عليهم .. وطال الحصارُ، واستشار النعمانُ قادتَه فأشاروا عليه باستدراج الفُرسِ والتظاهرِ بالهروب حتى إذا ابتعدَ الجندُ المُختَفُون عن حصونِهم وخنادقِهم نَشِبَت المعركةُ .. وقد كان .. فقد وافقَ النعمانُ على هذا الرأيِ وقال: إني مُكبِّرٌ ثلاثًا، فإذا كانت الثالثةُ فابدءوا القتالَ، ودعا النعمانُ ربَّه- وكان كما يقول الذهبي: مُجابَ الدعوة- فبماذا دعا؟ وكيف قال؟ لقد رفعَ يديهِ إلى السماء، وتعلَّق قلبُه بخالقِه وتاقت نفسُه إلى الجنة، وعزَّ عليه أن يُغلَبَ المسلمون ويُخذَلَ الإسلام وقال: «اللهم أعزَّ دينَك، وانصُرْ عبادَك، اللهم إني أسألُك أن تُقِرَّ عيني بفتحٍ يكون فيه عزُّ الإسلام واقبِضْني شهيدًا» وسمع الناسُ الدعاءَ فبكَوْا .. وحُقَّ ¬

(¬1) محمد العبدة: وذكرهم بأيام الله، ص 12.

لهم أن يَبكُوا. وابتدأِ المعركةُ على إثرِ تكبيرِ القائد الشهيدِ (النعمان) وكانت شديدةً، ولكن فرسانَ المسلمينَ كانوا يَشقّون الصفوفَ وفي طليعتِهم (النعمانُ) والذي كان أولَ شهيدٍ في أرضِ المعركةِ، فما وَهَنَ المسلمون وما استكانوا بل استلمَ بعد النعمانِ (حذيفةُ بن اليمانِ) وأخفى خبرَ (النعمان) وهكذا شأنُ المسلمين، فكلَّما غاب منهم سيدٌ قام سيدٌ، وهكذا حتى تمَّ النصرُ المؤزَّرُ للمسلمين، وهرب (الفيرزانُ) قائدُ الفُرْس، فلحِقَه القعقاعُ بن عمرو رضي الله عنه وقتله، وقُتل (يزدجردُ) ملكُ الفرس، وتفرَّق جمعُ الفُرس حينَها، بل انتهى أمرُ الفرسِ على إثرِ هذه المعركةِ التي سُمِّيت بـ (فتحِ الفتوح). وهلَّل المسلمون- في أرضِ فارسَ- للنصرِ وكبَّروا .. ثم التفتوا يسألون عن قائدِهم (النعمانِ) ليبارِكُوا له النصرَ، ويهنِّئوه بما فتح اللهُ على يديه .. ولكن القائدَ قد فاضتْ روحُه إلى بارئِها وأقرَّ اللهُ عينَه بنصرِ الإسلام وعزِّ المسلمين- كما دعا- وحين أخبرهم أخوه (نُعَيم بن مقرِّن) قائلًا: هذا أميرُكم خُتِمَ له بالشهادةِ؛ لم يتمالكِ المسلمون أنفسَهم من البكاءِ لأميرِ نهاوندَ الشهيدِ، فبكَوْه بكاءً شديدًا. أما المسلمون في المدينةِ، فكانوا بشَوْقٍ إلى معرفةِ الأخبارِ، وكان الخليفةُ عمرُ ينتظر نتائجَ معركةِ (نهاوند) بقلقٍ كبيرٍ، أجل لقد أَسهرتْهُ ليالي نهاوندَ، وكان يخرج إلى ضواحي المدينةِ في حرِّها القاسي ينتظرُ أخبارَ الفتحِ ويستنصرُ، وكان الناسُ مما يرونَ من استنصارِه ليس لهم همٌّ إلا (نهاوندُ) و (ابن مُقرِّن) فجاء إليهم أعرابيٌّ مهاجِر، فلما بلغ البقيعَ قال: ما أتاكم عن (نهاوند)؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: لا شيء، فأرسل إليه عمرُ، فأتاه، فسأله فقال: أقبلتُ بأهلي مهاجرًا حتى وَرَدْنا مكانَ كذا وكذا، فلما صَدَرْنا إذا نحن براكبٍ على جملٍ أحمرَ ما رأيتُ

مثله، فقلتُ: يا عبدَ الله، من أين أقبلتَ؟ قال: من العراق، قلتُ: ما خبرُ الناس؟ قال: اقتتل الناسُ (بنهاوند) ففتحها الله، وقُتل ابنُ مُقرِّن، والله ما أدري أيُّ الناسِ هو، ولا ما نهاوندُ. وما زال الخليفةُ عمرُ يسأل الأعرابيَّ حتى قال له: لعلك تكونُ لقيتَ بَرِيدًا من بُرُد الجنِّ، فإن لهم بُرُدًا (¬1). وبعد فترةٍ وجيزةٍ جاء البشيرُ إلى عمرَ وكان السائبَ بن الأقرع .. فقال له عمر- بلهفٍ-: ما وراءَك؟ قال: فتحَ اللهُ عليك واستُشهِدَ الأمير .. واختلطتْ المشاعرُ وتداخلتِ الأحاسيسُ عند عمرَ .. فرَحٌ وحزنٌ، ودموع للنصرِ وأخرى لاستشهادِ القائدِ المظفَّر .. واعتلى عمرُ المنبرَ، ونعى إلى المسلمين النعمانَ بن مقرِّن، وبكى .. وبكى حتى نَشَجَ .. وشاركه المسلمون البكاءَ .. ولكنَّ عمرَ والمسلمين استبشروا بالنصرِ والفتح. أما النعمانُ بن مقرِّن ففي سهلٍ فسيحٍ ممتدٍّ في نهاوندَ دُفن، ودُفن معه جنودُه الشهداءُ الأوفياء- يُشهِدون الناسَ على أنهم الأوفياءُ لدِينِهم ويَشهَدُ اللهُ على أنهم المجاهدون في سبيل الله، المتعالُون على حُطامِ الدنيا وزينتِها، وبمثلِ أولئك الرجالِ ينتصرُ الإسلام ... وبمثلِ هذه العيِّناتِ يُرجَف بالأعداء، وبمثل هذا الصدقِ والإخلاص ينتصرُ المسلمون، ينتصرون وإن قدَّموا أنفسَهم شهداءَ، ويفرَحون وإنْ خُيِّلَ للعدو أنه أَلقاهم صَرْعى، وصدق اللهُ العظيم {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬2). ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/ 357، قال المحقق: إسناد الرواية ثقات. (¬2) سورة آل عمران، الآيتان: 169، 170.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: أيها المسلمونَ: كيف انتصرَ المسلمون على أعدائِهم في الماضي، وكيف هُزِموا بعدُ، وكيف ينتصرُ المسلمون اليومَ وغدًا على عدوِّهم؟ تلك أسئلةٌ سَهلةٌ صعبة .. فما أسهلَ الحديثَ عنها، وما أعظمَ القيامَ بها .. وبكلِّ سهولةٍ يمكن القولُ: إنَّ المسلمين أسلافَنا انتصروا على عدوِّهم حين انتصروا على أنفسِهم، وخافهم عدوُّهم حين خافوا من ربِّهم، نَصَروا دينَ الله فنصرهم الله، وجاهدوا في سبيلِ الله مخلِصين فتحقَّقَ على أيديهم من النصرِ والتمكينِ والفتحِ المبينِ ما يشهدُ به العدوُّ والصديق، كانوا يبحثون عن الموتِ فتُوهَبُ لهم الحياةُ، وكانوا يتطلَّعون إلى الشهادة ويسألونَ ربَّهم أن يُبلِّغَهم إياها .. لقد قذفَ الله في قلوبِهم العزةَ بالإسلام وقال قائلهم: «نحن قومٌ أعزَّنا اللهُ بالإسلام، ومهما ابتَغَيْنا العِزةَ بغيره أذلَّنا الله»، فقذف الله في قلوبِ أعدائِهم الرعبَ والمهابةَ منهم؛ والرعبُ بدايةُ الهزيمةِ. تاقتْ نفوسُهم وتعالَتْ في الدنيا .. فكانت الآخرةُ همَّهم، وهجروا الأرضَ والأوطانَ والعشيرة والأزواجَ جهادًا في سبيل الله ودعوةً إلى دينه .. ووقف فارسُهم على جانب البحر وقال: واللهُ لو أعلمُ أن هناك أرضًا وقومًا خلفَ هذا البحرِ لم تبلُغْهم دعوةُ الإسلام، وتستطيعُ الخيلُ أن تصلَه، لأوطأْتُها إياه. كانوا يتسابقون إلى الجهادِ في سبيل الله ومقارعةِ الأعداء .. يستوي في ذلك الشبابُ والكهولُ والأسوياءُ وأهلُ الأعذار، فالأعرجُ يأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقد منعه أبناؤه من القتالِ ويقول: يا نبيَّ الله إني أريدُ أن أطأَ بعَرْجتي هذه الجنةَ، فلا تَحرِمْني من الجهادِ. فيأذنُ اللهُ فيُستشهَد! والأعمى يقول لأصحابه: إنني رجلٌ أعمى لا أستطيعُ الفرار، فأعطوني الرايةَ أحملها. فيُستشهَد والشبابُ بين يديْ

رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصارعون ليُثبِتوا مقدرتَهم على القتال، فيَقبَلُ من يَقبَل منهم، ويرجئُ آخرين لعدمِ بلوغهم ومقدرتِهم حتى يبلُغوا في المعركة القادمة، وهكذا. بل حتى النساء لهذا الجيل- وهنَّ ممن عَذَرَ اللهُ عن الجهاد- كنَّ يشاركنَ في الجهاد، يداوِينَ الجَرحى ويَسقِينَ العطشى من المسلمين المجاهدين- وربما حملنَ السلاح ونكَأْنَ العدوَّ، بل ربما استحقَّت إحداهن لقب (المجاهدة) كنُسَيْبة بنت كعب التي شهدت أُحدًا وقال عنها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَمُقامُ نسيبةَ بنتِ كعبِ اليومَ خيرٌ من مُقامِ فلانٍ وفلان»، وشهدتْ حمراءَ الأسدِ ودمُها ينزِف وشهدت الحديبيةَ، ويومَ حُنينٍ، ويومَ اليمامة، وبها قُطِعَت يدُها، وجُرحت يدها، وجُرحت سوى ذلك أحدَ عشرَ جُرحًا .. رضي الله عنها وأرضاها (¬1). أما المُوسِرون وأهلُ الثراءِ من المسلمين فكانوا يَبذُلون أموالَهم رخيصةً في سبيل الله وتجهيزِ المجاهدين، وربما تسابقَ اثنان منهم فأتى أحدُهما بنصفِ ماله، وجاء الآخر بمالِه كلِّه، ذلك شأن الخيِّرينِ (أبي بكر وعمر) رضي الله عنهما، أما عثمانُ وابن عوفٍ وأمثالُهما فما ضَرَّهُم ما فعوا بعد تجهيزِ جيشِ العُسرة، وتبقى في المجتمع فئةٌ شاذَّةٌ منافقة يَلمِزون المطَّوِّعين من المؤمنين في الصدقات. أما الفقراءُ الذين لا يجدون ما ينفقون، ولا ما عليه يحملون، فتفيضُ أعينُهم بالبكاء حزنًا ألاَّ يجدوا ما ينفقون، ولا يَضِيرُهم سُخْريةُ الساخرين بهم، فأولئك سَخِرَ اللهُ منهم. نعم لقد كان أولئك الفاتحونَ يقاتلون في سبيلِ الله ولا يخافون لَوْمةَ لائمِ كتب اللهُ في قلوبِهم الإيمانَ فكانوا يُوالُون أو يعادُون في الله ولله، ويقاتلون من يَكفُر ولا يُوادُّون من حادَّ اللهَ ورسولَه ولو كانوا آباءَهم أو أبناءَهم أو إخوانَهم أو ¬

(¬1) الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/ 278.

عشيرتَهم، ذلك الجيلُ كانوا باختصار: فرسانًا بالنهار، رهبانًا بالليل. وجيلٌ تلك بعضُ سِمَاتِه حَرِيٌّ بالنصر، وخليقٌ بأن يخافَهم العدوُّ، ويفتحوا الأقاليمَ وينشروا دينَ الله. لكن ماذا جرى على مَن بعدَهم ممن هزمهم الأعداءُ وفرَّقوهم شِيَعًا، لقد أضاعوا الصلاةَ واتَّبعوا الشهواتِ، تعلَّقوا بالدنيا وتنافسوها، كَرِهوا الموتَ وأُصيبوا بالوَهْن، الشبابُ طَغَوْا بشبابِهم، بل ربما أمضَوْه في اللهوِ والترف، والكهولُ تعاجزوا وتباطئوا، والأغنياءُ بَخِلوا، والفقراءُ ذلُّوا بالمسألةِ وتشاغلوا بها، والنساءُ تسابقنَ إلى المُوضةِ وتعلَّقنَ بالتوافهِ من الأمور، بل أصبح بعضُهنَّ مَثارًا للفِتْنة ومحطةَ للتقليد وزُبالةِ القيَم والأفكارِ البالية المستورَدة. طاش ميزانُ الولاءِ والبراءِ .. وأصبح استِجداءُ العدوِّ وتقديمُ العونِ له أمرًا ظاهرًا. استهان بهم العدوُّ فاحتلَّ أرضَهم، بل تطاولَ إلى التدخُّل في شئونِهم الخاصة، واتَّهمهم بل تطاولَ على دينِهم ونبيِّهم صلى الله عليه وسلم. وجيلٌ تلك بعضُ سِمَاتِهم أنَّى يُنصَرون. أيها المسلمون: ومع ذلك فالخيرُ باقٍ في هذه الأُمةِ، وثَمَّةَ من يَأنَفُون من هذا الواقعِ، والمسلمون بشكلٍ عامٍّ باتوا يتململون ويُدرِكون أكثرَ حجمَ الخَطَر المُحدِق، والفرصةُ أمامهم للإصلاح والعَوْدة إلى الله مُشرَعة الأبواب، والنماذجُ الصادقة للسلفِ والخَلَف تَغْذُو سيرَهم، وفي تجاربِ المسلمين- عبرَ القرون- مع أعدائهم ما يُحفِّزُهم على النهوضِ والاستعلاء، واللهُ غالبٌ على أمره، ولَيَنصرنَّ اللهُ من ينصرُه، وجندُ الله هم الغالبون، والعاقبةُ للمتقين. عباد اللهَ: وكم هو جميلٌ هذا العنوانُ الذي عبَّر به الكاتبُ عن وصفِ أحوالِ المسلمين اليومَ بهذا التعبير (المستَضعَفُون الأقوياءُ) ثم قال: مُخطئ من يظنُّ أن المسلمين الصادقين أصبحوا لُقْمةً سائغةً في أيدي أعدائهم، ومغرورٌ من يُمنِّي نفسَه بسهولةِ المعركة الطويلةِ معهم، وواهمٌ أو مُغفَّل من يعتقدُ أن تلك المعركةَ

ستنتهي بإنهائِهم أو احتوائِهم أو إِلجائِهم إلى التخلِّي عن رسالتِهم الموكولة من الله إليهم بأن يُخرِجوا الناسَ من الظُّلماتِ إلى النور، ويملئوا الأرضَ قِسطًا وعدلًا بعد أَن مُلِئت جَوْرًا وظُلْمًا. فهؤلاء المسلمون- رغمَ استضعافِهم- أداةٌ إلهيَّة قَدَريّة سيُجري اللهُ تعالى بهم سُنَّته، ويحقِّق بهم وعدَه بانتشاره نورِه وانتصارِ دينه وانكسار أعدائه {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (¬1). ثم يقول الكاتب- وفَّقَه اللهُ-: صحيحٌ أن المسلمين الآن ضُعفاءُ في تفرُّقِهم، مشتَّتون بجراحِهم، ضائعون بفِقدانِ القيادةِ العالمَية الواحدة الرائدة، وصحيحٌ أن ظِلالًا من الذُّلِّ لا تزالُ تخيِّم على رءوس الأُمة بعد طولِ مخاصمةٍ لمَعقِد العزِّ والتمكين المتمثِّل في ذُرْوةِ سنامِ الإسلام، ولكنْ هذه كلُّها أعراضٌ لأمراضٍ سرعانَ ما تزولُ بزوال أسبابِها، والأيامُ تُثبِت هذا، فلا تزال العودة إلى الله تعالى بالمسلمين رويدًا رويدًا إلى آفاقٍ رَحْبةٍ من رحمة الله. ثم استعرضَ الكاتبُ مكرَ الأعداء وماذا حقَّقَ من إيجابياتٍ للمسلمين، وجالَ جولاتٍ متعددةً في عددٍ من المناطق الملتهبةِ، وتفاءَل بمستقبلٍ مشرِقٍ للإسلام والمسلمين من خلال مسمَّياتِه التالية: 1 - فلسطينُ عَطاءٌ بلا غِطاء. 2 - أفغانستان: طالِبان وغلامُ الأخدود. 3 - الشِّيشان دورٌ كبير لشعبٍ صغير. 4 - أكرادُ العراق ووميضُ أملٍ في الآفاق. ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 33.

5 - الفِلِبِّين أولُ الغيثِ قَطْرة. وتحتَ كلِّ مسمًّى تحدَّث الكاتبُ وفصَّل عبرَ رُؤًى وإحصائياتٍ حَريَّةِ بالقراءَة والتأمُّل كما جاء في (مجلة البيان) في عددها الأخير: ذي القَعْدة 1423 هـ. وما أحوجَ المسلمين اليومَ إلى نظرةٍ متفائلة تَنظُر بنورِ الله .. وتتعامل مع كيدِ الأعداء وَفْقَ سُننِ الله، ألا وإن دين الله منتصرٌ .. ولكنَّ السؤالَ المهمَّ لكل واحدٍ منا: ماذا قدَّم لنُصرةِ هذا الدينِ؟ وما دور إيمانِنا بحقائق القرآن: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (¬1) {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (¬2) {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (¬3) {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} (¬4) {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (¬5). ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 128. (¬2) سورة الصافات، الآية: 173. (¬3) سورة الطارق، الآيات: 15 - 17. (¬4) سورة الأنفال، الآية: 59. (¬5) سورة الأنفال، الآية: 36.

ظاهرة، وموسم

ظاهرةٌ، وموسم (¬1) الخطبةُ الأولى: الحمدُ لله أَمَرَنا بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القُرْبى، ونهى عن الفحشاءِ والمنكرِ والبغيِ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، حرَّمَ الظلم على نفسِه وجعله بين عبادِه محرَّمًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، جاءت شريعتُه بحفظِ الأنفُس والأموالِ والأعراض، والمفلِسُ من أُمّته من جاء يومَ القيامة وقد سفكَ دمَ هذا وضربَ هذا وأخذ مالَ هذا. اللهم صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائر النبيين. عبادَ الله: ظاهرةٌ اجتماعيةٌ مقلِقةٌ، يتفاقمُ خَطَرُها، ويكثُر جَرْحاها وقتلاها، وتعمُّ ببلواها فتتجاوزُ الفاعلين إلى الأبرياءِ الآمنين، نشتركُ جميعًا في مسئوليتها، ولا بدَّ أن نتعاونَ جميعًا في علاجِها .. ضحيتُها أولادُنا، ووَقودُها أموالُنا، إنها تستفزُّ مشاعرَنا، وتحرقُ أعصابَنا، وطاقَمُها في بيوتِنا وأبطالُها المتهوِّرون فَلَذَاتُ أكبادِنا، كم أيتمتْ، وأرملتْ، وأقعدتْ وشلّتْ، وكم أحزنتْ وأبكتْ، وآلمتْ وفرّقتْ وآثارُها مزيجٌ من الدماءِ النازفةِ، والأشْلاءِ المتناثرةِ، والجثثُ الهامدة هنا وهناك، فهل عرفتُم هذه الظاهرةَ؟ إنها ظاهرةُ حوادثِ السياراتِ عمومًا .. وأخصُّ منها تلك التي تَحدُث نتيجةَ تهوُّرٍ في القيادة، واستخفافٍ بالأنفُس البشرية، وتطاوُلٍ على الأنظمة المروريّة كسرعةٍ جنونية، أو قَطعٍ للإشارة دون مبالاتٍ بالنتيجة، أو نوعٍ من القيادة ذاتِ الحَرَكات البهلوانية والتي تؤدِّي إلى الإضرارِ بالآخرين، وقد يكون هذا القائدُ ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 28/ 11/ 1423 هـ.

المتهوِّرُ أولَ الجرحى، وربما كان أولَ واحدٍ في عِدَاد الموتى. وهذه الظاهرةُ الأخيرة- أعني ظاهرةَ ما يُسمَّى (بالتفحيط) - هي المقصودةُ بحديثِ اليوم، لأن سُوقَها يَرُوج- أكثرَ- في أيامِ الامتحانات، وعلى مشارفِ الإجازات .. ولقد فُتِنَ بها أبناؤُنا حتى شكَّلوا جمهورَها المتفرِّج، وتفنَّن بها أبناؤنا (المتهوِّرون) حتى عاد مِقودُ السيارةِ بأيديهم أشبهَ بمُسدسٍ في يدِ مهووسٍ أو مجنون؟ والسؤالُ الذي يطرَحُ نفسَه: ما دورُنا- نحن الأولياءَ- في هذه الظاهرةِ وجودًا أو عدمًا؟ وما دَورُ المؤسساتِ التربويةِ والتعليميةِ- قبل الأَمنية- تربيةً وتعليمًا ونُصحًا، ثم أين دورُ الجهاتِ الأَمنية الفاعل تجاهَ هذه الظاهرةِ رصدًا ومتابعةً وتوعيةً ومنعًا؟ أيها الآباءُ .. وأيها المربُّون، ويا رجالَ الأمنِ- تعالَوْا بنا نضعُ النِّقاطَ على الحروفِ في سبيل علاجِ هذه الظاهرة، وتجنيبِ مجتمعِنا وأبنائنا من كوارثَ تُهِيل فيها لغةُ الأرقام .. ويُصدَم الغافلُ حين يطَّلعُ على إحصاءاتِ الحوادثِ وعددِ الموتى، فضلًا عن المعاقِينَ والمشلولينَ وأصحابِ العاهاتِ الأخرى .. ولقد ذَهَلتُ حين طالعتُ في إحدى صحفِنا المحلية جريدةِ الرياض في يوم الثلاثاء 25 م 11/ 1423 هـ- وبها مقالٌ يتحدَّثُ عن آثارِ الحوادث ونسبتِها وكثرتِها، ويُحصي المقالُ حوادثَ هذا العامِ الذي نودِّعُه 2002 م وتقول: إن عددَ الحوادثِ زاد ليصلَ إلى ثلاثمائة وعشرين (320) ألفَ حادثٍ، بمعدَّل ثمانمائةٍ وعشرين (820) حادثًا في اليومِ الواحدِ، مع ستٍّ وثمانين إصابةً، وثلاثةَ عشرَ (13) وفاةً في اليومِ ثم يقولُ الكاتبُ معلقًا: هذه المعلوماتُ والأرقامُ والحقائقُ كشفَتْها إحصائياتٌ رسمية أُعلِنَ عنها في الصحفِ، وكَشفتْ الإحصائياتُ أرقامًا مُروِّعةً ومخيفةً لعدد القتلى والمصابين جرَّاءَ الحوادثِ

المروريةِ الناتجة عن السرعة واللامبالاةِ والتهوُّر في القيادةِ وقَطْع الإشارات، وفوقَ كلِّ هذا لا يزال للأسفِ حصادُ الأنفُسِ مستمرًا، بل وفي تصاعدٍ مُذهِل (¬1). أيها الناسُ: ودعونا نقفْ على لونٍ واحدٍ من هذه الممارسات الخاطئةِ في القيادةِ وما يُسمَّى بـ (التفحيط) أو (حربِ الشوارع) ولنبدأْ بدَوْرِ الأسرةِ وممثِّلِها الأول (الأب) وأَكتفي هنا بطرحِ عددٍ من الأسئلةِ على الآباء، وكلٌّ يختارُ الإجابةَ التي يراها مناسبةً له ولأولادِه وللمجتمعِ من حولِه. فهل ابنُكَ- أساسًا- مؤهَّلٌ للقيادةِ وأهلٌ لتحمُّل مسئوليةِ السيارة؟ وإياك أن تقول: هذه مسئوليةُ رجالِ الأمن وحدَهم .. فأنت بكلّ تأكيدٍ أدرى وأعرفُ بابنِك من غيرِك، لا سيَّما في تعقُّلِه وتحمّلهِ للمسئولية، وتقديرِه لمصلحة نفسِه والآخرين، وإذا لم يبقَ إلا قدرتُه على القيادةِ فنيًّا فتلك مسئوليةُ رجالِ الأمن .. لكنْ إياك أن تشفعَ أو توسِّط أو تضغطَ عليهم للتجاوزِ عن شروطٍ لا بدَّ منها للقيادة. وهل ينتهي دورُك- أيها الأبُ- عند شراءِ السيارةِ ثم تسليم الابنِ مقاليدَها دون شرطٍ أو قيد، ودون معرفةِ أين يذهبُ، ومن يصطحبُ .. وأين يُمضِي سَحابةَ النهار وعتمةَ الليل على هذه السيارةِ، هل لديك متابعةٌ وسؤالٌ ومعرفةٌ وتوعيةٌ؟ أم أنك محاسِبٌ تدفع فاتورةَ الوَقُود .. وقد يحرق نفسَه أو غيرَه بهذا الوقود. هل ابنُك أصلًا محتاجًا للسيارةِ أم أنك تُباهي أن في البيت عددًا وأنواعًا من السياراتِ، بقطعِ النَّظَر عن مدى الحاجةِ إليها، وبِصرفِ النظر عن من يقودُها. ¬

(¬1) جريدة الرياض، عدد 12636 في 25/ 11 / 1423 هـ؟ .

إن العاطفةَ قد تأخذُنا- أحيانًا- لتوفيرِ السيارة للابنِ .. وقد نُدفَعُ من داخلِ البيت- ممن قد لا يُقدِّرون العواقبَ- فهل نحتاطُ لذلك كلِّه؟ وحين تتابعُ- أيها الأبُ- أبناءَك .. وتُعلِّم وتحذِّر، وتُنذِر .. فهل يصعبُ عليك أن تسحبَ السيارة من ابنِكَ حين لا يسمعُ لنُصحِك .. وتَكثُر الشكاوَى عليه من الآخَرين .. أم تظنُّ أن هذا الحقَّ من اختصاصِ رجالِ الأمنِ فقط؟ وبالجملةِ فعلينا معاشرَ الآباءِ كِفلٌ من مسئوليةِ هذه الآثار التي نتوجَّعُ لها، ولا يكفي أن نُرحِّلَ المشكلةَ إلى غيرِنا .. بل نقومُ بدورِنا ثم نطالبُ الآخرين بدَورهم، أما المَحاضنُ التربوية- وفي طليعتها المدارسُ- فهي تملك التوعيةَ لهؤلاءِ الشبابِ قولًا وفعلًا .. فالندوةُ والمحاضرةُ عن آثارِ الحوادثِ .. ودَوْرِ الشبابِ الفاعلِ في أُمتهم. وفي طابورِ الصباح كلمةٌ مختصَرةٌ أو قُصاصةٌ معبِّرة من جريدةٍ أو مجلَّة، أو قصيدةٍ مُوحِيَة .. أو تجرِبة مذكِّرة وهكذا .. من ألوانِ التوعية وأساليبِها المؤثِّرة، وتستطيعُ المدرسةُ أن تتابعَ المتهوِّرين في القيادةِ فتتحدَّثُ إليهم على انفراد .. فإن نفعَ أسلوبُ اللِّينِ والترغيب .. وإلا فالتلويحُ بالترهيب والعقوبة .. وقد يصلُ الأمرُ إلى التهديدِ بالفَصْل من المدرسة إنِ استمرَّ هذا المتهوِّرُ في تهوُّره .. والمنعُ من دخولِ الامتحان يسبِقُه كعقوبةٍ أوَّلية رادعةٍ، ودرجاتُ (السلوك) المهمَّشةُ ينبغي أن يُعادَ لها اعتبارُها ويَشعُر الطالبُ بأثرِها في معدَّلِه، وأثرِها في قَبُولِه في المرحلةِ اللاحقة لمرحلتِه. ولستُ أدري، ألاَ تفكِّرُ مدارسُ البنينِ بإبقاءِ الطلبة بعد الامتحانِ في المدرسة، وتكثيفِ المناشطِ اللاصفِّيّة المقبولةِ والتوعويةِ المؤثِّرة في هذه الفترةِ الضائعة، والتي كثيرًا ما يستغلُّها الشبابُ بالتجمُّعات الفارغةِ والتي لا تخلُو من سلوكياتٍ غير مُرضيةٍ، إن هذه لو فُكِّر فيها بجدٍّ لإفادةِ الطلبة من جهةٍ، ومُنِعت

هذه التجمعاتُ التي ينتظرُها المتهوِّرون في القيادةِ ليستعرِضوا أمامَها .. من جهةٍ أخرى. وفوقَ ذلك كلِّه فقد أصبحت الثقافةُ الأمنيّةُ ضرورةً مُلحَّةً في مناهجِنا التعليمية، بشكلٍ يُسهِم في إيقافِ نزيفِ الدماء، ويقلِّلُ بإذنِ الله من الجَرْحى والموتى. أمّا أنتم يا رجالاتِ الأمنِ فعلى الرَّغمِ من الجهدِ الذي تقومون به، فالمجتمعُ يلومُكم على عددٍ من الجرائم التي تقعُ في غفلةٍ منكم، والمجتمعُ يتطلَّع إلى جهدٍ أكثرَ وفاعليةٍ أقوى .. وأساليبَ متجدِّدةٍ ومؤثِّرة للتوعية المروريةِ عمومًا، ولمعالجةِ مثل هذه الظاهرة على الأخصِّ، فزيارتُكم للمدارس لا ينبغي أن تُحصَرَ في أسابيع المرورِ لتكون حوليةً .. ولا يكفي أن تكونَ محاضرةً أو ندوةً إلقائيةً مرتَجَلةً وإنشائيةً، فنحن في زمنِ المعلومات .. وفي زمنِ تأثير الصورةِ المرئيّة، وبالتالي فلا بدَّ من لغة الأرقامِ تخاطبون وتحذّرون بها الطلاب، ولا بدَّ من عرضِ الصُّور وإن كانت مفزِعةً ليرى المشاهِدُ كيف تكونُ المأساةُ حين لا تُضبَطُ القيادة، لا بدَّ من قراءةِ الآثار والمعدَّلاتِ الناجمةِ عن الحوادث .. ولا بدَّ من عرضِ الأسبابِ بوضوحٍ ورسمِ العلاج بحَزْمٍ، هل تعجزُ قطاعاتُنا الأمنيةُ عن محاصرةِ هذه الظواهر .. ومعاقبةِ من لا يبالي بالأرواحِ والممتلكات؟ وهل يكفي مطاردةُ هؤلاءِ المتهوِّرين- وقد يَنجُم عنه أضرارٌ أكبرُ- أم أن هناك دراسةً للظاهرةِ وعلاجًا لها بوسائلَ وآلياتٍ جديدةٍ وجيدة وآمنةٍ تقطعُ دابرَ المشكلة، وتمنعُ مشكلاتٍ مماثلةً؟ ألا يُفكَّر في وجودِ نقاط أمنيّةٍ فرعيّة في الأحياءِ الكبيرة، وكذا في الشوارع المزدحمةِ ليَسهُل تعاملُ رجلِ الأمن مع القضايا والحوادثِ الأمنية بشكل عامّ- ومنها هذه الظاهرةُ وظاهرةُ السرقةِ، لا بدَّ من عقوباتٍ رادعةٍ لمن يتكرَّرُ خطؤُه، ولا بدَّ من توعيةٍ مروريةٍ مكثَّفةٍ لتصلَ إلى البيوتِ والمدارسِ تذكِّر وتحذِّرُ وتوعِّي وتُنذِر- وبالجملةِ فبإمكانِنا مجتمعين

ومتعاونين أن نصنعَ شيئًا، وأن نجنِّب أولادَنا ومجتمعَنا من ويلاتِ هذه الحوادثِ المفزِعة. وهمسةٌ أخيرةٌ في أُذنِ من بُليَ بهذه القيادةِ المتهوِّرة من الشبابِ نقول: فكِّروا في العواقبِ جيدًا، واحمُوا آباءكم وأمهاتِكم ومجتمعَكم .. وأنتم زهورٌ فلا تَذبُل الزهرةُ فجأةً، وأمامَكم المستقبلُ فلا تُضيِّعوه بهذه الممارساتِ الخاطئةِ، وحين تفكِّرون أو يفكِّرُ غيرُكم في كَسْب الزمن في قَطْع الإشارة ففكِّروا كذلك أنكم ربما خَسِرتُم الحياةَ كلَّها، وإذْ كنّا في زمنٍ نحاصَرُ فيه بالأعداء، فهل تكون مساهمتُكم في دفعِ العدوِّ ترويعَ الآمنين وإعلانَ الحربِ على إخوانِكم المسلمين؟ اللهمَّ انفَعْنا بهَدْي القرآنِ وسُنَّةِ محمدٍ عليه الصلاةُ والسلام، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفر الله لي ولكم ..

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ للهِ يسَّر لعبادِه من فُرَص الطاعةِ ما يَبلُوا هممَهم ويُعظِّم أجورَهم، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، خصَّ هذه الأُمةَ بخصائصَ، واختار لها مناسباتٍ وأيامًا فاضلةً، الموفَّقُ من وفَّقَه اللهُ لاستثمارِها، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، بيَّن للأُمةِ ما يُسعِدُها، وحثَّها على ما فيه بِرُّها وخيرُها، ومن يُطعِ الرسولَ فقد أطاع الله، ومن تولَّى فما أرسلناك عليهم حفيظًا- صلَّى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبهِ أجمعين. إخوةَ الإسلام: موسمٌ عظيمٌ وسُوقٌ من أسواقِ الجنة، وتجارةٌ رابحةٌ تحلُّ بها- قريبًا- رحماتُ ربي على المسلمين، فهل من مُشترٍ؟ وهل من مُتاجرٍ؟ ألا ويحَ من غُبِنوا حين يكسبُ الناسُ، ومساكينُ من فرَّطوا حين يَجِدُّ الناسُ! عشرُ ذي الحِجَّة قابُ قوسين أو أدنى- بلَّغنا اللهُ إياها، وأعاننا على عمل الصالحاتِ فيها- وما أدراك ما عشرُ ذي الحجَّة؟ أقسمَ اللهُ بها في كتابِه العزيز فقال: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} ثمِ قال بعدُ {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ} والمعنى: إن في ذلك لقِسمة لكلِّ ذي لُبٍّ وعقل (¬1). أي: إن ما في هذه الأيامِ العشرِ من فُرِص للطاعةِ ومناسباتٍ للعبادة، وإغاظةٍ للشيطان، وأشياءَ معظَّمةٍ، تستحقُّ أن يقسِمَ اللهُ بها .. لكن منَ يعقلُ ويعملُ أولئك هم أُولُوا الألباب {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ} (¬2). عبادَ الله: وهذه العشرُ حثَّ على اغتنامِها نبيُّ الهدى والرحمةِ، فقد أخرج ¬

(¬1) تفسير القرطبي، 20/ 43. (¬2) تفسير السعدي (بتصرف) 7/ 622.

الإمامُ أحمدُ وغيرُه بإسنادٍ صحيح عن عبدِ الله بن عمرِو بن العاص رضي الله عنهما قال: كنتُ عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال: فذُكِرَت له الأعمالُ، فقال: ما من أيامٍ العملُ فيهنَّ أفضلُ من هذه العشرِ، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟ فأكبره، فقال: «ولا الجهادُ، إلا أن يخرجَ رجلٌ بنفسِه ومالِه في سبيلِ الله، ثم تكونَ مهجةَ نفسِه فيه» (¬1). يا عبدَ الله، الفرصُ غاليةٌ، والعمرُ قصيرٌ، والفتنُ متلاحقةٌ، وسِلعةُ الله غالية .. فهل تضعُ لك سهمًا وافرًا في المبادرة؟ وهل تتساوى عندَك الأيامُ، أم أنك تشعرُ بالتقصيرِ وتفرَحُ بهذه الأيامِ لتسدِّدَ وتقاربَ وتكسبَ مع من يكسبُ في الموسم؟ هذه الأيامُ العشرُ فرصتُك- يا أخا الإيمانِ- في تجديدِ العزمِ على القيامِ بالفرائض، فهي أحبُّ ما تَقرَّب به العبدُ إلى ربِّه، وفرصتُك في الزيادةِ من النوافلِ فهنَّ جابراتٌ ومكمِّلاتٌ للنقص- ولئن كانت فرصُ الطاعةِ كثيرةً من صلاةٍ وصيام، وذِكرٍ وتلاوةٍ للقرآن، وصِلَةٍ ودعوةٍ، وأمرٍ بالمعروفِ ونهيٍ عن المنكر، وصدقةٍ وبرٍّ وإحسانٍ وحجٍّ وأضاحيَ، فقد أرشدَ المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى كثرةِ الذِّكر في هذه الأيام، وقال: «فأكثِروا فيهنَّ من التهليلِ والتكبيرِ والتحميدِ» ورغَّبك في الصيامِ، وصيامُ عَرَفةَ يكفِّرُ سنتين، وللدعاءِ مَزِيّةٌ في العشرِ لا سيما في يوم عرفةَ، فخيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفة- كما أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم- وكم لكَ من حاجةٍ، وكم بالمسلمينَ من فاقةٍ ومِحنةٍ، فهل ترفعُ أكُفَّ الضراعةِ وقلبُكَ خاشعٌ وعينُك تدمعُ لتدعوَ لنفسِك والأقربين وللمسلمين، وربُّك يجيبُ المضطرَّ إذ دعاه؟ ويكشفُ السوءَ، وهو قريبٌ يستجيبُ دعوةَ الداعِ إذا دعاهُ، ألا فليُعلَمْ أن ¬

(¬1) المسند 10/ 67 بتحقيق أحمد شاكر.

الدعاءَ سلاحٌ يملكُه المسلمون دون عناءٍ فهل يستثمرونَه؟ وهل يتحيِّنونَ فرصَ الإجابةِ؟ أيها المسلمُ والمسلمةُ: وليس لأحدٍ منكما بلغَ سنَّ التكليفِ وهو قادرٌ على الحجِّ أن يتراخَى، فهذا ركنٌ من أركانِ الإسلام لا يَسُوُغ التفريطُ أو التراخي فيه .. وقد يمرضُ السليم، أو تحلُّ بالمقتدرِ اليومَ حاجةٌ غدًا .. إلى غيرِ ذلك من عوارضَ قد تعرِضُ للمسلم فتمنعُه عن الحجِّ (¬1)، فالبِدارَ البِدارَ لأداءِ الفرض؛ والمسابقةُ والمتابعةُ بين الحجِّ والعمرة لمن أَفرضَ سنَّةٌ وقُرْبة، فالرسولُ صلى الله عليه وسلم يقول: «تابِعُوا بين الحجِّ والعمرةِ، فإنهما ينفيانِ الفقرَ والذنوبَ كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديدِ والذهبِ والفضةِ، وليس لحَجَّةٍ مبرورةٍ ثوابٌ إلا الجنة، وما من مؤمنٍ يَظَلُّ يومَه مُحرِمًا إلا غابتِ الشمسُ بذنوِبه» أخرجه الترمذيُّ، وأخرج النسائيُّ بعضَه (¬2). إن الحجّ والعمرةَ جهادُ الكبيرِ والصغيرِ والمرأةِ- كما أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ أخرجه النسائيُّ، وإسناده صحيح (¬3). وعن عائشةَ رضي الله عنها قالتُ: قلت: يا رسولَ الله، نرى الجهادَ أفضلَ الأعمالِ، أفلا نجاهدُ؟ قال: «لَكُنَّ أفضلُ الجهادِ وأجملُه: حجٌّ مبرورٌ، ثم لزومُ الحُصُرِ» قالت: فلا أَدعُ الحجَّ بعدَ إذْ سمعتُ هذا من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم (¬4). ¬

(¬1) وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: «تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له» رواه أحمد وابن ماجه وهو في الجامع الصحيح (3/ 43 ح 2954). (¬2) جامع الأصول 9/ 461. (¬3) جامع الأصول 9/ 467. (¬4) رواه البخاري والنسائي، جامع الأصول 9/ 460، والفتح 3/ 382.

عبادَ الله: ويبقى بعدَ ذلك إشاراتٌ وتنبيهاتٌ للحجِّ والأضاحي أَعرِضُ لها في الجمعةِ القادمةِ بإذن الله .. وتنبيهٌ آخرُ يتعلَّقُ بالتوبةِ من الذنوب .. فكما تستدعي هذه الأيامُ الفاضلةُ المسارعةَ بالطاعاتِ .. تستدعي كذلك المبادرةَ بالتوبةِ عن الماضي، والكفَّ قدرَ الُمستطاعِ عن عملِ السيئات، ولقد سُئِلَ شيخُ الإسلام ابنُ تَيْميَّةَ- يرحمه الله- عن أثرِ المعصيةِ في الأيام المباركةِ هل تزيدُ أم لا؟ فأجاب: نعم، المعاصي في الأيامِ المفضَّلةِ والأمكنةِ المفضَّلةِ تُغلَّظ وعقاُبها بقَدْرِ فضيلةِ الزمان والمكان (¬1). ألاَ فعَظِّموا حرماتِ الله معاشرَ المسلمين .. ومن يُعظِّمْ حرماتِ الله فهو خيرٌ له عند ربِّه، وأَنِيبُوا إلى ربِّكم وأَسلِموا له، وتزوَّدوا فإن خيرَ الزادِ التقوى، وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربِّكم وجنَّةٍ عرضُها السماواتُ والأرض أُعِدَّت للمتقين، واستقبِلوا أَيامَ العشرِ بالفرح والبُشْرى، وأَرُوا اللهَ من أنفسِكم خيرًا، ولا تأخذْكم الغفلةُ، وتشغلْكم الدنيا عن نعيمِ الآخرة، فما متاعُ الحياةِ الدنيا في الآخرة إلا قليلٌ، ومن تزكَّى فإنما يتزكَّى لنفسِه وإلى اللهِ المصيرُ. ¬

(¬1) نص عليه في الفتاوى 34/ 180.

وقفات للحجاج وغيرهم وعن الهدي والأضاحي والأيام الفاضلة

وقفات للحجاج وغيرهم وعن الهدي والأضاحي والأيام الفاضلة (¬1) الخطبةُ الأولى: الحمدُ لله، جعلَ لكلِّ أمةٍ منْسكًا همْ ناسِكوه، وفضَّلَ هذهِ الأمةَ على غيرِها مِنَ الأممِ بأكملِ الشرائعِ وأوفى المناسك، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، جعلَ لأمةِ الإسلامِ أعيادًا تعتزُّ بها وتكفيها عمّا سواها منْ مُبتدعاتٍ في الدين، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، أنزلَ عليهِ عشيةَ عرفةَ قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬2). اللهمَّ صلِّ وسلمْ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ ومنْ تبعهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (¬3). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (¬4). أيها المسلمون: في هذهِ الأيامِ التي نعيشها ونستقبلُها مناسباتٌ وعِبَرٌ، ومواسمُ وفرصٌ وقرباتٌ وطاعات، وإقبالٌ وإدْبار، وذكرٌ وغفلةٌ .. والسؤالُ المطروحُ المهمُّ يقول: أينَ موقعكَ- أخي المسلم وأختي المسلمة- منْ هذهِ أو ¬

(¬1) ألقيت هذه المحاضرة يوم الجمعة الموافق 3/ 12/ 1423 هـ، وأعيدت في 6/ 12/ 1423 هـ. (¬2) سورة المائدة، الآية: 3. وانظر تفسير ابن كثير للآية 3/ 24، متفق عليه. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬4) سورة الحجرات، الآية: 13.

تلك، وما مد تقديركَ للفرصِ وما حجمُ استثماركَ للمَغْنم؟ وأقفُ اليومَ مُذِّكرًا نفسي وإياكمْ ببعضِ ما ينبغي التذكيرُ به، والذكرى تنفعُ المؤمنين، ومنْ تذكرَ فإنما يتذكرُ لنفسه، وأرجو أنْ تكونَ هذهِ الوقفاتُ مُذكِّرةً للحُجاجِ وغيرِ الحُجّاج. الوقفةُ الأولى: رغمَ كثرةِ الحديثِ عنْ «عشرِ ذي الحجة» وفضلِها ومَزِيّةِ عملِ الصالحاتِ فيها، إلا أنَّ هناكَ نفرًا منَ المسلمينَ لا يَقْدُروها حقَّ قدْرِها، فهيَ عندَ هؤلاءِ فرصةٌ للرحلةِ والاستجمامِ داخلَ البلادِ أو خارجَها- لا شك أنَّ الاستجمامَ المنضبطَ بضوابطِ الشرعِ لا حرج فيه ولكنَّ التفريطَ في الوقتِ، والتقصيرَ في عملِ الصالحات، والغفلةَ عنْ الذكرِ في هذهِ الرحلاتِ لا يليقُ بالمسلمِ في كلِّ وقت، ولا سيما في الأزمانِ الفاضلةِ كهذهِ العشر، أمّا إنْ صحِبَ هذهِ الرحلاتِ محظوراتٌ شرعيةٌ ومنكراتٌ منَ القولِ أَو الفعل، واستهانةٌ بالحُرمات، وتجاوزٌ على سياجِ المحرَّماتِ .. فذلكَ خللٌ بلْ سَفَهٌ، وعلى المسلمِ أنْ يعصمَ نفسَهُ منه، ويفطمَها عنهُ في كلِّ حين ولا سيما في وقتٍ يشتغلُ المسلمونَ فيهِ بالذكرِ ويتسابقونَ إلى القربات. الوقفةُ الثانية: وعلى الذين يعيشونَ نعمةَ الأمن ورغدَ العيشِ أنْ يتذكروا إخوانًا لهمْ منَ المسلمينَ ضاقتْ عليهمُ الأرضُ بما رَحُبتْ؛ فلا أمنَ يتنفَّسونَ في أجوائه، ولا رَغَدَ منَ العيشِ يُعينُهم على مزيدٍ منَ البذلِ والقُرباتِ، وهؤلاءِ وأمثالهمْ ممنْ يعيشونَ ظروفًا صعبةً منَ المسلمين، منْ أقلِّ حقوقهمْ علينا أنْ لا ننساهمْ بالدعاء، وإنِ امتدتْ أيديَنا إليهمْ بشيءٍ منَ المساعدة، فهمْ أحوجُ ما يكونونَ إلى الإغاثةِ والمساعدة، ونحنُ في مثلِ هذهِ الأيامِ الفاضلةِ أحوجُ ما نكونُ إلى ثوابِها. الوقفةُ الثالثة: والحجُّ نداءٌ ربانيٌّ ومؤتمرٌ عالمي، ومنذْ أنْ قيلَ لإبراهيمَ عليهِ السلام

{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (¬1) وهذا الوعدُ الربانيُّ يتحققُ عبرَ قوافلِ الحجيجِ منْ مشرقِ الأرضِ ومغربها .. واليومَ، ومعَ اتساعِ العالمِ وتعدُّدِ وتطوُّرِ وسائلِ النقلِ، وتأمينِ سُبل الحجِّ، يتكاثرُ الحجاجُ وتتكاثرُ الجنسياتُ والوفودُ المسلمةُ منْ أقصى مغربِ الأرضِ إلى أقصى المشرقِ فيها .. وهلْ تعلمُ أخي المسلمَ أنَّ ثمةَ مسلمينَ آخرينَ يحركهمْ هذا النداءُ الربانيُّ- سواءَ استطاعوا الحجَّ أمْ لمْ يستطيعوا- وهمْ قُربَ القطبِ الجنوبي .. ونسألُ اللهَ أن يبلغهمْ حجَّ بيتهِ الحرامِ- فإذا كانتْ (أستراليا) تقعُ في الأقصى الشرقيِّ للكرةِ الأرضية، فثمةَ مسلمونَ في (نيوزيلاند) التي تبعدُ عنْ (أستراليا) بما يقاربُ عشرةَ آلافِ كيلو متر- منْ ناحيةِ الجنوبِ الشرقيِّ لأستراليا، وهيَ عبارةٌ عنْ جزيرتينِ يُقدرُ عددُ سكانهما بثلاث مئةٍ وخمسينَ ألفِ نسمة، أما عددُ المسلمينَ منْ هؤلاءِ فيقربْ منْ عشرينَ ألفِ نسمة (¬2). هذا نموذجٌ للمدِّ والوجودِ الإسلاميِّ في الجنوبِ الشرقيِّ للكرةِ الأرضية، وهناكَ وجودٌ إسلاميٌّ في الغربِ والشمالِ- ولا شك- وبالتالي فإنَّ الحجَّ يمكنُ أنْ يكونَ مؤتمرًا عالميًا يستثمرُه المسلمونَ فيه أفضلَ استثمار، ويتعرفُ بعضهمْ على ظروفِ بعض، ويعينُ القادرونَ منهمُ الضعفاءَ والمضطهدين. الوقفة الرابعة: وفي الحجِّ فرصٌ للدعوةِ إلى دينِ اللهِ عبرَ الكلمةِ الطيبةِ والمساعدةِ الماديةِ أو المعنوية، وعبرَ الهديةِ النافعةِ لكتيب أو شريطٍ أو مطويَّة، ومنْ خلالِ الاستماعِ إلى الوفودِ الحاجةِ ونقلِ أخبارهمْ واحتياجهمْ إلى إخوانهم المسلمينَ أوْ نحوِ ذلكَ منْ وسائلِ الدعوةِ التي يعتبرُ الإعلامُ الإسلاميُّ لا يزالُ ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 27. (¬2) د. عبد العزيز العمري، خدمات المملكة في استراليا وما جاورها.

مُقصِّرًا في خدمتِها ونقلِها. الوقفة الخامسة: أيها الحجاجُ، وهناك سُننٌ في الحجِّ يجدرُ بكمْ العنايةُ بها، وربما غفلَ عنها كثيرٌ منَ الحُجّاج، ومنْ هذهِ السنن: الحمدُ والتسبيحُ والتكبيرُ عندَ الإحرام، وفي «صحيح البخاري» (بابُ التحميدِ والتسبيحِ والتكبيرِ قبلَ الإهلالِ عندَ الركوبِ على الدابة). وبهِ ساقَ الحديثَ عنْ أنسٍ رضيَ اللهُ عنه، قال: « .. ثمَّ ركبَ حتى استوتْ به على البَيْدَاءِ، حمدَ اللهَ وسبَّحَ وكبَّر، ثمَّ أهلَّ بحجٍّ وعُمرةٍ .. » (¬1). قالَ ابنُ حجر: وهذا الحكمُ هو استحبابُ التسبيحِ وما ذكرَ معه قبلَ الإهلال- قلَّ منْ تعرَّضَ لذكرهِ معَ ثُبوتِه .. » (¬2). ومنْ هذهِ السُّنن- كذلك- الدعاءُ عندَ الجمرتينِ الأُوليين، وفي «صحيح البخاري» - أيضًا- (بابُ الدعاءِ عندَ الجمرتين) ثمَّ ساقَ الحديثَ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمرةَ التي تلي مسجدَ مِنىً، يرميها بسبعِ حصَيَاتٍ يُكبرُ كلَّما رمى بحَصَاة، ثمَّ تقدمَ أمامَها فوقفَ مستقبلَ القبلةِ رافعًا يديهِ يدعو، وكانَ يُطيلُ الوقوفَ، ثمَّ يأتي الجمرةَ الثانيةَ فيرميها بسبعِ حَصَياتٍ يُكبرُ كلَّما رمى بحَصَاة، ثمَّ ينحدرُ ذاتَ اليسارِ مما يلي الوادي، فيقفُ مستقبلَ القبلةِ رافعًا يديهِ يدعو، ثمَّ يأتي الجمرةَ التي عندَ العقبةِ، فيرميها بسبعِ حَصَياتٍ يُكبُر عندَ كلِّ حَصَاةٍ، ثمَّ ينصرفُ ولا يقفُ عندَها .. » (¬3). وقد روى ابنُ أبي شيبةَ بسندٍ صحيح- كما قالَ ابنُ حجر- في مقدارِ الوقوفِ ¬

(¬1) ح 1551، انظر الفتح 3/ 411. (¬2) الفتح 3/ 412. (¬3) ح 1753.

للدعاء، عنْ ابنِ عمرَ رضيَ اللهُ عنهما أنه كانَ يقومُ عندَ الجمرتيْنِ مقدارَ ما يقرأُ سورةَ البقرةِ. ومنَ السننِ: الزيادةُ في الهَدْيِ بنحرِ أكثرَ منْ فِدْية، وذلكَ للمُتمتِّع والقارِن، وقدْ أهدى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مائةً، فذبحَ بعضَها ثلاثًا وستين بَدَنَة (¬1) وأوكلَ إلى عليِّ رضيَ اللهُ عنهُ ذبحَ ما بقيَ منها (¬2). الوقفة السادسة: أيها المقيمون، وثمةَ سُننٌ طالَما هجرها البعضُ منكم، فهلْ تُحيونَها في هذهِ الأيامِ الفاضلة، فالصيامُ- غيرُ الواجبِ- سنةٌ، بلْ هوَ طريقٌ إلى الجنة، وقدْ قالَ أبو أُمامةَ رضيَ اللهُ عنهُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: دُلَّني على عملٍ أدخلُ بهِ الجنةَ، قال: «عليكَ بالصومِ لا مثلَ له» رواهُ النسائيُّ والحاكمُ وسندهُ صحيح (¬3). فهلْ يتذكَّرُ الصيامَ- في هذه الأيامِ الفاضلةِ- منْ لا يصومونَ إلا منْ رمضانَ إلى رمضان؟ وتلاوةُ القرآنِ قُربةٌ وطاعةٌ لله .. وكذا السُّننُ والنوافلُ والصدقاتُ، فكثيرٌ من الناسِ تتحركُ هِمَّتهُ للصدقةِ في رمضان، فأينَ المتصدقونَ في هذه الأيام، وقدْ سمعتمْ أنها موازيةٌ في الفضلِ للعشرِ الأخيرِ منْ رمضان، بل ربما فضَّلَ نهارها على نهارِ العشرِ الأخيرِ طائفةٌ من العلماء (¬4). إلى غيرِ ذلكَ منْ سننٍ وطاعاتٍ يجدرُ بالحريصِ على آخرتهِ أنْ يُنافسَ فيها حينَ يتنافسُ المتنافسون. الوقفة السابعة: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن ¬

(¬1) رواه مسلم، المجالس/ 88. (¬2) زاد المعاد 2/ 314. (¬3) الفوزان: مجالس عشر ذي الحجة/ 19. (¬4) ابن القيم، ابن كثير ...

شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (¬1). إنها آيةٌ في كتابِ اللهِ تحكي موقفًا وحدثًا منْ أحداثِ السيرةِ النبوية، وتعلِّمُ المسلمينَ كيفَ يكونُ الفَرجُ بعدَ الشدة، وكيفَ يتحقَّقُ وعدُ اللهِ ونصرةُ أوليائه- ولو بعدَ فترة- والمسلمونَ الذينَ نزلتْ عليهمْ هذهِ الآياتُ كانوا يتطلَّعونَ إلى اليومِ الذي يصلونَ فيه إلى البيتِ الحرامِ بعدَ أنْ أخرجَهمُ المشركونَ منهُ ومنعوهمْ من الطوافِ فيه، وقد أُري الرسولُ صلى الله عليه وسلم في المنامِ أنهُ دخلَ مكةَ وطافَ بالبيت، فأخبرَ أصحابَهُ بذلكَ وهوَ في المدينة، فلما وقعَ الصلحُ وعادَ المسلمون دونَ أنْ يدخلوا المسجدَ الحرام، وقعَ في نفوسِ بعضهم منْ ذلكَ شيءٌ حتى نزلتِ الآيةُ مؤكِّدةً دخولَهم، ثمَّ تحقَّقَ الوعدُ في العامِ الذي يليهِ في عُمرةِ القضاءِ، وعلى رغمِ أنوفِ المشركين، وشاعرُ المسلمين يردِّدُ: باسمِ الذي لا دينَ إلا دينُه ... باسمِ الذي محمدٌ رسولُه خَلُّوا بني الكُفّارِ عن سبيلِهِ ... اليومَ نَضْرِبْكُمْ على تَأويلِه كما ضربْناكمْ على تنزيلِهِ ... ضَرْبًا يُزيلُ الهامَ عن مَقِيلِه ويُذهلُ الخليلَ عن خليلِه ... قدْ أنزلَ الرحمنُ في تنزيلِهِ في صُحُفٍ تُتلى على رسُولِهِ ... بأَنَّ خيرَ القتلِ في سبيلِهِ يا ربِّ إني مؤمنٌ بقِيلِه (¬2) ولقد كانَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم يربي أصحابَهُ على الصبرِ على الشدائد، ويعلِّمُهمْ كيفَ يكونُ الأملُ بعدَ الألم، وكيفَ يأتي النصرُ والفرجُ بعدَ الهزيمةِ والشدة، وفي مصابِ أُحدٍ، ورغمَ الشهداءِ والجرحى وانتفاشِ قريشٍ وفرحتِها لِما وقعَ ¬

(¬1) سورة الفتح، الآية 27. (¬2) تفسير ابن كثير للآية 7/ 337 - 338.

بالمسلمين .. يقولُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم لعمرَ وبكلِّ ثقة: «يا ابنَ الخطاب، إنَّ قريشًا لنْ ينالوا مِنَّا مثلَ هذا اليومِ حتى نستلمَ الرُّكنَ» (¬1). وقدْ تحققَ الوعيدُ وانتصرَ المسلمون وذلَّ الشركُ والمشركون، وجاءَ نصرُ اللهِ والفتحُ، ودخلَ الناسُ في دينِ اللهِ أفواجًا، ووعدُ اللهِ باقٍ، ونصرُهُ لأوليائِهِ مستمرٌّ ولوْ كرهَ المشركون، فهلْ يعي المسلمونَ هذه الدروسَ؟ ¬

(¬1) الواقدي: المغازي 1/ 318.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ للهِ مُستحقِّ الحمدِ وأهلِ الثناء، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، يدعوكم للطاعةِ ليغفرَ لكمْ ذنوبَكم ويرفعَ درجاتِكم، والموفَّقُ منِ استجابَ للدعوة: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} (¬1). وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، كانَ يدلُّ الأمةَ على الخيرِ ويسبقُهم إلى فِعْلِه، وكذلكَ كانَ ينافسُ أصحابُه في الصالحاتِ اقتداءً به .. اللهمَّ صلِّ وسلمْ عليهِ وارضَ عن أصحابه .. إخوةَ الإسلام: يومُ عرفةَ من الأيامِ الفاضلةِ في هذا العَشْرِ، لأنهُ يومُ مغفرةِ الذنوبِ والتجاوزِ عنها ويومُ عيدٍ لأهلِ الموقف، ويُستحبُّ صيامُه لأهلِ الأمصار، وفي صيامِهِ تكفيرُ سنتين، وهذا اليومُ يومٌ أكملَ اللهُ به الدينَ، وأتمَّ بهِ النعمةَ على المسلمين .. وعنْ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ رجلًا منَ اليهودِ قال: يا أميرَ المؤمنين، آيةٌ في كتابِكم، لو علينا- معشرَ اليهود- نزلتْ لاتَّخذْنا ذلكَ اليومِ عيدًا، قال: أيُّ آيةٍ؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (¬2)، قالَ عمر: قدْ عرفنا ذلكَ اليومَ والمكانَ الذي نزلتْ فيهِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهوَ قائمٌ بعرفةَ يومَ الجمعة (¬3). ¬

(¬1) سورة الأعلى، الآيتان: 11، 12. (¬2) سورة المائدة، الآية: 3. (¬3) رواه البخاري 45، ومسلم 3017.

وفي روايةٍ عندَ الطبريِّ أنَّ السائلَ كعبُ الأحبار، وفيها أنَّ عمرَ قال: نزلتْ في يومِ جمعةٍ ويوم عرفةَ، وكلاهم بحمدِ اللهِ لنا عيدٌ (¬1). تُرى هلْ يُقدِّرُ المسلمونَ هذا اليومَ حقَّ قدْره، فيبتهلُ الحجاجُ فيه إلى اللهِ بالذكرِ والدعاء، «وخيرُ الدعاءِ دعاءُ عرفةَ، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيونَ منْ قَبْلي: لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ وهوَ على كلِّ شيءٍ قدير» (¬2). قالَ ابنُ عبدِ البرِّ رحمهُ الله: «وفي الحديثِ دليلٌ على أنَّ دعاءَ يومِ عرفة مُجابٌ في الأغلب، وأنَّ أفضلَ الذكرِ لا إله إلا الله .. » (¬3). وإذا كانَ الحُجَّاجُ يتهيءُ لهمْ فضلُ عرفةَ بعرفة، فغيرُ الحُجَّاجِ منْ الصائمينَ يجتمعُ لهمْ فضلُ الصيامِ مع فضلِ عرفة، وهمْ كذلكَ حريُّونَ بإجابةِ الدعاء. فلنحرصْ جميعًا حجَّاجًا كنا، أو غيرَ حُجّاج. على استثمارِ هذا اليومِ وخاصةً في الدعاءِ لنا ولوالدينا وأولادِنا وأهلِينا والمسلمين (الأحياءِ منهم والميتين). أيها المسلمون: ويومُ النحرِ يومُ الحجِّ الأكبر، وفي الحديث: «إنَّ أعظمَ الأيامِ عندَ الله تعالى يومُ النحرِ ثمَّ يومُ القَرِّ»، ويومُ القَرِّ هوَ اليومُ الحادي عشرَ منْ ذي الحجة، لأنَّ الناسَ فيه يقِرُّون بمنى، قاله صاحبُ «النهاية» (¬4). وأيامُ التشريقِ كذلكَ أيامٌ فاضلةٌ عندَ الله، وهيَ منْ أيامِ عِيْدنا، قالَ صلى الله عليه وسلم: «يومُ عرفةَ ويومُ النحرِ وأيامُ التشريق عيدُنا أهلَ الإسلام» أخرجه أبو داودَ ¬

(¬1) تفسير الطبري، تحقيق أحمد شاكر 9/ 526، الفوزان: مجالس عشر ذي الحجة/ 93. (¬2) أخرجه مالك، والترمذي، والبيهقي، وهو في السلسلة الصحيحة للألباني 4/ 6. (¬3) التمهيد 6/ 41. (¬4) 4/ 37.

والترمذيُّ والنسائيُّ، وهوَ حديثٌ صحيح (¬1). عبادَ الله؛ أهلَ الإسلام: وفضلُ اللهِ علينا في هذه الأيامِ يمتدُّ .. وقُرُباتُه تكثرُ .. وإذا كانَ الحُجَاجُ يتقربونَ إلى اللهِ بذبحِ النُّسُك، فغيرُ الحُجّاجِ يتقربونَ إلى اللهِ بذبحِ الأضاحي .. والأضاحي مشروعةٌ بالكتابِ والسُّنةِ والإجماع، قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (¬2). ومنْ هَدْيهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ لمْ يَدَعِ الأُضْحيةَ، قالَ عبدُ الله بنُ عمرَ رضيَ اللهُ عنهما: أقامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمدينةِ عشرَ سنينَ يُضحِّي. رواهُ أحمدُ والترمذيُّ وسندهُ حسن (¬3). ومنْ هَدْيهِ صلى الله عليه وسلم اختيارُ الأضحيةِ واستحسانُها، وسلامتُها من العيوب، وهوَ القائل: «أربعٌ لا تُجزئُ في الأضاحي: العوراءُ البيِّنُ عَوَرُها، والمريضةُ البيِّنُ مرضُها، والعرجاءُ البيِّنُ عرجُها، والكسيرة (التي لا تُنقي، والعجفاءُ التي لا تنقي» -أي منْ هُزالِها لا مخَّ فيها (¬4). ومنْ هَدْيهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يضحي بالمصلِّى، وفي «الصحيحين» وغيرِهما: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يذبحُ وينحرُ بالمصلَّى (¬5). قال ابنُ بطال: الذبحُ بالمصلى هو سنةٌ للإمامِ خاصةً عند مالك، وقال: إنما يفعلُ ذلكَ لئلا يذبحَ أحدٌ قبلَه، زادَ المهلبُ: وليذبحوا بعدَهُ على يقين، وليتعلموا منهُ صفةَ الذبح (¬6). ¬

(¬1) الفوزان، المجالس 96. (¬2) سورة الكوثر، الآية: 2. (¬3) المجالس، 69. (¬4) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وإسناده صحيح. زاد المعاد 2/ 321. (¬5) زاد المعاد 2، 322. (¬6) زاد المعاد 2، 322، 323 هامش رقم 3.

ومنْ هَدْيهِ صلى الله عليه وسلم أنَّ الشاةَ تجزئُ عنِ الرجلِ وعنْ أهلِ بيتهِ ولوْ كثرَ عددُهم (¬1) لكنْ منْ قدرَ منَ الزوجةِ والأولادِ على الأضحيةِ بمالهِ فإنُه يُضحي عنْ نفسه، لأنها قربةٌ، والأصلُ في الأضاحي أنها عنِ الأحياء، ولهمْ أنْ يشركوا في ثوابِها منْ شاءوا منَ الأحياءِ والأموات، وأما الظنُّ بأنَّ الأضحيةَ للأمواتِ فقط، فهذا خطأٌ- ومع ذلك- فالأضحيةُ عن الميتِ عملٌ طيبٌ لأنها نوعٌ من الصدقة، والأمواتُ بحاجةٍ إلى الثواب، وثوابُ الأضحيةِ عن الميتِ أفضلُ من الصدقةِ بثمنها، كذا اختار ابنُ تيميةَ في «الاختيارات الفقهية» (¬2). وينبغي للمسلمِ والمسلمةِ المضحِّي أنْ يختارَ أضحيتَه، وتطيبَ نفسُهُ بها مهما غلا ثمنُها، قالَ ابنُ تيميةَ رحمهُ الله: والأجرُ في الأضحيةِ على قدرِ القيمةِ مطلقًا. ومنَ السُّنةِ أنْ يتولى المضحِّي نحرَ أضحيتِه، ولو كانت امرأةً، قالَ البخاري: أمرَ أبو موسى بناتِهِ أنْ يُضحينَ بأيديهن» (¬3). وتجوزُ الاستنابةُ في الذبح، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذبحَ ثلاثًا وستين بَدَنةً بيده، واستنابَ عليًا رضيَ اللهُ عنه في نحرِ ما بقيَ منْ بُدْنِهِ (¬4). وعند الذبحِ يسمي اللهَ وجوبًا بقوله: بسمِ الله، ويكبرُ (استحبابًا) قائلًا: اللهُ أكبر، ولا تُشرعُ الصلاةُ على الرسولِ صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع، ولا زيادة: (الرحمنِ الرحيم) في البسملة. ويسنُّ لهُ أنْ يأكلَ ويُهدي ويتصدقَ، قال تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (¬5). ¬

(¬1) السابق 2/ 323. (¬2) ص 120، انظر: الفوزان، المجالس 71، 73. (¬3) الفتح 10/ 19. (¬4) أخرجه مسلم، الفوزان، المجالس/ 88. (¬5) سورة الحج، الآية: 28.

ويجوزُ أنْ يُعطى الكافرُ منها لفقرهِ أو قرابتهِ أو جوارِه أو تأليفِ قلبه، وهذا منْ محاسنِ الإسلام (¬1). أمةَ الإسلام: اشكروا اللهَ على نعمهِ يزدْكم، وتذكروا إخوانًا لكمْ يحتاجونَ للأضاحي فلا يجدونَ ما به يضحون، فأشرِكوهم في فرحةِ العيدِ يومَ النحر، واجعلوا منْ هذه الأضاحي وسيلةً للصلةِ بهمْ والعطفِ عليهم، وهناكَ- بفضل الله- مؤسساتٌ وهيئاتٌ إسلاميةٌ توصلُ أضاحيكم وصدقاتِكم لهؤلاءِ المحتاجينَ منَ المسلمين، وبثمنٍ يسير، وبحدودِ المائة أو المائتين- والحمدُ لله. أيها المسلمون: واتَّخِذوا منْ أيام العيدِ فرصةً للصلةِ والزيارةِ والذِّكرِ والشكر، فهي أيامُ أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله. نسألُ اللهَ أنْ يعيدَ أعيادَنا والأمةُ المسلمةُ ترفلُ بأثوابِ العزةِ والكرامة، ورايةُ الإسلامِ خفاقةً في كلِّ مكان، وأنْ يعوِّضَ منْ لمْ يفرحْ بالعيدِ منَ المسلمينَ خيرًا، وأنْ يرفعَ عنهمْ كلَّ محنةٍ وبلوى. ¬

(¬1) المغني 13/ 381، الفتح 10/ 422، عون المعبود 1461، مفيد الأنام 2/ 504.

بشارتان وختام التوبة

بشارتان وختام التوبة (¬1) الخطبةُ الأولى: الحمد لله {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (¬2)، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، يُجزلُ المثوبةَ ويغفرُ الخطيئةَ ويفرحُ بتوبةِ عبدهِ إليهِ وهوَ غنيٌّ عنْ عبادته، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، كانَ يستغفرُ ربَّهُ في كلِّ يومٍ أكثرَ منْ سبعينَ مرةً، وهوَ المغفورُ له ما تقدَّمَ منْ ذنبهِ وما تأخَّر، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وإخوانهِ .. ورضيَ اللهُ عنِ الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ ومنْ تبعهمْ بإحسانٍ إلى يوم الدين. اتقوا الله معاشرَ المسلمين، فتقوى اللهِ أقومُ وأقوى، وتقوى الله مخرجٌ من الكروب، وفيها تكفيرٌ للسيئاتِ والذنوب، وهي وصيةُ اللهِ للأولين وللآخرين. حجاجَ بيتِ اللهِ الحرام، تقبلَ اللهُ حجَّكمْ وغفرَ ذنبَكُمْ وجعلَ الجنةَ مثواكم، أيها المقيمون، تقبلَ اللهُ طاعتِكمْ، وآجرَكمْ وجعلَ الجنةَ متقلَّبَكُمْ ومثواكم. أيها المسلمون: ومنْ فضلِ اللهِ ورحمتهِ بكمْ أنَّ مشاريعَ الخيرِ لا تنقطعُ، والطرقَ الموصلةَ إلى الجنةِ لا تُوْصَدُ في كلِّ حين .. فأينَ المشمِّرونَ وأينَ المقبلونَ على الله؟ ومنْ تقربَ إلى اللهِ شبرًا تقربَ إليهِ ذراعًا، ومنْ جاءَ إليه يمشي أتاهُ يُهروِل، ومنْ تقربَ إلى اللهِ بفرائضهِ أحبَّهُ اللهُ، ومنْ أكملَ بالسننِ والنوافلِ سدَّدَ ما في الواجباتِ منْ نقصٍ وتقصير، ألا وإنَّ التوبةَ تجُبُّ ما قبلَها، ومنْ يستغفرِ اللهَ يجدِ اللهَ غفورًا رحيمًا. ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 20/ 12/ 1423 هـ. (¬2) سورة غافر، الآية: 3.

إخوةَ الإسلام: وإليكمْ أسوقُ بشارتين: إحداهما على شكلِ قصةٍ لرجلٍ فيمنْ كانَ قبلَنا، وأخبرَ عنها رسولُنا، والأخرى على هيئةِ خبرٍ أخبرَ به الصادقُ المصدوقُ صلى الله عليه وسلم، واستحلفَ عليه عمرُ بنُ عبدِ العزيز رحمه الله الراويَ له ثلاثًا .. ولكنَّ البشارتين كلتيْهما تَسُرَّانِ ولا تغران، وتُحفِّزانِ على التوبةِ ولا تُقْعدانِ عنِ العمل. أما الأولى: فقد روى الإمامُ مسلمٌ رحمهُ اللهُ في «صحيحه» عنْ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضيَ اللهُ عنه، أنَّ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «كانَ فيمنْ كانَ قبلَكم رجلٌ قتلَ تسعةً وتسعينَ نفسًا، فسألَ عنْ أعلمِ أهلِ الأرض، فدُلَّ على راهبٍ فأتاه، فقال إنهُ قتلَ تسعةً وتسعينَ نفسًا، فهلْ لهُ منْ توبة؟ فقالَ: لا، فقتلَه، فكمَّل به مئةً، ثم سألَ عنْ أعلمِ أهلِ الأرض فدُلَّ على رجلٍ عالمٍ، فقالَ إنهُ قتلَ مئةَ نفسٍ فهلْ لهُ منْ توبة؟ فقال: نعم، ومنْ يحولُ بينهُ وبينَ التوبة؟ انطلِقْ إلى أرضِ كذا وكذا، فإنَّ بها أُناسًا يعبدون اللهَ فاعبدِ اللهَ معهم، ولا ترجعْ إلى أرضِك فإنها أرضُ سوءٍ، فانطلَقَ حتى إذا نَصَفَ الطريقَ أتاهُ الموتُ، فاختصمتْ فيهِ ملائكةُ الرحمةِ وملائكةُ العذاب، فقالتْ ملائكةُ الرحمةِ: جاء تائبًا مقبلًا بقلبهِ إلى الله، وقالتْ ملائكةُ العذاب: إنهُ لمْ يعملْ خيرًا قطّ، فأتاهمْ مَلَكٌ في صورةِ آدميٍّ فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بينَ الأرضيْن فإلى أَيَّتِهما كانَ أدنى فهوَ له، فقاسوا فوجدوهُ أدنى إلى الأرضِ التي أراد فقبضتْهُ ملائكةُ الرحمة» (¬1). أيها المسلمون: ولنا على هذا الحديثِ أكثرُ منْ وقفة: الأولى: فضلُ اللهُ وسَعَةُ رحمتهِ مهما كانَ ذنبُ العبد، فاللهُ تعالى يغفرُ الذنوبَ جميعًا .. وهو يقبلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغرْغِر، ومَنْ حَجَبَ المذنبَ عنْ ¬

(¬1) ح 2766.

رحمةِ الله وأَيَّسَهُ مِنَ التوبةِ فهوَ مخطئٌ في حقِّ نفسهِ وحقِّ غيره، ومهما كانتْ ذنوبُ العبدِ فعفوُ اللهِ أوسعُ .. ولكنَّ الحبلَ الموصلَ إلى هذهِ الرحمةِ هوَ التوبةُ الصادقةُ والإنابةُ إلى الله، والشعورُ بعِظَمِ الذَّنْبِ. الثانية: فضلُ العالمِ على العابد، فالمسئولُ الأولُ راهبٌ متعبدٌ غاَبت عنه سعةُ رحمةِ الله، فأفتى هذا القاتلَ بعدمِ قبولِ توبتهِ فقتَلَهُ مكمِّلًا به المائة، ولكنْ حينَ استفتى العالِمَ فتحَ لهُ آفاقَ التوبةِ، وأرشدَهُ إلى ما يُعينهُ إلى ذلك .. وكانَ سببًا في نجاةِ نفسهِ وفي تخليصِ هذا المذنبِ من ذنوبه، وفي هذا تأكيدٌ على فضيلةِ العلمِ وقدرِ العلماء، وفضلُ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكب. الوقفةُ الثالثة: حاجةُ المذنبِ التائبِ إلى تغييرِ البيئةِ التي مارسَ فيها جرائمَهُ .. وحاجتُه كذلكَ إلى تغييرِ الخِلّانِ الذين كانوا سندًا له في ارتكابِ الموبقات .. فالقرينُ مؤثِّرٌ، والصاحبُ ساحبٌ، ومنْ جالسَ المُصلينَ صلَّى، ومنْ عاشَ مع الغافلينَ أعرضَ وتولى .. ولذا قالَ العالمُ لهذا التائب: (انطلِقْ إلى أرضِ كذا وكذا، فإنَّ بها أناسًا يعبدونَ اللهَ فاعبدِ اللهَ معهم، ولا ترجعْ إلى أرضكَ فإنها أرضُ سوء). نعم، إنَّ كثيرًا مِنَ التائبينَ الذينَ يعودونَ إلى ما كانوا عليهِ إنما عادوا لأنهمْ لمْ يَصْدُقوا في توبتهم، ولم يهجُروا أصحابَ السوءِ منْ أقرانهم، فلا يزالُ بهمْ هؤلاءِ الأقرانُ يوسوسونَ لهمْ ويتهمونَهم على توبِتهم حتى يَنْكُصُوا على أعقابِهم .. ويعودوا إلى سالفِ منكراتهم، ولذا قالَ العلماءُ تعليقًا على هذا الحديث: وفي الحديثِ استحبابُ مفارقةِ التائبِ المواضعَ التي أصابَ بها الذنوب، والأخْدانَ المساعدينَ لهُ على ذلك، ومقاطعتِهمْ ما داموا على حالِهم وأنْ

يستبدلَ بهمْ صحبةَ أهلِ الخيرِ والصلاحِ والعلماءِ المتعبدينَ الورعينَ ومنْ يُقتدى بهم ويُنتفعُ بصحبتهمْ وتتأكدُ بذلكَ توبتُه (¬1). إنَّ قرينَ السوءِ لنْ ينفعَ نفسَه، فأنَّى لهُ أنْ ينفعَ غيرَه، وكمْ منْ عزيزٍ كريمٍ غَرّهُ خِلّانُ السوءِ فأوْقعوه وأرْدوه، وإذا تذكرتَ- يا أخا الإسلام- أثرَ قرينِ السوءِ فلا تقعدْ بعدَ الذكرى معَ القومِ الظالمين. الوقفة الرابعة: والحديثُ يطيبُ عن التوبةِ في كلِّ حين، والدعوةُ إلى التوبةِ لم يُستثنَ منها المؤمنون، والله يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬2). وغيرُ المؤمنين بالتوبةِ أولى وهمْ إليها أحوجُ .. ولكنَّ التوبةَ يطيبُ التذكيرُ بها في مثل هذه الأيام التي تُكَّفرُ بها السيئاتُ وتعودُ الصحائفُ بيضاءَ نقيةً على إثرْ حجِّ بيتِ اللهِ الحرام، أو على إثرِ عملِ الصالحاتِ في الأيامِ الماضيةِ وما فيها منْ تكفيرٍ للسيئات، فالحاجُّ الموفقُ يرجعُ منْ ذنوبهِ كيومِ ولدَتْهُ أُمُهُ، والصائمُ ليومِ عرفةَ يكفرُ اللهُ عنهُ بهِ سنتين. كما يطيبُ الحديثُ عن التوبةِ في نهايةِ عامٍ حملَ كلُّ واحدٍ منا ما حملَ من الآثام والسيئات .. وما أجملَ العامَ يُختمُ بالتوبةِ والاستغفار، واللهُ تعالى يبسطُ يَدَهُ بالليلِ ليتوبَ مسيءُ النهار، ويبسطُ يَدَهُ بالنهارِ ليتوبَ مسيءُ الليل، والأعمالُ بالخواتيم، وفرقٌ بينَ منِ استحضرَ عظمةَ الله، وأدركَ عفوَهُ وسعةَ رحمتهِ فأناب وتابَ واستغفرَ مدركًا أنهُ لا يغفرُ الذنوبَ إلا الله، ومنْ لجَّ في عَمَاه واستغواهُ الشيطانُ وهواه .. فاستمرَّ يُحاددِ اللهَ بمعاصيهِ وختمَ عامَهُ بأقبحِ ¬

(¬1) النووي شرح مسلم 17/ 83. (¬2) سورة النور، الآية: 31.

ما عنده، وإذا كنتَ يا عبدَ الله تغارُ على محارمِك، فاللهُ يغارُ على حُرماتِه، وفي الحديثِ الصحيحِ قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ يغارُ، وإنَّ المؤمنَ يغارُ، وغَيْرَةُ اللهِ أنْ يأتيَ المؤمنُ ما حَرَّمَ عليه» (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2). ¬

(¬1) مسلم ح 2761. (¬2) سورة التحريم، الآية: 8.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ لله ربِّ العالمين، ولا عُدوانَ إلا على الظالمين، والعاقبةُ للتقوى والمتقين، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، نِعمَهُ على خَلْقِهِ لا تعدُّ ولا تُحصى، ومن أعظمِ النّعمِ نعمةُ الإسلام، والمسلمونَ همُ السعداءُ في الدنيا، وهمُ الفائزونَ والآمنونَ منْ عذابِ اللهِ في الآخرة، ومهما تصنَّعَ غيرُ المسلمينَ السعادةَ في الدنيا، فهمْ يتقلَّبون في ضيقٍ ونكَدِ، وأمراضٍ وقلقٍ لا يعلمُها إلا الله .. أما في الآخرةِ فالأمرُ أدهى وأمرّ، وهذا نبيُّ الهدى والرحمةِ صلى الله عليه وسلم يكشفُ لنا شيئًا منْ خسارتهمْ في الآخرة، وكيفَ يكونُ اليهودُ والنصارى فداءً للمسلمينَ عنِ النار. وفي «صحيح مسلم» عنْ أبي موسى الأشعريِّ رضيَ اللهُ عنهُ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كانَ يومُ القيامةِ دفعَ اللهُ عزَّ وجلَّ إلى كلِّ مسلمٍ يهوديًا أو نصرانيًا فيقولُ: هذا فِكاكُكَ منَ النار» (¬1). وفي الحديثِ الآخر، أنَّ أبا بُرْدَةَ حدَّثَ عمرَ بنَ عبد العزيزِ عنْ أبيه (أبي موسى) عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يموتُ رجلٌ مسلمٌ إلا أدخلَ اللهُ مكانَهُ النارَ يهوديًا أو نصرانيًا»، قال: فاستحلفَهُ عمرُ بنُ عبدِ العزيز باللهِ الذي لا إلهَ إلا هوَ ثلاثَ مراتٍ أنَّ أباهُ حدَّثَهُ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: فحلفَ له .. (¬2). تلكمْ هيَ البشارةُ الثانية، وكمْ فرحَ المسلمونَ بهذا الحديث، حتى جاءَ عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ والشافعيِّ رحمهما اللهُ أنهما قالا: هذا الحديثُ أرجى حديثٍ للمسلمين، قال النووي: وهو كما قالا، لما فيهِ منَ التصريحِ بفداءِ كلِّ ¬

(¬1) ح 2767. (¬2) مسلم ح 2767.

مسلمٍ وتعيمِ الفداء، وللهِ الحمدُ (¬1). عبادَ الله: وما بالُ المسلمينَ لا يفرحونَ بهذا الحديث، وقدْ جاءَ في روايةٍ أخرى: «يجيءُ ناسٌ منَ المسلمينَ بذنوبٍ أمثالَ الجبال، فيغفرُها اللهُ لهمْ ويضعُها على اليهودِ والنصارى» (¬2). وفي هذا المعنى يردُ حديثُ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه يرفعُه: «لكلِّ أحدٍ منزلٌ في الجنةِ ومنزلٌ في النار، فالمؤمنُ إذا دخلَ الجنةَ خلَفَه الكافرُ في النار .. ». قال العلماءُ في معنى هذه الأحاديث، والجمعِ بينها وبينَ قولِهِ تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬3): إنَّ المسلمينَ يغفرُ اللهُ لهمْ ذنوبَهمْ ويُسقِطُها عنهمْ بإسلامهم، ويضعُ على الكفارِ بكفرِهمْ وذنوبهمْ مثلَها، فصارَ الأمرُ وكأنَّ الكفارَ حمِّلوا ذنوبَ المسلمين، وإنما حمَلوا ذنوبَهمْ ولمْ يغفرْها اللهُ لهمْ لكُفرِهم. ويحتملُ أنْ يكونَ المرادُ آثامًا كانَ للكفار سببٌ فيها بأنْ سنّوها للمسلمين فاحتمَلوا وِزْرَها ووزْرَ من عملَ بها (¬4). عبادَ الله: وسواءٌ قيلَ هذا أو غيرَهُ منْ تأويلاتِ فكاكِ الكفارِ عنِ المسلمينَ يومَ القيامة، فلا ينبغي للمسلمِ أنْ يستهينَ بأمرِ اللهِ ويعتدي على حُرُماتِه، لكنهُ يعملُ الصالحاتِ ويرجو رحمةَ ربِّه، ويدركُ نعمةَ الإسلامِ التي هو فيها، وحُرِم غيرُه إياها، وفضلُ المسلمِ على الكافر حيًّا وميتًا، وفي الدنيا ويومَ يقومُ الأشهادُ، فيدعوهُ ذلكَ للاستمساكِ بالإسلامِ والاعتزازِ به، ودعوةِ غيرهِ إليه، ولا ¬

(¬1) النووي، شرح صحيح مسلم 17/ 86. (¬2) النووي 17/ 85. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 15. (¬4) النووي، شرح مسلم 17/ 85.

يغتبرُّ بما عليهِ الكفارُ من باطلٍ وما همْ متلبِّسونَ به ظاهرًا منْ نعمةٍ وأمن، فاللهُ يقولُ وهوَ أصدقُ القائلين: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (¬1) ويقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (¬2). إنَّ منْ لا يفهمُ آياتِ الكتاب، ولا يعيشُ معَ هديِ المصطفى صلى الله عليه وسلم تغيبُ عنهُ هذهِ المعاني والحقائقُ في نظرتهِ لنفسهِ وللكفارِ منْ حوله. ألا فاشكروا نعمةَ اللهِ عليكمْ إذْ جعلكمْ مسلمينَ، واختموا عامَكمْ بالتوبةِ والاستغفارِ وتلكَ التي تُسهمُ في استصلاحِ ما سبقَ وتهيأةِ ما يستجدُّ ويلحق، وما تدري نفسٌ ماذا ستكسبُ غدًا ولا تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموت، إنَّ اللهَ عليمٌ خبير. اللهمَّ اختمْ لنا عامَنا بالتوبةِ والغفرانِ والقبول، وأعِنَّا على عملِ الصالحاتِ فيما نستقبلُ منْ أيامنا، واجعلْ عامَنا القادمَ عامَ خيرٍ وبركةٍ علينا وعلى المسلمين. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيتان 196، 197. (¬2) سورة طه، الآية: 124.

نهاية العام موعظة وذكرى

نهاية العام موعظة وذكرى (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدهُ ونستعينُه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدهِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، اللهمَّ صلِّ وسلمْ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ ومنْ تبعهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (¬2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3). أيها الناس: تجري عوائدُ التجارِ وأصحابُ المؤسساتِ الحكوميةِ والأهليةِ على جردِ حساباتهمْ في نهايةِ العام، وكتابةِ تقريرٍ سنويٍّ عما أُنجز، فثمةَ تقريرٌ مالي، وتقريرٌ إداري، وتقويمٌ للعملِ وحسابٌ وتدقيقٌ للمكاسبِ والخسائر، وتفكيرٌ في التطويرِ المستقبلي، وتجاوزٌ لسلبياتِ الماضي .. وهكذا مما يحتاجُ له العملُ الدنيوي، وتفرضهُ ظروفُ الحياة، ولا ضَيْرَ في الحزمِ ولا جُناحَ في الدقةِ والمتابعة، ومنْ فكَّر أبصر، ومنْ خططَ أثمر .. ولكنْ ماذا عنْ حساباتِ الآخرة؟ كم مِنَ الناسِ مَنْ يكتبُ تقريرًا لنفسهِ عنْ مشاريعهِ الخيريةِ وأعمالهِ الصالحة؟ وكمْ منَ الناسِ أغنياءَ كانوا أمْ فقراءَ يجردُ ما أسعفتْهُ ذاكرتُه منْ ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 27/ 12/ 1423 هـ. (¬2) سورة الحشر، الآية: 18. (¬3) سورة المائدة، الآية: 35.

أخطائهِ وزلاّتهِ وكبواتِهِ خلالَ العام؟ ومنْ ذا الذي يتذكرُ مشاريعَهُ في الدعوةِ والإصلاحِ وتقديمِ الخيرِ للناس، فيحاولُ الزيادةَ عليها وتطويرَها في العامِ الآخر؟ كمْ يقفُ المرءُ منا- في نهاية العام- على أعمالٍ مشينةٍ مارسَها وقفةَ تحسرٍ وتألمٍ وندم، عسى اللهُ أنْ يغفرَها .. وعسى أنْ تكونَ هذه الوقفةُ المتحسرةُ ضمانًا لعدمِ تكرارها .. وربَّ سيئةٍ قادتْ صاحبَها إلى الجنة، لأنهُ لا يملكُ عينيهِ منَ البكاءِ خشيةً للهِ إذا تذكرَها، ولا يملكُ قلبَه منَ الإخباتِ والانكسارِ وهو يتذكرُ جُرأتَهُ في الإقدامِ عليها، وعفوَ اللهِ وفضلَه في سترهِ عليهِ إذ مارسها. يا عبدَ الله: ليستْ حياةُ المسلمِ لهوًا وعبثًا .. ولا فراغًا مملًا ولا فسحةً إلى الا يد .. فلستَ تدري متى تبلغُ الروحُ الحلقومَ، وما عندكَ ضمانٌ ببلوغك الأمانيَ وطولَ الأمل، وفسحةَ الأجل، ومن ذا الذي يضمنُ لكَ خطَّ الرجعةِ إذا وقعتْ بكَ الواقعة؟ كمْ أنتَ عجيبٌ والفواجعُ والقوارعُ منْ حولكَ صباحَ ومساء، ونُذُرُ الموتِ تخطفُ بمرأى منكَ القريبَ والبعيد، والصغيرَ والكبير، والذكرَ والأنثى! ! ترى كمْ يُثير فيكَ منْ ذكرياتٍ آخرُ شهرٍ في السنة .. بلْ آخرُ يومٍ في السنةِ الماضيةِ وأولُ يومٍ في السنةِ القادمة؟ أتُرى الحياةَ ستستمرُ لكَ صفوًا دونَ كَدَر .. وصحةَ دونَ سقَمٍ وأمانًا دونَ خوف، قُلْ لي بربكَ: هلْ فكرتَ أنْ تكونَ في العامِ القادمِ أرحمَ بنفسكَ وأخشى لربكَ منْ أعوامٍ خلَت؟ أمْ أنكَ ستستبدلُ مُفكرةَ التقويمِ الماضيةَ بمفكرةِ العامِ الجديدِ دونَ أيِّ وقفةِ وتأمل آه .. وسؤالٌ يقول: فيمَ ستفتتحُ العامَ الجديد، وبماذا اختتمتَ العامَ المنصرم؟

وموعظةٌ وذكرى تناديكَ -يا أخا الإسلام- وتقولُ: الأوراقُ تتساقطُ والنباتُ الأخضرُ ينصرمُ، ثم يعودُ هشيمًا تذروهُ الرياحُ، والجديدُ يبلى، والصغيرُ يكبرُ ويهرمُ والموتُ نهايةُ كلِّ حيٍّ .. وكلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهَهُ .. لكنْ ماذا بعدُ؟ هلْ أيقنتَ أنَّ الأنفاسَ تُحصى، والرقيبُ لا يغفلُ {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (¬1) والربُّ يُحصي ولا ينسى {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} (¬2) وهو يُجازي على القِطْمير والنَّقير، وهو يعدلُ ولا يظلم {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (¬3) والكتاب يُوضع {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (¬4). هل ستنفعُكَ المعذرةُ ... أمْ ستدافعُ عنكَ العشيرةُ أو القبيلةُ {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (¬5) {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (¬6). هلكَ المالُ، ولمْ ينفعِ الجاهُ والسلطان، وتمنى المغرورُ أنه لمْ يقفْ هذا الموقفَ العصيبَ الرهيب. إنها مشاهدُ غيبيةٌ يعرضها القرآنُ، وكأنها رأيُ العين، فاستمعْ إليها ما دامَ السماعُ ممكنًا، واعقِلْها بأهوالها ومشاهدِها وأقمْ لها وزنًا وفي القرآن معتبرٌ ومدَّكر {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} (¬7). ¬

(¬1) سورة ق، الآية: 18. (¬2) سورة المجادلة، الآية: 6. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 47. (¬4) سورة الكهف، الآية: 49. (¬5) سورة المدثر، الآية: 38. (¬6) سورة عبس، الآيات: 34 - 37. (¬7) سورة الحاقة، الآيات: 13 - 18.

يا عبدَ الله: واخترْ لنفسكَ أيَّ المنزليْن {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَئوا كِتَابِيهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئونَ} (¬1). يا أخا الإسلام: الأرضُ تميدُ منْ حولك، والأممُ والشعوبُ باتتْ تبحثُ عنْ هُويتِها- وإنْ كانتْ مزوَّرةً- وتلتفتُ إلى أديانها وقيمِها- وإن كانت ساقطةً ومنحطةً- فما موقُعكَ في هذا العالمِ المَريجِ؟ وماذا عن اعتزازِك بهويتكَ الأصلية، وثباتِكَ بلْ ودعوتِكَ لدينكَ الحقِّ .. أيسوغُ أن يموتَ إخوانُ القردةِ والخنازيرِ مدافعينَ عنْ دينهمْ وهويتِهمْ .. وأنْ يتفانى عبَّادُ الصليبِ والبقر، وأصحابُ بوذا وكنفوشيوس، بلْ وعبَّادُ الشياطين والفروج، وأممٌ وشعوبٌ أخرى أضلَّها الله، أيسوغُ أنْ يتفانى هؤلاءِ في الدفاعِ عنْ دياناتهم، ويثبتوا على نِحَلهمُ الباطلةِ ويبخلُ المسلمُ في تقديمِ شيءٍ يستطيعُ تقديمَه .. فكيفَ إذا عاشَ المسلمُ غافلًا سادرًا في الشهوات، مرتكبًا للمحرمات حائرًا هائمًا، إنها نكسةٌ وحَوْرٌ بعدَ الكَوْر .. وضلالةٌ بعدَ الهدى، وعمًى بعدَ الإبصارَ، نسألُ اللهَ لنا ولإخوانِنا المسلمينَ السلامةَ والعافية. يا مسلمُ يا عبدَ الله: أتريدُ خَيرَي الدنيا والآخرة؟ شيئانِ إذا عملتَ بهما ¬

(¬1) سورة الحاقة، الآيات: 19 - 37.

أصبت بهما خَيرَي الدنيا والآخرة، تحملُ ما تكرهُ إذا أحبهُ الله، واتركْ ما تحبُّ إذا كرهَهُ الله- كذا قالَ أبو حازمٍ رحمه الله (¬1). وهلْ تعلمُ معوقاتِ إصلاحِ النفوس؟ يجيبكَ أبو الدرداءِ رضيَ اللهُ عنه: لولا ثلاثٌ لصلُحَ الناسُ: شُحٌّ مُطاعٌ، وهوًى مُتبعٌ، وإعجابُ المرءِ بنفسه. أيها العقلاء: فكِّروا فيما يبقى ويُثمرُ ولو كانَ على أنفسكمْ ثقيل، ولا يغرنَّكم ما ألهى وأضحك، فالحزنُ بعدهُ طويل .. قالَ ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه: الحقُّ ثقيلٌ مريءٌ، والباطلُ خفيفٌ وبيءٌ، وربَّ شهوةِ ساعةٍ أورثتْ حزنًا طويلًا. استكثِروا منَ الطاعاتِ كلما أفسحَ اللهُ لكمْ في الأجل وأمدَّكمْ بالصحةِ وأنعمَ بالأمن، فذاكَ الرصيدُ الحقُّ يومَ تُبلى السرائر، وتتطايرُ الكتب، وتنُشرُ الصحائفُ، وما أعمارُكمْ فيمنْ سَبَقكمْ منْ الأممِ إلا نَزْرٌ يسيرٌ، وذلكَ يستدعي استثمارَ الأوقاتِ والمسارعةَ إلى أبوابِ الخيرات، وتحسينَ العمل، وحسنَ الظنِّ بالله .. ، لا ريبَ أنَّ سعادةَ المرءِ في طولِ عمرهِ وحسنِ عملهِ، وتعاستُه بطولِ عمرهِ وسوءِ عملهِ، كذا أخبرَ المصطفى صلى الله عليه وسلم حين سُئل: أيُّ الناسِ خيرٌ؟ فقال: «منْ طالَ عمرُهُ وحَسُنَ عملُه»، قيل: وأيُّ الناسِ شرّ؟ قال: «منْ طالَ عمرُهُ وساءَ عملُه» (¬2). أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَئونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (¬3). ¬

(¬1) شرح السنة 14/ 307. (¬2) البغوي، شرح السنة 14/ 287 ورجاله ثقات. (¬3) سورة الإسراء، الآيتان: 71، 72.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الحمدُ للهِ غافرِ الذنوبِ وساترِ العيوب، والصلاةُ والسلامُ على إمامِ المستغفرين، وداعي الناسِ للتوبةِ أجمعين. أيها المسلمون: والاستغفارُ عبادةٌ وقُربة، ورحمةٌ ورِفْعةٌ، ودفعٌ للشرورِ والبلاء، حتى قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمهُ الله: شهادةُ التوحيدِ تفتحُ بابَ الخير، والاستغفارُ يُغلقُ بابَ الشر (¬1). وقالَ الحسنُ رحمهُ الله: أكثِروا منَ الاستغفار، فإنكمْ لا تدرونَ متى تنزلُ الرحمةُ. والاستغفارُ خيرُ رفيقٍ في الدنيا، وفي ظلماتِ القبر، وحينَ العرضِ على الله، فمنْ لزمَ الاستغفارَ جعلَ اللهُ لهُ منْ كلِّ همٍّ فرَجًا، ومنْ كلِّ ضيقٍ مخرجًا، ورَزَقَهُ منْ حيثُ لا يحتسبُ .. هذا في الدنيا. وفي القبرِ، قالَ أبو المنهال رحمهُ الله: «وما جاورَ عبدٌ في قبرهِ منْ جارٍ أحبَّ إليهِ منْ استغفارٍ كثير» (¬2). يا عبدَ الله: منْ أهمَّتهُ ذنوبُهُ أكثرَ لها منَ الاستغفار، ومنْ استشعرَ نعمةَ اللهِ ختمَ ذلكَ بالاستغفار .. وهذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ وفّى تبليغَ الرسالةِ ونصرَه اللهُ، وفتحَ لهُ ما فتح، ودخلَ الناسُ في دينِ الله أفواجًا، أُمِرَ بالاستغفار، فكانَ الجهادُ والدعوةُ عبادةً أداها، وشُرعَ له الاستغفارُ عُقيبها. ومنْ وصايا لقمانَ لابنه: يا بني، عوِّدْ لسانَكَ الاستغفارَ، فإنَّ للهِ ساعاتٍ لا يَردُّ فيهن سائلًا (¬3). ¬

(¬1) محمد الحمد، رمضان، 194. (¬2) السابق/ 193. (¬3) السابق/ 193.

يا عبدَ الله: إني مرشدُكَ ونفسي إلى عدَّةِ أمور: 1 - اختمْ عامكَ بالاستغفار .. فطالما أخطأْنا وطالما قصَّرْنا، وفي بعضِ الآثار: إن إبليسَ قال: أهلكتُ الناسَ بالذنوب، وأهلكوني بـ: «لا إلهَ إلا اللهُ» والاستغفارِ. 2 - واستقبلْ عامَكَ الجديدَ بهمَّةٍ صادقةٍ وعزيمةٍ متجدِّدةٍ على فعلِ الخيرِ، واحرصْ على أنْ يكونَ لكَ في كلِّ ميدانٍ من ميادينِ الخيرِ سهمٌ قلَّ هذا السهمُ أو كَثُر، وضَعْ نفسَكَ في منافسةٍ معَ كلِّ منْ رأيتَ يتقدمُ في أبوابِ الخير، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (¬1). 3 - تذكرْ أرجى عملٍ عملتَه في عامِكَ المنصرمِ، فافرحْ بهِ دونَ أنْ تغترَّ أو تَمُنَّ، واشكرِ اللهَ إذْ وَفَّقك لعملِه، واسأْلهُ القَبُولَ عليه، ثمْ حاولْ أن تكررَ مثلَهُ أو أحسنَ في عامِكَ الجديدِ، فمنْ علائمِ قبولِ الحسنةِ عملُ الحسنةِ بعدَها. 4 - وتذكرْ أَسْوَأَ عملٍ عملتَهُ فيما مضى، فابكِ على خطيئتِكَ، واسألْ ربَّكَ المغفرةَ، وإياكَ أنْ تكرر الخطيئةَ أو ما يُشبهها، فالندمُ توبةٌ، والاستغفارُ يُحرقُ الخطيئةَ، ومنْ تابَ وأنابَ فإنَّ الله يُبدِّلُ سيئاتِهِ حسناتٍ، وكانَ اللهُ غفورًا رحيمًا. 5 - فتِّشْ في أحوالِك كلِّها واسألْ عنْ نوعِ علاقتكَ بربِّكَ وبالناسِ منْ حولك، ما درجةُ الإيمانِ باللهِ واليقينِ بوعدِهِ ووعيده، وما قدرُ الصلاةِ عندكَ، وكيفَ حالُكَ معَ الصيامِ وقيامِ الليل، وكيفَ خُلُقُكَ وأسلوبُ تعاملُكَ معَ الناس، هلْ أنتَ وَصولٌ للرحم، محسنٌ للخَلْق، رطبُ اللسانِ بذكرِ الله، كثيرُ التلاوةِ لكتابه، تحبُّ للآخرينَ منَ المسلمينَ ما تحبُّهُ لنفسك، يهمكَ أمرُ ¬

(¬1) سورة المطففين، الآية: 26.

الإسلامِ ويشغَلُ بالَكَ حالُ المسلمين؟ ؟ كريمٌ صبورٌ حييٌّ، حليم .. فتلكَ ومثلُها خصالٌ يحبُّها اللهُ ويتمناها خَلْقُ الله وما لمْ يكنْ منها خلقٌ متأصِّلٌ فيمكنُ بالتخلُّقِ والمجاهدةِ وترويضِ النفسِ، فالعلمُ بالتعلُّم والحِلْمُ بالتحلُّمِ وهكذا .. 6 - أيها الشابُ: لا تغترَّ بشبابكَ فحبلُ المنايا قصيرٌ، وقطارُ الموتِ لا ينتظرُ الشابَّ حتى يكبرَ، ألا فلتعلمْ أنَّ الشبابَ أوسعُ ميدانٍ وأقوى سلاحٍ لزرع الآخرة، أما إذا انحنى الظهرُ وتعثرتِ القدمان عنِ الخطوِ وضَعُفَ البصرُ وثَقُلً السمعُ، فما أقلَّ الجهدَ وإنْ توفرتْ دواعي الخير، ولو طلبتَ من شيخٍ عاجزٍ أنْ يتمنى، لقال: أنْ تُوهبَ لي قوتكَ فاستعنْ بها على طاعةِ الله، وليسَ يخفاكَ أنَّ في ظلِّ اللهِ يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّهُ متسعٌ لشابٍّ نشأ في طاعةِ الله، فشمِّرْ عنْ ساعدِ الجِدِّ واستثمرْ شبابَكَ قبلَ هرَمِك. 7 - أيها المسرفُ على نفسه بالمعاصي لا تَجعلْ من سترِ اللهِ عليك سببًا لمبارزتهِ بالمعاصي، فقدْ تؤخذُ على حينِ غَفلةٍ، ألا فاعلم أنهُ لا يَحُولُ بينكَ وبينَ اللهِ أحدٌ، فبادِرْهُ بالتوبةِ ما دامَ في الأمرِ مهلةٌ، ولا تظنَّ أنَّ عظيمَ ذنوبِكَ مانعةٌ منْ عفوِ اللهِ ومغفرته، فاللهُ لا يغفرُ أنْ يُشْرَكَ بهِ ويغفرُ ما دونَ ذلكَ لمنْ يشاء وإياكَ والقنوطَ، وربكُ ينادي ويقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬1). 8 - صاحبَ الدنيا: لا تَغُرنَّكَ بزُخْرفِها؛ فهي الغدَّارةُ، إياكَ أنْ تجمعَ الشوكَ فيؤذيكَ حيًا وميتًا .. ألا وإنَّ في الحلالِ غُنيةً عنِ الحرام، وإذا كانَ الحسابُ دقيقًا على الحلال فما ظنُّك بالحساب على الحرام وإن أغناك الله فحذارِ من ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 53.

الكبر والغُرور، فالمالُ مالُ الله وأنت مستأمَنٌ عليه وانظر -يَرْعاكَ اللهُ- كيف تكسبه وفيمَ تنفقُه؟ 9 - أيها المسلمون تفاءلوا ولا تشاءموا وثِقُوا بنصرِ الله وغَلَبة الإسلامِ وكلَّما ادلهمَّت الخطوبُ فالفرجُ في ثناياها يلوحُ، فالكرب معه الفرجُ، والنصرُ مع الصبرِ والتقوى، وكلما اشتدت فُرجت، والجنةُ غالية وهي سلعةُ الله، وقد قيل لمن هم خيرٌ منا: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (¬1). أما أعداؤنا منَ الكفار فمتاعُهم غرورٌ، وكبرياؤهم يزولُ، وأموالهم التي ينفقونها ليصدُّوا بها عن سبيل الله ستكون عليهم حسرةٌ ثم يُغلبون، وفي النهاية إلى جهنم يُحشرون .. وليسوا بمأمنٍ من عذاب الله في الدنيا وأخذَهم على حينِ غفلةٍ {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2). وفي القرآن نماذجُ لنهايةِ الطُّغاة والمستكبرين ودروسٌ وأمثالٌ للأولين والآخِرين: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلآخِرِينَ} (¬3) {فَكُلًا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (¬4). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 214. (¬2) سورة الأنعام، الآيتان: 44 - 45. (¬3) سورة الزخرف، الآيتان: 55 - 56. (¬4) سورة العنكبوت، الآية: 40.

ألا فاستمسِكوا بدينكمُ الحقِّ- معشرَ المسلمين- وكونوا على ثقةٍ بنصرِ اللهِ لكمْ في الحياةِ الدنيا ويومَ يقومُ الأشهادُ، وذلك وعدٌ غيرُ مكذوب: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (¬1)، بَشِّروا وأبشِروا، ويسِّروا ولا تُعسِّروا، وادعوا ربَّكم خوفًا وطمَعًا {إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬2). اللهمَّ انصرْ دينَكَ وعبادَك المسلمين، اللهمَّ لا تجعلْ للكافرينَ سبيلًا على المسلمين. ¬

(¬1) سورة غافر، الآية: 51. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 56.

الثلاثة الذين خلفوا

الثلاثة الذين خلفوا (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلمْ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين، وارضَ اللهمَّ عنِ الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ وتابعيهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ وسلمْ تسليمًا كثيرًا. إخوةَ الإيمان: لكلِّ أمةٍ رجالٌ تفخرُ بهمْ وتكثرُ مناقبُهم، ويحلو الكلامُ في سِيَرهم، وما منْ نبيٍّ إلا كانَ له حواريونَ وأصحابٌ، يؤمنونَ بما جاءَ به، ويجاهدونَ معه، وإنْ كانَ يوجدُ النبيُّ الذي يأتي يومَ القيامةِ وليسَ معهُ أحد؟ ولكنَّ رجالَ هذهِ الأمةِ الأوَّلينَ فاقوا غيرَهم .. وكُثَر عددُهم، وشهدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على خيريَّتِهمْ فقال: «خيرُ الناس قَرْني»، وأثنى اللهُ عليهمْ في أكثرَ منْ موضعٍ منْ كتابهِ العزيز، منْ مثلِ قولهِ تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (¬2). ومن السنةِ- كما يقولُ الإمامُ أحمدُ رحمه الله- في كتابه «السنة»: ذكرُ محاسنِ أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كلِّهمْ أجمعين، والكفُّ عنِ الذي جرى بينهم، فمنْ سبَّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحدًا منهمْ فهوَ مُبتدعٌ رافضيٌّ .. إلى أنْ قالَ ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 4/ 1/ 1424 هـ. (¬2) سورة التوبة، الآية: 100.

الإمام: حبُّهمْ سُنَّةٌ، والدعاءُ لهمْ قُرْبةٌ، والاقتداءُ بهمْ وسيلةٌ والأخذُ بآثارهمْ فضيلة (¬1). أخوةَ الإسلام: وصحابةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جاهدوا بأموالهمْ وأنفسِهمْ في سبيلِ الله، وفدَوْا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأرواحهم، وحملوا الإسلامَ إلى أصقاعِ الأرض، وهمْ يحملونَ أرواحهمْ على أكُفِّهم، فمنهمْ منْ قضى نحبَهُ في ساحاتِ الجهادِ ومنهمْ منِ انتظرَ حتى توفاهُ اللهُ وما بدَّلوا تبديلًا. كانوا قِمَمًا في إيمانهمْ وصِدْقِهم، وكانوا كذلكَ قِمَمًا حين يخطئونَ فيتوبون، وحديثُ اليوم عن الثلاثةِ الذينَ خُلِّفوا، جاءَ ذكرهمْ في القرآنِ وأفاضتِ السيرةُ النبويةُ في تفصيلِ خبرهمْ- وإنْ لمْ نجدْ في كتب الطبقات والتراجم مزيدَ تفصيل عن حياتهم- وهم: كَعبُ بنُ مالك- وهوَ أصغرُهمْ سنًا وأشهرهمْ ذِكرًا- ومُرارةُ بنُ الربيعِ العمريِّ، وهلالُ بن أميةَ الواقفيُّ، والثلاثةُ من الأنصارِ، والاثنان الأخيران بَدْرِيَّان. أما كعبٌ فهوَ خزرجيٌّ عَقَبيٌّ أُحُديّ- يعني منَ الخزرجِ وشهدَ العقبةَ وأحدَ، كانَ منْ أهلِ الصُّفَّة- كما قالَ ابنُ أبي حاتم (¬2)، شهدَ العقبةَ وبايعَ بها، وتخلَّفَ عنْ بدر- ولمْ يعاتب الرسولُ صلى الله عليه وسلم منْ تغيّبَ عنها وشهدَ أحدًا وكانَ لهُ موقفٌ فيها، ثمَّ شهدَ ما بعدَها، وتخلَّفَ في تبوكَ، وقصتُهُ وصاحباهُ مشهورةٌ فيها (¬3). كان كعبٌ أحد شعراءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم المشهورينَ وهم: حسانٌ، وابنُ رواحةَ وكعبٌ، وخدمتُهمْ للإسلامِ في شعرهمْ لا تُنكر، قالَ ابنُ سيرين: أما كعبٌ فكانَ ¬

(¬1) العباد، الانتصار للصحابة الأخيار ص 133. (¬2) الجرح والتعديل 7/ 160، 161. (¬3) الإصابة 8/ 304، 305 بتصرف.

يذكرُ الحربَ يقول: فعلنا ونفعلُ ويتهدَّدُهم، وأما حسانٌ فكانَ يذكرُ عيوبَهمْ وأيامهم، وأما ابنُ رواحةَ فكان يُعيِّرُهمْ بالكفر (¬1). ولقدْ تأثرَ كعبٌ رضيَ اللهُ عنهُ حينَ نزلَ في القرآنِ ما نزلَ في ذمِّ الشعراء، فجاءَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسولَ الله، قدْ أنزلَ اللهُ في الشعراءِ ما أنزل، فقالَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلم مطمئنًا: «إنَّ المجاهدَ مجاهدٌ بسيفهِ ولسانه، والذي نفسي بيدهِ لكأنما ترمونهمْ بهِ نضحُ النَّبْلِ» (¬2). شهدَ كعبٌ أحدًا فارتُثَّ فيها، بل جُرح فيها سبعةَ عشرَ جرحًا، وهوَ أولُ منْ عرفَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وبشرَّ به المؤمنين حيًّا سويًّا، ودعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كعبًا بلأمَتِه، وكانتْ صفراءَ، فلبسها كعبٌ وقاتلَ يومئذٍ قتالًا شديدًا حتى جُرحَ سبعةَ عشرَ جرحًا (¬3). أيها المسلمون: وكما جاهدَ كعبٌ المشركينَ بسيفه، جاهدهمْ كذلكَ بلسانه، وكانَ لشعرهِ أثرٌ بالغٌ عليهم، بلْ أسلمتْ لهُ دَوْسٌ لبيتينِ قالهما كعبٌ والخبرُ كما ذكرهُ ابنُ سيرين: قالَ كعبٌ بيتينِ كانا سببَ إسلامِ دَوْس، والبيتانِ قالهما كعبٌ حينما انصرفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم منْ حُنينٍ وأجمعَ المسيرَ إلى الطائف، والبيتانِ هما- كما ذكرَ ابنُ هشام-: قَضَيْنا منْ تهامةَ كلَّ ريبٍ ... وخيبرَ ثمَّ أجمَعْنا السُّيوفا نُخيِّرُها ولو نطقتْ لقالتْ ... قواطعهنَّ دَوْسًا أو ثقيفا (¬4) ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 2/ 525. (¬2) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (20500) وعند أحمد في «مسنده» (6/ 387) بسند صحيح، سير أعلام النبلاء 2/ 525. (¬3) سير أعلام النبلاء 2/ 525. (¬4) السيرة لابن هشام 4/ 171.

فلما بلغَ ذلكَ دَوْسًا قالوا: خذوا لأنفسكم، لا ينزلُ بثقيف (¬1). قالَ الذهبي: وقدْ أسلمتْ دوسٌ فَرَقًا منْ بيتٍ قَالهُ كعبٌ .. نخيِّرها ولو نطقَتْ لقالت: قواطعهنَّ دَوْسًا أو ثقيفا (¬2). وفي الحديثِ عنْ شعرِ كعب، قالَ لهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «ما نسيَ ربُّكَ لكَ، - وما كانَ ربُّك نسِيًا- بيتًا قلتَه»، قال: وما هو؟ قال: «أنشِدْه يا أبا بكر» فقال: زَعَمتْ سخينةُ أن ستغلِبُ ربَّها ... وَلَيُغْلَبنَّ مُغالبُ الغلاب والسخينةُ لَقَبٌ لقريشٍ كانت تُعَّير به (¬3). قالَ الذهبي: مات كعبٌ سنةَ خمسين (¬4). وقالَ ابنُ حجر: ولمْ نجدْ لهُ في حربِ عليٍّ ومعاوية- رضي الله عنهما- خبرًا (¬5). أما مرارةُ بنُ الربيع، وهلالُ بنُ أمية فهما كما قالَ صاحبهما كعب: قدْ شهدا بدرًا وفيهما أسوةٌ (¬6). وهلالُ بنُ أميةَ- كما تقولُ امرأتُه-: شيخٌ ضائعٌ وما به حِراكٌ إلى شيءٍ، وما زالَ يبكي منذُ كانَ من أمرهِ في تبوكَ ما كان (¬7). كان هلالٌ قديمَ الإسلامِ وشهدَ بدرًا وأُحدًا، وكانَ يكسرُ أصنامَ بني واقف، ¬

(¬1) الإصابة 8/ 305. (¬2) سير أعلام النبلاء 2/ 525. (¬3) سير أعلام النبلاء 2/ 526. (¬4) المستدرك 3/ 440. (¬5) الإصابة 8/ 305. (¬6) أخرجه البخاري ح 4418. (¬7) البخاري مع الفتح 8/ 115.

وكانتْ معهُ رايتُهمْ يومَ الفتح (¬1). والثلاثةُ كلُّهم- كعبٌ وهلالَ ومرارة- امتُحنوا حينَ تخلَّفوا في غزوةِ تبوك إلى الحدِّ الذي أخبرَ اللهُ عنهمْ في كتابهِ بقوله: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬2). وأخبرَ أحدُهمْ (كعبٌ) عن المعاناةِ التي عاشوها والضيقِ الذي لازمهمْ طيلةَ خمسينَ ليلةً إذْ يقول: ونهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمينَ عن كلامنا، فاجتنبَنَا الناسُ وتغيَّروا لنا، حتى تنكرتْ في نفسي الأرضُ، فما هيَ التي أعرفُ، فلبثْنا على ذلكَ خمسينَ ليلةً، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنتُ أشبَّ القومِ وأجلَدَهم، فكنتُ أخرجُ فأشهدُ الصلاةَ مع المسلمين، وأطوفُ في الأسواقِ ولا يكلِّمُني أحدُ، وآتي رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأسلمُ عليهِ وهوَ في مجلسهِ بعدَ الصلاةِ فأقولُ في نفسي: هلْ حرّكَ شَفَتَيهِ بردِّ السلامِ عليَّ أم لا؟ ثمَّ أصلي قريبًا منه، فأسارِقُهُ النظرَ، فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبلَ إليَّ وإذا التفتُّ نحوَهُ أعرضَ عني، حتى إذا طالَ عليَّ ذلكَ- من جَفْوةِ الناس- مشيتُ حتى تسوَّرتُ جدارَ حائطِ أبي قتادةَ، وهوُ ابنُ عمي وأحبُّ الناسِ إليَّ فسلمتُ عليه، فواللهِ ما ردَّ عليَّ السلامَ، فقلتُ: يا أبا قتادةَ: أنشُدُكَ بالله، هل تعلَمُني أُحِبُّ اللهَ ورسولَه؟ فسكتَ، فعُدتُ له فنشَدْتُهُ فسَكتَ، فعُدْتُ له فنَشَدْتُه. فقال: اللهُ ورسولُهُ أعلم، ففاضتْ عيناي .. إنها قمةُ المعاناةِ يعيشها الثلاثةُ ويُعبرُ عنها كعب .. فالأصحاب يَهْجرونَ ¬

(¬1) ابن الأثير: أسد الغابة 5/ 406. (¬2) سورة التوبة، الآية: 118.

والأرضُ تتغير، والأسواقُ وحشةٌ وهجر، وفي المسجدِ إعراضٌ وهَجْر، والصديقُ الحميمُ يتردَّدُ في البوحِ بأدنى تزكية .. وحُقَّ للثلاثةِ أنْ يتأثروا لهذهِ المحنةِ وأنْ تجيبَ العينانِ بالبكاءِ قبلَ ما يمكنُ أنْ يعبِّرَ عنه القلبُ ويترجمُه اللسانُ! وهكذا يُبتلى العظماءُ، ويُمحَّصُ المؤمنون، وتكونُ العاقبةُ حميدةً والبشارةُ سارةً .. والرسولُ صلى الله عليه وسلم يقولُ لكعب- حينَ نزلَ القرآنَ بتوبتهم: «أبشرْ بخيرِ يومٍ مرَّ عليكَ منذُ ولدَتْكَ أمُّكَ» (¬1). أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬2). ¬

(¬1) البخاري، السابق. (¬2) سورة التوبة، الآية: 119.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: إخوةَ الإسلام: ومنْ قمةِ المعاناةِ والضيقِ التي وجدَها الثلاثةُ الذينَ خُلِّفوا .. إلى قمةِ الفرح والبشرى بالتوبةِ تنزلُ منَ السماء، وبالفرجِ بعدَ الكَرْبِ يأذنُ بهِ اللهُ وينزلُ بهِ القرآنُ منَ السماء .. وتتجاوزُ الفرحةُ نطاقَ الثلاثةِ إلى عمومِ المسلمينَ لتكشفَ هذهِ الحادثةُ- فيما تكشفُه- طبيعةَ مجتمعِ المسلمينَ وما فيهِ منْ معاني الأُخوَّةِ الصادقةِ والتكافلِ والمحبة .. فتراهمْ يعتذرونَ بالحُسنى عنِ الغائب، ويَحْمونَ عِرْضَ المتخلِّف ما دامَ مشهودًا لهُ بالخيرِ والصلاح، وهمْ- وإن هجروهُ لمصلحةٍ واستجابوا لأمر اللهِ ورسولِه- فهمْ كذلكَ يفرحونَ بالخيرِ يُصيبُه، بلْ يتسابقونَ لتهنئته .. وترى الرجلينِ يتنافسانِ في سرعةِ البشرى له، وأيُّهما يوصلُ لهُ الرسالةَ أولًا .. فأحدُهما يمتطي صهوةَ جوادهِ مسرعًا، والآخرُ يعلو جبلًا فيرفعُ صوتَهُ مُبشرًا .. وثالثٌ يقومُ يحتضنُ ويُهنِّئُ وأفواجٌ على إثرِ أفواجٍ تُبشِّر بالخير .. وهكذا .. فما أجملَها منْ صورةٍ تمثلُ المجتمعَ الإسلاميَّ المتماسكَ .. ودُونَكمُ الصورةَ بجلاءٍ يُعبرُ عنها بكلِّ وضوحٍ كعبُ بنُ مالكٍ رضيَ اللهُ عنه، حينَ نزلتْ توبتهُ ويقول: فلما صليتُ صلاةَ الفجرِ صُبْحَ خمسينَ ليلةً، وأنا على ظَهْرِ بيتٍ منْ بيوتنا، فبينا أنا جالسٌ على الحالِ التي ذكرَ اللهُ، قدْ ضاقتْ عليَّ نفسي وضاقتْ عليَّ الأرضُ بما رَحُبتْ، سمعتُ صوتَ صارخ أَوْفَى على جبلِ سَلْعٍ بأعلى صوتِه: يا كعبَ بن مالك، أبشِرْ، قال: فخررتُ ساجدًا، وعرفتُ أنْ قدْ جاءَ فرجٌ، وآذنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بتوبةِ اللهِ علينا حينَ صلى صلاةَ الفجر، فذهبَ الناسُ يبشِّروننا، وذهبَ قِبَلَ صاحبيَّ مُبشِّرون، وركضَ إليَّ رجلٌ فَرَسًا، وسعى ساعٍ منْ أسَلَمَ

فأَوْفَى على الجبل، وكانَ الصوتُ أسرعَ منَ الفَرَسِ، فلما جاءني الذي سمعتُ صوتَه يُبشِّرُني نزعتُ لهُ ثوبيَّ فكسوتُه إياهما ببشُراه، واللهِ ما أَمْلِكُ غيرَهما يومئذ، واستعرتُ ثوبينِ فلبستُهما، وانطلقتُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فيتلقَّاني الناسُ فوجًا فوجًا يهنئوني بالتوبةِ ويقولون: لِتَهْنِكَ توبةُ اللهِ عليك. قالَ كعبٌ: حتى دخلتُ المسجدَ فإذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جالسٌ حولَهُ الناسُ، فقامَ إليَّ طلحةُ بنُ عبيدِ الله يُهرولُ حتى صافَحَني وهنأني، واللهِ ما قامَ إليَّ رجلٌ منَ المهاجرينَ غيرَه، ولا أنساها لطلحةَ. قالَ كعبٌ: فلما سلَّمتُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال- وهو يبرقُ وَجْهُهُ منَ السرور-: «أبشرْ بخيرِ يومٍ مرَّ عليكَ منذُ ولدَتْكَ أُمُّكَ» قالَ (كعبٌ): قلتُ: أمِنْ عندكَ يا رسولَ اللهِ أمْ منْ عندِ الله؟ قال: «لا، بلْ منْ عندِ الله». عبادَ الله: ومن معاني القصةِ ودلالاتِها العُظمى: قيمةُ الصدقِ معَ اللهِ، وأثرُه في تفريجِ الكُربات، وعواقبُهُ الحميدة. وهذا كعبٌ يحدثُ بنفسِه عنِ الصدقِ بدْءًا ونهايةً، ويقول: فلما قَفَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم راجعًا منَ الغزوة إلى المدينة، أتيتُهُ فتبسَّم تبسُّمَ المُغْضَبِ، وسأل عن سببِ تخلُّفي عن الغزوة، فقلتُ: إني واللهِ لو جلستُ عندَ غيركَ منْ أهلِ الدنيا لرأيتُ أنْ سأخرجُ منْ سَخَطهِ بعُذْرٍ ولقدْ أعطيتُ جَدَلًا، ولكني واللهِ لقدْ علمتُ لئنْ حدثتُكَ اليومَ حديثَ كذبٍ ترضى به عني ليوشِكنَّ اللهُ أنْ يُسخِطَكَ عليّ، ولئنْ حدثْتُكَ حديثَ صدقٍ تجدُ عليَّ فيه، إني لأرجو فيهِ عفوَ الله، لا واللهِ ما كانَ لي منْ عُذْر .. إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقدْ صَدَقَ، فقمْ حتى يقضيَ اللهُ فيك». وفي نهايةِ القصة، وحينَ نزلتْ توبةُ كعبٍ جاءَ ليقولَ للرسولِ صلى الله عليه وسلم (عن أثرِ

الصدقِ والتزامهِ الصدق): يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ إنما نجَّاني بالصِّدق، وإنَّ منْ توبتي أنْ لا أُحدِّثَ إلا صادقًا ما بقيتْ، ثمَّ يقول: فواللهِ ما أعلمُ أحدًا منَ المسلمينَ أبلاهُ اللهُ في صِدْقِ الحديث- منذُ ذكرتُ ذلكَ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم- أحسنَ مما أبلاني، ما تعمَّدتُ منذُ ذكرتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذِبًا، وإني لأرجو أنْ يحفظَني اللهُ فيما بقيتُ .. وليسَ يخفى أنَّ اللهَ أثنى على صدقِ هؤلاء .. ودعا المسلمينَ إلى التحلي بالصدق، كما في قولِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬1). فهلْ نصدقُ معَ اللهِ كما صدقَ كعبٌ وصاحباه؟ وهلْ نصدقُ معَ أنفسنا كما صدقوا معَ أنفسهم؟ أيها المؤمنون: وهنا سرٌّ عظيم، فأكابرُ الرجالِ والصادقونَ معَ اللهِ لا تزيدهمُ المواقفُ الصعبةُ إلا قوةً ورفعةً، وقدْ يكونُ صاحبُ الذنبِ التائبُ أفضلَ منهُ قبلَ الخطيئة، كما قالَ بعضُ السلف: كانَ داودُ عليهِ السلامُ بعدَ التوبةِ أحسنَ منهُ حالًا قبلَ الخطيئة، كذا نقلَ شيخُ الإسلامِ في «الفتاوى» (¬2) ثم قال: والاعتبارُ بكمالِ النهايةِ لا بنقضُ البدايةَ (¬3). قالَ ابنُ حجر، ومنْ فوائدِ قصةِ الثلاثة: أنَّ القويَّ في الدينِ يؤاخذُ بأشدَّ مما يُؤاخذُ الضعيفُ في الدِّين (¬4). ومعَ ذلك، يقالُ عنْ أثرِ المعصيةِ ما قالهُ الحسنُ البصريُّ رحمهُ الله: يا سبحانَ ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 119. (¬2) 15/ 54. (¬3) السابق 15/ 5. (¬4) الفتح 8/ 123.

الله، ما أكلَ هؤلاءِ الثلاثةِ مالًا حرامًا ولا سَفَكوا دمًا حرامًا، ولا أفسدوا في الأرض، أصابهمْ ما سمعتمْ وضاقتْ عليهمُ الأرضُ بما رَحُبَتْ، فكيفَ بمنْ يواقعُ الفواحشَ والكبائرَ (¬1)؟ ! أيها المسلمون: لم تنتهِ بعدُ قصةُ الثلاثةِ الذين خُلِّفوا، وثمةَ دروسٌ وعبرٌ أخرى لكني أُرجئُ ذلكَ لخطبةٍ أخرى إنْ شاء الله. وثمةَ ما يُذكَّرُ بهِ هذه الأيام، ألا وهوَ صومُ يومِ عاشوراءَ، فنحنُ الآنَ في شهرِ اللهِ المحرم، وفي العاشرِ منهُ كانتِ الملحمةُ بينَ الإيمانِ يمثِّلهُ موسى والمؤمنونَ معه، والكفرُ والطغيانُ يمثِّلهُ فرعونُ وجنودُه، وانتصرَ الإيمانُ وعزَّ المؤمنونَ وذلَّ المشركونَ وخابَ كلُّ جبار عنيد .. وانتهى أمدُ طغيانِ فرعونَ الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (¬2)، واستصغرَ الذي قالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (¬3) - وحينَ أدركهُ الغرقُ عرفَ الحقيقةَ ولكنْ هيهات {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬4)، وكانتِ العبرةُ وكانَ الدرسُ بليغًا ولكنْ لمنْ؟ ! {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} (¬5). وصامَ موسى ومحمدٌ عليهما السلامُ يومَ عاشوراء، ففي «صحيحِ مسلم» عن ابنِ عباسِ رضيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدمَ المدينةَ، فوجدَ اليهودَ صيامًا يومَ عاشوراء، فقالَ لهمْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ما هذا اليومُ الذي تصومونَه؟ » قالوا: هذا يومٌ عظيمٌ أنجى اللهُ ¬

(¬1) الفتح 8/ 123. (¬2) سورة القصص، الآية: 38. (¬3) سورة النازعات، الآية: 24. (¬4) سورة يونس، الآية: 90. (¬5) سورة يونس، الآية: 92.

فيه موسى وقومَهُ وغرقَ فرعونُ وقومهُ فصامَهُ موسى شكرًا، فنحن نصومُه، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فنحنُ أحقُّ وأولى بموسى منكم»، فصامهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأمرَ بصيامه (¬1). وإذا كانَ الأنبياءُ صاموا عاشوراء واليهودُ صامُوه، وقريشٌ في جاهليتها تصومُ عاشوراءَ- كما في «صحيح مسلم» (¬2) فحريٌّ بالمسلمِ الذي يرجو ثوابَ ربِّه أنْ يصومَه .. لا سيَّما وقدْ وردَ في فضلهِ أنه يكفِّرُ سنةً .. وما أحوجَنا جميعًا إلى تكفيرِ الذنوب .. ومن السُّنةِ مخالفةُ اليهودِ بصومِ يومٍ قبلَهُ أوْ يومٍ بعْدَه، ومَنْ صامَ التاسعَ والعاشرَ والحادي عشرَ، فذاكَ أكملُ وأعلى مراتبُ صيامهِ كما قالَ ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ (¬3). ¬

(¬1) مسلم، المنذري 163، 164، ح 613. (¬2) ح 611. (¬3) زاد المعاد 2/ 76.

مسكنات في الأزمات

مسكنات في الأزمات (¬1) الخطبةُ الأولى: الحمدُ للهِ مُغيثِ اللَّهفاتِ، فارجِ الكُرباتِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، ما منْ دابةٍ في الأرضِ إلا عليهِ رِزْقُها ويعلمُ مُستقرَّها ومستودَعها، كلُّ ذلكَ في كتابٍ مبين، لا يُغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها. وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه آمنَ وصدَّقَ، وجاهدَ وصبرَ، ونشرَ اللهَ رسالتَهُ في العالمين، وأوحى إليهِ ربُّه {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (¬2)، وأوحى إليهِ ومنْ معَهُ منَ المؤمنين {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} (¬3). اللهمَّ صلِّ وسلمْ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين. أيها المسلمون: منْ يتأملُ واقعَ العالمِ اليومَ يرى أحداثًا تتسارعُ وقوى تتصارع، شحناءُ وبغضاء، تهديدٌ وإرجاف، هَرْجٌ ومَرْجٌ، أهدافٌ مُعلنةٌ وأخرى مُبيَّتة، فُرْقةٌ واختلاف، وفتنٌ تموجُ ومستقبلٌ مجهول، يطغى صوتُ الحمقى، ويغيبُ أو يُغيَّبُ صوتُ العقلاء، وإذا كانَ العالمُ كلُّه قلقًا ومنكِرًا لهذهِ الحماقاتِ التي ربَّما دمرتِ الأخضرَ واليابس .. فما حالُ المسلمِ في ظلِّ هذه الأزماتِ المتلاحقة، وهلْ منْ مُهدئاتٍ ومُسكناتٍ ومبشرات؟ ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 23/ 2/ 1424 هـ. (¬2) سورة الزخرف، الآية: 43. (¬3) سورة هود، الآيتان: 112، 113.

إنَّ المسلمَ الذي يرتبطُ باللهِ خالقِ الكونِ ومُدبِّره، ويعرفُ حقيقةَ الحياةِ الدنيا وطبيعتها والآخرةَ ونعيمَها، ويؤمنُ بالقدرِ خيرهِ وشرِّهِ .. ينبغي أنْ يختلفَ عنْ غيره، فلا يقلقُ ولا يضجر، ولا ييأسُ ولا يَقْنطُ، وهوَ- وإنْ أحسَّ كغيرهِ بالقلقِ وفكَّرَ وقدَّرَ بالعواقب- فثمةَ مهدِّئاتٌ إيمانيةٌ تخففُ منْ رَوْعِه، وتُجيبُ على تساؤلاته، وتمنحهُ الهدوءَ والطمأنينةَ والراحةَ النفسية، بلْ وتدفعُه للعملِ المثمرِ. وتعالوا بنا- معشرَ المسلمين- إلى شيءٍ من هذه المُسكِّناتِ الإيمانيةِ نعلمها ونتعاملُ معها، كلَّما حدثتْ أزمةٌ، أو أطلّت فتنةٌ، أو ضاقتْ علينا أنفسُنا. أولًا: ترسيخُ مفاهيمِ العقيدةِ الحقَّةِ في نفوسنا، ومنْ قضايا التوحيدِ والعقيدةِ التي يجبُ ألا تغيبَ عنِ المؤمنِ أبدًا قضيةُ الربوبية، وأنَّ اللهَ تعالى بيدهِ الأمرُ كلُّه، وإليهِ يرجعُ الأمرُ كلُّه، فالخلقُ والرزق، والإحياءُ والإماتة والنفعُ والضُّر، والرفعُ والخفضُ .. كلُّها بيدِ الله، والخلقُ كلُّهمْ وعلى مختلفِ رُتَبِهِمْ وقوَّتِهِمْ لا يملكونَ منَ الأمرِ شيئًا {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬1). وهذا صفوةُ الخلقِ يعلنُها حقيقةً إيمانيةً ويقول- وهوَ الكريمُ على الله-: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (¬2) ويوجهُ الخطابَ صريحًا وعامًا: ألَّا أحدَ يملكُ الضُرَّ أو النفعَ إلا الله {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (¬3). ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآية: 3. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 188. (¬3) سورة الأنعام، الآيتان: 17، 18.

أما البشرُ فهمْ مهما امتلكوا منْ قوةٍ ضُعفاءُ، بلْ يتناهى ضعفُهم إلى حدٍّ قولهِ تعالى: {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (¬1). 2 - إخوةَ الإيمان: ومنْ توحيدِ الربوبيةِ إلى توحيدِ الأسماءِ والصفاتِ مُسَكِّنٌ ثانٍ، وتوحيدُ الأسماءِ والصفاتِ هو الإقرارُ بأنَّ اللهَ بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنهُ الحيُّ القيومُ لا تأخُذُهُ سِنَةٌ ولا نوم، لهُ المشيئةُ النافذةُ، والحِكمةُ البالغةُ، وأنهُ سميعٌ بصيرٌ رؤوفٌ رحيم، على العرشِ استوى، وعلى الملكِ احتوى، وأنه الملكُ القدُّوس السلامُ المؤمنُ المهيمنُ العزيزُ الجبارُ المتكبرِّ، سبحانَ اللهِ عمَّا يشركون .. إلى غيرِ ذلكَ منْ أسماءِ اللهِ الحسنى، وصفاتِه العلى (¬2). إن استشعارَ المسلمِ لأسماءِ الله، وتصوُّره لصفاتهِ يمنحهُ الرِّضى بما قضى، والطمأنينةَ بما قدَّر، ولمِ القلقُ واللهُ علّامُ الغيوب، ورحمتُهُ وسِعَتْ كلَّ شيء، وبيدهِ وحدهُ مفاتيحُ الرحمةِ ومغاليقها؟ ! {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} (¬3) ولمَ الَخَوَرُ والضجرُ وأزِمَّةُ الأمورِ كلِّها بيدِ الله؟ ! فهوَ العليمُ وهوَ الحكيمُ وهوَ الخبيرُ وهو اللطيف، وهوَ السميعُ البصير، وهوَ الجبَّارُ القادرُ المتكبر، وقدْ صحَّ الخبر: «إنَّ للهِ تسعةً وتسعينَ اسمًا، مَنْ أحصاها دخلَ الجنة .. » متفقٌ عليه، وقدْ قيلَ في معنى إحصائها: أي مَنْ أطاقَ القيامَ بحقِّ هذهِ الأسماء، والعملَ بمقتضاها، وهوَ أنْ يعتبرَ معانيها فيلزم نفسَه بموجباتها، فإذا قال: الرزاق وثِقَ بالرزق، وكذا سائرُ الأسماء (¬4). ¬

(¬1) سورة الحج، الآية: 73. (¬2) تيسير العزيز الحميد، سلمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب 19. (¬3) سورة فاطر، الآية: 2. (¬4) معارج القبول، الحكمي 1/ 84.

3 - ومُسكِّنٌ ثالثٌ يتمثلُ في صدقِ الدعاءِ والتضرعِ لله: {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1)، {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} (¬2). ومنْ هَدْيِ النبوةِ قبسٌ ودعاءٌ يُذهبُ الهمَّ والغمَّ، ففي «المسند» و «صحيح أبي حاتم» منْ حديثٍ عبد اللهِ بن مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ما أصابَ عبدًا همٌّ ولا حَزَنٌ فقال: اللهمَّ إني عبدُك ابنُ عبدِك، ابنُ أَمَتِك، ناصِيَتي بيدِكَ، ماضٍ فيَّ حكُمكَ، عدلٌ فيَّ قضاؤُك، أسألُكَ بكلِّ اسمٍ هوَ لك، سميتَ بهِ نفسَكَ أو أنزلتَهُ في كتابك، أو علَّمْتَهُ أحدًا منْ خلقكَ أو استأثرتَ بِهِ في علمِ الغيبِ عندك، أنْ تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدري وجلاءَ حُزْني وذهابَ همِّي وغمِّي، إلا أذهبَ اللهُ همَّهُ وغمَّهُ وأبدلَهُ مكانهُ فرحًا»، قالوا: يا رسولَ الله، أفلا نتعلمهن؟ قال: «بلى، ينبغي لمنْ سمعهنَّ أنْ يتعلمهن» (¬3). فهل نعلمُ هذا الدعاء؟ وهل نعملُ به؟ وهلْ نجدُ لهُ أثرًا في حياتنا؟ 4 - أما المسكِّن الرابعُ فهوَ النظرُ بتفاؤلٍ للمستقبل، وعدمُ حبسِ النفسِ تحتَ ضغطِ الواقعِ المؤلم، إذْ كثيرًا ما يتضايقُ المرءُ ويقلقُ ويضجرُ نتيجةَ ما يراهُ حاضرًا منْ أحداثٍ مؤلمة، لكنهُ حينَ يتجاوزُ الحاضرَ ويتفاءلُ بالمستقبلِ يُسرِّي عنْ نفسهِ ويقودُها للعملِ والإنتاجِ والبهجةِ والسرور، فالأحزانُ لا تدوم، والضيقُ يعقبهُ الفرجُ، والصبرُ جسرٌ يعبرُ عليهِ الصابرون من حالٍ إلى حال، وهذا رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم حينَ ضاقتْ على أصحابهِ المهاجر، وجاءوا إليهِ يشكونَ ما ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 43. (¬2) سورة النمل، الآية: 62. (¬3) الفوائد/ 33.

يلقونَ منْ عَنَتِ المشركين، وقالَ قائلُهم: ألا تستنصرُ لنا، ألا تدعو لنا؟ فتحَ لهمْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بابَ الأمل، وبشَّرهمْ بمستقبلٍ مشرق، بعدَ ترويضهمْ بالبصرِ واليقين: «واللهِ ليُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكبُ منْ صنعاءَ إلى حضرموتَ، لا يخافُ إلا اللهَ والذئبَ على غَنمِه، ولكنكمْ تستعجلون». 5 - ومن المسكِّناتِ في الأزماتِ: كثرةُ العبادةِ والاستمرارُ على الطاعة؛ إذ الأنفسُ تُشْغَلُ، والقلوبُ تضعُف، والذهنُ يتشتَّت (¬1)، والمؤمنُ الذي يداوي ذلكَ بكثرةِ العبادةِ لا شكَّ موفَّقٌ مروِّضٌ لنفسِه، ولهذا ندبَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم المسلمينَ إلى العبادةِ في الهَرْجِ وعظَّمَ أمرَها فقال: «العبادةُ في الهَرْجِ كهجرةٍ إليَّ». ولا ريبَ- معاشرَ المسلمين- أنَّ منْ فعلَ ما يوعَظُ بهِ آنسَهُ اللهُ وثبَّته، {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (¬2). 6 - والدعوةُ للخيرِ في الأزماتِ كذلكَ مفتاحٌ لحلِّها بإذنِ الله، وفي ذلكَ إشغالٌ للنفسِ بما ينفعُ، أجل، إنَّ الفارغَ منَ العملِ المثمرِ يقضي وقتهُ بالتفكرِ والتحسرِ السلبي، لكنْ إذا صرفَ هِمَّتَهُ للدعوةِ ونَفْعِ الناسِ نفعَهُ الله، ونفعَ الناسَ به، ومنْ تأملَ سيرةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنينَ معَهُ وجدَهمْ في أشدِّ الضيق والأذى يمارسونَ الدعوةَ إلى الله، وعجِبَتْ قريشٌ وهيَ تضايقُهم، وأفرادٌ منَ المعدودينَ فيهمْ يستجيبونَ للدعوةِ وينضمونَ لقافلةِ المؤمنين .. ومن أبرزِ هؤلاء: حمزةُ وعمرُ بن الخطابِ وغيرُهمْ كثيرٌ رضيَ اللهُ عنهمْ أجمعين، بلْ ومنْ خارجِ مكةَ أمثال: أبي ذرٍ الغفاري، والطُّفيلِ بن عمرو الدَّوْسيِّ وغيرِهما رضيَ الله عنهمْ أجمعين. ¬

(¬1) وربما انشغل الناس بالقيل والقال وفتر عن عبادة ربه. (¬2) سورة النساء، الآية: 66.

فهلْ يا تُرى ينشطُ المسلمونَ في الدعوةِ إلى اللهِ في وقتِ الأزماتِ خاصةً، ليغيظوا الكفارَ والمنافقينَ منْ جانب، وليطردوا عنْ أنفسِهم الضيقَ والضجرَ واليأسَ والإحباطَ منْ جانبٍ آخر. 7 - والصدقةُ والإحسانُ سبيلٌ لرفعِ الأزماتِ والكروب، كيفَ لا وقدْ صحَّ الخبرُ أنَّ «صنائعَ المعروفِ تقي مصارعَ السُّوء، والصدقةُ خَفيًّا تطفئُ غضبَ الربِّ، وصلةُ الرحم زيادةُ في العمر، وكلُّ معروفٍ صدقةٌ، وأهلُ المعروفِ في الدنيا همْ أهلُ المعروفِ في الآخرة» (¬1). والصدقةُ برهانٌ على حبِّ الخير، وهي شارحةٌ للصدر منفِّسةٌ للكَرْب، مبعِدةٌ للشُّحِّ- وفي القرآن- مُذهبةٌ للخوفِ والحزن {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬2). الصدقةُ يُداوى بها المرضى وينتفعُ بها الموتى، ويُتَّقى بها منَ الشُّحِّ والبخلِ والأثَرةِ للأحياء، فأينَ المتصدقون يواسونَ إخوانَهم المسلمين، وبها يُداوونَ مرضاهم ويُحسِنون إلى أنفسِهمْ وموتاهم، واللهُ تعالى يجزي المتصدقينَ ويُخلِف على المنفِقين. ¬

(¬1) رواه الطبراني في «الأوسط» وصححه الألباني. صحيح الجامع 3/ 24. (¬2) سورة البقرة، الآية: 262.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: إخوةَ الإيمان: 8 - وحينَ يكونُ الحديثُ عنِ المُسكِّناتِ في الأزماتِ فلا بدَّ أنْ يكونَ للعملِ النافعِ تعلُّمًا وتعليمًا ونشرًا نصيبٌ وافر؛ فالعلمُ نورٌ يضيءُ للسالكين، وهوَ خشيةٌ يقطعُ الخوفَ إلا منْ ربِّ العالمين، والعلمُ طريقٌ إلى الجنة، وهو سببٌ للأمنِ والطُّمأنينة، العلماءُ الربانيونَ أعرفُ الناسِ في الفتن، وأقدرهمْ على تسكينِ الناسِ حينَ المخاوفِ والمِحَن: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (¬1). والعلماءُ أعرفُ الناسِ بسُننِ اللهِ في الكون، وأعلمُ الناسِ بحركةِ التاريخِ ومصائرِ الأمم .. ولذا فتعلُّمُ العلمِ، ونشرُه، والقربُ منَ العلماءِ ومشورتهم، كلُّ ذلكَ مُسكِّنٌ في الأزمات، وهوَ في غيرها منْ بابِ أَوْلى. 9 - أيها الناسُ: وليسَ كلُّ ما يُسمعُ بصحيح، ولوسائلِ الإعلامِ أثرُها في الإرجافِ والتخويف، ولا سيما إذا كانَ العدوُّ مستحوذًا على المعلومةِ ينشرُ منها ما يشاء، فاحذروا التهويلَ الإعلامي، ولا تكونوا أداةً للترويجِ والترويعِ بما لا يصحُّ ولا يثبتُ، وحَسْبُ المرءِ كذبًا أنْ يُحدِّثَ بكلِّ ما سمع، وفي القرآنِ تنويهٌ وتوجيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (¬2). فلا تستفِزنكمُ الأخبارُ الكاذبة، ولا يستخِفَّنّكمُ الذينَ لا يُوقنون. ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 83. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 6.

10 - والمسكِّنُ العاشر: تثمينُ المكاسبِ الحاصلةِ في هذهِ الأزمات، وتقديرُ المنحِ الربانيةِ على إثرِ المحنِ والنكبات، فما منْ شرٍّ صَرْفٍ وقدْ يبتلي اللهُ عبادَهُ بالضراءِ ليعافيَهمْ ويُحزنَهمْ ويرفعَ درجاتِهم، فضلًا عما يقعُ في هذه النكباتِ منْ خيرٍ عامٍّ للمسلمين، تتوحَّدُ كلمتُهمْ وتتقاربُ قلوبُهم، ويتوبونَ إلى ربِّهم، ويدعونَهُ خَوْفًا وطمعًا، ويستغفرونَهُ سِرًّا وجَهرًا، ويصحِّحونَ مسارَهم، ويتفقَّدونَ مسيرتَهُم .. ويخطِّطونَ بوعيٍ لمستقبلهم، وهذهِ المكاسبُ وأمثالُها إذا ثُمِّنتْ وروعيتْ كانتْ منْ أعظمِ المسكِّناتِ وأقوى العلاجات (¬1). 11 - ومنَ المسكِّناتِ: معرفةُ الأعداءِ على حقيقتهم، والحذرُ منهم، والاستعدادُ لهم، فللأمةِ المسلمةِ أعداءٌ ينكشفونَ أكثرَ في الأزمات، ومنهمُ الظاهرُ بعداوته، ومنهمُ المنافق، وإذا كانَ خيرُ القرونِ قيل لهم: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} (¬2) فغيرُهمْ منْ بابِ أَوْلى، ففي الأزماتِ يَميزُ اللهُ الخبيثَ منَ الطيِّب، ويبيِّنُ الصادقَ منَ الكاذب .. وهكذا تستبينُ سبيلُ المجرمين، ويطمئِنُّ لقضاءِ اللهِ وقدرهِ المؤمنون، وتسكنُ النفوسُ إذْ تعرفُ أعداءها، وتستعدُّ لمقاومتهم. 12 - ومنَ المسكِّنات: الوقوفُ على سِيَر الأنبياءِ وجهادِهمْ وثباتِهم، وما تَعرَّضَ له المؤمنونَ في تاريخهم، وإدراكُ سُنِّةِ اللهِ في الابتلاءِ والحكمةِ منْ ورائها {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (¬3). ¬

(¬1) وفي التنزيل: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} سورة آل عمران، الآيتان: 140، 141. (¬2) سورة آل عمران، الآيتان: 166، 167. (¬3) سورة العنكبوت، الآيتان: 2 - 3.

إنها الذكرى والموعظةُ والتثبيتُ في قَصَصِ المرسلين: {وَكُلًا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (¬1). 13 - وأخيرًا- وليسَ آخرًا- دونكمْ هذا المثبِّتُ فتدبِّروهُ والزَموه، إنه حبلُ اللهِ المتينُ، وكتابهُ المبينُ، هدًى وشفاءٌ، ونورٌ وبرهانٌ بصائرُ للناس، ورحمةٌ للعالمين: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (¬2). {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} (¬3). آهٍ على المسلمين! ! كمْ ضيَّعوا كتابَ ربِّهمْ وفيهِ ذكرُهمْ وتقواهم، وسرُّ تفوُّقِهمْ ودليلُ أعدائهم، كم هجروه تلاوةً أو حُكمًا أو كليهما، وهو المنقذُ لهمْ في الأزمات، والهادي لمسيرتهمْ حين تَدْلَهِمُّ الخطوبُ وتَحْلوْ لكُ الظلماتُ، يُتلى على مسامعهمْ صباحَ مساءَ، ولكنَّ القلوبَ شاردةٌ، وكمْ يتقدمونَ بهِ في مناسباتهم، ولكنهمْ يغيبونَ عنهُ حينَ أزماتهم، يخافُ منهُ الأعداءُ ولا يُثمنُ المسلمونَ خوفَ الأعداء، إنهُ كتابٌ مفتوحٌ يقرأُ المسلمونَ فيهِ أسبابَ النصر وعواملَ الهزيمة، وسرَّ النجاحِ وأسبابَ الفشل، ومصدرَ القوةِ، ومكمنَ الخطر، ناصحٌ للمؤمنينَ ومبشرٌ لهم، ومغيظٌ للكفارِ ومتوعدٌ لهم، فهلْ يستمسكُ المسلمونَ بالذي أوحيَ إلى نبيِّهم، وهلْ يتذكرونَ أنهمْ سيُسألونَ عنه؟ ! وهلْ تكونُ الأزماتُ سببًا لمزيدِ إقبالهم عليه {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (¬4). ¬

(¬1) سورة هود، الآية: 120. (¬2) سورة النحل، الآية: 102. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 32. (¬4) سورة محمد، الآية: 24.

اللهمَّ اهدِنا بهدايةِ القرآن، واشفِنا بشفاءِ القرآن، واجعَلْهُ لنا هاديًا ودليلًا. هذه- معاشرَ المسلمين- مُسكِّناتٌ ومسلِّياتٌ في الأزمات، وهيَ كذلك أمورٌ إيجابيةٌ في جميعِ الحالات .. إنها لا تُسْكِّنُ ولا تفتِّر، بلْ تسكِّن وتُطمئِنُ وتُثمر، وهيَ ليستْ ظنيَّةً تُصدقها التجاربُ، بلْ ثابتةً أكيدةَ المفعول .. ولكنَّ شرْطَها الإيمانُ والتصديقُ، خُذوها بقوَّةٍ، ولتكنْ سنَدًا لكم للعملِ المثمرِ في الدنيا، وزادًا للآخرة. كم نَئِنُّ ونتناولُ منْ مسكناتٍ تمتلئُ بها صيدلياتُنا .. وربما سكَنَ الألمُ ثمَّ عاد .. لكننا قدْ نغفلُ عنْ هذهِ المسكِّناتِ الإيمانيةِ وهيَ في متناولِ أيدينا فلا يكنْ حالُنا: كالعِيْس في البَيْداءِ يقتُلُها الظَّما ... والماءُ فوقَ ظُهورِها مَحْمولُ {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬1)، {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (¬2)، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (¬3). اذكروا اللهَ يذكركمْ، واشكروه على نعمهِ يزدْكم ولذكرُ اللهَ أكبرُ واللهُ يعلمُ ما تصنعون. ¬

(¬1) سورة الرعد، الآية: 28. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 45. (¬3) سورة النحل، الآية: 91.

هجمة الغرب ونصرة المظلومين في العراق

هجمة الغرب ونصرة المظلومين في العراق (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضلَّ لهُ، ومَنْ يضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولهُ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وارضَ اللهمَّ عنِ الصحابةِ أجمعينَ، والتابعينَ وتابعيهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. أيها الناسُ: وتمرُّ بالعالَمِ المعاصرِ أحداثٌ يكادُ العاقلُ لهَوْلِها وصدمتِها لا يُصدِّقُ، فبالأمسِ دولةٌ قائمةٌ، واليومَ لمْ يبقَ منها إلا الخبرُ والعبرةُ، وبالأمسِ كانتْ شعوبٌ منتظمةٌ- وإنْ كانتْ بائسةً- ولكنَّها اليومَ تعيشُ وضعًا آخرَ، لا تدري ما هيَ صانعةٌ، ولا ما يُصنعُ بها في المستقبلِ، ولا يدري المقتولُ فيمَ قُتلَ. إنَّ حركةَ التأريخِ ماضيةٌ، وسُنةَ اللهِ في التغييرِ جاريةٌ .. والعاقلُ مَنِ اتَّعظَ بغيرهِ، ولكنَّ المستنكَرَ- وإنْ كانَ غيرَ غريبٍ- أنْ تتعرَّضَ بلادُ المسلمينَ لغزوِ النصارى جهارًا نهارًا، وأنْ يَحْدُثَ التغييرُ بالقوةِ، وعلى مرأى العالَمِ ومسَمعِهِ، في زمنٍ باتَ يُسمَعُ كثيرًا عنْ حُرِّياتِ الآخرينَ وحقوقِ الآخرينَ، وأمْنِ الدولِ وسيادةِ الشعوبِ! ما الذي تغيّرَ فجأةً؟ وهلْ تكفي للهجمةِ تُهمةُ نزعِ أسلحةِ الدمارِ الشاملِ، ومنْ يُثبِتُ التهمةَ؟ وأينَ هيَ أسلحةُ الدمارِ الشاملِ بعدَ أنْ ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 1/ 3/ 1424 هـ.

وضعتِ الحربُ أوزارَها، ومَنْ يُحاكِمُ الجانيَ إذا لمْ تثبتْ تهمتُهُ؟ لا شكَّ أنَّ غزوَ العراقِ سابقةٌ في التاريخِ المعاصرِ لا ينبغي أنْ تمرَّ على المسلمينَ بسلامٍ وعفويّةِ، فالغربُ ذاتُه كانَ يتوقَّعُ ردودَ أفعالٍ صاخبةٍ، ومعَ الأسفِ كانَ استنكارُ غيرِ المسلمينَ أقوى وأبلغَ مِنَ المسلمينَ! إننا لا نأسى على رُموزٍ ظَلَمةٍ غيّبتْهمُ الأحداثُ بعدَ طولِ ضجيجِ وإفسادٍ في الأرضِ، ولا نأسى على حزبٍ طالما أَهلكَ بجَبَروتِهِ الحرثَ والنسلَ، ولكننا نأسى ونحترقُ لأمّةِ العراقِ المسلمةِ، ولشعبِ العراقِ المسلمِ، نأسى لثروةِ الأمّةِ في بلدِ العراقِ، تلكَ التي لمْ يكتفِ الغُزاةُ والمفسدونَ بعدمِ الاكتراثِ بها أرواحًا، وأموالًا، ومُقدَّراتٍ .. بلْ تطاولوا على مُقدَّراتِ الأمّةِ وإرثِها الحضاريِّ حتى قيلَ: «أحدثُ حضارةٍ تُدمِّرُ أقدمَ حضارةِ» (¬1) فأحرَقوا الكتبَ، ودُمِّرتِ المكتباتُ، والتقتْ دماءُ البشرِ على مِدادِ الكتبِ، في مشهدٍ يُذكِّرُنا بهجمةِ (التَّترِ) على بغدادَ حينَ اختلطتْ مياهُ الأنهارِ معَ دماءِ المسلمينَ، وتغيَّرَ لونُ الماءِ بمِدادِ الكُتبِ، ولسنا ندري لِمَ كانتْ ضجةُ الغربِ حينَ حطمتْ طالبانُ الأصنامَ؟ واليومَ يرعى الغربُ تحطيمَ آثارِ العراقِ! لقدْ كانتْ كارثةُ الأمسِ وكارثةُ اليومِ نُذُرًا للمسلمينَ وعواقبَ إلهيةً على الغفلةِ والفسادِ والخيانةِ التي تكفي أن تقعَ منْ فئةٍ ولا تستطيعُ الفئةُ الأخرى دفْعَها وإصلاحَها، فاللهُ يقول: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬2). أجلْ، إنَّ المتأمِّلَ في سياقِ التاريخِ يرى أنَّ أمّةَ الإسلامِ منذُ القِدَمِ مستهدفةٌ ¬

(¬1) الرياض 29/ 2/ 1424 هـ. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 25.

منْ قِبَل أعدائها، وممتَحنةٌ بهجماتٍ شرسةٍ تتابعُ عليها .. ولكنَّ أحوالَ المسلمينَ صلاحًا أو فسادًا، صدقًا أو نفاقًا هيَ الفيصلُ في رسمِ النتائجِ .. وسأقصُّ عليكمْ منْ ذاكرةِ التاريخِ عجبًا .. أمةٌ منَ النصارى تتقصَّدُ بلادَ المسلمينَ في النصفِ الثاني منَ القرنِ الخامسِ الهجريِّ، وتلتقي بالمسلمينَ في جيشٍ لَجِبٍ لا طاقةَ للمسلمينَ بهِ، ولا مقارنةَ على الإطلاقِ بينَ الجيشينِ .. ثمَّ تنتهي المعركةُ لصالح المسلمينَ، بلْ ويؤسَرُ زعيمُ النصارى، فكيفَ وقعَ، ومَعَ مَنْ وقعَ هذا؟ قالَ ابنُ الأثيرِ وعنه الذهبيُّ: في هذهِ السنةِ (463 هـ) خرجَ أرمانوسُ ملكُ الرومِ في مائتي ألفٍ منَ الرُّومِ، والفِرَنْجِ، والغربِ، والرُّوسِ، والبجناكِ، والكُرجِ، وغيرِهمْ، منْ طوائفِ تلكَ البلادِ، فجاءوا في تجمُّل كثير، وزيٍّ عظيم، وقَصَدَ بلادَ الإسلامِ، فوَصلَ إلى ملازكرد (¬1) من أعمالِ خِلاطَ. فبلغَ السلطانَ ألْب أرسلان الخبرُ، وهوَ بمدينةِ خُوَيّ من أذْرَبِيجانَ، قدْ عادَ منْ حَلَبَ، وسمعَ ما هُوَ مَلكُ الرومِ فيهِ منْ كثرةِ الجُموعِ، فلمْ يتمكَّنْ منْ جمْعِ العساكرِ لبُعدِها وقُربِ العدوِّ، فسيَّر الأثقالَ مَعَ زوجتهِ ونظامِ المُلكِ إلى هَمَذانَ، وسارَ هوَ فيمنْ عندَهُ مِنَ العساكرِ، وهمْ خمسةَ عَشَرَ ألفَ فارسٍ، وجدَّ في السَّيرِ، وقالَ لهمْ: إنّني أقاتلُ محتسِبًا صابرًا، فإنْ سلِمْتُ فنعمةٌ منَ اللهِ تعالى، وإنْ كانتِ الشهادةُ فإنَّ ابني مَلِكْشاه وليُّ عهدي؛ وساروا. فلمّا قاربَ العدوَّ جعلَ له مقدّمةً، فصادفتْ مقدّمتُه، عند خِلاطَ، مُقدَّمَ الروسيّةِ في نحوِ عشرةِ آلافٍ منَ الرومِ، فاقتَتَلوا، فانهزمتِ الروسيّةُ، وأُسرَ مُقدَّمُهم، وحُملَ إلى السلطانِ، فجَدَع أنْفَه، وأنفذَ بالسَّلب إلى نظامِ المُلكِ، ¬

(¬1) وعند ياقوت والذهبي (منازكرد) «سير أعلام النبلاء» 18/ 415.

وأَمَرَهُ أنْ يرسلَه إلى بغدادَ، فلمّا تقاربَ العسكرانِ وتراءى الكفرُ والإيمانُ) أرسلَ السلطانُ إلى ملكِ الرومِ يطلبُ منهُ المُهادنةَ، فقالَ: لا هُدنة إلا بالرَّيِّ، فانزعجَ السلطانُ لذلكَ، فقالَ لهُ إمامُه وفقيهُه أبو نصرٍ محمّدُ بنُ عبدِ الملكِ البخاريُّ، الحنفيُّ: إنَكَ تقاتلُ عن دينٍ وَعَدَ اللهُ بنصرهِ وإظهارِه على سائرِ الأديانِ، وأرجو أنْ يكونَ اللهُ تعالى قد كَتَبَ باسمِك هذا الفتحَ، فالقَهمْ يومَ الجُمعةِ، بعدَ الزوالِ، في الساعةِ التي يكونُ الخطباءُ على المنابرِ، فإنِّهمْ يَدعُون للمجاهدينَ بالنصرِ، والدعاءُ مقرونٌ بالإجابةِ. فلمّا كانتْ تلكَ الساعةُ صلَّى بهمْ، وبكى السلطانُ، فبكى الناسُ لبكائهِ، ودعا ودعَوْا له، وقالَ لهمْ: مَن أرادَ الانصرافَ فلْينصرفْ، فما ها هنا سُلطانٌ يأمرُ ويَنهى، وألقى القوسَ والنُّشّابَ، وأخذَ السيفَ والدبُّوسَ، وعَقدَ ذَنَبَ فرسِه بيدهِ، وفعلَ عسكرُه مثْلَه، ولبسَ البياضَ، وتحنَّط، وقالَ: إنْ قُتلتُ فهذا كَفَني. وزحفَ إلى الرومِ، وزَحفوا إليهِ، فلمّا قارَبَهمْ ترجَّلَ وعفَّر وجْهَه على الترابِ، وبكى، وأكثرَ الدعاءَ، ثم رَكِبَ وحَمَلَ، وحَملتِ العساكرُ معهُ، فحَصَلَ المسلمونَ في وسطهمْ، وحَجزَ الغبارُ بينهمْ، فقَتَلَ المسلمونَ فيهمْ كيفَ شاءوا، وأنزل اللهُ نصْرَه عليهم، فانهزم الرومُ، وقُتلَ منهمْ ما لا يُحصى، حتى امتلأتِ الأرضُ بجُثثِ القتلى، وأُسرَ ملكُ الرومِ ... ، فلمّا أُحضرَ (الملكُ الروميُّ المأسورُ) ضَرَبَه السلطانُ ألْبُ أرسلان ثلاثَ مَقارعَ بيدهِ، وقالَ لهُ: ألمْ أُرسلْ إليكَ في الهُدنةِ فأَبَيتَ؟ فقالَ: دعني منَ التوبيخِ، قالَ: ما عزمُك لو ظفرتَ بي؟ قالَ (ملكُ الرومِ): كلُّ قبيحٍ، قالَ له ألْب أرسلان: فما تؤُمِّلُ وتظنُّ بي؟ قالَ: القتلَ، أو تُشهِّرني في بلادكَ، والثالثةُ بعيدةٌ (العفو) وقبولُ الفداءِ، قالَ لهُ أَلْب أرسلان: ما عزمتُ على غيرِها، فاشترى نفْسَه بألفِ ألفِ دينارٍ وخمسِ مائةِ

ألفِ دينارٍ، وإطلاقِ كلِّ أسيرِ في بلادهِ منَ المسلمينَ (¬1). تأمَّلوا- إخوةَ الإيمانِ- الفَرْقَ في الصدقِ معَ اللهِ، وكيفَ تتحوَّلُ القِلَّةُ الصابرةُ المحتسِبةُ إلى قوةٍ مرهبةٍ مرعبةٍ، وكيفَ يَحيقُ المكرُ السيئُ بأهلهِ، وتتفرَّقُ الجموعُ المحتشدةُ إلى قتلى وأسرى ومحزونينَ حينَ يَصْدُقُ المجاهدونَ، وتأمَّلوا- على صعيدٍ آخرَ- الفرقَ بينَ معاملةِ المسلمينَ حينَ يَنتصرون، وإنْ ظُلِموا واعتُديَ عليهمْ، فالعفوُ والتسامحُ خلافُ ما طنطنَ به غيرُ المسلمينَ في هيآتهمْ ودساتيرِهم وما طافوا بهِ العالمَ دَجَلًا وجَعْجَعةً في إعلامهمْ ولكن المسلمين تمثلوهُ واقعًا عمليًا في حياتهم .. وغيرُ المسلمينَ إذا ظفرَ أحدُهمْ فَعَلَ الأفاعيلَ وتجاوزَ الدساتيرَ، وظهرتْ جاهليتُه في العراءِ، يَنهبونَ ويَسلبونَ ويُفسدونَ ويَحرِقون، ويكيدونَ ويمكرونَ، ويُخططون بلْ يوطرون الفسادَ للمستقبل .. ! ! تلكَ حضارةُ الغربِ- وإن رغموا-، وتلكَ حضارةُ المسلمينَ إذا ما اتقَوْا وآمَنوا، والزَّبَدُ يَذهبُ جُفاءً، ويَمكثُ في الأرضِ ما يَنفعُ الناسَ. نفعني اللهُ وإياكم بهَدْيِ كتابهِ. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء 18/ 415، 416.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: الغربُ في العراقِ باتَ يُنفَّذُ مخطَّطاتِه، فالقواعدُ العسكريةُ تُختارُ مواقعُها ويُبدأُ بإنشائِها، والحاكمُ العسكريُّ الأمريكيُّ يصلُ بغدادَ ليشرفَ على حُكمِ العراقِ واختيار مَنْ يقومُ نيابةً عنِ الغربِ بحُكمِ العراقِ، وبدأتِ التّهمُ تُلاحقُ الموفَدَ الأمريكيَّ للعراقِ بأنهُ صاحبُ علاقاتٍ حميمةٍ مَعَ دولةِ الصهاينةِ! وسواءٌ ثبتَ هذا أمْ لمْ يثبتْ فالنظامُ الجديدُ في العراقِ لا بدَّ أنْ يكونَ متفقًا مَعَ رغباتِ اليهودِ وتطلُّعاتِهمُ المستقبليةِ في المنطقةِ .. فهذا منْ أهدافِ الغزوِ. والغربُ وأمريكا كاذبانِ في دعوى أنَّ العراقَ للعراقيِّينَ، وسيَختارُ العراقيونَ ما يرونهُ مناسبًا لحُكم بلادِهمْ .. إنها شنشنةٌ وذرٌّ للرَّمادِ في العيونِ، بلْ يعتزمُ الأمريكانُ التدخلَ والتغييرَ في العراقِ لما يشتهونَ، (إنْ لمْ يُقاوَموا). وقدْ أعلنَ مكتبُ مستقبلِ العراق! تشكيلَ لجانٍ خاصةٍ لوضعِ نظامٍ تعليميٍّ، ورُويدًا- أيُّها البسطاءُ- فلا تظنوا إصلاحًا للنظامِ التعليميِّ البعثيِّ؟ بلْ هوَ وفقَ العقيدةِ والنظرةِ الأمريكيةِ، بلْ هوَ مؤشِّرٌ على حرصِ القومِ على تغييرِ المناهجِ في البلادِ العربيةِ والإسلاميةِ عمومًا إنِ استطاعوا، ومتى أُتيحتْ لهمُ الفرصةُ في ذلكَ، وهذا وغيرُه جزءٌ من خَبَرِ اللهِ لنا عنهمْ: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًا وَلاَ ذِمَّةً} (¬1). {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} (¬2). {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (¬3). ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 10. (¬2) سورة النساء، الآية: 89. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 118.

إنَّ على المسلمينَ أنْ يُدرِكوا حقيقةَ الهجمةِ وأهدافَ اللعبةِ، فالقومُ يتعاملونَ معَ المسلمينَ منْ منطلقاتٍ دينيةٍ، لا يقال هذا رَجْمًا بالغيبِ، ولا يُرمى بالكلامِ على عَواهنِهِ، بلْ تؤيِّدُه تصريحاتُ القومِ وتصرفاتُهمْ، ولوْ تجاوزْنا تصريحاتِ الساسةِ بالحربِ الصليبيةِ، وتجاوزْنا الهجومَ المسيسَ على الإسلامِ ورسولِ الإسلامِ ومبادئِ القرآنِ- ممّا طغى به إعلامُ القومِ- فثمَّةَ كتابانِ يحتفي الغربُ بهما، ويُمثِّلانِ المَعْلَمَ البارزَ لاعتقادِ أمريكا بأنها مسئولةٌ دينيًا عنْ نشْرِ قِيَمِ النصرانية، والكتابانِ هما: 1 - «صراعُ الحضارات» لـ: (صومائيل هانتغنتون). 2 - وكتابُ «نهايةُ التاريخ» لـ: (فرانسيس فوكاياما) .. ويمثّلُ الكتابُ الأخيرُ خلفيةً دينيةً عَقَديةً تؤمنُ بأنَّ الحضارةَ الغربيةَ بمثالِها الأمريكيِّ الحضارةُ التي يرتضيها الربُّ لنهايةِ العالمِ (¬1). بلْ يؤمِنُ الغربُ- وفي مقدّمتهِ أمريكا- أنه الوصيُّ في تحقيقِ الشروطِ اللَّاهوتيَّةِ لنزولِ المخلِّص- في نَظَرِهمْ-، وهذهِ النظرةُ تبدأُ بحمايةِ أمنِ إسرائيلَ ومعاقبةِ مَنْ يُهدِّدُها .. وتنتهي هذهِ النظرةُ الدينيةُ المتطرِّفةُ- في نظرِ القومِ- بمعركةِ (هرمجدونَ) التي تضمنُ نهايةَ العالمِ بانتصارِ المؤمنينَ وإبادةِ الكافرينَ، ويمثِّلُ احتلالُ العراقِ- حسبَ نبوءاتِهمْ- أولَ مبشِّراتِ هذهِ المعركةِ الإنجلويهودية. فهلْ يا ترى يتعاملُ المسلمونَ مَعَ خصمِهمْ بناءً على نظرتهمْ وعقيدتِهمْ. أمْ ترى العدوُّ ينجحُ في التضليلِ والخداعِ سائرًا في مخطَّطِهِ مُستهترًا بمَنْ حولَه؟ تُرى متى يُفيقُ المسلمونَ فيواجهونَ الحربَ بحربٍ مثلها، يقابلون العقيدةَ ¬

(¬1) سليمان الربعي، أحداث العراق .. الرياض 17/ 2/ 1424 هـ.

المنحرفةَ بالعقيدة الصحيحةِ، ويواجهون العدّةَ الحربيةَ بمثلِها {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} (¬1)، {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} (¬2). إنَّ منَ المؤسفِ أنَّ القومَ يصدِّرونَ لنا العَلْمَنةَ ويتعاملونَ مَعَ قضايانا بالعقيدةِ الإنجيليةِ .. يريدونَ تشويه إرثِنا الحضاريِّ، وهمْ في المقابلِ باتُوا يبحثونَ عنْ إرثِهمْ ويتكئونَ عليه في حروبِنا، ولئنْ كانتِ النهايةُ للحقِّ والمحقِّينَ، فلا ينبغي أنْ نكونَ- معاشرَ المسلمينَ- بجهلِنا وتخلُّفِنا فتنةً للكافرين. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 139. (¬2) سورة محمد، الآية: 35.

لماذا وكيف ندفع الفتن؟

لماذا وكيف ندفع الفتن؟ (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضلَّ لهُ، ومنْ يضلِلْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ، وارضَ اللهمَّ عن الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ وتابعيهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. أيُّها المسلمون: عظَّمَ الإسلامُ أمرَ الفتنِ، وحذَّرَ المصطفى صلى الله عليه وسلم منْ آثارِها، وأرشدَ إلى المخرجِ منها بالمبادرةِ للأعمالِ الصالحةِ فقالَ: «بادِرُوا بالأعمالِ فِتَنًا كقِطَع الليلِ المظلمِ، يصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويُمسي كافرًا، ويُمسي مؤمنًا ويصبحُ كافرًا، يبيعُ دِينَه بعَرَضٍ منَ الدنيا» (¬2). رُوي عنِ الحسنِ أنهُ قالَ في هذا الحديثِ: «يصبحُ الرجلُ مؤمنًا» يعني: مُحرِّمًا لدمِ أخيه وعِرْضِه ومالِه، ويُمسي مُستحلًّا (¬3). وما زالَ العلماءُ يُحذِّرونَ منَ الفتنِ حتى بوَّبَ أهلُ الحديثِ في كتابِ (الفتنِ): (بابَ الاعتزالِ في الفتنةِ)، وبه ساقُوا حديثَ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يوشكُ أنْ يكونَ خيرُ مالِ المسلمِ الغَنَمَ، يتَّبعُ بها شَعَفَ الجبالِ، ومواقعَ القَطْرِ، يَفرُّ بدِيِنهِ منَ الفتنِ» (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 29/ 3/ 1424 هـ. (¬2) أخرجه مسلم 2/ 118. (¬3) نقله البغوي في «شرح السنة» 15/ 15. (¬4) أخرجه مالك والبخاري وغيرهما (شرح السنة 15/ 21).

أجلْ يا عبادَ اللهِ! إنَّ دِينَ المسلمِ عزيزٌ عليهِ، ويَنبغي أنْ يجتهدَ أنْ يَلقى اللهَ وهُوَ غيرُ مفتونٍ، وأنْ يجاهدَ نفْسَهُ بالحذرِ منَ الفتنِ، وهنا تَرِدُ أسئلةٌ ثلاثةٌ، وأجتهدُ في الإجابةِ عنها: 1 - لماذا نَحذَرُ ونُحذِّرُ منَ الفتن؟ 2 - ومَنْ يُسهِمُ في إشعالِ فتيلِ الفتنِ؟ 3 - وكيفَ نُساهمُ في دفعِ الفتنِ؟ تلكَ أسئلةٌ ثلاثة أكتفي بعرضِها، وإنْ كانَ ثمَّةَ أسئلةٌ أُخرى لا تقلُّ أهميةً عنها، ولعلَّ اللهَ أنْ يُيسِّرَ لعرضِها والإجابةِ عنها. أمّا: لماذا نَحْذَرُ ونُحذِّرُ منَ الفتنِ؟ فالعالِمونَ والعارفونَ والعقلاءُ يحذِّرونَ منْ وقوعِ الفتنِ؛ لأنهمْ يُقدِّرونَ ما بعدَها، ويتخوَّفونَ ممّا تصيرُ إليهِ في بَدْئِها أو منتهاها، بعكسِ الجَهَلةِ ومَنْ تغلِبُ عواطفُهمْ عقولَهمْ، ولا يتحسَّبونَ للعواقبِ. ولهذا أخرجَ البخاريُّ في «صحيحهِ» في بابِ «الفتنة» التي تموجُ كموجِ البحرِ» ... : وقالَ ابنُ عيينةَ عن خلفِ بنِ حَوْشَبٍ: كانوا يستحبُّونَ أنْ يتمثَّلوا بهذهِ الأبياتِ عندَ الفتنِ، قالَ امرُؤ القيسِ: الحربُ أولُ ما تكونُ فتيَّةً ... تَسْعَى بزينتِها لكلِّ جَهُولِ حتَّى إذا اشتعلتْ وشبَّ ضِرامُها ... ولّتْ عجوزًا غيرَ ذاتِ حَليلِ شمطاءَ يُنكَرُ لونُها وتغيّرتْ ... مكروهةً للشمِّ والتقبيلِ (¬1) قال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ: والمرادُ بالتمثلِ بهذهِ الأبياتِ استحضارُ ما شاهَدُوهُ ¬

(¬1) الصحيح مع الفتح 13/ 47 بكتاب الفتن.

وسمعوهُ منْ حالِ الفتنةِ، فإنهمْ يتذكَّرونَ بإنشادِهمْ ذلكَ، فيصدُّهم عنِ الدخولِ فيها حتى لا يغترُّوا بظاهرِ أمرِها أولًا (¬1). ونعودُ لإجابةِ السؤالِ: (لماذا نحذر الفتنَ؟ ) فنقولُ: لعدّةِ أمورٍ، منها: 1 - لأنَّ الفتنَ توقعُ الفرقةَ والاختلافَ بينَ المسلمينَ، فيضعفُ حَبلُ الإخاءِ، وتضمرُ ميادينُ التعاونِ على البرِّ والتقوى، واللهُ أَمَرَنا بالتعاونِ على الخيرِ، وأوصانا بالأخوّةِ والإصلاحِ، ونهانا عن الفُرقةِ والاختلافِ: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬2). 2 - ولأنها سببٌ لاختلاطِ الأوراق، وتدسسِ أهلِ الرِّيَبِ، وبُروزِ النفاقِ، وهيَ أجواءٌ للمنافقينَ الذين يسعَوْنَ في الأرضِ فسادًا بلهجةِ الناصحينَ المصلحينَ. وإذا كانتِ الأمورُ في أيامِ (الفتنةِ الأُولى) في زمنِ الصحابةِ كانَ لها وقعُها وأثرُها في تصدُّعِ الأمّةِ وذهولِها إلى حدٍّ توقفَ معهُ سَيرُ الفتوحِ الإسلاميةِ في ظلِّ تلكَ الأزمةِ، وجيلُ الصحابةِ لا يزالُ موجودًا، فما الظنُّ بغيرِهمْ؟ 3 - والفتنُ تُشغِلُ عنِ العبادةِ والطاعةِ، وتشلُّ حركةَ الاحتسابِ والدعوةِ، إذ الناسُ في شُغلٍ شاغلٍ ونَصَبٍ دائبٍ، وتفكيرٍ بالمُصاب الأعظمِ (الفتنِ وأطرافِها)، والنفوسُ متوترةٌ، والقلوبُ مشحونةٌ، والتوجُّسُ والرِّيبةُ تحلُّ محلَّ الثقةِ والطمأنينةِ .. وهذا بلا شكِّ يُخلِّف آثارًا سلبيةً لا سيَّما على العبادةِ والدعوةِ. 4 - وفي المقابلِ ففي أجواءِ الأمنِ والسِّلمِ يمتدُّ رِواقُ الإسلامِ، وتُنشَرُ ¬

(¬1) «الفتح» 13/ 50. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 105.

الدعوةُ، ويتقاربُ الناسُ، والكسبُ الأكبرُ للإسلامِ وأهلِهِ إذا صدقوا في دعوتِهمْ ونشرِ إسلامِهمْ، ومَنْ تأمَّلَ أحداثَ السيرةِ النبويةِ وَجَدَ ما يُصدِّقُ هذا ويشهدُ لهُ. ففي (صلحِ الحُدَيبيَةِ) أَبرمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ المشركينَ (معاهدةَ الحديبيةِ) وفقَ شروطٍ لمْ يرضَ عنها طائفةٌ منَ المؤمنين في البدايةِ، حيثُ بدا لهمْ أنَّ الشروطَ مُجحفةٌ للمسلمينَ، وهي لصالح المشركينَ، حتى قالَ عمرُ رضيَ اللهُ عنهُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ألستَ نبيَّ اللهِ حقًا؟ قالَ: «بلى»، قالَ: أَلسْنا على الحقِّ وعدوُّنا على الباطلِ؟ ... فلِمَ نُعطي الدنيّةَ في دينِنا إذًا؟ قالَ: «إني رسولُ اللهِ، ولستُ أعصيَه، وهُوَ ناصري». ومَعَ ذلك كانَ الصلحُ بشهادةِ القرآنِ فتحًا مُبينًا، حيثُ نزلَ قولُهُ تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} (¬1) والرسولُ صلى الله عليه وسلم في طريقِ العودةِ منَ الحُدَيبيَة إلى المدينةِ، قال عمرُ متعجِّبًا: أَوَفتحٌ هُوَ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: نَعمْ» (¬2). قالَ الزهريُّ رحمَهُ اللهُ معلِّقًا على نتائجِ (صلحِ الحديبيةِ): فما فُتحَ في الإسلامِ فتحٌ قبْلَه كانَ أعظمَ منهُ، إنما كانَ القتالُ حيثُ التقى الناسُ، فلمّا كانتِ الهدنةُ ووَضعتِ الحربُ أوزارَها، وآمنَ الناسُ بعضُهمْ بعضًا، والتقَوْا فتفاوَضُوا في الحديثِ والمنازعةِ، فلمْ يُكلَّمْ أحدٌ بالإسلامِ بعقلٍ إلا دخلَ فيهِ، ولقدْ دخلض في تينِكَ السنتينِ مثلُ مَنْ كانَ في الإسلامِ قبلَ ذلكَ (¬3). وعلَّقَ ابنُ هشامٍ على هذا قائلًا: والدليلُ على قولِ الزهريِّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) سورة الفتح، الآية: 1. (¬2) رواه مسلم 3/ 1412 ح «1785». (¬3) ابن هشام، بسند حسن 3/ 447.

خرجَ إلى الحديبيةِ في ألفٍ وأربع مائةٍ في قولِ جابرٍ، ثمَّ خرجَ في عامِ الفتحِ بعدَ ذلكَ بسنتينِ في عشرةِ آلافٍ (¬1). 5 - أنَّ الفتنَ- إذا وقعتْ- تُفرحُ العدوَّ المتربِّصَ (في الخارج أو في الداخلِ) منَ الكفار أو منَ المنافقينَ، وتُتيحُ لهُ الفرصةَ وتُهيِّئُ لهُ الأجواءَ المناسبةَ للغارةِ على المسلمينَ وبَلْبلتِهمْ مستغلةً انشغالَ المسلمينَ بما همْ فيهِ منْ أجواءِ الفتنِ، فتُمرَّرُ كثيرٌ منَ الأمورِ السيئةِ على حينِ غفلةٍ وتُقرَّرُ موادُّ الفسادِ، ويَشيعُ أهلُ الريبِ والفسادِ والفحشاءِ والمنكرِ، إذِ الحرّاسُ مشغولونَ، والمحتسِبونَ المطفئِونَ للحرائقِ منهمكونَ في دفعِ الفتنِ النازلةِ .. وهكذا يَحصلُ منَ الضررِ والفسادِ ما يَسوءُ المؤمنينَ ويُفرحُ المتربِّصينَ .. ولا بدَّ منْ وعيِ هذا جيدًا والتعوُّذِ منَ الفتنِ ودفعِها. 6 - والفتنُ إذا استعرتْ مُناخٌ لظهور الطائفيّةِ والتعصُّبِ المنبوذِ، ويتخذُها أرقّاءُ الدِّينِ مناسبةً لتصفيةِ الحساباتِ وتحقيقِ الثاراتِ، فالحريقُ يمتدُّ هنا وهناكَ، والدعواتُ والنَّعراتُ الجاهليةُ تنشطُ، ويظهرُ الحسدُ والحقدُ والكيدُ والعدوانُ، وهكذا حينَ يغيبُ العقلُ، وتكونُ لغةُ القوةِ هيَ لغةَ التفاهمِ، ويغيبُ الحوارُ الهادئُ والإقناعُ بالحجّةِ والبرهانِ، والدعوةُ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، فهلْ يَرضى عاقلٌ .. فضلًا عنْ صاحبِ الدِّينِ بهذا الواقعِ؟ ! إخوةَ الإسلام: مَنْ يُسهمُ في إشعالِ الفتنِ؟ وبعدَ الإجابةِ عنِ السؤالِ الماضي: لماذا نَحْذَرُ ونُحذِّرُ منَ الفتنِ؟ يَرِدُ سؤالٌ آخرُ، لا يقلُّ أهميةً، وهُوَ كذلكَ محتاجٌ إلى إجابةٍ. والسؤالُ الآخرُ يقولُ: مَنْ ¬

(¬1) المصدر السابق 3/ 448، مهدي رزق الله، «السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية» 496.

يُسهمُ- مِنْ حيثُ يَشعُر أوْ لا يشعرُ- في إشعالِ الفتنِ؟ وللإجابةِ أسوقُ رأيً يُروى عنْ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ حيثُ قالَ: قَصَمَ ظهري رَجُلانِ: فاجرٌ مُتهتِّكٌ، وجاهلٌ مُتنسِّكٌ. وإذا كانَ الجاهلُ المتنسِّكُ يضرُّ بالدِّينِ ويُسيءُ للمسلمينَ منْ حيثُ يَشعُرُ أو لا يشعرُ .. والحديثُ عنْ هذا الصنفِ كثيرٌ؛ فدعُونا نكتفِ بالصنفِ الآخر: فلا شكَّ أنَّ الفاجرَ المتهتِّكَ باعثٌ للفتنةِ، لا سيِّما إذا جاوزَ في تهتُّكِهِ محيطَهُ القريبَ، وسلوكياتِهِ الشخصيةَ، إلى الدعوةِ على فجورِهِ، والمدافعةِ عنْ باطلهِ، ورميِ الآخرينَ بالتُّهمِ .. كمَنْ يرمي بيوتَ الآخرينَ وبيتُه منْ زُجاجٍ .. إنَّ التطرفَ- بمفهومِهِ الواسعِ- لا يقفُ عندَ حدودِ (الغلوِّ في الدينِ)، فهذا، وإنْ كانَ خطيرًا، فالشقُّ الآخرُ للتطرُّفِ هُوَ (الغلوُّ في الجفاءِ)، والمبالغةُ في الفسادِ، ومحاولةُ إسقاطِ القِيَمِ، والرغبةُ في التنصُّلِ منْ تكاليفِ الشريعةِ، واعتبارُ حدودِ الإسلامِ ومُثُلِهِ قيودًا لا بدَّ منْ تحطيمِها والخلاصِ منها .. إنَّ هذه السلوكياتِ الجائرةَ على النفسِ وعلى الآخرينَ تُحرِّكُ الساكنَ، وتستفزُّ المشاعرَ وتوسِّعُ دائرة الحريقِ، وربَّما دفعتْ مَن قلَّ عِلْمُه أو ضَعُفَ صبرُه إلى تصرفاتٍ لا تُقَرُّ ولا تُقبلُ، وتُضِرُّ ولا تُبرَّرُ. إننا لا بدَّ أنْ نستشعرَ جيدًا أنَّ التطرفَ (ضدّ الدِّينِ) كالتطرفِ الدينيِّ، في الإضرارِ بوحدتِنا وأَمْنِنا، والاعتدالُ ودراسةُ الأمورِ برويّةِ بعيدًا عنْ ردودِ الأفعالِ هيَ الكفيلةُ بوصولِنا- بإذنِ اللهِ- إلى شاطئ الأمانِ، وذلك بعلاجِ الخطأِ دونَ أنْ يؤدِّيَ العلاجُ إلى داءٍ جديدٍ (¬1). وإذا كنا لا بدَّ أنْ نكونَ صرحاءَ في رفضِ الغلوِّ في الدِّينِ، ورفضِ لغةِ القوةِ ¬

(¬1) د. عائض الردادي: جريدة الجزيرة 25/ 3/ 1424 هـ.

والتدميرِ والإفسادِ وقتلِ الأنفسِ المعصومةِ، والتأكيدِ على أنَّ ذلكَ بوابةٌ للفتنِ .. فلا بدَّ أنْ نكونَ صُرحاءَ كذلكَ في رفضِ فجورِ المتهتِّكينَ .. الذينَ دأبوا على الإرجافِ والتصيُّد في أجواءِ الفتنِ، فما أَنصَفوا مناهِجَنا، بل عاُبوها واتَّهموها، ونسَبُوا إليها كلَّ قبيحٍ، ومناهجُنا، وإنْ كانتْ منْ جُهدِ بشرٍ يصيبونَ ويخطئونَ، إلا أنها- وبشهادةِ الآخرينَ- منْ أعدلِ المناهجِ وأقومِها، وهيَ تجمعُ بينَ الأصالةِ والمعاصرةِ، ولكنَّ القومَ طالما شَرِقُوا بهذهِ المناهجِ وطالَبُوا بتغييرِها لا تطويرِها، وركَّزوا على المناهجِ الدينيةِ أكثرَ منْ غيرِها، وكلَّما حدثَ أمرٌ صاحُوا مُتستِّرينَ وراءَ الحدثِ لتجديدِ الدعوةِ للهجومِ على المناهجِ، ولكنَّ حكمةَ المسئولِ، ووعيَ المربِّي، وأناةَ المتخصِّصينَ في المناهجِ وقناعتَهمْ بأهميةِ التطويرِ المتعقِّل والمدروسِ بوعيٍ لا بهوًى .. كلُّ ذلكَ يجعلُ هذهِ الدعواتِ في مهبِّ الريحِ، وما سلمتْ مؤسساتُنا التربويةُ وهيآتُنا الاحتسابيةُ منْ هجومِ هؤلاءِ وصُراخِهمْ، وكأنَّ هذهِ الجهاتِ الرسميةَ نشازٌ في مؤسساتِنا الحكوميةِ، يتَّهمونَ المعلمَ والمعلمةَ داخلَ فصولِهمُ الدراسيةِ، ويستكثرونَ منهمُ الدعوةَ في مدارسهمْ ويستغربونَ إذْ يوجِّهونَ طلاَبهمْ ويَلمِزونَ المطَّوِّعينَ منَ المؤمنينَ في الدعوةِ والحِسْبةِ، ويَسخرونَ بمظاهرِ التديُّن، وتُغيظهمُ الصحوةُ، ويَسلمُ منهمُ الشبابُ الضائعونَ في المخدِّراتِ والانحرافاتِ الخُلقيةِ، ويتطيَّرونَ بالمتديِّنينَ منَ الرجالِ والنساءِ، وما سَلِمَ مِنْ أذاهمُ العلماءُ وأصحابُ الدعوةِ الموتى، وأنَّى للأحياءِ، وهمْ يُعيدونَ للأذهانِ مَنْ تطيَّرَ قبْلَهمْ بالصالحينَ، حيثُ قالَ اللهُ عنْ آلِ فرعون: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} (¬1)، ولكلِّ قومٍ وارثٌ (¬2). ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 131. (¬2) الشيخ صالح الفوزان، «التفجيرات وتحليلات المنافقين»، الجزيرة 25/ 3.

لقدْ تحدَّثَ هؤلاءِ الجاهلونَ عنِ الولاءِ والبَراءِ فما أحسَنوا، وعنِ الجهادِ فأساءوا، وتلمَّسوا الأعذارَ للضالِّينَ، واشتطُّوا في نظرتِهمْ لإخوانِهمُ المسلمينَ، ووَقعوا بأعظمَ ممّا عابُوا! أتُراهمْ يطمعونَ إلى تغييرِ هُويةِ المجتمعِ المحافظِ بمثلِ هذهِ الطروحاتِ؟ أجَهِلوا أنهمْ في بلادِ الحرمَيْن منبعِ الرسالةِ ومصدرِ الهدايةِ ومَعقلِ الدعوةِ؟ القرآنُ نزلَ فيها، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم بُعثَ منْ بطاحِها فالإسلامُ والدعوةُ جذورُها وعمقُها التاريخيُّ، وهو مفخرةٌ لأهلِها. لقدْ خابَ وخَسِرَ مَنْ حاربَ ديِنَ اللهِ أوْ سَخِرَ بشيءٍ ممّا جاءَ بهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. تُرى منْ أيِّ بيئةٍ نَهلوا هذا الفكرَ الجانحَ؟ وإلى أيِّ جماعةٍ ينتمونَ ويَركنونَ في هذا الهجومِ الكاسحِ؟ ومجتمعُنا- بحمدِ اللهِ- يمثِّلُ الدِّينُ لُحمتَه، ويَشعرُ الذكرُ والأنثى بالعزةِ إذْ ينتمي للإسلامِ ويتمثَّلُ تعاليمَ الإسلامِ، أجلْ لقدْ قامَ هذا الكيانُ الذي نعتزُّ بهِ على أساسٍ متينٍ منَ الدِّينِ والعلمِ والقِيَمِ، وتعاقدَ الشيخُ (المجدِّدُ) والأميرُ (الإمامُ) على قيامِ الدولةِ، فتأسَّستِ الدولةُ السعوديةُ الأُولى، ثمَّ أعادَ الأحفادُ في الدولةِ السعوديةِ الثالثةِ ما بناهُ الأجدادُ، ولا يزالُ الحديثُ في كلِّ مناسبةٍ عنْ قيمةِ العقيدةِ، وتحكيمِ الشريعةِ، والعزةِ بالإسلامِ، فكيفَ تسلَّلتْ إلينا أفكارُ العَلْمَنِة؟ ! إذا كانتْ تلكَ بعضَ استفزازاتِ القومِ وطروحاتِهم فمَنْ وراءَهم؟ إذا كانَ ولاةُ الأمرِ يتحدَّثونَ بكلِّ صراحةٍ حديثًا غيرَ أحاديثِهم ويُدافعونَ عنِ الجهاتِ المستهدفةِ ويُعلُونَ منْ شأنِها، وأنَّ فصلَ الدِّينِ عنِ الدنيا في بلادِنا أمرٌ غيرُ واردٍ- إلى غيرِ ذلكَ مما جاءَ على لسانِ وزيرِ الداخلية (¬1) - وفَّقه الله- وغيرِهِ من ¬

(¬1) جريدة الرياض، الجزيرة وغيرها، الصادرة في 18/ 3/ 1424.

مسئولي الدولةِ فمَنْ يُسندُ هؤلاءِ المتطاوِلينَ المتّهَمينَ المُرجِفينَ؟ إننا نُسَرُّ لمحاسبةِ كلِّ مخطئٍ أيًا كانَ موقعُهُ، ومهما كانَ اتجاهُه وفكرُهُ .. ولكنَّ إقالةَ صحفيٍّ تجاوزَ حدودَ مسئوليتهِ، أوْ مَنْع كاتبٍ شذَّ قلمُه .. ليستْ حلًّا أمثلَ لعلاجِ هذهِ الظاهرةِ المثيرةِ التي تتكرَّرَ بلاؤُنا بها، ولا تكفي لقطعِ دائرِ الفتنةِ المُهيِّجةِ، فالصحفيُّ المُعفى قدْ يَخلُفُه منْ هُوَ مثلُه أوْ أكثرُ منهُ جُنوحًا، والكاتبُ الممنوعُ قدْ يحلُّ محلَّهُ كاتبٌ أكثرَ إثارةً وتهيجًا .. ولكن الحلَّ يَكْمُنُ في نظري في وضعِ أُطُرٍ عامّةٍ لا ينبغي المساسُ بها تتعلَّقُ بالقيَمِ والأخلاقِ وكراماتِ الناسِ وحقوقِهمْ، تمنعُ السخريةَ واللَّمْزَ، وتسدُّ البابَ على المتصيِّدينَ والمتطاولينَ، وتوضَعُ عقوباتٌ رادعةٌ ولجانُ متابعةٍ منصفةٌ، تمنعُ كلَّ ما يثيرُ الفتنَ ويدعو للفرقةِ والشحناءِ ويُخلُّ بأمنِ البلدِ الفكريِّ والثقافيِّ والاجتماعيِّ والقِيَميِّ، ثمَّ تُعطى الفرصةُ للعلاج الهادئ المثمرِ الناجحِ الأمينِ .. ذلكَ مخرجٌ مهمٌّ منْ مخارجِ الأزمةِ، وبدايةُ طريقٍ صحيحٍ لمعالجةِ كلِّ ظاهرةٍ غاليةٍ أو جافيةٍ، وثمَّةَ مخارجُ لدفعِ الفتنِ بشكلٍ عامٍّ، أتوقَّفُ عندَ شيءٍ منها. إذا كانت آثار الفتن تعم ولا تخص {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال: 25] فدفع الفتن مسئوليتنا جميعًا، ويمكن أن نساهم في دفعها بالوسائل التالية: 1 - تعليم العلم النافع ونشره، فالعلم مُبصرٌ للناس ومانع لهم من الفتن بإذن الله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]. 2 - التحذير من الفتن وآثارها وويلاتها، والنصح لإخواننا المسلمين على كافة المستويات (فالدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).

3 - الاستمرار في مشاريع الدعوة والاحتساب .. فبنشر الدعوة ينتشر الخير، وينشغل الناس بالنافع المفيد، وتصح القلوب، وتقمع الشرور والفتن، وبالحسبة يحاصر المبطلون وتنطفئ المنكرات، ويشيع المعروف، وتُخفف آثار الفتن. 4 - عدم التعجل في الفتن (قولًا وعملًا) استرشادًا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «ستكون فِتن القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تشرّف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجًا أو معاذًا فليعُذ به» رواه البخاري رحمه الله 7081 (الفتح 13/ 30). 5 - المساهمة في الإصلاح حيث يقع شيء من الفتن، وتقريبُ وجهات النظر، وردم هوَّة الخلافِ، فالخلافُ شر، والله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]. ويقول: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]. 6 - التنبيه للمتربصين، والتفطن لمن يسعون بالفتنة أو يحاولون استغلالَ أجوائِها لبث شرورهم وباطلهم. فذلك مطلب حتى لا تتسع الفتنة وتعمّ البلبلة. 7 - تبصيرُ الناس بأحاديث الفتن والموقف المشروع منها، وعدمُ التعجل في تطبيق بعض الأحاديث العامة في الفتن، وتنزيلها على أحداث خاصة- دون علم-. 8 - التأكيد على أهمية الوحدة والائتلاف وبيان النصوص الشرعية في ذلك، حتى ولو أدى إلى أن يتنازل المرء في سبيل ذلك عن بعض ما يُحبّ- ما لم يكن حرامًا- في سبيل توحيد كلمة المسلمين {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52].

والخلافُ شر، والشيطانُ يئس أن يعبدَ في أرضكم ورضى بالتحريش بينكم. «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت». 9 - دعوة الناس إلى كثرة العبادة، وتذكيرهم بقيمة التوبة، فما وقع بلاء إلا بذنب ولا رُفع إلا بتوبة {يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126]. «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم .. » «العبادة في الهرج كهجرة إليّ» {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31]. 10 - المشورة بين العلماء وطلبة العلم والدعاة لدفع الفتن، والنصح للولاة لتجنيب البلاد والعباد آثار الفتن وويلاتها، فالمسلمون أمرهم شورى بينهم، والدين النصيحة، ولا بد من رفض إعجاب كل ذي رأي برأيه، ولا بد من اتهام النفس وتوطينها لقول الحق وقبوله ممن جاء به. 11 - وعماد ذلك وأساس المخرج من الفتن تحقيق التقوى، والتواصي بالصبر {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] {يِاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إَن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].

الصلاة بين الأداء والإقامة وصايا وتنبيهات

الصلاة بين الأداء والإقامة وصايا وتنبيهات (¬1) الخطبةُ الأولى: الحمدُ لله أمرَ بالعدلِ والإحسانِ ونهى عنِ الفحشاءِ والمنكرِ والإثمِ والعدوانِ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، جعلَ الصلاةَ على المؤمنينَ كتابًا موقوتًا، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ وخِيرتُهُ منْ خَلْقِه جُعلتْ قرةُ عينِهِ في الصلاةِ، وكانَ إذا حزبَهُ أمرٌ فزعَ إلى الصلاةِ، اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلين. أيها المسلمونَ: الإنسانُ في خِضَمِّ مُعْترَكِ الحياةِ، ومكافحةِ همومِ القَلَقِ والضَّجرِ، والضِّيقِ والكَدَرِ يحتاجُ حاجةً مُلحَّةً إلى ما يُنفِّسُ عن مشاعرِه، ويُفرِّجُ من لأوائه ومصائبه، ويبعث في نفسِه وقلبِه الطمأنينةَ والراحةَ- ومهما كدَّ وجدَّ فلن يجدَ ملاذًا غيرَ الله، يدعوهُ ويأنسُ به، ويرجوهُ ويلوذُ بحماهُ، ويعبدُه ويُلقي بهمومِهِ ويشكو أمرَه وحوائجَهُ إليهِ، فهوَ الذي يُجيبُ المضطَّر إذا دعاهُ، ويكشفُ السوءَ، وهو وحدَه الذي يُفَرُّ منه إليه. ألا إنَّ من أعظمِ العباداتِ التي تحقِّقُ هذا كلَّه (الصلاةُ) .. وكمْ نحنُ بحاجةٍ على الدوامِ أن نتذاكرَ قيمةَ الصلاةِ وقدرَها، وبرَّها وأثرَها، وأسبابَ قبولِها، والمعوِّقاتِ دونَ إقامتِها وتمامِها، ولماذا خفَّ أثرُها في حياتِنا؟ عبادَ الله: الصلاةُ سِيما الأنبياءِ عليهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ} (¬2). ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 6/ 4/ 1424 هـ. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 73.

وبها أُوصي الأنبياءُ ووصَّوْا ووصَّى الحكماءُ: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (¬1). {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} (¬2)، {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (¬3)، {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} (¬4). وهي قرينةُ الإيمانِ وعلامةُ المؤمنينَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} وبها يُعرفُ قَدرُ الرجالِ: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} (¬5). إنَّها عَهدٌ وميثاقٌ وفرضٌ في الكتابِ: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} (¬6) والعهدُ الذي بينَنا وبينَهم الصلاةُ، وهي ناهيةٌ عن الفحشاءِ والمنكرِ: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (¬7). وبها عَوْنٌ واستعانةٌ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (¬8). أيها الناسُ: والصلاةُ ميزانٌ للتقى أو الفجور، وكاشفةٌ للإيمانِ أو النفاقِ، وهي لوحةٌ كاشفةٌ لتفاوتِ الإراداتِ والهِمَمِ. ¬

(¬1) سورة مريم، الآية: 31. (¬2) سورة لقمان، الآية: 17. (¬3) سورة مريم، الآية: 55. (¬4) سورة الأحزاب، الآية: . (¬5) سورة النور، الآية: 37. (¬6) سورة النساء، الآية: 103. (¬7) سورة العنكبوت، الآية: 45. (¬8) سورة البقرة، الآية: 153.

أجلْ، إنه لا يتكرَّرُ في الإسلام مثلُها .. في الليلِ والنهارِ، وفي اليقظةِ وبعدَ المنامِ في الشتاءِ والصيفِ، والسفرِ والحَضَرِ، والسِّلمِ والحربِ، والصحةِ والمرضِ، وعلى الغنيِّ والفقيرِ، والصغيرِ والكبيرِ، والذكرِ والأنثى، والحرِّ والعبد .. ومنْ هنا كانتْ ميزانًا للإيمانِ المستمرِّ، والإرادةِ المتجدِّدة، والهمَّةِ العاليةِ، إن نفرًا من المسلمين علت هممُهم، فكانت الصلاةُ همَّهمْ، وتعلقَتْ في المساجد قلوبُهمْ لا يُفقدونَ في وقتٍ، ولا يتأخَّرونَ عن الجماعةِ، وإذا ما فُقدوا عَلِمَ إخوانُهمْ أنهمْ مسافرونَ أوْ مرضىَ، إذا حضرَتْهمُ الصلاةُ كانَ الخشوعُ وكانَتِ السكينةُ، وإذا خرجُوا من المسجدِ كانَ الصدقُ وحسُنُ الخلقِ، وكانَ العفافُ والتقى آثارًا خلِّفْتها الصلاةُ؛ فيهِمْ صدقٌ معَ اللهِ وحسنُ تعاملِ معَ خَلْقِ اللهِ أولئكَ أصحابُ القَدَحِ المعَلَّى، وأولئكَ أهلُ الصلاةِ حقًا وأولئكَ همُ المفلحونَ، وأولئكَ لا خَوْفٌ عليهِمْ ولا همْ يحزَنونَ. ونفرٌ آخر يُصلونَ حينًا وينقطعونَ حينًا، تراهُمْ يكثرونَ في حالِ قيامهِمْ ولكنَّهمْ كثيرًا ما يتخلَّفونَ إذا ناموا .. وصلاةُ الفجرِ والعصرِ ثقيلةٌ عليهم، والتبكير للصلاة ليسَ عادةً مستمرةً لهم، والقضاءُ ونقرُ الغرابِ سمةٌ تكادُ تكونُ بارزةً فيهم، يَغيبُ عنهُمُ الخشوعُ حالَ الصَّلاةِ ويضعفُ أثرُ الصلاةِ في حياتهِمْ وفي التعاملِ مع إخوانهِمْ خارجَ الصَّلاةِ، أتلكَ هيَ الصلاةُ التي أُمِرَ بها المسلمونَ .. أفهكذا يُؤدَّى الركنُ الثاني من أركانِ الإسلام؟ أما علمَ أولئكَ أنَّ أسوأَ الناسِ سَرِقةً الذي يَسرقُ مِنْ صَلاتِهِ؟ (¬1)، أَمَا يَخشَى أولئكَ المفرِّطونَ في شأنِ الصَّلاةِ والساهونَ عَنْها أنْ يكونوا ممَّنْ قالَ اللهُ فيهمْ: ¬

(¬1) رواه أحمد في المسند (5/ 310).

{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} أيرَضى المسلمُ أن يخرجَ من صلاتِهِ وما كُتبَ له إلا القليلُ منْها .. رُبعُها أو خُمسُها أو عُشْرُها؟ أوَيرضَى مصلٍّ أنْ تُلفَّ صلاتُهُ بثوبٍ خَلْقٍ ثم يُرمَى بها تقولُ: ضيَّعكَ اللهُ لِمَ ضيَّعتَني. منْ قالَ أنَّ الصَّلاةَ قالبٌ بدونِ قلبٍ، حركاتٌ دونَ خُشوعٍ؟ عادةٌ لا عبادةٌ، صورةٌ لا حقيقةٌ، كلا- إنها رُوحٌ وراحةٌ «أرِحْنا بها يا بلال» وهي عروجٌ بالقلبِ والروحِ إلى السماءِ في اليومِ والليلةِ خمسَ مراتٍ، فضلًا عن النوافلِ، إنَّها تسبيحٌ وتكبيرٌ وتهليلٌ، وتعظيمٌ وتقديسٌ ودعاءٌ، وقوفٌ بين يَدَيِ اللهِ، رغبة ورهبة، تلاوةٌ للقرآنِ وتعظيمٌ للرحمنِ، انقطاعٌ عنِ الحياةِ والخَلْقِ، واتصالٌ بالخالقِ وقربٌ من الآخرةِ .. كمْ تغيبُ هذه المَعاني عنْ أعدادٍ منَ المسلمينَ المصَلِّينَ ويغيبُ معها أثرُ الصلاةِ في حياتهم. أَما الذينَ لا يُصَلُّونَ فأولئكَ لهمْ شأنٌ آخرُ وحديثٌ آخرُ. لا تستَغْربوا إنْ بلغَ المسلمونَ منَ الذلِّ ما بلغُوا وهمْ لمْ يذلُّوا بعدُ اللهِ حقًا في الصَّلاةِ؟ ولا تستغربوا أنْ كَثُرَتْ فينا الفواحشُ والمنكراتُ، فصلاتُنا لمْ تصلْ إلى مستوى النهيِ عنِ الفحشاءِ والمنكرِ. إنَّ أمةً لا يقفُ أفرادُها بينَ يَدَيِ اللهِ في الصَّلاةِ لِطلبِ الفضْلِ والخيرِ منْهُ وحدَهُ لعاجزةٌ أنْ تقفَ ثابتةً في مواقفِ الخيرِ والوَحدةِ والنصرِ والقوَّةِ، لأنَّ هذه كلَّها منْ عندِ اللهِ وحده، فإذا أصلَحْنا ما بيننا وبينَ اللهِ أصلحَ اللهُ ما بيننا وبينَ الناس. كمْ في الصَّلاةِ- ولا سيَّما صلاةِ الجماعةِ- من معاني الأخوَّةِ والمحبَّةِ، وكمْ يُجسِّدُ وقوفُ المصلينَ كالبناءِ المرصوصِ من معاني الرُّعب والرهبةِ في قلوبِ الأعداءِ.

في المسجدِ يُعلَّمُ الجاهلُ، ويطعَمُ الجائعُ، وينُصَرُ المظلومُ، يُعلَّمْ العلمُ، وتُبلَّغُ الدعوةُ، يتعارفُ المسلمونَ ويتآلفونَ، ويُعلَّمُ الصبيانُ آدابَ المسجدِ والصلاةِ ويُحَفَّظونَ القرآنَ في المسجدِ، يتشاورُ المسلمونَ في أمرهِمْ، ويتفقدونَ حالَ إخوانهِمْ المنقطعينَ عنِ المسجدِ لسببٍ أوْ لآخَرَ. المساجدُ خيرُ البقاعِ، وما أحراها بكثرةِ الجلوسِ والتذكرةِ والتلاوةِ والخَلوةِ والدعاءِ حتى تحينَ الصلاةُ، إلى غيرِ ذلكَ منْ مهامِّ وأدوارِ المسجدِ التي تضاءَلَتْ في هذا الزمنِ، حتى فقدَت عددٌ من المساجدِ رسالتَها العُظمى، وآثارَها التربويةَ والاجتماعيةَ وأشياءَ أخرى. وهي مسئوليةٌ مشتَرَكةٌ بين الإمامِ والمأمومينَ، والأوقافِ والدعوةِ. يا عبدَ اللهِ قفْ، وسائلْ نفسَكَ ما قدْرُ الصلاةِ عندَكَ؟ قلْ ما شئتَ، وَعَبِّرْ بما شئْتَ .. فإنَّ حظَّكَ منَ الإسلامِ على قَدْرِ حظِّكَ مِنَ الصَّلاةِ؟ يا مسلمُ كيفَ تؤدِّي الصَّلاةُ؟ قلُ ما شئْتَ وتذكَّرْ ما شئْتَ فليسَ لكَ منْ صلاتِكَ إلا ما عقَلْتَ! أيُّها المُصَلونَ هلْ تُؤدونَ الصَّلاةَ أمْ تُقيمونَها .. والفرقُ كبيرٌ بين مجردِ الأداءِ وإقامةِ الصلاةِ كما أمرَ اللهُ ورسولُه، ومنْ تأمَّلَ في آياتِ القرآنِ وجدَ أنَّ الأمرَ بالصلاةِ يأتي دائمًا بأسلوبِ (الإقامةِ) (أقيموا الصلاةَ) فالإقامةُ تعني الإتمامَ والعنايةَ لا مجرَّدَ الأداءِ (¬1). أيها الراكعونَ الساجدونَ: هلْ تتثاقلونَ القيامَ مع الإمامِ والركوعَ والسجودَ والتلاوةَ إنْ أطالَ؟ فدونكُمُ العلاجُ .. وهوَ الخشوعُ في الصلاةِ وفي محكم ¬

(¬1) اللسان، القاموس (قوم) الشيخ عبد الرحمن السديس كوكبة الخطب/ 192.

التنزيلِ: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (¬1). والمعنَى أنَّ الصلاةَ شاقةٌ إلا على الخاشعينَ فإنَّها سهلةٌ عليهِمْ، لأنَّ الخشوعَ وخشيةَ اللهِ ورجاءَ ما عندَهُ يوجبُ لهُ فعلَها منشرِحًا صدرُهُ، لترقُّبِهِ للثوابِ وخشيته منَ العقابِ (¬2). أعوذ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} (¬3). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآيتان: 45، 46. (¬2) السعدي تفسير كلام المنان 1/ 83. (¬3) سورة مريم، الآيتان: 59، 60.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانيةُ: إخوةَ الإسلامِ: ثَمَّةَ أمورٌ تُقلِّلُ منْ أجرِ الصَّلاةِ أو تُبطلُها، وثمَّةَ أخطاءٌ في أداءِ الصَّلاةِ ينبغي التنبهُ لها والتنبيهُ عليها. 1 - فالطهارةُ مفتاحُ الصلاةِ وهي شرطٌ عظيمٌ للصلاةِ، وكم يتهاونُ بعضُ المسلمينَ بشأنِ الطهارةِ، إنْ تفريطًا يؤدِّي إلى الإخلالِ بواجباتِ الوضوءِ ومكمِّلات الطهارةِ، أو إفراطًا يصلُ إلى حدِّ الوسْوَسَةِ المنهيِّ عنْها. 2 - وسترُ العورةِ شرطٌ من شروطِ الصلاةِ .. وكذلكَ يتهاونُ نفرٌ مِنَ المسلمينَ في سَتْرِ عورتِهِمْ منْ لبسِ الثيابِ الشفَّافةِ أو الضيِّقة والسراويلِ القصيرةِ، حتى يبان شيءٌ من العورةِ؛ والعورةُ من السُّرة إلى الركبةِ، فاحفظوا عَوْراتِكُمْ دائمًا، وإياكُمْ والتهاونَ بها في الصلاةِ مُطلَقًا. 3 - تسويةُ الصفوفِ تلك التي استهانَ بها بعضُ المصلينَ- هداهُمُ اللهُ- وقد وردَ التشديدُ في ذلكَ حتى قالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: «لَتُسَوُّنَّ صفوفَكُمْ أو لَيُخالِفَنَّ اللهُ بينَ وجوهَكُمْ» متفقٌ عليه. وفي حديثٍ آخرَ: «إنَّ اللَه لا ينظرُ للصّفِّ الأعْوَجِ». 4 - الإخلالُ بشيءٍ منْ أركانِ الصلاةِ .. ولا سيَّما (الطمأنينةُ) التي تَساهلَ بها عددٌ من المصلينَ إذْ تراهُ يَنْقُرُ الصلاةَ نَقْرَ الغُرابِ- لا يعقلُ ما يقولُ ويقرأُ- وأنَّى لهذا منّ الطمأنينةِ والخشوع- وهي لبُّ الصلاةِ- لقدْ قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم للمُسيءِ في صلاتِهِ «ارجعْ فصلِّ فإنَّكَ لمْ تُصلِّ». وأبصرَ أحَدُ السلفِ رجلًا لا يطمئنُّ ولا يُحسنُ صلاتَهُ، فقالَ: منذُ كمْ وأنتَ تُصلي هذه الصلاةَ؟ فأجابَ الرجلُ: منذُ ستينَ سَنةً، فقالَ لهُ الصحابيُّ: منذُ ستينَ سنةً وأنتَ لمْ تُصَلِّ؟

فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ في صلاتِكُمْ .. وهيَ ليسَتْ حِملًا تضعونَهُ عن رقابِكُمْ .. ولكنَّها عبادةٌ تُرضونَ بها ربَّكُمْ. 5 - ومسابقةُ الإمامِ أو موافقتُهُ بليّةٌ يُبتلَى بها بعضُ المصَلينَ، وهي منْ- نزْغِ الشيطانِ- وإلا فلنْ يُسلِّم المسابقُ -في النهايةِ- قبلَ الإمامِ. قالَ العلماءُ: المسابقةُ تُبطلُ الصلاةَ، وموافقةُ الإمامِ في حالِ القيامِ والركوعِ والسجودِ، تُنقِصُ من قدْرِ الصلاةِ والسنةُ في المتابعةِ للإمامِ، فإذا انتهَى راكعًا فاركَعوا، وإذا اعتدَلَ قائمًا فانهَضُوا، وإذا استَوَى ساجدًا فاسْجُدوا وهكذا .. فإنَّما جُعِلَ الإمامُ ليُؤْتَمَّ به. وإيَّاكُمْ وتلاعبَ الشيطانِ، أما يَخْشى الذي يرفع رأسَهُ قبلَ الإمامِ أن يجعلَ اللهُ رأسَهُ رأسَ حمارٍ أوْ يجعلَ اللهُ صورتَه صورةَ حِمارٍ؟ متفقٌ عليهِ. قالَ الإمامُ أحمدُ رحمَهُ اللهُ: ليسَ لمَنْ سبقَ الإمامَ صلاةٌ (¬1). 6 - وممَّا ينْبغي التفطُّنُ له في المسجدِ عدمُ إيذاءِ المصلينَ برائحةٍ مُستكرَهَةٍ كالثُّومِ والبصلِ وشُربِ الدخانِ ونحوِها، وعلى المسلمِ أنْ يكونَ نظيفَ المَلبَسِ، حَسَنَ الرائحةِ، آخذًا بالزينةِ التي أمَرَهُ اللهُ بها {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬2). كما لا ينبغي إيذاءُ المصلينَ بحركةٍ مُستفِزَّةٍ، أو سلوكياتٍ غيرِ لائقةٍ .. أَلا وإنَّ منْ بلايا العصرِ رنينُ الجَوَّالاتِ، والتي لا تُشغِلُ صاحبَها وحدَهُ، بلْ تُشوِّشُ على المصلينَ كلِّهِمْ، وعلى الرغمِ من التحذيراتِ المسموعةِ والمكتوبةِ على أبوابِ المساجدِ، وغيرِها .. إلا أنَّ ظاهرةَ الجوالاتِ في المساجدِ لا تزالُ ¬

(¬1) المغني لابن قدامة 2/ 209. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 31.

مصدرَ قلقٍ وتشويشٍ على المُصَلينَ، فهلْ تنتهي يا صاحبَ الجوالِ .. إما بالعنايةِ بإغلاقِهِ .. أو بتركِهِ في البيتِ أو السيارةِ حالَ الصلاةِ؟ 7 - ولا بدَّ يا عبادَ اللهِ مِنَ العَوْدِ والتأكيدِ على رُوحِ الصَّلاةِ ولُبِّها، ألا وهوَ الخشوعُ فيها، ألا وإنَّ المؤدِّين للصلاةِ كثيرٌ .. ولكنَّ المقيمينَ لَها .. بواجباتِها وأركانِها وسُننِها قليلٌ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ، أَلَسْنا نرى فِئامًا مِنَ المصلينَ يُصلونَ أشباحًا بلا أرواحٍ، وقوالبَ بلا قُلوبٍ، وحركاتٍ بلا مشاعرَ، صلاتُهمْ مرتعٌ للوساوسِ وفرصةٌ لإعادة الذكرياتِ والهواجسِ يدخلُ الشيطانُ على أحدِهِمْ منْ حينَ يكبِّرُ حتى يُسلِّمَ، فيصولُ ويجولُ بفكرِهِ في مجالاتِ الدنيا، ولذا تراهُ يتحركُ ويتشاغلُ، ويستطيلُ ويتثاقلُ، ويلتفتُ بقلبِهِ وبصرِهِ إلى حيثُ يُريدُ، قلوبُهمْ في كلِّ وادٍ تهيمُ، وعقولُهمْ في كلِّ مكانٍ تسرحُ .. ولو سألتَهُ: ماذا قرأَ الإمامُ؟ لم يَجد جوابًا بلْ رَبما لوْ سألتَهُ: ماذا قرأتَ وقُلتَ في صلاتِك لتردَّدَ في الجوابِ .. إنَّ صلاةً يتلاعبُ الشيطانُ بصاحبِها إلى هذا الحدِّ خِداجٌ غيرُ تمامٍ، فاللهَ اللهَ في مجاهدَةِ نفسِكَ والشيطانِ. أيها المصَلَّي: ليسَ لكَ منْ صلاتِكَ إلا ما عَقلْتَ، والشيطانُ إنْ عَجَزَ عنْ صدِّك في المجيءِ للمسجدِ والصلاةِ معَ المسلمينَ، فسيحاولُ إفسادَ صلاتِك عليكَ، فتعوَّذْ باللهِ منْهُ صادقًا مستحضِرًا قدرَ الصلاةِ وتذكرْ أنَّ الرجُلينِ يقفانِ في الصفِّ الواحدِ وبينَ صلاتِهِما كما بينَ المشرقِ والمغربِ، فكُنْ عبدَ الله المقيمَ للصلاةِ ولا تكتفي بمجردِ أدائها. واعلمْ أنَّ أولَ ما يحاسَبُ عَنْهُ العبدُ في قبرِهِ الصلاةُ، فأعِدَّ للسؤالِ جوابًا. عبادَ اللهِ: 8 - ومعَ الحرصِ على صلاةِ الجماعَةِ في المسجِد، فلا بدَّ مِنَ التفطُّنِ ألّا

تُجعَلَ البيوتُ مقابرَ، فإنَّ البيوتَ تُحيا بصلاةِ النوافلِ، وهيَ في البيتِ أفضلُ بشكلٍ عامٍّ- ولا سيما سنةَ المغربِ- قالَ ابنُ القيمِ رحمَهُ اللهُ: وكان صلى الله عليه وسلم يُصلي عامةَ السُّننِ والتطوِّعِ الذي لا سببَ لَهُ في بيتِهِ، لا سّيما سُنةَ المغربِ، فإنَّهُ لمْ يُنقلْ عنْهُ أنّهُ فعلَها في المسجدِ البتةَ (¬1). أيّها المسلمونَ: وخلاصةُ القولِ: إنَّنا نستطيعُ بالصلاةِ المشروعةِ أنْ نُطهِّرَ أنفسَنا منْ الفواحشِ والمنكراتِ، وأن نتخفَّفَ بالصلاةِ منْ أوزارٍ طالَما أثقلَتْنا عنِ الانطلاقِ الخيِّر في الحياةِ، نستطيعُ بالصلاةِ المُقامةِ أنْ ننجَحَ في معركةِ الشهواتِ والشبهاتِ، وأنْ نُغالِبَ الشيطانَ في وساوسِهِ ونَزَغاتِهِ، وحينَ ننتصرُ على نزواتنا وأهوائنا والشيطانِ، يصبحُ الطريقُ مفتوحًا للنصرِ على أعدائنا .. أجَلْ، إننا نقفُ في الصلاةِ بينَ يَدَيِ اللهِ متضرِّعينَ سائلينَ، واللهُ قريبٌ مجيبُ الدعاءِ، وفي الصلاةِ فرصةٌ كُبْرى للدعاءِ، وأقربُ ما يكونُ العبدُ لربِّه وهو ساجدٌ فهل نُلحُّ على اللهِ- في صلاتِنا- بإصلاحِ أحوالِنا والتمكينِ في الأرضِ .. وبينَ الصلاةِ والتمكينِ صِلةٌ وثْقى، فاللهُ يقولُ: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ}. ألا أيها المتكاسلُ عنِ الصلاةِ بادِرْ قبلَ أنْ يُكْشَفَ عن ساقٍ ويُدْعَوْنَ إلى السجودِ فلا يستطيعونَ. ألا أيُّها المقصِّرُ في الصلاةِ مع الجماعةِ تدارَكْ نفسَكَ، فَيَدُ اللهِ معَ الجماعةِ وإنَّما يأكلُ الذئبُ من الغنمِ القاصيةَ. أيها المصلُّونَ أَطِيلوا الركوعَ والسجودَ بعدَ القيامِ واخْشَعوا في صلاتِكُمْ وادْعوا ربَّكُمْ خوفًا وطمَعًا، إنَّ رحمةَ اللهِ قريبٌ مِنَ المحسنينَ. ¬

(¬1) زاد المعاد 2/ 312.

ولا تَنْسَوْا أنْ تدْعوا بدعاءِ الخليل: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} (¬1). ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 40.

حرارة الصيف ذكرى وعبرة

حرارةُ الصيفِ ذكرَى وعِبرة (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ، ومنْ يضْلِلْ فلا هاديَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليه وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلينَ، وارْضَ اللهُمَّ عنِ الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ وتابعيهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. أيُّها الناسُ: درجةُ الحرارةِ تصلُ إلى أربعةٍ وأربعينَ درجةً (44) وقدْ تزيدُ وقدْ تنقصُ، والأمرُ للهِ، فما منْ قوّةٍ مهْما بلغَتْ تستطيعُ أنْ تخفضَ درجَةَ الحرارَةِ إذا ارتفعَتْ، أو ترفعَها إذا انخفضَتْ. ألاَ ما أعظمَ اللهَ! وفي خلقِه وتدبيره آياتٌ للسائلينَ، وهذا الكونُ منْ صُنعِه، وعجيبِ تقديرِه، فهو مُتَّسقٌ في دورتِهِ وفصولِهِ، وأحيائِه ونجومِهِ، حَرٌّ وبردٌ، وربيعٌ وخريفٌ، وثمارٌ يانعةٌ في كلِّ فصلٍ، وأحياءٌ ومخلوقاتٌ تظهرُ في هذا الفصلِ وتختفي في غيرِه، ليلٌ ونهارٌ، وشمسٌ وقمرٌ، ونجومٌ ومجرّاتٌ تملأُ السماءَ: {لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (¬2). عبادَ اللهِ: وحينَ تبلغُ درجةُ الحرارةِ الخمسينَ أوْ دونَها بقليلٍ فلا تسألْ عنِ الحرِّ والسَّمومِ، والظمأ والعرَقِ، وذكرى فيحِ جهنّمَ ليسَ عنّا ببعيدٍ؟ ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 13/ 4/ 1424 هـ. (¬2) سورة يس، الآية: 40.

وهنا أسئلةٌ تثورُ ولا بدَّ أنْ نُجيبَ عنْها بوعيٍ يتجاوزُ حدودَ الزمانِ والمكانِ كيفَ نقضي زمنَ الصيفِ بحرِّه وسَمومِهِ؟ وبماذا يُذكِّرُنا؟ وأينَ المفرُّ والمهربُ؟ وكيفَ نعبدُ ونشكرُ؟ تعاَلوْا بنا في رحلةٍ واعيةٍ وإجاباتٍ مُذكِّرةٍ- مع حرارةِ الصيفِ- نُذكِّرُ بها أنفسَنا، ونتذكَّرُ خلقًا من خلقِ اللهِ غيرَنا، ونتجاوزُ حدودَ الدنيا لنتصورَ حياةَ الآخرةِ، لنرى تباينَ الهمَمِ، واختلافَ منازلِ الصبرِ. إنَّ مِنَ المؤكدِ أننا جميعًا نتضايقُ مِنَ الوقوفِ تحتَ حرارةِ الشمسِ ولوْ لدقائقَ معدودةٍ، ونسرعُ باحثينَ عنِ الظِّلال الوارفةِ، وتطمئنُّ نفوسُنا في الأماكنِ الباردةِ، ونحنُ في منازلِنا نستعدُّ مسبَقًا لتخفيفِ درجةِ الحرارةِ، فعَزْلٌ حراريٌّ، وتكييفٌ مائيٌّ، وآخرُ فريونيٌّ، وكمْ هيَ مُشكلةٌ لوِ انقطعَ التيارُ الكهربائيُّ في حمأةِ الظهيرةِ، أو حتى في حِنْدِسِ الظُّلمةِ؟ ومشكلةٌ أخرى لو تعطلَتْ أجهزةُ تبريدِ الماءِ وغيرِه، يا اللهُ ما أضعفَنا، وأقلَّ صبرَنا! وحينَ تُطلُّ الإجازةُ الصيفيةُ نتهيَّأ للسفرِ، ونبحثُ عن مكانٍ نفرُّ إليهِ منَ الحرِّ؟ ولا ضيرَ في ذلكَ كلِّه- في حدودِ ما أحلَّ اللهُ- لكنْ هلْ فكّرنا مليًّا فيما نحنُ فيهِ منْ نعمةٍ؟ وهلْ نحنُ شاكرون؟ وإذا كنّا اليومَ نستطيعُ أنْ نتقيَ شدّةَ الحرارةِ بوسائلَ مختلفةٍ فهلْ بإمكانِنا غدًا أنْ نتقيَها بسهولةٍ؟ كيفَ الحالُ في أرضِ المَحشرِ؟ وهلْ منْ مفرٍّ أو مهرَبٍ؟ هناكَ لا ينطقونَ ولا يؤذنُ لهمْ فيعتذرونَ، يفرُّ المرءُ منْ أخيهِ وأمِّه وأبيهِ وصاحبتِهِ وبينهِ لكلِّ امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغنيه. وفي عالمِ الدنيا كمْ همُ الذينَ في البراري والقفارِ، يستظلّونَ بظلِّ الشجرِ- إنْ وجِدَ- أو بظلِّ بعضِ منسوجِ الخيامِ إنْ توفَّر. غاب المكيفُ، وقبلَه عزَّ البناءُ المشيّدُ، أرضُهُم في النهارِ تفوحُ لظًى وهيَ في

الليلِ موحشةٌ مظلمةُ تملؤها هوامُّ الأرضِ ودوابُّها تتحركُ وتَسعَى! وكمْ في أرض اللهِ منْ أممٍ وشعوبٍ تعيشُ أدْنى مستوياتِ الفقرِ، تتخذُ من أرصفةِ الشوارع مسكنًا، وتكتفي من الظلِّ بعِشاشٍ يُقامُ من العيدانِ والخِرقِ الباليةِ، ولا تسألْ عن نُدرةِ الطعامِ والشرابِ عندَ هؤلاءِ- فهلْ نتذكرُ بحرارةِ الجوِّ هذه الأيامَ مأساةَ هؤلاءِ، وما نحنُ فيه منْ نعمةٍ، وهلْ يكفي مجردُ التَّذكير السلبيِّ، أمْ لا بدَّ من شُكرٍ- على النعمةِ- بالقلبِ واللسانِ، ولا بدَّ منْ شكرٍ على المالِ ومدِّ يدِ المساعدةِ للمحتاجينَ المسلمينَ؟ معاشرَ المسلمينَ: إنَّ ما نُحسنُّ بهِ هذه الأيامَ منْ شدّةِ الحرارةِ إنما هو فَيحٌ ونَفسٌ من أنفاسِ جهنّمَ، فكيفَ بشدّةِ حرارةِ جهنَّمَ بكُلِّ أنفاسِها؟ فكيفَ بمنْ يُعذّبَ فيها؟ وكيفَ بمنْ هو خالدٌ فيها؟ نسألُ اللهَ العافيةَ. وفي الحديثِ الصحيحِ قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «اشتكَتِ النارُ إلى ربِّها فقالَتْ: يا ربِّ أكلَ بعضي بعضًا، فأَذِنَ لها بنفَسَيْنِ، نَفَسٍ في الشتاءِ، ونَفسٍ في الصيفِ فهوَ أشدُّ ما تجدونَ من الحرِّ، وأشدُّ ما تجدونَ من الزمهريرِ» رواهُ مالكٌ والشيخانِ والترمذيُّ (¬1). وفي روايةٍ عند الترمذيِّ: فأما نفَسُها في الشتاءِ فهو زمهريرٌ، وأما نفسُها في الصيفِ فسَمُومُ (¬2). هلْ تتذكرُ أيها المسلمُ بشدةِ الحرارةِ- إنَّ منَ الشمسِ أو النارِ البسيطةِ في الدنيا- شدَّةَ حرارةِ جهنمَ، وفي التنزلي: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ} (¬3). ¬

(¬1) صحيح الجامع 1/ 332 ح 1001. (¬2) صحيح الجامع 1/ 332 ح 1002. (¬3) سورة الواقعة، الآيات: 71 - 73.

يا مسلمُ يا عبدَ الله: وإذا كنتَ اليومَ تتقي شدةَ الحرارةِ بالتكييفِ والظلالِ الوارفةِ وغيرِ ذلكَ منْ وسائلَ- لا ضيرَ عليكَ في استخدامِها- فبأيِّ شيءٍ تُراكَ ستتَّقي حرَّ جهنّمَ وشدةَ الموقفِ في عَرَصاتِ الحسابِ. وهناكَ تدنو الشمسُ منَ الخلقِ وتكونُ بقدرِ الميلِ .. واليومَ بينَنا وبينَها آلافُ الأميالِ، هناكَ العَرقُ يلجم الناسَ على قدرِ أعمالِهم ولا ظِلَّ إلا ظلُّ الرحمنِ ولا جاهٌ ولا مالٌ ولا حسبٌ ولا نسبٌ؟ إنني أذكِّرُك ونفسي بالسبعةِ الذينَ يُظلُّهم اللهُ في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّهُ فهلْ نكونُ أحدَ هؤلاءِ السبعةِ، بخوفِنا منَ اللهِ، وبعملِ الصالحاتِ، وتقديمِ القُرُباتِ؟ يا مسلمُ يا عبدَ اللهِ، ومهْما تضايقْتَ من شدّةِ الحرِّ أو البردِ إياكَ أن تَسُبَّ الدهرَ فاللهُ هو الدهرُ، ولا يَغِبْ عنْ ذِهْنِكَ أن الشمسَ والقمرَ بحُسْبانٍ، وأنَّ للهِ حِكَمًا في تقليبِ الليلِ والنهارِ، وتكرارِ الفصولِ وتقليبِ الزمانِ وَعاها العالِمونَ، وذكرَ بعضَها العارفونَ. وقالَ ابنُ القيِّم رحمَه اللهُ: ثمَّ تأملْ بعدَ ذلكَ أحوالَ هذه الشمسِ في انخفاضِها وارتفاعِها لإقامةِ هذه الأزمنةِ والفصولِ وما فيها مِنَ المصالحِ والحكَمِ، إذْ لوْ كانَ الزمانُ كلُّه فصلًا واحدًا لفاتَتْ مصالحُ الفصولِ الباقيةِ فيهِ .. إلى أنْ قالَ عنْ حكمِ الصيف: وفي الصيفِ يحتدّ الهواءُ ويَسخُنُ جدًّا فتنضجُ الثِّمارُ، وتنحلُّ فَضَلاتُ الا يدانِ والأخلاطِ التي انعقدَتْ في الشتاءِ، وتَغورُ البرودةُ وتهربُ إلى الأجوافِ، ولهذا تبردُ العيونُ والآبارُ. ويتحدثُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمَهُ اللهُ عنْ شيءٍ منْ رحمةِ اللهِ وتقديرِهِ في اختلافِ الفصولِ وبما يَحمي الإنسانَ بإذنِ الله، فيقول: يسخُنُ جوفُ الإنسانِ في الشتاءِ ويَبْرُدُ في الصيفِ، لأنَّ في الشتاءِ يكونُ الهواءُ باردًا فيبردُ ظاهرُ البدَنِ فتهربُ الحرارةُ إلى باطنِ البدَنِ؛ لأنَّ الضدَّ يَهربُ من الضدِّ .. وتبردُ الأجوافُ

في الصيفِ لسخونةِ الظاهرِ فتهربُ البرودةُ إلى الأجوافِ: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}. يا عبدَ اللهِ: وإذا كانَ الضِّدانِ لا يجتمعانِ وأحدُهما يهربُ من الآخرِ، فهلْ تفرُّ من المعصيةِ إلى الطاعةِ؟ وإذا كانَ حرُّ الصيفِ شديدًا فنارُ جهنمَ أشدُّ حرًا، ورحمَ اللهُ أقوامًا كانوا يتحرَّونَ الهواجرَ فيتقربون إلى اللهِ بصيامِها، تحسُّبًا ليومٍ شديدٌ حرُّه، وكان أبو الدرداءَ رضيَ اللهُ عنه يقولُ: صُوموا يومًا شديدًا حَرُّه لحرِّ يومِ النشورِ، وصلّوا رَكعتينِ في ظلمةِ الليلِ لظُلمةِ القبورِ. ويُذكرُ أنَّ عددًا من السلفِ كانوا يصومونَ في الصيفِ طلبًا لكثرةِ الأجرِ، ويقولُ قائلهُم: إنَّ الشيءَ إذا رَخَص اشتراهُ كلُّ أحَدٍ؟ ويروى أنَّ ابنَ عمرَ رضيَ اللهُ عنهما خرجَ في سفرٍ ومعهُ أصحابُه، فلما وضعوا سُفرتَهم، مرَّ بهم راعٍ فدعَوْه إلى أنْ يأكلَ معهُمْ، فقالَ: إني صائمٌ، فقالَ ابنُ عمرَ: في مثلِ هذا اليومِ الشديدِ حرُّه وأنتَ بينَ هذه الشِّعابِ في آثارِ هذه الغنمِ وأنتَ صائمٌ؟ فقالَ الراعي: أبادرُ أيامي هذه الخالية (¬1). أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيمِ: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)}. ¬

(¬1) وقفات مع فصل الصيف، مقال في الإنترنت لـ د. زيد بن محمد الرماني.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: إخوةَ الإيمانِ: وفي الشدائدِ دروسٌ وتعويدٌ على الصبرِ، ومنْ قَلَّ صبرُه أعاقَهُ بردُ الشتاءِ أو حرُّ الصيفِ عنْ مشاريعِ الخيرِ، وضعُفَتْ همتُه عنِ القيامِ بما كانَ يقومُ به حينَ اعتدالِ الجوِّ، وأهلُ الصبرِ والإيمانِ واليقينِ يتجاوزونَ في أعمالِهِم الصالحةِ ومشاريعهم الخيرةِ معوّقاتِ الشدائدِ .. بعكسِ أهلِ الريبِ والنفاقِ وأصحابِ الهِمَمِ الضعيفةِ فأولئكَ يقعدونَ عنِ المعالي ويعتذرونَ بشدةِ الزمانِ .. إنهما صنفانِ يتكرران، أحدُهما يقول: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (¬1). والآخرونَ قالوا: {وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} (¬2). وفيما نحنُ بصدَدِه ربّما ضعُفَتْ هِممْ أناسٍ عن صلاةِ الفجرِ في وقتِها ومعَ جماعةِ المسلمينَ لقِصَرِ ليلِ الصيفِ، وربّما ضَعُفَتْ هِممُ آخرينَ عنِ الخروجِ لصلاةِ الظهرِ أو العصرِ لشدةِ الحرِّ ولفحِ السَّمومِ .. وفرقٌ بينَ هؤلاءِ وبينَ منْ يقومونَ الليلَ- وإنْ قصُرتْ ساعاتُهُ- ومَنْ يصومونَ النهارَ وإنِ اشتدَّ حرُّه، وسلعةُ اللهِ غاليةٌ، وعلى قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ! رأى عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ رحمَهُ اللهُ قومًا في جنازةٍ قدْ هربوا منَ الشمسِ إلى الظلِّ، وتَوَقَّوا الغبارَ، فبكى ثم أنشدَ: منْ كانَ حينَ تُصيبُ الشمسُ جبهتَه ... أوِ الغبارُ يخاف الشينَ والشَّعَثا ويألفُ الظَّلَّ كيْ تبقَى بشاشتُه ... فسوفَ يسكنُ يومًا راغمًا جَدَثًا في ظلِّ مُقْفِرةٍ غَبراءَ مُظلمةٍ ... يطيلُ تحتَ الثَّرى في غمِّها اللَّبَثا ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 22. (¬2) سورة التوبة، الآية: 81.

تجهَّزي بِجَهازٍ تَبلُغينَ به ... يا نفسُ قبلَ الرَّدَى لم تُخلَقي عَبَثًا هنا وبهذه الأفكارِ والتساؤلاتِ والإجاباتِ تعودونَ من رحلةِ الصيفِ وحرارتِه واعِينَ متفطِّنينَ شاكرينَ ذاكرينَ، ومن شكرَ فإنّما يشكرُ لنفسِه. أيها المسلمونَ: خُلقَ الإنسانُ هَلوعًا فتراهُ يتضجّرُ من شدةِ الحرِّ إذا حلَّ الصيفُ ثم تراهُ متضجِّرًا من شدةِ البردِ إذا حلَّ الشتاءُ، وحالُه كما قالَ الشاعرُ: يتمنّى المرءُ في الصيفِ الشتاءَ ... فإذا جاءَ الشتاءُ أنكرَهْ فهو لا يرضَى بحالٍ واحدٍ ... قتِلَ الإنسانُ ما أكَفرَهْ ألا وإنَّ الموفَّقَ منِ استفادَ من الصيفِ بطولِ نهارِه .. واستفادَ منَ الشتاءِ بطولِ ليلِه، وفضلُ اللهِ يؤتيهِ من يشاءُ، ومنْ رضيَ فلهُ الرضاءُ ومن تسخَّطَ فعليه السُّخْطُ؟ لقدْ كانَ منْ هَدْي النبيِّ صلى الله عليه وسلم الإبرادُ بصلاةِ الظهرِ حينَ يشتدُّ الحرُّ رأفةً بالمسلمينَ، فهلْ يا ترى يرأفُ الأغنياءُ والموسرونَ بالفقراءِ الذين لا يتوفرُ عندهم منْ وسائلِ التبريدِ ما يتقونَ به حرارةَ الصيفِ؟ وإذا كانَ آباؤنا وأجدادُنا عاشوا حياةً بسيطةً، ومسَّتْهم البأساءُ والضّرّاءُ وربما تغيّرَتْ جلودُهم، واسودَّتْ وجوهُهم منْ لفحِ السَّمومِ وشدّةِ الحرِّ، فهلْ نُذكّرُ أبناءنا ما همْ فيه من نعمةٍ الآنَ، ليرعَوْها ويشكروا اللهَ عليها. أيها المسافرونَ: وإذا فَررْتُم منْ حرِّ الصيفِ سائحينَ هنا أو هناكَ، فإياكُم أن تفِرُّوا من الجحيمِ إلى الجحيمِ، فحرارةُ الصيفِ منْ فيْحِ جهنمَ، ولكن مبارزةَ اللهِ بالمعاصي والفسوقِ والعصيانِ، واستبدالِ جحودِ النعمِ بشكرِها، والمعصيةِ بالطاعةِ كلُّ ذلكَ فرارٌ إلى جحيمٍ آخرَ، لا بدَّ أنْ يذكّرَنا به حرارةُ الصيفِ .. فارحلْ واستمتعْ وبرّدْ، وسِحْ في أرضِ اللهِ .. لكنْ مع صدقِ المراقبةِ واستحضارِ موجباتِ الخوفِ للهِ ..

فليسَتِ المعاصي والفجورُ من مُستلزماتِ السياحةِ والسفرِ، بلِ السياحةُ الحقّةُ فرصةٌ للذكرِ والشكرِ، والدعوةِ والأُنسِ، ومن المُسَلَّماتِ أنَّ راحةَ الضميرِ وطمأنينةَ القلبِ، لا يمكنُ أن تتحقَّقَ بالزورِ والفجورِ، بل هي كما قالَ خالقها: {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (¬1)، بل ضيقُها وعذابُها ونكدُها بالإعراضِ عنِ اللهِ وذكرِه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} (¬2). أيها المسلمونَ: وإذا تضايقْتُم يومًا أو سَنةً أو عُمرًا قصيرًا مِنْ شدّةِ الحرِّ، فتذكِّروا أنَّ يومًا مِنْ أيام الآخرةِ كألفِ سنةٍ مما تعدّونِ، وهناك نعيمُ الجنةِ الدائمِ في {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} (¬3) .. وتذكّروا في مقابِلها ظِلًّا ذا {ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} (¬4). وتذكّروا لأهلِ النعيمِ جنتَيْنِ ذواتَيْ أفنانٍ، فيهما عينانِ تجريانِ، وتذكّروا لأهلِ الجحيمِ: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} (¬5)، تذكّروا الفرقَ بينَ وجوهٍ مسفرةٍ ضاحكةٍ مستبشرةٍ ووجوهٍ يومئذٍ عليها غبرةٌ ترهقُها قَتَرةٌ ثمَّ قدّموا لأنفسِكم عملًا صالحًا. اللهم أعِذْنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة واجعلنا من أهل النعيم في الدنيا والآخرة. ¬

(¬1) سورة الرعد، الآية: 28. (¬2) سورة طه، الآية: 124. (¬3) سورة الواقعة، الآيات: 30 - 34. (¬4) سورة المرسلات، الآيتان: 30، 31. (¬5) سورة محمد، الآية: 15.

الإنسان قوة بين ضعفين

الإنسان قوة بين ضعفين (¬1) الخطبةُ الأولى: إنَّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ، ومنْ يضْلِلْ فلا هاديَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ عليْهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسَلينَ، وارْضَ اللهُمَّ عنِ الصحابةِ أجمعينَ والتابعينَ وتابعيهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا. عجبًا لكَ يا ابن آدمَ كَمْ تطْغَى وتتكبَّرُ! وكَمْ تُفسدُ وتفسُقُ! تمشي في الأرض مَرَحًا، وتَنْسَى أصلَ خلقِكَ، وتتمرَّدُ على العبوديةِ لربِّك وفي مُحْكَم التنزيلِ: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} (¬2). يا ابن آدمَ تأمَّلْ في بدايةِ خَلْقِكَ ومنتَهاهُ، وتأمَّلْ في أحوالِكَ وأطوار حياتِكَ تَرَى الضعفَ لكَ ملازِمًا وصدَقَ اللهُ: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (¬3)، فما هي مظاهرُ ضعفِنا؟ والأهمُّ من ذلك: ماذا يسْتَدْعي منا هذا الضعفُ؟ وما العبرةُ والدرسُ؟ أيها المسلمونَ: إن منْ يتأملُ حياةَ الإنسانِ ومراحلَهُ، وأحوالَه يَرى الضعفَ ظاهِرًا .. أجلْ، ضعفٌ في النشأةِ وضعفٌ في الهَرَمِ، وضعفٌ في حال الصحةِ والسّقمِ، وفي حالِ الجوعِ والشِّبعِ، ضعفٌ في الإقامةِ وضعفٌ في السفرِ، ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 3/ 6/ 1424 هـ. (¬2) سورة عبس، الآيات: 17 - 19. (¬3) سورة النساء، الآية: 28.

ضعفٌ في حالِ الغنى، وضعفٌ في حالِ الفقْرِ، وضعفٌ عندَ شدةَّ الحرارةِ، وضعفٌ عندَ شدَّةِ البرودَةِ .. إلخ مظاهرِ الضعفِ، فإنْ قُلتَ: فكيف هذا الضعفُ؟ وما هيَ مظاهرُهُ؟ أجبتُ بما يلي: أما الضعفُ في حالِ البدْءِ والنهايةِ فقدْ كشفَ القرآنُ الكريمُ عنْها بقولِهِ تعالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (¬1)، والآية وإنْ كانَ معناها واضحًا ومُدْركًا منْ خلالِ الواقعِ المُشاهَدِ، ومنْ خلالِ أطوارِ الإنسانِ ومراحِلهِ التي لا يمكنُ لأحدٍ أنْ يتجاوزَها .. أو يُخالفَ سُنةَ اللهِ فيها. إلا أنَّ الحكمةَ الإلهيةَ هُنا أنْ يَرى العبدُ ضعفَهُ، وأنَّ قوتَه محفوفةٌ بضَعفَيْن وأنهُ ليسَ لهُ من نَفْسِه إلا النقصُ، ولولا تقويةُ اللهِ لهُ لما وصَلَ إلى قوةٍ وقدرةٍ، ولو استمرَّتْ قوَّتُه في الزيادةِ لطَغَى وبَغَا وعَتَا (¬2). إنَّ الإنسانَ يبدأُ حياتَه معتمدًا- بعدَ اللهِ- على الآخرينَ، وتنتهي حياتُه كذلكَ وهو غيرُ مستغْنٍ عنِ الرعايةِ والإعانةِ منَ الآخرين إنَّهُ يخرجُ إلى الدنيا لا يعلمُ شيئًا .. وقبلَ أن يودِّعَ الدنيا يعودُ مرةً أخرى لا يعلمُ بعدَ علمٍ شيئًا .. تأملوا ذلك في آيتين من كتابِ اللهِ يقول تعالى عن المرحلة الأولى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} (¬3)، ثُم يقولُ عن المرحلةِ النهائيةِ: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} (¬4). أما واقعُ الناسِ فيقولُ: إنَّ المرءَ قد يَعُولُ ابنَهُ الصغيرَ وأباه الكبيرَ في آنٍ ¬

(¬1) سورة الروم، الآية: 54. (¬2) السعدي، تفسير كلام المنان (6/ 142). (¬3) سورة النحل، الآية: 78. (¬4) سورة النحل، الآية: 70.

واحدٍ .. هذا محتاجٌ للرعايةِ في طفولتِهِ وصِغَرِه وهذا محتاجٌ للرعايةِ في شيخوختِهِ وهرمِهِ! إنَّ في ذلكَ لَعِبرةً: غيابٌ في البدايةِ وغيابٌ في النهايةِ وما بينَهُما سنواتٌ وأيامٌ معدودةٌ؟ أيُّها المسلمونَ: وحتى في مرحلةِ القوةِ وبلوغِ الأشُدِّ .. لا يكادُ الضَعفُ يفارقُ الإنسانَ .. أوليسَ {خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} (¬1)، وإلا منِ اتَّصفَ بصفاتِ الإيمانِ واليقينِ- كما جاءَ في الآياتِ المتمِّمةِ لهذه الآيةِ- وهو ضعيفٌ في حالةِ السفرِ والإقامةٍ، فهو يملُّ الإقامةَ، والسفرُ يُرهقُه. وهو كذلكَ ضعيفٌ في حالِ النومِ واليقظةِ- فإنْ كَثُرَ نومُهُ فهو مؤشِّرٌ إلى المرضِ والتعبِ، وإنْ قلَّ نومُه فهو القلقُ والضجرُ؟ يا ابْنَ آدمَ أَلَسْت ضعيفًا في حالِ الغِنَى والفقرِ، فالغِنى يُطغِي ويُلهي ويدْعو للتعالي والكبرياء {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (¬2) إلا منْ رحمَ اللهُ وآتى المالَ على حبِّهِ مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا. والفقرُ يُضعِفُ وُيذلُّ وكادَ الفقرُ أنْ يكونَ كفرًا؟ إلا منْ صبرَ واحتَسَب. ابنَ آدمَ زمهريرُ البردِ يؤذيكَ، وشدةُ حرِّ الهواجرِ تُضايقُك! وأنتَ حينَ تجوعُ تظلُّ تتلوَّى، وربّما أذْهَبَ الجوعُ سمعَك وأضعفَ من بصرَكَ ورؤيتَكَ وأنتَ في حال الشِّبَعِ تثقلُ وتَصعُبُ عليكَ الحركةُ وتميلُ إلى النومِ والراحةِ، وربّما لم تسلَمْ من أَمراضِ التُّخمَةِ وأعراضِ السِّمَنِ؟ ¬

(¬1) سورة المعارج، الآيات: 19 - 22. (¬2) سورة العلق، الآيتان: 6، 7.

ألا فاعرفْ قَدْرَكَ، وقدِّرْ ضعفَكَ، واستعِنْ بخالقِكَ، واستثمرْ قوَّتَك، واعلَمْ أنَّ الحياةَ أطوار .. ضعفٌ وقوةٌ، وطفولةٌ وشيبةٌ، غنًى وفقرٌ، وعُسرٌ ويسرٌ، شرٌّ وخيرٌ، سرّاءُ وضرّاءُ، محنٌ وبلايا .. نومٌ ويقظةٌ، ومهما طالَ عمُرُك فالموتُ يطلبُكَ والأجَلُ يحاصرُكَ .. فكُنْ على استعدادٍ ويقظةٍ .. وإياكَ والغَفلةَ والاستكبارَ والطغيانَ والفسادَ. أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيمِ: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (¬1). نفعني اللهُ وإياكم بهَدْي كتابِه .. ¬

(¬1) سورة النحل، الآيات: 53 - 55.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانيةُ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ الرحمنِ الرحيمِ .. رحمتُه وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ وأنزلَ منْها في هذه الدنيا رحمةً، وادَّخرَ تسعةً وتسعينَ لِيومِ القيامةِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، شهِدَ بضعفِ الخَلقِ، وشهدَ المرسَلونَ على ضعفِ هذه الأمةِ ورحمةِ اللهِ بها، وهذا الكليمُ موسَى عليه السلام يقولُ في ليلةِ الإسراءِ والمعراج للنبيِّ صلى الله عليه وسلم حينَ فُرضَتُ عليه الصلاةُ ماذا فُرِضَ عليكُمْ؟ فقالَ صلى الله عليه وسلم: «أمرَني ربي بخمسينَ صلاةً في كلِّ يومٍ وليلةٍ، فقالَ له موسَى ارجعْ إلى ربِّك فاسألْهُ التخفيفَ، فإنَّ أمتَك لا تُطيقُ ذلكَ، فإني قدْ بَلَوْتُ الناسَ قبلَكَ على ما هو أقلَّ من ذلكَ فعجَزوا، وإنَّ أمتَكَ أضعفُ أسماعًا وأبصارًا وقلوبًا .. فرجَعَ إلى ربِّه فوضعَ عنه عشرًا، وما زالَ يُراجعُ ربَّه حتى بقيَتْ خمسًا .. ولكنها بأجر خمسين رحمةً من رَبِّك وتخفيفًا وفضلًا (¬1). وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه اعترفَ بضعفِه وشكا إلى ربِّه حالَهُ حينَ عادَ هائمًا على وجهه من رحلةِ الطَّائفِ وهو يقولُ: «اللهُمَّ إليكَ أشكو ضعفَ قُوَّتي وقِلَّةَ حيلَتي وهواني على الناس، أنتَ ربُّ المستضعَفينَ وأنتَ ربي، إلى مَنْ تَكِلُني ... ». اللهمَّ صلِّ وسلِّم عليهِ وعلى سائرِ النبيينَ والمرسَلينَ. إخوة الإسلامِ: ضعفُنا يستَدْعي أنْ نركَنَ إلى اللهِ ونستعينَ به ونعوذَ به فلا مَلجَأَ ولا مَنْجا منهُ إلا إليه، وهو الذي يُفَرُّ منهُ إليهِ، وهذا نبيُّ اللهِ لوطٌ عليه السلامُ اعتَصَم باللهِ مِنْ أَذَى قومِهِ وقالَ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} ¬

(¬1) تفسير ابن كثير عند آية النساء 28 وعزا الحديث للبخاري ومسلم وأحمد.

فجاءه الغوث من السماء {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ} (¬1). وحينَ أوشكَ المشركونَ أنْ يَصِلوا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وصاحبِهِ وهُما مخْتفَيانِ في الغارِ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لصاحبه: «لا تحْزنْ إنَّ اللهَ مَعَنا» فتنَّزلت السكينةُ وحُفِظوا مِنْ كيدِ الأعداءِ وتحوَّلَ الضعفُ على قوة والخوفُ إلى سكينةٍ {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} (¬2). عبادَ اللهِ: ويستَدْعي ضعفُنا أنْ نشكرَ اللهَ على السرّاءِ وأنْ نصبرَ على الضرّاءِ، فبالشكرِ تدومُ النِّعَمُ، وبالصبرِ والتجلُّدِ تنقشعُ البلواءُ والمصائبُ والمحنُ. أجلْ، إن الإنسان يتقلبُ في هذه الحياةِ بين يُسرٍ وعُسرٍ، ورخاءٍ وشدّةٍ، وغنًى وفقرٍ، وصحةٍ وسُقمٍ، وقوةٍ وضعفٍ .. والموفَّقُ مَنْ شكرَ على السرّاءِ وصبرَ على الضرّاءِ، ولقدْ فَقِهَ عبادُ اللهِ المرسلون سِرَّ الابتلاء في كلِّ حالٍ .. فهذا سليمانُ عليه السلامُ حينَ آتاه اللهُ منْ فضلِهِ ما شاءَ وسخَّرَ له من الجنودِ ووهبَهُ مِنَ القوةِ والمُلكِ ما فاقَ أهلَ الزمانِ، اسْتَشْعَرَ فضلَ اللهِ ومِنَنَه، وأحسَّ ببلوَى السرّاءِ وحاجتِهِ للشكرِ وقالَ: {قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (¬3). وهذا أيوبُ عليهِ السلامَ حينَ أصابَهُ الضرُّ وابتلاهُ اللهُ بالسُّقمِ صبرَ واحتسَبَ وتوجَّهَ إلى اللهِ بكشفِ الضرِّ فقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ... } (¬4). ¬

(¬1) سورة هود، الآيتان: 80، 81. (¬2) سورة التوبة، الآية: 40. (¬3) سورة النمل، الآية: 40. (¬4) سورة الأنبياء، الآيتان: 83، 84.

ويُونسُ وهو في الظُّلماتِ في بطنِ الحُوتِ وأعماقِ البحرِ نادَى: {أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). أيها المؤمنون: ضعْفُنا يستدعي ألّا نتكبَّرَ ونتجبَّرَ، ولا أنْ نطغَى ونكفرَ، وفي القرآنِ نماذجُ لأممٍ وشعوبٍ وأفرادٍ غرَّتْهُم قوَّتُهم واغترُّوا بما أعطاهُمُ اللهُ، فكانتْ نهايتُهم عِبرةً لمنْ بعدَهُم وفي قَصَصِ الغابرينَ أينَ منْ قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} (¬2)؟ وأينَ منْ قالَ: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (¬3)، {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (¬4)، وأينَ الذي خرجَ علَى قومِه في زينتِه، ومفاتيحُ كنوزِهِ تنوءُ بحَمْلِها العُصبةُ أولوا القوةِ، وتبجَّحَ قائلًا: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} (¬5)، وإذا كانَ اللهُ خسفَ بِهِ الأرضَ، فقدْ أخبرَنا اللهُ أنه أهلَكَ مَنْ قبِلَهِ مِنَ القرونِ مَنْ هُو أشدُّ منهُ قوةً وأكثرُ جميعًا: أوَلا يتفكَّرُ الإنسانُ ممَّ خُلِقَ وإلى أينَ يصيرُ؟ {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ} (¬6). وسنةُ اللهِ لا تزالُ تطوي المتكبِّرينَ، وتعصِفُ بالمجرِمينَ، فلا يَغرُرْك تقلُّبُهم في البلادِ. عبادَ اللهِ: ضعفُنا يستَدْعي أن نكونَ دائمًا على يَقَظةٍ وحذرٍ، لا تغرُّنا القوةُ، ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآيتان: 87، 88. (¬2) سورة فصلت، الآية: 15. (¬3) سورة القصص، الآية: 38. (¬4) سورة النازعات، الآية: 24. (¬5) سورة القصص، الآية: 78. (¬6) سورة عبس، الآيات: 17 - 22.

ولا نَجزعُ للضعفِ، فالقويُّ يَضعُفُ، والضعيفُ يقوَى، لا بدَّ أنْ ندرِكَ سِرَّ اللهِ في خَلقِنا، وندركَ الهدفَ منْ وجودِنا، نتوجَّهُ إليه وحدَهُ في عُبوديةِ السرّاءِ وفي عُبوديةِ الضرّاء وفي ذلكَ يتحقَّقُ الخيرُ كما أخبرَ المُصْطفى صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لأمرِ المُؤمنِ إنَّ أمرَه كلَّه لهُ خيرٌ: إنْ أصابتْهُ سرّاءُ شَكَر فكانَ خيرًا لهُ، وإنْ أصابتْهُ ضرّاءُ صَبَر فكانَ خير لهُ، وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمؤمنِ» نعم، إنَّ غيرَ المؤمنِ تُبطِرُه النعمةُ، ويجزعُ للمصيبة .. فلا استفادَ ولا أُجِرَ في الحالينِ، بلْ كانَتْ السرّاءُ والضرّاءُ عليهِ نقمةٌ. أيُّها المسلمونَ: وينبغي أنْ نستعينَ بالصبرِ والصلاةِ- على ضعفِنا- فبذلكَ أُمرْنا ونستعينُ بدعاءِ اللهِ والتضرعِ للهِ فتلكَ عُبوديةٌ نتقربُ بها إلى خالقِنا، وما فتئَ الصالحونَ يستغيثونَ ربَّهم ويدعونَه حتى يُفرِّجَ كَرَبُهم ويجيبَ دعاءَهُم ويرحمَ ضَعفَهم. لا بدَّ أنْ نستثمرَ حالاتِ القوةِ والرخاءِ في عملِ الصالحاتِ، حتى إذا جاءتْ مرحلةُ الضعفِ أو كانتْ ظروفُ الشدةِ ولمْ نقدِرْ على بعض ما يُرضي ربَّنا، وإذا لنا رصيدٌ يُؤنسُنا ويكتبُ اللهُ لنا مثلَ أجرِهِ في حالِ عجزِنا ومرضِنا، لا بدَّ أنْ نستشعرَ قوّتَنا بالأخوةِ والتكاثرِ، والمرءُ قليلٌ بنفسِهِ كثيرٌ بإخوانه، ولا بدَّ منْ حفظِ الطاقاتِ وعدم الهدرِ. اللهم ارحم ضعفنا وقوي عزائمنا، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

ولا تسرفوا

ولا تسرفوا (¬1) الخطبةُ الأولى: الحمدُ للهِ أَمَرَ بالعدلِ والبرِّ والقوامِ والإحسانِ، ونهى عنِ الفحشاءِ والمنكرِ والمَخِيلةِ والإسرافِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، جاءتْ شريعتُه آمرةً بكلِّ خيرٍ، دالةً على كلِّ معروفٍ ناهيةً عن المجاوزةِ والفسوقِ والعصيانِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أَمَرَ بالقِسْطِ والإحسانِ، وجاءتْ سيرتُه نموذجًا للزهدِ والاعتدالِ، «فما أكلَ آلُ محمدٍ أكلتَيْنِ في يومٍ واحدٍ إلا وأحدُهما تمرٌ» (¬2)، وقالَ للناسِ كافّةً: «مَنْ أصبحَ آمِنًا في سِرْبِه، معافًى في جسدهِ، عندَهُ قُوتُ يومِه فكأنما حيزتْ لهُ الدنيا» (¬3). اللهمَّ اجعلْنا لك شاكرين ذاكرين .. وصلى اللهُ وسلَّمَ على نبيَّنا محمدٍ .. إخوةَ الإسلامِ: ظاهرةٌ اجتماعيةٌ تتفشَّى، وعادةٌ منَ العوائدِ باتَ الناسُ يتنافسونَ فيها، لمْ يَسلمْ منها الرجالُ فضلًا عنِ النساءِ، فلهنَّ فيها قَدَحٌ مُعلّى، ولمْ تكنْ قصرًا على الأغنياءِ، بلْ باتَ الفقراءُ يُشاركون غيرَهمْ فيها .. نهى عنها دينُنا، وحذَّرَنا منها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، وفي القرآنِ الكريمِ مواضعُ عِدّةٌ في النهيِ عن الإسرافِ وذمِّ المسرفينَ، ومنها عبارةٌ محدودةٌ لكنها جامعةٌ: {وَلاَ تُسْرِفُوا} (¬4). عبادَ اللهِ: وعينُ الناظرِ المتأمِّل لا تكادُ تُخطئُ مظاهرَ الإسرافِ، ومجالاتِ ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 10/ 6/ 1424 هـ. (¬2) رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها. (¬3) رواه الترمذي وابن ماجه. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 31.

الهدرِ في حياتِنا، إسرافٌ في المأكلِ والمشربِ، وإسرافٌ في الملبسِ والزينةِ، إسرافٌ في الولائمِ والمناسباتِ، وهدرٌ للأموالِ وإضاعةٌ للجهودِ والطاقاتِ، وفي عالمِ النساءِ والأطفالِ أنواعٌ ومستحدَثاتٌ منَ اللباسِ يُبالَغُ في ثمنِها، ويَقلُّ استخدامُها، وفَتشْ عنْ شيءٍ منْ ذلكَ تجدْهُ ظاهرًا أكثرَ في حفلاتِ الزواجِ ولقاءاتِ المناسباتِ. كلُّ ذلك وغيرُه أنواعٌ منَ الإسرافِ الحسّيِّ المادّيِّ .. وثمّةَ أنواعٌ منَ الإسرافِ المعنويِّ. أيُّها المسلمون: تقرأون في كتاب رَبِّكم: {وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (¬1). قالَ ابنُ عباسِ رضيَ اللهُ عنهما: أحلَّ اللهُ في هذهِ الآيةِ الأكلَ والشربَ ما لمْ يكنْ سرفًا أو مَخِيلةً، فأمّا ما تدعُو الحاجةُ إليهِ، وهُوَ ما سدَّ الجوعةَ وسكّنَ الظمأَ فمندوبٌ إليهِ عقلًا وشرعًا، لمَا فيهِ منْ حفظِ النفسِ وحراسةِ الحواسِّ .. إلى أنْ قالَ: وليسَ لمنْ مَنَعَ نفسَه قدْرَ الحاجةِ حظٌّ منْ بِرٍّ ولا نصيبٌ منْ زهدٍ؛ لأنَّ ما حَرَمَها مِنْ فعلِ الطاعةِ بالعجزِ والضعفِ أكثرُ ثوابًا وأعظمُ أجرًا (¬2). قالَ العارفونَ: في قِلةّ الأكلِ منافعُ كثيرةٌ، منها: أنْ يكونَ الرجلُ أصحَّ جسمًا وأجودَ حفظًا، وأزكى فهمًا، وأقلَّ نومًا، وأخفَّ نَفْسًا، وفي كثرةِ الأكلِ كظُّ المَعِدة ونَتَنُ التُّخمةِ، ويتولَّدُ منهُ الأمراضُ المختلفةُ فيَحتاجُ منَ العلاجِ أكثرَ ممّا يحتاجُ إليهِ القليلُ منَ الأكلُ. وفي هَدْيِ النبوّةِ دواءٌ وشفاءٌ وتوجيهٌ وإرشادٌ، وهُوَ القائل صلى الله عليه وسلم: «ما ملأَ ابنُ آدمَ وعاءً شرًا من بطنٍ، بحَسْبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَه، فإنْ كانَ لا مَحَالةَ ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 31. (¬2) تفسير القرطبي للآية، 7/ 191.

فثُلثٌ لطعامِه وثلثٌ لشرابِهِ وثُلثٌ لِنَفَسِه» (¬1). قالَ العلماءُ: لوْ سمعَ (بُقراطُ) هذه القسمةَ لعجبَ منْ هذهِ الحكمةِ (¬2). وحينَ قيلَ لأحدِ الأطباءِ النصارى: ما في القرآنِ والسُّنّةِ منْ آياتٍ وأحاديثَ تفوقُ ما وصفَهُ الأطباءُ، عَجِبَ منْ ذلكَ، ثمَّ قالَ: ما تركَ كتابُكمْ ولا نبيُّكمْ لجالينوس طِبًّا (¬3). وقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، مادحًا حالَ المؤمنِ في الزهدِ والقناعةِ فيما يأكلُ: «الكافرُ يأكلُ في سبعةِ أمعاء، والمؤمنُ يأكُلُ في مِعيَ واحدٍ» (¬4). والمعنى كما قالَ العلماءُ: حضٌّ على التقليلِ منَ الدنيا والزهدِ فيها، فهُوَ يتناولُ دونَ شِبَعهِ ويُؤثِرُ على نفْسِهِ، ويُبقي منْ زادِه لغيرِهِ، فيقنعُه ما أَكلَ (¬5). أمّا العربُ فكانتْ تُمتدحُ بقلّةِ الأكلِ وتُذَمُّ بكثرتهِ، كما قالَ قائلُهمْ (أعشى باهِلةَ .. ): تكفيهِ فَلِذَةُ كَبْدٍ إنْ ألمَّ بها مِنَ الشِّواءِ ويَرْوي شُرْبَه الغُمَرُ (¬6) والمعتمدُ في ذلكَ ما جاءَ في «صحيحِ» البخاريِّ (معلِّقًا): «كُلوا واشربوا والبَسوا وتصدَّقوا في غيرِ إسرافٍ ولا مَخِيلةٍ» (¬7). إخوةَ الإيمانِ: يُروى أنَّ أبا جُحيفةَ (وهبَ بنَ عبد اللهِ السُّوائيَّ) رضيَ اللهُ عنهُ أكلَ ¬

(¬1) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم بسند صحيح، «صحيح الجامع». (¬2) تفسير القرطبي 7/ 192. (¬3) تفسير القرطبي 7/ 192. (¬4) أخرجه مسلم. (¬5) تفسير القرطبي 7/ 193. (¬6) الغمر: القدح الصغير. (¬7) البخاري «كتاب اللباس».

ثَريدًا بلحمٍ سَمينٍ، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهوَ يتجشَّى (والتجشؤُ: تَنَفُّسُ المَعدةِ عندَ الامتلاءِ). فقالَ لهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أكفُفْ عليكَ منْ جُشائِكَ أبا جُحيفةَ، فإنَّ أكثرض الناسِ شِبَعًا في الدنيا أطولُهم جُوعًا يومَ القيامةِ»، فما أكلَ أبو جحيفةَ بملءِ بطنهِ حتى فارقَ الدنيا، وكانَ إذا تغدَّى لا يتعشَّى، وإذا تعشى لا يتغدى (¬1). ويُروى كذلكَ منْ وصايا لقمانَ لابنهِ: يا بنيَّ لا تأكلْ شبعًا فوقَ شبعٍ، فإنكَ إنْ تَنْبِذْه للكلبِ خيرٌ منْ أنْ تأكلَه (¬2). ولقدْ قيلَ: منَ السرفِ أنْ تأكلَ كلَّ ما اشتهيتَ؛ لأنَّ كثرةَ الأكلِ تدعو إلى كثرةِ الشرب، وذلكَ يُثقلُ المَعِدةَ، ويُثبطُ الإنسانَ عنْ عبادةِ ربِّه، والأخذِ بحظِّهِ منْ نوافلِ الخيرِ، فإنْ تعدَّى ذلكَ إلى ما فوقَه ممّا يمنعُه القيامَ بالواجبِ عليهِ حُرّم عليهِ، وكانَ قدْ أسرفَ في مطعمِهِ ومشربهِ (¬3). أيُّها المسلمونَ: لقدْ أسرفْنا في مأكولاتِنا ومشروباتِنا. مُقبِّلاتٌ قبلَ الطعامِ، وأنواعٌ منَ الطعامِ، وأشكالٌ منَ اللحومِ: مشويٌّ، ومضبيٌّ، وأحمرُ وأبيضُ، وكبابٌ ورِيَشٌ .. وأنواعٌ أخرى، وأَصنافٌ من (الزلطاتِ) والمشروباتِ، وفي الختامِ لا بدَّ من حلوى ومُهضِّماتٍ! ومَنْ يرقُبْ حالَ الناسِ وأعدادَ المراجِعينَ للمستشفياتِ يَرَى عَجبًا .. فمَعَ تقدُّمِ الطبِّ، إلا أنّ أعدادَ المرضى في تزايدٍ، وأنواعَ الأمراضِ في تصاعدٍ، تعرفُ منها وتُنكِرُ، حتى ظهرتْ أسماءُ أمراضٍ لمْ تكنْ معروفةً منْ قبلُ .. ولا ¬

(¬1) تفسير القرطبي 7/ 194. (¬2) السابق 7/ 195. (¬3) تفسير القرطبي 7/ 194.

شكَّ أنَّ الإسرافَ في المأكولاتِ والإخلادَ إلى الراحةِ والكسلِ .. والشَّرَهَ في استخدامِ المعلَّبات والمستورَداتِ سببٌ منْ أسبابِ انتشارِ هذهِ الأمراضِ، ومِنَ الحِكَمِ النافعةِ: (المعدةُ بيتُ الأدواءِ، والحِمْيةُ رأسُ كلِّ دواءٍ، وأعط كلَّ جسدٍ ما عودتَهُ). عبادَ اللهِ: والأمرُ أدهى وأمرُّ حينَ يتجاوزُ أثرُ الإسرافِ في المطعمِ والمشرب مَرَضَ الأبدانِ إلى مرضِ القلوبِ، فيتثاقلُ المسلمُ عنِ الواجباتِ المفروضةِ، ومِنْ أهمِّها الصلاةُ، فلا يأتيها إلا متأخِّرًا كسولًا، وربِّما أكلَ وشَبعَ واستغرقَ به النومُ حتى فوَّت الفريضةَ عنْ وقتِها، أو حَرَمَ نفْسَه أجرَ الجماعةِ والحضورِ للمساجدِ، وربما أسرفَ في الإنفاقِ ومَنَعَ الواجبَ منَ الزكاةِ أو المأمورِ به منَ الصدقاتِ، أو يزيدُ في الإسرافِ فينتهكُ محارمَ اللهِ بأكلِ محرّمٍ أو شربِ محرَّمٍ، أو يمتدُّ على أريكتهِ- بعدَ أنْ شَبعَ منْ نِعَمِ ربِّه- ليُسمعَ أذنَيْهِ الحرامَ منَ الغناءِ .. أو يُريَ عينيهِ مشاهدَ العُهرِ والفجورِ .. وربما تجاوزَ فاستحلَّ الفروجَ المحرَّمةَ وهَتَكَ الأستارَ واستهترَ بالقيَم. أهكذا يكونُ الشكرُ يا عبادَ اللهِ؟ ! أفيُنعِمُ عليكَ ربُّك بنِعَمِه ثمَّ تجاهرُه بالمعصيةِ؟ أيقاَبلُ الإحسانُ بالإساءةِ، والعطاءُ بالجحودِ والنكرانِ؟ ليستْ تلكَ منْ شِيَم الكرماءِ العقلاءِ فضلًا عن المسلمينَ وأهلِ القرآن، أمَا يَخشى المسرفونَ العقوبةَ في الدنيا والآخرةِ، واللهُ يقولُ: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (¬1). ¬

(¬1) سورة طه، الآية: 127.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: أيُّها المسلمونَ: وإذا عرفْنا شيئًا منْ مظاهرِ الإسرافِ المادِّيِّ في حياتِنا، وما أردتُ الإحصاءَ لكلِّ مظاهرهِ قدْرَ ما أردتُ التنبيهَ على مخاطرِ الإسرافِ وأثرِه- فلا بدَّ أنْ نعرفَ أنواعًا ومظاهرَ أخرى من إسرافنا في مجالاتٍ أخرى، وهيَ لا تقلُّ أثرًا وخطرًا، وقدِ اختارَ ابنُ جريرٍ- رحمهُ الله- قولَ عطاءٍ في أنَّ النهيَ عنِ الإسرافِ في آيةِ الأنعامِ عامٌّ في الإسرافِ في كلِّ شيءٍ (¬1). واعتبرَها ابنْ زيدٍ خطابًا للوُلاةِ، يعني: لا تأخذوا فوقَ حقِّكمْ وما لا يجبُ على الناسِ (¬2). وقالَ إياسُ بنُ معاويةَ: ما جاوزتَ به أمرَ اللهِ فهو سرفٌ وإسرافٌ (¬3). أخي المسلمُ: ألا تُحسُّ بشيءٍ من إسرافِنا وهَدْرنِا للأوقاتِ؟ والوقتُ هوَ الحياةُ، كمْ نستمرُ من ساعاتِ الليلِ والنهارِ فيما ينفعُنا في دينِنا أوْ دنيانا؟ وفي القرآنِ تذكيرٌ لنا بقيمةِ الزمنِ، إذْ أقسمَ اللهُ بهِ في أكثرَ منْ موضعٍ: {وَالْفَجْرِ} {وَالضُّحَى} {وَاللَّيْلِ} {وَالْعَصْرِ}، إلى غيرِ ذلك من إشاراتٍ لا تخفى لمنْ تأمَّلَ. يا عبدَ اللهِ: منَ العقلِ والحكمةِ أنْ تسألَ نفسَكَ: ماذا زرعتَ لآخرتِكَ في وقتِكَ؟ وما نوعُ مَكاسبِكَ في الدنيا منَ الوقتِ؟ أهيَ محقِّقةٌ للسعادةِ أمْ جالبةٌ للشِّقوةِ والنكدِ؟ يا مسلمُ يا عبدَ اللهِ: كمْ تُهدرُ منْ سمْعِكَ، وكمْ تُسرفُ في نظرِك، واللهُ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير للآية 141 من الأنعام، 3/ 343. (¬2) نقله القرطبي 7/ 110. (¬3) السابق 7/ 110.

تعالى يذكِّركَ بالمسئوليةِ، ويقولُ: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئولًا} (¬1). اسألْ نفْسَكَ: كمْ نسبةَ ما تسمعُ منَ الحرامِ غيبةً أوْ نميمةً، أوْ فجور أوْ فسوقًا أوْ غِناءً أوْ مجونًا، وكم نسبةَ ما تَسمعُ منَ الحلالِ: قرآنٍ، دعوةٍ للخيرِ، إصلاحٍ بينَ الناسِ، كلماتٍ طيّبةٍ عَبْرَ محاضرةٍ أوْ ندوةٍ حيَّة أوْ مسجَّلةٍ؟ ماذا تنظرُ وتشاهِدُ وأنتَ مؤتمَنٌ على الوقتِ والجوارحِ؟ واعلمْ أنَّ عينيكَ إنْ لمْ تكتحلْ برؤيةِ ما تهوى لأنه حرام، فاعلم أن المتقين أعد الله لهم في الجنة عوضًا، ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر بقلب بشر. يا أخا الإسلامِ: هلْ تفكِّرُ كيفَ وبمَ تقضي وقتَكَ؟ أمْ يكفيكَ أنْ تملأَ الوقتَ ويذهبَ الزمنُ كيفَ ما كانَ؟ وإذا كانَ وقتُكَ ووقتُ الآخرينَ سواءً فهلّا تأمَّلتَ وقارنتَ بينكَ وبينَ أشخاصٍ آخرينَ خلَّفوا منَ الأَثرِ، وبقيَ لهمْ منَ الذِّكْرِ ما ليسَ لكَ، فَلِمَ خَلّفوا وأهملت؟ أيها المسلمونَ: ومنْ إسرافِنا كثرةُ الكلامِ دونَ فائدةٍ، فأحدُنا مستعدٌّ للحديثِ ساعةً أو أكثرَ، وقدْ يكونُ معظمُ الحديثِ لا فائدةَ منهُ، إنْ لمْ يكنْ لَغْوًا محرَّمًا، ولوْ قيلَ لهُ: كمْ ذكرتَ اللهَ في هذا اليومِ؟ لمْ يجدْ إلا القليلَ، ولو قُلتَ له: ما حزبُكَ اليوميُّ منَ القرآنِ؟ لسمعتَ عجبًا! هل ذكّرتَ غافلًا، هلْ علَّمتَ جاهلًا؟ هلْ دعوتَ إلى اللهِ؟ .. إلى غيرِ ذلكَ منْ أعمالٍ تورثُ البرَّ والخيرَ، إيَّاك أنْ يكونَ نصيبُكَ منهُ قليلًا! ومنْ مظاهرِ إسرافِنا: إسرافُنا في النومِ، وإذا كانَ المرءُ لا يُمدحُ بكثرةِ النومِ فالمذمَّةُ أعظمُ حينَ تفوِّتُ بالنومِ صلاةً مكتوبةً، أوْ واجبًا أنت مسئولٌ عنهُ .. فإنْ ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 36.

لمْ يكنْ هذا ولا ذاكَ ففي كثرةِ النومِ من إضاعةِ الوقتِ وتفويتِ الفُرصِ ما يكفي لعَيْبِه ومذمّتِهِ. أيُّها المسلمونَ: احذروا الإسرافَ بكلِّ أشكالِه ومظاهرِهِ، فاللهُ لا يحبُّ المسرفينَ، واللهُ لا يهدي مَنْ هُوَ مسرفٌ كذّابٌ، والمسرفونَ همْ أصحابُ النارِ، ومَعَ ذلكَ لا تَقنطوا منْ رحمةِ اللهِ إذا تُبتمْ وأنبتُمْ إلى ربِّكم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬1). وعليكمْ بالاقتصادِ والاعتدالِ في أكلِكمْ وشُربكمْ، وفي منامِكمْ ويقظتِكمْ، في نفقاتِكمْ وملبسِكمْ، في بيوتكمْ ومناسباتِكمْ، وفي حالِ سفرِكم وإقامتِكمْ، في حديثِكمْ وصمتكم، وفي أسماعِكمْ وأبصارِكمْ، في حالِ غناكمْ أو فقرِكمْ، ولذُكورِكم وإناثكمْ، وكبارِكم وصغارِكمْ، ألا ما أجملَ الاقتصادَ حينَ يتمثلَّهُ الأغنياءُ المقتدِرونَ! وما أروعَ الاعتدالَ حينَ يتصدَّرُه الكرماءُ الباذلونَ، وكلُّهمْ يقولونَ: شعارُنا: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (¬2). وإذا كانَ يعابُ على العائلِ المستكبرِ فكذلكَ يُعابُ على الفقيرِ المُسرِفِ .. وكمْ تعجبُ لأسرةٍ تُجمَعُ لها الصدقاتُ منَ المحسنينَ فإذا بها تُنفِقُها في كمالياتِ الحياةِ، والأمرُ أخطرُ إذا استعانتْ بها على شراءِ المحرَّماتِ. وكمْ يُدهشُكَ شابٌّ يُجمَعُ مهرُه منَ الجمعياتِ الخيريةِ وصدقاتِ المحسنينَ، فإذا أبصرتَ رقاعَ الدعوةِ وجدتَها في أفخمِ القصورِ! ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 53. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 67.

وكمْ تألمُ حينَ تسمعُ عنْ قيمةٍ خياليةٍ لثوبِ سهرةٍ، وقدْ يكونُ الزوجُ منْ ذوي الدخلِ المحدودِ، وقدْ تَلْبَسُه المرأةُ مرةً أو مرتينِ ثمَّ ترمي بهِ جانبًا. ألا فلْنتقِ اللهَ جمعيًا فيما أنعمَ بِهِ علينا، وبَدَلَ أنْ نُسرفَ لنُفِيءْ على مَن بهِ حاجةٌ، وإذا جاءَ الإسرافُ في مخيّلتِنا فلْنتذكرْ مَنْ مسَّتهمُ الحاجةُ مِنْ إخوانِنا في مشرقِ الأرضِ أوْ مغربِها، ولْنمدَّ يدَ المساعدة إِليهمْ. لا بدَّ منْ تقييد النِّعم وشُكرِ المنعِمِ، وتقديمِ النموذجِ الأمثلِ، فالنِّعمُ إذا شُكِرتْ قرَّتْ، وإن كُفِرتْ فرَّتْ، لا بدَّ منْ توعيةٍ لأبنائنا وبناتِنا ونسائِنا، لا بدَّ أنْ يكونَ النهيُ عنِ الإسرافِ حديثًا في مجالسِنا، ولا بدَّ منْ إبرازِ قيمةِ الاقتصادِ وتطبيقاته في واقعنا، وذمِّ الإسرافِ في مدارسِنا وإعلامِنا، وعلى المربِّينَ والأئمةِ والدعاةِ والوعّاظِ أن يذكِّروا الناسَ بهذا الأمرِ. لا بدَّ أنْ نتعاونَ على البرِّ، وكمْ هوَ جميلٌ أن تتبنَّى البلدياتُ أكياسًا خاصةً لبقايا الطعامِ تُوزَّعُ في البيوتِ والمناسبات، تُوزَّع على من يحتاجُ إليها. ولا بد أن تنشط جمعيات البرِ والمستودعات الخيرية أكثر على إيصال بقايا الطعام لمن يحتاجون إليه، وكم هو جميل أن يبعث الجار إلى جاره ما فضل من طعامه بدل أن يرميه فقد يكون جاره محتاجًا إليه. اللهم أغن فقراء المسلمين ووفق الأغنياء للشكر والبذل، واعصمنا جميعًا من الإسراف والتبذير.

(2) الثلاثة الذين خلفوا

(2) الثلاثة الذين خلفوا (¬1) الخطبةُ الأولى: الحمدُ للهِ فارجِ الكُرباتِ ومغيثِ اللهفات، بيدهِ مقاليدُ السماواتِ والأرض، وعندهُ مفاتيحُ الغيبِ لا يَعلمُها إلا هو، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، يعلمُ ما في البرِّ والبحرِ وما تسقطُ منْ ورقةٍ إلا يعلمُها ولا حبةٍ في ظلماتِ الأرضِ ولا رطْبٍ ولا يابسٍ إلا في كتابٍ مبين. وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، جاهدَ في اللهِ حقَّ جهادِه، وتركَ أمتَهُ على مَحجَّةٍ بيضاءَ لا يزيغُ عنها إلا هالكٌ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ عليهِ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلين. ورضيَ اللهُ عنِ الصحابةِ أجمعين، أولئكَ الذي أُوذوا وصبروا ومسَّتهمُ البأساءُ والضراء، حتى مكَّنَ اللهُ لهمْ في الأرضِ وفتحَ لهمْ قلوبَ العباد .. وعن التابعينَ لهمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أوصيكمْ ونفسيَ معاشرَ المسلمينَ بتقوى الله، وتلكَ وصيته لمنْ قبلَنا ووصيتهُ لنا: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬3). أيها المسلمون: كانت الخُطبةُ الماضيةُ حديثًا مُعرِّفًا بالثلاثةِ الذين خُلِّفوا من ¬

(¬1) ألقيت هذهالخطبةُ يوم الجمعة الموافق 11/ 1/ 1424 هـ. (¬2) سورة النساء، الآية: 131. (¬3) سورة التوبة، الآية: 119.

صحابةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكيفَ عاشَ هؤلاءِ الأصحابُ رضيَ اللهُ عنهمْ ظروفَ المحنةِ حين تخلَّفوا .. وكيفَ عاشوا وعاشَ المسلمونَ معهمْ ظروفَ التوبةِ حينَ تابَ اللهُ عليهم، كما شملَ الحديثُ قيمةَ الصدقِ معَ اللهِ وأثرَهُ على الصادقين، وكيفَ تزيدُ المواقفُ الصعبةُ عظماءَ الرجالِ عظمةً إلى عظمتهمْ ويقينًا إلى يقينهم، وأثرُ التوبةِ في رِفعةِ أصحابها إذا أنابوا إلى ربِّهم، وأستكملُ اليومَ أحداثًا ودروسًا أخرى في الحادثة، ومن ذلك: الحرصُ على المبادرةِ بأعمالِ الخير، والحذرُ من التسويف، فاللهُ تعالى يقول: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (¬1)، ويقولُ تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} (¬2). والرسولُ صلى الله عليه وسلم يقول: «بادِروا بالأعمالِ فِتَنًا كقطعِ الليلِ المظلم، يصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويُمسي مؤمنًا ويصبحُ كافرًا، يبيعُ دينهُ بعرضٍ من الدنيا» (¬3). وأما التسويفُ والتباطؤُ والتثاقلُ في عملِ الخيرِ الممكن .. فذاكَ المخدِّرُ الشديدُ الذي ينبغي أنْ يُحذَرَ، وهو سببٌ في التحسُّرِ والتألُّمِ والضيقِ والضجر، وانظروا إلى كعبِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنهُ وهوَ يصفُ لنا أثرَ التسويفِ والتردُّد في فعلِ الخيرِ ويقول: «فطفقتُ أغدو لكي أتجهزَ معهم، فأرجعُ ولمْ أقضِ شيئًا، فأقولُ في نفسي: أنا قادرٌ عليه، فلمْ يزلْ يتمادى بي حتى استمرَّ بالناس الجِدُّ، فأصبحَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه، ولمْ أقضِ منْ جهازي شيئًا، ثمَّ غدوتُ فرجعتُ ولمْ أقضِ شيئًا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارطَ الغزوُ، ¬

(¬1) سورة الحديد، الآية: 21. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 133. (¬3) أخرجه مسلم (118) في الإيمان، والترمذي (2196)، جامع الأصول 10/ 30.

فهممتُ أنْ أرتحلَ فأدرِكَهم، فياليتني فعلتُ، ثمَّ لمْ يُقدرْ ذلكَ لي (¬1). فهلْ نحذرُ التسويفَ يا عبادَ الله .. وهلْ نُحاذرُ الكسلَ والتباطئَ في عملِ الخير، وهلْ نسلكُ الجدَّ والحزمَ كما قالَ ابنُ الجوزي: فينبغي للحازمِ أنْ يعملَ على الحزم، والحزمُ تَدَارُكُ الوقتِ وتركُ التسويف (¬2). 2 - أصنافُ المجتمع، ومِنْ أيِّهمْ أنت؟ في أيِّ مجتمعٍ مؤمنونَ أقوياء، ومؤمنونَ ضعفاءُ لكنهمْ معذورونَ لضعفهم، ومنافقون، ومتخلفونَ لا عنْ نفاقٍ لكنْ عنٍ تسويفٍ أو كسل، وفي حديثِ كعبٍ رضيَ اللهُ عنهُ تشخيصٌ لهذهِ الفئاتِ يقول: فكنتُ إذا خرجتُ في الناسِ بعد خروجِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فطفتُ فيهمْ أحزَنني أني لا أرى إلا رجلًا مغموصًا عليهِ في النفاق، أو رجلًا ممنْ عذرَ اللهُ من الضعفاء. وإذا تحدثَ كعبٌ عنْ صنفينِ ممنْ بقي، فهوَ وصاحباهُ يمثلانِ منْ تخلَّفَ دونَ عذرٍ لكنْ دونَ نفاق، وهذا صنفٌ ثالثٌ، أما الرابع .. فهمُ المجاهدونَ والسابقونَ معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأولئكَ أصحابُ القدحِ المعلَّى. يا عبد الله: وإذا دُعي الناسُ للخيرِ فمنْ أيِّ الأصنافِ تُراكَ تُصنِّفُ نفسك؟ إنه لمُحزنٌ أنْ يحشرَ المؤمنُ نفسَهُ معَ المنافقين .. أو يُنزلَها منازلَ المعذورين، أو يقعدَ بها ببضاعةِ التسويف، ومن المعالي أنْ يكونَ معَ المسارعينَ للخيرات. 3 - عبادَ الله: لِمنْ يكونُ الولاءُ؟ والحذرُ منْ مؤامراتِ الأعداء: ولاءُ ¬

(¬1) مسلم ح 2769. (¬2) تلبيس إبليس 404.

المؤمنِ للهِ ولرسولهِ وللمؤمنين {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (¬1). أما البراءةُ منَ الكفارِ عمومًا، واليهودِ والنصارى على وجهِ الخصوص، وهوَ ما يعيشهُ المسلمونَ هذهِ الأيام، فقدْ جاءَ التحذيرُ منها في كتابِ اللهِ في قولهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬2). قالَ القرطبي- رحمهُ الله- في تفسيرِ هذهِ الآية: قولُه تعالى: {لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} يدلُّ على قطعِ المولاة شرعًا (¬3). وقولُه تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ} أي: يَعضدُهمْ على المسلمين {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} يعني أنَّ حُكْمَهُ كحُكْمِهم، وهوَ يمنعُ إثباتَ الميراثِ للمسلمِ منَ المرتِّد، ثمَّ قالَ القرطبيُّ: وكانَ الذي تولاهمُ ابنُ أبيّ (رأسُ المنافقين)، ثمَّ هذا الحكمُ باقٍ إلى يومِ القيامةِ في قطعِ الموالاة، وقدْ قالَ تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ... } (¬4) (¬5). وفي قصةِ كعبٍ نموذجٌ لمؤامراتِ الأعداءِ ومحاولةِ تفكيكِ المجتمعِ المسلمِ في زمنِ النبوة، ولكنَّ الصحابةَ كانوا مدركينَ لهذهِ الفتنة، يقولُ: كعب: فبينا أنا أمشي بسوقِ المدينةِ إذا نبطيٌّ منْ أنباطِ أهل الشامِ ممنْ قدمَ بالطعامِ يبيعهُ بالمدينةِ يقول: منْ يَدلُّ على كعبِ بنِ مالك؟ قال: فطفقَ الناسُ يُشيرونَ لهُ إليّ، حتى جاءني فدفعَ إلي كتابًا منْ ملكِ غَسَّانَ، وكنتُ كاتبًا فقرأتُهُ فإذا فيه: أما ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 55. (¬2) سورة المائدة، الآية: 51. (¬3) 6/ 216. (¬4) سورة هود، الآية: 113. (¬5) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/ 217.

بعدُ: فإنهُ قدْ بلَغَنا أنَّ صاحبكَ قدْ جفاك، ولمْ يجعلْكَ اللهُ بدارِ هَوَانٍ ولا مَضْيَعةٍ، فالْحَقْ بنا نُواسِكَ، قالَ (كعب): فقلتُ حينَ قرأتُها: وهذهِ أيضًا منَ البلاء، فَتَيامَمْتُ بها التَّنورَ فَسَجَرْتُها بها (¬1). وما أحوجَنا في مثلِ هذهِ الأزمانِ إلى مثلِ صنيعِ كعب، حيثُ أحرقَ مودَّتهمْ معَ حاجتهِ إليهم، حيثُ يحرصُ الأعداءُ على خلخلةِ المجتمعِ المسلمِ والتدسسِ بينَ أفراده، ويظهرونَ أنهمْ ناصحونَ مواسونَ يدافعونَ عنِ المسلمينَ واللهُ أعلمُ بما يُريدون، ولقدْ كانَ ردُّ كعبٍ مميتًا لفتنةٍ وقاضيًا على طمعِ الكفارِ في المسلمين، فقدْ جاءَ عنْ كعبٍ في روايةِ ابنِ أبي شيبةَ قوله (كعب): إنا لله، قد طمعَ فيَّ أهلُ الكفر (¬2). وعندَ ابنِ عائذ أنَّ كعبًا شكا أمرَهُ إلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم وقال: ما زالَ إعراضُكَ عني حتى رغبَ فيَّ أهلُ الشِّركِ (¬3). قالَ ابنُ حجر معلقًا: ودلَّ صنيعُ كعبٍ هذا على قوةِ إيمانهِ ومحبتهِ للهِ ولرسوله، وإلا فمنْ صارَ في مثلِ حالهِ منَ الهجرِ والإعراض، قدْ يضعفُ عنِ احتمالِ ذلك، وتحمِلُهُ الرغبةُ في الجاهِ والمالِ على هُجرانِ منْ هجَرَه، ولا سيما معَ أمنهِ منَ الملكِ الذي استدعاهُ إليهِ أنهُ لا يُكرههُ على فراقِ دينهِ، لكنْ لما احتملَ عندَهُ أنهُ لا يأمَنُ من الافتتان، حسمَ المادةَ وأحرقَ الكتابَ ومنعَ الجواب (¬4). وهكذا يكونُ المؤمنُ صادقًا في ولائهِ معَ المؤمنين، وفي عداوتهِ وبراءتهِ منَ ¬

(¬1) مسلم (2769). (¬2) ابن حجر، الفتح 8/ 121. (¬3) الفتح 8/ 121. (¬4) الفتح 8/ 121.

الكفارِ في حالِ القوةِ أو حالِ الضعف، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (¬1). 4 - صديقُكَ منْ صَدَقكَ لا منْ صدَّقَك: ثمةَ أصدقاءُ ربما أظهروا لكَ التعاطفَ حينَ تخطئ، أو حينَ تكونُ محتاجًا للنُّصح، وربما سهَّلوا لكَ الخطأ، أو حسَّنوا لكَ العزةَ بالإثم .. وأولئكَ قدْ يرقُّون لكَ وقدْ تنساقُ لنُصحهم- غيرَ مُقدِّرٍ للعواقب- وثمةَ أصدقاءُ آخرونَ ربما قَسَوا عليك لكنْ لمحبَّتهمْ لكَ وإخلاصِهمْ في نُصْحكَ قَسَوا، وحالُهمْ كمنْ قسى ليزدجروا، وربما لمْ يُجاملوكَ وإنْ غضبتَ عليهم، لكنهمْ يُثمنون العواقبَ، ويرونَ نَصَبَكَ في الدنيا أهونَ منْ عذابِ الآخرة، أولئكَ فاحرصْ عليهمْ وتمسَّكْ بنُصْحِهم، وقدِ استطاعَ كعبٌ أن يتجاوزَ نُصحَ ومشورةَ الصنفِ الأولِ فأفلحَ وأنجح، وها هوَ يقول: على إثرِ صِدْقهِ معَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وأنه لا عُذْر له، فقمتُ- يعني من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثارَ رجالٌ منْ بني سَلِمة فاتبعوني، فقالوا لي: واللهِ ما علمناكَ أذنبتَ ذنبًا قبلَ هذا، ولقدْ عجزتَ في ألا تكونَ اعتذرتَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما اعتذرَ إليه المخلَّفون، فقدْ كانَ كافيكَ ذنبُكَ واستغفارُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لك، يقولُ كعب: فواللهِ ما زالوا يؤَنِّبونني حتى أردتُ أنْ أرجعَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فأكذِّبَ نفسي (¬2). كمْ نحنُ محتاجونَ للصدقِ معَ اللهِ ومعَ أنفسِنا- يا عبادَ الله- وهذا كعبٌ يبينُ لنا في نهاية قصّته إنهُ لمْ يُنجِهِ إلا الصدقُ، بلْ يعتبرها أعظمَ نعمةٍ بعدَ الإسلام، وما أحوَجنا كذلكَ إلى تجاوزِ الكذب، والحذر ممنْ يُلبِّسُ به، حتى وإنْ قيل لمن لا يحسن الكذب إنَّ هذا مسكينٌ وطيِّبُ القلبِ ولا يُحسنُ المخارج .. إلى غيرِ ذلكَ منْ عباراتٍ جارحهٍ للصدقِ والصادقين .. ومدحٍ وتلميعٍ للكذبِ ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآية: 2. (¬2) مسلم (2769).

والكاذبين، واللهُ تعالى يدعونا للصدقِ وهوَ أصدقُ القائلين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬1)، ويحذرنا من الكذب ويقول: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (¬2). 5 - الدفاعُ عنْ عِرْضِ المسلم .. وقعَ في قصةِ كعبٍ ما يُذكِّرنا بنموذجينِ للتعاملِ مع الخطأ والتقصير، أما النموذجُ الأولُ فهوَ المستعجلُ بالحكمِ المصدرُ للتُّهم، وما أسهلَ هذا على بعضِ الناسِ، وما أعظمهُ عندَ الله، والرسولُ صلى الله عليه وسلم يُحذرُ ويقول: «كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرام؛ دمهُ ومالهُ وعِرْضُه». أما النموذج الثاني فهوَ المتريِّثُ بالحكمِ المدافعُ عن عِرْضِ أخيه إذا اعتُديَ عليهِ بغيرِ حقٍّ، وما أحوجَ مجالسَنا لمثلِ هؤلاء، وأولئكَ يستحقونَ العتقَ منَ النار، كما قال صلى الله عليه وسلم: «منْ ذبَّ عنْ عِرْضٍ أخيهِ بالغَيْبِة، كانَ حقًا على اللهِ أنْ يعتقَهُ منَ النار» (¬3). والنموذجانِ يَظْهرانِ بجلاءٍ في قصةِ كعب، فحينَ سألَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنْ كعبٍ حينَ بلغَ تبوكَ، قالَ رجلٌ منْ بني سلمة: يا رسول الله، حبسه بُرادهُ والنظرُ في عطفَيْه، فقالَ لهُ معاذُ بنُ جبل: بئسَ ما قلتَ، واللهِ يا رسولَ الله، ما علمْنا عليه إلا خيرًا (¬4). ومعَ ذلكَ، وفيما يخصُّ الرجلينِ المتحدثينِ عن كعبٍ حينَ تخلَّف، قالَ ابنُ حجر: وفيهِ جوازُ الطعنِ في الرجلِ بما يغلبُ على اجتهادِ الطاعنِ عن حميَّةٍ ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 119. (¬2) سورة النحل، الآية: 105. (¬3) رواه أحمد والطبراني وصححه الألباني، صحيح الجامع 5/ 290. (¬4) مسلم 4/ 2122.

للهِ ورسوله، وفيها: جوازُ الردِّ على الطاعنِ إذا غلبَ على ظنِّ الرادِّ وَهْمُ الطاعنِ أو غلَطُه (¬1). وهوَ تحريرٌ جميلٌ ودفاعٌ عن الصحابيينِ لاجتهادهما، ولكنَّ الاحتياطَ في حمايةِ عرضِ المسلمِ مطلب، والأصلُ في المسلمِ السلامةُ والخير. 6 - ومنْ دروسِ القصةِ أنَّ التخلفَ عنِ الجهادِ في زمنِ النبوةِ معصيةٌ يُعاقِبُ عليها الرسولُ صلى الله عليه وسلم ويَهجرُ مِنْ أجلِها المسلمون، وتضيقُ الأرضُ بما رَحُبتْ على المتخلِّفين. ثمَّ يدورُ الزمانُ، وتتخلفُ الأمةُ عن الجهاد .. بلْ يُعتبرُ المجاهدون نَشازًا غريبًا يُتهمونَ بالإرهاب، ويطارَدُونَ ويلاحقون .. والله المستعانُ. اللهمَّ اجعلْنا هُداةً مهتدين، لا ضالينَ ولا مضلِّين، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ. ¬

(¬1) الفتح 8/ 124.

الخطبة الثانية

الخطبةُ الثانية: أيها المسلمون: 7 - ومنْ دروسِ قصةِ الثلاثةِ الذين خُلِّفوا: أنَّ الشكرَ قرينُ المؤمن، وأن مقامَ الشاكرينَ مقامٌ عليٌّ وبالشكرِ تدومُ النِّعَمُ وتزداد، وهذا كعبُ بنُ مالكٍ رضيَ اللهُ عنهُ يضربُ لنا نموذجًا يُحتذى في الشكر، فهوَ يسجدُ للهِ شْكرًا حينَ بلغهُ الصوتُ المبُشرُ بالخير، ويقول: يا كعبَ بنَ مالك، أبشر، يقولُ كعبٌ: فخررتُ ساجدًا وعرفتُ أنْ قد جاءَ فَرَجٌ، وحينَ جاءَهُ الرجلُ الذي سمعَ صوتَهُ بالبشرى، نزعَ لهُ كعبٌ ثوبيهِ فكساهما إياهُ لبشارته، وحينَ بلغَ كعبٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وبشّرهُ بخيرِ يومٍ مرَّ عليهِ منذُ ولدته أمُّه .. قالَ كعبٌ: يا رسولَ الله، إنَّ منْ توبتي أنْ أنخلعَ منْ مالي صدقةَ إلى اللهِ وإلى رسولهِ صلى الله عليه وسلم (¬1). وهذهِ السلوكياتُ منْ كعبٍ كلُّها تسيرُ في اتجاهِ الشكر والفرحةِ بفضلِ اللهِ وفَرَجِه، وهكذا ينبغي أنْ يكونَ شأنُ المسلمِ شاكرًا، وكلما تذكرَ نعمةً منْ نعمِ اللهِ أتبَعَها بالشكر. وهنا، وفي مقامِ الشكرِ والشاكرين، لا بدَّ أنْ نتذكرَ أنهُ مقامُ الأنبياءِ بالدرجةِ الأولى منذُ نوحٍ عليهِ السلامُ الذي قال اللهُ عنه: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} (¬2) إلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي قام حتى تفطَّرت قدماهُ من القيام وهو يقول: «أفلا أكون عبدًا شكورًا». وبينَ هذينِ النبيينِ الكريمينِ أنبياءُ آخرونَ شاكرون، فسليمانُ عليهِ السلامُ قال: {رَبِّ ¬

(¬1) مسلم 4/ 2127. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 3.

أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} (¬1). وآلُ داودَ قالَ اللهُ عنهم: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (¬2). وموسى عليهِ السلامُ صامَ عاشوراءَ شكرًا للهِ على نُصرةِ المؤمنينَ وهلاكِ الطغاةِ والمستكبرين. إخوةَ الإسلام: وحينَ يكونُ الحديثُ عنِ الشُّكر في الأيامِ التي وقعَ فيها ما يوجبُ الشُّكرَ- وهو عاشوراء- فلا غَرْوَ أنْ نشيرَ كذلكَ إلى معانٍ أخرى من المعاني العظيمةِ لهذا اليومِ العظيمِ (عاشوراء). فمَنْ يستنطقْ شهادةَ هذا اليومِ يجدْهُ يُحِّدثُ أنَّ العاقبةَ للتقوى، وأنَّ النصرَ لأولياءِ اللهِ مهما أُوذوا واستضُعفوا، وأنهُ تعالى بقُدْرتهِ يَمُنُّ على الذين استُضعفوا في الأرضِ ويجعلُهمْ أئمةً ويجعلهمُ الوارثين، ويُمكِّن لهمْ في الأرضِ وإنْ كانوا مُشرَّدينّ مطاردين. أما الكافرُ فهوَ وإن غرَّتَهُ قوتُه، وانخدعَ بمهلةِ الزمان، واستدراجِ الرحمنِ فعاقبتُهُ إلى بَوار، وفي نهايتهِ عبرةٌ لأولي الألباب. وفي مشهدِ عاشوراءَ عجزَ الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (¬3) أنْ يعلوَ على الماءِ الذي تعلوهُ أضعفُ الكائناتِ الحيّة، فأغرقَهُ اللهُ، ثمَّ أخرجَهُ ليكونَ لمنْ خَلْفَهُ آيةً. ونسأُلهُ تعالى كما أهلكَ الفراعنةَ الماضينَ أنْ يُهلكَ الفراعنةَ المعاصرين، أولئكَ الذين طَغَوْا وتجبَّروا، وقالَ لسانُ حالِهمْ ومقالِهم {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (¬4). ¬

(¬1) سورة النمل، الآية: 19. (¬2) سورة سبأ، الآية: 13. (¬3) سورة النازعات، الآية: 24. (¬4) سورة فصلت، الآية: 15.

ومنْ معاني عاشوراءَ أنَّ حَبْلَ الإيمانِ ممدود ومعقودٌ بينَ المؤمنينَ رغمَ فوارقِ الزمانِ وفواصلِ المكان .. فنحنُ اليومَ نصومُ عاشوراءَ لأنَّ موسى عليهِ السلامُ صامَهُ .. ولأنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم جدَّدَ صيامَه. ونحنُ اليومَ نشكرُ الله على نُصرةِ المؤمنينِ السابقين، ونسألهُ أنْ ينصرَ المؤمنينَ اللاحقين، وما أحرى المسلمُ بالدعاءِ- في كلِّ حين- والدعاءُ جيشٌ يمكنُ أنْ ينصرَ اللهُ بهِ المؤمنين، والدعاءُ جيشٌ يقوِّضُ دعائمَ الكافرينَ ويحطِّمُ عروشَهم. ولا سيما إنْ كانَ صائمًا - أنْ ينصرَ دينَهُ وأنْ يخذلَ أعداءه، فذلكَ شعورٌ واعٍ لهذا اليومِ بأحداثِهِ وعِبَرِه، وذلك استثمارٌ أمثلُ لهذه المناسبة. ويُعلِّمنا عاشوراءُ- فيما يُعلِّمُنا- أنْ لا يأسَ ولا إحباطَ عندَ المسلمِ مهما ادْلهمَّتِ الخُطوبُ، ومهما تجبّرَ العدوُّ وحشدَ قُواه، فالنصرُ منْ عندِ الله، والهزيمةُ طَوْعُ قدرتِه، وحينَ تستحكمُ الحلقاتُ ويصدقُ المؤمنونَ معَ ربِّهم، يُهيءُ لهمْ منْ أسبابِ النصرِ ما لمْ يصنعوه، ويُؤْخذُ المستكبرونَ الظالمونَ منْ حيثُ لمْ يحتسِبوا. أجلْ، إنَّ لله جنودًا في الأرضِ وجنودًا في السماء، وقدْ يتجاوزُ الظالمُ المعتدي حدودَ البَرِّ فيكونُ البحرُ نهايتَه {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} (¬1) وقدْ يعجزُ البشرُ عن مقاومتهِ فيتولَّى ربُّ البشرِ أخذَهُ وتحطيمَ قواه. كمْ نحنُ بحاجةٍ- يا مسلمون- إلى اليقينِ بنصرةِ اللهِ لأوليائِهِ المتَّقين. وكمْ نحنُ بحاجةٍ إلى التوكُّلِ لا إلى التواكُل. نحتاجُ إلى شجاعةٍ دونَ تهوُّرٍ، وشجاعةُ القلبِ مرتبطةٌ بتصوُّرِ عظمةِ اللهِ وقُدْرته، وإلى إيمانٍ لا مجردَ أمانٍ، وإلى إعدادٍ لا مجردَ جَعْجَعة، وإلى صدقٍ ¬

(¬1) سورة المدثر، الآية: 31.

في المواقفِ لا مجردَ مزايدةٍ وتسويفٍ وادِّعاء. لقدِ انتصرَ المؤمنون الذين قيلَ لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (¬1). وكذلكَ ينتصرُ المؤمنونَ منْ بعدهمْ إذا ساروا على خطاهم .. ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 173.

الجزء الحادي عشر

شعاع من المحراب الجزء الحادي عشر إعداد د. سليمان بن حمد العودة

بسم الله الرحمن الرحيم

شعاع من الحراب

المجاهرة بالذنوب

المجاهرة بالذنوب (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ... هاتفني صاحبي وفجأةً قال لي: هل تعجبك هذه الأجواء؟ وكانت السماء مغبرة والرياح عاتية، والرؤية تكاد تكون معدومة ترددت في الجواب وأنا استحضر الرد وماذا عساي أقول فإن قلت لا، أشعرت نفسي أو أشعرته بالتسخط، أو وقعت في سبِّ الدهر .. وإن قلت نعم فكأني غير مكترث ولا وجل وبينا أنا أختار العبارة المناسبة للرد، وأقول: لا يعجبني وأشكو إلى ربي .. عاجلني بالرد .. ألا تظن أن هذه الأجواء المغبرة والأعاصير العاتية بسبب الذنوب والمعاصي، وإن الله يخوّف عباده ويدعوهم للتضرع والتوبة والطاعة والاستغفار؟ حينها وقفت على ما ذكره أن القيم في الداء والدواء عن كعب قال: إنما تزلزل الأرض إذا عمل فيها بالمعاصي فترعد فزعًا من الرب جل جلاله أن تطلع عليها وحينها انتقل تفكيري إلى مجالات أخرى في هذا الكون فنحن نشهد إلى جانب هذه الأعاصير والتقلبات الجوية، أعاصير من نوع آخر، وتقلبات في عدد من الأحوال والأمكنة مصائب تتردى، وموبقات هنا وأخرى هناك، فساد ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 10/ 4/ 1428 هـ

وإفساد في الأرض، فعلى مستوى المعتقد يعبد غير الله ويُدعى ويُسْتشفع بغير الله .. وليت هذا كان قصرًا على الكافرين لكنه طال نفرًا من المسلمين تشوّهت عقائدهم وزاغت أبصارهم فأشركوا مع الله غيره إن في شرك العبودية أو شرك الطاعة وسبُّ نفرٌ الدين والنبي علانية وليت هذا توقف عند غير المسلمين لكان المصاب أقل ولكن الشيطان سوّل لنفر من المسلمين وأملى لهم حتى نالوا من الدين، ومن مقام النبوة، ومن سبَّ شيئًا من دين الله أو سخر بشيء من شعائر الإسلام، أو أتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم في شخصه أو أزواجه أو طعن في سنته أو نال من صحابته الكرام آنذاك الطعن في صميم الدين، والتطاول على حرمات الإسلام. ومن فساد المعتقد والتصورات إلى فساد الأخلاق والتعاملات حيث شاع الزنا والربا، وانتشر اللواط والمخدرات، وطفف المكيال، وكان الغش في البيع والشراء، نقضت العهود، وأخلفت المواعيد، وشاع الكذب، وتطايرت التهم، ووقع الظلم. وقلت الصدقات، وربما منع أو قصر بعض المسلمين في الزكاة إنها أدواء خطيرة إذا كانت سرًا فكيف إذا وقعت جهارًا نهارًا وما أحوجنا هنا أن نتذكر هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم حين أقبل على المهاجرين يومًا فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلَّط عليهم عدوًا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله

ويتخيَّروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) (¬1). أخوة الإسلام تأملوا في واقعكم ومصائبكم ترون عجبًا .. ألم تكثر في الأمة الأمراض والبلايا، وفي كل يوم لها قتيل، وفي كل مكان بها علة ومريض، قتلٌ متعمد، وخطف جماعي، ودماء تسيل وفي كل يوم تحمل الأخبار عن مصيبة وبلية وفي أرض الرافدين يتضح المشهد، وفي أرض الإسراء والمعراج غير بعيد انتهاكات ومآس ومشاهد مغيبة ولا ندري بماذا تفاجئ غدًا من الصهاينة وإذا كان استهداف المدنيين هناك على قدم وساق وإهلاك الحرث والنسل مخطط ومشروع، فالحفريات تحت المسجد الأقصى بات خطرًا يهدد المقدسات .. هذا فضلًا عن محاولات التطبيع وما تحمله من مشاريع الفساد المقنن .. فإلى الله المشتكى. يا أخوة الإسلام والفساد في الأرض قديم يتجدد .. والصراع بين الحق والباطل سنة ربانية ماضية تتكرر .. ولكن المصيبة حين يجاهر بالعصيان، وحين يلوذ الأعداء بالقوة ويستضعف المسلمون، وفي زمن لا يعرف إلا القوة، وحين يتجبر المجرمون في فرض الباطل والمنكر، ويضعف المسلمون عن قول المعروف وإظهار الحق إذا كثر الخبث وخفت صوت الحق فهنا تكون المصيبة. قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله لا يحب الفُحش أو يبغض الفاحش والمتفحش، قال: ولا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش وقطيعة الرحم وسوء المجاورة، وحتى يؤتمن الخائن ويُخوَّن الأمين وقال: ألا أن موعدكم حوض عرضه وطوله واحد، وهو كما بين أيلة ومكة، وهو مسير شهر، فيه مثل النجوم ¬

(¬1) رواه ابن ماجه في سننه، وقال البوصيري، رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد (نضرة النعيم 11/ 5551).

أباريق، شرابه أشد بياضًا من الفضة، من شرب منه مشربًا لم يظمأ بعده أبدًا)) (¬1). وفي الحديث الآخر إخبار عما يقع في آخر هذه الأمة، وتوصيف للداء، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: ((يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، قالت عائشة رضي الله عنها قلت يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا ظهر الخبث (¬2). عباد الله احذروا المجاهرة بالمعصية، وإذا بليتم فاستتروا، قال ابن بطال رحمه الله: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم (¬3). وهل يُعذبُ العامة بعمل الخاصة؟ يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: كان يقال أن الله تبارك وتعالى لا يعذب العامَّة بذنب الخاصة ولكن إذا عُمل المنكر جهارًا استحقوا العقوبة كلُّهم (¬4). ألا وإن المجاهرة بالفسوق والمعاصي يستحقون الفضيحة بما جهروا به، قال النووي: من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به دون ما لم يجاهر به (¬5). أيها المسلمون لا تحلوا بأنفسكم عقاب الله .. وفي الحديث: لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبيه ثم قال ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله (¬6). ¬

(¬1) رواه أحمد (2/ 162 وصححه شاكر). (¬2) رواه الترمذي وقال حديث غريب (2185) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (8012) (6/ 358). (¬3) (الفتح 10/ 502 عن نضرة النعيم 11/ 5553). (¬4) رواه مالك في الموطأ 2/ 991. (¬5) (الفتح 1/ 502). (¬6) رواه أحمد وأبو يعلى، وقال المنذري في الترغيب والترهيب إسناده جيد 3/ 8، وصحح إسناده أحمد شاكر (3809).

أي حمق أن يسترك الله فتفضح نفسك بالمجاهرة، وفي الحديث المتفق على صحته: قال عليه الصلاة والسلام: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربَّه ويصبح يكشف ستر الله عنه. وكيف الحال إذا بلغت المجاهرة بالمعاصي والفسوق حدَّ الانتشار والذيوع والعرض على شاشات القنوات والتليفزيون، وأعمدة الصحف والمجلات، وكاميرات الجوالات وتقنيات البلوتوث ويحدث ما لا تعلمون ونحوها إنها طوام ومصائب نبرأ إلى الله منها، ونعوذ به من شروروها. يا من تأكلون نعم الله إياكم أن تستعينوا بها على معصية الله يا من تسكنون أرضه إياكم والإفساد في ملكه يا من تقعون تحت سمعه وبصره ومراقبته وعدله .. إياكم وخائنة الأعين وما تخفي الصدور. وإياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يا من لا تُعجزون الله في الأرض ولا في السماء، إياكم والتطاول على شرعه أو انتهاك محرماته فهو يُمهل ولا يهمل، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته .. إن أخذه أليم شديد. يا من تخافون عقوبة الدنيا .. ألا وإن عقوبة الآخرة أشد وأنكى .. ويا من تخشون الفضيحة في الدنيا .. فهناك الفضيحة على الملأ من أقطار الأرض والسماء. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعًا عليمًا}. [النساء: 148]. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله فارج الكربات وكاشف البليات، يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله تعالى الله عما يشركون .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله هدى الأمة إلى صراط الله المستقيم، وحذرهم من الزيغ والضلال المبين اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين. أيها المسلمون .. وليس المقام مقام حصر للفساد وبأشكاله وممارساته وإلا لكان ثمة حديث عن الفساد الإداري بمحسوبياته وبرشاويه، وحديث عن الفساد الاجتماعي بتجلالاته وتغيراته، وعن الفساد الاقتصادي بتورماته وحيله، عن فساد الرجل والمرأة، والصغير والكبير لكنها وقفات وتنبيهات وتحذيرات واحتياطات أشمل منها وأبلغ قوله تعالى {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}. ولا يعني الحديث عن الفساد أو المجاهرة فيه نسيان الخير في الأمة وتجاهل الصالحين والأخبار ممن تفطر أكبادهم لهذا الفساد ويدعون ربهم خوفًا وطمعًا. إنه مع وجود الشر والأشرار يوجد الخير والأخيار وإذا وجد من تجاهر بالمعصية أو يشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فثمة وجود لمن يجاهرون بالطاعة، ويشيعون الخير بين العباد إن مقصود الحديث التحذير من موبقات المعاصي، والدعوة لتكثيف الخير، وتنشيط الدعوة للفضيلة ومحاربة الرذيلة: ولذا - وفي ظل هذه الأزمات والتراكمات وفي كثرة الذنوب والفتن - أذكر الأمور التالية: 1 - اجعل من نفسك يا عبد الله متهمًا في وجود هذه الكوارث والمصائب،

فأنا وأنت .. وكل ابن آدم خطاء {وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي}. 2 - ومع اتهام النفس اعمل لإصلاحها ومن يقول ثم انتقل بالخيرية والدعوة إلى الآخرين، فخير الناس أنفعهم للناس. {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}. 3 - والتوبة يدعى لها المؤمنون {وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} وغير المؤمنين مدعوون للتوبة من باب أولى. 4 - والاستغفار استبشاع للذنب وتعظيم للرب، وفيه تفريج للكروب وتنفيس للهموم فمن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا ورزق من حيث لا يحتسب. 5 - وكل ما وقع فيكم ذنب عامله بالتوبة والاستغفار {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا}. 6 - وكلما اجترحتم السيئات اتبعوها بالحسنات فهن الماحيات ذلك ذكرى للذاكرين. 7 - استبقوا الخيرات وبادروا بالصدقات فالصدقة تطفئ غصب الرب وتستنزل الرحمات والمتصدقون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار أما بعد: «ما من هذه الرجف شيء يعاتب الله به العباد، وأمر من كان عنده شيءٌ أن يتصدق به فإن الله يقول قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى وقولوا لما قال آدم ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

8 - الصلاة نور ومن حافظ عليها فهو المحفوظ ومن ضيعها هو لمن سواها أضيع والصلاة مفزع عند الشدائد وراحة للقلوب، ونور وطمأنينة (¬1). 9 - الذكر يملأ الميزان والقرآن شفاءٌ ونور وهدى ورحمه وبصائر من ربكم، تداووا بالقرآن وأنى لداء لم يشفه القرآن والسنة أن يُشفى. 10 - تضرعوا إلى ربكم دائمًا وكلما حلت بكم بأسًا، ففيه كشف للبلاء (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم}. وقولوا كما قال العبد الصالح لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. 11 - {لا تقنطوا من رحمة الله ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف/ 87]. 12 - فرَّجوا كربة، وساهموا في دفع مصيبة، أصلحوا ذات بينكم، وأصلحوا بين أخوانكم .. فتلك درجات عالية والله يحب المحسنين. 13 - ادفعوا الشر بالخير، والفساد بالإصلاح فذلك رهان لإصلاح الأرض {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}. 14 - تأملوا في حادثات الزمن وتأملوا ما فيها من عظات ونذر، وويل للقاسية قلوبهم. إنها آيات ونذر يخوف الله بها عباده فلا تغفلوا ولا تلهو وتلعبوا فتكونوا كالذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون. اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة، والطف بنا وبعبادك المؤمنين، ولا تجعلنا عبرة للمعتدين، ولا فتنة للكافرين، ولا من رحمتك يائسين، ولا من عذابك ممسوسين. ¬

(¬1) الداء والدواء/ 62.

(1) الإنسان في كبد

(1) الإنسان في كبد (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله خلق الإنسان في أحسن تقويم، علمه البيان، أنشأه من ضعف وينتهي أمره إلى الضعف، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له قدر للإنسان حياته وكتب نصبته وكفاحه وهو العليم الخبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أنموذج الكادحين وسيد المفلحين صلوات ربي وسلامه عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اتقوا الله معاشر المسلمين وتفكروا في أنفسكم وحياتكم وارجعوا إلى ربكم واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون. أيها المسلمون (الإنسان في كبد) حقيقة قرآنية وواقع بشري .. إنه الإنسان يعايش الكبد في أطوار حياته كلها، منذ بدأ يُخلَّق في بطن أمه حتى ينتهي إلى سكرات الموت ومفارقة الحياة .. هكذا قدَّر الخالق وأخبر {لقد خلقنا الإنسان في كبد}. إن الخليَّة الأولى لا تستقرَّ في الرحم حتى تبدأ في الكبد والكدح والنصب لتوفر لنفسها- وبإذن ربها- الظروف الملائمة للحياة وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج فتذوق من المخاض إلى جانب الأم ما تذوق، وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضُغط ودُفع حتى كاد يختنق في مخرجه من الرحم، بل ربما اختنق بعض الأجنة فانتهت حياته بنصب الولادة واختناق المولود. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 18/ 6/ 1427 هـ

وحين يخرج الجنين للحياة يبدأ الجهد الأشق حيث يتنفس هواء لا عهد له به، ويفتح رئته لأول مرة ليشهق ويزفر ويستهل المولود صارخًا صرخة النزول الأولى في الحياة الجديدة .. وتبدأ دورة هضمية ودموية في العمل على غير عادة ويعاني المولود الجديد من كبد إخراج الفضلات حتى تُروض أمعاؤه على هذا العمل الجديد .. وفي هذه المرحلة يكثر الصراخ والعويل حتى وإن قُلِّب الجنين ذات اليمين وذات الشمال وكل خطوة بعد ذلك فيها كبد .. فهو يعاني ما يعاني حين يهم بالحبو .. وأشد من ذلك معاناة حين يستعد للوقوف والمشي .. فهو خائف وجل وهو يقوم ويسقط ويبكي أكثر مما يضحك .. وعند بروز الأسنان كبد .. هذا فضلًا عن كبد الأمراض المعترضة والآفات المصاحبة للنشأة ويستمر الجهد والكفاح والنصب والكبد في مسيرة الإنسان فهو يكابد حين يتعلم ويكابد حين يفكر .. وفي كل تجربة جديدة له فيها كبد ونصب. ثم يكبر ويشتد عوده وتبدأ رحلة أخرى من المشاق والكبد. ولئن اختلفت الطرق وتنوعت المشاق فالكل في كبد هذا يكدح بعضلاته، وهذا يكدح بفكره والفرق هذا يكدح ويبيع نفسه ليعتقها وآخر ليوبقها .. هذا يكدح في سبيل الله وذاك يكدح في سبيل شهوة ونزو وصدق الله {إن سعيكم لشتى}. لا يفارق الكبد الإنسان في أطوار حياته كلها .. كبد وكدح في مرحلة الشباب .. وكبد من نوع آخر في مرحلة الشيخوخة والهرم .. إنه (الكدح) للغني والفقير والذكر والأنثى والسيد والمسود .. وكل يعايش نوعًا من الكبد فالفقير الذي يكلف في سبيل الحصول على لقمة العيش أو شدة العوز أو همِّ الدَّين وغلبته وقهر الرجال ومطاردتهم قد لا يظن أن غيره في كبد .. بينما ترى الغني

يكابد في تجارته ويفكر في مكاسبه وخسائره .. وربما نام الفقير وهو يقظان وأكل الفقير وأنكح أكثر من الغني. إنه الكبد لا يسلم منه الزعماء والعظماء وإن كانوا في أبراج عاجية وقصور وخدم وحشم فللمسئولية كبدها وللزعامة والرئاسة ضريبتها .. وللأمانات والمسئوليات حمالتها. والكبد لا يُعفى منه العلماء وإن وصلوا إلى مراتب علية في العلم والمعرفة .. وهل حصَّلوا تلك العلوم وحازوا تلك المعارف إلا على جسور من التعب والكبد والسهر؟ إنَّ نصب العالم كامن في مسئولياته .. فحمل العلم وأداؤه وإبلاغه كل ذلك فيه كبد ونصب .. والميثاق المأخوذ على أهل الكتاب وزكاة العلم وحشية العلماء لربهم كل ذلك لا يتأتى دون نصب وكبد وجد ومجاهدة. أين من يسلم من الكبد .. ؟ وإن تفاوت أنواع الكبد؟ لا إله إلا الله قدر أن يعمر الكون بالكبد وشاء أن يقوم سوق الحياة على النصب {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه}. عباد الله لا يكفي أن نعلم كبد الحياة، وشمولها لبني الإنسان ولكن المهم كيف نتعامل مع هذا الكبد؟ وكيف نستفيد من هذا الكبد، وما نهاية الكبد وثمرته؟ وكيف نخفف من مكابد الحياة ومشاقها؟ إن المسلم يختلف عن غيره في نوع الكبد وغايته .. فهو مأجور على نصبه وهمّه وغمّه مادام يعبد الله ويخشاه، فما يصيبه من نصب ولا وصب ولا هم ولا غم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه. والمؤمن ينصب ويكدح في هذه الحياة ليستريح بعد الممات إنه يكدح وهو مستيقن بلقاء ربه، مطمئن أنه سيجازى على جهده وعمله .. ومن هنا فهو

يتحسس من المكابد ما يرفع درجاته، ويتجنب كل كبد ينتهي به إلى الشقاء بعد الشقاء أما غير المسلم فهو ينصب كغيره في هذه الحياة .. ولكن نصبه يستمر بعد الممات، فالنهاية مؤلمة والشقاء مستمر ولعذاب الآخرة أشق. المسلم يستعين على النصب بالصبر والصلاة وحسبك بهما معينًا والله يقول {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} {وويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون} ومساكين هم الذين يجزعون ولا للعلق والنصب يصبرون وغير المسلم يتضجر ويقلق، ثم يعود إن لم يقتل نفسه أو يقتله النصب والقلق {ومن يهن الله فما له من مكرم}. ولئن تفاوت المسلمون عن غيرهم في الكبد، فالمسلمون أنفسهم متفاوتون في كبدهم، سعيهم شتى وأجورهم وأوزارهم مختلفة، وفرق بين من ينصب ليرتفع درجات وبين من لا يزيده الكبد والنصب إلا خسرانًا مبينًا. عباد الله والاستغفار يخفف الكبد ويعين على مشاق الحياة ويفتح أبوابًا للرزق، وفي الحديث: ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب)). {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارًا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارًا}. ومما يخفف الكبد والقلق أن يتصور المسلم مهما بلغ به من كبد الحياة

ومشاقها أن فيه من هو أشد منه قلقًا وضيقًا، ومهما بلغ في حصول المعالي والمجاهدة في سبيل الدرجات العلى فهناك من سبق وفُضِّل عليه، فهذا يُخفف من آلامه الدنيوية وهذا يزيد في سعيه للآخرة (¬1). ولا بد من العفو والصفح والمسامحة والتجاوز فالخطأ وارد والسماحة خلق فاضل، والصفح والعفو من أخلاق العظماء ولا بد أن يحصل الخطأ منك أو عليك وربما نالك من خطأ الأقربين ما يحتاج منك إلى جميل العفو وكريم الصفح وفي التنزيل {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} [التغابن: 14]. بارك الله لي ولكم في القرآن. ¬

(¬1) تحتاج الحياة إلى جد وحزم وعزم وصدق ويحتاج مع ذلك إلى أناة ورفق وعدم تعجل وطموحات وآمال وفأل حسن لاسيما حين تشتد الأمور، وتدلهم الخطوب وتنتشر الفتن، وحتى لا يقع الإنسان ضحية للهوى والاستعجال أو العجز والكسل يحتاج إلى هذه الموازنات كلها .. ولا يستغني عن دعاء ربه وتوفيق له وعونه، وإذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يتخلى عنه اجتهاده.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية يا أيها القلقون المكابدون استأنسوا بذكر الله على آلام المكابدة فطالما خاضت ألسنتكم بكل شيء إلا الذكر وبذكر الله تطمئن القلوب، كم يفرّج ذكر الله من كربة ويزيل من غمة وويل للقاسية قلوبهم، ومساكن من شحت عليهم ألسنتهم عن ذكر الله، ومثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره كمثل الحي والميت {فاذكروني أذكركم} وفي القرآن شفاء لما في الصدور، ونور للقلوب، ولا غرابة أن تكثر هموم الهاجرين لكتاب الله، إنه القرآن هداية وبصائر ورحمة وذكر، فليكن لك من كتاب الله نصيب فهو نعيم لا ينسى في الوحشة والرفيق في الخلوة، والمصاحب في الغربة. أيها المسلم وكيف يزيد قلقك وأنت تؤمن بقضاء الله وقدره فما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وكيف تضجر ورزقك وأجلك مسطوران في الكتاب ألا فاعمل فيما يفنى لما يبقى، واصرف همك للآخرة فهي المستحقة للعناء إذ هي دار البقاء. يا أيها العقلاء والاستخارة والاستشارة تخففان من القلق وسبيلان للراحة وحسن المنقلب .. إنك تستخير الله العليم الخبير في أمور لا تدري ما نهايتها .. وتسلم الأمر لله في تقدير ما ينفعك في الدنيا والآخرة .. أليس ذلك سبيل للراحة والاطمئنان؟ وأنت في الاستشارة تستفيد من عقول الآخرين ولا تحرم تجارب المجربين، وإذا تشابهت ظروف الحياة كان لأهل التجربة رأيهم، وخليق بالعقل أن يستفيد منهم .. إنها هدايا بلا ثمن، ومكاسب تخفف من المكابد والقلق. ومع ذلك فالدنيا - يا ابن آدم - مركب للسهل والصعب، وميدان للسرور

والحزن، وينقلب أصحابها بين الصحة والسقم والشباب والهرم والفقر والغنى، ومن سره زمن ساءته أزمان، لا بد من ترويض النفس على إقبال الدنيا بالشكر وإدبارها بالصبر، لا بد من توقع المفاجآت ولا بد من الصبر واليقين عند الصدمات. إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه .. إلا فليكن كدحك في مرضاة الله وليكن نصبك في هذه الدار سبيلًا لراحتك يوم تلقى الله. ألا كم من مغرور غرته هذه الحياة فألقته المنايا في مهاوي الردى وفكر وقدر فإذا بالروح تبلغ الحلقوم فندم على التفريط ولكن هيهات عن التعويض! ألا إن سعيكم لشتى فانظر أيها العاقل في نوع سعيك وهل أنت ممن يزرع الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعين على نوائب الحق أم أن سعيك إفساد في الأرض وظلم للخلق ونسيان للخالق، ألا فاعلم أن سرَّك ونجواك وظاهرك وباطنك لا يخفى على الله منه شيء {يعلم السر وأخفى} {وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين}. يا ابن آدم ومهما ابتلاك الله بشيء من رزايا الدهر ومصائب الزمان فلا تظن بربك الظنون السيئة فلعل الله أراد بك خيرًا وأنت لا تشعر، ولعل حسناتك قصرت بك عن منزلة علية أرادها الله لك فبلغك إياها بهذه المصائب ألا فاصبر واحتسب وفي الحديث: ((ومن يرد الله به خيرًا يصب منه)). رواه البخاري وهذا ابن مسعود رضي الله عنه يدخل على رسول الله وهو يوعك فقلت يا رسول الله إنك توعك وعكًا شديدًا قال: أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم،

قلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال: أجل ذلك كذلك ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته وحُطَّت عنه ذنوبه كما تُحطُّ الشجرة ورقها)). متفق عليه هكذا يعلمنا نبينا أجر المصائب وعواقب الأذى. اللهم لا تحرمنا أجرك، وارزقنا الصبر واليقين على أقدارك واجعلنا من سعادة الدنيا إلى سعادة الآخرة، ولا تجعلنا من الخاسرين.

المحاسبة لماذا وكيف؟

المحاسبة لماذا وكيف؟ (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره. إخوة الإسلام قوارع الحقِّ تصكُّ أسماعنا صباح مساء فهل من مجيب؟ والنفس الأمارة بالسوء تحاول أن تردي أصحابها فهل من وقفة ومحاسبة؟ {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} [الحاقة: 18]. هكذا يكون العرض، وكذلك تكون الدقة في المحاسبة. {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا وليتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربك أحدًا} [الكهف: 49]. قف واسأل نفسك يا أخا الإسلام ماذا أعددت لهذا اليوم، وكيف تتقيه اليوم؟ وفي ديوان الشعراء (أبي العتاهية): أأخي إن أمامنا كربًا لها شغب وإن أمامنا أهوالا أأخي إن الدار مدبرة ... وإن كنا نرى إقبالها إدبارا قال العالمون (الماوردي) إن على الإنسان أن يتصفح في ليلة ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محمودًا أمضاه وأتبعه ما شاكله وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه إن أمكن وانتهى عن مثله في المستقبل (¬2). وقال آخر: أضر ما على المكلف الإهمال وترك المحاسبة والاسترسال ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 29/ 5/ 1425 هـ (¬2) (أدب الدنيا والدين/ 342).

وتسهيل الأمور وتمشيتها، فإن هذا يؤول بصاحبه إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور يغمض عينيه عن العواقب ويُمش الحال، ويتكل على العفو فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهَّل عليه مواقعة الذنوب وأنس بها، وعسر عليه قطافها)) (¬1). عباد الله ومن أقوال السلف إلى أعمالهم وحرصهم على محاسبة أنفسهم، فهذا عمر رضي الله عنه يدخل حائطًا فسمعه أحد المسلمين - وهو لا يدري - يقول: عمر! ! أمير المؤمنين؟ ! بخ بخ، والله يا بني الخطاب لتتقين الله أو ليعذبنك. وجاءه رجل يشكو إليه وهو مشغول فقال له أتتركون الخليفة حين يكون فارغًا، حتى إذا شُغل بأمر المسلمين أتيتموه، وضربه بالدّرة، فانصرف الرجل حزينًا فتذكر عمر أنه ظلمه، فدعا به، وأعطاه الدرة، وقال له: اضربني كما ضربتك، فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك، فقال عمر: إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقك، فقال الرجل: تركته لله، فانصرف عمر إلى منزله فصلى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: يا ابن الخطاب كنت وضيعًا فرفعك الله، وضالًا فهداك الله وضعيفًا فأعزك الله، وجعلك خليفة فأتاك رجل يستعين بك على رفع الظلم فظلمته؟ ما تقول لربك غدًا إذا أتيته؟ وظل يحاسب نفسه حتى أشفق الناس عليه (¬3). لله درك يا عمر على هذا العدل والإنصاف والمحاسبة أين نحن من عمر؟ كم نظلم أنفسنا بفعل المعاصي فهل نحاسبها وكم يقع منا ظلم على غيرها فهل نتقي الله ونرجع ونرد المظالم ونستأذن من ظلمنا، ونلوم أنفسنا؟ ¬

(¬1) (ابن القيم: إغاثة اللهفان/ 1/ 95). (¬2) (الزهد لأحمد/ 171). (¬3) (مناقب أمير المؤمنين عمر لابن الجوزي/ 171).

إنها نفوس الكبار .. تُرَّوض على العدل والبر والإحسان وإذا وقعت في الخطيئة عادت تلوم وتستغفر وتحاسب؟ إنها الكياسة التي أخبر عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)) (¬1). قال الترمذي معنى (من دان نفسه) أي حاسبها في الدنيا قبل أن تحاسب يوم القيامة. أيها المسلمون الأمر في المحاسبة النفس غاية في الأهمية، ولئن كان شاقًا اليوم فعاقبته الخير والفلاح غدًا. ورحم الله القائل: اقرعوا هذه الأنفس فإنها طلعة وإنها تنازع إلى شر غاية، وإنكم إن تقاربوها لم تبق لكم من أعمالكم شيئًا، فتصبَّروا وتشددوا، فإنما هي أيام تعدُّ، وإنما أنتم ركب وقوف يوشك أن يدعى أحدكم فيجيب ولا يلتفت فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم)) (¬2). عباد الله إننا نخطئ بالليل والنهار .. أفلا نتوب ونستغفر ومن يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا. تصور يا عبد الله لو أن كل ذنب عصيت الله به رمي في بيتك في مقابله حجرًا؟ ألا يمتلئ البيت بالحجارة؟ .. ألا تضيق عليك هذه الحجارة المسالك؟ ألا تخرب بيتك؟ فهل تتصور أن الله غافل عما تعمل، كيف والملكان الموكلان بك يحفظان ويكتبان {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}. {احصاه الله ونسوه} ¬

(¬1) رواه الترمذي وحسَّنه وصحَّحه الحاكم والذهبي/ المستدرك 4/ 210. (¬2) (الحلية 2/ 144 عن الحسن)

أيها المسلمون وفي رحمة الحياة وغرورها، ومطالب النفس وتطلعاتها، وتسابق الناس إلى الشرف والسؤدد والرئاسة والمال والجاه والسلطان .. في ظل هذا كله قد تغيب أو تضعف المحاسبة، وعلى قدر الإيمان واليقين بحقائق الآخرة .. تكون المحاسبة قال أحدهم: مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس أي شيء تريدين؟ فقالت: أريد أن أردَّ إلى الدنيا فأعمل صالحًا؟ قلت فأنت في الأمنية فاعملي (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} اللهم انفعنا بهدي القرآن أقول ما تسمعون. ¬

(¬1) (الزهد للإمام أحمد/ 501).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية {الحمد لله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا} وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحاسب على النقير والقطمير، {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء}، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قال وهو الصادق الأمين. يا أخا الإيمان .. أما وقد عرفت قيمة المحاسبة وحاجتنا إليها، بل وغفلة الكثير منا عن ممارستها فقد يرد السؤال وكيف تتم محاسبة النفس وما هي الأمور المعينة على هذه المحاسبة؟ ذكر أهل العلم أن المحاسبة الصادقة تعتمد على أمور ثلاثة هي: 1 - الاستنارة بنور الحكمة. 2 - وسوء الظن بالنفس. 3 - وتمييز النعمة من النقمة فكيف يتم ذلك. فأما نور الحكمة فهو العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل، وكلما كان حظ العبد من هذا النور أقوى كان حظه من المحاسبة أتمَّ وأكمل. أما سوء الظن بالنفس فحتى لا يمنع ذلك من البحث والتنقيب عن المساوئ والعيوب، ولئن تزكية النفس حاجب عن محاسبتها. وأما تمييز النعمة من الفتنة فلأنه كم مستدرج بالنعم وهو لا يشعر، مفتون بثناء الجُهَّال عليه مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه (¬1). ¬

(¬1) (مدارج السالكين 1/ 188).

ولله در الإمام أحمد حينما بلغه أن المسلمين في بلاد الروم كانوا- وهم في الغزو - إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء له، وكانوا يرمون المنجنيق باسمه حتى سقط رأس علج من درقته .. فلما بلغ أحمد الخبر تغيَّر وجهه وقال: ليته لا يكون استدراجًا (¬1). أيها المسلمون ومما يعين على المحاسبة ما قاله ابن القيم رحمه الله: ومن أنفع المحاسبة أن يجلس الرجل عندما يريد النوم ساعة يحاسب فيها على ما خسره وربحه في يومه ثم يجدد له توبة نصوحًا بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة، ويعزم على ألا يعاود الذنب إذا استيقظ ويفعل هذا كل ليلة، فإن مات من ليلته مات على توبة، وإن استيقظ استيقظ مستقبلًا للعمل مسرورًا بتأخير أجله حتى يستقبل ربَّه ويستدرك ما فات (¬2). ألا ما أحوجنا إلى هذه الساعة من المحاسبة، وكم نغفل عنها، فهل نمارسها قبيل النوم من الليل والليل- كما يقال - أخطر للخاطر وأجمع للفكر. يا أخا الإسلام حاسب نفسك على عمل السيئات وهل استغفرت وكفَّرت عنها، وعلى عمل الصالحات هل فرحت بها وسألت ربَّك قبولها؟ حاسب نفسك على نوع الكلام الذي صدر منك، وفرق بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، حاسب نفسك على مطعمك ومشربك، وكل جسد نبت على سحت فالنار أولى به وحاسب نفسك على العدل والإنصاف، والظلم ظلمات يوم القيامة حاسب نفسك على استثمار الوقت، والوقت أغلى ما نملك والمغبون من فرط فيه أو استخدمه فيما يغضب الله. ¬

(¬1) (السير 11/ 210). (¬2) (الروح لابن القيم/ 79).

والوقت أغلى ما عنيت بحفظه ... وأراه أسهل ما عليك يضيع حاسب نفسك على همومك أهي للدنيا أم للآخرة، {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض}. ما نصيب الإسلام من جهدك، وما حض أخوانك المسلمين من اهتمامك ودعائك .. إلى غير ذلك من ألوان المحاسبة .. وإياك أن تكون من الغافلين، أو من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم .. إننا بحاجة للمحاسبة فهي سبيل للاستقامة، ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه. أيها الأخوة المسلمون هذه الجمعة آخر جمعة في العام والسؤال بماذا تذكرك آخر جمعة في العام؟ إنها تُذكر- فيما تذكر - بسرعة الزمان، وانفراط الآجال وقرب الارتحال فما العمر إلا جمعة وأخرى وثالثة لا تدرك لا تدرك ما فيها من أحداثٍ وحوادث ورابعة خبر من الأخبار سرت وأخرى أضحكت وأبكت إنها الدنيا متاع الغرور وهي حرية أن تفتح صفحة {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} بل صفحات للمرء ماذا قدم من الجمعة إلى الجمعة، ومن أول جمعة في العام إلى آخر جمعة، بل وما رصيده من الخير أو نصيبه من الشر منذ أول جمعة عقلها إلى آخر جمعة أدركها؟ إن الجمعة تذكر ببداية الخليقة ومنتهاها، ففيه خلق آدم وبه تقوم الساعة. يوم الجمعة يوم الخيرية والأفضلية، فما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة، هدى الله له هذه الأمة المسلمة وأضل عنه أمم اليهود والنصارى. يوم الجمعة يوم اجتماع المسلمين، ويوم زينتهم، وهو شعار للوحدة واجتماع الكلمة والتآلف والتقارب والسلام والبشر والذكر والدعاء والمزيد من الصلاة

والسلام على النبي المجتبى إنه يوم يتفرغ المسلم من أعماله الدنيوية ليزيد من رصيده الأخروي ومن غسّل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر، ومسَّ شيئًا من طيب أهله، ودنا من الإمام واستمع للخطبة ولم يلغ كتب الله له بكل خطوة يخطوها للمسجد أجر سنة صيامها وقيامها. كم يفرط المسلمون في سنن يوم الجمعة من التبكير في ساعاتها الأولى إلى إهمال الدعاء في آخر ساعة فيها وتلك الساعة لا يوافيها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه - ما لم يسأل إثمًا - وأرجى ساعات الإجابة ساعتكم هذه، وساعة ما بعد العصر، فساعتكم هذه فيها صلاة الجمعة وانتظارها، وساعة بعد العصر فيها صلاة تحية المسجد وانتظار صلاة المغرب ومن كان في المسجد ينتظر الصلاة فهو في صلاة. هل أنت من المحتسبين لساعة الإجابة في الجمعة، وهل تحتسب على الله في الدعاء في وقت أنت أحوج ما تكون فيه للدعاء وبأمننا من الآلام واللؤى ما لا يرفع إلا إلى الله، فهل نسأل الله في أوقات الإجابة بكشف البلاء ودفع الضراء. عباد الله: خمسون جمعة هي محصلة العام تقريبًا هل تذكرت أخي المسلم كم لله عليك من فضل خلالها صحة في البدن وأمن في الوطن، والناس من حولك يتخطفون ويفتنون .. كيف تشكر الله على هذه النعمة؟ إن البلايا والمحن أقدار الله .. وهو يقدرها حيث شاء ويفتن بها من شاء، فهل اتخذت من أيام الرخاء عبرة لأيام البأساء والحق يذكرنا بالفتن الحولية ويقول {أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون}. بل قد تكون ممن فتن بمال أو ولد أو مرض أو نحوه وهل لك أن تخرج من البلاء بغير كاشف الضراء {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو}. حاسب نفسك ...

(إن سعيكم لشتى)

(إن سعيكم لشتى) (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله .. أيها الأخوة المؤمنون، الناس في هذه الحياة كلُّهم يسعى ولكن سعيهم مختلف {إن سعيكم لشتى} وإذا اختلف السعي اختلف الجزاء {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} إنه مقرر عند العقلاء أن الخير ليس كالشر، وليس الهدى كالضلال وليس الصلاح كالإفساد، وليس من أعطى واتقى كمن بخل واستغنى وليس من صدَّق وآمن كمن كذب وتولى .. إن لكل طريقًا ولكل مصيرًا، ولكل جزاء وفاقًا .. ولا يظلم ربك أحدًا. يا عبد الله إلى أين تسعى، وما الهدف من مسعاك، وما نتائج هذا المسعى؟ تلك أسئلة راشدة حق على كل مسلم أن يسأل نفسه إياها .. فهي مُوجهة للمسيرةٌ، وقائدةٌ بإذن الله للفلاح في الدنيا والسعادة في الآخرة. واعلم يا عبد الله أنه لا وقوف في الطريق البتة لكن هل تتقدم أم تتأخر، قال تعالى: {لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر}. وإذا ضل سعي أكثر العالمين والله يقول عنهم {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} فعلى عباد الرحمن أن يضبطوا مسيرهم، وأن يحددوا أهدافًا عالية لمسعاهم. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 1/ 2/ 1429 هـ

وصدق الشاعر: شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب ... وضاع وقتك بين اللهو والعب يصلحون أنفسهم، ويسهمون في إصلاح الحياة والأحياء من حولهم ويتأكد السعي المثمر حين يتأمل الساعي قصر الحياة الدنيا، وكثرة طرق الضلال، وتنوع ميادين الفساد والإفساد؛ فمن خلّص نفسه من هذه الأشواك وتجاوز هذه المغريات فهو السعيد الراشد، {وقد أفلح من زكاها}. ويتأكد السعي المثمر كذلك بالنظر لنعيم الآخرة وطول المكث فيها {فهي الحيوان لو كانوا يعلمون} {وأن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون}: وشمس عمرك قد حان الغروب لها ... والفيء في الأفق الشرقي لم يغب وفاز بالوصل من قد جدَّ وانقشعت ... عن أفقه ظلمات الليل والسحب أجل لقد خطى على هذه الأرض أنبياء وعظماء، وأغنياء، وساسة وقادة وكبراء وما هي إلا برهة من الزمن وإذا الأرض تغنيهم في طورها ولم يبق إلا أخبارهم تروى {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} {ألم نجعل الأرض كفاتًا أحياء وأمواتًا}؟ وكان الخبر بعدهم على حسب سعيهم وكان ذكرهم مقرونًا بنوع أعمالهم أجل إنهم أقوام باعوا أنفسهم لله، وجاهدوا في سبيله، ودعوا الخلق إلى عبودية الخالق فأولئك سعيهم مشكور، وأجرهم محفوظ، وأولئك في جنات مكرمون وآخرون دسوا أنفسهم ودنسوها بالمعاصي، وأوبقوها ولا بد للقيام بأمر الله من عاملين عامل القوة وعامل الإخلاص فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به، والقوي للإخلاص يخدل، فمن قام بهما كاملًا فهو

صديق، ومن ضعف فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب ليس وراء ذلك إيمان .. كذا قرر الإمام الذهبي (¬1) وفي التنزيل {خذ الكتاب بقوة} {ألا لله الدين الخالص} بالسيئات والمنكرات .. وقد خابوا وخسروا ولم تكن خسارتهم في الدنيا بل خسروها والآخرة وذلك هو الخسران المبين وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل الناس يغدوا فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» والحديث يتمم لكلام قبله قال صلى الله عليه وسلم في أوله حاحثًا على جُمل من الأعمال الصالحة (الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك (¬2). يا مسلم يا عبد الله وتشتد الحاجة للسعي الراشد في أزمان الغربة، وفساد الزمان، وقلة الأعوان .. إنهم الغرباء القابضون على دينهم كالقابض على الجمر، ولهؤلاء قال صلى الله عليه وسلم ((طوبى للغرباء أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)) (¬3). عباد الله المشي في مناكب الأرض لابتغاء الرزق، أو للنظر والاعتبار فيما خلق الله وبرأ أمر مشروع لكن لأنه لا ينفك عن العبودية لله والشكر على تذليل الأرض وبسطها ودحوها وتذكر المبدأ والنشور وتأمل قوله تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولًا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور، أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبًا فستعلمون كيف نذير}. ¬

(¬1) (السير 11/ 234). (¬2) رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه (صحيح الجامع 4/ 20، 21). (¬3) رواه أحمد عن ابن عمرو بسند صحيح (صحيح الجامع 4/ 12).

أجل لقد عرف الناس مسلمهم وكافرهم، وفي أقصى المعمورة وأدناها كيف تتحول هذه الأرض المذللة بإذن باريها إلى خَلْقٍ آخر يُدمِّر ما حوله في ثوان معدودة .. لا يملك البشر مهما أوتوا من قوة تذليلها ومنع كوارثها إنها حين تضطرب وتهتز وتقع الزلازل والبراكين المدمرة يتحطم كل شيء على ظهرها بناه الإنسان وشيده لعدة قرون أو نغوص في أعماق البحار والمحيطات حين تقع خسوف هنا أو هناك وتغيب قرى بأكملها وأناس وحيوانات في البر والبحر فسبحان القوي العزيز. وكذلك يشهد الناس حين تثور العواصف الحاصبة التي تدمر وتخرب، وتحرق وتصعق، والبشر بإزائها ضعاف لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا حتى يأخذ الله بزمامها ويُسكِّن رياضها، ويوقف أعاصيرها فتنقاد وتلين؟ فمن غير الله يبدئ ويعيد؟ الله القوي العزيز وبيده ملكوت كل شيء: قل للطبيب تخطفته يد الردى ... من يا طبيب بطبِّه أرداكا قل للمريض نجى وعوفي بعدما ... عجزت فنون الطب من عافاكا واسأل بطون النحل كيف تقاطرت ... شهدًا وقل للشهد من حلاكا وإذا ترى الثعبان ينفث سمَّه ... فاسأله من ذا بالسموم حشاكا واسأله كيف تعيش يا ثعبان ... أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا فالحمد لله العظيم لذاته ... حمدًا وليس لواحد إلاكا إن الإنسان قوي بالقدر الذي وهبة الله من القوة، عالم بالقدر الذي أعطاه الله من العلم، ولكن هذا الكون الهائل زمامه بيد خالقه، ونواميسه من صنعه، وكل شيء بقدر الله وتقديره {إنا كل شيء خلقناه بقدر} وحين ينسى الإنسان هذه الحقائق فيطغى ويغتر وينخدع، بما أوتي من علم أو مال أو قوة، فإنه يصبح مخلوقًا مسيخًا مستكبرًا مقطوعًا عن الله ولا يبالى الله به بأي واد هلك هذا النوع من الخلق!

ومع كتابة القدر وتحديد الآجال، والسعادة والشقاء .. فلا بد من العمل والأخذ بالأسباب الموصلة للنجاة دون تواكل سلبي .. فعول قدري عن العمل المثمر وفي صحيح مسلم: عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومع مخصرة فنكَّس (أي خفض رأسه وطأطأه نحو الأرض) فجعل ينكث بمخصرته، ثم قال ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة، قال فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، فقال: اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى}. اللهم اجعلنا ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ورزقنا عملًا نافعًا وعملًا صالحًا.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية أيها المسلمون ومع حلول الإجازات يشتد سعي الناس وتكثر سفراتهم وترحالهم، ففريق يشد الرحال لزيارة المسجد الحرام، وأداء العمرة والطواف والسعي، والصلاة في البيت العتيق، والصلاة هناك بمائة ألف صلاة وأكرم بها من رحلة للبيت الحرام. وآخرون يشدون رحلهم إلى المسجد النبوي حيث مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ودار الهجرة، ومآزر الإيمان .. والصلاة هناك عن ألف صلاة. كما أن الصلاة في مسجد قباء كعمرة كذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬1). وثمة من يسافرون لصلة الأقارب والتواصل مع الأرحام، ومن وصل الرحم وصله الله ومن قطعها قطعه الله .. وكم هو فساد في الأرض قطيعة الرحم والله يقول {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} وكم هو جميل أن يتعلم المسلم من نسيه ما يصله به رحمه، وصلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر وكذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). وفريق يرحلون إلى البراري ويصوون الصغار للنزهة وفسحة النفس، والتأمل في أرض الله الواسعة. وأيًا كانت جهة السفر .. فهو مرهون بحس أو سوء نية المسافر وما أحلى رفقة السفر يتعاونون على البر والتقوى ويقيمون الصلاة، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يحسنون ويتصدقون على المحتاج، ويعظون قومًا غافلين ¬

(¬1) (الجامع الصغير 3/ 265). (¬2) (صحيح الجامع 3/ 45).

عن ذكر الله، فإن لم تهدوا درهمًا أو دينارًا، أهدوا كلمة طيبة، وكتيبًا مفيدًا أو شريطًا نافعًا تحمل أعلام النبوة وتهدي للتي هي أقوم. عباد الله وليس من لوازم السفر السفور والتبرج، والتحلل من الفضيلة، والإقدام على الرذيلة .. ليس يسوغ في السفر كشف العورات ولا التساهل في الجماعات وثمة مخالفات يحسن تنبيه بعض المتنزهين بها ومن ذلك عدم تستر النساء، وركوب الدراجات أمام الرجال .. مع قلة الحياء وربما انقلب الفرح إلى أتراح حين يسقط طفل امرأة، ويصاب إصابات بالغة، وربما عرضت صور النساء على أجانب وربما كانت فضيحة للمرأة وهي لا تشعر كما تساهل الناس في التصوير، وتساهلوا مع الفتيات يتجولن في البراري لوحدهن وبعيدًا عن أهاليهن، وربما وقع المكروه من ضعف الرقابة والتساهل. كما يتساهل بعض أهل البراري بالرقص والغناء واستعاضوا به عن الشكر والذكر .. وليس يستوي لهو الحديث .. وترتيل القرآن فاشكروه ولا تكفروا نعمة يا أيها الأولياء أهاليكم وأولادكم وبناتكم أمانات في أعناقكم، وكما تحوطونهم في حضركم وحال إقامتكم فكذلك فحاجوهم في حال سفركم وترحالكم. أيها الناس وكما ترعوا أماناتكم في الذراري والأموال فارعوا أمانتكم في الحفاظ على الأوقات والاستفادة من العمر، وليس ثمة تعارض بين نزهة النفس وحفظ الوقت فلا يدري المرء أنحترمه ريب المنون في حال ** أو حال الإقامة. يا أهل الإسلام إن جهدًا بُذِلَ لتربية أبنائكم وبناتكم من خلال المؤسسات العلمية والتربوية بمراحلها كافة، لا ينبغي أن تُهدر في بضعة أيام من هذه الإجازة وإن أخوانًا لنا يعيشون المسعفة والحصار لا ينبغي أن ننساهم أينما حللنا أو ارتحلنا .. ولا تحقروا دعوة صادقة بظهر الغيب قد يكشف الله بها كربًا .. أو يشفى مريضًا، أو يفك مأسورًا، أو ينصر مظلومًا.

وقد نقل ابن القيم رحمه الله في الفوائد أن المواساة للمؤمنين أنواع، مواساة بالمال ومواساة بالجاه، ومواساة بالبدن والخدمة، ومواساة بالنصيحة والإرشاد ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم، ومواساة بالتوجع لهم، وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس مواساة لأصحابه بذلك كله، فلأتباعه من المواساة بحسب إتباعهم له (¬1). أيها المؤمنون عظموا ربكم ووقروه، ألا وإن من أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير لك من الناس وقلبك خال من تعظيم الله وتوقيره، فإنك توقر المخلوق وتجلُّه أن يراك في حال لا توقر الله أن يراك عليها، والله يقول {ما لكم لا ترجون لله وقارًا} [نوح: 13]. أي لا تعاملونه معاملة من توقرونه، وقيل: المعنى ما لكم لا تعرفون لله حقًا ولا تشكرونه، أو لا تعرفون حق تعظيمه (¬2). وتوكلوا عليه حق التوكل، وقد قال العالمون التوكل على الله نوعان: أحدهما توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية. والثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه. قال ابن القيم فمن توكل على الله في النوع الثاني فإن النوع الأول (¬3). اللهم اجعلنا ممن استهداك فهديته وتوكل عليك، اللهم اجعل عملنا مبرورًا وسعينا مشكورًا. ¬

(¬1) (الفوائد/ 222). (¬2) (الفوائد/ 242). (¬3) (الفوائد/ 112)

قيادة المرأة للسيارة

قيادة المرأة للسيارة (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه .. من الذي جعل من المرأة قضية؟ تُثار بمناسبة وبدون مناسبة وتُطرح في كل حوار وإن كان الحوار بعيدًا عن شؤون المرأة؟ لماذا هذه الإثارات؟ ومن المستفيد من هذه الاستفزازات؟ من أنصار المرأة حقًا ومن خصومها؟ ومن النَاصحون ومَنْ المغموسون في اجترار قضاياها؟ إن الإسلام لا يُجاري في إعطاء المرأة حقوقها، وفي تهذيب أخلاقها، والحرص على عفتها، وصون كرامتها. ولن يقوم أي نظام أرضي بديلًا عن الإسلام وإن وهم الواهمون، أو خُيل للمستغربين والمفتونين بحضارة الآخرين غير ذلك. إن المتأمل في نصوص الوحيين يجد مصطلحات عدة بشأن المرأة تجتمع على العفة والحياء، والقرار والصون لهذه الدرة الثمينة والبعد عن الخلطة بالرجال ونحوها من سلوكيات رفيعة نظيفة يشيد بها الإسلام ويدعو لها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم أليس القائل: ((وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)) هو العليم الخبير؟ وأين نحن جميعًا من قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين}. ألم يشد القرآن بحياء المرأة {فجاءته إحداهما تمشي على استحياء} ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 26/ 4/ 1426 هـ

[القصص: 25] ومن قبل عرض القرآن كنموذج المرأة في الخروج من البيت فالحاجة شرط لها، والبعد عن الاختلاط بالرجال ضمان لتزكيتها {قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير} [القصص: 23] فشيخوخة الأب والحاجة للماء أخرجت هاتين المرأتين والانتظار حتى يصدر الرعاء من الرجال خلق تجملت به هاتان المرأتان؟ وليس يخفى أن أزكى النساء أمهات المؤمنين .. ومع هذا قيل لهن {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولًا معروفًا} [الأحزاب: 32]. وإدناء الجلابيب وإرخاء الحجاب، وغضُّ البصر للرجل والمرأة كل ذلك مفردات كريمة جاءت نصوص الشريعة حافلة بها. وفي حقوق المرأة وواجباتها كفل الإسلام لها ذلك {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم} [البقرة: 228]، والنهي واضح في عضلن أو إرثهن كرهًا {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن} [النساء: 19] وفي حسن التعامل معها وتقدير مشاعرها جاءت النصوص الشرعية تقول: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي))، ((استوصوا بالنساء خيرًا))، ((لا يكرمهن إلا كريم)). أيها المسلمون إذا كانت تلك بعض نصوص الإسلام تجاه المرأة فأهل الإسلام أكثر الناس اعتدالًا وأحسنهم خلقًا، وأكرمهم تعاملًا مع المرأة .. وعلى قدر التزام المرء بالإسلام وفهمه وتطبيقه لنصوص الشريعة يكون قدر المرأة عنده وتتجلى أخلاقياته في التعامل معها دون إسفاف وقهر كالذي مارسته الجاهلية الأولى ودون إفساد وفتنة كالذي تمارسه الجاهلية المعاصرة. في عالم اليوم محاولات جادة لتنحية المرأة عن قضاياها المصيرية والهامة، وإشغال لها بقضايا استهلاكية هامشية ..

أين الطرح بقوة لرسالة المرأة في الإسلام، ودورها في الدفاع عن قيمها وإسلامها في زمن بات التهجم على القرآن ظاهرًا للعيان، والسخرية بالرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام يمارس من خلال وسائل الإعلام وتدعمه دول كبرى أين موقع المرأة المسلمة في عالم تتخذ المرأة الغريبة والشرقية مكانها لتعبر عن حضارة وقيم عالمها ومجتمعها؟ وهي تتقصد المرأة المسلمة بالغزو والتذويب والاستلاب والنهب؟ أين المؤتمرات الإسلامية العالمية للمرأة على غرار مؤتمر المرأة في بكين حيث التخطيط والدعم والإعلام؟ أين الحديث عن المطلقات وأين الحديث عن العنوسة والعانسات أين الدراسات الجادة لدور المرأة في التنمية بمفهومها الشامل حيث تبدأ انطلاقتها من البيت وتربية النشء في زمن ربَّات الخادمات والاستقدام المسعور للسائقين والخدم وفي هذا الجو لا تسأل عن ضعف التربية، وترهل المرأة، والاستنزاف الاقتصادي، والفساد القيمي والانتحار الخلقي وما ينشر في الإعلام من جرائم وموبقات عظيم عظيم وما يخفى ربما كان أعظم. أين الصيحات الصادقة والمنادية بتأمين كافة المستلزمات الصحية للمرأة من مستشفيات خاصة بالمرأة وعناية طبية فائقة، وتخفيف ساعات عملها حفاظًا على صحتها وإبقاءً لرونق أنوثتها؟ وفي التعليم والعمل من ينادي بتحسين تعليم المرأة، وصياغة مناهجها باستقلالية كاملة تخدم رسالة المرأة في بيتها، وتؤهلها للأعمال المناسبة لطبيعتها، وتثبِّت هويتها في معترك الصراع العالمي، ونصلها بالتبعية المعاصرة، ويصح على عالمها المعاصر دون عزلة أو تذويب وفي عملها ثمة مطالبات ناصحة لتخفيف عن ساعات العمل ونصابها والتدريس على المرأة مع الاحتفاظ بكامل مرتبها .. وثمة دعوات صادقة لتخفيف سنوات الخدمة حتى تحصل المرأة على التقاعد المبكر ..

لتتفرغ لرعاية بيتها وتربية أطفالها وتوفير جو السعادة لزوجها، مع الاحتفاظ بحقوقها المالية وحتى تتيح الفرصة لأخت لها على قائمة الانتظار الوظيفي. أين الجمعيات والهيئات المتابعة لعضل المرأة والاعتداء على حقوقها سواء من قبل الزوج أو الأب أو غيرهم أين المحامون عنها والمطالبون بحقوقها قضايا كثيرة يمكن أن تُدرج في الاهتمام بالمرأة ولكنها في سياق العفة والكرامة، وفي محيط الصدق والعمق، والنصح والأدب والتوازن والاعتدال. أما اختزال قضية المرأة في أمورها مشية .. فذلك نوع من التلاعب بقضايا المرأة .. بل هو يسير في اتجاه الاستفزاز، وإثارة الجدلية وهدر الأوقات والجهود، وبث روح التنازع والافتراق. خذوا على سبيل المثال (قيادة المرأة للسيارة) هل هي بالفعل حاجة ماسة لا تستقر حياة المرأة والأسرة والمجتمع إلا بها؟ ولا تصلح دنيا الناس إلا بها؟ وهل نكرم المرأة بقيادتها للسيارة أم أن مهنة القيادة لا تحتل قيمة مرموقة حين تصنف المهن؟ إن القضية في نظر المنصفين لا تعدو أن تكون موضوعًا جانبيًا متأخرًا في الترتيب لمن يرون ترتيب الأولويات بعيدًا عن الإثارة والضجيج وحين نفكر بهدوء هل قيادتها للسيارة ستخفف أم تزيد من مشكلاتنا الاجتماعية، والاقتصادية والأمنية فضلًا عن تأثيراتها القيمية وتداعياتها الأخلاقية. وإذا كنا نهتم بالدراسات ونعني بالتقارير، ونثمن النتائج فثمة دراسات هادئة تبرز النتائج المتوقعة لقيادة المرأة للسيارة وتشير هذه الدراسة إلى ما يلي: 1 - قيادة المرأة للسيارة ستضيف أعباء اقتصادية على المجتمع، وسترهق كوامن كثير من الأسر التي تعاني حتى توفر سيارة واحدة .. فكيف إذا أضيف إليها للأثاث مثلها .. وما يتتبعها من نفقات السير والمرور؟ والوقود والإصلاح.

2 - وقيادة المرأة للسيارة ستضيف مشكلات مرورية هائلة، وستحدث من الزحام ولاسيما في المدن الكبرى ما سيكون على حساب الوطن والمواطن. 3 - وستضيف أعباء أمنية كثيرة ذات مظاهر خطيرة هذا فضلًا عن المظاهر الخلقية وانتهاك القيم، وخدش الحياء والخلق. 4 - أما الزعم بحلها لمشكلة السائقين فالتجربة الموجودة في دول الخليج مثلًا تؤكد أن نسبة 80% من الأسر الخليجية لديهم سائقون مع كون قيادة المرأة للسيارة متاحة (¬1). وبكل حال فخسارة الأعراض أشد من خسارة الأموال (¬2). أيها الناس إن بلادنا غير محتاجة لمزيد من القلاقل والفتن، وليس فيها متسع للاستفزازات وردود الأفعال، وكفانا تجارب من سلفنا بل ويمكننا أن نأخذ الدرس من تجارب وقعت في محيطنا، وعلى سبيل المثال دخلت المرأة عالم الأسهم وهذا حلال لها، لكنها حين مارسة الاقتصاد بشكل مهم فماذا جنت وبماذا أخرجت؟ إليكم اعترافات بعضهن عبر عناوين سريعة نشرتها صحافتنا المحلية وتقول على السنة النساء وسوق الأسهم ((خرب الآلاف وأصبت بانهيار)). وأخرى تقول: ((انتظر أن يتراجع زوجي عن الطلاق والطامة حدثت مع هبوط سوق الأسهم)) وثالثة تقول: ((الطمع أعمى بصيرتي وأرى السخرية في عيني زوجي يوميًا)) (¬3). لقد كفل الإسلام لها حق النفقة على الأزواج .. ولئن تعيش المرأة سعيدة ¬

(¬1) (د. العشماوي، الجزيرة 20/ 4/ 1426 هـ). (¬2) (الشيخ الفوزان في رده على آل زلفه/ المدين - 26/ 4/ 1426 هـ). (¬3) (حمد القاضي/ الجزيرة 20/ 4/ 26 هـ).

آمنة مطمئنة .. وإن لم تسجل في قوائم المساهمين والتجار، خير لها من أن تملك القناطير المقنطرة .. ولكن على حساب سعادتها .. وأنوثتها .. وتكدير صفو عيشها مع زوجها وأولادها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهن على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا إن الله كان عليًا كبيرًا} [النساء: 34].

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية أيها المسلمون: قيادة المرأة للسيارة قضية محسومة في بلادنا بفتوى شرعية وبقرار سياسي، ونحن في بلد تحتكم إلى الشرع، ونطيع وليَّ الأمر أما الفتوى فقد صدرت من أعلى هيئة شرعية (هيئة كبار العلماء) مدعومة بالدليل، مدللة بفقه الواقع، معتبرة للمآلات مقدرة للنتائج، أليست هذه الهيئة محل ثقتنا .. أليست فتواها معتبرة لرجالنا ونسائنا؟ وإذا كانت فتواهم غير مقنعة عند فئة قليلة في المجتمع فهي بحمد الله محل للثقة والاعتبار عند غالبية المجتمع. وهل يراد من هذه الإثارات لقيادة المرأة للسيارة بين الفينة والأخرى هز الثقة بهذه المرجعيات الشرعية في بلادنا؟ هل يسوغ أن نسمع للهيئة الشرعية العليا في بلادنا، فيما نشاء ونحب ونتجاهل رأيها حين لا نشاء ولا نحب؟ إنها انتقائية يرفضها العقل المنصف ويردها الشرع المطهر، فالحكم الشرعي إذا صدر من أهل الفتيا والعلم فليس لمسلم أن يكون له الخيرة {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالًا مبينًا}. أليس الله يقول لنا {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}. ولقد سُئل أهل الذكر فأجابوا، وأُحيل موضوع قيادة المرأة للسيارة لهيئة كبار العلماء فأفتوا .. فماذا بعد؟ أنرغب أن تكون أمور حياتنا فوضى، كل يتدخل فيما يعنين وما لا يعنين، وكل يهرف بما يعرف وما لا يعرف، وكل يجعل من نفسه حكمًا ومفتيًا هذا يحلل وذلك يحرم، وهذا يخطئ وذاك ينتقد، وخامس يجرم وسادس يتهم .. وهكذا

تتحول أمورنا إلى فوضى عارمة، وفتن عمياء تفرق جمعنا وتذهب ريحنا، ويفرح العدو حين تكون المعركة محتدمة بيننا ألسنا نعطي القوس باريها في أمور السياسة والاقتصاد وننتقد حين يتدخل المهندس في عمل الطبيب أو يستشار الطبيب في عمل هندسي وهكذا في أمورنا الأخرى فلماذا نحيد ونتجاوز في مسألة حُكْم قيادة المرأة للسيارة عن الهيئة الشرعية التي اختارها الحاكم وزكاها .. وأحال إليها الأمر ورضي فتواها؟ ولقد أحسن نائب رئيس مجلس الشورى صنعًا وكان حصيفًا ومقنعًا ومنطقيًا ومنصفًا حين قال المسألة شرعية ولهيئة كبار العلماء الكلمة وقال المهندس محمود طيبة طيّب الله وجهه ((إن المسألة يجب أن تناقش من قبل أعلى هيئة شرعية في البلاد، وهي هيئة كبار العلماء لأنها سبق وأن أفتت في الأمر (¬1). على أن قضية قيادة المرأة للسيارة في بلادنا سبق وإن صدر فيه قرار سياسي، حين كانت شرارتها الأولى في أيام أزمة الخليج الأولى في التسعينيات وحينها صدر قرار الدولة بمنع قيادة المرأة للسيارة، بل وأكثر من هذا عوقبت اللاتي خرجن من النساء بالفصل من أعمالهن واستنكار تصرفاتهن فهل يريد المثيرون لهذه القضية من جديد إعادة الأمر جذعة ومراغمة الحكم الشرعي والقرار السياسي؟ إن ذاكرتنا تحتفظ بهذه المواقف ولن تنسى هذه الأحكام المنهية للفقه. أيها المؤمنون إن قيادة المرأة للسيارة عند أولي النهى لا يتعلق بقضية واحدة ولا بحكم فقهي محدد بل يستتبعها ويلحق بها أمور أخرى، لا بد أن نعيها ويتفطن لها حين تثار هذه القضية ومن التسطيح أن نقارن بين ركوب المرأة ¬

(¬1) (جريدة المدنية، ملحق الرسالة 26/ 4/ 1426 هـ).

للحمل وقيادتها للسيارة في زمن السعار الجنسي، والاختناق المروري، وغزو الفضائيات فهي أولًا جزء من مشروع كبير طالما دندن حوله المغموسون في ثقافة المرأة، والمنبهرون بوضع المرأة الغربية أنه جزء من تغريب المرأة وإن شئت فقل تغريب المجتمع والقضية كذلك رهان تسابق عليه فئة قليلة، وتتطلع من خلاله إلى التمرد على السلطة الشرعية .. وعلى القيم والأعراف وتريد أن تفرض إرادته الفئة القليلة على الأغلبية الساحقة. ومن هنا كان وزير الداخلية واعيًا ومدركًا لطبيعة مجتمعنا حين قال مؤخرًا إن القضية تتعلق بالمجتمع، وحين لا نحتاج إلى الاستفتاء في مسألة صدر الحكم فيها .. فلن نكون الاستفتاء النزيه لو وقع في مصلحة المطالبين بقيادة المرأة للسيارة. وقيادة المرأة للسيارة لا ينبغي أن تفصل عن مشاكلنا الاقتصادية وإن دلّس فيها المدلسون، ولا عن اختناقاتنا المرورية وإن تجاهلها المتعجلون، ولا عن قيمنا وأعراضنا وإن تسامح فيها المتسامحون. قيادة المرأة للسيارة ستنتقل المرأة من امرأة مخدومة إلى امرأة خادمة وستنقلها من ظلال المنزل إلى وهج الشمس ومن أمين القرار ونعومة المظهر إلى خطر الإطارات المتفجرة وذبول الزهرة بالتعب والمعاناة. من يكرم المرأة أهو الذي يستجيب لطلباتها ويوفر حاجياتها أم الذي يسوقها لتذهب بنفسها في حمأة الظهيرة، ويضطرها للخروج بنفسها أو بمن تعول في ساعات متأخرة من الليل في الحالات الطارئة؟ كم تتعرض النساء للمضايقات من قبل السفهاء وهن مترجلات وفي خطوات محدودة .. فكيف سيكون الحال إذا قادت السيارة بعيدًا عن وليها وبيتها؟ إن التحرش الجنسي ظاهرة لا تُنكر .. وإذا مورست مع المرأة وهي في بيتها

أو في السوق لقضاء حوائجها وهي في محيط الناس فكيف سيكون حال ضعفاء النفوس مع المرأة حين تقود السيارة في مكان تقل فيه الرقابة ويغيب الشهود؟ إننا - بقيادة المرأة للسيارة - نعرضها لمخاطر وأدواء هي في غنى عنها وطرقنا وشوارعنا لا نتحمل أعباد سيارتها ولا تنتعش صحيًا بعادم كربون مركبتها. إننا نثق بالمرأة لكننا نكرمها حين نقود السيارة بها .. ونثق بالمرأة ولكننا نحافظ على أنوثتها وجمالها حين نتحمل أعباء القيادة عنها. والواقع يشهد أن المرأة لم تتضايق من وضعها، ولم تشتك إلينا أو تطالبنا بتوفير القيادة لها ولكن البعض منا يريد تحقيق قاربه على أكتاف النساء وإن كان أولئك صادقون في المطالبة لها فليطالبوا بحاجيات أساسية للمرأة سبقت الإشارة إليها، وليرفعوا الظلم عنها من فئات تمارس الظلم بحقها. إن المرأة بخير في بلادنا .. والزاعمون لتحرير المرأة إن كانوا صادقين فليسهموا في رفع الظلم الواقع على المرأة حين تحتل بلادها ويصغي العاملون لها لقد عانت المرأة وما زالت في فلسطين من ظلم الصهاينة فماذا صنع أدعياء تحرير المرأة لها واليوم تعاني المرأة في العراق ألوان الظلم والاستبداد والحرب والاستعمارية والتصفية الطائفية فماذا صنع الرافعون لعقيدة تحرير المرأة؟

الحج والحملات

الحج والحملات (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ... أخوة الإسلام الحج ركن من أركان الإسلام، وفريضة على كل مسلم ومسلمة استطاع إليه سبيلاً، إنه شعائر ومشاعر وأحكام ومناسك، سنة الأنبياء، ونهج المرسلين، أذَّن به أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وهبط موسى عليه السلام ملبيًا حتى أتى ثنية هَرْشَ، ولبى يونس بن متى على ناقة حمراء جَعْدَة، وقال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده ليهلَّن ابن مريم بفجِّ الروحاء حاجًا أو معتمرًا أو ليَثْنِيَّنهما (أي يقرن بين الحج والعمرة) (¬2). وفجُّ الروحاء: مكان بين مكة والمدينة كان طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وحجة الوداع وهذا يكون بعد نزول عيسى عليه السلام من السماء في آخر الزمان (¬3). وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: في مسجد الخيف قبر سبعين نبيًا وقد صححه بعض العلماء وضعفه آخرون. صححه ابن حجر وضعفه الألباني (¬4). أيها المسلمون وكما أن الحج اتباع للمرسلين، واقتداءً بمحمد عليه الصلاة والسلام، فهو من جانب آخر مخالفة للمشركين، وإظهار للبراءة منهم ومن أديانهم وعوائدهم يتجلى ذلك في كثير من مشاعر الحج، وفيما أعلنه النبي صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) هذه الخطبة ألقيت في 24/ 11/ 1427 هـ (¬2) رواه مسلم 1252. (¬3) (محمد فؤاد عبد الباقي مسلم 2/ 915). (¬4) (البعداني: أحوال النبي في الحج/ 27).

على الملأ من تقصد مخالفة المشركين، وتظهر المخالفة في ابتداء التلبية فهي خالصة لله عند المسلمين (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك). أما المشركون فشركهم يبدأ من التلبية حيث يقولون (إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك). والرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون يقفون بعرفات، على حين ينتهي المشركون خاصة الخمس بالوقوف عند المزدلفة ويقولون: نحن أهل الحرم (لا نفيض إلا من الحرم) والرسول والمسلمون يفيضون من عرفة بعد مغيب الشمس، ومن مزدلفة قبل طلوعها، أما المشركون فكانوا يفيضون من عرفة قبل المغيب، ومن مزدلفة بعد الشروق، وكذلك خالفهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (هدينا مخالف لهديهم) (¬1). إلى غير ذلك من أمور خالف فيها الرسول والمسلمون المشركين حتى قال ابن القيم رحمه الله: (استقرت الشريعة ولاسيما في المناسك على قصد مخالفة المشركين) (¬2). إنها البراءة من الشرك والمشركين ومخالفة نهجهم، والتأسي بالأنبياء وهديهم، وكذلك يؤسس الحج لقضية الولاء والبراء، والإتباع والانقياد لهدي المرسلين عليهم السلام. عباد الله وكما يذكر الحج بالولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين فهو يذكر بالتقوى .. والمتأمل في عدد من آيات الحج يجدها تختم بالتقوى ففي قوله تعالى: ¬

(¬1) السنن الكبرى للبيهقي 5/ 125 والمستدرك 2/ 304 وصححه ووافقه الذهبي. (¬2) شرح ابن القيم لسنن ابن داود (5/ 146).

{وأتموا الحج والعمرة لله} ختمت الآية بقوله: {واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب}. وفي قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات} ختمت بقوله تعالى: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب}. ومثل ذلك في قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات}، وفي قوله تعالى {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن ينال التقوى منكم}. إنها آيات تذكر المسلم عمومًا، والحاج خصوصًا بتقوى الله ومراقبته وهذه الرقابة في أيام معدودات يراد لها أن تتحول إلى منهج وسلوك مستديم في الأيام التاليات فيبقى المسلم متقيًا لله في كل حين. أيها المسلمون عظموا شعائر الله، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب .. فليس الحج رحلة تتحرك فيها الحافلات والأجساد من موقع إلى آخر دون وعي بل الحج رحلة قدسية يجتمع فيها شرف الزمان وشرف المكان، وشرف العمل أما الزمان فأيام عشر ذي الحجة تلك التي أقسم الله بها في كتابه {وليال عشر} وقال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل أيام الدنيا أيام العشر» - يعني عشر ذي الحجة - قيل ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفَّر وجهه في التراب) (¬1). أما فضل المكان فهو بيت الله الحرام، والمشاعر العظام (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنًا). أما فضل العمل فهو لأفضلية العمل الصالح في عشر ذي الحجة (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، قالوا ولا الجهاد في سبيل الله .. الحديث ¬

(¬1) رواه البزار وابن حبان وصححه الألباني.

أيها الحاج إذا عرفت شيئًا من مقاصد الحج وقيمته وعظم مشاعره فخليق بك أن تعلم الحج المشروع بأركانه وواجباته وسننه حتى تعبد الله على بصيرة .. وكم هو مؤلم أن يذهب عدد من الحجاج للحج وهم يصنعون كما صنع الناس، ولو أخطأ من حولهم لأخطأوا معهم، وهنا أنبه إلى أمرين مهمين: الأول أن يقرأ الحاج عن الحج ما يعينه على فهم المناسك كما أمر الله وكما سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القائل: «خذوا عني مناسككم» والكتب والمطويات والأشرطة عن الحج متوفرة بحمد الله وبعدد من اللغات. ثانيًا: أنبه إلى أهمية اختيار الرفقة في الحج، فرفقة الحج تختلف عن رفقة الرحلات الأخرى فلابد أن يختار الحاج رفقته بعناية ويحرص على من يعينه على أداء نسكه، يذكره إذا نسي، ويعلمه إذا جهل، ويعينه على تعظيم شعائر الله أيها الأولياء حري بكم أن تبرؤوا ذممكم بالحج بمن فرض عليه الحج من أهليكم وأولادكم ذكورًا أم إناثًا وهو مستطيع ولم يحج بعد ولكم في رسول الله أسوة حسنة، فقد حج بنسائه كليهن معه (¬1). كما خرج بضعفة أهله معه (¬2). بل حرَّض على الحج حتى من كان مريضًا منهم فقد دخل صلى الله عليه وسلم على ابنة عمه ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها وهي عليلة فقال لها: ما يمنعك يا عمتاه من الحج؟ فقالت: أنا امرأة سقيمة، وأنا أخاف الحبس، فقال فأحرمي واشترطي أن محلك حيث حبست (¬3). ¬

(¬1) (ابن القيم: زاد المعاد 2/ 106). (¬2) (البخاري 1678، 1680، مسلم 1293). (¬3) البخاري 5089، صحيح سنن ابن ماجه 2375.

وفي رواية أنه قال لهما: أما تريدين الحج هذا العام؟ (¬1). فهل نتفقد أهلينا وذوينا لأداء ما افترض الله عليهم، لاسيما وقد جاء الأمر صريحًا في التعجل للحج حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم (تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له) (¬2). عباد الله .. وإذا خرجتم للحج فاعلموا أن الحج مدرسة يربى من خلالها .. كيف لا والحج شعار للوحدة بين المسلمين، لباسهم واحد، وإهلالهم واحد، ومناسكهم واحدة .. يستوي في الحج الضعفاء والأقوياء، والمأمورون والأمراء، والأغنياء والفقراء. كم تسيل بهم مناسك الحج زرافات وجموعًا يختلط فيها العربي بالأعجمي وأهل المشرق بأهل المغرب، والصغير والكبير والذكر والأنثى؛ فلا إله إلا الذي خلقهم، ولا رب إلا الذي وحدهم على هذا النسك العظيم في الحج فرض ومواطن تُذرف فيها الدموع بكاء وخشية لله، وفي الحج مناسك يبلغ الزحام والتدافع حدَّ الموت .. وحق للحاج في مواطن البكاء أن يبكي وفي مواطن التدافع أن يترفق بإخوانه المسلمين وفي الحج أنظمة ومنظمون ورجالات تعمل، ومؤسسات تبذل ومن حق هؤلاء على الحجاج أن يقدروا جهدهم، وأن يسمعوا لتوجيهاتهم، وأن يشكروا للباذلين بذلهم، وللميسرين للحج جهودهم وفي الحج فرض للعلماء وطلبة العلم والدعاة أن يعلموا وأن يفتوا وأن يدعوا إلى الله بالحسنى فهي مناسبة إسلامية عالمية. وفرص للمحسنين أن يحسنوا وكم هو مبهج للنفس أن ترى وجودًا للمحسنين ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه 2376. (¬2) رواه أحمد في المسند 2868 وهو حسن لغيره. (أحوال النبي في الحج/ البعداني/ 142).

في كل مكان .. هذا يوزع طعامًا وآخر يوزع ماءً أو عصيرًا أو لبنًا، وثالث يوزع كتبًا أو أشرطة نافعة للحجاج ولا يعذر أحد على تقديم الخير والإحسان .. فمن أسعف مريضًا، أو ساعد عاجزًا، أو أرشد مسترشد .. فهو محسن وأجره على الله، ومن لم يحتج إليه في هذا ولا ذاك فليقل كلمة طيبة وليدع لإخوانه المسلمين، وليتحسس حوائج المحتاجين، إلا أن في الحج منافع ومقاصد وصدق الله {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام}. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أقول ما تسمعون وأستغفر الله.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية معاشر المسلمين تذكرون جميعًا بالموسم القادم، فرصة العام، وسيدة الأيام، إنها عشر ذي الحجة، ليس بينكم وبينها سوى أيام معدودة، وكم ستخترم المنا أناسي قبل بلوغها، إلا وأن من حسن طالع المرء أن يتشوق لبلوغها فإذا بلغه الله إياها أن يجتهد في عمل الصالحات فيها، سواء كان حاجًا أم مقيمًا .. إنها فرصة لأن تعمر بالذكر، وتلاوة القرآن والصيام، والصدقات والإحسان، والدعوة للخير .. وكفى بقسم الله فيها داعيًا لأهميتها، وكفى بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم هاديًا لاستثمارها .. إلا وأن من علائم الخير أن يفكر المسلم قبل حلولها في أنواع الطاعات التي سيعملها فيها، وأن تكون هذه العشر محطة للمسلم يتزود منها لعامه فيها، بل ويودع عامة بحسن العمل فيها يا من قصرتم في الجهاد - وكلنا كذلك - وهو ذروة سنام الإسلام عوضوا بهذه العشر فقد قال حبيبكم محمد صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء». ومرة أخرى اسأل نفسك ماذا أعددت لهذه العشر؟ ثم حاسب نفسك بعد دخولها على العمل. أيها المسلمون وألتفت إلى الحجاج وإلى حملات الحج لأقول: فإن كره بعض الناس هذه الحملات إما لعدم قدرته المادية على تكاليفها أو لرغبة البعض في أخذ راحتهم بوسائلهم الخاصة وأماكنهم المفضلة إلا أن في الحملات فرصة للتنظيم والفائدة، وتقليل المراكب والدعوة للتعارف والتآلف بين الحجاج وهذا من منافع الحج وشكرًا لأصحاب الحملات حين يتنافسون في تقديم خدمات

مخفضة للمحتاجين حتى لا يكون الهدف ماديًا فحسب، على أن المهم أن تتنافس الحملات في تقديم الخدمات لحجاجها، وألا تكون الدعاية والإعلان أكبر من حجم التطبيق الواقعي، فذاك الذي يُفقد الحملة مصداقيتها ويجعل الناس ينفرون ويُنفرون غيرهم مستقبلاً من المشاركة فيها. أما خدمات التوعية فقد أصبحت جزءً من مظهر الحملات وأسلوبًا لتسويقها - وهذا شيء جميل - لكن من المهم في توعية الحملات ألا تكون متخمة للحجاج بحيث لا يجدون فرصة للخلوة بربهم، أو لقراءة القرآن بمفردهم أو لمزيد من ممارسة العبادة الفردية في تلك الأيام الفاضلة ومن المهم كذلك أن تكون التوعية شاملة فلا يُتخمون بالحديث عن الحج طوال الرحلة مع حاجتهم لقضايا تربوية وآداب وتنبيهات أخرى قد يكون استعدادهم لها في هذه الظروف أكثر من غيرها. ومن المهم - في هذه الحملات - أن تنال المرأة عناية إن لم تفق العناية بالرجال فلا تقل عنها، لأن فرص توعية المرأة أقل من فرص الرجال، وفوق ذلك العناية بمكانها ونوع خدماتها الأخرى. الحملات فرصة لاكتشاف الطاقات وتوظيفها، فقد تكون ضمن إفراد الحملات طاقات من المهم تقديرها واستثمارها وحسن التعامل معها - والحج فرصة للتعارف والتآلف - والحج فرصة عالمية ومن المهم مساهمة الحملة في إيجابيات هذه العالمية - بحيث يرشد الضال، ويطعم المسكين، ويترحم الغير العربي، وتقضى حاجات كثيرة من خلال مجموع أفراد الحملة. كل ذلك يتم باستشعار هذا المعنى والدعوة لتفعيله وبشكل لا يؤثر على نظام الحملة وانتظامها - يقال للحجاج في الجملة وأصحاب الحملات خاصة أن الحج بعمومه فرصة لاكتشاف الأخلاق، والحملة ميدان لاكتشاف تطبيقات

الأخلاق فثمة منافع عامة يشترك فيها أصحاب الحملة وقد يحتاجون إلى الإيثار أو إلى الصبر، والتحمل .. وهنا تسفر الأخلاق عن وجهها ويتبين المؤثر من الأناني، والصبور من الجزع وهكذا .. فلتمتحن أخلاقنا ولنُصبِّر أنفسنا على آثار ومخرجات الخلطة في أيام معدودة. ويقال لأصحاب الحملات إياكم والوعود الهلامية لأنواع الخدمات المقدمة ثم يتفاجأ المشاركون في الحملة بخلاف ذلك .. إنه الكذب والتلاعب بمشاعر الناس .. ولا كثر الله أصحاب هذه الحملات .. كما أن الإسراف ممنوع فالتقتير مرفوض .. وإذا قيل هذا لأصحاب الحملات قيل للمشاركين في الحملة ولا يكن الأكل والشرب همَّكم فإذا تأخر الطعام عن موعده قليلاً - لعذر ما - قامت الدنيا ولم تقعد .. إنه التعاون والتفاهم والصدق والتحمل ينبغي أن تسود أجواء الحملات حتى تؤدى المشاعر بعيدًا عن الخصومة والجدال المنهي عنها في كل حين ولاسيما في الحج {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} حقًا يا أخي الحاج تكرم بقراءة كتاب أو سماع شريط نافع عن الحج قبل أن تؤدي المناسك، واجتهد باختيار رفقة الحج تربت يداك. وختامًا أيضًا -أيها المسلمون عامة- عظموا شعائر الله واستثمروا فرص الطاعات، {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض} .. ألا أنها فرض للمقصرين أن يعوضوا، وفرض للمسرفين في المعاصي أن يتوبوا .. وفرص للمجتهدين في عمل الصالحات أن يزيدوا. اللهم بلغنا عشر ذي الحجة، وأعنا فيها على عمل الصالحات اللهم يسر للحجاج حجهم واحفظهم في مناسكهم، وارجعهم إلى أهليهم وبلادهم سالمين غانمين.

الاعتصام بالوحيين وأسباب الخلاف (¬1) الحمد لله رب العالمين جعل الدين الحقَّ دينًا واحدًا فقال {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم} [آل عمران: 19] وحكم ببطلان ما سواه فقال جلَّ من قائل عليمًا {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران: 85] وجعل من سمات هذه الأمة الوحدة مع تباعد الزمان واختلاف المكان وكثرة المرسلين واختلاف الشرائع فقال {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} [الأنبياء: 92]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أوصى عباده بالاعتصام بالكتاب والسنة ونهى عن الفرقة والاختلاف فقال: {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا} [آل عمران: 103]. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله كان من أواخر ما أوصى به أصحابه كما نقل العرباض بن سارية رضي الله عنه: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كلَّ بدعة ضلالة» (¬2). اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى آله المؤمنين وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اتقوا الله معاشر المسلمين واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، {ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 18/ 5/ 1429 هـ. (¬2) حديث حسن رواه أحمد وأبو داود والترمذي والدارمي. (شرح السنة للبغوي 1/ 205).

عباد الله وحين يغيب الاعتصام بالكتاب والسنة يتفرق الناس شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون، وتسود الفرقة والتناحر بدل الوحدة والألفة تستبدُّ بالناس الأهواء، ويعود المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا. ويتهاون الناس بالواجبات المتحتمات ويتشبثون بالبدع والخرافات فهذا يقيم مولدًا، وذاك يستغيث بميت أو يطوف حول قبر، وفئة تعظم (رجبًا) وربما كان عندهم أفضل من شهر الصيام، وأخرى تعتقد أفضلية خاصة (ليلة النصف من شعبان) وتعتقد في أحيائها فضلًا خاصًا بها، ومائة ثالثة تعني بأوراد وأذكار جماعية وفرقة تعظم مزارات مبتدعة أعظم من تعظيم الكعبة. أيها المسلمون إن ما تلحظون في عالمنا الإسلامي من الاختلاف والفرقة، ومشو البدع وقلة المستمسكين بالسنة إنما هو ثمرة طبيعية للبعد عن هدي الكتاب والسنة والجهل بهما أو التجاهل لنصوصهما، والله تعالى يقول {ومن يَعْش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا فهو له قرين} [الزخرف: 36]. قيل: معناه: من يُعرض عن ذكر القرآن وما فيه من الحِكم إلى أقاويل المضلِّين وأباطيلهم، نعاقبه بشيطان نقيضه له حتى يضلَّه ويلازمه قرينًا له». وذكر ابن كثير نظيرها قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى نوله ما تولى} (¬1). أجل لقد اقتضت حكمة الله أن يتباين الناس في آرائهم وأن تختلف اجتهاداتهم. لماذا الكتاب والسنة؟ {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربُّك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربِّك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} [هود: 118، 119]، ¬

(¬1) (شرح السنة 1/ 190).

ولكن الله جعل للمسلمين ضمانة الاتفاق إن هم احتكموا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلًا} [النساء: 59]. إنها قطع الاختيار، وإنهاء النزاع، والتسليم لأوامر الشرع المطهر كذلك يكون الإيمان وبذا يوصف المؤمنون {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالًا مبينًا} [الأحزاب: 36]. وبمثل ذلك تُضرب الأمثال، أخرج البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال بعضهم إنه نائم، وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلًا، فاضربوا له مثلًا .. فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارًا، وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا: أوِّلوها له يفْقهْها، قال بعضهم: إنه نائم وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أطاع محمدًا فقد أطاع الله، ومن عصى محمدًا فقد عصى الله، ومحمد فرَّق بين الناس» (¬1). هكذا فرق محمد صلى الله عليه وسلم بين المطيع والعاصي فمن اتبع السنة ولزم الحقَّ وإن خالف هواه فذلك المطيع، ومن هجر السنة واتخذ إلهه هواه فذلك العاصي. أمة الإسلام لقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من شرِّ الفرقة والاختلاف، ويرى أن إلباس الناس شيعًا وإذاقة بعضهم بأس بعض أعظم من رجم السماء أو خسف ¬

(¬1) (صحيح البخاري مع الفتح 13/ 249).

الأرض، وفي ذلك روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم} [الأنعام: 65]، قال: أعوذ بوجهك {أو من تحت أرجلكم} قال أعوذ بوجهك، فلما نزلت: {أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال: هاتان أهونُ أو أيسر (¬1). ولاشك أن المتبعين لهدي محمد صلى الله عليه وسلم يجمعون الكلمة ولا يفرقونها ويؤلفون بين المسلمين ولا يفرقون جمعهم، وينصحون صادقين لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ولا يطلبون أجرًا على نصحهم وماذا تستفيد الأمة من التفرق وفيها من الأدواء ما لا يحتمل المزيد وفيها من الجراح ما يكفي لشغل أوقات الفارغين إن لم تكن لهم همة سوى تضميد الجراح، أما أن تُستنزف دماء أخرى وتوسِعَ دائرة الجراح فذلك لا يُسلِّم به العقلاء فضلًا عمن يدعي الصلاح والتقى ألا وإن من أسباب الفرقة والخلاف بين المسلمين تتبع العورات وتصيد الزلات، والتزيد في الاتهامات، وإساءة الظنون واتهام النوايا، وتفسير المقاصد، والتهويش والتحريش بين المسلمين وإثارة المعارك الكلامية، وكل ذلك لا يخدم مصلحة المسلمين، وإنما هو سهم من سهام الشياطين، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم» (¬2). وهل غاب عن المسلمين عمومًا وأولئك المشتغلين بأعراض الصالحين ¬

(¬1) (الصحيح مع الفتح 13/ 296). (¬2) رواه مسلم وغيره (انظر: مختصر صحيح مسلم للمنذري ص 478 ح 1804، صحيح الجامع الصغير 2/ 72).

خصوصًا قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظنَّ فإن الظنَّ أكذب الحديث ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا» (¬1). وكان السلف رضوان الله عليهم يعيبون هذا المنهج المتخوّض في أعراض المسلمين ويخوفون أصحابه، وفي صحيح مسلم باب لا يدخل الجنة قتَّات، عن همام بن الحارث قال: كنا جلوسًا مع حذيفة رضي الله عنه في المسجد، فجاء رجل حتى جلس إلينا، فقيل لحذيفة: إن هذا يرفع إلى السلطان أشياء، فقال حذيفة: إرادة أن يُسْمِعَه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل الجنَّة قتَّات» (¬2)، ألا إنها ذكرى والذكرى تنفع المؤمنين، ومن يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا {ومن تاب وعمل صالحًا فإنه يتوب إلى الله متابًا} [الفرقان: 71]. ¬

(¬1) (رواه مسلم، مختصر المنذري/ 477). (¬2) (مختصر المنذري لصحيح مسلم ص 478، ح 1808).

نابتة القرآنية

نابتة القرآنية الخطبة الأولى أيها المسلمون ونبتت نابتة أخرى في بلاد المسلمين ترى التشكيك في كتب السنة، وربما أنكر أو شكك بعضهم بأحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وربما بلغت الجرأة ببعضهم أن يقول: نحن بشر ومحمد بشر فما وجدنا في كتاب الله قبلناه، وما وجدنا في السنة قبلنا ما تحتمله العقول وأنكرنا ما عداه؟ وأيَّ عقل نرتضيه، ومن ذا الذي يُقدم بين يدي الله ورسوله؟ وهؤلاء مصدر خطر على وحدة الأمة واعتصامها بالكتاب والسنة، وهم سبب في فرقة الأمة وانشطارها، ومكمن خطر في حاضر الأيام ومستقبلها وأنى لهذه الأفكار أن تروج عند المسلمين الذين يعتقدون بأن السنة رديفة القرآن، وهي إحدى الوحيين، وصاحبها عليه الصلاة والسلام هو القائل: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» (¬1). والحق تبارك وتعالى يقول: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80]. ويقول: {وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7]، وفي آية ثالثة: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} [النور: 63]. والمعنى كما قيل: لا تجعلوا دعاء الرسول إذا دعاكم لأمر أو نهي كدعاء بعضكم بعضًا تجيبون إذا شئتم وتمتنعون إذا شئتم (¬2). والسنة شارحة للقرآن ومبيِّنة لمجمله والله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وأنزلنا إليك ¬

(¬1) رواه الترمذي وحسنه (شرح السنة 1/ 201). (¬2) (شرح السنة 1/ 191).

الذكر لتبين للناس ما نزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون} [النحل: 44]. وعن هذا الضَّرب من الناس بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم وحذَّر فقال: «لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه» (¬1). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنه سيأتي أناس يأخذونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنة، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله» (¬2). ويقول الزهري رحمه الله: «لا تُناظرْ بكتاب الله ولا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: لا تجعل شيئًا نظيرًا لهما فتدعهما لقول قائل» (¬3). ألا فاحذورا عباد الله هذه الدعوات المضلّلة، وتنبهوا لهذا التحرر الفكري الخطير، وإن لُبِّس بلبوس التجديد والمعاصرة والانعتاق من التقليد؟ أعوذ الله من الشيطان الرجيم {فإن لم يستجيبوا لك فإنما يتبعون أهواءهم ومن أضلُّ ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [القصص: 50]. نفعني الله وإياكم بهدي كتابهن ورزقني وإياكم والمسلمين الاقتداء بالسنة أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه يغفر لكم. ¬

(¬1) حديث حسن أخرجه الشافعي في الرسالة، وأحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والترمذي في جامعه وغيرهم. (شرح السنة 1/ 200، 201). (¬2) (شرح السنة/ 202). (¬3) (شرح السنة للبغوي 1/ 202).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أوحى إلى عبده فيما أوحى {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء} [الأنعام: 159]، أولئك هم أهل الأهواء والبدع وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وهو القائل «إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (¬1). اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. أما بعد عباد الله فإن من أعظم أسباب الفرقة والحيدة عن الكتاب والسنة إتباع الهوى، فقد يكون صاحبه يعلم الحقَّ لكنه يُغمض عنه ويستجيب لهواه، قال الله تعالى: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} [القصص: 50]، {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [ص: 26]، وقال عز وجل: {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم} [البقرة: 213]. أي على علم أن الفرقة ضلالة ولكنهم فعلوه بغيًا (¬2). وإتباع الهوى يبلغ بصاحبه الابتداع في الدين وعبادة الله بما لم يأذن به الله، ومن عبد الله بمستحسنات العقول فقد قدح في كمال هذا الدين، واتهم محمدًا صلى الله عليه وسلم بعدم التبليغ، قال الإمام مالك رحمه الله: من أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الدين، لأن الله يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا» (¬3). ¬

(¬1) (رواه مسلم ح 867 في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، شرح السنة 1/ 211). (¬2) (شرح السنة 1/ 210). (¬3) (الاعتصام للشاطبي 2/ 53).

وقد يكون الهوى رغبة في مطمع دنيوي، أو تطلعًا إلى منصب إداري أو حُلُمًا في مكانة اجتماعية، أو ليثبت نفسه أمام الناس بالمخالفة ليس إلا. والهوى - عباد الله - أيًا كانت دوافعه مرتع وخيم، وآفة مهلكة وحجاب يمنع صاحبه النور، ويفصله ويعزله عن جماعة المسلمين {ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور}. ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الأهواء وأثره فيهم وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلا واحدة في الجنة وهي الجماعة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجاري بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مَفْصِلٌ إلا دخله» (¬1). قال صاحب النهاية: «الكلب» بالتحريك: داء يَعْرِضُ للإنسان من عضِّ الكلب الكلب، فيصيبه شبه الجنون، فلا يعضُّ أحدًا إلا كلب، وتعرض له أعراض رديئة ويمتنع من شرب الماء حتى يموت عطشًا» (¬2). وحذّر السلف من الأهواء فقال الربيع عن الشافعي: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك، خير له من أن يلقاه بشيءٍ من الأهواء» (¬3). وجماع الأمر أيها المسلمون والمخرج من هذا كما قال يحيى بن سعيد، سمعت أبا عبيد يقول: جمع النبي صلى الله عليه وسلم جميع أمر الآخرة في كلمة «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ» وجميع أمر الدنيا في كلمة «إنما الأعمال بالنيات» يدخلان في كل باب» (¬4). ¬

(¬1) رواه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح (شرح السنة للبغوي 1/ 213). (¬2) (4/ 195). (¬3) (شرح السنة 1/ 217). (¬4) (شرح السنة 1/ 218).

فاحرصوا على هذين الأمرين الإتباع والإخلاص تهتدوا وتسلموا. أيها المسلمون وأحيانًا تكون الحيدة عن هدي الكتاب والسنة بسبب الرغبة في زيادة الخير والغلو في الدين، والإسلام يمنع الزيادة التي لم يأذن بها الله، ولم يهد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعًا لمداخل الشيطان وحفاظًا على وحدة الأمة من الفرقة والشتات وحذرًا من الفتنة في الدين، وفي قصة النفر الثلاثة الذين جاءوا يسألون عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالّوها، وأرادوا المزيد عليها - عبرة وعظة - فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر أنا أصوم النهار ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬1). وروي أن رجلًا قال لمالك بن أنس رحمه الله: من أين أُحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الرجل: فإن أحرمت من أبعد منه؟ قال: فلا تفعل فإني أخاف عليك الفتنة، قال وأيُّ فتنة في ازدياد الخير؟ فقال مالك: فإن الله تعالى يقول: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} [النور: 63] وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك خُصصت بفضل لم يُخصَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬2). عباد الله ومن أسباب الزيغ والاختلاف المبالغة في الأسئلة والتكلف فيما لا يعني، والجدل العقيم واتخاذ المراء ديدندًا وطريقة، قال عليه الصلاة والسلام ¬

(¬1) (الحديث متفق على صحته: البخاري في النكاح 9/ 89، 90، ومسلم في النكاح ح 1401). (¬2) [المجموعة الثانية من خطب ابن حميد/ 14].

محذرًا: «دعونكم ما تركتم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» (¬1). قال ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث إشارة إلى الاشتغال بالأهم المحتاج إليه عاجلًا عما لا يحتاج إليه في الحال (¬2). فحري بالمسلم الصادق أن يعمل بما يعلم، ثم يسأل عما يحتاج إليه مما لا يعلمه أما إضاعة الأوقات في الخصومة والمراء، والمفاخرة والتطاول في الجدل فتلك وربي من علائم الضلال، وليست من الهدى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» (¬3). ألا فاتقوا الله معاشر المسلمين وكونوا عباد الله إخوانًا، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وعليكم بالثبات على هدي الكتاب والسنة وإياكم والتلون وإتباع الأهواء، وإليكم هذا الحوار المعبر، والنصح الصادق بين صحابي وآخر، فقد دخل ابن مسعود على حذيفة رضي الله عنهما فقال: اعهد إليَّ، فقال له: ألم يأتك اليقين؟ قال: بلى وعزة ربي، قال: فاعلم أن الضلالة حقَّ الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وأن تنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلوَّن فإن دين الله واحد» (¬4). اللهم ارزقنا البصيرة في ديننا والثبات على كتاب ربنا وسنة نبينا واعصمنا من الأهواء المضللة والفتن المهلكة. هذا وصلوا على النبي المصطفى. ¬

(¬1) رواه البخاري (الصحيح مع الفتح 13/ 251). (¬2) (الفتح 13/ 263). (¬3) (حديث حسن رواه الترمذي وأحمد وغيرهما (صحيح الجامع الصغير 5/ 146). (¬4) (شرح السنة للبغوي 1/ 216).

الشباب إيجابيات وسلبيات نماذج وتوصيات

الشباب إيجابيات وسلبيات نماذج وتوصيات الخطبة الأولى (¬1) إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا. فئة من المجتمع تستحق الرعاية والاهتمام، نسبتها في الإحصاءات عالية، والاهتمام الدولي والمحلي بها ظاهرة، تستحوذ على اهتمام المخططين للمستقبل، بها يقاس قوة المجتمع أو ضعفه طاقتها كبيرة، والمخططات لإصلاحها أو إفسادها كثيرة هذه الفئة لها إيجابيات تستحق الإشادة والمتابعة ولها سلبيات تستوجب النظر والعلاج. إنهم الشباب (الفتيان والفتيات) لفت القرآن الإشارة إليهما {قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم} وأصحاب الكهف {إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى}. وجاء في السنة النبوية العناية بهما «وشاب نشأ في طاعة الله» «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج» وفي السيرة النبوية اعتمد النبي صلى الله عليه وسلم على الشباب في الدعوة والهجرة، والجهاد، وتعلم العلم وتعليمه وهل كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا شبابًا أحداثًا .. ومصعب بن عمير ومعاذ بن جبل، وعلي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس وابن عمر، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل نماذج لهؤلاء الشباب وفي مجالات متعددة. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 21/ 3/ 1429 هـ

أخوة الإسلام العناية بالشباب عناية بالمجتمع فهم يمثلون (نسبة كبيرة) منه، وفاعلة فيه والالتفات للشباب عناية بالمستقبل، فهؤلاء هم رجالاته وصانعوا تاريخه. إن المتأمل في وضع الشباب، يرصد إيجابيات تسرُّ وتفرح ومنها الحرص على الصلاة والإقبال على المساجد، والانخراط في حِلَقْ تحفيظ القرآن، والبحث عن السنة ومحاولة الالتزام بها والمشاركة في الدعوة، وطلب العلم، ومحبة العلماء، ومحاولة تقديم النموذج الأمثل للشباب، والبر والصلة، والإحسان والحسبة. وأيًا ما كان إجادة الشباب أو الشابات في هذه الأمور أو غيرها، أو تقصيرهم .. فالرغبة موجودة والدافع وإن ضعف يقوى، والملاحظات وإن وردت تُعالج، والجميل أن لدى الشباب استعدادًا للتوجيه، وقدرة على تطوير الذات وهذه وتلك تفرح وتسر. لكن ثمة ما يحزن ويؤلم ويحتاج إلى وعي بالداء ومعرفة بوضع الدواء، وصبر على المتابعة والتربية. إنها أخطاء يقع فيها الشباب .. ممارسات سلوكية مشينة وفراغ قاتل، وتسكع في الشوارع واعتداء على الآخرين وغيبة في الاستراحات - ولا تسأل عن موائدها - وخروج عن البيت وغيبة عن الأهل لساعات طوال لا يدري الأبوان فضلًا عن الأخوان والأخوات أين يكون هذا الشاب؟ نهم في العكوف على الفضائيات وأي فضائيات - إنها سارقة الدين والخلق، مثيرة الغرائز والفتن. وانشغال ولساعات طوال في الشبكات العنكبوتية، ولا سيما في مواقع مشبوهة، ومحادثات ودردشات هابطة وإدمان على مشاهدة برامج معينة في ما

يسمى (بالسني) أو ما يسمى بـ (بلي ستيشن) وما فيها من غزو للأفكار والمعتقدات. ضعف في الدراسة وعقوق للوالدين وانطواء وعزلة عن الأسرة والمجتمع، تهور في القيادة وتسبب في قتل أنفس بريئة .. تهافت على الوجبات السريعة وزهد في طعام الأهل وموائد الأسرة ويسوءك في هذه النوعية من الشباب سهر مفرط - وعلى غير فائدة - بل ربما كان على أمور مشبوهة. ونوم ولساعات طوال في النهار يفوِّت الصلوات المكتوبة ويكون على حساب العمل أو الدراسة، ويشكل خطرًا يهدد الصحة ويدعو للانطواء والسلبية فماذا ترجوا من شباب يطيل السهر أن يقدم خدمات لأهله وأسرته. وربما نفعهم البعيد والقريب يغط في نوم عميق؟ والأخطر من ذلك حين يساق الشاب إلى مجتمعات وشلل من الشباب قلَّ دينها، أو يغرر به في الدخول إلى نفق المخدرات والمسكرات إنها خسارة للفرد والمجتمع وخطر وقلق على الأهل ومن سواهم. وحين يكون الحديث عن الشباب والجوال فالحديث يطول، ومكالمات تحصد الدرهم والدينار وتحصد قبل ذلك المُثُل والأخلاق، ورسائل تُبعث عبر بريد الرسائل يندى لها الجبين، وصور فاخمة يتبادلها الشباب وربما الشابات عبر تقنية البلوتوث أو غيرها وتلك تثير الغرائز وربما كانت سببًا في الوقيعة في المحظور. ومواعيد تربط عبر الجوال عبر أحداث وربما وقعت في فخهم فتيات أغرار فكانت الفتنة ومن يراقب الجوال؟ وإن شئت أن تقع على الداء فاذهب إلى محلات بيعها لترى معظم نوعية زبائنها؟ يا أيها الشباب وحين تهدى إليكم نصائح فاقبلوها، أو على الأقل تأملوا في جدواها.

إنكم مَعْقِدْ أمل للأهل والمجتمع والدولة والأمة فأين تضعون أنفسكم؟ إن سكرة الشباب قد تلهيكم ولكن النظرة بعمق لمستقبلكم توقظ مشاعركم. يا أيها الشباب طاقتكم أمانة فارعوها، وصحتكم نعمة فلا تغبنوا فيها وأوقاتكم غالية فإياكم أن تقتلوها، ومعدنكم ومعتقدكم من الأصالة والطيب فإياكم أن تذبحوها على قارعة الطرقات والقنوات. يا معشر الشباب لن تزول أقدامكم يوم القيامة حتى تُسألوا عن شبابكم وأعماركم فيما أفنيتموها، فأعدوا للسؤال جوابًا يا معشر الشباب أيسركم أن يكون شباب الأمم الأخرى غارقين في الدراسة والبحث، مشاركين في بناء الحضارة، ووضع لبنات المستقبل، وأنتم في لهوكم غافلون وعن تطلعات بلدكم وأمتكم سادرون. {من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97]. إن العناية بالشباب (فتيان كانوا أم فتيات) ينبغي أن يستحوذ على اهتمام المربين (تعقد له الاجتماعات وتناقش السلبيات والإيجابيات ونخلص إلى توصيات تُتَابع لا تُحفظ. وعلى رعاية ووقاية الآباء والأمهات فهم أغلى كنز، وأحق من توجه له التربية، زينة في الدنيا، ورصيد بعد الممات، وذكر ومفخرة للأحياء والأموات وعلى الجهات الدعوية والاحتسابية أن تخصهم ببرامج توعية متميزة، وتوضع لهم الدورات والمسابقات، وتدعم بالجوائز والمحفزات .. وليس خسارة ما ينفق على هؤلاء وأولئك وعلى الجهات الأمنية أن تراقب وتتابع، وتشخص المشكلات وتقترح العلاج، وأن تغطي الجوانب التربوية والتوعوية في هذه القطاعات ما عسى الله أن يفتح به على قلوب من بُلي بقضايا أمته تخل بالشرف

والعرض وتخرم المروءة وتهدد المجتمع وعلى القطاعات المعنية بالشباب وسواء كانت رسمية (كرعاية الشباب) أو خيرية كالندوة العالمية للشباب أن تطور في خدماتها، وتوسع دائرة مناشطها، وتسهم بفاعلية في حل مشكلات الشباب واستثمار طاقاتهم بما يفيدهم ويفيد مجتمعهم. وعلى وسائل الإعلام أن تخصص برامج للشباب وتكون من القوة والجاذبية بحيث تشكل بديلًا نافعًا عن عدد من وسائل الإعلام التي فتنت الشباب أن للكلمة وقعها .. وللحوارات، والمنتديات والقصة والشعر، وغير ذلك من مفردات الإعلام أثر لا يستهان به. والمهم أن نستشعر جميعًا موقع هؤلاء الشباب ومسئوليتنا تجاههم، ومع ذلك وقبله أن يستشعر الشباب موقعهم ويضعوا أنفسهم في الموقع المناسب لهم.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله يستحق الحمد والثناء، {وما بكم من نعمة فمن الله}، وإذا مسكم الضر ضل من تدعون إلا إياه. يا معشر الفتيان والفتيات ويكفي أن نذكركم بنموذجين صالحين للشباب يمثل الذكور (أبو جندل) عبد الله بن سهيل بن عمرو رضي الله عنهما ويمثل الإناث (أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط) رضي الله عنها وكلاهما كان أبواهما من قادة قريش منهم من هلك قبل (عقبة) ومنهم من هو سيد المفاوضات في صلح الحديبية وخبرهما جاء في صحيح البخاري. أما أبو جندل فقصته وعصاميته وولاءه للإسلام وأهله تبدأ قبل صلح الحديبية حيث كان من السابقين إلى الإسلام، وممن عُذب على إسلامه فثبت، وحين خرج أهله لبدر، خرج معهم لكنه انحاز إلى المسلمين، ثم أُسر بعد ذلك وعُذِب ليرجع عن دينه فثبت فلما كان صلح الحديبية جاء يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال أبوه (سهيل) هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن تردَّه إليَّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لم نقض الكتاب بعد .. فأبى سهيل فلما أجيز للمشركين قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أردُّ إلى المشركين وقد جئت مسلمًا؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عُذِّبَ عذابًا شديدًا في الله (¬1). ثم استطاع أبا جندل أن يفرَّ مع أبي بصير إلى الساحل وهناك شكلوا خطرًا يهدد تجارة قريش .. حتى طلبت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم أن يردهم إليه في المدينة. ¬

(¬1) (صحيح البخاري .. الفتح 5/ 331).

وحين فتحت مكة كان الشاب (أبو جندل) هو الذي استأمن لأبيه (سهيل بن عمرو) وطلب الجوار حتى أسلم (سهيل) وأخيرًا شهد (أبو جندل) اليمامة لقتال مسيلمة فكان آخر شهدائها رضي الله عنه وأرضاه (سنة 11) (¬1). وتلك صفحات ناصعة لهذا الشباب في الثبات والجهاد وعلو الهمة، ومقاومة الكفر وأهله. أما النموذج الأخير فهي (أم كلثوم) بنت أحد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم البارزين، قتل أبوها في بدر وبقي إخوانها وأخواتها على الكفر أما هي ورغم حداثة سنها فقد رغبت في الإسلام وتحدت أهلها وخرجت مراغمة لهم حين أتيحت لها الفرصة. وفي البخاري في قصة صلح الحديبية وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله يومئذ -وهي عاتق- يعني شابة لم تتزوج، فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها حين نزل {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} (¬2). أم كلثوم هذه هي التي قال عنها ابن سعد: ولا نعلم قرشية خرجت من بين أبويها مسلمة مهاجرة إلى الله ورسوله إلا أم كلثوم (¬3). إنما نموذج آخر لصدق المرأة وثباتها رغم البلاء والمحن، والصدود والإعراض، والإغراء والفتن تجاوزت به أم كلثوم ضعف النساء لتسجل في قائمة الثابتين على الحق والمهاجرين في سبيل الله. فنعمت الهجرة إلى الله ورسوله ونعمت المرأة أم كلثوم؟ ¬

(¬1) (الإصابة 11/ 64، 65). (¬2) البخاري كتاب الشروط والفتح 5/ 312. (¬3) (الطبقات 8/ 230).

يا معشر الفتيان والفتيات أين أنتم من هذه النماذج أليس مصيركم كمصيرهم؟ ماذا بقي لهؤلاء السابقين إلا الذكر الحسن .. والذكر للمرء عمر ثان. يا معشر الشباب لابد للشمس من غروب، ولابد للشباب من المشيب هذا إن عمروا .. ويا ليتكم تتأملون قول الشاعر: يعمر واحد فيغرُّ قومًا ... ويُنسى من يموت من الشباب قال ابن الجوزي رحمه الله: يجب على كل من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدًا ولا يغتر بالشباب والصحة فإن أقل من يموت من الأشياخ وأكثر من يموت من الشباب، ولهذا يندر من يكبر ويبلغ الشيخوخة (¬1). يا معشر الشباب أيكم صاحب القلبين: قلب يتألم به وآخر به يتأمل؟ ألا تقدرون أن تكونوا كالنخلة تراها عن الأحقاد مرتفعة وبالطوب تُرمى فتُلقي أطيب الثمر. وكونوا كالنحلة أين وقعت فالعسل لا يفارقها وما يخرج من بطونها شفاء للناس والتعاون والجدية والعمل ديدنها. وهل يكون مثلكم عثمان رضي الله عنه فقد خطب على المنبر وقال: والله ما تغنيت ولا تمنيت ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام، وما تركت ذلك تأثمًا ولكن تركته تكرمًا (¬2). يا أيها الشباب كيف تفكر في مستقبلك؟ وما هي طموحاتك، وبرامجك ما وزن الدنيا والآخرة في نظرك؟ وكيف تضبط جنوحك وتستثمر طاقتك فكر ساعة، واعمل مثلها، واصبر في الساعة الثالثة تذل لك الصعاب وترتق مراق العز والشرف، ليكن قدوتك الشباب الجادين، وإياك ومصاحبة البطالين، كن ¬

(¬1) (متعة الحديث/ 53). (¬2) (متعة الحديث/ 156).

لأبويك كالظل، ولإخوانك كالنحل، ولمجتمعك كالنخلة لا تكن كلًّا على المجتمع، ولا شغلًا لرجالات الأمن، ولا مشكلة لرجالات التعليم، أمامك مشوار طويل للحياة وفي طريقك تحديات، وأمامك فرص للنجاح والفشل، فخذ من شبابك لهرمك، ومن فراغك لشغلك، ومن صحتك لسقمك وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا قامت القيامة وبيدك فسيلة فاغرسها كان الله في عونك وسدد على طريق الخير خطاك، وحفظك ووقاك وجعلك قرة عين لوالديك وللمسلمين.

في البيوع والغلاء والتكسب والتجارة الرابحة

في البيوع والغلاء والتكسب والتجارة الرابحة (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله جعل في الحلال غنية عن الحرام، أحل البيع وحرم الربا، وبين الحلال والحرام أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس. إخوة الإسلام الناس في حياتهم ومعاشهم يحتاجون للبيع والشراء كما يحتاجون للطعام والشراب والكساء، وقد جاءت شريعة الإسلام موضحة للأحكام المتعلقة بفقه المعاملات كما هي موضحة لفقه العبادات، فأحل الله البيع وحرم الربا، وأباح السلم والدين لمن به حاجة إليه، وحرم الغرر والقمار والميسر والاحتكار ونحوها من المعاملات المحرمة. أيها المسلمون وكما يتعبد المرء ربه بالتعبد لربه في الصلاة أو الصيام أو نحوها .. يتعبد ربه كذلك في تعاملاته مع الناس وتيسيره لهم في البيع والشراء، وسماحته معهم في القضاء والاقتضاء. إن من المهم - عند المسلم - أن يكون مطعمه حلالاً، ومشربه حلالاً وملبسه حلالاً، وكل جسد نبت على الحرام فالنار أولى به. ومن الخطأ أن يجتهد المسلم في عبادته وعلاقته بربه فقط ثم هو يفرط ولا يبالي بعلاقته بعباد الله .. فيظلم، ويغش، ويكذب ويسرق ويحتكر .. وهكذا من صنوف المعاملات المحرمة شرعًا وعقلاً. وهناك أخطاء وتجاهلات عند عدد من الباعة والتجار في أحكام البيع والشراء أوقعت المجتمع في جملة من الإشكالات والتعسفات، وحري بمن ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 18/ 8/ 1428 هـ

نصب نفسه لهذه المهنة أن يعلم حكم الله فيها، وألا تجره الدنيا إلى جمع المال كيفما أنفق فيوقع نفسه ويوقع الآخرين، قال أحد السلف من لم يتفقه في البيع والشراء فلا يبع في سوقنا هذا. إن الكذب في البيع والشراء آفة ومعصية يظن البائع الكاذب يكسب وهو خسران، وكيف يسوغ لك أيها المسلم أن يثق بقولك مسلم آخر بقولك اشتريت السلعة بكذا وأنت كاذب، أو طلبها مني شخص بمبلغ كذا -يعني تسلم بكذا- وأنت كاذب إنك ربما ربحت دريهمات معدودة لكنك خسرت أشياء أخرى. والغش في السلعة وعدم بيان عيوبها للمشتري آفة أخرى ومن غش فليس منا. والنجش: وهو المزايدة في السلعة لمجرد رفع قيمتها وخداع الناس بنجشه حرام في شريعتنا. والتدليس ومدح السلعة المباعة بما ليس فيها خداع وتغرير بالمشترين وبيع الغرر والمجهول، ومزاولة الميسر والقمار، كل ذلك مما جاءت الشريعة بالنهي عنه .. وكل بيوع تجاوزت حدود الله في البيع والشراء فهي خسارة وإن ظن صاحبها أنه يربح .. {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين}. إن من كمال الشريعة الإسلامية أنها لم تحرم شيئًا إلا وأحلت بديلاً خيرًا منه. ومن سمات المؤمن أنه سمح إذا باع وإذا اشترى وإذا قضى واقتضى، والله طيب لا يقبل إلا طيبًا، والدعاء يستجاب لمن أطعم مطعمه .. ويرد الدعاء حين يغذي المسلم نفسه بالحرام، فمن كان مطعمه حرامًا ومشربه حرامًا وغذي بالحرام فأنى يستجاب له. أيها المسلمون واحتكار ما يحتاجه المسلمون من طعام أو شراب أو كساء أو نحوه مما نهت عنه الشريعة، وحذر منه المصطفى صلى الله عليه وسلم .. والاحتكار عرف بأنه شراء الطعام محتكرًا له للتجارة مع حاجة الناس إليه فيضيق عليهم، أو عرف

كذلك بأنه شراء الأقوات وقت الغلاء ليمسكه ويبيعه بعد ذلك بأكثر من ثمنه للتضييق حينئذ (¬1). وهل تعلمون أن بعض المفسرين كابن كثير فسر قوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] .. بالاحتكار والمحتكر في مكه (¬2). ومما يؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه» لكن ضعفه بعض العلماء (¬3). وإذا تجاوزنا تفسير الآية وجدنا نصوصًا أخرى تنهى عن الاحتكار ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحتكر إلا خاطئ» (¬4). واستمعوا إلى هذا الهدي النبوي والتحذير من الاحتكار وعاقبة المحتكرين يقول صلى الله عليه وسلم: «من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالجذام والإفلاس» والجذام داءً يعترض في الرأس ويتشوه منه الوجه (¬5). وكان عثمان رضي الله عنه ينهى عن الحكرة. وأحرق علي رضي الله عنه بيادز بالسواد لقيس بن أبي صعصعه، يقول قيس ولو لم يحرقها لربحت فيها مثل عطاء الكوفة (¬6). عباد الله الاحتكار إذًا ظلم، والله حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده ¬

(¬1) (الربح في الفقه الإسلامي/ شمسية إسماعيل/ 128). (¬2) (تفسير ابن كثير 3/ 215). (¬3) (السابق، 133). (¬4) أخرجه مسلم (1605)، وفي لفظ آخر «من احتكر فهو خاطئ» رواه مسلم (1605) والخاطئ هو المذنب. (¬5) الحديث أخرجه ابن ماجه، وحسن إسناده ابن حجر (الفتح 4/ 440). (¬6) (السابق/ الربح في الفقه صـ 134).

محرمًا .. وهو جشع واستغلال لما بالناس حاجة إليه والمؤمنون إخوة .. أيها المسلمون أما تحديد الأسعار .. فالأصل أن الله هو المسعر والحرية مكفولة للبائع في سعر سلعته .. وقد جاء عن أنس قوله غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله سعر لنا فقال: «إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال .. » (¬1). لكن لولي الأمر أن يتدخل في التسعير في حالة الاحتكار .. لأن ذلك على حساب المصلحة العامة .. يقول ابن القيم: وجماع الأمران مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر عليهم تسعير عدل لا وكس ولا شطط، وإذا اندفعت حاجاتهم وقامت مصلحتهم بدونه لم يفعل (¬2). ولولي الأمر أيضًا أن يتدخل في التسعير في حالتي الحصر والتواطئ، أما الحصر فهي أن يكون الناس قد التزموا إلا بيع الطعام أو غيره إلا أناس يعرفون، لا تباع تلك السلع إلا لهم، ثم هم يبيعونها، فلو باع غيرهم ذلك منع، فها هنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء - كما يقول ابن تيمية رحمه الله (¬3). أما التواطؤ - فهي حالة مزدوجة تتمثل في تواطئ البائعين وتآمرهم على المشترين بالبيع طمعًا في الربح الفاحش، أو على العكس بأن يتواطؤ المشترون ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في البيوع وقال حديث حسن صحيح، والدارمي في النهي عن أن يسعر في المسلمين (1318) (2545). (¬2) انظر (مجموعة الفتاوى لابن تيمية 28/ 105 الطرق الحكمية/ 205). (¬3) (الحسن/ 23/ 24/ الفتاوى 28/ 77، 78).

على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا حق البائعين .. فهنا كذلك يتدخل ولي الأمر في التسعير .. حتى لا يحصل ضرر على البائع والمشتري (¬1). أيها المسلمون اجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واعلموا أن الخير والبركة والنماء إنما هي فيما أحل الله .. وما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين. أعوذ بالله الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)} [النساء: 29، 30]. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه .. ¬

(¬1) (الربح في الفقه الإسلامي د. شمسية إسماعيل 184/ 185).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله يستحق الحمد وأهل الثناء .. أحمده تعالى وأشكره وأسأله المزيد من فضله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. أيها المسلمون تفقهوا في دين الله عمومًا - وتفقهوا في مسائل البيع والشراء واقرأوا في كتب البيوع حتى لا تقعوا في الحرام وأنتم لا تشعرون. ثم اعلموا معاشر الإخوة أن المسلم مأمور بفعل الأسباب والتكسب والإتجار حتى يغني نفسه ومن يعول، ويتصدق من فضل الله على الفقراء والمحتاجين وإذا التزمتم بطرق الحلال في بيعكم وشرائكم، فأدوا ما أوجب الله ولا يشغلكم الصفق بالأسواق أو في أسواق البورصات .. وصالات الأسهم عن الصلوات المكتوبة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ولا يؤخر لكم ذلك عن التبكير لصلاة الجمعة والجماعة فذلك خير لكم لشهادته العليم الخبير: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. ولقد أثنى الله على الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار .. عباد الله، ثمة من يريد الدنيا فقط. وأولئك ليس في الآخرة من خلاق، وآخرون يتطلعون للآخرة ولا ينقص من حرث الدنيا شيئًا، قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20].

يا مسلم يا عبد الله وإذا وفقك الله لتكسب الحلال .. وحافظت على فرائض الله .. فاشكر الله على ما وهبك من مال واعلم أنك ممتحن فيه جمعًا وإنفاقًا .. فلا تجمعه من كسب حرام - أيًا كان نوع هذا التكسب - وسواء كان ذلك مباشرة أو بالإعانة .. فالله تعالى أمرنا أن نتعاون على البر والتقوى ونهانا عن التعاون على الإثم والعدوان. وكما تجاهد نفسك على عدم بيع المأكول المحرم أو المشروب المحرم، أو اللباس المحرم فجاهد نفسك كذلك ألا تعين من بيع المحرمات أو يتعامل في التعاملات المحرمة كالربا ونحوها - مما حرم الله-. واحرص على إنفاق المال فيما أمر الله. وابدأ بالفرائض والواجبات كالزكاة .. ثم احرص على الصدقات - فهذه وتلك حرز لمالك وسبب لنمائه في الدنيا وهي خير وثواب عظيم تجده يوم تلقى الله. ويشهد الناس في واقعهم مصداق حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «اللهم اعط كل منفق خلفًا وكل ممسك تلفًا» .. والله تعالى كما يمحق الربا، يربي الصدقات .. وكما يعاقب الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بالعذاب الأليم .. هو سبحانه يعد الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .. وجماع الأمر .. أن يتصور المسلم أنه في عبادة لربه في حال صلاته وصومه .. وهو في عبادة لربه في حال بيعه وشرائه وإنفاقه .. ومن الخطأ والجهل أن يكون للمسلم حال وهو في المسجد .. وحال أخرى تناقضها وهو في السوق والمتجر .. إنها عبودية لله في كل حال وفي كل ميدان

{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ}. وكما يثاب العبد وهو يطيل الركوع والسجود ويتلوا القرآن ويصوم النهار فهو يثاب كذلك في تعامله بالحسنى في البيع والشراء - وإنظار المعسر والسعي لتوفير غذاء المسلمين والمساهمة في بيعه بسعر المثل، ويشكر التجار الذين يبادرون حال غلاء الأسعار بتخفيضها وبيعها بسعر التكلفة .. إنها طرق ومجالات للخير، ونفع للمسلمين .. والمهم أن تقدم معها النية الطيبة واحتساب الأجر، والرفق بالمسلمين وربك لا يضيع أجر من أحسن عملاً (¬1). إن من إحقاق الحق أن نؤكد أنه كما يوجد من يتعامل بالمعاملات المحرمة ويغش ويخادع في البيع والشراء .. يوجد كذلك نماذج عالية وواعية، تخشى الله وتراعي حقوق خلق الله .. وأولئك جديرون بتقديرنا وثنائنا، وأهم من ذلك هم جديرون برضى الله عنهم ومجازاتهم بالحسنى .. وغيرهم جديرون بدعائنا وتحذيرنا لهم في الدنيا قبل الآخرة .. وعلى هؤلاء أن ينفقوا مليًا عند قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} الآيات. اللهم اجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر ووفقنا للحسنى وجنبنا العسرى، اللهم اكفنا بحلالك عن حرمك واغننا بفضلك عمن سواك.

{قل آمنت بالله فاستقم}

{قل آمنت بالله فاستقم} (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء، وأشهد أن لا إله إلا هو له الحمد في الأولى وفي الآخرة وله الحكم وإليه ترجعون وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. إخوة الإيمان: سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه صحابي، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وفد أهل الطائف، فأسلم، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر يعتصم به فقال: قل ربي الله ثم استقم (¬2). والحديث في صحيح مسلم عن سفيان رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولاً، لا أسأل عنه أحدًا بعدك، قال: {قل آمنت بالله فاستقم} (¬3). ما أحوجنا إلى هذه الوصية الجامعة في زمن تتلاطم فيه أمواج الفتن، ويضعف الإيمان .. أو تضعف الاستقامة والثبات على الإيمان .. وإذا كانت الحاجة إلى هذه الوصية في زمن النبوة فالحاجة إليها فيما بعد أشد وآكد. قال القاضي عياض - معلقًا على هذا الحديث - هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وهو مطابق لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أي وحدوا الله وآمنوا به، ثم استقاموا فلم يحيدوا عن التوحيد والتزموا طاعته سبحانه وتعالى إلى أن توفوا على ذلك (¬4). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 2/ 4/ 1425 هـ. (¬2) (ابن حجر: الإصابة 4/ 208). (¬3) [مسلم ح (38) 1/ 65]. (¬4) (تعليق عبد الباقي على صحيح مسلم 1/ 65).

قال العلماء: الاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم وهو الدين القويم، وتشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك (¬1). واختصرها ابن حجر بالقول: الاستقامة كناية عن التمسك بأمر الله تعالى فعلاً وتركًا (¬2). وقالوا كذلك في معنى الاستقامة - أنها زائدة في المرتبة على الإقرار بالتوحيد؛ لأنها تشمله وتشمل الثبات عليه، والعمل بما يستدعيه (¬3). إخوة الإسلام نحتاج إلى الاستقامة على دين الله في هذه الحياة؛ لأن ذلك سبيل الاستقامة حياتنا بعد الممات، ومن أراد أن يثبته الله على أهوال يوم القيامة فلا بد أن يتثبت على صراط الله في الدنيا .. وهنا كلام جميل لابن القيم رحمه الله حيث يقول: من هدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم .. هدي هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته .. وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قدمه على الصراط المستقيم المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذلك الصراط، ولينظر العبد الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط تخطفه وتعوقه عن المرور عليه، فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك، وما ربك بظلام للعبيد (¬4). ¬

(¬1) (جامع العلوم والحكم لابن رجب صـ 193). (¬2) (الفتح 13/ 257 عن نضرة النعيم 2/ 304). (¬3) (نضرة النعيم 2/ 306). (¬4) (التفسير القيم/ 109 بتصرف).

يا أخا الإسلام إذًا أنت مدعو لأن تبصر طريقك وتثبت أقدامك على الحق في هذه الحياة، حتى تثبت على الصراط في الآخرة ولا شك أن دون هذا مجاهدة للنفس وصبرًا على الحق. وترويضًا على سلوك الصراط المستقيم حين تنازعك نفسك، وحين ترى من حولك وعن يمينك وشمالك أقدامًا تزل .. وقلوبًا تفتن، ومغريات تصد .. وشياطين للإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا. ولا يغب عن بالك - يا أخا الإسلام - أن أصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب .. فأصلح قلبك تصلح جوارحك وتطيب أعمالك .. إن الاستقامة - كما يقول صاحب البصائر (¬1) - كلمة آخذة بمجامع الدين، وهي القيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد، وهي تتعلق بالأقوال والأفعال والنيات، والاستقامة فيها وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله تبارك وتعالى. والاستقامة كما قال عمر رضي الله عنه: «أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب» (¬2). هي إخلاص لله في العبادة، ومجاهدة للنفس على الطاعة وهي فضل من الله وكرامة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية «أعظم الكرامة لزوم الاستقامة» (¬3). ألا فأبشروا يا أهل الاستقامة فسيدخلكم الله في رحمة منه وفضل ويهديكم ¬

(¬1) (4/ 312) (¬2) (مدارج السالكين 2/ 109). (¬3) (المدارج 2/ 110) عن نضرة النعيم 2/ 319.

إليه صراطًا مستقيمًا ليس هذا فقط بل ومن آثار الاستقامة وفضلها ألا خوف ولا حزن، بل بشرى وولاية، ولكم ما تشتهون وما تدعون، ذلك وعد غير مكذوب {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32]. الجنة نزلكم والخلود فيها وعد خالقكم {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}. أو تفتح لكم بركات السماء والأرض {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ .. } [الأعراف: 96] وتسقون ماءً غدقًا {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [الجن: 16، 17]. ويتحقق لهم الأمن في الوقت الذي يتخطف الناس من حولهم {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]. {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)}. ألا وإن الاستقامة اتباع لنهج المرسلين وما أمروا به {فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [يونس: 89] {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] نفعني الله وإياكم بهدي القرآن.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية إخوة الإيمان ورغم الشدائد والأهوال، والبلايا وضعف الإيمان .. وكثرة الانحراف عن صراط الله المستقيم إلا أن ثمة مبشرات ومسليات .. فالوعد بنصرة الحق حكم إلهي {وكان حق علينا نصر المؤمنين}. وهو بشارة نبوية «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين» وفي صحيح البخاري ومسلم خبر عن الذي لا ينطق عن الهوى في بقاء هذه الأمة على الاستقامة .. وعنه قال صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم، ويعطي الله، ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة، أو حتى يأتي أمر الله» (¬1). عباد الله ولعلكم بعد إذ عرفتم معنى الاستقامة وفضلها وآثارها، تتطلعون إلى معرفة الأمور المعينة على الثبات والاستقامة. 1) ألا وإن من أول هذه العوامل الإيمان الحق {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة .. }. 2) والعمل بالعلم وفعل ما يوعظ به المرء مثبت آخر قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} [النساء: 66 - 68]. أجل إن الإيمان يربط بالعمل الصالح كثيرًا في كتاب الله فالإيمان يقين القلب وعمل الصالحات مصداق لهذا الإيمان. 3) والصبر على طاعة الله وعن محارم الله وعلى أقدار الله كلها مثبت على ¬

(¬1) البخاري (7312) ومسلم (1037).

الصراط المستقيم. «ألا وإنكم ستلقون بعدي أثره». قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «اصبروا حتى تلقوني». {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران: 120]. 4) الاعتبار بقصص السابقين المؤمنين وفي مقدمتهم الأنبياء والمرسلون، ومعرفة ما جرى لهم وكيف صبروا وثبتوا وتجاوزوا المحن كذلك عامل من عوامل الثبات، ألم يقل الله لنبيه وخاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]، وقيل للمؤمنين كافة {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111]. 5) والقرآن - بشكل عام - وبقصصه وأخباره ووعده ووعيده مثبت وهدى وفرقان وموعظة للمتقين {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102]. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32] كم نحتاج لدواء القرآن وهو شفاء .. وحاجتنا إليه في زمن الشدائد أشد .. وكم نهجر القرآن تلاوة أو عملاً أو علمًا أو تحاكمًا والقرآن يهدي للتي هي أقوم .. 6) واللجأ إلى الله وصدق الدعاء والتضرع عامل مهم من عوامل الثبات، فالله فارج الكربات ومجيب الدعوات، وكان من دعاء المؤمنين {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} ومهما بلغ الإنسان فهو محتاج إلى تثبيت الله وتسديده.

أجل ألم يقل الله لنبيه وخيرته من خلقه: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}. ألا فلنلح على الله بتوفيقنا للصراط المستقيم، ولنلح على الله بالثبات على هذا الصراط حتى نلقاه، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء. 7) والرفقة الأخيار والجلساء الصالحون خير معين على الاستقامة والثبات على الحق بإذن الله فهم يشجعونك حين تحسن أو ينصحونك حين تضعف، تأنس بهم وتتقوى وتتعاون وإياهم على البر والتقوى، وإياك ورفقة السوء. 8) أيها المسلمون وهنا وفي نهاية الحديث أقف عند عامل مهم من عوامل الثبات على دين الله ألا وهو السعي في حوائج المسلمين وتنفيس كرباتهم فمن مشى في حاجة أخيه حتى يثبتها له ثبت الله قدميه على الصراط، تدعو الحاجة إليه في زمن بات المسلمون هدفًا سهلاً للأعداء يقتلون ويشردون وتمارس بحقهم أبشع أنواع التعذيب وأي وجدان لا يتأثر لمشاهد الفلسطينيين وبيوتهم تهدم ومخيماتهم تحاصر وتقصف وقتلاهم بالعشرات يتساقطون، ومزارعهم تدمر، والآخرون مهددون ينتظرون الموت صباح مساء .. وعلى مرأى ومسمع من العالم كله .. وفي العراق احتلال وانتهاك وقتل واغتصاب، وممارسات بشعة يندى لها جبين الإنسانية، فضلاً عن تأثر المسلمين ورفض أصحاب القيم والمبادئ وفي سجن أبي غريب نموذج للفضائح، ظن الملأ المفسدون أنه يرضي العالم العربي والإسلامي أن يعتذروا لما حصل، وانكشف للمجتمع الغربي أن جنودهم الذين ذهبوا لإنقاذ العراقيين من الظلم والاستبداد .. باتوا يمارسون بأنفسهم أبشع الجرائم وأقسى الظلم، ويعيدون لذاكرة التاريخ محاكم التفتيش، وممارسات النازية ..

وإذا كان الذئب لا يلام في عدوانه: أن يكون راعيًا للغنم؟ ! فأين المسلمون عن نصرة إخوانهم والمشي في حوائجهم والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «ومن مشى في حاجة أخيه حتى يثبتها له ثبت الله قدميه على الصراط». ومن نفس كربة عن أخيه المسلم نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. وفي الهدي النبوي كذلك: «صنائع المعروف تقي مصارع السواء». إن من حق هؤلاء المسلمين الذين يتعرضون للقتل والسلب ويراد لهم التخلي عن عقيدتهم وقيمهم .. أن من حقهم علينا النصرة والدعاء، فهم في محنة يحتاجون إلى تثبيت والمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا .. فالتنفيس عن مكروب .. ولنصر مظلوما.

(2) أسباب الخلاف وآثاره وطرق العلاج

(2) أسباب الخلاف وآثاره وطرق العلاج (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله أمر بالتعاون على البر والتقوى، ونهى عن الفحش والبغضاء، والتعاون على الإثم والعدوان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحب المحسنين ويجزي المتصدقين ويبغض الفاحش البذيء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين. إخوة الإسلام وإذا كان الخلاف أمرًا واقعًا فما هي أبرز أسبابه، وأسوأ آثاره؟ وأهم الطرق والوسائل لعلاجه؟ 1 - من أسباب الخلاف والافتراق تفاوت الناس في الطبائع والميول وتفاضلهم في العقول والفهوم، فسبحان من فاوت بين الناس في الحفظ أو في الاستنباط، والموفق من لم يزك نفسه بل اتهمها حتى يقلل مساحة الخلاف ويضيع الفرصة على الشيطان. 2 - الإعجاب بالرأي الذي يحمل صاحبه على الغرور وتسفيه آراء الآخرين، وإيثار الهوى على الهدى الذي يمنع من قبول الحق وإن كان واضحًا، وقد جاء النهي صريحًا عن العجب والهوى ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر حتى إذا رأيتم شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك العوام» (¬2). 3 - ومن أسباب الفرقة البغي والحسد، فقد يرى بعض الناس ما عنده أولى ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 13/ 6/ 1425 هـ (¬2) رواه أبو داود والترمذي (وهو صحيح لغيره 3085، 4341).

وأصوب من غيره، ويبلغ به الغرور بما عنده حدًا يزدري به ما عند غيره .. إما بنوع بغي أو حسد، ثم تقوده هذه المشاعر إلى احتقار الآخرين ولمزهم والتشكيك فيما عند غيره ولو كان حقًا فإن عملية التأمل فيه بعين العدل والإنصاف وإذا انتشر داء البغي والحسد ثارت رياح الفرقة، وسادت البغضاء، وحصل النفور والافتراق. 4 - شهوة الزعامة وحب الصدارة بحيث يسعى صاحب هذا المرض إلى أن يكون متبوعًا لا تابعًا، وآمرًا لا مأمورًا، ويدعوه ذلك إلى رفض ما عند الآخرين وعدم تقبل وجهات نظرهم وإن كانت صائبة .. بل قد يخيل لهذا المريض أنه وحده حامي حمى الإسلام وأنه الأجدر بالقيادة والريادة دون سواه. 5 - سوء الظن بالآخرين وتغليب التشاؤم على التفاؤل فهو في الغالب يسيء الظن بالآخرين، إلى حد لا يثق بأحد .. ولا يصوب عملاً، ويطغى عليه جانب التشاؤم بحيث يرى أن كل عمل لم يعمله أو يشرف عليه مصيره الفشل ونهايته الخسران، وهذا الداء يخفى وراءه أمراضًا وأدواء أخرى كالآثرة وحب الذات، واتهام الآخرين، والرغبة في الوقيعة بأعراض المسلمين .. بينما عكس ذلك من حسن الظن وحسن الفأل يعبر عن قلب سليم ونفس كريمة تحب للآخرين كما تحب لنفسها وتحاول تعليل الأخطاء وإيجاد المعاذير قبل إصدار الأحكام، ورحم الله عمر وهو القائل: «لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءًا وأنت تجد لها في الخير محملاً» (¬1). 6 - الخلط بين الثوابت والمتغيرات وبين الأصول والفروع فهناك ثوابت لا يجوز لأحد أن يتهاون فيها أو يفرط في الحفاظ عليها، وهناك أمور وقضايا ¬

(¬1) (تفسير ابن كثير 4/ 212، الصوبان/ منهج المحدثين وأثره في وحدة الصف/ 10).

فرعية يسع الخلاف فيها، ولا ينبغي أن تكون أساسًا للمفاصلة أو سببًا للفرقة .. وحين تختلط الأمور ولا يميز بين هذه وتلك يقع الخلاف لأدنى سبب ويظن هذا المختلف أنه يحكم الشرع ويحمي حمى العقيدة وينسى أن ما أحدثه من شرخ الفرقة والخلاف أعظم بل نسي أن من مقاصد الشرع الاجتماع لا الافتراق والاتفاق لا الاختلاف، وبالتالي فلا ينبغي أن توالي أو تعادي على أمر من الدين فيه متسع للحوار والنقاش وفي المقابل لا ينبغي أن تضيع حرمات الدين وأصوله في سبيل جمع الكلمة ونبذ الفرقة والاختلاف على حساب الأصول والثوابت. عباد الله ولا تقف أسباب الفرقة والاختلاف عند هذه الأسباب فثمة أسباب أخر .. ولكن الجامع لها ضعف الإيمان والتقى وتغليب الهوى على الهدى، وحب الذات في مقابل سحق الآخرين، والجهل بأحكام الشريعة ومقاصد الإسلام والعصبية الممقوتة للمذهب أو للطائفة أو للبلد أو الجنس، وإيثار الدنيا على الآخرة، وعدم الوعي بآثار الخلاف وسلبياته. إن للخلاف والفرقة آثارًا سيئة لا بد أن يعيها المسلمون ويقدروها حتى لا يقعوا في الفرقة والشتات. 1 - ومن آثار الخلاف تصدع صف المسلمين وفشلهم وذهاب ريحهم، وما زال ربهم يحذرهم ويقول تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال: 46]. 2 - وينتج عن ذلك أثر سلبي آخر وهو تسلط الأعداء عليهم، إذ لا يتمكن الأعداء من استباحة دماء المسلمين وأعراضهم واستحلال ديارهم وأموالهم إلا إذا وهنوا عن مقاومته وضعفوا عن مواجهته، ومن أعظم الوهن والضعف: الفرقة والشتات الناتج عن الاختلاف والافتراق .. ومن يبصر واقع المسلمين

اليوم يرى كم طمع فيهم الأعداء حين تفرقوا واختلفوا وسهل على العدو اختراقهم والعبث بمقدراتهم. 3 - والهلاك أثر ثالث من آثار التنازع والافتراق حذرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرنا بمصير الأمم قبلنا فقال: «إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة ... » (¬1)، وحين جاء عبد الله بن مسعود رضي الله عنه برجل قرأ آية من القرآن بغير ما سمعها هو من النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: «كلاكم محسن، فاقرآ، فإن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكهم» (¬2). 4 - ومن آثار الفرقة والشتات تبدد الطاقات وضياع جهود الأمة والمجتمع، وتناحر الأفراد على توافه الأمور، في وقت يتجمع فيه الآخرون بل ويتخذون من فرقة المسلمين مصدرًا لقوتهم، ومستندًا لغزوهم. إن المسلمين مهما اختلفوا فثمة أمور أكثر وأعظم يجتمعون عليها وحري بهم أن يحيوا فقه الائتلاف بدل الاختلاف، وإن يعظموا ما اتفقوا عليه ويجعلوه الأساس، بدل أن ينطلقوا من الخلافات متناسين أهمية الوحدة وجمع الكلمة. 5 - ومن آثار الخلاف فقدان الثقة بين العامة والعلماء والأمراء مما يهيء لظهور المتزيدين بقضايا الأمة ومن يرقصون على الجراح ويستغلون الأزمات، من أهل الأهواء وأصحاب النفاق، الذي لا تسعفهم ظروف وحدة الأمة على الظهور .. ولكنهم يرفعون رءوسهم في ظروف الفرق والتناحر. أيها المسلمون .. 6 - ومن آثار الافتراق انتزاع البركة من الفرد والأمة بأسرها تصديقًا ¬

(¬1) رواه أحمد 1/ 178. (¬2) رواه البخاري 6/ 16، وأحمد 2/ 419 عن عوامل الافتراق/ عبد الوهاب الديلمي.

لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يجمع أمتي أو قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار» متفق عليه. 7 - والفرقة والاختلاف تؤثر سلبًا على النفوس فتصيبها بالإحباط والانكفاء على الذات، فتحرم الأمة من طاقاتها، وتتحطم نفسياتها .. وهذه وتلك مكاسب لأعدائها .. فلنحذر الفرقة وأدواءها المهلكة ولنحرص على جمع الكلمة وردم الفجوات، ولنستشعر جميعًا أننا أمة الوحدة، وأن دواعي الاتفاق والاجتماع في ديننا وشريعتنا أكثر وأعمق مما عند غيرنا .. وهنا لا بد أن نتساءل لماذا اجتمعوا وتفرقنا .. ولماذا تضامنوا وتنازعنا؟ لماذا نفترق وكيف نتفق ما دور الأشخاص والهيئات .. والمجتمع والدولة في تحقيق وحدة الأمة؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً}.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية أيها الإخوة المؤمنون وحين تعرفون شيئًا من أسباب الفرقة والاختلاف .. وآثارها المهلكة .. فحري بكم أن تجتنبوها، بل وتبحثوا عن أسباب العلاج وعوامل وحدة الصف .. فما هي الوسائل المؤدية إلى الاتفاق ووحدة الصف؟ لا بد من العلم أولاً أن الدعوة إلى الاتفاق ووحدة الصف لا تأتي تلبية للحاجة الملحة وللظروف المحيطة بالأمة المسلمة فقط وإنما هي استجابة لأمر إلهي وتحقيق لمطلب شرعي، كما قال ربنا تبارك وتعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63]. إن الوحدة في الصف المسلم لازم من لوازم عقيدة التوحيد ومن علائم خيرية هذه الأمة اجتماعها على الحق، ودعوة الناس إليه، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} الآية. 1) ولهذا فإن الالتزام بالعقيدة الحقة أول الأسس في وحدة الصف، فالعقيدة توحد بين القريب والبعيد، والعربي والأعجمي، والغني والفقير، والأحمر والأسود .. وتعجز آية رابطة أخرى أن توحد صف المسلمين وتؤلف بين قلوبهم. إن هذه العقيدة ضرورة للفرد ليسعد ويطمئن، وتزكو نفسه وضرورة للمجتمع ليستقر ويتآخى ويتعاون ويتماسك ويتناصر. 2 - التخلق بكريم الأخلاق التي أمر بها الشرع عامل مهم في الوحدة كالمحبة والإيثار والعفو والصفح وخفض الجناح وسلامة الصدر والعدل والإنصاف ونحوها من أخلاق تجمع ولا تفرق، وتهذب النفوس .. وإذا كنا نتفق على

أهمية هذه الأخلاق في أحاديثنا فالأهم أن نمارسها في واقعنا وأن ننصف بها إخواننا. إن ممارسة الأخلاق المرذولة سهل، ولكن الترفع عن الهنات وستر العورات والتعامل بلطف مع الزلات، وممارسة أعالي الأخلاق هو الذي يحتاج إلى صبر ومجاهدة للنفس، انظروا إلى إمام من أئمة الجرح والتعديل وهو يمارس الخلق الرفيع ويقول: «ما رأيت على رجل خطأ إلا سترته وأحببت أن أزين أمره، وما استقبلت رجلاً في وجهه بأمر يكرهه، ولكن أبين له خطأه فيما بيني وبينه فإن قبل وإلا تركته» (¬1). إنه نموذج رفيع للتعامل مع الأخطاء والزلات، فهل نمارسه؟ 3 - والعلم والورع سبب للتأليف ووسيلة عظمى لجمع كلمة المسلمين، وكلما كان المرء ذا علم واسع وورع كلما اجتمعت عليه القلوب، وكلما اتسع أفق الإنسان كان أقدر على تقدير الآخرين واتسع صدره للمخالفين. أما الجهل أو التعالم فهو سبب للفرقة وضيق الأفق، وكم جنى أولئك المتعالمون على الأمة وكم أصبحت أعراض العلماء والدعاة كلأً مباحًا لمبتدئين في العلم، ظنوا أنهم إذا اطلعوا على بعض الكتب أو نالوا شيئًا من الشهادة قد بلغوا في العلم مبلغًا يؤهلهم لنقد هذا وتقويم ذاك، وتلك ظاهرة قديمة تتجدد، وهذا الإمام أحمد بن علي بن الآبار يقول - في زمنه - رأيت بالأهواز رجلاً حف شارته، وأظنه قد اشترى كتبًا، وتعبأ للفتيا، فذكروا أصحاب الحديث فقال: ليسوا بشيء، وليسوا يسوون شيئًا، فقلت له: أنت لا تحسن تصلي، قال أنا؟ ¬

(¬1) (سير أعلام النبلاء 11/ 83).

قلت: نعم، قلت: إيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتحت الصلاة ورفعت يديك؟ فسكت، فقلت: وإيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وضعت يديك على ركبتيك؟ فسكت، قلت: إيش تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجدت؟ فسكت، قلت: مالك لا تتكلم؟ ألم أقل لك إنك لا تحسن تصلي؟ إنما قيل لك تصلي الغداة ركعتين والظهر أربعًا، فالزم ذا خير لك من أن تذكر أصحاب الحديث، فلست بشيء ولا تحسن شيئًا» (¬1). ومن العجب - كما يقول ابن القيم رحمه الله - إن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر وغير ذلك. ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه (¬2). فهل نحفظ ألسنتنا؟ وهل نكون سببًا للتأليف بجميل العبارة، وحسن الظن وتقدير الآخرين. 4 - التثبت مما يروى والتحري فيما يقال، ذلك منهج رباني نُدب إليه المؤمنون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ .. } وإذا كانت الشائعات مفسدة للمجتمعات مفرقة للجماعات فإن دواءها بالتثبت والتحري وعدم الاستعجال في اتخاذ المواقف، وتلك المواقف المتأنية تسهم في جمع الكلمة، كما تسهم العجلة في الفرقة والشتات ألا فتثبتوا ولا تستعجلوا يا عباد الله، ولا يستخفكم الذين لا يوقنون. 5 - ومع التثبت إقالة ذوي الهيئات عثراتهم، فإذا كان شخص لا يعرف عنه إلا الخير، ثم كبا كبوة لا ينبغي أن يسارع لتجريمه ويعان الشيطان عليه، بل تقال ¬

(¬1) (الكفاية في علم الرواية ص 19، 20، عن أحمد الصوان/ منهج المحدثين. (¬2) (الجواب الكافي/ 54).

عثرته ما لم تكن حدًا، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» (¬1). وفي الحديث الآخر الصحيح: «من أقال عثرة أقاله الله يوم القيامة» (¬2). قال ابن القيم وإقالة ذوي الهيئات: باب من أبواب محاسن الشريعة الكاملة وسياستها للعالم، وانتظامها لمصالح العباد في المعاش والمعاد (¬3). إننا في سبيل جمع الكلمة ووحدة الصف لا ينبغي أن نفرح بالعثرة يعثرها أحد إخواننا المسلمين، بل نتألم لذلك ونسارع بنصحه وإقالة عثرته. 6 - ولا بد في سبيل جمع الكلمة من ضبط النفس عند حدوث الخلاف فالشيطان حريص على الوقيعة والفرقة بين المسلمين، والشديد ليس بالصرعة إنما الذي يملك نفسه عند الغضب، ولتضيق هوة الخلاف ندب الإسلام المتهاجرين إلى الإسراع بالسلام وخيرهما الذي يبدأ صاحبته بالسلام .. إلا فعظموا ما عظم الله وكونوا عباد الله إخوانًا .. ليسأل كل منا نفسه هل هو عنصر بناء ووسيلة لجمع الكلمة أم هو بضد ذلك، ولا ينبغي أن ننعى حال الأمة ونحن المقصورون نتلمس الداء. ¬

(¬1) أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح (25474)، (4/ 133). (¬2) رواه أحمد وأبو داود (3/ 274) وابن ماجه (2/ 741). (¬3) (بدائع الفوائد 3/ 139).

بين خالد والوليد

بين خالد والوليد (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه .. أيها المسلمون ثمة صراع أزلي بين الحق والباطل، وثمة مدافعة بين الناس يمنع الله بها الفساد في الأرض، ثمة محقون ومبطلون، ومسلمون وكافرون، وأصحاب الجنة وأصحاب السعير، تلك حقائق يراها الناس في القديم والحديث، وعاشها الناس فيما مضى ويعيشونها اليوم وغدًا .. ولكن ثمة حقيقة تقول إن البقاء للأصلح، وإن العاقبة للتقوى وللمتقين، والزبد يذهب جفاءً ويبقى في الأرض ما ينفع الناس. الباطل يهيج فترة، والمبطلون يتصدرون القيادة حقبة من الزمن، ولكن المسلم لا يغر بتقلبهم في البلاد، وهم لا يعجزون الله، ولكنه إن أمهلهم لا يهملهم، وإن متعهم فهو يستدرجهم .. والعاقبة وخيمة والأخذ أليم .. تعالوا بنا معشر المسلمين نقرأ واحدة من قصص القرآن عن القوم المجرمين، كيف طغوا وتجبروا واستكبروا وتفاخروا، ثم كانت النتيجة المرة، وكان الذكر السيء .. وإلى جانب ذلك نذكر نموذجًا آخر خالف فخاف، وأسلم فسلم، وفرق بين ذكر وذكر .. إنها مفارقات عجيبة تحكي عاقبة الكفر، وفضل الإسلام، وفضل الله يؤتيه من يشاء، وهو العليم الحكيم. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 10/ 11/ 1427 هـ

بين الوليد بن المغيرة وابنه خالد تكمن العبرة، ويكون الدرس لهذا اليوم فماذا قيل عن الأب؟ وماذا قيل عن الابن؟ وأي ذكر وتاريخ حفل به الأب .. وماذا سطر للابن من مكارم؟ تعالوا بنا إلى مائدة القرآن لتشخيص الموقف ونهايته لأحد سادة قريش وأكابر مجرميها (الوليد بن المغيرة المخزومي). يقول تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}. قال ابن كثير: يقول تعالى متوعدًا لهذا الخنيث (الوليد بن المغيرة المخزومي) الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا، فكفر بأنعم الله، وبدلها كفرًا، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها، وجعلها من قول البشر، وقد عدد الله عليه نعمه حيث قال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} أي خرج من بطن أمه وحده لا مال له ولا ولد، ثم رزقه الله {مَالاً مَّمْدُوداً} أي واسعًا كثيرًا، وجعل له {بَنِينَ شُهُوداً} أي لا يغيبون عنه ولا يسافرون في التجارات، بل مواليهم وأجراؤهم يتولون ذلك عنهم وهم قعود عند أبيهم يتمتع بهم ويتملى بهم، وكانوا فيما ذكر ثلاثة عشر، أو عشرة، وقعودهم عنده أتم في النعمة، {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً} أي مكنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك، {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً} أي معاندًا وهو الكفر بعد العلم، ثم جاء الجزاء {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} قيل المقصود

بالصعود: جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفًا، ثم يهوى به كذلك فيه أبدًا. وقيل: هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع يديه ذابت، وإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت. وقيل هو: صخرة عظيمة يسحب عليها الكافر على وجهه. وقيل: هو مشقة من العذاب، أو عذاب لا راحة فيه - وهو اختيار ابن جرير (¬1). أيها المسلمون .. حين يعرف المرء الحق ثم يحيد عنه أو يلبس يمكن كشأن المجرمين قديمًا وحديثًا، تكون العقوبة قاسية والذكر سيئًا .. وكذلك كان الوليد .. لقد جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه - فسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج على قريش فقال: يا عجبًا لما يقول ابن أبي كبشة، فوالله ما هو بشعر ولا بسحر، ولا يهذي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله. وفي رواية: فوالله ما منكم أحد أعلم بالشعر مني، ولا بأشعار الجن، وما يشبه شيئًا من ذلك، وإن له لحلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى عليه. وهكذا اعترف الوليد بعظمة القرآن، وقاتل الله رفقة السوء وقرناء السوء كيف يوقعون أصحابهم، فلما سمع بذلك النفر من قريش ائتمروا فقالوا: والله لئن صبأ الوليد لتصبون قريش. فلما سمع بذلك أبو جهل قال: أنا أكفيكم شأنه، فانطلق حتى دخل عليه فقال للوليد: ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال: ألست أكثرهم مالًا وولدًا، فقال له أبو جهل: يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه، فقال الوليد: أقد تحدثت بذلك عشيرتي؟ فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة ولا عمر ولا ابن أبي كبشة -يقصد النبي- وما قوله إلا سحر يؤثر. فأنزل الله بشأنه الآيات السابقات (¬2). ¬

(¬1) (تفسير ابن كثير 8/ 291، 292). (¬2) (ابن كثير 8/ 292).

أيها المسلمون تأملوا في ثنايا القصة كيف يعلو الحق ويعترف به الملأ .. وكيف يكون النكوص حفاظًا على المركز، واستسلامًا لأعراف القبيلة وطمعًا في البقاء في الرئاسة، وتأثرًا برفقة السوء، ثم تأملوا كيف يوصف الخير والأخيار، فالنبي الأمين يلقبونه بابن أبي كبشة .. والإسلام بالصباء، وكذلك يتلاعب المجرمون بالألفاظ، ويلمزون الخير والأخيار .. وإذا جرى ذكر السحر، والكهانة، والجنون ونحوها من ألفاظ المجرمين فيما مضى، فاليوم تعود السخرية لكن بألفاظ الإرهاب، والأصولية، والفاشية، ونحوها .. وتتغير الألفاظ والمعنى واحد، ويمضي التاريخ ويتقلب الوليد في النعم .. لكنها أيام الدنيا قليلة وحبالها قصيرة، وتذكره كتب السيرة ضمن المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم والإسلام، ويسلي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بكفايته لهؤلاء المستهزئين، ويأمره بالصدع بالحق دون تردد: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 94، 95]. ويهلك الله أولئك المستهزئين جميعًا - وهم خمسة كما ذكرتهم كتب السيرة والتفاسير- وأحدهم بل من أكابرهم الوليد بن المغيرة .. يهلكون بآفات قال عنها الشنقيطي في «أضواء البيان»: والآفات التي كانت سببًا في هلاكهم مشهورة في التاريخ (¬1). وكذلك أسدل الستار على قصة هذا المكابر المستهزئ، وبقي ذكره لا يسر الناظرين، وخبره عبرة للمعتبرين، ولئن غاب الوليد عن مشهد الأحداث ببدنه فقد بقي من تاريخه ما يعيد الذكرى في كل حين .. إن في الأرض من يسخر ويستهزئ ويتطاول ويتكبر، ويمهل وينعم عليه .. لكنها نهاية الطغاة ¬

(¬1) (أضواء البيان 3/ 182، وانظر ابن هشام 2/ 57، 58).

والمجرمين .. والنتيجة البائسة لمكر الماكرين، وصدق الله وهو أصداق القائلين: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}. إلى قوله: {الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [الأنعام: 123، 124]. وصدق الله وهو أصدق القائلين: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 42، 43].

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية إخوة الإيمان .. بين خالد بن الوليد رضي الله عنه وبين أبيه الوليد مفارقة كبيرة، وفرق شاسع .. كما بين الثرى والثريا .. أجل لقد عاش خالد فترة من عمره في مراهقة الجاهلية، وفي طاعة القبيلة، وكان شجاعًا لكن دون هدف، وقائدًا لكن دون إيمان .. ألحق بالمسلمين هزيمة أحد حين انطلق بخيله ومن كان معه إلى من بقي من رماة المسلمين، فأحصاهم قتلًا، واستدار على المسلمين من خلف الجبل، فكان مصاب أحد على المسلمين عظيمًا وبقي خالد جنديًّا مطيعًا لقريش وصاحب خيلها .. وكانت الأحزاب والحديبية .. وخالد لم يسلم بعد، لكنه يكابد القلق، ويعيش التناقضات، ويقول بكل صراحة: «لقد شهدت المواطن كلها على محمد، فليس في موطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني مُوضع في غير شيء، وأن محمدًا سيظهر، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية خرجت في خيل المشركين، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعسفان فقمت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر أمامنا، فهممنا أن نغير عليهم ثم لم يعزم لنا - وكان فيه خيرة - فاطلع على ما في أنفسنا من الهم به، فصلى بأصحابه صلاة العصر، صلاة الخوف، فوقع ذلك منا موقعًا، وقلت في نفسي: الرجل ممنوع فاعتزلنا، وعدل عن سير خيلنا وأخذ ذات اليمين، فلما صالح قريشًا بالحديبية ودافعته قريش بالرواح، قلت في نفسي: أي شيء بقي؟ أين أذهب؟ إلى النجاشي فقد اتبع محمدًا، وأصحابه عنده آمنون، فأخرج إلى هرقل فأخرج من ديني إلى نصرانية أو يهودية؟ فأقيم في عجم؟ فأقيم في داري بمن بقي؟ فأنا في ذلك إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضية، فتغيبت ولم أشهد دخوله، وكان

أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية فطلبني فلم يجدني، فكتب إلي كتابًا فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك، ومثل الإسلام جهله أحد؟ وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك، وقال: «أين خالد؟ ». فقلت: يأتي به الله، فقال: «مثله جهل الإسلام، ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين كان خيرًا له، ولقدمناه على غيره». فاستدرك يا أخي ما قد فاتك من مواطن صالحة. قال خالد: فلما جاءني الكتاب نشطت للخروج، وزادني رغبة في الإسلام وسرني سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عني، وأرى في المنام كأني في بلاد ضيقة مجدبة، فخرجت إلى بلاد خضراء واسعة. وكذلك وقع الإسلام في نفس خالد وانتهى به المطاف إلى الإسلام ومبايعة النبي صلى الله عليه وسلم، واحتفى النبي بخالد منذ إسلامه، وحاول خالد أن يكفر عن سابقته، فخرج مع المسلمين (لمؤتة) لمجابهة الروم، وكان البلاء هناك واستشهد أمراء المسلمين الثلاثة زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، واستلم الراية بعدهم خالد بن الوليد، ففتح الله عليه .. وأخبر النبي أصحابه عن المعركة وشهداء المسلمين، وعيناه تذرفان حتى قال: «حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليه» (¬1). أيها المؤمنون .. لم يكن بين إسلام خالد وبين خروجه مع المسلمين وما فتح الله عليه في مؤتة إلا ما يقرب من أربعة أشهر؛ فإسلامه في صفر سنة ثمان، ومؤتة في جمادى الأولى من السنة نفسها (¬2). ومنذ ذلك الحين واسم خالد يتردد في الملأ، ويحمل تاج (سيف الله ¬

(¬1) أخرجه البخاري ح 4262 (الفتح 7/ 512). (¬2) (ابن كثير 4/ 267، 268).

المسلول) وقد كان لهذا المسمى ثمنًا أعطى خالد من نفسه للإسلام، ومارسه في حركة الفتح الإسلامي .. وأرض العراق وما وراءها، وأرض الشام وما جاورها، تشهد لخالد بالبلاء والفتح المبين، وصفحات التاريخ تعطر بذكر هذا البطل الصنديد ولئن علم الناس من شجاعة خالد ما عرفوا .. فثمة جهد لخالد قد ينغمر في حياته العظيمة، ألا وهو الدعوة للإسلام، فغير المسلمين كان يعجب بخالد وشجاعته ثم يكون الحوار وينتهي إلى الإسلام .. وإليكم نموذجًا لذلك: حوار خالد مع جرجة: (¬1) قالوا: وخرج جرجه أحد الأمراء الكبار من الصف واستدعى خالد بن الوليد، فجاء إليه حتى اختلفت أعناق فرسيهما، فقال جرجة: يا خالد أخبرني فاصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع المسترسل بالله، هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه الله فلا تسله على أحد إلا هزمتهم؟ قال: لا، قال: فبم سميت سيف الله؟ قال: إن الله بعث فينا نبيه فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه جميعا، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا كذبه وباعده، فكنت فيمن كذبه وباعده، ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به وبايعناه، فقال لي: أنت سيف من سيوف الله، سله الله على المشركين. ودعا لي بالنصر، فسميت سيف الله بذلك، فأنا من أشد المسلمين على المشركين. فقال جرجة: يا خالد إلى مَ تدعون؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ¬

(¬1) (انظر البداية والنهاية لابن كثير 7/ 14، 15) أحداث سنة 13 هـ.

ورسوله، والإقرار بما جاء به من عند الله عز وجل. قال: فمن لم يجيبكم؟ قال: فالجزية ونمنعهم. قال: فإن لم يعطها؟ قال: نؤذنه بالحرب ثم نقاتله. قال: فما منزلة من يجيبكم ويدخل في هذا الأمر اليوم؟ قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا، شريفنا ووضيعنا وأولنا وآخرنا. قال جرجة: هل لمن دخل فيكم اليوم من الأجر مثل ما لكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم وأفضل. قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟ فقال خالد: إنا قبلنا هذا الأمر عنوة، وبايعنا نبينا وهو حي بين أظهرنا تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالكتاب، ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا. فقال جرجة: بالله لقد صدقتني ولم تخادعني؟ بالله لقد صدقتك (¬1)، وإن الله ولي ما سألت عنه. فعند ذلك قلب جرجة الترس ومال مع خالد، وقال: علمني الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه، فشن عليه قربة من ماء، ثم صلى به ركعتين. وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد وهم يرون أنها منه حملة فأزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا المحامية عليهم عكرمة بن أبي جهل والحرث بن هشام، وركب خالد وجرجة معه والروم خلال المسلمين، فتنادى الناس وثابوا وتراجعت الروم إلى مواقفهم وزحف خالد بالمسلمين حتى تصافحوا بالسيوف، فضرب فيهم ¬

(¬1) زيادة في الطبري: وما بي إليك ولا إلى أحد منكم حاجة.

خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب، وصلى المسلمون صلاة الظهر وصلاة العصر إيماء، وأصيب جرجة رحمه الله ولم يصل لله إلا تلك الركعتين مع خالد رضي الله عنهما. وضعضعت الروم عند ذلك، ثم نهد خالد بالقلب حتى صار في وسط خيول الروم، فعند ذلك هربت خيالتهم، واشتدت بهم في تلك الصحراء، وأفرج المسلمون بخيولهم حتى ذهبوا، وأخر الناس صلاتي العشاءين حتى استقر الفتح، وعمد خالد إلى رحل الروم وهم الرجالة ففضوهم عن آخرهم حتى صاروا كأنهم حائط قد هدم، ثم تبعوا من فر من الخيالة واقتحم خالد عليهم خندقهم، وجاء الروم في ظلام الليل إلى الواقوصة، فجعل الذين تسلسلوا وقيدوا بعضهم ببعض إذا سقط واحد منهم سقط الذين معه. قال ابن جرير وغيره: فسقط فيها وقتل عندها مائة ألف وعشرون ألفا سوى من قتل في المعركة. ألا ما أبعد البون بين ذكر خالد - رضي الله عنه - وذكر أبيه، وذلكم الفرق بين الإسلام والكفر، ألا وإن التاريخ سجل حافظ، وكما تعطر صفحاته بجهاد المجاهدين وفتح الفاتحين، وإذا كان هذا في الدنيا، فالذكر أعظم والفضيحة أسوأ في الآخرة حين تكون على رءوس الأشهاد، ألا فليجاهد المسلمون بأموالهم وألسنتهم وأيديهم، فالزرع محفوظ، وليستكبر الملأ الظالمون، ويشيعوا في الأرض الفساد، فربك لهم بالمرصاد.

الشكر والشاكرون

الشكر والشاكرون (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وأشهد أن لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله كان إمامًا للشاكرين ونموذجًا للصابرين. أيها الإخوة المسلمون ما بنا من نعمة فمن الله، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ}. ابن آدم أنت في مبدئك ومنتهاك وفي حال ضعفك وقوتك وصحتك وغناك، وبكل ما تتربع عليه من نعم ويدفع عنك من نقم .. أنت من فضل الله وجوده وكرمه وإحسانه .. شكرت ذلك أم كفرته أدركت هذه النعم أم غاب عنك بعضها. أجل إن من أسماء الله الحسنى (الشكور) وهو الذي يجازي بيسير الطاعات كثير الدرجات، ويعطى بالعمل في أيام معدودات نعيمًا في الآخرة غير محدود، ومن جازى الحسنة بأضعافها يقال أنه شكر، فإذا نظرت إلى معنى الزيادة في المجازاة لم يكن الشكور المطلق إلا الله عز وجل لئن زيادته في المجازاة غير محصورة ولا محدودة، ذلك أن نعيم الجنة لا آخر له، والله يقول: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 9/ 3/ 1430 هـ

يا أخا الإسلام الله يهدي للتي هي أقوم ثم يشكر المهتدي وينعم بالصحة والمال ويشكر العابد المنفق، وينعم بالعقل ويشكر المتفكر المؤمن، ويهدي لأحسن الأخلاق والأعمال، ويجزي صاحب الخلق والعمل الحسن. يا ابن آدم أين تفر من الشكر لله، وأنعمه تحاصرك في ضعفك وإقامتك، وفي حال سرائك وضرائك نعم تترى في اليقظة والمنام، وفي الليل والنهار، سرًا وجهرًا، ظاهرًا وباطنًا .. عافية وأمان، وأموال وأولاد، ومباهج لا تحصى .. حتى إذا ضعفت وتجاوزت حدود الله سترك وأعطاك فرصة للتوبة والندم. حتى إذا نسبت وغفلت ذكرك واعظ الله علك أن تفيق وتتذكر .. حتى إذا مرضت وعجزت كتب الله لك من الأجور والحسنات مثل ما كنت تعمل يوم كنت سليمًا مقيمًا .. يا عبد الله كن من الشاكرين حقًا فهم كما قال الله: {وقليل من عبادي الشكور} [سبأ: 13]. ولا تحسبن الشكر مجرد كلمة تمر على اللسان مرورًا عابرًا فالشكور - كما قال العالمون - ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعة (¬1). الشاكر هو من يشكر على الرخاء بزيادة الثناء وعدم البطر ويشكر على البلاء بزيادة الصبر والإمساك عن الشكوى. إخوة الإسلام ولعظيم منزلة الشكر قرنه الله بالإيمان فقال: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} [النساء: 147]. والشاكر هو من يرى عليه أثر الشكر ثناءً على الله وقيامًا بواجبات الله، ¬

(¬1) (ابن القيم: مدارج السالكين: 2/ 244).

وانتهاءً عن المحرمات من سيما الشاكرين البكاء تعظيمًا وخوفًا .. هم الشاكرون الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون. الشاكرون يتواضعون وإن كانوا كبارًا، ويسارعون للخيرات وإن كانوا لها سابقين .. يحتاج الشكر إلى إعانة من الله .. والدعاء واحد من مفاتح الشكر، فاسأل ربك أن يجعلك في زمرة الشاكرين ولقد كانت وصية المحب لمن أحب بالاستعانة بالله على الشكر، فقد أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد معاذ بن جبل رضي الله عنه وقال: «يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (¬1). وقد كان من دعاء الصالحين {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ... }. يا عبد الله ويعينك على الشكر أن تنظر إلى من فوقك في الدين فتقتدي به، وتنظر في دنياك إلى من هو دونك فتحمد الله على تفضيل الله لك عليه، وقد ورد في الأثر عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرًا صابرًا، ومن لم تكونا فيه لم يكتبه الله لا شاكرًا ولا صابرًا من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر إلى دنياه إلى من هو دونه، فحمد الله على ما فضله به عليه كتبه الله شاكرًا صابرًا، ومن نظر في دينه إلى من هو دونه، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منه، لم يكتبه الله لا شاكرًا ولا صابرًا» (¬2). ¬

(¬1) رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 280). (¬2) أخرجه الترمذي وقال حسن غريب (2512) وضعف إسناده محقق جامع الأصول (11/ 697) [نظرة النعمة 6/ 2409].

يا مسلم يا عبد الله كن شاكرًا تكن في قافلة الأنبياء والصالحين فنوح -عليه السلام- {إنه كان عبدًا شكورً} وإبراهيم عليه السلام وصفه ربه {شاكرًا لأنعمه اجتباه} ومحمد صلى الله عليه وسلم قال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»، وآل داود قيل لهم: {اعملوا آل داود شكرًا وقليل من عبادي الشكور} لقد أمر الله بالشكر {واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون} ونهى عن ضده {ولا تكفرون}. وأثنى على أهله ووعد بجزائهم {وسنجزي الشاكرين} أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم (تفسير ابن كثير 1102). الشكر من أعلى المنازل، وهو فوق (الرضا) وحيث سمى الله نفسه شاكرًا، وشكورًا، فقد سمى الشاكرين بهذين الاسمين فأعطاهم من وصفه وسماهم باسمه، وحسبك بذلك محبة للشاكرين وفضلاً (¬1). يا أخا الإسلام وثمة قواعد خمس بها يعرف الشاكر، قال عنها ابن القيم رحمه الله: والشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثنائه عليه بها، وألا يستعملها فيما يكره (¬2). والشكر معه المزيد أبدًا لقوله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم} فمتى لم تر حالك في مزيد فاستقبل الشكر. وإذا اشترك مع المسلمين غيرهم في الشكر على المحاب - وإن تميز المسلمون على غيرهم بكمال الشكر في هذه الدرجة .. فثمة درجة يتقدم المسلمون على غيرهم وربما اختصوا بها ألا وهي الشكر على المكاره و «عجبًا ¬

(¬1) (ابن القيم: مدارج السالكين 2/ 252/ 253). (¬2) (السابق 2/ 254).

لأمر المؤمن إن أمره له كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له وليس ذلك لأحد إلا المؤمن». كما يختصون بالأجر على الحمد، وقد صح الخبر « ... ومن قال: الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كتبت له ثلاثون حسنة، وحط عنه ثلاثون خطيئة» (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145]. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) (صحيح الجامع الصغير 2/ 96).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله ملء السموات والأرض وما بينهما .. وهو أهل الثناء والمجد أحمده تعالى وأشكره، وقد وعد الشاكرين يثيب (الحمد) في الجنة اللهم لا تحرمنا فضله، واجعلنا له شاكرين ذاكرين. أيها المسلم اعزم على شكر ربك ولا تتردد فيه أو تتشكك ودونك هذا الحوار وفوائده في العزيمة على الشكر، فقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقى رجلاً فيقول: «يا فلان كيف أنت؟ » فيقول: بخير أحمد الله، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلك الله بخير»، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم ذات يقوم فقال: «كيف أنت يا فلان؟ فقال: بخير إن شكرت، قال: فسكت عنه، فقال: يا نبي الله إنك كنت تسألني فتقول: «جعلك الله بخير»، وإنك اليوم سكت عني؟ فقال له: «إني كنت أسألك تقول: بخير أحمد الله، فأقول: جعلك الله بخير، وإنك اليوم قلت إن شكرت، فشككت فسكت عنك» (¬1). يا أيها الشاكر وفضل الله عليك عظيم بالشكر، وأنت تبلغ درجة الصائم الصابر، وفي الحديث: إن للطاعم الشاكر من الأجر مثل ما للصائم الصابر» (¬2). يا مسلم يا عبد الله اجعل من وردك اليومي كلما نيرات في الشكر، فمن قال حين يصبح: «اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، فقد أدى شكر يومه، ومن ¬

(¬1) البخاري (70) ومسلم (59). (¬2) أخرجه الترمذي، وابن ماجه والدارمي وأحمد وصحح إسناده شاكر 14/ 212، نضرة النعيم 6/ 2409).

قال ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته» (¬1) يا عبد الله وهل تعلم أن شكر الناس طريق لشكر الله وقد صح الخبر: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) (¬2). والحديث ورد برفع اسم الجلالة ومظنة (لا يشكر لله) ومن معانيه: إن الله لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس ويكفر معروفهم، وقيل: إن من كان من عادته عدم شكر الناس كان من عادته كذلك كفران نعمة الله (¬3). ابن آدم سيسألك ربك عن الشكر على كل نعمة أنعم بها عليك وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل يوم القيامة: «يا ابن آدم حملتك على الخيل والإبل، وزوجتك النساء، وجعلتك تربع وترأس، فأين شكر ذلك؟ » (¬4). اشكروا الله وامدحوه، فلا شيء أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه (¬5). ومن صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرًا فقد أبلغ في الثناء (¬6). وكيف لا يمدح وهو أهل الفضل والثناء والحمد وصدق الشاعر: إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... علي له في مثلها يجب الشكر ¬

(¬1). (أخرجه أبو داود والنسائي، وذكره النووي في الأذكار، وقال: مخرجه إسناده حسن (152) وحسن الحافظ في شرح الأذكار (124) وانظر: نضرة النعيم (6/ 2411). (¬2) رواه أحمد وغيره [صحيح الجامع 6/ 237]. (¬3) (النهاية في غريب الحديث 2/ 493، 494). (¬4) رواه مسلم (2968) وأحمد (2/ 492). (¬5) (رواه مسلم 2760). (¬6) (رواه الترمذي، وقال محقق جامع الأصول إسناده قوي 2/ 558).

فكيف وقوع الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الأيام واتصل العمر إذا مس بالسراء عم سرورها ... وإن مس بالضراء أعقبها الأجر وما منهما إلا له فيه منة ... تضيق بها الأوهام والبر والبحر قال العالمون: من أعطى أربعًا لم يمنع أربعًا، من أعطي الشكر، لم يمنع المزيد، ومن أعطي التوبة لم يمنع القبول، ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة، ومن أعطي المشورة لم يمنع الصواب (¬1). وقال بعض الحكماء: من قصرت يداه عن المكافأة فليطل لسانه بالشكر (¬2). وأخيرًا اجعل هذا الدعاء النبوي نصب عينيك: رب اجعلني لك شكارًا، لك ذكارًا، لك رهابًا، لك مطيعًا، لك مخبتًا، إليك أواهًا منيبًا (¬3). اللهم اجعلنا لك شاكرين، لك ذاكرين .. اللهم إنا نسألك المزيد من فضلك، والشكر على نعمائك. ¬

(¬1) (إحياء علوم الدين 1/ 160). (¬2) (نضرة النعيم 6/ 2419). (¬3) رواه أبو داود وصححه الألباني (1/ 282).

حين يسخر بالنبي صلى الله عليه وسلم

حين يسخر بالنبي صلى الله عليه وسلم (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. إخوة الإسلام ولا تزال تتأجج مشاعر المسلمين هذه الأيام في مغرب العالم ومشرقه مدافعة عن حياض النبي صلى الله عليه وسلم .. حيث الإهانة والسخرية والسب من قبل أقوام لأخلاق لهم. وينتفض المؤمنون رجالاً ونساءً صغارًا وكبارًا معبرين عن صدق محبتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، وصدق الانتماء لدينه ورسالته .. ولا غرابة في ذلك .. فدون محمد صلى الله عليه وسلم ترخص الأرواح، وتبذل المهج والأوقات .. محمد صلى الله عليه وسلم رفع الله شأنه وأعلى ذكره، وختم بالمرسلين شريعته، وبسط في الخافقين نوره ورحمته .. إنه السراج المنير، والرحمة المهداة، والقدوة والأسوة، أعطاه الله اسمين من أسمائه: {بالمؤمنين رءوف رحيم} وقدمه في إمامة الأنبياء، وجعل رسالته حية في قلوب العالمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أحبه المؤمنون، وأنصفه العقلاء، وشهد على صدقه وعدله البر والفاجر، واشترك في ميراثه العرب والعجم، والأحمر والأسود، والذكر والأنثى، والغني والفقير، والقاصي والداني. من حماقات هذا العصر، ومن مأفون تصرفات السفهاء، وإذكاء لروح العدوان والصدام .. يصدر من الدانمرك ومن ورائها الاتحاد الأوربي أصوات ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 27/ 12/ 1426 هـ.

منكرة ورسوم كاريكاتورية ساخرة تستهدف الإسلام والمسلمين وتسخر بنبي الرحمة والملحمة. ما دوافع الحملة ومن وراءها؟ أهي مجرد حقد دفين على الإسلام والمسلمين أم هي مع ذلك متاجرة رخيصة بحرية الرأي؟ تجرأ دولة صغرى على هذه الجريمة النكراء؟ أم ثمة ضمانات ومحالفات من دول كبرى؟ وهذه الحملة الظالمة والهجوم الخاسر ليست وليدة اليوم، وليست قصرًا على مكان دون آخر، ولا على شعب أو ديانة دون أخرى ودعونا نستدعي التاريخ فهو شاهد على حلقات هذا العداء وكاشف لنتائج المعركة .. وهي بلا شك لصالح الحق ولأهل الحق. حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأعلن دعوته ناصبته قريش العداء، وتجهموه وآذوه وسخروا منه ومما نزل عليه، وقال قائلهم: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} [فصلت: 26] وقريش في داخلها تؤمن بصدق محمد وصدق القرآن .. فمحمد الأمين والقرآن يتحدى .. ولكن قريشًا آثرت هذا الأسلوب للصد والاعتراض وحتى لا ينكشف ضعفهم وباطلهم، ولذا نقل ابن إسحاق عن قريش قولهم (معترفين) فإنكم إن ناظرتموه أو خاصمتموه غلبكم. واليوم يتكرر الأسلوب ويتخوف الأعداء من مد الإسلام ومن أثر محمد صلى الله عليه وسلم على المسلمين وغيرهم فلا يجدون وسيلة إلا التنفير والسخرية والسب والانتقاص. ولكن وكما خابت قريش وخسرت بالأمس فسيخسر أمثالها اليوم .. أجل إن حملة الأمس الظالمة من قريش الكافرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سول حمق القوم أن ينشروها في اجتماعات العرب وأسواقهم ومناسباتهم - عادت بدور إيجابي على محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته .. وصدر العرب - وهم من جهات شتى - وقد

سمعوا عن محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته، وعادت هذه القضية مثارًا للحديث في محالهم ومع أقوامهم، فعرف محمدًا والإسلام من لم يكن يعرفه من قبل. وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت ... أتاح لها لسان حسود وأدركت قريش أو لم تدرك أنها صنعت للنبي والإسلام دعاية مجانية .. واليوم يشكل حمق الأوربيين ومن وراءهم دعاية مجانية لمحمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، فيعرف محمدًا من لم يكن يعرفه من قبل، ويتساءل مجموعات كبرى من البشر عن دين محمد ما هو؟ وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا. وثمة معلم آخر في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم .. وتعداد وتوعية الساخرين به، فلم يكونوا أفرادًا فقط بل جماعات، ولم يقتصر الأمر على مكة بل شمل المدينة .. بل تجاوز العرب إلى العجم، ويمكن القول أن كفار مكة والمنافقين في المدينة وشياطينهم اليهود وكسرى دولة فارس .. كل هؤلاء حلقات في سلسلة العدوان والسخرية. إنها جماعات وأفراد، وديانات ومنظمات سرية، ودول كبرى ومع ذلك يشهد التاريخ أن هؤلاء وأولئك تحطموا وفشلوا، وتمزق ملكهم والنصارى الذين أسلم أحدهم في زمن النبوة ثم عاد وتنصر وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «ما يدري محمدًا إلا ما كتبت له». فأماته الله وجعله عبرة للمعتدين حيث لفظه القبر مرارًا ثم ترك منبوذًا (¬1). قال شيخ الإسلام معلقًا على هذه الحادثة: فهذا الملعون الذي افترى على النبي صلى الله عليه وسلم .. قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دفن مرارًا .. وأن الله منتقم لرسوله صلى الله عليه وسلم ممن طعن عليه وسبه، وتظهر لدينه ولكذب الكاذب. ¬

(¬1) (رواه البخاري في علامات النبوة في الإسلام، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم).

إذا لم يمكن الناس أن يقيموا عليه الحد (¬1). فقريش أسلمت القياد .. ودخل من دخل منهم في الإسلام، ومن لم يكتب الله له الخير أخذه الله وأخزاه وكان عبرة للمعتبرين .. واليهود حوصروا وطردوا وقتلوا .. والمنافقون فشلوا وكشفوا وخابت مساعيهم. إن المتأمل في عالم الأمس واليوم يرى هذه الفئات والمجاميع تتكرر في عدوانها وسخريتها، فيهود اليوم حين يسخرون بالإسلام والمسلمين لهم سلف قالوا عن المسلمين {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}. ونصارى اليوم لهم سلفًا بالسخرية بالنصراني الذي افترى على النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فأماته الله وفضحه على رؤوس الأشهاد حين لفظه القبر مرارًا .. ولعذاب الآخرة أشد. ومنافقوا اليوم لهم حرب على السخرية بالإسلام ونبي الإسلام من وراء وراء، وليعرفنهم بسيماهم أو بلحن قولهم .. ومن قبل قال أسيادهم ليخرجن الأعز منها الأذل، لقد مردوا على النفاق، وضيقوا الحصار على المسلمين وقالوا: {لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ... } ولئن فرق الله ملك كسرى حين سخر بالنبي صلى الله عليه وسلم ومزق رسالته .. فهو قادر على تمزيق كل مملكة تتطاول على مقام النبوة وتسخر بسيد المرسلين. إخوة الإسلام ويعلمنا القرآن .. ويشهد التاريخ أن الله كفى نبيه كيد الكائدين ¬

(¬1) (الصارم المسلول ص 233).

وسخرية المستهزئين .. وعصم نبيه وأظهر دينه على الدين كله .. وإذا كان واقع الحال يشهد على ذلك، فشهادة القرآن برهان صدق .. والله يقول: {إنا كفيناك المستهزئين} ويقول: {والله يعصمك من الناس} بل يتوعد الله من ينال محمدًا بسوء، ويعتدي عليه بالأذى بالعقوبة واللعن في الدنيا والآخرة ويقول: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابًا مهينًا} [الأحزاب: 57]. عباد الله وفي مسلسل حلقات السب والشتم والسخرية والاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم دونكم هذه الحادثة فتأملوها، وتاريخها يعود إلى نهاية القرن السابع الهجري وتحديدًا في سنة ثلاث وتسعين وستمائة وعنها قال الحافظ ابن كثير: (واقعة عساف النصراني) وعنها قال ابن كثير كان هذا الرجل من أهل السويداء (مكان من جبل حوران في أرض الشام) قد شهد عليه جماعة أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استجار عساف هذا بابن أحمد بن حجي أمير آل علي، فاجتمع الشيخ تقي الدين بن تيمية، والشيخ زين الدين الفارقي شيخ دار الحديث، فدخلا على الأمير عز الدين أيبك الحموي نائب السلطنة فكلماه في أمره فأجابهما إلى ذلك وأرسل ليحضره، فخرجا من عنده ومعهما خلق كثير من الناس، فرأى الناس (عسافًا) حين قدم ومعه رجل من العرب فسبوه وشتموه، فقال ذلك الرجل البدوي: هو خير منكم - يعني النصراني - فرجمهما الناس بالحجارة، وأصابت عسافًا، ووقعت خبطة قوية، فأرسل النائب فطلب الشيخين (ابن تيمية والقارفي) فضربهما بين يديه ورسم عليهما في العذراوية وقدم النصراني فأسلم، وعقد مجلس بسببه، وأثبت بينه وبين الشهود عداوة فحقن دمه، ثم استدعى بالشيخين فأرضاهما وأطلقهما، ولحق النصراني بعد ذلك ببلاد الحجاز فاتفق قتله قريبًا من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله ابن أخته هلال وصنف الشيخ تقي الدين ابن تيمية في هذه الواقعة كتابه

(الصارم المسلول على ساب الرسول) (¬1). أرأيتم معاشر المسلمين كيف يحيق المكر السيء بأهله، وكيف ينتقم الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وكيف يحتسب المسلمون وفي مقدمتهم العلماء على أهل الزيغ والضلال والمستهزئين والساخرين .. إن في ذلك لعبرة. وإذا انتصر شيخ الإسلام للرسول صلى الله عليه وسلم بتأليف هذا الكتاب العظيم فهل يا ترى يقرأه المسلمون ليعرفوا مقام النبوة، وعظمة الرسول، وكيف يرد عل المستهزئين والمتطاولين .. وهل تؤكد هذه الأحداث المعاصرة ضرورة معرفة حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم والالتزام بها؟ عباد الله وأمر آخر يسر ويفرح ويدعو للفأل وترقب النصر فشدة الهجمة على الإسلام مؤشر إلى قوته والتخوف منه، والتطاول على مقام النبوة والسخرية بالنبي معجل للنصر .. ويحكي شيخ الإسلام عن من سبقه من أهل الفقه والخبرة قولهم: كنا نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر، وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهله لسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوقيعة في عرض تعجلنا فتحه وتيسر، ولم يكد يتأخر إلا يومًا أو يومين أو نحو ذلك ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيه ملحمة عظيمة، قالوا: حتى إن كنا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظًا عليهم بما قالوا فيه» (¬2). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 128، 129]. ¬

(¬1) (13/ 318 البداية والنهاية). (¬2) (الصارم المسلول صـ 233، 234).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين والعاقبة للتقوى والغلبة للمتقين، والذل والصغار على المشركين والمنافقين .. عباد الله والمسلمون لا تزيدهم هذه الحملات الظالمة إلا تمسكًا بهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وثباتًا على الحق، وهم إن دافعوا أو ردوا العدوان فهم إنما يدافعون عن أنفسهم ودينهم ويتعبدون بذلك لخالقهم، لإنهم إن تولوا استبدل الله بهم قومًا غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم. نعم إن محمدًا صلى الله عليه وسلم في عصمة الله ويكفيه دفاع الله عنه، ودينه سيظهر على الدين كله - ذلك وعد غير مكذوب. ولكن ما واجبنا نحن المسلمين تجاه هذه الحملات السافرة؟ حين يسب الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصمت إلا أهل الريب ومن في قلوبهم مرض، وخابت أقلام تتوارى حين يكون الدفاع عن الإسلام وعن رسول الإسلام، ولا بارك الله بألسنة تتحدث عن كل شيء إلا عن الإسلام وقضايا المسلمين؟ حين تكون السخرية برسول الله صلى الله عليه وسلم تشكر وتعجب، وتشكر هذه الغيرة والعاطفة الإيمانية، وتعجب إن كان أصحابها لا يلتزمون بهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في ذواتهم وفي كل حين .. إن الانتصار لمحمد صلى الله عليه وسلم يعني أول ما يعني السير على خطاه والاقتداء بهديه في المظهر والمخبر .. ولا ينبغي أن يكون الانتصار عاطفة تفرغ وكفى .. ألا وإن كثرة الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب من أساليب الاستنكار لهذه الحملة الظالمة حين يسب محمد صلى الله عليه وسلم يجدر بالآباء أن يعلموا أبناءهم وبناتهم ما جهلوا من سيرته وهديه، ويجدر بالمعلمين والمعلمات أن يدعوا الطلبة والطالبات للتعرف أكثر على سيرته والالتزام أقوى بهديه وسنته.

وأعمق من ذلك أن تعمق السيرة النبوية في المناهج الدراسية من المراحل الأولى وحتى الجامعية ويجدر بالخطباء وأصحاب المنابر الإعلامية أن يدافعوا عن نبيهم ويدعو إلى هداه. حين يسب الرسول صلى الله عليه وسلم يجدر بوسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية أن تعنى بهذه السيرة العطرة وأن تعرف أكثر بهذا النبي المختار، وأن تعي مسئولية الكلمة ومسئولية البلاغ. حين يسخر بالنبي صلى الله عليه وسلم خليق بالهيئات والمنظمات الإسلامية والمجامع والندوات والجمعيات والمؤسسات الإسلامية أن تستنكر وتشجب وتزيد في رسم برامج مستقبلية تعرف بالإسلام ونبيه وتكشف عن زيغ الزائغين وترد على المنتحلين حين يسب الرسول حق على السفارات الإسلامية أن تسحب سفراءها من البلاد التي تجرأت على هذه الجريمة النكراء، وتحية لبلادنا (السعودية) حين سحبت سفيرها من الدانمرك ونأمل أن تحذو الدول العربية والإسلامية حذوها. حين يسب الرسول خليق بالمسلمين أن يقاطعوا منتجات البلد الساخر ويحاصروهم في اقتصادهم، وخوفهم من انحسار الاقتصاد لم يعد يسرًا وحين يعتدى على جناب النبوة ويسخر بالنبي فخليق بالموسرين أن يطيعوا سيرته بعدة لغات لتصل إلى العالم كله .. فيعرف أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم وهديه ورحمته وعظيم رسالته من لم يكن يعرفها من قبل حين يقع السب والاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم حق على أهل العلم والدعوة أن ينشروا سنته ويدعوا إلى أخلاقه وينشروا في العالم رسالته. حين يسب الرسول ويسخر بالنبي فذلك قمة التطرف ودعوة للصدام، وانهيار للقيم وحين يصدر ذلك من دول تدعي الحرية وتتشبث بالديمقراطية فذلك متاجرة بحرية الرأي وامتهان لمسئولية الكلمة وأسلوب للإقصاء، ونموذج

للتعصب، وتعبير عن عدم الاعتبار للآخرين .. إنه الإفلاس في القيم، والشعور بخطر الآخر، واستهلاك للقوة في غير مكانها .. وهكذا .. إننا نستطيع أهل الإسلام أن نحول هذه الأزمة إلى فرصة وهذه المحنة إلى منحة .. إن نحن تعاملنا مع الحدث بوعي وإيجابية وعمق ومتابعة وإرادة فاعله وتخطيط. إن هذه النوازل فرصة لجمع كلمة المسلمين وتوحد صفوفهم، فالعدو يحاصرهم في أعلى ما يملكون، ويشهر سلاحهم عليهم في وضح النهار! وهذه النوازل موقظات للأمة لتستفيق من رقدتها فيعود الشاردون ويستغفر المذنبون، ويستيقظ النائمون على ضربات الأعداء المتتالية .. وماذا بعد سب الرسول وتدنيس القرآن، والسخرية بالإسلام، والاستهانة بالمسلمين؟ إن أمتنا ولود .. وديننا يأبى الذوبان، وشريعتنا رحمة للعالمين، والعالم على شفا جرف هار ولا منقذ إلا وحي السماء .. ولا يؤتمن على الحضارة إلا من يستمسكون بهدي المرسلين لقد خلف تخلف المسلمين عن الريادة .. أن عم الكون الظلم والظلمات وانتشر الباطل وكثر المبطلون وشكى الحجر والشجر .. فضلاً عن بني الإنسان فأين المسلمون؟ دماءً تنزف هنا وهناك، وجراحات تتكرر، هتك للحجب، وعدوان على الأنفس والأموال، ضحايا بريئة، وحصار ظالم، وتهم تكال وإرجاف في الأرض .. وليس بعد الظلمة إلا النور .. ولا بديل للشقاء والنكد إلا السعادة والأمن، والإسلام هو الحل وعلى المسلمين أن يغيروا ما بأنفسهم ليغير الله ما بهم، والنصر قادم .. والفرج آذف .. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

الخيانة بئست البطانة/ أنواع، نماذج، آثار

الخيانة بئست البطانة/ أنواع، نماذج، آثار (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله أمر بالعدل والتقوى، ونهى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله يحب التوابين والمتطهرين والمقسطين وأعلى مكانة الصادقين، وذم الخونة والكاذبين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله قدوة الصادقين وإمام المتقين، وتعوذ من الخيانة فقال: «وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة» (¬2) اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. إخوة الإسلام: خلق ذميم، وظاهرة تستشري وتتجدد بين القديم والحديث، مضعفة للقوى، محطمة للآمال تسقط العروش، وتهدم البيوت، وتسرع بزوال الدول والأمم تلكم هي الخيانة وبئست البطانة. كم تعيش الأمم من غصص الخيانة، وكم بليت المجتمعات بهذا الداء النكد، وكم نحن بحاجة إلى فهم قبح الخيانة وآثارها على الفرد والمجتمع، وكم نحن بحاجة إلى التذكير بنماذج مرة للخيانة، وما أحوجنا إلى فضح الخونة والحذر من أساليب وأنماط الخيانة، وحاجتنا أشد إلى الأمناء المخلصين. إننا - معاشر المسلمين - أمة قامت شريعتها على أساس من الصدق والنصح والعدل والصراحة والوضوح وسطر ساستها وقادتها نماذج عالية في حمل ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 26/ 7/ 1425 هـ. (¬2) (صحيح سنن أبي داود 8/ 263)

الأمانة، ورفض الخيانة، لا تغريهم الدنيا، ولا يبيعون أمتهم وشعوبهم بأبخس الإيمان .. وحين وجد في الأمة المسلمة خونة مارقون وجد الأعداء فرصتهم للتسلل، فضاعت الديار، وانتهكت القيم، واستبيحت الأعراض، وكان حال الأمة من التشرزم والضياع بحال لا تحسد عليه. إن الخيانة أنماط وأنواع كثيرة، ولكنها جميعًا مرة الثمرة، وخيمة العاقبة، بالغة الأثر. هناك خيانة لله، وخيانة للرسول، وخيانة للأمانات، وثمة خيانة زوجية، وخيانة للصديق والحميم، هناك خيانة في العمل، وخيانة في التعامل، وهناك خائنة الأعين، وخائنة الضمائر، وثمة خيانات في السياسة والاقتصاد، والإعلام والتعليم ونحوها. إنها مسئوليات جسيمة، ومواقع، ومحطات مهمة، والخيانة في أي منها، خيانة للفرد والمجتمع والدولة والأمة. الخيانة شبح مخيف، وداء عضال، ومرض يسري، إنها غياب في الوازع الديني، واغتيال بشع للمروءة والأخلاق، أنانية ممقوتة، ومؤشر للحقد، ودليل على اللؤم، لا يقدم عليها أكابر الرجال، ولا يرتضيها، أصحاب الشهامة والكرامة. وهاكم نموذجين في القديم والحديث ضاعت بسبب الخيانة فيهما بلاد المسلمين وتسلط الأعداء عليهم واستباحوا حماهم، وتطاولوا على قيمهم وإسلامهم. والنموذجان كلاهما في بلاد الرافدين، وفي بغداد على وجه التحديد، سقطت الخلافة العباسية نتيجة مؤامرة لئيمة وخيانة الوزير الرافضي ابن العلقمي وذلك حينما كاتب التتر وطمعهم في دخول بلاد المسلمين، وأضعف جيش الخلافة، وغرر بالخليفة - حين رضيه مستشارًا ووزيرًا، فكانت الكارثة، وكانت

خيانة ابن العلقمي ركنًا أساسيًا فيها حتى قال الصفدي عنه: «سعى في دمار الإسلام وخراب بغداد» (¬1). وابن العلقمي الرافضي هو الذي حفر للأمة قليبًا فأوقع فيه قريبًا - كما قال الذهبي (¬2). ألا ما أعظم خطب الأمة حين يستوزر المنافقون، ويستنصح الخونة ويستشار المفسدون، وفي التاريخ دروس لمن عقل يقول الذهبي: استوزر (الخليفة) المستعصم ابن العلقمي الرافضي فأهلك الحرث والنسل، وحسن له جمع الأموال وأن يقتصر على بعض العساكر، فقطع أكثرهم (¬3). وقال ابن كثير عنه: «إنه لم يعصم المستعصم في وزارته، ولم يكن وزير صدق ولا مرض الطريقة» (¬4). وقال أيضًا: «إنه كان وزير سوء على نفسه وعلى الخليفة وعلى المسلمين» (¬5). إخوة الإسلام ويعيد التاريخ نفسه، وتتكرر مشاهد الخيانة عبر القرون - حين يتصدر القيادة الخونة، وينحى أهل العدالة والأمانة. وفي بغداد (المعاصرة) يتكرر مشهد الخيانة، وتسقط بغداد فجأة بأيدي الغزاة الأمريكان، وكان يوم التاسع من إبريل عام 2003 م يوم صمت وحيرة وتساءل كيف سقطت بغداد بأيدي الاحتلال بهذه السرعة المذهلة ودون مقاومة؟ ثم جاءت تصريحات القادة الأمريكان لغزو العراق لنحل هذا اللغز المحير، وتجيب على هذا السؤال الملح .. كيف سقطت ولماذا استسلمت بغداد؟ ¬

(¬1) (الوافي بالوفيات 1/ 184). (¬2) (سير أعلام النبلاء 23/ 362). (¬3) (السير 23/ 175). (¬4) (البداية والنهاية 13/ 157). (¬5) (السابق 13/ 201).

وحملت الإجابة خيانة بعض القادة العسكريين في العراق، وصرح قائد الحملة العسكرية على العراق (تومي فرانكس) لوكالات الأنباء ونشر في الجرائد في العالم يوم 25/ 5/ 2003 م قوله: إن عددًا من كبار ضباط الجيش العراقي الذين كانوا يتولون الدفاع عن عدد من المدن الرئيسية في العراق قد تقاضوا (رشاوى) من الولايات المتحدة لمنع قواتهم من قتال القوات الأمريكية الخاصة أثناء الحرب (¬1). وجاء في صحفية (الاند بند نت) البريطانية عن أحد قادة وزارة الدفاع الأمريكية: إن الرشوة التي قدمت لأبرز القادة العراقيين توازي تكلفة صواريخ (كروز) .. وقال: إن تقديم هذه الرشاوى حقق الهدف المطلوب دون إراقة دماء، وقال: إن هذا الجزء من العملية العسكرية كانت له أهمية العمليات العسكرية نفسها وربما أكثر أهمية (¬2). معاشر المسلمين كم يعاني شعب العراق اليوم من آثار هذه النكبة المروعة، بل وكم تعاني الأمة من ويلات الاحتلال في العراق .. والذي كان من أبرز أسبابه الخيانة. أرأيتم كيف تخذل الأمة من أبنائها .. كم بليت أمتنا بمثل هذه النوعية التي باعت ضمائرها قبل أن تبيع بلادها وتخلت عن كرامتها قبل أن تسلم بلادها وشعوبها للمستعمرين إنها الخيانة مرض فتاك .. وإنهم الخونة نقطة مظلمة في تاريخ الأمة المشرق، مهما كانت دعواهم في (الوطنية) و (الصمود) وخابوا وخسروا حين يرشون بلعاعة من الدنيا وقد يقضى عليهم قبل الاستمتاع بها، وقد يقعون في القليب التي حفروها .. فهل من مدكر؟ ¬

(¬1) (انظر: مجلة البيان عدد جمادى الأول عام 1425 هـ/ فلنحذر الخيانة .. ) (¬2) (مجلة البيان/ جمادى الأولى عام 1425 هـ المقال السابق).

{ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52]. أيها المسلمون وكما يوجد في تاريخنا نقاط مظلمة وخونة مفسدون يوجد كذلك نقاط مضيئة ومشرقة، ورجال مخلصون أوفياء لأمتهم وبلادهم وإذا كان التاريخ المعاصر يحفظ للسلطان العثماني/ عبد الحميد رحمه الله وقفته الشجاعة في وجه الصهاينة اليهود الذين راودوه عن التنازل عن جزء من فلسطين مقابل دعم مادي مغر له شخصيًا وللدولة العثمانية عمومًا، بلغ خمسة ملايين ليرة ذهبية هدية لخزينته الخاصة، ومائة مليون كقرض لخزينة الدولة بلا فائدة لمدة مائة عام، على أن يسمح لليهود ببعض الامتيازات في فلسطين. وما أن أتم المفاوض اليهودي (قره صو) كلامه حتى نظر السلطان عبد الحميد إلى مرافقه بغضب وقال له: هل كنت تعلم ماذا يريد هذا الخنزير؟ فاعتذر بعدم علمه، ثم التفت السلطان إلى اليهودي قائلاً: «اخرج من وجهي يا سافل». فالتاريخ يحفظ كذلك تكرر هذه المحاولات من اليهود، ويحفظ المواقف البطولية والكلمات الصادقة للسلطان عبد الحميد، ومن كلامه قوله: إذا تجزأت إمبراطوريتي يومًا فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أما وأنا حي فإن عمل المبقع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من إمبراطوريتي. ومما قاله كذلك: إنكم لو دفعتم ملء الأرض ذهبًا فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعيًا، فقد خدمت الأمة الإسلامية ما يزيد على ثلاثين سنة، فلم أسود صحائف المسلمين .. وحين خلع رحمه الله قال: الحمد لله أنني لم أقبل أن ألطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة في فلسطين (مجلة البيان/ العدد السابق) كم تحتاج أمتنا إلى مثل هؤلاء.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية أيها المؤمنون .. 1 - المعصية خيانة ومنه قوله تعالى: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} [البقرة: 187]. أي تخونونها بالمعصية (ابن قتيبة) تأويل مشكل القرآن (478). 2 - ونقض العهد خيانة {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]. 3 - والمخالفة في الدين خيانة {كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما} [التحريم: 10]. 4 - والزنا خيانة: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52] (¬1). 5 - والكذب في المشورة خيانة، وفي الحديث: «ومن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه» والخيانة نفاق وهي من علامات المنافقين «وإذا ائتمن خان» (¬1)، وهي من أخلاق اليهود {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} [المائدة: 13]. وهي كبيرة من الكبائر .. تعظم أو تصغر بحسب نوع الخيانة. ألا فاحذروا الخيانة يا عباد الله .. بكل أشكالها وألوانها. ¬

(¬1) (نضرة النعيم/ 10/ 4483). (¬2) رواه أحمد 2/ 321 (8286) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3105).

فأهل النار خمسة كما في حديث مسلم (¬1) وأحدهم «الخائن الذي لا يخفى له طمع (أي لا يظهر) وإن دق إلا خانه ... ». وظهور الخيانة وتولية الخونة من أمارات الساعة قال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش، وقطيعة الرحم، وسوء المجاورة، وحتى يؤتمن الخائن ويخون الأمين .. » (¬2). لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة - كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (¬3). يا أيها البائع احذر الخيانة في البيع والشراء بتحسين القبيح أو بالكذب والنجش ففي الحديث قال ابن أبي أوفى رضي الله عنه: الناجش آكل ربًا خائن (¬4). وآكل الربا وموكله محارب لله ولرسوله، وخائن لنفسه ولمجتمعه. يا أيها العامل في أي مهنة إياك والخيانة في عملك، وكم هو ظلم ولؤم أن تخون من ائتمنك، ومهما غاب عنك الرقيب فاعلم أن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، إن من السوء الخيانة في الهندسة والمعمار، وأسوأ منه الخيانة في الطب. يا أيها الموظف احذر الخيانة في وظيفتك سواء كان ذلك بنقص ساعات العمل أو عدم قضاء حوائج الناس، أو تعاطي الرشوة وذاك أعظم. يا أيها المعلم أنت مؤتمن على التربية والتعليم فإياك إياك أن تخون الأمانة أو تقصر في عطائك فتتخرج على يديك أجيال ضعيفة في العلم، قاصرة في التربية .. ¬

(¬1) (2865). (¬2) (رواه أحمد (2/ 162، 163)، وصححه شاكر والحاكم وصححه ووافقه الذهبي/ المستدرك 4/ 512). (¬3) (رواه أحمد وصححه شاكر (6698). (¬4) (البخاري - الفتح 5/ 2675).

يا أيها المدير والمسئول اتق الله فيما ائتمنت عليه، وإياك أن تجعل من الإدارة والمسئولية سلمًا لتحقيق أهدافك الشخصية وطموحاتك الخاصة .. كن نموذجًا في الأمانة والعدل والصدق .. وسوف تسأل عن هذه المسئولية. أيها الآباء والأمهات أولادكم أمانة في أعناقكم فالله الله في هذه الأمانة تربية وإعدادًا ومتابعة. أيها المسلمون جميعًا والسمع والبصر والفؤاد أمانات عندكم فاحفظوها في حدود ما أحل الله وإياكم والخيانة بالنظر أو الاستماع للحرام أو أن تنطوي القلوب على الغل والحسد .. فذلك خيانة فاحذروها .. عباد الله فتشوا عن أحوالكم وانظروا في الأمانات التي أودعتموها وساءلوا أنفسكم هل حفظتم الأمانة؟ وهل وقعتم في شيء من الخيانة؟ فالخيانة أسوأ ما يبطن الإنسان. إن انتشار الخيانة في المجتمع من علامات اضمحلاله، ونكده، وتفرق كلمة أبنائه .. والخيانة جسر يعبر عليه أعداء الأمة ليذهبوا ريحها لنحارب - جميعًا - الغش والخيانة والكذب والنفاق، والغل والحسد .. حتى يعود لمجتمعنا صفاؤه، ولأمتنا مجدها وعزها ولنضيق الخناق على الغادرين والماكرين والخائنين، فأولئك لا مقام لهم في المجتمع النظيف .. والمواطنة الصالحة .. يا مسلم يا عبد الله أيًا كان موقعك ومهما كانت مسئوليتك أنت على ثغر من ثغور الإسلام فالله الله في حفظه وإياك والخيانة في أداء الواجب، واعلم أن الحيل والمبررات لا تخرج الخيانة عن حقيقتها، ولا تلبسها المشروعية تسميتها بغير اسمها. أمتنا اليوم تستشعر غزو الأعداء لها، وتدرك ما يخطط لها وهي أحوج ما تكون إلى رجال أوفياء صادقين مؤتمنين، لا يفكرون في مصالحهم الشخصية،

بل يضعون نصب أعينهم المستقبل المشرق ويضعون لبناته الأولى .. كفانا من ذل الهزيمة ما دهانا .. وكفانا من نماذج الخيانة ما أضعف قوانا، لقد شمت بنا أعداؤنا، وسلطوا بعضنا على بعض إن الخيانة طريق موصل إلى العار في الدنيا والنار في الآخرة .. وإن الأمانة والصدق عز وكرامة في الدنيا، وسعادة ونعيم في الآخرة. اللهم إنا نعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة، ونسألك الصدق في أقوالنا وأفعالنا .. اللهم جنب أمتنا الشرور والفتن واحفظها من الخونة والمفسدين ..

معنيات الطاعة

معنيات الطاعة (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. إخوة الإسلام قضى ربنا ألا يعبد إلا هو {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} وحكم أن الدين الحق هو الإسلام {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}. وما من أحد إلا وهو متخذ إلهًا حقًا كان أم باطلاً، فالمسلمون يتخذون من الإله الحق معبودًا لهم يعظمونه ويطيعونه ويتوكلون عليه وينيبون إليه {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} وغير المسلمين يعظمون آلهة ما أنزل الله بها من سلطان {ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانًا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير} [الحج: 71]. تتعدد الآلهة عند هؤلاء ويتعدد الشركاء .. وكلهم يشرعون ما لم يأذن به الله، والذين يتخذون أهواءهم آلهة من دون الله فأولئك ختم على قلوبهم وأسماعهم وجعل على أبصارهم غشاوة .. وإن خيل للناس أنهم يبصرون، وهم مرضى قلوب وإن كانوا أصحاء الأجساد {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]. عباد الله الحديث هنا ليس حديثًا عن الكافرين وضلالهم وعاقبتهم وجزائهم، ولكنه حديث موجه للمسلمين الذين يعترفون بالعبودية لله رب العالمين، والذين ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 10/ 1/ 1427 هـ، وأعيدت في 8/ 10/ 1431 هـ

يدركون قيمة الحياة والهدف من الوجود، وهو باختصار مجمل في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وفي قوله تعالى {خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} وليس الحديث كذلك عن معنى العبادة وتفصيلاتها .. ولكنه حديث عن الأمور التي تعين العبد على العبادة والطاعة فما هي الأمور المعنية للمسلم على العبادة - والحديث عن هذا يطيب في كل زمان .. ولكن الحاجة تشتد إليه كلما اشتدت الأحوال وتعاظمت الفتن، وكثر التفلت من الدين، واستسلم الناس للأهواء، وانقادوا للشهوات، وضعفت العبادة: 1 - الاستعانة بالله .. فلا حول للعبد ولا قوة له إلا بالله، وصلاح العبد في ركونه إلى الله، واعتماده عليه وطلب العون منه، وهلاكه وفساد حاله في الاستعانة بما سواه ومن أعانة الله فهو العبد الموفق، ومن خذله الله وأهانه فما له من ناصر أو مكرم. ألا وإنه جدير بمن يقف بين يدي الله مصليًا أن يتذكر معنى ما يقوله في كل ركعة {إياك نعبد وإياك نستعين} يقول ابن رجب رحمه الله «فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات وترك المحظورات والصبر على المقدورات كلها، في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه .. ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به فصار مخزولاً» (¬1). أخي المسلم هل تعلم أن الدين نصفه استعانة، وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله: «التوكل نصف الدين والنصف الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة» (¬2). ¬

(¬1) (جامع العلوم والحكم 192، 193 عن مجلة البيان، مقال فيصل البغدادي/ رمضان 1426 هـ) (¬2) (مدارج السالكين 2/ 113).

2 - مجاهدة النفس .. فالنفس صعبة المراس، وهي أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، وهي أميل إلى العاجلة منها للآجلة .. ولذا يعين في التعبد مجاهدتها ومخالفتها ابتغاء نجاتها وطيب حياتها يقول ربنا تبارك وتعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} ويقول ابن الجوزي رحمه الله: النفس مجبولة على حب الهوى فافتقرت لذلك إلى المجاهدة، والمخالفة ومتى لم تزجر عن الهوى، هجم عليها الفكر في طلب ما شغفت به فاستأنست بالآراء الفاسدة، والأطماع الكاذبة والأماني العجيبة، خصوصًا إن ساعد الشباب الذي هو شعبة من الجنون، وامتد ساعد القدرة إلى نيل المطلوب» (¬1) المجاهدة أمر رفيع القدر عالي المنزلة، قد تضعف أمامه صغار النفوس، ولا تعجز عنه نفوس الكبار، أرشد إلى المجاهدة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم واعتبره في طليعة الجهاد فقال: «المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل» (¬2) واعتبر ابن عبد البر أن مجاهدة النفس أفضل من مجاهدة العدو (¬3). على أن مما ينبغي أن تعلم أن مجاهدة النفس وسط بين الإفراط والتفريط، فمن أرخى العنان لنفسه أهلكته، ومن ألجمها حتى عن المباحات والطيبات أضعف سيرها وقصر في واجبها، قال العالمون أعجب الأشياء مجاهدة النفس لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة، فإن أقوامًا أطلقوها فيما تحب فأوقعتهم فيما كرهوا، وإن أقوامًا بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها وظلموها .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}. 3 - ومما يعين على التعبد تنويع الطاعات والترويح بين العبادات، حتى لا تمل النفس وتكل وحتى يكون للعبد أسهم متعددة في الخير، وطرق كثيرة ¬

(¬1) (ذم الهوى/ 36) (¬2) رواه أحمد (23997، وابن حبان (4624) وصحح الأرناؤوط سنده) (¬3) (الاستذكار 8/ 287).

للجنة .. بين صلاة وصيام، وذكر وتلاوة قرآن، ودعوة للخير، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وإحسان للخلق، وصدقات وصلات، وأخلاق فاضلة وظنون حسنة، وأدب وتربية .. إلى غير ذلك من أنواع القربات .. وحبذا لو حاسب العبد نفسه كل حين يوم أو كل أسبوع أو كل شهر عن أنواع الطاعات التي مارسها وتقرب إلى خالقه بها، حتى يكتشف نفسه فإن وجد خيرًا حمد الله وزاد، وإن وجد خللاً أو تقصيرًا سدد الخلل واستغفر وأناب. 4 - ومع تنويع الطاعات فثمة معين آخر لا يكلف النفس إلا استحضار النية ألا وهو توسيع دائرة التقرب فمهما اجتهد المرء في العبادات المحضة فإنها تبقى معدودة، وقدرته عليها محدودة .. ولذا فتح الرحمن على عباده الموفقين للخير أمورًا تمكنهم من خلالها توسيع دائرة تقربهم ومن ذلك: أ- احتساب الأجر في الأمور المباحة .. والتي قد يراها الإنسان أمورًا عادية أو واجبة عليهم، كالنفقة على الأهل فهي مع الاحتساب قربة لله وطاعة قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة» (¬1). فهل نحتسب النفقة على أهلينا وأولادنا في عداد الصدقات .. دون أن يكون لذلك أثر على الصدقات الأخرى؟ ومثل ذلك يقال في احتساب الأجر في العمل الوظيفي والتعليمي والبيع والشراء وسائر المباحات فقد يتحول من عادة إلى عبادة ومن مجرد واجب يؤدي إلى دعوة للخير يثاب فاعلها. ب- ومن ذلك كذلك الهم بنية الخير وإن لم يعمل المرء لعارض أو سبب .. فذلك مؤشر على طيب النفس وحب الخير، ومنهج لنشر الخير ومحاصرة الشر، وربنا يحاسب على الخردل والقطمير، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب ¬

(¬1) رواه البخاري (5351)

الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشرة حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة» (¬1). ومن وصايا الإمام أحمد لابنه: «يا بني انو الخير فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير» ألا أنها دعوة لاستحضار نية الخير دائمًا، والتفكير في إرساء دعائم الحق ونصرة الحق، والدعوة للهدى والبعد عن الشر ومهالك الردى، ومن لم يعمل الخير فلا أقل من أن يتمنى فعله، ومن لم يكن من الأخيار فلا أقل من محبتهم. إنه تدريب للنفوس وحض لها على الخير. جـ- ومن ذلك إرادة أكثر من قربة بالعمل الواحد، إذ من الممكن عمل أكثر من طاعة في جهد واحد - وذلك لا يحتاج إلا إلى احتساب نية الأجر المتعددة كمن ينوي بمكثه في المسجد انتظار الصلاة، والاعتكاف، وكثرة الذكر، وينوي بأكل الطعام الحلال البعد عن الحرام، والتقوي على الطاعة، وشكر المنعم، وهكذا .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22]. ¬

(¬1) (رواه البخاري 6491).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله يمن على من يشاء بطاعته، والموفق من أعانه ربه على ذكره وشكره وحسن عبادته وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخيرته من خلقه كان نموذجًا للمسارعة في كل قربة، وقال وقدماه تتفطر من القيام: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر - اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين. أيها المسلمون .. 5 - ويعين على التعبد الرفقة الصالحة فهم خير عون لصاحبهم على الخير إن رأوا معروفًا شجعوا وشاركوا، وإن رأوا منكرًا نهوا واعتزلوا، يشجعون صاحبهم على الطاعات وينهونه عن المحرمات .. إن الصاحب ساحب وقرين بين من يسحب للخير ومن يسحب للشر، وكل قرين بالمقارن يقتدي، ومن مشكاة النبوة فالجليس الصالح كحامل المسك، إما أن تبتاع منه أو يحذيك رائحة حسنة، والجليس السوء كنافخ الكير فإما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا منتنة .. وكم تفوح روائح المسك من رفقاء الخير، وكم يحرق الدين فضلاً عن الثياب رفيق السوء .. ألا فاختاروا رفقاءكم .. وفي الحكمة قل لي من رفيقك أقل لك من أنت .. ذلك على مستوى الشباب والكبار والرجال والنساء .. وإن كان الأثر أعظم مع الشباب وفي مجتمع النساء. ألا وإن الرفقة المتحابين في الله على غير أرحام، بينهم على منابر من نور يغبطهم الأنبياء والشهداء وهم ليسوا كذلك لكنهم اجتمعوا في ذات الله وتحابوا في الله، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر أولئك يكسبون إذا خسر الناس ويأنسون حين يلتقون في الجنة في حين يلعن الأشرار بعضهم بعضًا، قد تنقلب

الصداقة إلى عداوة {الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} ألا يا من كنت غارقًا في المحرمات .. ضعيفًا في أداء الواجبات بسبب رفقة سيئة مسارع بالخلاص منهم، واستعض عنهم رفقة صالحة .. فإن الصحيح تناله عدوى الأجرب. 6 - ومن المعينات على العبادة استشعار قصير الأمل، وصوارف الزمان، والخوف من مهلكات الفتن، فالسليم في هذه الحياة يمرض، والقوي يضعف، والشباب يهرم، وأحداث الزمان المفاجئة قد تأخذ الإنسان على حين غفلة، والإنسان معرض للفتن صباح مساء، والعبادة في أوقات الفتن كهجره إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، والحث على الطاعة مستديم ولكن المبادرة بالأعمال الصالحة في أزمان الفتن، وصية الذي لا ينطق عن الهوى «بادروا بالأعمال فتنًا لقطع الليل المظلم» تذكروا هادم اللذات (الموت) يحفزكم على الطاعة والاستعداد للرحيل، زوروا المقابر بأجسادكم وزوروا الآخرة بقلوبكم، وتصوروا هول الموقف بعقولكم، وتفكروا فيمن رحل قديمًا أو حديثًا من أقاربكم أو أصدقائكم، ثم اعلموا أن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدون. 7 - عباد الله .. والدعاء لله والتضرع بين يديه معين على العبادة، والدعاء نفسه عبادة لله، كيف لا والله يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} لقد عمد الصالحون وفي مقدمتهم الأنبياء إلى الدعاء وقالوا: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}

وقالوا: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} وأوحي إليهم مما قالوا: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعني على ذكرك وعلى شكرك وعلى حسن عبادتك»، «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على طاعتك» ألا فألح على ربك يا عبد الله بحسن العبادة والمداومة عليها وقبولها .. فمهما اجتهدت بلا توفيق من الله وتسديد وقبول فجهدك ضعيف، والقبول هو الأساس وهو علامة التقوى {إنما يتقبل الله من المتقين}. 8 - وبالجملة فصحة الإيمان والخوف من الجليل والزهد في الدنيا، والشوق للآخرة .. كل أولئك تغذو السير، وتعين على العبادة، وتقلل الطمع في الدنيا وتضعف الانشغال بها .. أجل إن التفرغ للعبادة لا ينقص من الرزق، وأن الشره في طلب الدنيا لا يمنع الفقر - ذلك واقع مشهود، أما الحديث القدسي فقد جاء فيه: «ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإن لا تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسد فقرك» (¬1). 9 - أيها المسلم الحريص على وقته والراغب في كثرة ثواب ربه، تنبه لفضائل الأعمال وفضائل الزمان، والمكان فليكن لك منها نصيب، وتحين حضور القلب فانكسر فيه بين يدي الله، وأعط نفسك حظها من الجد في طاعة تميل إليها، وجاهدها فيما تكره حتى تستمرئها - وإياك واليأس والقنوط والإحباط فتلك قواتل تمنع السير إلى الله، واعلم أنك تقبل على رب عظيم يفرح بالتوبة ويضاعف الحسنة، وهو الرحيم اللطيف الخبير. ¬

(¬1) رواه الترمذي وحسنه (إذا صح الإيمان/ السلومي/ 30).

وإذا ضعفت في زمان فعوض عنه في زمان آخر، وإذا فاتك الخير في ساعة فلا يفتك في ساعة أخرى وإذا مسك الشيطان في حين ضعف فتذكر واستعذ بالله منه ولا تستسلم لإغرائه وإغوائه ذلك ذكرى للذاكرين، ومن عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها .. إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

تميم الداري وخبر الدجال والمبشرات

تميم الداري وخبر الدجال والمبشرات (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. أبو رقية تميم بن أوس الداري .. ماذا نعرف عنه، وما صلته بأحاديث الفتن والدجال؟ وما المبشرات التي حفظها تميم عن الرسول؟ وأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان نصرانيًا فأسلم، ووفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع في المدينة هو وأخوه (نعيم) فأسلما وأقطعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من أرض الشام، وتحديدًا من أرض فلسطين .. وهي بلدهما، فقد ورد أن تميمًا لما أسلم قال يا رسول الله: إن الله مظهرك على الأرض كلها فهب لي قريتي من (بيت لحم) قال: هي لك، وكتب له بها (¬2). وفي رواية ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع تميمًا وأخاه (نعيمًا) حِبرى، وبيت عينون بالشام، وليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم قطيعة بالشام وغيرها (¬3). صحب تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزا معه، ولم يزل بالمدينة حتى تحول إلى الشام بعد قتل عثمان رضي الله عنه (¬4). كان تميم عابدًا تلاء لكتاب الله، قال أبو نعيم: كان راهب عصره وعابد أهل فلسطين (الإصابة: 2/ 305)، وكان رابع أربعة ممن جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن ابن سيرين بسند رجاله ثقات قال: جمع القرآن على عهد ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 14/ 11/ 1426 هـ. (¬2) (سير أعلام النبلاء 2/ 443). (¬3) (الطبقات 7/ 408). (¬4) (الطبقات 7/ 409).

رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي، وعثمان، وزيد، وتميم الداري (¬1) وبالإسناد الصحيح أيضًا أن تميمًا كان يختم القرآن في سبعٍ (¬2). بل روي أنه يختم القرآن في ركعة (¬3). وصح أنه قام ليلة حتى أصبح أو كاد يقرأ آية ويرددها ويبكي {أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21] (¬4). كان الناس يسألون تميمًا عن عبادته .. ولاسيما عن حزبه من القرآن وقيامه في الليل، فيرشدهم إلى الاعتدال والمداومة والاستقامة على قدر الطاقة .. ويحذر من الحماس والانقطاع والانبتات .. ودونكم هذه المحاورة بينه وبين رجل آتاه فقال: كم جزؤك، قال له تميم: لعلك من الذين يقرأ أحدهم القرآن، ثم يصبح فيقول: قد قرأت القرآن في هذه الليلة، فوالذي نفسي بيده لأن أصلي ثلاث ركعات نافلة أحب إلي من أن أقرأ القرآن في ليلة، ثم أصبح فأخبر به، قال الرجل (السائل): فلما أغضبني قلت: والله إنكم معاشر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بقي منكم لجدير أن تسكتوا، فلا تعلموا وأن تعنفوا من سألكم، فلما رآني قد غضبت، لان، وقال: ألا أحدثك يا ابن أخي؟ أرأيت إن كنت أنا مؤمنًا قويًا وأنت مؤمن ضعيف، فتحمل قوتي على ضعفك فلا تستطيع فتنبت، أو أرأيت إن كنت أنت مؤمنًا قويًا، وأنا مؤمن ضعيف حين أحمل قوتك على ضعفي فلا أستطيع فأنبت ولكن خذ من نفسك لدينك ومن دينك لنفسك حتى يستقيم لك الأمر على عبادة تطيقها (¬5). تميم الداري رضي الله عنه معدود في علماء أهل الكتاب حتى قال قتادة: {ومن عنده ¬

(¬1) (الطبقات 2/ 355، السير 2/ 445). (¬2) (السير 2/ 445). (¬3) (السابق 2/ 445). (¬4) (رجاله ثقات كما أخرجه الطبراني، انظر السير 2/ 445). (¬5) (السير 2/ 446).

علم الكتاب} [الرعد: 45] قال: سلمان، وابن سلام، وتميم الداري (¬1). وعلق ابن كثير بقوله: والصحيح أنها اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة (12/ 521). وتميم الداري هو الذي حدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقصة الجساسة والدجال على المنبر - وعد ذلك من مناقبه كما قال ابن حجر (¬2). فما هي قصة الجساسة؟ وما علاقتها بالدجال؟ وكيف حدث بها تميم؟ وكيف حدث بها النبي صلى الله عليه وسلم؟ روى مسلم في صحيحه عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها - وهي من المهاجرات الأول، قالت. فهر قريش وهو من البطن الذي هي منه فانتقلت إليه. فلما انقضت عدتي سمعت نداء المنادي، منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينادي: الصلاة جامعة (¬3). فخرجت إلى المسجد. فصليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، جلس على المنبر وهو يضحك. فقال: «ليلزم كل إنسان مصلاه». ثم قال: «أتدرون لم جمعتكم؟ » قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «إني، والله! ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة. ولكن جمعتكم؛ لأن تميمًا الداري (¬4)، كان رجلاً نصرانيًا، فجاء فبايع وأسلم. وحدثني حديثًا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال. حدثني؛ أنه ركب في سفينة بحرية، مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام. فلعب بهم الموج ¬

(¬1) (ابن جرير 13/ 177). (¬2) (الإصابة 2/ 305). (¬3) (الصلاة جامعة) هو بنصب الصلاة وجامعة. الأول على الإغراء والثاني على الحال. (¬4) (لأن تميمًا الداري) هذا معدود من مناقب تميم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه هذه القصة، وفيه رواية الفاضل عن المفضول، ورواية المتبوع عن تابعه. وفيه رواية خبر الواحد.

شهرًا في البحر. ثم أرفؤا إلى جزيرة (¬1) في البحر حتى مغرب الشمس. فجلسوا في أقرب السفينة (¬2). فدخلوا الجزيرة. فلقيتهم دابة أهلب (¬3) كثير الشعر. لا يدرون ما قبله من دبره. من كثرة الشعر. فقالوا: ويلك! ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة. قالوا: وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم! انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير. فإنه إلى خبركم بالأشواق (¬4). قال: لما سمت لنا رجلاً فرقنا منها (¬5) أن تكون شيطانة. قال فانطلقنا سراعًا. حتى دخلنا الدير. فإذا فيه أعظم إنسان (¬6) رأيناه قط خلقًا. وأشده وثاقًا. مجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه، بالحديد (¬7). قلنا: ويلك! ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري. فأخبروني ما أنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب. ركبنا في سفينة بحرية. فصادفنا البحر حين اغتلم (¬8). فلعب بنا الموج شهرًا. ثم أرفأنا إلى جزيرتك هذه. فجلسنا في أقربها. فدخلنا الجزيرة. فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر. لا يدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر. فقلنا: ويلك! ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة. قلنا: وما ¬

(¬1) (ثم أرفؤا إلى جزيرة) أي التجأوا إليها، قال في اللسان: أرفأت السفينة، إذا أدنيتها إلى الجدة. والجدة وجه الأرض، أي الشط. (¬2) (فجلسوا في اقرب السفينة) الأقرب جمع قارب، على غير قياس، والقياس قوارب. وهي سفينة صغيرة تكون مع الكبيرة كالجنيبة، يتصرف فيها ركاب السفينة لقضاء حوائجهم. وقيل: أقرب السفينة أدانيها، أي ما قارب إلى الأرض منها. (¬3) (أهلب) الأهلب غليظ الشعر، كثيره. (¬4) (فإنه إلى خبركم بالأشواق) أي شديد الأشواق إليه، أي إلى خبركم. (¬5) (فرقنا منها) أي خفنا. (¬6) (أعظم إنسان) أي أكبره جثة. أو أهيب هيئة. (¬7) (بالحديد) الباء متعلق بمجموعة. (وما بين ركبتيه إلى كعبيه) بدل اشتمال من يداه. (¬8) (اغتلم) أي هاج وجاوز حده المعتاد.

الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير. فإنه إلى خبركم بالأشواق. فأقبلنا إليك سراعًا. وفزعنا منها. ولم نأمن أن تكون شيطانة. فقال: أخبروني عن نخل بيسان (¬1). قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها، هل يثمر؟ قلنا له: نعم. قال: أما إنه يوشك أن لا تثمر. قال: أخبروني عن بحيرة الطبرية (¬2). قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء. قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب. قال: أخبروني عن عين زغر (¬3). قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم. هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها. قال: أخبروني عن نبي الأميين ما فعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب. قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم. قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه. قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم. قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه. وإني مخبركم عني. إني أنا المسيح. وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج. فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة. غير مكة وطيبة (¬4). فهما محرمتان علي. كلتاهما. كلما أردت أن أدخل واحدة، أو واحدًا منهما، استقبلني ملك بيده السلف صلتًا (¬5). يصدني عنها. وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعن بمخصرته في المنبر «هذه طيبة. هذه طيبة. هذه طيبة» يعني المدينة «ألا هل كنت حدثتكم ¬

(¬1) (نخل بيسان) هي قرية بالشام. (¬2) (بحيرة الطبرية) هي بحر صغير معروف بالشام. (¬3) (عين زغر) هي بلدة معروفة في الجانب القبلي من الشام. (¬4) (طيبة) هي المدينة. ويقال لها أيضًا: طابة. (¬5) (صلتًا) بفتح الصاد وضمها. أي مسلولاً.

ذلك؟ » فقال الناس: نعم. «فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة. ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن. لا بل من قبل المشرق، ما هو (¬1). من قبل المشرق، ما هو. من قبل المشرق، ما هو» وأومأ بيده إلى المشرق. قالت: فحفظت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) (ما هو) قال القاضي: لفظة ما هو زائدة. صلة للكلام. ليست بنافية. والمراد إثبات أنه في جهة الشرق.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين أحمده تعالى وأشكره وهو أهلٌ للثناء والفضل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. إخوة الإسلام: تذكر كتب الطبقات والسير لتميم الداري رضي الله عنه موقفًا مع عمر رضي الله عنه، قال عنه ابن حجر: روى البغوي في الصحابة لتميم قصة مع عمر فيها كرامة واضحة لتميم، وتعظيم كثير من عمر له (¬1). والقصة ساقها البغوي، والذهبي، وابن حجر، عن معاوية بن حرمل الحنفي، صهر مسيلمة الكذاب، وكان معه في الردة، قال: قدمت المدينة على عمر تائبًا، فقلت: يا أمير المؤمنين تائب من قبل أن تقدر عليه، فقال: من أنت؟ فقلت: معاوية بن حرمل - ختن مسيلمة - قال اذهب فانزل على خير أهل المدينة، قال: فنزلت على تميم الداري، فبينا نحن نتحدث إذ خرجت نار بالحرَّة، فجاء عمر إلى تميم فقال يا تميم اخرج، فقال: ما أنا، ومن أنا - فصغر نفسه - ثم لم يزل به حتى قام معه، وتبعتهما، فانطلقا إلى النار، فجعل تميم يحوشها (النار) بيده حتى دخلت الشعب ودخل تميم خلفها، حتى أدخلها الباب الذي خرجت منه، ثم اقتحم في إثرها، ثم خرج فلم تضره، فجعل عمر يقول: ليس من رأى كمن لم ير، قالها ثلاثًا (¬2). اهـ. وقال: وابن حرمل لا يُعرف، ولكن ابن حجر عرّف به - كما سبق، وساق ¬

(¬1) (الإصابة 2/ 305). (¬2) (الذهبي: السير 2/ 447).

القصة في الإصابة ونسبها للبغوي (10/ 35). توفي تميم رضي الله عنه في بلاد الشام، وقبره ببيت جبرين من بلاد فلسطين (¬1) سنة أربعين للهجرة (¬2) وكان أول من قصَّ، فقد استأذن عمر رضي الله عنه سنين في القصص فلم يأذن له - إذ لم يكن يقص في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر فلما أكثر على عمر قال: ما تقول؟ قال: أقرأ عليهم القرآن، وآمرهم بالخير، وأنهاهم عن الشر، قال عمر: ذاك الربح، ثم قال: عِظ قبل أن أخرج للجمعة، فكان يفعل ذلك، فلما كان عثمان استزاده فزاده يومًا آخر (¬3). حفظ تميم رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث وروى عنه عدد من الصحابة كابن عباس وأنس، والتابعين كعطاء بن يزيد، وشهر بن حوشب وغيرهم (¬4). ومن الأحاديث التي رواها: «الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ولأئمة المسلمين والمؤمنين وعامتهم» (¬5)، وعلق الذهبي على هذا الحديث بقوله اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين. فتأمل هذه الكلمة وهي قوله «الدين النصيحة». فمن لم ينصح لله وللأئمة وللعامة كان ناقص الدين وأنت لو دعيت، يا ناقص الدين لغضبت، فقل لي متى نصحت لهؤلاء؟ كلا والله، بل ليتك تسكت ولا تنطق أو لا تحسن لإمامك الباطل، وتجرئه على الظلم وتغشه فمن أجل ذلك سقطت من عينه ومن أعين المؤمنين، فبالله قل لي: متى يفلح من كان يسره ما يضره؟ ومتى يفلح من لم يراقب مولاه؟ ومتى يفلح من دنا رحيله، وانقرض جيله، ¬

(¬1) (الإصابة 2/ 305). (¬2) (السير 2/ 448). (¬3) (تهذيب ابن عساكر 3/ 360، عن السير 2/ 448). (¬4) (السير 2/ 443). (¬5) رواه مسلم رقم (55) في الإيمان.

وساء فعله وقيله، فما شاء الله كان، وما يرجو صلاح أهل الزمان، لكن لا ندع الدعاء، لعل الله أن يلطف وأن يصلحنا، آمين (¬1). أيها المسلمون وثمة حديث آخر رواه تميم الداري فيه بشرى لعز الإسلام وانتشاره، وسعادة المسلمين وعزهم وذل الكفر وأهله، روى الإمام أحمد وغيره قال تميم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر» وكان تميم الداري يقول: «وقد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرًا الذل والصغار والجزية» (¬2). ¬

(¬1) (سير أعلام النبلاء 11/ 500). (¬2) رواه أحمد في مسنده 4/ 103 بسند صحيح والحاكم في المستدرك 4/ 430، وقال صحيح على شرط البخاري ومسلم ووافقه الذهبي وصححه الألباني في الصحيحة (3). انظر: رياض الدعاة والمصلحين؟ ؟ عقيل وزملاه صـ 28.

تقدير الأكابر بين الغلو والجفاء وعبد الله بن المبارك العالم المجاهد

تقدير الأكابر بين الغلو والجفاء وعبد الله بن المبارك العالم المجاهد (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره .. أيها المسلمون لكل أمة عظماء تعتز بهم وتذكر مفاخرهم، وتتطلع إلى اللحاق بهم، أو التأسي بهديهم وفي مقدمة عظماء الأمة الأنبياء والمرسلون وأتباعهم وحواريهم المؤمنون. وما زال التاريخ - يذكر نماذج من العظماء - وما توقفت عجلة العظمة عند هؤلاء .. فثمة عظماء في عبادتهم .. وعظماء في علمهم، وعظماء في جهادهم، وعظماء في خلقهم ومناقبهم الأخرى (¬1). والسؤال المهم .. ماذا نستفيد نحن من مطالعة سير هؤلاء العظماء؟ وما الموقف المحمود منهم؟ هل نبالغ في تعظيمهم فنغلوا؟ أم نبالغ في هجر سيرهم أو الحط من قدرهم فنجفوا؟ وما الموقف الوسط المحمود؟ وقبل الإجابة لا بد أن نقرر أن لنا - أمة الإسلام - نماذج من القدوات لا يتوفر مثلها أو قريب منها لدى الأمم الأخرى مجتمعة، ومع ذلك تعجب حين ترى من هذه الأمم الكافرة تمجيدًا (لعظمائهم) يصل إلى حد الغلو والدجل والتماثيل ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 21/ 10/ 1425 هـ. (¬2) إنهم القدوات الكبار، كانوا كذلك لأنهم بحور في العلم، أمة في العبادة والدعوة، فرسان بالنهار رهبان بالليل، همم عالية وصبر وتضحية.

المصنوعة، والصور المعظمة فيعظم من لا يستحق التعظيم، وتسطر في الكتب أسماء لا رصيد لها من البر والتقوى، ولا رصيد لها من الخلق إلا الشهرة الزائفة، وقد تكون هذه الشهرة بنيت على الجماجم أو على الظلم المتعدى والإفساد. (ونابليون وهتلر) نماذج لهذه العظمة الزائفة - عند غير المسلمين. أما عظماؤنا فأصل عظمتهم الإيمان بالله وحده، والصدق والإخلاص والعدل والإنصاف، والبر والإحسان ونحوها - من كريم الجلال والأخلاق - سواق تروي شجرة الإيمان المباركة .. ودعوني أقف بكم على واحد من هؤلاء العظماء في تاريخنا .. إنه عالم عابد، تقي ورع، حافظ زاهد، مجاهد شجاع، صادق أمين، محدث وفقيه، وشاعر وأديب شيخ الإسلام وعالم زمانه وأمير الأتقياء في وقته (عبد الله بن المبارك رحمه الله). حدث عنه إسماعيل بن عياش فقال: ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك، ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها في عبد الله بن المبارك (¬1). وكان فضيل وسفيان ومشيخة جلوسًا في المسجد الحرام، فطلع ابن المبارك من الثنية، فقال سفيان: هذا رجل أهل المشرق، فقال فضيل: رجل أهل المشرق والمغرب وما بينهما (¬2). فإذا كانت تلك شهادة مشيخة زمانه (المعتبرين) فلا تسأل عن ثناء غيرهم، بل ورد عن سفيان الثوري وهو من هو (رحمه الله) في العلم والعبادة والفضل ورد عنه تعظيم شأن ابن المبارك حتى تمنى بعض ما عنده وقال: «إني لأشتهي من عمري ¬

(¬1) (سير أعلام النبلاء 8/ 341). (¬2) (تاريخ بغداد 10/ 162 عن السير).

كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك، فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام» (¬1). وقال ابن عيينة: نظرت في أمر الصحابة وأمر ابن المبارك فما رأيت لهم عليه فضلاً إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم وغزوهم معه (المصدرين السابقين) (¬1). وإذا فاقت شهرة ابن المبارك على السنة العلماء، فقد فاقت شهرته على صيت الأمراء والخلفاء -وإن كانوا مشهورين في زمانه- فقد قدم الخليفة هارون الرشيد (الرقة) فأنجفل الناس خلف ابن المبارك، وتقطعت النعال وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب فقالت ما هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان قدم، قالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان (¬3). وفي سبيل نصح ابن المبارك للأمة: قال ابن مهدي .. ما رأيت أنصح للأمة من ابن المبارك (¬4). وفي ميدان الجهاد والغزو والشجاعة كان له سهم وافر حتى قال عبدة بن سليمان المروزي كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله ثم دعا إلى البراز فخرج إليه رجل (ابن المبارك) فطارده ساعة فطعنه فقتله، فازدحم الناس إليه، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته، فإذا هو هو، ¬

(¬1) (تاريخ بغداد 10/ 162، سير أعلام النبلاء 8/ 344). (¬2) ويكفي للشهادة على سعة علم ابن المبارك أن يقول عنه عبد الله بن إدريس: كل حديث لا يعرفه ابن المبارك فنحن منه براء. (السير: 8/ 356). (¬3) (تاريخ بغداد 10/ 156، سير أعلام النبلاء 8/ 340). (¬4) (السير 8/ 343).

فقال وأنت يا أبا عمر فمن يشنع علينا (¬1)؟ وابن المبارك رحمه الله هو صاحب بالرسالة إلى الفضيل بن عياض رحمه الله والتي قال فيها شعرًا ومما قال له: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب جيده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا يتخضب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيب إلى آخر القصيدة التي وصلت إلى الفضيل وهو في الحرم فلما قرأها لم يتمالك نفسه عن البكاء، ثم قال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح (¬2). أيها المسلمون ومع هذه الخلال الكريمة وغيرها لابن المبارك لم ينس نصيبه من الدنيا، وما فهم الزهد قعودًا عن العمل ولا أن يكون كلاً على الآخرين، بل استغنى بعمله، وتجارته عن سؤال غيره، وحفظ عرضه، وتصدق على إخوانه، ولم ينس الفقراء من حوله، وحين قال له الفضيل: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع، كيف ذا؟ قال يا أبا علي، إنما أفعل ذا لأصون وجهي وأكرم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، قال الفضيل: يا ابن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا (¬3). وحق لعلم كابن المبارك أن يثني عليه العلماء والخلفاء وقد قال الخليفة الرشيد حين بلغه موت ابن المبارك: «مات سيد العلماء» (¬4). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 9]. ¬

(¬1) (تاريخ بغداد 10/ 167، سير أعلام النبلاء 8/ 349). (¬2) (السير 8/ 364). (¬3) (تاريخ بغداد 10/ 160). (¬4) (تاريخ بغداد 1/ 163).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية إخوة الإسلام ليس الحديث حصرًا لخلال ابن المبارك أو تعدادًا لمناقبه، فهذا يطول كيف وقد قال أحد الشعراء المعاصرين له. إذا ذكر الأخيار في كل بلدة فهم أنجم فيها وأنت هلالها. وقد اجتمع جماعة - من أهل الفضل في زمانه فقالوا: تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم، والفقه، والأدب والنحو، واللغة والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو والشجاعة، والفروسية والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه (¬1). ومع هذه الخلال كان لابن المبارك عناية بالأصحاب والإخوان يخدمهم في سفرهم، ويتحمل النفقة عنهم، بل ويهديهم، وهنا ويصلح بيوتهم. وهنا قصة طريفة ومعبرة ذكرها الخطيب البغدادي وعنه الذهبي في ترجمة ابن المبارك وقال: كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل (مرو) فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم فيأخذها فيجعلها في صندوق ويقفل عليها، ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد فلا يزال ينفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طرفها، فيقول كذا وكذا، ثم يخرجهم إلى مكة فإذا قضوا حجهم قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن ¬

(¬1) (السير 8/ 351، 352).

تشتري لهم من متاع مكة فيقول كذا وكذا فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو فيجصص بيوتهم وأبوابهم فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسروا دعا بالصندوق ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته عليها اسمه .. وكان ابن المبارك رحمه الله يقول للفضيل: لولاك وأصحابك ما اتجرت، وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم (¬1). إنها أخبار وقصص، ومجالات للعظمة وأنواع من القربات يطول شرحها ويصعب حصرها ولكن العبرة من سياقها التأسي وشحذ الهمم والتأكيد على أن وصول المعالي ليس مستحيلاً، وهذه القدوات البشرية سبيل لتطويع القدرات لمحاكاتها هذا جزء من الموقف من سير العظماء، وموقف أو عبرة أخرى تكمن في التأكيد على أن ديننا منبع لكل خير، قادر على التجدد في كل حين، والأمر الثالث المهم - من دراسة هذه السير - هو أن من عرف أن له ماضيًا عظيمًا ورجالاً عظماء فإنه يرجى له أن يعود إلى المجد والسيادة من جديد (¬2). إنها نماذج تثبت العزة في النفوس، وتضرب المثل الأمثل للأجيال وتدعو إلى إحسان العمل، والعبد على طريق الكرامة والمجد، وتذلل على مكامن العظمة في هذا الدين، وهذه النماذج تطرد اليأس وتنفي الكسل، وتسلي في سلوك الطريق، إنها لا تدعوا للانبهار المؤدي إلى الإحباط والإسقاط لكنه انبهار يدعوا للعمل والاقتداء دون مبالغة وغلوا وتعظيم للبشر بما لا يحله الشرع، أو بما يخرج هؤلاء عن بشريتهم. ¬

(¬1) [تاريخ بغداد 10/ 158، سير أعلام النبلاء 8/ 341، 342]. (¬2) (د. محمد موسى الشريف: القدوات الكبار بين التحطيم والانهيار/ 19).

وفرق بين هذا الموقف المعتدل وموقف المتطرفين بالغلو في هذه الشخصيات دون عمل .. أو الجفاة الذين دأبوا على محاولة تحطيم هذه القدوات الكبار والشغب عليهم وتقليل جهدهم واستمرار النقد لحياتهم ومناهجهم، لا بغرض الإصلاح بل للشهرة حينًا، أو للتعالم حينًا، أو لهز ثقة الناس بهؤلاء الأعلام العظماء أو لحسد داخلي لهؤلاء، أو للنيل من أخلاق الإسلام ومثله عن طريق النيل من هؤلاء الرجال الأكابر .. أو غير ذلك من أغراض (الله يعلمها) ولكن النتيجة المرة، لهذا الجفاء والنقد المستمر لهؤلاء الأعلام اهتزاز ثقة الناس - ولاسيما الناشئة- بهؤلاء العظماء، وبالتالي هز ثقتهم بالإسلام وتعاليمه، والبحث عن قدوات آخرين قد لا يبلغون معشار هؤلاء، والتشكيك في تراث الأمة عبر القرون .. وهنا تنبيه مهم وهم أن هذا المنهج في النقد والإسقاط لعلماء الأمة وعظمائها أو لتراثهم المجيد ديدن للعقلانيين - أو هكذا يسمون- قديمًا وحديثًا، ومن قبل قال الأستاذ محمود شاكر ناقدًا لمحمد عبده على هذا الصنيع: آه لقد مضى على الأمة الإسلامية نحو من ثلاثة عشر قرنًا لم نسمع في خلالها دعوة تحرض طلبة العلم على إسقاط كتب برمتها من حسابهم، ولذلك قلت: إن الذي جرى على لسان الشيخ محمد عبده في حركته مع شيوخ الأزهر طلبًا لإصلاح التعليم في الأزهر - كان أول صدع في تراث الأمة العربية الإسلامية (¬1). أيها المسلمون وسيبقى علماء الأمة ورجالاتها محل التقدير والثناء ولو كره الكافرون أو غص بذلك المنافقون، وهؤلاء الشاغبون بغير حق على هؤلاء سيبطلون كما قال الشعر: كناطح صخرة يومًا ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل .. ¬

(¬1) (القدوات الكبار .. د. شريف/ 64).

وأخيرًا ليعلم أن عظيم اليوم (ابن المبارك) أحد الموالي، وهذا مؤشر إلى أن العظمة في إسلامنا لا ترتبط بالنسب ولا بالحسب ولكنها فضل من الله أساسها التقوى واليقين والصدق والإخلاص والصبر ومجاهدة النفوس {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} {ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه}. اللهم ارحم علماء الأمة ومجاهديها وألحقنا بهم وهيئ لأمتنا من يعيد لها عزها ومجدها.

لحوم العلماء مسمومة، ولجنة رعاية السجناء

لحوم العلماء مسمومة، ولجنة رعاية السجناء (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين رفع أهل العلم درجات {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} وأشهد أن لا إله إلا هو قرن شهادة العلماء بشهادته وملائكته فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سأل ربه العلم ولو كان أشرف منه لسأله {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} وأوحى الله إليه فيما أوحى خشية العلماء {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وأخبر وهو الصادق الذي لا ينطق عن الهوى أن من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهل الله به طريقًا إلى الجنة. ألا فليهنأ العلماء بهذه المنزلة العلية وليخلصوا في طلبه، ويتقوا الله في أداء حق العلم، اللهم صل وسلم .. أيها الناس ثمة ظاهرة تسري في هذه الأيام، وهي قديمة في الزمان، هي من السوء بحيث تستحق لفت النظر والاهتمام، وهي من قلة الأدب بحيث يحتاج الكبار إلى انتصار لهم وتقدير لمكانتهم. إنها ظاهرة التطاول على العلماء، والحط من قدرهم، والنيل من أعراضهم واتهامهم، والتطاول على العلماء الربانيين تطاول على العلم بل تجاسر على هتك أستار الشريعة، فالعلماء هم المبينون عن الله وعن رسوله طرق الحلال وهم المفتون في الحرام، وإليهم المرجع والاحتكام {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 22/ 8/ 1427 هـ.

العلماء الذي نعني هم «فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين اختصوا باستنباط الأحكام، وعُنوا بضبط قواعد الحلال من الحرام» كما قال ابن القيم رحمه الله (¬1). بل هم كما قال الطبري رحمه الله: هم الذين جعل الله عز وجل عماد الناس عليهم في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا (¬2). هؤلاء العلماء لا يخلو زمان منهم، قائمون بأمر الله، يهدون الخلق إلى الله، هم الذين لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس. إنهم سرج تضيء، مصابيح الدجى، نافذون إلى القلوب بإذن الله، يبصرون عن العمى، ويهدون من الضلالة، ويمسكون بحجز الناس عن السقوط في النار، كل ذلك بصدقهم ونصحهم وتوفيق الله لهم، هم أطناب الأرض، وهم المراجع حين الفتن وزلة القدم، وحين تخلوا الأرض منهم أو يهون من شأنهم تسود الفوضى ويفتي الجهلة، ويتصدر السفهاء. هذه النوعية من العلماء يذكرون أحياء وأمواتًا، وتبقى آثارهم وإن غابت شخوصهم كما قال علي رضي الله عنه: العلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في القلوب موجودة (¬3). ويأبى الله إلا أن يذكر العالم الصادق وينتشر خبره في الأنام كما قال شيخ ¬

(¬1) (إعلام الموقعين لابن القيم 1/ 7). (¬2) (جامع البيان 3/ 327، عن قواعد في التعامل مع العلماء، اللويحق 19). (¬3) (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 1/ 68).

الإسلام ابن تيمية «ومن له في الأمة لسان صدق عام بحيث يثنى عليه ويحمد في جماهير أجناس الأمة، فهؤلاء أئمة الهدى ومصابيح الدجى» (¬1). هؤلاء العلماء إنما بلغوا هذه المنزلة بجدهم وجهادهم وصبرهم على تحصيل العلم وصدقهم في أداء تكاليفه. ولا تحسبن العلم شهوة تحصل كهل متطلب، ولا ينبغي أن يتصدر للعلم والفتيا إلا من هو أهل ومؤهل لها، ولقد كان العلماء يتحوطون في ذلك ولا يقدمون على الفتيا أو حلقات العلم إلا بعد المشورة - وهذا الإمام مالك رحمه الله يحدث عن نفسه ويقول: «لا ينبغي لرجل يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من كان أعلم منه، وما أفتيت حتى سألت ربيعة ويحيى بن سعيد فأمراني بذلك، ولو نهياني لانتهيت». ويقول: وما جلست في المسجد للتحديث حتى يشهد لي سبعون شيخًا من أهل العلم أني أهل لذلك (¬2). أيها المسلمون كم يتصدر أناس للفتيا اليوم وهم ليسوا بذاك وليس لرجل أو لرجلين أو لجماعة مسجد أو حتى حي، بل على مستوى العالم، وعبر وسائل الإعلام المختلفة؟ وكم يتربع على زوايا صحفٍ سيارة أو برامج مرئية أو مسموعة .. من يهرف بما يعرف وما لا يعرف ويجد صعوبة أن يقول عن سؤال ما .. لا أدري .. الله أعلم بل يجيب وربما أضل الناس بإجابته، وفتن المسلمين بحديثه .. إن ذلك لا يعني بحال قصر العلم والفتيا على أناس معينين، ولا حجر لناس على رأي عالم بعينه، بل كل من كان أهلاً للعلم بشهادة من يعتد بشهادتهم وكل ¬

(¬1) (الفتاوى 11/ 43). (¬2) (صفة الفتوى والمستفتي (7) عن قواعد في التعامل مع العلماء/ 27).

من كان أمينًا على الفتوى معتبرًا عند أهل الصنعة والعارفين بالحلال والحرام، فهو أهل للفتيا، والعلماء لا يحددون ولا يختارون عن طريق الانتخاب، ولا عن طريق التعيين الوظيفي، فكأي من عالم في تاريخ الأمة تصدر وعلا ذكره وأصبح إمامًا للأمة وهو لم يعرف المناصب، ولم تعرفه المناصب، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: المنصب والولاية لا يجعل من ليس عالمًا مجتهدًا عالمًا مجتهدًا .. إلخ (¬1). عباد الله وثمة داءان في التسرع غير المنضبط يلحقان العالم والمتعلم، أحدهما حين يتسرع العلماء في العلم، والآخر - وربما كان أسوأ - حين يسارع المتعالم في نقد العالم .. أما المسارعة في العلم فقد يكون طريقًا للاختلاف والمنازعة والفرقة، كما قال ابن عباس وفهم حين قدم على عمر رضي الله عنه رجل، فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال (الرجل) يا أمير المؤمنين قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا، فقلت (ابن عباس) والله ما أحب أن يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة، قال: فزبرني عمر ثم قال: مه، فانطلقت إلى منزلي مكتئبًا حزينًا، فقلت: قد كنت نزلت من هذا بمنزلة، ولا أراني إلا قد سقطت من نفسه، فاضطجعت على فراشي حتى عادني نسوة أهلي وما بي وجع، فبينا أنا على ذلك قيل لي: أجب أمير المؤمنين، فخرجت، فإذا هو قائم على الباب ينتظرني، فأخذ بيدي، ثم خلا بي، فقال: ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفًا قلت يا أمير المؤمنين إن كنت أسأت فإني أستغفر الله وأتوب إليه، وأنزل حيث أحببت قال: لتخبرني، قلت: متى ما يسارعوا هذه المسارعة يَحْتَقُّوا، ومتى ما يَحْتَقُّوا يختصموا، ومتى ¬

(¬1) (كلامه في الفتاوى 27/ 296، 297).

ما يختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا، قال (عمر) لله أبوك، لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها (¬1). إنها مسارعة في القراءة دون فهم أوفقه، لا تكاد تجاوز الحناجر، ولذا ظل الخوارج حين كانوا يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من زمان يكثر قراؤه ويقل فقهاؤه فقال: «يأتي على الناس زمان يكثر فيه القراء ويقل فيه الفقهاء، ويقبض العلم ويكثر الهرج» (¬2). أما الداء الآخر فهو التعجل في نقد العالم الفلاني، والمسارعة في التطاول على العالم الآخر، والحط من قدر ثالث، واتهام رابع بالتغفل وهكذا .. إنها أحن وشحناء وشنشنة ورغاء أقزام تتطاول على عمالقة، وجهلة تحاور عالمين، ومغمورون يتهمون المشاهير .. إنها تطاولات مذمومة، ومحاورات آثمة .. ليس حظ القارئ منها إلا البلبلة والتشويش وليس نصيب المجتمع فيها إلا الدغل والوحشة والفرقة والخلاف والشحناء والبغضاء أما إذا انضاف إلى ذلك محاولة التسلل إلى ثوابت الدين، أو التنقض من معلوم من الدين بالضرورة، أو اللمز على قواعد الشريعة فذاك الداء العضال، وتلك الفتنة التي لا بد من التصدي لها وإيقاف أصحابها والمتسللين من خلالها. لماذا يكتب أهل الأهواء، وكيف يحصل الاضطراب عندهم، ومن يتقصدون؟ هذا سؤال يجيب عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معريًا لهذه الفئة ويقول: أكثر أصحاب المقالات صار لهم في ذلك هوى، أن ينتصر جاههم أو ¬

(¬1) (رواه عبد الرزاق في مصنفه 11/ 217 ح 20368، والفسوي في تاريخه 1/ 516، والذهبي في السير 3/ 349 وقال المحقق رجاله ثقات). (¬2) (رواه الطبراني في الأوسط، والحاكم في المستدرك 4/ 457، وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي).

رياستهم وما نسب إليهم لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدًا لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم وإن كان جاهلاً سيء القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله (¬1). لقد غاب ورع اللسان عند البعض، وغاب معه ورع الأيدي فيما تكتب، ومن عجب كما يقول ابن القيم رحمه الله أن يهون على المرء التحفظ والتحرز من أكل الحرام، والزنا والسرقة وشرب الخمر .. ونحوها، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه (أو ما يسطره بنانه) (¬2). وغابت كذلك شروط العلماء فيمن هو أهل للحديث عن الرجال (مادحًا أو قادحًا) حيث قال الذهبي رحمه الله: الكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة تام الورع (¬3). وأين تمام المعرفة .. بل وأين ميزان الورع في كثير مما يكتب وينشر والله المستعان؟ أيها المسلمون وحين تكون الوقيعة في العلماء فتلك الكارثة والمصاب الجلل، فلحومهم مسمومة وعادة الله في هتك متنقصيهم معلومة، ومن وقع فيهم بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب .. هكذا قرر العالمون (¬4). ¬

(¬1) (منهاج السنة 5/ 255). (¬2) (الجواب الكافي/ 54). (¬3) (ميزان الاعتدال 3/ 46). (¬4) (الرد الوافر لابن ناصر الدين 197، وسير أعلام النبلاء 10/ 94).

وإذا ابتدأ القدح في العالم الحامل لعلم الشريعة تطور الأمر إلى القدح فيما يحمله من علم شرعي، وما يمثله من سمت وهيئة .. وهنا يفتح الباب على مصرعيه وربما كسر حتى لا يبقى شيء فوق النقد - كما يقول السفهاء - حتى ولو كانت محكمات الدين وثوابت العقيدة، وهنا تحل الفتن، ويختلط الحق بالباطل، ويفتي الجهلة، وتتحدث الرويبضة في أمر العامة، فتهتز معالم الدين، وهذه غاية ما يريده المبطلون، لا حقق الله لهم بغيتهم، ألا وإن من حق العالم علينا أن ندافع عن عرضه وأن نكشف زيف من اتهمه انتصارًا للحق.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية إخوة الإيمان فئة من المجتمع يحسن التذكير بها بين الفينة والأخرى، ولجنة وطنية شكت لرعاية هذه الفئة من حقها أن نعرف بها ونذكر شيئًا من مناشطها. هذه الفئة هم المساجين .. وهذه اللجنة هي اللجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم وأسرهم وقد سبق لي حديث عن هذه الفئة وعن هذه اللجنة (¬1)، وهي الآن تمر بعامها وأسبوعها الثالث .. ومن برامج اللجنة: تقديم المساعدات العينية والمالية لأسر السجناء إطلاق سراح عدد من الغارمين، وتسديد أجور مساكن أسر السجناء، وتوظيف أبناء السجناء والاهتمام بهم، وتوزيع أعداد كبيرة من المواد الغذائية لأسر السجناء، والفرش الشتوية كما تقوم اللجنة - وحسب ما ذكر من برامجها - بدعم البرامج التأهيلية والترفيهية داخل السجن بالتعاون مع إدارة السجون، وتنسق اللجنة مع الجمعيات والمؤسسات الخيرية، كما تقيم ندوات علمية عن دور المجتمع تجاه السجناء، وتقيم ورش عمل بالتعاون مع الإدارة العامة للتربية والتعليم .. إلى غير ذلك مما جاء في أهداف وبرامج .. أما نشاطها هذا العام فهو مركز على (أطفال السجناء لا ذنب لهم) ولئن كان الأطفال والشباب محل رعاية ويستحقون الاهتمام في المجتمع بشكل عام، فإن للأطفال الذين غاب عنهم عائلوهم وفقدوا آباءهم لهذه النوعية من الأطفال اعتبارًا خاص .. وينبغي ألا يغيب عن اهتمام المؤسسات الاجتماعية والتربوية - وأن يكون هؤلاء الأطفال محل رعاية ونفقة أصحاب الأموال ومحل عناية ¬

(¬1) بعنوان: رعاية السجين وأسرته.

ومتابعة التربويين والجيران .. إن جنوح الطفل - لا قدر الله - لا تعود آثاره السيئة على أسرته فحسب، بل ويعم المجتمع شره وبلواه، ولذا ينبغي أن نلتفت لهذه النوعية من الأطفال .. وعلى إدارات السجون وإدارات التعليم أن تعنى بأطفال المساجين أكثر من غيرهم .. فهؤلاء لا ذنب لهم، وقدرهم أن سجن آباؤهم .. فلنكن معهم ولنساهم من اللجنة وإدارة السجون في الاهتمام بهم. عباد الله على أن المسجونين - بشكل عام - لهم حق علينا في متابعة أمورهم، وتحسس احتياجاتهم واحتياج أسرهم، وقد يكونون محتاجين إلى شفاعة حسنة تنقلهم من وضع إلى وضع آخر، وقد يكونون محتاجين إلى زيارة تسري عنهم وتنفس شيئًا من كربهم، وربما كانت هذه الزيارة سببًا في الخير والعلاج لهم .. إن ظروف الحياة قد تشغلنا عنهم .. وقد يمر الوقت بنا سريعًا دون أن نحس بطول الوقت عندهم، فمن هو داخل أسوار السجن يحس بطول الوقت إلا من وفقه الله فاستثمر وقته في القراءة النافعة وأنواع العبادة وأقل واجب للمساجين علينا أن ندعو لهم بالفرج العاجل وصلاح الحال، والثبات على الحق عجل الله فرج كل مهموم من المسلمين، وجعل ما أصابهم رفعة وتكفيرًا لذنوبهم، وردهم إلى أهلهم وذويهم سالمين غانمين وحفظهم في أنفسهم وأهليهم وذراريهم ..

ملحمة الإيمان وانتصار غزة

ملحمة الإيمان وانتصار غزة (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا .. أيها الإخوة المسلمون ولا نزال في شهر الله المحرم، وهو شهر الإيمان والصدق واليقين والتوكل، إنه شهر الملحمة والنصر، والعسر واليسر، والنجاة والهلاك محرم شهر الصبر والشكر، والمدافعة والبلاء، لقد ابتلي المؤمنون من قوم موسى عليه الصلاة والسلام حين اتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدوًا واضطرهم المسير ليلاً إلى الانتهاء إلى ساحل البحر، وأحسوا أنهم مدركون وهالكون فالعدو الظالم من خلفهم، والبحر الهائج أمامهم .. وأين المفر؟ إلا إلى الله الغالب المقتدر .. وكانت اللحظة حاسمة، وكان يقين المؤمن المرسل موسى عليه الصلاة والسلام، وهو يتصور عظمة الله وقدرته وهدايته ونصره للمؤمنين ويقول بكل ثقة وتوكل {كلا إن معي ربي سيهدين} وانفلق البحر فكان {كل فلق كالطود العظيم، وأزلفنا ثم الآخرين، وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لأية}. وكما استحالت النار من قبل - بردًا وسلامًا على إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأمر الله، فقد استحال البحر العميق المضطرب يبسًا في زمن موسى حتى لا يخاف هو والمؤمنون معه دركًا ولا يخشى. جلت قدرة ربنا إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون، ومن ينصره فلا غالب له، وكذلك يتعلق المؤمنون بمعاقد الإيمان في كل حين، ويزيد تعلقهم في أزمان ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 26/ 1/ 1430 هـ[أول خطبة في جامع قرطبة]ـ

الكروب والشدائد والإرجاف والتهديد. إنها رحمة الله لا تعز على طالب يتقي ويصبر ويؤمن به ويتوكل عليه، وكما وجدها إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام، فقد وجدها يونس - عليه السلام - وهو في قاع البحر في ظلمات ثلاث، ووجدها يوسف عليه السلام وهو في قاع الجب وغياهب السجن .. وجدها فتية آمنوا بربهم واستحال كهفهم رحمة نشرها الله وهيأ لهم من أمرهم مرفقًا .. إنها أبواب السماء تفتح لأهل الإيمان حين تغلق أبواب الأرض، ومخارج للأزمات يهيؤها الله لأصحاب التقوى من حيث لم يحتسبوا، ورحمة الخالق جل وعز تعوض ما فقد من رحمة الخلق، ومهما كاد البشر ومكر الماكرون فالله من ورائهم محيط، وهو خير الماكرين. إخوة الإسلام .. وقافلة الإيمان تسير ما بقي على الأرض مؤمن، وما حطت قوافلها أو توقف مسيرها - لاسيما في تاريخ خير أمة أخرجت للناس، فكانت لها المغازي والسرايا، وقوافل الفتح الإسلامي .. حتى إذا أصاب الأمة ما أصابها من الوهن والفرقة واستيأست من النصر على أعدائها هيأ لها من الأسباب ما تعيد به الماضي المجيد، ولا يزال الله يبعث لدينه ناصرًا .. ومن أرض الإسراء ومن أكناف بيت المقدس كانت ملحمة غزو العزة، بعد سنوات عجاف من الحصار والأذى - وأعاد التاريخ نفسه شرذمة قليلة يتهمون ثم ينتصرون، وقتل للأطفال والنساء للضغط والإهانة، والمحاصرة ثم ينقلب السحر على الساحر ويزايد الفراعنة المعاصرون بهدم البيوت والمساجد، وضرب المدارس والمشافي، وإحراق الحرث والنسل .. يا لها من كوارث تشيب لها النواصي ويسجلها التاريخ عارًا وشنارًا على إخوان القردة والخنازير .. ويسجلها عزًا وصبرًا وثباتًا ومكرمة لأهل غزة الصامدين.

شاء الله أن يتجرد أهل غزة وحدهم في المعركة .. وأن يتحملوا وحدهم آثار الحصار من البر والبحر والسماء وعلى صدور أطفالهم وشيوخهم ونسائهم تجرب الأسلحة المسموحة والممنوعة وتشتعل الحرائق هنا وهناك أشلاء ودماء، وآهات وعبرات، ظلام دامس لا يضيؤه إلا نيران القنابل الفسفورية المضيئة ومصير مجهول لأكثر من مليون ونصف مليون يقولون ربنا الله شتاء قارس، وقلة في الأطعمة وندرة في المياة، وبين الأنقاض تسمع الأنين وعلى مرأى العالم كله نسجل الصورة ما تعجز عنه الكلمة ثم تتلاحق اللعنات على اليهود من المسلمين وغيرهم ومن عجب أن تسمع في ظروف المحنة أصوات التكبير للمقاتلين .. وترى وتسمع أصوات الشهادة للمحتضرين .. يا الله أتعود بنا الذاكرة لبدر والأحزاب .. واليرموك وحطين؟ وتذكرنا الفئة القليلة المؤمنة الصابرة المنازلة للعدو بقوله تعالى: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}، وبقوله {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}. شاء الله وقدر أن تبقى هذه الفئة المؤمنة المستضعفة وحدها في الميدان، ليعلم الناس أن النصر من عند الله، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين، وأن الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورآء الناس ويصدون عن سبيل الله، الله من ورائهم وبما يعملون محيط، ووقع الوعد الحق {فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}. ومع فارق العدد والعدة ومع الحصار وقلة المعين لاحت بوارق النصر للمجاهدين في غزة. وكان النصر بهيجًا لأن القضية الكبرى (فلسطين) تهم المسلمين، ولأن المنهزم أشد عداوة للمؤمنين، ولهذا فلم تكن الفرحة لتضيء صدور وسماء فلسطين فحسب، بل كان بها متسع لإضاءة صدر وأرض كل مسلم

تعنيه فلسطين، ويهمه أمر المسلمين {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء} وسار الأمل في الأمة بعد طول يأس وإحباط، وثمة منح ربانية من أكوام المحن والرزايا {وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا}، نعم ثمة انتصار في زمن الهزائم، وعزة في مواسم الذل، وصدق في أسواق الكذب، وتقدم في زمن التراجع، خشوع طالما غاب فعاد حيث بكت العيون، وارتعشت الجوارح لهول المصائب في فلسطين، واستغاث المسلمون ربهم بالدعاء فاستجاب لهم. إخوة الإسلام وتجسد على أرض الواقع جسد الأمة الواحدة، فلئن اشتكت أعضاء في غزة فقد تحركت وتداعت لها أجساد في طول الأرض وعرضها ولئن ماتت أنفس- نحسبها في عداد الشهداء - فقد أحيا الله بها ملايين الأنفس من المسلمين وربما من غير المسلمين - ولئن قتل في هذه المعركة الظالمة عدد من الأطفال الفلسطينيين فقد ولد أضعافهم في فلسطين، ووعى أطفال آخرون بقضية لم تكن في ذاكرة اهتمامهم من قبل .. إنها المقاومة تحاصر في فلسطين لتدخل كل بيت .. والبغض لليهود يتجاوز الأرض المباركة ليشمل الكرة الأرضية كلها {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله}. يا أيها المسلم من حقك أن تفرح لكن ليكن فرحك تصحيحًا للإيمان، وتوبة من الذنوب، وشكرًا للخالق، ومجاهدة للنفس، ودعوة للإسلام هنا تتسع دائرة النصر .. وتتضاعف أعداد المنتصرين، ويعود للمسلمين مجدهم الأثيل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ}. نفعنا الله وإياكم بهدي كتابه ..

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله القوي العزيز وأشهد أن لا إله إلا الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ومن يهن الله فما له من مكرم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل من صبر وجاهد حتى أتاه اليقين، اللهم صل وسلم عليه وارض اللهم عن أصحابه والتابعين من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها الإخوة المؤمنون حرب الأحزاب على غزة حرب ظالمة فاجرة ظهرت فيها أحقاد اليهود، وصليبية النصارى وإرجاف المنافقين، وأتي أهل غزة من فوقهم ومن أسفل منهم، زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وتجرد الإيمان ونطق المؤمنون {هذا ما وعد الله ورسوله}، أعادت غزة لنا صوت الكفاح، ورفرفت راية الجهاد، وما كان ربك نسيًا دافع الله عنهم {إن الله يدافع عن الذين آمنوا}، وأصاب عدوهم بالرعب {وقذف في قلوبهم الرعب} كيف لا؟ والقادة الميدانيون من اليهود يقولون إن معركتنا مع أهل غزة معركة أشباح جنود لا ندري من أين يخرجون، لقد أخافونا، ودب الذعر في جنودنا، يا الله لقد بطل عمل القاذفات على أصواب التكبير، وربما انضاف إلى المعركة جنودًا آخرون وما يعلم جنود ربك إلا هو، وربنا يدافع عن الذين آمنوا ولا يحب كل خوان كفور. أجل لقد خلفت الحرب الظالمة أزيد من ألف وثلاثمائة شهيد، وأكثر من خمسة آلاف جريح .. إنها أرقام مهولة بكل المقاييس كيف لا وقد كتب على بني إسرائيل أن من قتل نفسًا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا، وكتب عليهم أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص، فمن يا ترى يقاص يهود؟ ومن سيطالب بمحاكمة مجرمي الحرب في دولة يهود؟ ومع عظيم الخسائر وبكاء الشجر والحجر - فضلاً عن

الإنسان - فالمآذن تبكي وهي جامدة، والمحاريب تشكو وهي عيدان .. فقد كانت ثمنًا للنصر ومهرًا للعزة والمقاومة والاستشهاد، ورفع الظلم ودفع الأذى .. وهل يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم. لقد كانت معركة غزة بكل فصولها ومآسيها عنوانًا للعزة والكرامة، وإيذانًا بمرحلة جديدة لا على مستوى المقاومة بل وعلى مستوى الأمة لقد هزمت القوة الرابعة في العالم، وسقط الوهم، وعلم الناس كل الناس أن الإسلام إذا دخل معركة لا يهزم، وردد الناس {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} علم المنهزمون أن الذين كانوا بالأمس يستضعفون ويحاصرون يمكنون اليوم، أما المؤمنون فهم مستيقنون بقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}. إخوة الإسلام هل كانت هزيمة اليهود في غزة مجرد عواطف رددها المسلمون - كما يزعم المرجفون الذين ماتوا بغيظهم؟ لندع الحقائق تتحدث، ولنسمع إلى اعتراف الأعداء بهزيمتهم، ففي صحيفة (هارتس) اليهودية الصادرة في الأرض المحتلة يقول أحد كتابها السياسيين اليهود: هناك مظاهر كثيرة تدل على فشل الحرب التي شنها جيشنا على غزة، ومن أبرزها: استمرار إطلاق الصواريخ وعدم قدرة عملية صب الرصاص على إخماد شيء منها، ومن تلك المظاهر: استمرار تهديد المقاومة الفلسطينية في غزة بتوسيع رقعة الزيت بقذف الصواريخ إلى أكثر من خمسين كيلو مترًا، ومن أهم مظاهر هزيمتنا في غزة عدد من قتل من الأطفال والنساء والمدنيين، وما هدم من البيوت. والمساجد والمستشفيات، مما جعل الشعوب في العالم كله تتظاهر ضد دولتنا، ومما جعل عددًا من

الصحفيين في نادي الصحفيين في واشنطن يقولون لوزيرة خارجيتنا (ليفني) أنت إرهابية ودولتكم إرهابية، وجيشكم إرهابي .. ؟ ! وتعترف صحيفة (يديعوت أحرنوت) اليهودية أن هذه الحرب مكنت للمقاومة الإسلامية التي تقودها (حماس) شعبيًا وعسكريًا وسياسيًا، وأحرجت العرب الذين يميلون إلى المفاوضات مع دولة إسرائيل وأحرقت أوراق الذين يشتركون مع إسرائيل في الرؤية السياسية من رجال السلطة الفلسطينية وتلفت الصحيفة نفسها النظر إلى الخسائر المادية التي لحقت إسرائيل فبسبب صواريخ المقاومة التي أطلقت على قواعد إسرائيلية عسكرية، هناك ما يقرب من ألف وسبعمائة مصنع يعمل فيها أكثر من تسعة وثلاثين ألف عامل إسرائيلي قد توقفت تمامًا طيلة أيام الحرب، وهذا - كما تقول الصحيفة - شكل ضغطًا داخليًا على دولة إسرائيل لم يكن يعلم عنه كثير من الناس .. ولكم أن تعجبوا - إخوة الإسلام- كيف استخدمت الجوالات في إسرائيل للهزيمة النفسية على اليهود .. بعكس استخدامها عند المسلمين، وهذا الجندي الاحتياطي اليهودي الذي رفض الأمر بالمشاركة في الحرب على غزة واسمه (شيمري تشميرت) يقول: لقد نجحت في إرسال أكثر من عشرين ألف رسالة إلى الناس في إسرائيل لبيان موقفي من حرب ظالمة تقتل الأطفال والأبرياء .. أليست هذه من رسائل الهزيمة النفسية؟ وأخيرًا يعترف مستشار رئيس الوزراء السابق (شارون) ويقول: أعترف بعدم قدرة جيشنا على هزيمة (حماس) إطلاقًا، ولقد أعطت حربنا على غزة (حماس) وجميع فصائل المقاومة في غزة شرعية عالمية لم يكونوا يحلمون بها (¬1). ¬

(¬1) (جريدة الجزيرة/ العشماوي 24/ 1430).

هذه بعض من اعترافات القوم وما خفي أعظم، وستكشف الأيام القادمة مزيدًا من الاعترافات لاسيما في حملة الانتخابات .. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .. لكن تبقى أسئلة مهمة من مثل كيف تحقق النصر؟ وما هي مكتسباتنا في النصر؟ وكيف نحافظ على هذه المكتسبات ومن دعم ومن أرجف؟ تلك وأمثالها أسئلة مهمة .. أسأل الله الإعانة على الإجابة عليها في خطب لاحقة بمشيئة الله. اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين. اللهم انج المسلمين المستضعفين في غزة واجعل لهم من لدنك وليًا ونصيرًا. اللهم اشف مرضاهم وتقبل موتاهم، واخلف عليهم أهليهم وأموالهم، اللهم حقق لهم من النصر فوق ما يأملون، وجنبهم من الشرور والفتن فوق ما يحذرون - اللهم اجمع كلمتهم على الحق وأبق رايتهم على الحق، ولا تجعل للكافرين والمنافقين عليهم سبيلاً. اللهم منزل الكتاب مجري السحاب هازم الأحزاب .. عليك باليهود المفسدين .. اللهم شتت شملهم واقذف الرعب في قلوبهم، اللهم لا تقم لهم راية ولا تحقق لهم غاية، واجعلهم في ذل ومهانة .. وللمسلمين غنيمة باردة. اللهم أعظم المثوبة والأجر لمن بنى هذا المسجد، وابن له بيتًا في الجنة، وأصلح له أهله وولده، واغفر له ولوالديه، واخلف عليه بخير، واجعله مسارعًا للخير، واختم لنا وله بالحسنى. اللهم سدد القول فيه ووفق من تحدث فيه، وانفع من استمع به، واجعله يا ربنا نبراسًا للعلم مناديًا للإيمان، سبيلاً للدعوة إلى دينك ..

من مكاسبنا في حصار غزة

من مكاسبنا في حصار غزة (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. أيها المسلمون الجمعة الماضية كان موعدًا مشهودًا للمسلمين في غزة لتكون صلاتهم الجمعة في العراء وعلى أنقاض المساجد المهدمة بأيدي الصهاينة فبماذا يوحي كان المشهد كافيًا للتعبير عن مكانة الصلاة في نفوس المسلمين وإن هدمت مساجدهم، وكان المنظر شاهدًا على الإيمان في أرض الإسراء والمعراج، والصلاة إيمان {وما كان الله ليضيع إيمانكم}، وكان عنوانًا على الصمود والتحدي والعزة بالإسلام، والمحافظة على الشعائر - مهما تدنت الأحوال - كان المشهد فاصلًا وفيصلا بين من يعمرون المساجد بالإيمان والطاعة، والله يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}، وبين أهل الظلم والبغي والعدوان الذين لم يقصر سلاحهم النكد عن بيوت الله وأماكن العبادة، وتذكر الناس معنًى من معاني الظلم والإفساد في قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا .. }. ومشهد عشرات المساجد المهدمة هناك بات عنوانًا لحضارة لا تكتفي بقتل الإنسان ولو كان طفلًا أو امرأة أو شيخًا كبيرًا .. بل وتدك المساجد لتحيلها إلى أطلال تشهد على مستوى حجم الجريمة، ولا توقف المسلم عن عبادة ربه (وقد ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 4/ 2/ 1430 هـ.

جعلت له الأرض مسجدًا وطهورًا)، ألا فاعتبروا يا أولي الأبصار. ويوم السبت كان موعدًا آخر لأطفال غزة وهم يدرسون على أنقاض مدارسهم، يتجمعون في العراء ويكتبون على التراب .. وهم يسجلون تحديًا آخر لليهود .. بل ويحفرون في قلوبهم الكره والمقاومة .. فقوم هدموا مساجدهم ومدارسهم لا يستحقون إلا الجهاد والعدوان. أما بعد .. فرق اليهود للتهدئة - فما ندري كيف حال إخواننا في هذه الجمعة، واليهود قوم بهت، وجبن لم يفوا بالعهود في زمن النبوة فأنى لهم أن يفوا بها في أزمان غيرهم. آه كم يشهد التاريخ - في الماضي والحاضر - على وحشية الإنسان، وهمجية الحضارات التي لا تتصل بالسماء، ومن همجية التتر - في قرون خلت - إلى همجية المفسدين الجدد (قتلة الأنبياء) أي حضارة تلك التي تعتدي على أماكن العبادة ودور العلم، ومشافي المرضى لتحيلها إلى أشباح؟ وأي قوم جبارين أولئك الذين يتجاوزون المآذن، ويصلون على الأنقاض، ويتعلمون في العراء ويسكنون المخيمات .. فأي الفريقين أحق بالأمن؟ وأي الحضارتين أولى بالبقاء؟ إنها جرائم بحق العلم والإيمان بل وبحق الإنسان، فإحدى وعشرون ألف منزل هدمت جريمة لا تغتفر .. لكنها جزء من تاريخ اليهود، ومعبرة عن حضارتهم .. ومن خلف الستار مجرمون، آخرون تعرف منهم وتنكر - ولكن الله يعلمهم وسيجازيهم ويمكر بهم. إخوة الإسلام - ويمكن أن تحول الخسائر إلى مكاسب، كما تتحول المحن - بإذن الله - إلى منح، والآلام إلى آمال .. لكن بصدق العزائم والثبات على

المبدأ الحق والصبر على البلاء، واليقين والتوكل على الله، والاستغاثة والدعاء، والمقاومة والجهاد، والمجاهدة، وحسن الظن بالله - واليقين بالنصر، واستنزاله من الله وحده، وبالتعبئة وأخذ العدة، واليقظة والمرابطة .. وهذه وأمثالها من قيم لا تتوفر إلا لأهل الإسلام، نحسب أن إخواننا في غزة حققوا ما حققوا من النصر بفضل من الله واستشعار هذه المعاني والقيم ولا يجرمنكم كثرة العدد والعدة {كَمْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ} [البقرة: 249]. ورب شخص عدل بألف شخص «لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل» (¬1). وبعد التخفيف والعلم بالضعف {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66]. ولكم أن تقارنوا بين فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، فالأولى تسعف المرضى وتحمل الموتى والسماء تمطر بالقاذفات، وتصلي لله على أي حال استطاعت الصلاة، أما الأخرى فتصاب بالرعب - وإن لم تصبها الصواريخ المقاومة وتمتلئ المستشفيات والمصحات النفسية بالمرعوبين وأصحاب الصدمات النفسية .. وتخلى المستوطنات تحسبًا لضربات لم تقع، وأنى لهؤلاء أن يعبدوا الله في أوقات الشدائد، وقد كفروا به في أزمنة الرخاء والمسرات؟ وأنى لهم أن يكفها عن قتل الناس وقد تجرءوا على قتل خير الناس (الأنبياء)؟ ! وأنى لهم أن يكفوا عن قتل الناس. إن من مكاسب المسلمين في هذه النوازل أن تصحح الإيمان؛ فالإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا ¬

(¬1) (الحاكم وصححه الألباني صحيح الجامع 5/ 17).

بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات: 15]. ويبحثوا عن مصادر القوة والعزة: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. من مكاسبنا أن تعود نماذج الإيمان، وأن ترحل عن قلوبنا وبلادنا معوقات الوهن والوهم، وأن تتطلب حياة السعداء، وأن تكون الشهادة أحد أمانينا، وللشهداء مساحة في أحاديثنا وكتاباتنا، لقد ضل بعض أبناء جلدتنا حين زعموا أن الحديث عن كيفية تغسيل الميت وتكفينه، والحديث عن القبر ونعيمه وأهواله .. كل ذلك سموه (بثقافة الموت)، أما الجهاد والاستشهاد في سبيل الله فلا تسأل عما نالها من سخرية وتشويه، ونسي هؤلاء أو تناسوا أن ثمة أعدادًا من البشر في عداد الموتى وإن كانوا أحياء، وآخرين أحياء عند ربهم يرزقون .. وإن كانوا في عداد الموتى .. مفاهيم ناصعة اعتدى عليها المرجفون، وحاولوا تحريف الكلم عن مواضعه، وتشويه المصطلح وأهله .. ويأبى الله إلا أن يتم نوره ويظهر الحقيقة، حيث تأتي هذه الأحداث لتعلي شأن الجهاد والاستشهاد، وتكشف عن حقيقة الولاء والبراء، وتمايز بين صفوف أهل الإيمان والنفاق، وكل هذه مكتسبات حري بنا أن نحافظ عليها ونحفظها في نفوسنا، كما حفظتها نصوص شريعتنا الغراء. وكان من مكتسباتنا تعميق الوعي بقضيتنا الكبرى (فلسطين)؛ فقد حيت في نفوس الكبار والصغار، والرجال والنساء، والعرب والعجم، والعامة والنخب .. وربك يخلق ما يشاء ويختار .. وكلما حاول الأعداء إبعاد فلسطين عن المشهد، أو تحجيمها في فئة محدودة هيأ الله سببًا يعمق الوعي بقضية فلسطين، ويجدد المطالبة بتحرير المقدسات من المحتلين، وتجاوز الوعي القضية الكبرى إلى قضايا أخرى انكشفت على إثرها هيئات وأشخاص وتميز الخبيث من الطيب.

وتجذر في قلوب المسلمين - وعلى صعيد الواقع - أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض، ويكمل بعضهم نقص بعض، وإن خيل لنا أنها دول صديقة أو محايدة، أما الزعم بأن الصراع بيننا وبين دولة إسرائيل ليس صراعًا دينيًّا، فهو جهل وتضليل، وإن قال به بعض أبناء جلدتنا. كما كان من مكاسبنا تحقيق النصرة والولاء للمؤمنين؛ فلم يكن الدعاء سلاحنا الأوحد للنصرة، بل تساهم أهل الدثور بأموالهم، ومنح أهل العلم لفلسطين وأهلها من علمهم وبياناتهم وفتواهم، بل ورحلاتهم ولقاءاتهم بالقادة والزعماء لشرح القضية ونصرة المظلوم، ومن لم يساهم بهذا وذاك تصدق بدموعه وانكسار قلبه {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 6]. أما أصحاب المليارات من النفقات فذلك جهد يذكر ويشكر للمملكة حين دعمت غزة بمليار دولار .. ولئن كان هذا المبلغ -كما قال خادم الحرمين- قليلًا على أهلنا في غزة، ولا يساوي قطرة دم تهرق هناك، فهو رقم مهم، ونأمل أن يصل إلى مستحقيه، وإن كثر طالبوه من خارجها. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 139 - 141].

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلًا أولي أجنحة، وأشهد أن لا إله إلا الله، ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده. ومن مكاسبنا (الفأل وحسن الظن بالله)؛ فهو مبدأ شرعي علمنا الإسلام كيف نستحضره في أحوالنا كلها، وجسده لنا الرسول صلى الله عليه وسلم بسنته وسيرته حين يتجاوز المحنة النازلة إلى آفاق من الفأل وحسن الظن بالله، وما أشبه الليلة بالبارحة وحين حوصر المسلمون في غزوة الخندق وأحاطت بهم الأحزاب من كل جانب، وزلزل المسلمون زلزالًا شديدًا، كان النبي صلى الله عليه وسلم حينها يبشر بالفتح، ويعد بنصر يتجاوز الأحزاب (داخل المدينة) إلى انتصارات في أرض الشام واليمن وفارس، فلا يفتت الصخرة فحسب، بل ويفتت معها أي مشاعر للإحباط والهزيمة، وأي مظاهر للقنوط والاستسلام .. ثم تجدد الفأل في نهاية المعركة -وقد كفى الله المؤمنين القتال- ويعد الصحابة ألا يطأ أرض المدينة بعد مشرك، ويقول قولته النبوية المتفائلة: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم». وتأملوا كيف انقلب ميزان القوى، فمحاصرة قريش للمسلمين في المدينة ولت إلى غير رجعة، والجيش الإسلامي يتحرك بعد باتجاه مكة .. وكان صلح الحديبية فتحًا مبينًا، ثم كان المسير إلى اليهود في خيبر وكسر شوكتهم، ثم ختم ذلك بالتحرك إلى مكة، وكان فتح مكة إيذانًا بدخول الناس في دين الله أفواجًا .. ثم شخص المسلمون بأبصارهم إلى أرض الروم، فكانت مؤتة بداية

لتحطيم سمعة القوة الأسطورية (الروم)، ثم سقطت وسقطت معها دولة الفرس في فترة وجيزة من الزمن، وكذا ينتصر الحق ويقوى الضعفاء ويضعف الأقوياء {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. كما علَّمنا الفأل قادةٌ صادقون خاضوا أغمار الحرب مع المحتلين لفلسطين، ولم يشأ الله لهم أن يفتحوا -رغم جهودهم وجهادهم- لكنهم علموا غيرهم كيف يكون الفأل وحسن الظن بالله، والقائد (نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي) نموذج نحسبه من المجاهدين الصادقين وأثنى عليه من ترجم له كابن الأثير والذهبي وغيرهم، والذي يعنينا هنا أنه صنع منبرًا لبيت المقدس -وإن لم يفتحه- حتى إذا فتح على يد صلاح الدين، وأراد أن يصنع له منبرًا قيل له إن نور الدين محمود سبق له أن صنع هذا المنبر، فطلبه صلاح الدين، فأتي به ووضع في بيت المقدس بعد عشرين عامًا من صنعه، قال ابن الأثير معلقًا: فحمل المنبر من حلب ونصب بالقدس، وكان بين عمله وحمله ما يزيد على عشرين سنة رحمه الله (¬1). وهذا من كرامات نور الدين وحسن مقاصده. ومن الفأل أن تكون أحداث غزة تأسيسًا لمرحلة جديدة في الأمة، ومعلمًا وتأريخًا للنصر ورفع الذل. ولعل من الفأل أن تتزامن أول خطبة في هذا الجامع المبارك - إن شاء الله - مع انتصار غزة وتراجع الصهاينة، ونسأل الله أن يحقق للأمة النصر والتمكين. وعلى كل مسلم أن يستثمر هذه الأحداث لصالح الإسلام والمسلمين، وحسب جهده وطاقته {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]. ¬

(¬1) (الكامل 11/ 552).

ومن مكاسبنا في هذه الأزمة السعي لتحقيق وحدة الأمة الذي مزقته الأهواء، وشقته الانتماءات الفارغة، وعصفت به رياح الفرقة .. كل هذه الأدواء باتت تنحصر دوائرها، وتتسع في المقابل دوائر الوحدة والاجتماع، لقد باتت قضية فلسطين تشغل هم الجميع، وبات الانتصار للمظلومين قاسمًا مشتركًا .. وعلا صوت النداء لوحدة الأمة في مقابل تكالب الأعداء عليهم، ووحدة الشعوب مقدمة لوحدة القيادات والكيانات. إن الحديث عن الوحدة لا يُصنع عبر محاضرات، أو خطب تلقى، أو كتب تؤلف، بل تساهم المصائب والرزايا المحيطة بالأمة في صنعه وتقريبه، فلنساهم جميعًا في هذه الوحدة فهي خطوة مهمة في سبيل صعود الأمة وانتصاراتها. أما مكسب ترسيخ العداوة لليهود ومن حالفهم، فلم يعد شأن المسلمين الذين يجدون في كتاب ربهم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 85]. بل على مستوى العالم الذي لم تغب عنهم الشاشة جرائم الحرب، ولم تخف عنهم الأخبار مساعدات الحلفاء .. وفي ظلال هذه المشاهد، وفي ظروف هذه المواسم كساد لمشاريع السلام الهزيلة، والتطبيع الموبوءة، فاليهود أول من كفل هذه المشاريع، ومن واجب المسلمين أن يرفضوها، ولا يخدعوا ببريقها الكاذب. ومن مكاسبنا - في هذه الأزمة - تمايز الصفوف، وكشف الرايات، فثمة عناصر ومؤسسات تتحدث بألسنتنا وتتسمى بأسمائنا، لكنها تفكر بغير تفكيرنا، وتتجه في عواطفها ولحن قولها غير وجهتنا، إنهم من ابتليت بهم الأمة في سالف الزمن، ديدنهم الإرجاف والتعويق، وأساليبهم سخرية وتخذيل، يشككون بوعد الله، ويشرقون بالنصر لأهل الإسلام، هم من قال الله عنهم: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا ولأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 48].

وهم الذين قال أسلافهم للمؤمنين المقاتلين: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168]. وأعلنوها صريحة كاذبة: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا}. وهم من كشف القرآن: {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}. هذه الفئة المرجفة تنكشف أكثر في زمن الشدائد، ولا بد من الحذر منهم فـ (هم العدو) وكشف خططهم، حتى لا ينخدع الناس بهم. إخوة الإسلام وثمة مكاسب وقيم تربوية من هذه النازلة نالت الصغار والكبار والنساء والرجال، وأثرت في البيوت استقامة وعودة إلى الله، بما أعيت الآباء والأمهات لبضع سنين .. كيف لا وهم يسمعون المقاتلين يكبرون ويهللون، ويشاهدون الموتى وهم يتشهدون، يرقبون المرأة الفلسطينية تصبر وتصابر، والطفل يحمل الحجارة ويقاتل، والناس جميعًا يصلون في المساجد وهي تقصف، والشهداء يحملون بكل عزة وإباء. إنها تربية بالمشاهد الحية .. تلك إطلالة عجلى على شيء من مكاسبنا، وأخرى لا تخفى على اللبيب، والمهم أن نحافظ على هذه المكتسبات والمفاهيم والقيم والأخلاق والسلوكيات، وأن نتجاوز مرحلة الضعف والتشرذم، إلى مرحلة القوة والاجتماع.

حين يغيب الإيمان عن العلم نموذج لتدهور الغرب القيمي

حين يغيب الإيمان عن العلم نموذج لتدهور الغرب القيمي (¬1) الخطبة الأولى إخوة الإسلام .. أمران مهمان لبناء الحياة الدنيا وسعادة الآخرة: العلم والإيمان؛ فبالعلم تبنى الحضارات ويتقدم الإنسان، ويتجاوز عقابيل التخلف ويخرج من دائرة الجهل، وبالإيمان تبنى القيم، ويتصل الإنسان بالخالق، ويتوازن في نظرته للحياة، ولا تنتهي آماله في الدنيا، بل يتطلع لحياة أخرى أرجت وأسعد .. الإيمان يعصمه من الفجور، ويمنعه من الطغيان، يرشد مسيرته، ويضبط حركاته وسكناته. إن أي أمة تفقد واحدًا من هذين العنصرين تضل وتشقى، وتتخبط في مسيرتها وتتأخر- وإن تقدمت ظاهرًا- تتفكك أوصالها، وتنقطع أواصر روابطها، ثم مآلها السقوط والزوال. أيها المؤمنون .. وتعالوا بنا ننظر في واقع الحال، ونستشهد بحضارات فقدت إحدى عناصر البقاء، فكيف كانت حالها؟ وإلى أين تتجه في مسيرتها؟ الحضارة المادية المعاصرة نموذج لفقد الإيمان، فرغم ما بلغته من علم وتقنية وتقدم في مجال الحياة المادية، فهي عرجاء المسيرة، عوراء النظرة .. ويعترف أحد أبناء الحضارة الغربية المعاصرة بفقدهم لعنصر الإيمان، وكيف أثر على مسيرتهم، ويقول (ول ديورانت) كاتب أمريكي عن حضارة بني قومه: ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 16/ 6/ 1429 هـ.

إن ثقافتنا اليوم سطحية، ومعرفتنا خطرة؛ لأننا أغنياء في الآلات، فقراء في الأغراض، وقد ذهب اتزان العقل الذي نشأ ذات يوم من حرارة الإيمان الديني، وانتزع العلم منا الأسس المتعالية لأخلاقياتنا، إننا نبدد تراثنا الاجتماعي بهذا الفساد الماجن (¬1). أيها المسلمون .. وحتى نقف على الداء، ونحذر من الوقوع في مثله، لا بد أن نشير إلى عناصر ثلاثة صرفت المجتمعات الغربية، وجعلت حياتهم على شفا جرف هار، مهدد بالأفول في أي لحظة. والعناصر الثلاثة هي: 1 - الجنس وشذوذه وحريته المزعومة. 2 - والخمور والمخدرات وآفاتها الخطرة. 3 - والخنزير وخبثه وما يخلفه على صحتهم من آفات وأمراض. أما الجنس هنا فهي بيهيمية في صورة إنسانية؛ إذ ليس ثمة محظور أو حياء، بل شذوذ جنسي وبغاء، قال عنه أحد المسئولين في البرلمان الفرنسي: إن حرفة البغاء لم تعد الآن عملًا شخصيًّا، بل لقد أصبحت تجارة واسعة وحرفة منظمة، بفضل ما تجلبه وكالاتها من أرباح خيالية. ولكي ندرك مدى انتشار الزنا في المجتمعات الغربية -أكرمكم الله والمكان- يكفي أن يشار إلى شيء من نسبه، ليس في عامة الناس بل في خواصهم (الرهبان ورجال الكنيسة)، ففي تحقيقات بارعة نشرتها (الديلي ميل) عام 1970 م ذكرت الإحصائية أن ما يقرب من 80% من الرهبان والراهبات ورجال الكنيسة ¬

(¬1) (الإسلام ومشكلات الحضارة، سيد عن: أساليب الدعوة الإسلامية المعاصرة د. العمار 381).

يمارسون الزنا، وإن ما يقرب من 40% منهم يمارسون الشذوذ الجنسي؟ فإذا كانت هذه إحصائية السبعينيات .. فكم هي إحصائية ما بعدها إلى يومنا هذا؟ ! وإذا كانت هذه النسب المرتفعة في الرهبان ورجالات الكنيسة، فكم تكون في بقية الشعوب الغربية؟ ! وتعجبون حين تعلمون أن كثيرًا من الكنائس الغربية قد أباحت الزنا .. بل أباح بعضها اللواط، بل يعقد قران الرجل على الرجل في بعض كنائس أمريكا على يد القسيس، فهل بعد ذلك من بهيمية؟ ! وهل فوق هذا الشذوذ من شذوذ؟ ! (¬1) بل بلغ التردي أن دور العلم والمؤسسات الجامعية تشارك بل وتنشر هذه الثقافة العفنة، فأول مسابقة للتعري السريع تتبناه جامعة (يورو) ويعلن للناس، ويمنح الفائزون والفائزات -بزعمهم- جوائز وشهادات وأوسمة شرف! هكذا تنحط القيم، وتستباح الفضيلة، ويؤسس للبهيمية، ولا تسأل هناك عن الأمراض والأوبئة، وأعداد اللقطاء، والمشاكل الأمنية .. وغيرها من مخرجات هذه البيئات الساقطة! . عباد الله .. وهنا سر لبداية الانحراف لا بد أن يعيه العقلاء، ويدركه أهل الإسلام بجلاء، فهذه الأمراض الجنسية والإباحية المتردية كان وراءها انفلات في القيم، وحرية المرأة المزعومة، والتبرج المطلق، والاختلاط المحموم؛ ولذا فحين ينادي مناد لهذه الصيحات، أو تطرح مجموعة من الطروحات، أو تبدأ شيء من مقدمات هذه الممارسات في بلاد أهل الإسلام، فهي البداية النكدة، وهي المقدمة لهذه الأمراض والبلايا .. فلنحذر. ¬

(¬1) (أساليب الدعوة الإسلامية المعاصرة د. العمار 385، 386).

أيها المسلمون .. أما الخمور والمسكرات والمخدرات، فحدث ولا حرج عن ويلاتها ومآثمها، وأما الخبائث حرية بكل بلاء، داعية لكل فجور، وهناك في تلك البلاد ينتشر الكأس، وتروج تجارة المخدرات، وتغدو هذه البلايا جزء من ثقافة القوم ومكوناتهم الاجتماعية، لا فرق بين الصغير والكبير، ولا بين الذكر والأنثى .. وإذا كانت لغة الأرقام مخيفة في تعاطي الأطفال في بلاد الغرب للخمر، فلا تسأل عن غيرهم .. وإذا قارنهم من يسمون برجال الدين، فكيف الحال بغيرهم، وهل تعلم أن بعض هؤلاء يشربونها في الكنيسة، ويحتجون على شربها بنصوص من أناجيلهم المحرفة، وربما اعتقدوا أن الخمر هي دم المسيح، فمن شربها فقد سرى في عروقه دم المسيح؟ ! إنها الانتكاسة والرجس، وتلاعب الشيطان، وفرق بين هؤلاء وبين من يقال لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. إنه داء آخر .. (الخمور والمخدرات) إذا فشت في مجتمع أفسدته، وإذا ابتلي بها قوم أهلكتهم، فلنحذر هذا الداء، ولنساهم مع الجهات المعنية في دفع ويلات الخمور والمخدرات عن مجتمعاتنا وبلادنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}، والله يقول عن كل ما خامر العقل وغطاه: {رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله يستحق الحمد والثناء .. عباد الله .. وإذا تدنست الفروج واختلطت الأنساب، وتزايدت أرقام اللقطاء والأبناء والبنات (غير الشرعيين)، وإذا خمر العقل وغطي وحجب عن التفكير الحق والعبودية لله، واستهين بأعظم نعمة، وغيب العقل عن الوجود فترة من الزمن، فتلك مصائب عظيمة، فكيف إذا انضاف إلى هذا وذاك لحوم نبتت على السحت، وغذيت بالحرام والخبيث من الطعام! إنها آية ومعجزة ربانية حين صنف لحم الخنزير من المحرمات، ومن رحمة الله بأمة الإسلام أن أوحى إلى نبيهم صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [النحل: 115]. والآيات في مثل هذا كثيرة. وفي صحيح السنة قال صلى الله عليه وسلم عام الفتح: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» رواه البخاري ومسلم. بل لقد حرمت التوراة في عهدها القديم أكل لحم الخنزير، وجاء في الإنجيل في العهد الجديد أن الشيطان يوجد في الخنزير. ولكن اليهود والنصارى بعيدون عن كتبهم - وإن كانت محرمة - متمردون على شرائع السماء وإن كانت هاوية، إنهم يزيدون على أكله بالمتاجرة في بيعه وشرائه وتربيته والعناية به، وأول دولة تعنى بإنتاجه بعد الصين هي البرازيل، ثم تليها أمريكا، وفوق أكله والمتاجرة به، فقد أدخلوا لحمه وشحمه وجلده في كثير من صناعاتهم الغذائية والاستهلاكية التي يعتمدون عليها - وهذا عذاب فوق العذاب وتزيين من الشيطان للقبيح - وهو يسير في اتجاه انتكاس الفطرة، وتلوث البيئة

هناك، لقد قيل: ليس من الدواب يعمل عمل قوم لوط إلا الخنزير والحمار (¬1). ولا عجب أن يصاب آكلوها بفقد الغيرة على المحارم والخيانات الزوجية، وهذا يحكيه الواقع في تلك البلاد التي تأكل الخنزير، فلا تسأل عن الدياثة والعلاقات غير الشرعية، وفقدان الغيرة وتفكك الأسرة. إننا لسنا بصدد حديث عن الأضرار الطبية للحم الخنزير، والتي وافق فيها الطبُّ الحديثُ نصوصَ الوحيين؛ فهناك العديد من الجراثيم والطفيليات والبكتريا تعيش في جسم الخنزير، وهي بدورها تنتقل إلى أجسام آكليها، وهذا عذاب في الدنيا قبل عذاب الآخرة، ولكني أردت الإشارة إلى اجتماع الأدواء العقلية والجسدية والجنسية عند قوم تركوا شريعة الله وراءهم ظهريًّا، وفي الوقت نفسه أحذر قومي وإخواني في العقيدة من طريق المغضوب عليهم والضالين. وأريد كذلك أن أنصح أولئك القوم المفتونين بحضارة الغرب، والغافلين عن عناصر البؤس والشقاء فيها .. صحيح أننا نتمنى أن نصل إلى ما وصلوا إليه من تقدم مادي وريادة في التكنولوجيا، لكن هذا لا ينبغي أن ينسينا حضيض القيم ومستنقع الآثام التي تردوا فيها، وبالتالي فنحن مسئولون عن دعوتهم لدين الإسلام، وترشيد حضارتهم بما يخدم الكون والبشر، وإذا أتيحت لنا فرص الاستفادة من تجربتهم المادية، فينبغي أن نستشعر عزتنا بالإسلام، وأن نبعد عن أنفسنا ومجتمعاتنا سلبيات ثقافتهم، وموروثات القيم المدنسة عندهم، ونكمل الشق المفقود عندهم ألا وهو عنصر الإيمان بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا. ¬

(¬1) (الجامع لأحكام القرآن 7/ 119 - عن محمد بن سيرين).

إنهما جناحان لا بد من الطيران بهما: (العلم والإيمان)، لمن أراد أن يحقق تقدمًا في الدنيا وسعادة في الآخرة، وإلا فهو الضيق والضنك الذي أخبرنا عنه القرآن: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}. لقد تنادى العقلاء هناك لإنقاذ حضارتهم، لكن صوت الحمقى يغلب صوت العقلاء، وأمة الإسلام حين تعود إلى صدارتها وقوتها فهي مؤهلة لترشيد المسيرة ودعوة المنحرف وتوازن المختل، لكن قبل ذلك لا بد من إرادة التغيير في الأنفس استجابة لقوله: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]. ثم لا بد من دعوة الآخرين {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}. وباختصار لا بد من علم وإيمان .. فهل نحن فاعلون؟ ! اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، اللهم هب لنا إيمانا صادقا يورث فينا خشيتك.

الغزو الفكري (وسائل ومظاهر ومخارج)

الغزو الفكري (وسائل ومظاهر ومخارج) (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين، أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمته، وجعل الإسلام لنا دينًا، وأشهد أن لا إله إلا هو، لا معبود بحق سواه، ومن أعرض عن ذكره فإن له معيشة ضنكًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، والمبلغ عن ربه، فهدى الله به وزكى، وعلم الكتابة والحكمة، وكان فضل الله عليه عظيمًا .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين، ورضي الله عن الأصحاب والتابعين، ومن تبعهم إلى يوم الدين. إخوة الإسلام .. أنعم الله على العالم بتقارب أطرافه، ويسر الله الحركة والاتصال بين بلدانه وأبنائه، قرب البعيد، وتحقق شبه المستحيل، توفرت الخدمات، وخف عناء السفريات، بل أصبح اللقاء ممكنًا -عبر الشاشات- مهما تباعدت الديار. وكان لوسائل الإعلام المختلفة وتقنيات الاتصالات الحديثة أثر في ترابط الأمم وتشابك الحضارات، {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. لكن ثمة ما يخيف إلى جانب ما يفرح، وثمة آثار سلبية في مقابل الإيجابيات لهذا التقارب والاختراق، فالحضارة والفكر، والثقافة والقيم كلها بحجرها وبحرها، وبخيرها وشرها، وصحيحها وفاسدها، باتت في متناول الصغار والكبار، والرجال والنساء، والمثقفين والأميين، ومن هنا يكمن الخطر؛ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 3/ 3/ 1430 هـ.

فالغالب - غالبًا - يفرض فكره ويصدر قيمه، والمغلوب يستقبل ويستبدل، وربما استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ومن لم تكن لديه من المناعة ما يكفي، ناله من أعراض المرض، ومن لم يكن عنده تمييز بين الغث والسمين، شرب وشرِق، وأكل وأتخم، ثم عادت الأمراض تسري في جسده، وربما وصلت إلى القلب .. فكانت المصيبة أعظم. أيها المسلمون .. حين يكون الحديث عن الغزو الفكري، ووسائله وأثره وكيف نتقيه، فلا بد من العلم أولًا أن دين الإسلام الذي ارتضاه الله للناس، وأنعم به على البشر، قادر على التأثير والإصلاح؛ فعقيدته نقية، وفكره كامل، ونظمه شاملة للحياة، وعزته عالية، دين قادر على التحدي والصمود، وعلى المحاورة والإقناع، ومنذ نزل -وإلى يومنا هذا- وهو يتعرض للبلاء والحرب على كافة الأصعدة، ومن كافة الجهات والجبهات، ومع ذلك يتجدد، ويتمدد، وينافح عنه قوم، ويخلفهم آخرون، وستظل رايته مرفوعة، والعلامة ظاهرة، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ذلك وعد الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}. ولا بد من العلم ثانيًا أن من أبرز علامات ضعف الأمم أخذها بكل ما يساق إليها، من غير تمييز بين الضار والنافع، والخبيث والطيب، وأن يكون ميلها إلى التافه والحقير من الشهوات والشبهات، مثل أو أعظم من توجهها إلى معالي الأمور ومحكمات الدين. ولا بد من العلم ثالثًا أن لدى الأعداء بضاعتين: بضاعة يزجونها إلى الضعاف، وبضاعة يمنعونها عنهم، أما التي يزجون فكل ما يسلب الأخلاق، ويدمر القيم، ويذل الأمم، ويكرس العبودية والتبعية، وأما التي يمنعون فسر

التفوق، وإكسير القوة، وأسباب التقدم (¬1). أيها المسلمون .. أراد الأعداء للمسلمين قديمًا - ويريدون لهم حديثًا- أن يكونوا تابعين لمللهم، منحازين إلى فكرهم: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}. وحيث نجح المسلمون وتفوقوا على أعدائهم فيما مضى، فلماذا تأخر ركبهم فيما بعد؟ ليس مكمن الخطر أن يتفوق الأعداء في الميدان العسكري، فالأيام دول بين الناس، والضعيف يقوى، ولكن الهزيمة المنكرة هي التراجع في القيم، والخسارة في الأخلاق، والهزيمة في الفكر، والشك في المبادئ، والتذبذب في الهوية، والغزو الفكري، والهزيمة النفسية أخطر وأبلغ أثرًا من الغزو العسكري. وإذا كان ثمة حديث عن وسائل هذا الغزو الفكري؛ فالإعلام آلته الكبيرة، ووسائله المتعددة وسيلة كبرى من وسائل التغريب والاعتداء على الهوية، وما فتئ الأعداء يستخدمون الإعلام في نشر الرذيلة، وتسويق الأفكار المنحرفة، ونقل وافد الثقافات، كما باتت الشاشات المصنوعة بعناية - والمملوءة بالبرامج الساقطة- تغزو العقول، ويستعاض بها عن الجيوش؛ ففي جهاز الغرفة تقصف الأهداف، وعبر الشاشة تدمر القيم، وتنحر الفضيلة، ومن خلال البرامج الحوارية أو المسلسلات تصدر الأفكار، وتروج الشبهات. ومن خلا الكتب الرديئة والمقالات في الصحف والمجلات المنحرفة، تجيّر العقول، وتحدد الاتجاهات وعبر (عولمة) الاقتصاد أو بنوك الربا، يفرض الربا، ويشاع الاحتكار، ويختلط الحق بالباطل في المعاملات، وتكون الخسائر والنكبات المالية. ¬

(¬1) (ابن حميد -بتصرف يسير- توجيهات وذكرى (خطيب) 1/ 65).

وفي مؤتمرات (الحوار) التي يتبناها (غير المسلمين)، ويروح لها (المنافقون)، يظلم الإسلام ويتهم المسلمون، ويصد عن سبيل الله، وتثار الشكوك والشبهات، وكم كان (التعليم) في بلاد المسلمين وسيلة لتجهيل أبناء المسلمين بدينهم وتاريخهم، أسلوبًا لاغترابهم في فكرهم وسلوكياتهم، حين تصاغ (المناهج) على غير شرع الله، ويتولى سدة التعليم مغتربون في بلاد المسلمين فيسيئون إلى التعليم والمتعلمين. أما (المرأة) فهي جسر عبر من خلاله (الغزاة)، واستخدمت المرأة من - حديث تشعر أو لا تشعر - أداة لتغريب الأمة وفتنة أبنائها، وكان طرح (الحجاب) مع تنقصه، و (الاختلاط) مع الإشادة به، و (الفضيلة) مع وصفها بالجمود والتقليد، و (السفور) باعتباره عنوان (التحضر والرقي) .. كل ذلك وأمثاله من قضايا تغريب المرأة .. سار في قطار الغزو الفكري، حتى بت تسير في عدد من بلاد المسلمين، ولا تكاد تفرق بين المرأة المسلمة والمرأة الغربية، إلا في لغتها إن تحدثت، أو باسمها إن كتبت؟ وأريد للمرأة أن تكون أهم ناقل للعدوى وأقصر بريد للفساد - ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. إن الحديث عن آليات ووسائل الغزو الفكري لا يقف عند هذه الوسائل، بل يتجاوزها مما تعلمون ومما تنكرون .. ولكن الأهم ماذا خلف، وكيف يقاوم؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية إن من أبرز مظاهر هذا الغزو: غربة الدين عند نفر من المسلمين، وتجاوزوا جزيرة العرب - مع ما فيها من آثار للغزو- لتروا كيف باتت أجيال من المسلمين لا تعرف من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه. ومن مظاهر الغزو: الجرأة على الدين، ومجاهرة المبطلين، والقول على الله بغير علم، والحديث فيما لا يحسنه المتحدث، حتى صار كل شيء قابلًا للنقاش، وكل حكم فيه قولان. ومن مظاهر الغزو: التردد في قول الحق، والضعف في إنكار المنكر، وبهذا وذاك ضعفت السلوكيات، ومال بعض الناس إلى الرخص، وتركوا العزائم، وثقلت عليهم السنن، وبدأ الفتور عن الواجبات - إلا من رحم ربك. ومن المظاهر: التقلب في الأفكار، والتغير عن المبادئ، وضعف الإيمان واليقين، واهتزاز القناعات، وكثرة الشكوك والشبهات. ومن مظاهر الغزو وآثاره: انزواء بعض الأخيار وتصدر الأشرار، وتخوين الأمين، وتسويد الخونة، وسكوت العالم، وحديث الرويبضة، وضعف الشعور بالمسئولية. ومن مظاهر الغزو وآثاره: فشو الربا، وكثرة الزنا، وممارسة اللواط، وانتشار الفواحش، وكثرة الفساد، وتنوع المعاصي وأمن العصاة، وكثرة المفسدين. من آثار الغزو الفكري: أن باتت طوائف من المسلمين إن قاموا للصلاة قاموا كسالى، وآخرون لا يذكرون الله إلا قليلًا، وقوم اتخذوا هذا القرآن مهجورًا، وآخرون بلوا بالمخدرات، وتهانوا في سماع الغناء، والافتتان بالساقطات. ومن أعظم مظاهر الغزو: انحراف في الفكر والسلوك، وردة عن الأصالة،

وسخرية بالإسلام، ورفض التحاكم إلى القرآن، وعبث بنصوص السنة، وتطاول على أعلام الأمة. عباد الله .. ومهما عددنا من مظاهر الهزيمة الفكرية، فلا يأس ولا قنوط، ولا تشاؤم ولا إحباط. وللحق فإن كافة الانحرافات التي يتصدى لها الفكر الإسلامي اليوم، ويطارد فلولها في الفكر، والأدب، والقيم، والفنون، والمعارف، والمناهج، والمذاهب السياسية والاقتصادية وغيرها، إنما هي نتائج طبيعية للخلل الأساسي الذي وقع -حيث نبتت العلمانية والفكر القومي والاشتراكية في بلاد المسلمين- لحظة الالتقاء الأولى والمبكرة مع الحضارة الغربية (¬1). والأمة الآن تمر بمنعطف تبصر به طرق الردى، وتتلمس طريق النجاة، وتسمع للناصحين. ومن أولويات طرق العلاج والخروج من النفق: أن نشعر بقيمة هذه الصحوة، وأن نثمن مكاسبتها، وأن نتفاءل بمستقبلها، وأن نجعل من أنفسنا وأبنائنا وبناتنا جنودًا صادقين للإسلام، وأن نعتز بالهوية الإسلامية؛ فهذا زمن الهويات، ولا مكان للقطاء. ومن طرق العلاج أن نستفيد من تقنية الاتصالات ووسائل الإعلام، ونطوعها لخدمة الدين، وتعبيد الناس لرب العالمين، وأن تشتمل مناهجنا التعليمية على تأصيل القيم وبناء الشخصية المسلمة، وبيان مخاطر الغزو الفكري، وأن نقابل (العولمة) الغازية بـ (العالمية) العظيمة للإسلام، متجردين عن الحزبية والعنصرية ¬

(¬1) (جمال سلطان: جذور الانحراف في الفكر الإسلامي الحديث 4).

والإقليمية (الضيقة)، فالله قال لنا: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]. وأن تنشط مؤسساتنا الدعوية والإعلامية في الداخل والخارج للدعوة والبلاغ المبين، وأن يتحمل كل مسلم ومسلمة مسئوليتهم على قدر الطاقة، وحسب المواقع. وفي الوقت الذي نحذر من وافد الفكر العفن والثقافة المتردية، لا بد من التعامل بإيجابية مع الفكر الرائد، والإبداع المنضبط -وإن نبت في غير أرضنا- وأن نستفيد من (الحكمة) وإن سبق إليها غيرنا .. وحين تكون تجارب البشر كتابًا مفتوحًا فينبغي أن نقرأ منه ما يرشد مسيرتنا، ولا يتعارض مع إسلامنا؛ فنحن أمة لا ننغلق ولا ننهزم، نمارس التطور والتحديث، ونحافظ على الأصول والثوابت ويسعفنا في الخروج من النفق المظلم إرادة قوية، ومراجعة مستديمة، وتوبة نصوح. ولا بد قبل هذا وذاك من قناعة ويقين جازم بأن شريعة الإسلام هي دين الأمة ودستورها في الصغير والكبير، وأن المستقبل للإسلام والبقاء للمسلمين، فثمة طائفة على الحق منصورين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله .. لا بد من اليقين أن الزبد يذهب جفاءً، وإن الكلمة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وأن جندنا لهم الغالبون، وأن العاقبة للتقوى وللمتقين .. ذلك وعد غير مكذوب.

الإيجابية في زمن التحولات والانتخابات

الإيجابية في زمن التحولات والانتخابات (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. إخوة الإسلام من محسوسات العقل أن الزمان يتغير، ومن مدركات الواقع أن الحياة لا تدوم على حال .. ومن موحيات الشرع أن الناس يبتلون بالسراء والضراء، ويمتحنون بالشر والخير، وإن الهداية على قدر المجاهدة، وإذا كنتم تبصرون في واقع حياتكم تغيرًا في كل -يوم بل وفي كل لحظة- فثمة سرور وأحزان، وغنى وفقر، وصحة وسقم، وخير وشر، ونصر وهزيمة، وأموات وأحياء. ومحال في هذه الحياة أن تستقيم للإنسان الظروف، وأن يخلد في نعيم، وأن يتلبس بصحة إلى الأبد، محال ذلك والله يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]. إذا كان هذا شأن واقع الحياة .. فاسمعوا إلى نصوص الشرع في توصيف طبيعة الحياة حين يقول ربنا: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}. {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور: 44]. {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]. إن الناس قد يتساوون في إدراك هذه الحقيقة المتغيرة للحياة والأحياء، ولكنهم يتفاوتون في أسلوب التعامل معها، واستخلاص الخير منها وجلب المنافع، ودفع الشرور ورفض المآثم، والاجتهاد في حسن العمل. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 23/ 1/ 1426 هـ.

تلكم هي قيمة الحياة، والهدف من الوجود {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}. والعبادة حين تكون الهدف من وجودنا {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}. فهذه العبادة أنماط وأشكال يمارسها العبد حين يصلي، وحين يبيع ويشتري، وحين يعمل أو يتعامل، وحين يتحدث أو يكتب، وحين يجاهد أو يتصدق، يمارس المسلم العبادة في المسجد والمنزل، وفي الوظيفة والسوق، في السفر والحضر، وفي حال الخلوة والاجتماع، والشهود حاضرون، والإحصاء دقيق، وكتاب ربي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، والعبد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد. عباد الله .. وثمة سؤال مهم يقول: كيف يتعامل المسلم مع متغيرات الحياة؟ أتكون لغة الرفض هي الحل؟ أم يكون القبول المطلق والتسليم؟ أم هناك موقف وسط راشد؟ وإيجابية تأخذ الصالح وتنميه وتدعمه، وترفض الطالح وتجاهد في مدافعته؟ إنها الإيجابية والمجاهدة والسعي للإصلاح والوقوف في وجه الفساد .. تلك هي المرتبة العلية التي ربما تقاصرت عنها همم الكثيرين .. ما بين مستسلم سلبي مفتون، وما بين رافض قاعد عن العمل، يحسب أن رفضه كاف لأداء الواجب. لقد علق سبحانه الهداية بالجهاد في قوله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69]. وعلق عليها ابن القيم فقال: فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله، هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فإنه بعيد من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد (¬1). ¬

(¬1) (الفوائد 62).

وإذا تجاوزنا فئة المفتونين المستقلين لكل سوء .. ولعلهم في مجتمعنا قليل، فالأكثرية هم من يرفضون الشر والفساد، ولكنهم يتفاوتون بين رفض سلبي لا يملك إلا الرفض، وبين رفض إيجابي يفكر أصحابه في المخارج، ويبحث عن الحلول، ويتلمس سبل الخلاص لينجي نفسه ومجتمعه من كل فتنة وافدة .. ذاك هو المعول، وهذا الصنف هم الأقلون ولكنهم المباركون .. فأين نحن منهم؟ إن نفرًا من الناس يشغلون أنفسهم بالتهم للأشخاص، والإسقاط لكل فكرة واردة، والشغب على كل جديد لم يألفوه، والرفض لكل مستحدث -وإن كان فيه نفع وخير- وهذه المواقف المزحية للفراغ، والمفرغة للطاقة دون جدوى لا ينبغي أن تكون شعارًا للأخيار، ولا دثارًا للمصلحين، إنها سهلة التناول، بسيطة التكاليف، ولكنها ضعيفة الأثر، محدودة النتائج. أما الإيجابية الدافعة إلى خوض غمار المعركة بسلاح العلم والإيمان واليقين، والمشتملة على برامج ومشاريع نافعة، فتلك التي دونها خرق القتاد. أيها الناس: مجتمعنا - كغيره من المجتمعات - ينفتح، ولكن كيف تكون الإيجابية في ترشيد الانفتاح، ومجتمعنا -كغيره- يمر بتحولات سريعة، فكيف نساهم في ضبط زمام هذه التحولات؟ ومجتمعنا -كأي مجتمع- تتزاحم فيه الفرص، فمن يبادر إليها ويسبق إلى استثمارها؟ عباد الله .. حديث الناس في هذه الأيام - الانتخابات البلدية - وتساؤلاتهم هل يسجلون؟ ومن يرشحون وينتخبون؟ وهذه التجربة التي تمر بها بلادنا ينبغي أن تستثمر لصالح البلاد والعباد، وأن يتطلع الناس إلى الهدف الأسمى منها، ولا ينشغلوا بشكليات ومظاهر بسيطة.

الانتخابات البلدية بصورتها المعاصرة تجربة وافدة يمكن الاستفادة منها بعد تهذيبها وتخليتها مما علق بها من بيئتها ومحض تجربتها؛ فلا غش ولا تزوير، ولا كذب ولا مخادعة، ولا تعد على حقوق الآخرين، أو محاولة لإسقاط الأكفاء المنافسين. الانتخابات البلدية ليست استعراضًا عشائريًّا، أو تسابقًا قبليًّا، ولكنها اختيار للأمثل وإن كان الأبعد. الانتخابات البلدية شعور بالمسئولية المستقبلية، وسعي صادق لتحقيق أعلى قدر ممكن من احتياجات المواطن، ورعاية مصالحه وتأمين حقوقه، وليست مجرد ظهور إعلامي، أو منصب استشرافي، أو إثبات للذات ليس إلا. قبل أن نسجل سل نفسك: لماذا تسجل؟ ومن سترشح؟ ما مقدار تمثلك الأمانة، والتزامك بالصدق، إنها نوع من التزكية فمن تزكي، وهي نوع من الشهادة، فعلى ما تشهد؟ لقد كان للمسلمين سبق في الشورى، مارسوه في عصورهم الزاهية؛ فضربوا أروع الأمثلة في تحقيقه، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم وقائد الأمة ربما تنازل عن رأيه نزولًا عند رأي الأكثرية من المسلمين، ما لم يكن في ذلك نصًّا أو مأثمًا. ومارس المسلمون بعده صلى الله عليه وسلم المشورة واختيار الأمثل للمسلمين في ولاياتهم الكبرى والصغرى، فضربوا في ذلك أروع الأمثلة في الصدق والتحري واخيتار الأكفأ، وكان مرشحوهم عند حسن الظن صدقًا وعملًا وإخلاصًا، ومارس المسلمون (الاقتراع)، فكانوا مثالًا في الإيثار والبذل، وشهد القرآن أنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، لم يكن هذا في سلمهم فحسب، بل

وفي حربهم كانوا نماذج للإيثار، فشربة الماء للجريح النازف ربما دارت على أكثر من مجاهد قعدت به الجراح عن مواصلة الجهاد، فظل هؤلاء الجرحى يتدافعون هذه الشربة ويؤثرون بها غيرهم، حتى استشهدوا جميعًا ولم يشربها أحد منهم. إنه البعد عن الشح والانعتاق من الأنانية تتجلى في أسمى معانيها .. فتتعانق مرتبة الجهاد في سبيل الله، مع خلق الإيثار النبيل ولو كان بأصحابه خصاصة. ترى كم يدرك المسلمون ما في دينهم من سمو الأخلاق وكريم السجايا، وكم يبحثون في تاريخهم ليروا نماذج من البشر كانت أجسادهم جسورًا عبر عليها الإسلام إلى أمم الأرض، وكان في موتهم حياة للآخرين، وكان جهادهم عدلًا وحرية للمظلومين! {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية أيها المسلمون .. مؤهلات الترشيح لأي مسئولية كثيرة ومتكاملة، وعلى قدر كبر هذه المسئولية تزيد هذه المؤهلات، وإذا كانت المصداقية والتقوى والصلاح والنزاهة مؤشرات مهمة للترشيح، فلا بد أن يضاف إليها الخبرة والقوة والسياسة والحكمة، والمعرفة والعلم بمتطلبات هذه المسئولية، ويرشدنا كتاب ربنا إلى شيء من هذا، فيوسف -وهو نبي الله- حين تقدم لولاية خزائن الأرض قدم بالقول: {إني حفيظ عليم}. ومارس فيما بعد سياسة الاقتصاد بنجاح واقتدار، ومن مشورته: {فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ}. وثمة توجيه قرآني إلى أهم عناصر التولية والاستئجار: {إن خير من استأجرت القوي الأمين}. وفي مخزون السنة (السيرة) النبوية توجيه وإرشاد وتقدير للمواهب والقدرات، ووضع للرجل المناسب في المكان المناسب، فأبو ذر رضي الله عنه نصحه النبي صلى الله عليه وسلم ألا يتولى المسئولية حين قال يا رسول الله، ألا تستعملني؟ فضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب أبي ذر وقال: «يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها» (¬1). وفي التوجيه الآخر قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر: «يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي؛ لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم» (¬2). فهذا أبو ذر لا يضيره ألا يوليه الرسول صلى الله عليه وسلم المسئولية وإن كان أصدق الناس ¬

(¬1) (رواه مسلم ح 1825). (¬2) (رواه مسلم ح 1826).

لهجة، وأعظمهم زهدًا، فما هو ضعف أبي ذر؟ قال الذهبي في تفسير ضعف أبي ذر: (فهذا محمول على ضعف الرأي، فإنه لو ولي مال يتيم لأنفقه كله في سبيل الخير، ولترك اليتيم فقيرًا، والذي يتأمر على الناس يريد أن يكون فيه حلم ومداراة، وأبو ذر رضي الله عنه كانت فيه حدة، فنصحه النبي صلى الله عليه وسلم ألا يتولى أمر الناس) (¬1). وإذا كان هذا توجيه النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من أصحابه النجباء والسابقين إلى الإسلام، فقد وجه أحد أصحابه - وهو بعد حديث عهد بالإسلام - إلى أن يقود سرية فيها من أمثال أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وأمثالهم رضي الله عنهم .. أجل لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه على سرية ذات السلاسل في السنة الثامنة للهجرة .. ولم يجد الرسول ولا صحابته في أنفسهم شيئًا .. إنها القدرات والمواهب تستثمر، والرجل المناسب يوضع في المكان المناسب، ولا يعني ذلك بحال الأفضلية المطلقة للأمير ولمن ولي، ولا التقليل من شان المأمور ومن ولي عليه فلنفقة هذه المعالم النبوية في الولاية والتعامل مع القدرات. إن صلاح الذات ليس مؤهلًا وحده لتولي أمور الناس، كما أن صاحب المطامع الشخصية، وضعيف الأمانة، ورقيق الديانة لا يولى ولو كان خبيرًا بالسياسة، قادرًا على القيادة، ومن هنا نعود إلى القرآن لنجد فيه شرطين مهمين لمن يولى ويستأجر: {إن خير من استأجرت القوي الأمين}. فالقوة والأمانة جناحان يطير بهما من رشح لولاية في الإسلام إلى بر الأمان، ومراق العزة، والكرامة، وتحقيق العدل والسعادة، الأحياء، وفي مجتمعنا الأصل فيه ¬

(¬1) (السير 2/ 75).

الخير، والغالبية هم الأخيار، لدينا فسحة في اختيار الأمثل من الأخيار. يا أيها المرشح لنفسك أعقل هذه الوصايا، وقدر هذه الأمانة، واعلم أنك مسئول ومستأمن، ولا يغب عن بالك أن ثقة الناس بك لا تكون بنصب الخيام الفارهة، ولا باستئجار القصور الفخمة، ولا بتوفير الموائد المتنوعة .. كلا إن الواثق من نفسه لا يحتاج لمثل هذا، قدر ما يحتاج إلى تفكير مستديم في شغل هذه المسئولية بما ينفع البلاد والعباد. ولا يطلب من المرشح وعود هلامية، وبرامج مثالية تتطاير كالهباء عند أول وهلة من محطات الطريق. إن الواقعية مطلب، والمصداقية شرط للمرشح، ولا بد أن يكون المرشح عند حسن الظن من مرشحوه؛ ينفذ ما وعد به، ويعتذر عما قصرت صلاحياته عن الوفاء به، حتى يعلم الناس ما أنجز وحدود صلاحياته، وما لم ينجز وهي من صلاحيات غيره. أيها السادة المرشحون .. تجاوزوا في ترشيحاتكم حدود العشيرة ودائرة القبلية، والأهواء الشخصية، وضعوا الأمانة في موقعها، واختاروا الأكفاء الناصحين الأقوياء الأمناء، ألا وإن الترشيحات لوحة كاشفة لتوجهات المجتمع، ومؤشر لوعيهم، ومحددة لنوع ثقافتهم، فليكن المرشحون من خيار الناس عدلًا، وحكمة، ودراية. إن وضع الرجل المناسب في المكان المناسب هو عين الحكمة، ومن الظلم أن نضع الرجل في غير موضعه، والله كما قسم أرزاق الناس وأخلاقهم، قسم كذلك قدراتهم ومواهبهم. عباد الله .. ومرة أخرى بلادنا تمر بمرحلة انتقالية فلنكن إيجابيين وفاعلين،

ولتكن قدرتنا على استثمار هذه التجربة الانتخابية لوحة كاشفة لعظمة إسلامنا، وموقع بلادنا، وما يتطلع إليه المسئولون منا، وما يتطلع إليه أبناء مجتمعنا. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وسدد الخطى، وبارك الله في جهود المخلصين، وأعان ووفق من أضمر الخير للإسلام والمسلمين.

الزواج وقفات ومحاذير

الزواج وقفات ومحاذير (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين خلق فسوى وقدر فهدى، وخلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى، وأن عليه النشأة الأخرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول في كتابه العزيز: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، جاءت شريعته حاثة على كل خير، مستجيبة لنداء الفطرة، وأقامت المجتمع على أواصر المحبة والبر، والإحسان والتقى .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن آل بيته المؤمنين وصحابته الخيرين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا .. أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم معاشر المسلمين بتقوى الله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 133]. أيها المسلمون .. يعنى الإسلام عناية عظمى ببناء الأسرة وصونها من أي سهام توجه إليها، ذلكم أن الأسرة قاعدة المجتمع ومدرسة الأجيال، وسبيل العفة، وصون الشهوة، والطريق المشروع لإيجاد الأولاد والأحفاد، وانتشار الأنساب والأصهار، فبالزواج وحده تنشأ الأسرة الكريمة، وتنشأ معها المودة ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 4/ 5/ 1424 هـ.

والرحمة، ويتوفر السكن واللباس، إنها آية من آيات الله يذكرنا بها القرآن، ويدعونا للتفكير في آياتها وما ينشأ عنها: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]. فالأسرة لوحة مضيئة تعكس سمو تعاليم القرآن، وشاهد ملموس على علو شأن الإسلام، تعجز الأنظمة البشرية - مهما بلغت - أن تبلغ مبلغه، بل وأفلست الأديان القديمة المحرفة والحضارات المعاصرة أن تصل مستواه، والواقع يشهد بتفكك الأسر، وضياع المجتمعات في المشرق والمغرب، والتي ضلت عن توجهات القرآن. عباد الله .. والحديث عن الزواج تدعو إليه الحاجة عمومًا، وفي هذه الأيام على الخصوص، وفيه تنبيهات تحسن الإشارة إليها، وفي الحديث عنه مشاركة لهموم قطاع كبير من الشباب والفتيات فضلًا عن الكبار والعانسات. فيا ترى ماذا يدور في مخيلة الشباب حين يفكر بالزواج؟ لماذا يتزوج؟ وبمن يتزوج؟ هل الغرض واحد أم الأغراض؟ ما الذي يخفيه الزواج؟ وما الشبح الذي يطارده ويثنيه عنه؟ وهكذا الفتيات .. لماذا الزواج؟ وما الزوج المفضل؟ ولماذا ترفض؟ وما هي المؤثرات عليها في تأخير الزواج؟ كلها تساؤلات بدا لي أن المجتمع أخذ في تفهمها، وعانا من جريرتها، وخطا خطوات في الإجابة عنها، وما هذه الأسراب المتقاطرة والرقاع الموزعة إلا أنموذجًا يحكي تجاوب المجتمع مع تلك النداءات؛ لذا تركت الإجابة للمجتمع عمليًّا، ولأهل الوعي خاصة، عندما أدركوا مخاطر العوائق

المتلاحقة، ليكون حديثي اليوم عما يلي: عباد الله: ألستم معي في تصفح أم العريس وأخوات العروس وجه كل صبيحة الزواج، لماذا؟ لأنهم يتخوفون الصدود المبكر، والنفرة، وعدم القبول، والأبصار تسارق الطرفين من كل جانب عسى أن تمضي الأيام الأولى بلا أحداث، ولا لوم ولا عتاب، وهنا ألفت النظر إلى الأسباب الجالبة للتعاسة؛ فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه، والله تعالى يقول: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160]. أيها المسلمون .. أليس من الظلم والذنب والمعصية أن تحاط وتحاصر بعض القصور والزواجات بأمواج من المنكرات؛ مثل التصوير، أو جلب المغنين، وأشرطة الغناء، والرقص المحرم، وتصدح أصواتها بمكبراتها بكل عبارات الحب والغزل الماجن؟ أليست بوادر الاختلاط تطل برأسها؛ فكم من مشئوم بدأ زواجه بالدخول على معقل النساء وهو يمسك يد العروس، ألم يتأخر بعض الأزواج حتى قبيل صلاة الفجر ثم ينامون عن الصلاة، ألم تظهر صور الإسراف في الملابس، ويضم إلى ذلك خياطها بشكل عار يكشف ويشف؟ ثم بعد ذلك الظلم المتراكم نتساءل: لماذا لم يوفق بين العروسين؟ ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}. بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الذكر والبيان، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، جعل الزواج عبادة يتقرب بها العبد إلى مولاه، ومنَّ على عباده بنعمة الزواج والولد، فقال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل: 72]. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، أخبر وهو الصادق المصدوق بقوله: «من رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشرط الباقي» (¬1). ورضي الله عن ابن مسعود حين يقول: «لو لم يبق لي إلا عشرة أيام وأعلم أني أموت في آخرها ولي طول النكاح فيهن، لتزوجت مخافة الفتنة» عباد الله .. ويشكل المجتمع عاملًا مساعدًا على الزواج أو عائقًا دونه كما أشرت، وهو الآن يسير متوجهًا إلى الحقيقة، ومكاشفة النفس، فلا وقت لمماطلة بالحقوق، فقد قرعت نذر الخطر وبوادر الفتن أبواب المجتمع. فإلى الوقفة الثانية: ماذا عن الزواج عند الطرفين؟ وما الذي يعرفه الزوجان من أحكام وآداب ومحاذير؟ فكم هي كتلوجات الملابس، وبروفات التسريح والمكياج، ونماذج وبطاقات الدعوة أسلوبًا وشكلًا، وكلها تصب في غير القناة الزوجية، وإنما هي لليلة واحدة فقط، أما مشوار الحياة الزوجية وما يتطلبه من وقفات توجيهية، فهو أمانة في عنق الجهات العلمية والاجتماعية؛ فإنه لا يُكتفى بالمحاضرات ¬

(¬1) (رواه الطبراني والحاكم وقال صحيح الإسناد). (¬2) (فقه السنة 2/ 12 - 13).

والمواعظ بالقدر الذي نحتاج معه إلى دورات عن بداية الحياة الزوجية يشارك فيها الراغبون والراغبات وكل متقدم للزواج، وخبرة المجربين ونصائح المختصين، فهل تسمع أو ترى ذاك النداء لمزيد الفقه والوعي الزوجي؟ ومن الوقفات: ننصح أهل الطرفين بعدم التدخل السريع في أولويات الزواج، وإتاحة الفرصة لعامل الزمن، وتجنب انتزاع التصريح من أي منهما، البناء الشامخ يقام على مهل، وأصحاب النتائج السريعة غالبًا ما يخطفون الفشل. الوقفة الرابعة: هل من وقفة تساءل: لماذا يكون المهر المدفوع للأيام الأولى من الزواج، فيستنزف جميعه أو يزيد عليه ولي الزوجة، ويتخلص منه سريعًا في ملابس العروس، والعطور والتحف والملاحق والهدايا، والقصور والولائم التي تعقب الزواج؟ فهل نعي صعوبة الحياة وندخر شيئًا من هذا المهر الذي استخرجه الزوج بكل أسلوب؛ إذ بعضه سلفة، وآخر دين، والبعض إعانات؟ هل نبقي مبلغًا يتصرف فيه الزوجان معًا حين ينفردا بالقرار ويصدر منهما الاختيار، ويكون التشاور على مهل وانسجام بعد الوئام، بدلًا من أن يدخل بيته الجديد وقد نفذ كل ما في الجيب؟ وماذا تغني عنا ملابس خاماتها بأغلى الأثمان، وخياطها تزيد على قيمتها، وقد يصاحب إعدادها شيء من الاستعجال؟ الوقفة الخامسة: يحتفل في قصور الأفراح والاستراحات أفواج من الجنسين وعلى مختلف الأعمار .. ويمكث هؤلاء ساعات بلا برنامج، ولك أن تتصور الأحاديث الفردية المملة، والتململ رغبة في الخروج، وتسيب الأطفال وعبث المراهقين، بما فتح أبوابًا من الفراغ مشرعة، وأنواع من المغايرة والمجارات، وتبادل العروض والاستعراض، وفي الوقت ذاته خلت معظم المجامع من الذكر

والموعظة، ويقوم الغافلون عن مثل جيفة؛ لما فيها من لغط القول ومنكر الأفعال، فهل ينتدب الصالحون في الأسر أنفسهم لإعداد برنامج يشمل الذكر والأنثى، وأخرى للصغار والشباب، وتستوعب بطرحها تطلعات الحضور، فمن القصص الهادف، والتجربة المنيرة من كبار السن والأحاديث المرشدة عن الحالات الاجتماعية؛ مثل فوائد الزواج، وآليات الصلح، وثمار التسامح والإشادة بأمثلة ونماذج لمن ضرب المثل الرائع في حسن العشرة والمعاملة بالمعروف، وأخرى للترفيه البريء الذي يحوط الأحداث من التفلت والانحراف عبر قنوات شيقة، ومختصين من شباب الصحوة المهتمين لهذا الشأن. بل وهل يكون ذلك همًّا تشكل إخراجه الجهات المسئولة من الدعوة والإرشاد وجمعيات تحفيظ القرآن، ومن لهم عناية بهذا الشأن. أما الوقفة الأخيرة: رؤية المخطوبة، لكل واحد من الزوجين حق رؤية الآخر، وكما يبحث الرجل عمن تعجبه، فهي كذلك صاحبة ذوق واختيار وميول، والذي؟ ؟ ؟ ؟ ؟ على هذه الشريعة المحفوظة استنابة الزوج أو الخاطب غيره؛ أمًّا كانت أو أختًا بالنظر عنه، وهنا تقع المخالفة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما». وللرجال نظرة في النساء تختلف عن نظرة المرأة إلى المرأة، ويزيد الطين بلة إذا تكاثرت مصادر التقويم، ومن هي التي سوف تحظى بالإجماع، وصاحب الشأن منحى عن قضيته. هذا وصلوا وسلموا على نبي الهدى والرحمة، امتثالًا لأمر ربكم، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين .. اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشيدًا يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية.

ثقافة التسامح والتيسير

ثقافة التسامح والتيسير (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره حين يكون الحديث عن ثقافة التسامح والعفو والتيسير هناك مفهومان وثقافتان لهذا المعنى، وثالثة (وسطى) بينهما هناك فهم لا ينتهي بالتسامح عند حد، وهناك آخر يغلقه عما فيه حل ويسر، هناك ثقافة ترى التسامح تخلصًا من تبعات الدين وتمييعًا لأحكام الإسلام، وانهزامية أمام الآخرين، وتبعية مذلة للأعداء. وهناك ثقافة أخرى تنظر إلى التسامح والتيسير على أنه جبن وخور، وتنازل عن المسلمات، واعتداء على الحرمات، وزيادة هوان للأمة، حتى وإن كان تأليفًا للقلوب، وربما غاب عن هؤلاء فقه السياسة الشرعية، وتغليب المصالح أو درء المفاسد. إنهما ثقافتان غالية وجافية، والثقافة المتسامحة الميسرة التي نريد هي وسط بين الإفراط والتفريط، إنها تنطلق من أصول شرعية، وممارسات إسلامية خط طريقها محمد صلى الله عليه وسلم وحسبك به معلمًا وهاديًا وأسوة، وجاءت مفرداتها في الكتاب والسنة أجل لقد أدبه ربه، وكان من أدبه له {فاصفح الصفح الجميل} [الحجر: 85]. وقاله له: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون/ 96]، وأوصى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وأراد الله له ولأمته اليسر {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 1/ 5/ 1428 هـ.

بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] إنها نصوص وتوجيهات تملأ سور القرآن، وهو كتاب أحكمت آياته وفصلت لقوم يعلمون، وهي نصوص صحيحة في السنة وممارسات عملية في السيرة، نقتبس منها قوله صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السمحة» (¬1) (أخرجه أحمد 21788) «إن خير دينكم أيسره» (ثلاثًا) ولفظ «إنكم أمة أريد بكم اليسر» (¬2)، «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف» (¬3). (القصد القصد تبلغوا) (¬4). وفي المقابل قال عليه الصلاة والسلام: «إياكم والغلو» (¬5). «هلك المتنطعون» قالها ثلاثًا (¬6) «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق». ومن السنة إلى السيرة العملية فقد دخل اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم - بكل صفاقة وحقد «السام عليك» يعني الموت، فقالت: عائشة رضي الله عنها: وعليكم السام واللعنة. فوجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: «يا عائشة ما هذا؟ إن الله يكره الفحش والتفاحش، وقد رددت عليهم ما قالوا، فقلت: وعليكم» متفق عليه. إنها أخلاق الأنبياء لا يقابلون المنكر بمثله، ولا يردون الفحش بمفرداته، ¬

(¬1) قال ابن القيم رحمه الله جمع الله عز وجل في هذه الشريعة بين كونها حنيفية وكونها سمحة، فهي حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل (إغاثة اللهفان 1/ 58) والحديث أخرجه أحمد (21788). (¬2) رواه أحمد 5/ 32، وصحح إسناده الحافظ في الفتح 1/ 94. (¬3) متفق عليه (6927، 2593). (¬4) (أخرجه البخاري 6463). (¬5) (أحمد 1854، والنسائي وابن عاصم في السنن 1/ 46 وصححه). (¬6) (مسلم 2670). (¬7) (أحمد وحسنه الألباني في صحيح الجامع 2/ 255).

وعائشة رضي الله عنها وإن كانت حملتها الغيرة، وردت على القوم بما يستحقون البدء به، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى أن الموقف يكفي فيه «وعليكم» فليس فيها فحش ولا استغباء. إخوة الإسلام تعلمنا شرائع الإسلام وتدعونا قصص القرآن أن نؤسس لثقافة المحبة والتسامح وتحذرنا من سلوكيات العدوانية والظلم والسطو والانتقام .. وليس بخفي أن العفو والتسامح في الإسلام لا تعني بحال هتك الحرمات ولا السطو على المحرمات، لكنه تسامح الحنيفية السمحة، وأخلاق الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام، الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا وكان خلقه عليه الصلاة والسلام البر والوفاء، والحفاظ على حقوق الناس، وصيانة كرامتهم أيًا كانت هوياتهم ومواقعهم ما داموا مسالمين ملتزمين بالعهود .. أجل إن الناظر - يعمق - في السيرة النبوية يرى كيف كان صلى الله عليه وسلم يؤلف ولا يفرق، ويدعو ولا ينفر، ويبذل المال في سبل إسلام أقوام أو تثبيت آخرين، كما يبذل من حسن المعشر وطلاقة الوجه، والبشر، ولو كان الداخل عليه بئس أخو العشيرة هو إنها المداراة المشروعة في ديننا طلاقة وجه وحسن معشر، ودعوة للخير، وتأليف للقلوب .. ولذا دخلت فئام من أهل الكتاب والمشركين في الإسلام نتيجة حسن الخلق وطيب المعاملة .. فأين نحن من هذا الهدي النبوي، وفي رسول الله لنا أسوة حسنة. لقد قالها زيد بن سعنة .. فما بقي من علائم نبوته صلى الله عليه وسلم إلا أن أعرف أن شدة الجهل عليه لا تزيده إلا حلمًا .. وقد رأيتها .. فأسلم زيد ومثله من أهل الكتاب كثير. كما كان للمشركين نصيب من تأليفه عليه الصلاة والسلام، حتى وإن كان هذا المشرك قد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجاه، وفي قصة كعب بن زهير (الشاعر

وابن الشاعر) حين قدم عليه تأئبًا مسلمًا درس وعبرة، ومعلم في العفو والصفح والتأليف والدعوة. وقد ذكرت كتب السيرة أن كعب بن زهير قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان صلى الله عليه وسلم لا يعرفه فقال (كعب) يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائبًا مسلمًا فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم»، فقال كعب: أنا يا رسول الله كعب بن زهير، فوثب عليه رجل من الأنصار، فقال يا رسول الله دعني وعدو الله أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعه عنك، فقد جاء تائبًا نازعًا عما كان عليه» وحينها قال كعب قصيدته المشهورة والتي منها قوله: إن الرسول لنور يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول (¬1) يا أخا الإسلام وإن تعجب من هذه المعاملة النبوية فعجبك لا ينتهي حتى تقف على هديه في تعامله مع نصارى نجران، حينما قدموا عليه المدينة، ودخلوا عليه مسجده بعد صلاة العصر، حتى إذا حانت صلاتهم قاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوهم» فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم. قال ابن القيم - معلقًا على هذه الحادثة- ومن فقه هذه القصة: 1 - جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين. 2 - تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين، وفي مساجدهم أيضًا إذا كان ذلك عارضًا، ولا يمكنون من اعتياد ذلك. 3 - جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا ¬

(¬1) (زاد المعاد 3/ 522، 524).

ظهرت مصلحة من إسلام من يرجى إسلامه منهم، وإقامة الحجة عليهم، ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة، فليول ذلك إلى أهله، وليخل بين المطي وحاديها والقوس وباريها .. ثم ذكر الشيخ مناظرة له مع أحد علمائهم (¬1). أيها الإخوة المؤمنون .. ومن أهل الكتاب والمشركين إلى تعامله صلى الله عليه وسلم مع المنافقين فهو كذلك تأليف ودعوة، وبعد عن القتل والتشهير والتنفير .. علمًا بأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وفضحهم الله في أكثر من سورة في القرآن .. ومع ذلك كله لم يؤثر أن محمدًا قتل أحدًا من زعامات هؤلاء المنافقين فضلاً عن عوامهم، بل لما عرض عليه قتل بعضهم قال قولته المشهورة: «لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه .. وتأتى بهم وترفق حتى صلح حال بعضهم فيما بعد. وقد استوقف ابن القيم موقف المنافقين في غزوة تبوك .. حين قال: ومن فقه هذه الغزوة: تركه قتل المنافقين، وقد بلغه عنهم الكفر الصريح .. قال: والجواب الصحيح أنه ترك قتلهم في حياته لوجود مصلحة تتضمن تأليف القلوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع كلمة الناس عليه، وكان في قتلهم تنفير، والإسلام بعد في غربة، والرسول صلى الله عليه وسلم أحرص شيء على تأليف الناس، وأترك شيء لما ينفرهم عن الدخول في طاعته - وهذا أمر كان يختص بحال حياته صلى الله عليه وسلم (¬2). وقال أيضًا: ومن فقه الغزوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل علانية من أظهر الإسلام من المنافقين، ويكل سريرته إلى الله، ويجري عليه حكم الظاهر، ولا يعاقبه بما لم يعلم من سره (¬3). ¬

(¬1) (زاد المعاد 3/ 638، 639). (¬2) زاد المعاد 3/ 567، 568). (¬3) (زاد المعاد 3/ 575).

وفوق ذلك فدونك موقفه صلى الله عليه وسلم مع زعيم المنافقين عبد الله بن أبي حين توفي فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه، وصل عليه، واستغفر له، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه فقال: آذني أصلي عليه، فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر رضي الله عنه، فقال: أليس الله قد نهاك أن تصلي على المنافقين؟ فقال: أنا بين خيرتين قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} فصلى عليه، فنزلت: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} (¬1). وفي الحديث الآخر عن جابر رضي الله عنه قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما دفن، فأخرجه فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه» (¬2). قال أهل العلم: ألبسه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه استصلاحًا للقلوب المؤلفة (¬3) وفصل ابن حجر وغيره من أهل العلم في تعليل موفقه صلى الله عليه وسلم من (ابن أبي) عند موته. قال الحافظ: وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي عمر وصلى عليه إجراءً له على ظاهر حكم الإسلام واستصحابًا لظاهر الحكم، ولما فيه من إكرام ولده الذي تحققت صلاحيته، ومصلحة الاستئلاف لقومه ودفع المفسدة (¬4). وقال الخطابي: إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي ما فعل لكمال شفقته على من تعلق بطرف من الدين، ولتطبيب قلب ولديه عبد الله الرجل الصالح، ¬

(¬1) (الصحيح مع الفتح 3/ 138 ح 1269). (¬2) (رواه البخاري ح 1270، الفتح 3/ 138). (¬3) (الفتح 3/ 138، 139) (¬4) (الفتح 8/ 336).

ولتآلف قومه من الخزرج لرياسته فيهم، فلو لم يجب سؤال ابنه وترك الصلاة عليه - قبل ورود النهي الصريح - لكان سبة على ابنه وعارًا على قومه، فاستعمل صلى الله عليه وسلم أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهي فانتهى. وأخرج الطبري عن قتادة في هذه القصة قال: فأنزل الله {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً .. } قال فذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: وما يغني عنه قميصي من الله، وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه (¬1). إنه التأليف والدعوة والسياسة الشرعية وتغليب المصالح، ودرء المفاسد، فقه التأليف والتسامح أنه فقه قد يغيب ولا بد من إعادته للأذهان، وحين نؤسس لثقافة التسامح والتأليف والعفو، فنحن لا نميع الدين، ولا ننقض عرى الإسلام، نل نستن يهدي خير المرسلين، ونتلمس توجيه السماء {وقولوا للناس حسنًا} {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} {ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك} {فقولا له قولاً لينًا لعله يتذكر أو يخشى}. اللهم ارزقنا الفقه في الدين، والبصيرة بسنن المرسلين، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. ¬

(¬1) (الفتح 8/ 336).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية وحين نتجه إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم وتعامله مع قومه ومن حولهم من المشركين، يتجلى لنا خلق التسامح والعفو والبر والوفاء بكل معانيها، رغم أساليب العنف والكراهية والإيذاء التي صدرت من هؤلاء المشركين، ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق - إلا أن يقولوا ربنا الله، ومع ذلك وحين ظفر النبي صلى الله عليه وسلم بسيد بني حنيفة (ثمامة بن أثال) وكان قد أصاب دمًا في المسلمين، عامله بالحسنى وصفح عنه .. حتى أسلم (ثمامة) متأثرًا بهذه الأخلاق العالية، بل بقي هذا الموقف العظيم من النبي العظيم ماثلاً بين عيني ثمامة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت على إسلامه حين ارتد أهل اليمامة، وكان يردد إنعام النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: أهم بترك القول ثم يردني ... إلى القول إنعام النبي محمد شكرت له فكي من الغل بعدما ... رأيت خيالاً من حسام مهند (¬1) ولا تنتهي قصة العفو والإحسان والبر والتسامح - في قصة ثمامة - عند هذا الحد، بل إن خلق التسامح يتجدد مع قريش ذاتها، فقد هددهم ثمامة بمنع الطعام الذي كان يبعثه لهم من اليمامة قائلاً: «ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم» (¬2). وحانت الفرصة لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يحاصرهم اقتصاديًا وأن يخنقهم معاشيًا وهم مستحقون لذلك وكتبت قريش إلى محمد صلى الله عليه وسلم يتوسلون إليه، ويذكرونه بصلة الرحم - وإن قطعوها هم - فما كان من النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا أن كتب إلى ثمامة ¬

(¬1) (الإصابة 2/ 27، 28). (¬2) (البخاري ح 4372).

أن يخلي بينهم وبين حمل الحنطة إليهم (¬1). إنها أخلاق الأنبياء، وسماحة والإسلام، ويتكرر المشهد مع قريش مرة أخرى، فقد فتحت مكة عنوة ودخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه المغفر، وتحطمت كبرياء قريش، وتحول العزيز إلى ذليل، والمطارد إلى محصور ينتظر ما يفعل به، ولا يزال التاريخ يحفظ تلك المشاهد والكلمات التي أطل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش وهو يقول: «ما ترون أني فاعل بكم» قالوا: خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم، ثم قال وهو في مكان المقتدر وهو سيد الموقف: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (¬2). كم يردد الزمان ويحفظ هذا الوفاء والصفح، وكم تعجز الحضارات - مهما علا شأنها- عن هذا البر والتسامح، إنه الإحسان يزيل البغض وينبت الحب، ولقد سار قطار الإسلام قديمًا وحديثًا يفتح مغاليق القلوب بإذن الله عبر أخلاق المسلمين وإحسانهم وعدلهم وتسامحهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم مثلهم وقائدهم، وصدق الشاعر: يا صاحب الخلق الأسمى وهل حملت ... روح الرسالات إلا روح مختار أعلى السجايا التي صاغت لصاحبها ... من الهدى والمعالي نصبت تذكار ¬

(¬1) (كما في زيادة ابن هشام على رواية الصحيح، انظر الفتح 8/ 88). (¬2) (السيرة لابن هشام 4/ 46، وانظر: أدب المعاملة في السيرة النبوية/ 57).

الجزء الثاني عشر

شعاع من المحراب الجزء الثاني عشر إعداد د. سليمان بن حمد العودة

السلفية المفترى عليه

السلفية المفترى عليه (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ... لقد قام الأنبياء والمرسلون- عليهم الصلاة والسلام- بواجب البلاغ والدعوة لأقوامهم، وكان تصحيح المعتقد مرتكزًا أساسيًا، وهدفًا جوهريًا في دعوتهم وتعبيدهم لربِّ العالمين {أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}، وكانت هذه الغاية النبيلة في تصحيح المعتقد وتوحيدِ الله والإخلاص في عبوديته هما مشتركًا بين المرسلين {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]. ولقد واجه المرسلون- في سبيل تحقيقها- المصاعب والمتاعب والصدود والإنكار والسخرية والأذى، وهاتان أمتان قديمتان- بعد نوح- قالت أولاهما (كنموذج للإعراض والأذى) {قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} [الأعراف: 70]، {قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين} [الأعراف: 66]، وإذا كان هذا منطق عادٍ مع هود عليه السلام، فكذلك كان منطق ثمود مع صالح {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 18/ 5/ 1432 هـ

بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 75 - 79]. واستمر منطق الإنكار والجحود حتى كان العهد بآخرِ المرسلين محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأعاد قومُه منطق وجحود وإنكار السابقين {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} [ص: 5 - 7]. ولئن مات المرسلون وهم يجاهدون في سبيل تحقيق هذه الغاية الكريمة، وقد أنقذ الله بهم أممًا، وأحيا بدعوتهم قلوبًا غلفًا- إلى جانب الذين كفروا وجحدوا وأنكروا وسخروا- فقد انتقلت المسؤولية من بعدهم إلى العلماء - إذ هم ورثة الأنبياء في العلم والدعوة- وقام العلماء بمسؤوليتهم عبر القرون يجددون للناس ما اندرس من معالم النبوة وأركان الملة، وكان الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله واحدًا من هؤلاء الأعلام المجددين، وقد دهى الجزيرة في زمنه أمرٌ خطير في جوانب المعتقد والسلوك والدعوة والعلم، حيث فشى الشرك وعُبدت الأشجارُ والأحجار من دون الله، وشُيِّدت القبور وطاف الناس بها، وقُدمت النذور لغير الله، وانتشرت الخرافاتُ والبدع، وانحرف سبيل الدعوة، وأصاب طائفة محسوبة من العلماء ما أصاب غيرهم من الانحراف والترويج للباطل. وكان لا بد من كلمة حق، وداعية حق، وصرخة محق في دياجير الظلم، فكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكانت دعوته الإصلاحية نصرة للحق، لم يأت بدين جديد كما يزعم المغرضون، ولم ينتحل مذهبًا غريبًا كما زعم الخصوم، لكن جدّد ما اندثر، ووصل الأمةَ بالكتاب والسنة، واسترشد بمؤلفات العلماء الرّبانيين كالأئمة الأربعة وابن تيمية وابن القيم وغيرهم من

علماء الأمة في القديم والحديث، فأرشدته إلى السلفية الحق، وكتُبه المطبوعة ورسائلُه المنتشرة تشهد على صحة معتقده، وكما حُورب الأئمة من قبلهم في زمنهم من قبل أهل الأهواء والبدع، فقد حُورب الإمام محمد بن عبد الوهاب واتهم وطُرد، وانتقل من بلدٍ إلى بلد، حتى هيّأ الله له الإمام محمد بن سعود فناصره وآزره، والتقى سلطان القرآن والسيفِ معدًا، فكان لهما أبلغ الأثر، فلم يتركا زيفًا ولم يتركا خرفًا كما قال الشاعر: هما السيفُ والقرآن قد حكما معًا ... فلم يتركا زيفًا ولم يتركا خرفًا إن ما نشهده اليوم من هجوم على الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب إنما هو هجومُ جاهل، بل هو مناكفة وهجومٌ على الدعوة السلفية برمتها، والتي تعتمد في أصولِها وفروعها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحارب البدع والخرافات، وتنعى على أئمة الخرافة والدروشة، ولكن هذه الدعوة بصفائها وصدق دعاتِها بلغت الآفاق، وأصبحت كالشمسِ لا يمكن حجب نورها، وإذ شاء الله أن تخترق الدعوة السلفية حدودَ الجزيرة العربية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب لا يزال حيًا، لتصل إلى الهند والسند وأفريقيا، فقد امتدت الدعوة السلفية بعدُ لتعبر القارات، وتصبح منهجًا للمعتقد الصحيح في رقعةٍ فسيحة من أرض الله، وغدت السلفية بفضل الله منهجًا للتعلّم والتعليم، والدعوة والإصلاح، والتربية .. لها ينتصر العلماء، وتؤلف الكتب، وتعقد الندوات والمؤتمرات، بل وتقام الجامعات والمعاهد والمدارس. وفي ظل هذا الانتشار السلفي لا يسوغ تجهيلُ الناس بهذه العقيدة، ولا الشغبُ على رجالاتها والمجددين فيها، ولا يسوغ الافتراء والتهم والتعيير في زمنٍ يملك الحقيقة كلُّ الناس عير نوافذ الكتب المؤلفة، ووسائل الإعلام، وأساليب التقنية التي تنشر الحقيقة، وتحتفظ بمؤلفات علماء الدعوة السلفية، المُقتدون بالسلف ليسوا أصحابَ فتنة، وليسوا عملاء للشرق والغرب كما يزعم

المغرضون. أو الجاهلون من أهل الأهواء ومن يتجرأ ليقول أن محمد بن عبد الوهاب عميل للإنجليز؟ وكم هي مفارقة عجيبة أن نجد من علماء الغرب من يتصف محمد بن عبد الوهاب ويثني على دعوته وهم غير مسلمين، بينما نجد من يتهم ويفتري عليه الكذب من المسلمين؟ ودونهم هذا النموذج العربي المنصف يقول لوثروب: وبينما العالم الإسلامي مستغرق في هجعته، ومنزنح في ظلمته إذا بصوت يدوي في قلب الصحراء في شبه الجزيرة العربية، مهد الإسلام فيوقظ المؤمنين ويدعوهم إلى الإصلاح والرجوع إلى سواء السبيل والصراط المستقيم، فكان الصارخ بهذا الصوت إنما هو المصلح المشهور محمد بن عبد الوهاب (حاضر العالم الإسلامي) ج 1 ويقول جولد زيهر: يجب على من نصب نفسه ليحكم على الحوادث الإسلامية أن يعتبر الوهابيين أنصارًا للرئاسة الإسلامية على الصورة التي وضعها النبي والصحابة (¬1). إن تطاول على السلفية الحقة جاهل فتلك مصيبة، والمصيبة أعظم حين يتطاول عليها عالم مطلع يملك أدوات البحث ويفرق بين الحق والباطل، وإن تطاول على السلفية أصحاب مذاهب منحرفة وطوائف مختلفة الفكر والمعتقد فالمصيبة أعظم إن جاء الهجوم على السلفية (الحقة) من أهل السنة والجماعة، ولئن جاء الهجومُ على السلفية من قبل الرعاع والجهلة فالمصيبة أعظم حين يدخل على الخط في الهجوم على السلفية منابرُ علمية، ومؤسسات دينية لها في العلم والمعرفة تاريخ، ولها في العالم الإسلامي مكانة وأثر. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}. ¬

(¬1) عن كتاب محمد بن عبد الوهاب لمؤلفه: سليمان الحثيل/ 215.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية السلفية الصحيحة وسط في المعتقد بين الجفاة والغلاة، وبين أهل التعطيل لأسماء الله وصفاته- حيث ينكرون ما ثبت- وبين أهل التمثيل الذين يشبهون الله بخلقه في الصفات- تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا-. السلفية وسط في الاستدلال والموازنة بين النقل والعقل، فهم لا ينكرون دورَ العقل في الفهم والاستنباط، ولكنهم يعظَّمون النصَّ الشرعي، وإن عجزت عقولهم أحيانًا عن إدراكه، ويرون ألا تعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح. السلفيون المقتدون وسط في نظرتهم وتعاملهم لأهل الانحراف بين الفكر الخارجي المكفر بالكبيرة، وبين الفكر الإرجائي المتساهل لدرجة المداهنة وغياب الولاء والبراء، وعدم الإنكار على المخالف بالحكمة والموعظة الحسنة. السلفية باختصار مدرسة تعتمد الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة منهجًا لها في العمل وطريقة في التفكير. وأفرادُ السلفية بشرٌ غير معصومين من الخطأ، ولئن أخطأ منتسب للسلفية فينبغي أن يرد خطؤه ولا تُرمى السلفيةُ بالخطأ. ولئن تسمى بالسلفية من حمل فكرًا منحرفًا، أو سلوكًا خاطئًا فتلك أخطاء المنتَسبين وليست انحرافًا في المنهج السلفي. ومهما وقع النزاع بين أهل السلفية وبين الأشاعرة فلا ينبغي أن يتجاوز الخلاف الفقهي إلى الاختلافِ في المعتقد، فكلهم ينتمي إلى أهل السنة والجماعة فأصولُ الأئمة الأربعة في المعتقد متفقة، وينبغي ألا يغيب أن ثمة

دعوات طائفية مغرضة اليوم تدعوا إلى فصل السلفية عن بقية أهل السنة والجماعة وتتبنى الهجوم عليها حتى يسهل اختراق الأمة، وزرعُ البغضاء بين أبناء الملة الواحدة والسلفيةُ لا تتخذ من مناكفة الحكام غرضًا وهدفًا، بل ترى الطاعة للوالي بالمعروف، لكنها في الوقت نفسه ليست مرتقىً سهلًا يمتطيه الساسةُ في أوقات الحاجة لترويج مشاريعهم المنحرفة، وتخويف الساسة الغربيين بهم مستقبلًا، إن حلّت بهم كارثة أو ثارت عليهم شعوبهم. وحين يشغبُ على السلفية مسلمون، ويرميهم بالطعون موحدون يبقى الغربُ- ومع كل أسف- أبصر من هؤلاء بحقيقة السلفية ودورها وأثرها، ولذا تراهم يتخوفون منها لعلمهم بأصالة منهجها وثبات معتقدها، وقدرتها على التغيير والتأثير. لا غرابة أن يُهاجم الغربُ السلفية، وأن يشوِّهوا صورة السلفيين، فهم السلفيون أكثر من غيرهم معرفة بالغرب وأهدافه، وهم أكثرُ الناس بغضًا للغرب لعداوتهم القديمة المتجددة على المسلمين، والغربُ يدرك أن المنهج السلفي أكثرُ ثباتًا وتوازنًا من غيره، وإذا طوّع الغربُ المناهج والمذاهب الأخرى لسياسته وأهدافِه بقي المنهج السلفيُ عصيًا على الذوبان، مستمرًا في حراسة الحصون، لهذه الأسباب وغيرها يكره الغربُ الإسلام عمومًا، والمنهج السلفي خصوصًا. أيها المسلمون في زمن محاربة الفساد ينبغي أن يحتل محاربة الفساد العقدي موقعًا مهمًا من المصلحين فهو لا يقل أثرًا عن الفساد المالي والإداري. وفي زمن الفتن والابتلاء والفرقة والضَعف لا ينبغي أن نزيد في ضعفنا، ونفرق صفّنا، ويشتغل بعضُنا ببعض، والكاسبُ هو العدوُ المتربصُ، إن كان ظاهرًا أو منافقًا. وعلى السلفيين أن يحملوا المنهج السلفي بكل وسطية واعتدال للآخرين،

وأن يفخروا ولا يتكبروا، وأن ينفتحوا ولا ينغلقوا، وأن يُبشروا ولا ينفروا، وألا يحتكروا المنهج بل ينشروه، وألا يتيحوا فرصةً للعدو يتسلل منها، لضعفِ سلفيتِهم، أو لقصورٍ في التبشير بمعتقدهم، وينبغي أن يكونوا على يقين أن البقاء للمنهج الحق، وأن جمعَ الكلمة على الحق والخير شعارٌ في هذه المرحلة، وعلى المسلمين عمومًا أن يصبروا ويصابروا ويرابطوا ويتقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم، فالنصر قريب، وجند الله هم الغالبون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون.

الصفويون -تاريخ وعقائد وأهداف؟

الصفويون (¬1) -تاريخ وعقائد وأهداف؟ (¬2) الخطبة الأولى أيها المسلمون في هذه الأيام ترتفع لغة الصفويين تارة بالاستنكار لما أسرفت عنه الأحداث في الخليج (وخاصة البحرين) وتارة بالتهديد والإرجاف في المنطق وفي هذه الأيام كذلك يتضاعف النشاط الرافضي في تصدير الثورة المزعومة وأحداث بلبلة هنا ومشكلة هناك .. ومن أرض الرافدين إلى لبنان- والبحرين واليمن وأفريقيا، وأندونيسيا- والجمهوريات الإسلامية وغيرها يمتد النشاط الرافضي ويتحرك الصفويون .. ومن هنا لا بد من كشف الحقائق، وإظهار الحق حتى لا تلتبس الأمور وهناك قضايا ثلاث من المهم إيضاحها. الأولى: من هم الصفويون، وما تاريخهم، وما هي آثارهم في إيران؟ الثانية: عن حقيقة الثورة الخمينية وعلاقتها بالغرب عمومًا وبأمريكا خصوصًا؟ الثالثة: ما هي أطماع الرافضة في المنطقة وكيف يواجهون؟ أما الصفويون فهم سلالة من سلالات ملوك فارس بعد الفتح الإسلامي، أسس دولتهم في أذربيجان إسماعيل الصفوي عام 900 هـ 1500 م ثم بسط نفوذه على شروان والعراق وفارس، واتخذ من (تبريز) عاصمة لدولته، أعلن إسماعيل الصفوي أنه سليل الإمام السابع (موسى الكاظم) وإن التشيع هو دين الدولة، وحارب أهل السنة الذين كانوا الأكثرية في البلاد التي سيطر عليها، وبلغت دولة ¬

(¬1) تمت الاستفادة بشكل كبير من كتاب: «وجاء دور المجوس» د. عبد الله الغريب. (¬2) ألقيت هذه الخطبة في 4/ 5 / 1432 هـ.

الصفوين أوج تفوقها في عصر الشاه (عباس الصفوي) (1588 - 1629) والذي استعان بالإنجليز وجعل منهم مستشاريه، وحارب الدولة العثمانية مستغلًا ضعفها وانشغالها، وعمل الصفويون على تحويل الحجاج الإيرانيين من مكة إلى (مشهد)، وقد حج الشاه عباس نفسه سيرًا على الأقدام من (أصفهان) إلى (مشهد) زيادة في تقديسه لضريح الإمام (علي الرضا) المزعوم ومنذ ذلك الحين أصبحت (مشهد) مدينة مقدسة عند الشيعة الإيرانيين .. وباختصار أقام الصفويون دولة فارسية باطنية حاربت المسلمين السنة في إيران، وتعاونوا مع أعداء الله، وبنت الكنائس وقلصت المساجد في إيران حتى قضى عليهم العثمانيون والأفغان عام 1722 هـ بعد أن حكمهم أكثر من قرنين من الزمان، حافلة بالفساد، وخلفهم شيعة آخرون في أسرتي (الأفشار) و (القاجار) حتى انتهى الحكم في إيران إلى أسرة (بهلوى) والذين كان منهم شاه إيران الأخير، والذي أسقطت حكمه ثورة الخميني .. وما أدراك ما ثورة الخميني؟ تلك التي خدع بها بعض الناس في بداية عهدها، وخطابات وتهديدات خمينيها .. ثم تكشفت الأحوال .. عن عمالة أصحاب العمائم للغرب .. وكشفت الوثائق والمقابلات والزيارات السرية أن الغرب وأمريكا على الخصوص .. هو مهندس هذه الثورة. فالخميني يقيم قبل ثورته في (فرنسا) وأمريكا (جيمي كارتر) هي التي مهدت له الوصول إلى حكم إيران، بل ومنعت أمريكا وعن طريق سفيرها في إيران من ثورة جنرالات الجيش الإيراني التي كانت ستسحق حركة الخميني .. وكانت حركة احتلال السفارة الأمريكية في طهران واحتجاز العاملين فيها مسرحية مكشوفة تشبه إلى حد كبير

(الخلاف الوهمي بين إيران وأمريكا على التسليح النووي اليوم) فكلها استهلاك إعلامي وخداع ظاهر، أكثر من واقع. ولئن كان العجب كبيرًا من دعم الغرب باطنًا لإيران في ثورة الخميني وهو الذي ملأ الدنيا بالتهم على الإمبرالية والشيطان الأكبر في الظاهر .. فالعجب أكبر حين تكشف مجريات الأحداث والعلاقات عن علاقة حميمة سيئة ومشبوهة بين دولة الملالي .. والنظام الشيوعي في إيران ممثلًا في حزب (ثورة) الشيوعي ومن خلفه في الاتحاد السوفيتي .. وهنا تثور الأسئلة كيف لنظام يدعي الشرعية وولاية الفقيه ومحبة آل البيت .. ثم هو يتعاون مع الغرب النصراني العلماني، وتحسن علاقته مع النظام الشيوعي الملحد؟ والجواب باختصار أنها دولة الملالي .. القائمة على معتقد التقية، والطعن في الصحابة وتنقص الكتاب والسنة، والبغض لأئمة أهل السنة وعامتهم .. لا يستعرب من صنيعها وتناقضاتها إلا جاهل بعقائد القوم .. غافل عن مخططات الصفويين، وأهدافهم والتاريخ سجل حافل وشاهد على مثل هذه التحالفات الباطنية في القديم والحديث بين أصحاب الرفض وأعداء المسلمين .. وهذه نماذج منها. فقد استخدم التتار (الرافضة) في أبشع مجزرة شهدها التاريخ وسقطت الخلافة الإسلامية (العباسية) بمؤامرة (نصير الكفر الطوسي الرافضي) مع هولاكو التتري في إبادة المسلمين في بغداد كما استخدمهم النصارى في الحروب الصليبية المشهورة، وتطوع النصيريون (لسياطنيون) تقاتلوا المسلمين في بلاد الشام .. وعملت دولة العبيديين الأفاعيل في مصر والشام وثبتت أقدام النصارى، واستوزرت اليهود، في الوقت الذي كانت تعلن سب الصحابة على المنابر واستخدمهم البرتغاليون والإنجليز ضد الدولة العثمانية، ولعب الصفويون

دورًا خبيثًا في تمكين المستعمرين في ثغور المسلمين .. واليوم تكشف الوثائق واللقاءات السرية عن علاقات خبيثة وسرية بين الرافضة الصفويين في إيران وبين العدو الصهيوني في فلسطين، كما كشفت عن علاقات وتحالفات غادرة مع الغرب، وكتاب (التحالف الغادر) (¬1) يكشف هذه التحالفات الخفية وإنما فسدت المعتقدات، وانحرفت الأصول فلا يستغرب معها- أي خيانة- أو فساد في الأرض، وصدق الله {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ}. ¬

(¬1) وهو كتاب مطبوع ومترجم ومتوفر في الشبكات العنكبوتية.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى. أيها المسلمون سبق القول أن خلافنا مع الرافضة خلاف في الأصول وليس في الفروع، فعقيدتهم في القرآن والسنة والصحابة وأعلام الملة، تختلف بأصولها عن عقائد أهل السنة والجماعة، وتعاملاتهم بالتقية وتذرعهم بالنفاق والخداع .. كل ذلك مما تفيض به كتبهم ويشهد الواقع على صدقه، ومن عاشرهم أو اقترب منهم عرف ما يبطنون من غل وحقد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما الرافضي فلا يعاشر أحدًا إلا استعمل معه النفاق، فإن دينه الذي في قلبه دين فاسد يحمله على الكذب والخيانة وغش الناس، وإرادة السوء بهم، فهو لا يألوهم خبالًا ولا يترك شرًا يقدر عليه إلا فعله بهم .. الخ (¬1). وهذا الشوكاني عاشرهم باليمن وتحدث عن تجربته معهم ثم قال: «ولقد جربنا هذا تجريبًا كثيرًا فلم نجد رافضيًا يخلص المودة لغير رافضي وإن آثره بجميع ما يملكه .. ولم نجد في مذهب من المذاهب المبتدعة وغيرها ما نجد عند هؤلاء من العداوة لمن خالفهم، ولم نجد عند أحد من التحري على شتم الأعراض المحترمة، فإنه يلعن أقبح اللعن ويسب أفظع السب .. ولعل سبب هذا والله أعلم أنهم لما تجرأوا على سب السلف الصالح هان عليهم سب من عداهم، ولا جرم فكل شديد ذنب يهون ما دونه (¬2). عباد الله- قوم تلك بعض معتقداتهم- وأساليب تعاملاتهم لا يؤمنون .. فكيف إذا كان لهم أطماع وأهداف وأذرعة ووسائل يصدرون بهم ثورتهم، ¬

(¬1) (منهاج السنة 3/ 260). (¬2) (طلب العلم/ 70، 71 عن أصول مذهب الشيعة للعقاري 3/ 1228).

ويحاولون من خلالها نشر مذهبهم وأفكارهم إن من الأمور التي بات يعرفها العامة فضلًا عن الخاصة أن للرافضة أطماعًا في الخليج ابتدأ من إصرارهم على تسمية بالخليج الفارسي، ومرورًا بأحداثهم الشغب في عدد من دول الخليج، ورفعهم مطالبات تثبت وجودهم وتدعم تمكنهم .. وقد تبين من الأحداث أن الدول التي سارعت في التنازلات لمطالبهم تحملت تبعات ذلك في قوة شوكتهم وفي البحرين واليمن ولبنان نماذج واضحة لتحمل هذه التبعات. أما مواقعهم الإلكترونية وقنواتهم الفضائية فهي لا تخفى على المطلعين في نشر مذهبهم والطعن في غيرهم وللرافضة أذرعة سياسية تتخذ من القوة والتسليح المنظم أسلوبًا لنشر الرفض وخدمة الصفويين في إيران- وحزب اللات- والحوثيون، وفي العراق وأفريقيا، وباكستان، والأفغان وأندونسيا نشاط ومندوبون للرافضة، وهذا كله يحذر ولا يخوف مع بذل الجهد في المقابل واستشعار ضعف كيد الشيطان، ومعية الله للمؤمنين. إن مطامع القوم وأهدافهم تختلط فيها الدعوة للمذهب، إلى إثارة القلق والشغب، إلى امتلاك السلاح والتدريب، وتزعم الثورات، وإعلان المظاهرات، ورفع سقف المطالب حتى يتسنى لهم ما دونها .. وهكذا .. يدوم القوم أن يتحول الهلال الرافضي إلى بدر، ويمكرون ويمكر الله .. ولقد طالبوا من قبل ومن بعد بضم جزر في الخليج ذات مواقع استراتيجية، وقد احتلوا الجزر الثلاثة (طنب الكبرى، والصغرى، وأبي موسى) بل تجرأوا أكثر وأعلنت إيران عام 1957 م إلحاق البحرين بالتقسيمات الإدارية لإيران معتبرة إياها المحافظة الرابعة عشرة، ثم خصصت عام 1958 م مقعدين في برلمانها للبحرين ومنعت إيران البحرين من الاشتراك في منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) أما قصة الصفويين مع الأحواز، وتهجيرهم للعرب، واعتداؤهم على

العربية وفرض الفارسية، وظلم أهل الأحواز بشكل عام. فهو من السود بمكان .. لا سيما إذا علم أن الأحواز أقرب للعراق منها لإيران، فهي اقرب لسهول العراق، وقد سكنها العرب منذ أقدم العصور، وفتحها المسلمون عام (17 هـ) أيام عمر رضي الله عنه وألحقت إداريًا بالبصرة وكانت تسمى (أهواز العراق) والفرس هم الذين غيروا اسمها إلى الأحواز لعجمتهم في نطق الحاء هاء، ثم أطلقوا عليها اسمًا فارسيًا (خوزستان)، ولا يزال أهل الأهواز يعيشون حالة الظلم والتهجير .. بل يعيش أهل السنة بشكل عام في إيران في ظروف صعبة .. فرج الله همهم وعجل بفرجهم. إخوة الإسلام يصعب في عجالة الإحاطة بمطامع الصفويين ولكن الوقوف على مخططهم في الأفكار والخطط المكتوبة (كالخطة الخمسينية لإيران) أو الاستبصار بتحركاتهم ونشاطهم يدرك خطر هذه المطامع ولذا يحتاج الأمر إلى موقف بل مواقف، تبدأ بمعرفة عقائد الرافضة وما يبطنون لأهل السنة ثم كشف زيف هذه المعتقدات- ليس فقط لأهل السنة- بل ولأبناء الرافضة الذي يغررهم وتوغر صدورهم ضد خيار الأمة، ومصادر التلقي الحقيقية، ثم يتبع ذلك دعوة لأبناء الرافضة للرجوع للحق وسلوك سبيل الجماعة ونبذ الفرقة، ومع ذلك لا بد من الحذر والاستعداد لأي تحركات مشبوهة .. إن الخطر الصفوي اليوم لا تكفي نحن الجهود الفردية، بل لا بد من جهود جماعية وعلى مستوى الأفراد والدول وحيث كان مشروع درع الجزيرة خطوة رائدة لإنقاذ البحرين بل والخليج من الامتداد الصفوي، فالمأمول أن تبعية خطوات في ذات الاتجاه، كتشكيل القوى العسكرية المستديمة لوقف الزحف الصفوي، وإنشاء مراكز البحوث والدراسات لكشف الفكر الصفوي الرافضي، واعتماد سياسات وبرامج من شأنها أن تحمي المنطقة وأبناءها من فتن الروافض

الحاضرة والمستقبلة .. وبكل حال فالمسئولية فردية وجماعية والخطر قديم يتجدد، ومن قراء كتاب (وجاء دور المجوس) وهو كتاب صدر قبل ثلاثة عقود، عرف مكمن الخطر وأدرك أن السياسات الرافضية الفارسية الصفوية تترجم إلى عمل، فكيف لو قدر لمؤلف الكتاب أن يكتب عن دورهم بعد هذا الزمن .. وأخيرًا- أيها المسلمون- فالتقوى فرقان، واجتماع الكلمة قوة، والوعي خطوة مهمة لدفع البلايا والشرور، والقوة في نشر الحق سبيل للكشف الباطل، والعاقبة للتقوى وللمتقين، وإن جندنا لهم الغالبون ذلك وعد صادق غير مكذوب .. اللهم انصر دينك وعبادك الصالحين ..

معاوية رضي الله ستر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحلقة الباب؟

معاوية رضي الله ستر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحلقة الباب؟ (¬1) إن الحمد لله نحمده ونستعينه .. إخوة الإيمان .. صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا بحاجة إلى تزكية من أحد بعد تزكية الله لهم في أكثر من موضع من كتاب الله، وهذه التزكية شاملة لمن سبق منهم بالهجرة والإيمان أو من تبعهم بإحسان- وإن تفاوتوا في الأفضلية فقد رضي الله عنهم ورضوا عنه {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. كما جاء الثناء على كل من كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم والوعد بالمغفرة والأجر العظيم {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} .. إلى قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [محمد: 29]. وليس لأحد أن يتطاول على أحد منهم وقد أحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأحبوه، وصحبهم وصحبوه، وجاهدوا معه وعزروه ووقروه ونصروه وأثنى عليهم وشهد بخيريتهم ونهى عن القدح في أحد منهم وأكد الصحابة ذلك وبينوه، حتى قال ابن عمر-بسند صحيح- «لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره» (¬2). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 10/ 4/ 1431 هـ. (¬2) (عن أحمد في الفضائل 1/ 57، وابن ماجه (162) العلوان .. الاستنصار/ 11).

ألا وإن من أكبر الظلم وأسوأ الجهل احتراف تنقيص الصحابة والطعن فيهم، وتشكيك الناس في إيمانهم وجهادهم .. وحين يعلن المنكر، ويجهر بالسوء في المنابر الإعلامية والفضائيات والمواقع الالكترونية، يصبح لزامًا على أهل السنة الدفاع عن أعراض الصحابة، وبيان مناقبهم، حتى لا يشيع المنكر، ويضلل العوام، ويعتدى على العظماء. إخوة الإسلام تعالوا بنا لنسلط الضوء على واحد من هؤلاء الصحابة ربما يكون ناله من الطعن والسب- أكثر من غيره ولندرك كيف يراد أن يكون الطعن فيه وسيلة إلى غيره، ولئن كنا لا ننزه أحدًا من البشر من الخطأ .. فثمة حسنات ماحيات، وثمة مقامات ورتب لا بد أن نقدرها ونضعها في الموضع الصحيح. معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما مؤسس الدولة الأموية معاوية واحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثنى القرآن على الصحابة عمومًا، وشملهم بالخيرية والفضل من آمن وأنفق قبل الفتح أو بعده - وإن تفاضلوا وتقدم بعضهم على بعض في الفضيلة والأجر- فقد كان ذلك مع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}. ومن المقرر في عقائد أهل السنة والجماعة حب الصحابة جميعًا والترضي عنهم والكف عن سبهم «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ قد أحدهم أو نصيفه» (متفق على صحته) وقد عد أهل العلم سبهم أو تنقصهم زندقة وانحرافًا فقد جاء في كتاب (الإمامة) للإمام أبي نعيم الأصبهاني: «لا يبسط لسانه فيهم إلا من ساءت طويته في النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته والإسلام والمسلمين (¬1). ¬

(¬1) (ص 376) [ع: سليمان العلوان الاستنفار للذب عن الصحابة الأخيار/ 4].

وقد أنكر إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله على من جمع الأخبار التي فيها طعن على بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغضب لذلك غضبًا شديدًا وقال: «لو كان هذا في أفناء الناس لأنكرته فكيف في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم» .. فقال له المروذي: يا أبا عبد الله فمن عرفته يكتب هذه الأحاديث الرديئة ويجمعها، أيهجر؟ قال: نعم، يستأهل صاحب هذه الأحاديث الرديئة الرجم (¬1). وقد كشف الإمام أبو زرعة عن هوية وأهداف القادحين في الصحابة فقال: إذا رأيت الرجل ينتقض أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة (¬2). وقد اتفقت الأمة وأهل العلم في مقدمتهم على خيرية الصحابة، بل شهد لهم الرسول بذلك حين قال «خير الناس قرني» متفق عليه (ومعاوية) معدود في أولئك القرن، بل معاوية شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم (حنين) فدخل في جملة المؤمنين الذين وصفوا بالإيمان، وشهد القرآن بإنزال السكينة في قلوبهم {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} إلى قوله: {ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .. فمعاوية داخل في هذه الأوصاف لشهوده الواقعة ومن وصفه بالنفاق أو الفسوق بعد شهادة القرآن له ولأمثاله بالإيمان فقد افترى إثمًا عظيمًا واحتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا. بل لقد استنبط العلماء معنى دقيقًا، وفضلًا واسعًا للصحابة من قوله تعالى: ¬

(¬1) (رواه الخلال في كتاب: السنة 3/ 501 بسند صحيح (العلوان/ 8، 9). (¬2) (رواه الخطيب في الكفاية في علم الرواية 97، وابن عساكر في تاريخه 38/ 32).

{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. وقالوا: إن المراد بالذين يتبعوهم بإحسان: هم الذين تأخر إسلامهم من الصحابة، ومما قاله الحافظ العلائي في كتاب (تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة/ 63) [إن الآية تدل على أن المراد بالذين اتبعوهم بإحسان هم بقية الصحابة الذين تأخر إسلامهم، فشملت الآية جميع الصحابة]. والحديث في ذلك يطول (أعني في فضل الصحابة ومنزلتهم ومعنى الصحبة .. فثمة كتب وفصول في كتب السنن والعقائد والتراجم تحدثت عنه) لكن ثمة فضائل ومناقب لمعاوية رضي الله عنه تخصه بالفضل وتثبت له عظيم القدر فإلى شيء من ذلك. 1 - في تاريخ إسلامه .. لئن كان المشهور أنه أسلم عام الفتح فالذي يظهر أنه أظهر إسلامه يوم الفتح- وإلا فقد وقع الإسلام في قلبه قبل ذلك، ولندع معاوية يحدثنا عن إسلامه كما روى ابن جعد حين يقول: لما كان عام الحديبية، وصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت، وكتبوا بينهم القضية وقع الإسلام في قلبي، فذكرت ذلك لأمي فقالت: إياك أن تخالف أباك فأخفيت إسلامي، فوالله لقد رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية وإني مصدق به، ودخل مكة عام عمرة القضية وأنا مسلم، وعلم أبو سفيان بإسلامي فقال لي يومًا: لكن أخوك (يزيد) كما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 8/ 127) خير منك وهو على ديني، فقلت: لم آل نفسي خيرًا وأظهرت إسلامي يوم الفتح، فرحب بي النبي صلى الله عليه وسلم وكتبت له (¬1). ¬

(¬1) (الطبقات 7/ 406، ابن عساكر 16/ 339).

ولهذا قال الذهبي في ترجمته (قيل إنه أسلم قبل أبيه وقت عمرة القضاء، وبقي يخاف من اللحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أبيه، ولكن ما أظهر إسلامه إلا يوم الفتح) وانتقد الذهبي رواية الواقدي التي يشير إلى أن معاوية شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينًا، فأعطاه من الغنائم مائة من الإبل وأربعين أوقية، وقال: الواقدي لا يعي ما يقول، فإن كان معاوية كما نقل قديم الإسلام، فلماذا يتألفه النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان أعطاه، لما قال عندما خطب فاطمة بنت قيس «أما معاوية فصعلوك لا مال له» (¬1). ويقرر الحافظ ابن حجر إسلامه قبل الفتح ويقول: أسلم قبل الفتح، وأسلم أبواه بعده، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم وكتب له (¬2). 2 - ولمعاوية رضي الله عنه مكانة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه، فقد ثبت كما في صحيح مسلم أنه جعله كاتب وحيه - ضمن من كانوا يكتبون الوحي لهذه المهمة العظيمة، وأكرم بهذه المهمة .. ولم يزل في هذه المهمة الشريفة والمنقبة العلية حتى فارق النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا (¬3). 3 - ومكانه عند كبار الصحابة، فقد استعمله عمر على دمشق، بل قال خليفة بن خيار -وهو من قدماء المؤرخين الثقات- إن عمر جمع الشام كلها لمعاوية، وأقره عثمان، وإن قيل إن عثمان هو الذي ولاه الشام كلها. 4 - ولمعاوية - رضي الله عنه - مكانة عند علماء الملة ولنسمع إلى هذا الثناء على معاوية من الذهبي حيث يقول: وحسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على إقليم- وهو ثغر- فيضبطه، ويقوم به أتم قيام، ويرضي الناس بسخائه وحمله، وإن كان ¬

(¬1) (السير 3/ 122). (¬2) (الفتح 7/ 104). (¬3) (العلوان/ 32).

بعضهم تألم مرة منه وكذلك فليكن الملك، وإن كان غيره من الصحابة خيرًا منه وأفضل وأصلح، فهذا الرجل ساد، وساس العالم بكمال عقله، وفرط حلمه وسعة نفسه وقوة دهائه ورأيه، وله هنات وأمور، والله الموعد (¬1). بل قرر شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه أفضل ملوك هذه الأمة وقال: اتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك، كان ملكه ملكًا ورحمة- كما جاء الحديث: «يكون الملك نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة .. » وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين ما يعلم أنه كان خيرًا من ملك غيره (¬2). وأثنى الحافظ بن كثير على معاوية بقوله: انعقدت الكلمة على معاوية، وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين، فلم يزل بالأمر مستقلًا إلى سنة وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل وصفح وعفو (¬3). على أن معاوية رضي الله عنه كان محل ثناء ورضى عند جمهور الصحابة: أ- فابن عباس رضي الله عنهما- كما في صحيح البخاري- يشهد له بفضل الصحبة ويقول لمولاه «دعه فإنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم» (ح 3764) ثم يشهد له بالفقه في الدين فقد قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة قال: إنه فقيه (¬4). ¬

(¬1) (السير 3/ 132، 133). (¬2) (الفتاوى 4/ 478). (¬3) (البداية والنهاية 8/ 129). (¬4) (صحيح البخاري ح 3765).

ب- وأبو الدرداء رضي الله عنه يقول: ما رأيت أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من أميركم هذا يعني معاوية (¬1) (رجاله ثقات: السير 3/ 135). جـ- وشهادات أخرى من جماعة من التابعين فقد سئل المعافي بن عمران: أين عمر بن عبد العزيز من معاوية؟ فغضب من ذلك غضبًا شديدًا وقال: لا يقاس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا، أما معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله عز وجل (¬2). د- وعن جبير بن نفير: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير ومعه جماعة، فذكروا الشام، فقال رجل: كيف نستطيع الشام وفيه الروم؟ قال: ومعاوية في القوم وبيده عصا، فضرب بها كتف معاوية، وقال: يكفيكم الله بهذا (¬3). وإذا كان قيل هذا الأثر مؤشرًا إلى ولاية أو خلافة معاوية .. فثمة ما هو أصرح من ذلك، فقد روى أحمد في المسند بسنده أن معاوية أخذ الإداوة وتبع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه إليه وقال: يا معاوية: إن وليت أمرًا فاتق الله وأعدل، فما زلت أظن أني مبتلى بعمل لقول رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم حتى ابتليت) (¬4). قال الذهبي: ولهذا طرق مقاربة ثم ساق حديثًا آخر عن معاوية أنه قال: والله ما حملني على الخلافة إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم يا معاوية: إن ملكت فأحسن (قال الذهبي: ابن مهاجر ضعيف، والخبر مرسل (¬5). ¬

(¬1) وأبو هريرة رضي الله عنه كان يمشي في سوق المدينة وهو يقول: «ويحكم تمسكوا بصدغي معاوية، اللهم لا تدركني إمارة الصبيان» (ابن منظور: مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر 25/ 79 عن د. عبد الله الخرعان: أثر العلماء في الدولة الأموية/ 84). (¬2) (ابن عساكر في التاريخ 59/ 208). (¬3) (قال الذهبي: وهذا مرسل قوي: السير 3/ 127). (¬4) المسند 4/ 101، ورجاله ثقات. (¬5) (السير 3/ 131).

وقد حسن الترمذي حديثًا قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن معاوية: «اللهم اجعله هاديًا مهديًا، واهد به» (¬1). وبالجملة فقد أدركت خلافة معاوية جمعًا من صحابة رسول الله فأثنوا وما اعترضوا، حتى قال الأوزاعي رحمه الله: أدركت خلافة معاوية عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم: سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وجابر بن عبد الله وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وسلمة بن خالد، وأبو سعيد الخدري، ورافع بن جدع، وأبو أمامة، وأنس بن مالك، ورجال أكثر مما سميت بأضعاف مضاعفة .. كانوا مصابيح الهدى، وأوعية العلم .. ومن التابعين كالمسور (¬1)، وعروة .. لم ينزعوا يده عن مجامعة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم (¬3). أحاديث في ذم معاوية باطلة: أما ما جاء من أخبار في ذم معاوية والتنقص منه: كحديث: «إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقتلوه» وحديث: «معاوية في تابوت من نار في أسفل درك منها» وحديث: «كيف بك يا معاوية إذا وليت حقبًا تتخذ السيئة حسنة والقبيح حسنًا يربوا فيها الصغير ويهرم فيها الكبير، أجلك يسير، وظلمك عظيم ونحوها .. فهي أخبار مكذوبة، وقرر العلماء عنها أمثال ابن تيمية، والخلال إلى كذبها واعتبروها من وضع الروافض وأهل الريب كما أشار إلى أنها موضوعة (¬4). ¬

(¬1) (السير 3/ 125) (والحديث أخرجه أحمد في المسند 4/ 216، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/ 615). (¬2) هذا قيل من صغار الصحابة. (¬3) (أبو زرعة الدمشقي: تاريخه 1/ 189، 190، ابن كثير: البداية والنهاية 8/ 133). (¬4) ابن الجوزي في كتابه الموضوعات 2/ 15 وانظر: سلمان العلوان: الاستنفار للنبي عن الصحابة الأخيار/ 36).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله يستحق الحمد والثناء والصلاة والسلام على النبي المجتبى ورضي الله عن صحابته النجباء. . . سؤال مهم ووقفة متأنية لماذا الطعن بمعاوية أكثر من غيره؟ لأن ذلك مدخل إلى غيره من الصحابة قال الربيع بن نافع: معاوية بن أبي سفيان ستر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه (¬1). يعني: من المهاجرين والأنصار، وساقه ذلك إلى جحد الكتاب وتكذيب السنة والطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2). وقد كان أئمة السلف رحمهم الله يقولون: معاوية (من فقه السلف) رضي الله عنه بمنزلة حلقة الباب، من حركه اتهمناه على من فوقه (¬3). ومما يشهد لذلك ويؤكده: ما نقله الخطيب البغدادي (¬4) من طريق الزبير بن أبي بكر، حدثني عمي مصعب بن عبد الله قال: حدثني أبي عبد الله بن مصعب قال: قال لي أمير المؤمنين (المهدي) يا أبا بكر: ما نقول فيمن ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت زنادقة، قال: ما سمعت أحدًا قال هذا قبلك، قال قلت: هم أرادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. بنقص، فلم يجدوا أحدًا من الأئمة يتابعهم على ذلك فتنقصوا هؤلاء عند أبناء هؤلاء، وهؤلاء عند أبناء هؤلاء، فكأنهم ¬

(¬1) (تاريخ دمشق لابن عساكر 59/ 209 عن سليمان العلوان/ 28 الاستنفار للذب عن الصحابة الأخيار). (¬2) (العلوان/ 28). (¬3) (ابن عساكر: تاريخ دمشق 59/ 210). (¬4) في (تاريخه 10/ 174).

قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم يصحبه صحابة السوء، وما أقبح بالرجل أن يصحبه صحابة السوء، فقال: ما أراه إلا كما قلت. بشرية معاوية وإنصافه ومع ذلك يبقى معاوية رضي الله عنه كغيره من الصحابة وإن اختلفت مراتبهم وتفاوت فضلهم بشرًا، يصيب ويخطئ، وما أجمل ما قاله شيخ الإسلام وهو يدفع عن معاوية التهم الباطلة ويقول: «نحن لا ننزه معاوية ولا من هو أفضل منه عن الذنوب، فضلًا عن تنزيهه عن الخطأ في الاجتهاد (¬1). (حوار المسور مع معاوية وانتصار معاوية) بل وأجمل من ذلك اعتراف معاوية بذنوبه، وسؤاله ربه المغفرة، وعمله من الحسنات ما يكفر بها السيئات حتى خصم المسور بن مخرمة رضي الله عنه وهو من خيار صغار الصحابة (ذكره ابن حجر والذهبي ولادته بعد الهجرة بسنتين، توفي سنة 64 هـ (¬2) كما قال ابن تيمية (¬3). وقد نقل ابن تيمية، والذهبي وقبلهم ابن عساكر هذا الحوار العقول ومما جاء فيه: عن عروة أن المسور أخبره أنه قدم على معاوية فقال: (معاوية) يا مسور: ما فعل طعنك على الأئمة؟ قال: دعنا من هذا وأحسن فيما جئنا له، قال: لتكلمني بذات نفسك بما تعيب علي؟ قال (المسور) فلم أترك شيئًا إلا بينته، فقال (معاوية) لا أبرأ من الذنب، فهل تعد لنا مما نلي من الإصلاح في أمر العامة، أم تعد الذنوب وتترك الحسنات؟ قلت: نعم، قال (معاوية) فإنا نعترف لله بكل ذنب، فهل لك ذنوب في خاصتك تخشاها؟ قال: نعم، قال: فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق مني، فوالله ما ألي من الإصلاح والجهاد، وإقامة الحدود أكثر مما يلي، ولا أخير بين الله وبين غيره إلا اخترت الله على ¬

(¬1) (منهاج السنة 2/ 261). (¬2) (الإصابة، والسير 3/ 391، 394). (¬3) (في المنهاج 2/ 261)

سواه، وإني لعلى دين يقبل فيه العمل ويجزى فيه بالحسنات ويتجاوز عن السيئات .. قال المسور: فعرفت أنه قد خصمني، قال عروة: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلى عليه (دعا) (¬1). أجل إن الطعن في الصحابة قديم منذ نشأت الفرق الباطلة، والنحل المنحرفة وطالما سودت الكتب بسبهم بل وبلعنهم- وهم أهل السابقة والفضل- واليوم يتكالب الموتورون وأهل الانحراف على إعادة الطعن والسب يختلف الطاعنون في انتمائهم الطائفي والمذهبي ونور جهاتهم الفكرية ولكنهم يلتقون عند هدف السب والطعن والإثارة، والإساءة لخير القرون .. لماذا يكون ذلك وما هدف الطاعنين؟ وإلى أي حد ينتهون؟ إنه تطاول على الشرع المنزل وإن ظهر بشكل التطاول على الأشخاص، إذ أن هؤلاء المطعون فيهم- بغير حق- هم حملة الدين والمبلغون عن الرسول، وهم خيار الأمة .. وإذا انتقص الناقل كان ذلك سلمًا للطعن في المنقول ويأبى الله ذلك والمؤمنون وهو تطاول على مقام النبوة وشخصية الرسول لكن من وراء وراء .. فإذا كان مثيرًا لسواد الناس التطاول على مقام الرسول- من قبل المنتسبين للإسلام- فليكن الخدش في أصحابه والتقليل من شأن رجاله .. سلمًا للطعن والخدش فيمن فوقهم. وثمة هدف من وراء هؤلاء الطعون ألا وهو كسر الحواجز عن سياج الفضيلة وحراسها فإذا اعتدى على الكبار من زبان السفينة وحراس الفضيلة كان الطعن فيمن دونهم من باب أولى. والقوم المغروضون الطاعنون يستهدفون تذويب إسقاط القدوات التي تحتل ¬

(¬1) [سير أعلام النبلاء 3/ 391، 392، منهاج السنة 2/ 261).

مكانًا عظيمًا في نفوس المؤمنين .. فإذا أزيحت هذه القدوات أو شكك في مصداقيتها .. كانت الفرصة مهيأة أمام هؤلاء المنحرفين لوضع قدوات من مشاربهم - وتعظيم رجال أو نساء لا يرجون لله وقارًا ولا يملكون مقومات العظمة .. لكنه الظلال والانحراف وتزين سوء الأعمال ومن يضلل الله فما له من هاد. وبعد فسيظل الصحابة الأخيار جبالًا شاهقة تنكسر النصال على النصال دون أن تحط من قدرهم وستظل أعمالهم وإنجازاتهم شموعًا مضيئة تكشف عن صدقهم، وتحرق أنوارها من أرادهم بسوء أو تطاول عليهم بغير حق، وحين نتقرب إلى الله بالدفاع عن أعراضهم، فإننا نشهد الله على محبتهم، ونسأل الله أن يحشرنا معهم (والرجل مع من أحب) فليكن حب الصحابة عقيدة نحيا ونموت عليها، ولنغرسها في قلوب أبنائنا وبناتنا، ولتزين بها مناهجنا، وليفخر بذكر مفاخرهم أعلامنا .. أقل واجبات هذا الجيل الفريد علينا .. وذلك مقتضى الأمانة وتحقيق مناط الرسالة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

من هدي المرسلين

من هدي المرسلين (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله رب العالمين خلق فسوى وقدر فهدى، وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا .. وهو وحده الذي يخرج المرعى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده .. كما يحيي الأرض بوابل السماء يحيي قلوب العباد يهدي المرسلين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أنار الله به- وبإخوانه المرسلين- قلوبًا عميًا، وفتح به آذانًا صمًا .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين .. ورضي الله عن الصحابة أجمعين .. أيها الإخوة المؤمنين من أصول الإيمان التصديق الجازم بالرسل والرسالات التي أنزلها الله، ومن معتقد أهل السنة والجماعة الإيمان بالأنبياء والمرسلين الذين بعثهم الله يعلمون الناس الخير ويدعونهم للتوحيد ويحذرونهم من الشرك والفساد {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ .. } [البقرة: 285]. فضل الله الرسل بعضهم على بعض، وأثنى عليهم جميعًا حيث بلغوا الرسالة وخافوا الله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ} [الأحزاب: 39]. واختارهم الله للنبوة والرسالة {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} وهو أعلم حيث يجعل رسالته .. فإن هلاك الأمم بسبب تكذيب هؤلاء المرسلين فهذا صالح- عليه السلام- يقول الله عنه {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 20/ 5/ 1430 هـ.

لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79]. وعن شعيب عليه السلام يقول الله: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف: 93]. ومن أنكر شيئًا مما أنزل الله على رسله فهو كافر: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا بَعِيدًا} [النساء: 136]. {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]. إخوة الإسلام- إذا كان هذا معتقد أهل السنة والجماعة- في الأنبياء والمرسلين، فثمة اعتقاد منحرف حين قرر غلاة الروافض تفضيل أئمتهم على الأنبياء، وقد غدا هذا المذهب أصلًا من أصول (الاثنى عشرية) قرروه في كتبه وتناقلته أئمتهم- جيلًا بعد جيل- فقد عقد المجلس (في بحار الأنوار) بابًا بعنوان: باب تفضيل الأئمة- عليهم السلام- على الأنبياء وعلى جميع الخلق، وأخذ ميثاقهم عنهم وعن الملائكة وعن سائر الخلق .. ) (¬1). ويقرر شيخ الرافضة ابن بابويه في اعتقاداته التي تسمى (دين الشيعة الإمامية) هذا المبدأ عندهم حيث يقول: يجب أن يعتقد أن الله عز وجل لم يخلق خلقًا أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم والأئمة- وأنهم أحب الخلق إلى الله عز وجل وأكرمهم وأولهم إقرارًا به لما أخذ الله ميثاق النبيين في الذر .. ) ثم عقب المجلس على هذا النص بقوله: واعلم أن ما ذكره ابن بابويه رحمه الله من فضل نبينا وأئمتنا على جميع المخلوقات، وكون أئمتنا أفضل من سائر الأنبياء هو الذي لا يرتاب فيه من تتبع أخبارهم على وجه الإذعان واليقين .. والأخبار في ذلك أكثر من أن ¬

(¬1) (البحار 26/ 267).

تحصى، وعليه عمدة الإمامية ولا يأبى ذلك إلا جاهل بالأخبار (¬1). ومن هؤلاء المتقدمين إلى بعض متأخري الرافضة حيث يتكرر الإيمان بعقيدة تفضيل أئمتهم على الأنبياء حيث يقول الخميني في كتابه (الحكومة الإسلامية/ 52): «إن من ضرورات مذهبنا أن لأئمتنا مقامًا لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل إلى قوله: وقد ورد عنهم (يعني أئمتهم) أن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل». ويغالي الرافضة في هذا المعتقد المنحرف حيث يقول أئمتهم (ما استوجب آدم أن يخلقه الله بيده وينفخ فيه من روحه إلا بولاية علي عليه السلام، وما كلم الله موسى تكليمًا إلا بولاية علي عليه السلام، ولا أقام الله عيسى بن مريم آية للعالمين إلا بالخضوع لعلي عليه السلام، ثم قال: أجمل الأمر ما استأهل خلق من الله النظر إليه إلا بالعبودية لنا» (¬2). أيها المسلمون -وليس المقصود تتبع عقائد الرافضية- ولكن هذا بيان لمعتقدهم في الأنبياء والأولياء .. وهي من الأصول والقضايا الكبرى التي يختلف معهم فيها أهل السنة والجماعة. كما يختلفون معهم في عدد من القضايا والمتطلبات في الأصول الكبرى وليست في فروع الدين ومسائل الخلاف فحسب وليس هذا موطنها وحيثما زعم أحد من الشيعة المعاصرين اليوم إنكاره لمثل هذه المعتقدات الباطلة المنحرفة فليعلن ذلك على الملأ، وليتبرأ مما في كتب أسلافهم واللاحقين من هذه الطامات الكبرى .. ¬

(¬1) (بحار الأنوار 26/ 297 - 298). (¬2) (الاختصاص/ 250 .. وانظر د. ناصر الغفاري: أصول مذهب الشيعة الاثنى عشرية 2/ 616).

على أن الحديث عن الأنبياء والمرسلين يستلزم الحديث عن هداهم وطرائق دعوتهم فبهداهم يقتدي، وببصرة دعوتهم يستبين ويتبع إلا وأن من أعظم هديهم وأصول دعوتهم تحقيق التوحيد والدعوة إليه ونبذ الشرك وصرف الناس عنه. بل إن لب دعوات الرسل عليهم الصلاة والسلام- وجوهر رسالات السماء هو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وقد عرض القرآن الكريم لدعوات الرسل مبرزًا هذه القضية العقدية بوضوح، فنوح يقول لقومه: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} [الأعراف: 59]. وإبراهيم قال لقومه: {اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [العنكبوت: 16]. وهود وصالح قالا لقومهما: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} [الأعراف: 65، 73]. والرسل جميعًا أرسلوا لهذه المهمة بنص القرآن: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وهذه الغاية في العبودية والوحدانية لله هي وصية الرسل والأنبياء لمن بعدهم: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا} [البقرة: 133]. إن توحيد الربوبية والاعتراف بأن الله هو الخالق هو فطرة الكائنات من بني الإنسان والحيوان والجمادات، ولا مجال لإنكار هذه القدرة الربانية فهي كفلق الصبح، وكل ما في الكون من مواد وعناصر يشهد بأن له خالقًا ومدبرًا {فطرة الله التي فطر الناس عليها} {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم}. ومؤرخوا الأديان مجمعون على أنه لم تكن هناك أمة أو جماعة إنسانية ظهرت وعاشت ثم بادت دون أن تفكر في مبدأ الإنسان ومصيره، وتفكر في

تعليل ظواهر الكون وأحداثه .. ودون أن تأخذ لنفسها رأيًا في ذلك لتفهم به القوة التي يخضع لها الكون ويعود إليها كل شيء (¬1). أيها المؤمنون وفي سبيل تقرير التوحيد وتأكيد الربوبية لله رب العالمين أفصح الأنبياء والمرسلون عن بشريتهم ومحدودية علمهم - فيما لا يعلمه ولا يقدر عليه إلا الله فأولهم (نوح) يقول لقومه: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 31]. وخاتمهم (محمد) يقول لقومه: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 50]. ومن ادعى في الأنبياء أو الأولياء أو الأئمة أنهم يعلمون الغيب، أو يكشفون الغم، أو يفرجون الكربات أو يغيثون المضطر .. فقد أشرك مع الله غيرهم ونسب للخلق ما يتبرأ منه الأنبياء، وغيرهم من باب أولى .. صفاء المعتقد، وتوحيد الخالق، وبشرية المخلوقين حتى وإن كانوا أئمة مرسلين هو وحي القرآن، ومنهج المرسلين، ومن ابتغى الهدى من غيرهما أضله الله .. {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 90، 91]. اللهم انفعنا بهدي القرآن ووفقنا لاقتفاء هدي المرسلين .. ¬

(¬1) (منهج الدعوة في البناء الاجتماعي/ محمد الأنصاري/ 36، 37).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين. إخوة الإسلام في دعوة المرسلين ملامح أخرى - غير التوحيد- فدعوتهم على هدى وبصيرة ويقين وبرهان- وليست تخبطًا أو جهلًا أو هوى أو تشكيكًا وكذلك ينبغي أن يدعو أتباعهم {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]. وهي دعوة وتحمل في كل الأحوال والظروف، قام بها المرسلون في أحوال الضراء كما قاموا بها في حال السراء، وأدوها وهم مستضعفون يطاردون، كما التزموا بها وهم أقوياء آمنون لم تمنعهم غياهب السجون من الدعوة إلى {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]. ولم يفت في عقيدتهم أن يدعو إلى الله وهم يحاصرون في الشعاب والأودية، ويمنعون أو تشوه دعوتهم لدى الوفود القادمة إلى مكة. لم تسلم دعوتهم من الأذى والتكذيب، لكنهم عالجوا ذلك بالصبر واليقين {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34]. وسخر بهم وبدعوتهم {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38]. وكما سخروا بمن سخر بهم، فقد سخر الله بمن لمزهم ولهم عذاب أليم. ولم يكن اليأس سبيل إلى قلوبهم - وإن قل العدد أو عدم النصير {وَأُوحِيَ إِلَى

نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود: 36]. وجاء النصر بعد الصبر والثبات والتمحيص {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110]. ورغم العناد والاستكبار والسخرية والأذى فقد كان الرفق في الدعوة والحرص على هداية المدعوين معلمًا بارزًا في هدي المرسلين {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43، 44] ومع الرفق واللين قوة في الحق ورد على المبطلين {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102]. إخوة الإسلام ولقد كان من مهام المرسلين ومن أساليب دعوتهم معالجة التبعية البلهاء، ومقاومة الاتباع للآباء والأجداد الضالين، وتجاوز الأعراف والتقاليد الجاهلية التي لم ينزل الله بها من سلطان {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 23، 24]. ولم يغفل الأنبياء والمرسلون عن إصلاح أمور الناس الدنيوية -فضلًا عن عنايتهم في الأمور الأخروية- فقد ساهموا في بناء الاقتصاد وتحسين مستوى المعيشة للناس {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف: 47]. واعتنوا بأمور الناس الاجتماعية والأخلاقية وحذروا من الفساد بكل صوره وأشكاله {وَلاَ تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ .. } [هود: 84]، {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80] كما حذروا أقوامهم من مصائر الغابرين المهلكين ودعوهم إلى التوبة والاستغفار {وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ

شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 89، 90]. تلكم ملامح من هدي المرسلين، وطرائق وأساليب دعوتهم ومن رام المزيد فلتقرأ كتاب الله، وتصفح سير المرسلين ونحن مأمورون بالاقتداء بهم «فبهداهم اقتده» ومطالبون بالتأسي بهم {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. اللهم ارزقنا البصيرة في ديننا، والاقتداء بسنن المرسلين، اللهم احشرنا معهم وأنلنا شفاعتهم، وأوردنا حوض نبينا، ولا تجعلنا ممن يزادون عنه بسوء أعمالنا.

أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وما وراء الحملة؟

أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وما وراء الحملة؟ (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوم الأرض كما الكواكب نجوم في السماء، رضي الله عنهم وأرضاهم وليس فوق تزكية الله لهم تزكية وليس فوق الجنة منزلة وقد أعدت لهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. فما انقطع الوحي من السماء حتى تاب الله عليهم وأكرمهم وخلد ذكرهم وشاع الثناء عليهم في الخافقين وليس لأحد أن يغمزهم أو يتقصدهم لسوء والله يقول: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 117]. وأكد الحبيب الذي لا ينطق عن الهوى خيريتهم وفضلهم على القرون فقال: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم .. » الحديث متفق على صحته، ونهى عن سبهم وأذيتهم فقال: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» (¬2). أيها المسلمون عقيدة أهل السنة والجماعة في محبة الصحابة وتقديرهم ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 15/ 10/ 1431 هـ. (¬2) (رواه البخاري).

والدفاع عنهم رسم معالمها القرآن الكريم، وأعظم شاهد عليها محمد عليه الصلاة والسلام، ومن حاد عن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فسحقًا له وتبًا، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون. كما أن عدالة الصحابة رضوان الله عليهم -عند أهل السنة والجماعة- من مسائل العقيدة، القطعية ومما هو معلوم من الدين بالضرورة، وليس يطعن فيهم إلا من في قلبه غل، أو في معتقده خلل. وأمهات المؤمنين هنَّ الطاهرات المطهرات، اختارهن الله ليكن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وحكم وهو أصدق الحاكمين {الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم} [النور: 26]. وبنص القرآن واذهب الله عن أهل البيت الرجز وطهرهم تطهيرًا، وتليت في بيوت نساء النبي آيات الله والحكمة .. فهل بعد هذا الثناء والتزكية مدخل أو طريق للفتنة؟ وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في طليعة النساء وأفضل وأحب نسائه إليه عليه الصلاة والسلام. ففي صحيح البخاري وغيره قال صلى الله عليه وسلم: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» (¬1). الصديقة بنت الصديق بعث لها السلام من السماء، وبلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام شديد القوى (جبريل عليه السلام) ففي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها يومًا: يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام، فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى، تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم» [ح 3769]. ¬

(¬1) [ح 3770، الفتح 7/ 106].

أجل لقد تأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلبت أمهات المؤمنين ومتحدثتهن أم سلمة أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان ولا يتحروا بهداياهم يوم عائشة، فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطلب، حتى إذا أكثرت عليه أم سلمة قال لها يا أم سلمة: «لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها» (¬1). قال ابن حجر: وفي هذا الحديث منقبة عظيمة لعائشة (¬2). وإذا اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الطلب البسيط أذى فكيف بمن يؤذي عائشة ومن ورائها رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو أعظم من هذا؟ وإذا تابت أم سلمة - كما في الرواية الأخرى- أنها قالت: أتوب إلى الله تعالى (البخاري/ الهبة، الفتح 7/ 108) أفلا يتوب إلى الله كل من ذل لسانه أو خط قلمه إثمًا وبهتانًا على عائشة (¬3). إن الأذية لأحد من أزواجه صلى الله عليه وسلم أو أهل بيته المؤمنين أو صحابته أجمعين أذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} (الأحزاب: 53). ترجم الإمام الذهبي رحمه الله لعائشة رضي الله عنها في أعلام النبلاء وأطال وأثنى، معتمدًا على أحاديث المصطفى وتزكيات العلماء، ومما ساق حديث البخاري ومسلم في سؤال عمرو بن العاص رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: أي الناس أحب إليك ¬

(¬1) رواه البخاري ح 3775. (¬2) (الفتح 7/ 108). (¬3) وحيث كفت أم سلمة عن عائشة حيث قالت: (أعوذ بالله أن أسؤك في عائشة) كما في رواية النسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي في المستدرك 4/ 9، 10، والسير 2/ 199) أفلا يكف عن البهتان من تقصد أم المؤمنين؟

يا رسول الله؟ قال: عائشة، قال فمن الرجال؟ قال: أبوها (¬1). ثم علق الذهبي: هذا خبر ثابت على رغم أنوف الروافض وما كان عليه السلام ليحب إلا طيبًا .. فأحب أفضل رجل من أمته وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حري أن يكون بغيضًا إلى الله ورسوله (¬2). وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لا عزو أن تكون محل الثناء والحب والتقدير من لدن الأكابر من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يزيد في عطاء عائشة عن أمهات المؤمنين حيث فرض لهن عشرة آلاف، وزاد عائشة ألفين وقال: إنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬3). وأبو موسى رضي الله عنه يقول: ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها علمًا (¬4). وبرغم أنوف الروافض فعلي رضي الله عنه ومع ما وقع بينهما يثني على عائشة ويقول: إنها خليلة رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬5). ويستمر ثناء الصحابة- وهم خير الشهود- على عائشة حتى فارقت الدنيا، وهذا ابن عباس يستأذن عليها في مرض وفاتها، فتقول: لا حاجة لي به ولا بتزكيته فيقال لها إنه من صالح بنيك يودعك ويسلم فلما أذنت له وقعد قال: أبشري، فوالله ما بينك وبين أن تفارقي كل نصب، وتلقي محمدًا والأحبة إلا أن تفارق روحك جسدك، قالت: إيهًا يا ابن عباس! قال: كنت أحب نسائه إليه، ولم يكن يحب إلا طيبًا، سقطت قلادتك ليلة الأبواء وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) (البخاري 7/ 18 ح 3662، ومسلم 2384). (¬2) (سير أعلام النبلاء 2/ 142). (¬3) (الطبقات لابن سعد 8/ 67). (¬4) (الإصابة 13/ 40). (¬5) (حسنه الذهبي في السير 2/ 177).

ليلقطها، فأصبح الناس ليس معهم ماء فأنزل الله {فتيمموا صعيدًا طيبًا} فكان ذلك من سببك وما أنزل الله بهذه الأمة من الرخصة، ثم أنزل الله تعالى براءتك من فوق سبع سموات فأصبح ليس مسجد من مساجد يذكر فيها الله إلا براءتك تتلى فيه آناء الليل والنهار، قالت: دعني عنك يا ابن عباس، فوالله لوددت أني كنت نسيًا منسيًا (¬1). وكذلك سار قطار التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى تقدير أم المؤمنين عائشة والثناء عليها وهذا (مسروق) رحمه الله كان إذا حدث عن عائشة رضي الله عنها قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله، المبرأة من فوق سبع سموات (¬2). فاقت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها غيرها في علم الدين والدنيا، وهذا عروة بن الزبير- رحمه الله- كان يقول لعائشة: يا أمتاه، لا أعجب من فقهك، أقول: زوجة نبي الله وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأمام الناس أقول: ابنة أبي بكر وكان أعلم الناس، ولكن أعجب من علمك بالطب كيف هو ومن أين هو، وما هو؟ قال فضربت على منكبه وقالت: أي عرية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسقم عندي آخر عمره وكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات، وكنت أعالجها له، فمن ثم (¬3). وبلغ إعجاب الذهبي بعلم عائشة حدًا قال معه: ولا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بل ولا في النساء مطلقًا امرأة أعلم منها (¬4). أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها جمعت خلالًا أخرى واختصت بمزايا قالت عنها: ¬

(¬1) (أخرجه أحمد بسند صحيح، وصححه الحاكم والذهبي، السير 2/ 180) صـ 7. (¬2) (الحلية 2/ 44، والسير 2/ 181). (¬3) (السير 2/ 182). (¬4) (السير 2/ 140).

توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي وليلتي، وبين سحري ونحري، ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك رطب، فنظر إليه حتى ظننت أنه يريده فأخذته فمضغته ونفضته وطيبته ثم دفعته إليه فاستن به كأحسن ما رأيته مستنًا قط، ثم ذهب ليرفعه إلي فسقطت يده فأخذت أدعو له بدعاء كان يدعو به له جبريل .. حتى رفع بصره إلى السماء وقال: الرفيق الأعلى، وفاضت نفسه، فالحمد لله الذي جمع بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا (¬1). ما أحب عائشة إلا مؤمن وما أبغضها إلا منافق، {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 26]. اللهم أنا نشهدك على محبة عائشة ومحبة حبيبها محمد صلى الله عليه وسلم وأبيها أبي بكر .. اللهم فاحشرنا معهم، وافضح من نالهم بسوء .. ¬

(¬1) (أخرجه أحمد 6/ 48، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي في المستدرك 4/ 7. والسير 2/ 189).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين والعاقبة للتقوى وللمتقين ولا عدوان إلا على الظلم والظالمين. أما بعد: فأمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها شمسٌ لا يمكن حجب نورها .. إنها في كل بيت وعلى كل لسان، وفي كل عصر ومصر لا يكاد يخلوا منها كتاب، ولا يكاد تخطئ فضائلها عين أو تغيب مناقبها عن السمع، هي ملئ السمع والبصر، وحمقى أولئك الذين يشغبون عليها، أو يظنون أنهم يحتجبون شيئًا من أنوارها. وبعد - إخوة الإسلام - ففي سورة النور نور وفرقان وبلاء وبهتان، صال المنافقون وأرجفوا واتهموا بيت النبوة - وراموا النيل من الإسلام وأهله - حتى إذا زلزل أهل الإيمان كشف الله الغمة، وفضح أهل النفاق والظغينة، ومع عظم البلاء نزلت البراءة من السماء فكانت بيانًا وتزكية للصديقة عائشة إلى يوم الدين {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. ولقد وقف المفسرون عند آيات الإفك وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، فقال ابن كثير: هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات، خرج مخرج الغالب المؤمنات، فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولا سيما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما، وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية فإنه كافر لأنه معاند للقرآن (¬1). ¬

(¬1) (تفسير ابن كثير عند آية النور 23، 3/ 456).

وقبله قال القرطبي عند قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (النور: 17). (فكل من سبها بما برأه الله منه مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر) (¬1). كما نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- في الصارم المسلول على شاتم الرسول- عن القاضي أبي يعلى رحمهما الله قوله: من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف (صـ 571) عن ما يجب أن يعرفه المسلم عن عقيدة الروافض (¬2). إخوة الإيمان لن يضير أم المؤمنين إرجاف المرجفين وقد تولى الله بنفسه الدفاع عنها وتبرئتها بل كلما زاد الإرجاف والبلبلة والتهم الباطلة زاد معه الحب لعائشة، وعلم الناس من فضائلها ومقامها ما جهلوا .. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يفقهون، إنها لا تحتاج إلى دفاع أحد بعد دفاع الله عنها، ولن يضرها شماتة المرجفين وبغض الحاقدين وقد أحبها خيرة خلق الله أجمعين. ولكن السؤال المهم: ماذا وراء الإرجاف والبلبلة في صديقة الأمة؟ ولئن استهدفت عائشة رضي الله عنها ظاهرًا فوراء الأكمة ما وراءها، والمشروع المتآمر بتجاوز عائشة إلى استهداف رموز الإسلام وحملة القرآن والسنة (والخيران) أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وغيرهم ليسوا بمعزل عن تهم من الأخلاق لهم، وإنه لمن العيب والعار أن تنسب مصنفات لأهل الإسلام جاء فيها كما يقول المجلس: «ومما عد من ضروريات دين الإمامية استحلال المتعة، وحج التمتع، والبراءة من ¬

(¬1) (تفسير القرطبي 12/ 206). (¬2) أحمد الحمدان/ 82.

أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية» (¬1). بل يتجاوز الطعن إلى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم حيث اتهم بيته ورميت بالفاحشة حبيبته، بل يتجاوز الطعن من شخصه إلى سنته حيث روت عائشة رضي الله عنها طائفة كبرى من سننه، وقد بلغ ما أسندته ألفين ومائتين وعشرة أحاديث (¬2) بل يروم المغرضون والطاعنون في أم المؤمنين التشكيك في أحكام الدين، وقد قيل إن ربع أحكام الشريعة منقول عن عائشة رضي الله عنها (¬3) ويرومون التشكيك في القرآن وتكذيب آياته، ويبلغ التطاول مداه حين يكون على رب العالمين حيث يعترض على تبرئته لها من فوق سبع سموات .. فماذا بقي؟ وأي إسلام هذا؟ إن القضية التي يدور رحى فتنتها هذه الأيام، ليست وليدة اليوم، وليست مجرد نزوة فردية .. بل هي عقيدة راسخة، وتراث تتجدد طبعاته وهو يفيض بالطعن والسب لا لعائشة بل لجمهور الصحابة .. وخليق بأصحاب هذا المذهب أن يعلنوا براءتهم منه أن كانوا رافضين لسب أم المؤمنين عائشة .. إننا نقبل من الشيعة أن يستنكروا الطعن في أم المؤمنين عائشة، لكنا لا نقبل أن تظل مصنفاتهم ومصنفات مشايخهم لها فحةً بالسب والتهم لخيار الصحابة، ولا أن تظل مواقعهم وقنواتهم مليئة بالسخرية والسب لخيار الأمة ولسنا أغبياء بدرجة كافية. إنها ثقافة متجددة، ودول تخدم المذهب وتسيس الدين وتصدر الثورة وتشعل الفتنة، وعلى المسلمين كافة أن يتنبهوا للخطر وحجم المنكر، ولا يجوز بحال وفي زمان اصطفاف المسلمين في مواجهة التحريف والتشويه ¬

(¬1) (الاعتقادات للمجلس ص 90 - 91 عن أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية د. ناصر القفاري 2/ 729، 730). (¬2) (الذهبي: السير 2/ 139). (¬3) (الفتح 7/ 107).

والسخرية بالإسلام ونبيه، والتهديد بإحراق القرآن واتهام أهله- أن تزيد طوائف تنسب إلى الإسلام وأهله الطين بلة، وتوسع دائرة التهم والسخرية والبلبلة والفتنة، وعلى كل من سعى بالفتنة وفرق الصف من الله من يستحق، والمكر السيء لا يحيق إلا بأهله، وما تعرض أحد لأهل الإسلام الكبار بسوء إلا خذله الله في قديم الزمان وحديثه أما أم المؤمنين فستظل منارة يقتبس منها أهل الإسلام، وستظل شهابًا محرقة لأهل الزيغ والزندقة والفساد والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .. ولم يكن الشعر والشعراء بمعزل عن مشهد عائشة والثناء عليها والدفاع عنها، ولاسيما ممن أيده الله بروح القدس، فحسان بن ثابت رضي الله عنه يقول في عائشة -كما رواه ابن إسحاق-: رأيتك -وليغفر لك الله- حرة ... من المحصنات غير ذات غوائل حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثي (¬1) من لحوم الغوافل عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدهم غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها (¬2) ... وطهرها الله من كل سوء وباطل فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتوا ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي وكيف وودي ما حببت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل فإن الذي قد قيل ليس بلائط (¬3) ... ولكنه قول امرئ متماحل (¬4) ¬

(¬1) جائعه أي كافه عن أعراض الناس. (¬2) طبعها وأصلها. (¬3) لازق أو لائق. (¬4) (السيرة لابن هشام 3/ 324، السير للذهبي 2/ 163، والاستيعاب لابن عبد البر 13/ 90).

وحينما قيل لعائشة أن حسانًا شارك في حديث الإفك اعتذرت عنه وقالت أليس هو الذي يقول: فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وفاء (¬1) ومما ينبغي أن يعلم أن الحملة المرجفة وتهم عائشة بالفاحشة ليست الأولى من نوعها، فقد سبقها بالتهمة طاهرون وطاهرات، فيوسف عليه السلام قيل عنه {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ومريم قال لها قومها: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}. قال القرطبي: قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف عليه السلام لما رمي بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد، وأن مريم لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى صلوات الله عليه، وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برأها الله تعالى بالقرآن، فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي برأها الله بكلامه من القذف والبهتان (¬2). ¬

(¬1) (الاستيعاب 13/ 92). (¬2) (الجامع لأحكام القرآن 12/ 212).

أقسام الناس مع المنكرات .. والأندية النسائية

أقسام الناس مع المنكرات .. والأندية النسائية (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره إخوة الإسلام والمتأمل في سنن الله في الكون، وفي أحوال البلاد والعباد ينتهي نظره إلى وجود الأخيار والأشرار قديمًا وحديثًا، وثمة أبرار وفجار، وسابقون إلى الخيرات بإذن ربهم، وظالمون لأنفسهم بتقحم المعاصي والسيئات، وحيثما وجد الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر فثمة من يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ومع الصالحين مفسدون في الأرض، وكذلك يوجد الخبيث والطيب. ومن سنن الله في القديم والحديث وجود الهدى والضلال، والصلاح والفساد، والحق والباطل، والاستقامة والانحراف .. ولكن ومهما اختلت الموازين في تقييم الأشياء والأشخاص فيبقى ميزان الحق تعالى عدلًا، وحكم الله صدقًا فلا يستوي الخبيث والطيب- ولو أعجبك كثرة الخبيث- ولا يستوي المؤمنون والفساق {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ} كما لا يستوي المتقين والفجار {أم نجعل المتقين كالفجار} و {لا يستوي أصحاب الجنة وأصحاب السعير} وإذا كانوا لا يتساوون في الآخرة فهم كذلك في الدنيا {أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] وكما أنه لا يجتنى من الشوك العنب كذلك لا ينال الفجار منازل الأبرار (¬2). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 5/ 6/ 1430 هـ. (¬2) (تفسير ابن كثير 4/ 41).

ومن سنن الله في خلقه- قديمًا وحديثًا- تدافع الحق والباطل {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} وتمييز الخبيث من الطيب، ونجاه المصلحين وهلاك الظالمين {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165]. وعلى مدى تاريخ الأمم وأحوال القرون رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون وبهم وبسببهم يحل العذاب ويكون الهلاك، وآخرون ينهون عن الفساد في الأرض وبسببهم تكون النجاة والفلاح {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود 116، 117]. أيها الإخوة المؤمنون .. حين يشيع المنكر ويكثر المبطلون، ويحاول أهل الريب والفساد خرق السفينة، فالناس ينقسمون أقسامًا تجاه المنكر والمروحين له. فمنهم بارد المشاعر، فتبلد الإحساس، لا يعنيه الأمر من قريب أو بعيد- جهلًا أو تجاهلًا- لا يتمعر وجهه للمنكر وأنى له أن يحرك ساكنًا لتغييره، ولا يشعر بخطر المروجين للمنكرات وأنى له أن يبغضهم أو يناصحهم .. أولئك مرضى القلوب، وأموات الأحياء .. وأولئك الذين عناهم ابن القيم بقوله: وقد غر إبليس أكثر الخلق بأن حسن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا، والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات فلم يحدثوا قلوبهم بالقيام بها (يعني نشر السنن والأمر بالمعروف، وإقامة الحق، والنهي عن المنكر على القادرين عليه) وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس دينًا، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به، فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالًا عند

الله ورسوله من مرتكب المعاصي، فإن ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي .. ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينًا والله المستعان، وأي دين وأي خير في من يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها وهو بارد القلب، ساكت اللسان؟ شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا أسلمت لهم مآكلهم ورئاستهم فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزن المتملظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجد واجتهد، واستعمل مراتب الأفكار .. وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ولرسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل (¬1). القسم الثاني: قوم تتفطر أكبادهم للمنكرات تقع، ويتحسرون على الدين حين تنتهك حرماته .. لكنهم يقفون عند هذه الحدود من المشاعر المستنكرة والعواطف الملتهبة، وعسى الله أن يجزي هؤلاء على غيرتهم وكرههم للمنكر وأهله إن كانوا لا يستطيعون غير ذلك ومن أنكر بقلبه فهو منكر وإن كانوا قادرين على أكثر من هذا فعسى الله أن يهديهم ويسددهم لتغيير المنكر وإشاعة المعروف بأيديهم أو ألسنتهم. القسم الثالث .. قوم لا يكتفون بالمشاعر المستنكرة ولا يقفون عند حدود العواطف، بل يفكرون ويقدرون ثم يسارعون لمقاومة المنكر، ولا يكتفون بإنكار المنكر بل ويريدون بالأمر بالمعروف وإشاعة الخير، والدعوة للهدى عبر ¬

(¬1) (أعلام الموقعين 2/ 176، 177).

عدد من الوسائل والآليات وبالحكمة والموعظة الحسنة، ويجاهدون في سبيل ذلك ويصبرون ويصابرون ويرابطون ويتقون- وأولئك هم المفلحون- وأولئك أشد على الشيطان وحزبه من غيرهم وإن لم يكونوا أكثر من غيرهم صلاة وصيامًا وذكرًا. إخوة الإيمان إننا محتاجون للاستيثار بنصر الدين في كل حين، ولكن حاجنا إلى ذلك في زمن الإحباط واليأس أشد، ومحتاجون للفأل في كل حال ولكن حاجتنا إليه في زمن التشاؤم أعظم .. إن اسبشر المسلم بنصر الله استبشار رغم ما يبصره من منغصات ورغم ما يشاهده من منكرات .. فهو يستبشر بنصر الله وفي الوقت نفسه يجاهد لإعلاء كلمة الله .. إن أمله ليس فارغًا لكنه مصحوب بالعمل، وحزنه على المنكر يتجاوز التلاوة على التعاون، والتحسر والقعود إلى فعل الأسباب والمدافعة المشروعة إن نفرًا من أهل الغيرة ربما بالغوا في التشاؤم فأحبطوا غيرهم- وهذا حين يوجد انتصار للمنكر وأهله- ولو أن كل المسلمين فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا .. إن مواجهة الانحراف لا يجدي فيها سلاح النقد والتهويش فحسب، ولا يظن المسلم القادر أنه يكفيه أن يعلن رفضه للمنكر وبغض للمفسدين، بل الأمر يتطلب جدًا ومجاهدة وتفكيرًا في أساليب دفع المنكر وأساليب أخرى للإصلاح وإقامة المعروف .. ولا تتوقف الدعوة حين ثبط المخزلون أو لا يستجيب المبطلون فالبلاغ مهمة الرسل وهي مسئولية أتباعهم من بعدهم وينبغي أن يكون شعار الدعاة والمحتسبين {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ} ومعه شعار آخر {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}. إن من المؤسف أن يكون أهل الباطل أصحاب نفس طويل لإقرار المنكر

وإشاعة الفساد، وأصحاب خطط واستراتيجيات واجتماعات ومشاورات، وصبر على طول الطريق وإقرار ما يصادم الفطرة وتنكره العقول السليمة .. في حين يكون نفر من أصحاب الخير والدعوة والحسبة أقصر نفسًا أو أقل تخطيطًا .. أو أزهد في اللقاءات والمشاورات ورسم الخطط واقتراح البرامج (وعلى المدى القريب والبعيد). ومن قرأ في سير الأنبياء والمصلحين سره ما يطالعه في سيراهم من صبر ومصابرة، ومجاهدة للمنكر وتأسيس للمعروف، وأساليب متنوعة للدعوة .. قد تستغرق عشرات السنين وربما بلغت المائتين من السنين (ومن أول المرسلين إلى خاتمهم) عبرة في الأمر والنهي والدعوة والبلاغ والصبر والجهاد .. وأولئك بهداهم نقتدي وبسيرهم يطيب المسير .. {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} نفعني الله وإياكم.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية أيها المؤمنون ودعونا نأخذ مثالًا صارخًا في المنكر يتصل بالمرأة ويتعلق بالحجاب والسفور والاختلاط والتبرج، ومحاربة الفضيلة والدعوة للرذيلة، والأخطر حين يراد تعميم المنكر وإقراره عبر وسائل الإعلام وبرامج التعليم، ويراد فرضه بالقوة ومن قبل خفية قليلة في المجتمع لا تمثل المجتمع بشكل عام ولا تعبر عن المرأة ورؤيتها وحشمتها وحياءها في بلادنا (¬1). وهنا يشكر المنكرون للمنكر، والمدافعون عن قيم الحياء والحشمة والعفة من الرجال والنساء ولكن الأمر فوق هذا يستدعي من استبصارًا في الرؤية وعمقًا في الإستراتيجية، فلا يكتفي بردود الأفعال بل لا بد من أعمال بنائية للمرأة تتجه للموجود منها بالدعم والتطوير وسواء في ذلك ما تتبناه الجهات الرسمية في الدعوة لتوعية المرأة وطرح المشاريع والمبادرات الخيرة بما ينفعها ويحفظ مجتمعها من الانحلال والفساد .. أو الجهات الخيرية لإقامة الدور والمدارس النسائية لتحفيظ القرآن الكريم، أو المناشط الأسرية التي تعني بها البيوت لإصلاح بناتهم وحمايتهن من المخاطر، أو البرامج الإعلامية التي تتجه إلى بناء الشخصية السوية للمرأة .. أو نحوها من مراكز ومؤسسات تعني بشئون المرأة وإصلاحها، وتبصر بالمخاطر التي تراد لها، والمخططات العالمية والمحلية تجاهها. وفوق الموجود ينبغي أن يفكر الخيرون بمبادرات وبرامج نافعة للمرأة .. تسير باتجاه تعبيدها لله، وتتفق مع نصوص الشرع تجاه إكرام المرأة وتذكيرها بواجباتها ومسئولياتها. ¬

(¬1) لقد رأيت ورأيتم عددًا من الصور النسائية الفاضحة الغريبة في بلادنا ومجتمعنا، والخارجة عن سياساتنا في الإعلام .. وليست ضمن برامجنا في التعليم، ولا هي من عادتنا وتقاليدنا الحمدية.

ولئن كانت المرأة تعذر -فيما مضى- عن المشاركة في اقتراح هذه البرامج وصياغتها، فهي اليوم أكثر وعيًا وأعمق فكرًا .. في مجتمعنا عدد من الأكاديميات المتميزات، ولدينا عدد من الكاتبات القديرات، وفي بلادنا بحمد الله عدد من المربيات الفاضلات، والداعيات والمحتسبات ولذا يتحتم اليوم على المرأة المشاركة الفاعلة ليس فقط في ضد الحملات التغريبية، بل وفي ثيابها في غير بيت زوجها فقد هتكت سترها فيما بينها وبين الله عز وجل (¬1). وفي حديث آخر عن سبيعة الأسلمية قالت: دخل على عائشة نسوة من أهل الشام فقالت عائشة ممن أنتن؟ فقلن من أهل حمص، فقالت: صواحب الحمامات؟ فقلن نعم، ثم قالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحمام حرام على نساء أمتي .. » (¬2). وأيًا ما كان سياق عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم إن في سياق الجهاد حيث أخرجه أبو داود بات في السبق على الرحل، أو في عشرة النساء كما أخرجه النسائي .. فهو شيء وما يراد من رياضة النساء في هذه الأيام شيء آخر. كما أن الاستدلال بركون عائشة للجمل شيء والدعوة لقيادة المرأة للسيارة شيء آخر في الهيئة والهدف .. والله المستعان. وفوق هذا وذاك فلا ينبغي إشغال المرأة بهذه القضايا الهامشية للمرأة .. وهل انتهت قضايا المرأة وهمومها، وحقوقها وواجباتها فلم يبق إلا حديثًا عن الرياضة والقيادة؟ إن في ذلك ابتذالًا لوظيفة المرأة وتهشيمًا لدورها في المجتمع وإشغالًا للأمة عن قضايا مصيرية تراد لها .. ¬

(¬1) رواه الحاكم في المستدرك 4/ 288. (¬2) (الحديث رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي (المستدرك 4/ 290).

المال وغوائل الربا و (السندات المالية)

المال وغوائل الربا و (السندات المالية) (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ... يقال أن المال عصب الحياة، ومن المؤكد أنه سبب لليسر والتقوى، وسبيل للبخل والعسرى، ومن الاقتصاد ما هو سبيل للبر والنماء، ومنه ما هو متخبط في الإثم والربا. وحين نطل إطلالة تذكر واعتبار على النظم الاقتصادية المعاصرة في الحاضر أو في عقود قريبة مضت نرى أنها تكاد تنحصر في ثلاثة نظم: 1) النظام الشيوعي البائد، وهو قائم على سحق الفرد وإسقاط الملكية وإعلان الاشتراكية- وهو وإن زعم العدل والمساواة- فقد أفلس في تحقيقها واغتصب الحقوق وسلب الحريات، وانتهى بإعلان زعمائه الفشل أمام العالم، وسقطت الشيوعية برمتها وسقط معها النظام الاقتصادي الاشتراكي غير مأسوف عليه. وفي مقابل هذا النظام 2) نظام رأسمالي إقطاعي احتكاري، تسحق فيه المجموعات على حساب تورم الأفراد، ويفتقر الملايين من البشر على حساب ثراء أفراد معينين إنه يخلق مجتمعات التفاوت الاقتصادي ويقل فيه الإنصاف الاجتماعي، كما اعترف بذلك أحد الغربيين. وكلما طغت الرأسمالية في بلد كلما ارتفع معدل الفقر في شعبها، وهل تعلم أن اليابان -مثلًا- تحتل المرتبة الثانية بعد معدلات الفقر في ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 17/ 7/ 1430 هـ.

الولايات المتحدة الأمريكية؟ كما تشير الدراسات إلى ذلك (د. محمد السلومي: نقائص الرأسمالية، ودور القطاع الثالث) هذا النظام الرأسمالي العابر للقارات والمسيطر على عدد من الشركات، والمتبجح بسيطرته على أسواق المال من الجانب الاقتصادي، والمهيمن سياسيًا على رقعة واسعة في العالم، لم يكن قادرًا على تحقيق السعادة للبشر، بل ولا مساهمًا في حل المعضلات والمشكلات التي يعاني منها الضعفاء .. حيث تشير لغة الأرقام إلى أن مليارًا من البشر- اليوم- يعيشون بمعدل يقل عن دولار واحد في اليوم، ويفتقر قرابة مليار آخر إلى المياه النظيفة، ويعاني 826 مليون من سوء التغذية، ويموت عشرة ملايين إنسان في كل سنة جراء نقص الرعاية الصحية الضرورية. (د. محمد السلومي: نقائص الرأسمالية .. ) فماذا صنع لهم هنا النظام الرأسمالي؟ بل لقد ساهم هذا النظام النكد في حرق الأرض ببناها الفوقية والتحتية، ولم يكن البشر بمعزل عن هذه الحرائق- لاسيما الأطفال والنساء- حيث أبيدوا بصور جماعية وبأشكال موحشة. وأخيرًا فلم يكن هذا النظام الرأسمالي قادرًا على حماية نفسه، أو الحفاظ على مؤسساته وشركاته .. وجاءت انهيارات السابع عشر من سبتمبر 2008 م الضخمة لتشهد على فساد هذا النظام وتورمه وعدم مصداقيته .. وحيث ذكرت الإحصاءات- كنموذج على هذا الانهيار- أن (البورصات) العالمية فقدت أربعة (4) تريليونات دولار في شهر سبتمبر من عام 2008 م، ولم يسعفها تدخل الحكومة الأمريكية بدعمها بسبعمائة مليار دولار، وشراء المصرف المنهار (أمريكان إنترناشيونال جروب). ونعود إلى لغة الأرقام لتأكيد حجم هذا الانهيار حيث أشارت (النيوزويك

الأمريكية) أن شركة (بيرسترنز) حينما انهارت كان لديها (ثلاثون دولار) من الديون مقابل كل دولار من رأسمالها، وأن ديون الشركتين العملاقتين للرهون العقارية (فاني ماي) و (فريدي ماك) بلغت (5.2) تريليون دولار .. (د. محمد السلومي: نقائض الرأسمالية .. ). على أن الأدهى والأمر أن هذه الانهيارات المروعة للاقتصاد الرأسمالي يعتبرها المحللون الاقتصاديون بداية الكارثة وليست النهاية .. وكان محقًا أحد الباحثين في الاقتصاد حينما وصف واقع الاقتصاد الرأسمالي بأنه سلاح التدمير المالي الشامل (الشيخ صالح الحصين في ورقات كتبها بعنوان (الإصلاح). إخوة الإسلام وهذه الانهيارات والأرقام الفلكية المخيفة إن فاجأت العالم فلم تكن مفاجأة لأهل الإسلام الذين يقرءون في كتاب ربهم: {يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} ومن هنا التفت العالم كله مسلمه وكافره، مغربه ومشرقه إلى النظام الثالث (النظام الاقتصادي الإسلامي). وعلت الصيحات بتطبيق المصرفية الإسلامية، وتكاثرت الطروحات المنادية بدراسة واعتماد النظام الاقتصادي الإسلامي .. ولئن لم يكن لدى المسلمين- في واقعهم المعاصر- من قوة الإعلام أو قوة الإرادة أو الإدارة ما يستثمرون به هذا الحدث، ويوظفون هذا الطلب أحسن توظيف فمما يسلي أن النظام الاقتصادي الإسلامي بنفسه قادر على المضي والتأثير. إنه نظام رباني محفوظ بحفظ هذا الدين، وهو نظام عادل تستشرفه النفوس الأبية وإن لم تكن مسلمة، وينظر إلهي الغرماء والمعوزون والمنسيون- على قارعة الطريق- من ضحايا الأنظمة

البشرية الفاسدة على أنه المنقذ لهم والمسدد لحاجاتهم، والمستجيب لاستغاثتهم. لا يلغي النظام الإسلامي الاقتصادي حقوق الفرد، لكنه يمنع تسلط الأفراد واحتكار المجموعات وينهى عن جشع الأغنياء ويجعل في أموالهم حقًا للسائل والمحروم، يحذر هذا النظام الرباني أن يكون المال دولة بين الأغنياء، كما يفرض نسبة من الزكاة تسد حاجات المحتاجين وتصرف على ثمان مصارف- هي في الجملة شاملة للحوائج وللمحتاجين-. كما يرغب الإسلام في بذل صدقات أخرى، يتعاظم أجرها ويبارك الله في أموال المتصدقين بسببها وكما يدعو الإسلام إلى الصدقات المقطوعة .. يحث كذلك على الأوقاف المنجزة في الحياة والوصايا اللاحقة بعد الممات .. ليظل عطاء المسلم متدفقًا في كل حين، وشاملًا للأفراد والمؤسسات، وكما يطعم منها البطون الجائعة .. تشفى فيها القلوب العليلة، ويعلم الجهلة يفرج بها الكربات، ويقضي نوائب الدعوة للخير ويؤسس للبر والإحسان. إن المال- في نظر المسلم- مال الله {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} والمال في نظر الإسلام (زينة) ولكن الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابًا وخير أملًا. إنه (محبوب) للنفوس {وتحبون المال حبًا جمًا} لكنه (فتنة) {إنما أموالكم وأولادكم فتنة}. المال (حسب) كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن أحساب أهل الدنيا الذين يذهبون إليه هذا المال» (¬1). ¬

(¬1) رواه أحمد والنسائي وغيرهما بسند حسن (صحيح الجامع الصغير 2/ 42، إرواء الغليل 1871) ولكن (التقوى) خير وأكرم.

فقد جاء في حديث آخر «الحسب المال، والكرم التقوى» (¬1). والمعنى كما قيل في شرح الحديث: الشيء الذي يكون فيه الإنسان عظيم القدر عند الناس هو المال، والذي يكون به عظيمًا عند الله هو التقوى. (الألباني في تعليقه على هذا الحديث في صحيح الجامع) وفي التنزيل «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» (¬2) وكما ذم القرآن من آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بحملها العصبة من الرجال، فقد أثنى الله ورسوله على أصحاب المال البارين على الفقراء المهاجرين وعلى الذين لا يجدون ما ينفقون بكوا إذ لم يجدوا ما يحملون به أنفسهم للغزو في سبيل الله حيث نصحوا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وكما يسأل المرء عن ماله من أين اكتسبه، يسأل كذلك: وفيم أنفقه؟ إن الذين يتخوضون في هذا المال فلا يبالون بجمعه من أي مصدر وبأي طريقة قوم جاهلون، وإن الذين يهلكون هذا المال فيما حل أو حرم قوم يسرفون على أنفسهم مؤاخذون على تجاوزاتهم، وليس أمام المسلم خيار في جمعه كيف شاء أو في إنفاقه كيفما أنفق «فلن تزولا قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ومنها: عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه» (¬3). وفيما أحل الله غنية عما حرم، وفي الكسب الحلال راحة بال، وطمأنينة قلب، وخير وبركة وفي الكسب الحرام شقاء ونكد، وهموم وغموم، ولوم وتقريع في الدنيا، ومساءلة وحساب يوم العرصات والقيامة الكبرى. ¬

(¬1) رواه أحمد والترمذي وغيرهما بسند صحيح (صحيح الجامع 3/ 98). (¬2) لكن إن اجتمع المال والتقى فنور على نور ونعم المال الصالح للرجل الصالح، وفضل الله يؤتيه من يشاء. (¬3) (رواه الترمذي وصححه الألباني صحيح الجامع 6/ 148).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]. نفعني الله وإياكم بهديه وكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أقول ما تسمعون وأستغفر الله ..

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... إخوة الإسلام السعيد من وعظ بغيره، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ومن الشقاء أن يرى الناس المثلات تحل بغيرهم، ويبصرون ويلتمسون العقوبات تنزل عن يمينهم وشمالهم ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون .. وإذا كان عقلاء العالم يطالبون بإلغاء الربا والتخلص منه إلى غير رجعة لما ذاقوه من مره ونكده .. فمن نوازل العصر ومصائب الزمان في مجتمعنا إعلان هيئة المال إقرار السندات المالية (القائمة على الربا) وما أدراك ما هذه السندات؟ وما حكم الشرع فيها؟ إن مما تجري به معاملات بعض الناس اليوم أخذ الزيادة في المال أي نقدًا بنقد بزيادة يسمونها زورًا وبهتانًا (بالفائدة) يأخذها الدائن من المدين نظير تأجيل الدين من قرض أو ثمن مبيع أو نتيجة تفضيل أحد المبيعين على الآخر مما يجري فيه ربا الفضل كالذهب بالذهب وغيره مما فيه علة الربا، وقد تكون هذه الزيادة مشروطة، وقد تكون متعارفًا عليها كما هو واقع كثير من المعاملات البنكية وغيرها من المعاملات الربوية الشائعة، والربا الذي حرمه الله ورسوله نوعان: ربا فضل (زيادة) وربا نسأ (وهو التأجيل) ومما يجمع بين النوعين من الربا الإقراض بفائدة، وذلك بأن يقوم البنك أو غيره بإقراض عملائه قرضًا بفائدة يتفقون عليها، ويكون التسديد من العميل على دفعة أو دفعات. وقد أجمع العلماء المعتبرون على تحريم هذا النوع من القروض وعدوه صريح الربا. وإن من أدوات توسيع القروض بفائدة إصدار السندات، وهي وسيلة من

وسائل التمويل الربوي فإذا احتاجت جهة معينة أو شركة من الشركات إلى اقتراض ربوي، فمن طرق ذلك أن تصدر هذه الجهة سندات (دين) بقيمة عشر ريالات مثلًا للسند الواحد، ويكون له فائدة دورية، ويتحول الدين في سوق المال (تداول) إلى سلعة تباع وتشترى، وإصدار السندات بهذه الصفة وتداولها محرم بل محادة وحرب لله ورسوله. وقد أفتت اللجنة الدائمة بأنه (لا يجوز بيع ولا شراء السندات المذكورة لأنها معاملة ربوية محرمة والربا محرم بالنص وإجماع المسلمين) (¬1). وقد تكدر لسماعها في زمنه سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله حين قال: اطلعت على إعلان في صحيفة الشرق الأوسط يوم الاثنين 12/ 8/ 1409 هـ وفيها إعلان عن إصدار خزينة إحدى الدول العربية سندات اقتراض بربح أحد عشر واثني عشر في المائة لسنوات مبينة في الإعلان، ولقد كدرني ذلك كثيرًا ورأيت أن من واجب النصح لله ولعباده بيان حكم هذا الاقتراض- ثم ذكر أدلة تحريم الربا من الكتاب والسنة- ثم ختم بقوله فنصيحتي للخزينة المذكورة ترك هذه المعاملة، والحذر منها لكونها معاملة ربوية، ونصيحتي لكل مسلم ألا يدخل فيها لكونها معاملة محرمة مخالفة للشرع المطهر (¬2). كما أصدر مجمع الفقه الإسلامي قرارًا بتحريم هذه السندات وجاء نص قرارهم: إن السندات التي تمثل التزامًا بدفع مبلغًا مع فائدة منسوبة إليه أو نفع بشروط محرمة شرعًا من حيث الإصدار أو الشراء أو التداول؛ لأنها قروض ربوية سواء أكانت الجهة المصدرة لها خاصة أو عامة ولا أثر لتسميتها شهادات ¬

(¬1) [رقم الفتوى 19278 جـ 14 صـ 353]. (¬2) (المجلد 19 صـ 191).

أو صكوكًا استثمارية أو ادخارية، أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحًا أو ريعًا أو عمولة أو عائدًا (¬1). أيها المسلمون ولم يفق الناس بعد من ضربات الأسهم، والكثير من المتضررين بها عادوا يلومون أنفسهم على ويتشككون في نزاهتها أو بعضها من الربا، مما سبب لهم خسارة ومحقا واعتبروا ذلك موعظة من ربهم فانتهوا وتابوا .. أفيراد لهم أن يدخلوا النفق مرة أخرى وبشكل ليس محتمل بل بصريح الربا .. إن أصحاب الربا مهددون بالنار {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ومن يبارز الله بالحرب؟ وأكلة الربا إذا لم يذروه محاربون لله ولرسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278، 279] وأصحاب الربا ملعونون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستوي في ذلك الآكل والمؤكل والكاتب والشهود ففي الحديث الصحيح: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء (¬2). الربا يا عباد الله مؤذن بهلاك المجتمعات والأمم وقد صح الخبر «إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله» (¬3). ومن يستبشع الزنا فمن باب أولى أن يستبشع الربا، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية». ¬

(¬1) (مجلة المجمع عدد 6 ج 2 صـ 1237، وعدد 7 صـ 73). (¬2) (رواه مسلم). (¬3) رواه الطبراني والحاكم عن ابن عباس وصححه الألباني في صحيح الجامع 1/ 246).

بل لقد ورد في تشنيع الربا وتعظيم جرمه قوله صلى الله عليه وسلم: «الربا سبعون حوبًا أيسرها أن ينكح الرجل أمه» (¬1). يا أخا الإسلام وما بك حاجة إلى هذه المصائب والآثام، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ يملأ بطنك القليل، ويشرق فمك بالكثير .. (وحين تتوكل على الله فسيرزقك كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا) (¬2). إنها معصية المال بل هما مصيبتان، كما قال يحيى بن معاذ مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلها للعبد في ماله، قيل وما هما؟ قال أيؤخذ منه كله ويسأل عن كله (¬3). يا مسلم احتط لدينك وتنبه لجمع مالك .. وإياك أن تأكل أو تطعم أهلك وذريتك الحرام أترغب أن ترد دعوتك؟ وفي الحديث أطب مطعك تستجب دعوتك. لا يغرنك المفتونون .. ولا تكن ضحية للترويج والدعاية والإعلان .. ولا تنظر إلى الهالك كيف هلك ولكن انظر إلى الناجي كيف نجا .. لا تنطلي عليك الحيل .. ولا تغمض عينيك عن الردى .. ولا تصم سمعك عن داع الهدى .. ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها .. جعل الله مطعمك ومشربك حلالًا وكفانا جميعًا المتشابه والحرام .. ¬

(¬1) رواه ابن ماجه بسند صحيح (صحيح الجامع 3/ 186) وبأكثر من رواية. (¬2) رواه أحمد وغيره بسند صحيح (صحيح الجامع: 5/ 60). (¬3) (من خطبة الحفيل عن السندات 3/ 7/ 1430 هـ).

أرض الشام وجرائم النصيرية في سوريا

أرض الشام وجرائم النصيرية في سوريا (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ... الشام أرض باركها الله، فيها قبلة الأنبياء، ومسرى محمد- عليهم جميعًا أفضل السلام والسلام- {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]. أرض الشام- وفيها بيت المقدس- أرض المحشر والمنشر، عن ميمونة بنت سعد -مولاة النبي صلى الله عليه وسلم- قالت: قلت يا رسول الله «أفتنا في بيت المقدس، قال: أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره، قالت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه؟ قال: فتهدي له زيتًا يسرج فيه فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه» الحديث (¬2). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «مكة أم الخلق وفيها ابتدأت الرسالة المحمدية وأطبق نورها الأرض .. والإسلام في الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم، ودلت الدلائل المذكورة على أن تلك النبوة بالشام والحشر إليها، فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يحشر الخلق، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام .. » (¬3). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 3/ 6/ 1432 هـ. (¬2) رواه ابن ماجه وقال: إسناده صحيح ورجاله ثقات (1407) ورواه غيره كأحمد وأبي داود والطبراني وصححه الألباني (الأربعون المقدسية/ 38). (¬3) (الفتاوى 27/ 43).

أيها المسلمون وقد أثنى الذي لا ينطق عن الهوى على أرض الشام فقال-كما في حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه-: «طوبى للشام، طوبى للشام، قلت: ما بال الشام؟ قال: الملائكة باسطوا أجنحتها على الشام» (¬1). وفي الصحيحين من حديث معاوية رضي الله عنه ما يؤكد أن الشام مقام الطائفة المنصورة حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس» قال معاذ بن جبل «وهم أهل الشام» (¬2). وفي تحديد أكثر لدمشق وما حوله قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، أو على أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة» (¬3). إخوة الإسلام يطول بنا الحديث لو ذهبنا نستقصي فضائل الشام ونصرة أهلها المؤمنين فهي «خيرة الله من أرضه» و «يجتبى إليها خيرته من عباده» «وفسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام» (¬4). وبرغم أن الشام لم تفتح في زمن النبوة، فقد طرقت جيوش المسلمين أرضها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم في (سرية مؤتة) ثم اقترب منها النبي صلى الله عليه وسلم في «غزوة تبوك» حتى إذا ¬

(¬1) رواه أحمد، والترمذي، والطبراني وابن حبان، والبيهقي بإسناد حسن (جامع الأصول 9/ 350، الأربعون المقدسية/ 54). (¬2) (البخاري 3641، 7460، ومسلم 1923، 174، ورواه غيرهما). (¬3) رواه أبو يعلى في المسند، وقال الهيثمي في مجمعه رجاله ثقات .. ورواه غيره والحديث صحيح (الأربعون المقدسية/ 51). (¬4) «والملائكة باسطة أجنحتها على الشام» (انظر في ذلك: جامع الأصول 9/ 350 - 352، الأربعون المقدسية/ 29، 30).

جاء عصر الراشدين فتحت الشام، وهزمت الروم وعادت أرض الشام أرضًا إسلامية يذكر فيها اسم الله، بل وتنطلق منها رايات الجهاد، في أعظم ملاحم شهدها التاريخ في زمن الأمويين، حيث انطلق المجاهدون في شرق الأرض ومغربها يفتحون البلاد، ويسلمون العباد، وكانت (دمشق) حاضرة المسلمين ومركز خلافتهم قرابة قرن من الزمان، ثم توالت الدول الإسلامية على أرض الشام، حتى حل الباطنيون (العبيديون) أرض مصر واستولوا عليها وأفسدوا أرضها وأهلها، وطال بلاد الشام فسادهم، وفي أيامهم أخذت النصارى ساحل الشام من المسلمين، وذلك لأن العبيديين كانوا يستوزرون اليهود والنصارى حتى كثرت معابدهم- لاسيما الكنائس- الأمر الذي جرأهم على غزو بلاد المسلمين، وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن حكم هؤلاء العبيديين (نحو مائتي سنة) كان على غير شريعة الإسلام وهم رافضة في الظاهر، ولكنهم في الباطن إسماعيلية ونصيرية وقرامطة باطنية (¬1). وما زال المسلمون يعظمون بيت المقدس والأرض المباركة بالشام، حتى التقوا بالنصارى في عدة معارك حتى كان فتح بيت المقدس للمرة الثانية على يد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله ثم توالت الحملات الصليبية على بلاد المسلمين .. وكان التركيز على بلاد الشام حتى تم لهم السيطرة عليه، وشهدت ساحات الأقصى مجزرة رهيبة حتى كانت خيل النصارى تخوض في دماء المسلمين .. وقال قائلهم بعدها قد عدنا يا صلاح الدين .. ولئن كانت عداوة اليهود والنصارى مكشوفة للمسلمين بنص القرآن فالدرس المهم هو أن الذي مهد لهؤلاء النصارى لدخول بلاد الشام هم الباطنية الذين يظهرون الإسلام ويبطنون ¬

(¬1) (الفتاوى 28/ 635، 637).

الكفر والبغض لأهل الإسلام، وهؤلاء كانت بدايتهم بالدولة العبيدية التي انطفأ نور الإسلام والإيمان في زمنها في بلاد المسلمين، بل قال بعض العلماء: أنها كانت دار ردة ونفاق كدار مسيلمة الكذاب (¬1). وتحدث العلماء عن عداوة هؤلاء الباطنية لأهل الإسلام، حتى أعلنوا سب الصحابة في منابرهم، وكان العلماء يخافون من رواية الأحاديث النبوية في زمنهم خوفًا من القتل، حتى قرر شيخ الإسلام أنهم قتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم وألا يحصي عدده إلا الله، ومن هنا حكم الشيخ على هؤلاء الباطنية (المسمون تارة بالقرامطة وأخرى بالنصيرية، أو القرامطة) بالكفر والضلال، وقال أنهم أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، وقال أن ضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين كالتتار والفرنج وغيرهم (¬2). إخوة الإسلام وحيث قرر شيخ الإسلام وغيره فساد عقائد هؤلاء الباطنية، وبغضهم للإسلام الحق وأهله فقد قرر الشيخ أن جهاد هؤلاء الباطنية وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات .. واعتبر الشيخ جهادهم من جنس جهاد المرتدين الذين قاتلهم الصديق وسائر الصحابة معه (¬3). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}. ¬

(¬1) (الفتاوى 35/ 139). (¬2) (الفتاوى 35/ 149، 150). (¬3) (الفتاوى 35/ 158).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله القوي العزيز، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. أيها المؤمنون، وأيام الله دول وحيث تقلبت بلاد الشام بين عز المسلمين، وذل الباطنيين فقد شاء الله وقدر أن تقع أرض الشام (دمشق وما حولها) في هذا الزمان في قبضة (النصيرية) فمن هم النصيرية وما جرأهم ضد المسلمين؟ هي فرقة تنسب إلى مؤسسها وهو الشيعي محمد بن نصير المتوفى سنة 260 هـ وكان من أتباع الحسن العسكري، وقد ادعى النبوة ويقول بالتناسخ والحلول وتأليه الأئمة (كما ذكر ذلك النوبختي في فرق الشيعة/ 78) وفي عقائدهم (النصيرية) وتأثر بعقائد النصارى، ويعتقدون أن عليًا رضي الله عنه إلهًا- تعالى الله- (¬1). وقد سئل عن (النصيرية) شيخ الإسلام: ما تقول السادة العلماء في النصيرية القائلين باستحلال الخمر، وتناسخ الأرواح، وقِدم العالم، وإنكار البعث والنشور، والجنة والنار في غير الحياة الدنيا، وبأن الصلوات الخمس عبارة عن خمسة أسماء وهي: علي، وحسن، وحسين، ومحمد، وفاطمة .. إلخ ما ذكر السائل من أوصافهم فأجاب الشيخ: هؤلاء القوم المسمون بـ (النصيرية) هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية، أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين إلى أن قال: ولا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات، وهم أتباع أبي شعيب محمد بن نصير، وكان من الغلاة الذين يؤلهون عليًا (¬2). ¬

(¬1) (تاريخ الإسلام حسن إبراهيم 4/ 266) (¬2) (الفتاوى 35/ 145 - 161).

وحيث تبين معتقد النصيرية وعدوانهم على المسلمين في الماضي، فهم مثل أو أشد في زماننا الحاضر (¬1)، ومنذ أن استولى النصيرية على سوريا، وهم يسومون المسلمين السنة سوء العذاب، وقد عاد الإسلام غريبًا في حكمهم، والمسلمون غربًا فمنهم من قتل ومنهم من طرد أو سجن، هدمت المساجد، واضمحل العلم وغاب العلماء، بل وعادت الأرض المباركة ميدانًا للخيانات والتحالفات مع أعداء الأمة يفعل وتجاوزات هذه الطائفة النصيرية المنحرفة حتى صرح قادة الكتاب الصهيوني بقوله: «إن إسرائيل لن تكون بأمان ولن تكون قوة إقليمية عظمى ما لم تكن محاطة لفيفًا من الدويلات الطائفية والعرقية» واليوم وحيث ينتفض الشعب السوري مطالبًا بالحرية ورفع الظلم، والعودة للهوية المسلمة. يواجه بالحديد والنار، وتتحرك الدبابات والمدفعيات لتقصف المدن الآهلة بالسكان قصفًا عشوائيًا، تتساقط على أثره الجثث، ويكثر الجرحى، في مذابح بشعة، وعلى مرأى العالم ومسمعه، وإذا ثبت مشاركة النظام البعثي النصيري من قبل ميلشيات وعصابات تابعة لحزب الله (المزعوم) والباسيج الإيراني- حيث تقوم بالقتل على الهوية- فإن ذلك يعني حربًا طائفية على المسلمين السنة في سوريا. إنها جرائم حرب ومذابح يندى لها الجبين، ويستصرخ المستضعفون المحاصرون في سوريا إخوانهم فهل من مجيب؟ ويحكم الحصار أكثر على ¬

(¬1) وليس بخفي أن وجود هؤلاء النصيرية وتمكينهم كان يدعم من الغرب لاسيما (الفرنسيين) الذين أنزلوهم من الجبال وشجعوهم على الانخراط في السياسة تحت راية المستعمر ليخلفوهم بعد رحيلهم وقد كان، حتى أن تسمية النصيرية بـ (العلويين) صدر بقرار رسمي من قبل المندوب السامي الفرنسي في بيروت.

(درعا) وساكنيها، وتهدم بيوتها وتحاصر مساجدها، وتفنى أهلها وهمجية تذكر بغزو بلاد المسلمين. وحيث أعلن عن أدوار إيجابية لبعض الدول الأوروبية (كفرنسا) لردع النظام السوري إذا استمر في بطشه على المدنيين العزل وأمريكا تعتبر تصرفات سوريا تحمل شعب تصرفات همجية .. فالمسلمون أولى بالنصرة والمساعدة وأول ما يتجه الخطاب للأحرار من قوات الأمن والجيش في سوريا يكف القتال ورفع السلاح عن إخوانهم الذين يطالبون بحقوقهم ورفع الظلم عنهم، وهو حق كفلته شريعة الإسلام بل والأنظمة العالمية كلها، ثم يسير التذكير للعلماء والعامة في سوريا أن يكونوا صفًا واحدًا مقابل الظلم والعدوان، ويذكر شيوخ العشائر والقبائل في سوريا كذلك بنصرة المظلوم وردع الظالم كما تطالب الدول بمنع النظام السوري من عمليات القمع الوحشية ضد شعبه الأعزل، ويطالب المسلمون عمومًا بالنصرة والمؤازرة لإخوانهم- بما يستطيعون- وبالتضرع إلى الله تعالى بأن يكشف كربتهم ويحقن دماءهم ويحمي أموالهم وأعراضهم، ويثير في هذه المحنة، وأن يخذل عدوهم ويظهر الحق ويبطل الباطل .. ويطالب العلماء والدعاة وأصحاب الفكر بقول كلمة الحق وفضح النظام البعثي النصيري والكلمة منهم في هذه المرحلة ومن يدري فلعل هذه الانتفاضة في بلاد الشام مقدمات لعودة هذه الأرض لسابق عزها، وإيذان برفع الظلم عن المسلمين، واجتماعهم على الحق، وعدًا تنازليًا لهذه الأقلية النصيرية التي ساقت المسلمين وأفسدت بلادهم والتاريخ لا زال يعلمنا أن البطش والانتقام لا يقيم حضارة ولا يحمي دولة فالله هو القوي العزيز، وكم من مغرور بقوته جعله الله عبرة للمعتبرين .. وعلى المسلمين في سوريا أن يبتهلوا إلى الله، ويصبروا ويصابروا ويرابطوا، ويتقوا آيات الله لا يصلح عمل المفسدين ولا

يهدي كيد الخائنين، وسوف يمكن للمستضعفين ويجعلهم أئمة إن هم صدقوا واتقوا .. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وسيعود إلى أرض الشام بإذن الله عزها، وللمسلمين مجدهم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .. اللهم انصر دينك وعبادك الصالحين، واجعل الدائرة على الكافرين والمنافقين، اللهم أصلح أحوال إخواننا المسلمين في سوريا، واحفظ عليهم أمنهم وإيمانهم وثبت أقدامهم واشف أمراضهم، واسخط على عدوهم. وفرق جمعهم، واقذف الرعب في قلوبهم.

الأوامر الملكية الواقع والمأمول (¬1) إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره. كانت الجمعة الماضية 13/ 4/ 1432 هـ موعدًا للوفاء، وفرصًا للعطاء، ومزيدًا من التلاحم بين الراعي والرعية، وكانت هذه الجمعة- بحق- مضيئة كإضاءة القمر في آخر أيام البيض التي وافقت إعلان هذه الأوامر الملكية والأعطيات السخية، ومهما اختلفت وجهات النظر في تقييمها، أو اختلف الناس في النظر إليها .. فلا يمكن بحال لمنصف أن ينكر جملة من المعاني والمعالم البارزة في هذه الأوامر الملكية ولعل أبرزها ما يلي: 1 - أنها سبقت بكلمة معبرة من خادم الحرمين الشريفين صُفع فيها الباطل بالحق والخيانة بالولاء، وحيثما كان الخطاب موجهًا لعموم شعب المملكة، فقد خصص العلماء بالخطاب أولًا، وهم في نظر الوالي أوفى من وقف، وأحق من يكرم، وأخص من يذكر ويشكر، وكأن في هذه الاستهلالة إشارة إلى آيتين في كتاب الله أولاهما قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}، والأخرى قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}. 2 - والتأكيد على مكانة العلماء في المملكة ليس غريبًا ولا جديدًا، فالدولة السعودية الأولى تأسست على يد رجلين هما: الإمام محمد بن سعود، والإمام محمد بن عبد الوهاب- رحمهما الله- واستمر للعلماء مكانتهم، وتواصوا ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 20/ 4/ 1432 هـ.

الأمراء بتقديرهم والثناء على مكانتهم حتى جاء خطاب النائب الثاني ووزير الداخلية- قبيل إعلان الأوامر- مؤكدًا على العلماء مثنيًا على جهودهم، مقدرًا لمواقفهم (¬1). 3 - ويتجاوز الثناء على العلماء إلى التأكيد على قيمة العلم الشرعي بكافة رجاله ورحابه وبكل مؤسساته العلمية والشرعية والدعوية والاحتسابية .. فأخذ الأوامر الملكية إنشاء مجمع فقهي سعودي لمناقشة القضايا الفقهية .. وآخر بإنشاء فروع للرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء في كل منطقة من مناطق المملكة، وإحداث ثلاثمائة وظيفة لهذا الغرض، واعتماد مائتي مليون لهذه الفروع، وثالث لتخصيص مبلغ ثلاثمائة مليون لدعم مكاتب الدعوة وتوعية الجاليات، ورابع هذه الأوامر: دعم الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف بمائتي مليون لاستكمال بناء مقرات لها في مختلف مناطق المملكة، وخامسها دعم جمعيات تحفيظ القرآن الكريم بمائتي مليون. 4 - يحق للمتابع لهذه القرارات والأوامر الملكية أن يستنتج رمزيتها، وأن يبصر طعمها ولونها، وأن يتأكد من مكانة هذه القطاعات والمؤسسات الشرعية في بلاد الحرمين، فهي -في نظر الدولة- لا تستحق مجرد البقاء، بل وتستحق الدعم والمساندة ماديًا ومعنويًا، وكشفت هذه الأوامر الخاصة بهذه المؤسسات الشرعية والدعوية عن هوية قوم كانوا يغردون خارج السرب، وربما وصل الحال ببعضهم إلى المطالبة بإلغاء هذه المؤسسات أو ضمها لبعض، أو تقليص ¬

(¬1) والأوامر الملكية لا تقف عند حد الثناء على العلماء وتقدير مكانتهم، بل وتمنع من أكل لحومهم، وتضع حصانة على أعراضهم من أن تمس بسوء في أي وسيلة من وسائل الإعلام، والدفع عن كل من يتجاوز ذلك لمقام خادم الحرمين.

صلاحيتها .. أو الشغب عليها بشكل أو بآخر .. فجاءت الأوامر صفعة للباطل بالحق، وترسيخًا للخير، وتزكية للخيرين، وتأكيدًا على خصوصية بلاد الحرمين والتي طالما حاول البعض تغيبها أو إنكارها. 5 - وحيث شملت الأوامر الملكية العناية ببيوت الله بتخصيص خمسمائة مليون لترميمها في كافة أنحاء المملكة، فلا شك أن العناية بالمساجد يعني العناية بدور المسجد ورسالته في المجتمع، والعناية بأئمة المساجد تأهيلًا وتدريبًا، والعناية بالمصلين دعوة وتعليمًا. 6 - أما كتاب الله فهو المهيمن على الكتب السماوية كلها، وهو النور والشفاء، والذكر والبصائر. ولا غرابة أن تعني الدولة -وفقها الله- به تعلمًا وتعليمًا، وطباعة وحلقًا .. فهو الدستور الأعظم الذي تستمد منه نظامها .. وهو مع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم هو الفيصل والحكم في أنظمتها وأحكامها. 7 - ولم تهمل الأوامر الملكية دنيا الناس ومعاشهم، وتحسين ظروفهم الاقتصادية حيث شملت العاطلين عن العمل، ووفرت السكن، وحمت المستهلك من الجشع، ورفعت الحد الأدنى لرواتب السعوديين لا تقل عن ثلاثة آلاف ريال، ورفعت قرض صندوق التنمية العقارية إلى خمسمائة ألف، ثم أكملت فرحة موظفي الدولة بمنحهم مرتب شهرين، وتجاوزت إلى طلاب وطالبات التعليم العالي الحكومي، وهذه الأعطيات يقدرها الإسلام وتعني بها الحضارة الإسلامية، فديوان العطاء مفرق في تاريخه الإسلامي. 8 - وجاء الأمر بمحاربة الفساد ومتابعة المفسدين معلمًا بارزًا في هذه الأوامر الملكية لا يستثنى أحد (كائنًا من كان) ولا يسمح بأي لون من الفساد (المالي والإداري) ولا مكان للمحسوبية والرشاوي، أو استغلال النفوذ، أو التستر ولعل من نافلة القول أن يشمل هذا الأمر الملكي الداعي لمحاربة

الفساد إصلاحًا في السياسة والاقتصاد والتربية والتعليم والعدل، والاجتماع والإعلام .. وسواها من مرافق الدول .. إنها صيحة ينبغي أن تجلجل في بلادنا وثقافة حرية بأن تنتشر بين كافة أفراد مجتمعنا، ومسئولية ينبغي أن نحملها ونتحملها جميعًا. 9 - كما جاء الأمر بمحاربة الجريمة وملاحقة اللصوص وسراق المال والأمتعة أو سراق العقول والقلوب بالمخدرات والمسكرات ونحوها، ومتابعة من تسول له نفسه العبث بأمن البلد ومقدراته .. وذلك بتعزيز الأمن وضخ ستين ألف وظيفة للأمن العام، نأمل أن تكون إنذارًا للمجرمين وحسمًا لمواقع الفتنة، وفرصًا وظيفية لأبناء الوطن. 10 - وحيث شملت الأوامر الملكية العسكريين المرابطين بترقياتهم وبناء وحدات سكنية لهم، فلاشك أن هؤلاء يمثلون خط الدفاع الأول، وهم أهل لحراسة مكتسبات الوطن والزود عن قلعة الإسلام، وقطع الطريق على كل صاحب فكر منحرف يريد نقبًا في السد، والترصد لكل فئة أو طائفة لها ولاءات وارتباطات خارجية (فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}. 11 - ولم تهمل الأوامر الملكية صحة المواطن والمقيم حيث جاء فيها دعم وتوسعة المدن الطبية في المملكة وشمول ذلك للمدنيين والعسكريين .. اللهم فلك الحمد والشكر، والشكر موصول لولاة أمرنا، ولكل من ساهم في تفعيل هذه الأوامر وعجل بمخرجاتها ووسع دائرة الاستفادة منها {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}. إخوة الإسلام .. ومع الشكر والثناء والابتهاج بالواقع والعطاء .. فثمة أمل ومأمول ورجاء وتطلع .. فالحياة بطبيعتها متجددة، وهي فرص متواصلة،

وتحديات لا بد من فعاليتها .. وبرغم شمول هذه الأوامر بخيرها لشريحة كبرى في بلادنا، فالمأمول أن تمتد المساحة ويشمل بالعطاء من فاته الكرم، وكم هو جميل أن نسمع عن عدد من القطاعات الخاصة شمول منسوبيها بالعطاء تفاعلًا مع هذه الأوامر، ولا نزال نتطلع للمزيد حتى تعم الفرحة المواطن والمقيم والموظف الحكومي وغيره، ولا نزال نتطلع من قادتنا وفقهم الله الالتفات إلى شرائح في المجتمع قد يكون نصيبها من هذه الأعطيات أقل من غيرها، ولا يزال الكرم في الكرام حتى يكون سجية لهم وطبعًا، وخلقًا يتحسسون فيه المحتاج ويبعدون شبح الإحباط. عن كل فئات المجتمع، وحيث شملت الأوامر المرأة العاملة - خارج بيتها- فالمأمول أن تشمل مكارم الدولة المرأة العاملة في بيتها، حيث هو عمل يستحق الإشادة والتشجيع، وربات البيوت هن الحارسات الأول لبيوتنا، والمدارس المخرجة لفلذات أكبادنا .. فالأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق، والأم أستاذ الأساتذة الأولى شغلت مآثرهن مدى الآفاق. والمأمول كذلك من قادتنا- وفقهم الله- أن يشملوا بكرمهم من هم خلف القضبان يتطلعون إلى الإفراج عنهم ليشاركوا بالفرحة مع غيرهم، ولتكتمل فرحة ذويهم وأهليهم، ويهدأ الطلب بالحديث عنهم، لاسيما من لم يثبت بحقه جرم يستحق العقوبة شرعًا، أو تلبس بأفكار وقناعات تجعله يمثل خطرًا على أمن البلد مستقبلًا أو من أحس بخطأه وصحت توبته، ومن يتطلعون للعفو عنهم كما عُفي عن غيرهم. والمؤمل كذلك أن يستشعر أصحاب الجهات والهيئات والمؤسسات، والجمعيات والقطاعات المدعومة مسئوليتهم في استثمار هذه الأوامر وتفعيلها، والتفكير بعقليات متفتحة، وأفكار ورؤى وآليات تطور وتبدع، وتدرب وتبتكر، وتزيد مساحة الخير، وتكون على مستوى تطلع القادة، وتحديات الواقع، فتوفر المال نعمة، ولكن استثمار هذا المال وتوسيع مخرجاته والعمق في فقه القرارات والأوامر نعمة لا تقل عن سابقتها. أملنا كبير في تفعيل هذه الأوامر الملكية، ووضع الهيئات واللجان الرقابية والمعايير، واستصدار الأنظمة واللوائح المفيدة حاضرًا ومستقبلًا. وأمل أكبر أن يصاحب هذه القرارات شعور جماعي بالمسئولية، وثقافة تنتشر

في المجتمع لتغيير كثير من المفاهيم الخاطئة، وتعاون على البر والتقوى يحفظ على هذه الأوامر جمالها ويبلغ بها الحد الذي يريك الإسلام أولًا، ويتطلع إليه كل مسئول ومخلص لبلده وأمته ثانيًا. والمأمول كذلك أن نفرح جميعًا بهذه الأوامر .. ولا يسوغ لأحد أن يختزلها أو يختصر شيئًا منها، وكم كانت صدمة حين خرجت بعض صحافتنا بعد الإعلان عن هذه الأوامر، لتهمل عددًا من هذه الأوامر، في عناوينها، أو في تعليقات رؤساء وأصحاب الأعمدة فيها ولئن كان من حق أي إنسان أن يعبر عن وجهة نظره في موقعه الإلكتروني أو في مجالسه الخاصة، أو مع من يشاركونه الثقافة .. فليس يسوغ بحال أن يكون الاجتراء في صحف تمثل الدولة وتنطلق من سياستها الإعلامية، وليست ملكًا لثقافة معينة، أو حكرًا لأشخاص معينين ومجتمعنا - بحمد الله- بلغ به الوعي منزلة لا يليق تغييبه أو تجهيل أفراده وكما حجبت مواقع - كانت تسبح عكس التيار- ينبغي أن تحاسب أو تحجب من يزيف الوعي، أو يعبر عن الدولة بخلاف تعبيرها. وعزاؤنا أن الأكثرية في المجتمع فرحة وشاكرة، وأن ثمة وسائل إعلام أخرى عبروا بها عن فرحتهم وشكرهم لولاته أمرهم. وبعد يا عباد الله فبالشكر تدوم النعم ترى كم منا من شكر الله على هذه النعم فأعطى وتصدق، وأخلص في عمله وشارك في إصلاح مجتمعه وزادته هذه النعم طاعة لله وشكرًا له وحسن عبادة، ولم يتيسر شكر ولاته والدعاء له. هنا وقفة ولفتة ذكر بها خادم الحرمين الشعب بالدعاء له .. والدعاء لولي الأمر حق وهو أقل واجب، وصلاح الراعي أقرب طريق للإصلاح ومحاربة الفساد، اللهم فاهد قلبه وثبت إيمانه وقو عزيمته على الخير، وبارك له في عمره وعمله، وألبسه ثوب الصحة، واجعله نصرة للحق وسيفًا على المبطلين،

وأصلح له البطانة، وسدده في مسؤلياته ومتابعة قراراته، واشمل بالدعاء نائبه الأول، ونائبه الثاني الذي بشر بهذه الأعطيات قبل صدورها، وأثنى على العلماء والخطباء وقدر مواقفهم .. اللهم انصر من نصر الدين واجعل الدائرة على الكافرين المنافقين.

الحياء من الإيمان

الحياء من الإيمان (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله أمر بالبر والتقوى، ونهى عن الفحشاء والمنكر قولًا وفعلًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له من لاذ بحماه نجى، ومن أعرض عن ذكره فإن له معيشة ضنكًا، ويحشر يوم القيامة أعمى وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله دعا إلى مكارم الأخلاق وكان أسبق الناس لها، ونهى عن خوارم المروءة وقبائح الأخلاق فكان أبعد الناس عنها .. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، هم مصابيح الدجى، والأعلون في الآخرة والأولى، ورضي الله عن الأصحاب النجباء، والمجاهدين الأوفياء، ومن تبعهم بإحسان ما لاح برق أو أضاء نجم في السماء .. أوصي نفسي وإياكم معاشر المسلمين بالإيمان والتقوى {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا}. أيها المؤمنون: خلق عظيم من أخلاق الإسلام، وميراث من ميراث النبوة الأولى ما أحرانا بالتذكير به، وأخذ أنفسنا به- قولًا وعملًا- يوصف به الله جل جلاله، ووصف به خيرة خلقه صلى الله عليه وسلم .. «إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر» (¬2). وفي الحديث الآخر: «إن الله تعالى حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرًا خائبتين» (¬3). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 21/ 4/ 1430 هـ. (¬2) رواه أحمد وغيره وصححه الألباني في صحيح الجامع (2/ 108). (¬3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم بسند صحيح (صحيح الجامع الصغير 2/ 108، 109).

وكما أن الحياء سمة للأنبياء في الدنيا ومحمد صلى الله عليه وسلم كان أشد حياء من العذراء في خدرها فهو سيمتهم في الآخرون وقد ورد أن عددًا من الأنبياء- عليهم السلام- حين تطلب منهم الشفاعة يوم الموقف العظيم يتوقفون، وهم يذكرون ذنوبهم فيستحيون من الشفاعة، ويقول آدم: لست ها هنا ويذكر ذنبه فيستحيي، ثم يأتون نوحًا فيستشفعونه فيقول لست ها هنا ويذكر سؤاله ربه ما ليس به علم فيستحيي، ثم يأتون الخليل، ثم موسى ويذكر قتل النفس فيستحيي من ربه، ثم يأتون عيسى فيعتذر حتى يأتون محمدًا صلى الله عليه وسلم فيستأذن ربه ويخر ساجدًا، ويدعو ما شاء الله حتى يؤذن له بالشفاعة .. الحديث (¬1). ألا ما أعظم الحياء حين يكون سمتًا للأنبياء في الآخرة والأولى، ومن قبل صفة لله جل وعلا، وما أقبح البذاء والجفاء ولاسيما حين يقودان إلى هتك الحجب، وتجاوز الحدود المشروعة فيورد صاحبه البوار، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء والجفاء في النار» (¬2). يا أيها المتفاصح في المجالس رياءً وسمعة، أو تصدرًا للحديث للشهرة إياك أن تتجاوز الحياء، وتقع في النفاق، وفي الحديث: «الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق» (¬3). إن الحياء قرين الإيمان (وكفى بذلك منزلة) وقد صح الخبر «الحياء والإيمان قرنا جميعًا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر» (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري (4476) الفتح (8/ 160). (¬2) رواه الترمذي والحاكم وغيرهما بسند صحيح (صحيح الجامع الصغير 3/ 103). (¬3) رواه أحمد والترمذي والحاكم وسنده صحيح (صحيح الجامع الصغير 3/ 103). (¬4) رواه الحاكم وغيره وصحح إسناده الألباني (صحيح الجامع 3/ 103).

أيها المسلمون وثمة مفاهيم خاطئة قد تعد من الحياء المشروع وهي ليست كذلك، كالقعود عن طلب العلم، قال مجاهد: لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر، وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: نِعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين (صحيح البخاري، كتاب العلم، باب الحياء في العلم). ولا ينبغي أن يمنع الحياء من التفقه في الدين وسؤال ما أشكل، فإن استحيا بنفسه عن السؤال وكل غيره، كما فعل علي رضي الله عنه حين كان رجلًا نداءً (هو الذي يحرج من الرجل عند الملاعن (الفتح 1/ 230). فقال صلى الله عليه وسلم فيه الوضوء (صحيح البخاري) ينبغي الحياء في المطالبة بالحقوق ولا في تعليم الجاهل، ونصرة المظلوم، وردع الظالم. ليس من الحياء التوقف عن قول الحق أو فعل الحق، وفي البخاري عن أم سليم رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة غسل إذا احتلمت؟ قال: إذا رأت الماء (¬3). ومن المفاهيم الخاطئة في الحياء التأخر في فعل المأمور الشرعي بسبب الحياء، أو الإقدام على فعل المحذور شرعًا لا حياء ومجاملة للآخرين، فالحياء- الحق- لا يأت إلا بخير- ليس من الحياء المشروع مداراة بعض الأعراف الاجتماعية المنحرفة، وليس من الحياء المشروع الخجل والفزعة بغير الحق- بل عصبية جاهلية.¬

(¬1) (¬2) (¬3) (رواه البخاري ح 130 الفتح 1/ 328).

عباد الله ليس من الحياء من الله من إذا جن ليل وكان الظلام باشر من الفجور وارتكب من المعاصي والآثام ما لم تخطئه عين الله ولم يغب عن علمه، وإن ستره في الدنيا فالفضيحة يوم القيامة على رءوس الأشهاد وليس من الحياء من يظهر التنسك والعبادة أمام الخلق حتى إذا لاح له مغنم من الدنيا أو غاب عن أنظار الخلق نسي الله ونسي نفسه وتنسكه فلم يبال بالحرام ولم يتورع عن المنكرات .. ليس من الحياء من يعتدي على أعراض الناس أو أموالهم أو دمائهم .. وربما رأى ذلك نوعًا من الشطارة والشجاعة والدهاء. ليس من الحياء من يتكاسل عن الصلاة المكتوبة أو يمنع الزكاة الواجبة .. وليس من الحياء شرب المسكرات وتناول المخدرات .. ليس من الحياء المجاهرة بالمعصية أو رؤية المنكر دون تمعر الوجه وتحرك الإيمان لتغير المنكر وليس من الحياء الكذب في الحديث، والخلف في الموعد، والفجور في المخاصمة. إن من مظاهر التوازن، ومن علامات التكامل في التربية، أن تجد المؤمن القوي الحازم الدءوب حييًا خجولًا أديبًا وقورًا. الحياء الممدوح: (خلق يبعث على ترك القبيح) (¬1) - كما عرّفه ابن حجر- وقد صنف الحياء إلى شرعي وغير شرعي فقال: (الشرعي الذي يقع على وجه الإجلال والاحترام للأكابر- وهو محمود- وأما ما يقع سببًا لترك أمر شرعي، فهو مذموم وليس هو بحياء شرعي، وإنما هو ضعف ومهانة (¬2). ¬

(¬1) فتح الباري 10/ 522 عند شرحه لباب الحياء من كتاب الأدب - الحديث 6118. (¬2) فتح الباري 1/ 229 عند شرحه لباب الحياء في العلم من كتاب الإيمان.

ومن الحياء والذوق الرفيع أن تأتي للناس مثل ما تحب أن يأتوه إليك .. وثمة أبرار حييون إذا خلوا من الناس خلوا بربهم يعبدونه ويبكون وإذا خالطوا الناس كانوا بالمعروف آمرين وعن المنكر ينهون لا يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله وربما بلغ بهم الإيمان أن فرحوا بكل نعمة تحصل لإخوانهم المسلمين وكأنما حصلت لهم .. أيها المسلمون ومن لم يرزق الحياء بالفطرة، طُولب به بالقصد والاكتساب والتعلم، هو خلق الإسلام خاصة وأنه الخلق المميز لأتباع هذا الدين، كما جاء في الحديث الحسن: «إن لكل دين خلقًا، وخلق الإسلام الحياء» (¬1). لقد كان أهل الجاهلية- على جاهليتهم- يتحرجون من بعض القبائح بدافع الحياء، ومن ذلك ما جرى مع أبي سفيان عند هرقل، لما سئل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول في ذلك: «فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبًا، لكذبت عنه» (¬2) اهـ. ترى الرجل الحيي يحتقن وجهه، وتحمر وجنتاه، إذا صدر منه أو من غيره ما ينافي الحياء: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من عذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئًا رئي ذلك في وجهه» (¬3)، ومن سمت الحياء: ما يتميز به الحيي من مظاهر الوقار والسكينة، إذ روي عن بُشير بن كعب قوله: (مكتوب في الحكمة: إن من الحياء وقارًا، وإن من الحياء سكينة) (¬4) قال القرطبي: «معنى كلام بُشير: أن من الحياء ما يحمل صاحبه على الوقار، بأن يوقر غيره، ويتوقر هو في نفسه، ومنه ما يحمله على أنه يسكن عن كثير مما يتحرك الناس فيه من الأمور التي لا ¬

(¬1) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 406 - الحديث 3370/ 4181 (حسن). (¬2) صحيح البخاري - كتاب بدء الوحي- باب 6 - الحديث 7 (الفتح 1/ 31). (¬3) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 406 - الحديث 3369 (صحيح). (¬4) صحيح البخاري - كتاب الأدب- باب: 77 الحديث: 6117 (الفتح: 10/ 521).

تليق بذي المروءة .. ) (¬1) فالحياء يحجز النفس عن كثير من خوارم المروءة، وقوادح الدين. اللهم ارزقنا حياء نخشاك فيه في السر والعلن، وحياءً من خلقك نؤدي إليهم حقوقهم ونحترم واجباتهم. ¬

(¬1) عن فتح الباري 10/ 522 عند شرحه للحديث 6117.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية من ثمرات الحياء ومن الحياء إجلال الأكابر، واحترام أهل السابقة والعلم، وفي سلوك ابن عمر رضي الله عنهما برهان ذلك. فقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، حدثوني ما هي؟ » (¬1) فعرف ابن عمر أنها النخلة، واستحيا أن يجيب، ويعلل حياءه- كما في روايات الحديث- بأنه وجد نفسه أصغر الجالسين، وأنه رأى أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكره أن يتكلم (¬2). كم يشرح الصدر ذلك المجتمع الذي يستحي فيه الصغير من الكبير، ويتعامل الناس فيه بالاحترام والتوقير. ومن ثمرات الحياء أن الحياء بنفسه وقاية من الوقوع في المعاصي، فقد ورد أن أحد الصحابة كان يعاتب أخاه على حيائه، وكأنما يقول له: قد أضر بك الحياء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعه. فإن الحياء من الإيمان» (¬3) قال أبو عبيد الهروي: (معناه أن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي .. فصار كالإيمان القاطع بينه وبين المعاصي) (¬4) ولذلك عمم الرسول صلى الله عليه وسلم في سبيل للخير وزينة للسلوك بيان ثمرات الحياء، فقال: «الحياء لا يأتي إلا بخير» (¬5) وهو سبيلٌ للخير وزينة للسلوك، فقال: «ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه» (¬6). ¬

(¬1) صحيح البخاري - كتاب العلم- باب: 4 الحديث: 61. (¬2) فتح الباري 1/ 146. (¬3) صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب: 77 - الحديث 6118 (الفتح 10/ 521). (¬4) عن فتح الباري 10/ 522 عند شرح الحديث 6118. (¬5) صحيح البخاري -كتاب الأدب- باب: 77 - الحديث 6117. (¬6) صحيح سنن ابن ماجه 2/ 407 الحديث 3374 (صحيح).

وكما يورث الحياء الأدب مع الخلق فهو أعظم حين يورث الأدب والخشية من الخالق، وكما أن الحياء أدب مع الخلق فهو أعظم، بل أسمى صوره حين يكون حياءً من الخالق، ولذا جاء الأمر به «استحيوا من الله حق الحياء». ومن أمارات الاستحياء من الله: أن تحفظ الرأس وما وعى (أي تحفظ سمعك وبصرك ولسانك وأنفك وفكك عن الحرام) وأن تحفظ البطن وما حول (فلا تأكل أو تشرب الحرام) وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا) فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء (¬1). ولإحساس المؤمن في الدنيا بأن الله يراه على جميع أحواله؛ فإنه يستحيي من ربه، حتى في حال خلوته، ولذلك ورد في التستر عند الاغتسال في الخلوة، قوله صلى الله عليه وسلم: «الله أحق أن يستحيا منه من الناس» (¬2) والذي يستحيي من ربه، إن كشف عورته في خلوته، حري به أن يمنعه الحياء من الإقدام على معصية .. يجاهر بها. أخي المسلم حيث تشعر بالحرج، وتخشى التأثم، فتوقف، وحيث يطمئن القلب، ولا تشعر بالحرج، فاصنع ما شئت. فاقد الحياء فليصنع ما يشاء، ولينظر بعدئذ ماذا يفعل الله به. وليس عجيبًا ما نراه من منكرات الأخلاق، إذا علمنا أن رادع الحياء قد مات عند بعض الناس، فالذي لا يستحي- عادة- يصنع ما يشاء، بلا حرج من أحد (¬3). ¬

(¬1) رواه أحمد والترمذي والحاكم وغيرهم بسند حسن (صحيح الجامع 1/ 318). (¬2) من معلقات البخاري في كتاب الغسل - باب: 20. قال في الفتح 1/ 386: ( .. وحسنه الترمذي وصححه الحاكم). (¬2) يراجع فتح الباري 6/ 523 - شرح الحديث 3483 وكذا 10/ 523 - شرح الحديث 6120.

أفلا يكون كل منا عونًا لأخيه في مجاهدة النفس، وتجنب ما لا يليق، والتزام حدود الأدب مع الخلق والخالق، في الخلوة والجلوة، وفي الغيبة والشهادة، فقد جاء في الحديث: «إن الله عز وجل حليم، حيي، ستير، يحب الحياء والستر .. » (¬1) وربما كان لاقتران الحياء والستر فيما يحب الله، إشارة إلى أنه حيث وجد الحياء، وجد الستر والعفاف، وحيث تحل الجرأة على القبائح، يحل معها التكشف والفضائح، إن عيوب النفس مستورة بجلباب الحياء، فإذا ما نزع الستر، تكشفت أمراض النفوس، وتجرأ الصغير على الكبير، وانطلق الناس من كل قيد، وتحرروا من كل وازع، وغرقوا في أوحال الرذيلة ... وستبقى الفطرة ميالة إلى الحياء والستر. فلنحافظ على الحياء ولنجعله لنا شعارًا ودثارًا وخلقًا وسلوكًا ولنتذكر جميعًا أنه حيث وجدك عليه زاد مؤشر الأحياء .. وحيث ضعف الإيمان حل الجفاء والبذاء، وصنع المرء ما شاء، وعند ربك الملتقى. ¬

(¬1) صحيح سنن النسائي 1/ 87 - كتاب الغسل- باب: 7 - الحديث 393 (صحيح).

مشاهد الرعب والموت في عبارة السلام

مشاهد الرعب والموت في عبارة السلام (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. عباد الله المسافة بين الموت والحياة قصيرة جدًا، والخيط رفيع بين الأحياء والأموات .. ومع اكتمال الصحة وتوفر القوة فقد يسترخي المرء للموت رغم أنفه .. وقد ينهك المرض أو الهرم جسد الإنسان ويعمر ما شاء الله له أن يعمر من السنين .. إنه الموت غائب حاضر، بعيد قريب، أجل محتوم وأنفاس معدودة {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}. ويحك يا ابن آدم تفجر وتفسق وتطغى وتتجبر .. وقد يكون الموت منك قاب قوسين أو أدنى، وما من الموت مفر ولا مهرب .. تعجز الأموال أن تدفع الموت .. ويقف الملك والسلطان ضعفاء أمام قدر الله وقوته وأجاله وسلطانه .. وقد يكون الموت راحة من عناء .. وفرجًا من شدة .. ونقلة من حال إلى حال كما يكون الموت شهادة ورفعة، فليس الشأن بالموت- رغم ما فيه من أهوال ومصائب- ولكن الشأن الأعظم فيما بعد الموت، فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ. أيها المسلمون آلمني وآلم غيري من المسلمين حادث غرق السفينة المسماة بالسلام 98. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 18/ 1/ 1427 هـ.

ألف أو يزيدون من المسلمين يموتون حتفهم في لج البحر .. وقبل الموت يحاصرهم الرعب وتحيط بهم المخاوف من كل جانب .. فمن تحتهم حريق تتصاعد أدخنته حتى تكتم الأنفاس وتخلع القلوب، وللنار رهبة لا تخفى، وعن أيمانهم وشمائلهم لج البحر بعمقه وأمواجه المتلاطمة .. فكيف إذا كانت الرياح عاتية .. والجو باردًا؟ وكيف الحال إذا كان على ظهر العبارة قرابة ألف وخمسمائة من البشر وفيهم النساء والأطفال والشيوخ والعجزة، والمرضى والضعفاء؟ إنها حالة من الرعب تبلغ نهايتها حين تتعالى الأصوات بالبكاء وتوزع ستر النجاة .. ولا مفر من الحريق إلا الغرق .. وأخيرًا تنطفئ أنوار المركبة .. والحدث في جنح الظلال، والزمان في أول الشهر فلا بدر من الظلام .. يا الله لك أن تتصور هذه الساعات الحرجة التي عاشها المسافرون على ظهر عبارة الموت؟ ظلمة السفينة وظلمة البحر، واشتعال النار، وأصوات العويل والبكاء .. واستصراخ يقطع أنياط القلوب .. ويحدث شهود العيان الذين نجوا من هذه الكارثة ويقولون تعجز كلماتنا أن تصف المشهد .. ويصعب على الخيال أن يتصور المأساة .. ونحن لم ننج بقوتنا ولا بحيلنا، ولا بمهاراتنا .. إنها العناية الإلهية ليس إلا .. أنقذنا الله ونحن نحسب أنفسنا في عداد الموتى .. كيف لا ونحن نشاهد في كل لحظة أطفالًا يغرقون .. وربما ازرقت أجسادهم من الكرب حتى ماتوا .. ونشاهد نساء ورجالًا يطفون على سطح البحر .. العناية الإلهية أنقذت الطفل الذي قال إن آخر العهد بأبي حين وضعني في قارب نجاة وطلب مني الانتظار .. وبعد أكثر من عشرين ساعة بين أمواج البحر

يعثر رجال إنقاذ على الطفل ليكون في عداد الأحياء تاركًا أباه وأمه وأخاه وأخته في عداد المفقودين .. ويؤكد ناج آخر أنه أمضى خمسين ساعة في البحر في صراع بين الموت والحياة حتى كتب الله له النجاة .. ويروي قصته والثلاثة الذين معه الذي أمسكوا جميعًا بطوق نجاة وكانت الرياح والأمواج تقلبهم ذات اليمين وذات الشمال حتى سقط منهم اثنان في البحر لشدة الأعياء .. ونجا اثنان منهم .. كان هو أحدهم. ويحدث ناج فقد أخاه ويقول حين وقعت في البحر لم أجد إلا برميلًا تعلقت به أنا وعشرة آخرون معي ولمدة خمسة عشر ساعة، وأصعب مشهد واجهته في عرض البحر أن سمك (القرش) التهم أحد الأشخاص من بيننا .. مما جعلنا في حالة ارتباك وذعر متواصلة .. وقال إن هذا المشهد لن ينساه أبدًا. ويروي أحد الناجين بكل ثقة وإيمان إنه لم يفقد عقله منذ بدأ الحدث حتى أنجاه الله، ولم يفتر عن الذكر والدعاء .. يستحضر فضل يوم الجمعة وساعة الإجابة فيه وهو في عمق البحر فيذكر الله ويدعوا .. ويحضر وقت صلاة على أثر صلاة أخرى فلا يتأخر عن الأذان والصلاة وقد لا يستطيع الصلاة إلا قائمًا أو بالإيماء فيفعل، وقد يجمع الصلاتين- وقد يصلي الفجر بوضوء العشاء أو الوتر- إنها حالات تكشف عن الثبات والإيمان .. واليقين ويحدث شباب نجوا عن جهودهم في الإنقاذ، رغم الهول والشدة، وكم تبرز في هذه الحالات مروءات الناس ونجدتُّهم وإن كانوا هم أحوج ما يكونون للنجدة والإنقاذ. فريق من الذين نجوا يحدثون عن الساعات الأخيرة التي ودعوا فيها آباءهم وأمهاتهم وأبناءهم وإخوانهم وأخواتهم .. وقد فصل البحر بينهم، أو التهم الحريق عددًا منهم .. ولك أن تتصور أن العبارة حين غرقت واستقرت في عمق

البحر كانت تغوص لعمق سبعمائة وخمسين مترًا، وكان يرقد فيها مئات من الركاب الذين ابتلعهم البحر ولم يستطيعوا أن يتجاوزوها كغيرهم .. ممن تجاوزها فنجا .. أو تجاوزها وكان مصيره كمصير هؤلاء .. رعب الموت جعل الركاب يتزاحمون على القوارب القليلة للنجاة وربما حمل القارب سبعين وهو لا يتحمل أكثر من ثلاثين، ولذا غرقت القوارب ليغرق معها نفر من الناجين لأول وهلة وليعود من السبعين بعضهم ليعاود الحياة من جديد .. ساعات حرجة .. ومصاب جلل .. كم أنات نفذت .. وكم من عبرات سكبت .. كم من استعانة واستغاثة ولا غوث إلا الله هناك في أعماق البحر الأحمر دفنت آمال، وانقطعت أنفاس، وأصطفى الله شهداء .. تيتم أطفال .. وترملت نساء، وأزهقت أرواح، وذهبت أموال .. فمن المسئول؟ وماذا بعد الحدث، وكيف تكون الاحتياطات في المستقبل؟ أيليق أن يؤذن لعبارة قديمة متهالكة بالإبحار وعلى ظهرها جموع كثيرة من البشر، هذا فضلًا عن البضائع والأموال أثر فض العبارة في بلاد الغرب .. ويسمح لها في بلاد المسلمين؟ كيف يهيم الركاب الناجون من الحريق في لج البحر لخمسين ساعة أو تزيد دون أن تصلهم فرق الإنقاذ .. في بحر لا كالمحيطات الكبرى .. ؟ ! إن الموت لا مفر منه، والأجل لا مهرب عنه .. ولكن الأسباب مأمور بها شرعًا .. فهل تكفي الأسباب والاحتياطات التي عملت لعبارة الموت وركابها .. سواء منهم من نجا أو احترق أو غرق؟ وهل يكفي أن يكون الحدث جعجعة إعلامية ثم ينتهي كل شيء لا يكفي أن نسمع من الناجين حكايات الموت وعبارات المحنة، ومشاعر الذهول ثم ينتهي الأمر ويطوى ملف العبارة. إن الناس قد تنسى الحدث كما تنسى غيره حين تتلاحق الأحداث، ولكن الله

لا ينسى إهمال المسئولين، وتفريط اللامبالاة بأرواح البشر .. ومن حق الناس أن يكون هذا الحدث درسًا لغيره .. تتخذ كافة الاحتياطات ويعتني بالمراكب، ووسائل النجاة، ويكون التواصل لعبارة تحمل مثل هذا العدد مستمرًا من حين تتحرك من مرساها إلى أن تصل إلى غايتها .. أما أن يظل البشر يطفون على سطح البحر ليوم أو يومين أو أزيد دون علم أو طريقة سريعة للإنقاذ .. فذلك لا يسوغ في زمن العلم وعصر التقنية وتوفر وسائل السلامة، هنا لا مكان للشفاعة والواسطة والمحسوبية على حساب أرواح البشر. عباد الله .. وإذا قيل هذا وغيره عن من وراء الحدث والمسئولية عن شركات النقل البحرية .. فيقال لعموم الناجين بل ولعموم المسافرين .. ما هو زادنا للسفر؟ وما هي نوايانا حين السفر؟ إن من الناس من يتزود للسفر بكل شيء ولكن زاده من الإيمان والتقى ضعيف وخير الزاد التقوى فهو أمان من الكروب .. ومطمئن حين الشدائد ومن عرف الله في حال الرخاء عرفه في حال الشدة .. وكم تختلف نوايا المسافرين .. فكن أيها المسافر المسلم مستحضرًا لعظمة الله في جمال سفرك وإقامتك .. وإياك والأماني الباطلة والأهداف المريبة فقد تسافر ولا تعود .. وقد تختم لك بسوء عملك في سفرة لم تتحرز فيها من الخفاء والفجور، تظن بزعمك أنك بعيد عن الأنظار والله يراك حين تقوم وتقعد وتحط وترحل. فالله الله في المراقبة .. والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .. وإذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب .. إنه ميلاد جديد لمن نجوا من عبارة السلام .. ويناف أن يكون موعظة وذكرى لغيرهم من المسلمين .. يراجعوا أنفسهم ويفتشوا في أرصدتهم، ويروا بماذا

يلقون ربهم .. وأحداث الزمان تتكرر .. ومن لم يمت بالسيف مات بغرق تنوعت الأسباب والموت واحد .. والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني. غفر الله لمن لقوا حتفهم وتقبلهم الله شهداء وأجر أهلهم وذويهم ورزقهم الصبر والاحتساب، وشفا الله من مرض وكتب الأجر لمن عانى وسلم، وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية أيها المسلمون ومشهد مأسوي آخر رآه الناس هذه الأيام تلغى فيه آدمية البشر .. وتنس إنسانيته .. وتقصر حقوقه عن حقوق الحيوان فضلًا عن الإنسان .. المشاهد التي تتكرر على أيدي جنود الاحتلال في العراق وهم يمارسون أبشع ألوان الظلم والحقد والكراهية .. أجل إننا ما نسينا ولا نسي الزمان أحداث سجن أبي غريب .. ومآسي جوانتناموا، والسجون الطائرة، والمبحرة، والمغيبة في دول مختلفة .. وهذه الأيام يكشف النقاب عن لون من الهمجية يمارسه الجنود البريطانيون مع الصبية العراقيين .. تعجز العيون عن متابعة المشاهد كلها .. وتعتصر القلوب أسى لحجم الظلم والاعتداء على صبية عزل أي لون من الهمجية هذا .. وأي ضرب من ضروب الحضارة يمارس في أرض الرافدين .. أي كرامة للإنسان .. وأي ذنب اقترفه المسلمون .. غير المقاومة عن بلادهم المحتلة وحقوقهم المشروعة؟ أهذه الحرية المزعومة والتي طالما خدع بها الغرب المغفلين أهذه هذه الديمقراطية التي أراد الغرب أن يزرعها في بلاد المسلمين إن قضايا التعذيب والإهانة والحقد الذي مارسه الغرب في بلاد الرافدين وغيرها أضافت إلى سجل أمريكا وبريطانيا- على الخصوص- مشاهد لا تنسى، وحقدًا حفر في القلوب .. إنهم يزرعون الحقد وينبتون الكراهية لهم في شعوب العالم كله المسلمين .. وتلك إيجابية للمسلمين رغم سلبياتها .. إنها تكشف عن الوجه الصالح للحضارة الغربية المتهاوية .. وإن هذه

المشاهد لتبعث في المسلمين روح الحياة والمقاومة ولكن القوم لا يعقلون .. ولربما عجزت خطب رنانة عن تصوير بغض الغرب للإسلام والمسلمين .. وقامت هذه المشاهد بدور البعث وإلهاب المشاعر .. والقوم بأنفسهم يوقعون ولربما تقاصرت الكلمات مهما كانت بلاغتها عن تصوير همجية الغرب .. فجاءت هذه الأحداث المأسوية والصور الناطقة لتعبر بجلاء .. وتضع الغرب أمام مشاهد الكاميرا التي تسوء ولا تستر وتفضح ولا ترحم. أجل طالما تحدث أهل العقيدة والفكر السليم عن عقيدة الولاء والبراء .. الولاء للمؤمنين والبراءة والبغض للكافرين ولكن أحداث القتل والتدمير والتعذيب والكراهية والعدوان باتت وسيلة ناجحة لتحقيق هذا المفهوم العقدي الذي يملأ آيات القرآن وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. إن العالم الإسلامي اليوم يتململ ويتفجر .. فهو لا يفتأ أن ينتقل من كارثة إلى أخرى ومن حرب إلى ثانية .. وكلها توجه إلى صدور المسلمين .. وقيمهم وإسلامهم .. حتى وصل الأمر إلى قرآنهم ونبيهم .. فكانت قشة قصمت ظهر البعير .. لقد أزعجت هذه الحوادث والتصرفات الرغباء عقلاء القوم وإن لم يكونوا مسلمين .. واعتبروا الأحداث الأخيرة بمثابة قطرة زيت أشعلت الغضب الكامن لدى المسلمين .. إن هذه الأحداث رغم مرارتها تثبت الإيمان في القلوب، وتستدعي الغيرة على الإسلام حتى من نفر من المسلمين أقل من غيرهم في الالتزام ولئن كانت رصيدًا للمسلمين في تحرك المشاعر، وصدق الانتماء للإسلام ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجمع الكلمة، والشعور بالتحدي الباعث على الدعوة للدين الحق

وتصحيح الأخطاء، والاستعداد للخطر القادم، ودعم المقاومة المشروعة، والانتصار للمظلومين .. فهي في المقابل طعنة في قيم الغرب .. وإفلاس في حضارتهم وتعميق للعداوة .. ووضوح في الرؤية تجاه مبادئهم وصادراتهم إنها عد تنازلي لمكاسبهم .. وفروق كبيرة في سفنهم المبحرة، وبداية للخلاف بينهم .. والفأل يدعونا أن نقول إنها بدايات النهاية لهم .. وربك لا يصلح عمل المفسدين .. ولا يرضى لعباده الكفر، ويمحق الكافرين والسؤال المهم هل يستفيد المسلمون من هذه الأحداث بالقدر المطلوب وهل يستثمرونها لصالح دينهم وقضاياهم .. دون أن يكون للغرب أو الشرق مدخل عليهم. هل تكون بداية لانطلاق العملاق .. هل تنهي هذه الممارسات الظالمة الهمجية فترة من الذل والهوان والفرقة والشتات والاستضعاف هل تكون مجالًا للتنسيق والمشورة وتبادل الآراء والخروج من المآزق بسلام .. إن القادة والمفكرين والعلماء والدعاة والأغنياء والوجهاء والرجال والنساء مدعوون جميعًا لاستثمار هذه النوازل وتوجيهها حتى لا تخرج عن مسارها الصحيح .. وحتى تثمر أمنًا وإيمانًا ونصرًا وعزة وكرامة للمسلمين أولًا .. ولغيرهم ممن كرم الله من بني آدم ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم. إن هذه الأحداث الدامية فرصة لإصلاح الذات والعودة على الأخطاء بالتصحيح .. إنها امتحان للإيمان .. وكاشفة للغيرة، ورهان على المحبة الصادقة للإسلام ولنبي الإسلام. والأحداث كذلك تدعوا إلى الالتفات للساخرين من أبناء جلدتنا .. والدين طالما حملوا على الإسلام أو سخروا بالنبي من وراء وراء .. أولئك الذي يجدون في الغرب ضالتهم يحسبون على المسلمين وقلوبهم مع غير المسلمين ..

أولئك حانت الفرصة لكشفهم ونصحهم ووعظهم .. ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها .. ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله .. وحين يكون فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر .. يبقى فسطاط النفاق جائرًا منزوًا .. ويبقى المنافقون أخطر من غيرهم .. بل هم العدو .. وكفى بعبارة القرآن ..

آفتا التعصب والتعالم

آفتا التعصب والتعالم (¬1) الخطبة الأولى إخوة الإسلام .. آفتان عظيمتان يجدر بنا أن نتوقف عندهما وأن ننبه إلى مخاطرهما على الفرد والمجتمع، بليت بهما الأمة قديمًا .. والداء يتكرر .. والآفة بهما تتجدد .. فما هما؟ إنهما آفتا التعصب والتعالم. والتعصب شيمة من شيم الضعف، وخلة من خلل الجهل يبتلى بها الإنسان فتعمي بصره، وتغش عقله، فلا يرى حسنًا إلا ما حسن في رأيه، ولا صوابًا إلا ما ذهب إليه أو من يتعصب له .. فالقوي لا يهاب ولا يحذر ولا يتوارى بالتعصب عن قول الحق .. ولذا كان المتعصب ضعيفًا لا قويًا. والعالم المدقق لا يزال يبحث عن الصواب، وقد يتبين له حق كان يقول بخلافه، وقد يرجع عن رأي أو فكرة، أو معتقد كان يعتقده؛ لأن الحق تبين له بخلاف ما كان يعتقده. ومن هنا كان المتعصب جاهلًا لا عالمًا. فالكمال لله، والعصمة لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولذا قيل «لا يزال المرء عالمًا حتى إذا ظن أنه علم فقد جهل» (¬2). أيها المسلمون .. قد يظن المتعصب- أحيانًا- أن التعصب مظهر قوة .. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 17/ 10/ 1424 هـ. (¬2) (مقدمة في أسباب الحلال لمسلم محمد العبد، طارق عبد الحكيم/ 83).

وليس الأمر على إطلاقه .. وقد يخلط بين التعصب والثبات على الحق .. وبينهما فروق لا تخفى أن مِن سيما العلماء الراسخين .. وأهل العقل والحكمة الرجوع إلى الحق إذا تبين لهم .. فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها .. بل إن التعصب ظاهرة تؤدي في النهاية إلى التفرقة والاختلاف ورقص الحق، وهو من خصال أهل الكتاب كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ} (البقرة: 91). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فوصف اليهود: أنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور الناطق به والداعي إليه، فلما جاءهم الناطق به من غير طائفة يهودونها لم ينقادوا له - إلى أن قال وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم أو الدين من المتفقهة أو المتصوفة أو غيرهم، أو إلى رئيس معظم عندهم في الدين- غير النبي صلى الله عليه وسلم- فإنهم لا يقبلون من الدين رأيًا ورواية إلا ما جاءت به طائفتهم .. مع أن دين الإسلام يوجب اتباع الحق رواية ورأيًا من غير تعيين شخص أو طائفة - غير الرسول صلى الله عليه وسلم (¬1). إخوة الإسلام إن المسلم الحق هو الذي يقبل الحق ممن جاء به، ويرفض الباطل أيًا كان مصدره فالحق - كما يقول شيخ الإسلام- يستحيل أن يكون اجتهادي. ومن الظلم والتعسف أن تلزم الناس برأي اجتهادي انتهيت إليه وقد يكون هناك ما يخالفه بل ما هو أقوى منه. ولهذا عرف الشوكاني التعصب وحذر منه بقوله: «أن تجعل ما يصدر عن ¬

(¬1) (اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 74، 75).

(الأيام المتبع) من الرأي ويروى له من الاجتهاد حجة عليك وعلى سائر العباد، فإنك إن فعلت ذلك كنت قد جعلته شارعًا لا متشرعًا، ومُكَلِّفًا لا مكلفًا» (¬1). عباد الله ومن صور التعصب التعصب لاتباع مذهب من المذاهب الأربعة - وفي مسألة يسوغ فيها الخلاف- وقد يكون رأي الإمام الآخر أقوى من رأي الإمام الذي اتبعته .. ويرحم الله هؤلاء الأئمة فقد حذروا من التعصب لهم وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة، وكان يروى عنهم: إذا صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو مذهبي .. أما التعصب لمذهب أو نحلة من النحل الباطلة فذلك أشد وأنكى وبعض هؤلاء المتعصبة لا حجة لهم إلا أنهم ورثوا هذا الرأي أو المعتقد عن آبائهم وأجدادهم، وتلك حجة داحضة عاتب الله القائلين بها، وعاب القرآن أصحابها الذين قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (الزخرف: 22، 23). ومن صور التعصب أن يظل الأتباع المقلدون على رأي شيخهم وإن تُخلى عنه وتبين له الحق في خلافه بحجة أن هؤلاء الأتباع ثابتون على الحق وإن تغير عنه من تغير، ولو ذهبت تناقش هؤلاء الأتباع لم تجد عندهم من قوة الدليل ما يناقشون به أو يدعم ثباتهم. إن الثبات على الحق المدعوم بالدليل شيء، والتعصب لما ألفه الإنسان وسار عليه فترة من حياته شيء آخر. ¬

(¬1) أدب الطلب للشوكاني عن: مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين/ 86.

ومن صور التعصب المذموم التمسك والقول بتبديع أو تفسيق من لا يستحق التبديع والتفسيق .. وأعظم من ذلك أن يطلق الكفر على مسلم لا يجوز إطلاق الكفر عليه .. وهذا عظيم عند الله .. وأولى بالإنسان أن يحفظ لسانه عن القول بلا علم، والإيجار عليه قوله. أيها المسلمون .. وكما يعاب على المرء التعصب في أمور الدين يعاب عليه التعصب في أمور الدنيا- وإن كان الأول أعظم- فبعض الناس يصر على إنفاذ رأيه وإن كان مخطئًا وآخرون من الناس ينتقد تصرفات الآخرين وإن كانت حقًا .. إن المرونة المتزنة مطلوبة .. وأن تقدير وجهات نظر الآخرين دليل على رجاحة العقل، وسعة الصدر والأفق. وإن الاستماع إلى الرأي الآخر مؤشر للتعقل والحكمة وإن التخلق بالحوار المثمر دليل على الوعي، ولو تعصب كل إنسان لرأيه لفسدت الحياة وتفارق الأحياء .. أعوذ بالله.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية عباد الله والتعالم آفة أخرى يصاب بها بعض الناس فيعتقد أنه عالم بكل شيء .. وقد يكون يجهل معظم الأشياء وقد يسوغ المتعالم لنفسه أن يتحدث في كل شيء وهو لا يجيد الحديث إلا في بعض الأشياء .. وقد ينصب من نفسه مفتيًا في كل شيء .. ويرى أن من العيب أن يقول أحيانًا لا أدري .. مع أنها نصف العلم يقول ابن حزم رحمه الله: لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها، وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون» إنك ترى من الناس من يكتب متخوضًا في كل شيء، وقد يأتي بالعجائب، بل وفي الطوام فيما يكتب أحيانًا .. ويفهم النصوص على غير ما وضعت له، وربما اتهم أشخاصًا عالمين بما ليسوا أهلًا للإتهام به. وقد ترى أو تسمع من شاب صغيرًا حديثًا أو فتوى في أمر عظيم .. لو عرضت على أمثال عمر لجمع لها أهل بدر .. -وربما سمعت إلى فتوى تعجب منها النساء فضلًا عن الرجال لغرابتها .. ولا ضير على من سأل عن ما لا يعرف أن يجيب بلا أدري .. ومن روائع ما يروى عن العلماء الربانيين في هذا، قال الزهري عن خالد بن أسلم: خرجنا مع ابن عمر فمشى فلحقنا أعرابي فقال: أنت عبد الله بن عمر؟ قال: نعم، قال: سألت عنك فدللت عليك، فأخبرني: أترث العمة؟ قال (ابن عمر) لا أدري، قال: (الأعرابي) أنت لا تدري؟ قال: نعم، اذهب إلى العلماء بالمدينة فسألهم فلما أدبر قبَّل يديه وقال: نعمًا قال أبو عبد الرحمن سئل عما لا يدري فقال: لا يدري (¬1). ¬

(¬1) (مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين/ 95).

ونقل ابن القيم: وصح عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون وقال ابن مسعود: من كان عنده علم فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم فإن الله قال لنبيه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}. وقال مالك: من فقه العلم أن يقول لا أعلم، فإنه عسى أن يتهيأ له الخير، وقال الشعبي: (لا أدري) نصف العلم» (¬1). ¬

(¬1) إعلام الموقعين: 2/ 185.

الدين

الدَّيْن (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. أيها المسلمون ثمة حقوق يتساهل بها بعض الناس مع أن أمرها عظيم عند الله، وثمة قضية يستهين بها نفر من المسلمين وهي ليست كذلك في شريعة الإسلام .. إنها حقوق الخلق، ومنها الدَّيْن أخذًا أو عطاءً، قضاءً واقتضاءً كتابة للعقد، وإشهادًا على الدَّيْن .. وحرص على الوفاء .. وعدم مماطلة في الأداء .. إن أطول آية في كتاب الله هي آية الدَّيْن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَّيْن إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ .. }. روى الإمام ابن جرير وعنه ابن كثير عن سعيد بن المسيب- رحمه الله- أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدَّيْن (¬2) وفي الآية أحكام وآداب وتنبيهات على كل مسلم أن يعقلها ويعمل بها .. وإنما يقع الخلل وتكثر المشاكل والمظالم حين يكون التهاون بشيء من هذه الأحكام والآداب. وإذا كان الله يقول {وَلاَ تَسْأَمُوْا أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا}. فما بال نفر من المسلمين يتساهلون في هذه المعاملات، ويعتمدون بزعمهم على الثقة .. وينسون أن هذه الكتابة لا تخرم مروءة ولا تلقى ثقة، إنما هو الضبط والاحتياط وحفظ الحقوق واستنطاق الشهود. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 22/ 2/ 1429 هـ. (¬2) (تفسير ابن كثير 1/ 495).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَّيْن إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ .. } قال ابن كثير: هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها، ليكون ذلك أحفظ لمقدارها، وميقاتها، وأضبط للشاهد فيها (¬1). إخوة الإسلام ليس عيبًا أن يكون الإنسان فقيرًا، ولا حرج إن احتاج إلى سلفة أو دَّيْن من الآخرين، وليس فخرًا، أو دليلًا على الرضى أن يكون الإنسان غنيًا .. فالفقير مبتلى بالفقر وقد يكون خيرًا له، والغني مبتلى بالمال وقد يكون فتنة له {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وإذا مدح الفقير الصابر، فيمدح الغني الشاكر. ولكن العيب أن يستدَّيْن المرء أو يستقرض ما يعلم من نفسه العجز عن الوفاء به وعيب آخر وأعظم أن يأخذ المرء أموال الناس وهو ينوي التلاعب بها وعدم سدادها، ومماطلة أصحابها. وإذا كانت النوايا يعلمها علام الغيوب فهو تعالى يعين من أخذ حقًا يريد أداءه ويتلف من أخذ شيئًا وهو عازم على جحده أو المماطلة فيه. أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله» (¬2). أيها الناس وبقدر ما يعين الله من أحسن ظنه بالله، وصدق مع خلقه في أداء الحقوق وتيسير القضاء .. فكذلك يتلف الله من أضمر نية المماطلة وساء ظنه بربه، وأساء في تعامله مع الخلق. وبقدر ما يكون الله مع الدائن (الصادق) حتى يقضي دَّيْنه .. يتخلى الله عن ¬

(¬1) (تفسير ابن كثير 1/ 495). (¬2) (ح 2387).

المماطل المتلاعب .. والوعيد هنا شديد، وعبارة (أتلفه الله) وقف عندها العلماء وقال ابن حجر رحمه الله: ظاهر أن الإتلاف يقع له في الدنيا، وذلك في معاشه أو في نفسه وهو علم من أعلام النبوة، لما نراه بالمشاهدة ممن يتعاطى شيئًا من الأمرين، وقيل المراد بالإتلاف عذاب الآخرة (¬1) وأيًا ما كان الأمر فهو تلف وهلاك! -أيها الأغنياء المماطلون- ويا أيها الواجدون المتلاعبون بحقوق الخلق اتقوا الله واتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة .. وهل تعلمون أن هذه المماطلة مع القدرة على الوفاء تحل أعراضكم وعقوبتكم؟ قال عليه الصلاة والسلام: «مطل الغني ظلم» (¬2). وقال عليه الصلاة والسلام: «لي الواجد يحل عقوبته وعرضه» (¬3). والواجد هو القادر المتلاعب بالوفاء .. وهذا تحل عقوبته حتى السجن، وتحل عرضه بالشكاية والشكوى والتحسب ورفع الصوت، فإن لصاحب الحق مقالًا .. وقد صح الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم «أتاه رجل يتقاضان فأغلظ له، فهم به أصحابه فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالًا» (¬4). بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما أطيبك حيًا وميتًا، وما أحسنك وأكرمك وأعدلك قاضيًا أو متقاضيًا .. تعلم الناس حسن القضاء وأدب الاقتضاء. ورغمت أنوف تتطاول على الناس بأخذ حقوقهم .. ثم هي تتلاعب وتماطل فإذا كانت الشكوى كانوا قومًا خصمين، وللحق منكرين، ولربما لشهادة الزور طالبين .. ألا شاهت وجوه تلك تعاملاتها وأتلف الله من أخذ أموال الناس يريد ¬

(¬1) (الفتح 5/ 54). (¬2) رواه البخاري ح 2400. (¬3) ح 2400. (¬4) (أخرجه البخاري ح 2401).

إتلافها، وأدى الله عن أناس ينوون القضاء ويحسنون الأداء، وفضل الله يؤتيه من يشاء. عباد الله على أن أمر الدَّيْن من الخطورة بحيث ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة- في أول أمره- على أصحاب الدَّيْن، فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدَّيْن، فيسأل: هل تركه لدَّيْنه قضاء؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى، وإلا قال للمسلمين صلوا على صاحبكم، قال: فلما فتح الله على رسوله كان يصلي ولا يسأل عن الدَّيْن، وكان يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفى من المؤمنين فترك دَّيْنا أو كلًا أو ضياعًا فعلي وإلي، ومن ترك مالًا فلورثته (¬1). إنه أمر عظيم أن يدع النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة- في أول أمره- على من مات وعليه دَّيْن وأمر عظيم كذلك أن يصلي ويتحمل الدَّيْن والعيال والضياع بعد أن فتح الله عليه ... أما الحكمة من ترك الصلاة على أهل الدَّيْن، فقد قال العلماء: كأن الذي فعله صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة على من عليه دَّيْن ليحرض الناس على قضاء الديون في حياتهم، والتوصل إلى البراءة منها لئلا تفوتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (¬2). أيها المؤمنون والدَّيْن من الخطورة والتشديد كذلك بحيث أنه قد يكون سببًا في حجب صاحبه عن الجنة- وإن كان مستحقًا لها حتى يقضى عنه الدَّيْن- فقد أخرج النسائي بسند حسن عن محمد بن جحش رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه إلى السماء ثم وضع يده على جبهته ثم قال: سبحان الله! ماذا نزل من التشديد؟ فسكتنا وفزعنا، فلما كان من الغد سألته: يا رسول الله ما ¬

(¬1) (جامع الأصول 4/ 466). (¬2) (الفتح 4/ 478).

هذا التشديد الذي نزل؟ فقال: والذي نفسي بيده لو أن رجلًا قتل في سبيل الله ثم أحي ثم قتل ثم أحي ثم قتل وعليه دَّيْن ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دَّيْنه (¬1). عباد الله إنها حقوق الخلق لا بد من الخلاص منها، وهناك في يوم القيامة تنقطع المقاضاة المالية، ويبقى القضاء بالحسنات أخذًا أو بالسيئات تحميلًا وثقلًا .. وليس يخفى أن في عداد المفلسين يوم القيامة من أتى وقد سفك دم هذا .. وأكل مال هذا .. فيؤخذ لهذا من حسناته .. ولهذا من حسناته فإن فنيت حسناته- قبل أن يقضى ما عليه- أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار. عباد الله وإذا أفلس المدَّيْن وكثر غرماؤه حجر عليه، ومن حق الحاكم أن يقسم ما بقي من ماله على غرمائه، فعن كعب بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ بن جبل رضي الله عنه ماله، وباعه في دَّيْن كان عليه (¬2). ثم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم (معاذ) إلى اليمن ليجيره بذلك. وإياكم والدَّيْن فإن أوله هم وآخره حصد للمال .. كما قال عمرو رضي الله عنه وفي زمن عمر حجر على رجل من جهينة كما حجر النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ .. فقد روى الدارقطني في غرائب مالك بسند متصل: أن رجلًا من جهينة كان يشتري الرواحل فيغالي فيها فيسرع المسير فيسبق الحاج فأفلس فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أيها الناس إنه لا الأسيفع أسيفع جهينه قد رضي من دينه وأمانته أن يقال سبق الحاج، فأصبح وقد دَّيْن به- أي أحاط به الدَّيْن- فمن كان له عليه دَّيْن فليأتنا بالغداة فيقسم ماله بين غرمائه، وإياكم والدَّيْن فإن ¬

(¬1) (جامع الأصول 4/ 464 في التغليظ في الدَّيْن، وحسن إسناده المحقق). (¬2) رواه الدارقطني والحاكم وصححه، وأخرجه أبو داود مرسلًا (سبل السلام 3/ 877).

أوله هم وآخره حرب (أخذ المال كله) (¬1). إياكم عباد الله وإفلاس الدين أو الدنيا، وإياكم ومراكمة الديون، وسوء القضاء فالعافية لا يعدلها شيء، ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وكلوا مما رزقكم الله حلالًا طيبًا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29، 30]. ¬

(¬1) (سبل السلام 3/ 878، 879).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية أيها المسلمون .. وإذا قيل الكثير عن التحذير من الديون .. فيقال الكثير عن الأمر بحسن الوفاء وحسن القضاء، وإنظار المعسر، والتفريج عن المكروب، كيف لا وفي الهدي النبوي: «من أنظر معسرًا أو وضع له أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله» (¬1). وحوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء، إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرًا، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، قال: قال الله عز وجل: «نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه» (¬2). وطلب أبو قتادة غريمًا له فتوارى عنه، ثم وجده، فقال: إني معسر فقال: آلله؟ قال: آلله، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه» (¬3). يا عباد الله خيار المسلمين أحسنهم قضاء، ومحمد صلى الله عليه وسلم قدوة هؤلاء الخيار المحسنين في القضاء .. ولكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وقد جاءه رجل يتقاضاه في سن من الإبل، فقال أعطوه، فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سنًا فوقها، فقال أعطوه، فقال (الرجل) أوفيتني وفاك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن خيركم أحسنكم قضاء» .. يخطئ من يظن أنها شطارة ومهارة أن يتحايل على الناس بأكل حقوقهم أو تأخيرها .. ومسكين من لا يفارق المحاكم مدافعًا بنفسه بالباطل أو مقيمًا له ¬

(¬1) أخرجه الترمذي وصححه، وهو بمعناه عند مسلم (جامع الأصول 4/ 457). (¬2) أخرجه مسلم والترمذي (مسلم رقم 1561 والترمذي 1307 جامع الأصول 4/ 458). (¬3) أخرجه مسلم رقم 1563.

محاميًا يلحن في حجته وليس له عند الله برهان .. إنه واقع يدمي القلب .. أن ترى الرجل يعتاد المساجد .. ويطيل الركوع والسجود، وربما بكى لسماع القرآن .. لكنك إذا تقصيت أمره وجدته ماكرًا محتالًا، كذابًا .. أكولًا لأموال الناس بالباطل .. أي دين هذا؟ وأي أمانة أو خشية تلك، وأين نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر .. ويدمي القلب أكثر حين تسمع عن مداينات تتكئ على الربا، وتتجاوز ما أحل الله إلى ما حرم الله، و {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} ومن فعل ولم ينته- من الربا - فليأذن بحرب من الله ورسوله، ومن تاب فله رأس ماله لا يَظلم ولا يُظلم، ويتوب الله على من تاب .. ألا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم .. لقد أبصر الناس بأم أعينهم كيف تصرمت أموال تصرم النار الهشيم، وكانت عبرة لمن اعتبر حين أمسى أناس وهم في عداد الأثرياء فأصبحوا وهم في عداد الفقراء البؤساء .. أليست هذه نذر أو ليس فيها محق للربا؟ ولا تزال آثار النازلة المالية موجعة لعدد من الأغنياء .. وغيرهم من باب أولى .. فاعتبروا يا أولي الألباب! أيها المسلم من علائم تقواك أن تكتفي بما أحل الله لك في البيع والشراء ومن علائم رشدك وكمال عقلك أن تكتب مالك وما عليك من الديون فلا تصنع شيئًا من حقوقك، ولا يوقع الورثة في إشكال مع مدَّيْنيك .. أيها الأبناء ومن أسرع البر بآبائكم وأمهاتكم أن تقضوا ديونهم فور وفاتهم، فذممهم مرهونة بالدَّيْن حتى يقضى عنهم .. ألا وأكثر الله من وسطاء الخير الذين يتحملون ما يستطيعون عن المدَّيْنين عمومًا، وعن الموتى على وجه الخصوص .. وهنا يذكر نموذج (أبي قتادة رضي الله عنه)

فقد امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا عن الصلاة على مدَّيْن بثلاثة دنانير، حتى قال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعلي دَّيْنه، فصلى عليه (¬1). أيها المسلمون تعوذوا من الدَّيْن حتى تسلموا من غوائله، وادعوا ربكم أن يغنيكم عنه وفي البخاري (باب من استعاذ من الدَّيْن) وبه ساق الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة، ويقول: «اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المغرم؟ قال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف» (¬2). اللهم إنا نستعيذك مما استعاذك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من المأثم والمغرم، ونعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل، ومن غلبة الدَّيْن وقهر الرجال .. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في صحيحه ح 2289. (¬2) ح 2397.

أصحاب السبت

أصحاب السبت (¬1) الخطبة الأولى إخوة الإسلام .. قصة تكرر عرضها في القرآن .. وقوم مسخوا قردة خاسئين .. فعلة شنيعة .. ومنكر ظهر، وتحايل مكشوف كانت الوقعة .. واختلفت المواقف .. وصار القوم فرقًا ثلاثة .. فاعلون للمنكر .. وساكتون عن الإنكار متهاونون بالنصيحة، وثالثة منكرون معتزلون للمنكر .. وفي النهاية .. أنجى الله الذين ينهون عن السوء .. وأخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون. إنها قصة وفي ثناياها عبرة .. ليس فقط للذين عاشوا أحداثها بل ولمن جاء بعدهم، ويقرأ مواقفهم {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}. كم يتكرر مثل هذا الموقف، وكم يختلف الناس حيال إنكار المنكر والقرآن وهو يعرض للقص ينبه الغافلين .. ويذكر بمصير الظالمين كم نحتاج إلى تدبر القرآن .. وكم نحتاج إلى تأمل قصص القرآن .. و {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .. تعالوا إلى هذه القصة نعرض لها باختصار ونقف عند أبرز دروسها وعبرها. حين يكون الحديث عن انحرافات اليهود وحيلهم وتمردهم على شرع الله وأوامره وعصيانهم للأنبياء والمرسلين، فتلك مساحة كبرى، يكفي في شناعتها ما قصة القرآن من مواقف مشينة لهؤلاء القوم، فمن عبادة العجل إلى قصة البقرة ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 7/ 2/ 1429 هـ.

إلى إيذاء موسى، بل وقتل عدد من الأنبياء، فضلًا عن التكذيب والأذى وليس الحديث عن انحرافات يهود واستجماعًا لموقف اليهود ولكن يكف أن نقف على مشهد من هذه المشاهد المخزية في تاريخ اليهود في قصة واحدة تكرر عرض القرآن عنها .. لبيان الحقيقة من جانب، ولأخذ العبرة والموعظة من جانب آخر. إنها قصة أصحاب السبت وما أدراك ما أصحاب السبت؟ هم الذين قال الله عنهم في سورة البقرة {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}. وفصَّل القول عنهم في سورة الأعراف فقال تعالى: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}. لقد طلب أولئك القوم أن يكون لهم يوم راحة مقدس، فجعل لهم الله يوم السبت مقدسًا لا يعملون فيه للمعاش. وقد حرم الله عليهم أن يعملوا في السبت شيئًا، فابتلاهم الله بالحوت يخرج ويتكاثر يوم السبت .. وكان ابتلاءً لم تصمد له يهود .. وهل تتركه اليهود وفاءً بعهدٍ أو استمساكًا بميثاق؟ إن هذا ليس من طبع يهود وقد قال الله عنهم: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ}. لقد اعتدى اليهود في السبت .. وبطريقة ملتوية، وظنوا أنهم يخدعون الله وهو خادعهم، فراحوا يحوطون على الحيتان في يوم السبت ويقطعونها عن البحر بحاجز ولا يصيدونها .. لقد وضعوا لها الحبائل والشخوص والبرك قبل يوم السبت، فلما جاء السبت وكثرت الحيتان نشبت في هذه المصائد ..

فيتركوها حتى انقضى ذلك اليوم تحيلًا ومخادعة .. فأخذوها .. وقالوا إنما نهينا عن السبت فلم نأخذها حتى ذهب ذلك اليوم .. وحيث أن الجرم كبير .. والمخادعة مع الله .. كانت العقوبة مسخًا حولهم إلى عالم الحيوان والبهيمة حيث لا إرادة له، ولا عهد يرعاه .. {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}. قال قتادة: صار القوم قردة تتعاوى لها أذناب بعد ما كانوا رجالًا ونساءً. قال ابن كثير: والصحيح أن مسخهم قردة معنوي وصوري، ولم يكن معنويًا لا صوريًا كما نقل عن مجاهد (¬1). ومن دروس قصة أصحاب السبت: 1 - أن الاستسلام لأمر الله في أوامره ونواهيه سبب للبقاء، وطريق لسعادة الدنيا والآخرة {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}. 2 - وفي المقابل فإن الإعراض والصدود والعصيان والتمرد سبب للهلاك والعقوبة {فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}. 3 - استحلال المحارم والاعتماد على الحيل نهج خاطئ مارسه اليهود في القديم واستخدموه في زمن النبوة، ولا زالوا يتوارثون حتى يومنا هذا .. 4 - حين ينزل العقاب للمجرمين يشملهم والساكنين المداهنين وينجي الله الذين اتقوا ونهوا عن السوء .. {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (¬2) فلا بد ¬

(¬1) (السير 1/ 153). (¬2) ومع اختلاف العلماء في مصير الساكتين فقد قال قتادة رحمه الله فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم (القرطبي 1/ 440)

من إنكار المنكر إبراءً للذمة ونصحًا للأمة ونجاة من العقوبة الإلهية. 5 - في قصص الهالكين عبرة وموعظة ليحذروا صنيعهم، ولا يقعوا في أخطائهم {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}. 6 - يحذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من صنيع هذه الأمة المغضوب عليها، وينهاهم عن استحلال محارم الله بأدنى الحيل، ويقول: «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» (¬1). وكم يعمد ضعاف الإيمان من هذه الأمة إلى أنواع من الحيل، ولاسيما في تعاملاتهم، وتحيلهم على الحرام، وظنهم الخاطئ أن ذلك يجعل من الحرام حلالًا، أو من المتشابه إلى الواضح النقي ألا فاحذروا الحيل يا من تتعاملون مع من يعلم السر وأخفى، ودعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يوقع فيه. 7 - وهذه الأمة اليهودية كتب الله عليها البؤس والشقاء، وحكم عليهم ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسوءهم سوء العذاب، عن موسى عليه السلام حيث ضرب عليهم الخراج سبع سنين أو ثلاث عشرة سنة لما تعلم إلى قهر الملوك اليونانيين والكسانيين، والكلدانيين، ثم صاروا في قهر النصارى وإذلالهم .. حتى جاء الإسلام وقاتلهم النبي وأخرجهم المسلمون .. وإلى زمننا هذا وهم محل كره العالم وسخطه وصدق الله {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}. 8 - وأخيرًا فقد خاب وخسر من باع دينه بدنياه، وتغش الفواحش مخادعة وحيلًا، وحبل الخداع قصير، وطريق المكر موصد، وعاقبة الفساد في الأرض ¬

(¬1) الحديث جوَّد إسناده الحافظ ابن كثير في التفسير (1/ 154).

مشينة .. وهل تعلمون أن بعض المصادر الرسمية الصهيونية تشير إلى أن أكثر من 124 صهيونيًا أقدموا على الانتحار منذ بداية العام الحالي وإن أكثر من ألف ومائة شخص منهم وصلوا إلى مراحل نهائية في التفكير بالانتحار؟ إنها عقوبة معملة، وشعور بالقلق لم يمنعه حيازة الأسلحة النووية، ولم يعطله الشعور بالغلبة .. أنهم يعانون في داخلهم {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ}.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية إخوة الإسلام ثمة أمور شركية أو بدعية تقع في هذا الشهر صفر، منها ما كان من أمر الجاهلية القديمة، ومنها ما كان من أمر الجاهلية المعاصرة أما ما كان يمارسه أهل الجاهلية الأولى في شهر صفر، فهو التشاؤم بهذا الشهر، وكانوا يقولون أنه شهر مشئوم، فأبطل الإسلام ذلك وقال عليه الصلاة والسلام: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر» (¬1). قال العلماء: والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها، وكذلك التشاؤم بيوم من الإيمان كيوم الأربعاء، ومثله تشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة. وكل ذلك من عوائد الجاهلية التي أبطلها الإسلام .. فالشهور والأيام ليست محلًا للتشاؤم والتطير .. وكل شيء بقدر الله، فهو وحده مانح الخير ودافع الضر .. كما كان أهل الجاهلية يحلون المحرم، ويحرمون صفر مكانه وكل ذلك .. وينسئون ويتلاعبون بالأشهر الحرام ولذا قال تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ .. } الآية. أما بدع الجاهلية المعاصرة .. فمن أبرزها في هذا الشهر ما يسمى بعيد الحسنات، وهو من أعياد النصارى المحدثة في دينهم .. وهذا العيد أحدثه النصارى وليس في دينهم، وإنما قلدوا فيه عبدة الأوثان .. ولقد أنكر أئمة ¬

(¬1) أخرجاه في الصحيحين.

النصارى أصل عيد الحب في وقتهم لما سببه من فساد لشعوبهم .. هذا وهم ضالون، وليس بعد الكفر ذنب .. ولذا فإن الواجب على المسلمين إنكار مثل هذه الأعياد المحدثة، وعدم التشبه به أو تقليد أهل الضلال في انحرافاتهم .. لاسيما في زمن باتت هذه الأعياد تعرض في القنوات العالمية ويشاع فيها من الفجور والدجل ما قد ينخدع به البسطاء فعلى المسلمين أن يعتزوا بإسلام، ويستمسكوا بهدي بينهم، ولا يدعوا فرصًا للشيطان بدعوى .. مشاركة الآخرين في مناسباتهم .. أو بدعوى تقريب الأديان .. أو زمالة بني الإنسان أو نحو ذلك من علل تنقض عرى التوحيد .. وتؤدي إلى التشبه بالآخرين ومن تشبه بقوم فهو منهم، ومحبة الله ومحبة ما يحبه الله لا تجتمع مع محبة الكفر وأهله .. فاحذروا معاشر المسلمين من هذه البدع المحدثة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار ..

أبو محذورة رضي الله عنه بين الاستهزاء والاستقامة

أبو محذورة رضي الله عنه بين الاستهزاء والاستقامة (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. عباد الله: قصة طريفة لكنها تحمل معان عظيمة، وموقف ساخر في البداية، لكنه يتحول إلى هداية واستقامة. أجل .. بالتربية والتوجيه وحسن الأدب ولطيف العبارة تحول شاب من ساخر بالآذان إلى مؤذن ندي الصوت يتوارث الآذان من بعده ولده، وولد ولده في المسجد الحرام .. لست أدري أأحدثكم في هذه القصة عن الآذان وفضله وطول أعناق المؤذنين يوم القيامة .. أم أحدثكم عن الشباب ومراهقته أم يكون الحديث عن آثار التربية ولطف المعاملة وحاجتنا إليها أم أكتفي بسياق القصة ليستفاد منها هذه المعالم وغيرها؟ لكني أبادر بالقول أن قصة اليوم أنها قصة من عهد النبوة .. ومحمد صلى الله عليه وسلم هو المشرف والموجه فيها .. أما صاحب القصة فهو أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤذن المسجد الحرام أوس بن مِعْير بن لوذان بن ربيعة بن سعد بن جمح .. ولئن اختلف في اسمه فهو مشهور بكنيته (أبي محذورة الجمحي) رضي الله عنه وأرضاه. والقصة وردت بسياقين بينهما بعض الاختلاف، ولعل بعضهما يكمل بعضًا. -السياق الأول: أورده ابن عبد البر رحمه الله - في الاستيعاب- بسنده إلى أبي محذورة قال: خرجت في نفرٍ عشرة، فكنا في بعض الطريق حين قفل ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 11/ 7/ 1425 هـ.

رسول الله صلى الله عليه وسلم من (حنين) فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عنده، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون، فصرخنا نحكيه (ونستهزئ به) فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت، فأرسل إلينا، إلى أن وقفنا بين يديه فقال: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إلي - وصدقوا - فأرسلهم وحبسني، ثم قال قم فأذن بالصلاة، فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به، فقمت بين يديه فألقى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه فقال: قل: الله أكبر الله أكبر .. فذكر الآذان ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة ثم وضع يده على ناصيتي ثم من بين ثديي، ثم على كبدي، حتى بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرتي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بارك الله فيك وبارك عليك» فقلت يا رسول الله: مرني بالتأذين بمكة؟ قال: أمرتك به، وذهب كل شيء كان في نفسي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من (كراهة) وعاد ذلك كله (محبة) لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد مت على عتاب بن أسيد (عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة) فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). أيها المسلمون أما السياق الثاني للقصة فقد أورده الذهبي في سيره .. وبسند صحيح أيضًا - عن أبي محذورة قال: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من (حنين) خرجت عاشر عشرة من (مكة) نطلبهم، فسمعتهم يؤذنون للصلاة، فقمنا نؤذن (نستهزئ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت، فأرسل إلينا، فأذنا رجلًا رجلًا فكنت آخرهم، فقال حين أذنت، تعال، فأجلسني بين يديه فمسح على ناصيتي وبارك علي ثلاث مرات، ثم قال اذهب فأذن عند البيت الحرام، قلت كيف يا رسول الله؟ فعلمني الأولى كما يؤذنون بها، وفي الصبح (الصلاة خير من ¬

(¬1) (الاستيعاب بهامش الإصابة 12/ 136/ 138).

النوم) وعلمني الإقامة مرتين مرتين (¬1). أيها المسلمون ماذا نستفيد من هذه القصة .. وما هي معالم التربية في سيرة النبي المعلم صلى الله عليه وسلم؟ وكيف نتعامل من الخطأ والمخطئ؟ إن القصة لمن تأمل لا تبدأ بالعنف والتوبيخ، وإن كان الخطأ واضحًا، والسخرية يعترف بها أصحابها .. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ بالتثبت لمن وقع منه الفعل، فلا يؤخذ المتهم بجريرة المخطئ وإذا علم المخطئ كان التعامل مع الخطأ بطريقة تربوية حكيمة يعود المخطئ من كره النبي إلى محبته، ومن كره الآذان والاستهزاء به إلى محبة له تتعمق فيه وفي نسله من بعده. إن الشباب له نزواته ولكن سهل قريب للخير إذا وجد من يأخذ بيده ويشجعه .. وكذلك صنع الرسول صلى الله عليه وسلم بأبي محذورة، فهو يأمره بالآذان ويعلمه كيف يؤذن، ثم لا يبخل عليه بهدية تفتح نفسه وتحببه لمن أهدى إليه، بل يزيد النبي صلى الله عليه وسلم فيمسح بيده الشريفة من ناصيته حتى بلغت يده سرة أبي محذورة .. ثم يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بالدعاء والتبريك لأبي محذورة .. ثم يختم الموقف النبوي بإعطاء الثقة واستثمار الموهبة لهذا الشاب ليكون مؤذن المسجد الحرام؟ ما أروعها من أساليب في التربية، وما أحوجنا إلى هذه القيم الرفيعة في المعاملة والدعوة، وكم هي كنوز التربية في السيرة النبوية. إخوة الإسلام إنها معالم في التربية ما أحوج الآباء والمربين والدعاة والمتحدثين إلى فهمها وممارستها .. وإذا تحدث المتخصصون في التربية كان لهم في رحاب السيرة النبوية متسع ¬

(¬1) الحديث أخرجه أبو داود في الصلاة، والنسائي وأحمد بهذا الإسناد، وأخرجه غيرهم (سير أعلام النبلاء 3/ 118).

في الحديث، وكان لهم في رسول الله أسوة حسنة. أيها المسلمون إنما أنتم مبشرون لا منفرون، ولن تسعوا الناس بأرزاقكم ولكن تسعوهم بأخلاقكم .. ولكم في رسول الله قدوة في تحويل الأخطاء إلى سلوكيات منضبطة .. وفي تحويل المستهزئين الطائشين إلى أحلاس مساجد تتجاوب جبال مكة مع تكبيرهم وندائهم بالآذان، ويشهد الناس لأبي محذورة بنداوة الصوت وحسن النغمات حتى قال الشاعر: أما ورب الكعبة المستورة ... وما تلا محمد من سورة والنغمات من أبي محذورة ... لأفعلن فعلة منكورة (¬1) زار عمر رضي الله عنه مكة، وأبو محذورة مؤذن المسجد الحرام، فأذن أبو محذورة ثم جاء يسلم على عمر فقال له عمر: ما أندى صوتك .. قال علمت أنك قدمت فأحببت أن أسمعك صوتي. وبقي أبو محذورة على العهد والإيمان وقضى عمرة مؤذنًا للمسجد الحرام، وكان اللقاء الأول الذي كرهه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- البداية لسعادته-، إلا ما أروعك يا نبي الله في حربك وسلمك، وفي تعاملك مع أصحابك وأعدائك ولا غرابة فقد أدبك ربك فأحسن أدبك وشهد لك بحسن الخلق والرأفة والرحمة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. ¬

(¬1) (سير أعلام النبلاء 3/ 118)

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية إخوة الإسلام من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين ويهديه للإسلام وقد أراد الله لأبي محذورة خيرًا، أما أخوه (أنيس) فقد قتل ببدر كافرًا (¬1). أما أبو محذورة فهو صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، ومؤذن المسجد الحرام أسلم في قصة طلب النبي صلى الله عليه وسلم له حين كان يحاكي الآذان استهزاء، فأسلم يومئذ، كما قال ابن عبد البر (¬2) أما ابن سعد فقال: أسلم أبو محذورة يوم فتح مكة، وأقام بمكة ولم يهاجر (¬3). وقال الواقدي: كان أبو محذورة يؤذن بمكة إلى أن توفي سنة تسع وخمسين، فبقي الآذان في ولده وولد ولده إلى اليوم بمكة (¬4). وهذا يعني أن أبا محذورة بقي مؤذنًا قرابة نصف قرن .. وبقي الآذان في ولده قرابة قرنين من الزمان إلى زمن الرشيد العباسي (¬5) كم في الآذان من فضائل .. وكم للمؤذنين من فضل، فهم أطول الناس أعناقًا يوم القيامة، والشجر والحجر والإنس والجن، والرطب واليابس يشهد لهم يوم القيامة (¬6). وبشراكم معاشر المؤذنين بهذا الحديث: «من أذن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة، وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة، وبإقامته ثلاثون حسنة (¬7). وهنيئًا لكم- معاشر المؤذنين- وأنتم أول داخل للمسجد، تذكرون الغافل ¬

(¬1) (الاستيعاب بهامش الإصابة 12/ 133). (¬2) (السابق 12/ 134). (¬3) (الطبقات 5/ 450). (¬4) (الطبقات/ 450). (¬5) (جمهرة أنساب العرب/ 163) (¬6) (الفتح 2/ 88). (¬7) (رواه ابن ماجة والحاكم وغيرهم بسند صحيح (صحيح الجامع 5/ 236).

بالآذان، وتوقظون النائم مع انشقاق الفجر، ثم تمكثون في المسجد .. تصلون من النوافل ما كتب الله لكم، وتقرأون من كتاب الله أو تذكرون الله وتسبحونه بما لا يتوفر لغيركم- إلا لمن شارككم التبكير للمسجد وفضل الله يؤتيه من يشاء .. وهنا لفتةٌ فكم تشكو المساجد من قلة التبكير إليها، وقد مرت أزمان كان المؤذن يسبق إلى المسجد .. فأين المرابطون في المسجد قبل أو مع الآذان .. وأين الباقون في المساجد بعد الصلاة يتلون كتاب الله أو يصلون أو يسبحون ويهللون ويحمدون؟ أولئك رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار .. لقد ضعف وردنا اليومي للقرآن، ولو عودنا أنفسنا التبكير للمسجد، أو المكوث فيه بعد الصلاة، لسهل علينا وردنا من القرآن ولعمرت المساجد أكثر، وإذا كانت هذه الظاهرة تستحق العناية والتذكير، فمن التحدث بنعمة الله أن نذكر أن هناك مساجد عامرة بالمرابطين فيها قبل وبعد الصلاة، وهناك مصلون أخذوا على أنفسهم أن يجلسوا في المسجد أدبار الصلات ليتفرغوا لتلاوة القرآن- أولئك مجاهدون ومرابطون-، ولهم من المشاغل والارتباطات ما لغيرهم، لكنهم محتسبون، وواثقون بأن كل نفس لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها .. فهل يا ترى يتشجع جماعة كل مسجد ويؤنس بعضهم بعضًا في الجلوس في المسجد ولو لوقت قليل، ولو بعض الأوقات .. ولو بعض الأيام .. و {من عمل صالحًا فلنفسه} وبذكر الله تطمئن القلوب، ومنقبة للرجل أن يعرف ملزوم المسجد، وأن يكون من سواريه. معاشر المسلمين عامة ومعاشر المؤذنين خاصة .. وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم

أبا محذورة، صفة للأذان رواها (مسلم) في صحيحه (379) وعن أبي محذورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه الآذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة .. فذكرها (¬1). أيها المؤمنون نداء الآذان شعار للمسلمين في سلمهم وحربهم وفي سفرهم وحضرهم، وحري بهذا النداء أن يقدر، وأن يجاب المنادي للصلاة .. بل وحري بالمسلم أن يسمع الآذان ويردد بعده ما ورد وأن يقول بعد الآذان هذا الدعاء «اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمود الذي وعدته» فمن قال ذلك حلت له شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة (¬2). كم نستهين أو نتغافل عن هذا الدعاء وهذا فضله، وكم نزهد في الآذان وتلك مرتبة المؤذنين وفضلهم. اللهم لا تحرمنا فضلك .. واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. ¬

(¬1) رواه أبو داود بسند صحيح (صحيح سنن أبي داود 1/ 100). (¬2) (رواه البخاري ح 614 الفتح 2/ 94).

كيف نستثمر الأجازة؟

كيف نستثمر الأجازة؟ (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله القائل {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} وأشهد أن لا إله إلا الله جعل المال والبنين زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابًا وخير أملًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أوصانا بتقوى الله وذكرنا برعاية الأمانات والمسئوليات فقال «كلكم راع ومسئول عن رعيته» وقال «لن تزول قدم عبد حتى يسأل عن أربع فذكر منها «وعن عمره فيما أفناه» اللهم صل وسلم عليه .. إخوة الإسلام نحن اليوم على موعد للحديث عن وسائل وطرائق لاستثمار الأجازة الصيفية بما ينفع .. ولكن دعوني اذكر نفسي وإياكم بجملة من الأمور لا بد أن نتذكرها ونعيها جيدًا قبل الحديث عن الوسائل النافعة وهنا لا بد أن نتذكر عدة أمور ومن ذلك: هدف الوجود ومفهوم العبارة .. فخلقنا لغاية نبيلة ألا وهي تحقيق العبودية لله {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} والعبادة مفهوم شامل لكل من يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال .. فلنستحضر هذا الهدف دائمًا ولنحقق العبودية في مناكب الأرض أينما كنا. وأمر آخر ألا وهو استشعار قيمة الوقت ومخاطر الفراغ فالوقت هو الحياة وهو أغلى ما نملك، وإذا أردت أن تتبين أقدار الناس وتفاوتهم في الدرجات فانظر إلى قيمة الوقت عندهم وكيف تستثمر .. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 17/ 5/ 1426 هـ.

وإذا كان الفراغ مصيبة على مستوى الأمة والمجتمع فهو كارثة في حق الفتيان والفتيات إذا ما استغل في تدمير الذات أو تدمير الآخرين .. إنه طاقة لا بد من صرفها فيما ينفع، وإلا تحول إلى مشكلة تتجذر أبعادها، ويتحمل المجتمع مخاطرها ونتائجها والأمر الثالث سؤال يوجه للأولياء وللشباب، فهل يشعر الأولياء بمسئوليتهم كاملة تجاه أبنائهم .. هل يقدرون ظروفهم ويتحسبون لمشاكلهم، هل يفكرون جيدًا في استثمار أوقاتهم، هل يقدرون المشكلة حق قدرها وهل يكونون على مستوى المسئولية إن فئة من الأولياء لا تزال غائبة عن الرعاية والتوجيه، مشغولة بجمع الحطام، تاركة الحبل للغارب، وهذه النوعية مهما كانت قليلة فلها أثرها في جنوح الشباب وبلوى المجتمع بهم. أما الشباب فيقال لهم هل تكرمون أنفسكم أم تذلونها وهل تكونون بناة مجد لبلادكم وأمتكم أم ترضون أن تكونوا مشكلة مبحث لها عن حلول أرقامًا هامشية لا وزن لها ولا قيمة بل عبئًا على أهليكم ومجتمعكم؟ أين تطلعكم للمستقبل الواعد صلاحًا وهدى، وعلمًا وعملًا، منطقية في التفكير، وتقدير للمسئولية، واستثمار للفرص، واغتنام لزهرة الشباب، إن الآباء والأمهات يتطلعون إلى بركم، والمجتمع ينتظر فاعليتكم وإيجابيتكم وأنتم أهل للثقة. عباد الله وإذا استقرت هذه المعاني في نفوسنا جميعًا .. كانت مهيئة لقبول البرامج النافعة، سواء كان ذلك في الأجازة أو غيرها، وإنما كان التركيز على الأجازة لكثرة الفراغ وتنوع البرامج الرسمية والأهلية والقائلية، وحسبي هنا أن أذكر بشيء من هذه الوسائل ومنها: 1 - الأسرة القدوة وذلك عبر برامج متنوعة تستطيع الأسرة من خلالها أن تضرب النموذج الأمثل للأسر من حولها رعاية للأولاد واستثمارًا للأوقات

والطاقات .. فإن لم تسطع ذلك فلتخير أسرة ناجحة لتنظر في مسارها ولتستفيد من تجاربها، والمهم أن نذكر بالقدوة في أسرنا. 2 - الزيارات الهادفة كالزيارة للأقارب والأصدقاء، وزيارات المرضى لإيناسهم والدعاء لهم، وللمقابر لترقيق القلوب والدعاء للموتى، والزيارة للأماكن الفاضلة، والصلاة بها كالحرمين الشريفين، وللمنتزهات الجميلة الراقية. 3 - بناء الذات واكتساب المهارات .. يحتاج أبناؤنا وبناتنا إلى مهارات تبني ذواتهم وتعينهم في تحمل مسئولياتهم كفن الطبخ والغسيل والتنظيف والترتيب وتربية الصغار ورعايتهم ونحو ذلك من أمور تحتاجها الفتيات كما يحتاج الأبناء إلى تدريبهم على فن التعامل مع الآخرين وحسن استقبالهم، وأصول القيادة، وطرائق البيع والشراء ونحو ذلك مما يحتاجه الفتيان. 4 - اللقاءات الأسرية تتطلع الأسر إلى لقاءات مع أسر مماثلة، لتأنس بها وتستمع منها وتسمعها، ومن الجميل أن تكون هذه اللقاءات هادفة وأن تكون مصحوبة ببرامج ولو كانت خفيفة فالأسر ينشط بعضها بعضًا، وللمنافسة دور في صقل المواهب، وكم هو جميل أن تلتقي عدد من الأسر في استراحات يتوفر فيها مكان للرياضة والترفيه وتتوفر فيها أجواء للاستفادة والبرامج النافعة .. 5 - القراءة .. ومن الجميل أن ندرب أبناءنا وبناتنا على القراءة ونحبب إليهم الثقافة ونوجه إلى النافع من العلم والمعرفة، فعالم اليوم معرفي ولا مكان للأمية، ومشكلة أن يسبقنا الآخرون بالعلوم والمعارف ونحن الذين بدأ تاريخنا بـ {اقرأ باسم ربك الذي خلق} وانفتقت حضارتنا عن علوم ومعارف وإبداعات أنارت للآخرين عصور الظلام لتجنب القراءة النافعة لنا شئنا، فمرة نصطحبهم للمكتبات المنزلية وأخرى لمكتبات الأصدقاء، وثالثة للمكتبات

العامة للمطالعة، ورابعة للمكتبات التجارية .. وهكذا ينشأون محبين للكتاب والمكتبة والعلم والمعرفة. 6 - والمسموعات والمرئيات أساليب للتربية وطرائق للتسلية وقضاء الوقت بما ينفع، خاصة إذا أحسنا الاختيار لما يسمعون وما يشاهدون، وبحمد الله تملأ المكتبات الصوتية الإسلامية المدن والقرى، والرواج الأكبر للشريط الإسلامي بأشرطة الكاسيت والفيديو وأقراص الحاسوب، وفيه ما حمل الترخيص ومسح غنية عما سواه. وثمة شباب وفتيات محترفون في الكمبيوتر .. يخططون ويستثمرون ويبتكرون وأولئك يمكن استثمار قدراتهم في الدعوة للخير، وتصميم مواقع ينفع الله بها .. وآخرون متمرسون في الدخول على مواقع الشبكة العنكبوتية، يدعون ويوجهون ويواجهون الغزو الساقط، ويحذرون من انخدع بهذه المواقع، ويحاورون من التبس عليه الحق أو زين له الباطل .. وهؤلاء وأولئك على خير إن شاء الله. 7 - مكاتب الدعوة ودعاة المستقبل، ومكاتب الدعوة في بلادنا منارات للدعوة ومستودع لكثير من الخيرات والتجارب الدعوية، وزيارة هذه المكاتب بصحبة الأبناء والبنات لأقسام النساء، يكسب أولادنا خبرة، ويدفعهم للدعوة، ويعرفهم بالوسائل الدعوية، وكل ذلك يصنع منهم دعاة للمستقبل مستفيدين من تجارب من سبقهم هذا فضلًا عن دعم هذه المكاتب الدعوية وتشجيع القائمين عليها، وتسجيل الشكر للجهات المشرفة عليها. 8 - وللسفر فوائد ومخاطر، وعلى المسافرين أن يحتاطوا لوسائل السلامة في السفر، فدعاء السفر خير ما بدأت به الرحلة، وصيانة المركوب والالتزام بأنظمة

المرور ضرورة عقلية ومطلب شرعي، وأذكار الصباح والمساء تخفف من كوارث ووعثاء السفر، والحذر من السفر إلى بلاد يبتز فيها المسافرون أو يتعرضون فيها لسرقة أموالهم أو أخلاقهم حصافة في الرأي ومتانة في الدين، وتذكر أيها المسافر أنك لا تدري بأي أرض تموت، ولا يغب عن بالك- عزيزي المسافر- أن السفر اختبار للأخلاق، وامتحان للإرادة المراقبة إنه ميدان للدعوة ومظنة لقبول الدعاء، فرصة للتفكر، وباعث على الذكر والشكر، هو قطعة من العذاب ولكن فيه سلوه، فيه علم وآداب ولكنه مظنة للعطب وإن قدر لك السفر للخارج فإياك أن تفتنك المراقص والملاهي وارتفع بهمتك إلى مواقع الخير ومنارات الدعوة ودعم بمالك أو شجع بزيارتك، اهد كلمة طيبة إن لم تجد وإلا تهديه .. فمراكز الدعوة وهيئاتها ورجالاتها في الخارج أحوج ما يكونون إلى الدعم والمساندة في زمن المضايقة والمحاصرة والتهم الباطلة والإرجاف. حين تكون الرفقة سيئة .. فاختر رفيقك في السفر، كما تختار صاحبك في الحضر. 9 - المراكز والدورات والدور النسائية .. ثمة فرص متاحة وثمة جهات تعني بفتح المراكز، والدور وأخرى تقيم الدورات، وهذه الجهود حرية بالورود لتنهل من علم العلماء، وتستفيد من تجارب الخبراء، وتكسب من تربية أهل التربية، وإذا كانت هذه المراكز الصيفية والدورات العلمية والدور النسائية محطات يتزود منها الفتيان والفتيات، بل وكبار الرجال والنساء، فالأمل أن يزيد عددها لتستوعب الأعداد الفقيرة وثمة تساؤل ملح يقول، وهل يصح منع الجامعيين من المراكز ولماذا وأين يذهبون؟ وتتساءل النساء وأين البرامج الدعوية والثقافية من الجهات الرسمية المعنية بالدعوة، والمكافئة لكثرتهن وفراغهن؟ ثمة مطالبات لخروج المرأة وقيادتها ..

فهذه المجالات من أنفع ما تخرج له المرأة .. إن كنا ناصحين لها. 10 - الحكايات والقصص المنزلية .. ذلك أسلوب لغرس المفاهيم الطبية، لاسيما للأطفال الذين يتلذذون بسماع الحكايات ومنصتون لرواية القصص، فهل يعمد الآباء والأمهات إلى هذا الأسلوب التربوي، بدلًا من كثرة التوجيه المباشر أن الأب أو الأم .. مهما كانت ثقافتهم .. قادرون على صياغة حكاية أو قصة حقيقية كانت أم خيالية تسير في اتجاه غرس القيم الفاضلة وتحذر من الرذيلة، بأسلوب مبسط يفهمهم الصغار والكبار فإن عجز الأبوان أو شغل الإخوان والأخوات عن ذلك ففي المكتبات تتوفر قصص مفيدة للأطفال مكتوبة، أو مسجلة ويمكن شراؤها وتوفيرها لهم. وفيها ما يعلم القرآن والسنة والآداب، وفيها ما يكسب الخبرة ويفيق الأذهان ومنع ما فيها من الفوائد ففيها تسلية وتخفيف لمشاجرة الأطفال والصبيان. 11 - وثمة أفكار جميلة للأطفال كفكرة الطفل البار، وفكرة الطفل المنظم ونحوها من أفكار تقوم على تعويد الطفل على مساعدة أهله في أعمال المنزل ولو كان يسيرًا مع التشجيع والهدية، وتدريبهم على النظام والنظافة مع وضع مكافأة تشجيعية في البداية .. وهكذا فكرة الصغير المتصدق، والأمين .. ونحو ذلك من قيم عالية يدرب عليها الصغار. 12 - المسابقات المتنوعة، فثمة مسابقات ثقافية، وأخرى رياضية، مسابقات في الحفظ، ومبالغة في الألغاز، ومسابقات للتعريف بالأماكن، ومسابقات تعرف بالشخصيات ومسابقات للبحوث الصغيرة، ومسابقات في تنمية المهارات والقدرات بشكل عام، كل ذلك محفز على الخير، داع لاستثمار الوقت بما ينفع .. ويزين هذه المسابقات ويشجع عليها دعمها بجوائز ومحفزات مادية

ومعنوية، ومناسبة المسابقة بعقول وقدرات وميول المتسابقين. إننا بحاجة لشحذ همم أبنائنا وبناتنا وتنويع البرامج وشد الانتباه حتى إذا تمكن الإيمان في قلوبهم، وانبعث ثمار المعرفة في عقولهم هناك نطمئن لمجاوزتهم القنطرة، ونفرح بكونهم عناصر بناء في مجتمعهم، ونتخفف من مسئوليتنا تجاههم، ويكونون قرة عين وزينة الحياة «ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا».

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا وهو العزيز الغفور نحمده ونعمه علينا ظاهرة، ونشكره وقد وعد بالزيادة لمن شكر ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته .. عباد الله قال العالمون: المطلب الأعلى موقوف حصوله على همة عالية ونية صحيحة، فمن فقدهما تعذر عليه الوصول إليه، فالنية تفرد له الطريق، والهمة تفرد له المطلوب (¬1). يا مغرور بالأماني لعن إبليس وأهبط من منزل العز بترك سجدة واحدة أمر بها، وأخرج آدم من الجنة بلقمة تناولها، وحجب القاتل عنها بملء كف من دم .. فلا تغتر بالأماني، ولا تستهين بالمعاصي .. 13 - إخوة الإسلام كونوا قدوة لأسركم في المسارعة للخيرات واجتناب المحرمات واحملوهم على الطاعة وابدءوهم بالواجبات ثم حببوا إليهم السنن، وكم هو جميل أيها الولي أن تصلي النوافل في بيتك وتتلوا القرآن بين أهلك وأولادك ونحو ذلك من سنن وفضائل وآداب لتكون إمامًا في الخير ودليلًا للرشد. 14 - أيها الآباء وأيها الدعاة المربون والمخيمات الدعوية مما تستثمر به الأوقات ويساهم في الدعوة من خلالها، وحين تعمد بعض الأسر لإقامة مخيمات عائلية خاصة بها فذلك كذلك فرصة للصلة والمرح والدعوة واستصلاح شباب الأسرة. ¬

(¬1) (الفوائد لابن القيم/ 151).

15 - والرحلة للقرى والهجر النائية فيه وقوف على المعالم وتعرف على الناس وسياحة في الأرض وتقديم المساعدة للمحتاجين وتعليم من يحتاج للتعليم، وهي فرصة من فرص الدعوة للدعاة والمحتسبين. 16 - أيها الأولياء عودوا أولادكم على جلسة الأسرة ولو مرة في الأسبوع فيها كلمة طيبة، وتوجيه نافع، وقراءة في كتاب، وتعويد على المشورة وبناء الثقة، وفيها تجسيد لتلاحم الأسرة. 17 - وربوهم على صلة ذوي القربى، والعطف على المساكين، وتقدير ذوي المكانة واحترام الأكابر، وعلموهم كيف يتعاملون مع الأقران وكيف يختارون الأصحاب، وحذروهم من خفافيش الليل وسراق القيم والأخلاق. صلوهم بالمجتمع والأمة واجعلوهم قريبين من حركة التاريخ وعلموهم أسباب العزة والتمكين وعوامل الانحطاط والهزيمة. 18 - أيها الحافظون لكتاب الله هنيئًا لكم واشكروا الله على ما حباكم وفي الأجازة فرصة لمراجعة وتثبيت حفظكم، أيها الراغبون في حفظه أعانكم الله وسدد خطاكم وفي الأجازة فرصة ليرى التحقيق حكم. أيها المقصرون في تلاوة كتاب ربكم هل تكون الأجازة معينًا لكم على تدارك التقصير واللحوق بركب أهل القرآن؟ يا إماء الله تفتح الدور النسائية أبوابها لتعليم وتحفيظ كتاب الله فهل تبادرن بالالتحاق أم تعاقين بعوائق وهمية حتى يفوت الركب ويفوز بالغنيمة والأجر نساء أخريات. إخوة الإيمان هذه خطوات وطرائق وأساليب ومقترحات لاستثمار أجازة الصيف، وقد يرى أو يمارس بعضكم غيرها وأجمل منها والمهم أن نستفيد من الزمن ونستثمر الأوقات، فكلنا وارد على ربه لا ينفعه مال ولا بنون إلا ما قدم

من صالحات، وكلهم آتين يوم القيامة تذكروا يوم يصدر الناس أشتاتًا أي يرجعون عن موقف الحساب اقرءوا أنواعًا وأصنافًا ما بين شقي وسعيد، ومأمور به إلى الجنة، ومأمور به إلى النار فاحذروا المعاصي والفواحش ما ظهر منها وما بطن. قال عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها «إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبًا» رواه النسائي وابن ماجه. اشكروه على النعم، واستغفروه من الذنوب، وسبحوه بكرة وأصيلًا، واذكروه ذكرًا كثيرًا. واعلموا أنكم ستسألون عما أنتم فيه من نعيم، لقد قال الصحابة رضوان الله عليهم حين نزلت هذه الآية {ثم لتسألن عن النعيم} يا رسول الله وأي نعيم نحن فيه وإنما نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشعير فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم أليس تحتذون النعال وتشربون الماء البارد؟ فهذا من النعيم (¬1). آه ... كم لله علينا من نعمة وفضل .. وقليل منا الشكور، نصبح ونمسي في نعم من الله، والله يعلم ويشهد أننا نمارس المعاصي صباح مساء .. أهكذا يكون الشكر؟ ألا نخشى العقوبة ألا نبصر من حولنا النذر؟ هل صمت آذاننا أم وضعت الأقفال على قلوبنا؟ إن السعيد من وعظ بغيره، والشقي من صار موعظة لغيره. كم تحيط بنا الفتن .. وكم نسمع كل يوم بل في كل ساعة عن أعداد من القتلى والجرحى وآخرين مشردين غرق وفقر فتن تموج وظلم وظلمات تملأ الوجود .. ولا مخرج إلا بالإيمان وعمل الصالحات {وكذلك ننج المؤمنين} {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} ولن يبالي الله بقوم عصوا مرة وضيعوا حدوده، ¬

(¬1) (تفسير ابن كثير عند الآية 4/ 913).

ومحو شريعته .. لن يبال الله بأي واد هلكوا وإذا عصي الله من يعرفه سلط الله عليه من لا يعرفه، وصدق الله {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 45، 47]. اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا، واجعلنا لك شاكرين لك ذاكرين، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.

بين الراسخين والزائغين

بين الراسخين والزائغين (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره إخوة الإسلام فرق كبيرٌ بين أهل الإيمان واليقين، وبين أهل الزيغ والبدع والفساد، والفرق كبير ممن يتبعون أهواءهم ومن يتعبدون لخالقهم، والبون شاسع بين أصحاب الإيمان ومرضى القلوب .. ولكن فضل الله يؤتيه من يشاء ومن يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا وحين يكثر الخبث، وترفع أصوات أهل الأهواء، ويلبس الحق بالباطل .. فلا بد من بيان الحق، وكشف المبطلين حتى يحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. إن مسيرة أهل الأهواء والزيغ قديمة في تاريخنا، وما زال العلماء الراسخون يواجهون بدعهم ويكشفون عن أهوائهم وتلبيسهم حتى خنسوا .. ولكن هذا الفكر كامن في نفوس أصحابه، يعلو ويتجدد كلما ضعف الراسخون في الإنكار، أو كلما أتيحت فرص لظهور أهل الأهواء، دون محاسبة توقف أو جزاء يردع. ويرحم الله الفاروق عمر فقد أطفأ في زمنه، فتنة مبكرة كادت أن تسري على أثر حديث (صبيغ بن عسل التميمي) وتساؤلاته في أمور لا حاجة للمسلمين بها، بل ربما كانت سببًا للتشكيك والمنازعة والاختلاف -ودونكم الحادثة وفقه عمر-. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 12/ 10/ 1427 هـ.

عن نافع- مولى ابن عمر- أن صبغيًا العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسمين حتى قدم مصر، فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، فلما آتاه الرسول بالكتاب فقرأه، فقال: أين الرجل؟ فقال في الرحل، فقال عمر: أبصر أن يكون ذهب فتصيبك مني به العقوبة الموجعة، فأتاه به فقال عمر: تسأل محدثة فأرسل عمر إلى رطائب من جريد فضربه بها حتى ترك ظهره وبرة، ثم تركه حتى برأ، ثم عاد له، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود له، فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلًا جميلًا، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين، فاشتد ذلك على الرجل، فكتب أبو موسى إلى عمر أن قد حسنت توبته فكتب عمر أن يأذن للناس بمجالسته (¬1)، عن ناصر العقل صبيغ نفعه الله بأدب عمر، ولذا لما خرجت الخوارج قيل هذا يومك، فقال: نفعني الله بأدب الرجل الصالح (¬2). أما المسلمون فالتزموا بتوجيه عمر وهجر صبيغ حتى كان الواحد منهم يفر من مجالس صبيغ ويقولون هذه عزمة أمير المؤمنين .. وكذلك سعى أن يهجر المجتمع أصحاب البدع. هكذا أبطل الفاروق فتنة الشبهات وإثارة الجدل في أمور لا يحتاجها المسلمون إنما هي من منهج أهل الأهواء والبدع، وكذلك كان المسلمون بمجملهم يحذرون من الأهواء، ويلزمون الناس بالسنة والأثر. قال عمر بن عبد العزيز: السنة إنما سنها من علم ما جاء في خلافها من ¬

(¬1) (سنن الدارمي 1/ 55، 56، الإبانة 1/ 414، 415 (¬2) دراسات في الأهواء والفرق (1/ 221)

الزلل، ولهم كانوا على المنازعة والجدل أقدر منكم» (¬1). وهو القائل من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل .. أي التنقل من رأي إلى رأي ومن بدعة إلى أخرى (¬2). وقال الشعبي: (إنما الرأي بمنزلة الميتة إذ احتجت إليها أكلتها) (¬3). وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا- يعني السلف- يكرهون التلون في الدين (¬4). هكذا كان العلماء يحرصون على جمع الناس على السنة، ويحذرونهم من البدع، والأهواء، والخصومات والمناقشات الكلامية. وكذلك كانوا يثنون على الراسخين في العلم الثابتين على الحق. أيها المسلمون فرق بين الراسخين والزائغين، فالراسخون لا يتعلقون بالشبهات، بل يردون المشتبهات إلى المحكمات، ويؤمنون بما جاء عن الله وصح عن رسوله صلى الله عليه وسلم، والراسخون هم قوم برت إيمانهم وصدقت ألسنتم، واستقامت قلوبهم، وأعفوا بطونهم وفروجهم - كما جاء في بعض الآثار (¬5). أما الزائغون فهم يتعلقون بالشبه ويثيرون اليقين وهم المتقلبون المتلونون قال تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الألْبَابِ} [آل عمران: 6، 7]. روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه ¬

(¬1) (الشرح والإبانة 123 عن دراسات في الأهواء للعقل/ 77). (¬2) (السابق/ 79). (¬3) الإبانة 1/ 216. (¬4) (جامع بيان العلم وفضله 2/ 93). (¬5) (ابن كثير 2/ 9).

الآية {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} إلى قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الألْبَابِ} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم» (¬1). قال الحافظ بن كثير- في تفسيره الآية-: أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج .. ثم نبعت القدرية، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق في قوله: «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي» والحديث رواه أهل السنن وصححه جمع من الأئمة المعتبرين. وقال ابن المبارك: أصول الفرق أربعة: المرجئة والقدرية والشيعة والخوارج. عباد الله ويظن بعض الناس أن هذه الفرقة أصبحت تاريخًا يذكر ولا وجود لها في عالم اليوم، وهذا خلل في الرأي وخطأ في الرؤية بل يبصر المتأمل في واقعنا المعاصر انبعاثًا لهذه الفرقة المنحرفة ووجودًا لهذه الضلالات المنكرة فالفكر الخارجي يظل برأسه ويسمع بين الفينة والأخرى من يكفر من لا يستحق الكفر، أو تقتل المسلم أو يستهين بالدماء المعصومة لما كان يصنع الخوارج، بل ربما أفزعك خبر تسمعه- في ساحات الجهاد- من تقصد بعض فضائل الجهاد لقتل من يخالفهم في الرأي ولو كان مسلمًا .. بل ولو كان مجاهدًا .. تلك فتنة وبلية لا تحسب على الإسلام وليست من أخلاق المسلمين في شيء. -نسأل الله العافية والسلامة- ولا بد أن تنكر حين لا تقع الفتنة بين المسلمين ويظل العدو يتفرج على مآسي وخلافات المسلمين. ¬

(¬1) هذا لفظ البخاري.

حين نسمع عن شيء من هذه الأخبار لا بد أن نتثبت حتى لا نصيب قومًا بجهالة، -ولا بد أن نعدل- ولا يجرمنا شنآن قوم عن العدل .. فإذا ثبت شيء من ذلك فلا بد أن ننكره وننصح لأصحابه ولا تأخذنا في الله لومة لائم، فنحن متعبدون لدين الله لا للرجال .. وبالحق يعرف الرجال، وليس بالرجال يعرف الحق. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية إخوة الإسلام ولم ينته الفكر الاعتزالي بموت أساطينه الأول، ولم تنته العقلية الاعتزالية المعظمة للعقل حتى جعلته ندًا أو معارضًا للنقل الصحيح .. وكما ظل أهل الاعتزال الأول وجاروا لأنهم تاهوا في تخبطات عقولهم، بل عبر بعض من رجع منهم أن أرواحهم في وحشة من أجسادهم وقال نادمًا متحسرًا تائبًا: نهاية أقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية أمرنا أذى ووبال إلى أن قال: ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا قيل وقالوا كما يظل هؤلاء اليوم أصحاب مدرسة الاعتزال الجديدة .. حين يحملون العقل ما لا يحتمل وحين يقحمون العقل في مجالات لا مكان له فيها، ولذا تظل الحيرة والتشكك تلاحق هؤلاء، ويظل الإنكار للمعلوم من الدين بالضرورة سمة لهؤلاء، كما أن من سماتهم التنقل والتلون، فمرة تراهم في أقصى اليمين، وحينًا تراهم في أقصى الشمال، يصاحبون الأخيار فترة، ويكونون أخلاء للأشرار فترة أخرى وهكذا وآخرون منهم مغموسون في حياتهم كلها .. شغلهم الشاغل طرح الشبهات وديدنهم الطعن على أحكام الشريعة وتجريح علماء الأمة- إنهم قوم مفتونون سلم الأعداء من سهامهم، وأذوا المسلمين بطروحاتهم وتشكيكاتهم. إن الحقيقة تقول: ليس هناك تعارض بين العقل الصحيح، والنفل الصريح، وما من دين احتفى بالعقل كما احتفى به الإسلام ولقد ألف شيخ الإسلام

ابن تيمية رحمه الله سفرًا عظيمًا رد فيها على أصحاب المدرسة العقلية المتشنجة وأسماه (درء تعارض العقل والنقل) وانتهى في كتابه إلى تعظيم النص الشرعي وعدم تعارضه مع العقل الصحيح. ومما قاله الشيخ في كتابه بهذا الصدد «إن النصوص الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعارضها قط صريح معقول فضلًا عن أن يكون مقدمًا عليها، وإنما الذي يعارضها شبه وخيالات مبناها على معان متشابهة وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شبه سفسطائية لا براهين عقلية» (1/ 155، 156). ويقول: «إن كل ما عار من الشرع من العقليات فالعقل يعلم فساده» (¬1). ويقول: والمقصود هنا التنبيه على أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الموافق لصريح المعقول (¬2). وكما انحرف الخوارج والمعتزلة وأصحاب المدارس العقلية، انحرف أهل الإرجاء الذين يقولون إن مجرد الإيمان كاف، ولا تضر مع الإيمان معصية، وتنازل المرجئة المعاصرون عن كثير من أمور الدين، وسهلوا على العوام اقتحام الموبقات فهلكوا وأهلكوا. أيها المسلمون .. لا بد للعلماء وأهل الفكر السليم من التسليط وأشعة النقد على كل فكر ملوث وكشف تناقضاته الفجة، لاتفاق مفعول شحنته السلبية .. حتى لا تعاق المسيرة، ولا تتاح فرص للمعوقين والمرجفين في الأمة، في زمن باتت الأخطار تحدق بالأمة من كل جانب وأصبحت قصعة المسلمين محط أنظار الخصوم وأعداء الأمة من كل جانب، وما بالأمة حاجة أن تلتفت للوراء أو تشغل عن خصومها ببعض أبنائها. ¬

(¬1) (درء تعارض العقل 1/ 194). (¬2) (3/ 87 السابق).

إن ثمة حقيقة تقول إن الإسلام بمدن بات يحيف الأعداء، والمسلمون لصحوتهم أصبحوا شغلًا شاغلًا لهم وما عاد جافيًا على دوائرهم الرسمية تغلغل الإسلام في كل مكان وانتشار المسلمين في كل موقع .. حتى زوايا الغرب ومواقعه تلك حقيقة ملقلقة حتى أطلق قادتهم السياسيون والعسكريون هل قتل (المسلمين) واعتقالهم، أسرع من تكاثرهم وتأثيرهم؟ وأجاب قادة مفكريهم وصحفيهم (جون ليهمان) عن السؤال بـ لا. واقرؤوا إن شئتم مقالًا رائعًا في مجلة البيان بعنوان: منطقة الخليج بن خطرين تدركوا شيئًا من المخاطر والمخططات التي تحاك لنا ولبلادنا حمانا الله والمسلمين الشرور والفتن، وكان الأعداء في نحورهم اللهم انصر الحق وأهله، وأبطل الباطل وامكر بأهله يا سميع الدعاء ولا بد مع هذا كله أن يقال إن في الأمة خيرًا كثيرًا، وهناك إقبال من العامة على الإسلام، وهناك خاصة من علماء وطلبة علماء منحهم الله علمًا ورسوخًا وثباتًا على الحق، زادهم الله من فضله، ورد من انحرف إلى صراط مستقيم.

بين الاستضعاف والتمكين

بين الاستضعاف والتمكين (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. في لحظة من لحظات الضعف قد يخيل للإنسان أنه ليس بالإمكان أحسن مما كان، وفي مرحلة من مراحل الإحباط قد يتصور المحبطون أن هذا الوضع البئيس لا يمكن أن يتحسن. وحين نغفل عن السنن الكونية نرى من المستحيل تغير الأشياء عن مواضعها، فالقوي يستمر على قوته، والضعيف يلازمه الضعف وهكذا .. ولكن صفحة الواقع المشهود في الماضي والحاضر تؤكد أنه لا ثبات على حال، فالأيام دول، والضعيف يقوى والقوي يضعف، والعزة تتحول إلى ذل، والكثرة إلى قلة وهكذا .. أجل لقد قيل للمؤمنين {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 140 - 141]. واليوم نحن أحوج ما نكون إلى فقه هذه الآيات ودلالاتها قال المفسرون في تأويل هذه الآيات: من الحكم أن هذه الدار يعطي الله منها المؤمن والكافر والبرَّ والفاجر، فيداول الله الأيام بين الناس، يومٌ لهذه الطائفة ويومٌ للطائفة الأخرى .. إن هذه الدنيا مصيرها الفناء لا البقاء .. أما الآخرة فإنها خالصة للذين آمنوا .. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 21/ 11/ 1426 هـ.

ومن حكم الابتلاء تمييز المؤمن من المنافق، لأنه لو استمر النصر للمؤمنين في جميع الوقائع لدخل في الإسلام من لا يريده فإذا حصل في بعض الوقائع والمراحل بعض أنواع الابتلاء تبين المؤمن الحقيقي الذي يرغب في الإسلام في السراء والضراء واليسر والعسر والنصر والهزيمة، ممن ليس كذلك. ومن الحكم في الأدلة على المؤمنين وهزيمتهم أن يتخذ الله من المؤمنين شهداء، إذ الشهادة عند الله من أرفع المنازل ولا سبيل لنيلها إلا بما يحصل من وجود أسبابها، فالله تعالى بعلمه وحكمته يهيء للمسلمين ما تكرهه نفوسهم ظاهرًا لكنه خير لهم عند ربهم .. ومن حكم إزالة الكافرين على المؤمنين أن يمحص الله ذنوب المؤمنين بما ينالهم من هم وأذى قد يصل إلى القتل لتتحقق لهم الشهادة ويمحق الله الكافرين. فهذا النصر لهم ظاهرًا يخفى وراءه محقًا وهلاكًا لهم، فإنهم إذا انتصروا بغوا وتجبروا وزادوا طغيانًا وإفسادًا في الأرض، وهذا يعجل عقوبتهم، وانتهاء أمرهم. أن على المؤمنين ألا يهنوا ولا يحزنوا ولا يحبطوا ما داموا على الحق ثابتين حتى وإن قهرهم وغلبهم عدوهم، وألا ينظروا إلى الهزيمة على أنها حظهم ما داموا أحياء، بل عليهم أن يصبروا ويصابروا ويرابطوا ويفعلوا من الأسباب ما يعذرون به أنفسهم أما النصر فمن عند الله هو أعلم به وهو الذي يوقعه بحكمته متى شاء. {وما النصر إلا من عند الله}. وعليهم أن يتيقنوا بأن الحق منصور، وأن العاقبة للتقوى .. لقد أوذي وفتن المؤمنون وفيهم الأنبياء، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا ولا استكانوا حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصر الله.

ودونكم هذا المشهد لما بلغه خاتم المرسلين من الأذى حتى تذمر منه من ليس على دينه، وكره أن يشهد فصوله من لم يكن حينها من أصحابه .. ومع ذلك كان الأذى يحمل في طياته الفرج، والشدة تتمحص عن نصر مبين يقول جبير بن مطعم- قبل أن يسلم-: كنت أكره أذى قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ظننا أنهم سيقتلونه لحقت بدير من الديارات، فذهب أهل الدير إلى رأسهم فأخبروه، فاجتمعت به، فقصصت عليه أمري، فقال: تخاف أن يقتلوه؟ قلت: نعم، قال: وتعرف شبهه لو رأيته مصورًا؟ قلت: نعم، قال: فأراه صورة مغطاة كأنها هو، وقال: والله لا يقتلوه ولنقتلن من يريد قتله، وإنه لنبي، فمكثت عندهم حينًا، وعدت إلى مكة وقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فتنكر لي أهل مكة، وقالوا: هلم أموال الصبية التي عندك استودعها أبوك، فقلت ما كنت لأفعل حتى تفرقوا بين رأسي وجسدي، ولكن دعوني أذهب فأدفعها إليهم، فقالوا: إن عليك عهد الله وميثاق أن لا تأكل من طعامه، فقدمت المدينة، وقد بلغ رسول الله الخبر، فدخلت عليه فقال لي فيما يقول: إني لأراك جائعًا هلموا طعامًا، فقلت لا آكل خبزك، فإن رأيت أن آكل أكلت، وحدثته، قال: فأوف بعهدك (¬1). فإن قيل إن هذه الرواية فيها ضعف لضعف راويها ابن لهيعة فإن الروايات الصحيحة في إيذاء المشركين للنبي والمؤمنين أكثر من أن تحصر. وأصح من ذلك وأبلغ قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]. وفي النهاية انتصر الحق ومُكن للمستضعفين، وتهاوت عروش الظلم وانتصر المسلمون ودخل الناس في دين الله أفواجًا. ¬

(¬1) (معجم الطبراني 1609، عن سير أعلام النبلاء 3/ 96، 97).

واليوم ورغم الظلم والظلمات وعلى أنقاض المآسي ومن أشلاء المظلومين .. تتبدى في الأفق صورة أخرى تكاد تحول الموازين، وتلمح إلى دوْلِ الأيام .. ففي الكيان الصهيوني المحتل اختلال وفرقة تحل بالرئيس المغطرس شارون جلطة يدخل على إثرها للمستشفى ويحدث خبر الجلطة لغطًا في الكنيست الإسرئيلي. ومن جانب آخر تناقلت الصحف اليهودية في فلسطين نبأ إسلام أحد اليهود وأحدث جدلًا كبيرًا .. وصف هذا المسلم كالعادة بالتطرف والإرهاب .. ووراء الخبر تحليلات حول سبب إسلامه وأثره على الهواء .. وإذا كانت هذه المفاجآت النوازل والمتغيرات على مستوى اليهود، فتشهد بلاد النصارى كوارث طبيعية واختناقات واختلافات يظهر لنا بغضها وربما خفى عنا أضعافها ورغم التضييق على الإسلام والمسلمين إلا أن الإسلام ورغم التصبير والحماس لهدم الإسلام إلا أن السحر يتقلب على الساحر .. ويعود المنصِّر مسلمًا داعيًا للإسلام ولئن كانت أخبار الداخلين في الإسلام من الكثرة بحيث لا يمكن حصرهم، ومن أراد البيان فليتصل بمكاتب توعية الجاليات، ليعلم كم يسلم يوميًا .. إلا أنني هنا أقف مذكرًا بقصة القس النصراني الذي أسلم، وتحدث الناس عن قصته وتناولت وسائل الإعلام خبره، وكيف كان وكيف انتهى به المسار فقالت وقال: تخرجت من الفاتيكان (معقل التنصير في العالم) وبدأت أنتقل من بلد إلى بلد لتنصير المسلمين، وكانت أكثر زياراتنا لمصر فإنها مصدر من مصادر قوة المسلمين، ثم جلست يومًا مع مجموعة من القساوسة والمنصرين، فقلت لهم: لقد طفنا أكثر بلاد الأرض، ولم يبق إلا جزيرة محمد صلى الله عليه وسلم لم تصل إليها دعوة المسيح- بزعمهم- ولا بد من اقتحامها، فهي معقل الإسلام العنيد، فخططت ودبرت للوصول فنجحت في

ذلك، فلما وصلت بدأت أبحث عمن يعطيني نسخة مترجمة للقرآن لأكتشف أسرار الإسلام وأتعرف على أخطاء القرآن فتكون هي طريقي لتنصير المسلمين ومحادثتهم .. حتى حصلت على النسخة المطلوبة بصعوبة، فأخذتها، وأغلقت الأبواب وجلست ولا أحد يراني إلا الله، بدأت أقرأ وفي نيتي تتبع واستخراج الأخطاء، فإذا بسورة الفاتحة تحيرني وتأخذني إلى عالم آخر ثم أول مقطع من سورة البقرة يتحداني ويخبرني أن هذا الكتاب خال من الأخطاء، مما زاد في حرصي على القراءة والتدبر، وبدأت أقفال الكفر تنحل وتتفتح وبدأ ظلام الشرك ينجلي .. وبدأ القرآن يجاوبني عن كل الأسئلة والاستفسارات، وبدأت أقول لنفسي من هذا الذي يتحداني؟ ومن هذا الذي عنده كل هذه القدرة وكل هذه الصلاحيات حتى يتكلم في ملكوت الأرض والسموات، فجاءني الجواب من أعماق قلبي: أنه الله جل جلاله الذي قال في القرآن: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (¬1). ¬

(¬1) (مجلة البيان ذو القعدة 1426 هـ من أجل كلمة الله/ عبد الله القفاري).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله أهل الحمد والثناء والمجد .. إخوة الإسلام دين الله منتصر طال الزمان أم قصر وكلمته ظاهرة ولو كره المشركون، والبقاء للحق، والعاقبة للتقوى، وجند الله هم الغالبون، ذلكم وعد غير مكذوب .. ولكن للنصر أسباب، وللتمكين شروط .. فمتى أقام المسلمون الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ومكن لهم، ومتى ما غيروا ما بأنفسهم غير الله ما بهم. إن مراحل الضعف مرت بالأمة من قبل ومن بعد ولكن الضعف إذا كان محفزًا للنهوض كان هذا الضعف وباءً عارضًا تسترد الأمة منه عافيتها بعد حين. ومرت الأمة بظروف من الفرقة والتناحر .. ولكن الفرقة إذا كانت درسًا بليغًا وهاديًا إلى الاجتماع والتآلف كانت هذه الفرقة نزغة من نزغات الشيطان لا تلبث أن تكون صفاء ومودة، واجتماعًا وتوحدًا على الحق .. وهكذا تستفيد الأمة من دروس الضعف ومن أيام البلاء كما تستفيد من دروس القوة وتتعامل مع السراء. إذًا الأمة الراشدة تبتلى لتتعافى، وتحاصر لتتفجر طاقاتها عن مبادرات نافعة، وتمتحن وتصهر ليتميز الخبيث فيها من الطيب ألا وإن من علائم ذل الأمة وهو إنها أن تتزين ظاهرًا وباطنها خراب وتلمس جلود الضأن وهي تتحرك نفسية الذئاب .. أولئك قوم مقتهم الله، وأولئك قوم يفتنون .. جاء في كتاب الزهد للسجستاني وبالإسناد عن ابن المبارك عن بكار عن ابن منبه قال: قال الله تبارك وتعالى فيما عير به الأحبار- أحبار بني إسرائيل-

تفقهون لغير العبادة، وتعلمون لغير العمل، وتلتمسون الدنيا بعمل الآخرة وتنقون القذاة من شرابكم وتبتلعون أمثال الجبال من الحرام، وتثقلون الدين على الناس أمثال الجبال ولا تعينونهم برفع الخناصر، وتلبسون جلود الضأن وتخفون أنفس الذئاب، وتبيضون ثيابكم فتنقصون بذلك مال اليتيم والأرملة، قال تعالى «فبعزتي حلفت لأخبرنكم بفتنة يضل فيها عقل ذي العقل وحكمة الحكيم» (¬1). هنا ... وفي ظل هذه الظروف والفساد المستشري والضعف والفساد الظاهر والباطن يتذكر أهل القرآن قوله تعالى: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126]. إن الأمة الراشدة هي التي تستفيد من دروس الهزيمة كما تستفيد من دروس النصر، وستظل الأمة تعاني ويلات الذل والهزيمة، حتى تفكر في المخارج الصحيحة للطوارئ .. وكلما اعتمدت الأمة على البشر الضعيف وكلها الله إلى ما توكلت عليه، وكلما توكلت على الله والتجأت إليه أجارها وعافاها وغير ما بها .. لا ينظر الله إلى الصور والأجساد ولكن ينظر إلى القلوب والضمائر ولا ينفع بياض الثوب إن كان القلب أسودًا .. كان أبو عبيدة رضي الله عنه يسير في الجيش ويقول: «ألا رب فبيض لثيابه قد دنس لدينه ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات، فلو أن أحدكم أساء ما بين السماء والأرض ثم عمل حسنة لعلت سيئاته حتى تقهرهن» (¬2). لقد اختلت الموازين الحقة في دنيا الناس، وأصبحت النظرة في غالبها نظرة ¬

(¬1) (الزهد لأبي داود السجستاني/ 31 بإسناد جيد كما قال المحقق). (¬2) (الزهد لأبي داود السجستاني/ 139 بإسناد رجاله ثقات).

مادية، وبات تقييم الناس على حسب ما عندهم من الدرهم والدينار لا على حسب ما لديهم من الإيمان والتقى .. وتلك موازين تطيش لكنها لا تلبث أن تنتهي .. يروى أن ملكًا من بني إسرائيل ركب يومًا في موكب له فتشرف الناس فنظروا إليه حتى مر برجل يعمل شيئًا مكبًا عليه، فلم يرفع رأسه إليه، فوقف عليه فقال: كل الناس تشرف علي ونظر إلي، من أنت؟ قال الرجل إني رأيت ملكًا قبلك كان على هذه القرية، مات هو ومسكين، فدفن الرجل إلى جنبه فلم أزل أتعاهدهما كل يوم أنظر إليهما حتى تفرقت أوصالهما، وكشفت الريح عن قبورهما ثم اختلط رأس هذا ورأس هذا، وعظام هذا وعظام هذا، فلم أعرف رأس من رأس الناس، فلذلك لم أنظر إليك (¬1). وإذا كانت الآخرة خيرًا وأبقى فأهلها هم من قال الله عنهم {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]. أما الطغاة والمفسدون في الأرض فأولئك قال الله عنهم: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196، 197]. ¬

(¬1) (الزهد للسجستاني/ 30 وسنده ثقات).

الهيئة ورجالاتها محن أم منح؟

الهيئة ورجالاتها محن أم منح؟ (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله أمر بالعدل والإحسان ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. إخوة الإسلام .. صمام الأمان ما هو؟ وعلامة خيرية الأمة ما هي؟ إنها (الحسبة) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ترى مكمن الخطر أن يكون؟ في القيام بهذه الشعيرة وتشجيع القائمين عليها .. أم بأعمالها والطعن في رجالاتها؟ داع القرآن يقول: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وسيد الخلق ونبي الرحمة صلى الله عليه وسلم يقول: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليضربن الله قلوب بعضك ببعض». وأخيار وصالحون يقولون المعروف ويأمرون به، وينتهون عن المنكر وينهون عنه .. هذا نداء الفطرة وتوجيه الكتاب والسنة وثمة نداءات مشبوهة وأصحاب ريب ونفاق يقولون المنكر ويأتونه ويدعون الناس له، ويمسكون عن المعروف وربما ضاقت نفوسهم به، وأعظم من ذلك وأسوأ أن ينفروا الناس منه ويشوهون صورته رجالاته أولئك نسخ تتكرر وأجيال تتلاحق الذين قال الله عنهم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67]. أولئك أصحاب شهوات غرضهم أن يميل الناس عن الحق وينحرفوا عن ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 22/ 5/ 1428 هـ.

السنة {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}. بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحيا الفضائل، وتمات البدع وتحصر الرذائل، وتحمى الأعراض، وتصان الحرمات وبالنهي عن المنكر يحاصر المبطلون، ويكشف المجرمون، ويضيق الخناق على الجريمة، ويأمن الناس على أموالهم ودمائهم وأعراضهم حين يعز سوق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، ويصبح ممارسة الجريمة خفية وعلى استحياء، وفعل المعروف علانية وبكل عزة. رجالات الحسبة يسهرون حين ينام الناس، ويقومون نيابة عنا في متابعة أهل الفساد والفجور .. إنهم يستشعرون المسئولية في تحقيق الأمن، ويرحمون الخلق حين يهدونهم للحق، ويحسنون للمخطئ حين يبصرونه بالخطأ، أو يقصرونه عن منكر أعظم إنهم ذراع الوالي لأطر الزائغين على الحق أطرًا، وهم عين العالم الذي يعرف الحق من الباطل، وهم ورجالات الأمن يكملون أدوات بعض في حماية المجتمع من أعاصير الفتن وموجات الفساد. ورجالات الأمر بالمعروف بشر كغيرهم من البشر غير معصومين من الخطأ .. لكن من الحيف أن تعظم أخطاؤهم وتنسى جهودهم، ومن الظلم أن تلصق بهم كل تهمة وأن ينسب لهم كل خطأ .. وحين تقرع الطبول ويتنادى الموتورون لإسقاطهم فتلك البلية التي لا يجوز السكون عليها أو إسقاط جهازهم (الهيئات) .. وحين تطرح هذه الأيام قضايا الهيئات بعبارات فجة، وأساليب غير منصفة، فذاك التشهير الذي يريد منه أولئك ما بعده .. ولا يرضى به المجتمع فضلًا عن المسئولين، وبالأمس عنوان كبير في الجزيرة يقول (استياء الهيئة من الصحف) وفي اليوم نفسه وفي جريدة الرياض تصرح لوكيل الرئيس العام لهيئات أبدى فيه الصحف تحفظه على بعض ما ينشر

في الصحف ومجانبته للحقيقة ولكن ثقتنا بدولتنا التي قامت على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وتصريحات مسئولي الدولة في عدد من المناسبات عن أهمية هذا القطاع وجهود رجاله كل ذلك يطمئننا أن هذا التهويش الذي يثار بين الفينة والأخرى لن يحقق أهداف أولئك الموتورين ولن يضعف من دور الحسبة ومراكز الهيئات عن ممارسة واجبها يا رجالات الهيئة وحين لا تعطون الفرصة للشانئين والمتربصين بأي تصرف غير محسوب .. فثقوا أن الله معكم يأجركم ويدافع عنكم وحين تلتزمون باللوائح والنظم لإداراتكم فثقوا أن الدولة من ورائكم، وأن المجتمع يقدر جهدكم ويشارككم مسئوليتكم عجبًا لأقوام يضيقون بالمعروف ويروجون للمنكر، ويضيق عطنهم عن الآمرين بالمعروف والناهين للمنكر، بل ويسعون في الوقيعة بهم .. أين العدل إن ضعف الدين، وأين المروءة والشهامة إن غابت العقول أو ضعفت الغيرة؟ ألسنا نتفق على أهمية نظافة المجتمع بفكره وأخلاقه وتعاملاته؟ فما جزاء من يحتسب على الخمور ويكافح المخدرات .. ومن يحمي الأعراض ويمنع من اختلاط الأنساب، من يسهم في إصلاح البيوت، ويسدي النصح والتوعية والإرشاد للمراهقين والمراهقات؟ أيستحق أولئك الجنود الأخفياء أن نشهر بهم في المنابر الإعلامية، أو يكونوا مادة للسخرية في المسلسلات والقنوات؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .. إن من يريد أن ينصح ويوجه يقول للمحسن أحسنت .. ولكن عليك كتب وكتب ورحم الله من أهدى لأخيه عيوبه وفرق بين هذا المسلك ومسلك محاولات الإسقاط، وتشويه المسار، وملء قلوب الناس بالكره والازدراء .. وأعظم من ذلك حين يطرح بكل صفاقة أو يقصد من وراء الإثارة المستمرة إسقاط جهاز

مهم من أجهزة الدولة .. أو إضعاف رجاله بتقليص صلاحياتهم. وهل يريد هؤلاء أن يكون بدل رجالات الدولة وجنودها المعروفين رجال نكرات وجنود مجهولون يعملون في الخفاء وقد يضرون أكثر مما يتعلمون. ومجتمعنا .. بحمد الله مجتمع محافظ خير، أفيريد أولئك الذين يشغبون على رجالات الهيئة أن يستبدل رجال رسميون يعملون وفق لوائح وأنظمة للدولة .. بآخرين محسوبين ولا تضبطهم لوائح وأنظمة وقد تسيرهم العاطفة ويستجيبون للغيرة .. فلا يرضون بصاحب المنكر يمارس جريمته فيقع الاختلاف والفتنة؟ إن بلادنا بحمد الله وعلى تعاقب المسئولين ولاة الأمر فيها يؤكدون على قطاع الحسبة ويشكرون رجالات الهيئة، ولا يمنعهم ذلك من التوجيه والإرشاد للمخطئ كغيرهم من رجالات الدولة. ولكن نفرًا من بني جلدتنا يرومون الصعب وربما غابت عنهم المآلات، وودوا لو غيبت الهيئات! ! أو فرغت من محتواها؟ إن من حق الدولة- وفقها الله- أن تحاسب الهيئات كما تحاسب بقية القطاعات لكن ليس من حق كل شخص أن يتخوض فيما لا يعلم .. وإذا قدر لجهة من الجهات أن تقع في خطأ ما فثمة لجان مختصة تُعنى بالدراسة وفق معطيات ومعلومات ووقائع .. وليس من المصلحة أن تفتح الباب واسعًا في الصحافة أو غيرها لطرح الموضوع على عامة الناس فتكون البلبلة والإثارة، ويتراشق الناس بالتهم. ولذا فإن العقلاء يتطلعون إلى وقفة حاسمة من الدولة وفقها الله توقف فيه هذه المهارشات والتهويشات التي كل عام، والتي تقصد بها الهيئات هذه الأيام .. وإن كان الناس بعامة لدينهم من الحصافة بحيث لا يتأثرون بمثل هذه الطروحات .. لكنها المصلحة العامة وتسكين الفتنة، وإنصاف الجهات الكاملة. إن من رسالة الصحافة المصداقية والأمانة في العرض والطرح وذكر

المحاسن وتقويم الأخطاء ومعالجتها بحكمة وعدل، وانطلاقًا من هذه القيم للمسئولية الإعلامية، فأين وسائل الإعلام- وعلى رأسها الصحافة- عن رجالات الهيئة حين اعتدى عليهم أصحاب الشهوات، وأرباب الجرائم .. حتى دخل بعضهم المستشفيات فأين دفاع الصحافة عنهم، وأين مطالبتها بتتبع متقصديهم بالسوء، وهل تناولوا قضيتهم تلك بمثل ما يتناولون اليوم قضايا موت لأشخاص .. صرح المسئولون عن الهيئة عن ملابساتها وظروفها .. أين الصحافة وكُتَّاب الأعمدة عن عرض منجزات الهيئة، وتفاني رجالاتها في خدمة المجتمع والمساهمة في تحقيق الأمن .. هل تنكر إنجازاتهم في قبض المروجين وفي حماية الأعراض .. أو غيرها من القضايا .. أليس الله يقول: {وإذا قلتم فاعدلوا} فأين العدل في عرض ما للهيئات وما عليها؟ ألا يستشعر أولئك أن القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سر من أسرار البقاء وأمان من العذاب، والله يقول وهو أصدق القائلين {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116، 117] ألسنا ندرك جميعًا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب للتمكين في الأرض {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}. ومن يتحمل اللعن .. وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وذلك جزاء من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية إننا نتألم بشكل عام حين يقع أحد من المسلمين في عرض أخيه المسلم بغير حق فالله يقول: {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}. ويتألم أكثر حين تكون الوقيعة في أهل العلم والدعوة، وأرباب التربية وأهل الحسبة، وهنا يكون الأمر أعظم، والوعيد أشد، وهنا أقبس كلامًا نفيسًا لشيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله حين سأل عن الاتهامات الموجهة للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فقال: - فيما قال- الوقيعة في أهل الخير أشد من الوقيعة في عامة الناس .. والوقيعة في الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر توهن جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويخشى أن يكون الدافع فيهم بكراهة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي كراهة ذلك خطر على دين العبد لقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (¬1). إنها بلية حين ينقسم المجتمع إلى آمرين ومثبطين، وإلى رجالات هيئة مكلفين وإعلاميين يتهمون ولا ينصفون .. ولذا توجه الدعوة لهؤلاء أن يتقوا الله فيما يكتبون وإلى رجالات الهيئة أن يحتاطوا لما يفعلون .. ولنا جميعًا ألا نروج بيننا الشائعات ولا أن نقبل التهم دون دليل، ولا التجريح دون تفسير، ولا التعجل في إصدار الأحكام قبل نتائج التحقيقات .. نحن أمة العدل وديننا دين الفضيلة وبلادنا مهبط الوحي وفيها قبلة المسلمين، ولا خيار لنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو قدرنا وأكرم به من قدر، وهو حظنا ونعم الحظ، ولئن ¬

(¬1) (موقع الرئاسة 22/ 5/ 28 هـ).

ضاقت به نفوس قليلة فعامة مجتمعنا بحمد لله تؤيد الأمر بالمعروف وتساند رجالاته وتنهى عن المنكر وتساهم في محاصرة أصحابه .. وقومه ذلك فولاتنا- بحمد الله- يؤكدون على ذلك في كل مناسبة ويؤكدون على أهمية هذا القطاع ودعم رجالاته ولولا فضل الله ورحمته ثم دعم للدولة لهذا القطاع لما أصبح له هذا الشأن الذي شرق به من شرق. وبعد أيها المسلمون فخلاصة القول أن قطاع الهيئات أحد قطاعات الدولة، وحقه الثقة والمساندة من المواطنين والمقيمين، ورجالات الهيئة إخواننا والساهرون مع غيرهم من رجالات الأمن من أجل قيمنا وحرماتنا ومن حقهم علينا المدافعة عن أعراضهم والمساندة والتعاون معهم في مهمتهم، وهي مهمتنا جميعًا «فمن رأى منكم منكر فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه» الحديث .. وتستطيعون معاشر المسلمين إبطال هذه الهجمة ضدهم حين تأمرون أهليكم وأولادكم بالمعروف وتنهونهم عن المنكر، فتلك مساهمة جليلة منكم في الأمر والنهي وبها تخففون على رجالات الهيئة المسئولين وحين تتعاون أيها المسلم مع جيرانك وزملائك على البر والتقوى وتنهون عن الإثم والعدوان فتلك مساهمة أخرى مع رجالات الهيئة، وحين تقدمون نصحًا أو مساعدة أو مقترحًا نافعًا لرجالات الهيئة أو يكتب القادرون مقالًا، ويؤلفون كتابًا أو محاضرة فتلك مساهمة جليلة وهكذا وبهذا وغيره تتحول المحن إلى منح، والتجريح والتهم إلى تزكيات ومساندات. وأخيرًا بقيت همسة تقال لرجالات الهيئة- بل همسات- وفي مقدمتها الإخلاص لله في أعمالكم، والصبر والاحتساب على ما تلقون من إخوانكم .. فأنتم تتعاملون مع فئة معينة في المجتمع، كما تحتاج إلى صبركم تحتاج إلى رفقكم ونصحكم، وظنكم تفرحون بتوبة المخطئ أكثر مما تفرحون بالقبض على

المجرم وهو متلبس بجريمته، عليكم بالرفق فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وعليكم باستحضار فقه تغيير المنكر حتى لا يترتب عليه منكر أعظم منه، كونوا رفيقين في مهمتكم منضبطين باللوائح والأنظمة الموجهة لكم من مسئوليكم حتى لا تعطوا الشائنين فرصة لتوجيه النقد لكم، طوروا أنفسكم بالدورات، وتثبتوا في المعلومات، ونشطوا غدارات التوعية فالوقاية خير من العلاج، واستفيدوا من أخطاء غيركم حتى لا تتكرر معكم، وحين تتقون وتصبرون لا يضركم كيدهم شيئًا، وقد قيل لمن هو خير منكم {إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} وقيل لنبيكم {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}. أيها المسلمون وغدًا أيام الامتحانات للطلاب والطالبات .. وقد سبق لنا في مناسبات مماثلة التذكير بقيمة العناية بفلذات الأكباد دائمًا وفي مناسبات الامتحان على وجه الخصوص، فنجاحهم وتفوقهم نجاح وتفوق لكم، واستفادتهم من المناهج والمقررات رافد مهم من روافد التربية لكم .. حذار- معاشر الأولياء- من الغفلة عن تربيتهم ورعايتهم في كل حين، وحذار على الخصوص من ضعف المتابعة لهم أيام الامتحانات .. إنها أيام لقاءات واختلاطات وأيام يصطاد فيها العابثون والمجرمون .. ويغررون ويمنون .. في أيام الامتحانات فرصة كبرى للمجرمين لترويج المخدرات .. وربما بدأت بأقراص تمنع النوم وتساعد على الدراسة والسهر، ثم انتهت ببلية المخدرات والمسكرات فاحذروا أولئك المتصيدين والمروجين وحذروا أبناءكم وبناتكم منهم وأيام الامتحانات أيام يصطاد فيها الشاذون جنسيًا وربما رغبوا أو رهبوا الشبات أيام الامتحانات حتى أغروهم بالفاحشة فكانت سبة عار عليهم وعليكم، وربما صورت الجريمة عبر كاميرات الجوال فكانت ورقة يتلاعب بها ويضغط أولئك المجرمون على أبنائكم على الدوام ..

وثمة متصيدون ومعاكسون على أبواب مدارس البنات، فهذا يرمي كلمة، وآخر يلقي برقم، وثالث يغري بموعد .. وهكذا تكون البدايات التعسة والنكسات وثلم الأعراض، والانتقاص من الشرف .. فكونوا على حذر .. وارعوا واهتموا بأبنائكم وبناتكم من حين خروجهم للامتحان إلى عودتهم، وقبل ذلك في أوقات دراستهم، وتشكر إدارات التربية والتعليم للبنين والنبات حين تجعل الامتحان فترة واحدة لا فاصل بينها، أو تجعل الطلاب في الداخل المدرسة- إن كان ثمة حاجة للفترة الثانية- حتى لا يعطى الفرصة للباحثين عن فرص فراغ الشباب كما تشكر القطاعات الأمنية حين تكثف من جهود رجالاتها أيام الامتحانات، لتأخذ على أيدي المستهترين، وتحمي المجتمع من ألاعيب العابثين، وتحية للمعلمين والمعلمات حتى يستمر عطاؤهم وتوجيههم إلى آخر لحظة. حمى الله بلادنا ومجتمعنا من كل سوء ومكروه.

حصار الفلوجة، وحرمة الدماء المعصومة

حصار الفلوجة، وحرمة الدماء المعصومة (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. أيها المسلمون في هذه الأيام الأرض تموج بالهرج والمرج والفتن تتلاطم أمواجها وتطل برأسها هنا وهناك. وكلما شغل الناس بحدث ما جاءهم حدث آخر وهكذا. ظلم وعدوان، وقتل واختراب، وانتهاك للحرمات، واستهانة بشأن الدماء، مع أن أول ما يقضي فيه الدماء .. كيف حل الرعب والخوف مكان الأمن والطمأنينة؟ من وراء التصعيد؟ ومن المستفيد عن هدر الأرواح والممتلكات وكيف المخرج من هذه الأزمات؟ تلك أسئلة تدور وتثور .. كلما اصطبغت الأرض بالدماء وتناثرت الجثث على الأرض .. وأعجب كل ذي رأي برأيه وأصبحت البندقية لغة الحوار، أساسًا للتفاهم. إننا نشهد على المسرح الخارجي ترديًا في الأوضاع الأمنية في العراق تحاصر المدن بالدبابات .. وتقذف بالأسلحة الفتاكة والمحرمة بالطائرات والفلوجة كما هي رمزًا لمقاومة المستعمر المحتل .. هي كذلك نموذج للمأساة الإنسانية حيث شمل القصف المستوحش النساء والأطفال .. وبعض التقارير تشير في الأيام الماضية إلى سقوط ثلاثين طفلًا دون الخمس سنوات، ومن بين الضحايا تسعون طفلًا آخرون فوق الخامسة ومائة وتسعون امرأة .. (جريدة ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 26/ 2/ 1425 هـ.

الحياة، الأربعاء 24/ 2/ 1425 هـ) ولا تسأل عن الضحايا الآخرين .. فمن المسئول عن هؤلاء وأولئك؟ وأكذوبة الدفاع عن النفس هي العذر الجاهز لتسويغ قتل العشرات بل المئات من المحتجين على الاحتلال .. وقبل بضعة أشخاص- ومهما كان ادعاء الخطَّاء في قتلهم- لا يسوغ بحال استحلال حرمة بلد بكامله .. واستعراض العضلات لمجاهدته وتطويقه .. إنها حماقة الغرب- وفي مقدمتهم أمريكا- تصنع المقاومة ضدهم وتزرع البغض لهم لدى كل نفس أبيه، وتوسع دائرة العدوان عليهم، بل وتعجل بنهايتهم .. فثمة تقارير من دوائرهم .. وفي صحفهم تقول: بداية النهاية لأمريكا في العراق، وكلما زادت محاولاتنا كلما ازداد الوضع سوء هكذا كتب (روبرت) في صحيفة (لوس أنجلوس تايمز) .. ويمض الكاتب يقول: مهما كان حجم التفاؤل لدى إدارة الرئيس (بوش) إلا أن ذلك لن يكون كافيًا لإخفاء الحقيقة. وينهي الكاتب الغربي مقاله بالقول: كان عظيمًا لو انتهى الأمر بالعراق في طابور المجتمعات الديمقراطية، إلا أن الأحداث المأسوية التي شهدتها الأيام القليلة الماضية ذكرتنا مرة أخرى بأن هذه النتيجة أصبحت حلمًا بعيد المنال بحلول كل يوم جديد افترضنا فيه بأننا نعرف ما هو مناسب لبقية العالم، ونعمد إلى فرض هذه الآراء بقوتنا العسكرية المرعبة» (¬1). إخوة الإسلام وثمة معالم ووقفات تبرزها الأحداث الأخيرة في العراق ومنها. 1 - تساقطت تباعًا وسراعًا دعاوى تأمين الحرية والديمقراطية الغربية ¬

(¬1) (جريدة الرياض، الأحد 21/ 2/ 1425 هـ شئون دولية).

للعراقيين، وكشف المستعمر عن وجهه الكالح لانتهاب الخيرات وكتم الحريات حتى ولو كان ثمن ذلك جثثًا متناثرة من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء! 2 - وبات من المؤكد أن أمريكا استطاعت كسب الحرب ضد نظام البعث المستبد الظالم في العراق .. ولكنها لم ولن تكسب الحرب ضد الإسلام والمسلمين تحت أي ستار أو شعار موهوم. 3 - وبات من المؤكد كذلك أننا- معاشر العرب والمسلمين- ساهمنا في صنع هالة موهومة لقوات الغرب .. فنحن قد فتنا وضعف هممنا استسلمنا لهم في كل شيء حتى لم يرضهم شيء إلا أن يسلخونا من ديننا ويجردونا عن هويتنا، ويفرضوا على بلادنا وشعوبنا دساتيرهم .. ويعلنوها صريحة برفض الإسلام مصدرًا أساسًا للتشريع في بلد يدين أهلها بالإسلام .. وأحداث الفلوجة تثبت أن المقاومة ممكنة .. وأن إلحاق الأضرار بالعدو ممكن .. مهما كان فارق القوة .. ومهما كانت نتائج المعركة وجمود الفلوجة هذه الأيام- تجد ذاته- تعبير عن قوة الضعيف وضعف القوي- وماذا لو هبت العراق كلها- وماذا لو تحرك العالم العربي والإسلامي؟ 4 - وفي كل يوم وعبر الأحداث الدموية المتلاحقة يكتشف الناس مسلمهم وكافرهم خلف أمريكا في تعاملها مع الشعوب العربية والإسلامية، فلم يعد الاستعمار كافيًا، بل ومع الاستعمار خرق للقوانين وانتهاك للمواثيق الدولية، وذلك عبر استخدام أسلحة محظورة، فقد كشف مصدر طبي في مستشفى الصليب الأحمر الإيطالية في بغداد عن استخدام القوات الأمريكية قنابل حابسة للأوكسجين في قصفها للمدينة المحاصرة (الفلوجة)، كما لم يستبعد أطباء آخرون استخدام أمريكا للقنابل العنقودية والنابالم الحارقة .. وهي أسلحة محظورة دوليًا (الحياة 24/ 2/ 1425 هـ).

وهذه الخوارق الإنتهاكية الأمريكية توسع دائرة العداء لأمريكا، وتقلل من قيمة حضارتها، وتسقط دعاوى حملتها ضد الإرهاب فهذا هو الإرهاب .. وهي صانعته ومصدرته. 5 - ومما يضاعف المأساة ويدمي المشاعر هذا الصمت أو شبهه من المسلمين تجاه إخوانهم المحاصرين، وحتى لو وجد استنكار لا يتجاوز إلى مواقف إيجابية فهو في عداد الصمت المذل .. إن من حق إخواننا المسلمين في العراق أو غيره النصرة، فالمؤمنون إخوة، ومن وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» ويستغرب المتابع للأحداث أن يجد استنكارًا بل ومناصرة لمقاتلي العراق من رئيس فنزويلا، فقد ألقى باللائمة على الرئيس الأمريكي في العنف المحتدم في العراق، وبعث برسالة تأييد ومناصرة للعراقيين (¬1). في حين لا يتوفر مثل ذلك من زعماء مسلمين؟ . 6 - والمأساة أكبر حين يضجُّ العالم الآخر وينتقذ هذا الحصار اللامتكافئ .. ويصدر كاتب معروف في الشرق الأوسط مقالًا له بعنوان (ثوار الفلوجة) ثم لا يفهم من مناصرة المظلومين هناك إلا تصدير الإرهابيين ويقول في بداية مقاله (إلى الفلوجة انصروا إخوانكم الذين يواجهون العدوان) هذه واحدة من صيحات الاستنهاض التي تنتشر في المواقع الأصولية .. وهي في الحقيقة صيحات لتأسيس معسكرات تجنيد وتدريب ثم تصدير إرهابيين إلى بيوتنا وشوارعنا (¬2). ¬

(¬1) (جريدة الجزيرة 25/ 2/ 1425 هـ). (¬2) (الشرق الأوسط الخميس 25/ 2/ 1425 هـ).

وكنت أتوقع أنه الكاتب سيطرح البديل حاجة العراقيين المحاصرين على إلى إغاثة ودعم مادي لمقاومة المحتل فإذا به (وكعادته) يكرس الاحتلال ويمتدح خطوات الأمريكان، وأنها في النهاية تصب في مصلحة المنطقة والدول المجاورة. لست أدري إلى متى ستبقى هذه النوعية من الكتاب مروجة للغرب والاحتلال ومتكئة على هاجس الإرهاب في جانب، ومتناسية الجانب الأكبر في الإرهاب؟ ومشكلة ألا يبقى في ذهن هذا الكاتب من مناصرة المظلومين إلا تصدير الإرهابيين وأن يسقط آراءه في هذه الأحداث المؤلمة على من أسماهم بالأصوليين، وإذا ظن أنه بهذه الطريقة الفجة في المعالجة يحارب الإرهاب، فهو- من حيث يشعر أو لا يشعر- ممن يزرعون الإرهاب، وإن كنا نحذر من الاستجابة لأي نوع من الاستفزاز، ونشجب الإرهاب بكل ألوانه وأشكاله. إن مشهد النساء وهن يغادرن المدن العراقية المحاصرة، حاملات على رؤوسهن أو على الدواب ما استطعن من متاع، أو أطفال هائمات على وجوههن وسط أجواء رملية عاصفة .. وهروبًا من آثار القصف والدمار .. لهو مشهد يثير من كان عنده أدنى قدر من إنسانية فضلًا عن الإسلام .. ولكن ما لجرح يميت إيلام؟ وإذا عصفت بغداد بالنازحين، وكانت المساجد مأوى لمن ضاقت عنهم بيوت إخوانهم، فهل بعد هذا من إرهاب. 7 - وأخيرًا فنحن بحاجة إلى أن نفهم أكثر حقيقة اللعبة وهدف أمريكا من وجودها في العراق، وماذا وراء تسليم السلطة للعراقيين وقد كشفت إحدى صحافتنا المحلية النقاب عن ذلك في افتتاحيتها حيث قالت: فالحكومة العراقية القادمة حتى لو جاءت منتخبة من الشعب العراقي فهي مقيدة بأوامر

ونواهي المحتل، أي: حكومة ظل .. إلخ (¬1). فلا بد أن يكون لدينا ثقة أن المحتل سيخرج راغبًا أم صاغرًا يومًا من الأيام .. ولكن ما البديل .. وكيف سيكون مستقبل العراق، هذا سؤال يهم العراقيين بالدرجة الأولى، ولا يعفي غيرهم من المسئولية، وينجح العدو المستعمر أن خرج وقد أشعل فتنة واقتتالًا داخليًا. قد لا ينتهي، تارة عند حدود العراق، ويبقى دور العلماء والمفكرين والساسة مهمًا في توجيه واقع العراق ومستقبله، بل وتوجيه مستقبل المنطقة كلها بعيدًا عن هيمنة المستعمر .. وتنازع واحتراب الأشقاء وأبناء العم .. والله غالب على أمره .. ¬

(¬1) (جريدة الرياض/ كلمة الرياض 25/ 2/ 1425 هـ).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية أخوة الإسلام ونشهد على المسرح الداخلي بوادر فتن وفي بلادنا تطالعنا الأخبار بين الفتنة والأخرى عن قتل للأنفس المعصومة وتدمير للمنشآت والممتلكات العامة، وإخافة وترويع للآمنين وتطويق ومحاصرة وتبادل لإطلاق النار .. ولا بد أن يذكر كل مسلم يخاف الله ويرجو اليوم الآخر .. أن أمر الدماء عظيم وأنها أول ما يُقضى فيه بين الناس يوم القيامة، ولا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا .. وفي أواخر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في حجة الوداع: «ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا .. » وطلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الشاهد الغائب .. وكم نحن بحاجة إلى هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في كل شيء وفي كل حين ولاسيما في هذا الحدين وفي عصمة دماء المسلمين ورعاية حقوقهم وهو الذي نهى عن مجرد الإشارة بالسلاح فقال «ألا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار» (¬1). فكيف إذا تعدى الإشارة إلى الفعل .. ألا إن الأمر عظيم، فعظموا حرمات الله يا مسلمون {وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30]. واسمعوا إلى هذا التوجيه النبوي الآخر حين يحذر عليه الصلاة والسلام من مجرد احتمال وقوع الأذى على المسلم والتحوط عن ذلك. ويقول: «من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل (السهم) فليمسك أو ليقبض على نصالها ¬

(¬1) متفق عليه: (رياض الصالحين/ 563 تحقيق الألباني).

بكفه أن يصيب أحدًا من المسلمين منها بشيء» (¬1). وفي القرآن زواجر تقرع القلوب وتخيف المعتدين {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]. {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58]. لا بد من معالجة الأمور بالحسنى، والرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه، ولا بد من التفكير جيدًا في عواقب الأمور ومآلاتها، ودفع الفتن والشرور قدر المستطاع، فالأمن مسئوليتنا جميعًا ومكتسبات البر لنا جميعًا. لا بد من فقه في إنكار المنكر .. فقد يؤل الإنكار إلى ما هو أعظم من حيث يشعر أو لا يشعر .. وهنا كلام جميل وتحذير صريح من شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- وهو يرصد الفتن الواقعة بين المسلمين ويشخص أسبابها في ثلاثة أشياء أو ثلاثة فاعلين وجود الذنب والمنكر، وفي السكوت عن الإنكار، أو في الإنكار المنهي عنه، ويقول: وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان، فقد يذنب الرجل أو الطائفة، ويسكت آخرون عن الأمر والنهي، فيكون ذلك من ذنوبهم، وينكر عليهم آخرون إنكارًا منهيًا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم، فيحصل التفرق والاختلاف والشر، وهذا من أعظم الفتن والشرور قديمًا وحديثًا، إذ الإنسان ظلوم جهول، والظلم والجهل أنواع، فيكون ظلم الأول وجهله من نوع ¬

(¬1) (متفق عليه رياض الصالحين/ 131).

(يعني ارتكاب الذنب) وظلم كل من الثاني والثالث (يعني السكوت أو الإنكار المنهي عنه) وجهلها من نوع آخر وآخر. ثم يقول: ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك، ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها ومن ذلك في ذلك من ملوكها ومشايخها ومن تبعهم من العامة من الفتن هذا أصلها (¬1). وبالتالي فعلينا معشر المسلمين أن نجتنب المنكر في ذواتنا وألا نسكت عن نهي الآخرين الواقعين فيه بالحسنى وألا ننكر بطريقة منكرة تضر أكثر مما تنفع وتفسد أكثر مما تصلح، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ} هكذا قيل للمرسلين، وغيرهم من باب أولى. {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}. عباد الله .. إخوة الإسلام لها حقوق وواجبات .. بل وكرامة الآدمي لها اعتبار في الشرع وحقوق وواجبات .. والإسلام الذي يعتز به وينتمي إليه بيَّن وأكد هذه الحقوق والواجبات ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليأت للناس الذي يحب أن يؤتوه إليه .. فإطعام الطعام وإفشاء السلام، وعيادة المريض، وتشييع الجنائز، والنصح والمعونة، والسماحة والبشر، وإعطاء الحقوق كاملة .. كل ذلك وغيره جاءت به شريعة السماء. وكف الشر والأذى، حق لكل مسلم- بل ولغير المسلمين المسالمين- لا يجوز لعن المسلم وسبابه فسوق، وقتاله كفر (متفق عليه) .. أتدرون ما أكبر الكبائر؟ ¬

(¬1) (الفتاوى 28/ 142، 143).

جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أكبر الكبائر الإشراك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقول الزور، أو قال وشهادة الزور» (¬1). ما بال أقوام فينا باتوا يستهينون بهذه الحرمات .. بل وهذه الورطات كما قال ابن عمر رضي الله عنهما: «إن من ورطات الأمور (الهلاك) التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله» (¬2). وفي صحيح البخاري كذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أول ما يقضى بين الناس في الدماء» (¬3). قال ابن حجر معلقًا: وفيه عظم أمر القتل لأن الابتداء إنما يقع بالأهم (¬4). وأخرج الترمذي وحسنه من حديث ابن عمر: «زوال الدنيا كلها أهون على الله من قتل رجل مسلم» قال ابن العربي: «ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق، والوعيد في ذلك، فكيف يقتل الآدمي، فكيف بالمسلم، فكيف بالتقي الصالح» (¬5). أخي المسلم لك فسحة في دينك بقبول الأعمال الصالحة ومغفرة الذنوب .. ما لم تصب دمًا حرامًا .. هكذا فسر بعض العلماء قوله صلى الله عليه وسلم: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا» (¬6). قال ابن العربي: الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول (¬7). ¬

(¬1) (نضرة النعيم 11/ 5292) [خ 6871، م 88]. (¬2) رواه البخاري ح 6863 الفتح 12/ 187). (¬3) (6864) (الفتح 12/ 187). (¬4) (الفتح 12/ 189). (¬5) (الفتح 12/ 189). (¬6) رواه البخاري ح 6862. (¬7) (الفتح 12/ 188).

احذروا معاشر المسلمين أن تلتقوا بالسلاح فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قال الصحابي: (راوي الحديث) يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» (¬1). قال الخطابي: هذا الوعيد لمن قاتل على عداوة دنيوية أو طلب ملك مثلًا، فأما من قاتل أهل البغي أو دفع الصائل فقتل فلا يدخل في هذا الوعيد لأنه مأذون له بالقتال شرعًا (¬2). ¬

(¬1) (خ 6875). (¬2) (الفتح 12/ 197).

بلادنا بين تهم الأباعد وتجريح الأقارب

بلادنا بين تهم الأباعد وتجريح الأقارب (¬1) إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ... هناك فرق بين إرادة التطوير والرغبة في التجديد المثمر وبين جلد الذات والنقد لذات النقد، والتصيد في الماء العكر. وهناك فرق بين أن ينتقدنا الآخرون بعدل، ويبدوا ملاحظاتهم على مسيرتنا التنموية، ومؤسساتنا المختلفة بإنصاف وبين تصدير التهم جزافًا ومحاولات الإسقاط لقيمنا ومحاضرة مؤسساتنا. إن بلادنا، ومؤسساتنا بشكل عام، - وعلى الخصوص مؤسساتنا التربوية والاجتماعية- واقعة تحت (مطرقة) التهم الجائرة من (الخارج) و (سندان) التجريح والانتقائية الممقوتة من (الداخل)، إنها تهم الأباعد، وتجريح الأقارب. أجل لقد راجت فترة من الزمن (دعاوى الإرهاب) لهذه البلاد المباركة، ولم يسلم أحد من التهمة، وأصدرت (قوائم) وصنفت (مؤسسات) في قائمة الإرهاب المزعوم؟ ولحقت الدعوى (الكاذبة) بأخص الخصوصيات، وأطلقت صيحات مطالبة بالتغيير، ألم يتهم ولا يزال يتهم (أشخاص) بالإرهاب، وهم أبعد ما يكونون عن التهمة؟ ألم تصنف مؤسسات وهيئات خيرية بالإرهاب، وهي التي كانت ولا تزال تدفع الإرهاب .. بل تخلف الإرهاب المسيء لتعفي أثره، تكفكف دموع اليتامى، وتداوي جراح الأيامى، وتغيث المنكوبين؟ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 27/ 3/ 1426 هـ.

لقد كانت حربًا ظالمة، وثمة ضحايا بريئة للإرهاب، فج المجتمع الغربي المصدر لها من ويلاتها .. وتنادي العقلاء (منهم) بإيقاف نزيفها، حتى قال عضو الكونجرس الأمريكي الأسبق، السيناتور (بول فندلي): «إن أنظمة مكافحة الإرهاب أصبحت تمثل تهديدًا لمصالح مجتمعنا أكثر من الإرهاب نفسه .. وإن جميع الأمريكيين وبالذات المسلمون منهم أصبحوا ضحية لهذه القضية» (¬1). لقد كان العالم وما يزال يواجه أزمات خانقة، وكان بإمكان الغرب وفي مقدمته (أمريكا) أن يساهم في حلها، بدل أن يتجه إلى تأزيمها، ويضيف (قضية الإرهاب) المفتعلة، إلى جانب هذه القضايا الحقيقية، فتنعقد الأمور، ويزيد النزيف. لقد اعترف وزير الخارجية الأسبق لأمريكا (كولن باول) في أوائل عام 2005 م أن «نصف سكان هذا الكوكب حوالي 3 مليارات يعيشون في فقر مدقع، وملياران يفتقرون للطاقة الكهربائية والصرف الصحي، وأكثر من مليار شخص يفتقرون إلى مياه الشر النظيفة» (¬2). ويزيد من هذه المأساة ويضاعف هذه الكوارث ذلك الإقصاء المتعمد الذي تمارسه الولايات المتحدة ضد عدد من المؤسسات الإغاثية الإسلامية. ويضيف رئيس البنك الدول (جيمس وولفينسون) إلى حجم هذه المأساة أرقامًا جديدة إذ يقول: إن العالم ليس عالمين اثنين موسر ومعدم، وآمن وغير آمن لقد انهار ذلك ¬

(¬1) (مجلة البيان اللندنية، حوار مع السيناتور في سبتمبر 2003 م، وانظر: ضحايا بريئة في الحرب على الإرهاب د. محمد السلومي/ المقدمة. (¬2) (د. محمد السلومي. ضحايا بريئة في الحرب على الإرهاب).

الحائط وأصبح العالم مرتبطًا بطرق عديدة بالاقتصاد والتجارة والهجرة والبيئة والمرض والعقاقير، والنزاعات وأكد على الأخطار المستقبلية- بلغة الأرقام- قائلًا: في عالمنا الذي يضم ستة مليارات شخص، يستحوز (مليار) منهم على 80% من إجمالي الناتج المحلي العالمي، بينما الخمسة مليارات الآخرون يملكون 20%، ويعيش نصف سكان هذا العالم تقريبًا على أقل من دولارين يوميًا، ولا تتوفر (لمليار) شخص إمكانية الحصول على الماء النظيف، ولا يحصل 100 مليون على فرصة الذهاب إلى المدرسة، وأكثر من 40 مليون إنسان في الدول النامية مصابون بالإيدز مع أمل قليل في تلقي العلاج» (¬1). والسؤال المهم .. وأمام هذا الوضع الكارثي للعالم، ماذا قدم دهاقنة الحرية، والزاعمون لرعاية حقوق الإنسان، والمدعون تصدير العدل والرفاهية والتنمية للعالم؟ وهل غزو (العراق) ومن قبل (أفغانستان) وقوائم الانتظار الأخرى وتكريس الاحتلال الصهيوني في فلسطين هي في نظر الغرب الحل الأنسب لتصدير الحرية والرفاهية وتقليل الكوارث .. ؟ أهذه مخرجات حضارتهم؟ أم أن هذه وتلك أضافت أرقامًا موحشة وجديدة للفقر واختلال الأمن، وانتشار الأمراض .. فضلًا عن قوافل الموتى والمشردين والناقمين .. والذين باتوا يشكلون قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، ساخطة على الظلم وهكذا بات المصدرون للإرهاب يجنون ثمارًا مرة لما زرعوا. إن واقع العصر يشهد على أن دعاة محاربة الإرهاب هم الذين يصنعون الإرهاب .. وأدعياء الحرية والعدل هم الذين يؤسسون للظلم ويزرعون الحقد، ¬

(¬1) (صحيفة الاقتصادية السعودية 22/ 10/ 2004 م، د. محمد السلوقي .. السابق/ 7).

ويشعلون الحرائق، ويمنعون الإطفاء. على أن الحق مهما طال الزمن يحق .. والباطل مهما زيف يزهق وما هي إلا برهة يسيرة في عمر الزمن حتى بدأت الدعاوى تكشف والتهم تعرى من الدليل، والحق يبين ويعلن، ويشهد شاهد من أهلها لا على سقوط الدعوى بالإرهاب فقط، بل يثبت أنه لا يوجد دليل أصلًا على التهمة .. والتي لم تكن مجرد تهمة، بل استتبعها (سيل) من الإجراءات المتعسفة أجل نطق الشهود وهم (أجانب) وحكمت المحكمة (وهي خارج الأسوار) فماذا قالوا؟ وبم حكموا؟ قال أحدهم المحامي الدكتور ويندل (معترفًا بالجور) أن السياسات الحالية لمكتب مراقبة الممتلكات الأجنبية OFAC تشتمل على القليل جدًا من العدالة، ولا رحمة فيها ولا تواضع». كما قال آخر (ديفد أتاوي) حتى الآن لم تنجح وزارة الخزانة الأمريكية في إدانة أي من المؤسسات الخيرية الثلاث التي تم تجميد ممتلكاتها أثناء التحقيقات بأي عمل إرهابي، وهي مؤسسة: الإغاثة العالمية وهيئة الأعمال الخيرية العالمية، ومؤسسة الحرمين الإسلامية». بل يتساءل هؤلاء ويقولون: هل الأمر يستحق تدمير هذه المؤسسات؟ هل أدى ذلك إلى تحسين أمن الولايات المتحدة أم أنه كان مجرد تصرف عقيم انتهك حقوقًا مدنية دون أن يحقق إنجازًا ملموسًا للأمن .. » (¬1). هذا جانب مشرق في عدالة قضايانا ونموذج لظلم الآخرين لنا .. ولكن الجانب الأكثر إيلامًا .. حين تنبعث التهم من داخلنا، وحين تكون المجاراة للآخرين من أبناء جلدتنا، وأيًا ما كانت بواعثه (أبواق مقلدة، توجهات تتصيد، ¬

(¬1) (ضحايا بريئة في الحرب على الإرهاب د. محمد السلومي: / 93).

فرص للانتقام، انتقائية متعمدة) وحينها يكون تحطيم الحصون من داخلها، ويستنيب الخصم عنه من يقوم بالمهمة، فلا يبقى هذا الخصم ولا يذر ومن مقولاتهم: المؤسسات الخيرية مصدرة للإرهاب، ومحاض التربية بؤر للإرهاب، المناهج سبب المشكلة، والمرأة المحتشمة والقوانين المنظمة لعملها وتعليمها والمراعية لأنوثتها سبب في تخلفنا .. والمراكز الصيفية ينبغي أن تغلق، حتى وإن ساب الشباب في الشوارع وخلفوا مشكلات أمنية وأخلاقية .. ومراكز الدعوة والاحتساب وحلق القرآن والتسهيلات الإسلامية ودروس المساجد في قفص الاتهام وإن كانت ضمن سياسة الدولة وتجربة التعليم في بلادنا- وإن كانت رائدة- أصبحت محل شك وهجوم وتهم؟ أهذه الشبهات الظالمة تحل المشكلة .. أم تلك الطروحات المتطرفة تعالج أزمة الإرهاب؟ وهل تجب هذه المطارحات الصفيقة الأمن وتوفر المحبة؟ أين دعاوى الإنصاف للآخر؟ وأين التأسيس للمنهجية في النقد أين أمانة الكلمة ومسئولية الكتابة .. وأخلاقيات العمل الإعلامي. إننا نسمع ونقرأ بين الفينة والأخرى ما يفرق الكلمة ويوغر الصدور .. في حين يدعا للحوار وأدب الاختلاف، ومنطقية الأحكام أين نحن من هذه المعاني الكبرى، وهي قبل أن تكون صيحات العالم هي هدي إسلامنا وقيم قرآننا {وإذا قلتم فاعدلوا} {وكونوا مع الصادقين}. هناك مشكلة .. وثمة علاج .. وإيجابيات تحتاج إلى مبادرات: 1 - لا بد- في النهاية- أن نصدق في نقدنا، ونعدل في أقوالنا ونتوازن في رؤانا، وألا نؤصل التهم للآخرين فيطمع فينا الطامعون ويشنأنا الشائنون، لاسيما في وقت بدأت لغة التراجع عن التهم تطل، وسجائب التهم تتقشع، والمطلوب منا أن

نساهم في إطفاء الحرائق لا أن نبحث عن سبب لإشعالها. 2 - هناك فرق بين النقد والإسقاط، وفرق بين طلب إعادة النظر في التجربة وتقويم الأخطاء المصاحبة، وبين الهجوم الكاسح ومحاولات اجتثاث البناء من جذوره، والتطرف في الطرح أو الممارسة مرفوض، ومجارات الآخرين في النقد تبعية وضعف في الانتماء. 3 - لا بد أن نتواصل مع العالم نوضح له الصورة وندفع التهمة، ونعين الراغبين في الوصول إلى الحقيقة للوقوف عليها، ولا نستحي بإسلامنا ولا نشعر بشيء من الدونية في مؤسساتنا وبرامجنا، فالإعلام مؤثر ومن لم يغزو غزي. 4 - وكم هو خليق بنا أن نطرح نتائج تجربتنا أمام العالم حتى لا نتيح الفرصة للآخرين ليتقولوا علينا، أو يستمسكوا بالشائعات ضدنا إننا نعيش في عالم يموج بالتجارب وتتقاطع فيه الطروحات، فليكن صوتنا ظاهرًا. وعلى سبيل المثال لأهمية الإعلام أقول إن مسيرة التعليم في بلادنا- بشكل عام- وسيرته تعليم المرأة على وجه الخصوص تجربة تستحق الإشادة والإعلام، وذلك بعقد مؤتمر عالمي، يتنادى له الناس، ويجتمع المثقفون والإعلاميون، وتعقد له الندوات المحلية، والمطارحات الفكرية .. يعتمد لغة الأرقام ويركز على المخرجات، ويعني بالأهداف والسياسات، ويخلص إلى الاستفادة من تجارب الآخرين النافعة، ويثمن المسيرة ونتائجها ويطبع ذلك في كتب تترجم بعدد من اللغات لتكون كتابًا مفتوحًا ودليلًا صادقًا على هذه التجربة الناجحة. 5 - والمحاضن التربوية خليقة بالدعم، حرية بالتطوير، جديرة بالتجديد والإبداع النافع، لاسيما تلك التي تنظم مجموعة من الفتيان والفتيات في عطلة الصيف- حيث الفراغ والشباب والدعة- كالمراكز الصيفية، والدور النسائية، والدورات التربوية، والبرامج الترفيهية.

إن الشغب عليها ليس حلًا ناصحًا .. والطرق على إغلاقها عجز عن استيعابها وربما كان سبيلًا لتفلت المستفيدين منها ووقوعهم في إدواء تكلف مستقبلًا ثمنًا باهظًا لعلاجها .. وإن التحجر على برامج عفى عليها الزمن لا يسهم في فاعليتها .. إذًا يمكن أن تطور وأن تضبط مسيرتها، وأن تكلف لجان مخلصة للإشراف على أعمالها كل ذلك ممكن وهو أسلوب لإعادة تفعيلها وضبط مخرجاتها بما يخدم المصلحة العامة. 6 - يمكن أن تساهم مراكز البحوث والرسائل الجامعية في دراسة عدد من الظواهر وتقويم التجارب في بلادنا، فمؤسساتنا الخيرية ومناهجنا التعليمية، وتجربتنا في التربية، وتحولاتنا في الاقتصاد كل ذلك ونحوه يمكن أن يسجل في رسائل علمية عالية، ويستكتب لها عدد من أساتذة الجامعات المختصين .. لتكون نتائج هذه الدراسات ملفات علمية ودليلًا موثقًا يقرأه المنصفون ويستفيد منه الآخرون. 7 - وإذا وقعت بلادنا وغيرها، ومؤسساتنا ومثيلاتها ضحايا بريئة لحملات الحرب على الإرهاب .. فنحن الآن نمر بمرحلة تعاف بوارق الأزمة فيه تخف، والتراجع يعلن ولا يسربه، ومن الحصافة والكياسة أن نستثمر هذه الظروف، وأن نحقق مزيدًا من المكاسب لديننا وحضارتنا وبلادنا. 8 - نحن حين ندعو ندعو إلى حوار الحضارات لا إلى زمالة الأديان وتقاربها وندعو إلى كلمة سواء بيننا وبين غيرنا ألا يعبد إلا الله ولا يشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله .. ونعيب على الذين ينادون بصدام الحضارات مستعلين بقوة المادة مستكبرين بسلطان العلم والتقنية فهذا الصراع الأحمق ربما تفوق فيه الأقوى وإن كان الأسوأ أما أجواء الحوار الصادقة فتكون القوة لسلطان الحجة، والفيصل لشواهد الحق والعدل، والبقاء لمن يملكون

إسعاد البشرية في الدنيا ويهدونها إلى طرق الخلاص والفوز في الآخرة. 9 - لا بد أن ندعم القضايا العادلة ونؤكد حقوق الشعوب في تحررها وسلطانها على بلادها، ونستنكر العدوان والظلم والاحتلال والاستعمار فتلك مورثات الكراهية، باعثات الأحقاد، مهددات للأمن والسلام وإذا كانت قضية فلسطين أم القضايا فلا بد أن نوليها من العناية ما تستحق دون أن يكون ذلك على حساب غيرها من قضايا الأمة المسلمة في كل مكان. 10 - وعلينا أمة الإسلام واجب البيان والبلاغ لشعوب العالم وحكوماته ولا بد أن ننهض بمهمتنا ونمثل إسلامنا، ونحمل النور الذي نزل به الأنبياء من السماء وختم بمحمد صلى الله عليه وسلم .. إلى أمم الأرض نأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، نقرر الوسطية ونشهد على الناس. تلك مسؤليتنا وذلك قدرنا، وهو مؤشر لخيريتنا {كنتم خير أمة أخرجت للناس}.

انتصاراتنا في رمضان

انتصاراتنا في رمضان (¬1) إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره وهل تعلم أن شهر رمضان شهر الانتصارات وفرصة لتجديد العزائم وعلو الهمم؟ معشار المسلمين: وقفة وتنبيه، واستدراك وتخويف، ها هنا ورقة التقويم تعن انسلاخ النصف الأول من رمضان، وما أسرع ما ينفرط النصف الباقي، فهل من مدكر .. إنها الأيام تمضي سراعًا والشهور تتصرم، والعمر معها ينقص ويذهب، وآيات الله تخون بها فالقمر يذهب ضوءه ويخسف، والشمس يذهب نورها وتكسف .. والفتن هنا وهناك تموج وتضطرب .. والناس أشبه بمن ركب شبح البحر في وقت هيجان الريح وشدة الموج وهم لا يدرون أين ترسي السفينة ومن يسلم من الغرق؟ انتصف الشهر وفاز المشمرون ولا نامت أعين الكسالى والمفرطين وبقي في الشهر بقية لعزائم أهل العزائم، واستدراك المقصرين أخي الصائم وبينك وبين الله حاول أن تقلب صفحات النصف الأول، ماذا صنعت؟ ماذا قدمت؟ كم فرصة ضيعت، وكم أضفت للرصيد الباقي. فإن قلت ذاك ذاك أمر مضى، وتلك أيام خلت لا أستطيع لها ردًا ولا أضيف لها عملًا .. فدونك النصف الباقي .. وقلب صفحاته من الآن واكتب على كل يوم عملًا، وإياك أن تفجأ بانصرامه كما فجئت بانصرام ما قبله. إن رمضان وإن مضى نصفه- والنصف كثير- فقد بقي نصفه الآخر، وليس ما ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 19/ 9/ 1422 هـ.

مضى بأهم مما بقي، فهل تعقد العزم وتضمر الجد .. أم هي مجرد حسرات على الماضي وتسويف في المستقبل .. والنتيجة هم وغم، وحرمان وتفريط؟ لا أخًا لك أخي الصائم ترضى بهذا .. بل من أعظم مكاسبك في هذا الشهر انتصار الإرادة وعلو الهمة .. أيها الصائم ماذا تعرف من انتصاراتنا في رمضان؟ وما نوع هذه الانتصارات وماذا بقي لنا من عبرة، وما هي الانتصارات المتجددة في رمضان؟ إخوة الإسلام وإذا كان رمضان شهر التقوى والصيام، وشهر الصبر وتلاوة القرآن، وشهر النفقة والإحسان، إلى غير ذلك من مزايا وفضائل شهر الصيام، فرمضان كذلك شهر الانتصار، وانتصاراتنا في رمضان في أكثر من مجال، لا تجد زمان ولا يخص بها أجيال دون أجيال .. وليست قصرًا على الانتصارات العسكرية بل ثمة انتصارات اقتصادية ففي شهر رمضان ينتصر الصائم على دواعي الشهوة- وإن كنت مباحة- إذ تصوم البطون عن الأكل والشراب، وإن كانت حلالًا وتصوم الفروج عن الشهوة وإن كانت غير ملومة مع الأزواج أو ما ملكت الأيمان، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. * وينتصر الصائم على الشهوة المحرمة كشرب الدخان أو ما يدخل في بابه- بل وأعظم- كالمخدرات والمسكرات ونحوها .. فثمة نفر من المسلمين بلوا بهذه الأدواء المهلكة .. لكنهم في شهر الصيام- يهجرونها ولو على الأقل في نهار رمضان- وهم خليقون بهجرها على الدوام، وعسى الله أن يجعل من شهر رمضان فرصة لهم على التوبة النصوح والانتصار على دواعي الشهوة التي تورث الذلة والمهانة. * أيها الصائمون والصائم الموفق والحافظ لصيامه ينتصر على شهوة النظر المحرمة، وشهوة السمع الآثمة، هذا في السمع والبصر، وفي اللسان ينتصر

الصائم الحافظ لصيامه على آفات اللسان من الغيبة والنميمة، واللغو، وقول الزور، والفحش والآثام ورديء الكلام. * عباد الله وينتصر الصائمون الموفقون على دواعي الشهوة الخفية من حب الرياء والسمعة، والصيام تدرب على الإخلاص وبالصيام يقوى جانب المراقبة لله، إذ لا رقيب على الصائم إلا الله في صيامه وحفظ أمانته، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه». * إخوة الإيمان وينتصر جماهير من المسلمين- في رمضان- على مكر الشيطان وتوهينه وإغوائه في التكاسل عن الصلاة جماعة مع المسلمين وفي شهود صلاة الفجر التي طالما أضاعوها أو أخروها عن وقتها .. وفي رمضان تكتظ المساجد بالمصلين وعسى الله أن يجعل من رمضان فرصة ليراجع المفرطون أنفسهم ويتوبوا إلى بارئهم ويشكروه على نعمة الصحة والأمن والفراغ، ويخرجوا من دائرة الخلوف الذين قال الله فيهم: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 59، 60]. وهل هو باب التوبة يفتح على مصراعيه يا أخا الإسلام فلا يضيق بك الباب وإن كان واسعًا؟ * كما ينتصر الصائمون على الشح والإثرة والبخل والأنانية، ففي رمضان تكثر الصدقات والإحسان للفقراء والمحتاجين، ويحس المسلمون- في رمضان- أكثر من غيره بحوائج إخوانهم المسلمين هنا وهناك فيصلونهم ويحسنون إليهم، والمؤمل والمرتجى أن يمتد هذا الإحسان والإنفاق- بعد رمضان-. أيها المسلمون وحين نعد انتصاراتنا- المعنوية- في رمضان، فإن كل طاعة

يتقرب بها إلى الله في رمضان هي انتصار للحق وانتصار لأصحاب الحق، وإن كان تائب يعود إلى رشده في رمضان ويلتزم صراط الله المستقيم هو انتصار للحق، وهو معدود في انتصاراتنا في رمضان وإن كل كسب يتحقق للإسلام ودعوة مثمرة لغير المسلمين للدخول في الإسلام تنشط في رمضان هي انتصار للحق وهي في دائرة انتصاراتنا في رمضان .. وفوق هذا وذاك فنحن قادرون على تحقيق مزيد من الانتصارات في رمضان حين نتحرك ونجتهد ونخلص ولا نكل ولا نمل. أيها المسلمون- وإذا كانت هذه وأمثالها- من انتصاراتنا السلمية في شهر رمضان، فلنا انتصارات عسكرية في رمضان هلل الكون لها واستبشر بها جند الله، وكبر وأرغمت أنوف الكافرين، وحطت شوكة الباطل والمبطلين .. وسأكتفي اليوم بوقفة يسيرة عند نموذج واحد من هذه الانتصارات. وكانت وقعة بدر ملحمة عظمى انتصر فيها الحق على الباطل رغم فارق العدد والعدة، وشاء الله أن تقع المعركة على غير ميعاد، بل والمسلمون لها كارهون، ويورون أن غير ذات الشوكة تكون لهم - ولكن الله كان يريد المعركة، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ليحقق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. وتعلم المسلمون- من معركة بدر- أن القوة المادية ليست وحدها ميزان المعركة، كيف لا والمؤمنون يقرؤون في كتاب ربهم أنهم إذا صدقوا وأخلصوا، وأعدوا ما استطاعوا من قوة نصرهم الله على عدوهم وعذب الله الكافرين بأيديهم وتأملوا دقة التعبير في قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 14]. لقد كانت معركة (بدر) الرمضانية فرقانًا- كما سماها الله- بين الحق والباطل

وبين التوحيد والشرك، وبين عهد الضعيف والأمر بالصبر والانتظار وكف الأيدي، وبين عهد القوة والجهاد في سبيل الله، والذي استمر في الفتوح على أيدي المسلمين حتى وإن انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. وكانت (بدر) فرقانًا في موازين عوامل النصر والهزيمة، فقد خرجت قريش تجر أثواب الكبر والخيلاء بطرًا ورآء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط .. وما هي إلا لحظات حتى تطافئت الكبرياء وأرغمت أنوف الملأ من قريش ما بين قتيل وأسير وحين نتجاوز ما حصل لأبي جهل ومن لقي مثل مصيره من صناديد قريش من أصحاب القليب .. ونلتفت إلى الأسرى- وفيهم كبراء وملأ من قريش- نقف كذلك على نوع من دروس بدر في نصرة الحق- ولو بعد حين- وفي قصة سهيل بن عمرو بن عبد شمس- ما يؤكد ذلك، فقد وقع سهيل- ممثل قريش في صلح الحديبية- في الأسر في معركة بدر، وقد كان أحد أشراف مكة، وخطيب قريش المشهور، وكان لخطبه أثر كبير في محاربة المسلمين، وحين تقرر إطلاق سراحه من الأسر بعد دفع الفداء عنه، تقدم الفاروق عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلًا: إنزع ثنتي سهيل حتى يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبًا في موضع أبدًا، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وقال لعمر: «دعه فعسى أن يقوم مقامًا تحمده» (¬1). ومضت الأيام سراعًا، وأسلم فيما بعد سهيل، وصدقت رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحين ارتد من ارتد من العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كان لسهيل موقف يحمد عليه، فقد بلغه أن بعض أهل مكة هم بالردة، وكان سهيل سيدًا مطاعًا فيهم- فوقف خطيبًا وقال: «يا أهل مكة لا تكونوا آخر الناس إسلامًا، وأولهم ارتدادًا ¬

(¬1) (البداية والنهاية 3/ 311).

والله من رأينا من أمره شيء ضربنا عنقه كائنًا من كان». قال ابن حجر: وخطبهم بنحو ما خطب الصديق أهل المدينة (¬1). أيها المسلمون ليس الحديث عن معركة بدر بالتفصيل- وإلا لطال الكلام- وفي المعركة دروس وعبر تستحق الوقفة والنظر، ولكنني في هذا المقام اكتفي بعرض موقف آخر في صف المسلمين، بعد أن عرضت لموقف في صف المشركين وهو مؤشر على صدق المسلمين في الجهاد، وتنافسهم على الشهادة في سبيل الله وهذا سعد بن خيثمة بن الحارث، وأبو خيثمة- رضي الله عنهما- اختلفا أيهما يخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم للمعركة، وأيهما يبقى مع النساء! إذ لا بد لأحدهما أن يقيم، فقال الأب- وهو شيخ كبير- لابنه مستخدمًا حق الأبوة «آثرني بالخروج وأقم أنت مع النساء، فأبى الولد سعد- لا عصيانًا ولا عقوقًا- ولكن رغبة فيما عند الله وقال: «لو كان ذلك غير الجنة آثرتك به، وإني لأرجو الشهادة في وجهي هذا» واشتد الخلاف بينهما كل يريد الخروج (لبدر)، فلم يجدا حلًا إلا أن يستهما، فخرج السهم لسعد- الابن- فخرج فاستشهد يوم بدر (¬2). تأملوا في هذه الصورة وقارنوا بينها وبين واحد من زعامات قريش وهو أبو لهب الذي خاف من الخروج لبدر رغم عداوته للرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولم يحضر المعركة، وأناب عنه رجلًا بثلاثة آلاف دينار .. ولكن الله قتله بآثار المعركة، فمن سمع نتيجة المعركة وهزيمة المشركين كان الخبر قاسيًا عليه، فأصابته الحمى ويقال إنه مات كمدًا وغيظًا. ¬

(¬1) (الإصابة 4/ 146، سير أعلام النبلاء 2/ 194، خطب د. عبد الرحمن المحمود/ 377). (¬2) (الإصابة لابن حجر 4/ 140، سير أعلام النبلاء للذهبي 1/ 266/ المحمود/ خطب 143).

وعمومًا ففي معركة بدر عدة معالم ومن أهمها: 1 - إن الظلم له نهاية والمكر السيء محيق بأهله وبين مقولة زعماء قريش لا بد أن نرد بدرًا ونشرب الخمور وتعزف علينا القنان ويعلم العرب أنا نحن الناس بين هذه الكبرياء .. وصرعاهم في القليب عبرة لمن اعتبر. 2 - إن النصر مع الصبر وحين يصدق المسلمون يمدهم الله بجنود من عنده ومن تأمل عوامل النصر الإلهية في بدر أدرك ذلك: 1 - النعاس 2 - الملائكة 3 - نزول المطر 4 - تقليل المشركين في أعين المسلمين والعكس. 3 - أن الفارق الزمني بين العظمة والاستكبار والسقوط والاندثار قصير .. وبين معركة بدر وفتح مكة ست سنوات .. وهي قليل بالنسبة لاختلاف الوضع لكل من الفريقين.

من يظلم المرأة

من يظلم المرأة (¬1) الخطبة الأولى إخوة الإسلام، حرم الله الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرمًا، والله لا يحب الظالمين، ولا تحسبن الله غافلًا عما يعمل الظالمون، وكم في هذا الكون من ظلم وظلمات، ودعونا نقف اليوم على جانب من الظلم يقع على فئة كبيرة في المجتمع .. وهذا الظلم قديم يتجدد، لكن بصور وأنماط مختلف في شكلها وربما اتفقت في مضمونها .. إنه ظلم المرأة .. فقد ظلمتها الجاهليات القديمة، وتظلمها الجاهليات المعاصرة .. تظلم المرأة من قبل الآباء، والأزواج وتظلم من قبل الصويحبات والحاسدات، بل وتظلم المرأة من قبل نفسها أحيانًا .. تظلمها الثقافات الوافدة، والعادات والتقاليد البالية، تظلم المرأة حين تمنع حقوقها المشروعة لها، وتظلم حين تعطى من الحقوق ما ليس لها .. إنها أنواع وأشكال من الظلم لا بد أن نكشف شيئًا منها، وتخلص إلى عظمة الإسلام في التعامل معها وضمان حقوقها والاعتدال في النظرة إليها .. أجل إن ظلم المرأة قديم في الأديان القديمة والشعوب والأمم المختلفة، فهي عند الإغريق سلعة تباع وتشترى في الأسواق، وهي عند الرومان ليست ذات روح، فهم يعذبونها بسكب الزيت الحار على بدنها، وربطها بالأعمدة، بل كانوا يربطون البريئات بذيول الخيل ويسرعون بها حتى تموت، والمرأة عند القدماء من الصينيين من السوء بحيث يحق لزوجها أن يدفنها وهي حية ولم تكن المرأة -عند الهنود- ببعيد عن ذلك، إذ يرون أن الزوجة يجب أن تموت ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 2/ 3/ 1427 هـ.

يوم موت زوجها، وأن تحرق معه وهي حية، على موقد واحد، وكذا الفرس فللرجل حق التصرف فيها بأن يحكم عليها بالموت أو ينعم عليها بالحياة .. ولم تكن حال المرأة بأسعد من ذلك عند اليهودية المحرفة وكذا النصرانية، فهي عند اليهود لعنة لأنها أغوت آدم، وإذا أصابها الحيض فلا تجالس ولا تؤاكل، ولا تلمس وعاء حتى لا يتنجس! ، كما أعلن النصارى أن المرأة باب الشيطان وأن العلاقة معها رجس في ذاتها (¬1). ومن جاهليات العجم إلى جاهلية العرب، حيث كانوا يتشائمون بمولدها، حتى يتوارى أحدهم من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، بل شهد القرآن على وأدهن وهن أحياء {وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت} كانت تظلم وتعضل في ميراثها وحقوقها، وكانت ضمن المتاع الرخيص للأب أو الزوج حق التصرف فيها .. ومن الجاهليات القديمة إلى الجاهليات المعاصرة حيث ظلمت المرأة باسم تحريرها، سلبت العبودية لخالقها واستعبدها البشر، واعتدوا على كرامتها، وفتنوها وأخرجوها من حضنها الدافئ، وحرموها لذة الأمومة، وعاطفة الأبوة، فهامت على وجهها تتوسل للذئاب المفترسة، وربما كدحت وأنفقت حتى تظل مع عشيقها .. وربما سارع للخلاص منها لينظم إلى معشوقة وخادنة أخرى. أيها المسلمون .. جاء الإسلام لينصف المرأة ويصلها بخالقها، ويرشدها إلى هدف الوجود وقيمة الحياة، وليصف لها حياة السعادة في الدنيا والآخرة {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ونزل القرآن ليعلمن ضمان حقوق المرأة ¬

(¬1) (ظلم المرأة/ محمد الميدان 21 - 24).

{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} (¬1). وقام المسلمون بأرقى تعامل عرفته البشرية مع المرأة .. بل أشرقت حضارتهم على الأمم، وتعلمت منهم الشعوب الأخرى كرامة المرأة، ويعترف أحد الغربيين (كوستاف لوبون) بذلك حين يقول: «إن الأوروبيين أخذوا عن العرب مبادئ الفروسية وما اقتضته من احترام المرأة، فالإسلام إذن، لا النصرانية هو الذي رفع المرأة من الدرك الأسفل الذي كانت فيه، وذلك خلافًا للاعتقاد الشائع، وإذا نظرت إلى نصارى الدور الأول من القرون الوسطى رأيتهم لم يحملوا شيئًا من الحرمة للنساء .. وعلمت أن رجال عصر الإقطاع كانوا غلاظًا نحو النساء قبل أن يتعلم النصارى من العرب أمر معاملتهن بالحسنى» (¬2). أيها الناس، وإذا تشدق المبهورون اليوم بحضارة الغرب وقيمه، وحطوا من قيم حضارتهم جاءت شهادة المنصفين من الغرب تكذب هذا الادعاء وتثبت أن إصلاح المرأة في الغرب إنما تم بعد احتكاك المسلمين في أسبابنا (الأندلس) بالغرب .. وفي هذا يقول (مارسيل بوازار) «إن الشعراء المسلمين هم الذين علموا مسيحي أوربا- عبر أسبانيا- احترام المرأة» (¬3). عباد الله إننا في فترات المراهقة الثقافية ننسى أصولنا، وننبهر بما عند غيرنا، ولكن اعترافات القوم تعيد إلى بعضنا التوازن، نعم لقد ظلم ديننا، من بعض ¬

(¬1) وأكد المصطفى صلى الله عليه وسلم بل حرج على حقوق المرأة فقال: «اللهم إني أخرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة) رواه ابن ماجه 3678، والبيهقي في مصنفه 5/ 363 وصحح إسناده النووي. (¬2) (قالوا عن الإسلام د. عماد الدين خليل/ 431). (¬3) (قالوا عن الإسلام/ 409).

أبناء جلدتنا، وزهد البعض في ثقافتنا وقيمنا، وشوه وضع المرأة عندنا من قبل أعدائنا .. وشاء الله أن يقام الشهود المنصفون من القوم على أنفسهم ومن سار في ركبهم، فهذه امرأة غربية تكشف الحقيقة بممارسة سلوكية واقعية حين تقول زوجة السفير الإنجليزي في تركيا: «يزعمون أن المرأة المسلمة في استعباد وحجر معيب، وهو ما أود تكذيبه، فإن مؤلفي الروايات في أوربا لا يحاولون الحقيقة ولا يسعون للبحث عنها، ولولا أنني في تركيا واجتمعت إلى النساء المسلمات ما كان لي إلى ذلك سبيل .. فما رأيته يكذب كل التكذيب أخبارهم عنها .. إلى أن تقول ولعل المرأة المسلمة هي الوحيدة التي لا تعني بغير حياتها البيتية، ثم إنهن يعشن في مقصورات جميلات» (¬1). إخوة الإسلام هكذا وتظل المرأة المسلمة معززة مكرمة موفرة لها الحقوق ما بقي الإسلام عزيزًا ويظل المسلمون أوفياء للمرأة ما داموا مستمسكين بالإسلام .. وكلما تغرب الإسلام، أو انحرف المسلمون .. عاد الظلم للمرأة بصورة أو بأخرى .. لا فرق بين هضم حقوقها .. أو تلمس حقوقًا ليست لها لتشغلها عن حقوقها ووظائفها النسوية الأساسية. وهذه صور من ظلم المرأة للوعي بها واجتنابها، فهي تظلم حين تستخدم سلعة رخيصة للدعاية والإعلان، وتظلم المرأة حين تزج في عمل لا يتلائم وأنوثتها .. أو يزج بها في مجتمع الرجال تظلم المرأة حين تضرب بغير حق، أو تعضل لأدنى سبب، أو يتحرش بها جنسيًا، أو تغتصب، أو تستغل في التجارة الجسدية، أو بحرمانها من الحياة الزوجية السعيدة، تظلم المرأة حين يسلب حياؤها ويعتدى على قيمها، ويستهان بروحها وأشرافها .. وتخدع بزينة عابرة، ¬

(¬1) (السابق/ 425، 426).

وأشكال وأصباغ زائلة وتظلم المرأة حين يقصر الولي أو المجتمع في تربيتها تظلم المرأة حين تعرض للأمراض المختلفة كالزهري والسيلان، والإيدز .. ونحوها. تظلم المرأة حين يتأخر في زواجها فتعنس، أو تمنع من الحمل والولد فتفلس أو تزوج بغير إذنها وبمن لا ترغب، تظلم المرأة حين تسخط منها وحين تولد، أو تلعن وتسب حين تكبر، تظلم المرأة حين يغالى في مهرها فيتجاوزها الخطاب إلى غيرها أو تلزم بزوج لا ترغبه، وقد تجبر على زوج فاسد، تظلم المطلقة في ولدها، وقد تظلم المرأة من أقرب الناس لها، تظلم المرأة بضرتها، وتظلم المرأة بإفشاء سرها لاسيما في أمر الفراش «وإن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها» (¬1). تظلم المرأة حين يعتدى على مالها بغير حق أو يعتدى على حجابها وحيائها باسم التحضر. وثمة صور أخرى لظلم المرأة نفسها حين تقصر في طاعة الله، وترتكب المحرمات .. وتضيع الأوقات وتسفل في همتها .. وتكون الأزياء والموضة غاية مرادها .. تظلم المرأة حين تختزل حقوقها في قيادة .. أو يزج بها في خلطة بائسة، أو تجد نفسها في كومة من الفضائيات الساقطة .. أو تجر لمواقع عنكبوتية مشبوهة .. تظلم المرأة حين تهمش رسالتها الخالدة وتصرف عبوديتها عن الخالق الحق إلى عبادة الأهواء والشهوات، وكم هو وأد للمرأة حين يوحي لها أن نماذج القدوة ساقطات الفكر، عاشقات الشهوة والشهرة إن من أعظم ظلم المرأة أن يلبس عليها الحق بالباطل، وتستبدل الحسن بالقبيح، ويصور لها الحياء والعفة بالرجعية والتطرف على حين يصور لها السفور والاختلاط بالمدنية ¬

(¬1) (رواه مسلم 1437).

والانفتاح والتحضر؟ وكم تظلم المرأة حين يقال لها أن من العيب أن يكفلها أبوها، أو ينفق عليها زوجها، ويلقى في روعها أن القوامة القرآنية ضعف وتبعية، وأن عليها أن تكد وتكدح لتتخلص من نفقة الآخرين وقوامتهم .. نعم لقد أصبح العامل الاقتصادي كل شيء في ذهن أدعياء تحرير المرأة ولذا تراهم يطالبون لها بأي عمل ويقحمونها في كل ميدان فتظل المسكينة تلهث متناسية أعباءها الأخرى وواجباتها الأسرية المقدسة فلا هي أم حانية ولا مربية ناجحة .. حتى إذا ذبلت الزهرة والتقت الكادحة في العمل بلا حدود إلى المحصلة النهائية وجدت نفسها في العراء فلا هي أفلحت في التربية وبناء الأسرة ولا هي خلفت جاهًا يذكر أو حشمة تشكر، وعادت تندب حظها كما ندبت نساء الغرب والشرق قبلها، وإذا أمكن قبول ظروف الغارقات في الوحل فلا يمكن بحال قبول ظروف امرأة مسلمة قال لها خالقها {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} اللهم أذهب عن النساء المسلمات الرجس، وطهرهن تطهيرًا ..

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية عباد الله ومن الظلم الواقع على المرأة إلى الظلم الملبس على المرأة، فثمة دعوى وشبهات يخيل لبعض النساء أنهن مظلومات فيها وليس الأمر كذلك .. لكنه تشويه وتزوير وتضليل وخداع ومن ذلك: 1 - الدعوى بأن بقاء المرأة في بيتها ظلم لها، وهذه مغالطة تكشفها نصوص الوحيين فمن القرآن: {وقرن في بيوتكن} ومن السنة قال عليه الصلاة والسلام: «قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن» (¬1) فدل قوله: «قد أذن الله لكن» على أن الأصل البقاء في البيت، والخروج إنما يكون لحاجة، ويشهد بجدواها الغربيون ويقول أحدهم (جاك ريسلر): مكان المرأة الصحيح هو البيت، ومهمتها الأساسية هي أن تنجب أطفالًا (¬2). 2 - الإدعاء بقصر مسمى عمل المرأة خارج منزلها، وعدم اعتبار عملها في منزلها عملًا يستحق الإشادة والتقدير، وليس الأمر كذلك بل اعتبر الشارع الحكيم عملها في بيتها شرفًا وكرامة، وكم نغفل عن مدونات السنة ومصطلحاتها، وفي صحيح البخاري، في كتاب النفقات باب عمل المرأة في بيت زوجها ثم ساق البخاري نموذجًا عاليًا لهذا وساق الحديث عن علي رضي الله عنه قال: أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى .. الحديث (5361) (¬3). وفي الرواية الأخرى (عند أبي داود) عن علي رضي الله عنه قال: كانت عندي فاطمة ¬

(¬1) (رواه البخاري 5237). (¬2) (قالوا عن الإسلام/ 415). (¬3) الفتح (9/ 506).

بنت النبي صلى الله عليه وسلم فجرت بالرحى حتى أثرت بيدها، واستقت بالقربة حتى أثرت في عنقها، وقمت في البيت حتى اغبرت ثيابها، وخبزت حتى تغير وجهها (¬1). فهل تستطيع امرأة أن تقول أنها خير من فاطمة؟ . أو يقول رجل إنه خير من علي؟ وتاج ذلك إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهذا العمل البيتي حتى إذ سألاه الخادم أرشدهما إلى ما هو خير من ذلك ملازمة الذكر، لاسيما إذا أوى إلى فراشهما قائلًا: «فهو خير لكما من خادم». 3 - ومن دعاوى الظلم على المرأة القول بأن التعدد ظلم لها، وكم شوهت وسائل الإعلام بمسلسلاتها الهابطة، وأعمدتها الجانحة، صورة التعدد المشروع، والتعدد فوق أنها شرع رباني ليس لمؤمن ولا مؤمنة أن يكون لهم الخيرة من أمرهم فيه، فهو مضبوط بالعدل {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} .. والتعدد عوض عن الطلاق في حال عقم المرأة أو مرضها، أو عدم قناعة الزوج بها .. فلا خيار في هذه الحالات أو نحوها .. إلا الطلاق أو التعدد؟ على أن أمر التعدد الإسلامي عاد مطلبًا لجمعيات الغرب، وفي أمريكا أكثر من جمعية يجوب أعضاؤها نساء ورجال مختلف الولايات الأمريكية داعين في محاضراتهم للعودة لنظام التعدد (¬2). وعاد نساء الغرب يدعين للتعدد، وتقول أستاذة في الجامعة الألمانية: أن حل مشكلة المرأة في ألمانيا هو في إباحة تعدد الزوجات (¬3). ¬

(¬1) (انظر: المرأة بين البيت والعمل/ سليمان العودة 5/ 43). (¬2) (عن ظلم المرأة/ محمد الهيدان/ 78). (¬3) (ظلم المرأة/ الهيدان 78).

ويعترف أحد الغربيين الذين هداهم الله للإسلام بأن التعدد في البلاد الإسلامية أقل إثمًا وأخف ضررًا من الخبائث التي ترتكبها الأمم المسيحية تحت ستارة المدنية، فلنخرج الخشبة التي في أعيننا أولًا، ثم نتقدم لإخراج القذى من أعين غيرنا (¬1). وفي الوقت الذي يؤيد فيه غربي آخر تعدد الزوجات عند المسلمين معتبرًا إياه قانونًا طبيعيًا وسيبقى ما بقي العالم، هو في المقابل ينتقد النظام الغربي ويبين الآثار المترتبة على الإلزام بزوجة واحدة ويقول (إيتين دينيه) إن نظرية التوحيد في الزوجة التي تأخذ بها المسيحية ظاهرًا، تنطوي تحتها سيئات متعددة ظهرت على الأخص في ثلاث نتائج واقعية شديدة الخطر جسيمة البلاء، تلك هي: الدعارة، والعوانس من النساء، والأبناء غير الشرعيين .. ) (¬2). فهل من مدكر، وإذا اعترف بهذا عاقل غربي، فماذا يقول مسلم، يقرأ في القرآن {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ} {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}. 4 - أيها المسلمون ويدعي الموتوردون والجاهلون حلمًا وعدوانًا إن شهادة المرأة، تعدل نصف شهادة الرجل ظلم على المرأة، والذي خلق الزوجين قال في تعليل ذلك (تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) لاسيما في القضايا المالية الواردة في الآية على أن أهل العلم قرروا قبول شهادة المرأة، أحيانًا لوحدها، وذلك في أمور هي أدرى بها من الرجل، قال ابن قدامة رحمه الله (¬3): لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في قبول شهادات النساء المفردات في الجملة، قال القاضي: والذي تقبل من شهادتهن منفردات خمسة أشياء: الولادة، ¬

(¬1) (قالوا عن الإسلام/ 427). (¬2) قالوا عن الإسلام/ عماد الدين خليل/ 413). (¬3) في المغنى (10/ 161).

والاستهلال، والرضاع، والعيوب تحت الثياب كالريق والقرن والبكارة والثيابة والبرص، وانقضاء العدة). 5 - ويزعمون كذلك أن دية المرأة نصف دية الرجل حين عليها، وينسون أو يتناسون حكمة العليم الخبير، بحاجة الرجل فوق حاجة المرأة للمال للنفقة الواجبة عليه دون المرأة، {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}. ومع ذلك فهذه الدية للمرأة في حال قتل الخطأ .. أما إذا كان العمد فإن الرجل والمرأة سواء {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} الآية، وقد قيل حكمة في ذلك: كذلك لما كانت الدية مواساة لأهل المقتول وتعويضًا لهم، فالخسارة المادية في الأنثى أقل منها عند الرجل، إذ الرجل يعمل ويوفر دخلًا لأسرته أكثر، فخسارته أعظم من المرأة فكانت الدية في حقه أعظم (¬1). أيها المسلمون هذه نماذج لدعاوى ظلم المرأة في الإسلام لا يقول بها إلا جاهل أو مغرض وفي قلبه مرض، وإلا فشهادة الأبعدين والأقربين أن ليس ثمة نظام أنصف المرأة كما أنصفها الإسلام، وليس ثمة شعوب أحسنت معاملة المرأة وضمنت حقوقها كما أحبها المسلمون، وأختم بهذه الشهادة. يعلن فيها (مارسيل) القول: أثبتت التعاليم القرآنية وتعاليم محمد صلى الله عليه وسلم أنها حامية حقوق المرأة التي لا تكل (¬2). ¬

(¬1) (المرأة بين الجاهلية والإسلام/ 161 عن ظلم المرأة للهيدان/ 81). (¬2) (قالوا عن الإسلام/ 410).

الحج والعشر بين ذكر الله ومراغمة الشيطان

الحج والعشر بين ذكر الله ومراغمة الشيطان (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره إخوة الإسلام وتتجدد المناسبات الإسلامية .. ويفيض الله من رحماته على المسلمين ما يستوجب الشكر والثناء على واهب النعم وقد عاد حجاج بيت الله بعد أن أدوا مناسكهم بأمن وأمان وصحة وعافية ينبغي أن تذكر فلا تنس، ويشكر الله عليها وهل أهل الحمد والثناء والشكر وصول لن يضيع الله أجر من قدم خدمة لحجاج بيت الله وهي شغل والمرافق ووفر ما يحتاجه الحجاج خالصة لوجه الله. أيها المسلمون كثيرة هي المعاني التي ينبغي أن يعود الحجاج مستشعرين لها، ومتلبسين بها في حال حلهم وإحرامهم وسفرهم وإقامتهم .. ولكنني أكتفي هنا بالوقوف عند أمرين عظيمين، يبعث الذكرى بهما مناسك الحج .. وإلا فالذكرى بهما واقعة بكل حال ولا تكد تخطئ نظر اللبيب في كل لحظة .. ألا وهما ذكر الله وتعظيمه، وعداوة الشيطان ومراغمته .. ومن ذا الذي لا يتذكر عظمة الله وهو يبصر آياته في السماء والأرض، ويشهد وحدانيته في الأنفس والآفاق، وتأسره عظمة الصانع المبدع في كل من الأحياء، بل وتشهد الجمادات الصم بعظمة الخالق وتنفي ظلالها ذات اليمين والشمائل سجدًا لله وهم داخرون. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 16/ 12/ 1416 هـ.

إن قولة «لا إله إلا الله» سهلة باللسان لكنها عظيمة في الميزان .. وهي وإن قلت حروفها فهي تحمل أسمى المعاني وترسخ التوحيد - بهذه الكلمة بعث المرسلون وبها يحكم بالإسلام أو الكفر - وعليها التقت جيوش الكفر والإيمان وبها انقسمت الخليقة بين حزب الرحمن وحزب الشيطان .. ذكر الله شعائر المسلم بكل حال، وبه أنه أتى اختلف الزمان أو تباعد المكان {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}. وإذا تلبس الحاج بالذكر من حين يحرم ذاكرًا لله مسبحًا بحمده وملبيًا لله وحده لا شريك له .. بل وقيل ذلك من حين خروجه من بيته فابتدأ بدعاء السفر المشتمل على ذكر الله .. ثم بطل الحاج مستصحبًا لذكر الله في الطواف حول الكعبة وبين الصفا والمروة، وفي منى التي ترتج بذكر الله وتكبيره وفي عرفات حيث أفضل الدعاء .. وأفضل ما قال محمد صلى الله عليه وسلم والنبيون من قبله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له وحين الإفاضة من عرفات يطيب الذكر عند المشعر الحرام {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام} وهكذا يستمر الذكر عند الجمرات وعند نحر الهدي، بل ويأمر الحاج بذكر الله بعد قضاء المناسك وفراغها والحق تبارك وتعالى يقول: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ (200) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 200 - 202]. ولئن اختلف أهل التفسير في معنى قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ

فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} فقالت طائفة: المعنى إلهجوا بذكر الله كثيرًا كما يلهج الصبي قائلًا «أبه أمه» فكذلك أنتم فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك لهج المستغيث المستنصر. وقالت طائفة أخرى: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات (من دية أو غرامة) ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}. وثمة معنى ثالث لطيف ما أحوج المسلمين في هذه الأزمان إلى تأمله فقد قالت طائفة إن معنى الآية اذكروا الله وعظموه وذبوا عن حرمه وادفعوا من أراد الشرك في دينه ومشاعره، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غض أحد منهم وتحمون جوانبهم أو تذبون عنهم، وفي هذا المعنى قال أبو الجوزاء لابن عباس: إن الرجل لا يذكر أباه اليوم، فيما معنى الآية؟ قال: ليس كذلك، ولكن أن تغضب لله تعالى إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما» (¬1). وسواء كان هذا أو ذاك فالمقصود من الآية - كما قال المفسرون- الحث على كثرة ذكر الله عز وجل، و «أو» هنا لتحقيق المماثلة في الخير، وليست للشك قطعًا، وإنما هي لتحقيق الخير عنه بأنه كذلك أو أزيد منه (¬2). إخوة الإيمان وحيث يرتبط الدعاء بالذكر فتأملوا هذا المعنى الدقيق الذي أشارت إليه الآية بقوله: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} [البقرة: 200]. ¬

(¬1) (تفسير القرطبي 2/ 431). (¬2) (تفسير ابن كثير: 1/ 355).

قال ابن كثير رحمه الله: أرشد تعالى إلى دعائه بعد كثرة ذكره، فإنه فطنة الإجابة، وذم من لا يسأله إلا في أمر دنياه وهو معرض عن أخراه فقال: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}. وهو المقصود التنفير عن التشبه بمن هو كذلك، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون: «اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن» لا يذكرون من أمر الآخرة شيئًا فأنزل اللهم فيهم هذه الآية وكان يجيء بعدهم آخرون فيقولون: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. فأنزل الله: «أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» عباد الله تأملوا كيف ترتبط الدنيا بالآخرة في نظر الإسلام وكيف يصحح الإسلام المفاهيم الخاطئة في هذا الدعاء الشامل الذي كثيرًا ما نردده بألسنتنا وقد لا تستحضره قلوبنا «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار». فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ودار رحبة وزوجة حسنة ورزق واسع، وعلم نافع وعمل صالح ومركب هنيء وثناء جميل إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، وأما الحسنة في الآخرة فأعلاها دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرضات وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام (¬1). أيها المسلمون وهكذا ينبغي أن يستذكر الحجاج وغيرهم عظمة الله فيذكروه ويشكروه يذكروه ذكرًا كثيرًا ويسبحوه بكرة وأصيلًا .. يذكروه ذكرًا تطمئن به ¬

(¬1) (تفسير ابن كثير 1/ 355، 356).

القلوب وتنشرح له الصدور .. يذكروه في حال اجتماعهم بغيرهم ليذكروهم عظمة الله ويذكروه في حال خلوتهم فتفيض أعينهم خوفًا منه ووجلًا ويذكرهم الله في ملأ خير من ملأهم ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه وذكر الله يستوجب تعظيم حرمات الله، والوقوف عن حدود الله وتعظيم شعائره {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] وينبغي أن يشمل ذكر الله الذب عن دينه والدعوة إلى هداه، فليس الذب عن الأعراض والأنساب بأولى من الذب عن دين الله وحرماته .. ولا ينبغي أن يطعن ذكر الآباء والأجداد والمفاخرة بمآثرهم، على ذكر الله والانتصار لدينه، والذب عن حماه - تلك الحقيقة التي تمثلها العارفون فقال قائلهم: أبي الإسلام لا أبل لي سواه ... إذا فتحزوا بقيس أو تميم إن ذكر الله يرفع أقوامًا قعدت بهم أحسابهم ولم ترق إليها أنسابهم وذكر الله يكثر القليل، ويقوي الضعيف .. هو سيما المؤمنين، وهو حرز من الشياطين .. ذكر الله عدة المجاهدين، وملاذ الخائفين، وقرة عيون الموحدين. ألا وإنه لا يكفي أن تترد كلمات الذكر على الألسن، والقلوب غافلة غارقة في الشهوات .. إن حقيقة الذكر تعظيم من ذكر (¬1)، وإذا أردت يا أخا الإسلام أن تعلم قدر ذكرك لله فانظر في صدق محبتك لله وزودك عن شريعته .. والتزامك بهدي محمد صلى الله عليه وسلم وسنته، ويبقى بعد ذلك ذكرك لله تعظيمًا وتعبدًا واعترافًا بأنه أكبر من كل شيء، ومع ذلك كله فذكر الله لعباده بالثواب والثناء عليهم أكبر من ذكرهم إياه في عبادتهم وصلواتهم، ¬

(¬1) ومن علائم الذاكرين الصادقين أن توجل قلوبهم إذا ذكر الله، ويزداد إيمانهم إذا تليت عليهم آياته {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}.

كذلك قال ابن مسعود وابن عباس وأبو الدرداء وأبو قرة وسلمان والحسن في معنى قوله تعالى: {ولذكر الله أكبر} [العنكبوت: 45] (¬1). اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين وتقبل منا أعمالنا يا رب العالمين, أقول ما تسمعون وأستغفر الله .. ¬

(¬1) (تفسير القرطبي 13/ 349).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا طاهرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى .. اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيرًا مما نقول .. لك الحمد في الأولى ولك الحمد في الآخرة .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المسلمين. عباد الله .. أما المعنى الثاني الذي تذكرنا به مناسك الحج ولا يكاد يغيب شأنه عن غير الحاج فهو عداوة الشيطان للإنسان .. ولقد سن الخليل عليه السلام لنا في الحج رمي الجمار إشعارًا بمراغمة الشيطان وعصيانه وقطعًا لوساوسه حين عرض له في المناسك، وإذا كان الرمي بالحجارة من أكبر مظاهر العداوة للشيطان كما ذكر المحققون (¬1) فإن الاكتفاء بهذا المظهر من مظاهر عداوته، والاقتصار على المراغمة في هذا الزمان والمكان -أعني زمان الحج .. ومكان الحمرة- تقليل من شأن عداوته، وتجاهل لإغوائه في كل زمان ومكان وهو الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهو الذي قعد لابن آدم في أطرقه كلها. أجل إن مناسك الحج ينبغي أن تكون مذكرة بهذا العدو المتربص بنا قبل خلقنا، أو ليس هو الذي أخرج أبانا آدم عليه السلام من الجنة؟ أوليس قد ابتدأ عداوته لنا بنخسنا يوم أن يخرجنا الله من بطون أمهاتنا؟ وذلك بداية صراخ الطفل عاريًا وفي الحديث الصحيح: «ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخًا من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه». الحديث رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة (¬2). ¬

(¬1) (الشنقيطي، الأضواء 5/ 316). (¬2) (صحيح الجامع 5/ 184).

ليس ذلك فحسب بل شاء الله وقدر أن يبقى قرين الجن مع قرين الملائكة مصاحبين لنا ما بقيت حياتنا «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة .. » الحديث. وفي حديث آخر: «ما منكم من أحد إلا ومعه شيطان، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم» (الحديثين رواهما مسلم، وأحمد للأول (¬1). لقد توعد الشيطان الرجيم بإغوائنا، وتهيأ وجنوده ليقعدوا لنا بأطرق الخير كلها {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16، 17). وأخبرنا المولى جل جلاله - وخبره صدق بعداوة الشيطان لنا فقال: {إنه لكم عدو مبين} [البقرة: 168]. وأرشدنا سبحانه إلى المخرج من عداوته باتخاذه عدوًا {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]. ليس يكفي أن نعلم عداوته وكفى، وليس يجدي أن نلعنه بألسننا وهو يتلاعب بعقولنا، ولقد كان الفضيل بن عياض رحمه الله يقول: يا كذاب يا فقير، اتق الله ولا تسب الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السر (¬2). يا أخا الإسلام واحذر غاية الحذر أن تكون من نصيب الشيطان الذين اختصهم فقال: {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (118) وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ ¬

(¬1) (صحيح الجامع الصغير 5/ 188). (¬2) (تفسير القرطبي 14/ 323، 324).

الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا (120) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء: 118 - 120]. وكن يا عبد الله من أولياء الله الذين قال فيهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]. قال ابن السماك رحمه الله: «يا عجبًا لمن عصى المحسن بعد معرفته بإحسانه وأطاع اللعين، بعد معرفته بعداوته» (¬1). أيها المسلمون واقتضت حكمة الله أن تبقى المعركة قائمة ومتجددة بينكم وبين الشيطان .. وليس إلا وعليه للشيطان مدخل بل مداخل .. ولكن سلاح المجاهدة والاستعداد للمعركة بكل طاعة يضعف من عداوته وبل وربما بلغت المجاهدة بأقوام إلى حد يفرق منهم الشيطان فإذا سلكوا فجًا سلك الشيطان فجًا آخر. وربما أفضى المجاهدون الصادقون شياطينهم كما ينفي المسافر دابته بطول السفر وكثرة الأعباء .. عباد الله وإذا كنتم راغمتم الشيطان هذه الأيام فمن حج منكم وشهد المشاهد ووقف المناسك وفيها ذل الشيطان وصغر، ومن لم يحج وتقرب إلى الله بصالح الأعمال في الأيام الفاضلة فصلى وصام وتصدق ووصل ونحر وهلل وكبر .. فهذه وتلك كانت عونًا لكم على مراغمة الشيطان ألا فاتخذوا منها عونًا -بعد الله- على مراغمته فيما تستقبلون من أيامكم وتلك وري من منافع الحج وفقه العبادات فاعقلوها. أيها المسلمون حبل الحياة قصير، ونعيم الجنة خلود أبدى، فلا تغرنكم ¬

(¬1) (تفسير القرطبي 14/ 324).

الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور .. واتخذوا من هذه الدار مزرعة للحياة الباقية، واستعينوا بذكر الله والصلاة على مراغمة الشيطان وعداوته، وغالبوا أنفسكم على طاعة الله، وصبروها عن المجرمات. وإذا عظمتم الله حق تعظيمه ذكرًا، وخوفًا، وطاعة، ومجاهدة في سبيله ونصرة لدينه .. ثم راغمتم الشيطان وضيقتم مسالكه ولم تستهوكم إغراءاته ووساوسه .. عشتم في هذه الحياة سعداء آمنين .. وانتقلتم بعد الممات إلى درجات النعيم .. وبين هذا وذاك تتنزل عليكم الملائكة حين الممات لتستعجل لكم البشرى ويقول: {أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت: 30 - 32]. ألا فلا تسودوا الصحائف بعد بياضها .. ولا تراكبوا الذنوب بعد غفرانها، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بعد أن أعتق الله رقابكم من النار ولا تستبدلوا الأدنى بالذي هو خير .. والسعيد حقًا من استفاد من الفرص والمناسبات واستقام على الخير والهدى في هذه الحياة. وأختم الحديث بتنبيه تدعوا الحاجة إليه في مثل هذه الأيام حيث تكثر الرحلات البرية، وربما عادت الأسرة بالحزن والأسى بدل الفرحة والسرور .. ذلك حين تسر ف الأسرة في لعب أطفالها، ولاسيما اللعب في الدراجات النارية التي تشهد المستشفيات على ضحاياها فهذا كسير وهذا جريح وثالث في غيبوبة وربما وصل الخطر إلى الوفاة .. فتنزهوا ولا تسرموا وحافظوا على فلذات أكبادكم ولا تعرضوهم للمخاطر. ومثل ذلك أو أخطر اللعب بالسيارات بحركات هستيرية خطرة فاحذروا ذلك كله ..

تلكم دفعتان حريتان بالتأمل إثر هذه الأيام الفاضلة وفي أعقاب الحج والعمرة أردت أن أذكر نفسي وإخواني بهما لمزيد العناية بها، والاستمرار عليها، استرشادًا وتحقيقًا لقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} اللهم ارزقنا الهداية والاستقامة.

بين تدمير الحضارات والطعن في آل البيت

بين تدمير الحضارات والطعن في آل البيت (¬1) الخطبة الأولى أيها الإخوة المؤمنون ديننا يهتم بالإنسان {من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا} وشملت بعدلها الذميين والمعاهدين فضلًا عن المسلمين هذا الزمن هل هو زمان حوار الحضارات أم دك الحضارات .. هل هو إقامة الحضارات أم تدميرها؟ مصطلحات جوفاء، وتصرفات رغباء، ولغة واحدة هي التي يريد العالم الآخر أن يسمعنا إياها أنها لغة القوة، ولا شيء غيرها .. في العراق حوار للحضارات أم تدميرها، وفي الأفغان ومن قبل في فلسطين ومن بعد في الصومال .. إنها جيوش تدمر وجنود تسرق، وجزارون يذبحون البشر ولا يستثنون النساء والأطفال .. أي حضارة تلك؟ شاهت الوجوه وبئست البضاعة المصدرة إن لم تكن سوى القتل والتهجير والتدمير، والأشلاء والدماء، استعمار واضح ومعاصر في عالم الحريات، وقد تشين الديمقراطيات، وتوسيع دائرة الحرية، وشعارات حرب الإرهاب الخادعة، وهم مصعونه، يصنعون معه الإرهاب ثم يدعون محاربته، يا الله كم يسيء اليهود والنصارى إلى حضارتنا .. بل وإلى حضارتهم وكم يخربون بيوتهم بأيديهم حين يكشفون للعالم كله صادرات قيمهم، وحقيقة حريتهم، وخبث مكرهم، وحجم أطماعهم وكلما أوشكت نار الحرب أن تطفأ أوقدوها، وإذا أحسوا بحجم الخسائر الواقعة عليهم، أقاموا ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 23/ 12/ 1427 هـ.

غيرهم من عملائهم بالوكالة عنهم، ومن المؤسف أن يجدوا من يقوم بالإنابة عنهم، ومن العراق إلى فلسطين إلى الصومال باتت الحرب تجري بالوكالة واليهود والنصارى يتفرجون على دماء المسلمين تنزف وعلى ديارهم تنهب وتستعمر .. إن التاريخ المعاصر يذكرنا بالماضي من التاريخ، وهل التاريخ إلا حلقات متصلة، وإذا كان قتل الخليفة عثمان رضي الله عنه في الفتنة التي أضرم نيرانها عبد الله بن سبأ اليهودي مشهورًا فربما يغيب عن الذهن أن استشهاد الخليفة عمر رضي الله عنه كان على أيدي النصارى، فأبو لؤلؤة وإن كان مجوسي المنشأ فهو نصراني الديانة، حتى قال الطبري رحمه الله، وكان أبو لؤلؤة غلام المغيرة نصرانيًا (¬1). وشارك أبا لؤلؤة (جفيتة) وهو نصراني آخر، واستمر اليهود والنصارى عبر التاريخ شوكة في حلوق المسلمين، وكلما أحسوا بضعف الجبهة الإسلامية ارتفع مؤشر العدوان، وكانت الحروب الصليبية، وحركة الاستعمار، وزرع الكيان الصهيوني في بلاد المسلمين وإلى يومنا هذا والدم يراق، والحمى تستباح، والتهم تكال جزافًا .. وإذا كانت الوصفة الطبية الغربية (محاربة الإرهاب) جاهزة عند كل تدخل فهذا هو جواز الدخول مؤخرًا في الصومال، حين حركت قوات أثيوبية وحماية جنود أمريكية لتعمل الفساد في أرض الصومال، ثم تكشف أمريكا عن القناع وتدخل بشكل سافر للصومال لتقتل وتحاصر وتنتقم بشكل عدواني في بلاد المسلمين؟ ولكم الله يا شعب الصومال المسلم .. وأنتم تقتلون وتهجرون وتستباح أرضكم، ويحرق الأخضر واليابس من مواردكم. وسط دهشة وتفرج ¬

(¬1) (تاريخ الطبري 4/ 190).

العالم كله .. على أيدي من قالوا كما قال أسلافهم {من أشد منا قوة} أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة؟ اللهم فأرنا فيهم وأمثالهم عجائب قدرتك. أيها المسلمون لا يستغرب العداء ممن وصفهم الله بالعداء للمسلمين، ولكن الاستغراب الأكبر حين يخوض في الدماء من ينتسبون للإسلام، ويعدون أنفسهم من المسلمين، فالقتل على الهوية بات ظاهرًا في العراق، وفي فلسطين والطائفية في العراق تجاوزت قتل وتشريد أهل العراق، إلى التعرض لقوافل الحجاج العائدة من بيت الله .. كم هو ذعر يصيب أهل السنة هناك وكم هي التصفيات التي تعرضوا إليها في محافظات العراق وأخرها في بغداد، وتعالت الصيحات ماذا يراد لأهل السنة في العراق؟ ومرة أخرى نعود إلى التاريخ فنجد العداء السافر من الشيعة لأهل السنة عبر التاريخ، ويوصف شيخ الإسلام ابن تيمية دور الرافضية عبر التاريخ ويقول: لما خرج الترك الكفار من جهة المشرق فقاتلوا المسلمين وسفكوا دماءهم ببلاد خراسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها كانت الرافضة معاونة لهم على قتال المسلمين، ووزير بغداد المعروف بالعلقمي هو وأمثاله كانوا من أعظم الناس معاونة لهم على المسلمين، وكذلك كانوا بالشام بحلب وغيرها من الرافضة كانوا من أشد الناس معاونة لهم على قتل المسلمين، وكذلك النصارى الذين قاتلهم المسلمون بالشام كانت الرافضة من أعظم أعوانهم .. إلى أن يقول: وكذلك إذا صار اليهود دولة بالعراق وغيره تكون الرافضة من أعظم أعوانهم، فهم دائمًا يوالون الكفار من المشركين واليهود والنصارى، ويعاونوهم على قتال

المسلمين ومعاداتهم (¬1). إخوة الإسلام وهذه العداوة والمؤازرة للكفار على المسلمين عند الرافضة تنطلق من منطلقات عقدية، ألا وهي بغضهم للمؤمنين وليس الحديث هنا عن عقائد الشيعة فذلك له حديث يطول، ولكن دعونا نقف هنا عند عقيدتهم في المسلمين ممن يخالفهم المذهب فهم يبغضونهم ويعادونهم، بل يصل الأمر إلى تكفيرهم، لا يستثنون من ذلك خيار المؤمنين حتى ولو كان أبا بكر وعمر وعثمان، وباقي العشرة، بل والمهاجرين والأنصار إلا ما استثناه النص الشيعي المبني على الهوى والتخرص. وحتى لا نظلمهم ننقل نصوصًا من كتبهم، بل ومن كتب أئمتهم فهذا ثقتهم الكليني ينقل في كتابه الكافي عن حمدان بن أعين قال قلت لأبي جعفر عليه السلام: جعلت فداك ما أقلنا لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها؟ فقال: ألا أحدثك بأعجب من ذلك المهاجرون والأنصار ذهبوا إلا .. وأشار بيده -ثلاثة- (¬2). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {ربنا لا تزغ قلوبنا} {قل هل ننبؤكم بالأخسرين أعمالًا. فهذا النص يشير إلى تكفير الصحابة، ولا يرى من الصحابة أحدًا بقي على الإسلام إلا ثلاثة -وهذا ما أشار إليه عالم آخر من علماء الشيعة وصرح بردة الصحابة حيث يقول الكشي: عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان الناس أهل ردة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة، فقلت: ومن الثلاثة؟ فقال: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارس، ثم عرف الناس بعد يسير (¬3). ¬

(¬1) (منهاج السنة 3/ 377، 378). (¬2) (الكافي 2/ 244). (¬3) (رجال الكشي ص 6).

بل يصل الأمر بمعتقد القوم أن يصرحوا بكفر الثلاثة الخلفاء .. ويعقد شيخهم المجلس في كتابه البحار (الذي عده بعض شيوخهم المعاصرين المرجع الوحيد في تحقيق معارف المذهب) .. بابًا بعنوان: باب كفر الثلاثة ونفاقهم وفضائح أعمالهم واستغرق قرابة خمسين صفحة) (¬1). وإذا كان هذا معتقد القوم في خيار الأمة وأزكاهم، وأقربهم للنبي صلى الله عليه وسلم .. فلا تسأل عن معتقدهم في غيرهم؟ والأغرب من هذا أن الشيعة تصل باللعن والسب والتكفير لآل البيت أنفسهم التي يزعم الشيعة أنهم يوالونهم ويقدسونهم ومن هنا قال من قال أن التشيع ستار لتنفيذ أغراض خبيثة ضد الإسلام وأهله (¬2) إنك لتعجب حين تطالع في كتب القوم حكمًا بالردة على الحسن والحسين وآل عقيل وآل جعفر، وآل العباس، وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين. (فمن بقي عندهم لم تلعن أو يتهم؟ ) لقد قالوا عن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم أنه نزل من قوله تعالى: {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلًا} كما في رجال الكشي صـ 53، وقالوا عن ابنه عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن: ما يتضمن تكفيره وأنه جاهل سخيف العقل، كما ذكر الكليني في أصول الكافي (1/ 247) وبالجملة فالحكم بالكفر- عند الشيعة- على كل من لم يعتقد عقيدتهم حتى قال الكليني: أن كل من لم يؤمن بالاثنى عشر فهو كافر وإن كان علويًا فاطميًا (¬3). نعوذ بالله من الضلال والعدوان والجهل والخسران {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف: 103، 104]. ¬

(¬1) (بحار الأنوار 8/ 208 - 252). (¬2) (د. ناصر الغفاري أصول مذهب الشيعة 2/ 734) (¬3) (الكافي 1/ 372 - 374).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية إخوة الإسلام .. يحدثنا التاريخ أن الشاة إسماعيل الصفوي بعد احتلاله لفارس احتل العراق من عام 914 إلى عام عشرين وتسعمائة .. وفي فترة حكمهم لعراق حاول الصفويون طمس معالة الهوية الإسلامية في العراق واستبدالهم بطقوس وعبادات وشعارات وسب وشتم ما أنزل الله بها من سلطان وقد بدأ الصفويون أعمالهم المشينة بقتل المسلمين من أهل السنة حيث تذكر كتب التاريخ أنه في يوم واحد قتل أكثر من مائة وسبعين ألف مسلم سني في العراق، ثم تبع ذلك بنبش قبور المسلمين ومنهم قبر الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وأنه خلال مدة احتلالهم للعراق التي لم تتجاوز ست سنوات .. قتلوا أكثر من مليون مسلم سني (¬1) ترى هل يعبد التاريخ نفسه، وهل يعود الصفويون اليوم إلى العراق ليجددوا عهود أسلافهم؟ إن ما يتعرض له أهل السنة في العراق اليوم شيء عظيم، قتل وتهجير، وخطف وإبادة، وتعذيب وخيانة واستخفاف بكرامة الإنسان لا يجوز بحال السكوت عليه وإغفاء الطرف عنه، لاسيما وقد وصلت الحال إلى مستوى التخطيط .. فمن ينتصر لأهل السنة في العراق؟ وإذا سكتت المنظمات والهيئات الكبرى العالمية لأن صنعت هذا فهل يسوغ للمسلمين بهيئاتهم ودولهم وأفرادهم السكوت عن مآسي أهل السنة في العراق؟ إن واحدًا من اليهود والنصارى أو الرافضة لو قتل لقامت الدنيا ولم تقعد .. فكيف الحال إذا قتل أهل السنة بالمئات بل بالألوف. ¬

(¬1) (فقال جاسر الجاسر: الصفويون يغزون الدول العربية، الجزيرة 22/ 12/ 1427).

إن من المخاطر الجديدة والأساليب الماكرة أن الغرب وفي مقدمته أمريكا بات يتخذ أسلوبًا جديدًا في إدارة الصراع في العالم الإسلامي، وذلك من خلال القيام باستنزاف التيارات المختلفة في المنطقة، سنة وشيعة، متحاويون وحماسيون، صوماليون محاكم وصوماليون أصحاب مصالح نفعية .. وهذا ليبقى الغرب مديرًا للصراع ومتفرجًا على المعركة، ومتفرغًا لشئونه الأخرى. إن على عقلاء الأمة أن يدركوا الخطر، ويحيطوا مخططات الأعداء وإلا تستنزف الأمة في حروب ترتد شهادتها على أبنائها. والمخطط فيما يظهر أكبر مما يجري الآن، وما لم يوقف عند حد فسيرى سيران النار في الهشيم. لا بد من تقوى الله أولًا، ولا بد من الوعي بمخططات الأعداء ثانيًا. ولا بد من معرفة العدو من الصديق، والصادق من المنافق، لا بد من اجتماع الكلمة على الحق، ولا بد من النصرة للمظلومين، ولا بد من وضع حد للظالمين .. إنها مخاطر محدقة، وحمم حارق .. وانتقام وتشفي، وقتل على الهوية لا مخرج منها إلا بالهدى والتقى والتخطيط والوعي {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا} اللهم سلمنا من الفتن ما ظهر منها، وما بطن، اللهم نفس كرب المكروبين من المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.

أزمة دارفور .. وضرورة المقاومة الإسلامية

أزمة دارفور .. وضرورة المقاومة الإسلامية (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله حكم بالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وكتب الصغار على من عاداه ورسوله والمؤمنين .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اقتضت حكمته أن الحق يكون الصراع بين الحق والباطل أزليًا ليميز الخبيث من الطيب وأن يمتحن أهل الإيمان بالفتن والمصائب ليعلم الصادقين من الكاذبين .. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. إخوة الإسلام قضية دارفور ليست قضية داخلية للسودان، وإنما هي اليوم قضية عالمية، فجأة تسارعت أخبارها ولأمر يراد صُعدت أحداثها، فلماذا؟ وما الموقف؟ إن مما يلفت نظر العامة- من الناس- فضلًا عن العالمين والساسة- أن الغرب بات يركز على قضايا المسلمين ويستهدف بلادهم، وتستهويه خيراتهم، ويتخوف لمستقبلهم .. وهو في كل مرة يتزرع بحيلة ويحتمي بغطاء موهوم، فهو حينًا يتدخل تحت مظلة محاربة الإرهاب، وأخرى بحجة نزع أسلحة الدمار الشامل وتأمين الحريات للشعوب، فإذا انكشفت سوءته في الأفغان أو تورط في مستنقع العراق، بات يبحث عن مخرج لتغطية هذه السوءات وتخفيف حدة النقد لهذه الورطات .. فعاد يلوح بشعار النواحي الإنسانية، ويخادع بأزمة الكوارث وانتهاكات حقوق الإنسان، وكأنه المنقذ لها؟ ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 27/ 6/ 1425 هـ.

والعالم كله يشهد أن الغرب وفي مقدمته أمريكا .. يقف وراء الكوارث العالمية، ويحمي أبشع جرائم العصر وانتهاكات حقوق الإنسان في فلسطين المحتلة. أما سجون (غوانتاناموا) و (أبي غريب) و (باغرام) فهي نماذج لإفرازات حضارة الغرب، وهمجيته، وبؤر مظلمة في التاريخ المعاصر وقد شهد شاهد من أهلها في صحيفة الواشنطن بوست تقول: متعقلوا (غونتناموا) يحرمون من النوم ويستجوبون عراة؟ ونقلت الصحيفة نفسها أنه تمت موافقة البنتاجون ووزارة العدل الأمريكية على لائحة سرية تتضمن عشرين طريقة لاستجواب المعتقلين (¬1). وإذا كان العالم كله يشهد هذه الانتهاكات، وهو قلق بل كاره للغرب إزاء هذه السياسات الظالمة .. فما نسي المسلمون تتأسي الغرب لمآسيهم على أيدي الصرب النصارى في البوسنة والهرسك، وكوسوفا بل حين أحسوا بأن كفة المعركة تتجه لصالح المسلمين سارعوا بالتدخل ودعموا إخوانهم النصارى وضيقوا على المسلمين وفوتوا عليهم النصر .. إنما مآسي لا تتعلق بجنس، ولا تقف عند حدود أهداف سياسية .. بل وراء ذلك أهداف أخرى حمية دينية، وانتصار للصليب، وتخوف من مستقبل الإسلام وفوق ما في بلاد البلقان من شواهد .. ففي تيمور، ونيجيريا ونحوها شواهد أخرى لتدخل الغرب لصالح إخوانهم النصارى بشكل ظاهر ومكشوف أو بدعم لوجستي وأجندة خفية؟ ¬

(¬1) (المجايد/ 5/ 6/ 125 هـ).

أيها المسلمون إن هذا التاريخ العدائي من الغرب للإسلام والمسلمين ليس وليد اليوم والأمس .. بل إنه تاريخ ممتد للصراع، وإذا تجاوزنا القرون الأولى لتاريخ المسلمين، والحروب الصليبية وويلاتها، وجدنا في تاريخ الاستعمار تجديدًا لما اندثر، ووجدنا في أهداف المستعمرين صراحة في الحديث تكشف عن تخوفهم من الإسلام والمسلمين ودونكم هذا النموذج الذي نشرته جريدة الأيام عام 1963 م، حيث ألقى أحد كبار المستشرقين محاضرة في مدريد- بعد استقلال الجزائر- وكان عنوانها: لماذا كنا نحاول البقاء في الجزائر؟ ثم أجاب على هذا السؤال بشرح مستفيض ملخصه: إننا لم نكن نسخر النصف مليون جندي من أجل نبيذ الجزائر أو صحاريها، أو زيتونها .. إننا كنا نعتبر أنفسنا (سور) (أوربا) الذي يقف في وجه زحف إسلامي محتمل يقوم به الجزائريون وإخوانهم من المسلمين عبر المتوسط، ليستعيدوا الأندلس التي فقدوها وليدخلوا معنا في قلب فرنسا بمعركة (بواتيه) جديدة ينتصرون فيها ويكتسحون أوربا الواهنة، ويكملون ما كانوا قد عزموا عليه أثناء حلم الأمويين، بتحويل المتوسط إلى بحيرة إسلامية خالصة .. من أجل ذلك كنا نحارب في الجزائر (انظر: خلال العالم قادة الغرب يقولون: (دمروا الإسلام أيدوا أهله/ 42، 43). عباد الله .. وإذا كان الغرب متخوفًا من المسلمين بشكل عام، فهو يبدي تخوفه من المسلمين في القارة الإفريقية (السوداء) ويقول أحد مفكريهم: «إن الإسلام يفزعنا عندما نراه ينتشر في القارة الأفريقية» (السابق/ 42). معاشر المسلمين إننا حين ينصر هجمة الغرب اليوم على بلاد المسلمين، لا بد أن نقرأ التاريخ، ونعلم الأهداف، ونكشف الزيف الذي تنسج خيوطه في دهاليز الساسة وحين نعود إلى (دارفور) ومهما قيل عن أهداف استراتيجية

ومصالح اقتصادية للغرب في السودان، فلا بد أن نستحضر الأهداف الاستعمارية، والحرب العقدية، وصراع الحضارات الذي بات صوتًا معلنًا وقويًا في الغرب، وهو يركز بالدرجة الأولى على تدمير الحضارة الإسلامية، وإحياء ما ذيل من الحضارة الغربية. إنها حرب لا تستهدف السودان وحده .. بل يريدونها مدخلًا للقارة الإفريقية - وليست نخوة غربية إنسانية- ولكنها ظل لتستهل دخول المنظمات والهيئات الغربية لتقوم بدورها في التنصير، أو على الأقل خلخلة عقائد المسلمين؟ وأخيرًا فهي ورقة في الانتخابات الأمريكية (¬1)؟ والسؤال المهم ما دور المسلمين في هذه الأزمة، وما نوع نصرة المسلمين لإخوانهم في السودان؟ وما هو واجب المسلمين في السودان للمساهمة في حل هذه الأزمة؟ إن مما يؤلم أن يسارع الغرب للتدخل في السودان، بل يهدد ويلوح بالتدخل العسكري، ويصدر من مجلس الأمن قرار فهمه السودانيون- ومن ورائهم المسلمون- أنه قرار حرب وأين ما يقابله من المسلمين في دوائرهم السياسية وهيئاتهم ومنظماتهم العالمية؟ ويؤلم كذلك أن تكون المنظمات والهيئات الغربية أول وأكثر الهيئات تواجهًا في (دارفور) ويعود السؤال مرة أخرى وأين الهيئات والمنظمات الإسلامية؟ وحين تتحرك رابطة العالم الإسلامي أو غيرها وتشكل وفدًا يزور السودان ويتواجد في دارفور .. فذلك جهد مشكور، وذلك وعي بالدور المطلوب .. لكنه ماذا عن بقية هيئات ومنظمات ولجان المسلمين؟ إن تدخل المسلمين وهيئاتهم مطلب لقطع الطريق على الآخرين وللإصلاح بين الإخوة المقتتلين، وهو استجابة ربانية حيث يقال للمسلمين {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}. ¬

(¬1) ومؤلم أن تصبح قضايا المسلمين هدفًا للمزايدة في الانتخابات الغربية؟

وإذا كان الوضع الإنساني المتدهور في (دارفور) لا ينكر، فماذا صنع المسلمون بأثريائهم وعلمائهم وساستهم لإخوانهم المتضررين في السودان؟ وما دور الإعلام الإسلامي في تجلية الحقيقة، والمنافجة عن الحقوق المشروعة؟ وكشف اللعنة؟ إن ثمة تحركات تذكر فتشكر .. لكنها دون المستوى المطلوب فهل تتحرك الأطراف الجامدة .. قبل فوات الأوان، وهل ندرك أن في حماية دارفور حماية للسودان، وحماية السودان فيها حماية للمسلمين في أفريقيا .. بل وللمسلمين في كل مكان، لاسيما وأن من أهداف الغرب إيجاد قواعد له في كل مكان، وهذه القواعد ليست في صالح المسلمين بكل حال. أما أهل السودان فيقال لهم اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وإياكم أن تتيحوا الفرصة للأجنبي ليتدخل في شئونكم، فهو صاحب سياسة (فرق تسد)، وهو لا يبكي على مآسيكم، ولكنه يتخذ من تناحركم فرصة لضربكم جميعًا وإضعافكم والسيطرة على بلادكم. أين دور علماء السودان وأين جهود ساسته .. وأين المثقفون الواعون لما يراد لبلادهم أين زعماء القبائل هذا أوان التحرك والإصلاح حتى لا يحل ببلادكم ما حل بغيرها .. ومرة أخرى فلا تنكر الجهود المبذولة .. ولكن الأمر يتطلب أكثر وأكثر وبشكل سريع أما حكومة السودان فرغم ما تبذله من جهود لحل الأزمة، فلا بد من المزيد، ولا بد من إعادة النظر في سياسة العدل وتوزيع الثروة، والتكافئ في الفرص وعدم التهميش .. ولا بد من التنبه للمناطق الأخرى حتى لا تتكرر المأساة في الشرق أو الشمال، كما اشتعلت في الغرب وقبلها الجنوب. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية أيها المسلمون وما عاد خافيًا على أحد أن الحرب المتعددة الأطراف، والمتنوعة في الجهات إنما توجه للمسلمين ويقصد بها الإسلام .. وهي حرب شرسة بكل المقاييس، تستخدم فيها الآلة العسكرية الضخمة .. وتروج لها عبر وسائل إعلام خبيثة ومطورة وتتشابك الأيدي اليهودية مع النصرانية ويستخدم المنافقون في حلف لا مثيل له، وعبر أهداف مخطط لها، واستراتيجيات تراد بها أن تتحقق .. حتى ولو تغيرت الخريطة الجغرافية، ولو انتهكت الحقوق، ومورست سياسة الإقصاء والتدمير .. وإذا كانت هذه الحقيقة واضحة للعيان فلا ينبغي أن تقود للاستسلام والضعف والهوان، ففي تاريخ المسلمين كانت الضربات الموجعة والهجمات الشرسة موقظة للمسلمين باعثة للجهاد، منبهة للخطر، حتى تحقق النصر والظفر واندحر الأعداء خاسئين. وهنا يرد سؤال مهم .. وما هو الدور المطلوب من المسلمين في ظل هذه الهجمات العدائية المتتالية؟ وكيف المخرج؟ ولئن كان السؤال كبيرًا .. والإجابة عليه تحتاج إلى ملتقيات ومؤتمرات إسلامية تحلل وتناقش وتوصي وتعمل .. فحسبي أن أشير إلى عدد من الواجبات .. 1 - وفي مقدمتها مزيد الوعي بما يراد للأمة المسلمة وذلك بكشف حقيقة الحملات الصليبية المعاصرة، ومن يقفون وراءها ومن يعملون في ركابها، حتى تتضح الصورة لمن عنده عيش، إن دعاوى التحرير وإرساء الديمقراطية ما هي إلا نوع من الاحتلال تسام معه الشعوب سوء العذاب .. ولئن شهد القرآن قديمًا بعداوة اليهود والنصارى للمسلمين والله يقول: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}.

فالواقع اليوم يشهد على شراسة العدوان، ويكشف حضارة الغرب في أسوأ فضائحها. وفوق ما في العراق من جرائم الحرب، ووحشية التعذيب فاختطاف النساء واغتصابهن أحد مؤشرات الاحتلال في العراق حتى ذكرت التقارير أن أكثر من أربعمائة امرأة اختطفت وإن محصلة ما يختطف من 5 إلى 10 حالات أسبوعيًا (البيان/ ملف المقاومة) بعنوان (الاغتصاب الديمقراطي) (مجلة البيان، ربيع الثاني/ 1425 هـ) (ملف المقاومة الإسلامية). وانتشرت هذه الفضائح في الغرب حتى عبر كاتب أمريكي عن ذلك أنها ممارسات وحشية قديمة تتكرر تنبع من جذور الثقافة الغربية، وهي ليست وليدة اليوم .. وأحد الهنود الحمر يصف لنا مثيلًا لها ويقول قبل أكثر من مائتي عام (1787 م) أن الأمريكان يفعلون ما يحلو لهم، ويستعبدون كل من ليس من لونهم، يريدون أن يجعلوا منا عبيدًا، وحين لا يتحقق لهم ذلك يقتلوننا، إياك أن تثق بكلماتهم أو وعودهم، إنها أحابيل، صدقني، فأنا أعرف سكاكينهم الطويلة جدًا (¬1). إذا تعرية الحضارة الغربية وكشف حقيقة الحملات .. مسئولية وهي مهمة المثقفين ووسائل الإعلام. 2 - ومع هذه الهجمة الشرسة والانتصارات الموهومة لا بد أن ندرك أن ثمة هزائم يمنى بها الغرب يوميًا، وهو يشعر بالورطة .. ويدفع ثمن التدخل في البلاد الإسلامية نتيجة المقاومة التي قوبل بها، والخسائر المادية والمعنوية التي مني بها ويكفي أن يشار إلى خسائر ثلاث للغرب .. فقد هزموا عسكريًا عندما أخفقت جحافلهم في اقتحام مدينة صغيرة هي الفلوجة، بعد حصار شهر أو ¬

(¬1) (صحيفة الأسبوع العربي/ 2004 عن البيان).

يزيد، وباستخدام أحدث الأسلحة، حتى انسحبوا وهم صاغرون .. إنها نكسة لهم، وبشارة للمسلمين. ب- وهزموا حضاريًا عندما انكشف للعالم حقارة قيمهم ومستوى تعاملهم مع الإنسان، حتى نشرت هذه الفضائح في إعلامهم وأصبحت ورقة للمزايدة في انتخابات الأحزاب المنافسة هذا سقوطًا في القيم .. وهزيمة ساحقة للحضارة بل وللثقافة الغربية؟ جـ- وهزموا ثالثًا (إعلاميًا) وعلى المستوى الدولي حينما صرح ساستهم وصرح قادتهم بضرورة كتم أنفاس الإعلام الحر، ووضع حد للجرأة الإعلامية التي تميزت بها بعض القنوات الفضائية فكانت التصفيات للإعلاميين شاهدًا على هذه الخسارة الإعلامية العربية. إنها هزائم متلاحقة حري بالمسلمين أن يدركوها ويستعيدوا أمتها. 3 - أما الأمر الثالث والمهم فهو أن يدرك المسلمون سر قوتهم وقدرتهم على التحدي، وأن المستقبل لهم، فهم بقيمهم الخالدة وحضارتهم الزاهرة، وثرواتهم المتعددة، وتاريخهم المجيد، قادرون على تحقيق النصر .. إن صدقوا وصبروا، وها هو الغرب .. يعترف وهو في مستنقع العراق الصامد .. ويقول بلير معترفًا بقوة المقاومة: (إن العراق يصنع التاريخ أو يعيد صياغته) (¬1). إن على المسلمين أن يدركوا قوتهم، وأن ينفضوا عنهم ذل الهزيمة، وأن يزيلوا من أذهانهم شبح العدوان على المسلمين ألا يظلوا متفرجين في كل حملة يشنها الغرب على بلاد المسلمين .. فهي سياسة نهش الأطراف للوصول إلى القلب .. فهل ننصر إخواننا وهل ندرك أن في ذلك حماية لأنفسنا؟ لا بد أن ¬

(¬1) (د. الوهيبي، مقال في البيان السابق).

يتخذ الساسة على موقف العز والكرامة وأن يقودوا شعوبهم إلى مراقي النصر، ولا بد للعلماء البانيين أن يحيوا في الأمة فقه المقاومة وأن يذكروا المسلمين بقيمة الجهاد في سبيل الله بمفهومه الحقيقي المشروعة للعدو ومبادئه المختلفة ولا بد لأثرياء الأمة من دعم المقاومة لصد العدوان .. لا بد أن يتحمل المفكرون والإعلاميون دورهم في البيان .. لا بد أن توظف الطاقات، وتجمع الكلمة ويرتقي بهمم الشباب، ويعزز الاقتصاد، ويعاد بناء الجيوش لهدف حماية البلاد وتحرير المقدسات، والوقوف في وجه الغزاة، وإذا اكتمل البناء تحقق نصر الله. ووعد الله حق {ولينصرن الله من ينصره} {إن تنصروا الله ينصركم}.

الإمام العالم العباد عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما

الإمام العالم العباد عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملًا، وقضى ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رفع شأن العلم، وعظم منزلة العلماء فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (9)} وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام العلماء وقدوة العابدين وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين ورضي الله عن الصحابة أجمعين .. أخوة الإسلام، ما أجمل العلم، وما أزكى العبادة، فكيف إذا اجتمعتا في شخص؟ وما أروع البر والتقدير للآباء ولاسيما إذا كان امتثالًا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وطاعة لأمره .. كم نحتاج إلى أن تصرف همم الشباب فيما ينفعهم في دينهم ودنياهم وكم نحتاج إلى الاعتدال ولزوم السنة في كل شيء، حتى ولو كان زهدًا في متاع الدنيا، وتفرغًا للعبادة .. هذه المعاني وغيرها نجدها ظاهرة- لمن تأمل- في حياة صحابي جليل، وعاء من أوعية العلم، ونموذج لهمة الشباب العالية، أنه الإمام الحبر العابد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن صاحبه، عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. يقال أنه أسلم قبل أبيه، ويقال أنه لا فرق في السن بينه وبين أبيه إلا بإحدى عشرة أو اثنتي عشرة سنة أو نحوهما (الذهبي/ سير أعلام النبلاء 3/ 80) كان عبد الله بن ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 17/ 7/ 1425 هـ.

عمرو نموذجًا لهمة الشباب في صرف طاقتهم للعبادة فقد حدث عن نفسه فقال: جمعت القرآن فقرأته كله في ليلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأه في شهر، قلت: يا رسول الله دعني أستمتع من قوتي وشبابي، قال: اقرأه في عشرين، قلت: دعني أستمتع، قال: أقرأه في سبع ليال، قلت: دعني يا رسول الله أستمتع، قال: فأبى» (¬1). ولم تكن همة ابن عمرو في تلاوة القرآن، بل كانت له همة في الصيام والقيام، وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم ينازله في تخفيف ذلك كله حتى تمنى في آخر حياته أنه قبل رخصة النبي صلى الله عليه وسلم له. فقد روى مسلم في صحيحه من طريق أبي سلمة أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: حدثنا عبد الله بن محمد الرومي. حدثنا النضر بن محمد. حدثنا عكرمة (وهو ابن عمار) حدثنا يحيى قال: انطلقت أنا وعبد الله بن يزيد حتى نأتي أبا سلمة. فأرسلنا إليه رسولًا. فخرج علينا. وإذا عند باب داره مسجد. قال: فكنا في المسجد حتى خرج إلينا. فقال: إن تشاؤا، أن تدخلوا، وإن تشاؤا، أن تقعدوا هاهنا. قال فقلنا: لا. بل نقعد هاهنا. فحدثنا. قال أبو سلمة: حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. قال: كنت أصوم الدهر وأقرأ القرآن كل ليلة. قال: فإما ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، وإما أرسل إلي فأتيته. فقال لي: «ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة؟ » فقلت: بلى. يا نبي الله! ولم أرد بذلك إلا الخير. قال: «فإن بحسبك أن تصوم (¬1) من كل شهر ثلاثة أيام» قلت: يا نبي الله! إني أطيق أفضل من ذلك. قال: «فإن لزوجك عليك حقًا. ولزورك (¬2) عليك حقًا. ولجسدك عليك حقًا» قال: «كان ¬

(¬1) (سير أعلام النبلاء 3/ 83). (¬2) (فإن بحسبك أن تصوم) الباء فيه زائدة. ومعناه أن صوم الثلاثة أيام من كل شهر كافيك. (¬3) (ولزورك) قال في النهاية: هو في الأصل مصدر وضع موضع الاسم. كصوم ونوم بمعنى صائم ونائم. وقد يكون الزور جمعًا لزائر، كركب في جمع راكب. أي لضيفك ولأصحابك الزائرين حق عليك. وأنت تعجز، بسبب توالي الصيام والقيام، عن القيام بحسن معاشرتهم.

يصوم يومًا ويفطر يومًا» قال: «وأقرأ القرآن في كل شهر» قال قلت: يا نبي الله! إني أطيق أفضل من ذلك. قال: «فأقرأه في كل عشرين» قال قلت: يا نبي الله! إني أطيق أفضل من ذلك. قال: «فاقرأه في كل عشر» قال قلت: يا نبي الله! إني أطيق أفضل من ذلك. قال: «فاقرأه في كل سبع، ولا تزد على ذلك. فإن لزوجك عليك حقًا. ولزورك عليك حقًا. ولجسدك عليك حقًا». قال: فشددت. فشدد علي. قال: وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر». قال: فصرت إلى الذي قال لي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم وفي هذا الحديث عدة فوائد ووقفات: أولاها: همة هذا الشاب واستزادته من عمل الصالحات، وما زال يحاور النبي صلى الله عليه وسلم ويذكر من طاقته حتى أذنه له بما أذن فأين هذه الهمة من شبابنا .. ولكل واحد منهم أن يسأل نفسه ما هو ورده من القرآن في اليوم؟ وما هو نصيبه من الصوم؟ إننا نتألم حين نسمع عن شباب حفظة لكتاب الله .. ومع ذلك فقد يمر الشهر على أحدهم ولم يختم القرآن، ونتألم أكثر حين نسمع عن شباب أو كهول لا يختمون القرآن إلا من رمضان إلى رمضان ولكنهم ومن العدل أن نقول أن ثمة شبابًا وكهولًا يختمون القرآن في بضعة أيام. ثانيًا: حرص هذا النبي على أمته، فهو بهم رءوف رحيم وما زال بابن عمرو ينازله ويحاوره في تخفيف الصيام والقيام وتلاوة القرآن تخفيفًا يستطيع

معه أن يداوم على العمل في كل حين فأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل .. ويستطيع معه أن يزاول أعمالًا وطاعات أخرى، فمن توفيق الله للعبد أن يكون له في كل ميدان من ميادين الخير نصيب، وله في كل قربة لله سهم، فالنفس تكل وتمل، وتضعف، والمراوحة بين أعمال الخير المختلفة ينشط النفس ويطرد عنها السآمة والملل والدين يسر، والله لا يمل حتى تملوا .. ثالثًا: ومن سماحة الإسلام أن جعل للنفس حقًا، وللأهل حقًا، وللزور حقًا وعلى المسلم أن يوازن بين الحقوق، وعلى الشباب خاصة أن يوازنوا بين الأمور كلها، ويحافظوا على الحقوق والواجبات ما أمكنهم ذلك. رواه النسائي. وكم هو جميل كلام الذهبي رحمه الله في تعليقه على قصة ابن عمرو، وتجزأة الواجبات، وتنويع الطاعات حيث قال: وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نازله إلى ثلاث ليال، ونهاه أن يقرأه في أقل من ثلاث (¬1) وهذا كان في الذي نزل من القرآن، ثم بعد هذا القول نزل ما بقي من القرآن. فأقل مراتب النهي أن تكره تلاوة القرآن كله في أقل من ثلاث، فما فقه ولا تدبر من تلى في أقل من ذلك. ولو تلا ورتل في أسبوع، ولازم ذلك، لكان عملًا فاضلًا، فالدين يسر، فوالله إن ترتيل سُبع القرآن في تهجد قيام الليل مع المحافظة على النوافل الراتبة، والضحى، وتحية المسجد، مع الأذكار المأثورة الثابتة، والقول عند النوم واليقظة، ودبر المكتوبة والسحر، مع النظر في العلم النافع والاشتغال به مخلصًا لله، مع الأمر بالمعروف، وإرشاد الجاهل وتفهيمه، وزجر الفاسق، ونحو ذلك، مع أداء الفرائض في جماعة بخشوع وطمأنينة وانكسار وإيمان، مع أداء الواجب، ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (1394) في الصلاة: باب تحزيب القرآن، والترمذي (2950).

واجتناب الكبائر، وكثرة الدعاء والاستغفار، والصدقة وصلة الرحم، والتواضع، والإخلاص في جميع ذلك، لشغل عظيم جسيم، ولمقام أصحاب اليمين وأولياء الله المتقين، فإن سائر ذلك مطلوب. فمتى تشاغل العابد بختمة في كل يوم، فقد خالف الحنيفية السمحة، ولم ينهض بأكثر ما ذكرناه ولا تدبر ما يتلوه. هذا السيد العابد الصاحب كان يقول لما شاخ: ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك قال له عليه السلام في الصوم، ومازال يناقصه حتى قال: «صم يومًا وأفطر يومًا، صوم أخي داود عليه السلام» (¬1). أيها المسلمون والزهد في الدنيا وإن كان مطلوبًا فله حدوده الشرعية ومهما زهد الزاهدون فلهم في رسول الله أسوة حسنة، وكان يصوم ويفطر، ويصلي وينام، ويتزوج النساء، وقد ندب الأمة إلى القصد في العبادة، وعلمهم كيف يكون الزهد، وهذا عبد الله بن عمرو يحدثنا عن موقف له في الزهد من متاع الدنيا، وكيف علمه النبي صلى الله عليه وسلم والأمة كلها معنى الزهد في الإسلام، يروي لنا الموقف ابن عمرو بنفسه ويقول: زوجني أبي امرأة من قريش، فلما دخلت علي جعلت لا أنحاش لها مما بي من القوة على العبادة، فجاء أبي إلي كنته (وهي زوجة الولد) فقال: كيف وجدت بعلك؟ قالت: خير رجل من رجل لم يفتش لنا كنفًا ولم يقرب لنا فراشًا، قال: فأقبل علي (أبي) وعضني بلسانه ثم قال: أنكحتك امرأة ذات حسب فعضلتها وفعلت، ثم انطلق فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطلبني فأتيته، فقال لي: أتصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: نعم، قال: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمس النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني. ¬

(¬1) (سير أعلام النبلاء 3/ 84).

رواه أحمد بسند رجاله ثقات، وأخرجه البخاري بأخصر من هذا (¬1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78]. ¬

(¬1) (سير أعلام النبلاء 3/ 90).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية يا أخا الإسلام وإذا عرفت شيئًا من قوة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في العبادة فبقي أن تعرف شيئًا من قوته في العلم وحرصه على طلبه وجمعه فقد كان عبد الله من أوعية العلم، وكان من حفظة السنة والمدونين لها، قرأ الكتاب واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في أن يكتب حديثه، فأذن له قال يا رسول الله: أكتب كل ما أسمع منك في الرضا والغضب؟ قال: «نعم، فإني لا أقول إلا حقًا» (¬1) وكان عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- منافسًا لأبي هريرة رضي الله عنه في حفظ السنة النبوية، حتى قال أبو هريرة: ما كان أحد أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، إلا عبد الله بن عمرو، فإنه كان يعي بقلبه وأعي بقلبي، وكان يكتب وأنا لا أكتب، استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فأذن له (¬2). حمل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم علمًا جمًا، وبلغ ما أسنده من الأحاديث سبعمائة حديث، وروى عن جملة من الصحابة، وروى عنه خَلْقٌ كثير (¬3). وورد أنه حفظ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف مثل (¬4). أما نظر عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في الكتب الأخرى، وقراءته في التوراة إلى جانب القرآن- كما فسر النبي صلى الله عليه وسلم رؤياه حين قال رأيت، وكان في أحد أصبعي سمنًا وفي الأخرى عسلًا وأنا ألعقهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تقرأ الكتابين التوراة والفرقان (¬5). ¬

(¬1) (رواه أحمد وغيره وإسناده صحيح: سير أعلام النبلاء 3/ 88). (¬2) (الاستيعاب بهامش الإصابة لابن عبد البر: 6/ 339، 340). (¬3) (انظر: سير أعلام النبلاء 3/ 80، 81). (¬4) (الاستيعاب 6/ 340). (¬5) (رواه أحمد 2/ 222).

فهو حديث ضعيف، والخبر منكر كما قال الذهبي ولا يشرع لأحد بعد نزول القرآن أن يقرأ التوراة ولا أن يحفظها، لكونها مبدلة محرفة منسوخة العمل، قد اختلط فيها الحق بالباطل فلتجتنب، فأما النظر فيها للاعتبار وللرد على اليهود فلا بأس بذلك للرجل العالم قليلًا، والأعراض أولى .. هكذا قرر الإمام الذهبي رحمه الله (¬1). أيها المسلمون وإذا علمتم قوة ابن عمرو في العبادة، وسعة باعه في العلم، ولا تكاد مدونة من مدونات أهل العلم إلا وفيها ذكر حسن له فمن حقكم جميعًا .. ومن حق الشباب على وجه الخصوص أن يعلموا أن ابن عمرو نموذج لبر الآباء، إلى حد ربما أكره نفسه على العمل يقدم عليه تحقيقًا للبر بأبيه .. أجل لقد كان عبد الله يكره الاقتتال وحمل السلاح بين المسلمين، وقد ورد عنه أنه كان يقول: مالي وصفين مالي ولقتال المسلمين، والله لوددت أني مت قبل هذا بعشر سنين ثم يقول: أما والله ما ضربت فيها بسيف ولا طعنت برمح، ولا رميت بسهم، ولوددت أني لم أحضر شيئًا منها، وأستغفر الله عز وجل من ذلك وأتوب إليه .. وذكر ابن عبد البر رحمه الله أن عبد الله إنما شهد صفين لعزمة أبيه عليه في ذلك، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: أطع أباك (¬2). وفي مسند أحمد عن حنظلة بن خويلد العنبري قال: بينما أنا عند معاوية، إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار رضي الله عنه فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما نفسًا لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقتله الفئة الباغية» فقال معاوية رضي الله عنه يا عمرو: ألا تغني ¬

(¬1) (سير أعلام النبلاء 3/ 86). (¬2) (الاستيعاب 6/ 342، 343).

عنا مجنونك، فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أطع أباك ما دام حيًا» فأنا معكم ولست أقاتل (¬1). عباد الله .. وجملة القول أن في سيرة هذا الإمام العابد العالم الزاهد دروسًا وعبرًا .. فيها دفع للهمم في العبادة، وفيها حض على تعلم العلم وتعليمه، ومنها إرشاد للزهد في الدنيا وتوجيه لحدود الزهد المقبولة كما أن في سيرة ابن عمرو دروسًا في البر والوفاء والصدق والنصح .. رضي الله عنك يا ابن عمرو ورضي عن أبيك وعن سائر الصحابة أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .. اللهم ألحقنا بهم واحشرنا معهم. ¬

(¬1) (المسند 2/ 164، ابن عساكر/ 248، وصحح المحقق إسناده في سير أعلام النبلاء 3/ 92).

الرحلات البرية، إيجايبات وسلبيات وقفات وتنبيهات

الرحلات البرية، إيجايبات وسلبيات وقفات وتنبيهات (¬1) الحمد لله جعل لنا في ديننا فسحة، وما جعل عليكم في الدين من حرج .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بعث ليضع عن الأمة إصرها والأغلال التي كانت عليها .. اللهم صل وسلم عليه .. إخوة الإسلام .. ونعم ربي علينا تتوالى .. صحة وأمن، وأموال وأولاد .. وثمرات تجبى إلينا، وأخرى تخرج من أرضنا، اعتدال في الجو، وأمطار تنهمر فتملأ السهل والجبل وتكسب الأرض خضرة وبهاء .. وتطالع روس المرتفعات من الرمال وهي ندية بالأمطار - ولا تسأل عن الأودية والقيعان، وحق للناس أن يفرحوا بفضل الله، وحري بهم أن يشكروه وأن يتذكروا ويتفكروا في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 48 - 50]. ومن حق الناس أن يتنزهوا ويبصروا أنعم الله- دون أشر أو بطر- ومن الذي يقول إن الاستقامة على دين الله مانعة من الأنس والمرح والتنزه والفرح؟ ولكن من حق الله عليهم أن يشكروه ولا يكفرونه وأن يطيعوه ولا يعصونه. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 9/ 2/ 1426 هـ.

ذكر في ترجمة ابن مجاهد شيخ قراء بغداد أنه خرج إلى البستان مع بعض كبار علماء بغداد، وصاروا يلعبون بإداوة ودولاب هناك، فنظر إليهم بعض الناس مستغربًا، فقال له ابن مجاهد: التعاقل في البستان كاللعب في المسجد. ولكن الذي ينبغي أن يكون المرح والتنزه في حياة المسلم ترويحًا عن النفس بعد الجد والعمل، والإنتاج والبذل والعطاء .. حتى يكون للنزهة محلها من الإعراب .. وإلا احتاج الترفيه إلى ترفيه، والراحة إلى راحة أخرى .. وهكذا .. وعمر الإنسان أغلى من أن يفرط بساعاته هكذا ودون فائدة. أيها المسلمون هناك مظاهر إيجابية في حياة الناس في البر حرية بأن تذكر وتشكر، ومظاهر سلبية حرية بأن ينبه لها وتحذر .. ومن المظاهر الإيجابية ارتفاع الأذان عاليًا في البراري والغفار حتى يشهد الحجر والشجر ومن سمع لمن رفع ذكر الله .. واصطفاف المتنزهين كالبنيان المرصوص لأداء الصلاة هو الآخر مشهد يفرح ويؤنس، ويؤكد حرص المسلمين على صلاة الجماعة أينما حكوا أو ارتحلوا. وهناك عائلة بل عوائل تقترب من شط الماء وجلال الحشمة ومظاهر الحياء بادية على النساء قبل الرجال فلا سفور ولا اختلاط بل نساء كالغربان كاسيات حافظات لما حفظ الله. ومن المظاهر الإيجابية لقاء الأسرة في جو من الأنس والاستمتاع بجمال الطبيعة بما حباها الله .. وكم هو جميل حين يستثمر الولي هذه الأجواء في توجيه هادف أو قصة تربوية ذات معنى، أو يلفت أنظار الصغار إلى عظمة الله من خلال مخلوقاته وفسيح كونه. وثمة مظهرًا إيجابي حين يقع فرد أو أسرة في موقف محرج متسابق الأكف تساعد وتدفع، وربما غامر الشباب بحياتهم فأنقذوا أسرة كاد الفرق أن يلف

أفرادها .. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن المعروف أن تعين الرجل في دابته فتحمله عليه أو تحمل معه متاعه .. أو تصلح له سيارته أو تسدد ما نقص من متاعه وأغراضه .. وتشكر رجالات الهيئة حين يتواجدون في أماكن تجمع المتنزهين يوجهون ويدعون بالحسنى ويذكرون والذكرى تنفع المؤمنين. إخوة الإسلام ولا تقتصر الإيجابية على رجال الهيئة في الأمر والنهي والدعوة، فثمة محتسبون متجولون يذكرون من غفل وينهون من أخطاء ويمارسون الدعوة بلطف، وربما كانت سلوكياتهم الحسنة ومعاونتهم لمن به حاجة للمعونة أسلوبًا صامتًا في الدعوة، وليست الدعوة مجرد خطبة أو محاضرة تلقى، بل ربما كان الموقف الجميل، والمعروف المهدي وإشراقة الوجه بالبشرى (¬1). عباد الله وثمة مظاهر إيجابية أخرى جماعها مراقبة الله في كل حال، وذكره وشكره على كل نعمه، والتزام آداب الإسلام، في النظر والسماع واعتبار حقوق الرفقة أو من آواك المسير إليهم. أيها المسلمون .. أما المظاهر السلبية في هذه الرحلات البرية فمنها: اختيار الطرق الصعبة أو المجازفة بالعائلة في مسالك برية خطرة .. فيها من المغامرة ما قد يوقع الأسرة في مهاوي الردى .. وكم يتهاون الناس في سكنى الأودية المنهي عنها .. أو اختراق الوادي حين تملأ جوانبه الأمطار، فيقع المحظور ويعود الإنس حزنًا والفرح مأثمًا. وثمة إهمال للأطفال وهو معدود في سلبيات الرحلات، فيهيم الطفل على وجهه وربما جن الليل فاختفى عن الأنظار، فكان القلق بسبب الإهمال ¬

(¬1) ربما كانت هذه وتلك مؤثرات ومبشرات وأساليب لفتح القلوب للخير وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء.

والتفريط، وربما كان الطفل ضحية للهوام أو نحوها إن لم يتداركه الله برحمه أما النساء فيخطئ في حقهن من يتركهن فترة من الزمن وحيدات في البراري .. بحجة ذهاب الولي لإكمال غرض ناقص للرحلة وربما استغرق غيابه عنهن وقتًا طويلًا .. فلازم النساء القلق وربما تعرض لإساءة من جاهل .. أو اعتداء من سفهاء والنساء أمانة في أعناق الرجال، ولا بوركت رحلة يخدش فيها الحياء، وتخاف فيها النساء. على إنك تلحظ أحيانًا توسعًا عند بعض النساء في عدم إرخاء الحجاب أو توسعًا في استخدام النقاب .. أو في ممارسة نوع من الرياضة قبالة الرجال من قبل ركوب الدراجات النارية، أو في المسير بعيدًا عن رجالهن، وفي هذا تعريض بهن لمخاطر السفهاء ومخادعة اللئام؟ عباد الله وثمة من يتساهلون بأداء الصلاة حتى يخرج وقتها وربما جمعوا من غير حاجة أو قصروا دون مسافة القصير المشروعة والأدهى والأمر حين يلجأ إلى التيمم من هو على شفير الماء؟ والله يحب أن تؤتى رخصه .. لكن يكره أن تؤتى محارمه، أو يستهين مستهين بحدوده وأحكام دينه. معاشر المسلمين وثمة ظاهرة سلبية تسمع أحيانًا في البراري كما تسمع عند إشارات المرور- أحيانًا- ألا وهي رفع الصوت بالأغاني وعدم تقدير مشاعر الآخرين وأولئك يخيل إليهم أنهم يمارسون حريتهم لكنهم نسوا أنها على حساب حريات الآخرين .. وظنوا أنهم يطربون أنفسهم ونسوا أنهم يضايقون الآخرين .. ألا وأن الحياء من شيم الكرام، وتقدير أذواق الآخرين من كرائم المروءات وذلك كله فالخوف من الله والحياء منه ضمان لوئد ما سفل من الأخلاق وما حرم من المنكرات. وكل أمة محمد صلى الله عليه وسلم معافون إلا المجاهرين.

أيها المسلمون وظاهرة التصوير عمت وطمت، ولم يقتصر الأمر على أجهزة التصوير المعروفة، بل عادت كمرات الجوال تمثل خطرًا داهمًا لاسيما في فضح النساء وإخراج صورهن لإحراجهن أو إحراج أهلهن ومحارمهن وقد تلتقط الصورة للمرأة دون علمها، ويضاف إلى هذا البلاء بلاءً آخر عبر أجهزة (البلوتوث) حيث تسمح شرائحه بنقل الصور من جهاز لآخر بطريقة تلقائية فتعم الفتنة بنقل الصور، وتشيع الفاحشة في الذين آمنوا فاحفظوا أنفسكم وعوائلكم من هذا الداء الخطير، ألا وإنا غزينا بأجهزة الباندا .. ودمر شبابنا وفتياتنا بجهاز (المدمر) وأمثاله وإن كان قليلًا .. وثمة داء بيينا نسمع به في الرحلات، وذلك حين تخرج النساء بصحبة سائق ويستأجرن مكانًا يجتمعن فيه، ويتصلن بأحد المطاعم لتأمين الغذاء أو العشاء .. وكل ذلك بعيدًا عن أوليائهن فأين الغيرة على المحارم؟ وهل استنوقت الجمال، وترجلت النساء .. ألا وإن النار من مستصغر الشرر؟ ! والثقة المفرطة لها مخاطرها .. بل هناك فرق بين الثقة والإهمال وينبغي أن تسمى الأمور بمسمياتها ومن حق النساء أن نخدمهن وأن نحفظ عليهن كرامتهن، وألا ندعهن تحت رحمة الأجانب عنهن من خدم وسائقين وطاهين ومسوقين فالخطر كبير، والفتنة عظيمة، ورحم الله امرئ كف الغيبة عن نفسه وحفظ أهله عن مواقع الريب، ومصائد البطالين .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الملك: 15 - 18]. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية الحمد لله قدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شرع فأحكم، وحكم فعدل وهو خير الحاكمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، دل الأمة على الخير وأمرهم به ونهاه عن الشر ونهاهم عنه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين. أيها الإخوة المؤمنون الدنيا متاع وفيء زائل، والآخرة هي دار القرار، وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا، وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا. أيها المتنزهون تتاح لكم في البراري عبادة عظيمة قل في الناس عاملها، وجاء في القرآن الحث عليها .. إنها عبادة التفكر {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20] {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190، 191]، {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 24]. يا أيها المتنزه هل بلغت بنظرك عظمة الله فيما خلق وأنت ترى أنواع الأزهار وصنوف الأشجار تسقى بماء واحد ويختلف في الطعوم والأشكال .. وتبصر أنواعًا من الدواب والزواحف والهوام {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}. تبصر الجبل والسهل والقيعان والرمال، فهل تكبر حين ترقى مرتفعًا وتسبح

حين تنحدر منخفضًا؟ . وهل تتذكر- وأنت تجول في أرض الله الواسعة- قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27، 28]. كم في البراري من معان ودروس لو تأملناها، ثم لفتنا نظر أبنائنا وبناتنا لها .. إنها دروس عملية في الإيمان .. ودورات تطبيقية في التربية .. يتسع لها كون الله الفسيح، وتحدث في القلوب خشية وتعظيمًا لله فهل نمارس هذه العبادة وتلك التربية في رحلاتنا وتنزهاتنا؟ وهل نتذكر البعث والنشور ونحن نرى بعث الله للحياة في الأرض الموات {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57]. أيها المسلمون ما أجمل الرحلة يعود القلب بعدها مسرورًا منشرحًا فهو يتخفف من أعباء الحياة ويجدد حياته ونشاطه من جانب وهو من جانب آخر يجدد إيمانه ويتذكر عظمة ربه .. إنها دعوة لنفسه .. ويمكن أن تكون دعوة لأهله ورفقته .. ويمكن أن يشمل بالخير غيره فيذكر بلطف من مر به .. أو يلفت نظر من بطر وأشر واستخدم أنعم الله فيما حرم الله .. وجازى الإحسان بالنكران .. إننا أمة الخير ومن خيرية أمتنا أننا نتآمر بالمعروف ونتناهى عن المنكر .. وإذا لم يستحي أصحاب المنكرات بإظهار منكراتهم .. أتستحي يا صاحب الحق والخير بإظهاره؟ إن خارق السفينة لا يحرق في نصيبه فحسب، بل هو ساع إلى إغراق الجميع .. وإذا لم يأخذ العقلاء على أيدي السفهاء، أوشك العذاب أن يعم ما

أجمل المروءة في كل حين ولكنها تزداد زينًا حين الحاجة إليها، كمن بعد عن أهله أو تعطلت به راحلته .. أو تاه عن طريق الأوان وإن إناسًا يحتسبون أوقاتهم في البراري لخدمة هؤلاء وأولئك المأجورون .. يا أيها المتنزهون المطولون في النزهة أحرصوا ألا تطول غيبتكم عن أهلكم وزويكم فلهم حاجات وظروف وفي عوادي الدهر مفاجئات وطوارق، فكونوا على صلة بهم بالهواتف النقالة تعلمون أخبارهم وتتابعون أمورهم فهم أمانة في أعناقكم وستسألون عنهم .. وحذاري من أن تعودوا من الرحلة وقد تغيرت أحوال بعضهم برفقة سيئة .. أو بمشاهدات هابطة .. أو نحو ذلك من عوامل الانحراف واجعلوا لهم من هذه الرحلات نصيبًا يشعرهم بالقرب منكم، وتمارسون التربية معهم في كل حين ولشتى الوسائل .. أيها المتنزهون والمكان الذي تتنزهون فيه حق لكم ولغيركم فاحرصوا على نظافته ليبقى نظيفًا لكم ولغيركم، ودينكم دين الجمال والنظافة، وإياكم والإسراف في المطعم والمشرب .. وتصدقوا بما فضل .. واحمدوه على الأكلة والشربة يغفر لكم واذكروا ربكم في أي مكان حللتم .. فستشهد الأرض لكم حين تحدث أخبارها ولا تنسوا دعاء المنزل فهو حافظ لكم بإذن الله .. حفظكم الله في حلكم وترحالكم ورزقنا شكره وذكره، وعافانا من البلاء والمحن ..

القرآن في غوانتناموا .. تدنيس أم تكريس؟

القرآن في غوانتناموا .. تدنيس أم تكريس؟ (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أوحى إليه ربه بشأن القرآن وأنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون. أيها الإخوة المؤمنون نزل الوحي من السماء معظمًا، وكان الوحي عماد شريعة الأنبياء، كانت صحف إبراهيم وموسى، وكان التوراة والإنجيل، والزبور، ثم كان القرآن فرقانًا ومهيمنًا ومصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. واندرست الكتب السماوية وبقي القرآن الكريم محفوظًا عليًا {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. أجل إن حفظ القرآن معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم، ودليل على أن الإسلام رسالة الله الأخيرة للبشر .. بالقرآن حفظت أخبار الأنبياء ودعوتهم وأخبارهم مع أقوامهم، وبالقرآن ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 12/ 4/ 1426 هـ.

كانت الإشارة إلى شرائع السماء بالقرآن قص أحسن القصص، وبالقرآن أحكمت الشريعة فلا نسخ ولا تبديل إلا ما أتى الله بخير منها أو مثلها وفي حياة محمد صلى الله عليه وسلم فقط وبعد موته انقطع الوحي من السماء، وتوارثت أمة الإسلام هذا القرآن تحفظه في الصدور، وتجده مكتوبًا في الألواح والمصاحف، ومهما أصاب الأمة من نكبات وخطوب، ومهما اجتاح العدو أرضها أو دمر ما دمر من حضارتها فقد بقي القرآن شاهدًا على التحدي، برهانًا على الحفظ والإعجاز .. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وكلما ضعف المسلمون عن القرآن هبت صيحات تنادي بالعودة إلى كتاب الله، فينبعث للقرآن جيل جديد، وتنبعث همم لحفظه وتدريسه والعناية به وبعلومه، وتنشأ مؤسسات ودروس ومعاهد وجامعات للقرآن. وعلى مر العصور وللقرآن رجال ونساء يحييون الليل بالقرآن قراءة وتدبرًا وبكاء وخشوعًا. وعلى اختلاف الدول كان للقرآن سلطان، به يساس الناس، وبأحكامه يؤخذون، وبهديه يهتدون. وعلى اختلاف الأحوال حضرًا وسفرًا وحجة ومرضًا كان القرآن للمسلم رفيقًا ومؤنسًا يتلوه المسلم قائمًا وقاعدًا وعلى جنب وبقي القرآن خير جليس ومؤنس في حال الغربة والوحشة فالقرآن يتلى في غياهيب السجون .. ويترنم السجناء بآياته وهم في قبضة الأعداء يسامون سوء العذاب، ويعاملون بوحشية مفرطة ويعزلون عن أهليهم ومجتمعاتهم في جزر بعيدة الأعماق نائية عن الأمن والإيمان هناك في «غوانتناموا» يسمع دوي للقرآن، وينفس المكروبون عن أنفسهم بترتيل القرآن، ويناجون ربهم بالقرآن. ولكن الظلم يتجاوز الحدود، وكرامة الإنسان تهان إلى الأذقان، بل وشرائع

السماء ووحي الله تنتهك إلى حد لا تكاد تصدقه العقول. أجل لقد نشرت وسائل الإعلام العالمية - وفي مقدمتها وسائل إعلام الغرب - عن انتهاك الجنود الأمريكان للقرآن في سجن غوانتناموا .. مزق القرآن وأهين في المراحيض .. وذلك كأسلوب من أساليب الأذى والتعذيب للسجناء المسلمين هناك .. ولكن الحادث أبعد مدى وأوسع انتهاكًا، فهو تحد سافر للمسلمين، وهو استفزاز أرعن لمشاعر أكثر من مليار مسلم .. وعلى أثرها احتجت دول، وتظاهرت شعوب وصدرت بيانات واستنكارات من هيئات ومجمعات ولجان ومنظمات إسلامية. ولقد عبرت الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة، والمنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي باسم شعوب الأمة الإسلامية وعلمائها وفقهائها عن سخطهم الشديد واستنكارهم الكبير لما نقلته وكالات الأنباء العالمية استنادًا إلى مجلة (نيوزيك) الأمريكية الصادرة في 9 مايو 2005 م من أخبار مزعجة حول قيام بعض جنود الجيش الأمريكي في قاعدة «غوانتناموا» الأمريكية بكوبا بتدنيس المصحف الشريف وإلقائه في المراحيض، قصد إيذاء السجناء المسلمين ومن وراءهم من عامة المسلمين وأهل الديانات الإلهية المعترفين بأن الكتاب المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم هو كمثله من الكتب المقدسة- التوراة والإنجيل- واجب احترامها وتقديسها. وأشار البيان إلى أن هذا الانتهاك من أشد الموبقات جرمًا، ولا يمكن للمسلمين التسامح فيه (¬1). ¬

(¬1) (جريدة الجزيرة 9/ 4/ 1426 هـ).

أيها المسلمون: ومع أهمية هذه البيانات المستنكرة فينبغي للمسلمين حكومات وشعوبًا ألا يقفوا عند حدود التنديد، بل يواصلوا استنكارهم حتى توقع العقوبة الرادعة على المجرمين ومن وراءهم، وحتى يعلم العالم أن الإسلام عزيز في نفوس أتباعه، وأن القرآن عظيم في قلوب أهله، وأن للمستضعفين من يناصرهم ويدافع عن حقوقهم وكرامتهم. فالسجناء المسلمون هناك أوذوا وعذبوا وانتهكت حقوقهم وقد آن الأوان لنصرهم والدفاع عن حقوقهم. وينبغي أن تعري أنظمة العرب المدعية لحرية الأديان، والزاعمة لتأمين الديمقراطية للشعوب، وها هي اليوم تمارس العنصرية والاستبداد والانتهاك بأبشع صورها، وترسم مشهدًا موحشًا للغرب وجنوده، يتجاوز الإساءة للبشر إلى الإساءة وقلة الأدب مع الله وكلامه ووحيه، ويطال ذلك شرائع السماء كلها. اللهم إنا نبرأ إليك مما صنعه المجرمون ونسألك أن تسلط عليهم من ينتقم منهم إنك قوي شديد المحال. وبالمناسبة نذكر المسلمين ولا سيما من أهل الكتاب أن القرآن خطعت لعظمته الأفئدة وخر للأذقان سجدًا أهل العلم من أهل الكتاب حين تلي عليهم وسجل الموقف الرهيب في القرآن وتحدى الله من أعرض عن القرآن ولم يؤمن به فقال تعالى مادحًا لأهل العلم من أهل الكتاب، وقادحًا على من كذب به وأعرض عنه من أهل الأوثان {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109]. قال السعدي رحمه الله: وهؤلاء كالذين من الله عليهم من مؤمني أهل الكتاب

كعبد الله بن سلام وغيره، ممن أسلم في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك (¬1) والمشهد هنا يفوق الوصف ولا تكفي الألفاظ لتصوير الموقف فتنسكب الدموع معبرة عما يجيش في الصدور .. أمن هؤلاء المدنسون للقرآن والمحرفون لما أنزل على الرسول ممن سبقهم من نصارى قال الله عنهم {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}. اللهم اجعلنا من أهل القرآن. ¬

(¬1) (تفسير السعدي 4/ 322).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية إخوة الإسلام القرآن في غوانتناموا تدنيس أم تكريس؟ هل ما نسب إلى الجنود الأمريكان هناك تدنيس للمصحف الشريف أم تكريس للعدوان على المسلمين بشكل عام؟ أهو تدنيس للمصحف كما صنعوا أم هو تكريس للاهتمام به من قبل المسلمين كما ينبغي، فالمسلمون يدركون أن القرآن هاد لا يضل وناصح لا يغش، ومحدث لا يكذب، فيه زيادة من هدى ونقص من عمى، وشفاء من عي شافع مشفع وقائل مصدق. المسلمين لا ينبغي أن ينطلقوا في عنايتهم بالقرآن من ردود الأفعال ولكن مثل هذه الحوادث المؤسفة تذكرهم بواجبهم تجاه القرآن تعلمًا، وتعليمًا، وعناية ودعمًا، ودعوة ونشرًا للقرآن. إن حادثة تدنيس القرآن هناك تذكر المسلمين بموقف أعدائهم من القرآن والإسلام، وتنبههم إلى تعظيم الله بتعظيم كتابه، وإغاظة الأعداء بالعودة للإسلام وحمل القرآن. ولقد فهم السابقون أن القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونه بالليل ويتفقدونه بالنهار- وكذلك ينبغي أن يفهم اللاحقون من المسلمين- (كما أثر عن الحسن بن علي رضي الله عنهما) (¬1). أيها المسلمون وقفة ومصارحة ماذا وراء احتجاجنا وغضبنا لما يصنعه الأعداء بالقرآن. ¬

(¬1) (التبيان للنووي/ 28).

وشكرًا لك أيها المسلم وأنت مثاب حين تغضب لله وتدافع عن القرآن ولكن قل لي بصراحة ما وردك اليومي من القرآن حين تغضب للقرآن؟ كيف تعظيمك لأحكام القرآن حين تدافع عن القرآن؟ وما مدى عنايتك بتعليم وتحفيظ أبنائك للقرآن؟ «وخيركم من تعلم القرآن وعلمه». يا أيها الموسرون والمقتدرون وهل يدعوكم هجوم الأعداء على القرآن على البذل من أجل القرآن شجيعًا للحفظة، ودعمًا لحلق القرآن وجمعيات تحفيظه وتوزيعًا للمصحف لمن به حاجة إليه، وحين تشكر وزارة الشئون الإسلامية ممثلة في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ورابطة العالم الإسلامي ممثلة بلجنة الإعجاز للقرآن، وسواهما من الهيئات والمنظمات الإسلامية العالمية المعنية فهل يزاد من طباعة المصحف وتوزيعه إذ لا تزال الحاجة قائمة بالقرآن ولا يزال في المسلمين من يتعاقبون على المصحف الواحد؟ وهل يا ترى تزداد العناية بترجمة معاني القرآن بعدد من اللغات ليصل القرآن لكل راغب في البحث عن الحقيقة والوقوف على الجوهرة الثمينة؟ وهل من مشاريع أخرى لخدمة كتاب الله؟ وإذ نسمع بين الفتنة والأخرى عن مسابقات محلية أو عالمية في القرآن، وتحيي هذه البوادر الطيبة، فكم نتمنى أن ترحل هذه المسابقات للمسلمين في بلادهم ليتيسر لأكبر عدد من أبناء المسلمين الاستفادة من هذه المسابقات وكم هو طموح لو زيد في مدارس ومعاهد وكليات القرآن في مشرق العالم ومغربه، ليبلغ القرآن ما بلغ الليل والنهار. أيها المسلمون مشاريع كثيرة يمكن أن يفكر بها المسلمون ويدعموها في سبيل تعليم القرآن، وحينها ينتشر الهدى، ويكون الشفاء بالقرآن، ويعم النور وتنور البصائر، وتعم البشائر، وتعلو الفضيلة، وتنساح الحكمة، ويرتبط الناس

بحبل الله، ويفرح المؤمنون بفضل الله وبرحمته وذلك خير مما يجمعون .. وحينها ينقلب السحر على الساحر، وينقلب المكروه إلى محبوب، ويعلم الأعداء إن للقرآن وزنًا عند المسلمين .. وأن التحدي والاستفزاز يدعوا المسلمين إلى مزيد الاستمساك بالقرآن وتعظيمه ونشره. أيها المؤمنون على أن حادثة تمزيق المصحف في غوانتناموا تلفت نظر المسلمين إلى ما يلقاه إخوانهم المسلمون المعتقلون هناك من إهانة وتعذيب آن الأوان لأن تنتهي وينصر المسلمون إخوانهم المستضعفين هناك، فثمة تأوهات تذهب أوراح الرياح .. وثمة أنين وحنين لا يسمع في لج البحار .. وثمة ظلم تعفيه الأمواج كالجبال، ولكن الله يسمعه من فوق سبع سماوات .. أما آن للظلم أن يرفع وللمظلومين أن ينصروا. لقد أفرج عن عدد من المعتقلين لاحتجاج هيئات، أو مدافعة محامين .. وبقي أعداد من المسلمين ينتظرون فرج السماء وشفاعة الأقرباء .. اللهم فارج الكربات نفس عن من سجن ظلمًا وعدوانًا .. اللهم آنس وحشتهم، وثبت قلوبهم على الحق، وأنزل عليهم السكينة والرحمة وأخرجهم من الظلم والظلمات سالمين غانمين .. اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، وانصر أهل القرآن على من دنسوه، اللهم من أرادنا أو أراد إسلامنا بسوء فاشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميرًا عليه. اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين .. ودمر أعداءك أعداء الدين واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين.

المبادرة

المبادرة (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. إخوة الإسلام (المبادرة) لفظ جميل، ومعنى عظيم توحي بالجدية، وتشعر بالعزيمة، وتنبئ عن علو الهمة والمتأمل في كتاب الله وفي السنة النبوية يجد (المبادرة) أو ما يماثلها ويقاربها من الألفاظ (كالمسارعة والمسابقة) كثيرة، ولكن (المسارعة) في القرآن أكثر، و (المبادرة) في الحديث أكثر، أما (المسابقة) فقد وردت فيها على السواء (¬1). وأهل اللغة يقولون: المسارعة إلى الشيء المبادرة إليه (¬2). وقد تجتمع لفظة (المسارعة) و (المسابقة) في آية واحدة ويوصف بذلك أصحاب الإيمان والخشية كما في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] فما الفرق هنا بين المسارعة والمسابقة؟ كما قال المفسرون: يسارعون أي يسابقون من سابقهم إليها، ومعنى: (سابقون) السبق إلى أوقاتها، وكل من تقدم في شيء فهو سابق إليه (¬4). أيها المسلمون المبادرة والمسارعة إلى الخيرات أمر دعى إليه القرآن، وحث عليه الإسلام قال تعالى: {فاستبقوا الخيرات} [البقرة: 148]، {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} [آل عمران] وفي ذلك حث واستعجال على جميع الطاعات (¬5). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 21/ 1/ 1425 هـ. (¬2) نضرة النعيم (8/ 3388). (¬3) (لسان العرب 8/ 151). (¬4) (تفسير القرطبي 12/ 133). (¬5) (القرطبي 4/ 203).

وقال عليه الصلاة والسلام: «بادروا بالأعمال» «والتؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة» صححه الحاكم ووافقه الذهبي) (¬1). فكيف حالنا مع المبادرة؟ وكيف كان حال أسلافنا؟ لماذا يعترينا الضعف أحيانًا في المبادرة؟ وما هي الأمور المعينة على المبادرة؟ لقد شهد تاريخنا المجيد ألوانًا من المبادرات الخيرة ودلل أسلافنا على أنهم أهل مبادرات ومسارعة إلى الخيرات. وهذا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب المبادرات وإمام المسارعين للخيرات .. ومن يقرأ سيرته يقف على الكثير من المبادرات لم يتوقف عنها في العهد المكي مع شدة وطأة الكفار وألوان المطاردة والحصار .. وها هو يدعو الخلق إلى الإسلام وهو محصور في الشعب .. ويفتح الفرص لأصحابه للدعوة حتى ولو كان خارج إطار مكة .. والهجرتان إلى الحبشة نماذج عالية للمبادرة والدعوة أما ودعوته العرب صلى الله عليه وسلم في المواسم .. ثم ذهابه إلى الطائف لدعوة ثقيف فكل ذلك أدلة واضحة على قيمة المبادرة في السيرة. ثم كانت الهجرة للمدينة وما استتبعها من جهاد ودعوة مرحلة متميزة في المبادرات النبوية. أجل لقد بادر وحيد اليهود معاهدات شرقوا بها حتى نقضوها .. وبادر إلى بعث البعوث التعليمية والدعوية في المدينة وما جاورها، ومهما نزل بالمسلمين من مصائب وابتلاءات لهذه البعوث والمعارك فقد أدت هذه المبادرات دورها وسار صيت الإسلام في أرض العرب كلها .. بل تجاوزت مبادرات الرسول صلى الله عليه وسلم أرض العرب لتصل إلى أرض الروم وفارس يوم أن بعث صلى الله عليه وسلم الرسل وكتب ¬

(¬1) نضرة النعيم (8/ 3394).

الكتب لملوك الأرض يدعوهم إلى الله ويشرح لهم الإسلام ولم ينس قريشًا إذ بادرها بالحديبية، وفتح مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجًا. وفي فترة وجيزة من الزمن تغيرت الحياة في الجزيرة .. وبدأ العد التنازلي للأمم المسيطرة حينها .. ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرسل سرية (مؤتة) إلى أرض الروم .. وبلغت دعوته كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وهرقل .. ومن يدين بدينهم أو نتبع لسلطانهم مهم كان صحابته رضوان الله عليهم من بعده (مسارعين ومبادرين) وكانت حركة الفتح الإسلامي وأعداد الداخلين في الإسلام شاهدًا حيًا على هذه المبادرة. وهكذا استمر المسلمون بعدهم يدعون ويعلمون ويسيرون الجيوش حتى بلغ الإسلام شأنًا بعيدًا، ودخل العرب والعجم في دين الله أفواجًا. إن المتأمل في مبادرات المسلمين يرى أنها لم تكن قصرًا على القادة بل شملت القاعدة، ولم تكن خاصة بالكبار بل شارك فيها الشباب، ولم يتخل الضعفاء المعزورون بل شاركوا الأقوياء .. وكان للمرأة نصيبها من المبادرة ولم تكن قصرًا على الرجال، وإن مجتمعًا يشارك جميع أفراده بالمبادرات الخيرة لمجتمع خليق بالتقدير والبقاء .. ودونكم هذه النماذج للمبادرات. أ- فأبو بكر (صديق الأمة) وصاحب المبادرات في كل ميدان في الصدقة والجهاد، والصوم والصلاة، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام، وباب الريان، فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك

الأبواب من ضرورة، وقال: هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر (¬1). إنها مبادرة وطموح، وهمة عالية تدعو أبا بكر للتفكير في الإسهام في مجالات الخير كلها، وإنما تجتمع أعمال البر وأنواع المبادرات في عظائم الرجال كأبي بكر الصديق رضي الله عنه. 2 - وفي صحيح البخاري (كذلك) قال النبي صلى الله عليه وسلم: من يحفر بئر رومة فله الجنة فحفرها عثمان، وقال: من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزه عثمان (¬2) أجل لقد ورد أن عثمان اشترى بئر رومة بخمسة وثلاثين ألف درهم فجعلها للمسلمين، وأن عثمان جهز المسلمين بثلاثمائة بعير وفي رواية أنه جاء بألف دينار في ثوبه فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم حين جهز جيش العسرة حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما على عثمان من عمل بعد اليوم. أو «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم» (¬3). لله درك يا عثمان وكذلك فلتكن المبادرات في خدمة الإسلام والمسلمين. 3 - على أن المبادرات لا ترتبط بالغنى والجاه، وليست قصرًا على الأكابر والمشهورين، بل يصنعها الشباب وإن كانت شهرتهم أقل من غيرهم .. ودونكم هذه المبادرة الطموحة .. فقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: إني لواقف يوم بدر في الصف، فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما (أقوى) فغمزني أحدهما فقال يا عم أتعرف أبا جهل؟ فقلت: نعم، وما حاجتك ¬

(¬1) (الصحيح ح 3666، الفتح 7/ 19). (¬2) (الفتح 7/ 52). (¬3) الفتح 7/ 408.

إليه؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي أيضًا مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكم الذي تسألان عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه .. الحديث (¬1). تأملوا في همة هذين الشابين وطموحهما ونجاحهما في مبادرتهما، وإذا كانت تلك همة شباب هذا الجيل وغلمانهم فلا تسأل عن من فوقهم؟ ! 4 - ويكفيك أن تعلم من همم أصحاب الأعذار وأولي الضرر ما يكشف عن مبادرات القوم .. وهذا عمرو بن الجموح يصر إلى أن يطأ بعرجته الجنة فيستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد في (أحد) فيأذن له فيقاتل ثم يكون في عداد الشهداء وابن أم مكتوم الأعمى يصر على أن يحمل راية المسلمين غازيًا معهم ويقول: ادفعوا لي اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفر وأقيموني بين الصفين (¬2). 5 - وبقي أن تعلم من همم النساء ومبادراتهن أن منهن من أسلمت في ظروف المحنة والشدة بمكة، وثبتت على إسلامها، بل هاجرت إلى المدينة ولم يستطع أهلها أن يردوها كما صنعت أم كلثوم بنت عقبة بن معيط رضي الله عنها وفيها وأمثالها نزل قوله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار .. } (¬3). ومنهن من تطلعت إلى الجهاد على ثبج البحر فاستشهدت حيث طلبت كأم حرام حين غزت مع زوجها عبادة بن الصامت رضي الله عنهما فصرعتها دابتها فدقت عنقها وذلك في غزوة قبرس زمن عثمان رضي الله عنه (¬4) وكانت من قبل قالت ¬

(¬1) (البداية والنهاية 3/ 316). (¬2) (سير أعلام النبلاء 1/ 364). (¬3) (سير أعلام النبلاء 2/ 276). (¬4) (سير أعلام النبلاء 2/ 316).

لرسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهو يحدثها عن قوم يركبون البحر غزاة في سبيل الله - ادع الله أن يجعلني منهم، قال: «أنت من الأولين» فكانت منهم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا}.

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية إخوة الإيمان لا حصر لمبادرات المسلمين على امتداد تاريخهم حتى أصبحت هذه المبادرات سمة لهم ولأجيالهم وما عادت المبادرات في زمن أسلافنا مبادرات فردية بل كانت صفة لازمة للمجتمع والأمة، ولذا برز العلماء في شتى الفنون واشتهر عدد من قادة الجهاد ولمعت أسماء لا تحصى في الفتوح والثغور، وكثر العباد والزهاد، وانتشر المحتسبون والوعاظ، وكان المنفقون والمحسنون، ورحل الدعاة إلى كل صقع يحتاج إلى الدعوة والبيان، وكان عز الإسلام همًا للصغير والكبير، والذكر والأنثى والأثير والمأثور. إلى زماننا هذا ولا يزال في الأمة خير كثير، ورغم الحصار والتضييق فلا تزال المبادرات تترى، وكلما خيل للأعداء أنهم ضيقوا الخناق على الإسلام والمسلمين وإذا يخالقهم يجعل لهم من الضيق مخرجًا ومن المحن منحًا إلا أن ثمة نفرًا من المسلمين خيل لهم أن فرص الخير قلت وأن مساحة المبادرات قلت وخوفهم الشيطان من مكر الأعداء، وأوهمهم أن الجولة لغيرهم، والله يقول: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}. وآخرون من المسلمين ظنوا أنهم يكفيهم أن يعيشوا على مبادرات سلفت لغيرهم، ونسي هؤلاء أن الزمان يتجدد، وأن الجديد يعتق، وأن الدعوة تحتاج على الدوام إلى متابعة وتجديد، وأن المبادرات إلى الخيرات لم تتوقف في التاريخ ولا ينبغي أن تتوقف. إن قيم الإسلام الأساسية، وأصوله الثابتة، لا مجالًا للمزايدة والتطوير .. ولكن الوسائل التي تبلغ بها هذه الثوابت قابلة للتجديد- حسب ما تقتضيه ظروف الزمان والمكان- وما لم يمس أصل من أصول الإسلام فالتحدي قائم

في تطوير الأداء .. وتجديد ما أعتق من الوسائل، وإذا كنا نرفض منهج الذين يزعمون الإصلاح ويرون أن كل شيء قابل للتجديد- حتى وإن خالف نصوص الوحيين- فنحن كذلك نرفض منهج الجمود على القديم حتى وإن كان تحديثًا في الوسائل وتطويرًا في الأداء، ومسايرة للواقع بما لا يعارض ثابتًا في الدين أو نصًا من نصوص الشريعة. إن الجمود وعدم فقه الواقع معوق عن المبادرات التي تحتاجها الأمة وأن معرفة الواقع وفقهه سبيل معين على المبادرات الخيرة وأن الجهل بتاريخ الأمم وتجاربهم معوق عن التجديد والمبادرة. ومعرفة هذه التجارب وتقويمها والإفادة من الصالح منها سبيل ومعين على المبادرات النافعة .. إن من يستقرأ تاريخ المسلمين- في عصور العزة والتمكين- يرى أن هؤلاء تمكنوا من الإفادة من تجارب من سبقهم، لكنهم احتفظوا بأصالتهم وعزتهم، فاستفادوا من النظم، ولم يخضعوا أو بذلوا أو يضعفوا أمام أصحاب هذه النظم إلا حينما ضعفت الأمة ووقع الخلل في رجالها. واليوم يعيش المسلمون مأزقًا صعبًا، حيث يريد لهم أعداؤهم أن يصلحوا أوضاعهم لكن على منهج لا يستقيم مع إسلامهم .. ويراد لهم أن يتحضروا ولكن الثمن فقد هويتهم، ويراد لهم أن يغيروا نمط حياتهم ولكن البديل نمط وسلوكيات أعدائهم .. أنه تحدٍ لا بد أن ندرك مخاطرة وهو يسير باتجاه العولمة الغازية .. ويهيء السبيل لاستعمار العقول والأفكار بعد استعمار البلاد ونهب الثروات .. ليس يهم أن يفرض الإصلاح من الخارج أو من الداخل، ولكن المهم هو مدى قرب هذا الإصلاح أو بعده من شريعة الإسلام وليس يعنينا أن يتم التغيير

في حياتنا على يد (جورج) أو بإسم (عبد الله ومحمد) ولكن الذي يعنينا ألا تستهدف القيم بالتغيير .. وألا يتعرض للثوابت بالنقض والإبرام وأن يصير المنكر معروفًا، والباطل حقًا .. فذلك فهم منكوس للإصلاح .. إن رياحًا عاتية تهب على منطقتنا .. بل وعلى عالمنا الإسلامي ولم يعد خافيًا أن ثمة مخططات تطبخ في دهاليز الغرب ويراد لها أن تطبق على دولنا ومجتمعاتنا .. بل عادت قضايانا مجالًا لمزايدة الناخبين في الغرب، ولم يخف الساسة هناك تعاطفهم مع الصهاينة اليهود لأن هذا التعاطف مؤثر على أصوات الناخبين، وسواء كان المرشح يهوديًا صرفًا أو متهودًا. وبإزاء هذه الأوضاع المتردية والتحالفات المريبة، والمخططات الظاهرة والخفية على المسلمين أن يدركوا حجم الخطر وأن يستعدوا لهذه النوازل، وأن يتعاونوا على البر والتقوى وأن يتشاوروا في أمرهم، وألا تكون الشقة بين الحاكم والمحكوم والعالم والعاصي، وأن يحذروا من يعيشون بين أظهرهم وهواهم مع أسيادهم، وإذا كان الهجوم على المسلمين كاسحًا .. فنصيب أهل السنة منه كبيرًا .. وقد أحاطت بهم المخاطر من كل صوب، وهم مستهدفون من أكثر من عدو .. وعليهم أن يستعينوا بالله وحده فهو فارج الكربات .. وعليهم أن يراجعوا أنفسهم، فما أصابهم من مصيبة فبما كسبت أيديهم .. وعليهم أن يركنوا إلى الله فهو ركن شديد وأن يبادروا بالأعمال الصالحة، وأن يفكروا على الدوام بالمبادرات النافعة فالماء يئس إذا ركد، والقافلة تسير، وعالم اليوم يقدر الأقوياء ويسحق الضعفاء، وإذا كان الإسلام قويًا في نظمه وتشريعاته فعلى المسلمين أن يكون على مستوى إسلامهم، وألا يهنوا ويحزنوا وهم الأعلون إن كانوا مؤمنين. نعم نحن أمة لا ترفض الاستفادة من تجارب وحضارة الأمم الأخرى،

ولكنها تأبى على الذوبان والتأثر، وكلما كانت الأمة قوية كلما كانت كذلك، وأمامنا في التاريخ تجربتان حريتان بالتأمل والدراسة، كانت الأولى في زمن النبوة والخلافة الراشدة، حيث حفر الخندق، ودونت الدواوين، وبقيت الأمة محافظة على سمتها متميزة في منهجها، مستفيدة من تجارب غيرها. ثم كانت التجربة الثانية في زمن المأمون العباسي حيث حركة الترجمة ونقل علوم الآخرين .. وحين لم تكن الأمة على مستوى التحدي ولكن التجربة هذه المرة أصابت الأمة بلوثات فكرية وانحرافات سلوكية حيث بزغ فجر الكلام، ونجم التشيع والاعتزال، واتسع نطاق أهل الأهواء، ونشأ للناس-كما يقول الذهبي- علم جديد فرد مهلك لا يلائم علم النبوة ولا يوافق توحيد المؤمنين، وكانت الأمة في عافية منه .. وامتحن الناس على دينهم (¬1). ¬

(¬1) (تذكرة الحفاظ 1/ 328).

عالمية الإسلام وواقع المسلمين ومستقبلهم

عالمية الإسلام وواقع المسلمين ومستقبلهم (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره .. إخوة الإسلام: الإسلام الذي تدينون الله به وتتشرفون بالانتساب إليه، دين عالمي، رضيه الله للناس كافة، وختم به رسالات السماء، ولا يقبل الله من أحد دينًا سواه {رضيت لكم الإسلام دينًا} {ومن يبتغي غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه}. ابتدأت عالمية الإسلام مبكرة في زمن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أنزل الله عليه قوله: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرًا ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [سبأ: 28] وهو محاصر مطارد في شعاب مكة، لم يستطع حينها من إقناع قومه (القرشيين) بالإسلام فضلًا أن يطلب من غيرهم الإيمان والإسلام. لكنها رسالة الإسلام هكذا ينبغي أن تكون، وكذلك ينبغي أن يستشعرها ويحملها المسلمون، فإن قصروا أو ضعفوا عن البلاغ والمجاهدة في وقت فلا ينبغي أن ينسوا طبيعة هذا الدين، وضرورة إبلاغه للعالمين، أينما مكنتهم الظروف. أجل لقد فهم محمد رسول الله والذين آمنوا معه طبيعة هذا النداء الرباني العالمي وشعروا بواجبهم تجاه العالم الآخر ولئن كابروا وتجاهل قومهم قيمة هذا الدين وحاربوا المؤمنين وآذوهم، فينبغي أن يحمل الدين إلى أرض أخرى وإلى قوم آخرين قد يكونون أكثر عدلًا وأحسن استجابة لنداء الفطرة الإلهية، ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 28/ 7/ 1426 هـ.

وكانت الهجرة للحبشة- في زمن النبوة- نموذجًا للعالمية في دين الإسلام. وإلا ففرق بين الوطن الحبيب مكة، وأرض النعضاء البعداء- الحبشة- كما تصفها إحدى المهاجرات. وفرقة بين العرب والأحباش ثم كانت الهجرة للمدينة وكان الأوس والخزرج- وهم من أصول يمانية- أقرب للمسلمين المهاجرين من إخوانهم وعشيرتهم القرشيين وتشكل في المدينة رباط إيماني تجاوز العشيرة والقبيلة والأرض والوطن إلى أجواء العقيدة الحقة وقضاء الإخوة الإسلامية والأرض والوطن إلى أجواء العقيدة الحقة وفضاء الإخوة الإسلامية، وجاء الثناء عليه من فوق سبع سماوات {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ} (¬1) {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وكانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار حدثًا جديدًا لم يشهد له التاريخ مثيلًا في زمن الحروب الطاحنة والنعرات القبيلة والخصومات الجاهلية السائدة، وضيق العطن في التقوقع ضمن دائرة ضيق غاوية يعبر عنها الشاعر حينها بالقول. وهل أن إلا من غرية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد وفي المدينة تشكل مجتمع جديد تقوم علاقاته وتتوطد أواصره على الإيمان بالله وتنحصر محددات الكرامة فيه على (التقوى) {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ¬

(¬1) أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ.

مع بقاء «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا». واختلط العربي بالفارسي والرومي بالحبشي وتعايش الأسود مع الأبيض واختلط الغني بالفقير، وقدموا للإنسانية جمعاء نموذجًا تعجز كبرى الحضارات السالفة واللاحقة عن تحقيقه، وتقف أكبر القوى البوليسية والنازية والقمعية عن تطويق؟ وصنعه الإسلام العظيم، وأشاد به القرآن الكريم وإنما المؤمنون أخوة، والمتتبع لأحداث السيرة النبوية يرى هذه العالمية في نقل رسالة الإسلام هدفًا للنبي المختار عليه الصلاة والسلام، وهاجًا لأتباعه المؤمنين من بعده .. أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد حرص على هداية قومه ودعوتهم حتى آخر لحظة، وكتب الله لبعضهم الهداية والرشد، ومات على الضلالة والكفر من أراد الله الشقوة والنكد، وربك أعلم وأحكم ولا يظلم أحدًا. وحين حيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا وحلفاءها بمعاهدة (الحديبية) وأدب اليهود المناوئين في (خيبر) وكسر شوكتهم، توجه بعد ذلك بخطة راشدة وتخطيط سليم للدعوة العالمية مخاطبًا الرؤساء والملوك والأمراء، وبعث رسله، وكتب رسائله يبشر بالإسلام ويدعو للدين الحق، ويقول للسادة والكبراء (أسلموا تسلموا) ومهما كان نوع استجابة هؤلاء المدعوين، فقد حصل البلاغ، وأوحي لهؤلاء المدعوين بأن قوة في الأفق تلوح، وأن دينًا في الكون جديد يبشر بالخير، ويدعوا للحق، وأن جيلًا صالحًا ينشر العدل ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قد ظهر. ولم يمت محمد صلى الله عليه وسلم إلا وقد دانت العرب بالإسلام واستجابت أطراف الجزيرة لنداء الإسلام، ووصلت خيل المسلمين إلى مملكة الروم ثم أتم الصحابة الأخيار ما بدأه حبيبهم وقدوتهم، فكانت حركة الفتح الإسلامي إيذانًا

بانتشار الإسلام وتحطيم دول قامت على الكفر والظلم والاستبداد. وكانت العولمة أو العالمية (كما جاءت في المصطلح الإسلامي) هاجسًا ثم واقعًا مارسه مسلمون واثقون بدينهم، ملتزمون بقيمه حتى نجحوا في اختراق آفاق آسيا، وأفريقيا، والإمبراطورية الرومانية، والفارسية حتى يموت المجاهدون على أسوار القسطنطينية، أو يغرق في بحار الفرس، أو يستشهد في ما وراء النهر .. أو يقف على عتيات البحر ليقول: «والله لو أعلم وراء هذا البحر قومًا نبلغهم الدعوة للإسلام لامتطيت خيلي مجاهدًا إليهم. الله أكبر كم في هذه المجاهدة الراشدة من همم تموت لها أنفس الضعفاء .. ولا تنام لعزها أعين الجبناء؟ واليوم ما زاد هي المسلمون وكيف حال العالم الإسلامي؟ تقهقر وتبعية وذل وهوان، تغري أرضهم وتستعمر بلادهم وتنهب ثرواتهم، والهدف الأكبر سحق هويتهم، واستئصال إسلامهم، إنها عولمة منكوسة، وعالمية مرفوضة تلك التي تمارسها القوى الكبرى المعاصرة، وتريد بها غزو المسلمين، وفرض القيم والمبادئ الغربية المنحرفة، فهل يصح أن يستسلم المسلمون لهذا الغزو، وأن يكونوا مائدة لهذه العولمة الظالمة؟ فهل تليق أن يتخوف المسلمون من العولمة أم يمارسونها ويحققون عالمية الإسلام من خلالها؟ إن نزعة الهروب للداخل نزعة الجهلاء والجبناء، وهل يستطيع الهروب من تحاصره رياح العولمة العاتية أينما كان؟ إن ثمن الهروب أكبر من ثمن المواجهة .. والمواجهة ليست بالضرورة أن تكون بقوة السلاح، فقوة المبادئ والثقة بالنفس، والشعور بإفلاس الحضارات المادية في القيم والمبادئ، والتخلص من عقدة النقص والتجاوز لداء الإحباط، والدثر بالفأل المصحوب

بالعمل والإنتاج كل ذلك سلاح مهم في المعركة المحتدمة اليوم. على المسلمين اليوم أن ينازلوا عدوهم بما يستطيعون من عدة، وألا يستسلموا للصيحات المخزلة والمرجفة .. فالعدو يشعر بقوة الإسلام، ويتخوف من اجتماع المسلمين بل بات الذين خططوا للعولمة وبشروا بها يتخوفون من آثارها عليهم، وبات الذين يسيرون حركة التاريخ ونهضة الشعوب يتخوفون من استثمار العولمة للمسلمين للتبشير بدينهم وترحيل ثقافتهم للآخرين .. وهؤلاء الغرب يدركون أن الثقافة الإسلامية قابلة للانتشار والقبول، وأن الحضارة الإسلامية مؤهلة للقيادة والريادة. ومن هنا بدأت أصوات في الغرب تنادي بتخفيف الحماس للعولمة، بل وبعضها يصرح بـ (خيبات العولمة) وثمة محاولات جادة يقوم بها اليوم بعض أنصار العولمة لكبح جماحها وإغلاق الطريق على من يحاولون الاستفادة منها لقد باتوا يصرحون أن من الأسلم لنا أن نغلق الأبواب على هذا العالم ليبقى العالم الإسلامي في محيطه الضيق، بدل أن يتعمق في أرضنا ويهزم حضارتنا، ويسرق أضواء العولمة لصالحه؟ إنها أصوات لها ما يبررها، في دنيا الواقع .. فهل يقدر المسلمون حجتهم، وهل يدركون ما أدركه الآخرون من فاعلية حضارتهم وتأثير دينهم والقبول بمبادئهم. {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية إخوة الإيمان كيف نشعر بالعالمية ونستثمر العولمة وبعضنا لا يتجاوز في تفكيره ومشاعره حدود نفسه أو عشيرته .. بينما تمر أمتنا بالكرم ويمارس بحق إخواننا المسلمين الجرائم والموبقات العظام؟ إن النصرة للمظلوم حق مشروع في ديننا، وهو في لغة السياسة أسلوب من أساليب الدفاع عنا، وعدونا إذا نجح في احتلال أرض إخواننا وجيراننا فلن يتوقف مده الظالم عنا. إن أي أمة تنطوي على نفسها وتخاف أعداءها، وتنكمش على نفسها، يأكلها خصومها، ويعتبرونها مادة خامًا وطعمًا رخيصًا وذلك ما حذر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم بتداعي الأمم على أمة الإسلام كما تداعى الأكلة على قصعتها. إن أي أمة مهما كانت حضارتها لا ترضى أن تكون (المائدة الرخيصة) للآخرين .. وأمة الإسلام بقيمها وحضارتها أشرف وأكرم وأعز وأقوى أن تكون (قصعة) يتنافسون الطامعون في أكلها .. وكأنها ثروة من ثرواتهم المستخرجة من أرضهم .. أو نصيبًا لأيتام يتنادى لسرقتها اللئام؟ وكيف نتطلع إلى عولمة أو عالمية نفتح بها قلوب وبلاد قوم آخرين- وفينا- معاشر المسلمين- من تقف سلوكياته المنحرفة وأخلاقه الرديئة سدًا في اقتناع غير المسلمين بالإسلام. كيف نتطلع إلى نقل العالمية في الدعوة للآخرين وفنيا معاشر المسلمين من قصر في دعوة أهله وعشيرته الأقربين؟ أو أبنائه وطلابه الدارسين؟ كيف نتطلع للعالمية في دعوة الآخرين وفينا معاشر المسلمين سماعون للقوم الكافرين؟ كيف وفينا من لو خرج معنا ما زادنا خروجه إلا خبالًا وأورثونا فتنة وبلاء؟

كيف نمسح غبار الهزيمة ونتخلص من عار التبعية وفينا من يتكلمون بألسنتنا ويعيشون بيننا وقلوبهم مع غيرنا؟ كيف نحمي بلادنا ونمنع العدوان يحوس أوطاننا .. وفينا من يدلهم على العورات ويرشدهم إلى المعابر وأقرب الطرقات؟ إنها أدواء وأمرض لا نبد أن نتعافى منها، ونعالج من مرض أو ابتلي بشيء منها. أيها المسلمون ولم يعد سرًا من الأسرار أن الذين حاصروا المسلمين وغزو بلادهم وحاولوا بالقوة فرض وجودهم .. هم اليوم يعيشون في مآزق، وتلاحقهم التهم، وتزعجهم الاستنكارات الرافضة لسياستهم .. ويودون لو خرجوا من الأزمة بسلام يحمي سوآتهم ويعيد الثقة بهم .. كيف لا وهم في كل يوم يواجهون مشكلة .. ويسمعون أو يرون لافتات تندد بسيادتهم ومؤشرًا لاقتصاد بدأ يتحول للأسوأ نتيجة الإنفاق الكبير للحرب المدمرة والكتاب الغربيون يفصحون عن وضع متدن في الاقتصاد، ويكتب أحدهم مقالًا بعنوان (لا أمل ولا عمل) في جريدة نيويورك تايمز) ويقول إن أمريكا تمر بأطول زمن تراجع اقتصادي (¬1). وتشير لغة الأرقام أن تكلفة الجندي الأمريكي خارج أمريكا تكلف ربع مليون دولار في العام تقريبًا (¬2). وثمة مبشرات للعالم الإسلامي توحي ببغضه ووعيه وتمهله من غطرسة المستعمرين، وتلك سيكون لها شأنها في المستقبل إن شاء الله فالحصار المادي لا يعني حصار القيم، والهزيمة العسكرية لفترة من الفترات لا تعني دوام النصر للمعتدين. ¬

(¬1) (ملامح المستقل/ الأحمري/ 276). (¬2) (السابق/ 277).

فالمسلمون الذين أصيبوا في (أحد) وجدوا أنفسهم محاصرين وراء خندق ضيق ولكن الحصار المكاني لم يحاصر الفكرة، ولم يمت روح المقاومة، وفي غضون سنة قلب الحصار وانتقل المسلمون (بقيادة محمد صلى الله عليه وسلم) من الدفاع إلى الهجوم وعاد خصومهم الظالمون في دائرة الحصار وبين خيارات أحلاها فرٌّ، فإما أن يسمحوا للمسلمين بدخول مكة .. وإما أن يعقدوا معهم معاهدة يعترفون بقوتهم ويوقعون على عدم الهجوم عليهم. أيها المسلمون وفي مسلسل المبشرات للمسلمين أن لغة الإحصاءات تشير إلى زيادة في عدد المسلمين وانقراض في نسب أعدائهم .. واليوم يتحدث أحد أساتذة (اكسفورد) عن الوجود المتزايد للمسلمين في أوربا، وعن المسلمين المغاربة في أسبانيا، والجزائريين في فرنسا، والأتراك في ألمانيا والباكستانيين في بريطانيا ويقول: يكفي أنني اشتريت جريدة من بائع مسلم وملابس من مغسلة لمسلم، وأحضرت علاجي من صيدلية مسلم. كل هذا في شمال أوكسفورد (¬1). ومن هنا فلا يستغرب أن شرق قادة الغرب بالمسلمين .. وهاجموا وأغلقوا مراكزهم وأماكن عيادتهم .. ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره. إن على المسلمين أن يتقوا بربهم في النصرة والتمكين .. وعليهم قبل ذلك أن يصلحوا حالهم ويغيروا ما بأنفسهم، ويجمعوا كلمتهم وبالمعتقد الصحيح، وبالعلم الراشد والعمل الرشيد يتحقق للمسلمين ما وعدوا به. ومن الضعف أن يتعلقوا بمبتدعات لا أصل لها في الدين، ويقيموا احتفالات لم يأذن بها الشرع .. كمن يقيمون الاحتفالات في السابع والعشرين من شهر ¬

(¬1) (الأحرى/ ملامح المستقبل/ 190).

رجب ظنًا منهم أن ذلك زمن الإسراء والمعراج .. ولم يثبت من ذلك شيء .. والأمة اليوم أحوج ما تكون إلى تصحيح المسار .. والتجاوز عن أمور شكلية إلى أمور جوهرية في الدين .. يبدأ العولمة بإصلاح نفسه- وفق تعاليم الإسلام الحقة- ثم يدعوا غيره للهدى والرشاد .. ولن يمكن المسلمون في الأرض حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .. ولله عاقبة الأمور .. اللهم أصلح أحوال المسلمين ..

فتنة السيف (الفتنة والمخرج)

فتنة السيف (الفتنة والمخرج) (¬1) الخطبة الأولى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أيها المسلمون: خلق الإنسان في كبد، وما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة حتى يسير على الأرض وما عليه خطيئة- أين هو صبر واحتسب، وجاهد واجتهد-. وعلى الدوام تحيط بالمسلم فتنة السراء ليمتحن على الشكر، وفتنة الضراء ليمحن على الصبر {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [سورة الأنبياء: 35]. والسعيد -في خبر الذي لا ينطق عن الهوى- من جنب الفتن، فقد روى أبو داود بإسناد صحيح- عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: «أيم الله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهًا» (¬2). وثمة أمران يكرههما ابن آدم وفيهما خير له، قال عنهما صلى الله عليه وسلم: «اثنان يكرههما ابن آدم الموت، والموت خير للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب» (¬3). ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 11/ 3/ 1425 هـ. (¬2) (صحيح سنن أبي داود 3/ 108، نضرة النعيم 11/ 5205). (¬3) (رواه أحمد والبغوي في شرح السنة وذكره الألباني في الصحيحين 2/ 471، 813، السابق 5195).

إن من يتأمل في كتاب أو يقرأ في تاريخ الشعوب والأمم، يرى كيف تعرض الفتن، وكيف يفتن الناس بأنواع البلايا، ففتنة بالعذاب، وأخرى بالأموال والأولاد، وثالثة بالجوع والخوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ورابعة بالامتثال، وخامسة بالشبهات أو بالشهوات، وسادسة وسابعة بالغلو أو بالجفاء، وثامنة وتاسعة بالصدود والضلالة، أو التسليط والقهر والإبادة، وهكذا تكون الفتن ويبتلى الناس، ويعرف حينها الصادق من الكاذب والذين يصبرون ومن يجزعون {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت: 3]. وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [سورة العنكبوت: 10]. بل لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن كثرة الفتن حتى قال: «لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة فاعدوا للبلاء صبرًا» (¬1). عباد الله: ومن البلايا والفتن التي امتحن بها المسلمون قديمًا ولا يزالون فتنة الاقتتال بين المسلمين، أو فتنة (السيف) وتلك التي حذر منها المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: «إذا التقى المسلمان بسفيهما فالقاتل والمقتول في النار» (¬2). وعبد البخاري ومسلم والترمذي من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حمل علينا السلاح فليس منا» (¬3). ¬

(¬1) رواه ابن ماجة بسند صحيح (انظر: نضرة النعيم 11/ 5197). (¬2) (متفق عليه/ جامع الأصول 10/ 65). (¬3) (انظر: جامع الأصول 10/ 65).

ولقد توقف العلماء عند هذه الفتن وحذروا منها غاية التحذير وأبانوا عن آثارها المرة ونتائجها السلبية على الإسلام والمسلمين، من أمثال وقعة الحرة، وفتنة ابن الأشعث التي قال عنها ابن كثير رحمه الله: «ولهذا لما كانت هذه زلة وفلتة نشأ بسببها شر كبير، هلك فيه خلق كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون» (¬1). وتوقف الحافظ ابن حجر رحمه الله مشيرًا إلى مذهب السلف الذي استفزوا عليه بعدما حدث من الفتن والاقتتال مؤكدًا على عدم الخروج على الأئمة- وإن كانوا أئمة جور فقال: وقولهم كان يرى السيف، يعني كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور، وهذا مذهب للسلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه، ففي وقعة الحرة ووقعة ابن الأشعث وغيرهما غطة لمن تدبر بمثل هذا الرأي .. » (¬2). أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ويكشف الحقيقة أكثر، ويفصل ويحذر من أسباب الفتن ويعزوها إلى أطراف ثلاثة: 1 - فئة مذنبة. 2 - وأخرى ساكتة عن أمرهم ونهيهم. 3 - وثالثة منكرة لكن إنكارًا منهيًا عنه. ويقول من تدبر الفتن الواقعة رأس سببها ذلك وهذا نص كلامه رحمه الله فتأملوه، بقوله: وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان، فقد يذنب الرجل أو الطائفة، ويسكت آخرون عن الأمر والنهي فيكون ذلك من ذنوبهم، وينكر عليهم آخرون إنكارًا منهيًا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم فيحصل التفرق ¬

(¬1) (البداية والنهاية 9/ 59 سنة: 84 هـ). (¬2) (تهذيب التهذيب 2/ 288).

والاختلاف والشر، وهذا من أعظم الفتن والشرور قديمًا وحديثًا إذ الإنسان ظلوم جهول، والظلم والجهل أنواع، فيكون ظلم الأول وجهله من نوع (يعني ارتكاب الذنب)، وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من نوع آخر وآخر (يعني: السكوت عن الإنكار، أو الإنكار المنهي عنه) إلى أن قال الشيخ رحمه الله: ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك، ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشايخها ومن تبعهم من العامة من الفتن هذا أصلها (¬1). أيها المسلمون: إذًا علينا أن نحذر الفتن، وأن نحذر منها، وألا نسارع فيها، بل نفر منها وتلك أحد المخارج من الفتن، وطريق من طرق النجاة وإلى هذا أرشد المصطفى صلى الله عليه وسلم وأشهد الأمة على البلاغ فقال: «إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء، اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني قال: يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار» (¬2). ولقد فهم السلف هذه النصوص وحذروا من حمل السلاح في الفتن، وقال ¬

(¬1) (الفتاوى 28/ 142، 143). (¬2) رواه مسلم وأبو داود - واللفظ لمسلم (2887) واللفظ لأبي داود برقم (4/ 4256)

الخطبة الثانية

يزيد بن صهيب (الفقير) وهو أحد التابعين (¬1): «من تقلد سيفه في هذه الفتن لم يزل الله ساخطًا عليه حتى يضعه عنه» (¬2). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الأنفال: 25]. الخطبة الثانية أخوة الإسلام وإذا كان الفرار من الفتن أحد المخارج من الفتن فالمخرج الثاني هو الدعاء والتعوذ من الفتن، فقد روى مسلم وغيره من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما-: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن يقول: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات» (¬3). وإذا كان المسلم يردد هذا الدعاء كل يوم في الصلاة فهل يستشعر معناه وهو يردده؟ ومخرج ثالث من الفتن يتمثل في صدق المبادرة لعمل الصالحات والإكثار من الخيرات فهذا مندوب له المسلم في كل حين {فاستبقوا الخيرات} [سورة البقرة: 148]. {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة} [سورة آل عمران: 133]. ولكن الندب إلى ذلك في أوقات الفتن أشد وأكد، وهذا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى ذلك ويقول: «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا» (¬4). ¬

(¬1) (التهذيب 11/ 338) (¬2) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 15/ 25. (¬3) (مسلم 2/ 590)، نضرة النعيم 11/ 5199). (¬4) رواه مسلم (118).

ويرشدنا إلى فضل العبادة في الفتن حيث يقول: «العبادة في الهرج كهجرة إلي» إن الاشتغال بالعبادة فوق ما فيه من تحصيل الأجر والمغنم، فهو صارف عن الاشتغال بالقيل والقال وإضاعة الأوقات تلك التي تزيد من الفتن وتوسع دائرتها. وقد قيل: «في الفتنة يتبين من يعبد الله ممن يعبد الشيطان» (¬1). أخوة الإيمان: ومع الدعوة والعبادة والإكثار منها والانشغال بها، فكلنا ندعو للتوبة والاستغفار والتوبة ليست محرجًا من الأزمات والفتن فحسب، بل وطريق للسعادة والفلاح: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة النور: 31]. {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [سورة التوبة: 126]. وعند هذه الآية ساق ابن كثير الحديث عن أنس: «لا يزداد الأمر إلا شدة، لا يزداد إلا شحًا، وما من عام إلا والذي بعده شر منه، سمعه من نبيكم صلى الله عليه وسلم» (¬2). وقال السعدي: وفي هذه الآيات دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، وإنه ينبغي للمؤمن أن يتفقد إيمانه ويتعاهده فيجدده وينميه ليكون دائمًا في صعود (¬3). كيف نسهم في دفع الفتن؟ إذا كانت آثار الفتن تعم ولا تخص {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الأنفال: 25]. فدفع الفتن مسئوليتنا جميعًا، ويمكن أن نسهم في دفعها بالوسائل التالية: ¬

(¬1) (السنن الواردة في الفتن وغوائلها 1/ 235 عن نضرة النعيم 11/ 5217). (¬2) (تفسير ابن كثير 3/ 176)، والحديث عند ابن ماجة في الفتن. (¬3) (تفسير كلام المنان 3/ 317).

1 - تعليم العلم النافع ونشره، فالعلم مبصر للناس ومانع لهم من الفتن بإذن الله {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [سورة فاطر: 28]. 2 - التحذير من الفتن وآثارها وويلاتها، والنصح لإخواننا المسلمين على المستويات كافة: «الدين النصيحة قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». 3 - الاستمرار في مشاريع الدعوة الاحتساب، فبنشر الدعوة ينتشر الخير، وينشغل الناس بالنافع المفيد، وتصح القلوب، وتقمع الشرور والفتن، وبالحسبة يحاصر المبطلون وتنطفئ المنكرات، ويشيع المعروف، وتخفف آثار الفتن. 4 - عدم التعجل في الفتن (قولًا وعملًا) استرشادًا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشيء فيها خير من الساعي ومن يشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأ أو معاذًا فليعذ به» (¬1). 5 - الإسهام في الإصلاح حيث يقع شيء من الفتن، وتقريب وجهات النظر، وردم هوَّه الخلاف، فالخلاف شر، والله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة الحجرات: 10]، ويقول: «لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس». 6 - التنبه للمتربصين والتفطن لمن يسعون بالفتنة أو يحاولون استغلال أجوائها لبث شرورهم وباطلهم، فذلك مطلب حتى لا تتسع الفتنة وتعم البلبلة. ¬

(¬1) رواه البخاري ح 7081 (الفتح 13/ 30).

7 - تبصير الناس بأحاديث الفتن والموقف المشروع منها، وعدم التعجل في تطبيق بعض الأحاديث العامة في الفتن، وتنزيلها على أحداث خاصة- دون علم-. 8 - التأكيد على أهمية الوحدة والائتلاف وبيان النصوص الشرعية في ذلك، حتى ولو أدى إلى أن يتنازل المرء في سبيل ذلك عن بعض ما يحب- ما لم يكن حرامًا- في سبيل توحيد كلمة المسلمين {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [سورة الأنبياء: 92]. والخلاف شر، والشيطان يئس أن يعبد في أرضكم ورضي بالتحريش بينكم «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت». 9 - دعوة الناس إلى كثرة العبادة، وتذكيرهم بقيمة التوبة، فما وقع بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [سورة التوبة: 126]. 10 - المشورة بين العلماء وطلبة العلم والدعاة لدفع الفتن، والنصح للولاة لتجنيب البلاد والعباد آثار الفتن وويلاتها، فالمسلمون أمرهم شورى بينهم، والدين النصيحة، ولا بد من رفض إعجاب كل ذي رأي برأيه، ولا بد من اتهام النفس وتوطينها لقول الحق وقبوله ممن جاء به. 11 - وعماد ذلك وأساس المخرج من الفتن تحقيق التقوى، والتواصي بالصبر {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [سورة الطلاق: 2]. {يِاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إَن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} [سورة الأنفال: 29]. {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [سورة آل عمران: 120]، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر: 3]، {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران: 200].

السماحة

السماحة (¬1) الخطبة الأولى الحمد لله أوحى بتقواه وحسن عبادته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، شهد له ربه وزكاه بحسن الخلق فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم} وأمره وأدبه فقال: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}. إخوة الإسلام السماحة والسهولة والتيسير والجود والسخاء وكرم النفس معان كريمة متقاربة، وهي خلق من أخلاق الإسلام الفاضلة، دعى إليها وندب لفعلها، ومارسها المسلمون في حياتهم، فحققوا السعادة لأنفسهم، وأقنعوا الآخرين بالدخول في دينهم. عباد الله ما أحوجنا للحديث عن السماحة في زمن التلكع والمراوغة والنصب والاحتيال والفجور في الخصومة وأكل أموال الناس بالباطل، وشدة اللجاج وكثرة الخصام، والمنازعة والضغينة لأتفه الأسباب. قالوا عن السماحة إنها بذل ما لا يجب تفضلًا، وقالوا: إنها الجود عن كرم وسخاء وقالوا إنها تيسير في المعاملة، وملاينة في المحادثة، ومفاهمه جميلة، وصفح وتجاوز، وإغضاء عن الهفوات والزلات، إنها طلاقة في الوجه، واستقبال للناس بالبشر، وحسن مصاحبة للأهل والإخوان والخدم وسائر الخلق (¬2). أيها المسلمون والمتأمل في القرآن الكريم يجد عددًا من آياته تدعو للسماحة ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 1/ 8/ 1427 هـ. (¬2) (نضرة النعيم 6/ 2287/ 2288 بتصرف).

والعفو والصفح فهو أقرب للتقوى {وأن تعفو أقرب للتقوى} وهو فضل ينبغي ألا ينس {ولا تنسوا الفضل بينكم} [البقرة: 237]. بل هي دعوة للتعامل مع غير المسلمين وإن أساءوا {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109]. {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية: 14، 15]. وفي الآية كما قال أهل التفسير أمر لعباده المؤمنين بحسن الخلق والصبر على أذية المشركين به، الذين لا يرجون أيام الله أي لا يرجون ثوابه، ولا يخافون وقائعه في العاصين، فإنه تعالى سيجزي كل قوم بما كانوا يكسبون (¬1). أيها المؤمنون ديننا دين السماحة وهو أحب الأديان إلى الله، قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: «الحنيفية السمحة» (¬2). وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله قوله: أحب الدين، أي خصال الدين؛ لأن خصال الدين كلها محبوبة، لكن ما كان منها سمحًا- أي سهلًا- فهو أحب إلى الله. اهـ. السماحة في الدين لا تعني عدم طلب الأكمل .. ولا تعني التراخي المؤدي إلى الترخيص غير المشروع .. لكنها سماحة لا غلو، وترفق لا تشديد لاسيما في مواضع الرخص .. ولهذا علق ابن حجر على الحديث الصحيح الذي رواه ¬

(¬1) (تفسير السعدي). (¬2) رواه أحمد 1/ 236 بإسناد حسن (الفتح 1/ 94) وأورده البخاري في صحيحه معلقًا، لكن وصله في الأدب المفرد بدون إسناد، باب الدين يسر (29).

البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا .. إلخ الحديث (رقم 29). علق الحافظ بقوله: المعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية، ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب، قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة، بل (المقصود) منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فقام عن صلاة الصبح في الجماعة أو إلى أن خرج الوقت المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج الوقت. ثم أورد الحافظ حديث محجن بن الأدرع عند أحمد، ولفظه «إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة وخير دينكم اليسرة» ثم قال ابن حجر: وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية، فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي استعماله إلى حصول الضرر (¬1). وهكذا فرق العلماء بين التشدد المحذور وبين الترخيص غير المقبول حتى توضع سماحة الإسلام في موضعها الصحيح. إخوة الإسلام ومن هدي النبوة قبس يضيء في السماحة وأثرها حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «اسمح يسمح لك» (¬2). ¬

(¬1) (الفتح: 1/ 94، 95). (¬2) رواه أحمد وصحح إسناده أحمد شاكر 4/ 54، وفي لفظ آخر مرسل: «اسمحوا يسمح لكم» وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 330).

ترى من أفضل المؤمنين وهل له علاقة بالسماحة؟ أجل، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل المؤمنين رجل سمح البيع، سمح الشراء، سمح القضاء، سمح الاقتضاء» (¬1). وعند البخاري: «رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى» (¬2). وفي حديث عمرو بن عنبسه رضي الله عنه قلت: ما الإيمان؟ قال: الصبر والسماحة (¬3). لا إله إلا الله، كم في السماحة من خير .. وكم هي سبيل للنجاة في اليوم العصيب وإن كان صاحبها مفلسًا من عمل الخير .. قال صلى الله عليه وسلم: «حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس، وكان موسرًا، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر، فقال الله نحن أحق بذلك منه، تجاوزا عنه» (¬4). أيها المؤمنون ومن حياة السلف دروس في السماحة والتجاوز استحقوا بها درجات الجنان، فقد ورد أن عثمان رضي الله عنه اشترى من رجل أرضًا فأبطأ عليه، فقال له ما منعك من قبض مالك؟ قال إنك غبتني فما ألقى من الناس أحدًا إلا وهو يلومني، قال: أو ذلك يمنعك؟ قال: نعم، قال: فاختر بين أرضك ومالك، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدخل الله عز وجل الجنة رجلًا كان سهلًا مشتريًا وبائعًا وقاضيًا ومقتضيًا» (¬5). ¬

(¬1) رواه الطبراني في الأوسط، وقال الهيثمي رجاله ثقات (مجمع الزوائد 4/ 75). (¬2) (الفتح 4/ 2076). (¬3) رواه أحمد 4/ 385. وانظر: نضرة النعيم 6/ 2296). (¬4) رواه مسلم (1561). (¬5) (رواه أحمد وصحح إسناده أحمد شاكر ورواه النسائي وحسنه الألباني (صحيح النسائي 4379).

ومن السماحة إقالة العثرة، يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: «أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم فما تعثر عاثر إلا ويده بيد الله يرفعه» (¬1) والسماحة من خلق الكرماء .. وأين هذا ممن يتتبعون العورات، أو يفرحون بالسقطات، دون مناصحة وتلطف في القول. قيل: من عادته الكريم إذا قدر غفر، وإذا رأى زلة ستر (¬2). ومن حكم الشعر قيل في السماحة: وإني لأستحي وفي الحق مسمح ... إذا جاء باغي العرف إن أتعذرا وقال الشافعي رحمه الله: وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى ... ودافع ولكن بالتي هي أحسن. وأبلغ من ذلك كله .. أن الله يجزي المتصدقين .. إن الله يحب المحسنين. {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} جعلنا الله من المحسنين والمتصدقين، ورزقنا السماحة في أقوالنا وأفعالنا، وهدانا سبل السلام. أقول ما تسمعون وأستغفر الله .. ¬

(¬1) (المستطرف 1/ 272 عن نضرة النعيم 6/ 2299). (¬2) (السابق 6/ 2299).

الخطبة الثانية

الخطبة الثانية إخوة الإسلام وحين تضطرب الموازين ينبغي أن يعلم أن السماحة المنضبطة بضوابط الشرع قوة لا ضعف، وأن السمح عظيم وليس بالرجل البسيط .. فليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب. والأسباب الجالبة لضدها. ومن أسباب اكتساب السماحة: 1 - التأمل في الترغيبات التي رغب الله بها من يتحلى بالسماحة، والفوائد التي يجنبها أصحاب السماحة في الدنيا والآخرة فهم أسعد الناس في الدنيا لذكرهم الحسن وهم أصحاب حظ كبير في الآخرة. 2 - التأمل في المضار والمحاذير التي يقع فيها يكد النفس فهو قلق ضجر متعب لنفسه وللآخرين .. هذا فضلًا عن إفلاسه يوم القيامة حين يأتي وقد شتم هذا وضرب هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا .. فأولئك خصوم ودائنون صعب الخلاص منهم. 3 - الإيمان بالقضاء والقدر والرضاء بما قسم الله للإنسان وما قدره عليه كل ذلك يمنح لمسلم رضًا وتسليمًا وطيب نفس وسماحة، وطمأنينة. 4 - ترويض النفس على خلق السماحة والعفو والصفح والكرم حتى تستأنس بهذه الأخلاق العالية وتألفها .. فالمجاهدة طريق لتربية النفوس على المكارم. 5 - الاقتداء والاعتبار بأهل السماحة وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما أسباب الجفاء والشدة والبخل وضيق العطن- وهي ضد السماحة-، فمنها: 1 - تغليب طبيعة النفس الرديئة، والاستسلام لإغواء الشيطان ونزغاته، وعدم الاستعاذة من شره وكيده.

2 - التعلق بالدنيا واعتيازها كل شيء فلها يحب ولا يبغض من أجلها ينافح .. فصاحبها لا يهمه ما حل أو حرم .. أو أبيح أو نهى عنه، بل الحلال ما وقع بيده .. إنها أنانية تجعل المرء لا يفكر إلا بنفسه ولا يستشعر مشاعر الآخرين أو يقدر أحاسيسهم، ولذا فهو تظلمه ومسيء اللهو. 3 - ومن أسباب الشدة والجفاء ضعف الإيمان بالقضاء والقدر، والتحسر على كل فائت والحرص على كل محبوب للنفس وإن كان فيه حتفها أو كان سببًا لهلاكها. الحرص والمسابقة والعزيمة ينبغي أن تكون لأعمال الآخرة .. والسماحة والسهولة والقناعة والزهد ينبغي أن تكون للدنيا .. هكذا علمنا ديننا وأرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم. يا عبد الله روض نفسك على السماحة وطيب المعشر مع الآخرين، دون أن يكون ذلك على حساب الدين، فالسماحة والبشر، وأنصاف الناس شيء، والمداهنة في الدين شيء آخر. يا مسلم تخلق بأخلاق الكرام، وخذ بنفسك إلى جميل المروءات، واصبر على ما أصابك فإن ذلك من عزم الأمور، ومهما كان فينا من نوازع الشر وهينات الأخلاق، فلا بد من الحديث مع النفس وترويضها على جميل الأخلاق. أذكر نفسي وإياكم بآثار الأخلاق الفاضلة في الدنيا والآخرة. أن صاحب الخلق محبوب مرموق عند الناس، وهو عند الله يوم القيامة بمكان يبلغ درجة الصائم القائم الذي لا يفتر. أيها المسلمون بالأخلاق الفاضلة تدعوا الآخرين للإسلام، وبالسماحة واليسر تظهر الجانب المشرق من أخلاقنا وقيمنا ومكنوز حضارتنا.

تعود الحياة صفوًا لا كدرًا حين يفيء الناس للأخلاق الفاضلة- ومنها السماحة واليسر- تتقلص مساحة الشحناء، وتردم هوة المنازعة والبغضاء .. بالالتزام الأخلاق بأخلاقيات الإسلام يأمن الناس على حقوقهم، ويطمئنون إلى معاملة إخوانهم، فلا غش ولا ظغينة ولا احتيال ولا نصب .. ويتعلم غير المسلمين من المسلمين كيف تكون المعاملة بالحسنى وكيف يكون العدل مع البر والفاجر والصديق والعدو. إننا بحاجة إلى خلق السماحة تطهر بها أنفسنا من الغل والبخل .. وترسم في مجتمعاتنا شعار المحبة والإخاء .. حتى إذا أصرت فئة أو طائفة على خلاف ذلك وجدت في مجتمع المؤمنين رفضًا عمليًا لأخلاق الجفاء، واستنكارًا جماعيًا لموارد الهلكة والشحناء. اللهم كما أحسنت خلْقنا فأحسن خلُقنا، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرفنا عن سيئها لا يصرف عن سيئها إلا أنت. اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل ..

غزو من الخارج أم غزو من الداخل؟

غزو من الخارج أم غزو من الداخل؟ (¬1) إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره أيها المسلمون لا غرابة أن نرى أو نسمع أو نشاهد شيئًا من عداوة الكفار بمختلف أديانهم وأهدافهم .. ولكن المستغرب حقًا أن نهدد من داخل بيوتنا، وأن تشن حملات ظالمة وجائرة على ديننا وقيمنا من أبناء جلدتنا وممن ينتسبون إلى أسلافنا أولئك لا بد من الحذر منهم والوعي بمخططهم وأهدافهم، ومعرفة منطلقاتهم والتعرف على أساليبهم في المكر والمخادعة، ورسم معالم للموقف منهم، وحماية البلاد والعباد من آثارهم. أجل لقد بليت الأمة بالمنافقين في سالف تاريخها وعز سلطانها .. ونجح المسلمون حينها في كشف هؤلاء وتجاوزوا محنتهم، حتى عاد هؤلاء المنافقون يعتذرون ويحلفون وهم كاذبون واليوم تتجدد النازلة بالمسلمين بهؤلاء، وتتسع دائرة العداوة، ويكثر الإرجاف والاستهزاء، وتبلى الأمة بهؤلاء المعوِّقين .. ويتكرر الموقف المسارع لكفار {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ}، ويكثر اللمز بالمطوعين والسخرية بهم وبإسلامهم .. وهؤلاء الصنف من الناس يركبون كل موجة، ويسلكون كل وسيلة تتحقق لهم أهدافهم .. فهم قوميون .. مع ضيق عطن القومية .. حين يشتد عود القومية .. ثم تراهم ينقلبون على القومية- ولو كانت في سبيل الدفاع عن الحدود والحرمات- وينسلخون منها كما تنسلخ الحية من جلدها وربما بلغ بهم التخلي عن (الهوية) حدًا مجدوا معه الغزاة ورحبوا بالمستعمرين أيعقل هذا من ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 7/ 1/ 1425 هـ.

عربي؟ .. أفيقبل هذا الترحيب بالمستعمر الكافر من مسلم؟ ولولا كلمات القوم ما صدقنا .. وهذا أحد المحسوبين علينا ودون خجل يقول: «إنني من أكثر الناس تفاؤلًا بقدوم أمريكا إلى العراق، وعندي أسباب عديدة أولها: أن أمريكا لم تدخل بلدًا إلا وحسنت من أوضاعه .. إلى أن يقول: إنني واثق أن أمريكا ستلعب في منطقتنا دور المعلم الحازم الذي يريد النجاح لتلاميذه حتى لو تطلب ذلك درسًا قاسيًا، إن العالم العربي لن يتغير من تلقاء نفسه لذلك أقول: أهلًا بالنموذج الأمريكي الحر {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم} (¬1). لست أدري كيف تجرأ الكاتب هذه الجرأة .. وكيف تجرأت الشرق الأوسط على نقل المقال؟ إننا أمام شريحة في المجتمع غريبة في فكرها متطرفة في طرحها، جريئة في استفزازها ومهما تعددت مسميات هؤلاء أو اختلف الناس في تصنيفهم بين علماني، وعصراني، وعقلاني أو حداثي أو مستغرب أو لبرالي فالمهم أن نعرف انتماءهم وجذورهم الفكرية ومن اعترافاتهم ندينهم، وحتى لا نتجنى عليهم هذا أحد أصحاب هذه المدرسة يربط بين ثقافتهم وثقافة الغرب وتاريخهم ويقول: «إن الحديث عن حداثة عربية مشروط تاريخيًا بوجود سابق للحداثة الغربية، وبامتداد قنوات للتواصل بين الثقافتين» (¬2). و(العلمانية) التي يوصفون بها أحيانًا، لا يكتفون بالانتماء إليهم، بل ويبلغ الهوس بهم وبها حدًا يتهمون (القرآن الكريم) بالعلمنة؟ ويقول قائلهم إن ¬

(¬1) (جريدة) الشرق الأوسط 3/ 4/ 2003 م عبد العزيز الدخيل). (¬2) [القائل: محمد برادة، والمصدر د. عبد الرحمن الزبندي: العصرانية في حياتنا الاجتماعية ص 27].

الدراسة المعمقة للقرآن الكريم بين أنه علماني المنحى، وإنما حوله المسلمون إلى وجهة دينية (¬1)؟ ! وهؤلاء القوم لا يكتفون بالانخداع والمخادعة لمنهج التغريب بل يصرون- مع ذلك- على نقد المناهج التي قام عليها التراث الإسلامي ويقول أحد كبرائهم: «لكي نؤمن بفاعلية المنهج العلمي الغربي لا بد أن ننقد المناهج التي قام عليها التراث عند المسلمين لنكشف قيمتها في دائرة المنهجية القائمة اليوم» (¬2)؟ إن نظرتهم تلك للإسلام والقرآن، وارتباطهم بحضارة الغرب وثقافته وتسويقهم لفكره وترحيبهم بغزوه .. كل ذلك يجعلنا نتبين هوية القوم وجذورهم التاريخية فلا ننخدع بطروحاتهم الزاعمة للإصلاح، ولا نغر بمقدماتهم القائلة «في ضوء شريعتنا الإسلامية» أو «وفيما لا يتعارض مع ثوابتنا وقيمنا» أو من مثل قولهم: «في إطار قيم المجتمع ومبادئه» إنها عبارات خادعة، وذر للرماد في العيون، واستغفال للبسطاء! أجل لا بد أن نعي وندرك ونتدارك الأمر قبل فوات الأوان .. ففي مجتمعنا ناقوس خطر، وحصوننا تهدد من داخلها، وفينا سماعون لهم، بل ومروجون لبضاعتهم ومستبشرون بغزوهم .. فهل بعد هذا من خطر! ! إن هذه الشريحة في مجتمعنا- وإن قل عددها- لها امتداد خارجي، ولذا تراهم ينشطون أكثر حينما يقترب أسيادهم من بلاد المسلمين، وتراهم يرقصون على الجراح النازفة ويتلذذون بالمآسي النازلة .. وبالتالي فهم لا يهددون هويتنا ¬

(¬1) [القائل: حسن حنفي، انظر: د. الزنيدي، العصرانية- صـ 44]. (¬2) (محمد عابد الجابري (نقل العقل الغربي) عن د. الزنيدي، العصرانية صـ 44).

الإسلامية فحسب، بل ويهددون كياننا الاجتماعي والسياسي، ويطمع الغرب ويراهن على استخدام هؤلاء في فرض سياستهم في الشرق الأوسط، فقد ذكر مسئول في أحد مراكز البحث في (واشنطن) أن المركز يعمل لاختيار عدد من الشخصيات الإصلاحية ودعوتها إلى واشنطن للتعاون معها- في سبيل الترويج لمبادرة أمريكا لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط خلال الأشهر القادمة- وأن تلك الشخصيات ستحصل على حماية ضمنية من خلال حصولها على دعم سياسي وإعلامي سيفرضها على الساحة السياسية (جريدة الحياة) وهؤلاء ومرة أخرى بلا حياء ولا خوف يقولون مستبشرين ومبشرين بالحملة الأمريكية على بلاد المسلمين: «وإذا كانت الحملة الفرنسية على مصر ومشرق العرب، والصدمة الأولى قبل قرنين من الزمان تقريبًا قد قدمت العرب للحداثة وقدمت الحداثة للعرب، فإن الحملة الأمريكية سوف تقدم العرب للعولمة، وتقدم العولمة للعرب على أوسع نطاق» (¬1). إنهم باختصار خطر يهددنا من الداخل، وخطر يهيء السبل للمستعمر ويبشر ويمهد الطريق للغزو الخارجي .. ولا غرابة بعد هذا أن تكون حملاتهم الشعواء ضد مناهجنا الدراسية .. ومطالباتهم المتكررة بالتغيير .. وإذا حققوا شيئًا من نجاحاتهم على حين غفلة منا فهل يستطيعون تحقيق نجاحات أخرى؟ أنهم لا يحملون على علماء الأمة ورموز الصحوة الإسلامية، بل يهددون المجتمع بأسره فإذا صدرت فتوى معتبرة شنوا على المفتي حربًا لا هوادة فيها، كما حصل مع المفتي في بيانه عن منتدى جدة الاقتصادي، وإذا نجح نشاط ¬

(¬1) (تركي الحمد، الشرق الأوسط .. ).

إسلامي أجلبوا عليه واتهموا القائمين به .. كما حصل في تعليقهم على مخيم جدة الرسمي .. المرأة لم تسلم من مكرهم فهم يريدونها سافرة مختلطة .. وغاية أمانيهم أن تكون المرأة المسلمة كالمرأة الغربية في ضياعها وحيرتها وشقائها؟ والإعلام في بلادنا خرجوا به عن حدود السياسة المرسومة وتجاوزوا بنوده ومواده المقررة .. وتربعوا على ناصيتيه فلا يتيحون الفرصة- إلا قليلًا- لمن يخالفهم وينقد مسارهم أو يطرح طرحًا معتدلًا ونزيهًا. بل زادوا وتجرأوا على نقد السياسات العليا للدولة ليخلخلوها ويطرحوا البديل عنها كما حصل من أحدهم في نقد السياسة العليا للتعليم حينما استغرب أن يكون من أهداف المرحلة المتوسطة: حفز همة الطالب لاستعادة أمجاد أمته المسلمة التي ينتمي إليها ... ؟ واستغرب كذلك أن تخصص سبعة أهداف (في المرحلة الثانوية) للجوانب الإسلامية (¬1)؟ غريب هذا الطرح في زمن باتت الأمم تعتز بهويتها .. وتعمق الانتماء لفكرها في مناهج أبنائها ولكن الأغرب أن يسمح لهذا الطرح الفج .. وأن يغفل عن الأهداف من ورائه .. ؟ وأن تزيد لهجة هؤلاء لتسوق للفكر العفن القادم من الغرب .. وحين لا يخفى أن الغرب باشر غزو العرب والمسلمين إعلاميًا عبر إذاعة (سوا) ومجلة (أهلا) وأخيرًا أطلقت الإدارة الأمريكية قناة (الحرّة) الفضائية الإخبارية وباللغة العربية .. فقد يخفى على البعض أن بعض هؤلاء المرجفين المطبلين سخر في مقالة له بالذين يرفضون (قناة الحرّة) وقال أن أي أمة تخشى من محطة فضائية مهما كان لونها ومصدرها هي أمة خائفة ومترددة ¬

(¬1) (جريدة الوطن 17 شوال 1424 هـ، عدد 1168).

ودعا إلى النظر إلى هذه القناة باعتبارها إضافة جديدة للحرية التي نحتاجها مثل حاجتنا للهواء النقي. وفي المقابل يرفض هذا المطبل كل ما تبثه القنوات الفضائية إذا كانت ضد الهيمنة الأمريكية فقال: أليس هذا بذل وهوان وانتكاس في المفاهيم والقيم؟ (¬1). إذًا نحن أمام هجمة شرسة على ثقافتنا وقيمنا، وأمام تسويق مفضوح للبضاعة المزجاة لأعدائنا .. تتكئ هذه الهجمة على الإعلام، وتسخر من مناهج التعليم وتسعى جاهدة لإفساد المرأة، وترشق بسهامها الموتورة أهل الخير ولا يسلم من نقدها المسئولون والمنظِّرون للسياسات العليا في البلاد، إنها خلخلة للكيان كله، واستهداف للمؤسسات التربوية والدعوية، وتمهيد للغزاة، ومجاهرة بالفسوق وإعلان للتطرف، وتلويح بالإرهاب .. فكيف يكون الموقف، وبماذا ينقذ العباد، وتسلم البلاد؟ 1 - لا بد أولًا من الوعي واستشعار هذه المخاطر، ومعرفة أصحاب اللحن في القول، ورصد التوجهات، والتعرف على الصلات والارتباطات. 2 - ولا بد ثانيًا من النصح والمصارحة لهؤلاء فقد يكون من بين هؤلاء مغتر فيعود إلى رشده، أو جاهل مستغرق في خيالاته، وتجارب من سبقه توقفه على الحقيقة، وهذه تجربة شجاعة يقول صاحبها- بعد إذ هداه الله-: «اندفع الفكر المتغرب يشهر حربًا شاملة على الإسلام وأهله، ظانًا أن في ذلك تحريرًا للشعب وللمرأة، وإطلاقًا للعقل .. ولكنه ما درى أن تلك الحرب تأتي بنتائج عكسية تمامًا، إذا بالشعب يحطم ويشل، وإذا بالمرأة تتيه وتضيع وإذا بالعائلة تتمزق وتتخبط، وإذا بالعقل يصبح مغلولًا إلى الغرب، وإذا بالاستقلال تبعية، ¬

(¬1) (مقال د. نورة السعد، الرياض 28/ 12/ 1424 هـ) بعنوان: بضاعتنا ردت إلينا.

وإذا بالتقدم الاجتماعي مزيدًا من التخلف، ثم وصلت الأمور إلى أن يعلن ذلك الفكر نفسه أننا نعيش من الانحطاط العربي .. (¬1)؟ ! 3 - لا بد من تكاتف الجهود مع كل مخلص لحماية البلاد والعباد من خطر هؤلاء، مع اعتبار أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» واعتبار أن المركبة واحدة والسلامة للجميع. 4 - لا بد من مشاريع عملية وبناءة في الإعلام والتعليم والتربية والتوجيه والدعوة، وأن تكون شاملة للمرأة والرجل والطفل والكبير، والمثقف والعامي. 5 - لا بد من وضع حد للنقد الصارخ لسياسات الدولة العليا وفي مقدمتها السياسة التعليمية والإعلامية .. وأن الإصلاح مطلب ولكن تجريدها من عمقها الإسلامي وأهدافها العليا أمر مرفوض. 6 - الارتقاء بمستوى وعي الناس عمومًا والخيرين خصوصًا، والجرأة في التصحيح للأخطاء وتطوير الأعمال والمؤسسات حتى تكون المشاريع الإسلامية على مستوى التحدي والقدرة على الجذب والتأثير. 7 - ربط الجسور مع كل جهد خير، والتعاون مع كل عامل مخلص، وأهمية التواصل مع الآخرين وعدم الإنكفاء على الذات فمظلة الدين واسعة، وهاجس حماية الوطن من المؤثرات الخارجية والداخلية .. هدف يشمل شريحة كبرى في المجتمع. 8 - تعميم توعية الناس بالانحرافات الفكرية والأخلاقية في وسائل الإعلام عمومًا، والتنبيه إلى مخاطرها الواقعة والمستقبلية، واستنهاض الجميع ¬

(¬1) (منير شفيق، الإسلام وتحديات الانحطاط المعاصر من 148، 149، عن د. الغرنيدي، العصرانية صـ 47).

للاحتساب على المنكر والأمر بالمعروف فليس أضر على الناس من قوم يلبسون عليهم دينهم ويزيفون وعتهم؟ 9 - التواصل مع ولاة الأمر من الأمراء والعلماء وأهل الفكر، وأصحاب المال والجاه والمسئولية والتشاور معهم في وضع حد للمبطلين. 10 - التعامل مع الأحداث والمستفزات بحكمة وعمق، فلا نخدع ولا نستفز، ولا نتصرف بردود الأفعال، ولا نقابل الخطأ بخطأ آخر.

تجربتنا في التعليم والابتعاث

تجربتنا في التعليم والابتعاث (¬1) حين يكون الحديث عن العلم والتعليم فهو حديث عن أغلى موجود، كنز الحضارات وسراج الأمم، ومصباح العلم، فالعلم نور، والجهالة ظلمة. والعلم يرفع بيتًا لا عماد له ... والجهل يهدم بيت العز والشرف بالعلم يشرف الإنسان ومن جاور العالم ولو كان من جنس الحيوان. ألا ترى الله ذكر (الكلب) مع أصحاب (الكهف) في مقام الثناء .. وذكر (الحمار) في مقام الجهل يحمل أسفارًا لا يستفيد منها .. التعليم في الحضارات والدول والشعوب حجر الزاوية، ومقياس للتقدم، وسبيل للرقي، وفي العصر الحاضر تقدمت دول وأخذت مكانتها الريادية في العالم .. وكان التعليم وتطويره خطوة مهمة في هذه الريادة فقد خرجت اليابان منهلكة محطمة على إثر الحرب العالمية (هيروشيما) لكن قادتها رأوا وقدروا أن التعليم سبيلهم للنهوض والتعويض .. فكان ما كان من حضارة اليابان المعاصرة. ومن قبل كانت المدارس النظامية والتطوعية في حضارتنا الإسلامية منارات أضاءت للعالم في عصور الظلمة في الأندلس ومصر والشام وغيرها. إننا حين نتحدث عن تجربتنا التعليمية في المملكة لا بد أن تشهد بهذه التجربة قصيرة الأمد عميقة الأثر .. إنها ابتدأت من (كتاتيب أولية) وانتهت إلى (جامعات شامخة) صنعت سياستها التعليمية العليا صياغة حسنة، راعت جوانب المعاصرة ولم ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 13/ 3/ 1429 هـ.

تخل بثوابت الأصالة، فبست من تجارب الآخرين، وراعت خصوصية بلاد الحرمين، اجتهدت في جمع القيم التربوية والمهارات المتعددة، ولم تتجاوز نصوص الوحيين، شرقت وغربت في فنون الحضارات، وطافت في ميادين التجارب الأممية فأفادت منها دون أن تتأثر بسلبياتها، نظرت إلى التاريخ الماضي والمعاصر نظرة متزنة فعظمت ما يستحق التعظيم وانتقدت ما دون ذلك من سقط الحضارات وزبالات الفكر. وحين استوت هذه التجربة على سوقها كانت أهلًا لئن تصد خارج الحدود فكانت (مناهجنا) التعليمية يطاف بها بكل فخر واعتزاز في المعاهد والجامعات في العالم الإسلامي ويقتبس من نورها، بل تجاوزت هذه المناهج إلى حمل (المقررات) لتكون بين أيدي الدارسين حتى في العالم الغربي، وكانت المعاهد العربية والإسلامية، والأكاديميات- في بلاد الغرب- برهانًا على صحة مقرراتنا، وأصالة مناهجنا التعليمية، وقدرتها على المعايشة والتربية للدارسين هنا وهناك. إخوة الإسلام الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، والعلم رحم بين أهله لا تحده الحدود ولا تمنعه السدود، وفي ديننا متسع للاستفادة من تجارب الأمم والدول، ولم يترد النبي صلى الله عليه وسلم في حفر (الخندق) وفكرته (فارسية) ولم يتردد الفاروق عمر رضي الله عنه (تدوين الدواوين) وهي لم تكن من عادة العرب، بل من حضارة (الفرس) كل ذلك بما لا يمس ثابتًا من الدين أو ينحاز إلى فئة على حساب الهوية والقيم. ذلك كله يعني أننا لا نتحسس من الاستفادة من علوم الآخرين ومعارفهم، إنما تكمن الحساسية في التأثر والتأثير، والهزيمة الفكرية والاختراق القيمي .. ومن هنا فإن التحدي يكمن في الاستفادة من معارف الآخرين بعد بلورتها وأخذ

النافع منها وطرح الضار، ورفض السلبيات .. وكلما كانت التجربة للمعارف الوافدة في أرض الوطن كانت القدرة على الأخذ والعطاء منها أوسع، والفرصة للاختيار والرفض أكبر .. ويقل مرض الاختيار حين يكون التلقي خارج حدود الوطن، فالمتلقي يساق في التيار العام، وتحيط به الثقافة، ومثقفوها وآليات تنفيذها بشكل يضيق عليه فرص الانتقاء. ومن هنا فالحديث عن (الابتعاث) و (البعثات التعليمية) يحاط بفرض النجاح والفشل، ومهدد بالإخفاق كما هو ممكن للتفوق، وكما نسلط الضوء على وارداتنا الاقتصادية، ينبغي كذلك أن نسلط الضوء على وارداتنا الفكرية، وكما نحافظ على المستوى الصحي لبلادنا ومجتمعنا فكذلك ينبغي أن نحافظ على قيمنا التربوية وصحة البيئة عن التلوث بأي نوع من أنواع التلوث الحسي والمعنوي. تجربتنا السابقة في الابتعاث خلفت آثارًا إيجابية، وكان فيها سلبيات ومن الرشد أن تقيم هذه التجربة حتى يحافظ على المكتسبات ونتخفف من السلبيات كان المبتعثون من خريجي الجامعات أكثر نضجًا وأقدر على عدم الذوبان في تلك المجتمعات المنفسخة والمفلسة في جانب القيم، بل كان لعدد من أولئك المبتعثين دور في حمل رسالة المملكة هناك عبر عدد من المراكز الإسلامية والجمعيات والمساجد التي بددت شيئًا من ظلمات الحياة الغربية وغيرت نظرة الغرب للإسلام والمسلمين! وحين عاد أولئك المبتعثون الحافظون لأماناتهم والممثلون لبلدهم أصدق تمثيل والمستفيدون من علوم الآخرين وتجاربهم .. كانوا محل الإعزاز والتقدير وتسنموا مناصب وكانوا قيادات علمية وإدارية .. ولمثل هؤلاء يكون الابتعاث. على أن هناك فئة أخرى ابتُعثت وهي بعد في ريعان الشباب ومرحلة

المراهقة، وأولئك منهم من فتن وافتتن، وأفلس في ميدان العلم كما أفلس في معركة التقاليد والقيم، وعاد هؤلاء خلو الوفاق .. فما حملوا شهادات ولا استفادوا من تجارب المعرفة ولم يكونوا محل قناعة ليتسنموا مناصيت في بلادهم وكذلك تحيق المخاطر بابتعاث (المراهقين) والأمر أخطر بابتعاث (المراهقات) فالعواقب غير مأمونة. إن من أعظم المخاطر المحتملة للتوسع في الابتعاث- وخاصة لما قبل الجامعة- المخاطر الفكرية، والانسلاخ من الهوية، والمخاطر الأمنية والاختراق الثقافي والقيمي وذلك من أخطر أنواع الاختراق، فضلًا عن المخاطر السياسية، والصحية والاجتماعية .. وهي لا تقل أثرًا عن غيرها، وحين يفكر المبتعث بغير فكر أهله ومجتمعه، وحين يكون ولاؤه لمكان بعثته أكثر من ولائه لوطنه الذي بعثه فتلك كارثة .. وعلى الولاة والمخططين والمسئولين أن يعوها جيدًا. أما ابتعاث المرأة فهو يزيد في مخاطره بقدر ضعف المرأة، وحاجتها إلى أجواء آمنة أكثر من الرجل، والذئاب التي تريد أن تفترسها لا يردعها دين، ولا يمنعها حياء، ولا زج المرأة في مجتمعات الاختلاط من الخطورة بمكان، وذهاب المرأة لبلاد الكفر والإباحية دون محرم تجاوز على حدود الشرع، وتغافل عن منطق العقل، أي رعاية تلك للدرة المصونة وأين هذا من شيم العرب الذين كانوا يئدون المشقة العار؟ ويتضاعف الخطر إذا كان معظم المبتعثين من الفتيان والفتيات، فهم في مرحلة عمرية حساسة، والبيئة التي يبتعثون إليها فيها من الإغراء والفتنة والتفسخ والمجون ما يشكل مصيدة وحفرًا ملغومة لهؤلاء؟ {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}.

وحين نذكر بخاطر الابتعاث لا بد أن نبعث برسائل ناصحة للمسئولين في وزارة التعليم العالي أن يراعوا هذه المزالق وأن يحتاطوا في صيانة الشباب من المخاطر وأن تكون الملحقيات التعليمية في البلاد التي يبتعث إليها المبتعثون مراقبًا دقيقًا ومحتضنًا تربويًا يذكر المبتعث كلما نسي برسالته ورسالة بلاده. ورسالة أخرى تبعث للأولياء فهم أدرى بأبنائهم وبناتهم ونجاح المبتعث أو فشله لا قدر الله- سيطال أسرته- فلا بد من التحوط لمن يبعث، ومن يعرف عنه مراهقة في بلده فمن الظلم أن يبعث إلى بلاد التحرر والمجون .. أن أحدًا لا تستطيع إجبار أحد على الابتعاث، ومن حصافة الأسرة، ورعاية الأبوين أن يكون لها وجهة نظرهما في ابتعاث أولادهم، فهم أمانة وسيسألون عنها. ورسالة للمبتعثين تقول يا من قدر لهم الابتعاث .. الله الله في أنفسكم وإسلامكم، وأنتم تمثلون الإسلام في بلاد تعز فيها الإسلام، وتمثلون بلاد الحرمين مهبط الوحي ومنبع الرسالة وقبلة المسلمين، وخطؤكم كبير، ومسئوليتكم جسيمة، وإذا خلوت الدهر يومًا (أيها المبتعث) فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب .. أيها المبتعثون بشخص المجتمع يبصره إليكم فكونوا عند حسن ظنه بكم، ويتطلع المسئولون إلى أن تحفظوا العهد وتمثلوا البلد فكونوا كذلك. أيها المبتعث مقامك في البعثة تجربة لقوة إرادتك، وحسن أمانتك وصدق ولائك لدينك والانتماء الصادق لوطنك .. فهل تنجح في الاختبار؟ وإخفاقك في هذه الجوانب لا يعوضه نجاحاتك الأخرى مهما بلغت! وإلى السفارات في الخارج والملحقيات الدينية والثقافية سؤال يوجه ما دوركم في رعاية المبتعثين وتيسير سبل النجاح، وحمايتهم من المخاطر؟

وللمراكز الإسلامية والعاملين فيها جهد مشكور في بلاد الغرب والشرق فهل يكون من أولويات جهودهم رعاية ومتابعة هؤلاء المبتعثين، وتعريفهم بمكامن الخطر، وأقصر طرق النجاح، وإشراكهم في الملتقيات والمنتديات حتى يظلوا على صلة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. وأخيرًا سؤال كبير يطرح: وكيف يرشد الابتعاث بشكل عام؟ اللهم احفظ مبتعثينا في حلهم ورحالهم، وأعدهم إلى بلادهم سالمين غانمين، وبارك في جهود العاملين واشكر سعي المخلصين. 1 - إن أول خطوة- في ترشيد الابتعاث- في نظري هي رصد الإيجابيات للانتفاع بها وتطويرها، ومعرفة السلبيات لتجنبها وحماية المنبعثين منها، ورسم السياسات المستقبلية وفق هذه الاستراتيجيات. 2 - ومع وضع الاستراتيجيات المستقبلية المعتمدة على الدراسة والبيانات والإحصاءات، لا بد من معالجات سريعة لأي سلبية نظرًا، ولو بمسكنات حتى لا يستفحل الخطر وتتراكم الأخطاء. 3 - ولا بد كذلك من الاستمرار في تطوير جامعاتنا في الداخل، وتوفير كافة التخصصات ولو أحوج في البداية إلى استقدام المعلمين في التخصصات النادرة. 4 - الموازنة بين استقدام العقول ونقل التقنية إلى بلادنا وبين الابتعاث إلى البلاد الأخرى .. والتخلص من عقدة النقص، والشعور بتفوق الآخر، فالإصرار على النجاح يقود إليه، والخطأ طريق للصواب، ولأن نخطئ في البداية ثم نصبح في النهاية مكانًا للتصدير للآخرين .. خير من أن نخشى الإخفاق فنظل عالة على الآخرين. 5 - وموازنة أخرى بين كافة التخصصات والفئات فلا يكون الابتعاث

لتخصص أو لفئة على حساب التخصصات والفئات الأخرى، ولا بد من شرط حتى ولا المبتعث لبلده ومعتقده. 6 - ومن الموازنات المهمة الموازنة بين دول الابتعاث، فلا نركز على جهة ونهمل أخرى حتى لا نقع أسرى لثقافة واحدة. 7 - مراعاة سن المبتعث، ومدى الحاجة للتخصص من الأهمية بمكانهم لا يبتعث إلا من هو أهل للابتعاث، وفي تخصصات لم تتوفر بعد وتدعوا الحاجة إليها. 8 - ومن الحصافة استمرار دورات للمبتعثين تعرفهم بما يجليهم، وتذكرهم رسالتهم بل توسع دائرة الدول والثقافات حتى لا تبقى تحت رحمة دولة أخرى، وحتى نستفيد من كافة التجارب والثقافات ونرسم لهم معالم النجاح، ونبصرهم بمواطن الخطر، ومخاطر الابتعاث، وتكشف لهم أسباب الإخفاق .. إلى غير ذلك من أمور يحتاج إليها المبتعث، ويلزم بها المبتعثون. 9 - ولا بد بعد الابتعاث من رعاية ومتابعة تشعر المبتعث بجدية بعثته، ومتابعة من بعثه .. ولا بد كذلك من تقارير مستمرة عن المبتعث .. وهذا وإن تطلب جهدًا من الإدارة المعنية في وزارة التعليم العالي- في بلادنا- ومن الملحقيات الثقافية في الخارج .. فهو عنصر مهم من عناصر الترشيد. 10 - ولا بد من التذكير برعاية سياسة الدولة وفقها الله في التعليم فالانطلاق منها، يؤمن المسيرة بإذن الله، ويشكل حاجزًا عن تجاوز الحدود الشرعية، ويحقق التوازن بين تحصيل العلم والمعرفة وبين الحفاظ على القيم والاعتزاز بالهوية- فنحن أمة أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله .. نشكر الجهات المشرفة على الابتعاث حين تجتهد في رعاية المبتعثين بكل ما تحمله الرعاية من معان وشكرًا لسفاراتنا وملحقياتنا، ومراكزنا الإسلامية حين

تكون عينًا ساهرة ومتابعة لهؤلاء المبتعثين والشكر يزجي جميلًا لكل مبتعث فهم رسالة المبتعث، وكان نموذجًا في جديته في الطلب ونجاحه أو إخفاقه- لا قدر الله- ليس ملكًا له وحده- بل لبلاده ومجتمعه وثقافته وإسلامه ..

السلام شعارنا أهل الإسلام

السلام شعارنا أهل الإسلام (¬1) الحمد لله هو السلام ومنه السلام، وهو أهل الثناء والفضل والحمد في الأولى والآخرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحب المحسنين، ويجزي المتصدقين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أكمل الأمة خلقًا وأبرها قلبًا وأعفها لسانًا. السلام مصطلح يشع منه الدفء والرحمة والحنان .. والسلام كلمة ذات معنى عظيم .. السلام اسم من أسماء الرحمن {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} والسلام تحية أهل الإسلام في الدنيا، وتحيتهم يوم يلقون ربهم- في الآخرة- سلام السلام شعارنا أهل الإسلام .. تذل به ألسنتنا ضمان ومسلم ونتقلب فيه في علاقاتنا وتحياتنا. السلام كم يشيع من معان المحبة .. وكم يزرع من ألوان الثقة، تهدأ به النفوس، وتطمأن له القلوب، وتستقر به المجتمعات، والسلام هو المناخ المناسب للبناء الحضاري، والتقدم العلمي والاقتصادي بالسلام يأمن الخائف، ويؤمن المتخفي بإسلامه {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .. } [النساء: 94]. نحتاج للسلم في كل حال .. ونحتاج للمسلم حين تطعن لغة الحرب .. وتكون لغة القوة هي اللغة السائدة .. وفي هذه الأجواء تهلك الحرث والنسل وتتعطل المنافع .. ويحيق الخراب، وتهدر الطاقات .. وتتوقف الحياة وتشل حركة الأحياء .. ¬

(¬1) ألقيت هذه الخطبة في 11/ 5/ 1429 هـ.

إلا أن الذين يعشقون الحر بدون هدف نبيل قوم غلاظ الأكباد في مشاعرهم جفاء .. وفي أخلاقهم عوج .. لديهم أنانية، وفيهم حب للسيطرة .. وعندهم نزعة لفرض مبادئهم وأفكارهم بالقوة .. ولا حقق الله أماني من يريدون أن يقذفوا بغيرهم البحر .. أو يرجوا بهم في السجون (السلام) ما أعذب هذه الكلمة، وأعمق مدلولها .. إنها جزء مهم في الإسلام بل هي من خير الإسلام .. فقد سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ فأجابه: «تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» (¬1) هي تحيتنا أهل الإسلام منذ خلق الله أبانا آدم وقال له: اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فسلم عليهم، واستمع ما يحيونك به، فإنها تحيتك وتحية ذريتك (¬2). وهي رمز وسبب للمحبة والتآلف وطريق إلى الجنة «والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تأمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (¬3). والسلام أحد مؤشرات الإيمان، وفي البخاري معلقًا- ووصله غيره- عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان .. الإنصاف من نفسك وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار (¬4). إن في بذل السلام -لمن عرفت ومن لم تعرف-، من الصغير والكبير، والغني والفقير، والأبيض والأسود، والقريب والبعيد .. تواضعًا وصلة ومحبة توجب للعبيد رفعة الدرجات وتكفير السيئات .. فالمسلمان إذ التقيا وسلم كل منهما ¬

(¬1) (متفق عليه، مسلم (39). (¬2) (رواه البخاري في الاستئذان، باب بدء السلام). (¬3) (رواه مسلم وغيره 54). (¬4) قال ابن القيم معلقًا: وقد تضمنت هذه الكلمات أصول الخير وفروعه (زاد المعاد 2/ 407).

على الآخر تحاتت ذنوبهما كما يحت الشجر ورقه. أجل لقد كان من هديه عليه الصلاة والسلام. السلام على الصبيان (¬1) وفي هذا تعويد لهم على الخير، وإشعار لهم بالمحبة، وتقدير لمشاعرهم .. وأكرم بذلك من تربية. بل كان من هديه- عليه الصلاة والسلام- إشاعة السلام، فالصغير يسلم على الكبير والمار يسلم على القاعد، والراكب على الماشي، والقليل على الكثير، (وأولى الناس بالله من بدأهم بالسلام) (¬2). وإذا ظن البعض أن السلام في القدوم على القوم فقط، فالسنة تصحح ذلك وتضيف السلام عند الانصراف، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: «إذا قعد أحدكم فليسلم، وإذا قام فليسلم، وليست الأولى أحق من الآخرة» (¬3). وثمة تنبيه وملمح في السلام على المسلمين داخل المسجد، فبأيهما يبدأ بالتحية على المسلمين، أم بالتحية للمسجد؟ قال ابن القيم رحمه الله: ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن الداخل إلى المسجد يبتدئ بركعتين تحية المسجد، ثم يجيء فيسلم على القوم فتكون تحية المسجد قبل تحية أهله، فإن تلك حق الله تعالى، والسلام على الخلق هو حق لهم، وحق الله في مثل هذا أحق بالتقديم .. ثم ساق ابن القيم قصة الرجل المسيء في صلاته، والذي بدأ بتحية المسجد ثم السلام على النبي صلى الله عليه وسلم كشاهد لهذا وعلى هذا- كما يقول ابن القيم- يسن لداخل المسجد إذا كان فيه جماعة ثلاث تحيات مترتبة: أن يقول عند دخوله: بسم الله ¬

(¬1) (ذكره البخاري ومسلم). (¬2) أخرجه أحمد بسند صحيح (زاد المعاد 2/ 412). (¬3) (رواه أبو داود والترمذي، وأحمد وغيرهم بسند حسن (السابق 2/ 413).

والصلاة والسلام على رسول الله، ثم يصلي ركعتين تحية المسجد، ثم يسلم على القوم (¬1). أيها المسلمون وإشاعة السلام في بيوتنا ومع أهلنا وأولادنا أدب من آداب الإسلام، وسنة من سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي كذلك في بيوت غيرنا ومع أهلها بل ننهي عن الدخول عليها بغير سلام واستئذان وفي ذلك يقول ربنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27]. عباد الله- ولأهمية السلام في الإسلام- يحمل ويبلغ لمن أوصى له بذلك .. ولقد حمل النبي صلى الله عليه وسلم السلام من الله عز وجل إلى خديجة رضي الله عنها وبشرها ببيت في الجنة (متفق عليه). وحمل عليه الصلاة والسلام سلام جبريل عليه السلام إلى عائشة رضي الله عنها رواه البخاري (2447) وأكرم بنساء تحمل لهن السلام من السماء وفي ذلك إكرام الإسلام للمرأة- أيما إكرام-؟ وإذا حمل محمد صلى الله عليه وسلم السلام فأمته حرية بحمل السلام وتبليغه وإقرائه .. فذلك نوع من الوصال والاتصال وإشاعة المحبة بين المسلمين. وإن حجبتهم ظروف الزمان أو المكان ومن أخطائنا التهاون في حمل السلام. أيها المسلمون .. وإذا كان بدء السلام سنة وهو مؤشر لخيرية من بدأ فرد السلام واجب، ورد التحية بمثلها أو أحسن {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 91]. إن رد التحية بأحسن منها تفاعل وإيجابية وتأكيد للمحبة .. وويل للمتكبرين ¬

(¬1) (زاد المعاد 2/ 413، 414).

الذي لا يريدون السلام، وإن ردوا فبنوع من البخل والكبر .. قد لا يسمع المسلم فيقع في نفسه شيء، وقد يسمعه لكن بكلمة مختصر .. أو بتعابير للوجه سيئة .. وقد يشير برأسه أو بيده .. متكبرًا عن الرد بلسانه والترحيب بكلماته. كل ذلك خلاف هدي الإسلام في التأليف والمواساة بين المسلمين، وخلاف هدي محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان يبدأ من لقيه بالسلام، وإذا سلم عليه أحد رد عليه مثل تحيته أو أفضل منها، وعلى الفور دون تأخير .. إلا لعذر كصلاة أو قضاء حاجه، وكان يسمع المسلم رده عليه، ولم يكن يرد بيده ولا رأسه ولا أصبعه، إلا في الصلاة (¬1). ومن الأخطاء الشائعة في السلام استبدال تحية الإسلام بغيرها كأن يبتدئ المسلم بالقول (صباح الخير، أو مساء الخير) أو نحوها من عبارات لا ترقى إلى مقام (السلام عليكم) ولا يؤجر صاحبها كما يؤجر على البدء بالسلام .. ومثل ذلك الاكتفاء بهز الرأس أو الإشارة باليد دون السلام .. وخطأ آخر في رد السلام حين تستبدل (وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته) بأهلًا أو مرحبًا .. أو نحوها .. مما لا تفي بحق المسلم، ولا تصل إلى مرتبة (وعليكم السلام) إن بإمكانك أخي المسلم أن تضيف ما تشاء من عبارات التحية والتقدير والثناء والدعاء .. لكن بعد الإتيان بالواجب (وعليكم السلام). أخي المسلم لا تحرم نفسك الأجر .. ولا تبخل على أخيك بمزيد الدعاء .. وحين تقول: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) فقد خزن ثلاثين حسنة .. وكلما أقللت قلت الحسنات، فالسلام عليكم بعشر .. وفرق بين عشر وثلاثين. وإذا جاد عليك أخوك بالسلام بالثلاثين .. فلا تبخل عليه في الرد بما دون ¬

(¬1) (ابن القيم، زاد المعاد 2/ 419).

ذلك والله يقول: {فحيوا بأحسن منها أو ردوها}. ومن الأخطاء في السلام القول في ابتداء السلام: (عليك السلام) فتلك تحية الموتى، كما ورد أن أبا جرى الهجيمي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عليك السلام يا رسول الله، فقال: «لا تقل عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الموتى» (¬1). ولأهل العلم كلام في تحرير هذه المسألة وتعليلها، فقد ذكروا أن الدعاء بالسلام دعاء خير، والأحسن في دعاء الخير أن تقدم الدعاء على المدعو له كقوله تعالى: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} {وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت} {سلام عليكم بما صبرتم}، وأما الدعاء بالشر فيقدم المدعو عليه على الدعاء غالبًا {وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين} {عليهم دائرة السوء} {وعليهم غضب ولهم عذاب شديد}. ولا ينبغي أن يفهم من الحديث: أن السلام على الموتى يبدأ (بعليكم السلام) فإن السنة أن تسلم عليهم كما يسلم على الأحياء (السلام عليكم درا قوم مؤمنين) وإنما قال ذلك النبي إخبارًا عن واقعهم والمشهور في أشعارهم كقول قائلهم: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما وليس القصد أن ذلك مشروع .. بل السنة لا تختلف في تحية الأحياء والأموات (فليعلم) (¬2). والمهم أن يبدأ السلام بالدعاء .. ولا يبدأ بـ (عليكم). أيها المسلمون وثمة أمر من الأهمية بمكان الإشارة إليه، وبيان الخلاف فيه، ¬

(¬1) رواه أحمد، وأبو داود والترمذي، وهو حديث صحيح (زاد المعاد 2/ 420). (¬2) (زاد المعاد 2/ 420، 421 مع الهامش).

ألا وهو ابتداء السلام على أهل الكتاب، والرد عليهم، وقد عقد ابن القيم رحمه الله فصلًا في هديه صلى الله عليه وسلم في السلام على أهل الكتاب، وقال: صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تبدأوهم بالسلام، وإذا لقيتمهوم في الطريق فاضطروهم إلى أضيق الطريق» لكن قد قيل: إن هذا كان في قضية خاصة لما ساروا إلى بني قريظة قال: «لا تبدؤوهم بالسلام» فهل هذا حكم عام لأهل الذمة مطلقًا، أو يختص بمن كانت حاله بمثل حال أولئك؟ هذا موضع نظر، ولكن قد روى مسلم في «صحيحه» من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق، فاضطروه إلى أضيقه» (¬1) والظاهر أن هذا حكم عام. وقد اختلف السلف والخلف في ذلك، فقال أكثرهم: لا يُبدؤون بالسلام، وذهب آخرون إلى جواز ابتدائهم كما يرد عليهم، روي ذلك عن ابن عباس، وأبي أمامة وابن محيريز، وهو وجه في مذهب الشافعي رحمه الله، لكن صاحب هذا الوجه قال: يقال له: السلام عليك فقط بدون ذكر الرحمة، وبلفظ الإفراد: وقالت طائفة: يجوز الابتداء لمصلحة راجحة من حاجة تكون له إليه، أو خوف من أذاه، أو لقرابة بينهما، أو لسبب يقتضي ذلك، يروى ذلك عن إبراهيم النخعي، وعلقمة. وقال الأوزاعي: إن سلمت، فقد سلم الصالحون، وإن تركت، فقد ترك الصالحون. واختلفوا في وجوب الرد عليهم، فالجمهور على وجوبه، وهو الصواب، ¬

(¬1) رواه مسلم (2167) في السلام: باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وأبو داود (5205) في الأدب: باب في السلام على أهل الذمة، والترمذي (1602) في السير: باب ما جاء في التسليم على أهل الكتاب، وأخرجه أحمد 2/ 266 و 346.

وقالت طائفة: لا يجب الرد عليهم، كما لا يجب على أهل البدع وأولى، والصواب الأول، والفرق أنا مأمورون بهجر أهل البدع تعزيرًا لهم، وتحذيرًا منهم، بخلاف أهل الذمة. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين، والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، فسلم عليهم (¬1). وصح عنه أنه كتب إلى هرقل وغيره: السلام على من اتبع الهدى (¬2). ¬

(¬1) أخرجه البخاري 11/ 32 في الاستئذان: باب التسليم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين، وفي الجهاد: باب الردف على الحمار، وفي تفسير سورة آل عمران: باب {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا}، وفي المرضى: باب عيادة المريض راكبًا وماشيًا ومردفًا على الحمار، وفي اللباس: باب الارتداف على الدابة، وفي الأدب: باب كنية المشرك، وأخرجه مسلم (1798) في الجهاد: باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على أذى المنافقين، وأخرجه أحمد في «مسنده» 5/ 203. (¬2) أخرجه البخاري 11/ 40 في الاستئذان: باب كيف يكتب إلى أهل الكتاب، وفي بدء الوحي: باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والسلام والإحسان، ومسلم (1773) في الجهاد: باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام.

§1/1