شروط النهضة

مالك بن نبي

مالك بن نبي شروط النهضة ترجمة عبد الصبور شاهين بإشراف ندوة مالك بن نبي دار الفكر

مالك بن نبي مشكلات الحضارة شروط النهضة ترجمة: - عمر كامل مسقاوي - عبد الصبور شاهين إصدار ندوة مالك بن نبي

تصوير 1406هـ-1986م جميع الحقوق محفوظة

بسم الله الرحمن الرحيم في عام 1971، ترك أستاذنا مالك بن نبي، رحمه الله، في المحكمة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم 67/ 275 في 16 ربيع الثاني 1391 الموافق 10 حزيران 1971، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية. وتحملاً مني لهذه الرسالة، ووفاءً لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذاً لوصية المؤلف بـ "ندوة مالك بن نبي". والتسمية هذه، دعوة إلى أصدقاء مالك بن نبي وقارئيه، ليواصلوا نهجاً في دراسة المشكلات، كان قد بدأه. وهي مشروع نطرحه كنواة لعلاقات فكرية، كان رحمه الله يرغب في توثيقها. وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجماً من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني، رحمه الله، مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإنوجدت طبعات لم تذكر فيها إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها. طرابلس لبنان 18 ربيع الأول 1399 15 شباط (فبراير) 1979 عمر مسقاوي

مقدمة الطبعة الفرنسية

بسم الله الرحمن الرحيم مُقَدِّمَةُ الطَّبْعَةِ الْفِرَنْسِيَّةِ بِقَلم الدكتور عَبْد العَزِيز الخَالِدي لكي أقوم بتقديم هذه الدراسة أجد بين يدي سيرة عاصفة مؤثرة أعرفها في الجزائر، ولكني ملزم بأن أدع الحديث عنها، لأن المؤلف قد منعني صراحة من مجرد الإشارة إليها، وأحتفط مع ذلك بحقي في الحديث عن العمل الذي تحتل فيه هذه الدراسة مكانا هاما، منتهيا إلى بيان الطابع الخاص، والقيمة الاجتماعية التي نجدها حتى في كتابه (لبيك) (1) الذي اعتبره بعض القراء غريبا عن الأفق الوضاء الذي خطه كتاب (الظاهرة القرآنية). ويلفت انتباهنا في كتاب (الظاهرة) هذا، ذلك الحشد من المشاكل التي يثيرها مدخله، وطريقته الجديدة التي طبقها المؤلف للمرة الأولى على تفسير القرآن. وأيا ما كان، فلقد تأثر المؤلف في كتاب (الظاهرة) بمشهد شباب الإسلام الذين استهوتهم المناقشة الخطيرة بين العلم والدين، فاستخلص من هذه المناقشات نتائج وثيقة أراد تبليغها للضمائر الأخرى. ولكن دقة النقد، وعمق التحليل، وصرامة المنطق الذي يقود إلى هذه النتيجة، كل هذه الأمور ثانوية في عمل ينبع تأليفه والهدف منه من المغزى الدرامي للمشكلة أكثر من أن ينشأ عن المغزى العقلي. وبن نبي في الواقع ليس كاتبا محترفا، أو عاملا في مكتب مكبا على أشياء

_ (1) هي القصة الوحيدة التي كتبها المؤلف، وقد اتجه فيها اتجاها أدبيا.

خامدة من الورق والكلمات، ولكنه رجل شعر في حياته الخاصة بمعنى الإنسان في صورتيه الخلقية والاجتماعية. وتلك هي المأساة التي شعر بها بن نبي بكل ما فيها من شدة، وبكل ما صادف في تجاربه الشخصية النادرة من قساوة. وهي التي تقدم المادة الأساسية لمؤلفاته سواء (الظاهرة القرآنية) أو الدراسة التي يقدمها اليوم كأنشودة بهيجة يحي بها (كوكب المثالية) الذي يسجل فجر الحضارات منذ العصور المظلمة. ولكن هذه الأنشودة ثمرة عقل يحاول فتح آفاق عملية للنهضة العربية والإسلامية، التي يطالبنا بها في الجزائر، وهو يكشف لنا عن مفهومها الأليم. فإذا كان دقيقاً حساسا إلى هذه الدرجة، فليس معنى ذلك أنه رجل عقل مغرم بالتجريد، أو أنه أديب فنان مولع بصور الجمال، فإن الذي يأسره ويستولي عليه إنما هو الرعشة الإنسانية ... الألم ... الجوع ... الأسمال ... الجهل ... فهل من يفكر من أول وهلة في مواجهة هذه المشكلات يكون غير فقيه؟ لقد عاش بن نبي هذه المشكلات تماما كالآخرين الذين اتخذوا منها معارج انتخابية، يتحدثون منها عن البؤس حتى درجة الإشباع التي تناسب جميع صنوف الدجل والاستغلال، ونحن نعلم اليوم ما يؤدي إليه مثل هذه الحالة من الاختلال والقحط والفوضى. ولكن التجربة الشخصية تعني عند بن نبي شيئا آخر: فهي سبب لتأمل في الدواء، ومن هذا التأمل تبدأ المأساة في أن تصبح عنده مشكلة فنية، فهو يقودنا بتحليله الدقيق الوثيق في أركان التاريخ لكي يكشف لنا عن (الدورة الخالدة) التي ألهمته الأنشودة الجميلة التي صدّر بها هذه الدراسة. ولكن قبل اقتراح الحل. يجب أن تزول تماما الأنقاض من الفناء الغاص ببقايا انحطاطنا. ورواسب الفوضى التي عشنا فيها سنين عديدة. وهذا الكتاب قد استطاع في فصوله الأولى أن يلقي الضوء على تلك الحقبة

الهامدة، والتي حركتها بصعوبة (التقاليد البطولية) ثم أعقبتها مرحلة (الفكرة). ولكن تراثا وثنيا قد تبقى في أعماق الضمير الشعبي الذي شكلته القرون المليئة بخرافات الدراويش. فإذا كان غول الدراويش قد صرعه الإصلاح، فإن غولا جديدا يمكن أن يظهر أيضا. وهو لا يشترط وجود أولياء أو أحجبة وحروز، ولكن أوثان سياسية، وبطاقات للتصويت. هذا هو الصراع بين الفكرة والوثن، الذي أصبح طابعا جديدا للمأساة الجزائرية، وبدهي أن الإدارة الاستعمارية لم تكن غافلة وهي تعرف كيف تستغل هذا الوضع لكي يتفرق الشعب الجزائري، وتتبعثر قواه. وأكثر من ذلك فإن المشكلة التي نحن بصددها قد أسيء تكييفها سواء عند دعاة الإصلاح أو رجال السياسة. إن الاستعمار ليس مجرد عارض، بل هو نتيجة حتمية لانحطاطنا: هذه هي المشكلة، ولا جدوى من فكرة لا تسلم بهذا المسلّم الأساسي الذي يبرزه بن نبي وهو يؤكد أنه " لكيلا نكون مستعمَرين يجب أن نتخلص من القابلية للاستعمار" هذه الجملة البسيطة هي، فيما أعتقد، الإشعاع النوراني الأول، الذي استرسل لينير حلبة الصراع لنا، ولقد أضاءها من قبل نور تلك الآية المذكورة هنا كأساس للنظرية كلها {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. ومع ذلك فإن المؤلف يرى من المفيد أن يقدم أيضا التبرير التاريخي، والنقدي، والعقلي، لهذا الأساس الرباني، الذي قد يفزع العقل الديكارتي. وهو يعتبر هذا التبرير- الذي يكشف في بعض الصفحات عن أصول فلسفته- من القوانين التي تحكم أطراد الحضارات، وهنا ينبثق حل المشكلة كنتيجة حتمية لهذا الدرس التاريخي.

والنظرية تتكون جزءا فجزءا، بطريقة منطقية، طبقا للتكوين الأساسي لكل حضارة، حيث تتكون من الإنسان والتراب والوقت. فإذا طبقت هذه النظرية على بلاد العروبة مثلا، فإنها تستوجب تكييفا للانسان الأمي، والتراب البائر، والوقت الضائع. والمؤلف يبدأ نظريته هذه في ذلك الرمز الذي صدر به الباب الثاني والذي صاغه في كناية بارعة، وجمال أدبي فذ، وإلهام اجتماعي عميق. وخطوة خطوة يكشف لنا عن العناصر التي تبدو في نظرنا ثانوية لا تستحق التفكير، والتي تنال هنا اهتماما رئيسيا، لأن اتصالها الحقيقي بتطورنا وحياتنا يظهر أمامنا فجأة، ولقد قال فاليري: " كل سياسة تقتضي (وهي عموما تجهل أنها تقتضي) فكرة معينة للإنسان ورأيا عن مصير النوع الإنساني، فكرة غيبية تذهب من المادة البحتة إلى التصوف الشاطح ". فهل فكر أحد في مشكلة الرجل والتراب والوقت والمرأة والزي والتكيف والثقافة، التي هي جوهر المشكلة الإنسانية كلها؟ وتكوين المؤلف كمهندس قد ساعده دون شك في التصوير الفني للأشياء، ولكن ثقافته المزدوجة تسمح له بأن يصل هذا التصور بالخطة الإنسانية، بنفس الثقة التي تطبع خاتمته المؤثرة. ونضيف هنا أن الأمر لا يتعلق بعمل مفيد للجزائر فحسب، لأن هذه الدراسة تتعدى بعبقريتها حدود الجزائر، لكي تضم مجال العالم الإسلامي كله، حيث أنها تتضمن المشكلة الإنسانية في سائر عناصرها. ونظريه بن نبي تلقي ضوءا على التجديد الإسلامي الذي يتجلى فيه قطبا النهضة: الروح والفن. وهو حين يقدم في النطاق العقلي والخلقي مثله الباهر، فإنما يعطي لهذين القطبين منتهى الوضوح.

ونحن نأمل أن تخدم هذه الدراسة سير النهضة في العالم العربي وفي العالم الإسلامي، اللذين يجب أن تتوافق صحوة ضميرهما مع ضابط النغم في الضمير العالمي، الذي يبحث بصورة مؤثرة عن وسائل طمأنينته في طريق السلام والديمقراطية. ونحن نريد أيضا أن تتقبل الدول الكبرى هذه الصحوة لا " كخطر إسلامي"، ولكن كنهضة لمئات الملايين من الناس الذين جاؤوا بدورهم ليساهموا في الجهود الخلقية والعقلية للإنسانية. فهل تستطيع الشبيبة العربية والإسلامية التي وجدت في ظروف مواتية أن تحرك هذه النهضة، التي يعتبر بن نبي داعيا وحاديها؟ وأنا لا أريد هنا أن أخالفه، فأبدي له تقديري الشخصي كأخ لي وكأستاذ. نوفمبر 1948 دكتور عبد العزيز الخالدي

مقدمة الطبعة العربية

مُقَدِّمَةُ الطَّبْعَةِ الْعَرَبِيَّةِ إن نشر الطبعة الأولى لهذا الكتاب، باللغة العربية، قد أظهر الاهتمام المتزايد الذي تحظى به في البلاد العربية والإسلامية بوجه عام المشكلات التي تمت إلى علم الاجتماع. فالجيل الحاضر، يبدي أكثر فأكثر، رغبته في تفهم الوقائع الاجتماعية وآليتها. لذلك فقد كان طبيعيا أن يبدي بعض قراء الطبعة الأولى رأيهم في الكيفية التي عالجت فيها بعض الوقائع. ولقد لمست من خلال مناقشاتي مع هؤلاء القراء أن بعض التفسيرات التي قدمتها لهم عن تلك الوقائع لم تعطهم كل ما كنت أتمناه من التوضيح؟ وإن من هذه النقط التي تبين لي اكتنافها بشيء من الإبهام رغم ما أردت لها من الوضوح تلك التي تتصل بدور الفكرة الدينية كعامل اجتماعي يؤثر في توجيه التاريخ. ولعلي لم أكن فيما عرضت لهذه النقطة في الطبعة السابقة قد أوفيتها حقها من التفصيل، وذلك لاقتناعي بالتفسير المختصر للدور الذي تقوم به الفكرة الدينية في التاريخ، ولما اعتمدت عليه من آراء لكسر لنج H.Kesserling في الموضوع، أعني تلك الآراء التي استخلصها من دور الفكرة المسيحية (1) في تركيب الحضارة الغربية. وهكذا اتفقت آراء القراء على غموض هذه النقطة بالذات واقترحوا أن

_ (1) تناولت هذه الآراء في فصل "الدورة الخالدة"

بعقد فصل كامل في هذا الكتاب لتوضيح دور الفكرة الدينية في التاريخ. وحيث لا يسعني هنا إلا أن أؤيد هذه الملاحظات اعترافا مني بجدارتها. فقد وددت أن أستغل فرصة الطبعة الثانية للكتاب لأضيف إليه فصلا يعالج بالخصوص أثر الفكرة الدينية في الدورة الحضارية معتمدا هذه المرة على الاعتبارات النفسية الاجتماعية بالإضافة إلى الاعتبارات التاريخية التي اقتنعنا بها في الطبعة السابقة. ونحن حينما نتناول الأشياء على هذه الصورة، إنما نعطي للقارىء فرصة يلمس فيها بنفسه التأثير المباشر للفكرة الدينية في الوقائع النفسية الاجتماعية التي تكون ظاهرة التاريخ، فعندما نقول في فصل "من التكديس إلى البناء" إن الفكرة الدينية تتدخل كـ" مركب" ( Cataliseur) ، في تركيب عناصر التاريخ فنحن في هذا نقرر حقيقة يؤيدها تاريخ الحضارات غير أن هذا التأييد سوف يأتي على صورة "شهادة" عن هذه الظاهرة وليس في صورة "تفسير" مقبول لها. ومن هنا كان للقارىء بعض الحق في أن لا يقتنع بهذه " الشهادة" أي أن لا يقتنع بما يقول المؤرخ وحده دونما مزيد من التفاصيل عن الفكرة الدينية في عملها المباشر في صياغة النفوس التي تحرك التاريخ بما يختلج فيها. من أجل ذلك فقد شعرت أن القارىء ينتظر في هذا الموضوع أكثر من شهادة التاريخ: إنه ينتظر وصفا تحليليا يجد فيه المعلومات التي تقدمها الدراسات الموضوعية لهذه الظاهرة. أعني الدراسة التي تتناول الأشياء في كنهها لا في مظهرها. ولقد حاولت تلبية هذه الرغبة المحقة فخصصت في هذه الطبعة فصل " أثر الفكرة الدينية في مركب الحضارة". سالكا هذه المرة مسلك التحليل النفساني الذي يبين بوضوح أكبر جانب من " الظاهرة" في هذا المركب، إذ يكشف لنا عن التأثير المباشر للفكرة الدينية في خصائص الفرد النفسية. وأنا في هذا لا أدعي أن هذه الطريقة تعطي للقارىء " معرفة رياضية" في

الموضوع، لأن هذا الموضوع لا مجال فيه للرياضيات حيث يتصل بعالم النفوس، وهو عالم يقصر العقل التجريدي عن أن يكشف سره تماما. غير أنه يمكننا القول بأن هذه الطريقة التي اتبعناها تعطي على الأقل للقارىء فرصة يتتبع فيها كيف تحدث عملية التركيب بتأثير الفكرة الدينية، وذلك بنظرة مباشرة تختلف عن نظرة التاريخ غير المباشرة. ومما تنبغي الإشارة إليه هنا أن الفصل الذي تحدثنا فيه عن هذا الموضوع قد كتبناه في الحالة التي يكون فيها عالم الاجتماع الذي يحاول توضيح دور الفكرة الدينية في تكوين وتطوير الواقع الاجتماعي. مع العلم أن هذا الدور ليس هو كل شيء بالنسبة للفكرة الدينية. ذلك أننا قبل أن نشرع في البحث عن صلاتها بعالم الشهادة، قد تقبلنا أولا صلتها بعالم الغيب، وبعبارة أدق فإن الفكرة الدينية لا تقوم بدورها الاجتماعي إلا بقدر ما تكون متمسكة بقيمتها الغيبية في نظرنا، أي بقدر ما تكون معبرة عن نظرتنا إلى ما بعد الأشياء الأرضية. غير أن هذه النظرة ليست موضوع هذا البحث. فنحن قد خصصنا لها دراسة أخرى (1) ولذلك فإن بحثنا هنا سوف يقتصر على الجانب الاجتماعي. ومن ناحية أخرى فإن القارىء سوف يجد في هذه الطبعة فصلا عقدناه لتوضيح العلاقة بين المبدأ الأخلاقي وذوق الجمال. وذلك لإظهار أثره الكبير كعامل يحدد اتجاه الحضارة ورسالتها في التاريخ. وأظن أن هذا الفصل هو أول بحث تناول العلاقة بين المبدأ الأخلاقي وذوق الجمال باعتبارها مقياسا من أهم مقاييس علم الاجتماع. وبهذا فإننا نكون قد حققنا على قدر ما نستطيع إرادة القارىء في هذه الطبعة. ونحن نأمل أن نكون، فيما أضفناه من جديد، قد أشبعنا رغبات القراء التي تعتبر أحسن مسوغ لجهود المؤلف. المعادي 30/ 10/ 1960 م. ب. ن.

_ (1) راجع كتاب الظاهرة القرآنية.

الباب الأول الحاضر والتاريخ

الْبَابُ الْأَوَّلُ الْحَاضِرُ وَالتَّارِيخُ

أنشودة رمزية

أُنْشُوْدَةٌ رَمَزَيَّةٌ أي صديقي: * لقد حانت الساعة التي ينساب فيها شعاح الفجر الشاحب بين نجوم الشرق. * وكل من سيستيقظ بدأ يتحرك وينتفض في خدر النوم وملابسه الرثة. * ستشرق شمس المثالية على كفاحك الذي استأنفته، هنالك في السهل، حيث المدينة التي نامت منذ أمس ما زالت مخدرة. * ستحمل اشعاعات الصباح الجديد، ظل جهدك البارك، في السهل الذي تبذر فيه، بعيدا عن خطواتك. * وسيحمل النسيم الذي يمر الآن البذور التي تنثرها يداك ... بعيدأ عن ظلك. * ابذر يا أخي الزارع. من أجل أن تذهب بذورك بعيدا عن حقلك، في الخطوط التي تتناءى عنك ... في عمق المستقبل. * ها هي بعض الأصوات تهتف. الأصوات التي أيقظتها خطواتك في المدينة، وأنت منقلب إلى كفاحك الصباحي. وهؤلاء الذين استيقظوا بدورهم، سيلتئم شملهم معك بعدحين. * غنِّ! يا أخي الزارع! لكي تهدي بصوتك هذه الخطوات التي جاءت في عتمة الفجر، نحو الخط الذي يأتي من بعيد. * وليدوِّ غناؤك البهيج. كما دوّى من قبل غناء الأنبياء، في فجر آخر، في الساعات التي ولدت فيها الحضارات.

* وليملأ غناؤك أسماع الدنيا، أعنف وأقوى من هذه الجوقات الصاخبة التي قامت هنالك. * ها هم ينصبون الآن على باب المدينة التي تستيقظ، السوق وملاهيه، لكي يميلوا هؤلاء الذين جاؤوا على إثرك، ويُلهوهم عن ندائك. * وها هم قد أقاموا المسارح والمنابر للمهرجين والبهلوانات، لكي تغطي الضجة على نبرات صوتك. * وها هم قد أشعلوا المصابيح الكاذبة لكي يحجبوا ضوء النهار. ولكي يطمسوا بالظلام شبحك، في السهل الذي أنت ذاهب إليه. * وها هم قد جملوا الأصنام ليلحقوا الهوان بالفكرة. * ولكن شمس المثالية ستتابع سيرها دون تراجع، وستعلن قريبا انتصار الفكرة، وانهيار الأصنام، كما حدث يوم تحطّم "هُبل" في الكعبة.

دور الأبطال

دَوْرُ الْأَبْطَالِ إن عهود الملاحم كالأوديسة والألياذة ليست هي العهود التي توجه فيها الشعوب طاقتها الاجتماعية نحو أهدافها الواقعية، سواء أكانت هذه الأهداف بعيدة أم قريبة. بل هي تصرف في مثل هذه العهود طاقتها تسلية واشباعا لخيالاتها. وما جهود الأبطال الذين يقومون بأدوارهم في تلكم الملاحم إلا جهود من أجل الطموح واكتساب المجد أو إرضاء العقيدة، فهم لا يقاتلون مدركين أن نصرهم قريب، وأن طريقهم إلى تخليص مجتمعهم محدد واضح. فمجدهم هذا أقرب إلى الأسطورة منه إلى التاريخ. ولو أننا سألنا أحدهم عن بواعث كفاحه، فإنه لا يستطيع أن يجد بكل وضوح المبررات التي تتصل عادة بالأعمال التاريخية، فهو يعلم أن مجهوداته كلها تذهب هباء، غير أن دوافعه الدينية وشرفه الإنساني قد حتما عليه مثل هذا السير. ولقد كان دور الشعوب الإسلامية أمام الزحف الاستعماري خلال القرن الماضي وحتى الربع الأول من هذا القرن دورا بطوليا فقط. ومن طبيعة هذا الدور أنه لا يلتفت إلى حل المشاكل التي مهدت للاستعمار وتغلغله داخل البلاد. إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها ... وما الحضارات المعاصرة، والحضارات أو تهدمها ... وما الحضارات المعاصرة، والحضارات الضاربة في ظلام الماضي، والحضارات المستقبلة إلا عناصر للملحمة الإنسانية منذ

فجر القرون إلى نهاية الزمن، فهي حلقات لسلسلة واحدة تؤلف الملحمة البشرية منذ أن هبط آدم على الأرض إلى آخر وريث له فيها، ويا لها سلسلة من النور! .. تتمثل فيها جهود الأجيال المتعاقبة في خطواتها، المتصلة في سبيل الرقي والتقدم. هكذا تلعب الشعوب دورها، وكل واحد منها يُبعث ليكوّن حلقته في سلسلة الحضارات، حينما تدق ساعة البعث معلنة قيام حضارة جديدة، ومؤذنة بزوال أخرى. وما أجلّ هذه الساعة!. حينما تؤذن بفجر جديد من المدنية، وما أهولها من ساعة حينما تعلن غروب أخرى!. وهكذا كان شأن الجزائر عام 1830، فقد مضى على أفول شمسها زمن بعيد، وقضت في ليلها وقتا ليس بالقصير، ومن عادة التاريخ ألا يلتفت للأمم التي تغط في نومها، وإِنما يتركها لأحلامها التي تطربها حينا، وتزعجها حينا آخر؛ تطربها إذ ترى في منامها أبطالها الخالدين وقد أدوا رسالتهم، وتزعجها حينما تدخل صاغرة في سلطة جبار عنيد. فعندما برق في أفقنا فرس الأمير (عبد القادر) في وثبته الرائعة كان الليل قد انتصف منذ وقت طويل ثم اختفى سريعا شبح البطل الأسطوري كأنه حلم طواه النوم. ثم توالت أشباح أخرى في موجة من الأحلام. تستمد مغزاها الأليم من تقاليد شعب بطل، أحب دائما الفرس والبارود، وكان تتابعها على الأخص في البوادي، حيث الخيل المسومة، والمجال الفسيح متوفران لدى القبائل. فالرابطة القبلية قد ظلت وحدها الرابطة الوثيقة التي توحد بعض الرجال فيما يشبه وحدة رسالة، غير أن هذه الرابطة لم تكن بكافية لتأهيل شعب ليؤدي رسالة تاريخية، وإن كانت أهلته للقيام برواية حماسية رائعة، ولكن التاريخ يقرر أن الشعب الذي لم يقم برسالته، أي بدوره في تلك السلسلة، ما عليه إلا أن يخضع ويذل.

ولم يكن هناك في الحقيقة من يسجل هذه الحقبة من كفاح الشعوب ضد الاستعمار سوى هؤلاء المجاهدين من رجال القبائل، ولقد كان الأمير (عبد الكريم الخطابي) آخر من ارتشف من كأس البطولة الموروثة عن أجدادنا الأول، ولم يبق بعده باق ممن يهبون للنضال ضد المستعمر، من أجل البطولة المجردة، في سبيل الخلود، على سنة الذين عقدوا ألويتهم للكفاح، فقد كانت القبائل العربية البربرية تقاتل معه لا من أجل البقاء، ولكن في سبيل الخلود، ولقد كتب لها الخلود بما أوتيت من روح رفعتها فوق الهاوية، حيث هوى الآخرون، من الشعوب التي غمرتها موجة الاستعمار. فليسأل السائل عن مصير القبائل الأمريكية قبل كريستوف كولومب، أين هي؟ لقد أصبحت أحاديث وتمزقت كل ممزق، ودفنها التاريخ في طياته، حيث استقرت في ضميره نسيا منسيا، ونحن نرى في زوالها وانحلالها خير شاهد على أن الإسلام بما انطوى عليه من قوة روحية، كان للذين يتمسكون به درعا من أن تحطمهم الأيام، أو يذوبوا في بوتقة المستعمِر، يتقمصون شخصيته. ولكن شمس المثالية ما تزال تواصل سيرها، وسرعان ما انبلج الفجر في الأفق الذي يدعو فيه المؤذن إلى الفلاح، كل صباح، ففي هدأة الليل، وفي سبات الأمة الإسلامية العميق، انبعث من بلاد الأفغان صوت ينادي بفجر جديد، صوت ينادي: حيَّ على الفلاح! فكان رجعه في كل مكان، إنه صوت (جمال الدين الأفغاني) موقظ هذه الأمة إلى نهضة جديدة، ويوم جديد. ***

دور السياسة والفكرة

دَوْرُ السِّيَاسَةِ وَالْفِكْرَةِ إن الكلمة لَمِن روح القدس، إنها تساهم إِلى حد بعيد في خلق الظاهرة الاجتماعية، فهي ذات وقع في ضمير الفرد شديد، إذ تدخل إِلى سويداء قلبه، فتستقر معانيها فيه، لتحوله إلى إنسان ذي مبدأ ورسالة. فالكلمة يطلقها إنسان، تستطيع أن تكون عاملاً من العوامل الاجتماعية حين تثير عواصف في النفوس تغير الأوضاع العالمية. وهكذا كانت كلمة جمال الدين، فقد شقت كالمحراث في الجموع النائمة طريقها، فأحيت مواتها، ثم ألقت وراءها بذورا لفكرة بسيطة: فكرة النهوض، فسرعان ما آتت أكلها في الضمير الإسلامي ضعفين، وأصبحت قوية فعالة، بل غيرت ما بأنفس الناس من تقاليد، وبعثتم إلى أسلوب في الحياة جديد. وكان من آثار هذه الكلمة أن بعثت الحركة في كل مكان، وكشفت عن الشعوب الإسلامية غطاءها، ودفعتها إلى نبذ ما كانت عليه من أوضاع ومناظر، فانكرت من أمرها ما كانت تستحسن، واتخذت مظاهر جديدة لا تتلاءم حتى مع ثيابها التي كانت تلبسها، فنبذت النرجيلة والطربوش والحرز والزردة (1). ولقد يلغ تأثير تلك القوة الفعالة الجزائر فأخذت منها بنصيب. فمأساة الجزائر مثلاً حتى سنة 1918 لم تكن إلا رواية صامتة، أر أثرا من الآثار التاريخية وضع في متحف، أي في صدور قوم صامتين يعلمون السر الخفي للمأساة، حتى أرّقت ضمائرهم، واحتوته أيضا ملفات الحكومة التي كانت تعلم من أمرها ما تعلم، حتى إذا ظهرت الفكرة الإصلاحية حوالي سنة 1925 تحركت المشكلة الجزائرية، وقد أوتيت لسانا ينطق، وفكرة تنير لها الطريق.

_ (1) هي الوليمة التي يقيمها رجال الطرق في أحفالهم، ويطلق عليها العوام في مصر "الفتة".

والذين أدركوا شبابم في تلكم الأيام يتذكرون تلكم الخواطر التي كانت تمر بهم. وليس من شك في أن التاريخ يرى في مثل هذه الظواهر خير شاهد على رجوع الحاسة الاجتماعية إلى الجزائر، بمعنى أنها قد عادت إلى الحياة التي يستأنف فيها كل شعب رسالته، ويبدأ تاريخه. أما في الماضي فقد كانت البطولات تتمثل في جرأة فرد، لا في ثورة شعب، وفي قوة رجل، لا في تكاتف مجتمع، فلم تكن حوادثها تاريخا، بل كانت قصصا ممتعة، ولم تكن صيحاتها صيحات شعب بأكمله، وإنما كانت مناجاة ضمير لصاحبه، لا يصل صداه إلى الضمائر الأخرى، فيوقظها من نومها العميق. وإنه لمن الواجب علينا أن ننوه ببعض ما كان من أمر مناجاة الشيخ (صالح بن مهنة) الضميرية الفردية- إن صح التعبير- فإن صوت مناجاته كاد يوقظ أهل قسنطينة كلها حوالي سنة 1898. والحق أن هذا الشيخ الوقور كان في طليعة المصلحين، إذ أنه قام قومة مباركة ضد الخرافيين (الدراويش)، غير أن الحكومة الساهرة على الهدوء، كيلا يستيقد النائمون، عملت على إبعاده وعاقبته بمصادرة مكتبته الثمينة، وفرقت أمثاله من (مقلقي النوم العام) في نظر الاستعمار، فحولت الشيخ (عبد القادر المجاوي) من منصبه بمدرسة قسنطينة، إلى مدرسة العاصمة، وهكذا استطاع النوم أن يشد بالأجفان من جديد، بعد أن حاولت تفلتا من قيوده، ومضت هذه الأصوات التي كادت أن تلفت إليها الأذهان، وتجمع حولها الناس، وكأنها شجار حدث في وسط ليل: لم ينتبه إليه نائم. ولكن شعاع الفجر قد بدأ ينساب بين نجوم الليل، من قمة الجبل. فلم يلبث أن محت آياته الظلمة من سماء الجزائر. فحوالي عام 1922، بدأت في الأرض هينمة وحركة، وكان ذلك إعلانا لنهار جديد، وبعثا لحياة جديدة. فكأنما

هذه الأصوات استمدت من صوت جمال الدين قوتها الباعثة، بل كأنها صدى لصوته البعيد، لقد بدأت معجزة البعث تتدفق من كلمات (بن باديس) (1) فكانت تلك ساعة اليقظة، وبدأ الشعب الجزائري المخدر يتحرك، ويا لها من يقظة جميلة مباركة، يقظة شعب ما زالت مقلتاه مشحونتين بالنوم، فتحولت المناجاة إلى خطب ومحادثات ومناقشات وجدل، وهكذا استيقظ المعنى الجماعي؛ وتحولت مناجاة الفرد إلى حديث الشعب، فتساءل الناس: كيف نمنا طويلاً؟ وهل استيقظنا حقا؟ وماذا يجب أن نفعل الآن! ولقد كانت هذه الأسئلة على شفاه قوم غمرتهم الدهشة، وما زالوا يتقلبون في خدر النوم، يتلمسون منه فكاكا. كانت الحكومة في شك من أمرها، ومن المفيد أن نذكر كم كانت بطيئة في تكيفها مع الظروف الجديدة، فبعد عشر سنوات، أي حوالي عام 1933، لم تكن هذه الحكومة قد تفهمت تلك الظروف، إذ نجد أن حاكم الجزائر- وقد أصدر لائحته المشهورة التي حرمت المساجد على العلماء المصلحين- نجده يصفه الشعب الجزائري بأنه " شعب خامل"!!. ومن الواجب أن نذكر أن هذا الخمول الذي لم يكن إلا في الإدارة الاستعمارية الشائخة هو السبب الأساسي للبلاء، بينما البلاد قد شاعت فيها الحيوية، وامتلأت بالغليان والثورة. لقد انطلقت الأفكار، ثم تلاقت وتصارعت، فكانت أحيانا تنفجر شأن فقاقيع الهواء على سطح (الغلاية)، وأحيانا أخرى تتحول مباشرة من حالة الجمود إلى حالة التبخر والشيوع، في صورة مدرسة، أو مسجد، أو مؤسسة إصلاحية، وظهرت النظريات الاجتماعية التي كانت يومئذ رائجة في سوق الأفكار، ظهرت هذه النظريات في أفكار الشباب المتطلعين إلى كل تجديد، فهذا يرنو إلى المذهب الكمالي، وذاك يأخذ بالمذهب الوهابي، وذلك ينزع إلى التمدن الغربي، ومنهم من انحدر بفكره إلى مذهب المادة، وكل واحد من هؤلاء وأولنك

_ (1) أحد زعماء الإصلاح في الشمال الإفريقي

يتخذ ملبسا يعبر عن نزعة تفكيره، فهذا يلبس القبعة ليشعرنا بأنه يقفو أثر مصطفى كمال، وأنه تزعم تحرير النساء، وأنه يريد أن ينشر في البلاد التدريس المدني (اللاديني)، وأنه يريد أن يبدل مكان الشريعة القانون الوضعي. ونرى من بين هؤلاء وأولئك عمائم الإصلاح، تدلنا على منهاج آخر يقوم على عقيدة صحيحة، ورجوع إلى السلف الصالح، وتغيير ما بالنفس من آثار الانحطاط. ولكنا نرى أن هذه القيادات والاتجاهات- رغم تباينها واختلافها- كانت متفقة على نقطة هي: إرادة الحركة والتجديد والفرار من الزوايا الخرافية إلى المكاتب العلمية، ومن الخمارات الحقيرة إلى مواطن أكثر طهارة وفائدة. ولقد كانت حركة الاصلاح التي قام بها العلماء الجزائريون أقرب هذه الحركات إلى النفوس، وأدخلها في القلوب، إذ كان أساس منهاجهم الأكمل قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ). فأصبحت هذه الآية شعار كل من ينطرح في سلك الإصلاح في مدرسة (بن باديس) وكانت أساسا لكل تفكير. فظهرت آثارها في كل خطوة، وفي كل مقال، حتى أشرب الشعب في قلبه نزعة التغيير فأصبحت أحاديثه تتخدها شرعة ومنهاجا، فهذا يقول: لا بد من تبليغ الإسلام إلى المسلمين، وذاك يعظ: فلنترك البدع الشنيعة البالية التي لطخت الدين، ولنترك هذه الأوثان. وذلك يلح: يجب أن نعمل، يجب أن نتعلم، يجب أن نجدد صلتنا بالسلف الصالح، ونحيي شعائر المجتمع الإسلامي الأول. وإنه لتفكير سديد؛ ذلك الذي يرى أن تكوين الحضارة كظاهرة اجتماعية إنما يكون في نفس الظروف والشروط التي ولدت فيها الحضارة الأولى، كان هذا صادرا عن عقيدة قوية، ولسان يستمد من سحر القرآن تأثيره، ليذكر الناس بحضارة الإسلام في عصوره الزاهرة.

والشعب المتدين الطروب كان مصغيا ... ولكن المستقبل هدف بعيد، فلا بد من طرق واضحة ودفعات قوية لكي يدرك هدفه. وإذن فيجب أن تحدد الكلمات معالم هذه الطرق، وأن تحتوي على الخمائر المباركة لهذه الدفعات. وعلى الرغم من قوة عبارات الإصلاحيين الجزائريين، فإن هذه الكلمات قد انحرفت- أحيانا وبكل أسف- عن أهدافها، لأسباب تضاد المنهج، فلقد كان النوم يحذرهم عن أن ينشروا وعيهم وجهدهم باستمرار، فكانت النتيجة انحرافا. ولا نتيجة، لأن الحكمة قد تركت مكانها للانتهازية السياسية. ولكن مهما كان شأن جمعية العلماء إزاء ذلك الانحراف، ومهما كان ركونها أحيانا إلى التفكير غير المنهجي، فإنها لا تزال في طليعة النهضة الجزائرية الصحيحة، ومن أقوى محركاتها. على أن من الممكن أن يتحول هذا النوع من التفكير غير المنهجي إلى انتهازية خطيرة (1)، وبخاصة في العصور المضطربة عندما تؤدي كل خطوة خاطئة إلى الموت أحيانا. فليس للانحراف طرق مرسومة نظريا، ولكن له دروبا مظلمة يتعثر فيها السائر في كل خطوة. وهنا يظهر السبب الذي دعا العلماء إلى أن يسيروا عام 1936 في القافلة السياسية التي ذهبت إلى باريس كأكبر سبب جرَّ الحركة الإصلاحية الحزائرية إلى أول انحرافها. فبأي غنيمة أرادوا أن يرجعوا من هناك، وهم يعلمون أن مفتاح القضية في روح الأمة لا في مكان آخر؟ وبأي شيء في الحقيقة قد رجعوا؟ ألم يرجعوا باخفاق المؤتمر الجزائري

_ (1) قد بينت الظروف أن هذه الانتهازية قد انتشرت بالفعل في الأوساط التي تقود الحركة الإصلاحية الجزائرية.

وبتشتيت جمعيتهم نفسها؟ فلقد ساد الرأي الانتخابي، وأصبح قائدا بدلاً من أن يكون مقودا، وهكذا انقلبت الحركة الاصلاحية على عقبها، وأصبحت تمشي على قمة رأسها، لا على قدميها وما كان الأمر خاصا بالجزائر، بل كان العالم الإسلامي مصابا بمثل ما أصاب الجزائر، فقد نشأت فيه التيارات الحزبية، وانعكست فيه روح السمو وقوة الصعود والنهوض، إلى عاطفة سفلية، وجاذبية سطحية. وربما كان عام 1936 في الجزائر هو القمة التي بلغها روح الكفاح والاصلاح الاجتماعي، وهي نفسها القمة التي هبط منها الاصلاح إلى هاوية لا قرار لها. وكان ذلك قبيل حرب عام 1939، عندما أوعدت سحبها السوداء في أفق العالم. ومن المحزن حقا أن العالم الاسلامي- إبان هذه الحقبة- قد استسلم لرقاد طويل، فلم يفطن لساعات التاريخ الفاصلة، ولم يحاول انتهاز فرصتها السانحة، ليتخلص من الاستعمار. ***

دورة الوثنية

دَوْرُ الْوَثَنِيَّةِ ((إذا فصلت السياسة عن الدين فقدت معناها .. كل طفل فى مدرستنا يدري الأنظمة السياسية في الهند، ويعرف كيف أن بلاده تتقد بإحساسات جديدة وبآمال جديدة، ولكننا أيضاً في حاجة إلى الضوء الثابت المستقر. ضوء الأيمان الديني)) ((غاندي)). من المعرو ف أن القرآن الكريم قد أطلق اسم الجاهلية على الفترة التي كانت قبل الإسلام، ولم يشفع لهم شعر رائع، وأدب فذ، من أن يصفهم القرآن بهذا الوصف، لأن التراث الثقافي العربي لم يكن يحوي سوى الديباجة المشرقة، الخالية من كل عنصر "خلاق" أو فكر عميق. وإذا كانت الوثنية في نظر الإسلام جاهلية، فإن الجهل في حقيقته وثنية، لأنه لا يغرس أفكارا، بل ينصب أصناما، وهذا هو شأن الجاهلية، فلم يكن من باب الصدفة المحضة أن تكون الشعوب البدائية وثنية ساذجة، ولم يكن عجيبا أيضا أن مر الشعب العربي بتلك المرحلة، حين شيد معبدا للأقطاب (الدراويش) المتصرفين في الكون، ومن سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم، والعكس صحيح أحيانا. وهكذا كان شأن الجزائر فإنها كانت حتى عام 1925 - على الرغم من إسلامها- تدين بالوثنية، التي قامت نصبها في الزوايا، هنالك كانت تذهب الارواح الكاسدة لالتماس البركات، ولاقتناء الحروز ذات الخوارق والمعجزات، غير أنه ما إن سطع نور الفكرة الإصلاحية حتى تحطم ذلك المعبد، فخرت الأوثان مع أسف عماتنا وخالاتنا اللاتي أدهشهن ما رأين. وبالفعل فقد خمدت نيران أهل الزردة (الفتَّة)، وزالت عن البلاد حمى الدراويش، وتخلصت منها الجماهير بعد أن ظلت طوال خمسة قرون ترقص على دقات البنادير، وتبتلع العقارب والمسامير مع الخرافات والأوهام.

ولقد ذهبت بذهابهم تلك الجنة التي وُعِدها المريدون بلا كد ولا عمل، إلا ما يتلمسون من رضا الشيخ ودعواته، وحلت مكانها جنة الله التي وَعدَها المتقين العاملين. وهكذا أتيح (للإصلاح) أن يمسك مقاليد النهضة الجزائرية، وأمكنه أن يبعثها خلقا آخر بالروح الإسلامية التي تخلصت من كابوس الأوثان، وكأني بالفكرة الإصلاحية قد بلغت أوجها وانتصرت يوم افتتاح المؤتمر الجزائري عام 1936، مما جعلنا نتساءل: هل سوف نمضي هكذا حتى النهاية؟ لقد كان ذلك ممكنا، لو لم يشعر العلماء المصلحون- بكل أسف- بمركب النقص إزاء قادة السياسة في ذلك العهد (1)، فمالؤوهم وسايروهم، ظنا منهم أنهم سوف يذودون عنهم نوائب الحكومة، ولقد كان ذلك ممكنا لو لم يكونوا على استعداد للعودة إلى فكرة الزوايا ذات الطابع السياسي، والأصنام المزوقة بأسماء جديدة. لقد كانوا يستطيعون أن يبلغوا ذلك، لو أن أوراق الحروز التي نبذها الشعب لم ترجع إليه باسم أوراق الانتخابات، ولو أن العقول التي كانت تصدق بالمعجزات الكاذبة، لم تعد مرة أخرى تصدق بمعجزات صناديق الانتخابات، ولو أن الزردة التي كانت تقام في ساحات المشايخ لم تعقبها الزردة التي تقام في الميدان السياسي، والتي أصبحت تقدم فيها الأمة قربانها من حين إلى حين. لقد كان من واجبنا أن ننتبه فلا نلدغ من حجر مرتين، غير أننا لم نكن في الواقع قد تخلصنا من الأسلوب الخرافي، ذلك الأسلوب الطفولي الذي نتجت عنه قصة ألف ليلة وليلة. تلك القصة الذي استطبنا مذاقها في عصور انحطاطنا، وكان لها تأثيرها في جونا الخلقي والاجتماعي. ولقد كان حقيقا بنا أن نوصد مرة واحدة في عام 1936 باب التيه، فلا ندع أرواحنا تسبح في متاهات لا حد لها. ولو اننا احتطنا لأنفسنا بمثل هذه

_ (1) ويبدو لنا على ضوء الحوادث الأخيرة، مع كل أسف، أن قيادة جمعية العلماء في الجزائر لا زالت مصابة بهذا النقص الذي يسلبها حق القيام بواجبها أمام الانحرافات السياسية التي تفضل أن تسير معها عوض أن تقومها.

الاحتياطات البسيطة لاستطعنا منذ ذلك التاريخ أن نواجه الواقع. وأن نحل مشكلتنا بأيدينا حلا واقعيا علميا. فلقد كان على الحركة الاصلاحية أن تبقى متعالية على أوحال السياسة والمعامع الانتخابية، ومعارك الاوثان. ولكن العلماء آنذاك قد وقعوا في الوحل - حيث تلطخت ثيابهم البيضاء، وهبطت معهم الفكرة الاصلاحية فجرت في المجرى الذي تجري فيه (الشامبانيا) في الأعراس الانتخابية، الممزوجة أحيانا بدم تريقه اليد السوداء لاغتيال الاصلاح (1). ولئن كان هنالك شيء يؤسف له منذ عام 1925، فإن أكبر أسفنا على زلة العلماء، التي كانت زلة نزيهة، لما توفر فيها من النية الطاهرة، والقصد البريء. ومع ذلك فإنه يجب أن لا يغرب عن بالنا أن الحكومة الاستعمارية كانت هي السبب الخارجي لتلك الخطوة المشؤومة التي خطاها العلماء نحو السراب السياسي، وكان ذلك حينما تكونت في فرنسا الجبهة الشعبية التي بذلت الوعود بغير حساب. ولكن ألم تكن المعجزة الحقة في تحويل الأمة وتقدمها شيئا أغلى من هذا السراب؟ ألم يكن موطن المعجزة هو ما دل عليه القرآن، أي في النفس ذاتها؟ أوَ لم يكن العلماء أنفسم ينهلون من ذلك الينبوع معجزتهم من عام 1925 حتى عام 1936، إذ كانوا يغيرون ما بنفس الفرد، ذلك التغيير الذي هو الشرط الجوهري لكل تحول اجتماعي رشيد؟ وإذن فلا يجوز لنا أن نغفل الحقائق، فالحكومة مهما كانت ما هي إلا آلة اجتماعية تتغير تبعا للوسط الذي تعيش فيه وتتنوع معه، فإذا كان الوسط نظيفا حرا، فما تستطيع الحكومة أن تواجهه بما ليس فيه، وإذا الوسط كان متسما بالقابلية إلى الاستعمار فلا بد من أن تكون حكومته استعمارية.

_ (1) يشير المؤلف هنا إلى حادث مقتل المرحوم مفتي العاصمة سنة 1936.

هذه الملاحظة الاجتماعية تدعونا لأن نقرر أن الاستعمار ليس من عبث السياسيين، ولا من أفعالهم، بل هو من النفس ذاتها، التي تقبل ذل الاستعمار، والتي تمكن له في أرضها. وليس ينجو شعب من الاستعمار وأجناده، إلا إذا نجت نفسه من أن تتسع لذل مستعمر، وتخلصت من تلك الروح التي تؤهله للاستعمار. ولا يذهب كابوسه عن الشعب- كما يتصور البعض- بكلمات أدبية أو خطابية، وإنما بتحول نفسي، يصبح معه الفرد شيئا فشيئا قادرا على القيام بوظيفته الاجتماعية، جديرا بأن تُحترم كرامتُه، وحينئذ يرتفع عنه طابع "القابلية للاستعمار"، وبالتالي لن يقبل حكومة استعمارية تنهب ماله، وتمتص دمه، فكأنه بتغيير نفسه قد غير وضع حاكميه تلقائيا إلى الوضع الذي يرتضيه (1). ولا شك في أن يلازمة السياسية الراهنة تعود في تعقدها إلى أننا نجهل أو نتجاهل القوانين الأساسية التي تقوم عليها الظاهرة السياسية والتي تقتضينا أن ندخل في اعتبارنا دائما صلة الحكومة بالوسط الاجتماعي، كآلة مسيرة له، وتتأثر به في وقت واحد، وفي هذا دلالة على ما بين تغيير النفس وتغير الوسط الاجتماعي من علاقات متينة، ولقد قال الكاتب الاجتماعي (بورك): " إن الدولة التي لا تملك الوسائل لمسايرة التغيرات الاجتماعية لا تستطيع أن تحتفط ببقائها" (2). ومن الواضح أن السياسة، التي تجهل قواعد الاجتماع وأسسه لا تستطيع إلا أن تكوّن دولة تقوم على العاطفة في تدبير شؤونها، وتستعين بالكلمات الجوفاء في تأسيس سلطانها، ولن نستطيع فهم هذه الملاحظات الاجتماعية إلا إذا فهمنا الآية الكريمة التي اتخذها العلماء شعارا لهم في تأسيس دعوتهم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. وما بقي الاصلاح متمسكا بأهداب

_ (1) يمكننا التدليل على هذا بذكر حالة بعض البلاد الافريقية الآسيوية التي لم يطأ ترابها الاستعمار ولكن نراها خاضعة لجميع الظروف الاستعمارية، مثل الفقر والجهل، بينما بلاد أخرى، مثل اليابان أو ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، تحل بأرضها جيوش الاستعمار ولكن لا تتكون فيها ظروف استعمارية رغم ذلك. (2) كتاب " الرجل السياسي الأمريكي" أشار إليه بوفربريدج في كتاب،"قيمة السلم".

هذه الآية فلن يستطيع درويش جديد أن يهدد البلاد بخطر خرافته، ولكن زلة العلماء عام 1936 كان لها أكبر الأثر في عودة البلاد إلى الأفكار الوثنية؛ فقد كان من آثار هذه النكسة تلك الزردة الكبرى التي أقامتها (النخبة) من رجال السياسة في بلدة (سطيف)، حيث أمسكت بكلتا يديها المبخرة، ثم ألقت فيها العود الأخير من " الجاوي " المبارك الذي كان السدنة يعطرون به زواياهم. وما كانت تلك الزردة إلا ابتداء لدروشة جديدة، تذهب معها جهود الاصلاح هباء، وكأنها لم تكن؛ دروشة لا تختلف عن سابقتها إلا بأنها تبيع بدل الحروز والتمائم حروزاً في شكل آخر، هي أوراق الانتخابات، والحقوق السياسية، والأماني السابحة في الخيال. ومع ما استجلبناه من مصر (الفاروقية) من الاسطوانات والأشرطة السينمائية المجافية للفن والأخلاق، فإِننا قد استجلبنا منها أيضاً أسساً لسياستنا تقوم على أفكار تضلل العقول البسيطة، كان لها أسوأ تأثير في حياتنا، حيث اتخذتها (الدروشة السياسية) شعاراً لها ومبدأ، وكررتها على مسمع من الشعب، حيث رددها معها سنين طويلة، صباح مساء: (إن الحقوق تؤخذ ولا تعطى)! لحاها الله كلمة تطرب وتغري، فالحق ليس هدية تعطى، ولا غنيمة تغتصب، وإنما هو نتيجة حتمية للقيام بالواجب، فهما متلازمان، والشعب لا ينشئ دستور حقوقه إلا إذا عدل وضعه الاجتماعي، المرتبط بسلوكه النفسي. وإنها لشرعة السماء: غير نفسك، تغير التاريخ! وعلى هدى هذه الكليمة بدأ الإصلاح الجزائري من النفس- هادفا في جوهره إلى تغيير الإنسان، فبعث فيه روحا وثابة، أشرقت معها بوادر النهضة الكبرى، وكان الانطلاق الرائع للضمير الشعبي فيما قبل عام 1936 في انسجامه، واطراده، وحماسه، هو ملحمة الفكرة الاصلاحية التي توَّجها المؤتمر الإسلامي المنعقد في ذلك العام. وخلال العصر الذهبي الذي بدأ عام 1925، واستمر حتى زوال المؤتمر

الذي مات في مهده، وكنا نشعر بالنهضة، ولم يكن زادنا في مبدأ رحلتنا سوى كلمات من الفصحى، وبعض آيات من القرآن، وهكذا ابتدأت على أثر هذه النهضة المدارس الأولى، تشيد بسيطة متواضعة، كتلك المدارس الأولى التي افتتحت في الغرب، في عهد شارلمان والتي كانت أصولا للمدنية الغربية. ولقد كنا إذ ذاك، إذا ما خلصنا إلى سمرنا نتحدث حديث " الغشيم"!! .. ولكنه ليس عقيما، إذ هو يدور حول الشئون الاجتماعية، كالتعليم والتربية، وتطهير الأخلاق، والعادات، ومستقبل المرأة، واستخدام رؤوس الأموال. وكانت هذه الأحاديث ذات قيمة، لأنها كانت بعيدة عن منطق الغوغاء، وعن الرياء، والذاتية، وعن النزعات الانتخابية، فقد أصبحت لكل كلمة من هذه الكلمات قيمتها في الوسط الجزائري. ولكل سعي أثره وإن قل؛ إذ هو يساهم في بناء التقدم والنهضة، تماما كما تساهم القشة الصغيرة في بناء عش الطير، إبان الربيع. ولم يتخلف الأدب الجزائري عن الركب، فقد بدأ يصور تقدم البلاد في قصائد، جدد فيها نشاطه بعد ركود طويل، كانت تلك القصائد تغني ربيع النهضة، أي ربيع الفكرة، لا ربيع الصنم. وكنت ترى في كل مسجد أو مدرسة أو منزل حديث الاصلاح، بين مؤيد ومنتقد، ولكن كلا الفريقين كان يتمتع باللسان العِف، والسريرة النقية. إذ كانت المبادىء هدفهم من وراء اختلافهم، لا الأعراض الشخصية والوظائف السياسية. وكانت الأمة تقدم تضحياتها لبناء المدارس والمساجد من أجل البعث الفكري، والبعث الروحي، اللذين هما عماد كل حضارة في سيرها الحثيث. ولعلك تلاحظ كم يكون شاقاً القيام بهذه التضحيات في بلاد فقيرة، امتص المستعمر خيراتها، غير أن الشعب الذي آمن بالفكرة، كان عزاؤه في جهده الشاق، أنه سوف يحظى بالعاقبة الحميدة. لقد كان يعيش في جو من الحماس يتيح له أن يصنع المعجزات الاجتماعية، من تغيير العوائد والأفكار، والاتجاهات

والأشياء، وكانت الاستجابة لهذه التحولات بادية في تقاليد مدينة (تبسَّة) مثلاً، تلك المدينة التي بدت أعراسها وجنائزها أقرب إلى الكرامة والوقار، مما لم تعرفه قبل الاصلاح. وإنه لمن الواضح أن الشعب الذي بدأ يعود إلى وقاره، ويستمسك بأسباب كرامته، ويميل إلى التناسب والجمال في مظهره العام قد أعاد سيره في موكب التاريخ. وكنت تشاهد حركات، الهدف منها إزالة كل منكر لا تقبله العقيدة. ولا يقره الذوق العام. ومن ذلك حركة محاربة الخمور وبيعها، حتى لم يجد باعة تلك السموم حيلة يفرون بها من هجوم الحركة الاصلاحية، إلا أن يلجؤوا إلى الحكومة حوالي عام 1927، محتجين بأن إيرادهم تناقص، وأن تجارتهم بارت. وبدأت فعلاً المساجد تمتلئ برواد الخمارات. كما أن الحلقات الدراسية الليلية قد عمرت بأولئك الذين انصرفوا عن حلقات الدراويش. ولعل هذا التغيير المطرد، والنسق الجديد من الحياة قد أقلق كثيرا أولئك الذين كانت مواردهم وإمكانياتهم مستمدة من سباتنا. وبدأت المعجزة تشق طريقها بقوة وعزم، إلى أن جاءت سنة 1936، فإذا بها تضل طريقها، حتى تغلقت عليها السبل. ثم اختارت طريقا ظنت أنه موصلها إلى هدفها المنشود، ولم تدر أنها تتجه إلى الجهة التي انطلقت منها. وهكذا عادت أدراجها، ميممة وجهها شطر السراب السياسي، حيث تتوارى من ورائها بوارق النهضة والتقدم. لقد أصبحنا لا نتكلم إلا عن حقوقنا المهضومة، ونسينا الواجبات، ونسينا أن مشكلتنا ليست فيما نستحق من رغائب، بل فيما يسودنا من عادات. وما يراودنا من أفكار. وفي تصوراتنا الاجتماعية، بما فيها من قيم الجمال والأخلاق. وما فيها أيضا من نقائص تعتري كل شعب نائم. وبدلاً من أن تكون البلاد ورشة للعمل المثمر والقيام بالواجبات الباعثة إلى الحياة. فإنها أصبحت منذ سنة 1936 سوقا للانتخابات. وصارت كل منضدة في المقاهي، منبرا تلقى منه الخطب الانتخابية. فلكم شربنا في تلك الأيام

الشاي، وكم سمعنا من الاسطوانات، وكم رددنا عبارة (إننا نطالب بحقوقنا)، تلك الحقوق الخلابة المغرية، التي يستسهلها الناس، فلا يعمدون إلى الطريق الأصعب: طريق الواجبات. وهكذا تحول الشعب إلى جماعة من المستمعين، يصفقون لكل خطيب، أو قطيع انتخابي، يقاد إلى صناديق الاقتراع، أو قافلة عمياء زاغت عن الطريق، فذهبت حيث قادتها الصدف في تيار المرشحين. وفي هذا اختلاس أي اختلاس للعقول التي أشرفت على قطف ثمار نهضتها، فإن هذه العقول قد عادت إليها الوثنية، تلك الوثنية التي تلد الاصنام المتعاقبة المتطورة. كما تتطور الدودة الصغيرة إلى فراشة طائرة، إذا ما صادفت جوا ملائماً. وهذا يعني أن البلاد لم تتحقق فيها النهضة المنشودة، وكل الذي كان هو أن أحداثا صدمتها صدمة عنيفة أيقظتها من نومها، ثم لم تلبث بعد أن زال أثر هذه الصدمة أن غالبها النعاس، فعادت إلى النوم، وأمكنها في نومتها هذه أن تعود إلى أحلامها، غير أنها أحلام ذات موضوع آخر، إنها أحلام الانتخابات، قامت على أطلال الزوايا المهدمة التي دمرها معول الاصلاح الأول. وهو يعني من ناحية أخرى أن أرواحنا لا تزال مكدسة في محيط الطلاسم والخيال، ذلك المحيط الذي لا يزال يحتفظ بها منذ أن سقطت الحضارة الإسلامية. وهكذا وجدنا أنفسنا بين أحضان الوثنية مرة أخرى، كان الإصلاح قد حطم الزوايا والقباب من دون الوثن، فقد توارت الفكرة عن العقول وحلت محلها الوثنية التي تتكلم اليوم وحدها، إذ نصب لها في كل سوق منبر (1)، كي يستمع الناس إليها، تسلية لهم، وإغفالا لواجباتهم، وإبعادا لهم عن طريق التاريخ. لقد ورث المكروب السياسي ميكروب الدروشة، فأصبح يفعل بالشعب ما كان سلفه يفعل، فبعد أن كان الشعب يقتني بالثمن الغالي البركات والحروز، أصبح يقتني الأصوات والمقاعد الانتخابية، ويسعى اليها في تعصب لا يفترق عن

_ (1) وعلينا ان نقول ان الاستعمار يتتبع هذه الأطوار بكل اهتمام وبكل ما لديه من الوسائل، لكي يعيد الشعب المستعمر إلى عهد الوثنية، فهو كلما تظهر فكرة فى الأفق ينصب اصناما ويشيد في البلاد منابر عليها يظهرون، كما بينا ذلك في كتاب "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة".

تعصبه الأول، دون أي ذوق ناقد، ودون أي جهد لتغيير نفسه أو مجتمعه وبعد أن آمن الشعب لأحد رجاله وزعمائه السياسيين بمعجزة (الطيارة الخضراء) (1) أصبح يؤمن بالعصا السحرية التي تحوله بضربة واحدة إلى شعب رشيد، مع ما به من جهل، وما تنتابه من أمراض اجتماعية!! .. وإننا لنتذكر- بكل أسف- مأدبة أقامها طلبة الجامعة في الأشهر الماضية، وتكلم فيها أحد الطلاب فقال: - "إننا نريد حقوقنا ولو مع جهلنا وعرينا ووسخنا"!! ولقد كانت هذه الكلمة موضع استحسان من جميع الحاضرين! ألا قاتل الله الجهل، الجهل الذي يلبسه أصحابه ثوب العلم، فإن هذا النوع أخطر على المجتمع من جهل العوام لأن جهل العوام بيّن ظاهر يسهل علاجه: أما الأول فهو متخفّ في غرور المتعلمين. ولقد بدأنا بالفعل في التقهقر والعودة إلى الظلام؛ وبعثرة الجهود، وتحطيم المساعي والإسراف في إمكانياتنا القليلة التي تتطلب منا صرفها فيما يفيد تقدمنا. وختاماً فإن (الزردة) التي أقامتها (النخبة) من رجال السياسة يوم (سطيف) كانت لصالح الاستعمار. الذي تمكن على إثر تقهقرنا من قتل (المؤتمر)، وتشتيت العلماء (2). وأصبحت الحركة الجزائرية منذ ذلك الحين لا ترأسها فكرة بل تقودها أوثان، وليس يهمنا هنا الشكل، بل الموضوع. فليس الخطر من الإنقياد إلى نوع من الدروشة، ولكن الخطر من الانقياد الأعمى إلى الدروشة ذاتها وليس الخطر أيضاً من اسم الصنم، ولكن من سيطرة الوثنية. إن جوهر المسألة هو مشكلتنا العقلية، ونحن لا زلنا نسير ورؤوسنا في الأرض، وأرجلنافي الهواء، وهذا القلب للأوضاع هو المظهر الجديد لمشكلة نهضتنا.

_ (1) هذا يشبه ما يطلقه بعض العوام في مصر عن الأولياء من أنهم من أهل الخطوة. أما في الجزائر فهذا الزعيم معروف، وبعض تلامذته هم الذين يقومون اليوم بدور التوجيه. (2) ولقد يبدو من الملاحظات الأخيرة، لمن يتتبع تطور هذه الحالة، أن الاستعمار لا زال يستطيع قتل أي جهد ببرز من الشعب، لأن النخبة في البلاد لا زالت بعيدة عن ميدان الواجب.

الباب الثاني المستقبل

الْبَابُ الثَّانِيَ الْمُسْتَقْبَلُ

أنشودة رمزية

أُنْشُوْدَةٌ رَمَزَيَّةٌ *فلما عصى آدم ربه وغوى ... أنزله الله إلى لأرض منبوذا. ولم يكن له ما يستر به جسده إلا بعض أوراق من الشجر، ولم يكن له من زاد إلا الندامة التي كانت تعتصر قلبه، وتنتهش ضميره. *ولما وطئت قدماه الأرض سخرت الوحوش من ضعفه، وهزئت القوى الطبيعية من عريه وفقره، فأحس آدم بالجوع والبرد والخوف، ففر هاربا وأوى إلى غار مظلم. *لقد بدأ هناك يفكر في فقره ووحدته، في بيئة كل من فيها يعاديه؛ وهو لا يعرف من أسرارها شيئا. *نظر إلى السماء فرأى الطير يكتسحها، ونظر إلى البحر فرأى السمك يرتع فيه ويلعب، وتطلع إلى الأرض فإذا بالوحوش تصول في الغاب وتجول. *فغبط آدم هذه الحيوانات كلها، لما أوتيت من مأكل ومأوى، ولما أمنت من خوف، وازداد في قلبه الندم. حتى ملك عليه نفسه. *هنالك رفع يديه إلى السماء يتضرع، فاستجابت له السماء قائلة: اذهب أيها الرجل، فإني أعطيتك عقلا ويدا، وأعطيتك ترابا وزمانا. *اذهب فإن لك في الحياة أن تفعل ما يفعل الطير، فتحلق في الفضاء، وأن تغوص في اليم مثل الحوت فتعبر المسافات الطويلة في البحار. *حينئذ ارتدت إلى آدم نفسه، وتفتحت مغاليق الحياة أمام عينيه. وإذا بشمسها تسطع على غاره المظلم، وتضيء له السبيل إلى مستقبله الساطع الخلاب.

من التكديس إلى البناء

مِنَ التَّكْدِيسِ إِلَى الْبِنَاءِ لقد ظل العالم الإسلامي خارج التاريخ دهرا طويلا كأن لم يكن له هدف، استسلم المريض للمرض، وفقد شعوره بالألم حتى كأنه يؤلف جزءا من كيانه. وقبيل ميلاد هذا القرن سمع من يذكّره بمرضه، ومن يحدثه عن العناية الإلهية التي استقرت على وسادته، فلم يلبث أن خرج من سباته العميق ولديه الشعور بالألم. وبهذه الصحوة الخافتة تبدأ بالنسبة للعالم الإسلامي حقبة تاريخية جديدة يطلق عليها: النهضة. ولكن ما مدلول هذه الصحوة؟ إن من الواجب أن نضع نصب أعيننا "المرض" بالمصطلح الطبي لكي تكون لدينا عنه فكرة سليمة: فإن الحديث عن المرض أو الشعور به لا يعني بداهة "الدواء". ونقطة الانطلاق هي ان الخمسين عاما الماضية تفسر لنا الحالة الراهنة التي يوجد فيها العالم الإسلامي اليوم، والتي يمكن أن تفسر بطريقتين متعارضتين: فهي من ناحية: النتيجة الموفقة للجهود المبذولة طوال نصف قرن من الزمان من أجل النهضة. وهي من ناحية أخرى: النتيجة الخائبة لتطور استمر خلال هذه الحقبة، دون أن تشترك الآراء في تحديد أهدافه أو اتجاهاته. ومن الممكن أن نفحص الآن سجلات هذه الحقبة، ففيها كثير من الوثائق والدراسات، ومقالات الصحف، والمؤتمرات التي تتصل بموضوغ النهضة. هذه الدراسات تعالج الاستعمار والجهل هنا، والفقر والبؤس هناك، وانعدام التنظيم، واختلال الاقتصاد أو السياسة في مناسبة أخرى ولكن ليس فيها تحليل منهجي للمرض، أعني دراسة مرضية للمجتمع الإسلامي، بحيث لا تدع مجالاً للظن حول المرض الذي يتألم منه منذ قرون.

ففي الوثائق نجد أن كل مصلح قد وصف الوضع الراهن تبعا لرأيه أو مزاجه أو مهنته. فرأي رجل سياسي كجمال الدين الأفغاني: أن المشكلة سياسية تحل بوسائل سياسية، بينما قد رأى رجل دينٍ كالشيخ محمد عبده أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ .. الخ ... على حين أن كل هذا التشخيص لا يتنناول في الحقيقة المرض، بل يتحدث عن أعراضه. وقد نتج عن هذا أنهم منذ خمسين عاما لا يعالجون المرض، وإنما يعالجون الأعراض، وقد كانت النتيجة قريبة من تلك التي يحصل عليها طبيب يواجه حالة مريض بالسل الجرثومي، فلا يهتم بمكافحة الجراثيم، وانما يهتم بهيجان الحمى عند المريض. والمريض نفسه يريد منذ خمسين عاما أن يبرأ من آلام كثيرة: من الاستعمار، من الأمية، من الكساح العقلي، من ... وهو لا يعرف حقيقة مرضه، ولم يحاول أن يعرفه، بل كل ما في الأمر أنه شعر بألم، فاشتد في الجري نحو الصيدلي، أي صيدلي يأخذ من آلاف الزجاجات، ليواجه آلاف الآلام. وليس هناك في الواقع سوى طريقتين لوضع نهاية لهذه الحالة المرضية فإما القضاء على المرض، وإما إعدام المريض. ولنا أن نتساءل حينئذ إذا ما كان المريض الذي دخل الصيدلية دون أن يدرك مرضه على وجه التحديد، سيذهب بمحض الصدفة لكي يقضي على المرض، أو يقضي على نفسه؟ هذا شأن العالم الإسلامي: إنه دخل إلى صيدلية الحضارة الغربية طالبا الشفاء، ولكن من أي مرض؟ وبأي دواء؟ وبدهي أننا لا نعرف شيئا عن مدة علاج كهذا، ولكن الحالة التي تطّرد هكذا تحت أنظارنا منذ نصف قرن، لها دلالة اجتماعية يجب أن تكون موضع تأمل وتحليل. وفي الوقت الذي نقوم فيه بهذا التحليل يمكننا أن نفهم المعنى الواقعي لتلك الحقبة التاريخية التي نحياها، ويمكننا أيضا أن نفهم التعديل الذي ينبغي أن يضاف إليها.

فيجوز لنا أن نطلق على هذه الحقبة أنها (بادرة حضارة)، أو بلغة علم الإلاهيات (مرحلة إرهاص) وجه فيها العالم الاسلامي جهوده الاجتماعية هادفا إلى تحصيل حضارة. فقد قرر على هذا ضمنا ان اتجاهه هذا يمثل بالتحديد علاج مرضه، ونحن لا يسعنا إلا أن نوافقه على هذا دون أن نفعل سوى تقرير الواقع (1)، بيد أننا نريد هكذا أيضا أن نحدد المرض ضمنا، ثم ندع للصدفة المجال اللازم لها في حالة ما إذا المريض الذي لجأ إلى الصيدلية، لكي يبرأ- كما قلنا- من مرض لا يعرف عنه شيئا محددا، سيبرأ مصادفة بدواء يتعاطاه من القنائن. فالعالم الإسلامي يتعاطى هنا (حبة) ضد الجهل، ويأخذ هناك (قرصا) ضد الاستعمار، وفي مكان قصي يتناول (عقارا) كي يشفى من الفقر، فهو يبني هنا مدرسة، ويطالب هنالك باستقلاله، وينشيء في بقعة قاصية مصنعا. ولكنا حين نبحث حالته عن كثب لن نلمح شبح البرء، أي أننا لن نجد حضارة. ومع ذلد فهناك جهود محمودة يمكن أن نلاحظ من خلالها السلبية النسبية لجهود العالم الإسلامي، حين نقارنها بجهود اليابان مثلاً، منذ خمسين عاما، أو جهود الصين منذ عشر سنوات، فهناك شيء من الغرابة في الحالة التي نفحصها مما يدفعنا إِلى تفهم كيفية سيرها (وآليتها) ومن أجل هذا يجب أن نعرف المقياس العام لعملية الحضارة، ليلقي لنا ضوءا كاشفا على (السلبية النسبية) وانعدام الفاعلية في جهود المجتمع الإسلامي. إن المقياس العام في عملية الحضارة هو أن: " الحضارة هي التي تلد منتجاتها " وسيكون من السخف والسخرية حتما أن نعكس هذه القاعدة، حين نريد أن نصنع حضارة من منتجاتها. يضاف إلى هذا أن القاعدة في علم الاجتماع ليست كنظيرتها في علم الرياضة، حدا صارما بين الحق والباطل، والخطأ والصواب، ولكنها مجرد توجيه

_ (1) يمكن معرفة نظرية المؤلف مفصلة عن المرضوع في كتابه "الأفريقية الآسيوية" الجزء الأول- الفصل الثالث حيث أن مشكلة الإنسان هي مشكلة الحضارة فقط.

عام يمكن به تجنب الأغلاط الفاحشة، إذ لا يمكن أن يوجد حد دقيق بين حضارة تتكون، وبين حضارة تكونت فعلاً. ونحن في القرن العشرين نعيش في عالم يبدو فيه امتداد الحضارة الغربية قانونا تاريخيا لعصرنا. ففي الحجرة التي كتب فيها الآن كل شيء غربي. فيما عدا (القلة) التي أراها أمامي. فمن العبث إذن أن نضع ستارا حديديا بين الحضارة التي يريد تحقيقها العالم الاسلامي، والحضارة الحديثة. ولكن هذا يجسم المشكلة بأكملها، فليس من الواجب لكي ننشىء حضارة أن نشتري كل منتجات الأخرى. فإن هذا يعكس القضية التي سبق أن قررناها، وهو يقود في النهاية إلى عملية محالة كما وكيفا: فمن ناحية الكيف: تنتج الاحالة من أن أي حضارة لا يمكن أن تبيع جملة واحدة لأشياء التي تنتجها، ومشتملات هذه الاشياء. أي أنها لا يمكن أن تبيعنا روحها وأفكارها وثرواتها الذاتية، وأذواقها، هذا الحشد من الأفكار والمعاني التي لا تلمسها الأنامل. والتي توجد في الكتب أو في المؤسسات، ولكن بدونها تصبح كل الأشياء التي تبيعنا إياها فارغة، دون روح، وبغير هدف. وهي بوجه خاص تمنحنا ذلك العديد الهائل من العلائق التي لا توصف، والتي تبعثها أي حضارة داخل أشيائها وأفكارها من جانب، وبين هاتين المجموعتين والإنسان من جانب آخر. وفي استخدامنا للمصطلحات البيولوجية نجد أن الحضارة مجموعة من العلائق بين المجال الحيوي (البيولوجي) حيث ينشأ ويتقوى هيكلها، وبين المجال الفكري حيث تولد وتنمو روحها؛ فعندما نشتري منتجاتها فإنها تمنحنا هيكلها وجسدها لا روحها. ومن ناحية الكم: لن تكون الإحالة أقل، فليس من الممكن أن نتخيل العديد الهائل من الأشياء التي نشتريها، ولا أن نجد رأس المال الذي ندفعه فيها. ولئن سلمنا بإمكان هذا فإنه سيؤدي قطعا إلى الاحالة المزدوجة، فينتهي بنا الأمر

إلى ما أسميه (الحضارة الشيئية) إلى جانب أنه يؤدي إلى "تكديس" هذه الأشياء الحضارية. ومن البين أن العالم الإسلامي يعمل منذ نصف قرن على جمع أكوام من منتجات الحضارة، أكثر من أن يهدف إلى بناء حضارة، وقد تنتهي هذه العملية ضمنا إلى أن نحصل على نتيجة ما، بمقتضى ما يسمى بقانون الأعداد الكبيرة، أعني قانون الصدقة، فكوم ضخم من المنتجات المتزايدة دائما، يمكن أن يحقق على طول الزمن، وبدون قصد (حالة حضارة)، ولكنا نرى فرقا شاسعا بين هذه الحالة الحضارية، وبين تجربة مخططة كتلك التي ارتسمتها روسيا منذ أربعين عاما، والصين منذ عشر سنوات، هذه التجربة تبرهن على أن الواقع الاجتماعي خاضع لنهج فني معين، تطبق عليه فيه قوانين (الكيمياء الحيوية) و (الديناميكية الخاصة) سواء في تكونه أم في تطوره. ومن المعلوم أن عملية التحلل الطبيعي (للأورانيوم) لا تدخل في نطاق القياس الزمني للانسان، اذ ان كمية معينة من هذه المادة، ولتكن جراما، يتحلل نصفها طبيعيا خلال أربعة مليارات وأربعمائة مليونا من السنين. ولكن العمل الكيميائي قد توصل إلى أن تتم العملية الفنية للتحلل في بضع ثوان. وبالمثل نجد أن عوامل التعجيل بالحركة الطبيعية بدأت تلعب دورها الكامل في دراسات الاجتماع، كما هو مشاهد في التجربة الخالدة لليابان، فمن عام 1868 إلى 1905 انتقلت من مرحلة العصور الوسطى. أو ما سبق أن أطلقت عليه (بادرة الحضارة) إلى الحضارة الحديثة. فالعالم الاسلامي يريد أن يجتاز نفس المرحلة بمعنى أنه يريد انجاز مهمة (تركيب) الحضارة في زمن معين، ولذا يجب عليه أن يقتبس من الكيمياوي طريقته، فهو يحلل أولا المنتجات التي يريد أن يجري عليها بعد ذلك عملية التركيب. فإذا سلكنا هنا هذا المسلك قررنا أن كل ناتج حضاري تنطبق عليه الصيغة التحليلية الآتية: ناتج حضاري = انسان + تراب (1) + وقت.

_ (1) تجنبنا قصدا ان نستخدم في هذه المعادلة مصطلح (مادة) وفضلنا عليه مصطلع (تراب) =

ففي المصباح مثلاً يوجد الإنسان خلف العملية العلمية والصناعية، التي يعتبر المصباح ثمرتها، والتراب في عناصره من موصل وعازل، وهو يتدخل بعنصره الأول في نشأة الإنسان العضوية، والوقت (مناط) يبرز في جميع العمليات البيولوجية والتكنولوجية، وهو ينتج المصباح بمساعدة العنصرين الأولين: الإنسان والتراب. فالصيغة صادقة بالنسبة لأي ناتج حضاري، وإذا ما درسنا هذه المنتجات حسب طريقة الجمع المستخدمة في الحساب، فسننتهي حتما إلى ثلاثة أعمدة ذات علاقة وظيفية: حضارة = إنسان + تراب + وقت. وتحت هذا الشكل تشير الصيغة إِلى أن مشكلة الحضارة تنحل إلى ثلاث مشكلات أولية: مشاكلة الإنسان، مشكلة التراب، مشكلة الوقت. فلكي نقيم بناء حضارة لا يكون ذلك بأن نكدس المنتجات، وإنما بأن نحل هذه المشكلات الثلاثة من أساسها. ومع ذلك فإن هذه الصيغة تثير عند التطبيق اعتراضا هاما هو: إذا كانت الحضارة في مجموعها ناتجا للإنسان والتراب والوقت، فلم لا يوجد هذا الناتج تلقائيا حيثما توفرت- هذه العناصر الثلاثة؟ ... وإنه لعجب يزيله اقتباسنا للتحليل الكيماوي: فالماء في الحقيقة نتاج للأدروجين والأكسجين، وبرغم هذا فهما لا يكونانه تلقائيا، فقد قالوا إن تركيب الماء يخضع لقانون معين يقتضي تدخل (مركب) ما، بدونه لا تتم عملية تكون الماء. وبالمثل لنا الحق في أن نقول: إن هناك ما يطلق

_ = والغرض من هذا الاختيار هو تحاشي اللبس في كلمة (مادة): حيث أنها تعني في باب الأخلاق مفهوما مقابلا لكلمة (روح). وتعني في باب العلوم مفهوما ضد مفهوم كلمة "طاقة". وفي الفلسفة نجدما تعطي فكرة هي نقيض ما يطلق عليه اسم، المثالية،. وعلى العكس من ذلك، لم يتطور مفهوم لفظ "تراب" الا قليلا، واحتفظ من حيث معنى المفردة ببساطة جعلته صالحا لأن يدل بصورة اكثر تحديدا على هذا الموضوع الاجتماعي. على أن هذا المطلح قد ضم هنا بهذه البساطة مظهرا قانونيا يخص تشريع الارض في اي بلد، ومظهرا فنيا يخص طرق استعماله. وهذان المظهران يمثلان مشكلة التراب.

عليه (مركِّب الحضارة) أي العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض، فكما يدل عليه التحليل التاريخي الآتي مفصلا، نجد أن هذا (المركِّب) موجود فعلا، هو الفكرة الدينية التي رافقت دائما تركيب الحضارة خلال التاريخ، فإذا اتضح صدق هذه الاعتبارات عن التفاعل الكيميائي الحيوي وعن ديناميكية الواقع الاجتماعي كان لنا أن نخطط بطريقة ما، مجال تطوره كاطراد مادي نعرف قانونه. وفي الوقت تفسه يسمح لنا ذلك بالقضاء على بعض الأخطاء التي يشعها ما يطلق عليه (أدب الكفاح) في العالم الاسلامي، حيث يزكي ضمنا الاتجاه نحو التكديس. من هذا الأدب الذي يبدي أحيانا الايمان المضطرم، والأصالة الصادقة، يتحول (التكديس) من نطاق الأحداث البسيطة الناتجة عن الصدفة، إلى نطاق الفكرة الموجهة، لقد هضمناه جملة، وتمثلناه في سلوكنا. ولنقرأ مثلا العبارة التالية (1): ((لقد سار العالم العربي في طريق هذه الحضارة، التي يسميها الناس "الحضارة الغربية" وما هي إلا حضارة إنسانية استمدت أسسها من حضارات انسانية عديدة، ومنها الحضارة العربية الإسلامية، وساهم ويساهم في إغنائها شرقيون وغربيون، ملاحدة ومؤمنون، ولا رجوع للعالم العربي عن هذا الطريق ولانكسة)). لا شك اننا نتذوق الجمال الأدبي، والتوقيع الموسيقي في هذه العبارة، ولكن أخشى ما نخشاه أنها تترجم عن تفاؤلية صالحة لأن تقلل في أذهاننا من خطورة المشكلة. أخشى ما نخشاه أن تنسينا أن كل ما ساهمنا ونساهم به في الإطار الغربي الذي نعيش فيه اليوم هو (القلة)، والقلة فقط. وأخشى ما نخشاه أخيرا من تفاؤلية كهذ تدعيمها وتكثيرها للاتجاهات المؤسفة نحو "التكديس" في العالم الاسلامي.

_ (1) من كتاب: "هذا العالم العربي" [ص:314] تأليف الاستاذين نبيه فارس وتوفيق حسين.

الدورة الخالدة

الدَّوْرَةُ الخَالِدَةُ ((إنه من السنن الأزلية أن يعيد التاريخ نفسه، كما تعيد الشمس كرتها من نقطة الانقلاب)). ((نيتشة)) من الملاحظات الاجتماعية أن للتاريخ دورة وتسلسلاً، فهو تارة يسجل للأمة مآثر عظيمة ومفاخر كريمة، وهو تارة أخرى يلقي عليها دثارها، ليسلمها إلى نومها العميق. فإذا ما أخذنا هذه الملاحظة بعين الاعتبار، ختم علينا في حل مشكلاتنا الاجتماعية أن ننظر مكاننا من دورة التاريخ، وأن ندرك أوضاعنا، وما يعتورنا من عوامل الانحطاط وما ننطوي عليه من أسباب التقدم. فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا. ولعل أعظم زيغنا وتنكبنا عن طريق التاريخ أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا، ولعل أكبر أخطاء القادة أنهم يسقطون من حسابهم هذه الملاحظة الاجتماعية. ومن هنا تبدأ الكارثة، ويخرج قطارنا عن طريقه حيث يسير خبط عشواء. ولا عجب، فإن كوارث التاريخ التي تحيد بالشعب عن طريقه ليست بشاذة. ونحن نجد مثلها في الكارثة التي أصابت العالم الاسلامي في واقعة صفين فأخرجته من جو المدينة الذي كان مشحونا بهدى الروح، وبواعث التقدم، إلى جو دمشق حيث تجمعت مظاهر الترف، وفتور الايمان. وعليه فإنه لا يجوز لأحد أن يضع الحلول والمناهج، مغفلاً مكان أمته ومركزها، بل يجب عليه أن تنسجم أفكاره، وعواطفه، وأقواله، وخطواته مع

ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته، أما أن يستورد حلولا من الشرق أو الغرب، فإن في ذلك تضييعا للجهد، ومضاعفة للداء. إذ كل تقليد في هذا الميدان جهل وانتحار. وعلاج أي مشكلة يرتبط بعوامل زمنية نفسية، ناتجة عن فكرة معينة، تورخ من ميلادها عمليات التطور الاجتماعي، في حدود الدورة التي ندرسها. فالفرق شاسع بين مشاكل ندرسها في إطار الدورة الزمنية الغربية، ومشاكل أخرى تولدت في نطاق الدورة الإسلامية. فالمشكلة التي أحاول درسها في هذا المؤلف ليست من المشاكل التي تخص عالم 1948، بل هي من المشاكل التي تخص عالم 1367، وإنني لأخشى أن لا يعجب قولنا هذا بعض من تعودوا النشوة بالكلمات العذبة، أو ألفوا الاقتناع بالحلول المجربة في أمة من الأمم. غير أني أحب أن أعجل إلى الموضوع فلا أضيع الوقت في سرد الأسباب والمبررات، التي يستند اليها أولئك المشعوذون. إن كل شعب مسلم يعيش في عام 1367، أي في نقطة من دورته تنطلق منها الأحداث التي لا تزال في ضمير الغيب، وهي نفسها مادة مستقبلة، فإذا ما تطلعنا إلى الشعب الجزائري في هذة النقطة من التاريخ فإننا نجده والشعوب الإسلامية في مستوى واحد، وفي مشكلات متقاربة، إن لم نقل متحدة؛ وبذلك فإننا نكون قد وضعنا المشكلة في مكانها من التاريخ، ونكون أيضا قد جعلنا مشكلتنا في وضعها المناسب، وفي الطور الذي تستطيع منه أن تبدأ الحضارة دورها. وعند هذه النقطة من تاريخنا يجدر بنا التساؤل: ها نحن أولاء على أهبة سفر، وإن قافلتنا لتشد رحالها، ولكن إلى أين تسير؟ وبأي زاد سوف تقطع الطريق؟. وإن هذا التساؤل لتحتمه علينا الظروف، فإنه في كل سفر يجب أن نعلم أية جهة نقصد؟ وبأي زاد نتزود؟! .. وإنه لسؤال جدير بالاهتمام، ولا يكفي فيه أن نجيب إجابات ارتجالية مقتضبة مثل "لا" أو "نعم" بل يجب التأمل في سنن التاريخ التي لا تغيير لها،

كما أشار إليها القرآن الكريم {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}، وكما وضحها ذلك العبقري، عمدة المؤرخين (ابن خلدون). وأول ما يجب أن نعرفه عن شعب حديث اليقظة، لا تزال آثار النوم الطويل بادية عليه هو: هل بيده أسباب تقدمه؟ إننا نجد في القرآن الكريم النص المبدئي للتاريخ التكويني ( Bio-histoire) { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وينبغي أن لا نقرر هذا المبدأ حسب إيماننا به فقط، بل يجب أن يكون تقريره في ضوء التاريخ. و"نعم" لا تجدي كجواب عن السؤال المطروح أمامنا، إلا إذا تأكدنا من شرطين: أولهما: هل المبدأ القرآني سليم في تأثيره التاريخي؟. ثانيهما: هل يمكن للشعوب الإسلامية تطبيق هذا المبدأ في حالتها الراهنة؟. الشرط الأول: مطابقة التاريخ للمبدأ القرآني. إذا نظرنا إلى الأشياء من الوجهة الكونية، فإننا نرى الحضارة تسير كما تسير الشمس، فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر. وإنه لمفيد للقادة أن ينظروا هذه النظرة الفاحصة، فيدركوا طبائع الأشياء، ولكن الكثير منهم تأخذه العزة بالإثم، فيزعم أن إرادته فوق إرادة الأقدار، حتى ليكاد يقول: "يا شمس قفي " وهيهات أن تقف الشمس، أو يسمع لهرائه مستمع، فإن الأقدار، لا تلبث أن تقود الحضارة إلى حيث قدر الله لها السير، من دور إلى دور، ومن فجر إلى فجر، غير عابئة بما يحاوله الباطل من إطفاء النور، أو تغيير الحقائق، ولا متلفتة إلى ما تبثه الزوايا من وهم، أو إلى ما يتخرص به الاستعمار.

ومن المعلوم أنه حينما يبتدىء السير إلى الحضارة، لا يكون الزاد بطبيعة الحال من العلماء والعلوم، ولا من الانتاج الصناعي أو الفنون، تلك الأمارات التي تشير إلى درجة ما من الرقي، بل إن الزاد هو "المبدأ" الذي يكون أساسا لهذه المنتجات جميعا. ففي نقطة انطلاق الحضارة ليس أمامنا سوى العوامل المادية الثلاثة التي ألمحنا إليها فيما سبق من الكلام: الإنسان. التراب. الوقت. وفي هذه العوامل ينحصر رأس مال الأمة الاجتماعي الذي يمدها في خطواتها الأولى في التاريخ. ولقد سبق أن أشرنا من الوجهة النظرية إلى العامل الذي يمزج هذه العناصر الثلاثة، فيكون منها حضارة. وسنشرع الآن في تحليل دور كامل من أدوار الحضارة، بل دورتين، من الوجهة لتاريخية، حتى نستخرج منه السر الكوني الذي يركب هذه العناصر الثلاثة: الإنسان، والتراب، والوقت، ليبعثها قوة فعالة في التاريخ. وحسبنا أن ندرس مثلاً الحضارتين الإسلامية والمسيحية في المرحلة الأولى من نشوئهما. وكما يتضح من الشكل الذي رسمناه في فصل "أثر الدين في دورة الحضارة" لا يختلف تطور الحضارة المسيحية عن تطور الحضارة الإسلامية إذ هما ينطلقان من الفكرة الدينية التي تطبع الفرد بطابعها الخاص، وتوجهه نحو غايات سامية. فالحضارة لا تنبعث -كما هو ملاحظ- إلا بالعقيدة الدينية (1)، وينبغي أن نبحث في حضارة من الحضارات عن أصلها الديني الذي بعثها، ولعله ليس من الغلو في شيء أن يجد التاريخ في البوذية بذور الحضارة البوذية، وفي البرهمية نواة الحضارة البرهمية.

_ (1) إننا نأخذ هنا هذه العبارة بمعناما العام، كما يعبر عنها أيضا فالترشوبرت ( Waltar-Schubart) في كتابه "أوربا وروح الشرق".

فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شرعة ومنهاجا، أو هي- على الأقل- تقوم أسسها في توجيه الناس نحو معبود غيبي (1) بالمعنى العام، فكأنما قدر للانسان ألا تشرق عليه شمس الحظارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية، أو بعيدا عن حقبته اذ حينما يكتشف حقيقة حياته الكاملة، يكتشف معها أسمى معاني الأشياء التي تهيمن عليها عبقريته، وتتفاعل معها. ومن هنا يستطيع المؤمن ادراك الحقيقة الساطعة التي يفسرها التاريخ، في الفقرة التي وردت في أحد الكتب المنزلة القديمة: "في البدء كانت الروح". ومن المعلوم أن جزيرة العرب مثلا لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة، يذهب وقته هباء لا ينتفع به لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة: الإنسان والتراب والوقت راكدة خامدة، وبعبارة أصح، مكدسة لا تؤدي دورا ما في التاريخ، حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء- كما تجلت من قبل بالوادي المقدس، أو بمياه الأردن- نشأت من بين هذه العناصر الثلاثة المكدسة حضارة جديدة، فكأنما ولدتها كلمة (اقرأ) التي أدهشت النبي الأمي وأثارت معه وعليه العالم. فمن تلك اللحظة وثبت القبائل الحربية على مسرح التاريخ حيث ظلت قرونا طوالا تحمل للعالم حضارة جديدة، وتقوده إلى التمدن والرقي. ومما هو جدير بالاعتبار أن هذه الوثبة لم تكن من صنع السياسيين ولا العلماء الفطاحل، بل كانت بين أناس يتَّسمون بالبساطة، ورجال لا يزالون في بداوتهم، غير أن أنظارهم توجهت في تلك اللحظات إلى ما وراء أفق الأرض أو إلى ما وراء الأفق القريب، فتجلت لهم آيات في أنفسهم، وتراءت لهم أنوارها في الآفاق.

_ (1) ولو كان غيبا من نوع زمني، أي في سورة مشروع اجتماعي بعيد الأمد مثل بناء مجتمع جديد يضع حجره الأول جيل وتواصل بناءه الأجيال المتتابعة.

نعم إنه لمن الغريب أن يتحول هؤلاء البسطاء، ذوو الحياة الراكدة، عندما مستهم شرارة الروح، إلى دعاة إسلاميين، تتمثل فيهم خلاصة الحضارة الجديدة، وأن يدفعوا بروحها وثبة واحدة، إلى تلك القمة الخلقية الرفيعة، التي انتشرت منها حياة فكرية واسعة متجددة، نقلت من علوم الأولين ما نقلت، وأدخلت علوما جديدة، حتى إذا ما بلغت درجة معينة، انحدرت القيم الفكرية التي أنتجتها دمشق، وبغداد، وقرطبة، وسمرقند. ومن هنا ندرك سر دعوة القرآن الكريم المؤمنين إلى التأمل فيما مضى من سير الأمم وذلك حتى يدركوا كيف تتركب الكتلة الخصبة من الإنسان والتراب والوقت. ولا شك في أن المرحلة الأولى من مراحل الحضارة الإسلامية التي ابتدأت من غار حراء إلى صفين- وهي المرحلة الرئيسية التي تركبت فيها عناصرها الجوهرية- إنما كانت دينية بحتة، تسودها الروح. ففي هذه الحقبة ظلت روح المؤمن هي العامل النفسي الرئيسي، من ليلة حراء إلى أن وصلت إلى القمة الروحية للحضارة الإسلامية، وهو ما يوافق واقعة صفين عام 38 هـ. ولست أدري لماذا لم يتنبه المؤرخون إلى هذه الواقعة، التي حولت هجرى التاريخ الاسلامي إذ أخرجت الحضارة الإسلامية إلى طور القيصرية الذي يسوده عامل المقل، وتزينه الأبهة والعظمة، في الوقت الذي بدأت تظهر فيه بوادر الفتور الدالة على أفول الروح. فإن مؤرخينا لم يروا في تلك الكارثة إلا ظاهرة ثانوية، وهي نشوء التشيع في العالم الإسلامي، مع تداولهم لحديث ألمح فيه الرسول إلى تلك الكارثة، وقد ورد فيه ما معناه: أن الخلافة تكون بعده أربعين عاما ثم تكون ملكا عضوضا. ولا شأن لنا هنا بتحقيق مدى صحته من جهة السند أو الرواية. الأمر الذي

يهمنا هو أنه مما لا شك فيه أن الحضارة الإسلامية قد خرجت من عمق النفوس، كقوة دافعة، إلى سطح الأرض تنتشر أفقيا من شاطىء الأطلنطي إلى حدود الصين. وهكذا وجدنا الحضارة الإسلامية تتوسع وتنشر فوق الأرض، تتغلب أولا على جاذبيتها بما تبقى لديها من مخزون روحي، حتى إذا ما وهنت فيها قوى الروح، وجدناها تخلد إلى الأرض شيئا فشيئا. وقد بدأ العلم في تلك الحقبة ينتشر بفضل أساتذة سطعت أسماؤهم في جو المعرفة، كالفارابي، وابن سينا، وأبي الوفاء، وابن رشد ... إلى ابن خلدون الذي أضاءت عبقريته غروب الحضارة الإسلامية في نهايتها. ومن هنا نستطيع أن نقرر أن المدنيات الإنسانية حلقات متصلة تتشابه أطوارها مع أطوار المدنية الإسلامية والمسيحية، إذ تبدأ الحلقة الأولى بظهور فكرة دينية، ثم يبدأ أفولها بتغلب جاذبية الأرض عليها، بعد أن تفقد الروح ثم العقل. ذلك هو منحنى السقوط، الذي تخلقه عوامل نفسية أحط من مستوى الروح، والعقل، وطالما أن الإنسان في حالة يتقبل فيها توجيهات الروح، والعقل، المؤدية إلى الحضارة ونموها، فإن هذه العوامل النفسية تختزن بطريقة ما، فيما وراء الشعور، وفي الحالة التي تنكمش فيها تأثيرات الروح والعقل، تنطلق الغرائز الدنيا من عقالها، لكي تعود بالإنسان إلى مستوى الحياة البدائية. وكذلك كان شأن المسلم، فقد بعث الدين فيه روحا محركا للحضارة، فلم يلبث بعد مرحلة قضاها في الخلافات والحروب أن عاد إلى حيث هو الآن، إنسانا بدائيا. ولو أردنا أن نسمي هذه المرحلة الخالية من الروح والعقل، والخاتمة لكل حضارة لأطلقنا عليها بلا تردد اسم المرحلة (السياسية) بالمعنى السطحي لكلمة "سياسة".

والتجارب التاريخية العامة تؤكد أطوار الحضارات هذه، ولا تكاد حضارة ما تشذ عن هذه القاعدة. ولقد يثير هذا التأكيد سؤالاً في أذهان القراء عما يسمى (حضارة شيوعية) إذ لا يمكننا أن نرى فيها (طابع الروح) الذي عرفناه في الدورة العامة للحضارة، وبذا يقال: إن الشيوعية كحضارة ليست منبثقة عن (عامل الروح!). هذا الخطأ الشائع إنما يأتي أولاً من تفسير أصول الشيوعية، باعتبارها (حضارة)، ومؤلفات ماركس وأنجلز تخفي- في الواقع- التكوين الحقيقي للظاهرة الشيوعية بفصلها ظاهرا عن دورة الحضارة المسيحية. والحال أنها لا تجد تفسيرا اذا ما ضربنا صفحا عن الحضارة المسيحية، تلك التي تكون- عند تحللها- سطح التربة الخصيب، حيث استمدت الفكرة الماركسية حيويتها. فنحن على هذا مضطرون إلى أن نعتبر الشيوعية (أزمة) للحضارة المسيحية. هذا من الناحية التاريخية. ولنا أن نأخذ في اعتبارنا الناحية النفسية (السيكولوجية)، التي تهمنا أكثر. فمن هذه الناحية تعتبر الشيوعية النظرية قبل كل شيء "فكرة" ماركس، ولكن هناك شيوعية واقعية، هي في جوهرها نشاط المؤمنين المدفوعين بنفس القوى الداخلية التي دفعت غيرهم من المؤمنين في مختلف العصور، أولئك الذين شهدوا مولد الحضارات. فالظاهرة متماثلة في جوهرها النفسي، ومحددة هنا وهناك بنفس سلوك الفرد حيال مشاكل المجتمع الناشيء. فنحن لا يمكننا أن نفكر في المثل الذي ضربه (استخانوف) للطبقة العاملة في روسيا إبان تنفيذ المشروع الأول للسنوات الخمس، حين رُفع مستوى الإنتاج اليومي إلى الضعف في مناجم الفحم، دون أن نفكر في المثل الذي ضربه سلمان الفارسي، الذي كان يقوم بأضعاف العمل الذي يؤديه الصحابي الواحد في

حفر الخندق حول المدينة في غزوة الأحزاب، أو الذي ضربه عمار بن ياسر حين كان يحمل حجرين على كاهله في بناء مسجد المدينة، حيث كان الفرد يحمل حجرا واحدا. ففي كلتا الحالتين نجد أن الإيمان هو الذي مهد الطريق للحضارة. وبتأمل الحضارة المسيحية الحالية نجدها تسير سيرة الحضارة الإسلامية، التي سبقتها في الزمن، مهما يكن في هذا التقرير من غرابة- إذ من البين أن مولد المسيحية يسبق الاسلام بمراحل- ولكن التاريخ يؤيدنا فيما نذهب إليه. ذلك أنه يقرر: أن الحضارة تولد مرتين، أما الأولى: فميلاد الفكرة الدينية، وأما الثانية: فهي تسجيل هذه الفكرة في الأنفس. أي دخولها في أحداث التاريخ. وإذا كانت المدنية الإسلامية قد جمعت المولدين في وقت واحد، فإن ذلك يعود إلى الفراغ الذي وجدته الفكرة الإسلامية في النفس العربية العذراء، التي لم تنشأ فيها ثقافة، ولا ديانة سابقة، فخلا لها بذلك الجو. ولم يكن حظ الحضارة المسيحية في نفوس أهلها وبيئتها، كحظ الحضارة الإسلامية، فقد نشأت المسيحية في رسط فيه الخليط من الديانات، والثقافات العبرية، والرومانية، واليونانية، فلم يتح لها أن تدخل إلى قلوب الناس وسط الزحام الفكري الثقافي، لتؤثر فيها تأثيرا فعالاً. ولم يكتب لها أن تعمل عملها إلا عندما بلغت وسط البداوة الجرمانية في شمال أوربا، حيث وجدت النفوس الشاغرة، فتمكنت منها، وبعثت فيها الروح الفعالة، التي اندفعت بها لتكون حلقتها في سلسلة التاريخ. ومن المفيد أن أعزز هذا النظر برأي للمفكر " هرمان دي كيسر لنج " في كتابه (البحث التحليلي لأوروبا)، حيث يقول " ومع الجرمانيين ظهرت روح خلقية سامية في العالم المسيحي ". ولعل عبارة هذا النص يمكن أن تبدو أكثر أو أقل صدقا، إذ أن " الروح السامية" التي يعنيها، ليست في التحليل النهائي سوى الفكرة المسيحية، المتأهبة تماما للدخول في التاريخ.

ولكن المفكر الألماني لم يتردد في القول بأن الميلاد النفسي للحضارة المسيحية متوافق مع ظهور روح خلقي. ولا شك أن كتابا آخرين لاحظوا هذه الملاحظة أيضا، بطريقة أو بأخرى، فالمؤرخ (هنري بيرين) قد لاحظ ذلك الارتباط بين بعث الدين وظهور الحضارة، في كتاب له عنوانه (محمد وشرلمان) قارن فيه بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية. فإن المؤلف المذكور يرى في شرلمان الشخصية التي بعثت مبدأ المسيحية في النفوس البكر، فأنبتت فيها الحضارة، تماما كما فعل الرسول من قبل. وإنه لمن الأهمية التاريخية أن نلاحظ أن الروح المسيحية لم تجد طابعها الخاص في فن المعمار، إلا عندما تفاعلت هذه الفكرة مع القبائل الجرمانية، فتمثلت عبقريتها الفنية حينئذ في صورة (المعبد القوطي)، الذي يدل علو ارتفاعه على علو في الضمير الديني وطموح، ذلك الطموح الذي كان يهز أوربا من عهد الكارولنجيان (1) إلى عهد النهضة. فلما بدأت هذه النهضة، خرجت حضارة أوروبا من مرحلة السمو الروحي إلى مرحلة التوسع العقلي، التي انطبعت بطابع (ديكارت)، والتوسع في البلاد الذي حققه (كرستوف كولومب) باكتشاف أمريكا. وعودة أخرى إلى كتاب (البحث التحليلي لأوروبا) توضع لنا هذا التطور، إذ يتحدث مؤلفه عن هذا التحول في الحضارة الأوروبية في قوله: " وكان أعظم ارتكاز حضارة أوروبا على روحها الدينية " ثم بعد ذلك يفسر لنا الروح كعامل اجتماعي فيقول: " ولست أعني بالروح ذلك الشيء الدال على منطق، أو عقل أو مبادىء مجردة، وإنما هو - بصفة عامة- ذلك الشعور القوي في الإنسان، والذي تصدر عنه مخترعاته وتصوراته وتبليغه لرسالته، وقدرته الخفية على إدراك الأشياء".

_ (1) الفترة التاريخية للكارولنجيان من 687 - 987م.

وبالجملة، يتعلق الأمر بحالة خاصة، وشروط خلقية، وعقلية، لازمة للإنسان لكي يستطيع أن ينشيء، ويبلغ حضارة. ولكن أليست هذه الشروط هي نفس ما أشار إليه القرآن من تغيير النفس الذي جعل أساسا لكل تغيير اجتماعي؟؟!! ولنتساءل الآن: من أين لأوربا (مبدأ الشعور) الذي أتاح لها أن تخلق وتبلغ حضارتها؟ وكيف تغييرت تفسيتها؟ ... إن المفكر المذكور يجيب مرة أخرى، فيقول: "ان الروح المسيحية ومبدأها الخلقي هما القاعدتان اللتان شيدت عليهما أوروبا سيادتها التاربخية". وإذا لم يكن (كيسر لنج) قد وضح حتى الآن فكرة المراحل الثلاثة للحضارة المسيحية. فإنه لا شك قد أشار اليها، ونحن نجد عنده تأييدا لفكرتنا عن تطور الحضارة، وتنوع العوامل النفسية، إذ يقول: " إن مركز الثقل للحضارة تزحزح عن مكانه، وتحول بالنهضة والإصلاح الديني، من مجال الروح إلى مجال العقل". ولا شك أن ذلك التزحزح الذي يشير إليه (كيسر لنج) إنما يعني المرحلة الجديدة التي دخلت فيها الحضارة المسيحية في طورها العقلي. وإذا لاحظنا عند (كيسر لنج) اشارة إلى المرحلتين الأوليتين لتلك الحضارة، فإننا نجد الاشارة إلى المرحلة الثالثة واضحة عند كتاب آخرين، إذا سادهم شعور بفناء المدنية الأوروبية مثل (اسوالد شبنجلر) في كتابه (أفول الغرب). ولعله من الواضح ان مشكلة الحضارة في العصر الحاضر لا تخص الشعوب الإسلامية فقط، بل انها تخص أيضا الشعوب المتقدمة نفسها، التي تتهدد فيها مدنيتها بالفناء. وجملة القول إن الوسيلة إلى الحضارة متوفرة ما دامت هنالك فكرة دينية

تؤلف بين العوامل الثلاثة: الإنسان، والتراب، والوقت، لتركب منها كتلة تسمى في التاريخ "حضارة ". الشرط الثاني: إمكانية تطبيق المبدأ القرآني الآن؟ ((أشد ما أثر في حياتي نصيحة سمعتها من أبي: يا بني إقرأ القرآن كأنه أنزل عليك)) ((إقبال)) إننا لكي نتوصل إلى التركيب الضروري كحل للمشكلة الإسلامية؛ أعني مزج الإنسان والتراب والوقت، يجب أن يتوفر لدينا موثر الدين الذي يغير النفس الإسلامية، أو كما يقول كيسر لنج: "يمنح النفس مبدأ الشعور". فهل يمكن تحقيق هذا الشرط في الحالة الراهنة للشعوب الاسلامية؟ إن التردد في الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب لا يدل إلا على جهل بالإسلام، وبصفة عامة بتأثير الدين في الكون، فإن قوة التركيب لعناصر الحضارة خالدة في جوهر الدين، وليست ميزة خاصة بوقت ظهوره في التاريخ، فجوهر الدين- حسب العبارة الشائعة- موثر صالح في كل زمان ومكان. وتسجيله في النفس وهو ما يهم التاريخ- كما سبق في حديثنا عن الحضارة المسيحية التي تركبت بعد ألف عام من ظهور الفكرة المسيحية- يمكن أن يتجدد ويستمر ما لم يخالف الناس شروطه وقوانينه، وهو ما ترمز إليه الآية الكريمة {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، من هذه الوجهة نستطيع أن نقول: إن العلماء الجزائريين كانوا أقرب إلى الصواب من السياسيين، حين دعوا إلى الاصلاح، بمعنى دفع النفس الانسانية إلى حظيرة الايمان من جديد، ولكن هؤلاء العلماء- لسوء الحظ- قد انحرفوا هم أنفسهم عن الطريق القويم، متبعين

رجال السياسة، ولقد كان الوقت مناسبا لكي يعودوا إلى الطريق القويم، واثقين من أنه لا نجاة بغيره، ولقد كان عليهم أن يستأنفوا جهدهم الذي بدأوه، ثم قطعوه عام 1936، وأن يعدوا الجيل القادم لحمل رسالة الحضارة في نفسه، وإلى معرفته كيف يضعها الوضع الصحيح في المستقبل، حتى يستطيع كل فرد أن يؤدي رسالته في مجاله الخاص، متحملا في سبيلها الآلام الجسام، مغالبا هذه الآلام والدين وحده هو الذي يمنح الانسان هذه القوة، فقد أمد بها أولئك الحفاة العراة من بدو الصحراء، الذين اتبعوا هدى محمد - صلى الله عليه وسلم -. وبهذه القوة وحدها يشعر المسلم- رغم فاقته وعريه الآن- بثروته الخالدة التي لا يدري من أمر استخدامها شيئا. ***

العدة الدائمة

الْعُدَّةُ الدَّائِمَةُ عندما يتحرك رجل الفطرة، ويأخذ طريقه لكي يصبح رجل حضارة، فإنه لا زاد له- كما بيّنا- سوى التراب، والوقت، وإرادته لتلك الحركة. وهكذا لا يتاح لحضارة في بدئها رأسمال، إلا ذلك الرجل البسيط الذي تحرك، والتراب الذي يمده بقُوتِه الزهيد، حتى يصل إلى هدفه، والوقت اللازم لوصوله. وكل ما عدا ذلك من قصور شامخات، ومن جامعات وطائرات، ليس إلا من المكتسبات، لا من العناصر الأولية. والمجتمع الإنساني يمكنه أن يستغني وقتا ما عن مكتسبات الحضارة، ولكنه لا يمكنه أن يتنازل عن هذه العناصر الثلاثة، التي تمثل ثروته الأولية، دون أن يتنازل في الوقت نفسه عن جوهر حياته الاجتماعية. وقد تحقق هذا حين كانت الدول المتقاتلة في الحرب الأخيرة لا تقوِّم خسارتها في الحرب بالذهب والفضة، بل بساعات العمل، أي بقيم من الوقت، ومن الجهود البشرية، ومن منتجات التراب، وهكذا كلما أصبح المكتسب غير كاف، أو حالت دون الحصول عليه عقبات، وكلما دقت ساعة الخطر، وأذنت بالرجوع إلى القيم الأساسية، تستعيد الإنسانية مع عبقريتها، قيمة الأشياء البسيطة التي كونت عظمتها .. تلك هي القيم الخالدة. التي نجدها كلما وجب علينا العودة إلى بساطة الأشياء، أي في الواقع كلما تحرك رجل الفطرة، وتحركت معه حضارة في التاريخ.

أثر الفكرة الدينية في تكوين الحضارة

أَثَرُ الْفِكْرَةِ الدِّينِيَّةِ فِي تَكْوِينِ الْحَضَارَةِ كنا قد بينا في الفصل السابق الذي جعلنا عنوانه "من التكديس إلى البناء" دور الفكرة الدينية حينما تدخل كمركب ( Catalyseur) في التركيب البيولوجي لإحدى الحضارات. وذلك باستنادنا إلى حد ما على أفكار "كيسرلنج" وعلى معطيات التاريخ بصورة عامة. غير أن هذا التفسير التاريخي قد بدا غير كاف لدى قراء الطبعة الأولى لهذا الكتاب. ولهذا فقد طلب مني بعضهم- والطلبة على وجه أخص- أن أفرد تحليلا أعمق تقصيا لجوانب الموضوع في طبعة ثانية للكتاب. وبودي أن أعرب لهؤلاء الذين أبدوا هذه الملاحظة عن تقديري لهم. لأنها تكشف عن مدى تحمسهم لمشاكل الحضارة. وهو تحمس لا شك يشرف هؤلاء الشباب من رواد الأمة. من أجل هذا وضعت هذا الفصل ورأيت من واجبي أن أعيد فيه دراسة هذه المشكلة دراسة لا تقصر على المعطيات التاريخية وإنما هي تهتم أيضا بمقاييس التحليل النفسي. ذلك ان المنهج الذي يتناول واقعة الحضارة لا على انها سلسلة من الأحداث يعطينا التاريخ قصتها، بل كـ"ظاهرة" يرشدنا التحليل إلى جوهرها، وربما يهدينا إلى "قانونها" أي إلى سنة الله فيها، هو القادر، فيما اعتقد، على أن يستجلي لنا بطريقة أوضح، الدور الايجابي الفعال للفكرة الدينية في تركيب تلك الواقعة. إذ يوضح لنا كيف تشرط هذه الفكرة سلوك الفرد وكيف هي تنظم غرائزه تنظيما عضويا في علاقتها الوظيفية ببناء إحدى الحضارات. وبتعبير آخر إن المسألة هنا هي أن نوضح للقارىء كيف يتاح "للفكرة

الدينية" (1) أن تبني الإنسان حتى يقوم بدوره في بناء الحضارة وبالتالي كيف يتاح لهذه الفكرة ذاتها أن تمدنا بتفسير عقلي لدور إِحدى الديانات في توجيه التاريخ. فما هي إذن الحدود التي تقف عندها الفكرة الدينية في تفسيرها للوقائع التاريخية؟ لقد اهتم معظم المؤرخين- ابتداء من توسيديد ( Thucydide) حتى "جيزو" ( juizot) بتجميع الوقائع التاريخية بدل أن يهموا بالبحث في تفسير عقلي لهذه الوقائع في إطار معين. فلما جاء جيزو بدأ علم المؤرخ بفضل "عصر النور" يأخذ عنده صبغة علمية معينة. ومع ذلك فقد وجدنا لدى هذا المؤرخ الفرنسي الكبير نوعا من التحفظ الديكارتي يحول بينه وبين صياغة تفكيره الخاص في صورة منهجية مكتملة. أما ابن خلدون، فقد تمكن من قبل من اكتشاف منطق التاريخ في مجرى أحداثه، فكان بهذا المؤرخ الأول الذي قام بالبحث عن هذا المنطق إذا لم نقل أنه قد قام بصياغته فعلاً. فقد كان يمكن أن يكون أول من أتيح له أن يصوغ قانون الدورة التاريخية ( La Loi du Cycle) لولا أن مصطلح عصره قد وقف به عند ناتج معين من منتوجات الحضارة ونعني به- الدولة- وليس عند الحضارة نفسها. وهكذا لم نجد فيما ترك ابن خلدون غير نظرية عن تطور الدولة. في حين أنه كان من الأجدى لو أن نظريته رسمت لنا تطور الحضارة، حيث كنا نستطيع أن نجد فيها ثروة من نوع آخر، غير ذلك الذي أثرانا به فعلاً. إِذ لم تكن عبقرية ابن خلدون بعاجزة عن أن ترسم لنا ذلك التطور في صورة منهج قائم بذاته. ولقد كان القرن التاسع عشر هو القرن الذي ولدت فيه أول تفسيرات الواقعة الاجتماعية في إطار ظاهرة معينة هي "الحضارة" غير أن ماركس ومدرسته

_ (1) بالتعميم الذي قصدناه في فصل سابق.

حينما طبقا على هذه الواقعة الاجتماعية منطق الجدلية المادية، فقد كان طبيعيا أن يجدا في الشروط الاجتماعية الخاصة بأوروبا في عهدها الفكتوري ما يبرر النزعة المادية التاريخية في نظرهم. فماركس ومدرسته يذهبان إلى ان كل اكتمال تاريخي لا يكون إلا نتيجة الضرورات المادية، وحاجات الإنسان الأساسية وبالتالي الوسائل الفنية التي يخترعها ويستعملها في تلبية تلك الحاجات. فالحاجة والفن الصناعي يمثلان في نظر ماركس مركزي التقاطب لقوى الانتاج، المركزين اللذين يحددان العلاقات الاجتماعية الخاصة بحضارة معينة، كما يحددان هذه الحضارة ذاتها معنويا وماديا. ولكن هذه النظرية لا تفسر لنا النقطة الأساسية الماثلة فيما يحدث من تفكك العلاقات الاجتماعية، وتلاشي الحضارات، دون ظهور أي تغيير في طبيعة الحاجات ووسائل الانتاج. فحضارات أمريكا السابقة على العهد الكولومبي. وكذلك الحضارة الرومانية لم تتلاش لفقدها الوسائل الصناعية والحاجات. وهكذا نجد في التفسير الماركسي للوقائع التاريخية ثغرة أحدثها التحليل المفرط في المنهجية لهذه الوقائع، ذلك التحليل الذي يتخذ نقطة انطلاق، من حتمية مادية أي من عملية ميكانيكية لا إرادية لتخطيط الحضارة. أما القرن العشرون فقد شاهد بوادر تفتح مناهج أخرى للتفسير، ينفسح فيها المجال داخل "تكوين" الحضارة لعوامل أخرى غير العوامل المقصورة على حاجة الإنسان المادية ووسائل الإنتاج. فقد وضحنا سالفا كيف يفسر "كسرلنج" الحضارة الأوروبية باعتبارها تركيبا مكونا من "روح" المسيحية، وتقاليد الجرمانية. غير أن هذا الفيلسوف لم يكن هو السابق إلى هذا الطريق فقد سار فيه من قبل المؤرخ الفرنسي "جيزو" الذي كان ينظر إلى الأشياء من هذه الزاوية نفسها قبل "كسرلنج" بقرن كامل.

ثم يأتينا بعد ذلك فيلسوف ألماني آخر، ونعني به "سبنجلر" ( Spengler) ليقودنا إلى نظرية أخرى. تفسر الحضارة باعتبارها ثمرة لعبقرية خاصة تسم عصرا معينا بميسم ابتداع أساسي، كما هو الشأن في "علم الجبر" بالنسبة إِلى الحضارة العربية. وهكذا نجد في هذه النظرية العامل العنصري يتسرب على يد "سبنجلر" إلى المذاهب التاريخية، وهو العامل الذي سوف يتاح لدوره التاريخي فيما بعد، أن يحقق اكتماله المنهجي في المدرسة الهتلرية على يد روزنبرج. ثم إن بعد ذلك بقليل. فيما بين الحربين العالميتين، نرى فيلسوفا جرماني الأصل "بلطي" الجنسية، وهو ولتر شوبرت ( Walter Schubart) يقوم بدوره بتكييف طريقة "سبنجلر" - إذا لم أقل مذهبه- مع نظريته التي تفسر الحضارة باعتبار نتاج عبقرية عصر معين وليس باعتبارها نتاج عبقرية جنس معين. فقد بين "ولتر شوبرت" في كتاب قليل الذيوع بعنوان "أوروبا وروح الشرق" أن لكل عصر عبقريته الخاصة- أو " روحه الكلي " ( éon) - الذي يسم حضارة هذا العصر أو ذاك بسمته الخاصة. أما المؤرخ الانجليزي الكبير "جون أرنولد توينبي" فقد جاء من ناحيته بتفسير ضخم للحضارة يلعب فيه العامل الجغرافي دورا أساسيا. وقد كان مواطنه "السير جون هالفورد" ( Sir j.Hallford) قد سبقه بنصف قرن من الزمان إلى إدخال العامل الجغرافي بطريقة منهجية في تفسير الحضارة. فكان عنوان نظريته المنصبة بصفة خاصة على غايات سياسية وعسكرية "القاعدة الجغرافية للتاريخ". غير أن " توينبي" يُدخل هذا العامل الجغرافي ضمن مذهبه المتمثل فيما يدعوه "بالتحدي" ( défi) ، وهو المذهب الذي يفسر الحضارة كـ"رد" معين يقوم به أحد الشعوب أو الأجناس مواجهة لـ"تحد" معين.

والطبيعة بالخصوص- أي الجغرافيا- هي التي تقوم بهذا ((التحدي)) وحسب مستوى التحدي، وفعالية "الرد" عليه من طرف الشعوب المواجَه به. فإن حضارته تكون بين احتمالات ثلاث: فهي إما أن تقوم بوثبة إلى الأمام. وإما أن تصاب بالتوقف والجمود. وإما أن يلفها الفناء بردائه. وإذا نحن حاولنا بعد الذي سردنا من النظريات أن نستعمل إحداها في تفسير لواقعة تاريخية محددة- ولتكن الحضارة الإسلامية على سبيل المثال- فإننا نجد أنها لا ترضينا تمام الرضى. إذا نحن لا نرى في "تكوين" هذه الحضارة العامل الجغرافي أو المناخي في شكل "تحدٍّ" معين حسب نظرية توينبي، ولا العامل الاقتصادي الزوجي الأساس المتمثل في الحاجة، الوسيلة الصناعية حسب نظرية ماركس. أما نظرية "الروح الكلي" ( ecn) فلا تستطيع بدورها تفسير الظاهرة الإسلامية مع الظروف النفسية- الزمنية التي رافقتها، كما سبق لي أن أوضحت ذلك في كتابي "الظاهرة القرآنية"، ولقد يبدو في أفكار ((كسرلنج)) ما يمدنا بتخطيط تحليلي للواقعة المسيحية، نستطيع أن ندرج في نطاقه الواقعة الاسلامية. وذلك لما فيها من وجوه التماثل البيولوجية- التاريخية المعينة. التي تضع الحضارة في كلتا الواقعتين، ضمن حالات تطورية متشابهة. وهي حالات قد أعدت لها جميع اللغات المتطورة مصطلحاً خاصا لتحديدها. إذ تشير إلى هذه الحالات الثلاث: بالنهضة، والأوج، والأفول. وعلى هذا فـ"كسرلنج" و"أوسفالد شبنجلر)، لم يخرجا في دراستيهما من حيث المصطلح الشعبي في اللغات المتطورة عن واقع التاريخ وهو التقاء فرضته طبيعة الأحداث وليس مجرد الصدفة العارضة. ولو حاولنا الآن بدورنا عرض التحليل التاريخي في صورة تخطيطية لأمكننا

- كما يحدث ذلك عند عرض ظاهرة فيزيقية- أن نشاهد قانون ظاهرة الحضارة. فنحن نعلم مسبقا أن حضارة معينة تقع بين حدين اثنين: الميلاد والافول. وإذن فنحن نملك هنا نقطتين اثنتين من دورتها باعتبارهما ليستا محل نزاع. والمنحنى البياني يبدأ بالضرورة من النقطة الأولى في خط صاعد، ليصل إلى النقطة الثانية في خط نازل. فما الذي يمكننا أن نضع من طور انتقالي يتوسط هذين الخطين؟ ويجيبا المصطلح الشعبي- (الذي سبق ذكره، والذي يلتقي كما رأينا مع التحليل التاريخي) - مشيرا إلى طور وسيط هو: الأوج. وبين الطورين الأولين يوجد بالضرورة توازٍ معين، يشير إلى تعاكس في الظاهرة. فطور الأفول النازل هو عكس طور النهضة الصاعدة. وبين الطورين يوجد بالضرورة اكتمال معين هو: طور انتشار الحضارة وتوسعها. ولو حاولنا ترجمة هذه الاعتبارات في صورة تخطيطية لحصلنا على التخطيطي التالي: .......... «صورة التخطيط» .......... فنحن نملك الآن أمام أنظارنا، وسيلة نستطيع بها تتبع اطراد حضارة معينة، بطريقة شاهدة على نحو من الانحاء، كما تمكننا من عقد الصلات المشروعة بين العوامل النفسية- الزمنية المختلفة التي تلعب دورا في هذا الاطراد بالضرورة. ومن المؤكد أنه عندما نتناول الحضارة الإسلامية فلا بد من أن يدخل في اطرادها بالضرورة عاملان هما: الفكرة الإسلامية التي هي أصل الاطراد نفسه؛ والإنسان المسلم الذي هو السند المحسوس لهذه الفكرة.

وعليه فإنه مما ينسجم وطبيعة الأشياء حينما ندرس تطور هذه الحضارة، أن ندرس من حيث الأساس العلاقة العضوية التي تربط الفكرة بسندها. وإذن فكل القيم النفسية- الزمنية التي تميز مستوى حضارة ما في وقت معين، ليست إلا الترجمة التاريخية لهذه العلاقة العضوية بين فكرة معينة كالاسلام مثلا، والفرد الذي يمثل بالنسبة إليها السند المحسوس. وهو هنا المسلم. ومن هنا تعين علينا اللجوء إلى لغة التحليل النفسي بغية تتبع اطراد الحضارة باعتباره صورة زمنية للافعال وردود الأفعال المتبادلة والتي تتولد منذ مطلع هذا الاطراد بين الفرد والفكرة الدينية التي تبتعث فيه الحركة والنشاط. وحينئذ فعندما نعتبر الفرد عند نقطة الصفر في الصورة التخطيطية التي قدمناها فإننا نجده في الحالة التي يعرفها بعض المؤرخين المسلمين بـ"الفطرة"، مع جميع غرائزه كما وهبته إياها الطبيعة. فالفرد في هذه الحالة ليس أساسه إلا "الانسان الطبيعي" أو الفطري ( L'homonatuna) غير أن الفكرة الدينية سوف تتولى إِخضاع غرائزه إلى " عملية شرطية "، ( Conditionnement) تمثل ما يصطلح عليه علم النفس "الفرويدي" بـ"الكبت" ( Refoulement) . وهذه العملية الشرطية ليس من شأنها القضاء على الغرائز ولكنها تتولى تنظيمها في علاقة وظيفية مع مقتضيات الفكرة الدينية: فالحيوية الحيوانية التي تمثلها الغرائز بصورة محسوسة لم تلغ ولكنها انضبطت بقواعد نظام معين. وفي هذه الحالة يتحرر الفرد جزئيا من قانون الطبيعة المفطور في جسده. ويخضع وجوده في كليته إلى المقتضيات الروحية التي طبعتها الفكرة الدينية في نفسه. بحيث يمارس حياته في هذه الحالة الجديدة حسب قانون الروح. هذا القانون نفسه هو الذي كان يحكم بلالاً حينما كان تحت سوط العذاب يرفع سبابته ولا يفتر عن تكرار قوله "أحد! .. أحد! .. " إذ من الواضح أن هذه القولة لا تمثل صيحة الغريزة. فصوت الغريزة قد صمت، ولكنه لا يمكن

أن يكون قد ألغي بواسطة التعذيب. كما أنها لا تمثل صوت العقل أيضا فالألم لا يتعقل الأشياء. إنها صيحة الروح التي تحررت من إسار الغرائز بعدما تمت سيطرة العقيدة عليها نهائيا في ذاتية "بلال بن رباح"؟ كذلك كان المجتمع الاسلامي يحكمه هذا التغير نفسه. إذ كان شأنه شأن "بلال" لا يتحدث بلغة غريزة اللحم والدم من ناحية ومن ناحية أخرى فإن صوت العقل كان لا يزال صامتا في هذا المجتمع الوليد. فكل لغة هذا العمر قد كانت روحية المنطق إذ هي بنت الروح أولاً وقبل كل شيء. ذلكم هو الطور الأول من أطوار حضارة معينة. الطور الذي تروّض فيه الغرائز وتسلك في نظام خاص تكبح فيه الجماح وتتقيد عن الانطلاق. إنها الروح في صوت بلال هي التي تتكلم وتتحدى بلغتها الدم واللحم. كما أن ذلك الصحابي كأنه يتحدى بسبابته المرفوعة الطبيعة البشرية ويرفع بها، في لحظة معينة، مصير الدين الجديد. كما أنها هي نفسها تتحدث بصوت تلك "المرأة الزانية" التي أقبلت إلى "الرسول" لتعلن عن خطيئتها وتطلب إقامة حد الزنى عليها. فالوقائع هذه جميعها تخرج عن معايير الطبيعة. وتدل على أن الغريزة قد كبتت. غير أنها ظلت محتفظة بنزوعها إلى التحرر. وهنا ينشب الصراع المحتدم بين هذا النزوع وسيطرة الروح. وفي الوقت نفسه يواصل المجتمع الذي أبرزته الفكرة الدينية إلى النور تطوره. وتكتمل شبكة روابطه الداخلية، بقدر امتداد إِشعاع هذه الفكرة في العالم، فتنشأ المشاكل المحسوسة لهذا المجتمع الوليد نتيجة توسعه، كما تتولد ضرورات جديدة نتيحة اكتماله. وحتى تستطيع هذه الحضارة تلبية هذه المقاييس المستجدة تسلك منعطفا جديدا، فإما أن يتطابق مع "النهضة" كما نراها بالنسبة إلى الدورة الأوروبية. وإما أن يتطابق مع استيلاء الأمويين على الحكم

كما هو شأن الدورة الإسلامية. وفي كلا الحالتين فإن المنعطف هو منعطف العقل. غير أن هذا العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز. وحينئذ تشرع الغرائز في التحرر من قيودها بالطريقة التي شاهدناها في عهد بني أمية. إذ أخذت الروح تفقد نفوذها على الغرائز بالتدريج. كما كف المجتمع عن ممارسة ضغطه على الفرد. ومن الطبيعي أن الغرائز لا تتحرر دفعة واحدة. وإنما هي تنطلق بقدر ما تضعف سلطة الروح. وأثناء مواصلة التاريخ سيره. نرى هذا التطور يستمر في نفسية الفرد. وفي البنية الأخلاقية للمجتمع الذي يكف عن تعديل سلوك الأفراد. وبقدر ما تتحرر هذه النزعة من قيودها في المجتمع يكف التحرر الأخلاقي الذي يمارسه الفرد في أفعاله الخاصة، شيئا فشيئا. ولو استطعنا في هذا الحين بوسيلة دقيقة المراقبة لهذه الظروف النفسية بغية تتبع نتائج هذا الاطراد- كما هو الشأن في وسائل المراقبة التي تتوفر في مختبرات علوم الطبيعة- لأمكن أن نلاحظ انخفاضا في مستوى أخلاق المجتمع. أو أننا نلاحظ- وهو ما يؤول إلى النتيجة نفسها- نقصا في الفعالية الاجتماعية للفكرة الدينية، وأن هذه الفكرة تظل مواصلة لنقصانها منذ أن دخلت الحضارة منعطف العقل. فأوج أي حضارة- وأعني به ازدهار العلوم والفنون فيها- يلتقي من وجهة نظر "علم العلل (1) " البحت مع بدء مرض اجتماعي معين لمِّا يجتذب انتباه المؤرخين وعلماء الاجتماع بعد. لأن آثاره المحسوسة لا تزال بعيدة. وبهذا نواصل الغريزة المكبوحة الجماح بيد الفكرة الدينية سعيها إلى الانطلاق والتحرر وتستعيد الطبيعة غلبتها على الفرد وعلى المجتمع شيئا فشيئا. وعندما يبلغ هذا التحرر تمامه، يبدأ الطور الثالث من أطوار الحضارة.

_ (1) ( étiologie) .

طور الغريزة التي تكشف عن وجهها تماما. وهنا تنتهي الوظيفة الاجتماعية للفكرة الدينية التي تصبح عاجزة عن القيام بمهمتها تماما في مجتمع منحل يكون قد دخل نهائيا في ليل التاريخ وبذلك تتم دورة في الحضارة. وهكذا نكون في هذا الطور إزاء علم بعثته الدوافع النامية عن الفكرة الدينية، وأشرقت به أنوار الحضارة غير أنه إذا انتهت دورتها فقد جرفته الفوضى واستحال إلى عدم. أو إلى علم إنتفاعي يعيش أصحابه على حساب الجهل المنتشر. فدورة الحضارة اذن تتم على هذا المنوال، إذ تبدأ حينما تدخل التاريخ فكرة دينية معينة، أو "عندما يدخل التاريخ مبدأ أخلافى معين" ( Zthos) على حد قول " كيسرلنج " كما أنها تنتهي حينما تفقد الروح نهائيا الهيمنة التي كانت لها على الغرائز المكبوتة أو المكبوحة الجماح. وقبل بدء دورة من الدورات أو عند بدايتها يكون الانسان في حالة سابقة للحضارة. أما في نهاية الدورة فإن الإنسان يكون قد تفسخ حضاريا وسلبت منه الحضارة تماما. فيدخل في عهد ما بعد الحضارة. فإذا كان ممكنا المماثلة بين هاتين الحالتين من وجهة نظر سطحية لما فيهما من وجه الشبه الظاهرية. فإنه من الخطأ المماثلة بينهما من وجهة بيولوجية- تاريخية: إذ الانسان الذي تفسخ حضاريا مخالف تماما للانسان السابق على الحضارة أو الإنسان الفطري. فالأول ليس مجرد إنسان خارج عن الحضارة فحسب- كما هي الحال مع الثاني الذي سميناه فيما سلف "بالإنسان الطبيعي" إذ الانسان المسلوب الحضارة لم يعد قابلا لانجاز "عمل مُحَضر" ( Oeuvre Civilisatrice) إلا إِذا تغير هو نفسه عن جذوره الأساسية. وعلى العكس من ذلك، فإن الإنسان السابق على الحضارة يظل مستعدا -كما هي الحال مع البدوي المعاصر للنبي- للدخول في دورة الحضارة.

ونستطيع التمثيل لهذه الاعتبارات بصورة مستقاة من "علم الطاقة المائية ". وذلك باتخاذنا كحد للمقارنة " جزئيا " من الماء في وضعين مختلفين: يكون في أولهما "قبل" وصوله إلى خزان ينتج الكهرباء وفي ثانيهما "بعد" خروجه منه. فهذا الجزيء عندما يكون " قبل " الخزان: يعطينا صورة للانسان السابق على الحضارة، أي الذي لم يدخل بعد في دورة حضارة معينة: فهو جزيء منطو على طاقة مذخورة معينة. قابلة لتأدية عمل نافع، إذا ما استعملتها أجهزة الخزان في الري أو في انتاخ الكهرباء. غير أن هذا الجزيء يصبح قاصرا عن تأدية العمل نفسه، منذ أن يصبح "بعد" الخزان، لأنه يكون قد فقد طاقته المذخورة: وهو ما يعطينا صورة للانسان المنحل حضاريا أو الإنسان الذي خرج من دورة الحضارة. ذلك ان هذا الجزيء الخارج من خزانه، لم يعد في امكانه أن يستعيد حالته إلا بواسطة عملية جوهرية تتمثل في عملية التبخر التي ترجع له إلى حالة بخارية. وفي التيارات الجوية الملائمة التي ترجعه إلى أصله. حيث يتم تحوله من جديد إلى جزيء مائي واقع "قبل" خزان معين. تلك صورة للانسان قبل دخوله في دورة حضارة من الحضارات، وبعد خروجه منها. والاعتبارات هذه تبين لنا كيف "تشرط" الفكرة الدينية سلوك الانسان حتى تجعله قابلا لانجاز رسالة "محضرة" غير أن دور الفكرة الدينية لا يكتفي بالوقوف عند هذا الحد. ـ فهي تحل لنا مشكلة نفسية اجتماعية أخرى، ذات أهمية أساسية تتعلق باستمرار الحضارة. فالمجتمع لا يمكنه مجابهة "الصعوبات" (1) التي يواجهه بها التاريخ كمجتمع ما لم يكن على بصيرة جلية من هدف جهوده. غير أن النشاط الاجتماعي لا يكون مثمرا، فعالا وقابلا للبقاء والاستمرار

_ (1) راجع محاضر المؤلف عن "الصعوبات كعلامة نمو في المجتمع".

إلا مع وجود " سبب " معين، يكون من شأنه أن يشرط الطاقات التي يحركها هذا السبب بغائية معينة. وضمن هذه العلاقة، تبدو أفكار " توينبي " أدنى إلى الصواب من أفكار ماركس. إذ الواقع أن نظرية " التحدي " تفسر السبب الذي يشرط التاريخ بغائية معينة. ذلك بإثارة هذا التحدي لمجرد غريزة البقاء الكائنة في إحدى المجموعات البشرية. بينما تظل نظرية الحاجة عاجزة عن تفسير الواقعة نفسها بغية اللجوء إِلى نوع من المواربة السياسية وذلك باعتمادها على " وعي طبقي " معين أي بإضفائها صبغة سياسية على المشكلة. " فالتحدي " يستلزم عمليا " تعاضدا " أو " ارتباطا تعاونيا " معينا بين أفراد مجموعة بشرية معينة، اقتضى منها وضعها الرد على هذا التحدي بصورة جماعية متآزرة. وعلى العكس من ذلك. فحاجة القوت الأساسية تستدعي الغريزة الفردية. وتستلزم " منافسة " أو " مزاحمة " معينة، يتصرف فيها كل فرد لحسابه الخاص مدفوعا بالقوانين السفلية الموروثة عن النظام الحيواني. وعلاوة على ذلك، فالفكرة الدينية التي تشرط سلوك الفرد- كما سبق أن أوضحنا ذلك- تخلق في قلوب المجتمع بحكم غائية معينة (1). وذلك بمنحها إياها الوعي بهدف معين، تصبح معه الحياة ذات دلالة ومعنى. وهي حينما تمكن لهذا الهدف من جيل إلى جيل ومن طبقة إلى أخرى. فإِنها حينئذ تكون قد مكنت لبقاء المجتمع ودوامه وذلك بتثبتها وضمانها لاستمرار الحضارة. وإن هذه المشكلات ذاتها التي تتعلق بعلم النفس الفردي والاجتماعي. قد سبق أن وجدت لها الفكرة الإسلامية حلها منذ ثلاثة عشر قرنا من الزمن. حتى تحرك الانسان السابق على الحضارة والذي بنى الحضارة الإسلامية .... إلى حيث يسوقه الله.

_ (1) تتجلى هذه "الغائية" في مفهوم "آخرة" وتتحقق تاريخيا في صورة حضارة.

العنصر الأول: الإنسان

الْعُنْصُرُ الْأَوَّلُ: الْإِنْسَانُ

إن المشاكل التي تحيط بالإنسان (1) تختلف باختلاف بيئته، فالإنسانية لا تعاني مشكلة واحدة، بل مشاكل متنوعة، تبعا لتنوع مراحل التاريخ. فلا يمكن لنا أن نقارن في الوقت الحاضر بين رجل أوروبا المستعمر، ورجل العالم الإسلامي القابل للاستعمار، لأن كليهما في طور تاريخي خاص به. ففي بلد أوروبية كبلجيكا، نجد الرجل لا يتمتع بتوازن اقتصادي في حياته، فهنالك اضطراب نتج عن عدم الملاءمة بين حاجاته وتيار الانتاج الصناعي المسرع، ومن هنا تنشأ مشكلة اجتماعية يعانيها شعب بلجيكا، وهي مشكلة "حركة" مضطربة لا يشعر بها شعب لا يعيش في مجال هذا التيار. بينما البلاد الإسلامية على نقيض ذلك أزمتها ليست في الحركة بل في "الركود"، فهو مشكلة الإنسان المتوطن فيها، الذي عزف عن الحركة، وقعد عن السير في ركب التاريخ. فالأمر في الحالة الأولى يتعلق بحاجات غير مشبعة، وديناميكية مضطربة، على حين يتعلق في الأخرى بعادات راكدة وضعت الفرد في حالة توازن خامد، وخمول تام، في الوقت الذي خطت فيه الحضارة خطوات العماليق. وعليه فالأمر متصل بمشكلتين مختلفتين في أساسهما، فهنالك هم في حاجة الى مؤسسات، بينما نحتاج هنا إلى رجال، فمن الرجل تنبع المشكلة الإسلامية بأكملها، وبخاصة في الجزائر، فالمسألة هي: يجب أولا أن نصنع رجالاً يمشون في التاريخ، مستخدمين التراب والوقت والمواهب في بناء أهدافهم الكبرى.

_ (1) ندرس هنا مشكلة الإنسان في عمومها، وسيكون الحديث غالبا عن الرجل ثم نخصص فصلا للمرأة بعد ذلك

ففي بلاد مستعمرة كالجزائر، نرى أنه ليس فيها طبقات، وإنما هنالك صنفان من الناس: الصنف الأول: وهو الذي يسكن المدينة، إما متعطل لا يعمل شيئا، وإما أنه يبيع بعض العقاقير والحاجات، وإما أنه " شاويش " في إدارة استعمارية، وبعض آخر نجده محاميا أو صيدليا أو قاضيا، وقليل ما هم. والصنف الثاني: وهو الذي يسكن البادية مترحلاً بلا مواش، فلاحا بلا محراث ولا أرض. والفرق بين هذين الصنفين هو أن ساكن الحضر رجل قليل، تتمثل فيه القِلة في كل شيء. والثاني رجل الفطرة الذي يرضى من الأشياء بالعدم، ولكن رب عدم خير من القليل، إذ أن رجل المدينة الذي رضي بالقليل من الأشياء، قد تغلغلت في نفسه دواعي الانحطاط التي قضت على المدنيات المتعاقبة على بلاده من أيام قرطاجنّة، فهو يحمل روح الهزيمة بين جوانحه، فقد عاش حياته دائما في منحدر المدينة إذ هو دائما في منتصف طريق. وفي منتصف فكرة، وفي منتصف تطور، لا يعرف كيف يصل إلى هدف، إذ هو ليس "نقطة الانطلاق" في التاريخ كرجل الفطرة؛ ولا " نقطة الانتهاء " كرجل الحضارة، بل هو " نقطة التعليق " في التطور، وفي التاريخ، وفي الحضارة. فرجل المدينة إذن يصدق عليه هذان الوصفان: " رجل القلة " و " رجل النصف " الذي دخل في ميدان فكرة هي الاصلاح، فمسخها (نصف فكرة) وأطلق عليها اسم " السياسة " لأنه لم يكن مستعدا إلا لنصف جهد، ونصف اجتهاد، ونصف طريق. واليوم فإن ذلك الرجل المقل يحاول وضع القضية الجزائرية في طريق نصف الحل، أمام المجلس المنصف بين المستعمرين وأهل البلاد ذلك المجلس الذي فرضه الاستعمار كميدان لإنصاف المثقفين (1).

_ (1) ولا زال هذا النوع يحمل بين طياته كل النكبات التي تحل ببلاده، متكررة كل مرة في ثوب جديد.

فقد صار من اللازم أن نضع أمامنا المشكلة بأكملها، وأن نأخذ في اعتبارنا - على الأخص- عنصرها الأساسي: الرجل، ويلزمنا أولاً أن نفم كيف يؤثر الإنسان في تركيب التاريخ الذي درسنا قانونه في الفصل السابق. ومن الملاحظ أنه في القرن العشرين يؤثر الفرد في المجتمع بثلاثة مؤثرات: أولاً: بفكره. ثانياً: بعمله. ثالثاً: بماله. وحاصل البحث أن قضية الفرد منوطة بتوجيهه في نواح ثلاثة: أولا- توجيه الثقافة. ثانيا- العمل. ثالثا- رأس المال. ***

فكرة التوجيه

فِكْرَةُ التَّوْجِيهِ لا بد لنا- قبل كل شيء- من تعريف فكرة التوجيه، فهو- بصفة عامة- قوة في الأساس، وتوافق في السير، ووحدة في الهدف فكم من طاقات وقوى لم تستخدم، لأننا لا نعرف كيف نكتلها! وكم من الطاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفها، حين زحمتها قوى أخرى، صادرة عن نفس المصدر، متجهة إلى نفس الهدف! فالتوجيه هو تجنب هذا الاسراف في الجهد وفي الوقت. فهناك ملايين السواعد العاملة، والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية، صالحة لأن تستخدم في كل وقت، والمهم هو أن ندير هذا الجهاز الهائل، المكون من ملايين السواعد والعقول، في أحسن ظروفه الزمنية، والانتاجية، المناسبة لكل عضو من أعضائه. وهذا الجهاز حين يتحرك، يحدد مجرى التاريخ نحو الهدف المنشود، وفي هذا تكمن أساسا فكرة توجيه الإنسان، الذي تحركه دفعة دينية، وبلغة الاجتماع: الذي يكتسب من فكرته الدينية معنى (الجماعة) ومعنى (الكفاح).

توجيه الثقافة

تَوْجِيهُ الثَّقَافَةِ تعريف الثقافة: إن توجيه الأشياء الإنسانية يعني أولاً تعريفها، وفي التاريخ منعطفات هائلة خطيرة، يتحتم فيها هذا التعريف، والنهضة في العالم الاسلامي إحدى تلك المنعطفات، والثقافة من هذه الأشياء الأساسية التي تتطلب بإلحاح تعريفها، بل تعريفين: الأول: يحددها في ضوء حالتنا الراهنة. والثاني: يحددها حسب مصيرنا. لأن جيلنا هذا حد فاصل بين عهدين: عهد الكساد والخمول، وعهد النشاط والمدنية. فنحن قد شرعنا في بناء نهضتنا منذ خمسين عاما، ذلك هو مكاننا أي تلك هي اللحظة الخاطفة التي تسجل نهاية الظلام في ضميرنا، ودبيب الحياة في ذلك الضمير. فهي اللحظة الفارقة بين عهد الفوضى الجامدة، والجمود الفوضوي، وعهد التنظيم والتركيب والتوجيه. وحينما يصل التاريخ إلى مثل هذا المنعطف من دورة الحضارة، فإنه يصل الى المنطقة التي تتصل فيها نهاية عهد ببداية عهد آخر، ويتجاوز فيها ماضي الأمة المظلم، مع مستقبلها المشرق البسام. وهكذا حين نتحدث عن النهضة، يلزمنا أن نتصورها من ناحيتين:

1 - تلك التي تتصل بالماضي، أي بخلاصة التدهور، وتشعبها في الأنفس والأشياء. 2 - تلك التي تتصل بخمائر المصير، وجذور المستقبل. هذا التمييز الضروري ليس موضوعه مظهر الترف العقلي لطائفة من الناس من نوع " الباشوات "، ولكن موضوعه تكييف حالة شعب بأكمله، وتقرير مصيره، بما في ذلك حالة السائل، ما دام السؤال موجودا في النظام الاجتماعي. وإنه ليجب بادىء الأمر تصفية عاداتنا وتقاليدنا، وإطارنا الخلقي والاجتماعي، مما فيه من عوامل قتالة، ورمم لا فائدة منها، حتى يصفو االجو للعوامل الحية والداعية إلى الحياة. وإن هذه التصفية لا تتأتى إلا بفكر جديد، يحطم ذلك الوضع الموروث عن فترة تدهور مجتمع أصبح يبحث عن وضع جديد، هو وضع النهضة. ونخلص من ذلك إلى ضرورة تحديد الأوضاع بطريقتين: الأولى: سلبية تفصلنا عن رواسب الماضي. والثانية: إيجابية تصلنا بيمقتضيات المستقبل. ولعل هذه النظرية قد لوحظ أثرها في الثقافة الغربية في عهد نهضتنا إِذ كان توماس الاكويني ينقيها- ولو عن غير قصد منه- لتكون الأساس الفكري للحضارة الغربية. وما كانت ثورته ضد ابن رشد، وضد القديس أوغسطين، إلا مظهراً للتجديد السلبي، حتى يستطيع تصفية ثقافته مما كان يراه فكرة إسلامية؛ أو ميراثا ميتا فيزيقياً للكنيسة البيزنطية. وأتى بعده ديكارت بالتحديد الايجابي، الذي رسم الثقافة الغربية طريقها الموضوعي، الذي يبنى على المنهج التجريبي ذلك الطريق، الذي هو في الواقع السبب المباشر لتقدم المدينة الحديثة تقدمها المادي.

والحضارة الإسلامية نفسها قامت بعملية التحديد هذه من ناحيتها السلبية والايجابية، إلا أن الحضارة الإسلامية قد جاءت بهذين التحديدين مرة واحدة، وصدرت فيهما عن القرآن الكريم، الذي نفى الأفكار الجاهلية البالية، ثم رسم طريق الفكرة الاسلامية الصافية التي تخطط للمستقبل، بطريقة ايجابية. وهذا العمل نفسه لازم اليوم للنهضة الإسلامية. ولعل هذه المسألة قد أصبحت منذ زمن قريب موضع بحث وتأمل وإننا لنجد فعلاً في روح الاصلاح التي هبت على العالم الاسلامي منذ محمد عبده وتلامذته كابن باديس، بشائر ذلك التحديد السلبي الذي حاولوا فيه تحطيم عللنا وعوامل انحطاطنا. ولكن الدوائر الأزهرية والزيتونية لم تعبأ بتلك المحاولة من قبل محمد عبده وتلامذته، ولم تستطع أن تتصور في بعض الأحيان النتائج التي تقتضيها الحركة الاصلاحية، وهذا الأمر يعود بلا شك إلى ما بقي في أنفسنا من وطأة شديدة للانحطاط. وأما التحديد الإيجابي فإننا، وإِن كان قد وضح لنا مجمله، إلا أنه لا يزال غامضا غير محدد. فليس المقصود هنا من التحديد الايجابي وضع منهاج جديد للتفكير فإن ديكارت قد وضعه بصورة لا نتوهم تغييرها. إلا بانقلاب علمي هائل، لا تحتمله الظروف الآن. وإِنما المقصود تحديد محتواه من العناصر الجوهرية التي نراها لازمة تماما للثقافة وهي: 1 - الدستور الخلقي. 2 - الذوق الجمالي. 3 - المنطق العملي.

4 - الصناعة بتعبير ابن خلدون أي ( Cechnigue) . ... ولكن هذا التحديد المزدوج للثقافة لا أثر له إلا إذا زال ذلك الخلط الخطير الشائع في العالم الاسلامي، بين ما تفيده كلمتا " ثقافة " و " علم ". ففي الغرب يعرفون الثقافة: على أنها تراث "الانسانيات الاغريقية اللاتينية" بمعنى أن مشكلتها ذات علاقة وظيفية بالإنسان: فالثقافة على رأيهم هي: " فلسفة الإنسان ". وفي البلاد الاشتراكية، حيث يطبع تفكير ماركس كل القيم، عرف (يادانوف) الثقافة- في تقريره المشهور الذي قدمه منذ عشر سنوات لمؤتمر الحزب الشيوعي في موسكو- على أنها ذات علاقة وظيفية بالجماعة، فالثقافة عنده هي: فلسفة المجتمع. ونزيد هنا أن هذين التعريفين يعتبران من الوجهة التربوية مشتملين على " فكرة عامة " عن الثقافة. دون تحديد لمضمونها القابل لأن يدخله التعليم في سلوك الفرد وأسلوب الحياة في المجتمع. وهذا ما نريد أن نحاوله هنا. حين نربط ربطا وثيقا بين الثقافة والحضارة. وفي ضوء هذا الربط تصبح الثقافة نظرية في السلوك، أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة، وبهذا يمكن أن يقاس الفرق الضروري بين الثقافة والعلم. ولكي نفهم هذا الفرق يجب أن نتصور- من ناحية- فردين مختلفين في الوظيفة وفي الظروف الاجتماعية، ولكنهما ينتميان لمجتمع واحد، كطبيب انجليزي، وراع انجليزي مثلاً. ومن ناحية أخرى نتصور فردين متحدين في العمل والوظيفة، ولكنهما ينتميان إلى مجتمعين في درجة تقدمهما وتطورهما، فالأولان يتميز سلوكهما إزاء

مشكلات الحياة بتماثل معين في الرأي، يتجلى فيه ما يسمى "الثقافة الانجليزية". بينيما يختلف سلوك الآخرين أحيانا اختلافا عجيبا يدل على طابع الثقافة الذي يميز أحد الرجلين عن صاحبه، لأنه يميز المجتمع الذي ينتمي إليه. هذا التماثل في السلوك في الحالة الأولى، والاختلاف في السلوك في الثانية، هما الملاحظتان المسلم بهما في المشكلة التي أمامنا، وعليه فالتماثل أو الاختلاف في السلوك ناتج عن الثقافة لا عن العلم. ونحن نريد أن نؤكد هذا، لندرك أن السلوك الاجتماعي للفرد خاضع لأشياء أعم من المعرفة، وأوثق صلة بالشخصية، منهم، بجمع المعلومات، وهذه هي الثقافة. فالثقافة إذن تتعرف بصورة عملية على أنها: مجموعة من الصفات الخلقية، والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه، والثقافة على هذا هي المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه وشخصيته. وهذا التعريف الشامل للثقافة هو الذي يحدد مفهومها، في المحيط الذي يعكس حضارة معينة، والذي يتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر. وهكذا نرى أن هذا التعريف يضم بين دفتيه فلسفة الإنسان، وفلسفة الجماعة، أي (مَعطِيَّات) الإنسان (ومَعطِيَّات) المجتمع، مع أخذنا في الاعتبار ضرورة انسجام هذه المعطيات في كيان واحد، تحدثه عملية التركيب التي تجريها الشرارة الروحية، عندما يؤذن فجر إحدى الحضارات. ولكن لا سبيل لعودة الثقافة إلى وظيفتها الحضارية إلا بعد تنظيف الموضوع من الحشو أو الانحراف الذي أحدثه فيه عدم فهمنا لمفهوم " ثقافة ". وهذا يعني أنه يجب أولاً أن نوضح هذا الحشو من ناحية، ثم أن نوضح من ناحية أخرى معنى الثقافة، حتى يكون سلوكنا الشخصي وأسلوب الحياة في المجتمع الذي نعيش فيه مطابقين لمفهوم لا غموض فيه، لا من وجهة التاريخ أي

عندما نتصور الثقافة كالشيء الذي يصنع التاريخ، ولا من الوجهة التربوية، عندما نعتبر الثقافة كالشيء الذي يكيف الإنسان الذي يصنع التاريخ، أي عندما نريد فهم وظيفة اجتماعية وتطبيقها في مجتمع معين. الحرفية في الثقافة: فاما الحشو الذي نشير إليه فإنه نتج عن عدم محاولتنا تصفية عاداتنا وصياتنا مما يشوبها من عوامل الانحطاط- كما أشرنا سابقا- أن ثقافة نهضتنا لم تنتج سوى حرفيين منبثين في صفوف شعب أمي. ونحن مدينون بهذا النقص لرجل "القلة" الذي بتر فكرة النهضة فلم ير في مشكلتها إلا حاجاته ومطامعه، دون أن يرى فيها العنصر الرئيسي لما في نفسه من كساد وعليه، فإنه لم ير في الثقافة إلا المظهر التافه، فهي عنده: طريقة ليصبح شخصية بارزة، وإن زاد: فعلم يجلب رزقا. ونتيجة هذا التحريف لمعنى الثقافة متجسدة في ذات ما نسميه: " المتعالم أو المتعاقل". والحقيقة أننا قبل خمسين عاما كنا نعرف مرضا واحدا يمكن علاجه، وهو الجهل والأمية، ولكننا اليوم أصبحنا نرى مرضا جديدا مستعصيا هو (التعالم). وإن شئت فقل: الحرفية في التعلم، والصعوبة كل الصعوبة في مداواته. وهكذا فقد أتيح لجيلنا أن يرى خلال النصف الأخير من هذا القرن ظهور نموذجين من الأفراد في مجتمعنا: حامل المرقعات ذي الثياب البالية، وحامل اللافتات العلمية. فإذا كنا ندرك بسهولة كيف نداوي المريض الأول، فإن مداواتنا للمريض الثاني لا سبيل إليها. لأن عقل هذا المريض لم يقتن العلم ليصيره ضميرا فعالا، بل ليجعله آلة للعيش، وسلما يصعد به إلى منصة البرلمان. وهكذا يصبح العلم مسخة وعملة زائفة، غير قابلة للصرف. وان هذا النوع من الجهل لأدهى وأمر من الجهل المطلق، لأنه جهل حجرته الحروف الأبجدية، وجاهل هذا النوع

لا يقوم الأشياء بمعانيها ولا يفهم الكلمات بمراميها، وإنما بحسب حروفها، فهي تتساوى عنده إذا ما تساوت حروفها، وكلمة "لا" تساوي عنده "نعم" لو احتمل أن حروف الكلمتين متساوية. وكلام هذا المتعالم ليس "كتهتهة" الصبي فيها "صبيانية" وبراءة، فهو ليس متدرجا في طريق التعلم كالصبي، وإنما "تهتهة" يتمثل فيها شيخوخة وداء عضال، فهو الصبي المزمن. فلا بد من إزالة هذا المريض، ليصفو الجو للطالب العاقل الجاد، وعليه فإن مشكلة الثقافة لا تخص طبقة دون أخرى، بل تخص مجتمعنا كله، بما فيه المتعلم، والصبي الذي لما يبلغ مرحلة التعلم، إنها تشمل المجتمع كله. من أعلاه إلى أسفله، إن بقي هناك علو في مجتمع فقد حاسة العلو، فأصبحت هذه الحاسة عنده أفقية، زاحفة، راقدة. إنه لمن أوليات واجبنا أن تعود الثقافة عندنا إلى مستواها الحقيقي ولذلك يجب أن نحددها كعامل تاريخي لكي نفهمها، ثم كنظام تربوي تطبيقي لنشرها بين طبقات المجتمع. معنى الثقافة في االتاريخ: لا يمكن لنا أن نتصور تاريخا بلا ثقافة، فالشعب الذي فقد ثقافته قد فقد حتما تاريخه. والثقافة- بما تتضمنه من فكرة دينية نظمت الملحمة الإنسانية في جميع أدوارها من لدن آدم- لا يسوغ أن تعتبر علما يتعلمه الإنسان، بل هي محيط يحيط به، وإطار يتحرك داخله، يغذي الحضارة في احشائه، فهي الوسط الذي تتكون فيه جميع خصائص المجتمع المتحضر، وتتشكل فيه كل جزئية من جزئياته، تبعا للغاية العليا التي رسمها المجتمع لنفسه، بما في ذلك الحداد، والفنان، والراعي، والعالم، والإمام، وهكذا يتركب التاريخ.

فالثقافة هي تلك الكتلة نفسها، بما تتضمنه من عادات متجانسة وعبقريات متقاربة، وتقاليد متكاملة وأذواق متناسبة. وعواطف متشابهة. وبعبارة جامعة: هي كل ما يعطي الحضارة سمتها الخاصة. ويحدد قطبيها: من عقلية ابن خلدون. وروحانية الغزالي. أو عقلية ديكارت. وروحانية جان دارك. هذا هو معنى الثقافة في التاريخ. معنى الثقافة في التربية: وإذا حاولنا أن نحدد الثقافة بمعناها التربوي، فيجب أن نوضح هدفها، وما تتطلبه من وسائل التطبيق. فاما الهدف فإنه قد اتضح بما قدمنا في الفصل السابق من أن الثقافة ليست علما خاصا لطبقة من الشعب دون أخرى، بل هي دستور تتطلبه الحياة العامة، بجميع ما فيها من ضروب التفكير والتنوع الاجتماعي. وعلى الاخص، إذا كانت الثقافة هي الجسر الذي يعبره المجتمع إلى الرقي والتمدن، فإنها أيضا ذلك الحاجز الذي يحفظ بعض أفراده من السقوط من فوق الجسر إلى الهاوية. وعلى هدي هذه القاعدة تشتمل الثقافة في معناها العام على إطار حياة واحدة، يجمع بين راعي الغنم والعالم، بحيث توحد بينهما دواعٍ مشتركة، وهي تهتم في معناها الخاص بكل طبقة من طبقات المجتمع فيما يناسبها من وظيفة تقوم بها، وما لهذه الوظيفة من شروط خاصة، وعلى ذلك فإن الثقافة تتدخل في شؤون الفرد، وفي بناء المجتمع، وتعالج مشكلة القيادة فيه، كما تعالج مشكلة الجماهير ... وإِذا ما أردنا إيضاحا أوسع لوظيفة الثقافة فلنمثل لها بوظيفة الدم، فهو يتركب من الكريات الحمراء والبيضاء، وكلاهما يسبح في سائل واحد من "البلازما"، ليغذي الجسد: فالثقافة هي ذلك الدم في جسم المجتمع، يغذي

حضارته، ويحمل أفكار "النخبة" كما يحمل أفكار "العامة"، وكل من هذه الأفكار منسجم في سائل واحد من الاستعدادات المتشابهة، والاتجاهات الموحدة، والأذواق المتناسبة. وفي هذا المركب الاجتماعي للثقافة ينحصر برنامجها التربوي، وهو يتألف من عناصر أربعة. يتخذ منها الشعب دستورا لحياته المثقفة: 1 - عنصر الأخلاق لتكوين الصلات الاجتماعية. 2 - عنصر الجمال لتكوين الذوق العام. 3 - منطق عملي لتحديد أشكال النشاط العام .. 4 - الفن التطبيقي الموائم لكل نوع من أنواع المجتمع، أو (الصناعة) حسب تعبير ابن خلدون. ***

التوجيه الأخلاقي

التوجيه الأخلاقي لسنا هنا نهتم بالأخلاق من الزاوية الفلسفية؟ ولكن من الناحية الاجتماعية. وليس المقصود هنا تشريح مبادىء خلقية، بل أن نحدد (قوة التماسك) اللازمة للأفراد في مجتمع يريد تكوين وحدة تاريخية، هذه القوة مرتبطة في أصلها بغريزة (الحياة في جماعة) عند الفرد، والتي تتيح له تكوين القبيلة والعشيرة والمدينة ووالأمة. وتستخدم القبائل الموغلة في البداوة هذه الغريزة لكي تتجمع، والمجتمع الذي يتجمع لتكوين حضارة، فإنه يستخدم نفس الغريزة، ولكنه يهذبها ويوظفها بروح خلقية سامية. هذه الروح الخلقية منحة من السماء إلى الأرض، تأتيها مع نزول الأديان، عندما تولد الحضارات، ومهمتها في المجتمع ربط الأفراد بعضهم ببعض، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. ومن العجب أن نجد اتفاقاً له مغزاه ودلالته بين ما توحي به هذه الآية، وبين معنى كلمة "دين" ( Réligion) في أصلها اللاتيني فهي تعني هنالك "الربط والجمع". وليس من شك في أن نظرات المثقفين عندنا- أي المتعلمين- إلى المدنية الغربية مؤسسة على غلط منطقي، إذ يحسبون أن التاريخ لا يتطور، ولا تتطور معه مظاهر الشيء الواحد الذي يدخل في نطاقه، حتى أنهم حين ينظرون إلى الشيء

بعد حين يحسبونه قد تبدل بشيء آخر، وما هو في الحقيقة إلا الشيء نفسه، تنكر لهم في مظهره الجديد. وإن شبابنا لينظرون إلى المدنية الغربية في يومها الحالي، ويضربون صفحا عن أمسها الغابر، حيث نبتت أولى بذورها، وتلونت في تطورها ونموها ألوانا مختلفة، وما فتئت تتلون عبر السنين حتى استوت على لونها الحاضر فحسبناها نباتا جديدا. ولو أننا تناولنا بالدراسة مشروعا اجتماعيا، كجمعية حضانة الأطفال في فرنسا على سبيل المثال، لبدا لنا من أول نظرة في صورة جمعية تقوم على شؤونها دولة مدنية، فنحكم إذا عليها بأنها مؤسسة نشأت في بادىء أمرها على أسس مدنية (لا دينية)! .. في حين لو درسنا تاريخها، ورجعنا إلى أصول فكرتها الأولى، لوجدناها ذات أصل مسيحي، فهي تدين بالفضل إلى القديس (فانسان دي بول) الذي أنشأ مشروع الأطفال المشردين، خلال النصف الأول من القرن السابع عشر. غير أن نظرتنا العابرة هذه، جعلتنا ننظر إليه وكان تاريخه قد ابتدأ من يوم ان التفتت أنظارنا اليه، فاعرناه بعض اهتمامنا في صورته الطارئة لا في جوهره وهذا شان شبابنا في نظرتهم إلى الأشياء، فإن أكبر مصادر خطئنا في تقدير المدنية الغربية أننا ننظر إلى منتجاتها وكأنها نتيجة علوم وفنون وصناعات، وننسى أن هذه العلوم والفنون والصناعات ما كان لها أن توجد، لولا صلات اجتماعية خاصة، لا تتصور هذه الصناعات والفنون بدونها، فى الأساس الخلقي، الذي قام عليه صرح المدنية الغربية، في علومه وفنونه، بحيث لو ألغينا ذلك الأساس لسرى الإلغاء على جميع ما نشاهده اليوم من علوم وفنون، فلو أخذنا جهاز الراديو مثلا لرأينا فيه مجهودات علمية وفنية مختلفة، دون أن يخطر ببالنا أثر القيم المسيحية في بناء هذا الجهاز، على حين أنه في الواقع أثر من آثار العلاقات الاجتماعية الخاصة، التي وحدت جهودا مختلفة (لهرتز) " Hertz" الألماني،

و ((بو بوف)) " Popoff" الروسي و (برانلي) " Branly" الفرنسي، و (ماركوني) " Marconi" الايطالي، و (فليمن) " Fleming" الأمريكي فكان الراديو نتيجة هذه الجهود جميعاً وهل هذه العلاقات الخاصة في أصلها سوى الرابطة المسيحية، التي أنتجت الحضارة الغربية منذ عهد شارلمان؟ .. وهكذا سوف نصل في النهاية- إذا ما تتبعنا كل مظهر مدني من مظاهر الحضارة الغربية- إلى الروابط الدينية الأولى التي بعثت الحضارة وهذه حقيقة كل عصر، وكل حضارة. إن روح الإسلام هي التي خلقت من عناصر متفرقة كالأنصار والمهاجرين أول مجتمع إسلامي، حتى كان الرجل في المجتمع الجديد يعرض على أخيه أن ينكحه من يختار من أزواجه، بعد أن يطلقها له، لكي يبني بذلك أسرة!!. إن قوة التماسك الضرورية للمجتمع الإسلامي موجودة بكل وضوح في الإسلام، ولكن أي إسلام؟ ... الاسلام المتحرك في عقولنا، وسلوكنا، والمنبعث في صورة إسلام اجتماعي. وقوة التماسك هذه جديرة بأن تؤلف لنا حضارتنا المنشودة وفي يدها - ضمانا لذلك- تجربة عمرها ألف عام، وحضارة ولدت على أرض قاحلة، وسط البدو، رجال الفطرة والصحراء.

التوجيه الجمالي

التَّوْجِيهُ الْجَمَالِيُّ ((إن الله جميل يحب الجمال)) ((أثر نبوي)) لا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل، فإن لمنظرها القبيح في النفس خيالاً أقبح، والمجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة، لا بد أن يظهر أثر هذه الصور في أفكاره، وأعماله، ومساعيه. ولقد بعثت هذه الملاحظة كل من عنوا بالنفس الاجتماعية من علماء الأخلاق، أمثال الغزالي، لدراسة الجمال، وتقديره في الروح الاجتماعية. ويمكن أن نلخص أفاكارهم- في هذا الصدد- في اعتبارهم "الإحسان" صورة نفسية للجمال. وترجمة هذا الاعتبار في لغة الاجتماع: أن الأفكار- بصفتها روح الأعمال التي تعبر عنها أو تسير بوحيها- إنما تتولد من الصور المحسة، الموجودة في الإطار الاجتماعي، والتي تنعكس في نفس من يعيش فيه. وهنا تصبح صوراً معنوية يصدر عنها تفكيره. فالجمال الموجود في الإطار الذي يشتمل على ألوان، وأصوات، وروائح، وحركات، وأشكال، يوحي للإنسان بأفكاره، ويطبعها بطابعه الخاص من الذوق الجميل، أو السماجة القبيحة. فبالذوق الجميل الذي ينطبع فيه فكر الفرد، يجد الإنسان في نفسه نزوعا إلى الإحسان في العمل، وتوخياً للكريم من العادات.

ولا شك أن للجمال أهمية اجتماعية هامة، إذا ما اعتبرناه المنبع الذي تنبع منه الأفكار، وتصدر عنه بواسطة تلك الأفكار أعمال الفرد في المجتمع. والواقع أن أزهد الأعمال- في نظرنا- له صلة كبرى بالجمال، فالشيء الواحد قد يختلف تأثيره في المجتمع باختلاف صورته التي تنطق بالجمال، أو تنضح بالقبح، ونحن نرى أثر تلك الصورة في تفكير الإنسان، وفي عمله، وفي السياسة التي يرسمها لنفسه، بل حتى في الحقيبة التي يحمل فيها ملابس سفره. ولعل من الواضح لكل إنسان أننا أصبحنا اليوم نفقد ذوق الجمال، ولو أنه كان موجودا في ثقاقننا، إذن لسخرناه لحل مشكلات جزئية، تكون في مجموعها جانبا من حياة الإنسان. ويكفينا للتدليل على ذلك ما نراه مثلاً من شأن ذلك الطفل الذي يلبس الأسمال البالية، والثياب القذرة، التي إن شئنا وصفها لقلنا إنها ثياب حيكت من قاذورات وجراثيم، مثل هذا الطفل الذي يعيش جسمه وسط هذه القاذرات والمرقعات غير المتناسبة، يحمل في المجتمع صورة القبح والتعاسة معا، بينما هو جزء من ملايين السواعد والعقول التي تحرك التاريخ، ولكنه لا يحرك شيئاً، لأن نفسه قد دفنت في أوساخه، ولن تكفينا عشرات من الخطب السياسية لتغيير ما به من القبح، وما يسوده من الضعة النفسية، والبؤس الشنيع. فإن هذا الطفل لا يعبر عن فقرنا المسلم به، بل عن تفريطنا في حياتنا. ولنستخدم أبسط معنى للجمال، ولننظر من قريب إلى أسمال هذا الطفل، في- على كونها أسمالا- تحمل معنى القبح، وتحمل أكثر من ذلك جراثيم تقتله مادياً وأدبياً، فليست هذه الاسمال جراباً للوسخ فقط، ولكنها سجن لنفس الطفل أيضا. لقد أراد الطفل من الوجهة الخلقية، ستر عورته، ولكن مرقعاته قتلت كرامته، لأن العدالة الشكلية تذهب أحيانا إلى أن "الجبة" تصنع الشيخ، كما أن القبعة تصنع القسيس.

وليس من شك في أن مصطفى كمال حينما فرض القبعة لباسا وطنيا للشعب، إنما أراد بذلك تغيير نفس، لا تغيير ملبس، إِذ أن الملبس يحكم تصرفات الإنسان إلى حد بعيد. فإذا ما لاحظنا أن مرقعات طفلنا قد أصبحت بما تحمل من أوساخ لا تقيه من البرد، أو الحر، وجدنا أيضاً أنها لا تستدر في الإنسان عطفا، بل تبعث فيه اشمئزازا، وذلك بتأثير الصورة الشنيعة، والرائحة الكريهة، والألوان المتنافرة. وإن دستور الجمال في النفس الإنسانية ليعبر عن هذه المأساة كلها بكلمة واحدة: إنه لمنظر قبيح!! إلا أنه لا يقف عند هذا الحد، بل يوحي بالحل والمعالجة الممكنة. ومن المؤكد أننا سوف لا نأتي له بثوب آخر فنحن نريد أن نخلِّصه من قبحه في سرعة ويسر، وإِذن فنحن نأخذ بيد هذا الطفل إلى الماء فننزع عنه مرقعاته، ونأمره بأن يقوم بغسل واحدة منها ذات لون أقرب إلى الذوق، قطعة تكفي لستر عورته يغسلها، ثم يرتديها، بعد أن يغتسل هو أيضا مما به من وسخ، ثم نأخذه إلى حلاق يحلق رأسه، ونتركه بعد ذلك يسير في حاله، بعد أن نعلمه كيف يقصد في مشيه، وكيف لا يطأطىء رأسه، فبهذا لا يظل كومة متحركة من الأوساخ، بل يصبح طفلاً فقيرا يسعى لقوته، نجد فيه صورة للفقر والكرامة، لا للقبح والمهانة. ولا يظننَّ ظان أننا بضربنا هذا المثل نرى أن ذوق الجمال يسعى لحل مشكلات المساكين فحسب، بل أردنا التدليل على تأثيره في المجتمع، باختيار نموذج من صميم أوضاعنا الاجتماعية. أما تأثيره فعام يمس كل دقيقة من دقائق الحياة، كذوقنا في الموسيقى، وفي الملابس، والعادات، وأساليب الضحك، والعطاس، وطريقة تنظيم بيوتنا، وتمشيط أولادنا، ومسح أحذيتنا، وتنظيف أرجلنا. ولقد صدرت أخيرا بعض الأوامر في مدينة موسكو- نقلتها إلينا الصحافة

بتاريخ 1957/ 8/3 - تلزم سكانها بأن يراعوا نظافة مدينتهم، فهم مهددون بفرض غرامة تبدأ من خمسة وعشرين روبلا إلى مائة روبل على كل من يبصق في الشارع أو يلقي بأعقاب (السجائر) على الرصيف، أو يعلق ملابسه في الشباك المطل على الشارع أو يلصق إعلانات على الحوائط، وأيضا كل من يركب السيارات العامة بملابس العمل المتسخة. فلو أننا سألنا عمدة موسكو مثلاً عن السبب الذي دعا لمثل هذه الاجراءات لأجابنا بأنه: النظام. وجيب طبيب من وجهة نظره بأنه: الصحة، وثالث فنان يذهب إلى أنه: جمال المدينة. وكل إجابة من هذه الإجابات صادقة كسلوك يمليه وضع خاص بكل فرد ولكن جميع هذه الاجابات لا تكون صادقة إلا لأنها تعبر عن سلوك عام يعكس (الثقافة الشيوعية) التي نتصورها في شكلها الأعم الذي سميناه في تعريف الثقافة (المحيط) الاجتماعي. وعليه، فإن فكرة المحيط تدخل في كل عمل فردي أو إداري في وسط متحضر، ولكنها تدخل ضمنا فقط- كما رأينا- لا على وجه التحديد، الذي نريد القيام به هنا حين نتحدث عن أحد مقومات الثقافة وهو: الجمال. والإطار الحضاري بكل محتوياته متصل بذوق الجمال، بل إن الجمال هو الاطار الذي تتكون فيه أية حضارة، فينبغي أن نلاحظه في نفوسنا، وأن نتمثل في شوارعنا، وبيوتنا، ومقاهينا، مسحة الجمال نفسها التي يرسمها مخرج رواية في منظر سينمائي أو مسرحي. يجب أن يثيرنا أقل نشاز في الأصوات، والروائح، والألوان، كما يثيرنا منظر مسرحي سيء الأداء. إن الجمال هو وجه الوطن في العالم، فلنحفط وجهنا، لكي نحفط كرامتنا، ونفرض احترامنا على جيراننا، الذين ندين لم بنفس الاحترام.

المنطق العملي

الْمَنْطِقُ الْعَمَلِيُّ* لسنا نعني بالمنطق العملي ذلك الشيء الذي دونت أصوله، ووضعت قواعده منذ أرسطو، وإنما نعني به كيفية ارتباط العمل بوسائله ومعانيه وذلك حتى لا نستسهل أو نستعصب شيئا، بغير مقياس يستمد معاييره من واقع الوسط الاجتماعي، وما يشتمل عليه من إمكانيات، انه ليس من الصعب على الفرد المسلم أن يصوغ مقياسا نظريا يستنتج به نتائج من مقدمات محددة، غير أنه من النادر جدا أن نعرف المنطق العملي، أي استخراج أقصى ما يمكن من الفائدة من وسائل معينة. ونحن أحوج ما نكون إلى هذا المنطق العملي في حياتنا، لأن العقل المجرد متوفر في بلادنا، غير أن العقل التطبيقي الذي يتكون في جوهره من الإرادة والانتباه فشيء يكاد يكون معدوما. فالمسلم يتصرف مثلاً في أربع وعشرين ساعة كل يوم: فكيف يتصرف فيها؟. وقد يكون له نصيب من العلم، أو حظ من المال، فكيف ينفق ماله، ويستغل علمه؟. وإذا أراد أن يتعلم علما أو حرفة، فكيف يستخدم إمكانياته في سبيل الوصول إلى ذلك العلم أو تلك الحرفة؟.

_ (*) لعل القارىء لا يجد كفاية من التفاصيل في هذا الفصل. فإذ أراد تحليلا اشمل فليراجع للمؤلف كتاب مشكلة الثقافة [ص:87]. حيث توسع في تحليل معنى المنطق العملي. وكذلك كتابه حديث في البناء الجديد [ص:62] وما بعدما.

إننا نرى في حياتنا اليومية جانبا كبيرا من (اللافاعلية) في أعمالنا إذ يذهب جزء كبير منها في العبث، والمحاولات الهازلة. وإذا ما أردنا حصرا لهذه القضية فإننا نرى سببها الأصيل في افتقادنا الضابط الذي يربط بين عمل وهدفه، بين سياسة ووسائلها، بين ثقافة ومثلها، بين فكرة وتحقيقها: فسياستنا تجهل وسائلها، وثقافتنا لا تعرف مثلها العليا، وإن ذلك كله ليتكرر في كل عمل نعمله وفي كل خطوة نخطوها. ولقد يقال: إن المجتمع الاسلامي يعيش طبقا لمبادىء القرآن، ومع ذلك فمن الأصوب أن نقول: إنه يتكلم تبعا لمبادىء القرآن، لعدم وجود المنطق العملي في سلوكه الاسلامي. ونظرة إلى واقعنا لنرى الرجل الأوروبي والرجل المسلم: أيهما ذو نشاط وعزم وحركة دائبة؟. ليس هو الرجل المسلم بكل أسف، الذي يأمره القرآن كما يعرف ذلك تماما- بقوله تعالى: (واقصد في مشيك) وقوله: (ولا تمش في الأرض مرحا). ألم نقل: إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكر؟. ولكن منطق العمل والحركة، فهو لا يفكر ليعمل، بل ليقول كلاما مجردا بل أكثر من ذلك. فهو أحيانا يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيرا مؤثرا. ويقولون كلاما منطقيا من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط. ومن هنا يأتي عقمنا الاجتماعي، فنحن حالمون، يقصنا المنطق العملي، ولننظر إلى الأم التي تريد أن تربي ولدها، فهي إما أن تبلده بمعاملة أم متوحشة، وإما أن ترخي له العنان، وتتميع معه، فإذا أبدت إشارة أو أصدرت أمرا، شعر الطفل بتفاهة إرادتها، فلم يعبأ بها، إذ أن الوهن والسخف يطبعان منطق قولها، حتى في عين هذا الصبي المسكين.

الصناعة

الصِّنَاعَةُ لا نعني بالصناعة ذلك المعنى الضيق المقصود من هذا اللفظ بصفة عامة في البلاد الإسلامية، فإن كل الفنون والمهن والقدرات، وتطبيقات العلوم تدخل في مفهوم الصناعة. والراعي نفسه له صناعته، ومما يدلنا على القيمة الاجتماعية لهذه الحرفة المتواضعة الزهيدة، أن لها مدرسة وطنية في فرنسا بمدينة (رامبولية) من ضواحي باريس، فلو رأينا الراعي الخريج من هذه المدرسة، والراعي عندنا، يقود كل منهما قطيعه، لعلمنا أي فرق بينهما؟. ومن المسلم به أن الصناعة للفرد وسيلة لكسب عيشه، وربما لبناء مجده، ولكنها للمجتمع وسيلة للمحافظة على كيانه، واستمرار نموه. وعليه، فإنه يجب أن نلاحظ في كل فن هذين الاعتبارين. وإنا لنرى في هذا الباب ضرورة إنشاء مجلس للتوجيه الفني، ليحل نظريا وعمليا المشكلة الخطيرة للتربية المهنية، تبعا لحاجات البلاد. وقد بدأ الأخذ بهذا الاتجاه في مصر الآن. هذا الحل المنطقي لمشكلة الصناعة هو الذي يتيح لرجل الفطرة ورجل القلة (المدينة)؛ أن يلجا معا باب الحضارة التي بدأت فعلاً تشرق علينا شمسها ونحن واقفون على مفترق الأقدار، وفي مهب الأهواء والمبادىء، وشعوبنا قلقة لا تعرف لنفسها طريقا. ولسوف تخيب آمالنا التي عقدناها إذا ما عولنا في قضيتنا على العلم الذي

نتعلمه في المدارس الرسمية أو غير الرسمية، أو على ما تعدنا به السياسات الانتخابية، وما تعدنا إلا غرورا. ولقد نعلم أن الحل الوحيد منوط بتكوين الفرد الحامل لرسالته في التاريخ، فقد صار مؤكدا أن السرقة الكبرى التي ورثنا عنها جيلا من (المتعالين)، ورثنا عنها التنافس على المقاعد الأولى، حتى في لجان الانقاذ في كارثة فلسطين في البلاد الإسلامية. كل هذه الفضائح التي يغذيها الاستعمار بكل عناية، لا يمكن أن نضع لها حدا إلا بتحديد الثقافة. وإن الامكانيات البسيطة في البلاد الإسلامية لتسمح لنا بأن نصبَّ هذا التحديد سريعا في واقع التاريخ، وأن نكون القيادة الفنية التي نحتاج اليها الآن.

المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي في بناء الحضارة

الْمَبْدَأُ الْأَخْلَاقِيُّ وَالذَّوْقُ الْجَمَالِيُّ فِي بِنَاءِ الْحَضَارَةِ ما من حوار شجر بين الرجل والمرأة، منذ آدم وحواء، سواء كان ذلك في صورة رمزية ترمز إليها بعض الاشارات أو كان في صورة لغوية تنطق بها بعض الكلمات إلا والمرأة تحاول أن تظهر من خلال هذا الحوار في مظهر الجمال بينما الرجل يحاول أن يتخذ له مظهر القوة. في حين أن القوة هنا ضرب من الجمال. كذلك الجمال الرياضي الذي تعبر عنه الألعاب الأولبية، كما يصورها نحت فيدياس الخالد. وإِن هذا المظهر من قبل المرأة. وتلك المحاولة من طرف الرجل ليعبران عن ذوق الجمال في أبسط صوره، كما أنهما المرجع البعيد الذي إليه يرد تاربخ كل فن ومولده. فكل علاقة تنشأ بين المرأة والرجل، مهما تكن درجة البساطة في المجتمع الذي يعيشان فيه تقع بطبيعتها، وبحكم الغريزة. تحت قانون ذوق الجمال بما فيه من بساطة أو تعقد حسب تطور ذلك المجتمع. والفنون جميعها: التصوير والموسيقا والشعر والنحت الخ .. إنما تعبر عن تلك العلاقة خلال القرون وعبر التاريخ. والمرأة من قبائل الكو نجو حينما تشق شفتيها لتركب فيهما قرطين من نحاس، إنما تقوم- كما يقولون اليوم- بعملية تجميل مطابقة لتطور وسطها. كما أن

المرأة الصينية المعاصرة لسون يات سين، التي كانت في طفولتها تضع قدميها في قالب من حديد حتى لا يزيد طولهما عن قدر معين، إِنما هي في هذا تتجمل بمثل هذه العملية القاسية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنه منذ هابيل وقابيل ما اجتمع رجل برجل إلا وتنشأ بينهما علاقة تخضع بحكم طبيعتها منذ اللحظة الأولى لقانون أخلاقي. من هنا يتضح لنا أن المجتمع ينتج، مهما تكن درجة تطوره، بذورا أخلاقية وجمالية نجدها في عرفه وعاداته وتقاليده. أي فيما نصطلح على تسميته بـ (ثقاقة) في أوسع معاني هذه الكلمة. وطبيعي أنه بقدر ما تكون هذه " الثقافة " متطورة فإن البذور الأخلاقية والجمالية تكون أقرب إلى الكمال. حتى تصبح بالتالي القوانين المحددة التي يخضع لها نشاط المجتمع. والدستور الذي تقوم عليه حضارته. وليس للثقافة، في صورتها الحية. أعني كنشاط، تقسيمات تفصل بعضها عن بعض. كتلك الفصول التي نصفها حينما ندرس الثقافة دراسبة نظرية- وإلا كانت ثقافة ميتة، قد حنطها الزمن، وفصل بعض أجزائها عن بعض علماء الآثار أو علماء التاريخ الذين يختارون أحياناً لتبسيط الأشياء دراستها مجزأة. أما الثقافة في صورتها الحية، فهي وحدة ذات أجزاء متماسكة ومترابطة فيما بينها بروابط داخلية تحددها عبقرية الشعب الذي وضعها مطابقة لأخلاقه وأذواقه وتاريخه. والروابط هذه هي التي تضع على الثقافة طابعها الخاص. فتضع طابعا خاصا لأسلوب الحياة في المجتمع ولسلوك الأفراد فيه. بمعنى أنها تحدد كل الميزات الانسانية والتاريخية الخاصة بتلك الثقافة. إن هناك على الخصوص صلة بين المبدأ الأخلاقي وذوق الجمال، تكون في

الواقع علاقة عضوية ذات أهمية اجتماعية كبيرة. إذ أنها تحدد طابع الثقافة كله، واتجاه الحضارة حينما تضع هذا الطابع الخاص على أسلوب الحياة في المجتمع، وعلى سلوك الافراد فيه. فالحياة في مجتمع معين قبل أن تتأثر بالفنون والصناعات، أي بالجانب المادي أو الاقتصادي من الحضارة تتخذ لها اتجاها عاما ولونا شاملاً. يجعلان جميع تفاصيلها مرتبطة بالمبدأ الأخلاقي وبذوق الجمال الشائعين في هذا المجتمع. وبعبارة أدق إنها تكون مرتبطة بالعلاقة الخاصة القائمة بينهما. ونتيجة هذه العلاقة تأتى أولاً في ترتيب خاص يقدم أو يؤخر المبدأ الأخلاقي على ذوق الجمال في "سلم" القيم الثقافية. حتى يتكون نموذج معين من المجتمع بسبب هذا الترتيب. ويمكننا أن نصوغ هذه العلاقة في صورة جبرية هكذا. مبدأ أخلاقي + ذوق جمال= اتجاه حضارة. وتعتبر إذن هذه المعادلة كمقياس عام يدل عن اتجاه الحضارة كما يدل ما يسميه علماء الرياضة " الدالة " ( le discriminant) في المعادلات الجبرية من الدرجة الثانية (1). كذلك شأن الحضارة. تتغير ميزاتها وتتجه بوجه خاص، طبقا لعلاقة المبدأ الأخلاقي وذوق الجمال في المعادلة الحضارية. أي طبقا لترتيب هذين العنصرين في تلك المعادلة. وعليه فإنه يمكننا القول بأن هناك، بصورة عامة، نموذجين من المجتمع: نموذج يقوم فيه النشاط أساسا، على الدوافع الجمالية ونموذج يقوم فيه النشاط على الدوافع الأخلاقية أولاً.

_ (1) على شرط أن نعتبر ترتيب عنصريها ثابت لا يتغير. على خلات المعادلات الجبربة العادية.

وهذا الاختلاف الأساسي ليس مجرد اختلاف شكلي .. إنه يؤدي إلى نتائج تاريخية ذات أهمية كبيرة. فالنموذجان اللذان يختلفان هكذا. بسبب اختلافهما في ترتيب عناصر الثقافة لا يتطوران في اتجاه واحد، بل إنه في بعض الظروف تنشأ بينهما مناقضات جذرية: حتى إن الأمر الذي لا يريد أحدهما- بل ولا يمكنه أن يريد- تحقيقه بسبب أخلاقي، نرى الآخر يحققه، بسبب جمالي. ولنتخذ دليلا على هذا من حضارتين: 1 - إِن المجتمع الغربي. قد مارس، من بين فنونه، فن التصوير وتصوير المرأة العارية على الخصوص بسبب الدافع الجمالي. بينما لا نرى الفن الإسلامي قد خلف آثارا في التصوير كذلك الذي نشاهده في متاحف الحضارة الغربية لأن الرادع الأخلاقي في المجتمع الإسلامي لا يطلق العنان للفنان أن يعبر عن كل ألوان الجمال وعلى الخصوص المرأة العارية. 2 - إن تطور الملابس في المجتمع الغربي، قد انطلق من نقطة معينة، هو إبراز جمال المرأة في الشارع بكل ما يمكن أن يوضح مظهره، بينما نجد أن تطور الملابس في المجتمع الإسلامي قد اتخذ اتجاها مخالفا تمام الاختلاف إذ هو يهدف أساساً بوسائل "ملاية اللف" أن يخفي جمال المرأة في الشارع (1). وليس الأمر في هذين الاتجاهين أمر تفكير واختيار وإنما هو أمر تقليد يخضع للوراثة الاجتماعية وللعادات والتقاليد. وليس يعني هذا أن الثقافه الإسلامية تفقد عنصر الجمال. وإنما تضعه في مكان آخر في سلم القيم. فكل ثقافة تتضمن عنصر "الجمال" وعنصر "الحقيقة" غير أن عبقرية أحدهما تجعل محورها من الجمال بينما الأخرى تفضل أن يكون محورها "الحقيقة".

_ (1) عندما تظهر المرأة المسلة بالبكيني على البلاج العمومي فإن هذا لا يعنى أن المجتحع الاسلامي قد غير ملبسه، بل إنه قد بدأ يغير اتجاهه الأصيل. مستعيرا دوافع التعبير من مجتع آخر دون ان يشعر.

والاختلاف هذا يعود إلى الأصول البعيدة. فالثقافة الغربية قد ورثت ذوق الجمال من التراث اليوناني الروماني. أما الثقافة الإسلامية فقد ورثت الشغف "بالحقيقة" من بين ميزات الفكر السامي. فكان رواد الأولى وحملة لوائها، زعماء الفن من فيدياس Phidias إلى مخائيل انجلو Angelo Michel بينما قادة الأخرى أنبياء من ابراهيم إلى محمد. ومن هنا لم يكن من محض الصدفة أو من لغو الحديث، أن مؤرخي، "النهضة " الأوروبية يحددونها بأنها "رجوع إلى الحضارة الرومانية اليونانية". ولقد كان لهذا الاختلاف في الأصول البعيدة للحضارتين، أثر فيما ينتجه الفكر، في كل واحدة منهما. فالعبقرية الأوروبية أنتجت مناهج أدبية كتبت على رايتها خلال القرون أسماء لامعة منذ ( Zschyle) اسشيل وسوفوكل ( Sophocle) إلى راسين وبلزاك ودستويفسكي حتى برناردشو. غير أن هذه العبقرية بعيدة عن وحي التوراة والإنجيل والفرقان. وعلى العكس من ذلك فإن الأدب العربي والادب الاسلامي بصفة عامة. لم ينتج التراجيديه ( Tragedie) ولا القصة ( Roman) بل لم يحاول أن ينتجهما إلا في القرن العشرين، وفي صور تدعو أحيانا للأسف. وعليه فإن كل ثقافة تتضمن علاقة "مبدأ أخلاقي- ذوق جمالي" تكون ذات دلالة عن نوع عبقرية مجتمع معين. وهي ليست تطبع إِنتاجه الأدبي بطابع خاص فحسب وإنما تحدد اتجاهه في التاريخ أيضا. اننا نستطيع مثلا أن نعتبر الاستعمار "كظاهرة ثقافية" يدل على أن الثقافة الغربية حددت علاقة "مبدأ أخلاقي- ذوق جمالي" بصفة معينة وذلك بأن قدمت العنصر الثاني على الأول في ترتيب القيم فأثر هذا الترتيب في علاقة الإنسان الأوروبي بالانسانية.

فكل ثقافة سيطرة ( Culture d'empire) هي في أساسها ثقافة تنمو فيها القيم الجمالية على حساب القيم الأخلاقية. وهكذا يمكننا أن نتتبع هذه الاعتبارات إلى أبعد مدى. فنرى كيف أن ثقافة تمنح الأولوية لذوق الجمال، تغذي حضارة تنتهي إلى فضيحة حمراء .... يقود جنونها رجل مثل نيرون أو إمرأة مثل مسالين ( Messaline) وذلك لأنها تسيطر عليها دوافع الأنوثة. كما أننا نلاحظ من ناحية أخرى. كيف أن الثقافة التي تمنح الأولوية للمبدأ الأخلاقي، تكون حضارة مآلها التحجر والجمود. ـ وتنتهي إلى فضيحة صامتة سوداء تتيه في مجاهل تصوف متقهقر يقود جنونه مشايخ الطرق. كما أننا لو تتبعنا مفعول علاقة " مبدأ أخلاقي- ذوق جمالي" في مركب الحضارة لوجدنا أن له أثرا كبيرا في مجالات أخرى مثل تركيب الأسرة حيث تسود الأم أو يسيطر الأب وفي اتجاه الأدب بصورة عامة. فإن العلاقة التي نحن بصددها تحدد نزعة "الفن للفن" التي يتعارف عليها القوم في المجتمعات التي تمنح الأولوية "لذوق الجمال" كما تحدد من ناحية أخرى نزعة " الأدب الملتزم" في المجتمعات التي تقدم الأخلاق بصورة ما. على الجمال. والتقديم والتأخير هذا ينتهي أيضا إلى تحديد مناهج سياسية مختلفة تمام الاختلاف. فبينما ينزع منهج إلى تأسيس ديمقراطية تجعل حرية الفرد هدفها وذلك بدافع جمالي إذا بالأخرى تنهج إلى ديمقراطية تستهدف سعادة المجتمع وذلك بدافع أخلاقي. وعليه فإنه حينما توضع مشكلة توجيه الثقافة. فإنه يجب أن تراعى هذه الاعتبارات جميعها. بحسب ضرورات الحياة. علما بأن العناصر الثقافية موجودة في كل حضارة تواجه هذه الضرورات. غير أن تأثيرها يختلف في الحياة والتاريخ بحسب ترتيبها في سلم القيم المصطلح عليه.

وإن هذا ليبين لنا مدى الأهمية التي ينبغي لنا أن نعيرها لعناصر الثقافة ليس فقط بالنسبة لقيمتها الفردية في مركب الحضارة ولكن بالنسبة لعلاقاتها في هذا المركب. وبهذا فإنه يبين لنا من هذه الأسطر أن أي خلل يحدث في هذه العلاقات فإنه قد ينتهي في آخر المطاف إلى خلل في توازن الحضارة وفي كيانها.

توجيه العمل

تَوْجِيهُ الْعَمَلِ ((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)) ((حديث شريف)) قلنا إن حل مشكلة الإنسان يتكامل في ثلاثة عناصر أساسية هي: توجيه الثقافة، وتوجيه العمل، وتوجيه رأس المال. وقد انتهينا في الفصل السابق من دراسة توجيه الثقافة، والآن نبدأ في دراسة توجيه العمل، وهو الحلقة الثانية من مشكلة الإنسان. ولقد يظهر بعض الغرابة، عندما نلاحظ درجة النمو الاجتماعي في البلاد الإسلامية، في الحديث عن توجيه شيء يكاد يكون لا وجود له!! إن الشبح المألوف للمتعطل في هذه البلاد- ذلك المسكين الذي يقتل وقته بلا شعور فيما لا يجدي- قد أصبح هذا الشبح نقطة استفهام مقلقة تحت عنوان هذا الفصل. ولكن ألم نتحدث عن توجيه الثقافة؟ فهل هناك ثقافة في بلادنا؟ لا بأس على كل حال من أن نتحدث عن توجيه شيء لا وجود له، فحديثنا نفسه محاولة لخلقه، وإسهام في تكوينه. ونقطة الاستفهام هذه لا تسد الطريق إلا على من ينظر إلى الأشياء في وضعها لا في مصيرها. والعمل وحده هو الذي يخط مصير الأشياء في الإطار الاجتماعي. ورغم

أنه ليس عنصرا أساسيا كالإنسان والزمن والتراب، إلا أنه يتولد من هذه العناصر الثلاثة، لا من الخطب الانتخابية أو الوعظية. فعندما كان المسلمون الأُوَل يشيدون مسجدهم الأول بالمدينة، كان هذا أول ساحة للعمل صنعت فيها الحضارة الإسلامية. فلو أننا نظرنا إلى هذه الساحة في بساطتها، وقلة شأنها في ذلك الوقت لدعانا المشهد إلى الابتسام، ولكن، أليس هنالك قد تلقى بناءو الحضارة الإسلامية دروس العمل؟؟!! أو ليسوا هنالك قد قبضوا لأول مرة على عصا التاريخ؟ إن الشيء الذي يهمنا في المجتمع الناشىء هو الناحية التربوية في عملنا، لا الناحية الكسبية، إذ أن الناحية الكسبية لا تظهر إلا في المرحلة التي تطابق عند علماء الاجتماع "تقسيم العمل": وأي خلط بين هذين المظهرين يدفع المجتمع الناشىء إلى إهمال شطر من إمكاناته واثقال كاهله بالأعباء، التي لا يمكن تحملها إِلا لمجتمع تطور فعلا، وأصبح شعاره: " كل جهد يستحق أجراً". أما في المجتمع الناشىء، فإن كلمة " أجر" تفقد معناها، لأن العامل لا علاقة له بصاحب عمل، ولكن بجماعة أو عشيرة يشاطرها بؤسها ونعماها. إن توجيه العمل في مرحلة التكوين الاجتماعي بعامة يعني سير الجهود الجماعية في اتجاه واحد، بما في ذلك جهد السائل، والراعي، وصاحب الحرفة، والتاجر، والطالب، والعالم، والمرأة، والمثقف، والفلاح، لكي يضع كل منهم في كل يوم لبنة جديدة في البناء. فإعطاء ثلاثة حروف من الأبجدية عمل، وتقبل هذه الحروف عمل، وإزالة أذى عن الطريق عمل، وإِسداء نصح عن النظافة أو الجمال- دون أن يغضب الناصح حين لا يصغى لنصحه- عمل، وغرس شجرة هنا عمل، واستغلال أوقات فراغنا في مساعدة الآخرين عمل، وهكذا ..

فنحن نعمل ما دمنا نعطي أو نأخذ بصورة تؤثر في التاريخ. فتوجيه العمل هو تأليف كل هذه الجهود لتغيير وضع الإنسان، وخلق بيئته الجديدة، ومن هذه البيئة يشتق العمل معناه الآخر: (كسب العيش لكل فرد). والواقع أنه يجب أن يكون التوجيه المنهجي للحمل شرطا عاما أولا، ثم وسيلة خاصة لكسب الحياة بعد ذلك، لأن هذا التوجيه- حين يتحد مع توجيه الثقافة، وتوجيه رأس المال- يفتح مجالات جديدة للعمل. وعلى قدر ما يصبح في البلاد من فنيين وفنون وحرف، تتجه أحوال معيشة الفرد إلى وضعها الطبيعي حتما، ولا يمكن أن يحدث هذا دون ذلك، لأنه كلما تقدم التوجيه المثلث للإنسان تغير وجه الحياة حتما، فيكتمل ويحتل مستوى أرفع دائما. والحق أن كل عمل الإنسان قد صدر أولاً عن يده، فهي التي شقت الطريق لفكره في عالم الأشياء التي صنعتها، وكأنها كانت بذلك تخلق فكره، وتعد مهده، وإطاره، والمحيط الملائم لتطوره. فلنكرم اليد التي تمسك بالمبرد (والفارة)، فمنها ستنبثق المعجزات التي ننتظرها. ولقد انبثقت المعجزة فعلاً حين، تحركت اليد، فأمسكت الآلة، أو قلبت التراب. وهكذا نجد أن توجيه الثقافة مع توجيه العمل يعدان- دون أدنى شك- للابسي الأسمال، وللعاطلين، مكانهم في المجتمع، في ظل وارف من الكرامة والرفاهية.

توجيه رأس المال

تَوْجِيهُ رَأْسِ الْمَالِ لم يكن رأس المال في حد ذاته هو المشكلة التي تعرض لها كارل ماركس في آرائه عام 1848، وإنما كان تعرضه لنتائجه الاجتماعية كرأسمالية. وتفصيل ذلك أن الثورة الصناعية كانت في أيامه قد جاءت نتائجها الأولى في أوربا الغربية، وكان تركيز رؤوس الأموال، وظهور طبقة (البروليتاريا) العاملة كبر ما يميز ذلك العصر، وبالأخص في المناطق التي ظهر فيها التصنيع مبكراً كمقاطعة (الريناني) في ألمانيا، ومنطقة (بلاد الجال) ببريطانيا. وعلى هذا فإن ظروف ذلك العصر لم تكن لتدعو كارل ماركس الى تحديد رأس المال من حيث هو آلة اجتماعية، وإنما من حيث هو آلة سياسية، بين يدي طبقة معينة هي "البرجوازية"، لاضطهاد طبقة أخرى هي " البروليتاريا". فهو قد نظر إلى رأس المال من هذه الزاوية، لأن أوضاع المجتمع وظروفه قد حتّما عليه النظر. يقابل هذه الحال الآن (في سنة 1948) حال البلاد الإسلامية. فإنها لا تواجه مشكلة الرأسمالية لأن رأس المال نفسه لم يتكون بعد في غالب تلك البلاد: وإذن فالمشكلات التي كانت تعانيها أوربا في ذلك التاريخ لا تهم العالم الاسلامي اليوم، أو تمسه في شيء، فقد انتفت من بلادنا المشكلات التي خلفها رأس المال في أوربا. وعليه فإن القضية في البلاد الإسلامية ذات طابع يختلف تمام الاختلاف عن

صورتها في أوربا، ومن هنا كان حتما علينا دراسة هذه المشكلات دراسة خاصة، وبالتالي تحديد رأس المال ذاته من زاوية أخرى باعتباره آلة اجتماعية تنهض بالتقدم المادي، لا آلة سياسية في يد فئة رأسمالية، كما عالجها ماركس ومدرسته، وذلك حتى يرتفع من الأذهان الغموض الذي يحيط ببعض المفاهيم الاقتصادية بسبب فهم مخطىء لمفهوم " رأس المال " ناشىء عن عدم فهمنا للمعنى الديناميكي لهذا المصطلح العلمي. وينبغي لنا أن نفم قبل كل شيء أن كلمة " رأسمال " ليست من مصطلحاتنا، ولا هي من الشيء الذي تعودناه، فنحن دائما نخلط بين شيئين متمايزين تمام التمايز: الثروة، ورأس المال. ولتحديد كلا الاصطلاحين بالمعنى الاجتماعي، نلاحظ أن الثروة يمكن فهمها من وجهتين في بلادنا: 1 - بالنسبة للمركز الاجتماعي لصاحبها. فهو فلاح، أو صاحب ماشية، أو صاحب ضيعة. 2 - بالنسبة لاستعمال صاحبها لها. وهو يستعملها في إطاره الذي تقتضيه حرفته المحلية، وفي كلتا الحالتين تظهر الثروة معرفة لنا بطابع مكاسب الشخص غير المتحركة، غير الداخلة في الدورة الاقتصادية، فهي شيء محلي مستقر في حقل صاحبه، أو داره، أو حول خيمته، وليس لها من عمل مستقل، كقوة مالية تدخل في بناء الصناعات وتمويلها، أو في تجارة التصدير والاستيراد، أو غير ذلك من الميادين الاقتصادية، كما هو الشأن في رأس المال. فالثروة تلقب بلقب صاحبها، أما رأس المال فإنه ينفصل اسما عن صاحبه، ويصبح قوة مالية مجردة، وهذا شيء معروف عند الاقتصاديين. هذه القيود التي تقعد بالثروة عن أن ترقى إلى مستوى رأس المال، تجعل منها شيئاً بدائياً بسيطاً، من الناحيتين الاقتصادية والأدبية، شيئاً يستخدمه الفرد

في ميدانه الخاص، مثل عقاره، أو قطيعه، أو ورشته، فهي لا تسعى لغايتها كقوة مالية مستقلة بل لسد حاجات صاحبها المحدودة فحسب. وبعد هذا التوضيح لمعنى الثروة فإنه يسهل علينا تحديد معنى (رأس المال)، فهو في جوهره: " المال المتحرك " الذي يتسع مجاله الاجتماعي بمقتضى حركته ونموه في محيط أكبر من محيط الفرد، وأقصى من المقدار الذي تحدده حاجاته الخاصة. وهو في العادة مجرد، لا ينسب إلى صاحبه فلا يقال " رأسمال فلان " وإنما فقط " رأسمال ". ولقد سجل التاريخ أن بدء تكوين رأس المال قد ظهر مع ظهور الصناعات الميكانيكية، أي الصناعات التي من طبيعتها أن تجعل للمال دورا كبيرا يناسب مقتضياتها. فالبلاد النائية التي تستورد منها المواد الأولية، ثم المصانع التي تحول فيها تلك المواد إلى سلع ومنتجات، ثم الأسواق التي تصرف فيها تلك السلع، كل ذلك قد جعل للمال دورا متسعا، يخرج عن نطاق استعمال الفرد الخاص ومحيطه، إلى محيط يتنقل فيه من بلد إلى بلد، مقيما لشبكة العلاقات الاقتصادية بين البلدان، ويصبح بذلك قوة ممولة، يطلق عليها " رأس المال ". ولا شك أن المال الذي تصبح هذه حاله، من التنقل بين البلاد، يخلق حركة ونشاطا، ويوظف الأيدي والعقول، أينما حل وحيثما ارتحل. وجدير بالذكر أن رأس المال كان من نتائجه في أوربا، خلق ظاهرتين اجتماعيتين:- 1 - طبقة العمال كنتيجة للثورة الصناعية. 2 - الاستعمار كنتيجة للحاجة إلى التصدير والاستيراد. وهكذا قضى التوسع الاقتصادي بأن لا يصبح المال في قبضة صاحبه فقط،

وأن يتعدى حدود ميدانه الخاص، إلى ميدان أوسع انتشارا، وأعم فائدة، وأن يخلق في تطوره هذا مفهوما اجتماعيا سمي بالرأسمالية. غير أن هذه الظاهرة- التي نقلت الثروة من حالتها البسيطة، إلى حالة واسعة منتشرة سميت " بالرأسمال "- لم تحدد " رأس المال " من حيث الكم، بل من حيث الكيف أو الحالة، فالدرهم الذي يتحرك، وينتقل، ويدخل، ويخرج عبر الحدود، يسمى " رأسمال "، والمليار من الدراهم المستقر الساكن هو ثروة ذات محيط ضيق. أما " تركز " رؤوس الأموال فهو صفة طارئة على " رأس المال "، وليس من جوهره، وهو صفة لا تتناقض مع الصفة الأولى لرأس المال- وإنما تكملها من حيث الكم. وعليه، فإن توجيه رأس المال وهو لا يزال في طور التكوين في بلادنا - لا يتصل أولا بالكم، بل بالكيف، فإن همنا الأول أن تصبح كل قطعة مالية متحركة متنقلة تخلق معها العمل والنشاط، أما الكم فإن ذلك الدور الثاني، دور التوسع والشمول. وتاريخ العرب نفسه يحمل نموذجا بسيطا لما قدمنا. إذ كانت مكة قبل الاسلام تسير أموالها حسبما يقتضيه الأسلوب الرأسمالي، ومن المعروف أن قريشا لم تكن تملك من أموال الانتاج الشيء الضخم كالعقارات والمصانع، غير أن قوافلها كانت تجوب الصحراء حاملة بضائع الشرق الأدنى، في رحلة الشتاء والصيف، وكانت قريش كلها تسهم في تزويد هذه الرحلة. والحالة اليوم في البلاد الإسلامية الفقيرة تشبه إلى حد بعيد حالة الجزيرة الفقيرة. (التي كانت تسكنها قريش)، حيث لم يبق لأغلب أهل البلاد الإسلامية عقار ولا قطيع ولا مصنع: في الشمال الافريقي، وفي جزيرة العرب، والمحميات، وفي إيران، والأفغان، وباكستان، وتركيا، وأندونيسيا. فالقضية ليست- كما بينا- في تكديس الثروة، ولكن في تحريك المال

وتنشيطه، بتوجيه أموال الأمة البسيطة، وذلك بتحويل معناها الاجتماعي من أموال كاسدة إلى رأس مال متحرك، ينشط الفكر والعمل والحياة في البلاد. وزيادة على هذا يمكن أن نستفيد من تجربة أوربا، تجربتها التي مرت بها، والتي خرجت منها إلى توجيه رؤوس الأموال، وتخطيط اقتصادها، وذلك حتى لا نقع فيما وقعت فيه أوربا- حين تحركت فيها الآلة- من مشكلات حرية الانتاج والتجارة، تلك الحرية التي جاءت بالاضطرابات الاجتماعية الناتجة عن اضطهاد طبقة للاخرى. لنتخذ من الآن الحيطة حتى تكون أموالنا مطبوعة بطابع الديمقراطية لا بطابع الاقطاعية. فالقضية إنما هي قضية منهاج يحدد لنا تخطيطا مناسبا نبني عليه حياتنا الاقتصادية، ولا يكون فيه مكان لتركيز رؤوس الأموال في أيدي فئة قليلة، تستغل السواد الأكبر من الشعب، بل يجب أن يتوفر فيه إسهام الشعب، مهما كان فقيرا، وبذلك يتم التعادل بين طبقات المجتمع، وتنسجم مصلحة الجماعة مع مصلحة الفرد. ولنا أن نرحب ببعض الجهود التي بذلها في البلاد الإسلامية بعض رجال اقتصادها، في العهد القريب، ونحن نرى في تلك الجهود- وإن لم تحقق غاية ما نتمناه- تشجيعا على الاستمرار في تدعيم هذا الاتجاه الاقتصادي، ودليلا على أن تكوين رأس المال ممكن، حتى في وطن فقير، إذا ما اتحدت فيه الجهود وتوجهت نحو الصالح العام. ولا يفوتنا أن ننبه بإلحاح إلى أننا بحاجة إلى تكوين مجلس لتوجيه ((الثروة)) وتوظيفها، لتتحول إلى " رأسمال " بالمعى الآنف الذكر، ولتخطيط أهدافه الاقتصادية. وبهذا التوجيه الذي يسير متضافرا مع توجيه الثقافة وتوجيه العمل، يكون الفرد قد استكمل الشروط اللازمة لتشييد حضارة تطابق إطاره الخاص.

مشكلة المرأة

مشكلة المرأة ليست مشكلة المرأة شيئا نبحثه منفردا عن مشكلة الرجل، فهما يشكلان في حقيقتهما مشكلة واحدة هي مشكلة الفرد في المجتمع. وإِنه ليجدر بنا بادىء الأمر أن نستبعد من دائرة بحثنا تلك الأقاويل التي يقولها بدافع من عواطفم أولئك الذين نصبوا من أنفسهم ذادة عن حقوق المرأة من كتاب الشرق أو الغرب. وليس بمجد أن نعقد مقارنة بين الرجل والمرأة، ثم نخرج منها بنتائج كمية تشير إلى قيمة المرأة في المجتمع، وإنها أكبر أو أصغر من قيمة الرجل، أو تساويها، فليست هذه الأحكام إِلا افتئاتا على حقيقة الأمر، ومحض افتراء. ولسنا نرى في الأقاويل التي تقولها على حقوق المرأة أدعياء تحريرها، أو الذين يطالبون بإبعادها من المجتمع إلا تعبيرا عن نزعات جنسية لا شعورية. ولتوضيح هذه الحقيقة يجدر بنا أن ننظر إلى الدوافع النفسية العميقة التي تدفع كلا الطرفين إلى القول بآرائه، وحينئذ لن يصعب علينا معرفة هذه الدوافع على حقيقتها، وأنها جميعها تصدر عن شيء واحد هو: دافع الغريزة الجنسية طبقا لتحليل فرويد. فهذه النقطة كانت مبدأ الانطلاق لكلا الفريقين، غير أنهما سارا بعد ذلك في طريقين مختلفين.

ولقد يكون هذا التعليل ظاهرا بالنسبة لأولئك الذين يطالبون بخروج المرأة في زينة فاتنة، إذ في ذلك ما يوقظ غرائزهم، أو يرضي شهواتم. غير أن أولئك المتمسكين بإبعاد المرأة عن المجتمع، والمؤمنين بضرورة إِبقائها في سجنها التقليدي- قد يبدو، في تعليل الدافع النفسي لموقفهم بأنه جنسي، بعض الغرابة، بيد أنَّ هذه الغرابة لا تلبث أن تزول حينما نعلم أن ليس لتفكيرهم من مبرر منطقي، إلى ما يتعللون به من الحفاظ على الأخلاق، الذي يختفي وراءه مغزى التمسك بالأنثى، فالغريزة هنا تكلمت بلسان آخر. ولقد يكون كلام الغريزة واضحا في رأي من يريد المرأة في صورة تلفت إليها الغرائز، أما عند من يرى أن تخرج في هيئة يقبلها الخلق فإنه من العسير أن نرى دور الغريزة في مثل ذلك التفكير، ولكن قد يكون في منعها من الخروج مبرر خفي مما يستقر في نفس الرجل من دافع جنسي من الخوف على أنثاه أن يشاركه فيها غيره، وإذن فهو يدافع عن أنثاه، وهنا يظهر جلياً ذلك الاعتبار الجنسي في تفكيره. وهكذا نرى أن كلا الفريقين قد يصدر رأيه عن اعتبار واحد هو الغريزة، ولا أمل لنا في أن نجد في آرائهما حلا لمشكلة المرأة. وإذن فهذه المشكلة ينبغي أن تصفى أولا من مثل هذه النزعات، ثم تُحل حلا يكون الاعتبار الأول فيه لمصلحة المجتمع، فالمرأة والرجل يكونان الفرد في المجتمع: فهي شِقُّ الفرد، كما أن الرجل شقه الآخر. ولا غرو فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: " النساء شقائق الرجال ". والله تعالى خلقهما من نفس واحدة. وأخبر عن ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}. فالمرأة والرجل قطبا الإنسانية، ولا معنى لأحدهما بغير الآخر، فلئن كان

الرجل قد أتى في مجال الفن والعلم بالمعجزات، فإن المرأة قد كونت نوابغ الرجال. ونحن نرى لزاما علينا أن يكون تناولنا للموضوع بعيدا عن تلك الأناشيد الشعرية، التي تدعو إلى تحرير المرأة، فالمشكلة لا تتحدد في الجنس اللطيف فحسب، أو في بنات المدن، أو بنات الأسر الراقية، بل هي فوق ذلك تتعلق بتقدم المجتمع وتحديد مستقبله وحضارته. وإذا تساءلنا هل يجب نزع الحجاب؟ أو هل يسوغ للمرأة التدخين؟ أو التصويت في الانتخابات؟ أو هل يجب عليها أن تتعلم؟ فينبغي ألا يكون جوابنا عن هذه الأسئلة بدافع من مصلحة المرأة وحدها، بل بدافع من حاجة المجتمع وتقدمه الحضاري، إذ ليست الغاية من البحث في اشتراكها في هذا المجتمع إِلا الإفادة منها في رفع مستوى المرأة ذاتها، وإذن فليس من المفيد لنا أن ننظر إلى مشكلتها بغير هذا المنظار. ولقد نعلم أنه يضيق صدر بعض ذوي الأذواق الرقيقة بما نقول. فيحتجون علينا بأن مثل هذا الموقف يذيب المرأة في المجتمع، ولكننا نقول لهم: إن إعطاء حقوق المرأة على حساب المجتمع معناه تدهور المجتمع، وبالتالي تدهورها، أليست هي عضوا فيه؟ فالقضية ليست قضية فرد، وإنما هي قضية مجتمع. لقد بدأت المرأة المسلمة التي كانت إلى زمن قريب تلبس (الملاية) في إفراط - تسلك في سيرها الاجتماعي الطريق الذي رسمته أوربا لنسائها، متخيلة أن في ذلك حلا لمشكلتها الاجتماعية. ونحن نأسف أن يكون نساء الشرق بهذه الدرجة من البساطة، حين يرين مشكلتهن قد حُلت بمثل هذا التقليد لنساء أوربا، فإن مشكلة المرأة مشكلة إنسانية يتوقف على حلها تقدم المدنية، فلا يكون حلها إذن بمجرد تقليد ظاهري لأفعال المرأة الأوربية، دون ما نظر إلى الاسس التي بنت عليها المرأة الأوربية سيرها. ونحن إذ نحاول في هذا الفصل أن نحدد مهمة المرأة في المجتمع ينبغي أن ننظر إلى هذه المشكلة، وهي تسير منسجمة مع المشكلات الاجتماعية الأخرى،

في سبيل تقدم المدنية، فلا وجود لهذه المشكلة بغير هذا الإطار، وهو ما نريد تأكيده في هذا الفصل. والآن نسأل أنفسنا: هل من المفيد للمرأة المسلمة أن نجعلها في مركز تشبه فيه أختها الأوربية؟ .. لقد اتبعت هذه الطريق بعض البلاد الإسلامية، وهي تمثل في نظرها حركة التجديد في حياة المرأة، التي ما زال يدعو إليها المجددون، ولكننا بشيء من النظر نرى أن انتقالنا بالمرأة من امرأة متحجبة إلى امرأة سافرة، تطالع الصحف وتنتخب، وتعمل في المصنع لم يحل المشكلة، فهي لا تزال قائمة، وكل الذي فعلناه أننا نقلنا المرأة من حالة إلى حالة، وسنرى عما قريب أن انتقالنا هذا عقد المشكلة بعد أن كانت بسيطة، فليست حالة المرأة الأوربية بالتي تحسد عليها، فظهور المرأة الأوربية في مظهر لا يخاطب في نفس الفرد إِلا غريزته أثار أخطارا جديدة، كنا نود أن يكون المجتمع بمنجاة منها، فمشكلة النسل في البلاد الأوربية وصلت إلى حالة تدعو أحيانا إلى الرثاء، إذ أنها فقدت تنظيمها الاجتماعي، بحيث جعلت المجتمع الأوربي- وقد امحت منه معاني التقديس للعلاقات الجنسية- يعتبر هذه العلاقات تسلية للنفوس المتعطلة؛ وبذلك فقدت وظيفتها من حيث هي وسيلة لحفظ الأسرة، وبقاء المجتمع. ومن هنا نجد نذيرا جديدا للذين يجعلون من أوربا مثلهم الأعلى في كل تجديد؛ فإن مشكلة المرأة الأوربية مازالت خطيرة، خطيرة حتى في ذهن المرأة ذاتها، وفي تصورها لنفسها، كيف تتحقق كمثل أعلى خلقي وجمالي لحضارة. ويمكن أن نرى خطورة هذه المسألة في أحد مظاهر حياتها في أوربا، أعني " المودة " فالزي الذي تختاره المرأة لنفسها دليل واضح على الدور الذي تريد تمثيله في المجتمع وتمثله فعلا، فقد كانت المرأة الأوربية إلى عهد قريب تلبس اللباس اللطيف من (الدانتلا)، تستر به مع أنوثتها سرها المكتوم حتى أخمص قدميها، وتتخذ من حيائها حاجزا يمنعها من التردي في الرذيلة، فكانت بردائها هذا خير مثل للرقة والأدب في المجتمع، إذ كانت السيدة الجديرة بكل احترام.

الزوجة الصالحة التي تمسح بيديها الرقيقتين عن نفس الزوج متاعب العمل. غير أنها أصبحت اليوم تلبس اللباس الفتان المثير، الذي لا يكشف عن معنى الأنوثة، بل عن عورة الأنثى، فهو يؤكد المعنى الجسدي الذي يتمسك به مجتمع ساده الغرام باللذة العاجلة. وعلى نقيض هذا نجد امرأتنا المسلمة تلبس (الملاية)، فتسرف في ستر جسدها بشكل شاذ في بعض أنحاء بلادنا معبرة عما يطبع مجتمعاتنا من الميل إلى الركود والتخلف، وهي من ناحية أخرى تعبر عما يراود نفوسنا أحيانا من رياء أو نفاق. فالأمر يجري في كلتا الحالين بين تفريط وإفراط، ومن الواجب أن توضع المرأة هنا وهناك حيث تؤدي دورها خادمةً للحضارة، وملهمة لذوق الجمال وروح الأخلاق، ذلك الدور الذي بعثها الله فيه أما، وزوجةً للرجل. وحبذا لو أن نساءنا عقدن مؤتمرا عاما يحددن فيه مهمة المرأة بالنسبة لصالح المجتمع، حتى لا تكون ضحية جهلها، وجهل الرجل بطبيعة دورها، فإِن ذلك أجدى علينا من كلمات جوفاء ليس لها في منطق العلم مدلول. ذلك أني لا أرى مشكلة المرأة بالشيء الذي يحله قلم كاتب في مقال أو في كتاب. ولكني أرى أن هذه المشكلة متعددة الجوانب، ولها في كل ناحية من نواحي المجتمع نصيب؛ فالمرأة كإنسان تشترك في كل نتاج إنساني أو هكذا يجب أن تكون. ولن يكون تخطيط حياتها في المجتمع مفيدا إلا إذا نظرنا إلى هذا المؤتمر بعين الاهتمام، بشرظ أن يضم الوسائل الكفيلة بتناول المشكلة من جميع أطرافها، فيجب مثلا أن يضم علماء النفس، وعلماء التربية، والأطباء. وعلماء الاجتماع وعلماء الشريعة، وغيرهم. وحينئذ نستطيع أن نقول: إننا وضعنا المنهج الأسلم لحياة المرأة، ولسوف يكون هذا التخطيط حتما في صالح المجتمع، لأن علماءه والمفكرين فيه هم الذين وضعوه.

وتحديدنا لعمل المرأة في المجتمع جدير بالاعتبار، فمن المعلوم أن المرأة الأوربية كانت ضحية هذا الاعتبار، لأن المجتمع الذي حررها قذف بها إلى أتون المصنع، وإلى المكتب، وقال لها: " عليك أن تأكلي من عرق جبينك ". في بيئة مليئة بالأخطار على أخلاقها، وتركها في حرية مشئومة، ليس لها ولا للمجتمع فيها نفع، ففقدت- وهي مخزن العواطف الإنسانية- الشعور بالعاطفة نحو الأسرة، وأصبحت بما ألقي عليها من متاعب العمل صورة مشوهة للرجل، دون أن تبقى المرأة. وهكذا حُرم المجتمع من هذا العنصر الهام في بناء الأسرة، وهو العنصر الأساسي فيها، وجنت أوربا ثمار هذه الأسرة المنحلة مشكلات من نوع جديد. وهناك شيء جدير بالإثارة في هذا الفصل، هو مسألة تعدد الزوجات: هل لعدد الزوجات أفضل من الاقتصار على امرأة واحدة؟ أم العكس؟ ونحن نرى أننا لا نستطيع أن نبحث هذه المشكلة أيضا بعيدا عن واقع المجتمع، بحيث نغفل تفوق عدد النساء على الرجال في غالب الظروف، وما يجر ذلك على المجتمع من مشكلات. إن دارس الاجتماعيّات لا يدرس الأشياء كما هي فحسب، يل هو يحاول أن يدرك ما سوف تؤول إليه أيضا .. ولذلك فحين نرى المرأة المسلمة تسير متطورة في زيها ومسلكها نتساءل: إلى أي وجهة تسير؟ .. إننا لا نعلم حتى الآن طريقها، ولا ندرك هدفها، لأن مجتمعنا يسير مستسلما للحوادث والأيام. نعم إننا نرى المرأة في تطور، ولكننا لم نشرع بعد في التخطيط الدقيق لجميع أطوارها، فنحن نراها في مظاهرها الجديدة فتاة في المدرسة، وفي حركة كشفية، وفي تسابق في الحياة العامة، عاملةً، ومولدة، وطبيبة ومدرسة، وعاملة في المصنع والأتوبيس، ونائبةً أخيراً ...

ومهما يكن عجزنا كبيرا عن تخطيط مراحل تطور الفتاة المسلمة، فإنه يلزمنا عند أي تخطيط ألا نغفل بعض القضايا الجوهرية، كقضية " الحضور "، أعني حضور المرأة في المجتمع حضورا محسًّا بيِّناً. نعم إن امرأتنا عندما لا تحضر في هذا المجتمع، ولا تدرك أحداثه التي تجري فيه، ولا تطوراته التي سوف يصير إليها، تدع المجال لامرأة أخرى تخلفها حتى في البيت الذي تعتكف فيه، إننا نرى الآن " مودة " التزوج بالأجنبيات تنمو عند شبابنا، وهي نتيجة تباعد المرأة العربية عن المجتمع. لقد بدأت الأجنبية تضع طابعها في حياتنا فعلا. ونحن لا ندري أي مكان هام تشغله الآن المرأة الأوربية في لا شعورنا، لأن المرأة التي تحضر في مجتمعها وتعني بشئونه توجه كل الاستعدادات الخفية في الرجل، فإذا به يخضع لسلطانها من حيث لا يشعر. ونستطيع القول: إن المرأة الأوربية قد أصبحت اليوم في الجزائر مثلا -من حيث لا تشعر هي نفسها- تقود خيال شبابنا الشعري، واتجاهاته في ذوق الجمال، بل وربما في مثله الأخلاقية، ولقد أصبحت تؤلف من حيث لا يشعر مآسيه الكبيرة، أو الصغيرة، التي تظهر في حياته، اليومية، أو تتخفى وتستتر (1). ومن الواضح أن الأوربية لا تتمتع بهذه الميزة إِلا لأن المرأة عندنا لا تقوم بدورها أحيانا. فكيف؟ وبأي أسلوب يمكن للمرأة المسلمة أن تقوم بدورها؟ .. إن علماءنا ومثقفينا ونساءنا أنفسهن، جميعا مسئولون عن هذا الجواب. وربما كان القارىء ينتظر من المؤلف أن يتجاوز الإشارة إلى عقد المؤتمر المقترح آنفاً إلى الإجابة عن هذا السؤال نفسه، وعرض حل معين له. إن مثل هذا الموقف يدل على أننا لا نفرق في المشكلة بين الجانب الفني

_ (1) عندما يصبح نفوذ الأجنبية في سياستنا مثلا.

كمشكلة رأس المال مثلاً، والتراب الذي يعالجه الفني بإعطاء نظرته الخاصة فيه، وبين الجانب الاجتماعي الذي لا تكفي لحله، النظرة الخاصة، مهما كانت قيمتها من الناحية الفنية، لأن الحل هنا يتطلب التنفيذ، أي الوصول إلى وسائل عملية أكثر من التحليل والبحث، الذي يحدد الوجوه النظرية. فالقضية إذن من حيث إنها تتطلب التنفيذ هي في النهاية موقوفة على من بيده وسائل التنفيذ. ولا شك أن مؤتمراً يحدث فيه ما يسميه الفقهاء بالإجماع هو الكفيل بهذا، فالقضية تتطلب بالضبط (إجماعاً) لا إخصائيين، تتطلب حلاً جماعياً، لا وجهة نظر فرد، مهما كانت قيمتها. والإجماع يكون إما بطريق مسايرة الظروف (1)، وإما بتسيير الظروف نفسها، فأما الطريق الأولى فهي الطريق التي يتبعها العالم الاسلامي اليوم، لا بالنسبة لمشكلة المرأة فحسب، بل لكل مشكلاته. وأما الطريق الثانية فإنه يكون بِدَرْس المشكلات، وتعيين وسائل حلها، فوسائل حل مشكلة المرأة يجب أن تقرر في مؤتمر عام، تصبح مقرراته دستوراً لتطور المرأة في العالم الاسلامي.

_ (1) هذا الاستسلام للظروت نجده حتى عند أكابر كتابنا، فقد كتب الأستاذ الكبير محمد زكي عبد القادر تعليقا على منع أحد الموظفين دخول النساء وزارة الأوقاف، يقرل: "لعلني من أنصار حظر دخول النساء مكاتب الموظفين، ولكن ماذا نصنع في حكم الزمن والتطور؟ إنه أقوى مني، وأقوى منه".

مشكلة الزي

مُشْكِلَةُ الزَّيِّ إِن التوازن الأخلاقي في مجتمع ما، منوط بمجموعة من العوامل الأدبية والمادية، والملبس هو أحد تلك العوامل. فالعباءة مثلاً من الأشياء التي ورثتها لنا بيئة تميل بروحها إلى التنعم والهدوء. ولقد كان هذا اللباس يناسب جميع طبقات الشعب في الماضي، على تناقضها، فكما أنه كان لباس الزاهد المتقرب إلى الله، ولباس الراعي المسكين، فإنه كان لباس الأمراء المنهمكين في الملاذ والشهوات، وذلك لأن قاسما مشتركا من الحياة الراكدة الهادئة كان يجمعهم. ولكن هل نتصور اليوم العباءة على ظهر عامل الماكينة أو مصلحها أو على ظهر عامل المنجم في باطن الأرض؟. إن العالم الاسلامي على أبواب نهضة يدخل بها المصنع والعمل، وإن هذا كله ليدعوه إلى أن يساير ملبسه ذلك النشاط الجديد، فهذا شأن الأمم جميعاً. فالشعب الياباني قد بدأ بتغيير ملبسه عندما دق بابه ((الكومودور بيري))، قائد الأسطول الأمريكي عام 1853، لأنه أدرك أن لا مناص له من الخروج من ذلك الطور العتيق إلى الحضارة الحديثة، وفهم أن ذلك يقتضيه التخلي عن عباءته الحريرية المسماة (بالكيمونو) لكي يلبس ذلك اللباس الأزرق القطني الذي يناسب عامل الميكانيكا.

وليس اللباس من العوامل المادية التي تقر التوازن الأخلاقي في المجتمع فحسب، بل إن له روحه الخاصة به. وإذا كانوا يقولون: (القميص لا يصنع القسيس) فإني أرى على العكس من ذلك، فإن القميص يسهم في تكوين القسيس إلى حد ما، لأن اللباس يضفي على صاحبه روحه ومن المشاهد أنه عندما يلبس الشخص لباسا رياضيا، فإنه يشعر بأن روحا رياضية تسري في جسده، ولو كان ضعيف البنية، وعندما يلبس لباس العجوز فإن أثر ذلك يظهر في مشيته وفي نفسه، ولو كان شاباً قوياً. ولم يكن نزع الطربوش والاستعاضة عنه بالقبعة في تركيا الكمالية بالشيء البسيط، فقد كان أتاتورك يعلم أن الطربوش جزء من الفكر العتيق، فكر الباحثين عن السلوك وقتل الوقت، أولئك الذين سئموا الحياة، وباتوا يدخنون النرجيلة، ويتلهون بكركرتها عن كر دقائق الزمن، تسلية لأنفسم بحياة تنابلة السلطان. لقد كان من المحتم على أتاتورك أن يحطم ذلك الاستقرار المتحجر، في أحلام دامت قرونا على شاطىء البوسفور، فكانت القبعة هي القنبلة التي انفجرت في ذلك المجتمع، فحطمت أحلامه الخاوية، وبددت عن أفقه دخان النرجيلة، وطوت زرابيه المبثوثة، التي كان يلقي عليها همته ونشاطه. لقد كانت فكرة مصطفى كمال التي دبرها قنبلة، ولكن تأثيرها لم يتم لأن صاحبها لم يفكر في الشروط الأخرى لنهضته. ومهما يكن من أمر، فإننا نرى أن مشكلة الزي موضع اعتبارات مهمة غير التي ذكرنا، ونعني بها تلك التي تدفع إلى الاعتناء بالشكليات، فمن المعلوم أن الملبس يسير مع أهله في تطور التاريخ، وتبدل الأزمان، والدول المتقدمة تغير أزياءها الرسمية حسب تغيرات التاريخ، وبخاصة بعد النكبات الحربية، فإذا ما شوهت هزيمة كرامة زي من الأزياء العسكرية، نرى الدولة المهزومة كثيرا ما تقتبس أزياء الدولة المنتصرة. وقد شاهدنا ذلك مثلا في الجيش الروسي بعد

عام 1917، كما نشاهده اليوم في الجيش الفرنسي الذي قبس من الأزياء العسكرية الأمريكية ما يعرف بزي ( M.P) ، وصيره زيا له معرفا برمز ( P.M) . ولقد يحدث هذا التشويه بسبب نكبات التاريخ في الملابس المدنية أيضا، ومما يذكر في هذا الباب ما لاحظه مستشرق كان قد ترجم للرحالة والمؤرخ الاجتماعي (أبي الفداء) الذي كان يدرس عادات وأخلاق قبائل الصقالبة، القاطنة على شواطىء (الفولجا)، فقال المستشرق في شأنه: (إن العرب كانوا يحبون إظهار عمائهم في كل مكان ... ) وربما كانت هذه الملاحظة صائبة، ولكن ليت شعري! .. ماذا يفعل أبو الفداء بعمامته اليوم، وقد فقدت عزها بعدما صارت منذ قرون تاجا لأجيال جاهلة مستعبدة؟. وهل يا ترى نستمسك بالطربوش؟ ذلك اللباس الذي شوهته أجيال من الباشوات والخدم، الذين تطوعوا في صفوف الاستعمار! نعم!. إنه لمن الغباوة أن ننكر اليوم مشكلة الزي المناسب لرجال النهضة ونسائها، ولكننا نكون أكثر غباوة إذا ما استلمنا في ذلك إلى التقليد البحت، بلا التفات إلى مقتضيات أحوالنا من حيث دستور الجمال، وضيقنا الاقتصادي، والقيام ببعض الواجبات كالصلاة مثلاً.

الفنون الجميلة

الْفُنُونُ الْجَمِيلَةِ تبرز أهمية الفن الجميل في أحد موقفين: فهو إما داع إلى الفضيلة، وإما داع إلى الرذيلة، فإذا ما حددت الأخلاق مُثُله، وغذى الجمال وحيه، فينبغي عليه أن يحدد هو وسائله وصوره الفنية للتأثير في الأنفس. ويبرز خطر الفن عندما يشرع في تقرير هذه الوسائل التي تجعله مربياً أو مفسداً، وذلك حسبما يختار من الصور والالحان- فالرقصة مثلاً إما أن تكون قصيدة شعرية، أو حركة جنسية، وهي على كل حال طريقة الطير في التقرب من أنثاه، وهي أيضا للرجل في شأنه مع المرأة. غير أن الرقصة تطورت عند الانسان، فأصبح فيها شيء من الشعر عند اليونان، وشيء من التصوف في طقوس بعض الأديان، وفي كل هذه التطورات نجد الأخلاق قد حددت أهدافها ومراميها، وبقيت الوسيلة التي تعطي الرقصة صورتها الفنية، فالتقرب من المرأة قد يكون بغزل شريف، وقد يكون بغير ذلك، والهدف واحد، ومن المؤسف أن الرقصة عندنا قد أصبحت صورة جنسية فقط، بينما هي قد اتخذت لها عند اليونان صورة شعرية، وأصبحت في بلادنا أيضا مشوهة للذوق، لأنها اتخذت وسيلتها إلى النفوس الغريزة الجنسية فقط. فإذا ما فهمنا الفن على هذه الصورة، فإننا نستطيع أن نوسع نطاقه حتى يشمل طريقة المشي في الشوارع، وكيفية شرب الماء، وكيفية التثاؤب في المجتمعات العامة، غير أن المجال لا يتسع لكي تضم هذه السطور القليلة كل هذا.

كذلك، فإننا نكتفي من الفن بمعناه الشائع، أي بما هو معتبر من مظاهر. المادية المنتشرة في البلاد الإسلامية اليوم، كالموسيقى، والغناء، والسينما، وغير ذلك. وأحب أن أخص بالحديث الموسيقى والسينما، وهما اللذان يعتبران وسيلتين مؤثرتين من وسائل التهذيب الشعبي، مؤثرتان لأنهما موحيتان!! .. إن أغلبية البلاد العربية تابعة لمصر في هاتين الناحيتين، فالسؤال إذن هو: ما قيمة الموسيقى والسينما في مصر؟ .. لقد سمعنا ولا شك نحيب لأنوف، والشهيق الذي يتكرر ألف مرة، والذي يسمى بالموسيقى المصرية!!. فهل هذا من الموسيقى؟ .. هذه ((الأشياء)) التي تتجاهل، بل تجهل المكان، والزمان، والفصول؟ .. إنها لا تذكرنا بشيء في الواقع، بالحفيف الخفيف للربيع في الغابات! بتساقط أوراق الخريف الحزين!! .. بالبهجة الحارة في الصيف! بهياج العاصفة في البحر!. بدمدمة الرعد!. بالجحيم!. وبالنعيم! ... أين العالم الذي تحدثنا عنه الموسيقى المصرية، التي تجهل حتى الخطوة العسكرية للجنود؟ .. إنه ليس في السماء .. وليس في الأرض بل لا يوجد في أي مكان! إن الموسيقى المصرية ليست فنا متصلا بقيم أو بأشياء، بل هي فن يتصل بالعدم، إلا في بعض الأحوال الاستثنائية، في الظروف الأخيرة (1). فأية قيمة تربوية يمكن أن نعترف لها بها في هذا العالم! عالمنا المكون من الزمان والمكان، ومن النوائب أيضا؟ ..

_ (1) يرى المؤلف أن الموسيقى الشرقية بعامة والمصرية بخاصة قد تحسنت كثيراً في هذه الأيام وهي في طريقها الذي يرجو أن يطرد نحو التغدم.

وهذا الفيلم المصري ... ماذا أفادنا؟ وماذا اقترح علينا؟ أنا لا أريد أن أعتقد بأن الشعب المصري قد تجرد من حاسة التفرقة بين الجد والهزل، فكيف تنشأ فيه هذه المهازل! أو هذه الأفلام؟ .. وأيا ما كان الأمر فإن البلاد العربية والإسلامية يجب أن تتحرر من هذا الغل الخلقي التهذيبي- وهو أخطر الأغلال- لكي تنقذ ذوقها الفني. إننا نرى أن للفن الجميل دخلا حتى في الصور التي تختار لأطفالنا الصغار في كتبهم المدرسية، فلقد شاهدت صورة في كتاب مدرسي للأطفال يدرَّس في مصر (قبل الثورة) ويظهر فيه طفل ترافقه أخته، وهما ذاهبان إلى المدرسة ووراءهما خادم يحمل لهما حقيبتهما: فهذه صورة تبعث في نفس الطفل روح الاتكال واحتقار العمل والعاملين، وهي تصور ما يناسب حاجة (الباشوات) الذين كان بيدهم من قبل- ناصية الأمر لا سواد الشعب. ولا شك في أن مثل هذه الصورة وسائل قتالة في وطن يحتاج إلى التهذيب، لا في سلالة الباشوات، ولكن في أبناء الشعب. وقبل أن نفرغ من هذا الفصل نلفت النظر لمظهر آخر من مظاهر الحياة الفنية عندنا وذلك أننا لا نجمع في خدمتنا للفن بين الجهد والعبقرية، كان الكسل من ميزات الفن الجميل عندنا. وربما نعجب إذا سمعنا أن المقدرة والنبوغ في الفن هما نتيجة الكد الطويل، والجهد المستمر، والعمل الثابت، والاجتهاد في البحث، والانتقاد بقصد التحسين. وليس من شك في أن المواهب الفطرية شرط واجب، إلا أنها ليست الشرط الوحيد، لأن المواهب وحدها وإن كانت تنير اسم الفنان إِلا أنها- من غير كد وجهد- تحرقه، وسرعان ما يصبح في ظلمات النسيان. وهكذا كان شأن بعض فنانينا، فإنهم أضاءوا لحظة، ثم أنطفأوا إلى الأبد، مع أنهم كانوا على جانب من المواهب، لو أنهم استخدموها في سبيل الفن، لكانوا بين الخالدين.

وهذه الإشارة إلى وجوب التوفيق بين المواهب والمجهودات الشخصية في ميدان الفن الجميل، نراها تنطبق أيضا في الرياضة، حيث نرى كثيرا من الرياضيين عندنا يطلبون الكسب العاجل، ولا يركنون إلى الجهد الطويل، فتذهب مواهبهم الغالية هباء منثورا. وعلى كل فإنه يلزمنا أن نقرن بين الموهبة والقدرة لنحصل على شيء يكون جديرا باسم الفن. إن الفن الذي ليس إلا رياء كاذباً، وتصنعاً مخلاً لبعض الفنانين الذين يهملون مظهرهم مبالغة في البساطة ليظهروا أصالتهم الفنية، هو من نفس المشرب الممثل في بعض شبابنا الرياضيين، حين يبالغون في تعقيد مظهرهم، بتقليد أبطال السينما في إِطالة الشعر، واستخدام العطور، والمساحيق أحيانا، بينما الرياضة تعني البساطة. إِن هذا ليس من روح الفنون، بل هو من باب الجنون، وواجبنا أن نضرب على أيدي أولئك المتبطلين، فلا نسمح لهم بأن يشوهوا ذوقنا الفني باسم الفن، والفن منهم براء.

العنصر الثاني: التراب

الْعُنْصُرُ الثَّانِيَ: التُّرَابُ

التراب أحد العناصر الثلاثة التي تكون الحضارة، فإذا ما توفر " المركب الديني " لتركيب هذه العناصر- كما أسلفنا- فإننا نرى التراب في بلاد الاسلام جديرا ببحثه هنا كعامل من عوامل الحضارة. ونحن حينما نتكلم عن التراب، لا نبحث في خصائصه وطبيعته، فليس هذا البحث من موضوع الكتاب، ولكننا نتكلم عنه من حيث قيمته الاجتماعية، وهذه القيمة الاجتماعية، للتراب مستمدة من قيمة مالكيه، فحينما تكون قيمة الأمة مرتفعة، وحضارتها متقدمة يكون التراب غالي القيمة، وحيث تكون الأمة متخلفة- كما نقول اليوم- يكون التراب على قدرها من الانحطاط. ونستطيع بمقياسنا السابق أن نقول: إن التراب في أرض الإسلام عموماً على شيء من الانحطاط، بسبب تأخر القوم الذين يعيشون عليه (1)، ذلك أن الأرض الزراعية في بعض البلاد كالجزائر مثلاً بدأت تتقهقر رويدا أمام غزو الصحراء، فأكفان الرمال تمتد هناك حيث كان يوجد قطعان الماشية، والأرض الخضراء. ولقد شاهدت الصحراء قبل عشر سنوات جنوب مدينة (تِبسه) ولكنها اليوم قد أصبحت شمالها. وليس بمستبعد- إذا ما واصلت الصحراء هذا التقدم- أن تكون عاصمة البلاد بعد قرن أو قرنين واحة محفوفة بشيء من النخيل، تحيط بها الرمال.

_ (1) ربما أمكننا ذكر أسباب سياسية أيضا مثل استيلاء الاستعمار على تراب بعض البلاد: ولكن هذا الجانب الطارئ قد يخفي علينا جوانب أخرى نراها أكثر أهمية في دراسة منهجية لأنها تتعلق بأسباب ط س ة [[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: لم أستبن هذه الكلمة]] تستحق العلاج في طبيعة التراب أو في سلوك أصحابه.

ونحن لا نرى في هذا مجرد مشكلة، بل نراها في الحقيقة مأساة دامية، إذ تموت الأرض الخضراء عن أهلها، وتتركهم يتامى بين يدي الصحراء المقفرة، وليس لهم من مطعم إلا بعض أشجار من النخيل، وليس لهم من مشرب إلا بقية مما ترك الشتاء من مطر، هذا المصير الذي تنتظره أراضينا الخصبة يشبه إلى حد كبير مأساة (برقة) التي اكتسحتها الرمال منذ ألف عام. ولكن ماذا فعل سكان الأرض أمام هذا الغزو؟ .. إنهم وقفوا منه موقف الضعيف الجبان! لقد فر ساكن البادية، ذلك الرحالة الذي لم تبق له أرض يحرثها، ولا ماشية يحلبها، لم تبق له إِلا دابة يركبها ليفر، فهو الآن تائه حائر بين الصحراء التي تبدده، وبين المدن الساحلية التي ترفضه أو تبتلعه حيث تجعل منه إنسانا منبوذا. ولقد كان من آثار هذا الجدب الضارب في الأرض، أن أصبحت رحلة القبائل في الشتاء والصيف مهددة بالانقراض، ولسوف يكون في انقراضها انقراضُ الرجل الفطرة الذي لم يستقر مصيره في البلاد. وهكذا يذهب تراثُنَا الحيوي- تراث اللحم والدم- يذهب هباء .. إنه الهرب .. إنه التشتت .. إنه الموت!!! إن الوضع خطير، ولكنه لا يدعونا إلى اليأس من إصلاح ما نحن فيه. فإن علينا أن نوقف النزيف أولا، وأن ننقذ الشعب من خطر الموت في أسماله، دون أن يجد ما يسد رمقه. ونقطة الانطلاق في كل إصلاح اجتماعي، هي أولاً توفير القوت والملبس، ثم نطرح القضية على بساط التخطيط. وقد سبق أن بحثت هذه القضية من الناحية الزراعية بحثا كاملاً متخصصا، غير أننا نود أن نلفت النظر إلى وجه آخر فيها، وذلك من حيث تأثير المناخ والأحوال الجوية، وهي تخص على الأقل 80% من البلاد الإسلامية، مثل

باكستان والأناضول والأردن والحجاز وغيرها، ولكننا نجعل نقطة تركيزنا على بلاد الشمال الأفريقي التي نعرفها، فعلى طول الخط الذي يمتد من جنوب تونس إِلى جنوب مراكش تتقدم الصحراء كل سنة، والسبب في ذلك. يعود بلا شك إلى الإقلال من الأشجار والغابات إقلالاً بالغاً، وبخاصة في الأعوام الأخيرة (1). وانقراض الغابة في الشمال الأفريقي شيء له تاريخ قديم، يرجع إلى عهد الكاهنة التي صيرت جنوب البلاد (أرضاً حريقاً) كما يقول أهل البلاد. ومن ذلك العهد بدأ خط الصحراء يصعد من الجنوب إلى الشمال في كل سنة. ويزدرد شيئا فشيئا الأراضي الصالحة للزراعة، ليدفنها تحت الرمال. وليست أرض البادية- في أصلها إلا أرضا خضراء مخصبة صالحة للزراعة، حولتها الأيام إِلى ما هي عليه الآن، وهي جادة في تخريبها حتى تبلغ المأساة منتهاها، عندما تتعذر الحياة فيها على الحيوان، بعد أن تعذرت على النبات. وهذا التحول في الأرض الخصبة إلى فلاة ثم إلى صحراء- يؤدي إلى تحول في الحياة الاقتصادية، فقد تتحول أولاً حرفة البلاد من الزراعة إلى رعي الماشية، ومن هذه إلى لا شيء. وإن هذا التطور الطبيعي ليفرض على الحياة البشرية أن تتبع هذه الدورة الجهنمية، ونتيجة هذا التكيف تظهر في النهاية في صورة حياة اجتماعية راكدة هي ((الحياة النباتية)). وإِن الإنسان ليدرك هذا الطور حين لا يجد في يده من الوسائل ما يرد به غائلة الصحراء، فيترك العمل، حيث لم تعد له حاجات يطلب إشباعها. لقد كانت بلاد الشمال الإفريقي قبل ألف سنة تحتوي على مساحات من الأشجار تبلغ سبعة ملايين من الهكتارات، غير أننا نجدها اليوم قد نقصت إلى الثلث تقريبا، وهنا يكمن سر المأساة التي نعيشها اليوم، حيث نجد الجو لا يكف عن أن يقترب يوما فيوما من الطقس الصحراوي القاري.

_ (1) ويبدو أن هذه الظاهرة الطبيعية تعم كل البلاد الإسلامية.

ولقد أصبحت القضية اليوم في طورها النهائي من الخطورة، لأنها أصبحت تمس كيان الفرد، لا مصالحه فقط، ومن المناسب ذكر بعض الارقام توضيحاً لخطورتها: فعلى سبيل المثال انخفض عدد السكان في منطقة جنوب قسنطينة وهي (تِبسّة) منذ عام 1939 إلى الآن، من مائة وثمانين ألفا إلى أربعين ألفا تقريبا، بينما الماشية التي كانت مورد الإقليم الوحيد نجدها اليوم على وشك الانقراض. وظاهر أن سبب الأزمة جوي ناشيء عن قلة المطر، وهي تتسبب في جفاف القشرة الخصبة من الارض، فتذروها الرياح، وتكفنها الرمال ... وهكذا تولد الصحراء في مهد الأرض الخصبة. وبدهي أنه لا حل لهذه الأزمة غير الشجرة، ولا يمنع ذلك أن يكون ثمة حل آخر، ولكنه في أيدي علماء الدولة المتمدينة أولئك الذين يستعملون علومهم لتخريب الأرض لا لتعميرها، فمن اليسير عليهم أن تحل تلك المشكلة حلاً علمياً باستعمال الطاقة الكامنة في الذرة، إِذ أن كل جرام من المادة يحوي آلاف المليارات من الوحدات الحرارية. فلو أن هذه القوة استعملت في تبخير ماء البحر، بدلاً من أن تصرف في تبخير الجنس البشري وتدمير أرضه، اذن لحلت قضيتنا بوساطة الأمطار الصناعية. ولكن ذلك بعيد عن أذهانهم، فإن سمة المدنية التي ينتسبون إليها تتطلب منهم ذلك التدمير، فلم يبق لنا إذن إلا أن نلتفت إلى الشجرة، غير أنه لن يتحقق لنا مثل ذلك النصر على الصحراء إلا اذا انتصرنا على أنفسنا الخاملة الكسولة، لأن القضية لا تتطلب شجرة واحدة، بل مئات الملايين. وبالأحرى فإن القضية لا تهم الجزائر وحدها، بل الكتابة الطبيعية التي تكونها جبال الأطلس والبحر المتوسط، أي إِفريقيا الشمالية كلها.

فالمشكلة واحدة لا تتجزأ، من قابس إلى أغادير. ولعل هذا يتطلب منا خدمة شاقة، ولكن لنا في دول أخرى أسوة حسنة، فإنها قد تعرضت لمثل هذه المحن، فواجهتها بكفاح وعبقرية. لقد قامت فرنسا حوالي عام 1850 بغرس الأشجار في الناحية الجنوبية الغربية من البلاد، حيث كانت رمال الشاطىء الأطلنطي والمستنقعات الضارة تهدد مصالح أهلها وصحتهم، ولكن سكان تلك المنطقة انطلقوا بهمة وصبر، يوقفون الرمال عند حدها، وتكبدوا في سبيل ذلك ما تكبدوا، وقضوا عشرين سنة يسدون الطريق على الرمال من مدينة (بوردو) إلى مدينة (بياريتز). فانتصروا على الرمال التي أرادوا صدها، وكانت نتيجة انتصارهم أبعد مما كانوا يتوقعون. فقد كانت تلك المنطقة أفقر المناطق وأخطرها على الصحة في فرنسا فأصبحت بما تمتعت به من الأشجار الكثيرة ذات حركة اقتصادية ممتازة إِذ أصبحت أول منتج في العالم لزيت (التريبنتين) المستخرج من تلك الأشجار، وأصبحت ملجأ صحياً للمرضى من جميع أنحاء العالم. ولن يعيبنا أن نضرب أمثلة من جميع انحاء العالم للتدليل على ذلك الانتصار الباهر الذي سجله الإنسان على عوامل الطبيعة، وذلك باستعماله الثلاثية الدائمة: الإنسان والتراب والزمن، ويمكن أن نذكر- لولا الإطالة- المعجزات التي قامت بها روسيا في هذا الميدان، وكذلك هولندا، التي يعتبر أكثر من ثلث بلادها مصنوعا بأيدي أهلها. ومهما يكن من بدائية وسائلنا فإن علينا أن نعمل، فالعمل لازم لزوم دراسة طبيعة الارض والمناخ، فمثلاً غرس الأشجار في الأرض الصخرية ضرب من العبث في أول الأمر، إذ يجب أولاً أن نبدأ بزراعة الشواطىء القريبة من البحار، والتي لا يزال فيها بقية من استعداد لأن تستصلح بغرس الأشجار، ويكون ذلك بإنشاء

مراكز فنية في مناطق معينة، ينطلق منها (التشجير) إلى داخل البلاد. هذا من الناحية الفنية. أما من الناحية النفسية، فإنه يلزمنا أن تصبح الشجرة رمز رجل البلاد المهددة بالرمال، في إرادته للبقاء، بل ليكن لنا يوم للشجرة، يكون عيداً يتمثل فيه كفاحنا ضد الرمل الذي نرى خطره اليوم في غالب بلاد العروبة والإسلام. لن نستطيع انقاذ ذريتنا من الأجيال القادمة إلا بالعمل الشاق الذي يقوم به جيلنا الحاضر، وعندما نحقق تلك المعجزة التي تكون بانتصارنا على أتفسنا، وعلى أهوال الطبيعة، فإننا سوف نرى أية رسالة في التاريخ نحن منتدبون إليها، لأننا نكون قد شرعنا في بناء حياة جديدة، ابتدأت بالجهود الجماعية بدل الجهود الفردية ولسوف تظهر أمامنا بعد ذلك أعمال جليلة خطيرة، ولكنها سوف لا تخيفنا، لأن شعبنا أخضع التراب، ومهد فيه لحضارته ولم يعد شعباً يخاف نوائب الزمن. ***

العنصر الثالث: الوقت

الْعُنْصُرُ الثَّالِثُ: الْوَقْتُ

"ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي يا ابن آدم أنا خلق جديد: وعلى عملك شهيد فاغتنم مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة ... " ((حديث شريف)) الزمن نهر قديم يعبر العالم منذ الأزل! فهو يمر خلال المدن، يغذي نشاطها بطاقته الأبدية، أو يذلل نومها بأنشودة الساعات التي تذهب هباء، وهو يتدفق على السواء في أرض كل شعب، ومجال كل فرد، بفيض من الساعات اليومية التي لا تغيض، ولكنه في مجال ما يصير ((ثروة))، وفي مجال آخر يتحول عدماً. فهو يمرق خلال الحياة، ويصب في التاريخ تلك القيم التي منحها له ما أنجز فيه من أعمال. ولكنه نهر صامت، حتى إننا ننساه أحيانا، وتنسى الحضارات، في ساعات الغفلة أو نشوة الحظ قيمته التي لا تعوض. ومع ذلك ففي ساعات الخطر في التاريخ، تمتزج قيمة الزمن بغريزة المحافظة على البقاء، إذا استيقظت، ففي هذه الساعات التي تحدث فيها انتفاضات الشعوب، لا يقوم الوقت بالمال، كما ينتفي عنه معنى العدم؛ إنه يصبح جوهر الحياة الذي لا يُقدَّر. وحينما لا يكون الوقت من أجل الإثراء أو تحصيل النعم الفانية أعني حينما يكون لازما للمحافظة على البقاء، أو لتحقيق الخلود، والانتصار على الأخطار، يسمع الناس فجأة صوت الساعات الهاربة، ويدركون قيمتها التي لا تعوض، ففي هذه الساعات، لا تهم الناس الثروة، أو السعادة، أو الألم، وإنما الساعات

نفسها، فيتحدثون حينئذ عن ((ساعات العمل))؛ أعني العملة الوحيدة المطلقة التي لا تبطل، ولا تُسترد إذا ضاعت: إن العملة الذهبية يمكن أن تضيع، وأن يجدها المرء بعد ضياعها، ولكن لا تستطيع أي قوة في العالم أن تحطم دقيقة، ولا أن تستعيدها إذا مضت. وحظ الشعب العربي والإسلامي من الساعات كحظ أي شعب متحضر، ولكن ... عندما يدق الناقوس مناديا الرجال، والنساء، والأطفال إلى مجالات العمل، في البلاد المتحضرة ... أين يذهب الشعب الإسلامي؟! تلكم هي المسألة المؤلمة ... فنحن في العالم الإسلامي نعرف شيئاً يسمى "الوقت"!. ولكنه الوقت الذي ينتهي إلى عدم، لأننا لا ندرك معناه، ولا تجزئته الفنية. لأننا لا ندرك قيمة أجزائه من ساعة ودقيقة، وثانية، ولسنا نعرف إلى الآن فكرة "الزمن" الذي يتصل اتصالاً وثيقا بالتاريخ، مع أن فلكيا عربيا مسلما هو ((أبو الحسن المراكشي)) يعتبر أول من أدرك هذه الفكرة الوثيقة الصلة بنهضة العلم المادي في عصرنا. وبتحديد فكرة الزمن، يتحدد معنى التأثير والإنتاج، وهو معنى الحياة الحاضرة الذي ينقصنا. هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد، هو مفهوم الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط، في تكوين المعاني والأشياء. فالحياة والتاريخ الخاضعان للتوقيت كان وما يزال يفوتنا قطارهما، فنحن في حاجة ملحة إلى توقيت دقيق، وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا. وإنما يكون ذلك بتحديد المنطقة التي ترويها ساعات معينة من الساعات الأربع والعشرين التي تمر على أرضنا يومياً. إن وقتنا الزاحف صوب التاريخ. لا يجب أن يضيع هباء، كما يهرب الماء من ساقية خربة. ولا شك أن التربية هي الوسيلة الضرورية التي تعلم الشعب العربي الاسلامي تماما قيمة هذا الأمر، ولكن بأية وسيلة تربوية؟ ....

إن من الصعب أن يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب!! .. ومع ذلك فكل علم له مرحلته التجريبية التي تتصف بالاحتمال والمحاولة، وهما يسبقان ضرورة الفكرة الواضحة التي يستخلصها العقل في المرحلة التالية. فينبغي أن نحدد التجربة المطابقة لمقتضى الحال لكي نعلم " المسلم " علم الزمن، فنعلم الطفل والمرأة والرجل تخصيص نصف ساعة يوميا لأداء واجب معين، فإذا خصص كل فرد هذا الجزء من يومه في تنفيذ مهمة منتظمة وفعالة فسوف يكون لديه في نهاية العام حصيلة هائلة من ساعات العمل لمصلحة الحياة الإسلامية في جميع أشكالها العقلية والخلقية والفنية والاقتصادية والمنزلية. وسيثبت هذا (النصف ساعة) عمليا فكرة الزمن في العقل الإسلامي، أي في أسلوب الحياة في المجتمع، وفي سلوك أفراده، فإذا استغل الوقت هكذا فلم يضع سدى ولم يمر كسولاً في حقلنا، فسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي، وهذه هي الحضارة. ولا بد لنا في خاتمة هذا الفصل أن نورد تجربة قريبة منا، وواقعة تحت أنظارنا، وهي أيضا في متناول المقاييس العملية، هذه التجربة هي ما حدث في ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي خلفت وراءها ألمانيا عام 1945 قاعا صفصفا، حطمت فيها كل جهاز للانتاج، ولم تبق لها من شيء تقيم على أساسه بناء نهضتها، وفوق ذلك فقد تركتها لتصرف شئونها تحت احتلال أربع دول، فلما بدأ النشاط يسري في نفس الشعب الألماني في مستهل سنة 1948، كان ساعتئذ في نقطة الصفر من حيث المقومات الاقتصادية الموجودة لديه. واليوم، وبعد عشر سنوات تقريبا نرى معرض ألمانيا يفتح أبوابه بالقاهرة في شهر مارس 1957 فتذهلنا المعجزة، إذ ينبعث شعب من الموت والدمار، وينشىء الصناعات الضخمة، التي شهدناها.

ولو أننا حللنا تلك المعجزة لوجدنا فيها عوامل شتى لا سبيل إلى إنكارها، من بينها الإقتصاد في الجهاز الإداري، وفي التكاليف الإدارية، فقد أصبح كثير من أعمال الحكومة يقوم به أفراد الشعب كواجب عليهم، ولكن العامل المهم من هذه العوامل جميعها هو: الزمن. فقد فرضت الحكومة عام 1948 على الشعب الألماني كله، نساء وأطفالاً ورجالاً، التطوع يوميا ساعتين، يؤديها كل فرد زيادة على عمله اليومي وبالمجان، من أجل الصالح العام فقط. ولقد سمي هذا التجنيد العام Roboter Arbeit وهو العمل للمصلحة العامة. فهذه المعجزة الاجتماعية التي أتت بها ألمانيا، قد كان للزمن في إخراجها حظ موفور، ويمكننا أن ندرك قيمة الوقت مباشرة في عودة الحياة الاجتماعية والاقتصادية لشعب لم يبق لديه من الوسائل إثر الحرب الثانية إلا العناصر الثلاثة: الإنسان، والتراب، والزمن. وهنالك، حيث تهدد الصحراء وجودنا، وحيث لا نملك في أيدينا سوى هذه العناصر الثلاثة، سيرى العالم ازدهار حياتنا من جديد، هنالك حيث يخيم الجهل والفقر سيشهد الناس سيطرة الصناعة والفن، والعلم والرفاهية.

الإستعمار والشعوب المستعمرة

الْإِسْتِعْمَارُ وَالشُّعُوبُ الْمُسْتَعْمَرَةِ

المعامل الإستعماري

الْمُعَامِلُ الإِسْتِعْمَارِيْ لا شك أن بحثنا سوف يكون معرضا لانتقاد محق، إذا نحن تغافلنا عن تأثير المعامل الاستعماري واتصاله بنهضة البلاد العربية والإسلامية اتصالا وثيقا، غير أنه يجب أن نتحدث عن هذا المعامل من ناحيته الفنية: فللفرد بصفته عاملاً أولياً للحضارة قيمتان: الأولى منهما خام، والأخرى: صناعية؛ أو: الأولى منهما: طبيعية، والأخرى: اجتماعية. أما القيمة الأولى فهي موجودة في كل فرد من الأفراد، في تكوينه البيولوجي، وتتمثل في استعداده الفطري لاستعمال عبقريته وترابه ووقته. وإِذا نظرنا إلى المسلم الجزائري مثلا من هذه الزاوية، فإننا نراه مزودا من ذلك بأطيب زاد، فإن التاريخ يشهد بكفاءته وعبقريته في هذا الشأن إذ أنه سطر من مظاهر هذه العبقرية كثيرا، ما بين عهد القديس أوغستين البوني إلى عهد ابن خلدون. وأما القيمة الثانية وهي القيمة الصناعية فإنه يكتسبها من وسطه الاجتماعي، وهي تتمثل في الوسائل والمسيرات التي يجدها الفرد في إطاره الاجتماعي لترقية شخصيته وتنمية مواهبه وتهذيبها. ووظيفة الهيئة الاجتماعية إنما تتمثل في الواقع في هذه الترقية أو التنمية.

فإنها تصنع للانسان ما يمده في رفع مستواه من مدرسة أو مستشفى، ومن ادارة تسهر على مصلحته الخ ... ومن هنا تبدأ قضية الاستعمار تهمنا، حيث أنه يفرض على حياة الفرد عاملاً سلبياً نسميه بالمصطلح الرياضي (المعامل) الاستعماري Cœfficient ولذلك المعامل تاريخه في سياسة الاستعمار، فقد كان القائد الفرنسي " بوجو " - وهو في عهد الاحتلال الصورة المقابلة لصورة الأمير عبد القادر- أول فرنسي أدرك حقيقة الشعب الجزائري وما ينطوي عليه من عبقرية فذة إدراكا وضع بمقتضاه الطريقة المناسبة لاستقرار الاستعمار. وقد وضعها أساسا لتخطيط سياسته الفرنسية، التي كانت في نظره تحتاج إلى معمرين يتكافئون مع قيمة الأهالي الطبيعية. لذلك فإن شهادته بتلك الحقيقة لم تكن تخلو من النظر السياسي، إذ كان يريد اختيار معمرين تساوي قيمتهم قيمة الشعب الجزائري. ولئن كانت شهادة الجنرال المذكور من قبيل الاعتراف بمزايا الخصم؛ ذلك الاعتراف الذي يحمل في طياته بقية الخلق الفرنسي القديم، فإن تلك الشهادة قد أصبحت اليوم هي الموحية لسياسة التهديم في جوهر الفرد الجزائري ومحو عبقريته، ولقد ظهرت طلائع هذه السياسة غداة الهزيمة التي أصابت فرنسا عام 1870 فانتقصت من هيبتها. وبدلا من أن يدفعها شعورها بالنقص إلى الرفع من قيمة شعبها، فإنها - رغبة منها في إقرار التوازن بين المعمرين والمستعمرين- قد عمدت إلى الانتقاص من قيمة هؤلاء الآخرين، وتحطيم قواهم الكامنة فيهم، فمنذ ذلك الحين بدأ الحط من قيمة الأهالي ينفذ بطرق فنية، كأنه معامل جبري وضع أمام قيمة كل فرد، بقصد التنقيص من قيمته الإيجابية. ولقد رأينا هذا (المعامل) يؤثر في حياة الفرد في جميع أطوارها، يؤثر فيه

وهو طفل، إذ لا يمده المجتمع بما يقوي جسده وينمي فكره، أو يهيىء له مدرسة أو توجيهاً، هذا إذا كان له أب يحنو عليه. أما إذا فقد من نشأته الأب فسيكون الأمر أدهى وأمر، ولسوف يؤول صاغرا إلى ماسح أحذية، أو سائل يتخلى عن كل عز وكرامة، بإراقة ماء وجهه. فإذا ما كتبت له النجاة من كل هذه النكبات، وهيئت له الأسباب لأن يجد مقعدا في مدرسة ... فكم من العراقيل توضع في طريقه! ... ممتحنون بلا إنتصاف، .. وحكام بلا شفقة، ومستخدمون بلا ضمير ... وأخيرا فكم يلاقي ذلك الفتى المسلم في سبيل الحصول على وظيفة حقيرة! وإذا ما بلغ مبلغ الرجال ماذا يعمل؟ فالشراء، والبيع، والسفر، والكلام، والكتابة، والتلفون، وكل الأعمال التي تقوم عليها حياته الاجتماعية لا تنالها يداه إلا بشق الأنفس، ومن خلال شبكة دقيقة مسمومة من الأحقاد، تسلبه كل وسيلة لإقامة حياته، وتنشر من حوله الأفكار المحطمة لقيمته والمعرقلة لمصالحه. فتحيطه بشبكة محكمة ينسجها خبث المستعمر الداهية. وبدهي أنه في حاله هذه لا سبيل له لأن يقوم بأعماله إلا بالقدر الذي يقدره الاستعمار له، فهو يعيش كأن يدا خفية، وتارة مرئية، تشتت معالم طريقه، وتقصي باستمرار أمامه العلامة التي تحدد هدفه، فلا يدركه أبدا. نعم، هناك واقع استعماري، هو ذلك المعامل الاستعماري. لقد تكلم البعض في شأن هذا المعامل بلسان السياسة، فطالبوا بالحقوق التي هضمها الاستعمار، وأغفلوا الواجبات، وأصبح هذا الكلام من أروع مظاهر المأساة التي يعانيها الجنس البشري في عصرنا. وتكلم عنه آخرون بلسان الواجبات كغاندي ففاز بحقوقه كاملة، وكأنها نظرة قرآنية غير منتظرة عند ذلك المصلح البرهمي.

أما هنا فنحن نريد أن نبحثه بحثاً علمياً في بلادنا، ولكي نتبع المقياس الصحيح في درس الاستعمار، يلزمنا أن نراه في أعماق التاريخ، وأن نوسع نطاق البحث فيه، لأنه ليس بالشيء الذي يخص علاقات الجزائر بفرنسا فحسب، ولاكنه يهم بصفة عامة علاقات الحضارة الغربية بالانسانية منذ أربعة قرون. والاستعمار يعتبر من الوجهة التاريخية نكسة في التاريخ الإنساني، لأننا إِذا بحثنا عنه فسنجد أصوله تعود إلى روما، حيث وضعت المدنية الرومانية طابعها الاستعماري في سجل التاريخ، وقد أعقبهما العهد الاسلامي الذي كان في الواقع تجربة من نوع جديد في تاريخ علاقات الشعوب، فنحن لا نرى الحكم الاسلامي قد استعمر بما في هذه الكلمة من معنى مادي منحط، بل كان فتحه للبلاد كجنوب فرنسا وإسبانيا وأفريقيا الشمالية، لا لاستغلالها، ولكن لضمها للحضارة الإسلامية في الشام أو العراق. وليس لأحد أن ينكر هذه الحقيقة محتجا بأن انعدام التفرقة السياسية إنما يعود إِلى أن شعوبه كانت متوحدة في الدين، فإن الواقع التاريخي يشهد، وأقباط مصر ويهودها يشهدون، بأن الإسلام لم يكن يعم البلاد كدين، بل كحضارة. وقد وجدنا القسيس (هربرت) يتعلم العلوم الإسلامية ثم يرقى عرش البابوية باسم البابا سلفستر الثاني، فيصبح المحرك الأول للحرب الصليبية الأولى، نعم، ما كان لذلك أن يحدث لولا أن الإسلام قد جاء بعهد جديد في تاريخ العلاقات بين الشعوب. ومن سوء حظ الإنسانية أن نسيت أوربا أو تناست هذه التجربة اليوم، ولا عجب فإن الواقع كما لاحظه (جوستاف لوبون) هو أن جميع الوسائل قد اتخذت لمحو الحضارة الإسلامية من سجل التاريخ، من أجل ذلك زور الكتاب الغربيون التاريخ، حتى ظهر في عيون من أخذ عنهم أن التاريخ البشري ليس تلك السلسلة التي تتصل فيها جهود الأجيال، وإنما في نظرهم تلك المسافة المختزلة تبتدىء من (الأكروبول) في أثينا وتنتهي عند قصر (شايو) بباريس، أو أكثر

من ذلك بقليل. ولقد تظهر هذه الخرافة علمية في أعين قوم من أعلام المثقفين في أوربا حتى إِنه لتعلوهم الدهشة إذا ما كشف لهم المتحدث عن وهم هذه المسافة التي رأوا في مبدئها ابتداء للمدنية وفي منتهاها انتهاء لها، ولو أنهم دققوا النظر، لوجدنا هوة كبيرة تفصل حضارة أرسطو وحضارة ديكارت، وأن تلك الهوة من القرون هي الحضارة الإسلامية، وإني لأذكر يوما دهش فيه محدث لي بينت له زيف معلوماته التاريخية وأوضحت له هذه الحقيقة التي كانت همزة الوصل في التاريخ الإنساني بين حضارة باريس وأثينا. غير أن المدنية الحاضرة تخطت الحضارة الإسلامية (التي تحمل رسالة الإنسانية) لتأخذ من الحضارة الرومانية روحها الاستعمارية، والمعمرون أنفسم يعترفون بذلك من حيث لا يشعرون، إذ نسمعهم صباح مساء يردون أعمالهم إلى عبقرية الرومان، ومن هنا نرى أن الاستعمار قد رجع بالإنسانية في التاريخ ألف عام ما قبل الحضارة الإسلامية ولكن ذلك لا يدفعنا إلى أن نحسبه شرا كله، بل إن خيراً قد حققه الله على يديه من حيث لا يدري، فلئن كان بطشه انتقاما، فإن في طياته رحمة ... ولنتأمل .. ما الذي بعث العالم الإسلامي من نومه قرناً؟. من الذي أيقظه من خمسين سنة تقريباً؟ من الذي قال له قم!!! إنه الاستعمار. نعم إِنه قد خلع علينا بابنا، وزعزع دارنا، وسلب منا أشياء ثمينة. لقد أخذ من حريتنا وسيادتنا وكرامتنا، وكتبنا المنسية، وجواهر عروشنا، وأرائكها الناعمة، التي كنا نود أن لو بقينا عليها نائمين! .. ولكن إذا كان هذا هو الواقع الاستعماري فيجب أن نعترف بأنه أيقظ الشعب الذي استسلم لنوم عميق، بعد الغداء الدسم الذي أكله عندما كان يرفل

في نعم حضارته والتاريخ قد عودنا أن كل شعب يستسلم للنوم، فإن الله يبعث عليه سوطا يوقظه. على أن الذي نلاحظه في العبقرية الرومانية إنما هو الروح القيصرية، على حين نلاحظ في الاسلام روح الإنسانية. وللانسانية أن تختار بين هاتين القيادتين في مستقبلها، الذي لا بد فيه من يقظات أخرى لشعوب نائمة، ومن تداول مستمر لتلك القيادة. فإما أن يكون مستقبلها نوما تغط فيه إلى الأبد، ولا تستطيع النهوض من مشرق فجر جديد، فتعجز عن تجديد حضارة لا تحمل طابعا خاصا من شعب متكبر، يسوم الإنسانية سوء العذاب، من غير ما ضمير يردع، ولا قانون يمنع. وإما أن تأتي بحضارة تكون للبشر جميعا: تستخدم مواهبهم المتنوعة، وتصور قواهم المتعددة. وفي هذين الاحتمالين عقدة عصرنا الحاضر، وإن تلك العقدة بيد (الكبار)، فهل هم يريدون حلها لصالح الإنسانية.؟ ومهما يكن من أمر فإن واجبنا نحن (غير الكبار) أن نتحدث في الأشياء التي تخصنا، ومنها ذلك المعامل الاستعماري، الذي يعمل في حياة الفرد ضد مصيره، وضد ضميره. وإِن الواجب ليقضي على كل (غير كبير) أن يشعر بما تنطوي عليه شخصيته من قيمة جوهرية، هي تراثه الخاص الذي لا سلطان لأحد عليه، فكما أنه ليس للاستعمار أن يتصرف في الزمان والمكان، فكذلك لا يستطيع أن يتحكم في عبقرية الإنسان. ولئن كان له من السلطان السياسي ما يهدم مجتمع الفرد، ويزيف قيمته الاجتماعية فإن قيمته الجوهرية، التي تشتمل على شروط بسيطة لازمة لاجتياز مرحلة العسرة من حياته، تقصر عنها يد المستعمر، وما دامت القيم الجوهرية الثلاثة: الإنسان والتراب، والزمن (وهي الزاد وقت العسرة) في يد شعب،

يشعر بها حينما ينهض من النوم، فإن ذلك الشعب بلا شك يمسك بيده مفتاح الأقدار، وربما تصادفه عراقيل أو يعثر مرات كثيرة، أو يفقد الأدوات المساعدة في طريقه، ولكن هيهات أن ينتكس أو يعود إلى الانحطاط إذا ما تصرف في إمكانياته تصرف الرشيد. وأخيرا. فإن المعامل الاستعماري في الواقع يخدع الضعفاء، ويخلق في نفوسهم رهبة ووهما، ويشلهم عن مواجهته بكل قوة، وإِن هذا الوهم ليتعدى أثره إلى المستعمرين أنفسهم فيغريهم بالشعوب الضعيفة، ويزين لهم احتلالهم إِذ يحاولون إطفاء نور النهار على الشعوب المتيقظة، ويدقون ساعات الليل عند غرة الفجر، وفي منتصف النهار، لترجع تلك الشعوب إلى العبودية والنوم. ولكن مهما سمعنا تلك الدقات الخادعة تلح في إيهامنا بأنه الليل، فلن نعود إِلى النوم. لقد أصبحنا والحمد لله، ولا رجعة إلى الظلام مهما حاول الاستعمار، إنه النهار ... النهار ...

معامل القابلية للاستعمار

مُعَامِلُ الْقَابِلِيَّةِ لِلِاسْتِعْمَارِ تبين لنا من الفصل السابق كيف يُحرِّف الاستعمار منهجياً معادلة الفرد المستعمَر، باستخدام أنواع من العراقيل متعددة، يصادفها الفرد في طريقه. وعرفنا كيف يؤثر المعامل الاستعماري لتضييق نشاط الحياة في البلاد المستعمرة، حتى تكون مصبوبة في قالب ضيق، يهيئه الاستعمار في كل جزئية من جزئياته، خوفاً من أن تتيح الحياة المطلقة لمواهب الإنسان أن تأخذ مجراها الطبيعي إلى النبوغ والعبقرية. على أنه من الناحية الجدلية: هذا الاعتبار خارجي بكيفية ما، لأنه يرينا كيف يؤثر الاستعمار على الفرد من الخارج، ليخلق منه نموذج الكائن المغلوب على أمره، والذي يسميه المستعمر في لغته (الأهلي). ونحن في هذا الفصل نريد أن نتعرض لعامل آخر ينبعث من باطن الفرد الذي يقبل على نفسه تلك الصبغة، والسير في تلك الحدود الضيقة التي رسمها الاستعمار، وحدد له فيها حركاته وأفكاره وحياته ". فنرى أولا هذا الرجل يقبل اسم (الأهلي)، يوم استأهل لكل ما ترمي إِليه المقاصد الاستعمارية، من تقليل قيمته من كل ناحية، حتى من ناحية اسمه. ومما يلاحظ أنه منذ سنين قليلة، كان هذا الرجل يحمل هذا الاسم كرايته،

وكانت الجرائد تعنون به صحفها، وكنا نسمع هذه الكلمة تتردد في خطب الطبقة المثقفة (الأهلية) ونقرؤها في مقالاتها. وإذا لم نكن شاهدنا خصيانا يلقبون أنفسهم (بالخصي) فقد شاهدنا مرارا مثقفين جزئريين يطلقون على أنفسم (الأهلي). ومعنى ذلك أننا قد أخذنا أنفسنا بالمقياس الذي تقيسنا به ((إدارة الشئون الاستعمارية)). إن المستمعر يريد منا بطالة يحصل من ورائها يداً عاملة بثمن بخس فيجد منا متقاعدين، بينما الأعمال جدية تترقب منا الهمة والنشاط. وهو يريد منا جهلة يستغلهم، فيجدنا نقاوم ذلك الجهد البسيط المبذول عندنا ضد الأمية وهو جهد ((جمعية العلماء)). وهو يريد منا انحطاطاً في الأخلاق كي تشيع الرذيلة بيننا، تلك الرذيلة التي تكون نفسية رجل ((القلة))، فيجدنا أسرع إلى محاربة الفضيلة، التي يحاول نشرها العلماء في بلادنا، وهو يريد تشتيت مجتمعنا وتفريق أفراده شيعا وأحزاباً، حتى يحل بهم الفشل في الناحية الأدبية، كما هم فاشلون في الناحية الاجتماعية، فيجدنا متفرقين بالسياسات الانتخابية، التي نصرف في سبيلها ما لدينا من مال وحكمة. وهو يريد منا أن نكون أفرادا تغمرهم الأوساخ، ويظهر في تصرفاتهم الذوق القبيح، حتى نكون قطيعا محتقراً، يسلم نفسه للأوساخ والمخازي، فيجدنا ناشطين لتلبية دعوته. وبذلك تكون العلة مزدوجة، فكلما شعرنا بداء المعامل الاستعماري الذي يعترينا من الخارج، فإننا نرى في الوقت نفسه معاملاً باطنيا يستجيب للمعامل الخارجي ويحط من كرامتنا بأيدينا. وربما لم نكن لنفقه لهذا الداء الباطني معناه الاجتماعي، لولا أن الفئة

اليهودية في الجزائر قد لقنتنا درسا مفيدا، فقد رأينا كيف أن اليهود أثناء الحرب الماضية كانوا يعيشون ساعات شديدة من الاضطهاد، كانت الدوائر الحكومية تحكمهم بقوانين قاسية، تنغص عليهم حياتهم في كل ميدان. كان أبناؤهم ينبذون من دور التعليم، وتجاراتهم تعرقل بمختلف القوانين، وكانوا في هذه الحقبة على وشك أن تصيبهم العوامل التقليلية، التي قللت من قيمتنا نحن المسلمين، غير أنه سرعان ما قام اليهود برد الفعل. فتكونت مدرسة سرية في كل بيت من بيوتهم، يدرس فيها أساتذة متطوعون، فيهم المهندس والطبيب والمحامي، يتطوعون بلا ثمن. وقد عمروا معابدهم أكثر من ذي قبل، في حين أن أعمالم التجارية قد استرسلت في نشاطها، أحسن وأقوى من الماضي، بفضل تعاضدهم في الضراء على مبدأ (الجميع للفرد والفرد للجميع). وهكذا أتيح لليهود أن يجتازوا ساعات الخطر ساعين منتصرين رغم ما كانوا يعانون من معوقات خارجية سلطت على حياتهم في كل جزئياتها. ولقد كان نجاحهم منطقيا، فإن أنفسهم لم تكن معلولة من باطنها، ولم يكن من معوق داخلي يمسكهم عن التقدم، ويحط من قيمة أنفسهم بأنفسهم. وإننا لنجد في نجاحهم المثل لانتصار الفرد على البيئة، مهما كانت ظروف حياته، وإن لنا في ذلك درسا يعلمنا كيف يتعلم الأطفال بلا مدارس مفتوحة، وكيف تنشط حياة قوم تحت الضغط والمراقبة. وهكذا يؤدي القيام بالواجبات إلى كسب الحقوق. إن القضية عندنا منوطة أولاً بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في أنفسنا من استعداد لخدمته، من حيث نشعر أو لا نشعر، وما دام له سلطة خفية على توجيه الطاقة الاجتماعية عندنا، وتبديدها وتشتيتها على أيدينا، فلا رجاء في استقلال،

ولا أمل في حرية، مهما كانت الأوضاع السياسية، وقد قال أحد المصلحين ((أَخْرِجُوا الْمُسْتَعْمِرَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضِكُمْ)). إن الاستعمار لا يتصرف في طاقتنا الاجتماعية إلا لأنه درس أوضاعنا النفسية دراسة عميقة، وأدرك منها موطن الضعف، فسخرنا لما يريد، كصواريخ موجهة، يصيب بها من يشاء، فنحن لا نتصور إلى أي حد يحتال لكي يجعل منا أبواقاً يتحدث فيها، وأقلاماً يكتب بها، إنه يسخرنا وأقلامنا لأغراضه، يسخرنا له، بعلمه، وجهلنا. والحق أننا لم ندرس بعدُ الاستعمارَ دراسة علمية، كما درَسَنا هو، حتى أصبح يتصرف في بعض مواقفنا الوطنية، وحتى الدينية، من حيث نشعر أو لا نشعر (1). إننا أمام قضية خطيرة وجديرة بدراسة خاصة، ولسوف ندرسها يوما ما إن شاء الله (2).

_ (1) وهكذا يتوصل الاستعمار إلى الاستفادة من نقائصنا. وبخاصة حين يتحتم على نشاطه أن يختفي لكي يحدث تأثيره الكامل: فعند ظهور الطبعة الفرنسية لهذا الكتاب منذ عشر سنوات، كان يمكن للاستعمار أن يحول بينه وبين الضمير الجزانري بأن يأمر بمنع بنشره، ومنه لم يفعل سوى أن وضع اصبعه على (زرار) خفي؟!. فخصصت جريدة العلماء (البصائر) مقالين لتقديم الكتاب للشعب الجزائري، قدموه- على أنه خلاصة مقالات نشرت في جريدة Le Monde الباريسية بقلم مراسلها في القاهرة!!! وقد كانت هذه هي الطريقة المثلى لاثبات عجز تصورات الشعب العقلية الأصلية ومع ذلك فأنا واثق من أن نفس الصحفي قد يستطيع كثيرا في العدد التالي لنفس الجريدة أن يكتب مقالا عن ((تخريب الاستعمار للنشاط الفكري في الجزائر)) وقد قدمت جريدة أخرى وطنية الكتاب من جهتها تحت عنوان (خطوة خاطئة وإبهام) ومن جهة أخرى نشرت صحيفة يسارية بياناً لاتحاد الطلبة، ينبه الشعب إلى خطر هذا الكتاب، فإذا أردنا أن نتذوق طعم هذا البيان، فيجب أن نعرف أن نفس (الاتحاد) كان قد صفق بحرارة منذ أسبوع للمؤلف حين عرض كتابه في محاضرة له وفي كل هذا لم يظهر الاستعمار بعمل يرى. إني لأورد هذه الذكريات البعيدة لتوضيح هذا الفصل وأيضا لأني أريد ان أذكر العرب والمسلمين بأن (الزرار) الذي يصنع به الاستعمار معجزاته لا زال على اتم استعداد للعمل. فهو مستقر في نفوسنا. (2) نشر جانب من هذه الدراسة فعلا في كتابي ((الصراع الفكري في البلاد المستعمرة)).

مشكلة التكيف

مُشْكِلَةُ الْتَّكَيُّفِ تخضع الحياة الاجتماعية لقانون (رد الفعل)، كما تخضع له الميكانيكا، وبما ان الاستعمار في نوعه هو ((فعل)) المدنية الحاضرة، تسلطت به على الشعوب المستعمرة، فلا غرابة إذن أن يكون لذلك الفعل في تلك الشعوب ((رد)). وإننا اليوم لنرى هذا ((الرد)) بادياً في صور مختلفة من حياة العالم الاسلامي، وحري بنا أن نطلق على ذلك ((الرد)) الإسم الاصطلاحي الذي يعطينا له مدلولاً أوضح. فمن المعلوم أن علم (البيولوجي) وعلم الاجتماع يُعَرِّفان هذا ((الرد)) بأنه: (اتجاه الفرد ونزوعه إلى التكيف مع الوسط الذي يعيش فيه)، ونعلم أيضا أن من قوانين التكيف ((غريزة التشبه والاقتداء)). وبالفعل فإن أشكالاً جديدة من السلوك بدأنا نراها في الجزائر مثلا، وهي ليست من عاداتنا، وهي موجودة في سائر بلاد العروبة والاسلام. فمن تلك الأشكال: تلك الأوضاع المثيرة التي تتخذها الفتاة لكي تلتفت إليها الأنظار، وتخفق لها القلوب. وذلك الشاب ذو الشعر الطويل الذي يتحاشى النطق بالراء فينطقها (غيناً). ولو أننا حللنا حياة مجتمعنا لوجدنا فيه ألوانا جديدة تدل في جملتها على نزعات متباينة، واستمدادات فردية متنافرة، في مجتمع فقد توازنه القديم، ويبحث الآن عن توازن جديد.

ولقد غرس هذا التطور في حياتنا عددا من المتناقضات، في أشياء مضحكة أحيانا، ومبكية أخرى. فأب كريم ينتحر إثر موبقة ارتكبتها ابنته، التي كانت تتعلم، فلم تعرف كيف تتشبه بالفتاة الأوربية المتعلمة. نعم إن مجتمعنا قد فقد توازنه القديم، وهو لا يزال يتذبذب، ولا يعرف له قرارا حتى اليوم، وإننا لنشاهد عدم الاستقرار هذا في أنفسنا، وفي تصوراتنا للأشياء، حين تختلف باختلاف الناظرين إليها. فهناك نظرة ذلك الشاب الذي يتغذى بثقافة ضيقة، قانعة بضيقها، فهو يرى أن سعادة البشر قد ابتدأت مع القرن التاسع عشر بانتشار ما يسمى بالأفكار التحررية. وهناك من يشك في كل شيء، ويرى المدنية معركة اقتصادية وأن تخليص الشعب لن يتأتى إلا بحيلة اقتصادية يحتالها المحتكرون، أو بكارثة مالية في السوق السوداء. ومنا من ينظر النظرة المملوءة بالحقد، المطلية بالرياء، فهو يرى المدنية في الأعراس الانتخابية، والمظاهرات العمومية، وهو يظن أن خطبة يهتف لها تقلب النظام العالمي. وهناك نظرة الشاب (السلفي) المملوءة بذكريات الماضي فهو يظن أنه يغير نظام المجتمع بتطهير لغته، وتطبيق النحو والصرف. وهناك النظرة المخدرة، يرى صاحبها أن المثل الأعلى للمدنية يبرق في قعر كأسه، ويلمع في جو الخمارة. ومنا من يرى نجاة الشعوب في تحرير النساء، ويظن أنه ملك بيديه المدنية اذا ما فاز بامرأة عصرية. وهناك المقتنع بحاله، الذي لا يرى شيئاً، ولا يفهم شيئاً، ولا يبحث عن شيء، فهو قانع بدفع ضريبته، من غير أن يتساءل عن موجبها الاجتماعي.

وإن في هذه الوجهات المتعددة لدليلاً على درجات متعددة من التكيف مع مجرى الحضارة. وإلى هذه الوجهات يعود اختلاف الملابس، وتباين الأذواق وتنافر الآراء، وتباعد الأفراد، وأحيانا اصطدام الجهود. فإننا حتى في علاقاتنا الودية والعائلية نعيش في وسط كأنه متألف من أجناس متعددة، ومتأثر بثقافات مختلفة، إننا قد انزلقنا في المتناقضات بسبب تفكيرنا الذي لم يتناول الموضوع بأكمله، وإنما أجزاء منه. ولو أننا درسنا الحضارة بالنظرة الشاملة. الخالية من الشهوات المبرأة من الأوهام، لما وجدناها ألواناً متباينة، ولا أشياء متناقضة، ولا مظاهر متباعدة. ولا شك في أن عقائدنا السياسية تدين لتلك القيم الفاسدة للحضارة، تلك العقائد التي تمثلت عندنا اليوم في أسطورة: (الشيء الوحيد) و (الرجل الوحيد) الذي ينقذنا. وحيث لم يتيسر لنا عام 1936 أن نضع آمالنا في (شيء وحيد) فقد وضعناها في (الرجل الوحيد) الذي بيده سعادة الشعب ورخاؤه. وما زالت هذه العقيدة الوثنية التي تقدس الأشخاص لا زالت منتشرة في بلاد الإسلام، لم نتخلص منها، وإِن كنا قد فعلنا شيئا فربما كان ذلك في استبدالنا وثناً بوثن، فلعلنا اليوم قد استبدلنا (الرجل الوحيد) (بالشيء الوحيد). فالتاجر الذي تنجح تجارته يجزم بلا تردد بأن النجاة في الاقتصاد، وآخرون يرون الشيء الوحيد في البيان وتزويق الكلام ... وهكذا ننتقل من وهم لنتخبط في وهم، ولا ندري كم من السنين سوف نقضيها لندرك عجز (الأشياء الوحيدة) عن حل المشكلة ... التي هي مشكلة الحضارة أولاً وقبل كل شيء.

إن من الواجب ألا توقفنا أخطاؤنا عن السير حثيثاً نحو الحضارة الأصيلة، توقفنا خشية السخرية أو الكوارث، فإن الحياة تدعونا أن نسير دائما إِلى أمام، وإِنما لا يجوز لنا أن يظل سيرنا نحو الحضارة فوضوياً، يستغله الرجل الوحيد، أو يضلله الشيء الوحيد، بل ليكن سيرنا علمياً عقلياً، حتى نرى أن الحضارة ليست أجزاء مبعثرة ملفقة، ولا مظاهر خلابة، وليست الشيء الوحيد، بل هي جوهر ينتظم جميع أشيائها وأفكارها وروحها ومظاهرها، وقطب يتجه نحوه تاريخ الانسانية. وإن قضيتنا منوطة بذلك التركيب الذي من شأنه إزالة التناقضات والفارقات المنتشرة في مجتمعنا اليوم. وذلك بتخطيط ثقافة شاملة، يحملها الغني والفقير، والجاهل والعالم، حتى يتم للأنفس استقرارها وانسجامها مع مجتمعها، ذلك المجتمع الذي سوف يكون قد استوى على توازنه الجديد.

المحتوى الموضوع .......... الصفحة كلمة الموصى له .......... 5 مقدمة الطبعة الفرنسية .......... 7 مقدمة الطبعة العربية .......... 12 الباب الأول (الحاضر والتاريخ) .......... 15 أنشودة رمزية .......... 17 دور الأبطال .......... 19 دورة السياسة والفكرة .......... 22 دور الوثنية .......... 28 الباب الثاني (المستقبل) .......... 37 أنشودة رمزية .......... 38 من التكديس إلى البناء .......... 40 الدورة الخالدة .......... 47 العدة الدائمة .......... 60 أثر الفكرة الدينية في تكوين الحضارة .......... 61 العنصر الأول: الإنسان .......... 73 فكرة التوجيه .......... 78 توجيه الثقافة- تعريف الثقاقة .......... 79 الحرفية في الثقافة .......... 84 معنى الثقافة في التاريخ .......... 85 معنى الثقافة في التربية .......... 86 التوجيه الأخلاقي .......... 88 التوجيه الجمالي .......... 91 المنطق العملي .......... 95 الصناعة .......... 97 المبدأ الأخلاقي والذوق الجمالي في بناء الحضارة .......... 99 توجيه العمل .......... 106 توجيه رأس المال .......... 109 مشكلة المرأة .......... 114 مشكلة الزي .......... 122 الفنون الجميلة .......... 125 العنصر الثاني: التراب .......... 129 العنصر الثالث: الوقت .......... 137 الاستعمار والشعوب المستعمرة .......... 143 المعامل الاستعماري .......... 145 معامل القابلية للاستعمار .......... 152 مشكلة التكيف .......... 156

§1/1