شروح حماسة أبي تمام دراسة موازنة في مناهجها وتطبيقها

محمد عثمان علي

شُروح حماسة أبى تمام دراسة مُوازنة في مناهجها وتطبيقها الدكتور عُثمان علي دار الأوزاعي

"بسم الله الرحمن الرحيم" توطئة حظيت المادة الشعرية في حماسة أبي تمام باهتمام بالغ من قبل العلماء الشراح الذين تضافرت جهودهم على شرحها منذ منتصف القرن الثالث - وفق ما رجح الباحث في هذا البحث - وإلى عصرنا هذا الحديث. ولم يكن هذا الاهتمام من العلماء - وبخاصة الأوائل منهم - وليد محاكاة فحسب بل كان بسبب قيمة اختيار الحماسة الذي أجمع السابقون من العلماء واللاحقون على أنه الغاية في بابه، فهو طراز فريد أو نسيج وحده، صاحبه عالم بالعربية وشاعر عظيم، يعد زعيم مدرسة في شعرنا العربي، يعرف كيف يختار من القطع الشعرية أبدعها، ومن القصائد أروعها. ومن أجل ذلك كان لاغرو أن نجد العلماء وطالبي الأدب يحتفلون به في كل زمان ومكان، دراسة وشرحًا، أو قراءة وتعلمًا، ابتداءً من أبي محمد القاسم الديمرتي وإلى سيد علي المرصفي أستاذ الدكتور طه حسين - رحمهم الله جميعًا وأضاء قبورهم بنور المغفرة والرضوان - هذا فضلًا عن عناية علماء اللغة به، حيث عدوه وثيقة يستشهدون بأشعاره على اللغة وشرحها. وإذا كانت جهود العلماء من السلف الصالح قد تركزت في مجال الدرس والتعليم على ديوان الحماسة مُخلفين في شرحه أعمالًا ضخمه فإن هذا يقتضي أن تقوم الدراسات حول هذه الجهود لبيان قيمتها، وطرق مناهجها، وتوضيح مدى ما حققته في هذا المجال من خدمة لهذا الاختيار من جهة، وصناعة في شرح الشعر من جهة أخرى. وهذا البحث الذي يُقدم له الباحث بهذه التوطئة يُعد من الأعمال التي قامت من

أجل هذا الغرض، ولكنه يقتصر الدراسة فيه على الشروح التي ظهرت إلى نهاية القرن السادس الهجري، وعلة هذا التحديد الزمني ترجع في نظر الباحث إلى سببين: أحدهما ما لاحظه في دراسة هذه الشروح، أنها سلكت من حيث المنهج والتطبيق خمسة مناهج، كان آخرها المنهج التجميعي الانتخابي الذي بدأ عند الخطيب التبريزي المتوفي سنة 502 هـ، وتجلى بوضوح عند شراح القرن السادس أمثال أمين الدين الطبرسي وأبى الرضا الراواندي، كما أن المنهج الاختصاري التسهيلي الذي سبق المنهج التجميعي الانتخابي بقليل على يدي زيد بن علي الفارسي والأعلم الشمنتري وأبي الحسن البياري قد تجلى هو الآخر لدى أحد شراح القرن السادس هو صاحب الشرح المنسوب خطأ إلى أبي العلاء المعري. وأما السبب الآخر فيتمثل فيما لاحظه الباحث من قراءته لجملة من الشروح التي تلت القرن السادس الهجري، أن عملية الشرح في الحماسة قد أصبحت مجرد تكرار لأعمال السابقين اختصارًا وتسهيلًا أو تجميعًا وانتخابًا، ليس فيها ابتكار يذكر ولا إبداع يُعول عليه، بل ظهر من الشراح من لا يحقق في عمله شيئًا سوى النقل من السابقين دون عزو مثل يحي بن حميد المعروف بابن أبي طي، وهو أحد شراح الحماسة في القرن السابع الهجري، فقد ذكر ابن شاكر في "الفوات" "أنه كان يعمد إلى كتب غيره فيُقدم فيها ويُؤخر أو يحذف ويختصر ويدعيها لنفسه، ومثل شارح مجهول من شراح القرن الثاني عشر عثر الباحث على مخطوطة شرحه بتركيا، ووجده في عمله عالة على الإمام المرزوقي وأبي الفتح ابن جنى ينقل منهما دون عزو. ويجدر بالباحث أن يشير إلى أن عمله هذا قد اتصل بعملين من أعمال المعاصرين أحدهما "شروح الشعر الجاهلي" لأحمد جمال العمري الذي طبعته دار المعارف بمصر، والآخر "حماسة أبي تمام وشروحها" لعبد الله عبد الرحيم عسيلان الذي طبع بمطبعة البابي الحلبي في مصر أيضًا. فأما "شروح الشعر الجاهلي" فيرجع اتصاله إلى أن صاحبه في دراسته لشروح الشعر الجاهلي قد درس كلًا من الإمام المرزوقي والخطيب التبريزي اللذين هما قطبا المنهج الأدبي الإبداعي، والمنهج التجميعي الانتخابي في شروح الحماسة، وهو عمل - والحق يقال - غاية في بابه، أفاد الباحث

منه في مواضع متعددة من هذا البحث، وإن كان قد أخذ عليه بعض المآخذ وبخاصة في وصفه لمنهجي المرزوقي والتبريزي حيث بدت بعض المعايير والصفات التي حددها لمنهج كليهما نظرية بحتة، يصعب تطبيقها في عمل الرجلين، ولا تقوم إلا في مواضع طفيفة، لا تقاس بالعمل الكلي الذي أداه كل منهما في شرح الحماسة. وأما "حماسة أبي تمام وشروحها" فعلة اتصاله بعمل الباحث ترجع إلى أن صاحبه قد قام بدراسة تعريف لجملة من الشروح الداخلة في دائرة الفترة الزمنية التي حددها الباحث لعمله، وهو عمله - إن جاز لباحث أن يحكم على عمل غيره - مع ما ضم من فوائد - كثير الوهم والخلل، وقد حاول الباحث أن يصحح بعض الأوهام التي وردت فيه، وذلك في الأمور التي تتصل بصميم عمله، ولم يكن من وكده أن يتتبع كل ما فيه من وهم ليصلحه، لأن هذا يبعده كثيرًا عن الغاية التي رجاها من بحثه غير أن واجب العلم يحتم على الباحث أن يشير إلى أن جُل شروح الحماسة لا يزال مخطوطًا، وأن إعطاء معلومات عنها في بحث جامعي يجب أن يُحاط بالدقة والحذر، وإلا كان مدعاة لإيقاع الدارسين ممن لا تتيح لهم الظروف الوقوف على هذه المخطوطات في أوهام من حق العلم أن يكونوا بعيدين عنها، ومن هنا كان لازمًا على الباحث وقد وقف على هذه الشروح وقوف دارس أن ينبه على أن في "حماسة أبي تمام وشروحها" أحكامًا غير متثبتة تتصل بجملة من الشروح المخطوطة لم تتوفر للباحث - بحكم طبيعة عمله ومساره فيه - مناقشتها وتبيان الوهم فيها ولعل صاحب البحث يعود إليه فيصلح ما فيه، أو يصلحه باحث آخر ممن تتوفر لهم دراسة هذه المخطوطات. وإن الباحث ليقول وهو أحوج الناس إلى أن يستعيذ بالله من كل وهم مستجيرًا به في أن يكلأه برعايته حتى لا يقع فيه في عمله هذا الذي يقدمه لنيل درجة علمية. وإذا كان قد بقي للباحث شيء يقوله في توطئة هذا العمل الذي يقدمه في كتابين ينتظمان في ثلاثة مجلدات فهو عرفانه بالجميل وإحساسه الدائم بالامتنان للذين أعانوه على هذا العمل، وأولهم سنده وأستاذه الجليل الدكتور الطاهر أحمد مكي الذي رعاه

منذ دراسة الماجستير، ولم يأل جهدًا في نصحه وإرشاده وتبصيره بما حقق لهذا العمل الوصول إلى غايته، كما يخص بعميق شكره وامتنانه أستاذه الدكتور محمد رشدي حسن الذي تعهده في دراسته الجامعية قبل عقدين من الزمان ثم كان له فضل المشاركة في الإشراف على هذا العمل. كما يتوجه الباحث بالشكر والتقدير للقائمين على المكتبات في كل من مصر وتركيا والرباط وتونس ومدريد الذين أعانوه على جمع مخطوطات هذا البحث. وكذلك شكره وامتنانه إلى أخواته وزملائه في قسم اللغة العربية بكلية التربية في جامعة الفاتح بطرابلس الغرب الذين مدوه بالعديد من المصادر والمراجع مما توفر لديهم في مكتباتهم الخاصة، وقد كان لذلك أثره الحميد في قيام هذا البحث. والباحث بعد هذا كله يسأل الله تعالى العلي القدير أن يقبل علمه هذا قبولًا حسنًا وأن يجعل منه شيئًا مفيدًا لقراء العربية إنه سميع مجيب.

القسم الأول: دراسات ممهدة

القسم الأول: دراسات ممهدة

الفصل الأول: في اختيار أبي تمام للحماسة وصنيعه فيه

الفصل الأول: في اختيار أبي تمام للحماسة وصنيعه فيه 1. اختيارات أبي تمام في الشعر: ليس من عزمات هذه الدراسة أن تضطلع بالبحث في شاعرية أبي تمام أو شعره، فهذا أمر خاض فيه الرجال منذ عصر أبي بكر الصولي - 235 هـ - وإلى عصرنا هذا الحديث، ولكن الذي يهمنا بحق - ونحن نبحث في اختيار أبي تمام للحماسة - هو أن نقف عند المكونات الثقافية التي كانت وراء شاعريته، والتي جعلت منه شاعرًا متفوقًا وزعيم مدرسة في تاريخ شعرنا العربي. وكان من أهم هذه المكونات روايته لشعر من سبقوه في عصور الأدب الأولى أو شعر من عاشوا في عصره، وهي ميزة قد شارك فيها غيره من الشعراء، ليس في عصره فحسب بل في سائر العصور السابقة له أو التي جاءت بعده، غير أن الأمر بالنسبة له كان مختلفًا عنهم، فهؤلاء وإن شاركوه في هذه الميزة فإنهم قد اكتفوا برواية شعر السابقين بقصد التعلم والتثقف وصقل شاعريتهم والسمو بها إلى درجة أعلى في الفن الشعري. أما أبو تمام فقد تميز عنهم بأنه لم يقف عند حد الحفظ والرواية لشعر غيره بل كان - كما يقول الدكتور طه حسين -: "كثير النظر في الشعر ميالًا إلى الاختيار منه ... يعاشر الشعراء معاشرة متصلة، يقرؤهم ويطيل النظر فيهم، ويدل على قراءته لهم هذا الاختيار الذي يختاره في كتب يذيعها بين الناس". ولم تكن اختياراته هذه ضربة لازب أو لمجرد جمع الشعر وروايته، وإنما

كانت عملًا قائمًا على الدراية والفهم الدقيق. يؤكد هذا ما نقله الصولي عن الحسن بن رجاء أنه قال: ما رأيت أحدًا قط أعلم يجيد الشعر قديمه وحديثه من أبي تمام. غير أن هذه الاختيارات قد شابها شيء من الخلط والاضطراب في سبب تأليفها، والوقت الذي ألفت فيه فالتبريزي يحدثنا في مقدمة شرحه للحماسة أن أبا تمام " جاء من خراسان يريد العراق، فلما دخل همذان اغتنمه أبو الوفاء بن سلمة، فأنزله فأكرمه، فأصبح ذات يوم وقد وقع ثلج عظيم، قطع الطرق ومنع السابلة، فغم أبا تمام ذلك، وسرأبا الوافاء. فقال له: وطن نفسك على المقام فإن هذا الثلج لا ينحسر إلا بعد زمان، وأحضره خزانة كتبه فطالعها واشتغل بها وصنف، خمسة كتب في الشعر، منها كتاب الحماسة والوحشيات". وبناء على هذه الرواية فإن أبا تام قد صنع خمسة كتب في الاختيارات الشعرية بهمذان، ولكني وجدت في مقدمة الشرح المرجح نسبته إلى زيد بن علي الفارسي رواية تقول بأن الكتب ثلاثة قال: "وأحضره أبو الوفاء كتبه فاختار أبو تمام منها هذا - يعني الحماسة - والوحشي وشيئًا من انتخاب" ثم أضاف أن هذه الكتب بقيت عند أبي الوفاء، لا يمكن أحدًا منها إلى أن مات، ووقعت في يد رجل من أهل دينور يعرف بأبي العواذل، فنسخ هذه الكتب الثلاثة، وحملها إلى أصبهان". فهي إذا على هذه الرواية ثلاثة كتب لا خمسة كما ذكر التبريزي، على أننا نجد الآمدي في الموازنة يفيد بأن هذه الاختيارات ستة كتب، وقد عّرفها بقوله: "منها الاختيار القبائلي الأكبر، واختار فيه من كل قبيلة قصيدة، وقد مّر على يدي هذا الاختيار، ومنها اختيار آخر ترجمته القبائلي اختار فيه قطعًا من محاسن أشعار

القبائل، ولم يورد فيه كبير شيء للمشهورين، ومنها الاختيار الذي تلقط فيه محاسن شعر الجاهلية والإسلام، وأخذ من كل قصيدة شيئًا حتى انتهى إلى إبراهيم بن هرمة، وهو اختيار مشهور معروف باختيار شعراء الفحول، ومنها اختيار تلقط فيه أشياء من الشعراء المقلين والشعراء المغمورين غير المشهورين، وبوبه أبوابًا وصدّره بما قيل في الشجاعة، وهذا أشهر اختياراته وأكثرها في أيدي الناس ويلقب بالحماسة، ومنها اختيار المقطعات وهو مبوب على ترتيب الحماسة إلا أنه يذكر فيه أشعار المشهورين وغيرهم والقدماء والمتأخرين وصدّره بذكر الغزل، وقد قرأت هذا الاختيار، وتلقطت منه نتفًا وأبياتًا كثيرة، وليس بمشهورة شهرة غيره، ومنها اختيار مجرد في أشعار المحدثين وهو موجود في أيدي الناس". فهي وفق هذا الذي ذكره الآمدي ستة كتب: اختيار القبائلي الأكبر، واختيار القبائلي، واختيار شعراء الفحول، وديوان الحماسة، واختيار المقطعات الوحشيات أو الحماسة الصغرى، واختيار أشعار المحدثين. غير أن الآمدي لم يشر إلى أن هذه الكتب قد ألفت بهمذان، وإنما كان حديثه منصبًا على الكتب ووصفها، ولم يهتم بمكان تأليفها أو الزمن الذي ألفت فيه، ويمكن أن نؤكد أن الاختيار الأخير وهو اختيار أشعار المحدثين اختاره أبو تمام بعيدًا عن همذان، وذلك لما أورده الصولي عن الحسن بن إسحاق قال: "سمعت ابن الدقاق يقول: حضرنا مع أبي تمام وهو ينتخب أشعار المحدثين فمر بنا شعر محمد بن أبي عيينة المطبوع الذي يهجو به خالدًا، فنظر فيه، ورمى به وقال هذا كله مختار". فابن الدقاق لم يكن مع أبي تمام في همذان عندما كان في بيت أبي الوفاء بن سلمة، فلابد أن يكون قد صنع هذا الاختيار في بغداد أو سر من رأي أو غيرهما من البلاد التي كان ينتقل فيها. ومن ثم بقي لنا الاحتمالان اللذان وردا في الروايتين السابقتين أنه ألف بهمذان خمسة كتب، وفق رواية التبريزي أو ثلاثة كتب وفق رواية الشرح المرجح نسيته إلى زيد بن على الفارسي. ولكن أي الاحتمالين أرجح؟ .

إن الدكتور طه حسين يعترض على رواية أن أبا تمام قد صنع هذه الاختيارات في همذان فقد قال: "تحدثنا الأخبار أن أبا تمام قد اختار كل هذه الكتب لأنه اضطر إلى البقاء في همذان، فقد حال الثلج بينه وبين المضي في سفره فاضطر إلى البقاء، وعكف على خزانة الكتب فأنفق وقته في تصنيف ما ظهر له من المختارات، ولكن هذا غير ممكن وغير معقول، فقد كانت إقامته رهن زوال الثلج، وهذا لا يتجاوز الأشهر القليلة، ومن المستحيل أن يصدق أنه قد اختار هذه الكتب في شهرين أو ثلاثة". وهو رأي يصعب دفعه إذا قلنا برواية التبريزي، أما إذا قلنا بالرواية الأخرى التي تقول بأنه صنع في همذان ثلاثة كتب، فإن الأمر يصبح في حيّز المعقول وبعيدًا عن المستحيل الذي أشار إليه الدكتور طه حسين، وبخاصة إذا علمنا أن أبا تمام كان كثير الحفظ من شعر العرب، وأن هذا يعينه كثيرًا على إنجاز ما أزمع صنعه في هذه الاختيارات الثلاثة، كما أن الروايات لم تذكر أنه لبث في همذان شهرين أو ثلاثة، وإنما الإشارة إلى هذا جاءت مبهمة في كلام أبي الوفاء لأبي تمام: "وطن نفسك على المقام فإن هذا الثلج لا ينحسر إلا بعد زمان" فربما كان انحسار الثلج يتطلب زمنًا أطول من الزمن الذي حدده الدكتور طه حسين، وربما ظل أبو تمام فترة من الزمن بعد انحسار الثلج، فليس في المصادر ما يفيد أنه غادر همذان في تاريخ محدد. وكان الأستاذ علي النجدي ناصف قد اعترض على قول الدكتور طه حسين المتقدم، وبنى اعتراضه على عدة أوجه: أحدها أن أبا تمام لم يكن ينوي أول الأمر يلبث في همذان إلا ريثما يذوب الثلج ويتيسر السفر، ثم عدل عن نيته هذه أو غير منها حين أقبل على العمل، فاستبان قيمتة وأدرك المضي فيه. وثانيها أن أبا تمام لم يكن له عهد بكتب آل سلمة من قبل، فرأى العكوف عليها والإفادة منها غنيمة بالغة، ونُهزة نادرة، لا يجمل بمثله أن يتهاون فيها أو يؤثر حاجة عليها. وثالثها أن أبا تمام كان يكره الشتاء ويحذر البرد، وله من الأشعار ما يؤكد ذلك، ومن ثم فإن إقامته في همذان لم تكن رهنًا بزوال الثلج عنها لأن زوال الثلج من بلد لا يعني

زوال البرد عنه، وحلول الدفء فيه، إذا لابد من فترة أخرى يصير فيها من الخوف إلى الأمن، ومن القلق إلى الطمأنينة حتى يرحل حين يرحل معتقدًا أن لن يفاجئه البرد في بعض الطريق بما عسى أن تشق عليه مقاومته والاحتماء منه. ورابعها أن رجلًا له مثل ما لأبي تمام من ألمعية خاطفة وذوق مرهف لا تبطئ به القراءة والاختيار ولا يكلفانه من الوقت والجهد مثل ما يكلفان سواه، وليس بعيدًا أن يكون أصحابه من آل سلمة في حرصهم عليه، وبرهم به، وملاطفتهم له، قد رفقوا به وقدروا حاله، فأمدوه ببعض الأعوان يكل إليهم من الأمراء ما يريد، وكان الفصل حينذاك فصل الشتاء حيث يطيب العمل، ولا يقل الانقطاع والعكوف عليه". ونحن لا اعتراض لنا على هذه الأوجه سوى الوجه الثالث، ذلك لأن أبا تمام وإن عرف عنه أنه كان يكره الشتاء فإن كراهيته له لا تمنعه من السفر فيه، وهو حين غادر خراسان إلى همذان إنما غادرها في وقت الشتاء، فلو أنه كان يكره السفر في الشتاء لما غادر خراسان، وإذا قلنا إنه غادر خراسان مضطرًا إذ لم تكن له حاجة في البقاء طويلًا بها، فكيف نفسر أنه اغتم من نزول الثلج بهمذان لأنه سوف يمنعه السفر إلى العراق، مع علمنا بالحفاوة التي وجدها عن آل سلمة، وكانت هذه الحفاوة حافزًا لأن ينوي السفر فيه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى إننا نسلم بأن أبا تمام كان يتمتع بالألمعية الخاطفة التي تعينه على سرعة الاختيار، ولكن إن صح هذا بالنسبة للحماسة والوحشيات واختيار الفحول، لما ذكرناه من سعته في الحفظ التي تعينه على سرعة الاختيار فلا شك في أن اختيار القبائلي الأكبر الذي ذكر الآمدي انه اختار فيه من كل قبيلة قصيدة، والاختيار القبائلي الذي اختار فيه قطعًا من محاسن أشعار القبائل يقتضي جهدًا أكبر وزمنًا أطول في الوقوف على جل شعر القبائل إن لم يكن كله، حتى لا يداخل اختياره في الكتابين فوات من الجيد الذي يختاره. ومن هنا كان ترجيحنا للرواية القائلة بأنه صنع في همذان ثلاثة كتب هي في رأينا: الحماسة والوحشيات واختيار شعراء الفحول، لأن هذه الاختيارات الثلاثة ال تقتضي الوقوف على جل ما قاله الشعراء من شعر، فنحن نذهب بعيدًا إذا قلنا إن

الجيد الذي اختاره أبو تمام ليس هناك جيد غيره مما قالته العرب، فلا شك أن هناك جيدًا كثيرًا لم تشمله هذه الاختيارات الثلاثة، ولا يضير أبا تمام هذا لأنه توخي في اختياراته الجيد مما وقف عليهن وأسعفته به حافظته، أو المصادر التي قرأها عند آل سلمة. أما بالنسبة لشعر القبائل فإن الأمر يتطلب الوقوف الطويل المتأني على ما قالته القبائل من شعر حتى يختار منه القصيدة الواحدة على نحو ما فعل في اختيار القبائلي الأكبر أو يختار قطعًا من محاسن أشعار هذه القبائل على نحو فعل في الاختيار القبائلي كما أن أحدًا لا يجزم بأن مكتبة آل سلمة كانت تضم كل ما قالته القبائل من شعر، ربما حوت منه الكثير أما الكل فإن السبيل إلى تصويره أمر يحتاج إلى دليل مادي لا نملكه، فنحن لا نستطيع أن نتصور أن آل سلمة كانوا يملكون جميع دواوين شعر القبائل التي صنعها العلماء في القرن الثاني وأوائل القرن الثالث. ومن هنا فإن خلاصة ما يمكن أن يقال في هذا الخصوص أن أبا تمام حين خرج من مصر إلى العراق ومدح الخليفة المعتصم بالله الذي ولي الخلافة سنة 218 هـ أخذ يطوف بالعمال، يرحل هنا وهناك، وأنه كان من خلال تطوافه هذا يقرأ شعر القبائل ويختار منه حتى انتهى به المقام أخيرًا إلى الموصل حين ولاه الحسن بن وهب بريد الموصل فعمل فيه قرابة العامين ثم كانت وفاته سنة 231 هـ. إننا نرتضي القول بأن هذين الاختيارين اللذين لم يصلا إلينا قد كانا ثمرة جهد متصل وقراءات مستمرة في دواوين القبائل حتى تيسر له القيام بصنع ما أراده فيهما، وبطبيعة الحال لا يمكن أن يكون مثل هذا العمل وليد فترة زمنية محددة عاشها بهمذان ولأٍسباب فرضتها الطبيعة بظروفها المتحولة من حال إلى أخرى. ولا نحسب أن أبا تمام اتجه إلى هذه الاختيارات والتأليف فيها لأن الثلج منعه من الوصول إلى العراق، ولم يجد ما يفعله في فترة الشتاء سوى تأليف هذه الكتب، لأن هذا يجعل عزمه على التأليف وليد حادث طارئ فرضته ظروف معينة لولاها لما كانت هذه الكتب، وإنما الذي في تصورنا أن أبا تمام كان قد عقد العزم على أن يصنع اختيارات في الشعر، وكان هذا العزم يشغل تفكيره، ويقلب الرأي فيه، وربما جالت بفكره الآراء التي تتصل بمنهجه فيها، فحين حدث ما حدث من أمر الثلج

كانت البداية ثلاثة كتب على نحو ما رجحنا، ثم توالت بقية الاختيارات بعد رحيله من همذان، ولو كان الأمر كما تصوره هذه الروايات وليد صدفة لما واصل أبو تمام عمله في صنع هذه الكتب، ولاكتفى صنعه نتيجة للظروف التي عاشها في همذان، ولكن الذي حدث كان غير هذا، فقد واصل أبو تمام اختياراته من شعر العرب حتى بلغت ستة كتب، ثم أضاف إليها ما صنعه من نقاضئض جرير والأخطل. 2 - رواية أبي تمام للحماسة: وإذا كنا قد رجحنا أن يكون أبو تمام قد صنع بهمذان ثلاثة اختيارات منها كتاب الحماسة، فإن هذا يدفعنا إلى البحث في الطريق الذي أخذ به العلماء كتاب الحماسة، فلقد كان المألوف لدى العلماء في ذلك الزمن وقبله أن يأخذوا الكتب من أصحابها بالسماع أو القراءة عليهم أو الإجازة منهم في روايتها. غير أن الخبر الذي ساقه التبريزي في مقدمة شرحه يشير إلى أن تام قد ترك كتاب الحماسة في خزائن آل سلمة، حيث بقي عندهم، يضنون به، ولا يكادون يبرزونه لأحد حتى تغيرت أحوالهم، وورد همذان رجل من أهل دينور يعرف بأبي العواذل فظفر به وحمله إلى أصبهان فأقبل أدباؤهم عليه ورفضوا ما عداه من الكتب المصنفة في معناه، فشهر فيه ثم فيمن يليهم. ولم ينقل أبو العواذل الكتب ذاتها التي وجدها عند آل سلمة، وإنما نسخها على نحو ما بينت الرواية التي وجدناها في مقدمة الشرح المرجح نسبته إلى زيد بن علي الفارسي، غير أن ظاهر الروايتين معًا يفيد بأن أهل أصبهان لم يأخذوا كتاب الحماسة مسندًا إلى أبي تمام، وإنما أخذوه كتابًا منسوخًا من نسخة كتبها أبو تمام أو من نسخة نقلت مما خطه بيده على نحو ما سنوضحه فيما بعد. وفي إدراكي أن هذه النتيجة التي خرجنا بها من هاتين الروايتين تحتاج إلى توجيه،

وذلك لأنني وجدت في مقدمة شرح أبي الرضا الرواندي ما نصه: "قال أبو الرضا فضل الله بن علي أخبرني بكتاب الحماسة الشيخ الإمام بديع الزمان أبو الفضل عبد الرحيم بن أحمد بن محمد البغدادي. رحمة الله عليه - قراءة عليه بأصبهان في رجل سنة تسع عشرة وخمسمائة قال: أخبرني أبو السعادات علي بن بختيار الواسطي قال: حدثنا أبو غالب محمد بن أحمد بن بشران قال: أخبرني علي بن محمد بن دينار عن الحسن بن بشر الآمدي قال ابن بشران وحدثنا به الحسين بن علي بن الوليد قال حدثنا أبو رياش أحمد بن هاشم قالا جميعًا: حدثنا أبو المطرف الأنطاكي أحمد ابن أوس الطائي".

وبجانب هذا الذي ذكره الرواندي نجد أبا الفتوح ثابت بن محمد الجرجاني يقول في مقدمة شرحه للحماسة: "قرأت هذا الكتاب ببغداد سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة على الشيخ أبي أحمد عبد السلام بن الحسين البصري وقال لي: قرأته على أبي رياش أحمد بن هاشم بن شبل القيسي الربعي - رحمه الله - بالبصرة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وقال: أنشدنا أبو المطرف الأنطاكي قال: أنشدنا أبو تمام حبيب ابن أوس الطائي". ويدعم ما جاء في هاتين الروايتين ما ذكره القطفي في أنباه الرواة: أن القاضي أبا الفرج محمد بن عبد الله بن الحسن البصري اجتمع بواسط سنة ستين وأربعمائة بأبي غالب محمد بن أحمد بن بشران، المتقدم ذكره، وكان بصحبة القاضي أبي الفرج كتب تصلح للقراءة على ابن بشران منها كتاب الحماسة قال القاضي أبو الفرج: فبدأت بقراءته عليه يوم الجمعة رابع عشر جمادي الأولى سنة ستين وأربعمائة وسألته عن إسناده فيها - أي الحماسة - فقال: قرأتها على أبي الحسين علي بن محمد بن عبد الرحيم بن دينار عن أبي القاسم الحسن بن بشر الكاتب عن أبي المطرف الأنطاكي. قال: وسمعتها أيضًا عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن الوليد النحوي عن أبي رياش أحمد بن أبي هاشم عن أبي المطرف عن أبي تمام.

وبناء على هذه الروايات فإن كتاب الحماسة بجانب النسخة التي حملها أبو العواذل من همذان إلى أصبهان قد أخذه العلماء من طريقين أحدهما أبو رياض الذي رواه عن أبي المطرف عن أبي تمام، والآخر الحسن بن بشر الآمدي الذي رواه أيضًا عن أبي المطرف عن أبي تمام، وهذا يعني أن أبا تمام قد حمل معه من همذان نسخًا من الكتب التي صنعها في بيت أبي الوفاء بن سلمة، وإلا كيف تفسر أن أبا المطرف أخذ عنه كتاب الحماسة ورواه لكل من أبي رياش والآمدى، فنحن لا نستبعد أن يكون أبو الوفاء قد كلف أحد الكتبة بأن ينسخ له ما صنع أبو تمام من. كتب، وهي الكتب التي بقيت في بيته حتى جاء أبو العواذل فنسخها وحملها إلى أصبهان. أما ما صنعه أبو تمام من كتب بخط يده، فأغلب الظن أنه حملها معه حين غادر همذان، ومنه نسخة الحماسة حيث أنشدها أبا المطرف ورواها أبو المطرف بدوره لأبي رياش وللآمدي. 3 - أبو الحماسة: لم يكن هم أبي تمام في الحماس أن يكون رواية جامع شعر، وإنما كان شاعرًا يريد أن ينتخب الجيد مما قاله غيره في أغراض الشعر المختلفة، ولهذا جاء صنيعه في الحماسة مختلفًا عمن سبقه من الذين صنعوا اختيارات في الشعر العربي مثل المفضل الضبي، وعبد الملك بن قريب الأصمعي وغيرهما، فهؤلاء كان همهم أن يجمعوا ما قالت العرب من شعر وأن ينتخبوا منه القصائد، دون النظر إلى الأغراض التي اشتملت عليها، وما اختاروه من قصائد يتفق مع ميولهم إلى اللغة وما يتصل بها من دروس، ومن أجل هذا جاء عمل أبي تمام في الحماسة ابتكارًا غير مسبوق، لأنه جعل عماد اختياره أبوابًا بلغت في الاختيار عشرة، كان للحماسة النصيب الأكبر منها، ولذا غلب هذا الغرض على اسم الكتاب، فسمي بكتاب الحماسة، أو ديوان الحماسة. والذي يفهم مما وصل إلينا من المراجع أن أبا تمام هو الذي أطلق عليه هذا

الاسم، حيث نجد الآمدي يذكر في ترجمته للمثلم بن عمرو النتوخي قوله: "أنشد له الطائي في اختياره الذي سماه الحماسة". ولعل الدافع في هذه التسمية يرجع إلى أن الحماسة أكثر الأبواب قطعًا في الاختيار أو لأنه الغرض الذي جاء أولًا في الاختيار، فحملت بقية الأبواب عليه، وقد ذهب إلى هذا الأستاذ علي النجدي ناصف وناقشه مناقشة مستفيضة مفادها: أن الحماسة جزء عظيم من الكتاب له بين سائر الأجزاء منزلة وشأن، وإنزال جزء الشيء لمزية فيه منزلة كله، وإجراؤه في الحكم مجراه عمل معروف وسنة متبعة" وكذلك الشأن في تسمية الشيء بأوله فهو معروف مقرر مثل تسمية بعض السور بأولها، والكتب والقصائد وغير ذلك. أما لماذا استحق غرض الحماسة أن يكون أول الأغراض في الاختيار، فهذا في رأينا راجع إلى أن الحماسة أهم غرض دار حوله الشعراء في عصر ما قبل الإسلام، وهو عصر كان له نصيب وافر في اختيار الحماسة. يقول الدكتور شوقي ضيف، وهو يتحدث عن الجاهليين: "ولا نبعد إذا قلنا إن الحماسة أهم موضع استنفد قصائدهم، فقد سعرتهم الحروب وأمدها شعراؤهم بوقود جزل من التغني ببطولاتهم، وأنهم لا يهأبون الموت، يترامون نحوه تحت ظلال السيوف والرماح، مدافعين عن شرف قبائلهم وحماها، ويرتفع هذا الغناء بل هذا الصياح في كل مكان بحيث يخيل إلينا أنه لم يكن هنالك صوت سواه". هذا في عصر ما قبل الإسلام أما في عصر صدر الإسلام وهو عصر ضم اختيار الحماسة شعرًا لشعرائه، فإنه أيضًا لم يخل من وجود الحماسة فيه، وبخاصة في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم - وسراياه، وما تلاها من فتوحات إسلامية. لهذا كله، ولكون الحماسة - كما قول التبريزي - شجاعة العرب والصفة الأولى من صفاتهم" حمل

الكتاب اسم الحماسة. وأبواب الحماسة كما أشرنا من قبل عشرة أبواب، هذا ما نجده في ديوان الحماسة وفي الشروح التي وقفنا عليها عدا شرح المرزوقي الذي فصل بين الأضياف والمديح، فجعل كلا منهما بابًا مستقلًا، ولذلك بلغت الأبواب في شرحه أحد عشر بابًا، وأغلب ظننا أن هذا ليس من عمل المرزوقي، وإنما هو من عمل نساخ شرحه، لأن جملة من القطع وردت عنده في باب المديح هي من الأضياف ولا مسوغ لها إذا كان الأضياف والمديح بابًا واحدًا، وكذلك الشأن في باب الأضياف فقد وردت فيه قطع من المديح لا يصلح موضعها إلا في باب المديح. هذا فضلًا عن أن المرزوقي كان يختم كل باب بعبارة تدل على الفراغ منه مثل قوله في نهاية باب الحماسة: "تم باب الحماسة بحمد الله الذي هو ولي الحمد"، وقوله في نهاية باب الرثاء: "تم باب المراثي بسحن توفيق الله وجميل صنعه"، ولم يقل ذلك في باب الأضياف الذي تلاه باب المديح، ولم يكن المرزوقي ليفصل بين البابين وهو يعلم أن القطع متداخلة فيهما، ولا ينوه لذلك في شرحه. على أن الثابت لدى الشراح الذين وقفنا على شروحهم أنهم يسمون هذا الباب بباب الأضياف والمديح، كما هو الحال عند أبي عبد الله النمري في "معاني أبيات الحماسة" أو بباب الأضياف فقط كما ورد عند زيد بن علي الفارسي وغيره. وفي كشف الظنون قال حاجي خليفة - وهو يتحدث عن أبي تمام وكتاب الحماسة -: "وجمع فيه ما اختاره من أشعار العرب العرباء مرتبة على أبواب عشرة: الحماسة، والمراثي، والأدب، والتشبيب، والهجاء، والإضافات، والصفات، والسير، والملح، ومذمة النساء. ولقد تفاوتت القطع الشعرية في هذه الأبواب فكان أكثر الأبواب قطعًا هو باب الحماسة، وأقلها قطعًا باب الصفات الذي لم يتجاوز الأربع قطع في بعض الروايات، وأغلب الروايات اتفقت على ثلاث قطع فقط.

ولا شك في أن هناك فروقًا في عدد القطع في شروح الشراح، وفي روايات متن الحماسة، ويمكن أن نتبين هذه الفروق من خلال ثلاثة شروح، اثنان منها مطبوعان هما شرح المرزوقي وشرح التبريزي، والثالث الشرح الذي حققناه في الكتاب الثاني من هذه الدراسة، مضافًا إليها رواية أبي رياش للحماسة التي وجدناها في مخطوطة يرجع تاريخها إلى سنة 436 هـ، والجدول الآتي يبين هذه الفروق: فواضح من خلال هذه الجداول أنه لم يقع اتفاق بين الروايات الأربع إلا في باب السير والنعاس الذي جاء في الروايات جميعًا تسع قطع، كما أن هناك اتفاقًا وقع بين ثلاث روايات هي رواية أبي رياش والمرزوقي وزيد بن علي حيث بلغ باب المراثي عندهم سبعًا وثلاثين ومائة قطعة، وشذ عنهم التبريزي حيث زاد عن الروايات الثلاث قطعتين، وبرز كذلك اتفاق اثنتين من هذه الروايات في باب من الأبواب مثل اتفاق المرزوقي والتبريزي في عدد قطع أبواب الهجاء والصفات والملح، واتفاق المرزوقي وزيد بن علي في قطع باب الحماسة، واتفاق أبي رياض وزيد بن علي في باب الصفات، والتبريزي وأبي رياش في باب مذمة النساء، والمرزوقي وزيد بن علي في الباب نفسه، أما بابا النسيب والأضياف فقد كان الاختلاف واضحًا بين الروايات الأربع، إذ لم تتفق رواية مع أخرى فيهما. ويمكن إرجاع هذه المفارقات في إيراد القطع وعددها إلى اختلاف نسخ الحماسة التي كانت بين أيدي الشراح، ولقد أشار المرزوقي إلى هذا في أكثر من موضع في شرحه، ففي بيت ابن زيابة الذي يقول فيه: آليت لا أدفن قتلاكم فدخنوا المرء وسرباله قال المرزوقي: "هذا البيت لم أجده في نسخ كثيرة، فيغلب ظني أنه ليس من الاختيار". وفي حماسية حريث بن عناب التي يقول في مطلعها:

رواية زبد بن علي الفارسي ... رواية التبريزي ... رواية المرزوقي ... رواية أبي رياش ... الأبواب 261 ... 257 ... 261 ... 264 ... الحماسة 51 ... الأدب 136 ... النسيب 76 ... الهجاء 139 ... الأضياف والمديح 4 ... 3 ... 3 ... 4 ... الصفات 9 ... السير والنعاس 33 ... الملح 19 ... مذمة النساء

تعالوا أفاخركم أأعيا وفقعس إلى المجد أدنى أم عشيرة خاتم أشار المرزوقي إلى رواية أخرى تقول: "أأعيار فقعس" ثم عقب بقوله: "وقد رجعنا إلى نسخ مختلفات المصادر فوجدناها متوافقة في تحملها: أأعيا وفقعس". ولكن إذا كنا قد ذهبنا إلى أن الاختلاف في عدد القطع بين هذه الروايات نتج عن اختلاف النسخ التي اعتمد عليها الشراح فيجب أن نكون حذرين في أخذ هذا السبب بأن لا نعممه فنجعله سببًا في كل خلل وقع في هذه الأبواب وبخاصة حين نرى قطعًا وضعت في أبواب ليست في موضعها الذي وضعت فيه، وهذا ما نحاول مناقشته فيما يلي: 4 - وجود قطع في الأبواب ليست منها: وإذا كان أبو تمام قد صنف اختياره على عشرة أبواب كما أوضحنا، فمن المراعى أن تكون القطع الواردة في كل باب مجانسة له، ولا تخرج من حيزه إلى باب آخر. غير أن ما لاحظناه هذا الشأن أن خللًا ما وقع في بعض هذه الأبواب، إذ روي شعر في بعض الأبواب لا ينبغي أن يكون فيها، وقد ناقش الأستاذ علي النجدي ناصف هذا الجانب فأشار إلى أن أبا تمام "قد أدخل في الحماسة ما لا يبدو أنه منها إلا ببعض الحيلة والتكلف، فقد كان يدخل فيها وفي غيرها ما لا يبدو أنه منها، ولا أعتقد أن الحيلة أو التكلف يمكن أن يجديا عليه في ذلك شيئًا". ولقد قصد الأستاذ علي النجدي بالحيلة والتكلف ما كان يصنعه بعض الشراح في التعليل لوجود قطعة وردت في باب لا تجانسه، وذلك مثل المرزوقي الذي قال في بيتي معدان بن جواس الواردين في باب الحماسة واللذين يقول فيهما:

إن كان ما بُلغت عني فلامني صديق وشُلت من يدي الأنامل وكفنت وحدي مُنذرًا بردائه وصادق حوطًا من أعادي قاتل "ودخل هذان البيتان في الباب لما اشتملا عليه لفظًا ومعنى من الفظاظة والقسوة". وهي في رأينا علة بعيدة إذ ينبغي على هذا أن يدخل كل شعر فيه فظاظة وقسوة في هذا الباب. ولقد حاول زيد بن علي الفارسي أن يوجد علة لوجود هذين البيتين في الحماسة فلجأ إلى تعليل قد يبدو مقبولًا في مثل هذه الحال قال: "فإن قيل فما في البيتين من الحماسة؟ فالجواب أنه يعتذر عما نسب إليه من النكول في الحرب، وينتقي ذلك منه، وهذا فعل الشجاع". فهي علة تبدو مقبولة، ولكن ظاهر البيتين لا يدل على أنه يعتذر عن النكول في الحرب، فربما كان يعتذر من شيء لا صلة له بهذا الذي ذكره زيد بن علي، ويبدو أن الأمر كذلك، لأن أبا محمد الأعرابي ذكر أن هذين البيتين ليسا لمعدان بن جواس، وإنما لحجية بن المضرب قالهما في الاعتذار إلى النعمان ابن المنذرحين اتهمه الأخير بأنه أنذر تميمًا من غزوة كان النعمان قد أزمع القيام بها ضد بني تميم. ومثل ذلك ما ذكره المرزوقي في أبيات شبرمة بن الطفيل التي يقول فيها: ويوم شديد الحر قصر طوله دم الزق عنا واصطفاق المزاهر لدن غدوة حتى أروح وصحبتي عُصاة على الناهين شُم المناخر كأن أباريق الشمول لديهم أوز بأعلى الطف عُوج الحدجر فقد قال: "وأدخل هذه القطعة في باب النسيب لرقتها ودلالتها على اللهو والخسارة"، وليست هذه بعلة وإنما هو تكلف ظاهر، إذ لو صح مثل هذا القول

لجاز أن يدخل في باب النسيب جل الشعر الذي قاله الشعراء في الخمر. وإذا كان بعض الشراح وفي مقدمتهم المرزوقي قد حاولوا أن يوجدوا مبررات متكلفة لوجود بعض القطع في غير موضعها فإنهم أيضًا قد نهبوا إلى أن بعضها في غير موضعه دون أن يحاولوا إيجاد المبرر لوجودها، وهو أمر يضع عمل أبي تمام في موضع النقص، فالمرزوقي مثلًا علق على القطعتين الأخيرتين من باب مذمة النساء بقوله في ختام شرحه: "وهذه المقطوعة وما قبلها باب الصفات أولى بهما فاتفق وقوعهما هنا". وأمين الدين الطبرسي وقف عند أبيات سنان بن الفجل الطائي التي يقول فيها: وقالوا قد جننت فقلت كلا وربي ما جُننت ولا انتشيت ولكني ظُلمت فكدت أبكي من الظلم المُبين أو بكيت وعقب عليها بقوله: "قد عيب علي أبي تمام إيراده مثل هذه الأبيات في باب الحماسة، والبكاء على الظلم ضعف وعجز، والوجه فيه أن بكاءه كان لمطالبتهم ما ليس لهم ولا سبيل له على الاعتساف والمغالبة فعل أهل الجاهلية إذ لا يراقب دين ولا يرهب سلطان". ولقد حاول الأستاذ عبد العزيز الميمني الدفاع عن أبي تمام حين رأى المرزوقي وإضرابه ينبهون على الخلل الذي وقع في الاختيار في هذا الجانب فقال: عندي أن أبا تمام غير مسؤول عن هذا النقص لسببين: الأول أن أبا تمام أقدر على تصنيف الشعر بحسب معانيه فيضع شعر المدح في باب المدح وشعر النسيب في باب النسيب وهكذا، وليس الأمر على هذا نحو ما ذهب إليه المرزوقي في تعليل ما جاء من إخلال في التبويب، والآخر أن الحماسة أصبحت مع الزمن قبل أن تصل إلى المرزوقي نسخًا عدة فقد ذكر أنه عند شرحها كان يرجع إلى نسخ مختلفات المصادر، وهذا التعدد

يقف وراء اختلاف المرزوقي والتبريزي في روايتها وعدد أبياتها، وفي ترتيب المختارات فيها وترتيب الأبيات في بعضها" وفي إدراكي أننا يمكن أن نرجع اختلاف عدد القطع وترتيبها في الباب الواحد، وعدد الأبيات في القطعة الواحدة، بل وترتيبها أيضًا إلى اختلاف نسخ الحماسة المتداولة بين الناس في ذلك الزمن، أما أن نرجع وجود قطعة في غير موضعها لهذا السبب فهذا ما ينبغي أن نحذره، وذلك لأننا قد نجد اتفاقًا يقع بين روايتين فأكثر في عدد القطع أو في الترتيب أو في عدد الأبيات وترتيبها، ولكننا - وبوقوفنا على شروح عدة وفي عصور مختلفة - لم نجد قطعة واحدة من القطع التي رويت في غير موضعها من الأبواب قد رويت في شرح واحد من الشروح التي وقفنا عليها في موضعها الذي ينبغي أن تكون فيه، وهذا وحده هو الذي يجعلنا لا ننفي مسؤولية ذلك عن أبي تمام، ونحن لا نشكك في أن أبا تمام أقدر على تصنيف الشعر بحسب معانيه، ولكنه كان رائدًا في هذا المجال، فلم يسبقه أحد في هذه الصنيع، ومعلوم أن أي عمل يكون رائدًا في باب لا يخلو من فوات، والنظائر في هذا متعددة، فالخليل بن أحمد مثلًا كان رائدًا في عمله الذي صنعه في كتاب العين، وريادته هذه جعلته يقع في فوات يتمثل في أنه رأى أن حرف العين هو أقصى حرف يخرج من الحلق، فجاء من بعده من نبه إلى أن الهمزة لا العين هي التي تخرج من أقصى الحلق، ولم يعب ذلك الخليل ولا كتاب العين في أنه مجهود لعالم قدم ما رآه صحيحًا في مجال العلم. ولعل أصدق ما يقال في هذه الخصوص هو ما قاله الأستاذ علي النجدي ناصف: "إن فنون الشعر لذلك العهد لم تكن قد حددت تحديدًا دقيقًا واضحًا يرتضيه جمهور الأدباء، ويتفقون فيه على رأي جميع، فتصرف أبو تمام فيها دون حكمة ظاهرة ولا سبب معلوم إلا ملاحظة الفروق اليسيرة والتزام على مقتضاها في التقسيم والتصنيف".

على أنه إن كان ثمة تعليل يمكن أن نعلل به وجود قطع في غير موضعها فهو ما وجدناه في الشرح المرجح نسبته لزيد بن علي، وذلك حين علق على بيتي بكير بن الأخنس اللذين وردا في باب الحماسة وهما: نزلت على آل المُهلب شاتيًا غريبًا عن الأوطان في زمن محل فما زال بي إكرامهم واقتفاؤهم وألطافهم حتى حسبتهم أهلي قال: "ليس في هذين البيتين ذكر الحماسة إلا أن الأبيات قبلهما اشتملت على الحماسة وإكرام الجار، فأورد أبو تمام هذين البيتين لأنهما في مبالغة إكرام الجار". فكأنه بهذا القول يقرر مبدأ المشاكلة والنظير الذي يأخذ به أبو تمام في اختيار القطع داخل الباب الواحد، ولقد رأينا أمثلة متعددة تدل على هذا المبدأ وتؤكده، من ذلك ما جاء في الحماسية رقم (37) فقد أورد أبو تمام أبياتًا ثلاثة للحارث بن هشام المخزومي قالها في يوم بدر، يوم ترك أخاه أبا جهل وغيره من سادة قريش يقتلون ولاذ بالفرار وقال: الله يعلم ما تركت قتالهم حتى علوا فرسي بأشقر مُزبد وعلمت أني إن أقاتل واحدًا اقتل ولا يضرر عدوي مشهدي فصددت عنهم والأحبة بينهم طمعًا لهم بعقاب يوم سرمد فواضح أنه وإن فر وترك أحباءه يقتلون، فإن البيت الثالث يدل على حرصه على أخذ الثأر لهم، وهذا فعل الشجاع العاقل الذي يفر ليكر، ومن هنا دخلت الأبيات في باب الحماسة، ولكن أبا تمام روى بعد هذه القطعة قطعة للفرار السلمي ليس فيها هذا الذي لحظناه في أبيات الحارث بن هشام، وإنما فيها أنه قد أثار الحرب بين الكتائب حتى إذا ما اشتعلت الحرب، وبدأت الرماح تنال من ظهور قومه تركهم وفر وعلم أنه لن ينفعه نوح نساء الحي عليه بقولهن لا تبعد. يقول الفرار: وكتيبة لبستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي

فتركتهم تقص الرمح ظهورهم من بين منعفر وآخر مُسند ما كان ينفعني مقال نسائهم وقتلت خلف رجالهم: لا تبعد فلولا مشاكلة هذه الأبيات لما قبلها في طرف من معانيها لما حُق لها أن تروي في هذا الباب. وكذلك روى أبو تمام في باب الحماسة أبيات عمرو بن شأس المشهورة في كتب الأدب التي قالها في ابنه عرار، يحث زوجه علي أن ترفق به، ويهددها بالمفارقة إن لم تحسن معاملته، وهي الأبيات التي جاء في مطلعها: أرادت عرارًا بالهوان ومن يُرد عرارًا لعمري بالهوان فقد ظلم وهي أبيات نلمس فيها شيئًا من الشجاعة في القول لأن عمرو بن شأس رأى في معاملة زوجه لابنه ظلمًا، وهو يريد بهذه الأبيات أن يرفع الظلم عن ابنه، والوقوف في وجه الظلم أيًا كان مصدره يعد ضربًا من الشجاعة، ومن هنا كان وجود الأبيات في باب الحماسة، غير أن أبا تمام أردف قطعة عمرو بن شأس هذه بقطعتين أخريين ليستا من الحماسة في شيء سوى مشاكلتهما لقطعة عمرو بن شأس في بعض معانيها، الأولى منهما لإسحاق بن خلف يقول في مطلعها: لولا أميمية لم أجزع من العدم ولم أُقاس الدجى في حندس الظلم وهي تمثل عاطفة أب رحيم على ابنته يخشى عليها الضياع والذلة من بعده، والثانية لخطاب بن المعلى ذات ثلاثة أبيات يقول فيها: لولا بنيات كزغب القطا رُددن من بعض إلى بعض لكان لي مُضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض فواضح أن هذه الأبيات لا علاقة لها بباب الحماسة إلا من جهة أنها شاكلت أبيات إسحاق بن خلف وأبيات عمرو بن شأس في البرد بالولد والشفقة عليه. ويمكن أن تلحظ في الحماسيات 253، 254، 255 في رواية المرزوقي،

فالحماسية 253، وهي لمعبد بن علقمة يقول في مطلعها: غُيبت عن قتل الحُتات وليتني شهدت حتاتًا يوم ضرج بالدم وهي لا تخلو من حماسة، ولكنها اشتملت في معانيها على العقوق الذي ينشأ بين العشائر حين يدب الفساد بينها، ويقع الشر ليخلف الإحن والعداوات، ولهذا أردفها أبو تمام بأبيات أمية بن أبي الصلت التي يصور فيها عقوق أحد أبنائه ويقول في مطلعها: غذوتك مولودًا وعلتك يافعًا تُعل بما أدني إليك وتُنهل وهي أبيات بقراءتنا لها لا نجد فيها أثرًا للحماسة، ولكنه أوردها لمشاكلتها أبيات معبد بن علقمة في العقوق، ولم يكتف بذلك بل أورد قطعة ثالثة لأم ثواب الهزانية تشكو فيها عقوق ابن لها وتقول في مطلعها: ربيته وهو مثل الفرخ أعظمه أم الطعام ترى في جلده زغبا ولا شك في أن مشاكلتها لأبيات أمية بن أبي الصلت هي التي أوردتها في هذا الباب، وقد تنبه الإمام المرزوقي إلى هذا حين عقب على قطعة أمية بن أبي الصلت مشيرًا إلى أبيات أم ثواب بعدها بقوله: "فإن قيل بماذا دخل هذه الأبيات وما يتلوها - وهو في معناها - في باب الحماسة قلت: دخل فيه بالمشاكلة التي بينها وبين ما تقدمها من الأبيات المنبئة عن المفاسدة بين العشائر، وما يتولد فيها من الإحن والضغائن المُنسية للتواشج والتناسب، المنشئة لهتك المحارم، المبيحة لسفك الدماء وقطع العصم، إذ كان عقوق البنين للآباء وتناسي الحرم فيه مثل ذلك، وهو ظاهر بين". وجملة القول في هذه القضية أن الخلل الذي وقع في أبواب اختيار الحماسة برواية بعض الشعر في باب لا يدخل في حده نتج في رأينا عن أمرين: أحدهما أن أغراض الشعر لم تكن قد تبلورت بعد في عصر أبي تمام بالصورة التي نراها اليوم. وأدل دليل على ذلك أن البحتري تلميذ أبي تمام قد بلغ بها أربعة وسبعين ومائة باب

في حماسته التي تنسب إليه، والتي قيل إنه جاري فيها أستاذه، فهذا وحده يدل على مدى الاضطراب البالغ في ذلك الزمن في رسم حدود الأغراض التي دار فيها الشعر العربي، والآخر ما بيناه بالأمثلة السابقة أن أبا تمام كان يراعي في الباب الواحد مشاكلة القطع في بعض المعاني وإن خرجت عن الحد الذي يقوم عليه الباب. د- مقياس أبي تمام في اختيار الحماسة: اختلف مقياس أبي تمام في اختيار الشعر في ديوان الحماسة عن الذين سبقوه في هذا السبيل أو الذين جاءوا بعده، فالذي ينظر في المفضليات والأصمعيات وجمهرة أشعار العرب يجد أن المقياس الذي اتبعه أصحاب هذه الاختيارات كان مقياسًا يقوم على الثقافة والعلم بهدف الاطلاع على ما قالت العرب من شعر، وما وقفت عليه من ثقافة ومعرفة باللغة والأيام والعادات والأمثال، والحيوان أليفه وغير أليفه، وطبيعة العيش والمواقع الجغرافية، والمجتمع وما كان فيه من ظواهر تتصل بحياته، والمرأة وما عرف في حياتها من رفاهية يدل عليها لبس الحلي والتزين بالأوشحة والخمر، وتعاطي ألوان الطيب المجلوبة من خارج شبه الجزيرة، وكذلك عاداتهم في الحرب والسلم، وشاراتهم في الحرب، وتمائم الأطفال، واتصالهم بالأمم الأخرى ومظاهر ذلك في وصف قصور الأعاجم وما فيها من تصاوير ورسوم وزخارف، ووصف ما جاءت به البحارة من بلادهم، وكذلك الديانات من يهودية ونصرانية ومعرفتهم بأخبار الأمم البائدة، والكتابة وأنواع أدواتها. كل هذه الألوان الثقافية العلمية دل عليها الشعر الذي اختاره هؤلاء السابقون، وقد يكون للجودة مكان في هذا الذي اختاروه، ولكنها لم تكن وحدها هي المطلب الذي توخوه في اختياراتهم، وهذا ما يفرق بينهم وبين أبي تمام، فأبو تمام لم يتوخ الثقافة والعلم في اختياره بقدر ما اهتم بجودة ما يختار. وكذلك اختلف مقياس أبي تمام عمن جاء بعده، فالبحتري في الحماسة المنسوبة إليه كان مقياسه في الاختيار مقياسًا أخلاقيًا، وهذا ما جعل الدكتور إحسان عباس يقول عنه: "وغلبت عليه النزعة الأخلاقية، والأبواب التي انتظمت حماسته تؤكد

ذلك وتدل عليه"، ومن ثم فإن حماسته ضمت الجيد وغير الجيد. والبصيري في حماسته كان مقياسه في اختيارها مقياسًا دينيًا، وتستطيع أن تدرك صدق ذلك بنظرة واحدة في حماسته، ومن أجل هذا المقياس كان مثل البحتري في حماسته، جمع بين الجيد الرديء. ولا شك بأن اختيار الجيد عند أبي تمام يقوم على مقياس جمالي فني، وهو الذي يجعله يختار من القصيدة الواحدة بعضًا ويترك بعضها الآخر، ولكن ما طبيعة هذا المقياس الجمالي الفني.؟ إنه مقياس يقوم على الأساس الذي حدده علماء الشعر في ذلك الزمن للجيد من الشعر، وهو أساس يمكن أن نجده عند الجاحظ في قوله عن رواه الشعر "ورأيت عامتهم - فقد طالت مشاهدتي لهم - لا يقفون إلا على الألفاظ المتخيرة، والمعاني المنتخبة، وعلى الألفاظ العذبة، والمخارج السهلة، والديباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكن، وعلى السبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق، وعلى المعاني التي إذا صارت في الصدور غمرتها، وأصلحتها من الفساد القديم، وفتحت للسان باب البلاغة، ودلت الأقلام على مدافن الألفاظ، وأشارت إلى حسان المعاني، ورأيت البصر بهذا الجوهر من الكلام في رواة الكتاب أعم، وعلى السنه حذاق الشعراء اظهر". وهذا الذي عرضه الجاحظ مجملًا لا يختلف كثيرًا عما ذكره الإمام المرزوقي في نظرية عمود الشعر التي طرحها في مقدمة شرحه للحماسة، ولكنه كان أكثر تفصيلًا وتقنينًا من الجاحظ حيث حدد سبعة أبواب هي قوام عمود الشعر عنده وهي: شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار

منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى، وشدة اقتضائها للقافية حتى لا منافرة بينها. وإذا كان أبو تمام قد توخى الجيد مما قالت العرب فإن الغلبة الغالبة من اختياره لم تخرج عن مفهوم الجيد من الشعر الذي طرحه كل من الجاحظ والمرزوقي فيما سبق، ولكنه برغم ذلك لم يسلم من انتقاد. وكان من أوائل المنتقدين له أبو الفضل ابن العميد حين تعجب من إيراد أبي تمام بيت الربيع بن زياد الذي يقول فيه: من كان مسرورًا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار ورأى في قوله: "فليأت نسوتنا" لفظة شنيعة. وانتقده كذلك في إيراده قول عروة بن الورد: قُلت لقوم في الكنيف تروحوا عشية بتنا عند ماوان رزح تناولوا الغنى أو تبلغوا بنفوسكم إلى مُستراح من حمام مُبرح وتعجب كيف جمع بين كنيف ومستراح في بيتين. وفي إدراكنا أن هذا يرجع إلى حرص أبي تمام على الرواية التي أمامه، ولا أظنه لم يدرك أن في قول الربيع: "فليأت نسوتنا" من الإيحاء ما يدل على الشناعة، ولكن الربيع أراد المعنى الظاهر من العبارة لا المعنى الموحى منها، وأحسب أن أبا تمام ما نظر إلا هذا عندما أثبت البيت في اختياره، وما كان ليغير على الشاعر قوله. أما بيتا عروة فمدلول لفظة "كنيف" هو الحظيرة من الشجر، ومدلول لفظة "مستراح" هو الراحة، غير أن الكلمتين قد صار لهما مدلول آخر عند أهل الحضر، وشاعر كأبي تمام كان يعيش بين الأمراء والوزراء والكتاب لم يغب عن باله هذا المدلول الحضري لكلتا اللفظتين، ولكن إدراكه لهذا المدلول الشعري ما كان يبيح له أن يغير في قول

الشاعر، والكلمة لا تكون شنيعة إلا بالمعنى الذي أراده الشاعر، ومراد عروة من استخدامه للفظتي كنيف ومستراح لا يدل على شناعة وقبح إلا إذا نظرنا إلى معناها الحضري، ومن ثم لا يضير أبا تمام أن يضمن البيتين اختياره، ما داما لم يخرجا عن حيز المقياس الجمالي الفني الذي بنى عليه اختياره. وعروة قبل كل شيء شاعر بدوي يستخدم اللغة على سجيته ووفق البيئة الت يعيشها. وإذا أخذنا على أبي تمام ما اختاره من شعر جاءت لغته على سجية قائله ووفق بيئته البدوية، فمعنى هذا أننا نطلب من الشاعر عروة قبل أبي تمام أن يراعي مفاهيم أهل الحضر في لغته الشعرية، وهذا أمر متهافت لا يقوم على شيء. وغير ابن العميد نجد ضياء الدين بن الأثير يأخذ على أبي تمام مآخذ، وذلك حين قال: "ولعمري إن الحماسة لدليل على أن أبا تمام كان عارفًا بأسرار الألفاظ والمعاني، إلا أن فيها مواضع يسيرة لا أرضاها، وأكثرها في باب الهجاء"، ثم مضى فأورد الألفاظ التي أخذها على الاختيار، منها كلمتا "زبونات" و "تيحان" الواردتان في بيت سوار بن المضرب وهو: بذبي الذم عن حسبي بمالي وزبونات أشوس تيحان وعلق عليهما بقوله: "فإن زبونات وتيحان لو وقعا في الفرات لصار ملحًا أجاجًا". وكذلك أخذ على الاختيار لفظة "جحيشًا" الواردة في بيت تأبط شرًا. القائل: يظل بموماة ويُمسي بغيرها جحيشًا ويعروري ظهور المسالك كما أخذ على الاختيار عبارة "على لحيتي" الواردة في بيت ابن هرم الكلابي الذي يقول فيه: فإن ذُكرت فاضت لعيني عبرة على لحيتي نثر الجُمان من العقد ومضى ابن الأثير يعدد مآخذه على الأبيات المختارة في الحماسة حتى بلغ بها نحو

خمسمائة بيت أغلبها في الهجاء، رأى نفيها من الحماسة ضروريًا، وحجته في ذلك أن هذه الأبيات ليست من الأبيات التي لا يتم المعنى فيها إلا بها، فيضطر حينئذ غلى إبداعها في جملة اختياره". ومع وجاهة ما ذهب إليه ابن الأثير فإننا نرى أن جل مآخذه على أبي تمام جاءت في باب الهجاء، ومن هنا يمكن القول بأن طبيعة الباب ربما فرضت على أبي تمام أن يخرج عن الحيز الذي رسمه لمقياس الجودة عنده، كما أن بعض الأبيات التي رأى ابن الأثير نفيها هي في واقع الأمر متصلة بأبيات غيرها جيدة مثل بيت سوار بن المضرب السابق ذكره فإنه متصل بما قبله إذا نفي لزم أن ينفي البيت الذي يسبقه، هذا فضلًا عما قلناه سابقًا أن أبا تمام كان رائدًا في عمله هذا، وكل رائد لا يسلم من نقص أو فوات، وهذا ما أكده ابن الأثير نفسه حين قال بعدما عرض من مآخذ على أبي تمام: "وعلى ما ذكرته من أن في الحماسة مواضع غير مختارة، فإن أبا تمام هو إمام الناس شعرًا ومعرفة بالشعر، وإن شذ عنه شاذة في الاختيار الذي اختاره، فمن الذي يسلم من ذلك". وإذا كان بعض القدماء قد أخذوا على أبي تمام بعض المآخذ في اختيار الحماسة فإن بعض المعاصرين قد سلك السبيل نفسه، فالأستاذ على النجدي ناصف أخذ عليه أنه "أسقط الاعتذار من الفنون التي اختار لها ولم يذكره، ولم يختر له مفردًا ولا مع غيره، كما صنع لسائر الفنون، وليست أعرف لإسقاطه وجهًا، فهو فن كريم من القول، جد لا هزل فيه ولا عبث، يتصل في الباعث عليه، والقول فيه بطبيعة الحياة وأدب السلوك". وأخذ أيضًا عليه ما اختاره في باب الملح، وتمنى لو أنه طرح هذا الباب وجاء بالاعتذار بدلًا منه، وحجته في هذا كما وضح في السابق أن الاعتذار فن كريم من

القول وأن الملح فيها كثير من الخنا والتصريح بالعوراء، والإسفاف في الفكرة والتفه في الموضوع". ويقيني أن هذه المآخذ كانت تصح لو أن مقياس أبي تمام كان مقياسًا أخلاقيًا، وأما وقد كان مقياسه جماليًا فنيًا فلا وجه حينئذ للمفاضلة بين باب الاعتذار والملح، أضف إلى ذلك أن الاعتذار قد ارتبط منذ الجاهلية عند نابغة بني ذبيان بالمديح، فلعل ارتباطه بالمديح هو الذي دفع أبا تام إلى إسقاطه وبخاصة حين نراه قد عنى بالمديح عناية تامة تغني عن اختيار قطع من الاعتذار يمتزج فيها الفنان معًا كما امتزج الأضياف بالمديح، ولو فعل أبو تمام هذا لنجم شيء من الازدواج في الاختيار يؤدي إلى خلل أو تكرار في معاني البابين. ومهما أخذ على أبي تمام في اختياره فإنه بحق كان منصفًا في الحماسة، وإنصافه إنما يتمثل في أنه خالف طريقته في الشعر التي أخذها على نفسه، وهذا ما أكده الدكتور إحسان عباس حين قال: "من يقارن بين هذه المختارات التي تضمنتها دفتاديوان الحماسة وبين أشعار أبي تمام التي نظمها بنفسه يستطيع أن يلاحظ أنه استطاع أن يتجاوز طريقته الشعرية، وما تميزت به من طلب للصور ومن إغراب في توليد المعاني واستغلال الذكاء الواعي إلى شعر يتميز بالبساطة وشيء غير قليل من العفوية، والصدق العاطفي المباشر، وهو في اختياراته هذه يعتمد على ذوقه الخاص، وبذلك كان البون بعيدًا حقًا بين اختيار أبي تمام في حماسته وبين طريقته الشعرية". وهذا الذي قال به الدكتور إحسان عباس قد نوه له الإمام المرزوقي في مقدمة شرحه للحماسة حين ذكر "أن أبا تمام كان يختار ما يختار لجودته لا غير ويقول ما يقول من الشعر بشهوته، والفرق بين ما يشتهي وبين ما يستجاد ظاهر بدلالة أن العارف بالبز قد يشتهي لبس ما لا يستجيده، ويستجيد مالا يشتهي لبسه".

وثمة أمر آخر ينبغي ملاحظته - ونحن نتحدث عن مقياس الجودة عند أبي تمام، وما أخذ عليه فيه أو سجل له فيه من إنصاف - وهو أن الشعر العربي قد ضم بين طياته المستنكر الوحشي والمبتذل العامي، وإذا كنا قد قلنا إن أبا تمام كان منصفًا في اختياره فإنه بجانب هذا الإنصاف قد تجنب هذين اللونين في اختياره إلا في الشاذ النادر الذي لا يعول عليه. وقد وضح الإمام الباقلاني هذا حين أفاد بأن الأعدل في الاختيار الشعري "ما سلكه أبو تمام من الجنس الذي جمعه في كتاب الحماسة وما اختاره من الوحشيات، وذلك أنه تنكب المستنكر الوحشي، والمبتذل العامي، وأتى بالواسطة، وهذه طريقة من ينصف في الاختيار". وصفوة القول في هذا الجانب أن مقياس أبي تمام في اختيار الحماسة كان مقياسًا جماليًا فنيًا، وأن هذا المقياس قد ساد القطع الشعرية التي اختارها إلا في أبيات أخذ عليه بعض العلماء خروجها عن مقياس الجودة، وأنه كان منصفًا في اختياره هذا لأنه خالف فيه طريقته في الشعر، بل حقق في هذا الاختيار نفي الوحشي المستنكر والمبتذل العامي إلا في ألفاظ قليلة تعد شاذة لا حكم لها إذا ما نظرنا إلى الكل الذي انتظم تمامًا تحت مقياسه. 6 - في شعراء الحماسة: اهتم أبو تمام في اختياره بالشعراء المقلين والشعراء المجهولين، وغايته من هذا واضحة، هي أن الشعراء المكثرين أو المعروفين قد تداول الناس دواوينهم قبل عصره، واهتمت بهم كتب الاختيارات التي سبقته مثل اختيار القصائد السبع الطوال ودواوين القبائل وغيرها، وربما كان أبو تمام متأثرًا في اتجاهه هذا بما طلبه أبو جعفر المنصور من المفضل الضبي في تأديب ابنه المهدي حين قال له: "لو عمدت إلى أشعار المقلين واخترت لفتاك لكل شاعر أجود ما قال لكان ذلك صوابًا" فعمل المفضل بنصيحة أبي جعفر فكانت المفضليات.

غير أن أبا تمام وإن كان مسبوقًا في الاختيار من شعر المقلين فإنه قد تجاوز ذلك إلى الشعراء المجهولين، فاختار لهم قطعًا وافرة في الحماسة، وهذا ما جعل للحماسة قيمة دون غيرها من الاختيارات فلولاها لا وقف الدارسون والعلماء على شعر هؤلاء المجهولين. ومن الواضح لدى دراسي الحماسة أن أبا تمام قد اختار لشعراء من عصر ما قبل الإسلام، وشعراء مخضرمين، وشعراء من عصر بين أمية، وعصر بني العباس، غير أن الكثرة الكاثرة جاءت لشعراء ما قبل الإسلام وبعده، ومن هذا كانت أهمية الحماسة لدى علماء اللغة الذين توخوا في أعمالهم شعر عهود الاحتجاج. ولكننا إذا كنا قد لاحظنا اهتمام أبي تمام بالشعراء المقلين والمجهولين فإن اختياره لم يخل من شعراء بارزين، فمن شعراء عصر ما قبل الإسلام اختار أبو تمام للنابغة الذبياني وعنتره بارزين، فمن شعراء عصر ما قبل الإسلام اختار أبو تمام للنابغة الذبياني وعنترة بن شداد وطرفة بن العبد وعمرو بن كلثوم، وهؤلاء الأربعة من أصحاب القصائد الطوال إذا جمعنا بين روايتي حماد الرواية والمفضل الضبي لهذه القصائد. وبجانب هؤلاء اهمت أبو تمام بنفر من الشعراء الصعاليك مثل الشنفرى وتابط شرًا وعروة بن الورد. أما البارزون من الشعراء المخضرمين الذين اختار لهم فيأتي على رأسهم لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت، والنابغة الجعدي، والشماخ بن ضرار، وربيعة بن مقروم، وعبدة بن الطبيب، ومتمم بن نويرة، والخنساء بنت عمرو بن الشريد. واشتمل أيضًا اختياره على شعراء بارزين من عصر بن أمية يتقدمهم الشاعران الكبيران الفرزدق وجرير، ويليهما ذو الرمة وعمر بن أبي ربيعة، وجميل بن

معمر، وكثير بن عبد الرحمن، وأعشى ربيعة، والكميت بن زيد الأسدى. أما عصر بني العباس فكان أبرز شعرائه في اختيار الحماسة صريع الغواني مسلم بن الوليد، ودعبل الخزاعي، وأبو العتاهية، ومطيع بن إياس، والحسين بن مطير الأسدي. ولاحظ الدارسون في الحماسة اهتمام أبي تمام بجماعة من شعراء طيئ، والقبيلة التي ينتمي إليها، قال عبد السلام هارون: "وعني عناية خاصة بشعراء طيئ، فكان قسطهم في اختياره قسطًا كبيرًا". وعلل الأستاذ علي النجدي ناصف لعناية ابي تمام برواية شعر قبيلته بقوله: "ولا على أبي تمام أن يبر شعراء قومه، ويفي لهم، وينشر شعرهم، ويختار منه ما دام حقيقًا بالنشر والاختيار، فيه حينئذ داعيان الجودة والقومية، وفي شعر الآخرين من غير قومه داع واحد هو الجودة لا غير". والحق أن الذي ينظر في الشعر الذي اختاره أبو تمام لشعراء طيئ يجد أنه حري بالاختيار بل إن فيه ما يبلغ الدرجة العليا من بليغ القول وبديعه بحيث يمكن القول فيه بأن بعضه أبلغ ما ضمت بعض الأبواب، ومن هذا لا تبدو عصبية في هذا الاختيار، فالجودة ظاهرة فيما اختاره من شعر طيئ كما أنه إذا كان قد اهتم بالمجهولين من شعراء قبيلته فإن المجهولين من غير طيء قد كان لهم وجود في الاختيار. وثمة قضية عرضها المرزباني في كتابه الموشح تتمثل في أن أبا تمام باهتمامه بالمجهولين والمقلين قد توخي طي أكثر إحسان الشعراء لأنه سرق بعض ذلك فطوى ذكره، وجعل بعضه عدة يرجع إليها في وقت حاجته، ورجاء أن يترك أهل المذاكرة أصول أشعارهم على وجوهها ويقنعوا باختياره لهم فتغبى عليهم سرقاته. وهذا الكلام باطل من وجهين أحدهما: أن الحماسة اشتملت على كثير من المعاني

التي استمد منها أبو تمام جملة من معاني شعره، فلو كان في ذهنه - وهو يصنع الحماسة - أن يخفي الأشعار التي أخذ معانيه منها لكان الأولى أن يخفي هذه الأشعار التي جاءت في الحماسة دالة على أنه أفاد منها في معانيه، والوجه الآخر أن أبا تمام ليس وحده الذي يمتلك أشعار المحسنين حتى يحجبها عن الناس بقصد إخفاء اخذه منها، أو بقصد الإفادة منها عند الحاجة في تأليف الشعر، فداواوين الشعراء المحسنين والاختيارات من شعرهم كانت قد انتشرت بين أيدي الناس، وصحيح أن العلماء وطالبي الأدب قد اهتموا بالحماسة ولكن اهتمامهم هذا لم يصرفهم عن الاهتمام بغيرها من كتب الاختيارات أو الدواوين، ومن ثم تبدو هذه الدعوى متهافتة لا تستند على شيء يعول عليه سوى النيل من الرجل في أمر لم يخطر بباله قط. 7 - في دعوى تغيير أبي تمام لنصوص الحماسة: وفي رأينا أن أهم قضية أثيرت حول ديوان الحماسة هي الدعوى التي قامت دالة على أن أبا تمام كان يغير في الشعر الذي يورده في الحماسة، ويترتب على هذه الدعوى حكم على الحماسة بأنها لا تصلح أن تكون مصدرًا من مصادر الشعر العربي الفصيح، لأن أبا تمام يعد من الشعراء المحدثين، ولا يدخل في عهود الاحتجاج، وإذا كان قد غير في نصوص الحماسة فإن عمله هذا يلقى عليها ظلالًا من الحداثة تحجبها عن أن تكون مصدرًا من مصادر القول الفصيح، ولكن ما حقيقة هذه الدعوى، وما مدى صدق هذا الحكم المرتب عليها، وما مواقف الباحثين قدماء ومعاصرين منها، فلعلنا من مناقشة ذلك كله نخرج برأي واضح يضيف شيئًا في هذه القضية. أن أول من وقفنا على كلامه في دعوى التغيير هو ابن العميد المتوفي سنة 360 هـ، فقد ذكر المرزوقي عند مرثية الربيع بن زياد في مالك بن زهير العبسي، وفي شرح بيت الربيع القائل: بيت الربيع القائل: من كان مسرورًا بمقتل مالك فليأت ساحتنا بوجه نهار

قال: يروى "فليأت نسوتنا" ورأيت الأستاذ الرئيس أبا الفضل ابن العميد يقول: "أني لأتعجب من أبي تمام مع تكلفه رم جوانب ما يختاره من الأبيات، وغسله من درن بشع الألفاظ كيف ترك تأمل قوله: "فليأت نسوتنا" وهذه لفظة شنيعة". وواضح من هذا النص أن المرزوقي كان يكبر ابن العميد ويأخذ أقواله مأخذ التسليم، ولذا نراه يتبنى هذا القول في شرحه دون شراح الحماسة الآخرين فيذكر في مقدمته أن أبا تمام "ينتهي إلى البيت الجيد فيه لفظة تشينه فيجبر نقيصته من عنده، ويبدل الكلمة بأختها في نقده، وهذا بين لمن رجع إلى دواوينهم فقابل ما في اختياره بها". وقال في حماسية تأبط شرًا عند البيت القائل: فأبت إلى فهم ولم أك آئبًا وكم مثلها فارقتها وهي تصفر اختار بعضهم (ابن جنى) فأبت إلى فهم وما كدت آبيًا "وقال: كذا وجدته في أصل شعره ... ولا أدري لم اختار هذه الرواية الأن فيها ما هو مرفوض في الاستعمال شاذ أم لأنه غلب في نفسه أن الشاعر قاله في الأصل، وكلاهما لا يوجب الاختيار، على أني قد نظرت فوجدت أبا تمام قد غير كثيرًا من ألفاظ البيوت التي اشتمل عليها هذا الكتاب، ولعله لو أنشر الله الشعراء الذين قالوها لتبعوه وسلموا له". هذا ما وصل إلينا من القدماء في هذه القضية، وقبل أن نسجل مناقشتنا ومناقشة غيرنا لهذه الأقوال نود أن نسجل هنا ملحظًا مهمًا هو أن ابن العميد والمرزوقي انفردًا من بين العلماء والنقاد بهذه الدعوى، فالكثيرون ممن اتصل بأبي تمام في حياته وبعد موته لم يذكروا هذه الدعوى بل لم يشيروا إليها مجرد إشارة، فنحن لا نجدها عند

أنصاره المتعصبين له كأبي بكر الصولي مثلًا، ولا عند خصومه أو من جعل نفسه حكمًا في الخصومة التي نشبت يبن مدرسته ومدرسة البحتري كالآمدي، بل إن الشراح - غير المرزوقي - الذين وقفنا على شروحهم لم يشيروا إلى هذه الدعوى من قريب أو بعيد، فالتبريزي الذي كان عالة على المرزوقي في جل شرحه لم نجده يسجل أقواله المتقدمة بما يفيد أنه يذهب معه في هذا الاتجاه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى نسجل أول ما نسجل أن كلا من ابن العميد والمرزوقي لم يأتيا لنا بمثال واحد يؤكد أن أبا تمام كان يغير في النصوص بما يخالف دواوين الشعراء الذين اختار لهم، والمثال الوحيد الذي أورده المرزوقي هو بيت تأبط شرًا: فأبت إلى فهم ولم أك آئبًا وكم مثلها فارقتها وهي تصفر فقد أورد أن ابن جني قال في روايته "وما كدت آبيا" وقال: كذا وجدته في أصل شعره، ولكننا لاحظنا أن المرزوقي يعترض على ذلك ويقول: "ولا أدري لم اختار هذه الرواية الأن فيها ما هو مرفوض في الاستعمال شاذ أم لأنه غلب في نفسه أن الشاعر قاله في الأصل وكلاهما لا يوجب الاختيار" فقوله: "لم اختار هذه الرواية" يدل على أن للبيت روايتين أو أكثر إحداهما رواية الحماسة، والأخرى الرواية التي أثبتها ابن جني، وقوله: "غلب في نفسه أن الشاعر قاله في الأصل" يدل على أنه متشكك في أن يكون تأبط شرًا قد قال البيت كما رواه ابن جني. وأما ابن العميد فإننا نراه يتعجب من كون أبي تمام يتكلف رم جوانب ما يختاره من الأبيات وغسله من درن بشع الألفاظ، ويتركن ألفاظًا بشعة في الحماسة، ولكنه لم يأت لنا بمثال يبين لنا فيه كيف كان أبو تمام يغسل درن بشع الألفاظ بالتغيير بل هو يورد نقيص ذلك، ويثبت أن أبا تمام كان يترك الألفاظ البشعة كما هي دون أن يحدث فيها تغييرًا، فلقد أخذ عليه أنه ترك تأمل قول الربيع بن زياد "فليأت نسوتنا" وهي في رأيه لفظة شنيعة، وكذلك أخذ عليه ذلك في لفظتي "كنيف" و"مستراح" الواردتين في بيتين لعروة بن الورد، وقد مر بنا ذكرهما من قبل.

والذي ينظر إلى الأمر يجد أن ما ذكره ابن العميد حجة عليه لا له، بل هو دليل على أن أبا تمام كان يروي الشعر كما يجده، ولا يحدث فيه تغييرًا من عنده. وليس من دليل لما أورده المرزوقي من أقوال سوى قوله: "وهذا بين لمن رجع إلى دواوينهم فقابل ما في اختياره بها" وهو دليل فيه نظر وقابل للمناقشة. وقد تصدى له الأستاذ علي النجدي ناصف حين قال: "فإن لم تكن له بينة غيرها فلا أراها كافية ولا قاطعة لأن الخلاف في الرواية شائع مألوف، وقلما يكون نص رواية واحدة في كل أصل، فلم لا يكون الخلاف الذي يتحدث عنه المرزوقي من اختلاف الرواية لا من تغيير أبي تمام، وهل الوجه الذي يدون عليه النص في ديوان الشاعر إلا رواية لها ما للروايات وعليها ما عليها". ونضيف إلى هذا الذي ذكره الأستاذ النجدي - رحمه الله - أننا لو سلمنا بالزعم الذي قال به المرزوقي للزم أن نسلم بأمرين أحدهما أن دواوين الشعراء التي كانت في أيدي الناس في عهد المرزوقي كانت ذات رواية واحدة بغض النظر عن بعد المسافات واختلاف الأزمان، ومن ثم تكون دواوين الشعراء وأشعار القبائل التي كانت عند آل سلمة وانتخب منها أبو تمام الحماسة ذات رواية واحدة. ولا تختلف في روايتها عما كان في أيدي الناس في ذلك الزمن وما تلاه حتى عهد المرزوقي، وهذا أمر يتعذر القول به، وبعيد عن الواقع الذي نلمسه في دواوين الشعراء من اختلاف في الرواية عند مضاهاتها بمصادر وردت إلينا من عهود سبقت أبا تمام أو كانت بعده، مثل طبقات الشعراء لابن سلام، والبيان والتبيين والحيوان للجاحظ، والشعر والشعراء لابن قتيبة، والأغاني لأبي الفرج، والمؤتلف والمختلف للآمدي، ومعجم الشعراء للمرزباني، وهؤلاء جميعًا إنما كانوا يعتمدون في كتبهم على مصادر قوامها دواوين الشعراء ودواوين القبائل، الأمر الذي يؤكد اختلاف الروايات في الدواوين التي اعتمد عليها أصحاب هذه الكتب. أما الأمر الثاني الذي يلزم التسليم به فهو أن يكون ديوان الحماسة الذي اعتمده

المرزوقي في شرحه غير متعدد النسخ والرواية حتى يصح القول بأن ما فيه من شعر مختلف عما جاء في دواوين الشعر، وهو أمر يدحضه المرزوقي نفسه حين نراه يذكر في أكثر من موضع أنه كان يرجع إلى نسخ كثيرة للحماسة. ولم يقف المرزوقي عند قوله إن أبا تمام كان يزيل بشاعة الألفاظ بالتغيير بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين زعم أن أبا تمام كان يغير في النص لا ليزيل ما فيه من بشاعة لفظ، ولكن لينقل النص من غرض قيل فيه إلى غرض آخر لا يدخل في حيزه، ففي قطعة عارق الطائي الواردة في باب الهجاء، والتي يقول فيها: والله لو كان ابن جفنة جاركم لكسا الوجوه غضاضة وهوانا وسلاسلًا يُثنين في أعناقكم وإذًا لقطع منكم الأقرانا ولكان عادته على جاراته مسكًا وريطًا رادعًا وجفانا أورد المرزوقي خبرًا مفاده أن هذه الأبيات كانت في الأصل على النحو التالي: والله لو كان ابن جفنة جاركم ما إن كساكم غضة وهوانا وسلاسلًا يبرقن في أعناقكم وإذًا لقطع منكم الأقرانا ولكان عادته على جيرانه ذهبًا وريطًا رادعًا وجفانا ثم قال: "إن هذه الأبيات ليست بهجو لابن جفنة وإنما هو مدح له، وقد غير بذكره عمرو بن هند، وأنه لو تولى من طيئ ما تولاه عمرو بن هند كانت معاملته إياهم بخلاف ما عاملهم به هو فتصور - يعني أبا تمام - أناه لابن جفنة وجعل بدل "ما إن كساكم" "لكسا الوجوه" وبدل قوله "إذا لقطع تلكم الأقرانا": "منكم الأقرانا" وبدل قوله: "لكان عادته على جيرانه": "على جاراته" ومع هذه التغييرات ليس يخلص هجوا".

والذي يفهم من هذا القول أن المرزوقي فهم أن أبا تمام قد أورد هذه الأبيات على أنها هجاء قيل في ابن جفنة ملك غسان، وهذا الفهم هو الذي أوقعه في هذا التهافت البين الذي دفع به إلى إتهام أبي تمام بالتغيير، وتجاوز ذلك إلى اتهامه بالقصور في الفهم في أنه لم يفطن إلى أن الأبيات حتى بعد ما أحدثه من تغيير فيها لا تخلص هجوًا. ويتضح وهم المرزوقي بجلاء حين نذهب إلى شرح التبريزي فنجده يصدر هذه القطعة بقوله: "وقال عارق الطائي يهجو المناذرة" فالأبيات ليست في هجاء ابن جفنة كما ذهب المرزوقي، وإنما هي في هجاء عمرو بن هند الذي ذكر أبو رياش أنه أغار على طيئ بعد أن جعل لهم عقدًا، فقال عارق هذه الأبيات، وملخصها أن ابن جفنة لو كان جارك واعتديت عليه كما اعتديت علينا لكسا وجهك سبة وهوانا ولقيدك بالسلاسل، ومزق قومك ولأصبحت نساؤك حظايا له بعطورهن وغلائلهن، يقمن على خدمته، وهي على هذا فيها مدح لابن جفنة، ولكن المدح لم ينشأ لأن عارقًا أراد أن يمدحه في الأصل وإنما لأنه أراد أن يهجوا ابن هند ويعيره بما يصير إليه حاله لو أن هذا العدوان الذي أجراه عليهم أجراه على خصومه المعهودين الغساسنة، وهذا لعمري أقبح الهجاء لأن المناذرة كانوا يكرهون أن يذكر خصومهم الغساسنة بخير، فحين يأتي شاعر ليقول لهم أنتم تعيرون على قبيلتنا وتناولون منها ولو أنكم فعلتم هذا مع الغساسنة لكانت حالكم هي هذه الحال التي صورتها في هذه الأبيات، فأي هجاء ينال من عمرو بن هند ويثير حفيظته أبلغ من هذا القول؟ ! . أما الأبيات التي أوردها المرزوقي وظن أنها الأصل في الرواية فهي - كما أوضح أبو رياش في خبرها - ليست من قول عارق بل هي من قول ابن عم له يقال له ثرملة بن شعاث الأجئ، وقد قال هذه الأبيات حين قال له عمرو بن هند: عن ابن عمك يهجوني ويتوعدني فقال ثرملة: والله ما هجاكم ولكنه والله قال: لو كان ابن جفنة جاركم ... الأبيات. والذي يؤكد أن الأبيات في هجاء ابن هند أن هذه القطعة ليست الوحيدة التي

قالها عارق في هجاء عمرو بن هند فله قطعتان أخريان رواهما أبو تمام إحداهما يقول في مطلعها: "ألا حي قبل البين من أنت عاشقة" والأخرى: "من مبلغ عمرو بن هند رسالة" وبناء على كل ما ذكرناه نجد أن ما قاله المرزوقي في شأن أبيات عارق لا يقوم على شيء، وإنما نتج عن وهم وقع منه فبنى عليه هذا الحكم الذي يغمط أبا تمام حقه لا في كونه يبدل فيما اختاره من شعر ليزيل بشاعته، بل أنه قاصر الفهم يفوت عليه التمييز بين شعر في المديح وشعر في الهجاء، وهو لم يقل به أحد حتى خصومه، ويجعل المرزوقي نفسه في تناقض واضح حين نراه يقول في مقدمته عن أبي تمام وعمله في الحماسة: "أنه لم يتفق في اختيار المقطعات أنقى مما جمعه أبو تمام ولا في المقصدات أو في مما دونه المفضل ونقده". وحين نصل إلى الباحثين المعاصرين ورأيهم في هذه القضية نجد أن جماعة منهم قد تصدوا لما أورده المرزوقي في شرحه، وكان في مقدمتهم الأستاذ علي النجدي ناصف في حديثه الذي أوردناه له من قبل وكذلك تصدى له الدكتور مصطفى حسين في بحثه الذي نشره في مجلة "شعر" بعنوان "أبو علي المرزوقي شارح ديوان الحماسة" وقد جاء فيه "أن القائلين بتدخل أبي تمام وقعوا في هذا الوهم لأنهم لاحظوا اختلاف الرواية بين اختيار أبي تمام وما هو محفوظ عند سواه فساقهم هذا الوهم إلى أن أبا تمام قد بدل وغير، والحقيقة أنه كان ينظر في الروايات ويطيل النظر ثم يوازن ويفاضل مستهديًا ذوقه وبصره بالشعر، منتهيًا - بعد نظر ومفاضلة - وإلى رواية تجمع بين أمانة الاختيار وجودته". وكذلك اعترض على قول المرزوقي الدكتور عبد الله عبد الرحيم عسيلان، وبنى اعتراضه على أن المرزوقي لم يضع في اعتباره ما قد يطرأ من اختلاف في رواية

الشعر، وهو واضح ملموس في كتب الأدب ودواوين الشعراء، وعلى أن أبا تمام إذا كان يغير بعض الألفاظ القبيحة بأخرى سلسة حسنة فإننا نجد ألفاظًا كثيرة في الحماسة من قبيل الوحشي والمستثقل والمستكره، دون أن يطرأ عليها أن تغيير. ودعم هذا بما أورده من خبر أبي تمام الذي رواه المرزباني عن علي بن العباس الرومي الذي قال: "دخلت على أبي تمام وقد عمل شعرًا لم أسمع أحسن منه، وفي الأبيات بيت واحد ليس كسائرها، فعلم أني قد وقفت على البيت فقلت: لو أسقطت هذا البيت فضحك وقال: أتراك أعلم بهذا مني، وإنما مثل هذا مثل رجل له بنون جماعة كلهم أديب مقدم ومنهم واحد قبيح متخلف، فهو يعرف أمره ويرى مكانه، ولا يشتهي أن يموت، ولهذه العلة وقع مثل هذا في أشعار الناس" وبني على هذا الخبر قوله "ورجل هذا موقفه من شعره ومما يستقبح فيه من الألفاظ من المستبعد أن يعتدي على شعر غيره بالتصرف والتغيير في ألفاظه". وهذه بعض آراء من تصدوا لأقوال المرزوقي في شرحه، وهناك باحثون أخذوا بأقوال المرزوقي مأخذ التسليم ولم يعرضوها للمناقشة والتمحيص، يأتي في مقدمتهم الشيخ سيد علي المرصفي الذي قال في مقدمة كتابه "أسرار الحماسة": "وقد قالت رواة الأدب إنه في اختياره أحسن منه في أشعاره، إلا أنه سامحه الله كثيرًا ما كان يعتمد على ذوقه فأحيانًا يقدم ويؤخر في أبياته، وأحيانًا يبدل بعض كلمات العرب بكلماته". وهذا كلام لا يحتاج إلى تعليق لأن ما قلناه في السابق يدحضه وينفيه، هذا فضلًا عما في هذه العبارات من تعميم في الحكم يحتاج إلى بينة تؤكد لنا صدق هذه الدعوى حتى نطلب من الله تعالى أن يسامح أبا تمام عليها. وبعد المرصفي جاء الدكتور ناصر الدين الأسد فنفى كتاب الحماسة من مصادر الشعر الجاهلي، معتمدًا في ذلك على أمرين أحدهما يؤخذ من قوله: "إن الحماسة ليست لها رواية انتقلت بها إلى أبي تمام ولا رواية أخذت بها عن أبي تمام، وإنما

أخذها أبو تمام من الكتب وانتقاها من الدواوين والمجاميع ... ثم كتب أبو تمام ما اختاره وبقي كتابه دهرًا مطويًا لم يقرأه عليه أحد، كلما لم يقرأه هو على أحد إلى أن أتيح له أن ينشر ويظهر بعد وفاة أبي تمام، فأخذ ما فيه من الصحف المكتوبة نفسها لا عن العلماء". والأمر الآخر يؤخذ من قوله: "وليس فقدان الرواية والإسناد هو الأمر الوحيد الذي يباعد بين الحماسة وبين بحثنا هذا بل إن ثم شيئًا آخر لا يقل عن سابقه، يباعد بين هذا الكتاب وبحثنا، وهو صنيع أبي تمام فيما اختاره من تغيير للنص الشعري مما أوضحه المرزوقي في مقدمته". فأما الأمر الأول فقد سبق أن ناقشناه في أول هذا الفصل، وأكدنا فيه أن الحماسة بجانب النسخة التي تركت في بيت آل سلمة بهمذان قد أخذها العلماء عن أبي تمام من طريقين أحدهما أبو رياش عن أبي المطرف الأنطاكي عن أبي تمام، والآخر الآمدي عن أبي المطرف عن أبي تمام، وأما الحماسة ليست لها رواية انتقلت بها إلى أبي تمام صحيح لأن أبا تمام هو الذي اختارها، ولكن السؤال من أين اختارها؟ أليست من الكتب والدواوين والمجاميع التي وصل إلينا بعضها، وعده الدكتور ناصر الدين الأسد من صميم مصادر الشعر الجاهلي. وإذا كان الأمر علماء اللغة من الاستشهاد بما جاء في الحماسة من شعر يمثل عصر الفصاحة، وأين نذهب بقول الزمخشري الذي أورده صاحب الخزانة، وقد جاء فيه عن أبي تمام "وهو وإن كان محدثًا لا يستشهد بشعره في اللغة فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه، ألا ترى إلى قول العلماء: الدليل عليه بيت الحماسة فيقنعون بذلك لوثوقهم بروايته واتقانه". ونحن مع قولنا بأن اتقان الرواية لا يستلزم اتقان الدراية حتى نحتج بكلام أبي

تمام في مجال اللغة، فإن الذي يهمنا من النص هو أن العلماء كانوا مطمئنين لما رواه أبو تمام في الحماسة واثقين منه كل الوثوق، وهم لم يفعلوا ذلك إلا لأنهم ادركوا أن أبا تمام إذا كان قد أخذ اختياره من كتب ودواوين موثوق بها، فإن هذه الثقة تنسحب على ما اختاره منها، ولهذا لا مكان للقول بأن الحماسة ليست لها رواية انتقلت بها إلى أبي تمام. وأما الأمر الثاني فهو يدعو إلى الدهشة حقًا وبخاصة حين يصدر من باحث جعل همه الأول في بحثه ألا يأخذ قولًا في التوثيق دون مناقشة. ولقد قام في هذا السبيل بجهود طيبة تشهد له المواضع المتعددة في بحثه القيم، ونحن قد نجد له العذر فيما ذهب إليه في الأمر الأول، لأنه لم يقف على المصادر التي دلت على أن الحماسة قد أخذت عن أبي تمام قراءة أو رواية، فجل هذه المصادر مخطوط ولم يكن معروفًا في الزمن الذي أخرج فيه بحثه عام 1956 م. ولكن لا عذر له أن يأخذ قول المرزوقي مأخذ التسليم دون مناقشة يصل فيها إلى بينة من الأمر، ودون أن يكلف نفسه مصاهاة ما ورد في الحماسة بما جاء في الكتب التي عدها من مصادر الشعر الجاهلي كالمفضليات والأصمعيات، ولعمري لو فعل ذلك لما قال ما قال ولوضع الحماسة في الموضع الذي وضعه فيها علماء اللغة. ونحن ليس تحت ايدينا كل الدواوين التي رآها المرزوقي وذهب إلى أنها مخالفة في ألفاظها عما أورده أبو تمام في الحماسة، ولكننا نستطيع أن نعرض بعض النماذج للنصوص التي وردت في الحماسة ورواها كل من المفضل الضبي والأصعمي، لنرى إلى أي حد كان الاختلاف بين رواية الحماسة، ورواية المفضليات والأصمعيات، ولنأخذ لذلك أمثلة أربعة أولها حماسية عبد الله بن عنمة التي وردت في شرح المرزوقي رقم (190) ورواها المفضل كما رواها الأصمعي، وهي في الروايات الثلاث ستة أبيات جاء في مطلعها: ما إن ترى السيد زيدًا في نفوسهم كما تراه بنوكوز ومرهوب فحين نعارض رواية الحماسة برواية المفضل والأصعمي لا نجد اختلافًا في الألفاظ

إلا في البيت الثالث الذي رواه المفضل والأصمعي على هذا النحو: فإن أبيتم فإنا معشر صبر لا نطعم الذل إن السم مشروب وروى في الحماسة "لا نطعم الخسف"، ولا أظن أن في لفظة "الذل" من البشاعة والعوار ما يستحق التغيير من أبي تمام، وإنما هي الرواية لا غير. وثمة اختلاف آخر هو أن البيت الخامس في رواية المفضل والأصمعي جاء سادسًا في رواية المرزوقي والتبريزي، وأغلب ظني إن اختلاف الترتيب هذا نتج عن اختلاف نسخ الحماسة ولا شأن لأبي تمام به، بدليل أن هذا البيت جاء آخرًا في رواية المرزوقي والتبريزي ولا وجود في رواية شرح زيد بن علي الفارسي، فالقطعة عنده خمسة أبيات لا ستة. كذلك يمكن أن نعارض رواية الحماسة برواية الأصمعي في قصيدة عبد الله بن عنمة التي رثى فيها بسطام بن قيس، والتي يقول في مطلعها: لأم الأرض ويل ما أجنت غداة أضر بالحسن السبيل وهي تبلغ في رواية الأصمعي أحد عشر بيتًا اختار منها أبو تمام ثمانية أبيات هي في رواية المرزوقي والتبريزي على الترتيب من البيت الأول إلى الثامن في الأصمعيات والاختلاف في ألفاظ الروايتين الحماسة والأصمعيات لم يرد إلا في بيتين فقط، أما بقية الألفاظ فقد جاءت مطابقة في الروايتين معًا. أما البيتان اللذان وقع فيهما اختلاف فهما البيت الرابع والبيت السابع، ففي البيت الرابع جاءت رواية الأصمعي: حقيبة رحله بدن وسرج تعارضه مرببة ذؤول وجاءت رواية الحماسة "دؤول" بالدال غير المعجمة وقيل في معنى

"الذؤول" من الذألان وهو مشي سريع فيه خفة، وقال شراح الحماسة في معنى "الدؤول" من الدألان وهو ضرب من العدو، وفي القاموس المحيط "دأل كمنع دألا، ويحرك كجمزى وهو مشية فيها ضعف أو عدو متقارب أو مشي نشيط، وذأل كمنع ذألانا أسرع أو مشى في خفة". وواضح أن الاختلاف هنا من فعل الوراية، لا من أبي تمام، ومن ضعف الرأي أن يقال إن أبا تمام أبدل الذال دالًا ليزيل عوار اللفظة إذ اللفظتان على حد سواء في الشناعة أو عدمها. أما البيت السابع فقد ورد في رواية الأصمعيات هكذا: لقد ضمنت بنو بدر بن عمر ولا يُوفي ببسطام قبيل ورد في الحماسة "أفاتته بنور بدر بن عمرو" وما يقال في هذا الاختلاف هو ما قيل في "ذؤول" و "دؤول" هذا فضلًا عن أن المرزوقي نفسه قال في شرح الشطر الثاني من البيت: "وقوله: ولا يوفي ببسطام قبيل" بالباء يروي ... وهذه الرواية أقرب إلى ما يدل عليه صدر البيت وأشبه". وفي قصيدة عروة بن الورد التي رواها الأصمعي والتي مطلعها: أقلي علي اللوم يا ابنة منذر ونامي فإن لم تشتهي النوم فاسهري نجد أن الأصمعي قد بلغ في روايتها سبعة وعشرين بيتًا، واختلفت روايات الشراح فيما اختاره أبو تمام منها، فالمختار منها في رواية المرزوقي سبعة أبيات، وفي رواية التبريزي ثمانية أبيات، وفي رواية زيد بن علي تسعة أبيات. ولقد سبق أن أوضحنا أن الاختلاف في عدد أبيات القطعة الواحدة في شروح الحماسة مرده إلى اختلاف نسخ الحماسة التي اعتمد عليها الشراح في شروحهم. وحين عارضنا روايات هذه الشروح برواية الأصمعي وجدنا اختلافًا في الألفاظ

وقع في ثلاثة مواضع فقط، أحدها في مطلع القطعة من اختيار الحماسة وقد جاء هكذا: لحا الله صعلوكًا إذا جن ليله مصافي المشاش آلفًا كل مجزر وجاء في الأصمعيات " مضى في المشاش". وثانيها في البيت الرابع في رواية زيد ابن علي وهو: قليل التماس الزاد إلا تعلة إذا هو أضحى كالعريش المجور رواه الأصمعي "قليل التماس المال إلا لنفسه". والموضع الثالث جاء في البيت الرابع في رواية المرزوقي، الخامس في رواية التبريزي، السادس في رواية زيد بن علي، وهو في الشروح الثلاثة هكذا: ولكن صعلوكًا صفيحة وجهه كضوء شهاب القابس المتنور ورواه الأصمعي "ولله صعلوك". ولا شك أن الألفاظ في رواية الأصمعي لبست من المستكره المستثقل حتى يقال إن أبا تمام عرضها على ذوقه بالتغيير. ويمكن أن تلمس ذلك في حماسية سلمى بن ربيعة التي نسبها الأصمعي إلى علباء ابن أرقم، فهي قد وردت في الأصمعيات أحد عشر بيتًا، ووردت كذلك في الحماسة، وهذا الأبيات الأحد عشر وقع اختلاف بين الروايتين في ثلاثة مواضع منها، في البيت الثاني وقد جاءت رواية الأصمعي فيه هكذا: وكأنما في العين حب قرنفل أو نسبل كحلت به فانهلت وجاء في رواية الحماسة "وكأن في العينين حب قرنفل"، وفي البيت الخامس الذي روي في الأصمعيات:

يومًا إذا ما النائبات طرقننا أكفى بمعضلة وإن هي جلت وروى في الحماسة "رجلًا إذا ما النائبات". وفي البيت الثامن وقد ورد عند الأصمعي: درت بأرزاق العفاة مغالق بيدي من قمع العشار الجلة وورد في الحماسة "دارت بأرزاق العفاة". والذي ينظر في هذه الاختلافات لا يجد فيها عطورًا في الألفاظ التي رواها الأصمعي حتى يغيرها أبو تمام، كما ينبغي أن نؤكد أن هذه الاختلافات التي عرضناها من خلال هذه النماذج الأربعة كانت طفيفة جدًا لا تقاس بالأبيات التي حدث فيها توافق في الألفاظ. أن الاختلاف في لفظة أو لفظتين أو ثلاث في قطعة تبلغ ستة أبيات، كما في النموذج الأول أو ثمانية أبيات كما في النموذج الثاني، أو تسعة أبيات كما في النموذج الثالث، أو أحد عشر بيتًا كما في النموذج الرابع لا يستلزم القول بأن تغييرًا قد وقع عن عمد من صاحب الرواية ذات التغيير، إذ لو صح هذا القول لا نطبق على سائر شروحها لدى أبي جعفر النحاس وابن الأنباري الزوزني والتبريزي. ولعل الدارس حين ينظر إلى الاختلافات التي وردت لدى كل من المفضل الضبي وعبد الملك الأصمعي يدرك أنها لم تقع لأن أحدًا منهما أجرى ذوقه بالتغيير في الألفاظ بل لأن كلًا منهما اعتمد على مصادر في روايته تختلف عن الآخر، ونستطيع أن نسوق بعض الأمثلة لهذا. فقد وقع اختلاف بين روايتيهما في بيت سنان بن أبي حارثة المري، رواه المفضل: وبضرغد وعلى السديرة حاضر وبذي أمر حريمهم لم يُقسم

ورواه الأصمعي "وبضرغد وعلى السدير وحاضر". وبيت زبان بن سيار رواه المفضل: فإن تسألوا عنا فوارس داحس يُنبئك عنها من رواحة عالم وراه الأصمعي "فوارس دارم". وبيت معاوية بن مالك رواه المفضلك فإن أحمد بها نفسي فإني أتيت بها غداتئذ صوابا ورواه الأصعمي "فإن أحمدتها نفسي فإني". وهكذا لو تتبعنا رواية كل من المفضل والأصعمي في القصائد التي اتفقا في اختيارها لوجدنا اختلافًا في الألفاظ على هذا النحو الذي أوردناه، وهو اختلاف قد يغير في معنى البيت مثل بيت زبان بن سيار "فإن تسألوا عنا فوارس داحس" في رواية المفضل، و "فوارس دارم" في رواية الأصمعي، لأن فوارس داحس يعني عبس وذبيان، وفوارس دارم يعني دارم بن تميم، وعبس وذبيان من قبائل قيس عيلان، وتميم من قبائل خندف، ولكن هل هذه الاختلافات تجوز لنا أن نتهم أحدًا منهما بأنه قد أحدث تغييرًا في ألفاظ روايته ليزيل ما بها من شناعة أو اسبتكراه. وبناء على هذا النحو الذي ذكرناه ووفقًا لما أوردناه من اختلافات في الرواية لا في الحماسة فحسب بل في غيرها من مصادر الشعر، نقرر أن التسليم بما قاله ابن العميد وتابعه فيه المرزوقي أمر لا ينبغي أن يقع فيه باحث معاصر، وأن هذه السبيل التي سلكها الدكتور ناصر الدين الأسد في الحكم على حماسة أبي تمام أفضل منها ما ذهب إليه الدكتور شوقي ضيف حين ذكر الحماسة ضمن مصادر الدراسة في الشعر

الجاهلي، ولكنه قيد ذلك بالمضاهاة مع المصادر الموثوقة كالمفضليات والأصمعيات وهو قول مع أفضليته بالنسبة لما ذهب إليه الدكتور ناصر الدين الأسد فإن فيه نظرًا لأن الكتب الموثقة يبن أيدينا قليلة جدًا، وأبو تمام إنما اختار الكثرة الكاثرة في حماسته لشعراء مجهولين قل أن نجد لهم ذكرًا أو شعرًا فيما وصل إلينا من كتب موثقة، فهل نضع هذه الأشعار موضع ثقتنا كما وضعها علماء اللغة أو نقف منها موقف المتشكك تبعًا لما أورده المرزوقي من أقوال لم يأت هو بدليل يدعمها ويقويها بل لم يتابعه فيها شارح من شراح الحماسة الذين جاءوا بعده سوى المرصفي الذي يتبع في الدرس الأدبي منهجًا يقوم على التسليم بما قاله القدماء حتى وإن انفرد به واحد منهم.

الفصل الثاني: في شرح الشعر وتطوره حتى ظهور شروح الحماسة

الفصل الثاني: في شرح الشعر وتطوره حتى ظهور شروح الحماسة 1 - في شرح الشعر وتطوره منذ أن وجد الشعر العربي كانت الحاجة إلى فهم ما استغلق منه، غير أن هذه الحاجة تختلف من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة ففي العصر الأول عصر ما قبل الإسلام لم تكن الحاجة ملحة إلى شرح ما غمض من الشعر، بل لم تكن القبائل ترى فيما يقوله شعراؤها غامضًا، ذلك لأن الشاعر كان يعيش بين قومه، يشاركهم بيئة واحدة، ولغة واحدة، وثقافة واحدة، كما كانوا يعيشون معه الظروف الاجتماعية والنفسية التي تدفعه إلى قول الشعر، فإذا قال شعرًا لم يكن هناك حجاب زمني أو مكاني يستر عنهم ما يرمي إليه في هذا الشعر من غرض ومعنى، أو ما يطل عليهم فيه من إيحاء ومبنى، ومن ثم ندر أن يحتاج الشاعر بينهم إلى شرح شعره، ومن هذا النادر ما روي عن العجاج أن عمة جده رأت امرأ القيس وهو يشرب طلاء له مع علقمة بن عبدة فسألته عن معنى استغلق عليها في قوله: "كرك لأمين على نابل" من بيته: نطعنهم سُلكي ومهلوجة كرك لأمين على نابل فأجاب: "مررت بنابل وصاحبه يناوله الريش لؤامًا وظهارًا، فما رأيت اسرع منه ولا أحسن فشبهت به".

ومن ذلك أيضًا ما أورده ابن قتيبة عن الرياش عن رواته أن عبيدًا رواية الأعشى سأل الأعشي عن معنى استغلق عليه في قصيدته "رحلت سمية غدوة اجمالها" وهو قوله: ومُدامة مما تعتق بابل كدم الذبيح سلبتها جريالها فأجابه: "شربتها حمراء وبلتها بيضاء". والأمثلة في الحاجة إلى شرح الشعر تعد ضئيلة في عصر ما قبل الإسلام، ذلك لأن الناس لم يكونوا في عوز من ذلك، بل إن النساء في هذا العصر - ناهيك عن الرجال - كن يفهمن الشعر ويدلين فيه برأي، فابن قتيبة يحدثنا عن أن امرأ القيس وعلقمة بن عبدة احتكما إلى أم جندب زوج امرئ القيس فقالت لهما: قولا شعرًا تصفان فيه الخيل على روي واحد وقافية واحدة فقال امرؤ القيس: خليلي مُرا بي على أم جُندب لنقضي حاجات الفؤاد المعذب وقال علقمة: ذهبت من الهجران في كل مذهب ولم يك حقًا كل هذا التجنب ثم أنشداها جميعًا فقالت لامرئ القيس: علقمة أشعر منك، قال: وكيف ذاك؟ قالت: لأنك قلت: فللسوط ألهوب وللساق درة وللزجر منه وقع أخرج مُهذب فجهدت فرسط بسطوتك ومريته بساقك وقال علقمة: فأدركهن ثانيًا من عنانه ير كمر الرائح المُتحلب

فأدرك طريدته وهو ثان من عنان فرسه، لم يضر بسوط ولا مراه بساق ولا زجره. هكذا كان الحال في شرح الشعر، يتمثل في شرح كلمة أو صورة طريفة أبدع فيها الشاعر فأتى بجديد غير مألوف. فلما جاء الإسلام كانت الحاجة إلى شرح الشعر مثل سابقتها لم تتجاوز في مطلبها سوى تفسير كلمة أو وقوف على خبر يتصل بالشعر ذاته أو قائله، ومن ذلك ما روي عن - النبي صلى الله عليه وسلم- أنه سمع في يوم بدر عدي بن أبي الزعباء وهو يرتجز: أنا عدي والسحل أمشي بها مشي الفحل فلما انجلت الغزوة بانتصار المسلمين ناداه الرسول الكريم وسأله "وما السحل؟ " قال: الدرع، فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم العدي عدي أبي الزغباء". غير أننا يجب أن نسجل هنا أنه منذ أن اكتمل نزول القرآن الكريم والتحام المسلمين به عربًا وغير عرب، احتاج إلى معرفة معاني آياته وتبيان ألفاظه ودلالاتها، وكان في هذا الاحتياج مؤشر ضخم للعناية بالشعر والإفادة منه في تفسير

لغة القرآن ومعانيه، وهذا واضح من قول رأس المفسرين عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - الذي جاء فيه: "إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب، فإن الشعر ديوان العرب"، وكان - رضي الله عنه - عارفًا بالشعر وما يتصل به من أخبار يفسره في دقة متناهية وإحاطة تامة، سأله أعرابي ذات يوم عن ذي الحلم الوارد في بيت المتلمس: لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا وما علم الإنسان إلا ليعلما فأجابه: " ذاك عمرو بن حممة الدوسي، قضى على العرب ثلاثمائة سنة فكبر فألزموه السابع من ولده، فكان معه، فكان الشيخ إذا غفل كانت بينه وبينه أن تقرع العصا حتى يعاوده عقله، وذلك قول المتلمس اليشكري من بكر بن وائل: "لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا". وصحبت هذه العناية الناتجة عن الحاجة إلى فهم القرآن عناية أخرى من القبائل بعد الفتوحات واستقرار بعضها في الأمصار الجديدة، قال ابن سلام: "فلما راجعت العرب رواية الشعر وذكر أيامها ومآثرها استقل بعض العشائر شعر شعرائهم وأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار فقالوا على ألسن شعرائهم". ولا يهمنا هنا ما أثاره ابن سلام من قضية تتصل بوضع الشعر ونحله، ولكن الذي يهمنا أن حركة مراجعة للشعر قد قامت من هذه العشائر، وأنه من الطبيعي أن تصحب هذه المراجعة حركة لشرح الوقائع التي قيل فيها الشعر والأخبار التي تتصل به والشخصيات التي تدور حوله، بل وشرح ألفاظ لغته ومعانيه. ومما لا شك فيه أنه كان في هذه القبائل رجال عالمون بالشعر، مدركون لمعانيه، حافظون لأخباره والوقائع التي قيل فيها، فهذا شيخ رواة البصرة أبو عمرو ابن العلاء يقول عن بيت امرئ القيس الذي مر بنا في موضع سابق:

نطعنهم سلكى ومحلوجة كرك لأمين على نابل "كنت أسمع منذ ثلاثين عامًا هذا البيت، فلم أجد أحدًا يعلمه حتى رأيت أعرابيًا بالبادية فسألته عنه ففسره لي". وفي الأغاني يذكر أبو الفرج أن عبد الملك بن مروان لما دخل الكوفة بعد مقتل مصعب بن الزبير جليس لعرض أحياء القبائل، فلما أقبل عليه وفد جديلة التي تعد عدوان بطنًا منها سأل معبد بن خالد الجدلي عن ذي الاصبع العدواني فأجابه بحديث واف عنه وعن أشعاره فأعجب عبد الملك بإلمامه وعنايته بأخبار قومه، فزاد في عطائه". وبجانب هاتين العنايتين لشرح الشعر اللتين لم تكونا مقصودتين لذاتهما نشأت حركة للشرح في أواخر العصر الأموي وأوائل العصر العباسي، وذلك حين بدأ عصر تسجيل الشعر على أيدي علماء تخصصوا في جمع الشعر وتدوينه، كانوا من رواد مدرستي البصرة والكوفة، يأتي على رأسهم في البصرة أبو عمرو بن العلاء المتوفي سنة 154 هـ، وأبو الخطاب الأخفش المتوفى سنة 177 هـ، وخلف الأحمر المتوفى سنة 180 هـ، ويونس بن حبيب المتوفى سنة 182 هـ. وعلى رأسهم في الكوفة حماد الرواية، المتوفى سنة 151 هـ، والمفضل الضبي المتوفى سنة 171 هـ. وصحيح أن رواية الشعر وتدوينه كانت الغاية لدى هؤلاء العلماء، ولم يكن شرح الشعر من غايتهم، غير أن من المؤكد أن رواية الشعر قد ارتبطت بشرحه، ذلك لأن شرح الشعر كان جزءًا من الرواية مفسرًا ومكملًا. وهذا ما أكده الدكتور أحمد جمال العمري حين أشار إلى أن صلة الشعر برواته لم تنقطع، وكذلك صلة

الشعر بشراحه لم تنقطع أيضًا ثم قال: "كان الشرح في بدايته جزءًا لا يتجزأ من عصب الرواية فلم يكن حتى هذا العهد - عهد هؤلاء العلماء الأوائل - قد استقل فن الشرح ووضحت سماته، وأصبح علمًا قائمًا لذاته له مقوماته خصائصه الفنية والعلمية، وإنما كان الشرح غير مقصود لذاته بل يأتي عرضًا، تأييدًا لرواية، وتسجيلًا لحدث وتوضيحًا لغرض، وتفسيرًا للفظ وكل ذلك في نطاق الرواية الأدبية الخالصة، وكأن هذا الشرح من صميمها وجزء متمم لها لا تستقيم إلا به". ولكن إن كان الشرح غير مقصود لذاته لدى هؤلاء العلماء فإنه بحق قد خطا على أيديهم خطوة أدت إلى توسع في عناصره، فقد رأيناه قبل الإسلام وبعده يقف عند تفسير الألفاظ أو توضيح صورة من صوره، أو إيراد خبر يتصل به، فهو عند هؤلاء لم يقف عند الألفاظ، وإنما تجاوز ذلك إلى مجمل المعنى للبيت، كما برز فيه ذكر مناسبات الشعر التاريخية وأخبار أصحابه، بل تجاوز ذلك كله إلى البحث في عيوبه والحكم على الشعراء والمفاضلة بينهم. والأمثلة على جميع ذلك كثيرة متعددة، ففي تفسير معنى البيت وإيراد مجمل معناه نجد أبا عمرو بن العلاء يقول في بيتي الحارث بن حلزة: إن إخواننا الأراقم يغلو ن علينا وفي قولهم احفاء زعموا أن كل من ضرب العيـ ر موال لنا وأنا الولاء "إن اخواننا يضيفون إلينا أذنب من اذنب إليهم ممن نزل الصحراء وضرب عيرًا، ويجعلونهم موالي لنا". كما نجد المفضل الضبي يقول في بيت شداد بن معاوية العبسي: قتلت شراتكم وحسلت منهم حسيلًا مثل ما حُسل الوبار "الحسيل الرديء، يقول: أنفيت شراركم وقتلت خياركم وأبقيت رذالكم"،

ويقول في بيت شييم بن خويلد الفزاري: إني وحصنا كذي الأنف المقول له ما منك أنفكن ان اغضضته الجلبا "أي لا أستغني أنا عن حصن كما لا يستغني عن الأنف". وفي مناسبات الشعر وأخبار الشعراء المتصلة به نجد أمثلة مختلفة في كتاب أمثال العرب للمفضل الضبي، فمن ذلك ما رواه من خبر أبيات لقيط بن زرارة الدالية قال: "كان بين لقيط بن زرارة وبين رجل من أهل بيته يقال له: زيد بن مالك ملاحاة، فعيره زيد بتركه النكاح وقال: إن أكفاء أهل بيتك يرغبون عنك، ومن غيرهم من العرب عنك أرغب، فلما زوجه قبس قال: ألم يأت زيدًا حيث أصبح أنني تزوجتها احدى النساء المواجد عقيلة شيخ لم يكن لينالها سوى عُدسي من زرارة ماجد إذا اتصلت يومًا بنسبتها انتهت إلى آل مسعود بن قيس بن خالد كذلك نجد هؤلاء العلماء يخوضون في تقويم الشعر ويحاولون إبراز أنواع عيوبه، ويفاضلون بين الشعراء، وأحيانًا بين القصائد، فابن سلام يذكر قول يونس أن "عيوب الشعر أربعة: الزحاف والسناد والإيطاء والإكفاء وهو الاقواء، والزحاف أهونها، وهو أن ينقص الجزء من سائر الأجزاء فينكره السامع، ويثقل على اللسان، وهو في ذلك جائز والأجزاء مختلفة، فمنها ما نقصانه أخف، ومنها ما نقصانه أشبع". وابن قتيبة يذكر لنا قول أبي عمرو بن العلاء في نابغة بني ذبيان وبشر بن أبي خازم الأسدي، وقد جاء فيه: "فحلان من الشعراء كانا يقويان، النابغة وبشر بن أبي خازم، فأما النابغة فدخل يثرب فغني بشعره ففطن فلم يعد للاقواء، وأما بشر

فقال له أخوه سوادة: إنك تقوي، قال: ومال الاقواء؟ قال قولك: ألم تر أن طول الدهر يُسلي ويُنسى مثل ما نسيت جذام ثم قلت: وكانوا قومنا فبغوا علينا فسقناهم إلى البلد الشام فلم يعد للاقواء". وأما الحكم على الشعراء والمفاضلة بينهم أو بين قصائدهم فقد ضمت المصادر الكثير من آرائهم في هذا الشأن، فأبو عمرو بن العلاء كان يرى في شعر الأعشي العلو والانحدار، ولذا قال عنه: "مثله مثل البازي يضرب كبير الطير وصغيره" ويرى أن نظيره في الإسلام جرير، ونظير النابغة الأخطل، ونظير زهير الفرزدق". ويسأل خلف الأحمر عن أشعر الناس فيقول: "ما ينتهي إلى واحد يجتمع عليه، كما لا يجتمع على أشجع الناس وأخطب الناس وأجمل الناس، ولكنه مع ذلك كان يعجب بالأعشي ويرى أنه "كان أجمعهم". والمفضل ينقل قول الفرزدق ويعتد به وذلك حين يقول: "امرؤ القيس اشعر الناس"، ويذكر ابن سلام أن أبا عمرو بن العلاء كان يفل خداش بن زهير على لبيد بن ربيعة ويقول في ذلك: "هو أشعر في قريحة الشعر من لبيد، وأبى الناس إلا تقدمه لبيد". وخلف الأحمر الذي وصفه ابن سلام بأنه أفرس الناس ببيت شعر كان يفضل قصيدة مرواه بن أبي حفصة "طرقتك زائرة فحي خيالها" على قصيدة الأعشى "رحلت سمية غدوة أجمالها" وذلك لأن الأعشى قال في قصيدته:

فأصاب حبة قلبها وطحالها والطحال كما يرى خلف "ما دخل في شيء إلا أفسده". وهكذا نرى أن هؤلاء الرواة العلماء الأوائل قد حققوا في عنايتهم بجمع الشعر وروايته وتدوينه عناصر مختلفة تتصل بشرح الشعر ونقده، فكان ما حققوه مرتكزًا صلبًا اعتمد عليه تلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم في المضي بشرح الشعر إلى ميدان أرحب ومجال أوسع مما كان عليه في زمن هؤلاء الأوائل. والحق أن الطبقة الثانية من العلماء من أمثال أبي عبيدة معمر بن المثنى، وعبد الملك الأصمعي، وأبي زيد الأنصاري، وابن الأعرابي، وأبي عمرو الشيباني، وكذلك الطبقة الثالثة من أمثال الرياشي ومحمد بن وأبي حاتم السجستاني وابن السكيت والمازني، قد استطاعت أن تخطو بشرح الشعر خطوات بعيدة شملت مختلف عناصره من رواية ولغة ونحو ونقد، ويمكن أن نحدد عملهم في شرح الشعر في الجوانب التالية: أولها: أن الدارس يلاحظ اعتمادهم على أعمال شيوخهم، ينقلون آراءهم في الشعر وروايته وتفسيره، فأهل الطبقة الثانية ينقلون ما أخذوه عن أساتذتهم من رجال الطبقة الأولى الوراد، وأهل الطبقة الثالثة ينقلون أعمال شيوخهم من الطبقة الثانية ويزيدون عليه ما أخذه هؤلاء الشيوخ عن الطبقة الأولى، غير أن كلا من رجال الطبقتين الثانية والثالثة كانوا لا يقفون عند حد النقل فقط، بل كانوا يدلون برأيهم في أقوال شيوخهم ويسدون ما فاتهم من نقص، سواء كان ذلك في رواية الشعر أو تفسيره أو نقده، والأمثلة على ذلك كثيرة. ففي مجال الرواية نجد على سبيل المثال أن أبا عمرو بن العلاء كان يروي من قصيدة زهير التي مطلعها "صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله" سبعة وثلاثين بيتًا، فجاء كل من الأصمعي وأبي عبيدة فأضافا إلى روايته سبعة أبيات، والأصمعي أخذ من شيوخه في الرواية أبيات امرئ القيس الأربعة التي يقول في أولها:

ألا إن لا تكن إبل فمعزى كأن قرون جلتها العصي ورواها حسب رواية الطوسي عنه، ولكنه كان ينكر نسبتها إلى امرئ القيس ويقول: "امرؤ القيس ملك ولا أراه يقول هذا"، وبيت امرئ القيس الذي يقول فيه: تأوبني دائي القديم فغلسا أحاذر أن يرتد دائي فأنكسا وهي رواية أبي عمرو، جاء أبو زيد وقال عنها: "هذا تصحيف لأن المتأوب لا يكون مغلسًا في حال واحدة لأن غلس إنما هو أتى في آخر الليل، وتأوب جاء في آخر النهار وإنما هو" فعلسا "أي اشتد وبرح". هذا في مجال الرواية، أما في مجال تفسير اللغة، فقد رأينا للتلاميذ إضافات على الشيوخ، بل وخلافات لما فسروه، فأبو عمرو بن العلاء فسر لفظة "أخذ" الواردة في بيت طرفة: وأروع نباض أحذ مُلملم كمرادة صخر في صفيح مُصمد قال: "الأحذ هو الخفيف" فجاء ابن الأعرابي فقال: "هو الذكي الخفيف". وكان الأصمعي كثير الاعتداد بشيخة أبي عمرو بن العلاء، يحتج به في الرواية، ويجعل من لغة خطابه مجالًا في الاحتجاج، وذلك في مصل بيت لبيد الوارد في طويلته وروايته الشائعة هي: تجتاف أصلًا قالصًا متنبذًا بعجوب أنقاء يميل هيامها نجد الأصمعي يرويه "تجتاف آصل قالص متبدد" ويقول: "سمعت أبا عمرو بن العلاء وقد اشترى غرسًا فقال للذي اشتراه: أريد منك عشرة آصل، يريد جماعة

أصل وآصل كما تقول: حبل وأحبل، ولكنه مع ذلك كان يخالفه في تفسير الشعر حين يرى أنه قد جانب الصواب. ففي بيت أوس بن حجر: لعمرك ما ضيعتها غير أنها أتتني فواري عرية فالمجلل كان أبو عمرو بن العلاء قد قال في تفسير عرية بعيدة يقول: جاءت من بعد والمجلل اسم رجل، فجاء الأصمعي وخالفه فقال: عريها ما عري منها لسنة، والمجلل ما ألبس جلًا". وكما اعتمد علماء الطبقة الثانية على شيوخهم من علماء الطبقة الأولى وأفادوا من علمهم في الرواية وتفسر الشعر، اعتمد علماء الطبقة الثالثة على أساتذتهم من علماء الطبقة الثانية، فابن السكيت وأبو حاتم السجستاني والرياشي كثيرًا ما كانوا يعتمدون على الأصمعي في تفسير اللغة والشعر والرواية، ولكنهم كانوا مثل أساتذتهم يضيفون ويناقشون ويخالفون ما أخذوه عن سابقيهم. وثاني هذه الجوانب أنه إذا كان علماء الطبقة الثانية ومن بعدهم تلاميذهم قد حققوا في شرح الشعر خطوات واسعة، فإنهم أيضًا قد اتصفوا في هذا الشأن بشيء من التخصص، وذلك لأن كل واحد منهم كانت له اهتمامات خاصة في ناحية من نواحي علم الشعر، فمنهم من كان يميل إلى الغريب ويقصر عليه جل اهتمامه، وذلك مثل الأصمعي، ومنهم من كان يهتم بقضايا النحو ومشكلاته مثل الأخفش، أو من كان يستغرق جهده في الأخبار والأيام والأنساب مثل أبي عبيدة معمر بن المثنى، ولم يكن فيهم من كان يعالج النص معالجة أدبية أو يشرحه شرحًا أدبيًا لأنهم كانوا يجعلون من النص مجالًا لخدمة العلوم المختلفة من لغة ونحو وأخبار وأيا وأنساب، وهذا ما عناه بجلاء أبو عثمان الجاحط المتوفى سنة 256 هـ حين قال: "طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يحسن إلا غريبة، فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يحسن إلا إعرابه فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا ينقل إلا ما

اتصل بالأخبار وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب كالحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك الزيات". وهذا الكلام الذي قاله الجاحظ وأثنى عليه الصاحب بن عباد فيما بعد يمكن أن نلحظ غايته في كلام جرى بين أحمد بن يحيى البلاذري وابن الأعرابي أحد علماء الطبقة الثانية فقد قال أحمد بن يحيى: "قرأت على ابن الأعرابي شعر الأعشى، فما بلغت قوله: لا تشكي إلى من ألم النسـ ـع ولا من حفى ولا من كلال نقب الخف للسرى ... قال ابن الأعرابي: "نقب الخف للسرى"، فقلتك أصلحك الله إن تضمين بيتين عيب في الشعر شديد أفيضمن الأعشى مع حذفه وتقدمه ثلاثة أبيات فيقول: لا تشتكي إلى من ألم النسـ ع ولا من حفى ولا من كلال نفب الخف للسر وترى الأنسـ ـاع من كل ساعة وارتحال أثرت في جناجن كإران الـ ميت عولين فوق عوج طوال فقال ابن الأعرابي، أنت شاعر، فقلت: شاعر كاتب، فقال: منهما علمت، اروه كما رويت نقب الخف". وفي إدراكنا أن في هذا النص وما سبق من كلام الجاحظ ما يدل على قيام جماعة من الأدباء باتجاه مغاير في شرح الشعر لما سار عليه علماء الطبقة الأولى والثانية وتلاميذهم، وهو اتجاه يمكن أن نسميه بالشرح الأدبي الذي يعالج المعاني ومقاصد الشاعر فيها، ويجعل جل هم في هذا المدار لا يتجاوزه إلى اللغة وما فيها من اشتقاقات أو النحو وما يثار فيه من مشكلات، ولعل أوضح مثل لذلك ما نجده عند

أبي أحمد العسكري، وهو أديب كاتب، في شرحه لبتي نابغة بني ذبيان في قصيدته المسماة بالمتجردة وهما: تجلو بقادمتي حمامة أيكة بردًا أسف لثاته بالإثمد كالأقحوان غداة غب سمائه جفت أعاليه وأسفله ند فقد قال: أراد تجلو بشفتيها إذا تكلمت أو ضحكت، وشبه شفتيها بقادمتي حمامة لرقتها و"أسف لثاته بالاثمد" كانوا يجعلون الكحل في أصول الأسنان ليشرق السواد مع البياض، وكان ذلك مما يستحسنونه، ولا سيما إذا كانت اللثة بيضاء غير حمراء، فكرهوا أن تكون اللثة بيضاء كالأسنان فغيروها بذلك، ثم قال "كالأقحوان" رجع إلى وصف الثغر، فوصفه بالأقحوان لبياض نوره وطيبه "جفت أعاليه وأسفله ند" شبهه بالأقحوان في هذه الحال، وذلك أن الأقحوان إذا كان في غب مطر، ولم تطلع عليه الشمس، فهو ملتف مجتمع غير منبسط، وكذلك كل الأنوار يكره أن يشبه الثغر به في هذه الحال، فيكون كالمتراكب بعضه على بعض، فشبهه بالأقحوان إذا أصابته الشمس فقال: "جفت أعاليه" يريد انبسطت وذهب تجعدها، وقال: "وأسفله ند" فاحترز من أن يكون جف وذوي كله". فواضح من هذا الشرح أن صاحبه يجعل ابراز المعاني همه ويبين مقصد الشاعر في كل معنى صاغه، وينظر إلى الواقع الذي عاشه الشاعر، وصوره كما رآه، وهو بهذا شرح يعد أدبيًا بحتًا، يبعد عن الإغراق في اللغة وجزئياتها والنحو وقضاياه. وثالث هذه الجوانب في شرح الشعر وتطوره أنه كان قد بدأ عند علماء الطبقة الأولى والثانية وتلاميذهم ذا مقصد تثقيفي، ثم تحول عند الاجيال التي تلت هؤلاء وقبيل بدء شروح الحماسة من مقصده هذا إلى مقصد تعليمي، وبذلك توسعت دائرته كثيرًا فأصبح يدل على شيء غير قليل من التعمق في دراسة اللغة وتحليلها تحليلًا يشمل جميع أجزائها، مع مناقشة معانيها المختلفة في تعابيرها المختلفة، وكذلك دراسة مستقصية للنحو ومشكلاته، وطرح آراء العلماء فيه ومناقشتها من خلال

النظرة المذهبية التي تتحكم في مسار الشارح. هذا فضلًا عن شرحهم للمعاني وما فيها من تأويلات قال بها من سبقهم من العلماء أو تأويلات مبتدعة اجتهدوا فيها، محاولين في كل ذلك أن يدعموا ما يرونه في المعاني وتأويلاتها بالقرآن الكريم أو الحديث الشريف أو المثل السائر أو الشعر الموروث، ومن ثم بدأنا نرى أن شرح البيت الواحد قد صار يضم مادة وفيرة من العلم في فروعه المختلفة. هذه الجوانب الثلاثة هي أهم ما يخرج به الباحث في تتبعه لشرح الشعر وتطوره عند العلماء الأوائل ومن جاء بعدهم، ولا شك أن شروح الحماسة عندما ظهرت إلى الوجود كانت متأثرة بجميع ما طرأ على شرح الشعر بعامة لأن هؤلاء الشراح الذين تصدوا لشرح متن حماسة أبي تمام لم يكونوا بمعزل عن حركة شرح الشعر وتطوره، فكما كانت أجيال العلماء التي توالت بعد الجيل الأول جيل أبي عمرو بن العلاء وحماد الرواية تتأثر بأساتذتها وتنقل آراءهم وتضيف إليها ما يتحقق باجتهادها، كان شراح حماسة أبي تمام متأثرين بما سمعوه من شيوخهم في دروس النحو واللغة والرواية والنقد، ينقلون أقوالهم وأقوال سابقيهم في تسليم حينًا ومناقشة أحيانًا أخرى، وسوف نرى من خلال الفصول التالية كيف أن هؤلاء الذين تصدوا لشرح حماسة أبي تمام قد شغلوا حيزًا غير قليل من شروحهم بآراء السابقين من أمثال الأصمعي وأبي عبيدة وابن الأعرابي والأخفش والرياشي والمازني وغيرهم من علماء الطبقة الثانية والثالثة. كذلك يمكن أن نلحظ أن الشراح الحماسة قد كانوا مثل الشيوخ السابقين حيث انصب اهتمام بعضهم في ناحية من النواحي التي تشكل عناصر شرح الشعر، فمنهم من اهتم بالغريب ومناقشته كأبي العلاء المعري، ومنهم من قصر جهده على النحو وعويصاته كأبي الفتح ابن جني، ومنهم من وقف عند الأخبار كأبي رياش، ومنهم من توخي المعاني لا يتجاوزها كأبي عبد الله النمري، ثم كان منهم من حاول أن يجمع بين هذه العناصر جميعًا في تفاوت واضح مثل أبي علي المرزوقي. ومن الملاحظ أيضًا أن هؤلاء الشراح الذين تصدوا لشرح الحماسة قد ساروا في طريق التحول الذي رأيناه عند شراح الشعر بعامة، وهو التحول الذي لاحظناه في

نقل شرح الشعر من مقصده التثقيفي إلى مقصده التعليمي، ومن ثم كانت مناهج شراح الحماسة في جملتها مناهج تعليمية تشمل دروس النحو واللغة والبلاغة والنقد والأخبار والأيام والأنساب، على تفاوت في جميع ذلك، وهو تفاوت ينجم في المقام الأول عند مقدرة الشارح وحذقه في عنصر من هذه العناصر. وفوق ما وضحناه يمكن القول بأن الثقافة المكونة لشرح الشعر وفهمه ونقده حين بدأت شروح الحماسة قد توسعت كثيرًا، ففي النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وهو الزمن الذي نرجحه لبدء شروح الحماسة كانت أعمال العلماء قد تعددت عبر أجيال عدة، وهي أعمال شملت الكثير من علوم العربية من لغة ونحو وبلاغة ورواية وأخبار تاريخية، وكان من الطبيعي أن تسهم هذه الأعمال المتشبعة في علو ثقافة هؤلاء الشراح وارتقائها، كما أن هذه الثقافة ظلت تنمو وتتطور في خلال تواتر شروح الحماسة، وتتابعها عبر القرون الرابع والخامس والسادس، وقد أعان هذا على التطور الملحوظ الذي برز بجلاء عند بعض هؤلاء الشراح. تلك هي حركة شرح الشعر وتطوره حتى ظهور شروح حماسة ابي تمام، حاولنا أن نعرض لها في إيجاز وتركيز ممهدين بذلك لما نعقده من فصول تمثل صلب هذا البحث وموضوعه، متوخين من ذلك أن نؤكد أن شروح الحماسة تعد جزءًا من شرح الشعر عامة، فهي صورة منه، وممثلة له، بل إن جل الذين تصدوا لشرح ديوان الحماسة لم يكتفوا بما شرحوه منها، وإنما أسهموا إسهامات طيبة في شرح كثير من الدواوين والمختارات سواء في ذلك دواوين شعر الجاهلية والإسلام ومختاراتهما أو دواوين الشعر في العصور التي تلتهما. ولما كان عملنا مقصورًا على شروح الحماسة إلى نهاية القرن السادس الهجري، فإن هذا يقتضي أن نعطي صورة عامة عن هذه الشروح منذ أن بدأت وإلى عصرنا هذا الحديث، حتى نقف على مدى الجهود التي بذلت من قبل العلماء في خدمة هذا الاختيار الفذ الذي خلفه أبو تمام. كما ينبغي أن نوضح ما يتصل بعملنا من هذه الشروح، وهذا بطبيعة الحال لا يتضح إلا من خلال ثبت نقدمه لهذه الشروح، وذلك على النحو التالي:

2 - في ثبت شروح الحماسة وما يتصل بدراستنا منها. ما أن وقف العلماء على حماسة أبي تمام حتى أدركوا قيمة ما اختاره من أشعار العرب فيها، ومن ثم بدأت رحلة شروحها منذ ذلك العهد وحتى عصرنا هذا الحديث. وليس تحت أيدينا ما يدل على سنة معينة لبدء هذه الرحلة، ولا أول شارح كان له فضل السبق بشرف الاضطلاع بتفسير معاني الحماسة، ذلك لأن أول عالم بلغنا خبره في صناعة شرح للحماسة هو أبو محمد القاسم بن محمد الديمرتي المتوفى سنة 287 هـ. غير أني وجدت في مقدمة مختصر "معاني أبيات الحماسة" لأبي عبد الله الحسين بن علي النمري المتوفى سنة 385 هـ ما نصه: "ونظرت في الكتاب المعروف بالعارض في الحماسة المنسوب إلى الديمرتي، وهو كتاب شرط فيه تفسير ما يعرض من لفظ ومعنى، فخبط خبط عشواء فيها متبعًا ومبتدعًا، وقد ذكرت طرفًا من خطئه وصوابه"، فقوله: "متبعًا" يدل على أن هناك من سبق الديمرتي في شرح الحماسة ولكن لم يصل إلينا خبر عنه، وعلى هذا فإن أقدم من وصل إلينا أنه شرح الحماسة هو القاسم الديمرتي، وهذا بخلاف ما ذكره البغدادي في خزانة الأدب أن أول من شرح الحماسة هو أبو عبد الله النمري، وكذلك بخلاف ما تصوره عبد السلام هارون وعبد الله عبد الرحيم عسيلان أن أول شارح لها هو أبو رياش أحمد بن إبراهيم أستاذ النمري المتوفى سنة 339 هـ. وكان كل من عبد السلام هارون وعبد الله عسيلان قد أوردا ثبتًا لشروح الحماسة، وضعنا في مقدمته شرحن أبي رياش، غير أننا - والأمر كما أوضحت نضع شرح الديمرتي في مقدمة هذه الشروح باعتباره أقدم شرح وصل إلينا خبره، مع غلبة ظننا التي تذهب إلى أن هناك من سبقه في هذا الشأن.

ولقد اعتمد عبد السلام هارون في ثبته الذي أورده على ما أورده صاحب كشف الظنون من شروح للحماسة وأضاف إليه ما وقف عليه من شروح لم ترد في كشف الظنون وكذلك فعل عبد الله عسيلان حيث اعتمد فيما أورده على ثبت عبد السلام هارون في مقدمة شرح المرزوقي، وأضاف إليه ما وقف عليه من شروح فات على عبد السلام هارون ذكرها، ولقد وقفنا على ثبتيهما لهذه الشروح وعرضناهما على ما وقفنا عليه من شروح في الكتب والمصادر، فاتضح لنا أنه - مع الجهد الطيب الذي قاما به في هذا الشأن - فقد فاتهما جملة من الشروح، كما أن هناك بعض الأوهام التي وقع فيها عبد الله عسيلان في شأن هذه الشروح لزم التنبيه عليها من خلال هذا الثبت الذي نورده كالآتي: (1) أبو محمد القاسم بن محمد الديمرتي الأصفهاني المتوفى سنة 287 هـ، وشرحه يسمى العارض، ولم يهتد إليه حتى الآن، وقد أفاد منه النمري كما ذكرنا، وأفاد منه زيد بن علي الفارسي في الشرح الذي رجحنا نسبته إليه، ونقل منه في مواضع مختلفة، كما أشارت إليه بعض المراجع التي ترجمت للديمرتي. (2) أبو بكر محمد بن يحي الصولي المتوفى سنة 335 هـ، وهو الذي جمع ديوان أبي تمام، وشرحه مفقود لا يعرف مكانه سوى ما دلت عليه المراجع. (3) أبو رياش أحمد بن إبراهيم الشيباني المتوفى سنة 339 هـ، وشرحه أيضًا لم يهتد إليه، غير أن أبا عبد الله الحسين النمري قد ذكر في مقدمة شرحه أنه يعول

عليه في "معاني أبيات الحماسة"، كما نجد من شرحه نقولات متعددة في مواضع مختلفة من شرح الخطيب التبريزي، وكذلك الحل في خزانة الأدب للبغدادي وبنى عليه أبو العلاء شرحه الذي صنعه لمصطنع الدولة وسماه "الرياشي المصطنعى". (4) أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي المتوفى سنة 370 هـ، وشرحه لم يصل إلينا، وقد أفادت عنه بعض المراجع التي ترجمته له. (5) أبو عبد الله الحسين بن علي النمري البصري المتوفي سنة 385 هـ وشرحه يسمى "معاني أبيات الحماسة" وقد وضع أبو محمد الأعرابي الغندجاني رسالة في نقد هذا الشرح، سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى، ويوجد لهذا الشرح مختصر بعنوان "كتاب معاني أبيات الحماسة" صنعه لنفسه رجل يدعى أحمد بن بكر بن أحمد، وهو مخطوط كما أشرنا من قبل، وقد ذهب الدكتور عبد الله عسيلان إلى أن هذا المختصر هو شرح النمري الذي لم يهتد إليه حتى الآن، قال في بحثه: "وقد يسر الله لي العثور على هذا الكتاب النفيس خلال رحلتي العلمية إلى تركيا وبريطانيا بحثًا عن مخطوطات الحماسة وشروحها، وكان المعتقد أن هذا الكتاب من الكتب المفقودة التي نقرأ أسماءها في تراجم العلماء وفهارس الكتب دون أن يكون لها أثر". ونحن نقول بعد أن قرأنا هذا الكتاب إنه ليس بشرح النمري وإن شرح النمري لا

يزال مفقودًا، يدل على ذلك أن أبا محمد الأعرابي قد تناول في رسالته "إصلاح ما غلظ فيه أبو عبدالله النمري" الأخطاء التي رأى أن النمري قد وقع فيها وقد ناقشه في شرح أول بيت في الحماسة وهو: لو كنت من مازن لم تستبح ابلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيابنا وهو لأحد شعراء بلعنبر في رأس قطعة يبلغ عدد أبياتها ثمانية، وليس في هذا المختصر شرح هذا البيت بل ليس فيه سوى شرح البيت الثاني من القطعة كلها، وغير ذلك كثير مما خطأه فيه أبو محمد الأعرابي، وليس في هذا المختصر، الذي نعتقد أنه قد صنعه من الشرح الأصل أحمد بن بكر بن أحمد الحاكم، إذ جاء في أول ورقة فيه "كتاب معاني أبيات الحماسة لأحمد بن بكر بن أحمد الحاكم متعه الله به". وقد تعمد الدكتور عسيلان إغفال هذا لينسب إلى نفسه وبأسلوب دعائي كشفًا لا يقوم على شيء، والذي يرجع إلى نقولات التبريزي في شرحه والبغدادي في خزانة الأدب من شرح أبي عبد الله النمري، ويوازن بينها وبين هذا المختصر يدرك تمامًا أن هذا الذي زعمه الدكتور عسيلان ليس بصحيح، والمختصر - كما رأيناه - يضم 87 بيتًا من باب الحماسة و 14 بيتًا من باب الأدب و 37 بيتًا من باب المراثي و 23 بيتًا من باب النسيب و 19 بيتًا من باب الهجاء و 33 بيتًا من باب الملح، وبيتًا واحدًا من كل من بابي الصفات والسير والنعاس، وبيتين من باب الملح، وبيتًا واحدًا من باب مذمة النساء، ولا أدري لماذا اتجه الدكتور عسيلان ببحثه هذه الوجهة، وهو يعلم أن المعلومات عن المخطوطات ينبغي أن تكون صحيحة، إذ ليس من المتيسر أن يقف عليها كل الباحثين، وفي هذه الحال يأخذون ما ذكره مأخذ الصدق ويعتمدونه في أعمالهم هذا فضلًا عن أن هذا المختصر قد حققه ودرسه الدكتور علي شارك أرخين، ونال به درجة الدكتوراة عام 1973 من كلية اللغة والتاريخ والجغرافية بجامعة انقرة بتركيا، وتوجد مخطوطة دراسته بمكتبة الكلية السالفة الذكر، وقد أغفل أيضًا الدكتور عسيلان ذكر هذا، مع علمي من مسؤولي المكتبة بوقوفه على هذه الدراسة.

(6) أبو الفتح عثمان بن جني المتوفى سنة 392 هـ، وجهوده في شرح الحماسة تتمثل في كتابين أحدهما: المبهج في شرح أسماء شعراء الحماسة، وقد طبع في دمشق سنة 1348 هـ، والآخر كتاب "التنبيه على شرح مشكلات الحماسة" وتوجد منه نسخة كتبت سنة 682 هـ بدار الكتب المصرية تحت رقم 44 أدب في 205 ورقة، ونسخة أخرى كتبت سنة 594 هـ في 252 ورقة، وتوجد في معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة صورتان لهما الأولى تحت رقم 156 أدب، والثانية تحت رقم 157، وقد حققت هذا الشرح ودرسته يسرى قاسم، ونالت به درجة الماجستير من جامعة القاهرة عام 1971 م، وتوجد مخطوطة دراستها بمكتبة كلية الآداب بالجيزة. (7) أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري، المتوفى سنة 395 هـ، وجهوده في الحماسة تتمثل في عملين احدهما شرحه للحماسة الذي لا يعرف مكانه، وقد أفاد منه التبريزي في مواضع متعددة من شرحه، والآخر رسالة صنعها وضبط فيها مواضع من الحماسة، وقد ورد في مقدمتها قوله: "مربي في نسخة الحماسة بخط بعض أجلاء الشيوخ، وذكر أنه قرأها على أبي بكر الخياط وأبي الحسين المهرباني مواضع لم تضبط حق الضبط، ولم تجر على سنن العدل فرأيت الإبانة عن مواقع الزلل منها لئلا أنسب إلى الخطأ إذا رويت خلافها". (8) أبو الحسين أحمد بن فارس المتوفى سنة 395 هـ، وتوجد نسخة من شرحه مصدرة بعنوان "الجزء الأول من كتاب الحماسة اختيار أبي تمام حبيب بن أوس الطائي وتفسير الشيخ أبي الحسين أحمد بن فارس - رحمه الله - وقد تناول

الدكتور عسيلان هذا الشرح فأنكر نسبته لابن فارس، واعتمد في ذلك على ثلاثة أدلة أحدها أن هذا الكتاب يشير إلى أن صاحبة قد اطلع على شرح المرزوقي في حين أن المرزوقي توفى سنة 421 هـ، وابن فارس توفى سنة 395، والثاني أن ابن فارس كان يهون من شأن الحماسة وصاحبها، والثالث أن الذين ترجموا لابن فارس لم يذكروا بين مصنفاته شرحًا لحماسة أبي تمام، ولم نجد أحدًا من شراح الحماسة أشار إلى شيء من ذلك حتى صاحب كشف الظنون لم يذكر شرحًا لابن فارس في الثبت الذي أورده لشروح الحماسة. وفي هذه الأدلة نظر لأن المرزوقي كان منافسًا للصاحب بن عباد في بلاط بني بويه، وكان المرزوقي وقتها مؤدبًا لأبناء بويه، ذكر السيوطي في بعية الوعاة "أن الصاحب بن عبد دخل على المروزوقي يومًا فلم يقم له، فلما أفضت الوزارة إلى الصاحب جفاه"، ومعروف أن الصاحب توفي سنة 385 هـ، وأنه تولى الوزارة سنة 366 هـ، وظل بها حتى سنة وفاته. وإذا كان المرزوقي عالمًا له مكانته ومنافسًا للصاحب عباد، ومؤدبًا لأبناء بويه فمن المرجح أن يكون قد صنع شرحه لغاية تعليمية، وذلك حوالي هذا الزمن، ربما قبل تولي الصاحب الوزارة وربما إبانها، وعلى هذا فليس ببعيد أن يكون ابن فارس قد رأى شرحه وأفاد منه وإن سبق المرزوقي في الوفاة، يدع هذا أن كلا الرجلين المرزوقي وابن فارس كانا من فارس وفي عصر واحد، وهو عصر عرف بذيوع الكتاب وانتشاره. يقول الدكتور جمال العمري عن عصر المرزوقي: "وما أظننا نغالي إذا قلنا إن الكتب في هذا العصر كانت تنافس الشيوخ خاصة بعد أن ضعف القوم - علماء وغير علماء - على الرواية، وصارت الرواية الشفوية مستحيلة، والأخذ عن العلماء يستوجب التسجيل والتدوين لسهولة الرجوع إلى ما كتب وسجل. لهذا زاد اهتمام الناس بالكتب وتركز اهتمامهم

على التسجيل". وإذا كان هذا حال الكتب في عصر المرزوقي وابن فارس، فليس ببعيد أن ينتقل شرح المرزوقي حال فراغه منه إلى الري حيث يعيش ابن فارس، وأن يقرأه ابن فارس ويفيد منه ما دام يدخل في دائرة اهتمامه. وكان ابن فارس امامًا في اللغة، وكان ديوان الحماسة مشغل علماء اللغة منذ ابن جني إلى عصر العكبري وما تلاه. وأما أن ابن فارس كان يهون من شأن الحماسة وصاحبها فلا أظن أن الأمر كذلك، ولقد استنبط الدكتور عسيلان هذا الحكم من رسالة كان ابن فارس قد أرسلها إلى محمد بن سعيد الكاتب، حين أنكر على أبي الحسن محمد بن علي العجلي تأليفه كتابًا في الحماسة بعد حماسة أبي تمام، وهو في رأيي استنباط غير سليم لأن الرسالة ليست تهوينًا من شأن الحماسة وأبي تمام بقدر ما هي اعتراض على إعجاب مفرط صدر من محمد بن سعيد الكاتب بحماسة أبي تمام وإنكاره على الآخرين التأليف في الاختيار الشعري على نحو أبي تمام، وابن فارس يريد من صاحبه ألا يغالي هذه المغالاة. ومن ثم يصبح من المجحف حقًا حين نقرأ الرسالة أن نقول: إن ابن فارس كان يهون من شأن أبي تمام وحماسته. أما أن الذين ترجموا لابن فارس لم يذكروا له شرحًا في الحماسة، فما أكثر الكتب التي لم يوردها أصحاب التراجم لمن ترجموا لهم. وربما كان إهمالهم لذكر شرح ابن فارس ناتجًا عن أنه لم تكن له أهمية تذكر. وقد أكد هذا الدكتور عسيلان نفسه حين وصفه بأنه مجرد تعليقات على الحماسة. وأما أن صاحب كشف الظنون لم يذكره في ثبته فليس هو الشرح الوحيد الذي غفل عنه صاحب كشف الظنون، فهو قد أورد 22 شرحًا فقط، وفاتت عليه جملة من الشروح ذكرتها المراجع الأخرى مثل شرح النمري وأبي العلاء والطبرسي وسبط بن الجوزي وغيرهم ممن لا يوجد لهم ذكر في ثبت حاجي خليفة، ولو وقف الدكتور عسيلان على الورقة (93) من مخطوطة الشرح نسبته لزيد بن علي الفارسي لما أنكر أن لابن فارس شرحًا في الحماسة،

ففي هامش هذه الورقة من الشرح المذكور، الذي زعم أنه قد درسه، نقل عن ابن فارس في رواية بيت اياس بن الارت: وحان فراق من أخ لك صالح وكان كثير الشر للخير توأما فقد رواه ابن فارس "وكان كنين الشر". (9) أبو أحمد عبد السلام بن الحسين بن طيفور البصري، اللغوي المتوفى سنة 405 هـ وشرحه من الشروح المفقودة. (10) أبو المظفر محمد بن آدم الهروي النحوي المتوفي سنة 414 هـ، وشرحه مفقود. (11) أبو سعيد علي بن محمد الكاتب، المتوفى سنة 414 هـ، وسمي شرحه "منثور البهائي" صنعه لبهاء الدولة بن بويه، وهو مفقود كذلك. (12) أو عبد الله محمد بن عبد الله الكاتب الاسكافي، المتوفى سنة 421 هـ، وشرحه مفقود. (13) أبو علي بن محمد المرزوقي، المتوفى سنة 421 هـ، وشرحه مطبوع في أربعة أجزاء بتحقيق أحمد أمين وعبد السلام هارون، وطبعته لجنة التأليف والترجمة والنشر. (14) أبو الفتوح ثابت بن محمد الجرجاني، المتوفى سنة 431 هـ، وتوجد من شرحه نسخة في مكتبة الاسكوريال بمدريد تحت رقم 289، ومنه نسخة مصورة

بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة تحت رقم 517 أدب. (15) أبو الندى محمد بن أحمد العندجاني، وتاريخ وفاته مجهول، غير أن أبا محمد الأعرابي المتوفى سنة 436 نقل عنه بالسماع كثيرًا في كتبه "إصلاح ما غلط فيه أبو عبدالله النمري". (16) أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد، المعروف بأبي محمد العرابي العندجاني الأسود، المتوفى سنة 436 هـ، وشرح يتمثل في الرد على بعض ما فسره أبو عبد الله الحسين بن علي النمري وهو بعنوان "إصلاح ما غلط فيه أبو عبد الله النمري" كما أسفلنا، وتوجد نسخة منه في دار الكتب المصرية تحت رقم 80 أدب، وأخرى بخط الشنقيطي تحت رقم 1481، ومن هذه النسخة نسخة مصورة في معهد المخطوطات العربية بالقاهرة تحت رقم 33 أدب. (17) أبو علي الحسن بن أحمد الاستراباذي، وتاريخ وفاته مجهول، وقد أخطأ حاجي خليفة حين ذكر أن وفاته كانت في سنة 717 هـ، وليس هذا بصحيح لأن ياقوتًا ترجم له في معجم الأدباء، وياقوت توفي سنة 626 هـ، وورد ذكره في شرح زيد بن علي المتوفى سنة 467 هـ، والمرجح أنه كان من علماء أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الهجري.

(18) أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري، والمتوفى سنة 449 هـ، وشرحه يسمى "الرياشي المصطنعي" ذكر ياقوت أنه عمله لرجل يقال له مصطنع الدولة، وأنه يقع في أربعين كراسة، وقد بناه على شرح أبي رياض المتقدم ذكره، وهو شرح مفقود أفاد منه تلميذه التبريزي في مواضع كثيرة من شرحه المطبوع، وفي دار الكتب المصرية مخطوطة لشرح منسوب بالخطأ لأبي العلاء المعري تحت رقم 308 أدب، ومنه نسخة مصورة بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة تحت رقم 156 أدب، وقد قمنا بدراسة هذا الشرح فاتضح لنا أنه ليس لأبي العلاء، وذلك لأسباب أولها ان نسبة هذا الشرح، وقعت عن طريق الوهم من مالك الكتاب الذي أورد عنوانه في الورقة الأولى هكذا: "كتاب الحماسة لملك الشعراء أبي تمام حبيب بن أوس الطائي وشرحها لأبي العلاء أحمد بن سليمان التنوخي سامحهما الله، ملكه بالشراء الشرعي الفقير محمد بن محمد بن داود القدسي الشافعي من مدينة قسطنطينية في سنة 989"، وتبع ذلك تعريف لأبي تمام وأبي العلاء والخطيب التبريزي الذي روى الكتاب عن أبي العلاء على حد زعم مالك الشرح محمد بن محمد بن داود، وهذه التعريفات نقلها ابن داود هذا من تاريخ بغداد للبغدادي ووفيات الأعيان لابن خلكان، وبعد هذه التعريفات يأتي الشرح، وهو بخط مغاير لخط ابن داود مالك الكتاب، وجاء في خاتمته "تمت الحماسة بحمد الله ومنه وحسن توفيقه، واجتهد في نقلا وضبطها بحسب الجهد والطاقة، وكذلك في مقابلتها، وفرغ منه في سابع عشر صفر سنة أربع وخمسين وستمائة، والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد النبي وأهله الطاهرين وسلامه" والذي يقف على الشرح يجد الفرق واضحًا بين خط ابن داود مالك الكتاب الذي نسب الشرح إلى أبي العلاء، وبين ناسخ الشرح الذي فرغ من نسخه سنة 654 هـ، وذلك من خلال رسم الحروف وطريقة الكتابة. وثاني هذه الأسباب أن التبريزي في شرحه المطبوع نقل نقولات كثيرة عن شيخه أبي العلاء وقد ضاهينا هذه النقولات بهذا الشرح، فلم نجد لها أثرًا. وثالثها أن صاحب هذا الشرح ينقل عن أبي منصور الجواليقي، والجواليقي،

كما ورد في ابناه الرواة ووفيات الأعيان، ولد سنة 466، وتوفي سنة 539 هـ أي ولد بعد وفاة أبي العلاء (449) بسبع عشرة سنة. ورابعها أن في هذا الشرح جملة من الأخطاء لا يمكن لعالم جليل مثل أبي العلاء - ليس مثله في فهم الشعر واللغة - أن يقع فيها، ففي شرح تأبط شرًا الوارد في الحماسة الذي يقول: بيت بمغنى الوحش حتى ألفنه ويصبح لا يحمي لها الدهر مرتعا قال في شرحه: "أي لا يكون بالليل في الموضع الذي يبيت فيه الوحش، ولا يحمي لا يكف الأذى عن الوحش" وهذا شرح لا يخفي ضعفه وتهافته، وأبو العلاء فوق هذا الضعف والتهافت. وبناء على ما ذكرنا نظن أن هذا الشرح لأحد تلاميذ المدرسة النظامية الذين درسوا على أبي منصور الجواليقي في القرن السادس. هذا وقد نفى الدكتور عبد الله عسيلان نسبة هذا الشرح لبعض ما أوردناه، وقد وهم كل من بروكلمان وأحمد جمال العمري حين ظنا أن هذا الشرح لأبي العلاء، وكان وهم العمري فادحًا حين كان يشير إلى هذا الشرح في هوامشه، وهو ينقل كلامًا لأبي العلاء أورده التبريزي في شرحه، ولا يوجد هذا الكلام في نسخه الميكروفيلم التي أشار إليها. الأمر الذي يؤكد أنه لم يقرأ النسخة ولا وقف عليها. (19) أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيدة، اللغوي المشهور، المتوفى سنة 458، وهو شرح كبير في ستة أجزاء سماه الأنيق، ولا يعرف مكانه.

(20) أبو القاسم زيد بن علي الفارسي الفسوي، المتوفى سنة 467 هـ، وقد قمنا بتحقيق شرحه ودراسته في الكتاب الثاني من هذا البحث. (21) أبو الفضل عبد الله بن أحمد الميكالي، المتوفى سنة 475 هـ، وشرحه أيضًا مفقود لم يصل إلينا. (22) أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن الحسين الشاماتي، المتوفى سنة 457 هـ، وشرحه أيضًا مفقود. (23) أبو حكيم عبد الله بن حكيم الخيري، المتوفى سنة 476 هـ، وشرحه كذلك مفقود. (24) أبو الحجاج يوسف بن سليمان، المعروف بالأعلم الشنتمري، المتوفى سنة 476 هـ، وهو في الواقع ليس شرحًا لحماسة أبي تمام، ولكنه شرح لحماية صنعها هو وضم فيها مختارات من حماسة أبي تمام، وأضاف إليها من الحماسات الأخرى ثم

شرحها، وقد أسمى هذا الشرح، "تحلي غرر المعاني". وتوجد منه نسختان مخطوطتان بالمكتبة الأحمدية بتونس، الأولى تحت رقم 453 وتقع في 174 ورقة، والثانية تحت رقم 4537 وتقع في 156 ورقة، وكلتاهما مصورتان في معهد المخطوطات بالقاهرة الأولى تحت رقم 622، الثاني تحت رقم 642، وقد حقق هذا الشرح ودرسه الدكتور هاشم الشريف ونال به درجة الدكتوراة من جامعة لندن، وتوجد مخطوطة دراسته بمكتبة الجامعة المذكورة. (25) أبو الحسن علي بن محمد بن البياري، وتاريخ وفاته مجهول غير أنه من علماء القرن الخامس الهجري لأن الباخرزي المتوفى سنة 467 هـ قد ترجم له في دمية القصر وعصرة أهل العصر، ويوجد الجزء الأول من شرحه في مكتبة دبلن بانجلترا تحت رق 3870، وتوجد نسخة منه بدار الكتب المصرية بالقاهرة، مصورة بالتصوير الشمسي في 375 لوحة، وتحت رقم 7409 أدب، كما توجد صورة أخرى تحت رقم 16831 ز، وقد وهم الدكتور عبدالله عسيلان حين ذكر أن شرحه مفقود ودرسه على هذا الأساس. (26) أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي، المتوفى سنة 502 هـ، وقد شرح الحماسة ثلاثة شروح: صغير ومتوسط وكبير، والشرح المتوسط طبع عدة طبعات، وهو المتداول بين الناس، أما الشرح الصغير والشرح الكبير فالظن أنهما مفقودان، وفي دار الكتب المصرية يوجد جزء من شرح منسوب إلى التبريزي تحت رقم 1195 أدب، وقد ظن عبد السلام هارون أنه جزء من شرحه الصغير فحدث بذلك، ولا أظن هذا الشرح من عمل التبريزي، إذ ليس فيه ما يؤكد نسبته إلى التبريزي سوى هوامش مأخوذة من شرحه المتوسط يشار فيها إلى اسمه، والذي

ينظر في هذا الشرح ويقابله بالشرح المتوسط لا يحس بالتقاء في الشرحين، وهذا مما يرجح عدم نسبته إلى التبريزي. (27) أبو نصر منصور بن مسلم الحلبي، المعروف بابن الدميك المتوفى سنة 510 هـ، وشرحه بعنوان "تتمة ما قصر فيه ابن جني في شرح أبيات الحماسة"، وهو مفقود لا يعرف مكانه. (28) فخر الزمان أبو المحاسن مسعود بن علي بن أحمد بن العباس الصواني الباجي البيهقي، المتوفى سنة 544 هـ، وشرحه كذلك مفقود. (29) أبو علي الفضل بن الحسين الطبرسي أمين الدين المتوفى سنة 548 هـ، وشرحه بعنوان "الباهر في الحماسة" وهو موجود، توجد نسخة منه بمكتبة فيض الله بتركيا التي ادرجت ضمن مكتبة مللت بتركيا تحت رقم 1462، ومن هذه النسخة نسخة مصورة محفوظة بمعهد المخطوطات بالقاهرة تحت رقم 77 أدب، وتوجد نسخة أخرى من هذا الشرح بالمكتبة الظاهرية في دمشق تحت رقم 1425. (30) أبو الرضا ضياء الدين فضل الله بن علي الراوندي المتوفى بعد سنة 549 هـ، وشرحه موجود، توجد نسخة منه في المتخف البريطاني بلندن تحت رقم 1663.

(31) أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري، المتوفى سنة 537 هـ وشرحه مفقود. (32) عبد الله بن إبراهيم الشيرازي المتوفى سنة 584 هـ، وشرحه أيضًا مفقود. (33) أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن ملكون الحضرمي الاشبيلي المتوفى سنة 584 هـ وكتابه بعنوان "إيضاح المنهج في الجمع بين كتابي التنبيه والمبهج لأبي الفتح عثمان بن جني"، وتوجد نسخة منه بمكتبة الاسكوريال بمدريد تحت رقم 312 وهي بقلم أندلسي في 125 ورقة منها نسخة مصورة بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة تحت رقم 1051. (34) علي بن الحسن بن عنتر بن ثابت المعروف بشميم الحلي، المتوفى سنة 601 هـ، وشرحه يسمى "الماسة في شرح الحماسة" وهو مفقود. (35) أبو البقاء عبد الله الحسين العكبري المتوفى سنة 616 هـ، وشرحه بعنوان "إعراب الحماسة" وهو موجود، توجد منه نسخة في مكتبة كوبريلي بتركيا تحت

رقم 1307 ونسخة أخرى في مكتبة السليمانية باستانبول تحت رقم 934. (36) يحي بن حميد بن ظافر بن النجار بن علي بن عبد الله المعروف بابن أبي طي المتوفى سنة 630 هـ، وشرحه مفقود. (37) أبو علي عمر بن محمد بن محمد الاشبيلي الأزدي، المعروف بالشلوبيني المتوفى سنة 645 هـ، وشرحه كذلك مفقود. (38) يوسف بن قزاوغلي، المعروف بسبط بن الجوزي، المتوفى سنة 654، وشرحه يسمى "مقتضى السياسة في شرح نكت الحماسة" وهو موجود، توجد نسخة منه في المتحف البريطاني بلندن تحت رقم 1108 و 3741، وتوجد نسخة أخر كتبت بخط المؤلف في مكتبة جامعة استانبول بتركيا تحت رقم 778، ومن هذه النسخة نسخة مصورة بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة تحت رقم 710 أدب. (39) على بن مؤمن بن محمد بن علي، العلامة ابن عصفور الحضرمي الإشبيلي المتوفى سنة 696 قال صاحب الفوات إنه شرح ديوان المتنبي والأِشعار الستة وشرح الحماسة، وهذه الشروح لم يكملفها. (40) محمد بن قاسم بم محمد بن زاكور المغربي، المتوفى سنة 1120 هـ، وشرحه بعنوان "النفاسة في شرح الحماسة" وتوجد منه نسختان بالمكتبة الأحمدية خزانة جامع الزيتونة بتونس إحداهما في 166 ورقة تحت رقم 4535 أدب، والأخرى في 48 ورقة وتحت رقم 4504 أدب، وتوجد نسخة أخرى للنفاسة في

المكتبة الظاهرية بدمشق تحت رقم 8689، منها نسخة مصورة محفوظة بمركز جهاد الليبيين بطرابلس الغرب. (41) بهاء الدين عبد القادر بن لقمان، وقد سمى شرحه "الرصافة القادرية" وطبع بالهند سنة 1299، وآخره تفسير لبعض الكلمات اللغوية باللغة الانجليزية ومن هذا الشرح نسخة بالمكتبة الأزهرية بالقاهرة. (42) سيد بن علي المرصفي، أحد شيوخ الأزهر الشريف في مطلع هذا القرن العشرين، وقد طبع الجزء الأول من شرحه سنة 1330 هـ 1912 م، وقد رتب الشعر فيه ترتيبًا يختلف عن المألوف الذي درج عليه شراح الحماسة، حيث رتب الشعراء فيه بحسب أزمانهم بادئًا بالجاهليين فالإسلاميين فالأمويين فالعباسيين. (43) شرح منسوب لمحمد سعيد الرافعي، قال عبد السلام هارون: إنه للشيخ إبراهيم الدلجموني، وقد طبع هذا الشرح عدة طبعات بالقاهرة. (44) الشيخ الإمام محمد الطاهر بن عاشور، وشرحه مخطوط بالمكتبة العاشورية بتونس، وقد ذكر هذا الشرح البشير العريبي في بحث بعنوان "ثقافة الشيخ ابن عاشور من خلال تفسيره" وأشار فيه إلى الثبت الذي أعده الحبيب شيبوب لمؤلفات الشيخ محمد الطاهر، وفيه شرح ديوان الحماسة للشيخ. هذه هي الشروح التي وقفنا عليها في المراجع والمكتبات، وقد سبق أن ذكرنا أن

ثبتها عند صاحب كشف الظنون يبلغ 22 شرحًا، وهي في ثبت عبد السلام هارون تبلغ ثلاثين شرحًا، وفي ثبت عبد الله عبد الرحيم عسيلان بلغت خمسة وثلاثين شرحًا، وبهذا نكون قد استدركنا على ما ذكروه تسعة شروح لم ترد عندهم، ولا أظن أن ما أوردته هو كل ما صنع من شروح في الحماسة فلا شك في أن جملة من الشروح لم نقف على ذكرها بعد فنحن لا نستطيع أن نتصور أن سنوات القرون الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر مرت دون أن يتصدى فيها عالم لحماسة أبي تمام بالشرح، ولعل قابل الأيام يكشف لنا عن أمر جديد في هذا الشأن. شروح مجهولة: وبجانب هذه الشروح الموجودة منها والمفقودة توجد شروح مجهولة النسبة لأصحابها، وهي حسب ما وقفنا عليه أو وقع تحت أيدينا أربعة شروح هي: (1) شرح لمجهول ذكره بروكلمان وأفاد بأن نسخته موجودة في مكتبة ميونخ بألمانيا تحت رقم 889. (2) ورأيت في مكتبة السليمانية بتركيا شرحًا آخر لمجهول تحت رقم 1814 "لاه لي" عدد أوراقه 156 ورقة في كل ورقة 14 سطرًا، وهو بخط واضح مقروء، ولكنه ليس بكامل إذ ينتهي بباب المراثي، وقال صاحبه في آخره: "تم باب المراثي من كتاب الحماسة ويتلوه المجلد الثاني باب الأدب"، ولقد وجدت صاحب هذا الشرح ينقل من المرزوقي والتبريزي والواحدي المتوفى سنة 468، كما ينقل كثيرًا من ضياء الدين بن الأثير صاحب كتاب المثل السائر، المتوفى سنة 637 هـ، وبعض هذا النقل بالسماع مما يدل على أنه كان تلميذًا له، ومن ثم فإن صاحب هذا الشرح من علماء القرن السابع الهجري. (3) ويوجد أيضًا بالسليمانية شرح آخر مجهول المؤلف تحت رقم 2776، يقع في 97 ورقة، في كل ورقة 19 سطرًا، والخط فيه واضح، وهو جزء من شرح لأنه يبدأ

من قطعة يزيد بن الحكم التي هي رقم 39 من باب الأدب، وينتهي في قطعة زياد الأعجم التي هي رقم 68 من باب الهجاء. وصاحبه ينقل عن أبي رياش وابن جني وأبي العلاء، مما يدل على أنه من علماء القرن الخامس أو السادس الهجريين. (4) وثمة شرح ثالث رأيته بالسليمانية لمجهول تحت رقم 2775 "أسعد أفندي" وهو يكاد يكون تامًا، ليس فيه نقص سوى جزء من مقدمته، التي يوجد بعضها، ويتكلم صاحب الشرح فيها عن مكانة الشعر من النثر، وقلة البلغاء وكثرة الشعراء، ويعدد الأسباب والعوامل لذلك، ويبدو فيها أنه متأثر بما أورده المرزوقي في المقدمة الأدبية لشرحه. والشرح يقع في 217 ورقة، في كل ورقة 26 سطرًا، والخط في النسخة دقيق ولكنه جيد، وصاحب هذا الشرح من علماء القرن الثاني عشر لأني وجدت في خاتمة الشرح عبارة تقول: "تم الشرح على الحماسة بعون الله تعالى سنة 1135، ربيع الأول". إن ما يهمنا من هذه الشروح التي أوردناها في هذا الثبت هو الشروح التي صدرت إلى نهاية القرن السادس الهجري، وهي الفترة التي حددناها لهذه الدراسة، ومن وقوفنا على الشروح التي صدرت في هذه الفترة، ومن خلال المعلومات التي طرحناها في هذا الثبت يتبين لنا أن شروح الفترة التي يتناولها البحث تتدرج تحت ثلاثة أنواع. شروح مفقودة لا يعرف عنها شيء سوى معلومات ضئيلة دلت عليها المراجع التي توفرت لدينا، وشروح وصلت إلينا، منها شرحان مطبوعان هما شرح الإمام المرزوقي وشرح الخطيب التبريزي، وبقيتها لا تزال مخطوطة جمعناها من مكتبة مختلفة، وشروح ثالثة لم تصل إلينا غير أننا وجدنا نقولات كثيرة منه في الشروح المطبوعة والمخطوطة التي وصلت إلينا، وهي منقولات تسمح بالعمل فيها. فأما النوع الأول من هذه الشروح فلا حيلة لنا فيه، وأما النوعان الثاني والثالث

فهما يشكلان مدار الدراسة في هذا البحث، ويتكونان من خمسة عشر شرحًا هي على النحو التالي: (1) شرح أبي رياش الذي نقل منه التبريزي كثيرًا، ونقل منه زيد بن علي ي مواضع مختلفة من شرحه واعتمد عليه النمري في شرحه الذي وصل إلينا مختصر عنه. (2) شرح أبي عبدالله الحسين النمري الذي وصل إلينا مختصر منه على نحو ما أوضحنا في هذا الثبت. (3) كتابا أبي الفتح بن جني، التنبيه على شرح مشكلات الحماسة، والمبهج في شرح أسماء شعراء الحماسة. (4) شرح أبي هلال العسكري، الذي تقل منه التبريزي كثيرًا، فضلًا عن رسالته التي وصلت إلينا مخطوطة والت ضبط فيها مواضع من ديوان الحماسة. (5) شرح ابن فارس، وقد وصل منه الجزء الأول فقط، وهو كاف للدلالة على طريقة الشرح وما تقوم عليه من عناصر. (6) شرح أبي علي المرزوقين وهو من أهم الشروح التي يقوم عليها العبء الأكبر في هذه الدراسة. (7) شرح أبي الفتوح الجرجاني الذي وصل إلينا مخطوطًا بين أيدينا. (8) شرح أبي العلاء المعري، وهو لم يصل إلينا ولكن تلميذه الخطيب التبريزي نقل منه نقولات متعددة كافية للدراسة وإبراز عمل أبي العلاء في شرح الشعر. (9) شرح أبي القاسم زيد بن علي الفارسي الفسوي، وهو الشرح الذي حققناه في الشق الثاني من هذا البحث. (10) شرح الأعلم الشمنتري في النصوص التي اختارها من حماسة أبي تمام. (11) كتاب "إصلاح ما غلط فيه أبو عبد الله النمري" لأبي محمد الأعرابي الغندجاني، وهو مخطوط بين أيدينا.

(12) شرح أبي الحسن البياري الذي وصل إلينا مخطوطًا، فضلًا عن أن الطبرسي والرواندي نقلا منه نقولات متعددة في شرحيهما الوارد ذكرهما. (13) شرح الخطيب للتبريزي وهو يضاهي شرح المرزوقي في كونه يقوم عليه عبء الدراسة بل يفوقه في ذلك، لنقولاته المتعددة، من الشروح التي لم تصل إلينا. (14) شرح أمين الدين الطبرسي، وهو من الشروح المخطوطة بين أيدينا. (15) وأخيرًا شرح أبي الرضا الرواندي الذي هو أيضًا لا يزال مخطوطًا، ولكنه بين أيدينا. (16) الشرح المنسوب خطأ إلى أبي العلاء وصاحبه من علماء القرن السادس. ولقد أبعدنا من هذه الدراسة كتاب "إيضاح المنهج" بالرغم من حصولنا على مخطوطته لأنه وإن كان يدخل في الفترة التي حددناها لهذه الدراسة فإن عمله لا يعد ذا قيمة إذ جمع فيه بين كتابي التنبيه والمبهج لأبي الفتح بن جني اللذين يدخلان في دائرة عملنا. كما أن الجمع بين هذين الكتابين في كتاب واحد يعد خطأ في حد ذاته، على نحو ما سنوضحه في موضع آت إن شاء الله. وهذه الشروح التي يدور حولها البحث تأتي ستة منها في القرن الرابع الهجري هي شروح أبي رياش، وأبي عبد الله النمري، وأبي الفتح بن جني، وأبي هلال العسكري، وأبي الحسين بن فارس، وأبي علي المرزوقي. وتأتي سبعة منها في القرن الخامس الهجري هي شروح: أبي الفتوح الجرجاني، وأبي محمد الأعرابي، وأبي العلاء المعري، وأبي القاسم الفسوي، والأعلم الشمنتري، وأبي الحسن البياري، والخطيب التبريزي، وأما القرن السادس فمنه ثلاثة شروح هي: شرح أمين الدين الطبرسي، وشرح أبي الرضا الراوندي، والشرح المنسوب خطأ إلى أبي العلاء المعري الذي رجحنا أن صاحبه من شراح القرن السادس الهجري.

القسم الثاني: في المناهج وتطبيقها

القسم الثاني: في المناهج وتطبيقها

الفصل الأول: في مناهج الشراح

الفصل الأول: في مناهج الشراح رأينا فيما سبق أن شرح الشعر بعامة قد تحول من غاية تثقيفية إلى غاية تعليمية هدفها مدّ التلاميذ - من خلال النص المشروح - بمعلومات جمة تتصل بعلوم اللغة والنحو والصرف والبلاغة والرواية والأخبار التاريخية وتفسير الأعلام. ورأينا أيضًا أن شراح الشعر كانوا وثيقي الصلة بما خلفه شيوخهم أو شيوخ شيوخهم من مادة علمية شملت العناصر المختلفة التي يقوم عليها الشرح، ثم رأينا أن هؤلاء الشراح لم يقفوا عند حد النقل من شيوخهم بل كانت لهم جهودهم في الشرح بالإضافة والتعديل والتوجيه أحيانًا، وبالنقد والاعتراض أحيانًا أخرى، وأخيرًا رأينا أن شروح الحماسة عندما بدأت في الظهور تأثرت بكل هذا الذي ذكرناه، كما تحكمت فيها نزعات الشراح المتباينة وقدراتهم المتفاوتة في معالجة عناصر الشرح، كل حسب ميوله وباعه الذي يجعل عنصرًا من عناصر الشرح يطغى على سائر العناصر الأخرى. وطبيعي - والحال كما ذكرنا - أن تختلف مناهج شراح الحماسة وطرائقهم في الشرح وإن كانت في غلبتها ذات غاية واحدة هي تلك الغاية التعليمية التي تحول إليها شراح الشعر كما وضحنا. إن الدكتور أحمد جمال العمري قد حدد في بحثه " شروح الشعر الجاهلي" ثلاثة مناهج متوالية لشراح الشعر الجاهلي أولها المنهج الالتزامي النقلي وقد شرحه بأنه منهج يلتزم فيه صاحبه بآراء السلف وأقوالهم معتمدًا رواياتهم وتفسيراتهم في جميع النواحي، ويقوم أساسًا على السماع والرواية والنقل، يجمع أقوال السابقين على

اختلاف اهتماماتهم ويرصها جنبًا إلى جنب، ما توافق منها وما تعارض، دون المساس بجوهر الأقوال والآراء. كما أنه منهج يقوم على التوثيق ونسب كل قول إلى صاحبه مهما تعددت الأقوال والآراء أو تضاربت أو جانبت الحقيقة والصواب، ما دام صاحب الرأي مذكورًا في صدر كلامه. وثانيها المنهج الإبداعي الفني، وقد حدده بأنه منهج يقوم على دعامات فنية ومقومات أدبية وعلمية تتآزر فيما بينها لتخدم النص الشعري وتضيء جوانبه وتبرز سماته ومعانية في أجمل صورة وعلى أكمل وجه، ويقوم أيضًا على إعمال العقل وكد الفكر واستنطاق النصوص بما فيها وما وراءها، ويستند إلى المحصول الثقافي الواسع في علوم اللغة والأدب، ويظهر في إطار فني بديع يعكس ملكة صاحبه الخلاقة لواعية الذواقة الفاهمة لأغراض الشعر ومراميه، كما يقوم على استغلال امكانات اللغة والتفنن في استخراج مكامن علوم البلاغة لإظهار ما يؤديه من جمال التصوير وروعة التعبير في إطار من حسن العرض وكمال التحليل وجوده التعليل. وبجانب هذا هو منهج يستعرض الروايات ويقارنها ويختار أفضلها وأجودها وأقربه إلى مذهب الشاعر ومقصده، وفوق هذا أنه منهج تظهر فيه ذاتية الشارح وشخصيته وملكته الأدبية وقدرته على بلورة الأفكار وتقديم التصورات الممكنة والمحتملة والجائزة في غلاف من الأسلوب الأدبي المؤثر. وثالثها المنهج الانتخابي التهذيبي التكميلي وهو - كما رآه - منهج يعتمد على جمع الشروح السابقة ثم الانتخاب منها والتنسيق بين العناصر المنتخبة بما يكمل شرحًا من مجموعها يفي بغرضها ويغني عن جمعها لاشتماله على جميع العناصر التفسيرية المتاحة التي يتطلبها القوم، وهو بهذا منهج لا يظهر فيه مجهود عالم واحد بل ينطق بمجهودات علماء كثيرين متعددي المناهج مختلفي العصور، متنوعي التخصصات والاهتمامات، كما أنه منهج يجمع بين التزام الملتزمين وإبداع المبدعين، ويظهر فيه عنصر النقل للتراث الموروث وعنصر النقل لاجتهاد المجتهدين، وهو بجانب ما

ذكرنا منهج تحصيلي لا يدل على تخصص صاحبه، وإنما يدل على سعة ثقافته وكثرة اطلاعه وجمعه، ثم انتخابه وتنسيقه، فهو يجمع من كل علم بطرق، ومن كل فن بلمحة، ومن كل تخصص بنبذة، ويوفق بين الجميع توفيقًا تامًا، وينسق بين أجزاء الشرح بانسجام يشعر بالتكامل والرابط، وهو أيضًا منهج تتعادل فيه عناصر الشرح وتتآزر بحيث لا يطغى عنصر على آخر، وإنما توضع هذه العناصر جنبًا إلى جنب، وفي مستوى واحد يكمل بعضها بعضًا. هذه هي مناهج شراح الشعر الجاهلي، والأسس التي قامت عليها، والصفات التي اتصفت به، حرصنا على أن نوردها كما جاءت في بحث الدكتور العمري ذي المجهود الطيب ولا يعني هذا اننا نوافقه في كل ما جاء فيها، ولكننا أوردناها للاستنارة من جهة، ولندلل من جهة أخرى أنه إذا كان شراح الشعر الجاهلي قد ساروا في أعمالهم وفق هذه المناهج الثلاثة فإن هذه المناهج ليست بالضرورة أن تنطبق على جميع أعمل الشراح في ديوان الحماسة، ذلك لأن الدارس في شرح الحماسة يجب عليه وهو يبحث في مناهج الشراح أن يضع في اعتباره أمورًا عدة أهمها: الغاية التعليمية التي كانت وراء الغلبة المطلقة في شروح الحماسة لا يمكن تجاهله أو التغافل عنه بأية حال من الأحوال، ولقد سبق أن أوضحنا في دراساتنا الممهدة لهذا البحث أنه منذ أن وقع الناس على ديوان الحماسة أصبح قبلة العلماء والمتأدبين، يتخذه العلماء محورًا في الدرس الأدبي، ويتخذه التلاميذ أساسًا في تعلم الأدب، بل أن ديوان الحماسة، بتتبعنا له في مجال الدرس الأدبي، كان المحور الثابت الذي لا يتغير في مختلف العصور حتى عصرنا هذا الحديث. والذي يتتبع أخبار العلماء أصحاب التخصص في اللغة والأدب يجد ديوان الحماسة ماثلًا لدى أغلبهم في عملية الدرس والتعليم، ففي المدرسة النظامية ببغداد

كان الخطيب التبريزي يدرسه لتلاميذه ويجتهد في عمل الشروح له حتى بلغ بها ثلاثة، ودرسه من بعده أبو منصور الجواليقي، ومن بعدهما أبو البركات كمال الدين الأنباري، ودرسه زيد بن علي الفارسي لتلاميذه في حلب ودمشق، وكذلك فعل ذلك سبط ابن الجوزي في القرن السابع الهجري حيث كان يدرسه بدمشق، وفي الأندلس كان لديوان الحماسة وجود في حلقات العلماء والتلاميذ، لاسيما الشلوبيني وابن عصفور، وكلاهما من شراح الحماسة. وفي عصرنا هذا الحديث أخبرنا الدكتور طه حسين بأن ديوان الحماسة كان في مطلع هذا القرن العشرين أحد مقررات الأدب في الأزهر الشريف، وفي تونس مر بنا أن الشيخ محمد الطاهر بن عاشور كان يدرس لتلاميذه في جامع الزيتونة ديوان الحماسة بشرح المرزوقي ثم عدل عن ذلك فاصطنع له شرحًا لا يزال مخطوطًا إلى اليوم. وأخبرني من أثق بكلامه أن كلية غبدون التذكارية عندا أنشئت بالخرطوم في العقد الثاني من هذا القرن كان طلابها يدرسون ديوان الحماسة في مادة بالخرطوم في العقد الثاني من هذا القرن كان طلابها يدرسون ديوان الحماسة في مادة الأدب العربي، بل لماذا أذهب بعيدًا وقد رأيت قبل ربع قرن أستاذنا الدكتور محمد زكي العشماوي - مد الله في عمره - يتخذ من قطع شعرية اختارها من ديوان الحماسة

مجالاً لتدريس مادة "نصوص أدبية" التي كانت مقررة علينا نحن طلاب السنة الأولى في قم اللغة العربية بكلية آداب جامعة القاهرة فرع الخرطوم. من أجل هذا كله كان للغاية التعليمية دور كبير في بلورة مناهج شراح الحماسة وتشكيلها، ومن أجل هذا أيضاً كان على الباحث في شروح الحماسة أن يضع هذه الغاية نصب عينيه، وهو يبحث في مناهج هذه الشروح وبالرغم من أن الدكتور العمري قد نوه بهذه الغاية عندما تحدث عن تطور شرح الشعر الجاهلي عبر أجيال العلماء فانه قد أغفلها حين حدد مناهج الشراح، ولم يضعها في اعتباره حين أورد الصفات التي يتصف بها كل منهج من الناهج السالفة الذكر. ومن أجل ذلك كان تحفظنا على جلة من الصفات التي حددها الدكتور العمري لهذه المناهج لأنها بدت عند التطبيق في شروح الحماسة نظرية بحتة وتحتاج إلى توجيه وبخاصة في منهجي المرزوقي والتبريزي في شرحيهما للحماسة. أضف إلى ذلك أن أول هذه المناهج وهو المنهج الالتزامي النقلي قد كان له حضور بصورة أو بأخرى في جل شروح الحمامة التي وقفنا عليها، حتى عند أصحاب المنهج الإبداعي الفني الذي تبرز فيه ذاتية الشارح وشخصيته بروزًا واضحًا ملموسًا. وأمر ثان ينبغي التنبه له وهو أن هذه المناهج الثلاثة التي حددها الدكتور العمري قامت من أجل خدمة الشعر الجاهلي وديوان الحماسة - الذي هو محور شروحه، بجانب ما ضمه من شعرًا جاهلي - ضم شعرًا إسلاميًا وأمويًا وعباسيًا. وصحيح أن منهج الشارح قد يأخذ - بالغلبة - سمتا واحدًا وهو يشرح قطعًا شعرية مختلفة العصور غير أن اللغة تشكل العبء الأكبر من عمل الشراح، واللفة الشعرية عند الشعراء تختلف من عصر إلى عصر، فهي عند الجاهليين غيرها عند الإسلاميين، وعند الأمويين غيرها عند العباسيين. ثم إن هناك تراثًا ضخما في شرح لغة الشعر يعين الشارح في شرح الشعر الجاهلي وبعض الشعر الإسلامي والأموي، أما بعضه الأخر وشعر بني العباسي فان العب، فيهما يقوم على الشارح وحده وبخاصة حين

نجد بعض شعراء بني أمية وبني العباس يستخدمون في لغتهم الشعرية ألفاظًا غير عربية دفعهم إلى استخدامها التطور الهائل الذي حدث في المجتمع العربي الإسلامي نتيجة للامتزاج الاجتماعي والحضاري والفكري بين العرب وغيرهم من الأجناس الأخرى، وهو امتزاج - بلا شك- قد حقق آثارًا بالغة بالخطورة لا في اللغة الشعرية فحسب بل في موضوعات الشعر ومضامينه وما يقوم عليه من مبان وأشكال. ومن هنا كان عمل الشارح الذي يشرح شعرًا جاهليًا غير عمل الشارح الذي يشرح شعرًا قيل في عصر بني أمية أوع صر بني العباس أو بعبارة أخرى الذي يشرح شعرًا محدثًا، لأن شرح الشعر المحدث لا يتطلب معرفة دقيقة باللغة وأسرارها، والنحو ومشكلاته، والصرف واشتقاقاته، والأخبار التاريخية وعلاقتها بالنص، والبيئة وما فيها من مواضع صامته ومتحركة. إنه يتطلب فوق ذلك الذوق الأدبي العالي والإحساس الرفيع بالجمال الفني، والإلمام التام بأساليب الشعراء وطرائقهم في التعبير، وتوليدهم للمعاني ممن سبقهم، ثم ربط ذلك كله بثقافة عالية تجعل صاحبها يدرك ما طرأ على الناس من جديد حضارة ونشوء فكر، ورقي اجتماع، إلى غير ذلك من الأمور التي كان لها تأثير واضح في ثقافة الشاعر المحدث وأفكاره ووجدانه بل ولغته الشعرية. ومن اجل هذا الاختلاف بين أدوات عمل شارح الشعر الجاهلي من غير رأينا ابن جني، وهو من نعلم في فهلم اللغة وأسرارها والقدرة على شرح الشعر غير المحدث، يقصر قصورًا واضحًا حين شرح ديوان أبى الطيب، المتنبي، قصورًا يجعلنا نصاب الدهشة حين نراه يعجز عن إدراك مراد أبي الطيب في قوله: تَبُلٌّ خَدَّيَّ كُلَّما ابتْسَمَتْ مِنْ مَطَرٍ بَرْقُهُ ثَنَاَيَاَهَا فيفسر هذا المطر بريق الحبيبة الذي يتطاير من فمها إذا ضحكت.

ثم هناك أمر ثالث لابد ان ينظر إليه الدارس لشروح الحماسة الباحث عن مناهج شراحها، وهو النظر إلى متلقي هذه الشروح لأن تلاميذ الشراح- كما اتضح لنا- كانوا متفاوتي القدرات، متبايني الثقافة، متعددي الأهواء والمنازع. منهم من كانت تستهويه قضايا اللغة وأسرارها والنحو ومعضلاته كالخطيب التبريزي الذي حمل على كتفه كتاب التهذيب للأزهري من تبريز إلى المعرة ليقرأه على شيخها أبي العلاء المعري، ويدرس عليه علوم اللغة والأدب فكان مما أخذه عنه شرح الحماسة الذي أصبح معلمًا بارزًا في شروحه فيما بعد. ومنهم الأمراء الذين كانوا يعدون أنفسهم للسيادة والسلطة كأمراء بني بويه الذين كان يؤدبهم الإمام المرزوقي يدرسون عليه الحماسة، ويأخذون منه الثقافة العالية في اللغة والأدب، ومنهم طلاب الأدب المحض لا تشغلهم قضايا اللغة واشتقاقات الصرف وعويصات النحو، والأخبار التاريخية الموغلة في سرد القبائل وأنسابها وأيامها وأمثالها، وإنما حسبهم من هذا كله ما يعينهم على إدراك معاني الشعر ومرامي الشعراء بأقرب سبيل وأسهل تناول. ومنهم طلاب منتظمون في مدارس، يريدون أن يأخذوا من كل علم قدرًا يؤهلهم للحياة، وينير لهم السبيل إلى تحصيل العلم حتى يخلفوا أساتذتهم في حلقات الدرس والتعليم مثل طلاب المدرسة النظامية ببغداد الذين توالت عليهم شروح الحماسة جيًلا بعد جيل. وثمة أمر رابع ينبغي وضعه في الحسبان، وهو أن بعض شراح الحماسة كان ينأي عن سبيل التأليف من اجل الدرس والتعليم إلى سبيل تقويمي نقدي، يقرأ شروح من سبقه في الحماسة أو رواياته لها فيجد فيها- الشروح والروايات- مواطن خلل ونقص، فتدفعه روح العلم والحرص على سلامته وكماله إلى التصدي- بالتأليف-

لهذه المواطن يحاول إصلاحها وضبطها، وذلك على نحو ما نجد عند أبي هلال العسكري في "ضبط مواضع من الحماسة" وأبي محمد الأعرابي في كتابه" إصلاح ما غلط فيه أبو عبد الله النمري" وأبي نصر بن الدميك في كتابه" تتمة ما قصر فيه ابن جني في شرح أبيات الحماسة"، وهو أمر يمكن أن نلاحظ لمحات منه في شروح الشراح الآخرين الذين لم يسلكوا في التأليف هذه السبيل مثل تعرض أبي عبد الله النمري للقسام الديمرتي، والمرزوقي لأبي الفتح بن جني، والتبريزي للمرزوقي. ونحن إذا أدركنا هذه الأمور ثم نظرنا في المناهج الثلاثة التي عرضها الدكتور العمري وصفات كل منهج منها وجدنا أن المنهج الالتزامي النقلي بصفاته تلك لم يتخذ سبيلاً للشرح من قبل شراح الحماسة الذين وصلت إلينا شروحهم، وهذا بطبيعة الحال يرجع إلى أن هذا المنهج كان أول المناهج التي التزمها العلماء في شرح الشعر الجاهلي، ثم توالت بعده مناهج أخرى متأثرة به ولكنها مختلفة عنه، واختلافها هذا كان بتأثير من التطور الذي طرأ على حركة شرح الشعر، وهذا ما أوضحه الدكتور العمري حين تكلم عن تغير موجهات الحياة العلمية والثقافية نتيجة لامتزاج الشعوب والثقافات وتنوع العلوم، والتأثر بالفلسفات والمعارف الوافدة على الفكر العربي الإسلامي. الأمر الذي أدي إلى خروج علماء الأجيال اللاحقة عن الخط التقليدي الذي تمسك به علماء الالتزام والنقل ثم قال" فكان أن انطلق العلماء بلا قيود ولا حدود، تفننوا وأبدعوا واجتهدوا وانتقلوا بحركة الشروح من مرحلة الإبداع والاجتهاد القائم على العقل والدراية". وإذا كنا قد ذهبنا من قبل إلى أن شروح الحماسة قد بدأت تظهر في عقود النصف الثاني من القرن الثالث ولم يصل إلينا شيء منها سوى شروح من القرن الرابع وما تلاه من قرون فان من الطبيعي ألا نجد فيما وصل إلينا من الشروح شرحًا ذا منهج نقلى التزامي لأن مرحلة الالتزام بهذا المنهج كانت قد بدأت تتلاشي، ولم يبق منها

سوى آثار متفاوتة في شروح الشراح. إننا يمكن أن نجد لدى شراح الحماسة منهجين من المناهج التي حددها الدكتور العمري: المنهج الإبداعي الفني، والمنهج التجميعي الانتخابي، غير أننا- ونحن نتكلم عن شروح الحماسة- يجب أن نكون حذرين من تلك الصفات التي أسبغها الدكتور العمري على هذين المنهجين، ذلك لأن الدكتور العمري- كما بدا لنا من بحثه- يشتغل أسلوبًا فضفاضًا يُصَّوُر به الأمور تصويرًا لا تحتمله أو فوق ما تحتمله، وسوف يتضح لنا ذلك من خلال دراستنا لهذين المنهجين وتطبيقهما على شروح الحماسة. ولقد اتضح لنا أن شراح الحماسة- بجانب هذين المنهجين- قد سلكوا مناهج أخرى، فيها شيء من الإبداع وشيء من النقل، ولكنها شكلت مسارًا في الشرح يمكن أن يكون طريقًا تتبع أو منهاجًا يحتذي في شرح الشعر، ومن ثم نستطيع أن نقول إن شراح الحماسة وفق تلك الأمور التي أوضحاها، وفق رؤيتنا لشروحهم ودراستنا لها ذد سلكوا مناهج متعددة بلغت من حيث التقنين والتطبيق خمسة مناهج وهي: 1 - المنهج الأدبي الإبداعي الفني. 2 - المنهج العلمي التخصصي. 3 - المنهج التتبعي التقويمي. 4 - المنهج التجميعي الانتخابي. 5 - المنهج الاختصاري التسهيلي. وسوف نعرض مقومات هذه المناهج وصفاتها وفق رؤيتنا لها في شروح الحماسة رؤية تطبيقية تقوم على القراءة والاستخلاص للمعايير والمقومات لا رؤية نظرية تقوم علي وضع المعايير والمقومات ثم تحاول التطبيق فيعوزها ذلك إلى تغليب القليل على الكثير وتصوير الأمور في غير وضعها الصحيح، ويمكن وفق هذا أن نعرض صفات هذه المناهج الخمسة على النحو التالي:

1 - المنهج الأدبي الإبداعي الفني: هو أحد المناهج التي حددها الدكتور العمري وطبقه على شروح الإمام المرزوقي وبخاصة شرحه للحماسة مركزًا في ذلك على النصوص الشعرية التي هي مدار بحثه، ولقد رأينا فيما سبق مقومات هذا المنهج وصفاته كما عرضها الدكتور العمري، ونحن نتفق معه فيما جاء فيها من حيث هي صفات يمكن أن نجدها في شرح المرزوقي للحماسة، ولكننا نعترض على الأسلوب الذي عرض به هذه الصفات وبخاصة في قوله وهو يحدد مصير هذا المنهج بأنه منهج" يتفنن في استخراج مكامن علوم البلاغة لإظهار ما يؤديه جمال التصوير وروعه التعبير في إطار من حسن العرض وكمال التحليل وجوده التعليل. فالمروزقي- والحق يقال- يعد أكثر الشراح تناولا لعلوم البلاغة في شرحه ولكن تناوله لها لم يكن في درجة واحدة، فهو قد يحلل ويعلل ما يثيره من نواح بلاغية، غير أنه في جانب مقابل كثيرًا ما نراه يعرض هذه النواحي في عبارات موجزة متشابهة لا تتصف بحسن العرض وكمال التحليل وجودة التعليل بل انه في أحيان أخرى نراه يتجاوز إبراز النكات البلاغية في الأبيات التي يشرحها مهتمًا بعناصر أخرى غيرها، وأدل دليل على ذلك أننا حين قمنا بإحصاء لعمله في هذا الخصوص في القطع المائة الأولى من باب الحماسة، ويبلغ عدد أبياتها 442 بيتًا وجدناه قد عالج نواحي مختلفة من البلاغة التي كانت تستدعى الوقوف ولم يقف عندها. وهذا القول لا ينطبق علي القطع المائة الأولى فحسب بل يشمل سائر قطع الاختيار على مختلف أبوابه. انظر على سبيل المثال هذا التصوير الاستعاري الذي جاء في حماسية هلال بن رزين وهو يصور كتيبة كثيفة العدد تطل على أعدائها بالموت الكثير: أَجَادَتْ وَبْلَ مٌدْجِنَةٍ فَدَرَّتْ عَلَيْهِمْ صَوْبَ سَارِيَةٍ دَرُورُ

فَوَلَّوْا تَحْتَ قِطْضِطِهَا سرِاَعًا تَكُبُّهُمُ المَهَنَّدَة الذكّورُ فلا شك أنك تلحظ كيف استغل الشاعر الاستعارة استغلالاً حسنًا في ابراز ما راده من معني، ومع ذلك فان الإمام المرزوقي قد تجاوز الوقوف عند هذا مكتفياً بشرح الألفاظ وعرض الم عني والحديث عن مقابلة صدر البيت الأول وعجزه. إننا لا نريد أن نغمط الرجل حقه، فهو بالرغم مما رأينا منه في هذا الجانب، فإن شرحه- كما قال القفطي- يعد "الغاية في بابه"، ولكننا مع ذلك لا نريد أن نقف عند الجوانب الإيجابية في شرحه دون التعرض إلى الجوانب السلبية فيه، كما لا نريد أن نصور الأمور في غير موضعها الحقيقي أو نضفي عليها أسلوباً بغلب قلتها على كثرتها. وثمة أمر آخر ذهب إليه الدكتور العمري- وهو يطبق هذا المنهج على شرح المرزوقي للحماسة- وهو أنه تكلم عن مسار الشراح في شرح النص الشعري فوضح أنهم يسيرون فيه في مسالك ثلاثة متوالية أولها: شرح الألفاظ الغربية، وثانيها: شرح العبارات المشكلة، وثالثها: توضيح المعني الكلي نتيجة لتوضيح العنصرين السابقين، ثم مضي فقال: فإذا نظرنا إلى شروح الشعر عند المروزقي نجد أن منهجة مغاير لك من سبقوه أو عاصروه. ان أول ما يثير اهتمام المرزوقي هو المعني يريد أن يقدمه أولاً قبل كل شيء. وقال في موضع آخر- والحديث عن المروزوقي: - "المعني هو ديدنه وهو شغله الشاغل وهو كل اهتمامه وكل هدفه، المعني له الصدارة، وله الأولية في الشرح دون أن يطغي عليه أي عامل مساعد آخر" ثم عرض أمثله اقتطعها من شرح الحماسية ليبرهن بها على صحة ما ذهب إليه، موازنًا بين عمل المرزوقي في هذا الجانب وعمل ابن جني في" التنبيه" لينتهي إلى قوله: " فإذا أنعمنا في هذا الشرح- يريد شرح الحماسة- وجدنا أن

المرزوقي ينهج نهجًا عكسيًا يختلف كثيرًا عما ألفناه لدى معظم الشراح ينتهج نهجًا تنازليًا، يبدأ من أعلى إلى أسفل، يبدأ بالكل ويتدرج إلى أن يصل إلى لجزء". فلا شك أن هذه النظرة في منهج الرجل تحتاج إلى توجبه، ذلك- لأنه- كما رأينا في شرحه للحماسة- لم يكن ذا خطوة ثابتة في بدء عملية الشرح بل أن عمله في ذلك لم يكن مطرداً على هذا النحو الذي ذهب إليه الدكتور العمري، ويمكن أن نوضح ذلك في الآتي: أولاً: أن شراح الحماسة جميعًا عدا أصحاب المنهج العلمي التخصصي، الذي سوف نوضحه فيما بعد- كان المعني همهم الأول والأخير، وليس المرزوقي وحده هو الموصوف بهذا، أما كيف يصلون إليه وبأيه طريق فتلك تتحكم فيها طبيعة الشارح ونفسيته واهتماماته، كما تتحكم فيها الغاية التعليمية التي يرمي إليها الشراح ويلجؤون- غالبًا- في تحقيقها إلى التدرج من الجزء إلى الكل أو من البسيط إلى المركب لأنهم رأوا أن هذه السبيل هي الأجدى والأنفع لطلاب المعرفة والتحصيل. ثانيًا: اختلف المرزوقي عن معظم الشراح الذين وقفنا على شروحهم في الحماسة لا لأنه كان يبدأ من الكل إلى الجزء، كما ذهب الدكتور العمري، ولكنه كان أدبيًا ذواقًا للفن الشعري، وهو مع كونه موصوفًا بهذه الصفة التي غلبت عليه في شرحه كان أيضًا عالمًا ملمًا بشتى العلوم التي تتصل بشرح الشعر والتي تثير عقله ووجدانه وتلعب دورًا رئيسيًا في شرحه. وفي إدراكنا أن المرزوقي وهو الأديب الذواقة العالم المتجر في علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد كان عند تعامله مع النص الشعري رهين إحساسه الذاتي، تثيره- وهو يشرح- الخطرة الأولى التي تشع في عقله ووجدانه، حال قراءته للنص، قد تتمثل هذه الخطرة في المعني فيعرضه أولاً، وقد تتمثل في لفظه فيسبق إليها بالشرح والإيضاح وقد تكون هذه الخطرة صورة بلاغية فيسجلها قبل المضي في الشرح، وقد تكون رواية فيبدأ بعرضها ومناقشتها، بل ربما تتمثل الخطرة في غرض الشاعر

ومراميه في الكلام فيعمد إليه أولاً أو في تركيب نحوي فيعرضه قبل إيضاح المعني وشرح الألفاظ، كل هذه العناصر كان المرزوقي يبدأ بها شرحه للنص. ولقد رأيناه بالإحصاء يعالج المائة قطعة الأولى من باب الحماسة، فكانت النتيجة لا تتفق مع ما ذهب إليه الدكتور العمري، فهو قد بدأ بالمعني في ثلاثة وسبعين ومائة بيت، وبشرح الألفاظ في ثلاثة ومائة بيت، وبالنحو في واحد وسبعين بيتًا، وبشرح العبارات الغامضة في ستة وثلاثين بيتًا، وبمناقشة الرواية في تسعة عشر بيتًا. ومن ثم فان مجموع العناصر الأخرى غير المعني قد بلغ ثلاثة وتسعين ومائتي بيت من مجموع قدره اثنان وأربعون وأربعمائة بيت، هذا فضلا عن أنه كان يكتفي بإيراد المعني فقط في جمله من الأبيات التي بدأ فيها بالمعني، دون مناقشة لعنصر من العناصر الأخرى، وربما عالج معه عنصراً أو عنصرين. ثالثًا: إن إبراز عمل المرزوقي في المعني واهتمامه به لا يظهر بالموازنة بينه وبين ابن جني، فالمرزوقي منهجه أدبي إبداعي فني، وابن جني منهجه علمي تخصصي، وشتان ما بين المذهبين في المقومات والصفات على نحو ما سنرى فيما بعد، ولو أن الدكتور العمري قد وازن بين عمل المرزوقي المعني وشارح آخر يسير على منهجه كأبي أحمد العسكري مثًلا لاتضح لنا قيمة عمل المرزوقي في المعاني، ولتبين لنا الصواب أو عدمه فيما ذهب إليه من أقوال. إننا لا نقول بأن المرزوقي لم يهتم بالمعني في شرحه، فالمعني هم كل شارح لهم يسلك سبيل العلم المتخصص ولكنه لم يكن في شرحه بهذا التقنين الذي وضعه فيه الدكتور العمري يبدأ بالمعني متدرجاً منه إلى العبارة ثم إلى الألفاظ أو على حد تعبيره يبدأ بالكل ويتدرج إلى أن يصل إلى الجزء" وإنما كان في ذلك محكومًا بما يثيره النص فيه من اهتمام حال قراءته، فهذه الإثارة هي التي تتحكم في معالجة النص عنده وطريقه سيره في الشرح. ولعلنا من خلال كل ما ذكرناه يتضح لنا أن هذا المنهج" الأدبي الإبداعي الفني" الذي سبق إلى مصطلحه الدكتور العمري يقوم على معايير وصفات نتبع منه، فهو- بلا تزيد وإنشاء- يعد منهجًا أدبيًا لأن صاحبه يجعلنا نحس- ونحن نقرأ شرحه-

بمتعتين: متعة النص الشعري المعالج ومتعة الأسلوب الذي يعرض فيه سرحه، ويعد إبداعياً، لأن الشارح لا يعتمد فيه على النقل والرواية وإنما على العقل والدراية، وان كنا لانعدم لمحات أثر للنقل والرواية في عمل صاحبه، غير انه أثر طفيف لا يمس إبداعه في شيء. وهو منهج فني لأن صاحبه يوظف علوم العربية من لغة ونحو وبلاغة ورواية ونقد لخدمة النصوص التي يعالجها محاولًا أن يبرز من خلال ذلك ثقافتها التي يضطلع بها وذاتية الدالة عليه، كما يستغل مكنته في معالجة عناصر الشرح بصورة تدل على فنية واضحة. 2 - المنهج العلمي التخصصي: أما المنهج العلمي التخصصي فانه يقوم على صفات ومعايير تختلف في غلبتها عن المنهج الأدبي الإبداعي الذي رأيناه، قد يلتقي صاحبه مع أصحاب المنهج الإبداعي في أنه مثلهم يعتمد على عقليته ودرايته أكثر من اعتماده على نقله وروايته، ولكننا لا نعدم عنده من أثر النقل والرواية، فهو من حيث هذا الأثر مثل أصحاب المنهج الإبداعي، ولكنه في درجة أعلى منهم. إن 02 جوهر الاختلاف بين المنهجين يكمن في عدة أمور أحدها: أن أصحاب المنهج العلمي يتعاملون مع النص الشعري وفق اهتمامهم العلمية المحضة، يثيرون من خلاله قضايا اللغة وما فيها من اشتقاقات وتصاريف ومعضلات النحو والإعراب، ولهذا لا يتخذون الأسلوب الأدبي الذي نجده عند أصحاب المنهج الإبداعي الفني، بل يتخذون في قضاياهم اللغوية والنحوية أسلوباً علمياً لا يمس الوجدان ليثير فينا متعة عند قراءته بل يخاطب العقل والعقل وحده. وثانيها: إذا كان أصحاب المنهج الإبداعي يعملون العقل ويكدون الفكر من أجل إبراز أغراض الشعر وما فيه من مضامين وأشكال، فان صاحب هذا المنهج يعمل أيضًا عقله ويكد فكره، ولكن في مجال العلم وحده، يستعرض فيه قوه ذهنه وفكره وقدرته على الاستنباط والتعليل في مجالات علوم اللغة والنحو والصرف وإثارة ما فيها من قضايا ومعضلات. وثالث هذه الأمور أننا رأينا أصحاب المنهج الإبداعي يهتمون

بالرواية، يعالجونها معالجة دقيقة، يفاضلون بينها، يختارون أفصحها أو أبلغها أو أسلمها أو أشهرها أو أوفقها للذوق، ويفحصونها بالنقد والتصويب معتمدين في ذلك على الألفاظ ومدى موافقتها للسياق، أو على المعني ومدي ماله من أهمية وقيمة، أو على الحس الموسيقي إذا كان في الرواية ما يؤدي إلى ضعف في موسيقي الشعر دون ضرورة. أما أصحاب هذا المنهج فإنهم يهتمون بالرواية ولكن ليس من هذه الوجهة التي نجدها عند الإبداعيين، وإنما من وجهة علمية بحتة، ينظرون إليها من خلال اللغة والإعراب، يستعرضونها إعرابها في أوجهها المختلفة أو تفسيرها لغويًا وما يتبع ذلك من تصريف واشتقاق ووزن. ورابع هذه الأمور أنه إذا كان الإبداعيون يهتمون بالمعني كثيرًا، ويبتكرون له أكثر من وجه ويعرضون ذلك في أسلوب أدبي فيه فنيه وجمال يثيران المتعة فان أصحاب هذا المنهج العلمي لا يهتمون بالمعني كثيرًا، وإذا بدر منهم شيء من اهتمام فإنما ينصب على ربطه بالإعراب وفق تصورهم النحوي في شيء من التعليلات النحوية والمنطقية فالمعني عند أصحاب هذا المنهج لا وجود له إلا إذا كان له صلة بالإعراب، فإن لم تكن هذه الصلة تأت شروحهم خالية من إيراده، مكتفين في ذلك بما أثاروه من قضايا نحوية ولغوية، وطبيعي إذا كان هذا دأبهم أن تأتي شروحهم خالية من النواحي البلاغية التي تبرز المعاني وتكشفها، فهم في هذا اعلي النقيض من أصحاب المنهج الإبداعي الذين نحد في شروحهم معالجات متفاوتة للبلاغة وفنونها المختلفة وفق اهتمامهم بالمعاني وتوضيحها. هذه هي معايير المنهج العلمي وصفاته عرضناها من خلال هذه الموازنة بصفات المنهج الإبداعي ومعاييره قصدًا إلى كشفها وإيضاحها، لما للمنهجين من تباين واختلاف. ولعل أظهر شارح من شراح الحماسة يمكن أن ينطبق عليه هذا المنهج بجميع الصفات والمعايير التي أوضحاها هو أبو الفتح عثمان بن جني المتوفى سنة 392 هـ، وذلك في كتابية" التنبيه على شرح مشكلات الحماسة" و"المبهج في شرح أسماء شعراء الحماسة" ويشاركه في هذا المنهج أبو البقاء العكبري المتوفى سنة 616 هـ في كتابه" إعراب الحماسة" غير أنه لا يدخل في الفترة التي حددناها لدراسة

شروح الحماسة ولهذا فإن عملنا في تطبيق هذا المنهج سوف يكون مقصوراً على ابن جني وحده. 3 - المنهج التتبعي التقويمي: وأما المنهج التتبعي التقويمي فهو منهج برز عند علماء القرن الرابع وما تلاه من قرون. ويمكن أن نجد ملامح منه لدي أصحاب المناهج الأخرى. ذلك لأنه يقوم على أعمال السابقين، يتتبع هذه الأعمال، يقف على ما فيها من أخطاء وأوهام يعرضها ويفندها ويبن الوجه الصحيح فيها. ومن ثم فإن أعمال أصحاب هذا المنهج لا تقوم من تلقاء ذاتها، كما هو الحال عند أصحاب المنهجين السابقين، وإنما قيامها في التأليف رهين بأعمال السابقين، وهي بهذا تشكل منهجين مزدوجين: منهج في إنشاء الكتب وتصنيفها، ومنهج في طريقه معالجه هذه الكتب، إذ أن الذي يتتبع شروح الآخرين ليكشف ما فيها من أخطاء، ويصنع في ذلك كتابًا يعد صاحب طريقة في التأليف ثم انه وهو يتتبع هذه الأخطاء ويعالجها يحتاج إلى طريقة أخرى يقوم عليها عمله ومن هنا كانت أعمال هؤلاء مختلفة عن غيرهم من الشراح، ومن هنا كان اتجاهاهم هذا منهجاً قائماً لذاته مع إدراكنا التام بأن عملهم وهو يتتبعون أعمال غيرهم ويقومونها قد يكون متأثراً بالمناهج الأخرى، نجد فيه آثاراً من المنهج النقلي وآثارًا من المنهج الإبداعي، وقد يكون مزيجًا من المنهجين معًا. ولا شك في أن أصحاب هذا المنهج ذوو ثقافة واسعة ملمون بسائر العلوم التي تتصل بشرح الشعر، فهم- كما رأيناهم في أعمال الحماسة- مطلعون على الرواية وما فيها من اختلافات، قادرون على مناقشتها بوسائل مختلفة، وهم بجانب هذا عالمون بالأخبار التاريخية واقفون على أحوال الشعراء والمناسبات التي نظموا فيها شعرهم مستوعبون لوسائل الأداء الشعري، مدركون للغة وأسرارها، مجيدون لكل ما من شأنه أن يعينهم على النقد والتقويم. وإذا علما أن من الذين اتجهوا نحو هذا المنهج عالمين معروفين أحدهما من علماء القرن الرابع هو أبو هلال العسكري المتوفى سنة 395 هـ، والآخر من علماء القرن

الخامس هو أبو محمد الأعرابي الغندجاني المتوفى سنة 436 هـ، أدركنا حقيقة ما ذكرناه من اضطلاع أصحاب هذا المنهج بسائر أصناف العلم التي يحتاج إليها كل من يسلك سبيل هذا المنهج ويتصدى لأعمال غيره من الشراح بالنقد والتقويم، فأبو هلال من خلال مؤلفاته التي وصلت إلينا بعد موسوعة في علوم اللغة والأدب والبلاغة والنقد. وأبو محمد الأعرابي كان علامة نسابه عارفًا بأيام العرب وأشعارها وأحوالها، وكان مثيل شيخه أبي الندي يجوب بوادي العرب ليأخذ منها ما يزيد معرفته في هذه العلوم. إن تطبيقنا لهذا المنهج سوف يكون في عملين لهذين العالمين احدهما" ضبط مواضع من حماسة أبي تمام" لأبي هلال العسكري، والآخر"إصلاح ما غلط فيه أبو عبد الله النمري" لأبي محمد الأعرابي. 4 - المنهج التجميعي الانتخابي التكميلي: وإذا كان المنهج التتبعي التقويمي يقوم على أعمال السابقين من أجل تقويمها ونقدها وتصحيح ما فيها من أخطاء، فان المنهج التجميعي الانتخابي التكميلي يقوم أيضاً على أعمال السابقين ولكن من وجهة أخرى غير النقد والتقويم والتصحيح. أنه المنهج الذي يتجه فيه صاحبه إلى تجميع أعمال السابقين بغية أن ينتخب منها شرحًا يحاول فيه استيفاء جميع عناصر الشرح. ولقد رأينا فيما سبق أن هذا المنهج من المناهج التي حددها الدكتور العمري في شروح الشعر الجاهلي، ورأينا صفاته ومعاييره كما عرضها في بحثه، ولكن إذا كانت تلك رؤيته لمقومات هذا المنهج من خلال شروح الشعر الجاهلي فإن رؤيتنا لها من

خلال شروح الحماسة تتسم ببعض المخالفة فيما ذهب إليه، وبخاصة حين نحاول تطبيق هذا المنهج على الخطيب التبريزي في شرحه للحماسة لا في شروحه للشعر الجاهلي، فالتبريزي وان كان في شرحه للحماسة تجميعياً انتخابياً تكميلياً فان جملة من الأقوال التي عرضها الدكتور العمري لصفات هذا المنهج لا تنطبق عليه بل تبدو- كما أسلفنا- نظرية بحته يصعب تطبيقها عملياً إلا عن طريق تصيد الأمثلة القليلة النادرة التي تخطر بين تضاعف هذا الشرح، فمن الأقوال التي طرحها الدكتور العمري في صفات هذا المنهج" أنه منهج يجمع من كل علم بطرف، ومن كل فن بلمحة، ومن كل تخصص بنبذة، ويوفق بين الجميع توفيقاً تامًا، وينسق بين أجزاء الشرح بانسجام يشعر بالتكامل والترابط" ومنها أيضًا "أنه منهج تتعادل فيه عناصر الشرح وتتآزر بحيث لا يطغى عنصر على آخر، وإنما توضع العناصر كلها جنبًا إلى جنب وفي مستوى واحد يكمل بعضها بعضًا". فهذه الأقوال عندما عرضناها على شرح التبريزي في الحماسة وجدنا أنها تحتاج إلى توجيه وتمحيص، فنحن لا ننكر أن التبريزي قد حاول في شرحه أن يجمع من كل علم بطرف، ومن كل فن بلمحة، ومن كل تخصص بنبذة. أما انه كان يوفق بين الجميع توفيقًا تاماً وينسق بين أجزاء الشرح بانسجام يشعر بالتكامل والترابط، فهذا ما لم نحسه إلا في القليل النادر، ولو كان الأمر كما صوره الدكتور العمري لما رأينا الدكتور أحمد أمين- رحمه الله- يسجل انطباعه عن قراءته لشرح التبريزي فيقول: نحوى لغوي أكثر منه أدبياً وناقداً فكنت أقرأ الشرح أحياناً وأنا متعطش جداً لأفهم معني بيت فلا أجده لأن الشارح انصرف إلى شيء آخر". وهذا الذي أحسه الدكتور احمد أمين وهو يقرأ شرح التبريزي يحسه كل قارئ لهذا الشرح فالتبرزي جماع منتخب ولكن تجميعه وانتخابه لا يبدو فيهما الانسجام والترابط إلا في جوانب قليلة من شرحه، أما في جمهور شرحه فان اللغة والنحو

يطغيان عليه طغيانًا واضحًا، بل انه كثيرًا ما نراه يكتفي في شرح البيت والواحد فقط أو باللغة والنحو غير بالمعني ولا مهتمًا بإيراده وتستطيع ان تجد برهان هذا القول في مواضع كثيرة شملت سائر أجزاء الشرح، وهو - كما رأيناه ورآه عبد السلام هارون- كان في غلبه شرحه عالة على المرزوقي، ومع ذلك كثيرًا ما يسقط المعني الذي أورده المرزوقي مكتفيًا من ذلك بالنحو فقط. انظر مثلاً كيف كان عمله في شرح بيت حفص العلمي الوارد في باب النسيب والذي يقول فيه: فَيَا رَبَّ إِنْ لمَ تَقْضِهَا لي فَلاَتَدَعْ ... قَذُور لَهُمْ وَاقْبِضْ قَذُورَ كَما هِيَا نقل التبريزي من المزروقي هذا القول: " وموضع" كما هيا" نصب على الحال، وما من قوله"كما يجوز أن تكون بمعني الذي، وتكون هي خبرًا لمبتدأ محذوف كأنه قال: كالذي هو هي، ويجوز أن تكون ما كافة الكاف عن عمل الجر ويكون هي في موضع المبتدأ والخبر محذوف والمعني اقبضها كما هي". هذا ما نقله التبريزي عن المرزوقي لم يتصرف فيه بشيء ولم يضف إليه شيئًا، ولكن انظر ماذا قال المروزفي في شرحه قبل أن يورد هذا الكلام في النحو والإعراب قال: " دل بالبيت على ضيق صدره بحاله، وشده ضنه بصاحبته، فدعا ربه أن يقبض قذور إليه إن لم يقدر بينهما مرافأة والتحاماً، ويتوفاها بالموت ليأمن أن يملك أمرها غيره، وهذا يدل على شدة غيره فيه، ومضايقة للناس كافة في شيء يتمناه، ثم يقصر عنه". فهل مثل هذا العمل في الشرح يمكن أن يوصف صاحبه بأنه يوفق بين أجزاء من العلم والفن والتخصص توفيقًا تامًا، وينسق بين أجزاء الشرح بانسجام يشعر بالتكامل والترابط؟ ! كذلك لا نجد عند التطبيق ما يدعم قول الدكتور العمري الذي جاء فيه أن هذا المنهج تتعادل فيه عناصر الشرح، وتتآذر بحيث لا يطغي عنصر على آخر، وإنما

توضع العناصر كلها جنبًا إلى جنب وفي مستوى واحد يكمل بعضها بعضًا "فالتبريزي- كما أشرنا من قبل- كان معلمًا في النظامية يدرس الأدب بها، وكان يدرسه من خلال مختارات شعرية منها المعلقات والمفضليات، ومنها ديوان الحماسة وكانت لدية حصيلة من الشروح جمعها لتكون عدة له في عمله شأن كل معلم في أي زمان يدرس الأدب القديم، كان لديه من شروح المعلقات شرح أبي جعفر النحاس وشرح أبي بكر بن الأنباري فانتخب من هذين الشرحين شرحه للقصائد العشر، وكان لديه من شروح المفضليات شرح الأنباري وشرح المرزوقي فانتخب منهما شرحه للمفضليات. أما في ديوان الحماسة فقد كانت لديه شروح عدة- بدت لنا من شرحه- هي شروح القاسم الديمري وأبي رياش، وأبي بكر الصولي، وأبي عبد الله النمري، وأبي على المرزوقي، أبي هلال العسكري، وأبي العلاء المعري، وأبي القاسم الفسوي، وكان لديه كتاباً التنبيه والمبهج لأبي الفتح بن جني، وكتاب" إصلاح ما غلط فيه أبو عبد الله النمري" لأبي محمد الأعرابي، هذا فضلاً عن سماعاته من الشيوخ وقراءاته في كتب علماء اللغة والنحو أمثال الخليل وسيبويه والمبرد وغيرهم، وكانت عناصر الشرح، كما تبلورت في ذلك الزمن تتمثل في الآتي: (1) شرح أسماء الشعراء. (2) ذكر مناسبة الشعر. (3) تحديد بحر الشعر وضربة وقافيته (4) اختلاف الروايات ومناقشتها واختيار الأجود منه. (5) شرح لغة الشعر وما فيها من تصريف واشتقاق وأوزان. (6) ذكر ما يتصل بالشعر من قضايا الإعراب والنحو. (7) إيراد المعني وما فيه من تأويلات. (8) رواية الأحداث التي تتصل بالنص وما قيل فيها من أشعار وأمثال وأخبار. (9) التعريف بالأعلام الواردة في النص الشعري (10) إيراد اختلافات الشراح في عناصر الشرح وما وجهه بعضهم لبعض من نقد واعتراض. (11) نقد الشعر المختار في الحماسة وإيراد آراء السابقين في هذا الخصوص. (12) معالجة النواحي البلاغية التي اشتمل عليها النص. هذه هي عناصر الشرح كما تبلورت في ذهن التبريزي في ذلك الزمن فماذا يصنع حتى يقدم لتلاميذه شرحًا يشمل جميع هذه العناصر، وهو الرجل ذو المنهج

التجميعي الانتخابي. نظر في الشروح التي أمامه فوجدها كما صورها في مقدمة شرحه حين تكلم عن ديوان الحماسة وشراحة قال: "فمنهم من قصر فيه، ومنهم من عني بكر إعراب مواضع منه دون إيراد المعاني، ومنهم من أورد الأخبار التي تتعلق به وأعرض عن ذكر المعاني، ومنهم من ذكر المعاني دون الأعراب والأخبار. وكان من الطبيعي- والحال كما صوره في هذه الشروح- أن ينتخب ما يوفر لشرحه جميع العناصر السالفة فهي- مجموعة لا منفردة- قد تشتمل على ذلك، فما عليه إذن إلا أن يأخذ من كل شرح ما تقتضيه الحاجة إلى استيفاء هذه العناصر، ثم ينسقها ويرتبها ترتيباً يحق لها التعادل والتآزر بحيث لا يطغي أحدها على الآخر، ويضعها كلها جنبًا إلى جنب وفي مستوى واحد يكمل بعضها بعضًا، هذا ما رمي إليه الدكتور العمري، وما يرمي إليه كل متصور للمنهج التجميعي الانتخابي، ولكن هل حق التبريزي هنا في شرحه للحماسة؟ أننا بعد دراسة مضنية لشرحه ومضاهاة مجهدة لعمله بما جاء في شرح المرزوقي واستخرج جميع ما أخذه منه اكتشفنا الحقيقة الآتية: انه جعل شرح المرزوقي أصلًا لشرحه في جمهور النصوص الشعرية الواردة في ديوان الحماسة، ثم لجأ إلى الشروح الأخرى يحاول أن يكمل منها ما ينقص شرح المرزوقي من عناصر، فأخذ شرح أسماء شعراء الحماسة والأعلام الواردة في الشعر من ابن جني وأبي العلاء وأبي رياش وأبى هلال وأخذ ما يتصل بالنصوص من مناسبات وأخبار وأحداث من أبي رياش وأبي هلال وأبي محمد الأعرابي، وأخذ اللغة والنحو من المرزوقي أولًا ثم من أبي العلاء وابن جني، وأخذ بعض ما أورده النمرى منمعان وبخاصة في المواطن التي كان أبو محمد الأعرابي يعترض عليه فيها، كما اخذ بعض المعاني الأخرى من شرح زيد بن على الفارسي الفسوي، وأخذ في مواضع قليلة بعض ما أورده أبو هلال في نقد الشعر المختار في الحماسة، وسجل لنا بعض اعتراضات المرزوقي على ابن جني مبينًا رأيه في ذلك، كما سجل لنا بعضًا من مناقشات أبي العلاء لأبى رياش وأبي

عبد الله النمرى فضًلا عن ردود أبي محمد الأعرابي على أبي عبد الله النمري، كذلك أخذ أوزان وأَربه وأنواع قوافيه من أبي العلاء، كما أخذ بعض النواحي البلاغية التي أثارها أبو على المرزوقي في شرحه. ولما كان الشراح يعتمدون في شروحهم على نسخ مختلفات لمتن الحماسة، كان من الطبيعي ألا تفي هذه المآخر جميع عناصر الشعر الوارد في متنه الذي اعتمده، إذ أن اختلاف روايات الشراح في متن الحماسة يؤدي إلى أن تكون جملة من أبيات القطعة الواحدة أو جملة من القطع متفاوته في متون هذه الشروح التي جمعها لينتخب منها شرحه، وكان عليه في هذه الحال أن يجتهد في تكمله العناصر، لما لم يجده من شعر في هذه الشروح، ولكنه لم يفعل بل وجدناه في أحيان مختلفة يأتي بالبيت أو البيتين أو الثلاثة دون ادني شرح، ففي متنه- بعد الإحساء والتتبع- ثمانية وتسعون بيتًا بلا شرح جلها مما لم يرد في رواية المرزوقي الذي كان عالة عليه، وكذلك اثنتان وستون قطعة لم تحدد أوزانها وأضربها وقوافيها أغلب ظننا أنها لم ترد في رواية أبي العلاء المعري، أو فات على أبي العلاء توضيح بحورها وأضربها وقوافيها. هذا فصلا عن اكتفائه في كثير من المواضع بشرح لفظه أو لفظتين من البيت الواحد وأحيانًا من البيتين أو الثلاثة. أضف إلى ذلك أنه كثيراً ما ينساق وراء شيخه أبي العلاء باستطراداته في شرح عبارة أو لفظه وردت في أحد الأبيات أو شرح اسم شاعر له قطعة في الحماسة، أو علم ورد في بيت فيها، كما ينساق وراء أبي رياش فيسود العديد من صفحات

شرحه بالحوادث والأخبار التي تتصل بالنص وما يتبع ذلك من أسماء وأشعار وأمثال. وبناء على جميع ما تقدم نرى أن هذه الصفة التي ذكرها الدكتور العمري من صفات المنهج التجميعي الانتخابي لا تنطبق على التبريزي في شرحه للحماسة، ربما تنطبق عليه في شرحه للمعلقات أو المفضليات. أما في لحماسة فيمكن القول بأن ما شرحناه لا ينفي أن التبريزي كان جامعًا لشروح سبقته، وأنه كان يحاول جهده أن يأخذ منها ما يحقق به استيفاء عناصر الشرح في تناسق بينها تارات، وفي عدم منه تارات أخرى، ولا عيب في هذا لأن الرجل انتخب ما وجده في الشروح لخدمة هذه العناصر، ولم يكن مبدعًا ليكمل ما وجده من نقص في مجموعها، كما كانت تتحكم فيه اهتماماته النحوية واللغوية، ويتحكم فيه التأثر الواضح بشيخه أبي العلاء في الاستطرادات المتشعبة، الأمر الذي جعلنا نحس في كثير من الأحيان بعدم تعادل العناصر وتآزرها في شرح النصوص، ومع ذلك فقد كانت للرجل خطوات عملية، ولمحات طيبة، وجوانب مشرقة في تحقيق هذا المنهج تدل على سعة علمه وكثرة قراءاته ودقة صوابه فيما ينتخب، إلى غير ذلك مما سنعرض له عند الحديث عن تطبيق هذه المناهج في شروح الشراح. هذا ما رأيناه في بعض الصفات التي أوردها الدكتور العمري لتحديد معايير هذا المنهج، ويمكن ان نضيف إليه ملاحظة وردت في قوله: "ان هذا المنهج لا يظهر علم الشارح ولا سمة تخصصه ولا تتحدد طبيعة فهمه أو عمق فكره"، فهذا القول لا ينطبق أيضًا على جميع عمل التبريزي في شرحه للحماسة، لأنه وان بدا في بعض الأحيان مختفي العلم والتخصص، مستترًا في فهمه وعمق فكره وراء نقولاته المتتالية من شروح غيره فإنه في أحيان أخرى يظهر علمه وتتضح سمات تخصصه

وتتحدد طبيعة فهمه وعمق فكره، والأمثلة على ذلك متعددة وافرة سوف نعرضها عند التطبيق. إن الشيء الوحيد الذي يختفي في شرحه هو الإبداع ولكنه قد عوض هذا الإبداع بسعة ثقافته وضخامة جمعة وغزارة تحصيله، وبالمحاولة الجادة في الانتخاب، وكل هذه أمور تفيد طلاب العلم من تلاميذه وقرائه، وتحقق الغاية التعليمية التي سلك من اجلها هذا المنهج في شرحه. 5 - المنهج الاختصاري التسهيلي: هو منهج اتجهت إليه فئة من العلماء لعوامل مختلفة أحدها: اقتناع هذه الفئة بأن الغاية من شرح الشعر هي الوصول إلى معني الشاعر ومقصده، وما دام الأمر ذلك فليكن الوصول إليه من أسهل الطرق وأيسر السبل. وثانيها: اقتناعهم التام بأن الشروح التي صنعها العلماء لديوان الحماسة قد جاءت مسهبة في تناول عناصر الشرح بل إن بعضها قد جاء دالاً على ميول أصحابها نحو تخصص معين في العلوم التي تخدم الشرح حيث جاءت شروحهم في غلبتها موقوفة على هذا التخصص، مما أدي إلى طغيان عنصر ما على سائر العناصر الأخرى. كما رأت هذه الفئة أن جملة من الشروح قد عجت بالآراء النحوية وما فيها من خلافات، وباللغة وقضاياها واشتقاقاتها وتصاريفها وأوزانها، وامتلأت كذلك بتأويلات المعاني القريبة منها والبعيدة، وبالخلافات في الرواية وما يتبعها من قبول أو رفض وفق تعليلات منطقية أو نحوية أو لغوية أو بلاغية أو موسيقية، إلى غير ذلك من وسائل اختيار الرواية أو رفضها، كما زخرت بمناسبات الشعر وأحداثه وما يتصل بذلك من أنساب وأعلام وأشعار وأمثال وأخبار، الأمر الذي دفعها إلى الاتجاه نحو تصفية هذا الفيض الغزير وتنقيته وتقديمه في ثوب جديد موشي بالاختصار والإيجاز بدلاً من ثوبه القديم الموشي بالإسهاب والأطناب. وثالثها: إدراك هذه الفئة بأن قراء الشروح يمثلون فئات متفاوتة في القدرة على التحصيل والعلم، متباينة في الطباع والأهواء، منها فئة يصعب عليه استيعاب

هذه الشروح المتخمة بالمعارف والعلوم، تريد أن تلم بها ولكن بوسيلة تنهض لها قواها الذهنية وقدراتها الاستيعابية وأذواقها الفطرية وغير الفطرية، ومنها فئة أخرى يهمها من الشعر أن تفهمه، أن تتذوقه، أن تصل إلى مواطن الجمال فيه لا تريد أن تشغل بالنحو وما فيه من خلافات، ولا باللغة وما فيها من اشتقاقات وتصاريف وأوزان، ولا بأحداث الشعر وأخبار الشعراء وما يتبع ذلك من أنساب وأشعار وأمثال، حسبها من النحو الشيء اليسير الذي يعين على فهم النص، ومن اللغة ما يعين على فهم ألفاظ الشاعر وصولًا إلى معانية ومراميه، ومن المناسبات ما يحقق فهم الغرض ودواعي القول فيه والجو النفسي والاجتماعي الذي صدر فيه الشعر. ورابعها: إدراك هذه الفئة بسنن التطور في الحياة وما يتعري الأجيال من علو أو انحدار في المعرفة والتحصيل، وإدراكه أيضًا بأنه إذا كانت الشروح ذات التوسع في العناصر الممتلئة بالاستطرادات العلمية قد استطاعت أن تحوز إعجاب العلماء ذوى التخصصات العلمية، والطبقة العليا من المتعلمين التي تتطلع إلى مرتبه أصحاب التخصصات فإنها بلا شك لن تستطيع أن تحقق ذلك حيال المتعلمين المتوسطي الفهم والاستيعاب أو طالبي الأدب البحت، وبخاصة حين النظر إلى الأجيال وتعددها والقرون وتلاحقها وتغير الحياة العلمية مداً وجزراً عبر هذه الأجيال والقرون. لهذه العوامل مجتمعة قام هذا المنهج الذي اعتمد اختصار المعلومات في الشرح مسلكاً، والتسهيل في عرضها سبيلاً، ومن أجل هذا أطلقنا عليه هذا المصطلح وهو بحسب ما أوضحنا من عوامل منهج يقوم على مقومات وصفات تختلف من حيث المادة والعرض عن سائر المناهج الأخرى، إنه بإيجاز منهج يقوم على مراعاة المتلقين وقدراتهم واختلاف مشاربهم وأهوائهم، يقدم لهم عناصر الشرح سهلة ميسرة خالية من الاستطراد، بعيدة عن التشعيب والأغراب، منهج تجد فيه اللغة ولكن بقدر محدود، والنحو ولكن بصورة تحقق إدراك المعني فحسب، وتجد فيه الرواية ولكن في لمحات تفي بالغرض وتعين على نيل المطلوب، والأخبار والمناسبات ولكن في اختصار لأسانيد وإسقاط لكل ما من شأنه أن يؤدي إلى التطويل، ونجد فيه البلاغة

والنقد ولكن في غير مغالاة أو إسراف. منهج اعتمد أصحابه فيه أسلوبًا ليس بالعلمي البحت، كما هو الحال عند أصحاب المنهج العلمي التخصصي، ولا بالأدبي الذي يقوم على اختيار الألفاظ والتجويد في صوغ العبارة وإحكامها، على النحو الذي نجده عند أصحاب المنهج الإبداعي الفني، وإنما هو أسلوب يختار من الألفاظ أوضحها وأبينها، ويصوغ العبارات بصورة يحوطها الإيجاز، وتحكمها السهولة، ويقيدها الوضوح. ولعل خير ما يُطَبَّقُ عليه هذا المنهج من شروح الحماسة شرحان أحدهما الشرح الذي رجحنا نسبته إلى زيد بن على الفارسي المتوفى سنة 467 هـ، والآخر الشرح المنسوب خطأ إلى أبي العلاء المعري، والذي رجحنا أن يكون صاحبه من علماء القرن السادس الهجري. هذه هي مناهج شراح الحماسة كما رأيناها في الشروح التي وقفنا عليها واستخرجناها من قراءتنا لها وبحثنا فيها، ولعل من المفيد ونحن نريد أن نطبق كل منهج منها على نموذج أو اثنين من شروح الحماسة المطبوعة والمخطوطة أن نشير إلى أن هناك شروحاً غير واضحة المعالم في مناهجها، لأنها لم تصل إلينا كاملة، وإنما وصلت إلينا في صورة نقولات متفاوتة الشروح المطبوعة والمخطوطة التي وصلت إلينا، ومن أجل هذا سوف نعرض لها بعد التطبيق محاولين الكشف عن هذه المعالم وتحديدها حتى نحقق بذلك الدراسة الشاملة للشروح التي تدخل في الفترة التي حددناها لمسار هذا البحث.

الفصل الثاني: المنهج الأدبي الإبداعي وتطبيقه في شرح المرزوقي

الفصل الثاني: المنهج الأدبي الإبداعي وتطبيقه في شرح المرزوقي قلنا إن هذا المنهج يقوم على تعابير أدبية إبداعية علمية فنية تبرز فيه شخصية صاحبه بروزاً واضحًا. لاعتماده في الغلبة المطلقة من شرحه على العقل والدراية أكثر من اعتماده على النقل والرواية، وقلنا إنه منهج توظف فيه العلوم المعينة على شرح الشعر من رواية ولغة ونحو وبلاغة ونقد توظيفًا يخدم المعني في جلاء وإيضاح، وهو منهج يعتمد على ثقافات صاحبه الموروثة ورؤياته المبتكرة حيث تصب هذه الثقافات وهذه الابتكارات في عملية فنية للشرح، تظهر مقدرة الشارح العقلية والإبداعية، وتدل على علوه الأدبي وتساميه العلمي في التعامل مع النص الشعري. ولعل خير من نطبق عليه هذا المنهج فيمن وصل إلينا شرحه للحماسة هو أبو على المرزوقي، غير أن من المفيد ونحن نريد تطبيق هذا المنهج على المرزوقي أن

نسلط الضوء على أمرين يتصلان بشرحه، احدهما شخصيته والآخر مصادره، ففي رأينا أن شخصية المرزوقي لم تلعب دورها في الشرح من حيث المنهج والمسار فحسب بل كان لها دورها البارز في المصادر التي اعتمدها في شرحه، وهي شخصية- كما رأيناها في شرحه- أدبيه علمية لها في دنيا الأدب باع كبير، وفي مجال العلم سطوة عظمي، ولكنها بجانب هذا كانت شخصية موصوفة بالاعتداد والتعالي. نلمس ذلك من خلال ما أورتدته المصادر عنه، ومن خلال تصانيفه التي وصلت إلينا، فقد ذكرت المصادر أن الصاحب بن عباد ذا المكانة العالية في بلاط بني بويه دخل عليه ذات يوم وهو يعلم أبنا بويه فلم يقم له مما أدي إلى جفاء الصاحب له حين تولى الوزارة، وهذا الاعتداد في تكوينه النفسي والتعالي في غرائز طبعه كان لها أثر كبير في شرحه حيث برزت لديه صفات التفرد بالآراء والاستقلال في التفكير والتعبير، وهذا بطبيعة الحال أدي إلى أن يكون قليل الإفادة من شراح الحماسة الذين سبقوه، فهو على الرغم من أنه كان يشير إلى رجوعه إلى نسخ مختلفات للحماسة في الرواية فإنه نادراً ما يذكر الذين سبقوه بالعمل في الحماسة، بل إننا باستقرائنا له في هذا الجانب وجدناه لم يذكر سوى البرقي الذي نقل منه في خمسة مواضع فقط، ثلاثة منها في توضيح شاعر من شعراء الحماسة واثنان من رواية لم يعتمدها في شرحه وفي إدراكنا إن الاعتداد والتعالى جعلاه يعتمد إهمال العلماء السابقين والمعاصرين له ممن كانت لهم صلة بعمله في الحماسة، وذلك مثل أبي الفتح بن جني- وهو من لا يجهل مكانه- كان إذا نقل عنه لم يسمه وإنما يشير إليه بعبارات من مثل" وقال بعضهم" أو" واختار بعضهم" أو" بعض المتأخرين". ولولا أن وصل إلينا كتاب" التنبيه" لا بن جني ولولا اعتراضات التبريزي له

في هذا الخصوص لما أدركنا أنه قرأ التنبيه، وكان أحد مصادره في شرحه، هذا بجانب أنه كان ينقل من شروح سبقته ولا يدل على أصحابها، وإنما يذكرهم بعبارات مبهمة مثلما يفعل مع ابن جني مثل"وروي بعضهم" "وقال بعض الناس" وسمعت بعض أصحاب المعاني"، ولا شك في أن هؤلاء كانوا من الذين لهم أعمال في الحماسة، وليس الأمر كما تصوره الدكتور العمري أنه كان يشير بعباراته هذه إلى اعتماده على ما أثر عن العلماء الكبار مثل الأصمعي وابن الأعرابي وأبي عبيدة وغيرهم فهؤلاء الكبار كان يسميهم باسمهم. أما أصحاب الشروح السابقة فهم الذين يحظون منه بهذه العبارات، ولا أدل على ذلك من نقولاته التي تسبقها هذه العبارات، ففي بيت الأحوص بن محمد الوارد في باب الحماسة والذي جاء فيه: إني عَلى مَا قَدْ عَلِمْتُ مُحسَّدُ ... أْنمي عَلى البَغْضَاءِ والشَّنْانِ قال المرزوقي بعد أن شرحه" وقال بعض الناس الشنآن بغض يختلط به عداوة وسوء خلق، فلهذا جمع بينه وبين البغضاء، وقال غيره: بل على بمعني واحد واللفظان إذا اختلفا على معناهما جاز الجمع بينهما تأكيداً، واحتج بقوله "وهند أتي من دونها النأي والبعد"، وقال في بيت آخر من باب الحماسة هو: ونَطُاعِنُ الأَبْطَالَ عَنْ أَبْنائِناَ وَعَلى بَصَائِرنَا واَن لمَ نُبْصر "وسمعت بعض أصحاب المعاني يقول: إنا نقاتل الأبطال على عادة الناس عند نظرهم لدنياهم ودينهم في الذب عن الحرم والعشيرة والشرف، وعلى الأديان والاعتقادات والبصائر، وان لم نبصر وجهًا واحدًا من هذه الوجوه نقاتل أيضًا لن همنا التقل والقتال. قل: فحذف مفعول وان لم نبصر لأن المراد مفهوم وكذلك

حذف جواب إن لأن فيما تقدم دليًلا عليه". فلا شك ان مثل هذه النقولات ليست من المأثور عن الأصمعي وابن الأعرابي وأبي عبيدة وإنما هي نقولات من رجال لهم صلة عمل بالحماسة يهملهم المرزوقي تهوينًا لشأنهم تبعًا لما تركبت عليه نفسيته من اعتداد وتعال. وبجانب هاتين الصفتين اللتين برزتا في شخصيته كانت هناك صفة الأستاذ المعلم التي بدت هي الأخرى بارزة في شرحه، فكانت وراء أسلوبه وصوغ عباراته، ففي جوانب كثيرة من شرحه نجد عبارات المعلمين تند عن أسلوبه مثل"ألا ترى" فاعرف فرق ما بين الموضعين"" وهذا كما تقول" فاعلمه إن شاء الله"، "وليس بشيء فلا تعرج عليه" أو بقوله: " وإذا كان الأمر على هذا فما ذكره القائل غير صحيح لأني قد أربتكه فاعلمه" وإذا كانت صفتا الاعتداد والتعالي في شخصين المرزوقي قد حجبتا عنا الوقوف علي شروح الحماسة التي أفاد منها فإنهما من جهة أخرى قد كان لهما دور في عمله الذي يتصل باللغة والنحو إذ جاء عمله فيمها دالا على شخصيته مع اعتماده على النقل، ولكنه نقل يختلف عن نقل أصحاب المنهج الالتزامي النقلي، انه نقل المستوعب لما قال العلماء الأوائل، الذي له رأي فيما ينقل ويختار، وهذا يجعلنا ندخل في مصادر شرحه التي جاءت في غلبتها في مجال اللغة والنحو فهو- بالإحصاء- نقل عن الخليل بن احمد في ثلاثين ومائه موضع، وعن الأصمعي في واحد وخمسين موضعًا، وعن سيبويه في ستة وأربعين موضعًا، وعن ابن دريد في أربعة وثلاثين موضعًا، وعن أبي عبيدة في واحد وعشرين موضعًا، وعن أبي العباس المبرد في

أربعة عشر موضعا، وعن ابن عثمان المازني في خمسة مواقع وعن ابن السكيت في أربعة مواضع، ونقل عن أبي عمرو الشيباني في ثلاثة مواضع، ومثلها عن أبي العباس ثعلب، ونقل عن أبي عمرو ابن العلاء في موضعين، ومثلهما عن أبي الحسن الأخفش وأبي سعيد الضرير ورأيناه ينقل عن كتاب العققة للمدائني في موضع واحد، ومثله كتاب الترجمان لأبي عبد الله المفجع، وكذلك رأيناه ينقل عن شيخه أبي على الفارس في ثمانية مواضع، وعن أبي عبد الله حمزة بن الحسن في موضع واحد، عن ابن العميد في موضع واحد. والحق أن شخصية المرزوقي وما تركبت عليه من طباع غالبة لم تكن ذات أثر في مصادره فحسب بل كانت ذات أثر في جل عناصر الشرح التي عالجها في شرحه وهي كما رأيناها في شرحه على النحو التالي: 1 - مناسبات الشعر والأخبار التاريخية: لم يبد المرزوقي اهتمامًا ملحوظًا بهذا العنصر، وربما كان ذلك راجعًا إلى أنه لم

يقف على شرح أبي رياش كما ذكر عبد السلام هارون فشرح أبي رياش قد عني عناية تامة بهذا الجانب من عناصر الشرح، وقد أفادت منه سائر الشروح التي وقف أصحابها علية مثل شروح أبي العلاء المعري وزيد بن على والخطيب التبريزي. على أن شرح المرزوقي لم يخل من ذكر لبعض المناسبات التي كان يقدم بها شرحه لقطع الحماسة، ولكن الملاحظة فيه أنه كان يعرض المناسبة بإيجاز دقيق، ودون تفصيل ولعله في هذا كان مقيدًا بما وجده في شرح البرقي، ففي الحماسية الرابعة عشرة المنسوبة للشميذر الحارثي نراه ينقل عن البرقي فتقول" قال البرقي: الشعر لسويد بن صميع المرثدي من بني الحارث، وكان قتل أخوه غيلة فقتل قاتل أخيه نهاراً، في الأسواق من الحضر". وفي خماسية قيس بن زهير العبسي التي مطلعها: شَفَيْتُ النَّفْسَ مِنْ حَمَلِ بنِ بَدْرِ وَسَيْفِي مِنْ حُذَيْفَةَ قَدْ شَفَانِي نراه يصدّرها بقوله: " كان حمل بن قتل مالك بن زهير أخا قيس فظفر به وبأخيه حذيفة فقتلهما. وفي الحماسية التي نسبها أبو تمام لبعض اللصوص من طيء والتي مطلعها: وَلَمَا أَنْ رَأيْتُ ابَنيْ شٌمَيْط بسِكَّةِ طَيَّئٍ والبَابُ دُوني نراه يفتتح شرحه لها بقوله: "الشعر لبعض المتلصصة، وكان أنهي حالة إلى أمير المؤمنين على- عليه السلام- وهو بالكوفة فوجه في طلبه ابني شميط، فأحس بذلك، فركب فرسه العصا، فنجا بها، وذكر قصته في هذه الأبيات. والذي يلاحظ في هذه الأخبار وغيرها أنها ذات صلة وثيقة بالنص الشعري المشروح، وتعين على فهمه، ومن ثم يمكن القول بأن المرزوقي كان يهتم بذكر

المناسبة إذا كانت تعين على فهم النص، وانه كان يذكر ذلك في إيجاز حال من التفاصيل والاستطرادات المتشعبة التي نراها في شرح التبريزي، منقولة عن أبي رياش. 2 - تفسير أسماء شعراء الحماسة والأعلام: وإذا كنا رأينا المرزوقي يذكر بعضًا من أخبار الشعر والمناسبات الداعية إلى قوله من قبل الشعراء فان شرحه قد افتقر إلى تفسير أسماء الشعراء والأعلام الواردين في اختيار الحماسة، وقد فسر عبد السلام هارون هذا الافتقار بأن المرزوقي لم يقف على كتاب" المبهج" لابن جني في حين أن الدكتور العمري قد عاب عليه تجاهله ابن جني احتقارًا واستضعافًا وقال: " انه لو ترك مثل هذه النقائص وتعمق في النظر في مصنفات ابن جني وآرائه لاستفاد منها استفادة كبيرة خاصة في تحديد الأعلام واشتقاق أسمائهم. ومعني هذا أنه يرى أن المرزوقي قد وقف على كتب ابن جني ولكن في غير تعمق استهانة بصاحبها وربما كان هذا صحيحًا، ولكن الأخذ بأنه لم يقرأ"المبهج" أفضل، بدليل أنه قرأ"التنبيه" الكتاب الثاني لابن جني ونقل منه في شرحه منتقداً وغير منتقد، وهذا يدحض النظرية التي أيدها الدكتور العمري والتي تقول: بأن كتابي المبهج والتنبيه كان في الأصل كتابًا واحدًا. إذ لو كانا كذلك لوقف المرزوقي عليهما معًا. على أن الأمر فيما يبدو لنا مبني على شيء مختلف عن هذا، فتفسير أسماء الشعراء والأعلام يقوم في الغالب على فن الاشتقاق، وهو فن لا نحس بأن المرزوقي كان من أصحابه، وإنما فارساه في عمل الحماسة رجلان أحدهما ابن جني الذي وصفه بروكلمان بأنه"إمام المذهب الاستقاقي" والآخر أبو العلاء

المعري الذي دلت نقولات التبريزي عنه أن له باعًا متسعًا فيه. 3 - تحديد بحور الشعر وأضربه وقوافيه: لم يعالج المرزوقي هذا العنصر في شرحه، ولا يعني هذا أنه لم يكن ذا المام بعلمي العروض والقوافي، ففي شرحه ما يدل على أنه كان ملمًا بهذين العلمين وما يقومان به من قواعد، وقد استخدم احدي قواعد القافية في رد رواية جاءت في بيت عبد الشارق بن عبد العزي الذي يقول فيه: فَجَاءُوا عَاِرضًا بَردَاً وَجِئْنَا كَمِثْلِ السَّيْفِ نَرْكَبُ واَزِعَيْنَا فقد قال فيه: " ولا يجوز أن يروي وازعينا بكسر العين لما يحصل من العيب بالسناد مع ارتفاع الضرورة". ويبدو لنا أن تحديد بحور الشعر وأضربه وقوافيه عنصرًا من عناصر الشرح قد بدأ يظهر في الشرح التي تلت المرزوقي بدليل أننا لا نجد له أثرًا في الشروح السابقة لشرحه أو المعاصرة مثل شروح أبي رياش 339 هـ، وأبي عبد الله النمر 385 هـ، وأبي هلال العسكري 395 هـ، وإنما وجدناه في شروح جاءت بعد ذلك مثل شروح أبي العلاء 449 هـ، وزيد بن على 467 هـ، والتبريزي 502 هـ، ومن ثم يمكن أن نلاحظ انه إلى زمن المرزوقي لم يكن الشراح يعتبرون تحديد وزن الشعر وضربه وقافيته من عناصر الشرح، ولا أدل على ذلك من المرزوقي نفسه، فقد كان يرى أن لا مجال للحديث في وزن الشعر أثناء عملية الشرح. قال في قطعة سلم بن ربيعة التي مطلعها: إِنَّ شِوَاءَّ وَنَشْوَةً وَخَبَبَ البَازِلِ الأَمُونِ "هذه المقطوعة خارجه عن البحور التي وضعها الخليل بن أحمد، وأقرب ما يقال

فيها: أنها تجئ على السادس من البسيط، وليس هذا موضعًا لبسط الكلام فيه". 4 - الرواية: وإذا كانت هذه العناصر الثلاثة السابقة لم تجد عناية من قبل المرزوقي في شرحه فان عنصر الرواية قد حظي لديه باهتمام واضح، فهو من العناصر التي تشكل دعامة أساسية في منهجه الأدبي الإبداعي الفني. فقد رأيناه في مواضع مختلفة يبدأ به شرحه، والبدء بشيء دليل على الاهتمام به. أما معالجته له فتتمثل في جانبين: جانب يتصل بالمفاضلة بين الروايات الواردة في البيت الواحد، وجانب يتصل بنقد هذه الروايات وردها، ولكل من الجانبين معايير يعتمدها في عمله، ففي جانب المفاضلة نراه يعتمد معايير الفصاحة والبلاغة والسلامة والشهرة والجودة، ولكنه وهو يفضل الرواية وفقًا لهذه المعايير كان أحيانًا يعلل حكمه الذي يصدره فيها، وأحيانًا أخرى يصدر الحكم دون تعليل، فمن أحكامه التي أصدرها دون تعليل قوله في البيت المتلمس وقد أثبت روايته على النحو التالي: فَلاَ تَقْبَلن ضَيمْاً مخَافَةَ مِتَةٍ وَمُوتَنْ بَها حُرَّا وجِلْدُكَ أَمْلَسُ "ويروى وَأجْينَ بِهَا حٌرَّاً وَجِلَدُكَ أَمْلَسُ، والرواية الأولي أحسن"، ولم يعلل وجه الحسن فيها، ولعله قصد بذلك أن الضمير في" بها" عائد إلى مخافة المنية والأمر بالموت مع مخافته يتناسب وما دعا إليه من عدم قبول الضيم أكثر من تناسب الأمر بالحياة. ومثل ذلك ما أورده في بيت أبي الغول الطهوي القائل: وَلاَ يَرْعَوْنَ أَكْنَافَ الهُوَيْنَي إِذَا حَلَّوا وَلا أَرْضَ الهَدُونِ وهي الرواية التي اعتمدها في متنه ثم قال" يروي"ولا روض الهدون" وهو أفصح". ولم يعلل عامل الفصاحة في استخدام"روض" موضع"أرض"،

وربما قصد بالفصاحة هنا ان الشاعر قال: "ولا يرعون"، فالرعي يتسق في الحقيقة مع الروض، ولايتسق الرعي مع الأرض إِلاَّ على سبيل المجاز، والبيت كله تصوير بالكناية، فأكناف الهويني وروض الهدون كناية عن ان هؤلاء القوم لا يرعون جوانب الخصال السهلة والأمور الهينة، ولا ينزلون منازل الأمن والراحة. وإذا كان البيت مبينًا على التصوير بالكناية لزم أن تكون جملة من حيث الفصاحة مبنية على التعبير بالحقيقة لا المجاز حتى لا تتداخل الصور وتتراكب. على أن المرزوقي في مواضع أخرى كان يعلل وجه تفضيله للراوية وفق المعيار الذي يراه. ومن أمثله ذلك ما أورده في بيت الربيع بن زياد، وقد رواه على النحو التالي: مَنْ مِثْلِهِ تُمْسِي النَّساءُ حَوَاسرًا وَتَقُومُ مُعْوِلَةَّ مَعَ الأَسْحَارِ ثم أشار إلى رواية أخرى فقال: " وروي بعضهم" تمشي النساء" أي يمشين متبرزات لا يدفعن عن ذلك حشمة ولا يحجزهن رقبة، والأول أجود حتى يكون المساء في مقابلة الصباح، ويكون الشاعر قد ذكر طرفي النهار من أوقاتهن" وهو بهذا يرى أن عامل الجودة في رواية" تمسي" يرجع إلى مقابلة الشطرتين في المعني، مع ان رواية"تمشي" مع الواقع الذي تعيشه النساء في مأتم الرجل العزيز، فهن يمشين في الحي حارسات يذهلهن الفقد عن الاحتشام وتغطية رؤوسهن، وهو أمر مألوف مشاهد، نراه في زمننا هذا، وفي أقطار مختلفة من عالمنا العربي. وقد يرجع المرزوقي عامل الجودة إلى سلامة اللغة في التعبير وفق الضوابط المعمول بها عند علماء اللغة، فبيت الصمة بن عبد الله القشيري أثبت روايته على النحو التالي: أقول لِصَاحِبي والعِيسُ تَهْوي بِنَا بَيْنَ الُمنِيفَةِ فالضَّمارِ ثم قال: "وقوله" ين المنيفة فالضمار" أجود الروايتين: "بين المنيفة والضمار" ثم

علل فقال: " لأن بين لا يدخل لشيئين يتباين أحدهما عن الآخر فصاعدا، وإذا كان كذلك لا يكتفي بقوله المنيفة فيرتب عليه الضمار بالفاء العاطفة اللهم إلا أن تجعل بين الأجزاء "المنيفة" فتصير المنيفة كاسم الجمع نحو القوم والعشيرة وما أشبههما، وعلى هذا حمل قول امرئ القيس: بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ ولم يكتف المرزوقي بهذا التعليل في عامل الجودة بل دعمه بعمل عالم لغوي معتد به هو الأصمعي حيث قال مشيرًا إلى قول امرئ القيس" وكان الأصمعي يرده ويرويه بالواو". والمرزوقي بجانب هذه المفاضلة التي كان يقيمها في الرواية ويبنيها على المعايير التي ذكرناها، كان إذا تساوت لديه الروايات لا يكتفي بإيرادها فحسب كما يفعل أصحاب المنهج الاختصاري التسهيلي بل يشرحها ويجلو ما فيها من غموض في اللغة، والأمثلة على ذلك كثيرة شملت سائراً أجزاء شرحه، فبيت أبي كبير الهذلي الوارد في الحماسية الثانية عشرة جاءت روايته عنده هكذا: وَاِذَا رَمَيْتَ بِهِ الفِجَاجَ رَأَيْتَهُ ... يَهْوِي غَوَاربَهَا هُوِيَّ الأَجْدَلِ ثم قال بعد أن شرح البيت: " ويروي: مخارمها، والمخارم جمع المخرم وهو منقطع أنف الجبل، والخرم أنف الجبل وجمع خروم". وفي بيت حجر بن خالد الوارد في الحماسية نجده يرويه هكذا: وَلَكِنَّا نَاَيَنْاَ واكْتَفَيْتُمْ ولاَ يَنْأي الحَفِيَ عَنِ السُؤالِ ثم بدأ شرحه بقوله: "ويروى واكتفينا" ثم مضي فشرح البيت على الرواية التي أثبتها قال: " يقول بعدنا عنكم فاستقللتم بأنفسكم، واستغنيتم عمن يعاضدكم في كل ما يدهمكم، فلم تدعكم حاجة إلى مجاورتنا ولا ألجأتكم الضرورة إلى التكثر

بنا" ثم رجع إلى الرواية التي أشار إليها فشرحها بقوله: "ومن روي: واكتفينا، كان المعني: اكتفينا في البعد عنكم فلم نحتج إليكم" ثم بين قصد الشاعر في الروايتين معًا فقال: " والقصد في الروايتين أنه لم يكن بإحدى الجنبتين افتقار إلى الأخرى، فصار ذلك سببًا في التنائي، وعذراً بينًا في التأخر عن المعاونة والمكانفة". إن عمل المرزوقي حين تتساوى الروايات لديه يعد عملاً طيباً تهظر فيه شخصيته بوضوح، ويدل على دقة وفهم تام لمعاني الشعر، ومعرفة واسعة باللغة وأسرارها، فبيت سعد بن ناشب في الحماسية العاشرة رواه هكذا: أَخِي عَزَمَاتٍ لا َيُريدُ عَلي الذي يَهُمَّ به مِنْ مَقْطَعِ الأَمْرِ صَاحِبَا ثم قال: "ويروي أخي غمرات" وفسرها بالشدائد، ثم مضي قائلا: "ويروى من مفظع الأمر" وهو من فظع الأمر وأفظع فظاعة وهو فظيع ومفظع، أو من أفظعني الأمر ففظعت به أي أعياني فضقت به ذرعًا". وفي إدراكنا أن ظهور شخصية المرزوقي في شرح الروايات المتساوية لديه يصبح أكثر اطراداً وبروزًا في الجانب الثاني من عمله في الرواية، ونعني به جانب نقد الرواية وردها، ففي هذا الجانب تتجلى لدينا أمور عدة، منها حسه اللغوي ومعرفته بأساليب العرب وتثبته وتمحيصه ونظرته العقلية المنطقية، إلى غير ذلك من اللمحات التي أحسنا بها ونحن ندرس عمله في نقد الروايات وردها، وهو في هذا النقد يعتمد على جملة من المقومات. منها النظر إلى لفظ الرواية ومدى مطابقته للاستعمال الفصيح، ومنها صلة الرواية بالمعني الذي يقرره، والذي يتضح به مقصد الشاعر ومرماه، ومنها توافق الرواية مع روايات آخرين كان يجدها في نسخ مختلفات للحماسة، ومنها توافق الرواية مع المألوف من كلام العرب وما درج عليه الشعراء في نظمهم. ولقد رأيناه وهو يعتمد على هذه المقومات في نقد الرواية لا يكتفي بها فحسب بل يحاول دعمها بالتحليل وبالشواهد التي يأخذها من القرآن الكريم أو أشعار العرب الفصحاء.

فمن أمثلة النظر إلى لفظ الرواية ومطابقته للاستعمال الفصيح نقده رواية بيت أبي كبير الهذلي التي أثبتها في متنه وهي: ممَّنْ حَمَلْنَ بِهِ وَهُنَّ عَوَاقِدُ حُبٌكَ النَّطَاقِ فَشَبَّ غَيْرَ مُهَبَّلِ ولكنه قال بعد أن شرح البيت: "والرواية حبك الثياب، لأن النطاق قد جاء من بعد في صفة أم المغشم- يشير بذلك إلى قول أبي كبير في بيت تال" كرهًا وعقد نطاقها لم يحلل"- ولأن النطاق لا يكون له حبك وطرائق" فكأنه يريد بذلك أن العرب لم تعرف في استعمالها اللغوي وصف النطاق بأنه حبيك، وإنما الثياب هي التي لها حبك عندهم، ويدعم ذلك بقول الباهلي: إن الحبكة والحباك الإزار، وقد احتبكت المرأة"، يريد لبست ازارها. ومثل ذلك اعتراضه على ابن جني في قوله الوارد في بيت ربيعة بن مقروم: أَرْخَتْهُ عَنَّي فَأَبْصَر قَصْدَهُ وَكَوَيْتُهُ فَوْقَ النَّوَاظِر مِنْ عَل فقد قال ابن جني" وأكثر من ترى يروي هذا البيت أرجيته بالراء فإذا تعالى شيئًا رواه أوجأته، وكلاهما تصحيف وإنما هو" أوجيته" بالواو أي أذللته وقهرته، وهو أفعلته من الوجي وهو روزح الفرس لألم قوائمه"، فاعترض عليه المرزوقي بقوله: "إنه لا يقال أوجيت الدابة عني ويراد الأحفاء، ولم يسمع في التذليل ذكر الحفي والوجي مستعارًا كما سمع الكي والوسم فيه، والرواية، الصحيحة أرجأته وأرجيته، وهما لغتان والهمز أفصح". ومن أمثلته نظرته إلى صلة الرواية بالمعني وما يفيد مقصد الشاعر ومرماه، وقفته التي وقفها في بيت عامر بن الطفيل وروايته هي: أَكُرُّ عَلَيْهِمْ دَعْلجًا وَلَبَانُهُ إِذَا مَاَ اشْتَكيَ وَقْعَ الرَّماحِ تَحَمْحَما

فقد شرحه بقوله: "أعطف فرسي دعلجا عليهم حالا بعد حال، وكرا بعد فر، وإذا اشتكى من كثرة وقوع الطعن بدصره حمحم" ثم مضي فقال: هذا إذا رويت"لبانه" بالرفع لأن بعض الناس روي"ولبانه" بالنصب كأنه فر من أن يكون الاشتكاء والتحمحم للبان على كثرة نسبة الاشتكاء إلى الأعضاء الآلمة، فوقع فيما هو أقبح لأن المراد أكر عليهم فرسي، فلا معني لعطف اللبان عليه، ثم دعم ما قرره من معني بقول عنترة في المعني ذاته مشيرًا إلى إحسانه فيه وهو: فأَزْوَرَّ مِنْ وَقْعِ القَنَا بِلَبَانِه وَشَكَا إليَّ بِعَبرَةٍ وَتَحَمْحُمِ ومن أمثلة اعتماده على اتفاق مالديه من نسخ للحماسة على رواية واحدة عمله في مناقشته رواية بيت للحريث بن عناب وهو " نَعَالَوْا أُفاخِرْكُمْ أَأَعْيَا وَفَقْعَسٌ إِلى المَجْدِ أَدْنَى أَمْ عَشِيرَةُ حَاتِمِ فقد روي بعضهم "أاعيار فقعس" يريد رؤساء فقعس، وزعم ان أعيا لا يعرفه اسم قبيله، وان رواية" أأعيا وفقعس" تصحيف استدركه فوقف المرزوقي معترضًا على هذا القول من أوجه ثلاثة": أحدها أن بني أعيا من قبائل سعد بن قيس، وهو مشهور ذكره النسابون وغيرهم، وثانيهما: أن طريقة النظم تقتضي ان تكون القبلية مقابلة بمثلها ومذكورة في المنافرة معها أحسن من أن يقابل الأفراد بالقبيلة، وأعيار إشارة إلى الأفراد لأنه يراد بها الرؤساء، وثالثها: أنه رجع إلى نسخ مختلفات المصادر فوجدها متواقفة في تحملها"أأعيا وفقعس"، "وإذا كان كذلك لا يجوز العدول عما قاله الشاعر إلى ما لم يقله" ومن أمثلة اعتماده على المألوف في كلام العرب وما درج عليه الشعراء في نظمهم

ما جاء عنه في بيت دريد بن الصمة القائل: فَطَاعَنْتُ عَنْهُ اَلخَيْلَ حَتَّى تَبَدَّدتْ وَحَتَّى عَلاَنِي حَاِلكُ اللَّوْنِ أَسْوَدُ هكذا أثبته في متنه بالإقواء- إذ أن حرف الروي مكسور في سائر أبيات القصيدة ومطلعها"أرث جديد الحبل من أم معبد" غير أننا نراه يقف عند الرواية التي أثبتها فيقول: وقوله حتى علان حالك اللون أسود فيه أقواء، وكثير من العلماء يهونون الأمر في الأقواء، ولا يعدونه عيبًا قبيحًا. وحكي عن الأخفش انه قال: ما أنشدني العرب قصيدة سلمت من الأقواء طالت أو قصرت، ثم انتقل مشيراً إلى رواية أخرى هي" وحتى علاني حالك لون أسود" فقال راداً هذه الرواية: "والضعف فيه ظاهر، ألا ترى أنه قال: حالك وهو الشديد السواد ثم قال: لون أسود، وفي إضافة لون إلى أسود ما لا يرتضي" فكأنه بذلك يقرر أنه ليس من المألوف في كلام العرب إضافة اللون إلى صنفه، فلا يقال لو أبيض ولا لون أصفر، وينتقل المرزوقي إلى رواية ثالثة يراها أجود من هذه التي اعترض عليها قال: "وأجود من هذا أن يروى: حالك اللون أسودي، وهو يريد أسودي، كما قيل في الأحمر أحمري، وفي الدوار دواري ثم خففت ياء النسبة بحذف أحدهما وهو الأول وجعل الثاني صلة". وهو أن كان قد استجاد هذه الرواية فإنما استجادته قائمة على المفاضلة بينها وبين الرواية الثانية التي اعترض عليها وأبطلها بما درج عليه العرب في كلامهم. أما الرواية التي أثبتها فهي عنده هي التي صدرت عن الشاعر لشيوع الأقواء بين الشعراء وفقًا لما قاله الأخفش. وهكذا نخلص من خلال ما عرضناه، إلى أن عمل المرزوقي في الروايات سواء في جانب المفاضلة بينها أو جانب نقدها وردها قد دل على ذاتيته من جهة، وعلى إبداعه وفنيته من جهة أخرى، وعلى استيعاب اللغة وفهمها وإدراكه كلام العرب وأساليب الشعراء من جهة ثالثة، غير أن هذا لا يمنع من القول بأننا قد لاحظنا في رده الروايات التي اعتمدها ابن جني بعض التحامل، وهذا يرجعنا إلى ما قررناه سابقًا من اتصافه بصفتي الاعتداد والتعالي اللتين جعلتاه يتسهين بمعاصريه

ولا يعبأ بآرائهم في المجال الذي يدور فيه عمله، فابن جني- مثلاً- قال في رواية "أوجيته" السالفة الذكر: "كذلك رويناه وكذلك وجدته في شعر القبيلة". فقوله "كذلك رويناه" يعني نفسه وشيوخه الذين اخذ عنهم العلم، وقوله: " وكذلك وجدته في شعر القبيلة" يدل على رجوعه إلى الأصول التي بني عليها أبو تمام اختياره في الحماسة وكلا الأمرين يوجب النظر والاعتبار، فكان حق المرزوقي ان ينظر إلى هذا، لا أن تشتط به نوازع النفس في الاستهانة بغيره فيصرف النظر عما قرره أبو الفتح إلى التعقيب بقوله" ولقد قضيت العجب من هذا المستدرك ومن ضلاله عن طريق الرشاد فيما قصده من معني". ولقد رأينا منه مثل هذا في معالجته لرواية بيت تأبط شرا وهو: فَاُبْتُ إلى فَهْمٍ وَلَمْ أكُ آيبًا وَكَمْ مِثْلِهَا فَاَرقْتُها وَهى تَصْفِرُ فقد قال ابن جني فيه: " هكذا يرويه أكثر من ترى"ولم أك" ومنهم من يقول: " وما كنت آيبًا" وصواب الرواية فيه " وما كدت آيبًا" أي وما كدت أؤوب، فاستعمل الاسم الذي هو الأصل المرفوض الاستعمال موضع الفعل الذي هو فرع، وذلك أن قولك كدت أقول أصله كدت قائمًا، ولذلك ارتفع المضارع لوقوعه موقع الاسم فأخرجه تأبط شرًا على أصله المرفوض كما يضطر الشاعر إلى مراجعة الأصول عن مستعمل الفروع نحو صرف ما لا ينصرف وإظهار التضعيف وتصحيح المعتل وما جرى مجرى ذلك، ونحو ذلك ما جاء عنهم من استعمال مفعول عسى على أصله، وذلك ما أنشدناه من قول الراجز: أَكْثَرْتَ في ِ العَدْلِ مٌلِحّاً دائما لاَ تُكْثِرنْ إنَّي عَسِيتُ صَائِما فهذه هي الرواية الصحيحة في هذا البيت- أعني قوله: "وما كدت آبيا" - وكذلك وجدتها في شعر هذا الرجل بالخط القديم وهو عندي عتيد إلى الآن، وبعد فالمعني عليه البتة لا منصرف به عنه، ألا ترى أن معناه" وأبت وما كدت أؤوب" كقوله: " سلمت وما كدت أسلم" وكذلك كل ما يلي هذا الحرف، من قبله ومن

بعده يدل على ما قلناه ولا معني هنا لقولك" وما كنت" ولا للم أك، وهذا واضح". هذا كلام ابن جني فيما اختاره من رواية، فيه منطقية واضحة، واستدلال بخروج الشعراء في الاضطرار إلى استعمال الأصول مستعمل الفروع، واستعراض لأشباه والنظائر في هذا، ورجوع إلى أصل ديوان الشاعر، وغير ذلك من الأدلة التي يمكن أن تستنبط من هذا الكلام، ومع ذلك فان المرزوقي وقد تسلطت عليه نوازع الاستعلاء نراه يعترض عليه فيقول: " ولا ادري لم اختار هذه الرواية ألأن فيها ما هو مرفوض في الاستعمال شاذ، أم لأنه غلب في نفسه أن الشاعر كذا قاله في الأصل وكلاهما لا يوجب الاختيار"، وابن جني لم يغلب في نفسه أن الشاعر كذا قاله في الأصل، وإنما أكد أنه رآه هكذا في شعره بالخط القديم، يعني عن الرواة الأوائل، كما أنه لم يختر هذه الرواية لمجرد أنها مرفوضة الاستعمال شاذة، وهذا ما دفع الخطيب التبريزي- وقد أشار إلى رواية" وما كدت آيبا" ونقل عن أبي محمد الأعرابي وشيخه أبي الندي أنها الرواية الصحيحة- إلى أن يعقب على كلام المرزوقي هذا بقوله: " وتكلم المرزوقي على اختيار أبي الفتح هذه الرواية رادًا عليه ولم ينصفه". 5 - اللغة والنحو: اللغو والنحو علمان يستعين بهما الشارح في تفسير الألفاظ والتراكيب التي يشتمل عليها النص الشعري المشروح، ولهذا فإنهما يشكلان دورًا خطيرًا في شرح المرزوقي من حيث أنهما- وبخاصة اللغة - يمثلان المرتكز الأول الذي يعتمد عليه في فهم الشعر وتوضيح معانيه، ولقد سبق أن أشرنا إلى أن جل مصادر الرجل في شرحه كانت في مجالي اللغة والنحو لأن موادهما موروثة عن السلف متداولة عبر أجيال العلماء، ومن ثم تبرز ظاهرة النقل فيمها أكثر من غيرهما من العناصر الأخرى،

وهذا أمر سبقت الإشارة إليه عندما أوضحنا أن المنهج الالتزامي النقلي الذي بدأ به العلماء شرح الشعر قد يطل بين شروحهم الاستقلالية القائمة على العقل والدراية وهما محك الإبداع والفنية في شروحهم. أ- اللغة: ولقد عالج المرزوقي اللغة وأفاد منها في شرح الألفاظ والتراكيب، وكان تأثره بمن سبقوه في هذا الجانب واضحًا، فهو قد وظف ثقافته الموروثة من العلماء في أجيال مختلفة توظيفًا جيدًا، حيث كان يستعين بهم في توضيح كل غامض ضمه النص المشروح أو أثاره الشرح. ان للخليل والأصمعي وابن الأعرابي وابن دريد وغيرهم وجوداً متفاوتًا في عمل اللغة لدى المرزوقي، فما خلفوه دائمًا معه يستعين به متى شاء. ولقد سبق أن أوضحنا مواضع نقولاته منهم، ولكننا نريد هنا أن نوضح طريقة عمل في اللغة من خلال إفادته منهم، وهي طريقة تدل على أنه كان واسع الاطلاع في علم اللغة بمختلف مواده، قادرًا على استدعاء معلوماته المستقاة من العلماء بصورة تغذي المادة التي يتكلم فيها بالوضوح والإبانة، فهو مثًلا ينقل لنا آراء ثلاثة علماء في لفظة" المنيح" التي وردت في بيت عروة بن الورد القائل: مُطِلًا عَلى أَعْدَائِهِ يَزْجُرُونَه بساحَتِهِمْ زجْرَ الَمنِيحِ المٌشَهَّرِ قال: "المنيح قال الخليل هو الثامن من القداح، وقال أبو عمرو: المنيح والسنيح والوغد قداح لا أنصباء لها، وان تكثر بها القداح، فهي تجال أبدًا. وقال الأصمعي: المنيح الذي لا يعتد به" وينقل لنا آراء منهم في معني" دهر" الواردة في بيت قتادة بن مسلمة الحنفي الذي جاء فيه: ماَ كُنْتُ أوَّلَ مَنْ أَصَابَ بِنَكْبةٍ دَهْرُ وَحَّي بَاسِلُونَ صَمِيمُ قال: " فأما تنكيره للدهر فقد حكي عن أبي زيد وأبي عبيدة ويونس أن الدهر والزمان والزمن ولاحين يقع على محدود وغير محدود، وعلى عمر الدنيا من أوله إلى آخره، وقال الخليل: الأبد الدهر المحدود، ويجعل اسمًا للنازلة ويقال دهر من

الدهر لبعضه كما يقال حين من الدهر، وقد اشتق منه فقيل أنها لداهرة الطول أي طويلة العنق". وفي بيت حسيل بن سجيح القائل: بِمُطَّرِدِ لَدْنٍ صِحَاحٍ كٌعُوبُهُ وَذِي رَوْنَقٍ عَضْبٍ يَقُدُّ القَوَانِسَا ينقل لنا تفسير أبي عبيدة والأصمعي لقونس الفرس قال بعد أن شرح لفظة القوانس الواردة في البيت بأنها أعلى البيض": وقونس الفرس منه، وهو العظم الذي تحته العصفوران، هكذا قال أبو عبيدة، قال الأصمعي: هو والعصفوران سواء". والحق أن المرزوقي في هذا الجانب يبدو نقليًا بحتًا، ذلك لأن الأمر في معالجة اللغة يبدو كما صوره الدكتور العمري بقوله: " إن الشروح اللغوية مواد تقريرية متفق عليها ليس فيها إعمال للعقل أو اختراع، وإنما هى شروح موضوعة موروثة، منقولة عن السلف" على أننا يمكن ان نلاحظ ونحن نقرأ شرح المرزوقي في هذا الجانب أنه كان يتناول اللغة في نواحيها المختلفة: الاشتقاق، والصرف، والمعرب، والاضداد، واستعمال اللفظ حقيقة ومجازًا، واستعمال المرفوض من كلام العرب، ولغات القبائل، وهي نواح تكاد تغطي نشاطات علم اللغة، غير أن المرزوقي وهو يعالجها في شرحه كان يهدف إلى إيضاح المعني أكثر من أن يهدف إلى الاستقصاء والاطالة، وهو في هذا يختلف عن أصحاب المنهج العلمي التخصصي الذين يستقصون ويطيلون في تناولهم المادة اللغوية. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة، ففي الاشتقاق مثلا نراه يقف عند لفظه"زرافات" الواردة في القطعة الأولى من باب الحماسة وذلك في البيت القائل: قَوْمُ إِذَا الشٌّر أَبْدَي نَاجِذيِه لَهُمْ طَارُوا إِلَيهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا قال: : والزرافات الجماعات، واشتقاقه من الزرف وهو الزيادة على

الشيء، ويقال زرفت القوم قدامي أي قدمتهم فرقًا". وفي الصرف نراه مثًلا يتكئ قليًلا على لفظه "تيحان" التي جاءت في بيت سوار بن المضرب السعدي القائل: بذَنَّبي الذَّمَّ عَنْ حَسَبِي بِمَاليِ وَزَبَّونَاتِ أَشْوَسَ تَيحَّانِ قال: " التيحان العريض المقدام، ثم مضي يتكلم عن تصريفها فقال: "وهو فيعلان بفتح العين، ولا يجوز كسرها لأن فيعلان ... لم يجئ في الصحيح فيبني المعتل عليه قياسًا" ثم استرسل ففصل الحديث قال: " وفيعل كسيد من الأبنية المختصة بالمعتل، ومثل تيحان هيبان، وهما صفتان حكاهما سيبويه بالفتح، ومثالها من الصحيح قيقان وسيسبان" ثم ختم حديثه بالرجوع إلى تيحان واشتقاقها واستخدام فعلها في التعبير فقال: وتيحان من تاح له يتوح ويتيح لغتان اذا أشرف وتهيأ ورجل متيح، ويقال قلب متيح أيضًا، وأتيح له كذا". وفي المعرب نجد له مثل وقفته عند لفظه" المنجنيق" الواردة في بيت جاء في باب مذمة النساء وهو: أَوْ تَأمَلْتَ رَأُسَهُ قُلْتَ هَذَا حَجَرُ مِنْ حِجَاَرةٍ المِنْجَنِيقِ قال: "والمنجنيق معربة، وقد اختلف في الفعل منه فقال بعضهم: الميم زائدة واحتج بما حكاه التوزي عن أبي عبيدة قال: سألت أعرابيًا عن حروب كانت بينهم فقال: كانت بيننا حروب عون تفقأ فيها العيون مرة تجنق، ومرة نرشق. قال: فقوله: نجنق دال على أن الميم زائدة، ولو كانت أصلية لقال:

"نمجنق"، والى هذا ذهب الدريدي". ووقف عند لفظه" زنمرده" الواردة في قول أبي الغطمش" منيت بزنمردة كالعصا" فقال: "يروى زنمردة - بفتح الزاي وكسر الميم- ويكون مما عرّب ولا نظير له في أبنية العرب". ومن أمثلة وقفاته في الاضداد وقفته في لفظته" مأتم" التي وردت في بيت أحد شعراء تيم في الرثاء وهو: فَالنَّاسُ مَأْتَمَهُمْ عَلَيْهِ وَاحِدُ ... في كلِ دَارٍ رَنَّةُ وَزَفِيرُ قال: " أصل المأتم النساء يجتمعن في الخير والشر، وجعله هانا المصيبة نفسها"، ووقف أيضًا عند لفظه" جلل" في بيت الحارث بين وعلة الزهري القائل: فَلَئِنْ عَفَوْتُ لأَغْفُوَنْ جَلَلاً وَلَئِنْ سَطَوْتُ لأُوهِنَنْ عَظْمِي قال: "والجلل يزعم أهل اللغة انه من الاضداد، يقع على الصغير والكبير، وهو هنا يراد به الكبير". وأكثر المرزوقي في شرحه اللغوي من الحديث عن الألفاظ واستعمالها في الحقيقة والمجاز، ففي بيت سعد بن ناشب وهو: فَاِنْ تَهْدِمُوا بالغَدْرِ دَارِي فَإنها تَرَاثٌ كرِيمٍ لاُيبَالي العواقبِا وقف عند قوله" تهدموا" قال: "الهدم القلع والتخريب ويسمي المهدّم هدما ... وتوسعوا فيه فقيل للثوب الخلق هدم وجمعه أهدام، وقيل: عجوز متهدمة أي هرمة فانية، وتهدّم عليه من الغضب كما يقال تهجّم".

وفي قول تأبط شرًا: " فَرَشْتُ لَهَا صَدْريِ" قال: "الفرش البسط ثم توسعوا فيه فقالوا: فرشت أمري وافترش لسانه فتكلم كيف شاء"، ونراه يشرح "العضب" وقد ورد لفظه في أحد الأبيات قال: هو القطع وتوسعوا فيه فقالوا: عضبه عن حاجته أي حبسه، وامرأة معضوبة أي معضولة، وسيف غضب أي قاطع كأنه وصف بالمصدر". ونلاحظ أنه في شرحه اللغوي يتتبع استعمال الشعراء اللغة فيبين بالشرح والتحليل استخدامهم المرفوض في الاستعمال، فهو يقف عند بيت عبد الله بن الدمينة في الغزل وهو: لَئِنْ كَانَ يُهْدَي بَرْدُ أَنْياَبها العُلى لأَفْقَرَ مِنّي إِنَّي لَفَقِيرُ فيقول" أفقر كأنه بني على فقر المرفوض في الاستعمال" ثم يشرح ذلك بقوله: " وإنما قلت هذا لأن فقيرًا كان حكمه أن يكون فعله على فقر، ولم يجئ منه إلا افتقر، وشرط فعل التعجب وما يتبعه من بناء التفضيل أن لا يجئ إلا من الثلاثي في الأكثر، وما كان على أفعل خاصة، وإذا كان كذلك فأفقر لا يصح أن يكون مبنيًا على افتقر ولكن على فقر". كما يلاحظ أيضًا أنه كان يهتم بتبيان لغات القبائل حين يجد شعراءها يستخدمون بعض الألفاظ الخاصة بهم، وذلك في مثل بيت القوال الطائي الذي يقول فيه: قُولاَ لهذَا المَرءِ ذُو جَاء سَاعيِاً هَلُمَّ فَاِنَّ المَشرفَّي الفَرَائِضُ قال المرزوقي: " ذو بمعني الذي وهي لفظة طائية تجيء بهذه الصورة في كل حال وتغير" ثم انتقل إلى"هلّم" فبينّ طريقة استعمالها عند أهل الحجاز وغيرهم قال: " وقوله" هلّم، فيه طريقان منهم من يجعله اسمًا للفعل فلا يغيَر عن حالة في المؤنث والتثنية والجمع وهم أهل الحجاز، وفي القرآن"والقائلين لإخوانهم هلمّ

إلينا، ومنهم من يجعله هاء التنبيه وقد ركّب مع لّم، وهو فعل فيثنيه ويجمعه ويؤنثه". وهكذا نلمس من خلال ما عرضناه من نماذج في شرحه اللغوي أنه وان بلدا في بعض تناوله اللغة نقليًا بحتًا فانه بتطرقه لنواٍح مختلفة في علم اللغة قد أضفي على شرحه الأدبي قيمة علمية يحسها القارئ من خلال الفوائد الجمة التي يخرج بها في هذا الجانب. ب- النحو: وإذا كان المرزوقي قد اهتم باللغة لغاية تتمثل في شرح ألفاظ النص المشروح وإيضاحها فان اهتمامه بالنحو كانت الغاية منه شرح التراكيب ليصل بالاثنين معًا اللغة والنحو إلى إيضاح معاني النصوص وإظهار مضامينها، غير أن الدارس للنحو في شرحه يلاحظ جملة من الأمور أهمها ثلاثة: أحدها: أننا إن كنا قد لاحظنا قلة إسهابه في تناول المادة اللغوية، فإننا قد لمسنا لدية بعض الإسهاب فيما كان يثيره من شرح نحوي، ومن أمثلته تلك الوقفة التي رأيناها منه في تركيب" هواي" من بيت جعفر بن علبة الذي يقول فيه: هَواَيَ مَعَ الرَّكبِ الَيَمانِينَ مُصْعِدُ جَنِيبٌ وَجُثْمانيِ بِمَكَّةَ مُوثَقُ فقد قال: " هواي ياء الإضافة فتحت منه على الأصل، وذلك أن هذه الياء لما كانت ضمير اسم على حرف واحد متطرف كرهوا أن تسكن فتختل فجعلوا من أصله التحريك" وكان حقه أن يكتفي بهذا القدر في شرح إضافة الاسم الثلاثي المقصور إلى ياء المتكلم من حيث جعل ياء المتكلم فيه مفتوحة على الأصل، ولكنه استرسل قائًلا: " فإذا كان ما قبله متحركًا كغلامي وداري كان لك فيه وجوه: تحريك الياء وهو الأصل، وتسكينه تخفيفًا، وحذفه من النداء إذا قلت: يا غلام، وإبدال الألف منها مع انفتاح ما قبلها كقولك: وابأباها ويا غلامًا أقبل. وإذا سكن ما قبله فمتى كان واوًا أو ياء أدغم فيه ولم يكن بد من تحريكه لئلا يلتقي ساكنان،

تقول: مسلميّ في الجميع ومسلميَ في التثنية، وإذا كان ما قبله ألفًا كعصاي وقفاي وهواي لم يكن بد من الإتيان به على الأصل، وهو تحريكه لئلا يلتقي ساكنان أيضًا، ولا يجوز الإدغام هاهنا كما جاز مع الواو والياء لأن الألف لا تدغم في شيء ولا يدغم فيها غيرها لكونها هوائية لا معتمد لها في المخرج إلا في لغة هذيل لأنهم يبدلون من الألف الياء ويدغمون، وعلى هذا قوله: سَبَقوا هُوِيَّ وَأَعْنَقُوا لهَواهَمُ فَتُخُرَّموا وَلِكُلِ جَنْبٍ مَصْرَعُ فأنت تراه قد نقل الحديث من حكم إضافة ياء المتكلم إلى الثلاثة المقصور إلى أحكام ياء المتكلم في مختلف الحالات التي تضاف فيها، وهو بلا شك إسهاب واستطراد، غير أنه يحسنه في شرح المرزوقي أنه كان يعرض معه اللغة والبلاغة والمعاني وأحيانًا النقد ولذا لا يحس القارئ بأنه شرح علمي بحت، فهو ليس مثل ابن جني في" التنبيه" الذي يصرف كل همه إلى العلم البحت، ولا كالتبريزي الذي كان في مواضع مختلفة ينقل النحو واللغة من المرزوقي دون العناصر الأخرى، ولذا رأينا الدكتور أحمد أمين يصفه بأنه نحوي لغوي، ويفضل على شرحه شرح المرزوقي، مع أن الغلبة المطلقة من اللغة والنحو الموجودين في شرح التبريزي منقولة من شرح المرزوقي بتعديل وبغير تعديل. وثاني هذه الأمور أن النحو في شرح المرزوقي يتمثل في جانبين أحدهما إيراد القواعد النحوية التي قننها علماء النحو، والآخر تطبيق هذه القواعد من خلال الإعراب، وفي الجانب الأول نراه يتعرض لجملة من قواعد النحو التي يرد الحديث فيها من خلال التراكيب الواردة في أبيات الحماسة. ومن أمثلة ذلك قاعة الاستغناء بالمفعول عن الخبر في تركيب" ليت شعري" الوارد في بيت أبي الأبيض العبسي وهو:

أَلاً لَيْتَ شِعْرِيِ هَلْ يَقُولَنْ فَوَارِسُ ... وَقَدْ حَانَ مِنْهُمْ يَوْمَ ذاك رَحيِلُ قال: "شعري اسم ليت وخبره مضمرٍ استغني عنه بمفعول شعري، وليت شعرى لا يجئ إلا هكذا كما أن لولا يجئ أبدًا محذوف خبر المبتدأ الذي بعده، وقد استغني عنه بجوابه". وكذلك قاعدة تركيب"أجدك" من حيث نصبه على فعل مضمر ولزومه الإضافة دائمًا، وكذلك في قوله أحد الشعراء في باب الملح وهو؛ أّحدَّكُمَا لَمْ تَعْلَما أَنَّ جَارَنَا أَبَا الحِسْلِ بالصَّحْرَاءِ لا َ يتَنَوَّرُ قال: "أجدكما انتصب على المصدر من فعل مضمر كأنه قال: " أتجدان جَدَّكُمَا، ثم مضي يدعم هذا القول بما جاء عن سيبويه في الكتاب فقال: " وذكر سيبويه في باب ما ينتصب من المصادر توكيدًا لما قبله كقولك: هذا زيد حقًا لا باطًلا، وهذا القول لا قولك وهذا لزيد غير ما تقول، والتقدير هذا القول لا أقول قولك، قال سيبويه: أجدك لا تفعل كذا، ولا يستعمل إلا مضافًا، والتقدير أجدًا منك، وجرى هذا مجرى ما لزمته الإضافة نحو لبيك وما أشبها ومعاذ الله". وأما في جانب التطبيق القائم على إعراب التراكيب فان الظاهرة التي تسود غلبة شرحه أنه كان يربط الإعراب المعني ربطًا محكمًا، وهنا تبرز شخصيته بوضوح لأنه كان ينظر إلى الإعراب وسيلة توصله إلى المعني أو قل كان يرى المعني من خلال الإعراب. ومن ذلك ما جاء عنه في بيت الأشجع السلمي الذي يقول فيه: فَأصْبَح في لحدٍ مِنَ الأرَضِ مَيَّتًا وَكاَنت بهِ حَيّاً تَضيِقُ الصَّحاصِحُ فقد قال: " في لحد موضعه نصب على أنه خبر أصبح وانتصب" ميتًا على الحال، وكذلك قوله" حيا" انتصب على الحال. ولا يجوز أن يكون في لحد" في موضع الحال، وميتًا خبر أصبح لأن"ميتًا" من الصدر في مقابلة" حيًا" من

العجز، ولا يكون ذلك إلا حالًا، فكذلك يجب أن يكون ميتا وإلا اختلفا وفسد المعني" ومثل ذلك أيضًا عمله في إعراب" جانبًا" الوارد في بيت سعد بن ناشب وهو: إذَ هَمَّ أَلقْي بَيْنَ عَيْنَيْهِ هَمَّهُ وَنكَّبَ عَنْ ذِكْر العَوَاقِبِ جَاَنَبًا قال: وانتصب جانبًا على أنه ظرف، ونكب يكون بمعني تنكب والمعني: أنه إذا هم بالشيء جعله نصب عينيه إلى أن ينفذ فيه ويخرج منه ويصير في جانب من الفكر والعواقب. ويجوز أن ينتصب" جانبًا" على المفعول ويكون نكب بمعني حرف، والمراد انحرف عن ذكر العواقب وطوى كشحه دونه". وهو بجانب ربطه الإعراب بالمعني نراه ينظر إلى غرض الشاعر وما يتصل به من إيحاءات، وذلك حين يكون للتركيب أكثر من وجه في الإعراب، مثل عمله في بيت بشامة النهشلي الذي يقول فيه: إِنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لَا نَدَّعِي لأبٍ عَنْهُ وَلاَ هُوَ بالأَبْناءِ يَشْرِينَا فقد بين وجه الإعراب في قوله" بني" قال: " وانتصاب بني على إضمار فعل كأنه قال أذكر بني نهل، وهذا على الاختصاص والمدح، وخبراء"لا ندعي" ثم انتقل إلى وجه آخر فقال: " ولو رفع فقال: بنهو نهشل على أن يكون خبر أن لكان لا ندعي في موضع الحال" ثم وضح الفرق بين الوجهين بالنظر إلى غرض الشاعر ومضمون الشعر قال: "والفصل بين أن يكون اختصاصًا وبين أن يكون خبرًا صراحًا هو أنه لو جعله خبرًا لكان قصده إلى تعريف نفسه عند المخاطب، وكان لا يخلو فعله لذلك من خمول أو جهل من المخاطب بشأنهم، فإذا جعل اختصاصًا فقد أمن هو الأمرين معًا".

وثالث هذه الأمور هو مذهبه النحوي في معالجته للقضايا النحوية سواء في جانبها التقعيدي أو التطبيقي، وقد تكلم في هذا كل من الدكتور عبد الرحيم عسيلان والدكتور أحمد العمري، فذهب الأول إلى أنه كان بصري المذهب، ورجح الثاني أنه كان بغدادي المذهب، واعتمد الدكتور عسيلان في رأيه على أنه كثيراً ما يأخذ بآراء البصريين، وأنه من خلال شرحه لأبيات الحماسة يصرح في أكثر من موضع بأنه منهم، واعتمد العمري على أنه" على نحو ما كان ينتخب من آراء البصريين كان ينتخب من الآراء الكوفية ما صح لديه قياسه، كما اعتمد على أنه كان تلميذًا مخلصًا لأبي على الفارسي، أمينًا على مبادئه، والفارسي حسب ما ذهب إليه الدكتور شوقي ضيف- أحد العلماء الذين مزجوا بين المنهجين البصري والكوفي، واحد المؤسسين للمذهب البغدادي الجديد الذي ينتخب من المدرستين ما يراه أولى بالإتباع، وان غلب عليه النزوع إلى المذهب البصري، فعلى هذا فهو- أي العمري- يرى" أن ليس ببعيد أن يكون المرزوقي قد اعتنق مذهب أستاذه إيمانًا منه بمنهجه وتأثراً واقتداء، وفي كل ما ذهب إليه الباحثان نصر، فقول الدكتور عسيلان بأنه كثيرًا ما يأخذ بآراء البصريين لا يؤكد بصريته لأن أستاذه أبا على الفارسي كان كثيرًا ما يأخذ البصريين ومع ذلك عدة الدكتور أحمد أمين أحد أعمدة مدرسة القياس التي نشأت معتمدة على أصول بصرية"، وعده الدكتور شوقي ضيف أحد أئمة المدرسة البغدادية الجديدة. وأما قوله بأنه كان في خلاله شرحه لأبيات الحماسة يصرح في أكثر من موضع بأنه منهم فهو قول مبني على العبارات التي ترددت في شرحه من مثل" هو المختار عند

أصحابنا البصريين" و"طريقة جل أصحابنا البصريين" و"هذا يبين ما يسلكه أصحابنا البصريون" و"الآل عند أصحابنا البصريين والأهل واحد"، وهي عبارات لا تدل على التصريح بأنه من البصريين لأنها شبيهة بعبارات ابن جني التي رأيناه يرددها في كتابيه" الخصائص والتنبيه" ففي الخصائص مثلاً قوله: "لم يثبت أصحابنا قنيت"، وفي التنبيه قوله: " موسى لا يصرفها الكوفيون، وهي عندنا نحن مفعل ويحكى أصحابنا أوسيت رأسه أي حلقته ويصرفونها"، وقال في موضع آخر: والذي قال أبو على أجرى على مقاييس أصحابنا" وهو يعني بقوله أصحابنا البصريين مثلما يعني المرزوقي، ولكن هذا لم يمنع كلا من الدكتور أحمد أمين والدكتور شوقي ضيف عن أن يذهبا إلى عدم بصريته، فقد وضعه الأول بين أصحاب مدرسة القياس كأستاذه أبي على، وضعه الثاني في مصاف أئمة المدرسة البغدادية الجديدة، ولو تأملت قوله في "موسى لا يصرفها الكوفيون وهى عندنا نحن مفعل ويحكى أصحابنا أوسيت رأسه" لأدركت أنه صرح أنه من مدرسة لا بصرية ولا كوفية أو على الأقل ذو منهج يختلف عن منهج البصريين والكوفيين. وأما قول الدكتور العمري بأن المرزوقي على نحو ما كان ينتخب من آراء البصريين كان ينتخب من الآراء الكوفية فهو قول عندما تجريه على شرحه للحماسة تجد صعوبة في إثباته لأن ما أورده للكوفيين من آراء في هذا الشرح لا يبلغ في مواضعه

أصابع اليدين, ولا يقاس بالكثرة الكاثرة من الآراء البصرية التي قام عليها نحوه في الشرح. هذا فضلًا عن أنها لا تدل على أنه يختار رأيًا كوفيا فيما يعرضه وإنما مجرد عرض آراء لا أكثر ولا أقل, ولو نظرنا إلى الأمثلة الأربعة التي أوردها الدكتور العمري ليبرهن بها على انتخابه آراء الكوفيين لوجدناه يقف في ثلاثة منها مع البصريين ضمنًا أو صراحة, ففي المثال الأول الخاص ببيت الفند الزماني: ولولا نبل عوٍض في خضماتي وأوصالي نجد المرزوقي يروي ((عوض)) في البيت بالبناء على الفتح وهو مذهب البصريين ثم قال: ((عوض اسم للدهر معرفة مبني وكما يبني على الفتح يبني على الضم, والضم فيه حكاه الكوفيون, ويقال: لا أفعله عوض العائضين)) فهو في روايته وما ضربه من مثال لا يبنيه على الضم كما يفعل الكوفيون وإنما يبنيه على الفتح الذي هو مذهب البصريين. وفي المثال الثاني الخاص ببيت لا مرأة من بني أسد هو: أنعى فتًى لم تذر الشمس طالعًة يومًا من الدهر إلا ضر أو نفعا قال المرزوقي: ((انتصب طالعة على الحال المؤكدة لما قبله)) وهذا رأي البصريين ثم قال: (والكوفيون يقولون في مثله: انتصب على القطع)) ثم اعتمد على الرأي البصري مضى مقررًا قوله: ((وكما أن الحال يجيء مؤكدًا لما قبله تجيء الصفة مؤكدة لما قبلها, ومثال الحال رايته في الحمام عريانا, فعريان حال مؤكدة, ومثاله في الصفة أن تقول: فعلت كذا أمس الدابر)). فهذا عمل لا يقال عن صاحبه إنه ((كان لا يسجل انتصارًا لهؤلاء أو هؤلاء بل

يكتفي بعرض الآراء جنبًا إلى جنب مبينًا وجهات النظر المذهبية كلًا على حدة دون تعصب)). وفي المثال الثالث الخاص ببيتي عمرو بن معدي كرب وهما: ولما رأيت الخيل زورًا كأنها جداول زرٍع خليت فاسبطرت فجاشت إلى النفس أول مرٍة وردت على مكروهها فاستقرت وقد أورد الدكتور العمري هذا المثال مبتورًا, وهو كما جاء في شرح المرزوقي على النحو التالي: يجوز أن يكون الفاء في ((فجاشت)) زائدة في قول الكوفيين وأبي الحسن الأخفش, ويكون جاشت جوابًا للما, والمعنى: لما رأيت الخيل هكذا خافت نفسي وثارت, وطريقة جل أصحابنا البصريين في مثله أن يكون الجواب محذوفا كأنه قال: لما رأيت الخيل هكذا فجاشت نفسي وردت على ما كرهته فقرت طعنت أو أبليت. ويدل على ذلك قوله في البيت التالي ((علام تقول الرمح يثقل ساعدي إذا أنا لم أطعن)) فحذف طعنت أو أبليت لأن المراد مفهوم, وهذا كما حذفوا جواب لو رأيت زيدًا وفي يده السيف)) ثم أورد نظيرين من الأمثلة من القرآن والشعر لحذف الجواب وقال: ((وحذف الجواب في مثل هذه المواضع أبلغ وأدل على المراد وأحسن بدلالة أن المولى إذا قال لعبده: والله لئن قمت إليك, وسكت, تزاحمت عليه من الظنون المعترضة للوعيد ما لا يتزاحم لو نص عن مؤاخذته على ضرب من العذاب)) فأنت ترى المرزوقي في هذا المثال يحاول عن طريق ضرب الأمثلة والشواهد واللجوء إلى الأثر النفسي الناتج عن مواقع إثبات رأي البصريين في قولهم بحذف الجواب في هذه المواضع. إن المثال الوحيد الذي يبدو فيه عرض لرأي بصري وآخر كوفي دون انحياز ضمنًا أو صراحة هو المثال الذي جال حول لفظة ((الآل)) في بيت سليمان بن قتة الغنوي وهو:

مررت على أبيات آل محمٍد فلم أرها أمثالها يوم حلت فقد بدأ الحديث فيه بإيراد رأي البصريين قال: ((الآل عند أصحابنا البصريين والأهل واحد, ويدل على ذلك أن تصغير الآ أهيل كما أن تصغير الأهل أهيل)) ثم عرض رأي الكوفيين فقال: ((وأخبرنا الفراء عن الكسائي أنه قال: سمعت أعرابيًا فصيحًا يقول أهل وأهيل وآل وأويل. قال أبو العباس ثعلب: فقد صار أصلين لمعنيين لا كما قال أهل البصرة, وحكي أبو عمر الزاهد عن ثعلب أن الأهل القرابة كان لها تابع أو لم يكن والآل القرابة بتابعها. قال: ولهذا أجود الصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم وأفضلها اللهم صل على محمد وعلى آل محمد)). فنحن في هذا المثال نراه يعرض الرأيين معًا دون تحيز بل ربما يكون أميل للكوفيين لإطالة ما نقله عنهم في هذا الخصوص. ولكن هل مثال واحد يكفي لأن نرجح القول بأن الرجل كان بغدادي المذهب؟ . أضف إلى هذا أن الدكتور العمري أهمل إيراد مثالين آخرين وردا في الشرح وأشار إليهما في هوامشه كان المرزوقي ظاهر الوقوف فيهما إلى جانب المذهب البصري. وأما قوله: بأن ليس ببعيد أن يكون المرزوقي قد اعتنق مذهب أستاذة أبي على الفارسي إيمانًا منه بمنهجه وتأثرًا واقتداًء فقد يكون صحيحًا إذا ما طبق على كتب المرزوقي الأخرى, أما في شرح الحماسة فقد مر بنا أنه نقل عن شيخه أبي علي مشافهة في ثمانية مواضع فقط, وهي مواضع لا تقاس بنقولاته العديدة من الخليل

وسيبويه والأصمعي وغيرهم من علماء المذهب البصري, ولقد قرأنا عمل المرزوقي في الحماسة وقرأنا عمل ابن جني فيها فوجدنا ابن جني في عمله أكثر التحامًا بأبي علي الفارسي, وأوضح اقتداء من المرزوقي في عمله. إن ما نريد قوله في هذا المقام هو أن المرزوقي من خلال شرحه للحماسة لا يبدو بصريًا مطلقًا كما لا يبدو قياسيًا أو بغداديًا مطلقًا, لا يبدو بصريًا مطلقًا لأنه كان إذا تكلم عن أهل البصرة ذكرهم كما يذكرهم أصحاب مدرسة القياس أبو علي وابن جني ومن تبعهما, ولا يبدو بغداديًا مطلقًا لأن المذهب البغدادي يقوم على خصائص معينة تتمثل في الاستقلال الفكري, والاتساع في القياس, والاستعانة بالمنطق, وهي أمور لا نستطيع إثباتها من خلال عمل المرزوقي النحوي في الحماسة, قد يكون ذلك ممكنًا عن طريق دراسة كتبه الأخرى وبخاصة كتبه في النحو, أما في الحماسة فإنه غير واضح المسلك, فهو في غلبة شرحه يبدو واضح التأثر بالمدرسة البصرية ولكنه بالمقابل يستخدم عبارات أصحاب مدرسة القياس أو المدرسة البغدادية الجديدة, ربما كان هذا بتأثير من شيخه أبي علي الفارسي, ولكننا رايناه في موضع من شرحه يختار رأيًا كوفيًا ضعيفًا ليرد به على ابن جني صنوه في التلمذة لأبي علي وأحد دعائم مدرسة القياس وذلك في بيت غلاق بن مروان الذي يقول فيه: فأضحت زهير في السنين التي مضت وما بعد لا يدعون إلا الأشائما فقد قال ابن جني في التنبيه: ((ينبغي أن تكون ما من قوله ((وما بعد)) زائدة وتقديره: وبعد, ولا يحسن أن تجعل ما بمنزله الذي أي الزمان الذي بعده وذلك أن قبل وبعد إذا حذف منهما ما أضيفا إليه لم يبنيا على شيء لنقصانهما ولحاقهما بالحرف لأجل الحذف, فإذا كانا لا يبنيان على شيء كان الامتناع من الوصل بهما أوجب, وذلك أن الصلة إلى الإيضاح والتمام أحوج من الخبر, ألا ترى إلى استمرار حذف الخبر وعرة حذف الصلة, فإذا امتنع الأخبار بهما كان الوصل بهما أعر وأقبح)).

هذا ما أورده ابن جني في التنبيه فنقله المرزوقي في شرحه مصدرًا إياه- كعادته بعبارة ((وذكر بعضهم)) ثم رد عليه بقوله: ((وليس الأمر على ما قاله ألا ترى أن قوله عز وجل: ((قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقًا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف: ((قال معناه ومن قبل الذي فرطتم في يوسف أي قدمتم, ويجوز أن يراد به ومن قبل تفريطكم, فيكون ما مع الفعل في تقديره مصدر وعلى الوجهين جميعًا من في موضع رفع ومن قبل خبره, وذكر أبو إسحاق الزجاج في ((ما)) من الآية ثلاثة أوجه ما ذكرنا أحدها, وإذا كان الأمر على هذا فما ذكره هذا القائل غير صحيح)). فعلق الخطيب التبريزي في شرحه على قول المرزوقي هذا بعد أن أورده قائلًا: ((هذا رد المرزوقي على ابن جني وقد أنحى عليه ولم ينصفه بقوله وما ذكره هذا القائل غير صحيح, لأن الذي ذهب إليه ابن جني أحسن من الذي ذهب إليه المرزوقي, وأما قوله وذكر الزجاج في ((ما)) من الآية ثلاثة أوجه ما ذكرناه أحدها, فهو كما ذكره, غير أن الذي ذكره ابن جني هو أجود الوجوه, وكتابه يدل عليه, وغير الزجاج من النحويين ذكر في الآية الوجه الذي ذكره المرزوقي وقال: فيه قبح للتفرقة بين حرف العطف والمعطوف بمن قبل ثم قال: وهو عند الكوفيين حسن, وليس للمرزوقي أن يترك المختار من قول البصريين ويعدل على قول الكوفيين رادًا على ابن جني- رحمه الله)).

فكأن التبريزي بعبارته الأخيرة يرى أن المرزوقي بصري المذهب تعمد العدول عن مذهبه على مذهب الكوفيين ليرد على ابن جني تبعًا لموقف سبق أن عرضنا له عندما تكلمنا عن اعتراضاته لابن جني في الرواية. وصفوة القول أننا لا يمكن أن نحدد للمرزوقي مذهبًا في شرحه للحماسة فنهجه في معالجة القضايا النحوية فيه شيء من الاضطراب, كما أن دراسة مذهب الرجل لا تتم من خلال كتاب واحد فيه أديب أكثر من كونه عالم نحو, والذي ينبغي عمله في هذا الخصوص هو دراسة جميع أعمال الرجل التي تتصل باللغة والنحو وهذا عمل لا يتسع له بحثنا هذا ولا هو من صميمه ولولا أن كلا من الدكتور عسيلان والدكتور العمري قد أقحماه في تناولهما شرح المرزوقي للحماسة الذي تهمنا دراسته في المقام الأول لما خضنا فيه على النحو. 6 - تحليل المعنى: اهتم المرزوقي بتحليل معنى النص اهتمامًا ملحوظًا, يتضح هذا الاهتمام في نواح شتى لاحظناها في تتبعنا له وهو يقوم بعملية تحليل المعاني, ولقد رأيناه في العنصر السابق كيف كان يستعين باللغة والنحو في تفسير باللغة والنحو في تفسير الألفاظ والتراكيب وصولًا إلى المعاني وإيضاحها, أما هنا فقد رأيناه ينظر في تحليل معاني النص إلى نواح مختلفة أهمها نظرته إلى وحدة النص ومحاولته الربط بين أبيات القطعة الواحدة بصورة تجعلنا بإدراكه كلية النص لا جزئيته, وثانيها أنه ينظر إلى مقاصد الشعراء ومراميهم فيسجلها أحيانًا قبل الشروع في إيراد المعاني, وثالثها أنه يستقصى المعنى ويورده في أكثر من وجه ويقيم الجدل والحوار بينه وبين نفسه أو قارئه بغية تأكيده وإقراره, ويستحضر الشواهد من القرآن والشعر التي تلتقي في معانيها بمعاني النص خدمة لما قرره فيها من قول وقصدًا لإظهاره. ورابعها أنه كان يتعقب أقوال السابقين في المعاني أنه كان يتعقب أقوال السابقين في المعاني لإبراز جوانب القصور فيها, وخامستها تخيره في عرض المعنى العبارات الأدبية والجمل الإيحائية التي تؤدي المعنى في صورة تبعث المتعة في نفس قارئه وتجعله يستشعر بعقله ووجدانه شرف المعنى وقيمة المضمون.

إن الأمثلة في هذه النواحي تكاد تشمل سائر أجزاء شرحه, وسوف نحاول أن نعرض نماذج لها حتى تتضح لنا طريقته المتنوعة في تناول المعنى. أ- نظرته إلى كلية النص: ففي كلية النص كانت طريقته تتلخص في رؤيته لوحدة البيت من جهة وإلى ارتباطه بغيره من جهة أخرى, فإذا كان البيت قائمًا بذاته دالًا بمفرده على المعنى قام بشرحه وتحليل معناه منفردًا وإلا ربط بينه وبين غيره من الأبيات التي تلتقي معه في الفكرة التي رمي إليها الشاعر, ولهذا جاءت معالجته للنص متفاوتة فتارة يشرح النص بيتًا بيتًا وتارة يجمع بين البيتين أو الثلاثة أو الأربعة فصاعدًا, وتارة ثالثة يورد القطعة كاملة ثم يتناولها بالشرح والتحليل, ولقد رأيناه بالإحصاء يشرح خمسًا سوبعين ومائة قطعة, جميعها من ذوات الثلاثة أبيات فصاعدًا دون أن يجزئها إلى أبيات, كما رأيناه يجمع بين الثلاثة أبيات داخل القطعة الواحدة في واحد ومائة موضع, وبين الأربعة أبيات فصاعدًا في أربعة وثلاثين موضعًا, أما أن يجمع بين البيتين في القطعة الواحدة أو أن القطعة نفسها من ذوات البيتين في الاختيار فإن ذلك في شرحه كثير لا طائل لحصره, هذا فضلًا عن أنه كان إذا حلل النص بيتًا بيتًا ورأى أن صلة ما في المعنى بين البيت وسابقه أو الذي يليه دل ذلك وبينه, فمثلًا بيت بشامة النهشلي الذي يقول فيه: وإن دعوت إلى جلي ومكرمٍة يوما سراة كرام الناس فادعينا نظر المرزوقي إلى صلته بما يليه فقال: ((هذا الكلام ظاهرة استعطاف لها والقصد به التوصل إلى بيان شرفه واستحقاقه ما يستحقه الأفاضل والأشراف, والأماثل الكرام ... ألا ترى كيف اشتغل بمقصوده من الافتخار فيما يتلو هذا البيت, وهم كما يتخلصون من التشبيهات وغيرها إلى أغراضهم على اختلافها فإنهم قد يتوصلون بمبادئ كلامهم إلى أمثالها, فتقل المؤونة وتخف الكلفة, ولهذا نظائر وأشباه تجيء فيما بعد)).

وفي بيت العباس بن مرداس الذي يقول فيه: ولا تطمعن ما يعلفونك إنهم أتوك على قرباهم بالمثمل قال المرزوقي: ((أخرج ما قدمه من التمثيل لكيدهم وسوء دخلتهم وما يجب عليه من الأخذ بالتحرز معهم, وترك الاستناخة في المبرك الذي اختاره, والمبوأ الذي أعدوه في معرض آخر. والمعنى: وما يعد قرى لك فتجنبه ولا تتناوله فإنه هيئوا لك سمار قاتلا فلا تطعمه. وكان العباس قد سبق بيته هذا بقوله: إن بوءوك مبركًا غير طائٍل غليظًا فلا تنزل وتحول فانظر كيف استطاع المرزوقي أن يربط بين البيتين مراعيًا أسلوب الشاعر في إخراج الكلام. وهو بجانب الكلية للنص يعتمد كثيرًا إلى إيراد مقصد الشاعر ومرماه من الكلام, وقد يسبق به إيراد المعنى وتقريره. مثال ذلك ما جاء عنه في بيت جميل بن معمر الذي يقول فيه: يقولون لي أهلًا وسهلًا ومرحبًا ولو ظفروا بي ساعًة قتلوني فقد بدأ القول فيه شارحًا مقصد الشاعر قال: ((نبه بهذا الكلام على تملقهم وإظهارهم النفاق مالا يوافق باطنهم عجزًا وضعف كيد)) ثم أورد المعنى فقال: ((والمعنى يستقبلوني بالتأهيل ويتلقوني بالترحيب عند الالتقاء, ولو أعطوا الظفر لأتوا علي وما أبقوا)). وفي بيت سعد بن ناشب الذي جاء في: إذا هم ألقى بين عينيه عزمه وصم تصميم الريسجي ذي الأثر

قال: ((يذكر من نفسه الصرامة والنفاذ وفصل الأمور, والصبر على ممارسة الخطوب)) ثم شرح المعنى فقال: ((يقول: إذا عزم على الأمر كان جميع الرأي, يجعل المهموم به نصب عينيه حتى يخرج منه, ونفذ نفاذ السيف الخدم لا يتوقف في الضريبة ولا يكهم)). ج- إيراد المعنى في أكثر من وجه: على أن السمة السائدة في معالجته للمعاني تكمن في إيراده المعنى في أكثر من وجه, فهو يستقصيه ويذكر وجوهه, وأحيانًا يفاضل بين وجه ووجه, وأحيانا يورد الوجوه دون مفاضلة, ومن أمثلة ذلك عمله في بيت عنترة بن الخرس المعنى الذي يقول فيه: ألم تر أن شعرك سار عني وشعري حول بيتك ما يسير فقد أورد معناه في وجهين دون مفاضلة بينهما قال: ((يقول ألم تعلم أن شعرك الذي قتلته في لم يعلق بي ذمة لأنه كان كذبًا وزورًا, وشعري الذي قتلته فيك يطوف حول دارك وبيتك ولا يفرقك لأنه كان صادقًا)). ثم أورد معنى آخر فقال: ((ويجوز أن يكون المعنى: ألم تر أن شعري الذي قتلته فيك سار عني لأن الرواة احتملوه استجادة له واستلذاذًا, وشعرك الذي قلته في ملازم لك لزهد الناس فيه لما كان سفسافًا)) وساغ الوجهان جميعًا لأن المصدر يضاف إلى المفعول كما يضاف إلى الفاعل, فعلى ذلك جاز أن يقول شعرك ويريد شعري المقول فيك)). ونراه يفاضل بين وجهين في بيت من قطعة لبعض بني فقعس يشير فيها إلى مهاجاة قبيلة سنبس له, والبيت هو: إني امرؤ مكرم نفسي ومتئد من أن أقاذعها حتى أجازيها قال في الوجه الأول: ((يقول: إني رجل أربأ بقدري عن مكايلتهم وأترفع

عن موازنتهم وأتوقف عن ملاحاتهم طلبًا لمجازاتهم, والتقدير لا أقاذعها لكي أجازيها)) ثم قال في الوجه الثاني: ويجوز أن يكون المعنى: لا أقاذعها إلى أن أجازيها, أي أولًا أجازيها فعلًا لأرى القدرة عليها ثم حينئذ أجازيها بالكلام)) ثم فضل فقال: ((والأول أحسن)). على أننا رأيناه في هذا الجانب يذهب إلى ابعد من ذلك حيث كان يشرح المعاني من حيث الغرض فيصور المعنى في غرض مرة, وفي غرض آخر مرة أخرى, وذلك في مثل قوله في بيت الحماسة: إني رأيتك تقضي الدين طالبه وقطرة الدم مكروه تقاضيها قال: ((هذا البيت يصلح أن يكون مدحًا فيكون المعنى: إني رايتك تخرج إلى المدينين سريعًا من دينهم عليك غير مدافع بما في ذمتك لهم ولا مماطل, فإذا طولبت بدم أو نوزعت في ذحل شق تقاضيك به, وتصعب نيله من جهتك وتعذر. وبصلح أن يكون ذمًا فيكون المعنى: إني رأيتك بأهون سعي واقرب طلب تخرج من الأوتار والدماء إلى طلابها فلا كلفة في نيلها وإدراكها من جهتك, والتقاضي بالدم عسر صعب إلا إذا كان عندك وقبلك, فما ذلك إلا لضعف كيدك ومهانة نفسك, وقصور آبائك, والدين في هذا الوجه يراد به الوتر والدم)). ومن البديهي أن يعد مثل هذا العمل مبالغة في التأويل لأن الشاعر عادة يكون ذا مقصد واحد في كلامه, فهو إما يهجو أو يمدح, غير أن النص إذا لم يكن فيه ما يدل على المقصد فإن ذلك يؤدي إلى أن يتجه الشراح في تفسيره كيفما اتفق لديهم من استنطاق للألفاظ والتعابير التي يقوم بها البيت, وربما كان إسقاط أبي تمام لبعض البيات من النص الذي يختاره سببًا في أن يتجه الشراح هذه الوجهة غير المنطقية في الشرح والتأويل. إن المرزوقي بجانب هذا كان يستقصي المعنى ويورد له الشواهد من كل وجه

حتى يدعم ما قرره فيه, ففي بيت حريث بن جابر الذي يقول فيه: إذا ظلم المولى فزعت لظلمه فحرك أحشائي وهرت كلابيا نراه يشرحه ويوضح معناه ثم يقول مستقصيًا وجوهه: ((يجوز أن يكون تحركت أحشاؤه لوجيب قلبه وخفقانه, ونبحت كلابه لتهيئه للانتقام وتدججه في السلاح له, وتجمع أصحابه وأعدادهم الخيل والرجل لإغاثته, والكلب ينكر أصحابه إذا رآهم بهذه الأحوال فينبح, أنشد الأصمعي في مثله: أناس إذا ما أنكر الكلب أهله حموا جارهم من كل شنعاء مظلم ووجه آخر وهو أن يكون تحركت أحشاؤه لاضطرابه في جمع من يجمع وإعداد ما يعد, والمتسرع في الشيء يلحقه ذلك ومثله: حللنا الكثيب من زرود لنفزعا أي لتغيث)). هذا الاستقصاء في تناول المعنى وإيراد الشواهد لإبرازه وإيضاحه نلاحظ في مواضع مختلفة من شرحه, وهو يؤكد ما أوردناه في صفات منهجه الذي سلكه من حيث ذاتيته وأعمال عقله وكد فكره من جهة, وثقافته وإطلاعه الواسع من جهة أخرى. وإذا كان استقصاؤه للمعاني سمة بارزة في شرحه فإن طريقته الجدلية القائمة على الحوار تعد هي الأخرى خصيصة من خصائص عمله في المعاني, فهو يقرر

المعنى وفق الرؤية التي ارتآها من قراءته للنص ثم يقيم الجدل حوله بغية تأكيد صحته, وذلك في مثل عمله في بيتي أبي الطمحان القيني وهما: ألا عللاني قبل صدح النوائح وقبل ارتقاء النفس فوق الجوانح وقبل غٍد يالهف نفسي على غٍد إذا راح أصحابي ولست برائح فقد أوردها معناهما بقوله: ((يقول: عللاني بالمقترح عليكما قبل أن أموت فتقدم النوائح علي يندبنني, وقبل ميقات أجلي وأوان تخلفي عن أصحابي وقد راحوا عني لنزول القدر الغدور بي)) ثم بني جدلًا فقال: فإن قيل: كيف قدم ذكر صدٍح النوائح على ذكر الموت وإنما يكون بعده؟ قلت: إن العطف بالواو لا يوجب ترتيبًا ألا ترى أن الله تعالى قال: ((واسجدي واركعي)) والركوع قبل السجود في ترتيب أفعال الصلاة)). د- تعقبه الآخرين في شرح المعاني: وهو بجانب ما ذكرنا لا يكتفي بمعالجته للمعنى وإبرازه من خلال هذه السبل التي وضحناها بل يزيد على ذلك أنه كان يتعرض لشرح من سبقه في المعاني, ولكنه كان لا يفعل ذلك إلا في مجال التعقيب والانتقاد, وهو في هذا يختلف عن أبي العلاء الذي يأتي القول فيه فيما بعد, والذي كان يورد شروح الآخرين في المعاني ويبين وجه الحسن فيها مضيفًا إليها ما يراه من جديد معنى. أما المرزوقي فإن صفة الاستعلاء التي تركبت عليها نفسه والتي نوهنا لها في أكثر من موضع تجعله دائمًا يقف من سابقيه المشاركين له في عمل الحماسة موقف المتجاوز عما أحسنوا فيه المتعقب لما قصروا فيه. قال في بيت قبيصة بن جابر الذي يقول فيه: فلسنا من بني جداء بكٍر ولكنا بنو جد النقال

((يقول: لسنا أبناء الحرب القليلة الدر اليسيرة الأذى والشر التي لم يكتثر موقدها, ولم يتشمر لها خطابها ومولدوها, ولكننا بنو المناقلات الشديدة الهياج والوقعات الصعبة المراس)) وهذا تفسير جيد لمعنى جيد لمعنى البيت انتقل المرزوقي بعده ليقول: ((وقد اضطرب بعض المفسرين في هذا البيت فأتى بما يحجبه السمع ولا يعيه القلب فقال: المعنى لسنا بعقم لم يكثر أولادنا فينا الكثرة والعز وقوله: ((بنو جد النقال)) يعني به المناقلة في الكلام, يريد أنهم خطباء قال: فالمصراع الثاني ليس من الأول في شيء, وإذا كان كذلك فكأن أبا تمام ذكر البيت على رداءته ليتجنب قول مثله ولينبه على المترذل منه كما نبه على المختار المستحسن بغيره ((ثم عقب على العبارة الأخيرة بقوله: ((هذا القائل لم يرض بذهابه عن الصواب حتى ظن بأبي تمام ما لم يخطر له ببال)). هـ- أسلوبه في عرض المعنى: وأما أسلوبه في عرض معاني النصوص فيتصف- كما قال الدكتور العمري- بالوضوح والقوة والجمال, وهي صفات الأسلوب الأدبي الذي سلكه أصحاب المنهج الإبداعي, ففيه إرادة الإفهام, وفيه التأثير في عقول المتلقين ووجداناتهم, وفيه الإمتاع المشع من نظم الكلام ورصفه رصفًا يدل على اختيار الألفاظ وأحكام صوغ الجمل. ولا شك أن الوضوح هي أهم الصفات التي سادت أسلوب المرزوقي, ذلك لأن وضوح العبارة وجلاء التفسير يعدان مطلبًا أساسيًا لكل من يتصدى لشرح الشعر القديم, ومن هنا كان وضوح العبارة الصفة المشتركة لدى سائر الشراح على مختلف مناهجهم, غير أن هذا الوضوح عند المرزوقي وغيره من الإبداعيين لا يأتي وحده, وإنما تأتي معه القوة, ويأتي معه الجمال, وكلاهما يشكل فارقًا في الأسلوب بين الإبداعيين وغيرهم من ذوي المناهج الأخرى.

ولعل أول ما يلاحظه القارئ في أسلوب المرزوقي وهو يعرض المعاني أنه يتخير ألفاظه, وهي ألفاظ عذبه سلسة ينأى بها عن الوحشية ويحوطها عن المترذل, ثم هو بعد ذلك يحكم الجمل طولًا وقصرًا في تنسيق بديع وأحكام قويم, يميل فيه إلى الأطناب القائم على الترادف وتتابع الجمل المؤكدة ذات المعنى الواحد. قد تلحظ بين ثنايا هذا التنسيق وهذا الإحكام السجع ولكنه سجع لا تحس فيه بقلق أو تكلف, وقد تلمس فيه شيئًا من إعمال الفكر ولكنه إعمال مطبوع لا متصنع, والأمثلة على ذلك كثيرة تسود صفحات شرحه ولكن يمكن أن نعرض نماذج لنبين في أسلوبه ما ذكرناه من صفات, ففي بيت أوس بن حبناء يقول فيه: يرى أن بعد العسر يسرًا ولا يرى إذا كان يسر أنه الدهر لازب نراه يعرض معناه فيقول: ((يقول يعلم أن أسباب الدنيا وتصاريفها مبنية على التغير والتبدل, فالعسر واليسر يتعاقبان ولا يلزمان, فمتى استغنى كرم ولم يبطر, علمًا بأنه فلا يبقى, وإذا افتقر عف ولم ييأس, ثقة بأنه يزول ولا يدوم)). فانظر إلى ألفاظ ((التغير والتبدل)) , ((يتعاقبان ولا يلزمان)) ((يفنى فلا يبقى)) ((يزول ولا يدوم)) لتدرك كيف أن المرزوقي كان يوفر الأطناب لأسلوبه ليحقق التنسيق بين جمله. ومثل هذا الأطناب القائم على الترادف وتعاقب الجمل ذات المعنى الواحد يمكن أن تلحظه كثيرًا في أسلوبه, وغايته من ذلك أن يكشف لك المعنى ويوضحه في جلاء, وتستطيع أن تلمس ذلك في عروضه لمعنى قبيصة بن جابر السدي الذي يقول فيه: وعاجمت الأمور وعاجمتني كأني كنت في الأمم الخوالي فقد كان يمكن عرض معناه على نحو مثل هذا ((يقول: إنه جرب الأمور وجربته, كأنه بتجاربه عاش منذ عصور سبقت عصره)) غير أن المرزوقي لم يسلك هذه السبيل التي نجدها عند أصحاب المنهج الاختصاري التسهيلي الذين يركنون

إلى الإيجاز في عرض المعنى تصويره بأقل جمل, أنه يعرض معناه في ملاحقة واستقصاء فيكشفه ويوضحه يقول: ((إني مجرب مدرب, زاولت النوائب, وعاركت الأهوال والعجائب, فلومتها ولزمتني, وأزمت بي, وصرت لطول تجاربي وامتداد أيام محاكتي نقابًا محدثًا, أبلغ بطني ما يبلغ غيري بمشاهدته, على قرب ميلادي وحداثة سني, حتى كأني كنت في الأمم الماضين, وأحد الرجال المعمرين, فأدرك الشيء قبل حصوله, وأتصوره ولم يجئ بصورة ما فرغ منه وقضي, فظني عيان ويومي دهر)). فلا شك أنك حين تقرأ هذا العرض تحس بأن المرزوقي لم يهدف إلى الإفهام فحسب بل هدف إلى الإفهام والإمتاع معًا, ومن ثم جاءت عباراته وجمله متتابعة في أحكام متوالية في تنسيق لتنتهي بما هدف إليه. غير أننا أحيانًا نلمس في أسلوب المرزوقي وهو يعرض المعاني جنوحًا نحو أسلوب المعلمين, وهنا يختفي الإمتاع ويبقى الوضوح وحده, وذلك في مثل بيت عبد القيس بن خفاف الذي يقول فيه: صحوت وزايلني باطلي لعمر أبيك زيالًا طويلا فقد عرض معناه بقوله: ((يقول: وبقاء أبيك لقد أفقت من سكر البطالة وفارقني ما كنت أتعاطاه من الصبا والجهالة فراقًا ممتدًا, لا ينقطع بمعاودة تعرض دونه أو بمواصلة تبطله وتزيله)) , وهذا بلا شك أسلوب أدبي, ولكنه شفعه بأسلوب المعلمين فقال: ((فإن قيل كيف وصف الزيال بالطول؟ قلت: الطول في الحقيقة لوقت الزيال لا له لكنه وصفه به على طريق التوسع)). هذا الجنوح محو أسلوب المعلمين ذي المنحى العلمي عند المرزوقي هو نتيجة لتأثير شخصية المعلم فيه, وهي شخصية قد تطغى على نوازعه الأدبية فيكون لها هذا الأثر في الأسلوب, غير أن هذا وإن كان يقع منه أحيانًا, فإن أسلوبه في عرض

المعنى يبقى في غلبته أدبيا مشرقا يحقق غايته في الإفهام والإمتاع معا. 7 - البلاغة والنقد: كانت للمرزوقي عناية بالبلاغة في شرحه, كما كانت له وقات نقدية تدل على إدراكه قيمة هذين العنصرين في عملية شرح الشعر وهو- كما رأيناه في مقدمة شرحه- مدرك لعمود الشعر, ملم بالأبواب التي يقوم عليها, حاذق بعيار كل باب منها. وإذا كانت هذه حالة فمن الطبيعي أن نجد له لمحات طيبة في علم البلاغة أثناء عملية في الشرح, تشمل علومها الثلاثة: البيان والمعاني والبديع, كما نجد له وقفات في النقد وفق هذه النظرية التي طرحها في عمود الشعر. أ- البلاغة: ففي مجال البلاغة نجده وهو يشرح النص يشير إلى ألوان تتصل بعلم البيان وأخرى تتصل بعلم المعاني, وثالثة تتصل بعلم البديع, ففي البيان كانت له وقفات عند التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز, فمن أمثلة وقوفه في التشبيه ما جاء عنه في بيت محمد بن بشير الوارد في باب الغزل وهو: بيضاء آنسة الحديث كأنها قمر توسط جنح ليٍل مبرد قال: ((شبهها بقمر توسط السماء فيما جنح من ليل كان فيه غيم وبرد)) ثم بين جمال الصورة التي رمي إليها الشاعر من تشبيهه فقال: ((والقمر إذا خرج من حلك الغمام في ليلة مطيرة كان أضواء وأحسن)). وفي بيت عمرو بن معدي كرب الذي يقول فيه: ولما رأيت الخيل زورًا كأنها جداول زرٍع خليت فاسبطرت كانت له وقفتان تخص التشبيه إحداهما في قوله: ((ولما رأيت الخيل زورًا)) وقد قال فيها: ((وصف الخيل في انحرافها بزور والزور جمع أزور, وهو المعوج الزور, وهذا من التشبيه الحسن الصائب)) ((أما الأخرى فقد كانت في قوله:

((كأنها جداول زرع)) قال: ((والتشبيه وقع على جري الماء في الأنهار لا على النهار, كأنه شبه امتداد الخيل في انحرافها عن الطعن بامتداد الماء في الأنهار وهو يطرد ملتويًا ومضطربًا)). أما في بيت ابن زيابة الذي يقول فيه: نبئت عمرًا غارزًا رأسه في سنٍة يوعد أخواله فقد كانت وقفته فيه تدل على نظرة متفهمة لدقة التعبير عند الشاعر في قوله: ((في سنة)) قال المرزوقي: ((أراد بالسنة الغفلة, وهو ما يحدث في أوائل النوم في العين ولم يستحكم بعد, وهذا من أحسن التشبيه وأبلغ التعريض, والايعاد إذا كان ما وصف حقيق بالتهجين)). وفي بيت ربيعة بن مقروم الذي يقول فيه: وألد ذي حنٍق علي كأنما تغلي عداوة صدره في مرجل كانت أول خطرة شعت في ذهن المرزوقي حين قراءته هو التشبيه الذي اشتمل عليه, وفيه تصوير شيء معنوي بشيء محسوس فبدأ به شرحه فقال: ((أخرج التشبيه ما لا يدرك من العداوة بالحس إلى ما يدرك من غليان القدر حتى تجلى فصار كالمشاهد)) , ثم مضى يشرح ألفاظ البيت ويقرر معناه. إن وقفات المرزوقي في التشبيه متعددة لأنه أهم وسيلة أداء استعان بها الجاهليون والإسلاميون في تصوير معانيهم, ولأن اختيار الحماسة قد ضم الكثير من القطع التي قالها هؤلاء الشعراء كثر عند المرزوقي الوقوف عند التشبيه والإشارة إليه أثناء عمله في الشرح. أما الاستعارة فنجد له فيها وقفات كذلك منها وقفته في بيت عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي الذي يروى للسموءل بن عادياء وهو:

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداٍء يرتديه جميل فقد قال فيه: ((ذكر الرداء هاهنا مستعار, وقد قيل رداه الله رداء عمله فجعله كناية عن مكافأة العبد بما يعمله أو تشهيره به, كما جعله هذا الشاعر كناية عن الفعل نفسه وتحقيقه فأي عمله بعد تجنب اللؤم كان حسنا)). ومثله بيت تأبط شرًا الذي يقول فيه: فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا به كدحة والموت خزيان ينظر فقد وقف المرزوقي عند عبارة ((والموت خزيان ينظر)) قال: وهذا من فصيح الكلام ومن الاستعارات المليحة وقد حمل الله- عز وجل- ((وأنتم حينئذ تنظرون)) على أن يكون المعنى تتحيرون. ولم يكتف بذلك بل مضى يذكر النظائر فقال: ((وقد سلك أبو تمام مسلك هذه الاستعارة فقال: إن تنفلت وأنوف الموت راغمة)). وكذلك وقف يبين روعة الصورة البيانية في بيت بلعاء بن قيس الكناني الذي يقول فيه: وفارس في غمار الموت منغمس إذا تألى على مكروهٍة صدقا قال: ((جعل للموت غمارا على التشبيه بالماء, ثم جعله منغمسا فيه فحسنت الاستعارة جدًا)). أما الكناية فهي أيضًا من الألوان البيانية التي نجد لها صدى في شرح المرزوقي, غذ نجد له فيها إشارات متنوعة منها ما ورد في بيت عمرو بن الإطنابة الذي يقول فيه:

والقاتلين لدى الوغى أقرانهم إن المنية من وراء الوائل قال: ((أصل الوغى هو الجلبة والصوت ثم كثر استعماله فصار كناية عن الحرب)). كما نجد له إشارة أخرى في بيت حسان بن نشبه وهو: وكانوا كأنف الليث لا شم مرغمًا ولا نال قط الصيد حتى تعفرا فقد قال فيه: ((وحسن في الكناية عن الإباء والتصون عن الدناءة والمذلة قوله: ((لا شم مرغمًا)) بعد الأنف)). وإشارة ثالثة من بيت القتال الكلابي الذي يقول فيه: فلما رأيت أنه غير منتٍه أملت له كفى بلدٍن مقوم قال: ((وقوله: أملت له كفي بلدن من فصيح الكلام وبليغ الكتابات)) فكأنه عنى بذلك أن الشاعر أراد أنه طعنه وقتله فكنى عن الطعن والقتل بإمالة الرمح نحوه. وأشار رابعة في بيت ابن زيابة: نئبت عمرًا غارزًا رأسه في سنٍة يوعد أخواله قال المرزوقي موضحًا تعبر ((غارزًا رأسه) وما فيه من كناية ((جعل غرز الرأس كناية عن الجهل والذهاب عما عليه وله من التحفظ)). وبجانب الكناية نجد أيضًا أشارت له في المجاز تدل على نظرته لهذا اللون البياني ومدى تأثيره في صناعة الكلام البليغ, ومن إشاراته فيه ما جاء عنه في بيت حجر بن خالد الذي يقول فيه:

وجدنا أبانا حل في المجد بيته وأعيا رجالا آخرين مطالعه فقد وقف المرزوقي عند عبارة ((حل في المجد بيته)) قال: ((البيت لا يحل ولكنه يحل فيه, ولكنه رمى بالكلام على السعة والمجاز لأن المعنى لا يختل, ويقولون فلان عالي المكان لأنه إذا علا مكانه علا هو)). ومن ذلك أيضًا إشارته التي وردت في بيت الحصين بن الحمام وهو: ولما رأيت الود ليس بنافعي عمدت إلى الأمر الذي كان أحزما قال: جعل الحزم للأمر كما جعل له العزم في قوله تعالى: ((فإذا عزم الأمر)) فكل مجاز واتساع. هذا فيما يتصل بعلم البيان, أما علم المعاني فإن عمله فيه كان واضحًا في مواضع متعددة من شرحه, وبخاصة في كشفه لأساليب الشعراء وبيان وسائل التعبير التي استخدموها لأداء المعاني, وأظهر ما يكون ذلك وقفاته المتكررة عند خروج الكلام عن مقتضى الظاهر في مجالي الإنشاء والخبر, ففي مجال الإنشاء نجده يقف عند وسائل التعبير في الاستفهام والنهي والأمر, ويدل على خروجها عن مقتضى الظاهر وفق الأغراض التي رمي إليها الشعراء. ومن أمثلة ذلك قول عويف القوافي لما حبس الحجاج بن يوسف عيينة بن أسماء قال: أم من يهين لنا كرائم ماله ولنا إذا عدنا إليه معاد نظر المرزوقي إلى ما فيه من استفهام فقال: ((والاستفهام دخل في الكلام على طريق التوجع والتلهف لما جرى على عيينة المذكور)). ومثله قول موسى بن جابر الحنفي الذي جاء فيه:

وما خير ماٍل لا يقي الذم ربه ونفس امرئ في حقها لا يهينها قال: ((لفظه لفظ الاستفهام والمعنى معنى الإنكار الذي يجري مجرى النفي)). وفي خروج النهي عن مقتضى الظاهر نجد وقفته في بيت قطري بن الفجاءة الذي يقول فيه: لا يركنن أحد إلى الأحجام يوم الوغى متخوفًا لحمام قال المرزوقي موضحًا إياه: ((قصده إلى البعث والتحضيض على التغرير بالنفس والتعريض ألا ترى أنه يحث بهذا الكلام على ترك الفكر في العواقب ورفض التحرز خوفًا من المعاطب. وفي أسلوب الأمر وخروجه عن مقتضى الظاهر نجد له وقفات منها وقفته في بيت الفضل بن العباس وهو: مهلًا بني عمنا عن نحت أثلتنا سيروا رويدًا كما كنتم تسيرونا فقد قال فيه مبينًا الغرض منه ((هذا الكلام فيه تهكم)). أما في مجال الخبر فإننا نجد له وقفات تكاد تشمل سائر أجزاء شرحه, وذلك لأنه راعي فيه بيان نوع القول ومقصد الشعراء فيه, ففي بيت أبي الغول الطهوي: فدت نفسي وما ملكت يميني فوارس صدقوا فيهم ظنوني قال المرزوقي: ((لفظه لفظ الخبر والمعنى الدعاء)) كأنه أراد بذلك أن الشاعر رمى بكلامه هذا الدعاء لهم بالبقاء وإن كان بقائهم ذهاب نفسه وماله.

ومثل ذلك رؤيته التي سجلها عند بيت الحماسة المنسوب لآخر وهو: وإن الحزامة أن تصرفوا لقوٍم سوانا صدور الأسل فقد تمثلت هذه الرؤية في قوله: ((هذا الكلام تحذير وإنذار يقول: وأبلغاه أن الحزم في صرف أعنة خليكم إلى غيرنا فإنكم لا تقومون لنا إذا هيجتمونا والرأي في أن تعدلوا بصدور رماحكم إلى طعن من سوانا فإنكم لا تكملون لدفاعنا)). ومثله وقفته في بيت الفرار السلمي في بيان غرضه من أسلوب الخبر الذي بنى عليه بيته الذي يقول فيه: وكتيبٍة لبستها بكتيبٍة حتى إذا التبست نفضت لها يدي بين المرزوقي غرضه فيه فقال: ((يتبجح بأنه مهياج شر وأذى وجماع بين كتائب تتقاتل من دونه, ثم يخرج هو من بينهم غير مبال يجرون إليه)). وفي بيت جابر بن ثعلب الطائي الذي يقول فيه: كأن الفتى لم يعر يومًا إذا اكتسى ولم يك صعلوكًا إذا ما تمولا وقف المرزوقي يبين الغرض فيه يقول: ((هذا الكلام بعث على التجوال وتخضيض في اكتساب المال فيقول: إذا اقتنيت بعد فقرك, واكتسيت بعد عريك فكأنك ما كنت قط فقيرًا ولا عريانًا)). وبجانب وقفاته المتكررة عند خروج الكلام إنشاء أو خبرًا عن مقتضى الظاهر كانت له وقفات أيضًا عند الإيجاز والاطناب وبيان موطن البلاغة فيهما, ففي الإيجاز مثلًا وقف في بيت حسان بن نشبة الذي يقول فيه: سموا نحو قيل القوم يبتدرونه بأسيافهم حتى هوى فتقطرا

قال المرزوقي مبينًا ما فيه من إيجاز بالحذف: ((في هذا الكلام اختصار كأنه قال: ابتدروه بالسيوف وضربوه حتى سقط, فحذف ضربوه)). أما الأطناب فإن عمله فيه أكثر اتساعًا من عمله في الإيجاز, ومن أمثلته وقوفه في بيت أبي صخر الهذلي الذي جاء في رائيته في الغزل وهو: أما والذي أبكى وأضحك والذي أمات وأحيا والذي أمره الأمر فقد قال فيه: ((تكربره للذي ليس بتكثير للأقسام لأن اليمين يمين واحدة بدلالة أن لها جوابًا واحدًا, ولو كانت أيمانًا مختلفة لوجب أن يكون لها أجوبة مختلفة, وفائدة التكرير التفخيم والتهويل)) ولم يكتف بذلك في بيان غرض الأطناب بل فأتى بنظير من القرآن الكريم قال: ((وما في القرآن الكريم من قوله: ((والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى)) مثله, ثم رجع إلى بيان قيمة البيت فنيًا: ((على أن ما في البيت من اختلاف الأفعال الداخلة في الصلات جعل الكلام أحسن والتفخيم أبلغ)). ومثل ذلك أيضًا قول شهل بن شيبان: مشينا مشية الليث غدا والليث غضبان قال فيه: ((كرر الليث ولم يأت بضميره تفخمًا وتهويلًا)) ثم فضل الحديث فقال: وهم (أي العرب) يفعلون ذلك في أسماء الأجناس والأعلام قال عدي: لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغض الموت ذا الغني والفقيرا ومثلما جال المرزوقي في علم البيان وألوانه وعلم المعاني وألوانه كانت له جولة في علم البديع, غير أن جولته فيه كانت محدودة بالقياس إلى عمله في البيان والمعاني, فنحن بتتبعنا لشرحه لم نجد له سوى أشارات تتصل بمحسنات الكلام

من جهة اللفظ ومن جهة المعنى, بل إننا لاحظنا أن جملة من هذه المحسنات عبرت بين شرحه دون أن يقف عندها, وبخاصة فيما يتصل بالمطابقة. ولعله ترك الكلام فيها لوضوحها, أو لعله تركها للقارئ ليقف عليها دون دلالة منه عليه. ومهما كان المر فإن تلك الإشارات التي صدرت عنه في تحسين الكلام لفظيًا ومعنويًا تجعلنا ندرك بأن المرزوقي كان مدركًا لقيمة علم البديع في فن الشعر, وإذا قل عمله فيه أثناء عملية الشرح فإن ذلك راجع إلى أن كثيرًا من ألوان البديع التي حددها البلاغيون لم تبرز إلا عند شعراء الصنعة الفنية أمثال أبي تمام صاحب الاختيار, ومن قبله بشار ومسلم بن الوليد أو شعراء التصنع الذين ظهروا في العصور التي تلت العصر العباسي الأول, وهؤلاء لم يكن لهم في اختيار الحماسة نصيب, ونحن إذا أردنا أن نعرف قيمة عمل المرزوقي في علم البديع لا نطلب ذلك في شرحه للحماسة وإنما نطلبه في أعماله الأخرى التي قامت في أشعار المحدثين مثل عمله المسمى بشرح المشكل من شعر أبي تمام. على أن هذا لا يمنع من أن ننظر فيما تناوله من ألوان البديع في شرحه حتى نقف على عمله فيه, الذي قلنا إنه يتمثل في بعض الإشارات الخاصة بالمحسنات المعنوية واللفظية, ومن ذلك نظرة إلى المطابقة في بيت بشامة النهشلي القائل: إنا لنرخص يوم الروع أنفسنا ولو نسام بها في الأمن أغلينا فقد قال: ((وفي البيت طباق بذكر الارخاص والاغلاء والروع والأمن في موضعين وهو حسن جيد)). ونظرة أيضًا في بيت أنيف بن حكيم النبهاني الذي يقول فيه: إذا نحن سرنا بين شرٍق ومغرٍب تحرك يقظان التراب ونائمة فقد حلل الاستعارة في قوله ((يقظان التراب ونائمه)) ثم قال: ((وقد أحسن

ما شاء في الاستعارة والطباق وبالنوم واليقظة)). كذلك كانت له بعض الإشارات في الجناس اللفظي, وذلك مثل وقفته التي وقفها في بيت دريد بن الصمة الذي يقول فيه واصفًا أخاه عبد الله الذي أبنه بقصيدة منها هذا البيت: صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل ابعد قال: ((يجوز أن صبا الأول من الصبا واللهو وصبا الثاني من الصباء بمعنى الفتاء ... ويجوز أن يكون المعنى تعاطي الصبا ما تعاطاه إلى أن علاه المشيب, فيسقط التجنيس من البيت وهو يحسن به)). ومن ذلك إشارته إلى التجنيس الناقص في بيت الغزل الذي نسب لآخر وهو: شيب أيام الفراق مفارقي وانشزن نفسي فوق حيث تكون قال: وقوله: ((أيام الفراق مفارقي)) يسمى التجنيس الناقص)). ونراه في موضع آخر يهتم بتأكيد المدح بما يشبه الذم, وذلك في بيتي النابغة الجعدي وهما: فتًى كان فيه ما يسر صديقه على أن فيه ما يسر الأعاديا فتًى كملت خيراته غير أنه جواد فلا يبقي من المال باقيا قال: وقد تجلت حاسته الفنية في تحليله: ((وإذا تأملت وجدت البيت الثاني مثل البيت الأول في أنه اتبع ثناء بثناء, وأردف مديحًا بمديح, فعجز كل واحد منهما يؤكد صدره ويزيده مبالغة معنى وتظاهر مبدأ ومنتهى, ومثلهما بيت النابغة:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب وبجانب هذه المحسنات اللفظي منها والمعنوي نجده يشير إلى لون من ألوان نعوت المعاني وهو الالتفات الذي سماه بعض البلاغيين الاعتراض، ولذا نجد المرزوقي يشير إليه مرة بالالتفات ومرة بالاعتراض كأنه يذهب بهذا مع ابن المعتز الذي يفصل بين الالتفات والاعتراض. فمن إشاراته التي استخدم فيها مصطلح الالتفات ما جاء عنه في بيت الحماسة الذي نسب لآخر وهو: أعان علي الدهر إذ حك بركه كفى الدهر لو وكلته بي كافيا قال: ((ومثل هذا القول)) كفى الدهر ((يسمى التفاتًا)). وكذلك ما جاء عنه في بيت العديل بن الفرخ العجلي القائل: وضيعت عمرًا والرباب ودارمًا وعمرو بن وٍد كيف أصبر عن وٍد فقد وقف محللًا الالتفات في عبارة ((كيف أصبر عن ود)) قال: ((وقوله: ((كيف أصبر عن ود)) هو الذي يسميه النقاد والبصراء بصنعه الشعر وتمييز البديع فيه الالتفات، كأنه لما ذكر ودا والخلاف عليه، ونفض اليد مما يجمعه إياه، وكشف الرأس بالمعاداة معه للرحم قلبه، وضاق بالحال المتصورة صدره، والتفت إلى من بحضرته فقال: كيف يكون صبري على مثله)).

وأما إشاراته إلى ((الاعتراض)) فقد جاءت في نحو قول تأبط شرًا: هما خطتا إما أسار ومنة وإما دم والقتل بالحر أجدر قال: ((وقوله: والقتل بالحر أجدر يسمى اعتراضًا لوقوعه بين ما عدده من الخصال))، ومثله ما جاء عنه في بيت عمرو بن معدي كرب القائل: ليس الجمال بمئزٍر فاعلم وإن رديت بردا فقد قال فيه: ((وقوله: فاعلم اعتراض تأكد به الكلام)). ولعله كان أوضح في معالجته للاعتراض في بيت إبراهيم بن كنيف النبهاني وهو: فأن تكن الأيام فينا تبدلت ببوسى ونعمى والحوادث تفعل فقد فصل فيه الحديث فقال: ((وقوله: ((والحوادث تفعل)) يسمى اعتراضًا، ومثل هذا من الاعتراض يزيد القصة تأكيدًا، وهو ها هنا حاصل بين الجزاء وجوابه لأن جواب إن تكن قوله: ((فما لينت منا قناة صليبة)) وحسن الكلام به جدًا إذ كان تأكيدًا لما يقتضيه من تحول الأحوال وتحقيقًا لما شكاه من ريب الزمان، وبعثا على التسلي وأخذ النفس بالتأسي)). وهكذا نرى أن المرزوقي قد جال في ثنايا شرحه في علوم البلاغة الثلاثة، غير أن أعماله فيها وان تفاوتت فأنها قد دلت على قيمة ألوان هذه العلوم وما تحدثه من أثر في جمال القول الشعري، كما أن تفاوتها يرجع إلى ما أشرنا إليه سابقًا عندما تكلمنا عن منهجه أنه في جوانب البلاغة لم يكن في الدرجة التي عالج بها اللغة والنحو في شرحه، فهو أكثر عناية بالغة والنحو من البلاغة، وذلك بتجاوزه المتكرر لجملة من

الألوان البلاغية أثناء عملية الشرح، ومع هذا الذي ذكرناه فان شرحه في البلاغة إذا ما قيس بغيره من الشروح التي وصلت إلينا يعد الشرح الوحيد الذي اهتم بفنون البلاغة في عناصر الشرح. ب- النقد: وإذا تركنا جانب البلاغة واتجهنا إلى النقد وجدنا المرزوقي في شرحه ناقدًا نظريًا وتطبيقيًا، فأما نقده النظري فقد ضمنه مقدمته التي صدر بها شرحه. وأما نقده التطبيقي فقد جاء في ثنايا شرحه، ولما كنا ندرس عناصر الشرح عنده وفق المنهج الذي سار عليه، موازنين بينه وبين غيره من الشراح ذوى المناهج الأخرى كان من المحتم علينا أن لا ندخل أنفسنا في دراسة نقده النظري الوارد في مقدمته لأنه لا يشكل عنصرًا من عناصر الشرح، وإنما الذي يعنينا فقط هو نقده التطبيقي الذي يدخل في صميم عملية شرح الشعر، غير أن تركنا لما جاء في مقدمته من نقد نظري لا ينسينا أن كثيرًا من نقده التطبيقي كان مبنيا على نظريته التي طرحها في عمود الشعر مثل شرف المعنى وصحته وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه، إلى غير ذلك من الأبواب التي يقوم عليها عمود الشعر. ويمكن القول بأننا حين أفردنا المواد التي مثلت نقده التطبيقي وجدنا أنه يسير فيها وفق وجهات ثلاث: وجهة تتصل بنقد الرواية وتصويبها، ووجهة تتصل بنقد الشعر المختار في الحماسة، ووجهة تتصل بالموازنات والسرقات. فأما نقده للرواية فقد تكلمنا فيه عندما عرضنا لعنصر الرواية في شرحه، ويمكن أن نضيف هنا بعض الجوانب التي استرعت انتباهنا ونحن نفرز المواد النقدية، منها أنه كان يعتمد في نقده للرواية على جزالة اللفظ واستقامته وهو أحد الأبواب التي أوردها لعمود الشعر، إذ عيار اللفظ عنده الطبع والرواية والاستعمال. ولذلك نراه يقف عند بيت وضاح بن إسماعيل القائل: ذريني ما أممن بنات نعٍش من الطيف الذي ينتاب ليلا

فيقول: ((وروى بعضهم: ((يأتاب ليلًا)) وهو يفتعل من الأوب، وينتاب أوجه في النقد وأحسن)) كأنه رمى بذلك إلى أن استقامة الفعل ((ينتاب)) في البيت لأنه يصح مع الطبع والرواية والاستعمال. ومنها أنه كان ينظر إلى لغة الشعراء وطرائقهم في النظم ويدلل بها على صحة نسبة الشعر إليهم، وهي إحدى الدعامات التي قامت عليها تصفية الشعر القديم وتنقيته من شوائب النحل والوضع التي علقت به وشكلت قضية الشك والطعن فيه. ففي قطعة الرثاء التي أولها ((أصاب الغليل عبرتي فأسالها)) والتي نسبها أبو تمام إلى يزيد بن عمرو الطائي أشار المرزوقي إلى أن الأثرم رواها عن أبي عبيدة للنابغة الذبياني وأثبتها في ديوانه، ولكنه عقب على هذا بقوله: ((وفي ألفاظ هذه الأبيات على ما رواه أبو تمام شاهد صدق على أنه ليزيد لا للنابغة)). فكأنه بذلك يرمي غلى أن لغة النابغة الشعرية تختلف عن لغة يزيد، وهي نظرة صائبة في مجال اضطراب رواية الشعر ونسبته إلى أكثر من شاعر، ونظرة صائبة أيضًا في مجال تصفية الشعر القديم من النحل والوضع. ومنها أنه ينظر إلى المقاربة في التشبيه لأن عيار المقاربة عنده هو أن يقع التشبيه بين شيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما ليبين وجه الشبه بلا كلفة. هذا ما نحسه منه في نقده رواية بيت لمرة بن مكحان في وصف جازر ناقة، وقد أثبته في متنه على النحو التالي: ينشنش اللحم منها وهي باركة كما تنشنش كفا قاتٍل سلبا

ثم قال في الشرح: ((ورواه بعضهم)) كما تنشنش كفا قاتل سلبا)) وقال: شبه نشنشته بنشنشة فاتل الحبل من السلب وهو نبات يخرج على صورة الشمع وعلى قدره فيجز ويفتل منه الحبل وبائعها ومتخذها السلاب. ثم عقب على ذلك فقال: ((والرواية الأولى أجود وأكثر مشابه))، فكأنه نظر إلى تقارب التشبيه بين نشنشة الجازر للحم الناقة بعد نحوها ونشنشة القاتل سلب القتيل بعد قتله فهي أقرب وأوضح من نشنشة فاتل الحبال من نبات السلب إذ لا قتل يقابل نحر الجازر للناقة. وأما نقده للشعر المختار في الحماسة فقد رأيناه على ضربين ضرب بين فيه مواطن الجودة والجمال، وضرب بين فيه مواطن الضعف، فأما الضرب الأول فقد كان يراعي فيه حسن المعنى وسلامة اللفظ وتوازنه، وذلك مثل عمله في بيت بشامة النهشلي الذي يقول فيه: بيض مفارقنا تغلي مراجلنا نأسو بأموالنا آثار أيدينا فقد قال فيه بعد أن شرحه وبين ما فيه من معان: ((وفي البيت مع حسن المعاني التي بينتها توازن في اللفظ مستقيم وسلامة مما يجلب عليه التهجين)). ومثل ذلك ما جاء عنه في بيت عمرو بن معدي كرب وهو: ولقد أجمع رجلي بها حذر الموت وإني لفرور قال: ((وأجمع رجلي أي أستحث فرسي وهو فصيح الكلام، ومن العبارات التي تصور المعنى، ومن لفظه وبابه قولهم: جمعت يدي على كذا، ورفعت يدي عن كذا. وربما نظر إلى شرف المعنى وحسنه مثل قوله بيت أبي الأبيض العبسي في فرسه:

أقيه بنفسي في الحروب وأتقي بهاديه إني للخليل ودود قال فيه: ((هذا معنى شريف حسن)) ولم يبين وجه شرفه وحسنه، ولعله نظر إلى الصورة التي رسمها هذا الشاعر لعلاقته بفرسه في الحرب ومدى ما يبدله كل واحد منهما نحو الآخر، كما نظر إلى هذا الاعتراض أو الالتفات المتمثل في قوله: ((إني للخليل ودود)) وهو تعبير رائع في معناه بالنظر إلى حديث الفرس السابق له. أما الضرب الثاني الذي كان يبين فيه مواطن ضعف الشعر، فقد رأيناه أيضًا يقيم نقده فيه على المعنى أحيانًا وعلى سلامة اللغة أحيانًا أخرى، ومن أمثلة نقده للمعنى ما قاله في بيت ابن زيابة التيمي الذي يقول فيه: والذرع لا أبغب بها ثروة كل امرىٍء مستودع ماله قال: ((لولا أن قصده في التمدح إلى التعريض بالمخبر عنه لكان لا معنى لهذا الكلام. ألا ترى إلى قوله: ((والدرع لا أبغي بها ثروة)) وقد فسر على أنه يجوز أن يكون المراد: لا اقتني الدرع لكي أتجر فيها وأتمول، وترك التجارة في الأسلحة ليس فيه كبير تمدح)). أما نظره إلى سلامة اللغة واستعمالها الاستعمال الفصيح لما صح من القياس، فقد تردد في مواضع مختلفة من شرحه، ومن ذلك وقفته في بيت عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي المنسوب إلى السموءل وهو: وإنا لقوم ما نرى الموت سبة إذا ما رأته عامر وسلول قال منتقدًا سلامة التركيب فيه: ((كان وجه الكلام أن يقول: ((ما يرون القتل سبة)) حتى يرجع الضمير من صفة القوم إليه ولا تعرى منه، لكنه لما علم أن المراد بالقوم هم قال: ((ما نرى)) ثم أضاف، وقد جاء في الصلة مثل هذا وهو فيه أفظع قال:

أنا الذي سمتن أمي حيدره واستشهد على ضعف التركيب بما ورد عن أبي عثمان المازني فقد قال: ((لولا صحة وروده وتكرره لرددته)). ومثل هذا أيضًا نقده بيت عروة بن الورد الذي يقول فيه: لحى الله صعلوكًا إذا جن ليله مصافي المشاش آلفًا كل مجزر فقد عاب عليه إضافة مصافي غلى المشاش، ووصفها بأنها ضعيفة لأن المشاش أشير به الجنس، ولا يحصل التخصيص بالإضافة إليه، وعلى هذا قولهم: قيد الأوابد ودرك الطريدة. كما عاب عليه عدم تحريك الياء من مصافي بالفتح قال: ((وكان يجب أن يحرك الياء من مصافي بالفتح فسكنه لأن منهم من يجري الفتحة في مثله من المعتل مجرى سائر الحركات فلا يثبتها)). على أن النقد البارز في شرح المرزوقي هو النقد المتصل بالموازنات والسرقات، فقد سجل لنا كثيرًا من المفاضلات التي كان يجريها بين الشعراء في معانيهم وصناعتهم الفنية، متخذًا من أبيات الحماسة التي يشرحها محورًا ينطلق منه إلى هذا النوع من النقد، فهو تارة يذكر لنا أقوال الشعراء المشتركة في معنى واحد أو صنعة فنية واحدة، وتارة يفاضل بين أقوالهم ويبين الجيد منها، وتارة ثالثة يبين لنا ما أخذه المتأخرون منهم من معاني المتقدمين ففي بيت سعد بن ناشب الذي يقول فيه: فان تعذليني تعذلي بي مرزأ كريم نثا الإعسار مشترك اليسر وقف المرزوقي عند معنى قوله: ((كريم نثا الإعسار مشترك اليسر)) ونظر إلى اشتراك الشعراء في إيراد معناه فقال: ((وقد أكثر الشعراء في هذا المعنى، فمن ذلك

قول الشمردل: وصول إذا استغني وإن كان مقترًا من المال لم تحف الصديق مسائله وقول المرار: إذا افتقر المرار لم ير فقرة ... وإن أيسر المرار أيسر صاحبه وأحسن من الجميع قول الآخر: إذا افتقروا عضوا على الفقر حسبة وإن أيسروا عادوا سراعًا غلى الفقر هذا من حيث الاشتراك في المعاني، أما الاشتراك في الصنعة الفنية وطريقة نظم الشعراء فمن أمثلته وقفته في بيت البعيث بن حريث الذي جاء في باب الغزل وهو: معاذ الإله أن تكون كظبيٍة ولا دميٍة ولا عقلية ربرب وقف المرزوقي عند رسم الشاعر صورة لحسن محبوبته، فنظر إلى طريقته في رسم هذه الصورة قال: كأنه أنف وصار يربأ بصديقته أن تكون في الحسن بحيث تشبه بالظبي أو الظبية أو بالصورة المنقوشة أو بكريمة بقر الوحش ((وهذه طريقة تختلف عن طريقة الشعراء الذين درجوا على تشبيه المحبوبة بالظبية أو الدمية أو البقرة من الوحش، ولذلك نظر إلى نهجها عند شعراء آخرين فقال: )) وقد سلك من المتقدمين امرؤ القيس هذه الطريقة فقال: كأن دمى سقٍف على ظهر مرمٍر كسا مزبد الساجوم وشيًا مصورا غرائر في كن وصوٍن ونعمٍة ... يحلين ياقوتًا ودرًا مفقرا

فشبه الدمى بالنساء لا النساء بالدمى، ولم يكتف المرزوقي بهذا، بل ذهب إلى بيان هذه الطريقة عند أبي تمام فقال: ((ومما يستحسن من هذه الطريقة قول أبي تمام: كأنما جاد مغناه فغيره دموعنا يوم بانوا وهي تنهمل قال: لأنه شبه الأمطار المغيرة لرسوم الديار بدموع العشاق من أثر الأحباب يوم الفراق)) وبجانب النظر إلى اشتراك الشعراء في المعاني وطريقة النظم نظر المرزوقي إلى جانب المفاضلة بين الشعراء ذوي الاشتراك في المعنى الواحد، فكان يوازن ويبين الفاضل من المفضول فيها وهذا أيضًا كثير في شرحه، ومن أمثلته ما جاء عنه في بيت الحارث بن هشام المخزومي من كلمته التي قالها يوم بدر حين فر من الحرب قال: الله يعلم ما تركت قتالهم حتى علوا فرسي بأشقر مزبد قال المرزوقي: ومثله قول المهلهل: لم أرم حومة الكتيبة حتى حذي الورد من دمي نعالا ثم فاضل بين البيتين فقال: ((وهذا قاصر عن درجة ما تقدم لأنه يتعذر مما آثره من الهروب في وقته، وذاك أورده مورد المتبجح، وأنه خلقه ومذهبه لعلمه بمصادر الحروب ومواردها)) وفي بيت قيس بن الخطيم الأوسي الذي يقول فيه: إذا ما شربت أربعًا خط مئزري وأتبعت دلوي في السماح رشاءها وقف المرزوقي فيه، ونظر إلى قول عنترة وعمرو بن كلثوم في طويلتيهما فقال:

وهذا أجود من قول عنترة، وإن كان مفضلًا عند كثير من الناس على قول عمرو بن كلثوم، وقول عنترة: وإذا انتشيت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم وإذا صحوت فما أقصر عن ندًى وكما علمت شمائلي وتكرمي وبيت عمرو: مشعشعة كأن الحص فيها إذا ما الماء خالطها سخينا ثم بين لم فضل بيت قيس على قوليهما فقال: لأن هذا (يعني عمرًا) قال: إنا نتسخى إذا شربنا الخمر ممزوجة، وما قاله عنترة في بيتين أشار إليه قيس في مصراع)). وشغلت السرقات وما أخذه المتأخرون من معاني المتقدمين حيزًا ليس بالضئيل في شرح المرزوقي، ذلك لأنه كما كان ينظر إلى اشتراك الشعراء في معانيهم وطرائق أدائها كان ينظر إلى أخذ الشعراء من بعضهم بعضًا، ففي بيت جرير الذي قاله في رثاء قيس بن ضرار: وحق لقيٍس أن يباح له الحمى وأن تعقر الوجناء إن خف زادها قال المرزوقي: ((أي حق للجزع به أن يبلغ من القلب حدًا لم يبلغ منه شيء)) ثم مضى مستعرضًا هذا المعنى لدى الشعراء فقال مشيرًا إليهم: ((وقد أخرجوا هذا المعنى في معارض لأنه معنى صحيح حكيم شريف، فقال كثير في الحب يصف امرأة: أباحت حمًى لم يرعه الناس قبلها وحلت تلاعًا لم تكن قبل حلت يريد بلغت من القلب هذا المبلغ، وأخذه منه الصمة بن عبد الله القشيري فقال:

فحلت محلا لم يكن حل قبلها وهانت مراقيها لريا وذلت وأخذه أبو نواس فقال: مباحة ساحة القلوب له يرتع فيها أطايب الثمر وأخرجه على وجه آخر فقال ينفي: بصحن خٍد لم يغض ماؤه ولم تخضه أعين الناس ولا شك أن مثل هذا العمل وأشباهه في شرح المرزوقي كانت وراء أعمال رجال عنوا بالسرقات وما أخذه المتأخرون من المتقدمين، وهي قضية كان لها صدى في حركة النقد العربي وبخاصة في القرن الرابع الهجري الذي عاش فيه المرزوقي وشهد آخره، فالمرزوقي مثلما رأيناه يفيد من التراث الموروث من العلماء في مجالي اللغة والنحو نراه يفيد هنا من التراث النقدي الذي خلفه السابقون أو المعاصرون وربما كان هذا وراء اهتمام المرزوقي بأبي تمام في جانب الموازنات والسرقات التي عالجها في شرحه، فقد كان لأبي تمام حضور ملحوظ في هذا الجانب من نقده، ومعلوم أ، أبا تمام كان شغل الكثيرين من النقاد في زمن المرزوقي وقبله، بل إن المرزوقي نفسه قد اهتم به اهتمامًا كبيرًا بدلالة ما أشرنا إليه سابقًا أنه شرح المشكل من شعر وألف كتابًا في الرد على من انتقصوه، ولعل المرزوقي بجانب تأثره بحركة النقد في عصره قد هدف من اهتمامه بأبي تمام في شرحه إلى الربط بين الاختيارات المشروحة وصاحبها لا من خلال ما اختاره فحسب بل من خلال شعره أيضًا، ومن أمثلة ذلك ما صدر عنه في بيتين من باب الحماسة هما: إن يحسدوني فأني غير لائمهم قلبي من الناس أهل الفضل قد حسدوا فدام لي ولهم ما بي وما بهم ومات أكثرنا غيظًا بما يجد قال المرزوقي: ((وحدثني أبو عبد الله حمزة بن الحسن قال: سمعت أبا

الحسن علي بن مهدي الكسروي يقول: أنا قد تتبعت من دواوين الشعراء قديمهم ومحدثهم فوجدت أبا تمام الطائي متفردًا بمعنى قوله: وإذا أراد الله نشر فضيلٍة طويت أتاح لها لسان حسود لولا التخوف للعواقب لم يزل للحاسد النعمى على المحسود غير مسبوق إليه ((فقال المرزوقي معقبًا على هذا القول: ((وعندي أنه أخذه من فحوى هذين البيتين وان كان زاد عليه)). وهكذا نخلص من جميع ما عرضناه في هذا الفصل إلى أن المرزوقي بمنهجه الأدبي الإبداعي الفني قد كان معلمًا بارزًا في عمله الذي قام به في الحماسة، فشرحه يعد نسيج وحده بالقياس إلى الشروح التي وصلت إلينا، وسوف يتضح هذا بجلاء حين تكتمل فصول هذا القسم بتطبيق المناهج الأخرى التي سلكها الشراح الآخرون للحماسة.

الفصل الثالث: المنهج العلمي التخصصي وتطبيقه في أعمال ابن جني

الفصل الثالث: المنهج العلمي التخصصي وتطبيقه في أعمال ابن جنيى عرضنا فيما سبق صفات هذا المنهج ومصاييره التي يقوم عليها، وأشرنا إلى أن تطبيقه سوف يكون مقصورًا على أبي الفتح عثمان بن جني في كتابيه ((المبهج)) و ((التنبيه)) باعتبار أنه الشارح الوحيد الذي يدخل ضمن فترتنا الزمنية لهذا البحث، ووصلت إلينا أعماله كاملة، وهي أعمال تدل على أنه جعل من الحماسة وأسماء شعرائها وأعلامها مجالًا يثير فيه كوامن العلوم التي تخصص فيها، ومعضلات اللغة والنحو التي عرف بها، بل إنه الشارح الوحيد من شراح الحماسة الذي حدد في مقدمة شرحه إنه لا يكتب لعامة القراء من ذوي القدرات المبتدئة أو المتوسطة، وإنما يكتب لخاصة الخواص من ذوي التخصيص العالي، والملكات ذات القدرة المدربة على الفهم والاستيعاب. قال في مقدمة ((التنبيه)) بعد أن حدد منهجه فيه: ((وبعد فان هذا الكتاب لست أعمله لمبتدئ ولا متوسط وإنما أخاطب به من قد تدرب فكره وقوي نظره، وهو الذي يغري به ويقوي حظه منه، فأما من دون ذلك فيتجافي عنه

إلى مسموع يحفظه لتخف عليه كلفته وجشمه)). لقد تمثل عمل ابن جني في الحماسة في كتابين كلاهما يدل على منهجه العلمي التخصصي، فالمبهج خصصه لشرح أسماء الحماسة، والتنبيه خصصه لشرح معضلات الإعراب وما يلحق به من اشتقاق أو تصريف أو عروض أو قواٍف. ولقد صدر كلًا من الكتابين بمقدمة جاءت موطئه للعمل وفاتحة له، ودالة على منهجه في الشرح، ففي مقدمة المبهج قال ابن جني بعد أ، حمد الله: ((هذا تفسير أسماء شعراء الحماسة، وينبغي أ، تعلم أن في ذلك علمًا كثيرًا وتدربًا نافعًا، وستراه بإذن الله)) ثم مضى قائلًا: ((يجب أن يقدم أمام ذلك أحوال هذه الأسماء والأعلام، وكيف طريقها؟ وعلى كم وجها نجدها؟ وإلى كم ضربًا قسمتها))، ثم استرسل فعقد درسًا في أسماء الأعلام بين فيه ما كان مرتجلًا وما كان منقولًا، وأقسام كل من المرتجل والمنقول، وما يتصل بهما من أمور تدخل في صميم اللغة محاولًا في كل خطوة يخطوها أن يدعم كلامه بالأمثلة والشواهد والشرح، حتى وصل في النهاية إلى قوله: ((قد فرغنا مما كنا ضمنا تفسيره فيما تقدم من أحوال الأعلام، ونحن نورد الأسماء المحتملة للقول من أسماء شعراء الحماسة ونقول في كل ما يحضرنا ويسنحه الله تعالى لنا)). ولم يبن ابن جني عن منهجه الذي سوف يسير عليه في هذا الكتاب، غير أن ما وطأ به كتابه يفيد ضمنًا بأنه سوف يسير في شرح أسماء الشعراء وفق هذه المقدمة التي طرح فيها أحوال أسماء الأعلام وطرائقها ووجوهها وأضرب قسمتها، وأنه لن يشرح كل اسم أو علم ورد في الحماسة، بل يشرح من الأسماء والأعلام ما يحضره ويسنحه له الله تعالى، بمعنى أنه سوف يسجل في شرحه ما يدور بخلده ويجول في فكره مما يتيح لقارئه العلم الكثير والتدرب النافع. أما في ((التنبيه)) فقد وضح منهجه فيه بجلاء، قال مخاطبًا من صنع له

الكتاب: ((وقد أجبتك أيدك الله إلى ملتمسك من عمل ما في الحماسة من إعراب وما يلحق به من اشتقاق أو تصريف أو عروض أو قواف، وتحاميت شرح أخبارها أو تفسير شيء من معانيها إلا ما ينعقد بالإعراب فيجب لذلك ذكره من حيث كان قد سبق إليه جماعة من مثل أبي رياش والديمرتي والنمري وغيرهم. ولأنك كثيرًا ما تجد في حواشي نسخ هذا الكتاب (يريد اختيار الحماسة) كثيرًا من تفاسيره، ولم أر أحدًا تعرض لعمل ما فيه من صنعة إعراب فتابعتك على ما أردت)). فهو إذن لن يتحقق في شرحه جميع العناصر التي يقتضيها الشرح، لأن مثل هذا العمل قد سبقه إليه رجال، وإنما يريد أ، يسد نقصًا رآه في أعمال الحماسة وهو الإعراب، هذا من جانب، ومن جانب آخر أنه بجانب الإعراب سوف يناقش أمورًا تتصل به من اشتقاق أو تصريف أو عروض أو قواف، وهو في هذا لن يتناول كل هذه الأمور في جميع أبيات الحماسة، وإنما يناقش منها مواضع حددها بأنها تقوم على ضربين أحدهما ظاهر الإشكال تشاق النفس إلى كشفه، والآخر ساذج الظاهر تريك صفحته ألا شيء فيه ومن تحته أغراض ودفائن إذا تجلت لك راعتك وازدهتك)). ووفق هذا المنهج سار ابن جني في كتابه، يعرض لمشكلات الحماسة من خلال هذين الضربين في الإعراب والتصريف والاشتقاق والعروض والقوافي. وإذا كان هذا هو منهجه فمن الطبيعي ألا نبحث في شرحه عم سائر العناصر التي تعرضنا لها في تطبيق المنهج إلا بداعي عند المرزوقي، لأن صاحب هذا المنهج لم ينظر إلى الحماسة اختيارًا أدبيًا يريد أن يجلو في شرحه كل ما يتصل بالأدب وفنونه، فهو لا يبحث في النصوص عن مقاصد الشعراء ولا المعاني التي توخوها في شعرهم، ولا الظروف والمناسبات التي دعتهم إلى قول الشعر، ولا مواطن الجمال فيما قالوه ولا أثر أساليبهم في نفوس متلقي شعرهم، ولا يريد أ، يشغل بها نفسه لأنها في رأيه قد عولجت من غيره، ومن ثم فأننا نبحث في عملي ابن جني في المبهج والتنبيه وفق العناصر الآتية: 1 -

شرح أسماء الشعراء والأعلام: اهتم ابن جني بهذا العنصر اهتمامًا فاق فيه جميع شراح الحماسة من حيث عقد له كتابًا خاصًا تناول فيه نحو عشرة ومائتي علم، ولا نبعد في القول إذا قلنا أن ابن جني كان بعمله هذا دافعًا للشراح الذين جاؤوا بعد للاهتمام بهذا العنصر مثل أبي العلاء وزيد بن علي الفارسي والتبريزي وعيرهم. والظاهرة التي تسود عمل ابن جني في هذا الجانب هو أنه كان يستقصي شرح العلم من جميع الجوانب ويضع الاحتمالات التي تتصل به مرتجلًا كان أو منقولًا، فإذا كان منقولًا بحث في كنهه أهو عين أم معنى؟ وإذا كان عينًا فما حقيقته هل هو اسم صفة أو غير اسم صفة، إلى غير ذلك من أصناف الأعلام المنقولة. أما إذا كانت الأعلام مرتجلة فهو أيضًا يستقصي شرحها موضحًا عما إذا كانت قابلة للقياس وليس فيها خروج عنه، أو كانت مدفوعة بالقياس والعلمية هي سوغته فيه. وهو في جميع ما تقدم يستعين بما جاء عن السابقين أمثال سيبويه وأبي الحسن الأخفش، وأبي زيد الأنصاري وأبي سعيد السكري وأبي علي الفارسي وغيرهم، ممن كان له في مجال اللغة والتصريف والاشتقاق قول، كما يستعين بالشواهد من القرآن الكريم والحديث الشريف والشعر القديم الفصيح في إقرار كل ما يراه من قواعد وأحكام. إن أعماله في الأعلام المنقولة والمرتجلة تدل على سيادته بعلم التصريف وعلوه في الاشتقاق، واستيعابه التام لما يقبله القياس وما لا يقبله، ونستطيع أن نلمس ذلك في جملة من الملاحظ: أولها: أنه في الأعلام المنقولة كان لا يكفي بتوضيح النقل فحسب بل يشرح المنقول منه ويبين كل ما يتصل به من معان وأحكام، كما يشرح العلم المنقول ويبين ما فيه من لغات وعلاقة بالتصريف. من ذلك ما جاء عنه في العلم ((يعفر)) قال: ((وأما يعفر فمنقول بمنزلة يزيد ويشكر وتغلب، يقال عفرت الزرع إذا سقيته أول مرة، وعفرت النخل إذا فرقت من لقاحه، وعفرت الرجل في التراب أعفره)). ثم مضى مفسرًا اللغات في العلم المنقول قال: ((وفيه ثلاث لغات: يعفر، ويعفر، ويعفر)) ثم نظر الى الصرف ومنعه بحسب هذه اللغات الثلاث فوضح أن من فتح الياء فقياسه ألا يصرف للتعريف ووزن الفعل بمنزلة

يشكر، وأن من ضم الياء والفاء فقياسه أن يصرف لزوال مثال الفعل، وأما من ضم الياء وكسر العين مثل يكرم فابن جني يرى ألا سؤال في ترك الصرف لأنه جاء على وزن الفعل ولفظه. وهو في هذا الجانب- أعني جانب الصرف ومنعه- يعتمد كثيرًا عليه في توضيح أصل الأعلام واشتقاقها. ومن أمثلة ذلك مناقشته لحسان علما، فهو عنده من الحس وليس من الحسن فوزنه فعلان لا فعال بدليل أنهم منعوه من الصرف ومثله غسان قال فيه: ((إن كان من الغس فهو فعلان وإن كان من الغسن- وهي خصل العرف- فهو فعال، وينبغي أ، يكون فعلانًا لامتناعهم من صرفه قال النابغة الذبياني: وثقت لهم بالنصر إذ قيل قد غزت كتائب من غسان غير أشائب ومثلما يستقصي الشرح في الأعلام المنقولة يفعل الشيء نفسه في الأعلام المرتجلة ففي ((بهراء)) مثلًا قال: إنه ((مرتجل علمًا غير منقول ولا مذكر لها)) ثم نظر إلى لفظ ((الأبهر)) الوارد في كلام العرب والذي يطلق للعرق في الصلب فقال: إنه ((ليس بمذكر بهراء، ولكن التقاؤهما تركيب اتفق في اللغة بمنزلة سلمان وسلمى، وليس سلمان من سلمى كسكران من سكري لأن فعلان صاحب فعلى بابه الوصف كغضبان وغضبى وعطشان وعطشى. أما سلمان وسلمى فعلمان مرتجلان وليس من الوصف في قبيل ولا دبير)). وثانيها: أنه يفيد من السابقين فيما خلفوه من آراء تتصل بالأعلام وأوزانها، ولكنه في إفادته هذه لم يكن ناقلًا بحتًا وإنما كان يناقش ويرجح بين الآراء، ومن

ذلك أنه وقف في ((أسماء)) علمًا فقال: ((ذكر سيبويه أسماء في جملة الأسماء التي آخرها زائدتان، زيدا معًا فحذفا في الترخيم معًا، نحو سكران وبصري ومسلمات وأشباه ذلك، وتتبع أبو العباس هذا الموضع على سيبويه فقال: لم يكن يجب أن يذكر هذا الاسم في جملة هذه الأسماء من حيث كان وزنه أفعالًا، لأنه جمع اسم، وذهب أبو العباس إلى أنه إنما منع الصرف في العلم المذكور من حيث غلبت عليه تسمية المؤنث فلحق عنده بباب سعاد وزينب، وقال أبو بكر: تقوية لقول سيبويه انهه في الأصل وسماء قلبت واوها همزة وان كانت مفتوحة، وذهب في ذلك إلى باب أحد وأجم وأناة)). فهذه الآراء الثلاثة من قبل هؤلاء العلماء يوردها ابن جني ثم يعقب عليها، قال فيما ذهب إليه أبو بكر ((كأن أبا بكر إنما شجع على ارتكاب هذا القول لأن سيبويه شرعه له، وذلك أنه لما رآه قد جعله فعلًا، ولم يجد في الكلام تركيب ((ء س م)) تطلب لذلك وجهًا فذهب إلى البدل، وقال فيما ذهب إليه سيبويه وثعلب: ((وقياس قول أبي العباس أن تنصرف أسماء نكرة، وأما على مذهب صاحب الكتاب فأنها لا تنصرف نكرة)) ثم بين رأيه في هذا فقال: ((ومعنى قول سيبويه وأبي بكر فيها أشبه بمعنى أسماء النساء وذلك أنها عندهما من الوسامة وهي الحسن فهذا أشبه في تسمية النساء من معنى كونها جمع أسماء)). ومثل هذا ما جاء عنه في ((إياس)) علمًا قال: ((اياس مصدر أسته أؤوسه أوسًا واياسًا إذا أعطيته)) ثم دعم ÷ذا القول بما جاء عن شيخه أبي على الفارسي قال: ((قال أبو على: سموا الرجل إياسًا كما سموه عطاء)) ثم أورد رأيًا لأبي سعيد السكري قال: ((وتوهم أبو سعيد السكري أن أياسًا مصدر قولهم أيست من الشيء إياسًا)) وعقب على هذا القول واصفًا إياه بأنه سهو ظاهر، وبرهن على عدم صحته بقوله: ((إن أيست مقلوبة من يئست ولا مصدر لأيست، ولو كان له مصدر لكان أصلًا لا مقلوبًا كما أن جبذت لما كان له مصدر وهو الجبذ كان أصلًا لا مقلوبًا حكمنا

أنه أصل غير مقلوب من جذب، ويؤكد أن أيست مقلوبة من يئست صحة عينها، ولو لم تكن مقلوبة لوجب اعلالها)). ثالثها: أنه في تفسير الأسماء يعتمد على المنطق كثيرًا، والاعتماد على المنطق في تعليل الأشياء من أظهر صفات مدرسة القياس التي سبق أن أشرنا إلى أن ابن جني هو أحد دعاماتها، ولقد لاحظنا ذلك كثيرًا عنده في المبهج، ومن ذلك ما جاء عنه في اسم ((أبي بن سلمى)) أحد شعراء الحماسة. قال: ((يجوز أن يكون تصغير إباء مصدر أبيت إباء)) ثم استدرك فقال: ولست أقول أن المصدر يحقر لكنه كأن انسانًا سمي إباء كما يسمى مضاء ثم حقر ذلك الاسم لتحقير المسمى ثم رجع إلى تعليل عدم تحقير المصادر فقال: ((فأن قيل فهلا جاز تحقير المصدر نفسه قيل لم يجز ذلك لا نتقاض المعنى به، وذلك أن المصدر اسم لجنس فعله والجنس أبدًا غاية الغايات ونهاية النهايات في معناه، وما كانت هذه صورته في الشياع والانتشار فما أبعده عن التحقير وهو الغاية في الكثرة والعموم، ولذلك لم تثن عندنا المصادر ولم تكسر إلا أن توقع على الأنواع المختلفة، وامتناع المصادر من ذلك كامتناع الأفعال)). مثل هذا الجدل المنطقي الذي تلحظه هنا يمكن أن تلحظه كذلك في تعليله دخول اللام على ((الحمير)) في اسم توبة بن الحمير الشاعر قال: ((دخول اللام على الحمير علمًا أمثل منه في دخوله على الثعلب))، وذلك أ، التحقير ضرب من الوصف يلحق الكلمة، ولذلك لم يجز دخول التحقير في الأفعال من حيث كانت الأفعال لا توصف ... وإذا ثبت أن التحقير ضرب من الوصف في المعنى كان لحاق اللام في الحمير نحوًا من لحاقها في الصغير فتكون اللام فيه مع تعريفه مثلها في الوليد ونحوه وليس كذلك الثعلب لأنه لا تحقير فيه فيضارع به الصفة وإنما باب لحاق اللام في العلم الوصف نخو الحارث والعباس، ولولا ما في الثعلب من معنى المكر والخبث لما لحقته اللام وهو علم)).

ورابعها: استعانته المتكررة لدعم يفسره بالقرآن والحديث والشعر والأمثلة على ذلك في القرآن والشعر كثيرة متعددة قال في اسم ((عروة بن الورد)): ((ورد صفة يقال في مؤنثه وردة، قال الله -عز وجل-: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}. وقد يستعين في ذلك بالقراءات، قال في اسم قبيصة: ((اسم مرتجل للعلم وهو من لفظ قول الله -عز وجل-)) فقبضت قبضة من أثر الرسول ((وهو الأخذ بأطراف الأصابع كذا قراها الحسن)). هذا في القرآن أما الحديث- واستعانته به قليلة نادرة- فقد جاء عنه في اسم ((الفند الزماني)) أنه قال: ((وأما زمان فيحتمل أن يكون من باب زممت الناقة فيكون فعلان من ذلك، ويحتمل أن يكون فعالا من باب الزمن، والأول أعلى عندنا وهو قياس مذهب سيبويه فيما فيه حرفان ثانيهما مضعف وبعدها الألف والنون، فقياسه أن تكون الألف والنون زائدتين كزمان وحمان)) ثم دعم مذهب سيبويه هذا بما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم- أنه قد جاءه قوم من العرب فسألهم فقال: من أنتم؟ فقالوا: بنو غيان، فقال: ((بل أنتم بنو رشدان)) قال أبو الفتح معلقًا على هذا: ((أولا تراه- صلى الله عليه وسلم- كيف تلقى غيان بأنه من الغي فحكم بزيادة ألفه ونونه، وترك أن يتلقاه من باب الغين وهو الباس الغيم من قوله: كأني بين خافيتي عقاٍب تريد حمامًة في يوم غين يدلك على أنه صلى الله عليه وسلم تلقاه بما ذكرنا أنه قابله بضده فقال: بل أنتم بنو رشدان، فقابل الغي بالرشد فصار هذا عيارًا على كل ما ورد في معناه فاعرفه)). أما الاستعانة بالشعر فكثيرة جدًا، تشمل سائر صفحات المبهج، ومن أمثلته قوله في اسم ((بشامة بن حزٍن)) قال: البشام شجر له عود يستاك به قال جرير:

أتنسى أن تودعنا سليمى بعرق بشامٍة سقي البشام وقال في اسم ((الأحوص بن محمد)) الشاعر: الأحوص صفة منقولة، والحوص ضيق العين كأنها مخيطة، وكسروا الأحواص حوصًا وأحاوص، وذلك على صحة الجمعين معًا، يقول العشى: أتاني وعيد الحوص من آل جعفٍر فيا عبد عمرٍو لو نهيت الأحاوصا 2 - العروض والقوافي: لم ينظر ابن جني لهذا العنصر نظرة كلية تشمل جميع النصوص التي ضمها اختيار الحماسة، وإنما نظر إليه من خلال عمله العلمي في التنبيه، وذلك وفق القضايا التي يراها في نصوص الحماسة، فان كانت هناك قضية علمية تستدعي الوقوف في بحر الشعر أو قوافيه وقف عندها، وإلا تجاوز ذلك بالحديث عن اللغة أو الإعراب. ولقد تتبعناه في هذا الجانب فوجدناه يناقش الأوزان والقوافي من خلال هذه النظرة ففي الأوزان مثلًا وجدنا له وقفة طويلة في قطعة سلمى بن ربيعة التي مطلعها: إن شواًء ونشوًة وخبب البازل الأمون قال: ((هذه القطعة خارجة عن علل العروض التي جاء بها الخليل، وأقرب ما تصرف إليه الضرب السادس من البسيط، غير أن عروضه لزمت ((فعل)) وكأنها محذوفة من ((فعولن)) الذي هو محذوف ((مفعولن))، كما جاءت عروض المتقارب في كثير من الأماكن محذوفة، غير أن ذلك في المتقارب أسهل منه هنا في موضعين، أحدهما أنها قد تصاحب ((فعولن)) في القصيدة الواحدة، وهذه لم تأت معها ((فعولن)) ولا ((مفعولن))، والآخر أن ((فعل)) في المتقارب أصلها ((فعولن))، وإنما لحقها الحذف لا غير، وفعل في هذه القطعة أصل جزأيها (مس تف علن) فلا

يجوز ميله أن ينحو به التغير إلى أن يحور عن السبعة إلى الثلاثة، وإنما غاية ذلك أن يصير إلى الأربعة نحو ((فعلن)) في ((فاعلاتن))، وفي ((مفعولات)) وفي ((متفاعلن)). هذا ما بينه ابن جني في خروج الشعر عن علل الخليل، ولم يكتف بذلك بل علل لماذا لم يشر إليه الخليل؟ فقال: ((وكأن الخليل لم يومئ في هذه القطعة على شيء لما في هذا الجزء من البناء هي في العلة، ولأن هذه القطعة في ديوان القبيلة إنما هي ((إن شواء وان نشوة)) بإعادة إن، فلما تعاظمه اضطراب هذا البيت وخالف بقية الأبيات ضرب صفحًا عن الجميع)) ثم مضى في أسلوب جدلي يوضح لماذا لم يجز أن يحور الشاعر في ميله عن السبعة إلى الثلاثة. قال: ((فان قلت ألا تعلم أن فعولن في المتقارب قد صار إلى ((فل)) واثنان من خمسة أقل من ثلاثة من سبعة، فهلا جاز في (مس تف علن) أن تصير إلى ((فعل)) قيل: الفرق أن ((فعولن)) ((لما صار إلى ((فل)) فإنما لحقه الحذف ثم القطع، وهنا له نظير نحو ((فاعلاتن)) لما صارت إلى ((فعلن)) وأما ((مس تف علن)) فإذا صارت إلى ((فعل)) فقد فعلت ما لا نظير له، وذلك أنك حذفت الوتد وحذفت أيضًا سين (مس تف علن) فبقي ((فعل: متف)) وهذا لا نظير له)). والذي يفهم من عمل ابن جني في العروض أنه لا يهتم بالوزن وأثره في أداء المعنى وتوافقه مع الجو النفسي الذي يصحب الشعر في أغراضه المختلفة، بل همه إيضاح ما وقع فيه الشعراء من أخطاء، أو ما يثير خلافًا في نظره، ففي قطعة ابن السلماني التي يقول فيها: لو أن صدور المر يبدون للفتى كأعقابه لم تلفه يتندم إذا الأرض لم تجهل علي فروجها وإذ لي عن دار الهوان مراغم

وقف ابن جني في لفظة ((مراغم)) التي جاءت قافية فقال: ((قوافي هذه القطعة كلها مجردة غير مؤسسة إلا ((مراغم)) هذه فقد ساند إذن. وقد استقصيت هذا في كتاب المعرب في تفسير قوافي أبي الحسن)). وفي بيت عبد الله بن ثعلبة الحنفي القائل: وما إن يزال رسم داٍر قد أخلقت وعهد حبيٍب بالفناء جديد نظر ابن جني فوجد الشاعر قد خفف الهمزة في ((أخلقت)) فأوحى له ذلك بإثارة قضية تتصل بالخليل وأبي الحسن الأخفش قال: ((في قوله قد اختلقت مخفف الهمزة دليل على قول أبي الحسن وعلوه على قول الخليل في امتناع الخليل من الجمع بين يسؤ ويسيء قافيتين. وذلك لأنه فيما زعم يخلف إذا خفف همزة حرف رويه ألا تراه يصير يسو ويسى، فيختلف الرويان، فاحتج عليه أبو الحسن أنه إذا بني الشاعر القصيدة على تحقيق الهمزة البتة أمن هذا الخلاف الذي أشفق منه الخليل، وشاهد هذا القول هذا البيت الذي نحن بصدده. ألا ترى أن الشاعر بناه على تخفيف همزة أخلقت البتة وإلا كسر الوزن، وإذا جاز أن يبني الشعر على التخفيف لا غير، وهو فرع كما علمت، جاز أيضًا أن لا يبني الشعر على التخفيف لا غير وهو أصل كما علمت)). فانظر كيف كان ابن جني يجادل في هذا العلم، وهو علم مبني على استقراء ما قالت العرب من شعر، على أن مثل هذا العمل منه يدل على حضوره الذهني

واستيعابه لكل ما أثاره أبو الحسن الأخفش في تتبعه للخليل في هذا العلم، وربط ذلك بعمله في الشعر المختار في الحماسة. 3 - الرواية: ناقش ابن جني الرواية في ((التنبيه)) غير أن طريقه غير طريق أصحاب المنهج الأدبي الابداعي، فقد رأينا الابداعيين في تطبيق المرزوقي يناقشون الرواية من وجه مختلفة، أما ابن جني فقد كان ينظر إلى الرواية من جهة اللغة والإعراب فقط، ولا يقف عندها إلا إذا كانت ذات معضلة لغوية تعوز الشرح أو مشكلة إعرابية تحتاج إلى تأويل وإيضاح. ففي البيت الذي نسبه الى العباس بن مرداس جاءت روايته له على النحو التالي: ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد مزير وقال: ((رويت هذا البيت عن محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي قال: أظن ذلك مزير، هكذا بالميم قال وهو الماضي الندب)) ثم أشار لى رواية أبي تمام للبيت فقال: ((غير أن الذي رواه أبو تمام ((يزير)) ومضى يشرحها من جهة اللغة فقال: ((قياسه في العربية أنه على تخفيف الهمزة على قول من قال في المرأة والكمأة: المرأة والكماة، ثم ناقشها صرفيًا فوضح أن أصل الفعل ((يزئر))، نقلت الكرة فيه إلى الزاي، ثم أبدت الهمزة ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فصارت ((يزير)) وعليه قال بعضهم في يسأل يسال))، ونراه في موضع آخر ينظر الى الرواية من حيث صحتها ووضوح وجه الإعراب فيها، وذلك في بيتي أبي الربيس الثعلبي، وقد جاءت روايته لهما كما يلي:

هل تبلغني أم حرب وتقذفن على طرٍب بيوت هٍم أقاتله مبينة عتٍق حسًن خٍذ ومرفقًا به جنف أن يعرك الدف شاغله قال: ((هكذا صحة الرواية في هذين البيتين، وكذلك وجدناهما بخط أبي موسى في ديوان أبي الربيس، فأما ما يروى غير هذا من قوله: هل تبلغني أم عمرٍو وتربها على عجٍل بيوت هٍم أقاتله ففاسد، وذلك أنه تبقى بيوت هم مرفوعًا لا رفع له إلا أن تبعد المذهب في التأول له فتعتقد فيه حذف المضاف أي ذات بيوت هم أي ناقة ذات ذي بيوت أي ناقة ذات رجل في صدره بيوت هم فتحذف مضافًا بعد مضاف، وذلك وإن كان قد جاء فمثله قليل منه قوله سبحانه: ((فقبضت قبضة من أثر الرسول)) أي من أثر حافر دابة الرسول، ومنه مسألة الكتاب ((أنت مني فرسخان)) أي أنت مسافة فرسخين، وفي هذا تعسف لم تدع ضرورة إليه)). فأنت تراه في هذين المثلين يهتم في الرواية بالنواحي اللغوية والصرفية والإعرابية، ولا ينظر إلى وضع الرواية من حيث المعنى أو من حيث توافقها مع السياق أو جريانها في كلام العرب، إلى غير ذلك من الأمور التي كان ينظر إليها المرزوقي بمنهجه الأدبي الإبداعي. غير أن الظاهرة الجديرة بالتسجيل في عمل ابن جني في الرواية هو حرصه الدائم على ذكر مصادر الرواية التي يختارها، ولعلك لحظت ذلك في مناقشتنا للمرزوقي في رده روايات ابن جني، فابن جني يأخذ رواياته من دواوين الشعراء أو أفواه العلماء، وهذا واضح في المثلين السابقين وفي غيرها من كتاب التنبيه. وأن كان ثمة ما يقال في عمله في الرواية فهو أنه في بعض الأحيان كان يختار الرواية التي تثير قضية، فبيت أبي الغول الطهوي الوارد في صدر القطعة الثالثة من باب الحماسة روي من الشراح روايتين إحداهما:

فدت نفسي وما ملكت يميني فوارس صدقوا فيهم ظنوني والأخرى: "فوارس صدقت فيهم ظنوني"ن وأشار المرزوقي إلي رواية ثالثة هي "صدقت فيهم ظنوني" بالبناء إلي المجهول، فأختار ابن جني رواية صدقت فيهم ظنوني، وخالفت عادته في ذكر مصدر روايته، ولم يشر إلي الروايات الأخرى بل قال معلقاً علي الرواية التي أثبتها: " صناعة الشعر توجب في هذا "صدقوا" وذلك أنه عاد عليهم الضمير مذكراً مجموعاً وهو هم من "فيهم" ولو اتبع صدقت لكان قياسه "فيها". كذا طريق الشعر ومقتضي صناعته، وعليه استقر الأمر فيما بيني وبين المتنبي، ذلك لأنه قال: "إذا أعدت الضمير بلفظ المذكر ذكرت وذلك قوله: بالجيش يمتنع السادات كلهم ... والجيش باين أبي الهيجاء يمتنع وهذا الأخير كثير في الشعر جائز، غير أن طريقة الصنعة ما ذكرت لك". وهذا كلام طيب محمود ولكنه ليس فيه نظر إلي ما قال الشاعر في الأصل، وإنما بني من حيث صناعة الشعر وما تقتضيه من إجراء الكلام، وليس فيه مفاضلة بين الروايات ليختار أجودها أو أبلغها أو أسلمها علي نحو ما كنا نري عند المرزوقي في منهجه الأدبي الإبداعي. 4 - اللغة والنحو: لم يتخذ ابن جني من اللغة والنحو وسيلة يستعين بها علي تفسير الألفاظ والتراكيب بغية الوصول إلي معاني الشعر، فتفسير الألفاظ والتراكيب- كما وضحنا من قبل- غاية من يهتم بإيراد المعاني، أما ابن جني فلم تكن المعاني غايته إلا حين

يقتضي الإعراب ذلك، كما أنه في عمله اللغوي كان ينظر للألفاظ نظرة جريئة من حيث هي لفظة مفردة يقف عليها، يعالج تصريفها أو اشتقاقها مستعرضاً ما تثيره من قضية تتصل بالقياس أو الاشتقاق، وهذا بطبيعة الحال يدفعه إلي أن يغض النظر في أحيان كثيرة عن وضع اللفظة في النص وإيراد معانيها المحتملة وفقاً للمعني الكلي للنص، وهو بجانب هذه النظرة كان كثيراً ما يخضع تفسيره للألفاظ والتراكيب إلي جدل منطقي. ومن أمثلة ذلك وقفته في بيت موسي بن جابر الحنفي الذي يقول فيه: ومن الرجال أسنة مذروبة ومزندون شهودهم كالغائب وقف في تركيب "شهودهم كالغائب" ولم ينظر إلي سواء قال: "إن كان شهود هنا جمع شاهد فالغائب هنا جمع وجنس أي شهودهم كالغياب، وأن كان شهودهم هنا مصدر شهد كالحضور من حضر فالغائب هنا علي ضربتين: أحدهما أن يكون جنسياً كالأول فيكون المضاف إذن محذوفاً، أي شهودهم كغيبة الغائب، والأخر أن يكون الغائب مصدراً كالباطل والفالج والباغر- أي المجنون- والعائر- الرمد- أي شهودهم كالغيبة، ثم عمد إلي طريقة أهل الجدل المنطقي فقال: "فأن قيل: فمن أين لك الغائب مصدراً كالباطل في غير هذا فتحمل عليه هذا؟ قيل: قد ثبت أن المصدر قد يأتي علي فاعل بما رأيناه وها هنا، وأن لم يكن معك فيه ما تقطع به فليس معك أيضاً ما يمنع منه، والقسمة حملاً علي النظير محتمله، وما كانت هذه سبيله فالقسمة قابلة له وغير ممتنعة منه فأعرف ذلك أصلاً من أصول فقه العربية" وفي بيت دريد بن الصمة القائل: كميش الإزار خارج نصف ساقه بعيد عن الأفسات طلاع أنجد نراه يقف من البيت كله عند لفظة "أنجد" فيقول: هكذا تكسير القلة والمراد به معني الكثرة، ألا تري أنه لا يريد أن يطلع أنجداً من الثلاثة إلي العشرة، وإنما

يريد أن من عادته اطلاع النجاد فهو يؤذن بالكثرة" ثم مضي مستقصياً الحديث عن جموع القلة والكثرة موضحاً ما أثبته من أن العرب قد تطلق جمع القلة وتريد به الكثرة. قال: "وليس قوله "أنجد" وهو يريد الكثرة كقولهم أرسان، وأقوام، وأقلام، وأرجل، وهو يريدون من كل واحد منها الكثرة، والفرق بينهما أن "نجدا" قد تكسره علي مثال الكثرة وهي النجاد، وكل واحد من أرسان وأقوام وأرجل لم يكسر إلا تكسيراً لقلة البتة، فكان مجيء كل واحد منها مراد به الكثرة أسهل من مجيء مثال القلة ملفوظاً معه، ومنه بمثال الكثرة مراداً بها الكثرة فقد كثر عندهم مجيء لفظ جمع القلة والمعني به معي الكثرة إلا تري إلي قول حسان: لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دماً ودفعه أيراد هذا البيت إلي أن يذكر رأياً لشيخه أبي علي الفارسي في القصة المرورية عن اعتراض النابغة لحسان في تقليل أجفانه وانسياقه، وفي قوله: يلمعن ويقطرن بدل يبرقن ويجرين، قال ابن جني: "وكان أبو علي يطعن في الحكاية هنا منسوبة إلي النابغة" لقد قللت جفانك وأسيافك" قال: ألا تري إلي قول الله سبحانه: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}، وغرف الجنة أكثر مما يظن، وقال تعالي: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ}، ورتب الناس في علم الله أكثر من العشر لا محالة".

على أن ابن جني في عمله اللغوي كان كثيراً ما يهتم بالاشتقاق مع ملاحظته الدائمة للمقياس، نلمس ذلك منه في مواضع مختلفة من التنبيه، قال في لفظة زرافات الواردة في أبيات القطعة الأولي من باب الحماسة وهو: قوم إذا الشر أبدي ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا الزرافة الجماعة سميت بذلك للزيادة التي هي في الاجتماع والتضام، ومنه التزييف للزيادة في الحديث يقال: زرف في كلامه أي زاد فيه، ومنه سميت الزرافة لطول عنقها وزيادته علي المعتاد المألوف فيما قده قدها" وكان حقه أن يكتفي بهذا في تحليل اشتقاق اللفظة ولكنه مضي إلي طريقته الجدلية وملاحظته للقياس فقال: "فان قلت: أن كثيراً من الإبل طول عنقه طول عنق الزرافة فهلا سميت زرافات، ففي ذلك جوابان أحدهما: أن الاشتقاق لا يركب فيه القياس، لما بيناه في كتابنا في شعر هذيل وهو الموسوم بكتاب التمام وغيره من كتبنا، والأخر أن الجمل علي علو جسمه وفخامة منظره لا ينكر أن يكون أن يكون عنقه طويلة ولكن الزرافة علي اجتماع جسمها إلي جسم البعير يستنكر ويستكثر لها طول عنقها وهذا واضح". وهو في الاشتقاق ينظر إلي ما في اللغة ثم يحكم بأصل اللفظة، قال في بيت قسامة بن رواحه السنبسي: دعا الطير حتى أقبلت من ضربة ... دواعي دم مراقة غير بارح "ينبغي أن يكون لام "ضربة" واواً، وذلك أن معنا في اللغة تركيب (ض ر و) وليس معنا تركيب (ض ر ي) من الضرو، والضرورة، والضراوة، فعلي ما معنا ينبغي أن يكون العمل والاشتقاق"

وكذلك نراه ينظر إلي القياس والاشتقاق معاً في لفظة القاع الواردة في قول بعض القرشيين هو: بينما نحن بالبلاكث فالقاع سراعاً والعيس تهوي هوياً قال: "ألف القاع بدل ما واو قياساً واشتقاقاً فأما القياس فلأنها عين، وأما الاشتقاق فلقولهم في تكسيره أقراع، وأما قيعان وقيعة فلا دليل منه لسكون العين مكسوراً ما قبلها". وهكذا نري أن ابن جني كان ينظر إلي الألفاظ نظرة جزئية في النص، وأن عمله اللغوي قد تركز علي القياس والاشتقاق مع جنوح إلي طريقة جدلية يلجأ إليها لبيان أصول العربية وأسرارها، ومن ثم جاء عمله اللغوي في التنبيه جامعاً لفوائد جمة ولطائف نادرة بغض النظر عما ينبغي تحقيقه من عناصر الشرح وتفسير ألفاظ النص وتراكيبه قصداً إلي إبراز معناه. وما يمكن قوله في عمله اللغوي يمكن ان يقال في عمله النحوي، فقد لاحظنا فيه عدة جوانب تتصل بنظرته الجزئية للأعراب ومعالجاته النحوية في نصوص الحماسة، وأهم هذه الجوانب يمكن تلخيصها في الأتي: أإثارته للقضايا ظاهرة الأشكال في مسائل الإعراب أو القضايا التي تبدو جلية، ولكنها تخفي وراءها الغامض من المسائل. ب تتبعه الدائم للخلاف بين سيبوبه وأبي الحسن الأخفش في جملة من المسائل التي خالف فيها الأخفش جمهرة النحاة. ت تنويهه المستمر بأن الأعراب قد يجيء مخالفاً للمعني. ث اعتماده الواضح علي القياس في طرح المسائل الأعرابية. ففي الجانب الأول نراه يركز جهوده علي نواح جزئية في النص مثيراً من خلالها

قضايا الإعراب وقواعد النحو ولا يربط ما يثيره بالنص، وإنما همه إثارة المشكلة فحسب، ظاهرة كانت أو خفية، مثال ذلك ما جاء عنه في بيت عامر بن الطفيل الذي يقول فيه: أكر عليهم دعلجاً ولبانه ... إذا ما اشتكي وقع الرماح تحمحماً فقد روي "لبانه" بالنصب، وهذا مخالف لما مر بنا عن الإمام المرزوقي الذي اعتمد رواية "ولبانه" بالرفع وقال عن رواية النصب إن صاحبها "فر من أن يكون الأشتكاء والتحمحم علي كثرة نسبة الأشتكاء إلي الأعضاء الألمة فوقع فيما هو أقبح لأن المراد أكر عليهم فرسي فلا معني لعطف اللبان عليه". أما ابن جني فحين أثبت روايته نظر إلي ما أثارته الرواية من قضية تتصل بأحدي القواعد في العطف قال: "لبانه بعضه وإذا كر عليهم فرسه فقد دخل لبانه في جملته فكيف إذا جاز عطف البعض علي الكل الداخل فيه بعضه، وأنت لا تقول أحذت العشرة وثلاثتها ونحو ذلك، والجواب أنه أنما أعاد ذكر اللبان لعظم قدر في نفسه ولآن الذكر بصدره والأنثى بعجزها فلماً فخمه وعظم أمره أعاد ذكره تنويهاً به، ومثله قول الله سبحانه: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} فأفردهما صلي الله عليهما بالذكر مخصوصين به وأن كانا داخلين في جملة الملائكة المقدم ذكرهم" فأذن علي ما يبدو من كلام أبي الفتح إن ثمة معني في عطف اللبان علي الفرس وليس الأمر كما تصوره المرزوقي، وهذا الذي أبنه أبو الفتح إنما يدخل في باب المعاني من البلاغة وهو لون من ألوان الأطناب الذي يأتي في الكلام بقائدة ويسميه البلاغيون عطف الخاص بعد العام، غير أن أبا الفتح لم ينظر إليه من وجهة

البلاغة، وإنما نظر أليه من وجهة النحو باعتبار أنه من باب عطف البعض علي الكل الداخل فيه، وهي قضية تمس الأعراب وتمس المعني أيضاً. وهو بجانب هذه القضايا الأعرابية التي تتصل بقواعد النحو كان يقف أحياناً عند أوجه الأعراب إذا تحقق لأعراب التركيب أكثر من وجه ففي بيت سعد بن ناشب الذي يقول فيه: وقف أبو الفتح في إعراب"صاحباً" وعدد أوجه الإعراب فيه فقال: "أن شئت نصبت صاحباً علي أنه مفعول به، ونصبت قائم السيف علي الاستثناء أي لم يرض صاحباً إلا قائم السيف، كقولك: لم أر زيداً أحداً أي لم أر أحداً ألا زيداً". هذا وجه ووجه آخر ذكره فقال: "وإن شئت نصبت قائم السيف نصب المفعول به وجعلت صاحباً حالاً منه كقولك: لم أضرب إلا زيداً قائماً أي لم أضرب أحداً زيداً في حال قيامه" ثم نبه إلي أمر يدخل في قواعد إعراب البدل فقال: "ومن نصب زيداً في قولك ما رأيت أحداً إلا زيداً علي البدل لم ينصب قائم السيف في القول الأول إلا علي الاستثناء المقدم دون البدل، وذلك لتقدمه علي صاحب، والبدل لا يجوز تقديمه علي المبدل منه". ويعد الجانب الثاني أظهر ما يجده القارئ في التنبيه، فكثيراً ما كان ابن جني ينظر في عمله في الحماسة إلي اختلاف بين سيبويه وأبي الحسن الأخفش، وذلك من خلال رؤيته للشعر الوارد والبحث فيه عما يدعم قول أحد الرجلين في المسائل النحوية التي قام خلاف فيها بينهما، والأمثلة علي ذلك مترددة في صفحات "التنبيه" يرجح تارة رأي سيبويه وتارة رأي أبي الحسن، لأن ظاهر النص الذي أمامه يدعم هذا أو ذاك، فبيت بلغاء بن قيس الكتاني الذي يوقل فيه: وفارس في غمار الموت منغمس إذا تألي علي مكروهة صدقاً

كان شاهداً يرجح مذهب سيبويه في مسألة تتصل بحذف الموصوف من الكلام. قال أبو الفتح: "مكروهة يحتمل خلاف الرجلين سيبويه وأبي الحسن، فمذهب صاحب الكتاب أنه وصف لموصوف محذوف كأنه قال: إذا تألي علي حالة مكروهة صدقاً، ومذهب أبي الحسن أنه مصدر جاء علي مفعول". ومضي ابن جنبي مقرراً أن هذا ليس موضع التناصف بين الرجلين فهو قد ذكر ذلك في غير موضع، غير أنه نظر إلي قياس الرجلين في هذه المسألة ونظر إلي تأنيث لفظة "مكروهة" فقال: "ينبغي أن تعلم أن قياس قول صاحب الكتاب أن يكون فيه- أي الوصف- ضمير من الموصوف لمحذوف، وقياس قول أبي الحسن ألا يكون فيه ضمير من الموصوف، كما لا يكون في الكره والكراهية والكراهة، وكأن تأنيث المكروه يشهد لصاحب الكتاب، وذلك أن تأنيث الصفة أشيع ,أسير من تأنيث المكروه يشهد لصاحب الكتاب، وذلك أن تأنيث الصفة أشيع وأسير من تأنيث المصدر من حيث كان المصدر دالاً علي الجنس، وإذا أفضي الأمر بك إلي الجنس فلك فيه جانب التذكير، فهذا أحد ما يشهد لقول سيبويه". ونراه في موضع آخر يشير في بيت آخر إلي ما يدعم رأي أبي الحسن، وذلك في بيت ابن حبناء التميمي الذي يقول فيه: فإن أنت لم تقدر علي أن تهينه ... فدعه إلي اليوم الذي أنت قادرة فقد عرض لرأي سيبويه في "قادرة" وأمثالها، قال: "أراد قادر فيه فحذف حرف الجر وشبهه في اللفظ بالمفعول به، وعليه بيت الكتاب: ويوماً شهدناه سليماً وعامراً ثم عرض لرأي أبي الحسن ودل علي أن ما جاء في البيت يؤكد قوله، قال: "وهذا ما يؤكد قول أبي الحسن في قول الله تعالي: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} أنه أراد تجزي فيه، ثم حذف حرف الجر فصار تجزيه، ثم حذف

الهاء من الصفة خلافاً علي سيبويه". أما الجانب الثالث الخاص بأن الإعراب قد يأتي مخالفاً للمعني فقد عرض إليه ابن جني في مواضع متفرقة من التنبيه، منها ما جاء عنه في بيت جعفر بن علبة القائل: عجبت لمسارها وأني تخلصت ... إلي وباب السجن دوني مغلق فهوي يري فيه أنه لا يجوز أن يكون "أني" من قوله "وأني تخلصت" مجرورة عطفاً علي قوله "مسارها" وذلك أن "أني" استفهام والاستفهام لا يعمل فيما ما قبله، وبناء علي هذا فأن "أني" في رأيه منصوبة بقوله: "تخلصت" كقولك: أني ارتحلت أي من أين ارتحلت، فكأن المشاعر لما قال: عجبت لمسارها تم كلامه ثم قال مستأنفاً أحداً في كلام أخر "وأني تخلصت" أي من أين تخلصت. هذا وضع الأعراب عنده، غير أنه عقب عليه بقوله: هذا وضع الإعراب ومقتضي الصنعة فيه، فأما حقيقة المعني فكأنه قال: عجبت لمسارها ولتخلصها إلي، لأن العجب اشتمل عليهما جميعاً، ولا يستنكر أن يكون وضع الإعراب مخالفاً لمحصول المعني، ألا تراك يقول: أهلك والليل، فمعناه الحق أهلك قبل الليل والإعراب غير ذلك. وأما الجانب الرابع المتمثل في اعتماده الواضح علي القياس في مناقشة المسائل الإعرابية فهو مذهبه النحوي، فابن جنبي كما سبق أن أشرنا كان من أصحاب مدرسة القياس أو المدرسة البغدادية الجديدة، وهي مدرسة تعتمد علي القياس في العمل النحوي، وذلك لنزوعها الدائم إلي أهل البصرة، ففي مناقشاته لخلافات سيبويه والأخفش نراه دائماً يردد قياس سيبويه كذا وقياس أبي الحسن كذا، كما أنه كثيراً ما بين نظرة البصريين من جهة القياس إلي مسألة من مسائل الإعراب،

ففي بيت الفضل بن الأخضر الذي يقول فيه: ألا أبهذا النابح السيد إنني ... علي نأبها مستبسل من ورائها نراه يقف في البيت وينظر إلي استضعاف البصريين وصف أي النداء بهذا نظراً لما لديهم من قياس قال: "أصحابنا يستضعفون وصف أي النداء بهذا، وذلك أنها مبهمة ومحتاجة إلي الصفة وهذا مبهم محتاج إلي موضح، فلم يكن في القياس أن ينفي الإبهام بمعرف في الإبهام". وفي موضع أخر نجده يقف في بيت مراد بن حنش ألصادري الذي يقول فيه: لقومي أري للعلا من عصابة ... من الناس يا حار بن عمرو تسودها فينظر في ترخيم "حار" مع وجود ابن قال: "كان القياس أن لا يجوز ترخيم الاسم الموصوف باين من قبل أن العلم إذا وصف باين من قبل أن العلم إذا وصف باين فلان فقد جعلا كالاسم الواحد، ولذلك قالوا يا زيد بن عمرو ففتحوا الأول لفتحة الثاني وإذا كانا جميعاً كالاسم المفرد فقد حصل جزء الاسم الأول حشواً إذا لا طرفاً، وإذا كان حشواً لم يتطرق عليه حذف الترخيم، فهذا وجه قياس امتناعه" وهو إذا كان يتكئ علي القياس كثيراً فأنه أيضاً كان يعتمد علي السماع الشائع أصلاً من أصوله ولهذا نراه حين وقف في بيت من أبيات القطعة الأولي من الحماسة وهو: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات علي ما قال برهاناً قال: "برهان عندنا فعلال وليس نونه بزائدة، يدل علي ذلك قولك برهنت له علي كذا، أي قمت الدليل عليه، وهذا قاطع ونظيره دهقان وهو فعلال وليس بفعلان، ودليله قولهم: قد تدهقن ... وقد كان القياس في نون برهان ودهقان أن

يكونا زائدتين حملا علي الأكثر، ولكن قد ورد السماع بما أرغب عن القياس فترك إليه". وهذا يدل علي أن السماع كان لديه في الدرجة الأولى من أصول العربية مع اعتداده الواضح بالقياس والتعويل عليه في كثير من عمله في اللغة والنحو، ولكنه كان في السماع يعتمد علي الكثرة والشيوع مثل البصريين بدلالة أنه كان ينتقد الشعراء في بعض تراكيبهم اللغوية التي جاءت مخالفة القياس، وهو أمر سوف نعرض له في عنصر النقد الذي كان يقيمه ابن جني في نصوص الحماسة. 5 - المعاني: سبق أن أوضحنا في مناقشتنا لمقدمة ابن جني في التنبيه أنه لا يعرض لمعاني الشعر إلا من خلال الإعراب، فالمعاني لم تكن من همه، هذا ظاهر قوله: "وتحاميت شرح أخبارها أو تفسير شيء من معانيها إلا ما ينعقد بالإعراب"، ولهذا رأيناه نادراً ما يتطرق لمعاني الشعر، ومن هذا النادر قوله في بيت عروة بن أذينية: حجبت تحيتها فقلت لصاحبي ما كان أكثرها لنا وأقلها قال: "أي ما كان أكثرها لنا فيما مضي وما أقلها الآن، وهو علي حذف المضاف إليه أي ما كان أكثر فعلها أي وصلها ومودتها" ثم فصل الشرح قليلاً في لفظة "أكثر" فقال: "وأكثر هنا من قولهم لا كثير ولا طيب، وليس الكثير هنا من الكثرة التي هي زيادة الأجسام ونحوها، وإنما الغرض فيه البركة والقبول وطيب النفس بالشيء" ثم عرض إلي معني أخر غير الأول فقال: "ويجوز أن يكون من أكثرها وأقلها عائداً علي التحية وهذا واضح" يريد أن المعني: ما كان أكثر تحيتها لنا فيما مضي، وما أقل هذه التحية الآن وهو معني ليس برديء من حيث أن التحية هنا رمز للوصول والمودة، ولكن ابن جني ذا النظرة يفضل عليه المعني الأول القائم على

حذف المضاف إليه فيقول: "والأول أعلي معني". وفي بيت عبد الله بن أوفي الخزاعي: فبئست فعاد الفتي وحدها ويئست موفية الأربع نراه يوضح مجيء "فعاد الفتي" تمييزاً وأن كان معرفة وذلك بقوله: "أن تعريف الجنس لا يخص واحداً بعينه فضارع شياعة النكرة" ثم أورد معني البيت في كلمات قال: "ومعني البيت أنها أن انفردت بزوجها فهي مذمومة وكذلك إن كان معها ثلاث نسوة تكن بها أربعاً"، ثم أورد بيتاً يدعم به هذا المعني قال: "وكان الأصمعي يلقي علي أصحابه: واحدة أعضلكم شأنها ... كيف إذا قمت علي أربع أي لو تزوجت أربع نسوة". والحق أن عمل ابن جني في المعاني حتى ما ينعقد منها الإعراب يعد ضئيلاً جداً، وإذا كان منهج الرجل يقوم في الأصل علي إثارة القضايا العلمية التي تتصل باللغة والإعراب، فمن الطبيعي ألا نجد له شيئاً يذكر في عنصر المعاني. 6 - البلاغة والنقد: وإذا كانت المعاني ليست من همه فأن البلاغة أيضاً ليست من همه، لأن الشارح يلجأ إلي البلاغة في الشرح لإبراز جمال معاني الشعر ومرامي الشعراء في أداء العبارات ولم يكن هذا من عمل ابن جني، بل أننا لاحظنا أنه إذا كان في النص لون بلاغي فأنه ينظر إلي هذا اللون من وجهة نحوية لا من وجهة بلاغية مثال ذلك أسلوب تأكيد المدح بما يشبه الذم الذي ورد في بيت النابغة الجعدي: فني كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقي من المال باقياً كان موقف ابن جني نحوياً بحتاً، نقل أولاً قولاً لأبن الأعرابي عن ثعلب أنه- أي ابن الأعرابي- لما أنشد قول النابغة:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهمْ بهنّ فلول من قراع الكتائب قال: هذا استثناء، قيس يقولون غير أن هذا أشرف من هذا وهو أفضل من هذا يكون مدحًا بعد مدح، وأنشد فيه أيضًا: فتيًّ كان فيه ما يسرّ صديقه على أن فيه ما يسوء الأعاديا فتيً كملت أخلاقه غير أنّه كريم فلا يبقى من المال باقيًا ثم عالج الأمر من جهة نحوية فقال: (وهذا الاستثناء على إعرابه جاز بالاستثناء المعهود ألا ترى أنّه إذا قال: (فتى كان فيه ما يسر صديقه) جاز أن يظن أنه مقصور على هذا وحده فإذا قال: (على أن فيه ما يسوء الأعاديا) أزال هذا من النفس وصار معناه أن فيه مسرة لأوليائه ومساءة لأعدائه. وليس مقصورًا على أحد الأمرين فهو إخراج شيء من شيء لخلاف الثاني الأول وكذلك قوله: فتيً كملت أخلاقه غير أنّه كريم فلا يبقى من المال باقيًا كان إتلافه للمال عيبًا عند كثير من النّاس استثنى هذه الحال فأخرجها في جملة خلال المديح لمخالفتها إياها عندهم وعلى مذهبهم، وليس شيء يعقد عقد على أصله فيخرج عقد شيء منه في الظاهر إلا وهو عائد إليه وداخل فيه الباطن). وهذه العبارة الأخيرة أشبه بكلام المتكلمين، وتبعد كثيرًا عن كلام البلاغيين في مثل هذا الشعر، فالبلاغيون وضعوا لهذا المحسن المعنوي في باب البديع اسمًا هو تأكيد المدح بما يشبه الذم، وعده ابن المعتز من محاسن الكلام، وهو عندهم ضربان أحدهما جاء في بيت النابغة الذيباني المتقدم ذكره وهو أن يأتي بصفة ذم منفيه ثم يستثني منها صفة مدح، والآخر جاء في بيت النابغة الجدي والبيتين الآخرين،

وهو أن يثبت لشيء صفة مدح ويعقب بعدها بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى. فهذا المنحنى في تناول الألوان البلاغية رأيناه عند المرزوقي، أما ابن جني فقد كان ينظر إلى الشعر وأساليب الشعراء فيه نظرة نحوّية إعرابية، فلهذا كان من الطبيعي أن يعالج الأمور على هذا النحو الذي رأيناه. وإذا كانت هذه حاله في البلاغة فإنه كذلك في النقد لم يخرج عن نطاق تلك النظرة النحوّية إلى ميدان أرحب يبرز فيه جوانب الجودة والضعف في النصوص المختارة من الحماسة، وكل الذي رأيناه منه في هذا الخصوص أنه كان ينتقد الشعراء في أسلوب نحوي حين يراهم يخرجون في شعرهم عن قواعد الإعراب التي قننها النحاة. ومن أمثلة ذلك وقفته التي وقفها في بيت الحكم بن عبدل في مدح عبد الملك ابن بشر بن مروان: فكأنما نظروا إلى قمر أو حيث علق قوسه قزح نظر إلى تركيب (علّق قوسه قزح) فقال: (قال النحويون في الأخبار عن المضاف إليه هو على ضربين: أحدهما تحته حقيقة معنى نحو صاحب زيد وغلام بكر، والآخر مالا حقيقة معنى تحته نحو قولهم: ابن قترة، وحمار قبان، وسام أبرص، وأبو براقش، وبنات أوبر، وأبو الحصين، وأم حنين، وبنات نعش، فكل واحد من هذه الأسماء المضاف إليها لا يقصد به قصد شيء معروف، وإنما هي معارف لفظية لا معنوية) ثم وضح أن الضرب الأول يجوز الإخبار عنه فإذا أخبرت عن زيد من قولك هذا غلام زيد قلت: هذا الذي غلامه زيد. وأما الضرب الثاني فلا يجوز الأخبار عن شيء منه، ألا تراك لو أخبرت عن قبان من قولك هذا حمار قبان للزمك أن تقول: الذي هذا حماره قبان، فتومئ إلى أمر مجهول لا صحة معنى تحته، فتخبر عنه، ولا يحصل في اليد شيء منه، وإذا كان كذلك كان قوله: (حيث علق قوسه قزح) شاذًا عما انعقد عليه قانون هذا القبيل، ألا ترى أنه لا معنى

لقزح فتخبر عنه بتعليقه (قوسه) فابن جني إذن يعتبر تركيب ابن عبدل شاذًا خارجًا عن قانون النحو وأن ضرورة الشعر هي التي دعت إليه، ولكنّه مع ذلك يحاول أن يضع له عذرًا في هذا الشذوذ بقوله: (أن الشاعر ربما يلعب بكلامه كثيرًا) ثم ينتقد تفسيرًا لقزح في هذا البيت فيقول: وقول من قال أن قزح شيطان تمحل منه). هذا هو عمل ابن جني في شرح الحماسة، وتلك هي معالجته لعناصر الشرح فيه، وهي معالجة- كما اتضح لنا بعد هذا العرض- رهينة المنهج الذي سلكه صاحبها، وهو منهج علمي متخصص في مجالات معينة من الشرح، مجال المشاكل التي تثيرها النصوص في اللغة، وما يلحق بها من اشتقاق أو تصريف، ومجال المسائل الإعرابية وما يتصل بها من خلافات بين النحاة، ومجال المشكلات التي تتصل بالعروض والقوافي، أو تتصل بشذوذ التراكيب في استخدام الشعراء. ولقد كان ابن جني يتحرك في هذه المجالات بأسلوب يغلب عليه الطريقة الجدليّة المتأثرة أحيانًا بطرق المتكلمين في التعبير، وهو أسلوب قد يثير في نفوسنا المتعة الذهنية ولكنه خالٍ من الإثارة الوجدانية التي رأيناها عند المرزوقي بأسلوبه الأدبي، وربما التقى ابن جني مع المرزوقي في الجنوح أحيانًا إلى طريقة المعلمين في التعبير، غير أن غلبة أداء العبارات عند الرجلين جد مختلفة، وهو أمر واضح لا يحتاج إلى دلالة، ويستطيع أن يدركه بوضوح كل من يقف على أسلوب الرجلين.

الفصل الرابع: المنهج التتبعي التقويمي وتطبيقه في عملي أبي هلال وأبي محمد الأعرابي

الفصل الرابع: المنهج التتبعي التقويمي وتطبيقه في عملي أبي هلال وأبي محمد الأعرابي سبق أن أوضحنا أن هذا المنهج يقوم على أعمال السابقين لا ليجمعها وينتخب منها كما هو الحال في المنهج التجميعي الانتخابي، وإنما ليتتبعها ويقوم ما فيها من أخطاء وأوهام، فهو منهج يقوم على تصحيح ما ورد في شروح الآخرين سواء من حيث رواية الشعر أو شرحه، ولقد اشرنا إلى أن هذا المنهج يمكن أن يطبق في عمل رجلين من العلماء الذين اهتموا بحماسة أبي تمام هما: أبو هلال العسكري في رسالته (ضبط مواضع الحماسة) وأبو محمد الإعرابي في كتابه (إصلاح ما غلط فيه أبو عبد الله النمري). أ- أبو هلال ورسالته: فأما أبو هلال فإن له عملين في الحماسة أحدهما شرحه للحماسة الذي سبق إيراده في ثبت الشروح، وليس هنا موضع دراسته، إذْ له موضع آت إن شاء الله، أما ما يهمنا الآن فهي رسالته التي صنعها متتبعًا رواية أحد الشيوخ لمتن الحماسة

ضابطًا ومقومًا ما رآه من مواضع زلل فيها، قال في مقدمة هذه الرسالة: ((مر بي في نسخة الحماسة بخط بعض أجلاء الشيوخ، وذكر أنه قرأها على أبي بكر الخياط وأبي الحسن الهرباني مواضع لم تضبط حق الضبط، ولم تجر على سنن العدل، فرأيت الأبانة عن مواقع الزلل منها لئلا أنسب إلى الخطأ إذا رويت خلافها))، فإذا نظرنا إلى هذه الرسالة وجدنا أن عمل أبي هلال فيها يقوم على ثلاثة جوانب: أولها التصحيف الذي يحدث في روايات الحماسة فيؤدي إلى فساد في المعنى، وثانيها التحريف الذي تنجم عنه عدة أمور، منها خلل المعنى أو خلل الإعراب أو خلل الوزن، أو خلل أن يجري الكلام على غير المألوف عند العرب، وثالثها الخطأ في نسبة الشعر إلى قائله، وهو في هذه الجوانب الثلاثة كان يعتمد في تبيان كل ما يطرأ له من زلل في الرواية على علوم اللغة والنحو والصرف والأخبار التاريخية وعلم العروض، وعلى ثقافته الواسعة في الموروث من العلم والأدب، وعلى إدراكه العميق لمعاني الشعر ومرامي الشعراء، وذوقه الخاص في فهم الشعر، ومعرفة دقائق القول فيه. ففي الجانب الأول الخاص بالتصحيف نراه يبيّن ما وقع فيه الشيخ صاحب النسخة من تصحيف في رواياته. ولا شك أن أبا هلال قد أفاد في هذا الجانب من شيخه أبي أحمد العسكري صاحب كتاب (شرح ما يقع في التصحيف)، فهو وإن لم يشر إليه في رسالته فإن تلمذته له تدفعنا إلى القول بأنه أفاد من شيخه في هذا الجانب بدلالة ما جاء عنه في بيت قيس بن الخطيم الذي يقول فيه:

إذا ما شربت أربعا خط مئزري وأتبعت دلوي في السماح رشاءها فقد قال أبو هلال فيه: (رواه هذا الشيخ (حط مئزري) بالحاء، ورواية الناس (خط) بالخاء، قال خالد بن كلثوم وأبو عمرو الشيباني: خط مئزري أي أرخاه فخط الأرض، وكانوا يسبلون أطراف الأزر فتخط أهدابها في التراب أي تشقه، والخط الشق قال النابغة: أعلمت يوم عكاظ حين لقيتني تحت العجاج فما خططت غباري أي ما شققته) وهذا الكلام موجود في كتاب أبي أحمد العسكري المشار إليه آنفا، وقال أبو هلال عن رواية (حط) المصحفة إن حط المئزر إنزاله عن الحقو، وليس ذلك مما يمدح به). والتصحيف كما رأينا في هذا المثال قد يقع بسبب الخطأ في الاعجام، لأن الكلمة إذا أسقط الاعجام في حرف من حروفها أدت إلى معنى مغاير للمعنى المراد كما وضح في خط وحط، ومثله أيضًا ما وقع في بيت تأبط شرًا القائل: على غرةٍ أو جهرةٍ من مكانسٍ أطال نزال القوم حتى تشعشعا فقد جاءت رواية الشيخ له بإسقاط الإعجام في كلمة (تشعشعا) فصارت (تسعسعا) وهذا ما دفع أبا هلال إلى أن يوقل موضحًا الفرق بين اللفظين قال: "التسعسع بالسين الادبار والهرم، والتشعشع بالشين معجمة من قولهم رجل شعشاع أي حلو فأراد أنه أكثر من الطعان حتى حذقه وصار لبقًا حلوًا إذا فعله لأنه لا يتكلفه، ونحوه قول الآخر:

لبيقا بتقليب القناة بنانيا وإذا كان تأبط شرًا يعني نفسه بهذا البيت فإن أبا هلال يلجأ إلى ما ذكره الرواة عن صفاته حتى يدلل أن الرواية تشعشع بالشين لا بالسين قال: (وقد أجمع الرواة على أن تأبط شرًا قتل وهو شاب، ولم يكبر فيتسعسع، وفي هذه المقطوعة ما يدل على ذلك وهو قوله: فلم تر من راء فتيلًا وحاذرت تأيمها من لابس الليل أروعا والأروع هو الجميل الذي يروع النظر منظره، ولو قد تسعسع لم يرع، ومنها: رأين فتى لا صيد وحش يهمه فلو صافحت إنسا لصافحته معًا والهرم المدبر من الرجال لا يسمى فتى). وفي الجانب الثاني الخاص بالتحريف في الرواية يتضح لنا من مناقشة أبي هلال له أن التحريف قد يقع في الضبط فيؤدي ذلك إلى فساد في المعنى أو إلى فساد في المعنى والإعراب معًا، ومن أمثلة فساد المعنى وجعله رديئا ما جاء عن الشيخ صاحب النسخة في ضبط لفظة وردت في بيت جريبة بن الأشيم القائل: وقد شبهوا العير أفراسنا فقد وجدوا ميرها ذا شبم قال أبو هلال: (رواه هذا الشيخ) وقد شبهوا العير أفراسنا) أي بفتح العين وسكون الياء في (العير) قال: وهو خطأ وذلك أن الأفراس لا تشبه بالعير الواحد وإن شبهت به كان رديئًا لا يقوله مجيد، وأيضًا فإن العير ليس له مير، والرواية الصحيحة العير والمراد أنهم لما غزوناهم فرأوا أفراسنا من بعيد ظنوها عيرًا أي إبلا تحمل الميرة فابتدروها فصادفوا ميرها) ثم فسر ذا شيم بقوله أراد ذا موت على ذلك بقول خداش بن زهير:

بين الأراك وبين المرخ تشدخهم رزق الأسنة في أطرافها الشبم أي في أطرافها الموت). ومثل ذلك في تحريف الضبط وفساد المعنى ما جاء في قول أبي عطاء السندي: فإنك لم تبعد على متعهد بلى كل من تحت التراب بعيد فقد رواه هذا الشيخ صاحب النسخة (لم تبعد) بفتح العين من قولك: بعد الرجل يبعد إذا هلك. قال أبو هلال معلقًا على هذا التحريف: (وليس هذا بالجيد والجيد ها هنا فإنك لم تبع) بضم العين من قولك بعد يبعد لقوله: (كل من تحت التراب بعيد) ولو قال: فإنك لم تبعد لم يحسن إلا أن يقول في آخر الخطاب بعد، ومن حق الصنعة أن يرد ما ابتدأ به كقولك: من اجتم سواء حق به ما اجترم ولم يحسن أن تقول حق به ما اكتسب، فإنه قال لم تبعد على متعهد، ومن العادة أن يقال إنك لم تبعد عليّ لتعهدي إياك بالذكر، وليس من العادة أن يقال إنك لم تمت عليّ لتعهدي إياك بالذكر). ومن أمثلة تحريف الضبط الذي يؤدي إلى إفساد الأعراب والمعنى معًا ما وقع فيه الشيخ في بيت هلال بن زر أحد بني ثور بن عبد مناة بن أد وهو: أجادت وبل مدجنة فدرت عليهم صوب سارية درور فقد روي الشيخ (صوب) بالرفع، قال أبو هلال: (والصواب) (صوب) بالنصب، أراد أن الحرب أجادت فحذفها لدلالة الخطاب عليها، وصوب منصوب على تأويل المصدر أي أجادت الحرب صوب سارية، ودرور مرفوع جعله نعتًا للسالأرية على المعنى لأنها في المعنى رفع، ويجوز أن يكون درور نعتًا لمحذوف أي أجادت حرب صوب سارية) هذا هو وجه النصب عند أبي هلال. أما الرفع فقد قال فيه: وصوب بالرفع غير جائز لقوله أجادت ولا يجوز أن يؤنث

الصوب على تأنيث السارية كما فعل في (شرقت صدر القناة) و (تضعضعت سور المدينة) لأن الصوب ليس بعض السارية بل السارية طرف له، وطرف الشيء ليس منه، ولا يكون صوبًا إلا إذا انفصل عنه، وصدر القناة من القناة، وسور المدينة من المدينة). ومثلما يؤدي التحريف إلى فساد في الأعراب والمعنى يؤدي إلى اختلال في وزن الشعر، ومن أمثلة ذلك ما جاء في البيت القائل: تبكي على بكر شربت به سفهًا تبكيها على بكر رواه الشيخ (تبكي) بتشديد الكاف وضم التاء، قال أبو هلال: والبيت إذا روي كذلك كان مكسورًا). وكذلك الأمر في البيت القائل: ولست بلوام على الأمر بعدما يفوت ولكن عل أن أتقدما فقد قال أبو هلال فيه: (ذكر الديمرتي أن عل ها هنا بمعنى لعل وعقب على هذا بقوله: (عل هو الأصل مزيد عليه اللام، ويجئ لعل بمعنى الإيجاب، والمراد ولكن اوجب على نفسي التقدم في الأمور والاجتهاد في أن لا يفوت) ثم أشار إلى رواية الشيخ التي أدت إلى اختلال الوزن فقال: (ورواه هذا الشيخ ولكن علي أن أتقدما، والبيت مكسور على هذه الرواية). كذلك قد يؤدي التحريف في الرواية إلى الوقوع في عيب من عيوب الشعر التي يتحاماها الشعراء المجيدون، وينأون عن الوقوع فيها، ومن ذلك ما جاء في باب المراثي من قول هشام أخي ذي الرمة وهو: هوى المسجد المعمور بعد ابن دلهم وأمسى بأوفى أهله قد تضعضعوا

قال أبو هلال: (رواه هذا الشيخ قد تصدعوا) وتضعضعوا أجود لأن روى البيت الذي قبل هذا البيت تصدع البيت: نعوا باسق الأخلاق لا يخلفونه تكاد الجبال الشم منه تصدع ولم يكن هشام ليوطئ في بيتين متواليين ومع إمكان القوافي له، وإذا وقع الإيطاء في بيتين متباعدين في القصيدة كان أقل عيبًا، وكلما تقاربا كان عيبه أشد فإذا تواليا فهو غاية في العيب ولا نعرفه لمجيد) فكأن أبا هلال يرى أن رواية الشيخ قد نفت عن الشاعر الجودة حيث جعلته يقع في غاية العيب من الايطاء، وهذا بطبيعة الحال يمتنع معه أن يكون من ذوي الاختيار في الحماسة، وهو اختيار بناه صاحبه على الجيد من القول. وقد يؤدي التحريف إلى مخالفة الكلام لما هو جار على عادة العرب، وذلك مثل قول برج بن مسهر: فقمنا والركاب مخسيات إلى بزل مرافقهن كوم فقد عرض أبو هلال لشرح معنى الركاب ومعنى مخسيات قبل أن يتصدى لتحريف الشيخ في رواية هذا البيت قال: (الركاب الإبل لا واحد لها من لفظها، والمخسيات المذللات والتخييس التذليل، ومنه قيل للسجن مخيس، وأصل الكلمة من اللين يقال: خيست الكتان إذا ألقيت بعضه على بعض في الماء ليلين) ثم تصدى لتحريف رواية الشيخ فقال: (رواه هذا الشيخ محبسات على أنها تحبس ولا أعرف ما الذي تحبسه الركاب ثم تناول تحريفًا آخر، وهو أن يروي البيت (مخسيات) قال: (ولعل قائلا مخسيات أنها تخيس أصحابها أي تذللهم) فرد هذه الرواية بقوله: (فيكون ذلك قولًا مردودًا لأنه ليس من عادة العرب أن يصفوا الإبل بتذليل أصحابها وإنما العادة أن يصفوها بالذل -وهو خلاف الصعوبة- فيقولوا: ناقة مياسرة إذا كانت لا تصعب على راكبها فالوجه أن يروي ها هنا "مخسيات" بالفتح ليكون الكلام جاريًا على عادة العرب).

على أن أهم ما تعرض إليه أبو هلال من تحريف في الرواية هو قضية إرجاع الضمائر علي الوجه الصحيح الذي يسير وفق ضوابط اللغة، ووفق طريق الصنعة في الشعر فضًلا عن أداء المعني بالصورة التي أرادها الشاعر، وهو أمر سبق أن تعرضنا له في حديثنا عن ابن جني الذي تكلم في مسألة إرجاع الضمائر من حيث التذكير والتأنيث، وما انتهي إليه الأمر بينه وبين أبي الطيب المتنبي في هذا الخصوص، فأبو هلال في رسالته هذه رأيناه يهتم كثيرًا بهذا الجانب في رده روايات هذا الشيخ، وذلك لأن إعادة الضمير إلي غير وضعه الصحيح تؤدي إما إلي خلل في قواعد العربية التي قعدها النحاة أو غلي قلب في المعني. ومثال ما يؤدي إلي خلل في قواعد العربية ما جاء في البيت القائل: إن الأمور دقيقها مما يهيج له العظيم فقد جاءت رواية الشيخ فيه "مما يهيج لك" فقال أبو هلال: "ليست هذه الرواية بالمستقيمة، وذلك أن الأمور منصوب بأن، ودقيقها بدل من الأمور، ومما يهيج .... إلى آخر البيت خبر، والهاء في "له" راجعة إلي اسمها من الخبر ولو قال: "لك " لما صح الكلام لأنه ليس له في الخبر رادع إلي لاسم يرتبط به الكلام". أما مثال ما يؤدي إلي قلب المعني عما هو مراد له فقد جاء ف بيت الغزل وروايته الصحيحة هكذا: أرادت لتنتاش الرواق فلم تقم ... إليه ولكن طأطأته الولائد فقد رواه الشيخ صاحب النسخة "طأطأتها" بتأنيث الضمير بدلاً من تذكيره فقال أبو هلال مناقشًا هذا التحريف بادئًا بمعني البيت: "يصف امرأة بالكسل والنعمة، ويذكر أنها مكفيه أي أنها أرادت لتتناول رواق البيت لغرض لها فيه فلم تقم لتكاسلها عن حوائجها ولكن طأطأت الولائد وهي الإماء الرواق إليها فقضت من تناولها وطره من غير أن تتجشم القيام إليه، والتناوش التناول. ومنه قوله

تعالى: "وأنى لهم التناوش من مكان بعيد"، ثم عرض لرواية الشيخ "ولكن طأطأتها الولائد" قال: أي طأطأت هذه المرأة وليس لذلك معني هنا البتة، وطأطأتها باعدتها عن انتياش الرواق وهذا قلب المراد هنا". وفي الجانب الثالث والأخير نري أبا هلال يهتم بنسبة الشعر غلي قائليه، ففي القطعة الواردة في باب الهجاء، والتي نسبتها أبو تمام إلي أبي الأسد في هجاء الحسن ابن رجاء، وهي من بيتين هما: فأنظرن إلى الجبال وأهلها وغلي منابرها بطرف أخزر ما زلت تركب كل شيء قائم حتى اجتزأـ علي ركوب المنبر حرف الشيخ صاحب النسخة اسم الشاعر إلي "أبو الأسود" فقال: أبو هلال مصححًا إياه: "وهو غلط إنما هو أبو الأسد التميمي واسمه مباتة بن حمان، ويعرف بأبي الأسد الدينوري شاعر رشيدي، وليس بأبي الأسود الدلي، وذلك أن أبا الأسود في أيام أمير المؤمنين علي - عليه السلام- والحسن بن رجاء في بعض أيام بني العباس. ومثل ذلك ما وقع الشيخ من تحريف لاسم أبي الطمحان الأسدي، وذلك في أبيات وردت في باب الملح قالها أبو الطمحان الأسدي لما حلق صاحب الشرطة يوسف بن عمر لمته ومطلعها: وبالحيرة البيضاء شيخ مسلط أذا حلف الأيمان بالله برت قال أبو هلال: "رواه هذا الشيخ أبو الطمحان القيني وهو خطأ، وذلك أن أبا الطمحان القيني جاهلي واسمه حنظلة بن شرقي: وقيل بل اسمه ربيعة بن عوف بن غنم بن كنانة بن القين بن جسر القائل: أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه

وفيهم أبو الطمحان النهشلي وكان يهاجي أم الورد العجلانية، أبو الطمحان الأسدي هذا الذي أنشد له أبو تمام " وبالحيرة البيضاء: وأنشد له الأخفش قال نقلته من خط ثعلب: كأن لم يكن بالقصر قصر مقايل وزورة ظل ناعم وصديق وهي أبيات. وأبو الطمحان الطائي أنشد له الجاحظ في الحيوان: يا أم لا رقيت عين بكيت بها ... ولا جرت لكم طير الميامين وهي أبيات. وختم أبو هلال هذا التوضيح فيمن اسمه أبو الطمحان بقوله: "فهؤلاء آباء الطمحان، والقيني منهم جاهلي من غير خلاف، ويوسف بن عمر عامل لهشام بر عبد الملك" ثم أضاف أن الحسن بن بشير الآمدي ذكر من يقال له أبو الطمحان، فذكر أبا الطمحان القيني، وأبا النهشلي، وأبا الطمحان الطائي، وأفاد بأن الأسدي التبس أمره علي الرواة وأشكل حتى حسبوه أبا الطمحان وانما هو أبو الطمخاء، واسمه طخيم أنشد له أبو حاتم والمبرد". وهكذا رأيناه أبا هلال العسكري من خلال عمله في هذه الرسالة التي تتبع فيها رواية أحد الشيوخ بالإصلاح والتقويم يحقق منهجًا في التأليف ومنهجًا في معالجة ما تناوله من تقويم وإصلاح، وقد كشفت لنا هذه التقويمات والإصلاحات عن ثقافة أبي هلال في فن الشعر، وما تقضيه هذه الثقافة من معرفة بعلم النحو واللغة والصرف والعروض ووقوف علي الأنساب والأخبار التاريخية، الأمر الذي يؤكد ما قلناه سابقً أن أصحاب هذا المنهج ذو وثقافة عالية في جميع العلوم التي تشكل عناصر

الشرح في الشعر، غير أننا ونحن نقول هذا القول ينبغي أ، نسجل ملاحظتين من خلال ناء رأيناه من عمل لأبي هلال في هذه الرسالة. إحداهما أ، أبا هلال وهو العالم المتصدي لأعمال السابقين، يقومها ويصوب ما فيها من زلل، كان عليه أن يتحاشى الوقوع في الوهم، حتى لا يصحح وهمًا ليبقي علي وهم آخر، فقد رأيناه يقع في هفوة هو في رأينا أكبر منها، ذلك أنه لما صحح رواية الشيخ في بيت لأبي عطاء السندي قال: "وقول أبي عطاء السندي يرثي يعقوب بن داؤد: فأنك لم تبعد علي متعهد ... بلي كل ما تحت التراب بعيد" والبيت من أبيات أربعة قالها أبو عطاء السندي في رثاء يزيد بن عمر بن هبيرة لا في رثاء يعقوب بن داؤد وزير المهدي المشهور، يدلنا علي ذلك أن الطبري ذكر في تاريخه أن يزيد بن عمر بن هبيرة لما قتل علي يدي المنصور ودفن بواسط قال أبو عطاء السندي: ألا ان عينًا لم تجد يوم واسط عليك بجاري دمعها لجمود وروي بعدها أبياتًا ثلاثة منها البيت الذي أورده أبو هلال". كذلك أورد الأبيات ابن قتيبة في الشعر والشعراء ولكنه وهم وقال: إنها في رثاء عمر بن هبيرة أبي يزيد، ويتضح وهمه هذا من أن أبا الفرج الأصفهاني ذكر لنا علاقة أبي عطاء السندي بيزيد بن عمر بن هبيرة، ولم يشر إلي أية علاقة بينة وبين عمر بن هبيرة (¬1)، كما أ، صاحب مراتب النحويين أبا الطيب اللغوي أفاد بأن ذكر أبي عطاء قد ورد عند الأصمعي ذات يوم فطعن أحد الحاضرين في شعره فقال الأصمعي: أخبرني أبو جندل الراعي قالك لما دفن يزيد بن عمر بن هبيرة قال أبو ¬

_ (¬1) ينظر ترجمة أبي عطاء في الأغاني 16: 78 وما بعدها.

عطاء، وروى أبيات الرثاء الأربعة، ثم أردف الأصمعي قائًلا: أفيقال لهذا لا يحسن؟ ! ". وهذه الروايات جميعها تؤكد أن الأبيات في رثاء يزيد بن عمر بن هبيرة ولا صلة ليعقوب بن داؤود بها. أما الملاحظة الثانية فهي تتصل بما يصنعه شراح الحماسة من مفاضلة بين الروايات، وذلك أننا بعد أن قرأنا رسالة أبي هلال هذه اتضح لنا أن هناك اختلافًا فيما يفضله أبو هلال من رواية، وما فضله الإمام المرزوقي من رواية، فقد سبق أن مر بنا في دراستنا لعمل المرزوقي في الحماسة أنه قد اختار رواية بيت مرة بن محكان في وصف جازر ناقة علي هذا النحو: ينشنش اللحم منها وهي باركة كما ينشنش كفا قاتل سلبا وأشار إلي أن بعضهم قد روي " كما تنشنش كفا قاتل سلبا" ولكنه قال: إن الرواية الأولي أجود وأكثر مشابهة"، وهذه الرواية التي اختارها لمرزوقي ووصفها بالجودة هي ذاتها التي اختارها الشيخ صاحب النسخة التي تعقبها أبو هلال بالتصحيح والتقويم، وكان أن قال عن رواية "كفا قاتل" أنها تصحيف والقاتل لا يقطع السلب ولا يعسر عليه أخذه". ويبدو أن المرزوقي نظر إلى المشابهة بين قاتل القتيل وناحر الناقة، وان القاتل يسلب القتيل عدة حربه كما أن الجازر يسلب الناقة لحمها أما أبو هلال فقد وقف عند معني لفظ النشنشة وفسرها بمعني القطع أو الأخذ بمعاسرة، ثم نظر إلي نظر أن القاتل لا يقطع سلب قتيله ولا يأخذه في معسرة ولذلك حكم بأن رواية "كفا قاتل" بالقاف تصحيف. والحق أن اختلاف وجهات النظر في تفضيل رواية علي أخري عند شراح الحماسة يعد عمًلا قائمًا بذاته ويحتاج إلي استقصاء دقيق، وحسبنا أن نضير إليه فقط

لكي ندلل على أن المفاضلة بين رواية وأخرى إذا قامت على الرؤية الذاتية من الشارح أو ذوقه الخاص فإن الاختلاف بينه وبين غيره من الشراح لابد أن يقع لأن الرؤى مختلفة والأذواق متفاوتة. ب/ أبو محمد الأعرابي وكتابع: إصلاح ما غلط فيه أبو عبد الله النمري: وأما أبو محمد الأعرابي فلم يعرف له عمل في الحماسة سوى هذا الكتاب الذي ألفه في الرد على أبو عبد الله النمري، وقد أوضح سبب تأليفه في أول الكتاب قال)) حضرت المجلس العادلي العالي -نوره الله - ذات ليلة، فجرى ذكر أبي عبد الله النمري-رحمة الله- فأثني عليه بعض الحاضرين، وذكر أنه كان شيخ البصرة في زمانه فضلاً، ونبلاً، ودرايًة، ورواية، قد استخرج معاني الأبيات من أبيات الحماسة هو فيها السابق المبرز والجواد المبر، فقلت: شاكه أبا يسار، تأملت ما فسره الشيخ من تلك الأبيات أولاً وثانيًا فوجدت في خلال ذلك خللاً كثيرًا، أما قصورًا أو تقصيراً، فقال لي: عنتًا باطلاً وظلمًا، إن كنت صادقًا فيما تدعيه فجرد لنقيضها كتابًا يدل علي صحة دعواك وقد أمهلتك سنة، فأمليت كتابي هذا بعون الله في مدة

أسبوع وبينت مواضع الزلل فيما فسر أبو عبد الله، وأثبت الصواب تحت كل بيت، وجعلت ذلك خدمة للمجلس العادلي، وبالله التوفيق". ونفهم من هذه المقدمة أمرين أحدهما أنه ألف هذا الكتاب بدافع من التحدي وإظهار المقدرة علي التصدي بالنقد والتقويم لأعمال من سبقه، والآخر أن العجلة كانت صفة من صفات هذا التصنيف، إذ ألفه في مدة لا تتجاوز الأسبوع، وهما أمران قد يديان إلي عدم موضوعية من جهة، وإلي خلل واضطراب في التتبع والتقويم من جهة أخري، وهذا ما سيتضح لنا من خلال دراستنا لهذا التصنيف. وربما كان أهم ما يتوقف عنده الدارس لهذا الكتاب هو مصادره فليس فيه من المصادر سوي شيخه أبي الندي، الذي أشرنا إليه في ثبت الشروح شارحًا من شراح الحماسة، وأبو الندي وان كان رجًلا واسع العلم راجع المعرفة باللغة وأخبار العرب وأشعارها كما قال ياقوت، فإنه لم يأخذ علمه من شيوخ معروفين، وإنما أخذ ذلك من خروجه إلي البادية والتقائه بالأعراف الذين يسكنون الخيام، كما أنه كان مجهوًلا لا معرفة للعلماء به، ولهذا رأينا أبا يعلي الشريف نظام الدين المعروف بابا الهبارية يعيب علي أبي محمد الأعرابي استناده فيما يرويه عن أبي الندي وقال عنه: "من هذا الأسود الذي نصب نفسه للرد علي العلماء، وتصدي للأخذ علي الأئمة القدماء، بماذا نصحح قوله ونبطل قول الأوائل ولا تعويل له فيما يرويه إلا علي أبي الندي، ومن أبو الندي في العالم، لا شيخ مشهور ولا ذو علم مذكور" ولكن هذا القول وان كان صحيحًا فإن هذا لا يمنع من أن يكون عمل أبي محمد رده علي النمري ذا فوائد، مع ما ذكرناه من اضطراب وخلل، ولعل هذه الفوائد هي ما عناه القفطي حين أشار إلي أن كتب أبي محمد الأعرابي من فواكه الكتب وإنها لنعم الممتع لأهل الرغبة والطلب، وان الذي قصده منها لم يقصده

سواه، ولا يسوغ لأحد من العلماء أن يأتي بمثل ما أتاه)). ونحن إذا نظرنا في كتابه وجدناه يناقش النمري ويرد عليه في جوانب أربعة: أولها: جانب الرواية وتصحيح ما اعتمده النمري في متنه من رواية للحماسة، وثانيها: تصحيح نسبة الشعر إلى قائليه، وثالثها: التنبه على أمور أغلفها النمري في شرحه، ورابعها: التصدي بالمناقشة لما قرره النمري من معاني أبيات الحماسة. ففي الجانب الأول الخاص بتصحيح متن النمري نراه ينظر إلى صحة الرواية؛ من جهة، وصحة المعني من جهة أخرى، ومن ذلك ما ورد عنه في رواية بيت أرطاة ابن سهية، وقد رواه النمري هكذا: ونحن بنوعم على الذات بيننا زرابي فيها بغضة وتنافس وقال فيه: أكثر أهل العلم لا يدري ما الزرابي ها هنا. والزرابي: البسط ذات الألوان، فرد عليه أبو محمد الأعرابي قائًلا إنه)) تاه في تفسيره لما لم يعرف صحة متنه، وأظنه كان معولًا على الصحف، والصواب ما أنشدناه أبو الندي -رحمه الله- ثم وجدت بعده بخط إسحق الأعرابي أخي أبي عبد الله: ونحن نبو عم على ذاك بيننا ... زانب فيها بغضة وتنافس قال: والذانب القوارض ولا أعرف لها واحدًا)). ولقد انفرد أبو محمد برواية ((زانب)) غير أنني رأيت أبا هلال ينتقدها ويقول: ((الزرابي الطنافس، واحدها زريبة وليس له هنا معني البتة، ولا شك في أنه تحريف أو تصحيف))، وهذا يؤكد أن للبيت رواية غير هذه التي أجمع الشراح، وربما كان ما ذهب إليه أبو محمد الأعرابي صحيحًا لأن أبا هلال لم يعرف للبيت رواية غير هذه التي انتقدها ووصفها بالتصحيف أو التحريف. ومما نظر فيه أبو محمد إلى الرواية والمعنى معاً ما جاء عنه في قول ابن زيابة:

إنك يا عمرو وترك الندى ... كالعباد إذ قيد أجماله فقد جاء تفسير أبي عبد الله النمري له أنه نقل قولًا عن ابن السكيت مفاده أن الشاعر يقول: أنت كالعبد اقتصر على موضع يرعي فيه ولا يتغرب بإبله، وعلق عليه بقوله: وعندي أنه غير مقنع أن يكون قوله وترك الندى معناه أنك وبخلك فإن من ترك الندى فقد أخذ البخل. ثم أتي بالمعنى الذي رآه، قال: يقول إنك وبخلك وحبسك مالك كالعبد قيد أجماله فلا يبرحه منها بعير، وكذلك أنت قيدت مالك فلا يبرحك، فرد عليه أبو محمد الأعرابي مصححًا رواية البيت والمعنى معًا قال)) أخبرنا أبو الندي قال: هذا البيت من المختل القديم والصواب: إني وحواء وترك الندي ... كالعبد إذ قيد أجماله قال: حواء فرسه، ومعناه: إنني متى تركت الغزو على ظهر حواء واغتنام الأموال وتفريقها على الزائرين والسائلين لم يبق لي هم لأن أكثر همي في ذلك وكنت مثل العبد، إذا شبعت إبله فأراحها وقيدها في مراحها ولم يبق له هم حينئذ، يقول: همي في الغزو واغتنام الأموال وبذلها"". وفي هذا الجانب نري أبا محمد الأعرابي يعيب علي أبي عبد الله النمري أخذه الرواية من الصحف، ولعلك لحظت ذلك في مناقشة لبيت أرطاة بن سهية، ولقد رأينا ذلك منه في مناقشته للبيت الذي ورد في الحماسة منسوبًا لعامر بن الطفيل وهو: أكر عليهم دعلجا ولبانه إذا ما اشتكي وقع الرماح تحمحما فقد شرحه النمري وفق هذه الرواية فاعترض عليه أبو محمد الأعرابي بقوله: "هذا موضع المثل: إذا أفسدت أول كل أمر أبت أعجازه إلا التواء لو عرف أبو عبد الله صحة متن هذا البيت لما استهدف في تفسيره بلسان الطاعن، وأظنه أخذ هذا الشعر من الصحف فلهذا وقعت فيه هذه التخالط، والصواب:

أقدم فيهم دعلجًا وأكره إذا أكرهوا فيه الرماح تحمحما" وهذا يدفعنا إلي إيراد ما أشرنا إليه في فصل سابق أن أبا عبد الله النمري أخذ ديوان الحماسة عن أبي رياش، وأخذه أبو رياش عن أبي المطرف الأنطاكي الذي أخذه بدوره عن أبي تمام، وجل الذين شرحوا الحماسة أفادوا بأن الحماسة إما وقعت لهم عن طريق أبي رياش أو الحسن بن بشر الآمدي، فهما اللذان أخذا الحماسة عن أبي المطرف، وسند أبي رياش أساسه النمري، وسند الآمدي أساسه أبو الحسين بن دينار، هذا فضلًلا عن أن الحماسة قد أخذت مما خطه أبو تمام بقلمه وتركه في بيتت آل بهمذان، ولهذا تعددت نسخ الحماسة بناء علي اختلاف هذه المصادر، ومن الطبيعي أن يرجع الشراح وهم يشرحون ما فيها من شعر إلى هذه النسخ، ويقارنوا بينها وبين ما أخذوه من شيوخهم، ومن ثم فلا مجال لاعتراض أبي محمد الأعرابي علي النمري واهتمامه بأنه يأخذ روايته من الصحف، لأنه ان كان ثمة خلل في رواية النمري فمرده إلي أمرين: أحدهما أبو تمام الذي كان في اختياره يفاضل بين روايات الشعر فيأخذ منها ما يوافق ذوقه ورؤيته السليمة للشعر، والآخر اختلاف نسخ الحماسة التي كان يرجع إليها الشراح. وصحيح أن العلماء الأوائل كانوا يعترضون علي الأخذ من الصحف، ويعولون كثيراً علي الأخذ شفاهه عن الشيوخ، وهذا واضح مما جاء عن ابن سلام فقد قال" إذا اختلفت الرواة وقالوا بآرائهم وقالت العشائر بأهوائهم فلا ينفع الناس في ذلك إلا الرواية عن من تقدم"، غير أنه في زمن النمري كان عهد الرواية الشفهية قد بدأ يتلاشى ليحل محله عهد جديد قوامه الكتب، وسجلوا أعمالهم في كتب أخذها عنهم تلاميذهم قراءة عليهم أو سماعاً منهم أو إجازة بقراءتها وشرحها للناس، ومن ثم فإن من الغبن والتعسف أن يأتي أبو محمد الأعرابي ليأخذ علي النمري شيئًا هو نفسه لم يسلم منه، لأنه وإن كان يعول كثيراً علي أخذه مشافهة عن شيخه أبي الندي فإنه كان يرجع إلي ما أسماه بالصحف، ولقد مر بنا فيما سبق قوله في

بيت أرطاة بن سهية "والصواب ما أنشدناه أبو الندي -رحمه الله- ثم وجدته بعده بخط إسحق الأعرابي أخي أبي عبد الله". ومع ما ذكرناه فأن تتبع أبي محمد الأعرابي للرواية في شرح النمري قد دل علي نواح فيها وجه من القبول والاستحسان، ومن ذلك ما باء عنه في بيت الحماسة القائل: بيض مفارقنا تغلي مراجلنا نأسو بأموالنا أثار أيدينا فقد فسر أبو عبدالله معني قوله "بيض مفارقنا" بأن المراد لا دنس فسنا، والعرب كلها سمر فإذا وصفوا بالبياض فإنما يراد به النقاء والطهارة، فقال أبو محمد الأعرابي أنه سأل شيخه أبا الندي عن معني "بيض مفارقنا تغلي مراجلنا" قال: "هذه رواية ضعيفة فإن بيض المفارق قرع، ومرجل الحائك يغلي كما يغلي مرجل الملك. قال: والرواية الصحيحة شعث مقاذفنا نهب مراجلنا" ومعناه أننا أصحاب حروب وقري" وهي رواية تتفق مع ما جاء في الشطرة الثانية، وفي رأينا أنها أدل وأقوي في المعني من رواية بيض مفارقنا التي ذهب بعض الشراح في تفسيرها مذهباً فجاً حيث فسرها بأنهم يستعملون الطيب ولذا ابيضت مفارقهم، وهو معني بعيد عن الجو العام للقصيدة التي بنيت علي الفخر بالشجاعة والكرم. وفي تصورنا أن أبا محمد العرابي قد أفاد من شيخه أبي الندي في عمله التبعي لرواية أبي عبد الله النمري، ولكن الأمر لا يعدون أن يكون مجرد اختلاف في الرواية يقع عادة بسبب اختلاف المصادر التي أخذ العلماء منها الشعر، وبخاصة بالنسبة لأبي الندي الذي ذكرت المصادر أنه كان يخرج إلي البادية ويأخذ علمه وروايته منها، وهي روايات لا تقاس بما محصه العلماء الأوائل الذين خلفوا ما محصوه في كتب ودواوين اختار منها أبو تمام حماسته.

أما الجانب الثاني الخاص بتصحيح نسبة الشعر إلي قائله فهو أيضاً جانب لا دخل لأبي عبد الله النمري فيه، وإنما أبو تمام هو المسؤول الأول عنه، ثم الذين نسخوا اختيار في الحماسة من بعده، ومع ذلك فأن أبا محمد الأعرابي يحمل النمري خطأ نسبة الشعر إلي قائليه. ولقد تتبعنا عمله في هذا الجانب فوجدناه يصحح نسبة خمس عشرة قطعة إلى قائليها، وكان يأتي في بعضها بالحجة التي تدعم قوله ويترك بعضها الأخر بغير حجة، فمن القطع التي صحح نسبتها بحجة قوله في البيت الذي نسب للسموءل بن عادياء في رواية النمري وهو: وأسيافنا في كل غرب ومشرق بها من قراع الدارعين فلول قال أبو محمد الأعرابي: هذا البيت لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي لا للسموءل بن هادياء الغساني، ويدل ذلك قوله في القصيدة: فأن بني الديان قطب لقومهم تدور رحاهم حوله وتجول والديان هو يزيد بن قطب بن زياد بن الحارث الأصغر بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث الأكبر القبيل" وفي البيت الذي نسب في شرح النمري لمعدان بن جواس وهو: وكفنت وحدي منذرًا في ثيابه وصادف حوطًا من أعادي قاتل قال النمري: قيل/ منذر ابنه وحوط أخوه، فرد أبو محمد الأعرابي بأن البيت ينسب إلى حجييه بن المضرب، ومنذر أخوه وهو المنذر بن المضرب وحوط ابنه، به كان يكتني حجية، وفيه يقول معدان بن جواس: ورثت أبا حوط حجية شعره وأورثني شعر السكون المضرب وممن القطع التي صحح نسبتها دون أن يورد لذلك حجة ما جاء عنه في

القطعة التي نسبت في شرح النمري ليزيد بن الحكم الكلابي والتي منها قوله: فلما بلغنا الأمهات وجدتم بني عمكم كانوا كرام المضاجع فقال أبو محمد الأعرابي: هذا البيت لعبد الرحمن بن زيد العذري أخي زيادة بن زيد قتيل هدبة بن الخشرم، ولم يأت بحجة تدعم قوله هذا ولا ذكره مصدره فيه"، ومثله ما جاء في باب الهجاء في البيت الذي رواه النمري لزميل بن أبير وهو: ولست بربل مثلك احتملت به حصان نأت عن فحلها وهي حائل قال أبو محمد الأعرابي: ليس هذا البيت لزميل بل هو لأرطاة بن سهية يهجو زميلاً، ولم يأت بشيء يكد هذا القول سوي أنه أورد الأبيات التي وردت في الحماسة بتغيير طفيف في الألفاظ. علي أن أبا محمد الأعرابي في هذا الجانب قد قام بتصحيح اسمين من شعراء الحماسة وردا في شرح النمري وغيره محرفين، فقام بتصحيح التحريف فيهما، أحدهما حسان بن نشبة فقد نقل أبو محمد الأعرابي عن شيخه أبي الندي أن هذا الاسم محرف، والصواب جساس بن نشبة، مثل عساس، وأتي بدليا علي ذلك، وهو قول جرير يهجو جحدف بن خرعب التيمي: أجخدب أشبهت التي كان بظرها كطرثوثو أرض غير ذات أناس لقد شهدت تيم علي أم جخدب وكان سراة التيم رهط جساس يعني جساس بن نشبة التيمي. والاسم الثاني هو أبو الطمحان الأسدي، وقد ورد هكذا في شرح النمري، فقال أبو محمد الأعرابي: ليس كل اسم فيه طاء وميم فهو الطمحان علي قياس أبي

الطمحان القيني، وإنما هو طخيم أبو الطخماء الأسدي، وهذا يجعانا نرجع إلى ما أوردناه سابقًا في عمل أبي هلال حين ذكر أن الآمدي قد أفاد بأن اسم هذا الشاعر قد التبس علي الرواة وهو طخيم أبو الطخماء وكذلك ما أشرنا إليه من أن المبرد قد أورد في الكامل صخيم بن أبي الطخماء"، وكل هذا إنما يدعم ما ذهب إليه أبو محمد الأعرابي، ولكن علينا أن نتبه غلي عبارة الآمدي " إن هذا الاسم قد التبس علي الرواة" فالرواة هم سبب التحريف وليس النمري حتى يأخذ عليه من قبل أبي محمد الأعرابي. أما الجانب الثالث المتمثل في التنبيه علي أمور أغفلها النمري في شرحه فقد كانت مآخذ فيه تنحصر في ثلاثة أمور: أحدها - وهو الأكثر - أن النمري يغفل ذكر القصة أو المناسبة التي تتصل بالنص ولا يتضح المعني إلا بإيرادها، وثانيها أنه يترك أجزاء من النص دون تفسير، وثالثها: أنه يهمل توضيح الأعلام التي ترد في النصوص أو التي تشير إليها أبيات النصوص. (1) ولقد رأيناه في الأمر الأول وفي مواضع مختلفة من كتابه ينوه إلي أن هذا البيت لا يفهم معناه إلا بذكر قصته، ثم يورد القصة الخاصة به، غير أنه كان إذا رأي هذا في بيت من أبيات الحماسة لا يورد كل ما قاله النمري حول البيت، وإنا يشير إليه إشارة فقط، وقع ذلك منه في أكثر من موضع، ومن أمثلة ما جاء عنه في بيت قيس ابن الخطيم القائل: طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر لها نقذ لولا الشعاع أضاءها فقد قال فيه: "ذكر أبو عبد الله حروف هذا البيت ولم يذكر السبب الذي دعا قيسًا إلي طعن ابن عبد القيس، وكان سبب ذلك أن هذا القيسي قتل عديا جد قيس ابن الخطيم، فقتله قيس بجده وأعانه علي ذلك خداش بن زهير العامري".

وفي بيت معن بن أوس الذي يقول فيه: لعمرك ما أدري وإن لأجل ... علي أينا تعدو المنية أول أشار أبو محمد إلي ما ذكره النمري أن البيت يروي تغدو بالغين معجمة من الغدو ثم قال: "كنت قد ذكرت أن مثل هذا من الشعر لا يكاد يعرف معناه محققًا إلا بالقصة المتعلقة به، فاشتغل أبو عبد الله عن الأهم وذكر يغدو ويعدو بالغين والعين، وكان من قصة هذا الشعر أنه كان لمعن بن أوس صديق، وكان معن متزوجًا بأخته، فاتفق أنه طلقها وتزوج بأخرى، فآلي صديقه أن لا يكلمه أبدًا، فأنشأ معن يقول يستعطف عليه ويسترقه له" ثم أورد البيت كما رواه النمري وقال: وهذا كما قال الأخر: فأكرم أخاك الدهر ما دمتما معًا كفي بالممات فرقًة وتناءيا والحق أن ذكر المناسبة في شرح الشعر يصور الجو النفسي الذي قال فيه الشاعر شعره، ويبين الدوافع التي حركت وجدانه إلي قوله. ولكن ليس بالضرورة دائمًا أن يكون فهم المعني مقصورًا علي ذلك، ففي هذا المثال وسابقه يمكن للشارح أ، يشرح البيت دون ذكر القصة، ولا يخل ذلك بإيراد المعني، بدلالة أننا يمكن أن نشرح هذا البيت الذي أورده أبو محمد الأعرابي "فأكرم أخاك الدهر" وتبين ما فيه من معني دون أن نعرف الدوافع النفسي الذي دفع قائله أو القصة التي كانت وراءه، ومع هذا فأن هذا الأمر من عمل أبي محمد الأعرابي قد حفل بالكثير المتنوع الذي أضاف إلي أعمال الشراح الشيء الوفير من أخبار الشعراء وقصصهم وأشعارهم غير المختارة في الحماسة، ويكفي المتصفح لكتابه أن ينظر فيه ليدرك مدي غزارة علم الرجل في هذه الناحية، ولعلك حين تقف معنا علي نموذج من عمله في هذا الخصوص تدرك قيمة هذا الكلام الذي قللناه، ففي بيت النسيب الذي نسب إلي آخر والذي جاء فيه: ونبئت سوداء القلوب مريضةً فأقبلت من مصر إليها أعودها

نجد أبا محمد الأعرابي يقف علي عمل النمري فيه فيذكر لنا تقصيه للديمرتي في شرح معني سوداء القلوب، فقد كان الديمرتي قد قال: جعلها سوداء القلوب لقساوة قلبها، وجمع كما تقول: فلان عظيم المناكب وغليظ الحواجب، فاعترض عليه النمري بقوله، إن هذا يدي إلي خطأ كبير لأن الشاعر إنما وصف امرأة معرفة وهي ها هنا علي تفسيره نكرة، فلو قلنا رأيت حسن الوجه لكان نكرة، فإذا أردنا التعريف قلنا: رأيت الحسن الوجه، وكذلك سوداء القلوب، ثم أتي بتفسيره فقال: قوله سوداء القلوب يشتمل علي معنين أحدهما: أن يكون اسمها سوداء فأضافها إلي القلوب لتعلقها بها وحبها لها كقول ابن الدمينة: قفي يا أميم القلب نقض تحيًة ونشك الهوي ثم افعلي ما بدا لك والمعني الآخر أن يكون جعلها كسويداء القلوب، وزعموا أنها هنة سوداء تحل القلوب، ويسمي حبة القلب، ويقال إنها موضع الحب والله أعلم. هذا عمل النمري في تفسير معني "سوداء القلوب" وقف عنده أبو محمد الأعرابي فأتي بمثل كعادته في تتبع عمل النمري وتقويمه فقال: هذا موضع المثل: تعبين أمرًا ثم تأتين مثله لقد حاس هذا الأمر عندك حائس ثم قال: الشيخان كلاهما علي خطأ فاحش، وذلك لأنهما لم يعرفا قائل هذا البيت ولا من قيل فيه، ولا القصة التي لا يعرف معناه إلا بها، والصواب: ونبئت سوداء الغميم مريضةً فأقبلت من مصر إليها أعودها سوداء الغميم امرأة من بني عبد الله بن غطفان اسمها ليلي ولقبها سوداء وكانت تنزل الغميم من بلاد غطفان، وكان عقبة بن كعب بن زهير ينسب بها، ثم علقها بعده ابنة العوام بن عقبة فكلف بها فهتف بها وكانت تجد به كذلك، فخرج إلي مصر في ميرة فبلغه أنها مريضة فترك وكر نحوها وأنشأ يقول: ونبئت سوداء

القلوب مريضة ... البيت. وروي أبو محمد بعده خمسة أبيات لم ترد في رواية أبي تمام ثم مضي فأخبر بأن العوام ظل يلطف بها حتى رأته ورآها، فأومأت إليه أن ما جاء بك؟ فقال: جئتك عائدًا حين علمت علتك، فأشارت إليه أن ارجع فإنني في عافية، فرجع لميرته، واستعر بها المرض فجلعت تتوله إليه حتى ماتت فبلغه الخبر فقال: سقي جدثًا بين الغميم وزلفة ... أجم الندى واهي العزالي مطيرها وفيها يقول: فان تك سوداء العشية فارقت ... فقد مات ملح الغانيات ونورها فأنت ترى في هذا العمل إفادات مختلفة، منها تصحيح رواية البيت، ومنها وصف الجو الذي قيل فيه الشعر، ومنها الإشارة المكانية، ثم إثراء القطعة بما لم يختره أبو تمام وإثراء الشرح بغير الشعر المختار في الحماسة مما له صلة بالقصة التي أوردها، وكل هذا يؤكد ما قلناه إن هذا الجانب أبين عمل أداه أبو محمد الأعرابي في خدمة اختيار الحماسة وأثري إضافة قدمها في عمل الشراح. (2) أما في الأمر الثاني فقد رأيناه ينبه إلى أن النمري يترك أجزاء من النص ويشغل نفسه تفسير أجزاء، ومن ذلك ما جاء في بيت عبده بن الطيب: تحية من غادرته غرض الردي ... إذا زار عن شحط بلادك سلما فقد أخذ أبو محمد على النمري تركه شرح قوله: ((إذا زار عن شحط بلادك سلما)) وقال: ((أن معناه ان قيس بن عاصم كان كثير الأفضال على عبدة بن الطيب، فإلى عبده ألا يخرج قي سفره إلا بدأ بتوديعه، وإذا قدم منه بدأ بزيارته والتسليم عليه، وكان ذلك دأبه في حياته وفي زيارة قبره بعد وفاته)).

ومثله بيت ابن الدمينة القائل: ولما لحقنا بالحمول ودونها ... خميص الحشا توهي القميص كواهله فقد قال النمري فيه انه ظاهر اللفظ والمعنى، فأخذ عليه أبو محمد هذا القول، وأشار إي أن معناه أدق من طرف الإبرة، وذلك لأن معترضًا قد يعترض بقوله: لم خص العواتق وإنها توهي القميص من بين أعضائه فيكون الجواب إن هذا الشاعر جعل هذا الموصوف بهذه الصفة أحقب مصدرًا كما يوصف الأسد، يعنى أنه دقيق الخصر مهفهف الكشح، غليظ الكاهل فينخرق القميص لأجل ذلك، ولا يبخرق من قبل الكشح إذ ليس بمنتفخ الجنبين، وقد أخذ ابن الدمينة هذا المعنى من أم يزيد بن الطثرية حيث تقول: فتي لا يرى قد القميص بخصره ... ولكنما توهي القميص كواهله (3) فإذا نظرنا إلى الأمر الثالث والأخير وجدنا له قيمة لا تقل عن قيمة عمله في الأمر الأول، فقد بين فيه الكثير من أسماء الأعلام التي وردت في أبيات الحماسة أو ألمحت إليها، مما لم يتناوله النمري بالشرح والتوضيح، والأمثلة على ذلك متعددة ومختلفة، منه ما جاء في بيت موسي بن جابر الحنفي: هلالان حمالان في كل شتوة من الثقل مالا تستطيع الأباعر فقد شرح النمري البيت دون أن يوضح من هما المعنيان بقوله: ((هلالان)) فقال أبو محمد: ((كان يجب أن يذكر أبو عبد الله قبلًا من هذان الهلالان، ومن أي قبيلة هما؟ وما تعلقهما بقائل هذا الشعر؟ ثم وضح فقال: "سألت أبا الندي- رحمه الله- عن قوله "هلالان" من هما؟ قال: هما مرداس وعامر ابنا شماس بن لأي من بني أنف الناقة أمهما من بني العنبر، وهما خالا موسي بن جابر الحنفي". وفي بيت شقيق بن سليك الأسدي الذي يقول فيه:

وأعطيت الجعالة مستميتًا خفيف الحاذ من فتيان جرم قال أبو محمد: فسر أبو عبد الله هذا البيت بنبذ من الحروف ولم يذكر من المعني بهذه الصفة، ثم وضحه فقال: " هو حطان بن خفاف بم زهير بن عبد الله ابن رمح بن عرعرة بن نهار". وفي بيت نهشل بن حري الوارد في باب الرثاء وهو: أغر كمصباح الدجنة يتقي قدي الزاد حتى ستفاد أطايبه أشار إلي قول النمري إن البيت يروي "قدي" و "قذي" ثم قال: "ذكر المرثي بهذا البيت أهم من ذكر رواية قدي وقذي، وهو مالك بن حري أخو نهشل، ويكني أبا ماجد، رحمه الله- وقتل بصفين مع علي - عليه السلام". وفي بيت برج بن مسهر الذي يقول فيه: وندمان يزيد الكأس طيبًا سقيت إذا تغورت النجوم ذكر النمري في معني الندمان أنه واحد الندامى، فقال أبو محمد الإعرابي قد أثري عمل الشراح بإضافات في توضيح أسماء الإعلان الواردة في الاختيار أو الأعلام التي تشير إليها أبيات الاختيار وربما لاحظنا بعض الشطط في تحميل النمري عبء هذا العمل والاستعانة بما قام به في الشرح ولكننا بالمقابل ندرك مدي قيمة الإثراء الذي قام به في شرح الأعلام من خلال هذه السبيل التي ركبها في تتبعه وتقويمه لعمل النمري. وأما الجانب الرابع من جوانب عمل أبي محمد في منهجه الذي سلكه فقد كان

منصبًا على المعاني التي أوردها النمري لأبيات الحماسة، وكن في تتبعه لعمل النمري في هذا العنصر المهم من عناصر الشرح يعتمد علي فهمه الخاص للنص تارة ويتكئ علي ما أخذه من شيخه أبي الندي تارة أخري، فمما اعتمد فيه علي فهمه ما جاء عنه في بيت سلمة بن ذهل المعروف بابن زيابة والذي قاله يرد فيه علي الحرث بن همام الشيباني وهو: يا لهف زيابة للحارث الصابح فالغانم فالآيب فقد فسره النمري بأنه أراد أن الحرث يصبح أعداءه بالغارة فيغنم ويؤوب سالمًا، قد وصفه بالفتك والظفر وحسن العاقبة، فاعترض أبو محمد علي هذا المعني وقال: "كيف يذكره بالفتك والظفر وهو أعدي عدو له، وإنما المعني انه لهف أمه وهي زيابة أن لا يلحقه في بعض غاراته فيقتله أو يأسره". ومثل ذلك ما جاء عنه في بيت كبشة أخت عمرو بن معدي كرب وهو: ولا تردوا الا فضول نسائكم إذا ارتملت أعقابهن من الدم فقد نقل أبو عبد الله النمري رأي شيخه أبي رياش في معناه وهو: أنها أرادت أن تقول إذا قبلتم الدية فلا تأنفوا بعدها عن شيء واغشوا نساءكم وهن حيض، والفضول هاهنا يقال الحيض، وسمي الغشيان ورداً مجازًا. ثم أشار النمري إلي أن في البيت أٌولاً ليست بشيء وأن تفسير أبي رياش هو أصحها، فاعترض أبو محمد علي ذلك وقال "أن معني قولها: ولا تردوا إلا فضول نسائكم أي تردوا المواسم بعد أخذ الدية إلا وأعراضكم دنسة من العار كأنكم نساء حيض، ثم أضاف والبيت كما قال جرير: لا تذكروا حلل الملوك فإنكم بعد الزبير كحائض لم تغسل"

ومن أمثلة ما اعتمد فيه علي شيخه أبي الندي ما أورده في بيت عبد الله بن عنمة القائل: لا تجعلونا إلي مولي يحل بنا عقد الحزام إذا ما لبده مالا فقد فسره أبو عبد الله النمري بقوله: "قوله يحل بنا عقد الحزام أي أذا أراد حل عقد حزامه حله بإنشاء هجائنا مستريحًا إليه متعللا به" فقال أبو محمد معترضًا عليه: "ليس هذا التفسير بشيء، سألت أبا الندي-رحمه الله- عن هذا البيت فقال: معناه لا تجعلونا إلي مولي يحلنا محل الهلاك، وذاك أن من استرخي حزامه صار إلي السقوط من فرسه، وبعده بيت يدل علي هذا وهو: مولي من القوم يدعي وهو مشتمل تري به عن قتال القوم عقالا ويمكن أن نلاحظ أن مآخذ أبي محمد الأعرابي في هذا الجانب جاءت -غالبًا- في الأبيات التي تحتمل أكثر من معني، ول تأملت ما قاله النمري في بيت كبشه بنت معدي كرب، وما قاله أبو محمد الأعرابي فيه لأدركت صدق هذا القول، والشاعر بطبيعة الحال لا يعني من كلامه إلا معني واحدًا فقط، غير أن الشراح يفسرون النص حسب رؤيتهم وفهمهم، ومن هنا اختلفت تفاسير المعاني لديهم في نصوص الحماسة، فالنمري قد يري معني لأحد الأبيات ويري أبو محمد غيره، وربما يكون ثالث فيأتي بمعني مغاير لها، غير أن الرؤية قد تقصر بالشارح أحيانًا فيأتي إليه الخطأ في التفسير وهذا ما لاحظناه في مواضع أخطأ النمري الرؤية فيها، فجاء التفسير لديه فجًا متهافتًا فكشف ذلك أبو محمد الأعرابي في تتبعه له. ومن أمثلته رؤية النمري في تفسيره بيت جواس الضبي الذي يقول فيه: كأن خرو الطير فوق رؤوسهم إذا اجتمعت قيس معًا وتميم فقد قال النمري فيه إن الشاعر يصف قومًا فشبه بياض قرعهم بخرو الطير وهو أبيض، وهو تفسير لا محالة، ولذا. رأيناه أبا محمد يعترض عليه

بقوله: "ذكر أبو عبد الله أن هؤلاء قرع الرس أذا اجتمعت هاتان القبيلتان فيجب ألا يكونوا كذلك إذا لم يجتمعا، والصواب غير ما ذكر، ومعني البيت أنهم لا مآثر لهم يعدونها في المواسم إذا اجتمعت قيس وتميم لذلك فهم خزايا سكوت كأن علي رؤوسهم الطير، وإنما أراد الشاعر الخرو استخفافًا وهزءاً بهم واستحقارًا لأمرهم، والبيت الذي بعده يدلك علي صحة ذلك وهو: متى تسأل الضبي عن شر قومه يقل لك إن العائذي لئيم ومثل البيت الأول قول الآخر: إذا حلت بنو أٍد عكاظًا رأيت علي رؤوسهم الغرابا" ولعمري إن هذا التفسير أوضح وأبين مما ذهب إليه النمري، لأن القبائل في مجال الفخر لا تعبير بصلع الرؤوس وإنما بالأحساب والأنساب، ولا ندري كيف فات علي النمري هذا، وربما كان ما أورده أبو محمد في هذا الخصوص وجهًا من وجوه المعني التي كان النمري ينقلها لبعض من سبقوه فاقتطعه أبو محمد ليبين منه قصور أبي عبد الله في فهم الشعر، وذلك علي نحو ما سنورده في مآخذنا عليه، ولكن بالرغم من هذا التبرير الذي عرض لنا في هذا الموضوع فأن النمري كان يفسر الأبيات أحيانًا علي ظاهر القول، ومن ثم يفوت علي نفسه فرصة التأمل التي تتيح له معرفة ما في النص من خبايا في المعاني، ومن هذا ما جاء عنه في تفسير بيت راعي الإبل النميري. فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها فقد قال: يعني امرأة أضافها، وأراد بالنجم النجوم وهذا كما يقال: قل الدرهم والدينار يراد به الجنس، ويقال: بل أراد بالنجم الثريا نفسها والأول أصح، فقوله والأول أصح جاء جريًا وراء الطاهر من اللفظ، ولذا اهتبلها أبو محمد الأعرابي في أن يشنع عليه ويطعن في معرفته بمعاني الشعر قال: "كثيرا ما يرجح أبو عبد الله الرديء

على الجيد والغث علي السمين، وهذا يدل علي قلة معرفة منه بمذاهب العرب في معاني أشعارها، ولا يجوز أن يكون النجم ها هنا إلا الثريا، وذلك أن في البيت خبية لم يخرجها أبو عبد الله، وذلك أن الثريا لا تكاد تري في قعر الجفنة وغيرها إلا أن تكون قم ارأس، ولا تكون قم الرأس إلا في صميم الشتاء ويقال حينئذ أقعر النجم، وقوله تعد النجم أي لصفاء الودك في الجفنة تعرف عدد الثريا فيها، وهذا معني مليح، وذلك أن نجوم الثريا لا يكاد يعدها إلا ذو بصر حديد ولذلك يقول القائل: إذا ما الثريا في السماء تعرضت يراها حديد العين سبعة أنجم هذا هو عمل أبي محمد الأعرابي في كتابة الذي بناه علي المنهج التتبعي التقويمي، رأيناه فيه يكشف عن الكثير من جوانب الخلل التي وقع فيها أبو عبد الله النمري، غير أننا ونحن نقرأ عمله وندرسه بدت لنا بعض المآخذ نود أن نوردها في الآتي: أولاً: أنه كان يحرص في غلبة المواضع التي تتبع فيها النمري أن يورد مثلاً من لأمثال شعرًا كان أو نثرًا، ولكن حرصه هذا دفعه إلي أن يورد أمثاًلا كان ينبغي أن ينزه كتابه منها، لأنها منن مرتذل القول وسفسافه وذلك مثل قوله: "أخطأت استك الحفرة" و "أودي البعير إلا ضرطه القبيح" و "سلي هذا من استك" و " صه صاقع أير أبيكم فاقع" وغير ذلك مما يضيق المقام لذكره، وهو يعد من كلام السوقة لا من كلام العلماء. ثانياً: إننا رأيناه يعتمد في بعض الأحيان ألا يورد كل ما قاله النمري في معاني الأبيات، وانما يكتفي بذكر جزء ينطلق منه لينال من الرجل، وهذا ما جعل البغدادي يتهمه بالتزييف، وذلك في البيت الذي أورده أبو تمام في باب الملح وهو: كأن خصييه من التدلدل ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل فقد قال النمري في تفسيره: يحتمل أن يكون هذا في وصف شجاع لا يجبن في

الحرب فتتقلص خصيتاه، ويحتمل أن يكون هجوًا، ووجهه أنه يصف شيخًا قد كبر وأسن، ولذلك قال ظرف عجوز، لأن ظرف العجوز خلق منقبض، فيه تشنج لقدمه، فلذلك شبه به جلد الخصية للغصون التي به، والولي به، والأولي أن يكون هجوًا لذكره العجوز مع تصريحه بذكره الخصيتين، ومثل هذا لا يصلح للمدح. وقد نقل البغدادي هذا التفسير في الخزانة، ودل علي أنه من النمري ثم قال: وزيفه أبو محمد لأعرابي الشهير بالأسود الغندجاني فيما كتبه علي شرح النمري قال: "قال أبو عبد الله: هذا يحتمل المدح والذم إلا أن يكون له تمام فيحمل عليه، فأما الذم فهو أن تصف شيخًا قد اضطرب جلده لكبر سنه وهرمه، وأما المدح فهو أن الأبطال يوصفون اذا شهدوا الحرب بطول الخصي وقلة تقلصها". فأنت تري أن هذا ليس كل ما قاله النمري في هذا البيت حرفه أبو محمد لينطلق منه إلي القول بأن "قوله هذا يحتمل المدح والذم، يدل علي أنه لم يمارس الأشعار والأراجيز ولم يستقر الدواوين، ومثل هذا البيت لا يعرف معناه قياسًا إلا بمعرفة ما يتقدمه من الأبيات ... ثم قال: "فقوله: كأن خصييه من التدلدل أذم ذم يكون في الشيخ، وذلك أنهما يتدليان من الكبر". ثالثًا: أنه كثيرًا ما كان يخرج في عمله التتبعي التقويمي عن الموضوعية وذلك باستخدام العبارات الجارحة التي ترد في ثنايا كتابه لقصد النيل من أبي عبد الله النمري والحط من قدرة مثل" هذا يدل علي جهل كثير وغباوة ظاهرة" ومثل "ٌقال كذا وكذا في هذيان يشبه هذا" وغير ذلك مما يعد جنوحًا في القصد إلي الإساءة أكثر منه في إصلاح الخطأ للإفادة، وهو بلا شك أمر كان عليه أن يتجنبه حتى يدي العمل غايته في التصحيح والتقويم. رابعًا: أنه مع هذه العبارات التي تقدح في حق أبي عبد الله النمري كان مضطربًا في الحكم عليه فبيناه نراه يصدر هذه العبارات لينال منه نراه في موضع آخر يعترف

ضمنًا بعلم الرجل في معرفة لغات العرب ونوادر كلامهم، فقد قال مثًلا معلقًا علي عمل أبي عبد الله في بيت من أبيات المدح: "لو أن أبا عبد الله عرف علم النسب وأيام العرب مثل ما عرف من لغاتها ونوادر كلامها لما شق غباره في استخراج هذه المعاني". ومعني هذا أنه يعترف بأن أبا عبد الله النمري كان علي علم بلغات العرب ونوادر كلامها، فكيف يتأتى لنا أن نتصور - بزعم أبي محمد- أن رجلًا هذا هو شأنه يمكن أن يوصف بالغباوة أو يكون عمله في تفسير الشعر ضربًا أشبه بالهذيان. وأما قوله: "لو أن أبا عبد الله عرف علم النسب وأيام العرب" فهذا يدفعنا إلي مناقشة أمر تسلط علي أبي محمد الأعرابي في عمله وهو أنه يوقف دائمًا إدراك معني الشعر علي معرفة قصته أو نسب قائله أو نسب المقول فيه، بل هو يذهب إلي أبعد من ذلك حين يصرح في أحد أبيات الحماسة بأن "مثل هذا لا يعرف معناه البتة إلا بالقصة المتعلقة بها معناه ولو قرن به كتاب العين والجمهرة"، فكأنه بهذا القول يجعل عنصرًا من عناصر الشرح متغلبًا علي سائر العناصر الأخرى وعلي عنصر شرح اللغة بالذات وهو عنصر لا غني في شرح الشعر البتة، ولقد سبق أن وضحنا أننا لا ننكر قيمة ذكر الأخبار التي تتصل بالشعر في فهم بالشعر في فهم الدوافع التي أدت إلي قوله والجو النفسي الذي قيل فيه، ولكن هذا لا يجعلنا نحكمه في كل بيت بحيث تتحول عملية الشرح غلي روايات وقصص مأخوذة من أفواه أعراب متأخرين، عاشوا في البادية، رحل إليهم أبو محمد وشيخه أبو الندي فأخذه هذه الأقاصيص والروايات التي ربما تشتمل علي الكثير مما يدخل فيه التزييف والاختلاق، ويحتاج إلي صنيع أشبه بصنيع الأجيال الأولي من العلماء في تصفية ما كانوا يأخذونه من أفواه أهل البوادي وتنقيته. وإذا كنا قد أخذنا علي أبي محمد هذه المآخذ في عمله، فان هذا لا يمنع من القول بأن كتابه بمنهجه الذي قام به يعد إسهامه طيبه في خدمة اختيار الحماسة، وهذا أمر واضح من خلال الجوانب التي عرضناها فيما سبق.

الفصل الخامس: المنهج التجميعي الانتخابي وشرح التبريزي

الفصل الخامس: المنهج التجميعي الانتخابي وشرح التبريزي هذا منهج سبق أن أوضحنا صفاته ومقوماته من خلال مناقشتنا لأحمد جمال العمري في تحديد صفات هذا المنهج بالنظر لعمل التبريزي في شرح الحماسة، ولقد رأينا من خلال تلك المناقشة أن هذا المنهج يقوم علي تجميع أعمال السابقين وانتخاب شرح منها يحقق استيفاء جميع العناصر التي يقاضيها شرح الشعر، كما كشفت هذه المناقشة عن جملة من الملاحظات حول تطبيق هذا المنهج علي شرح التبريزي كنا قد عدنا بتوضيحها وإبرازها من خلال تطبيق هذا المنهج. ولكن قبل أن نشرع في ذلك رأينا من المفيد أن نشير إلي أن التبريزي ليس وحده الذي سلك هذا المنهج سبيلاً، فقد تبعه فيه عالمان من علماء القرن السادس أحدهما أمين الدين الطبرسي، المتوفى سنة 548 هـ، والآخر أبو الرضا ضياء الدين الرواندي المتوفى سنة 549 هـ.

فأما الطبرسي فقد انتخب شرحه من شروح أبي رياش والنمري والبياري وابن جني وأبي العلاء، فضًلا عن نقولاته المتكررة عن علماء اللغة والنحو من أمثال الخليل وسيبويه والأصمعي وأبي العباس ثعلب، وأبي علي الفارسي وعبد القاهر الجرجاني، وكان مثل التبريزي عالة علي المرزوقي في جمهور شرحه يأخذ منه دون أن يشير إلا في القليل النادر، وليس في شرحه ما يدل علي ذاتية إلا في عنصر البلاغة حيث أكثر من شرح الألوان البلاغية وبيان جمالها في الكلام، وذلك مثل عمله في بيت بشامه بن حزن النهشلي الذي يقول فيه: بيض مفارقنا تغلي مراجلنا نأسو بأموالنا آثار أيدينا فقد وقف عند الكناية في قوله: "بيض مفارقنا" وشرحها ثم أفاض في الحديث عن جمال الكناية في الكلام وأتي بالأمثلة المتعددة من القرآن والشعر وكلام العرب، وكذلك عمله في بيتي الحارث بن وعلة اللذين يقول فيهما: لا تأمنن قومًا ظلمتهم وبدأتهم بالشتم والرغم أن يأبروا نخلًا لغيرهم والقول تحقره وقد ينمي فقد رأيناه يقف عند "التضمين" الذي وقع فيه الشاعر، ويبين أنه من عيوب

الشعر ولكنه أخف العيوب، واستدل بذلك علي قو الأخفش: "التضمين ليس بعيب إلا أن غيره أحسن منه" ثم مضي مفصًلا الحديث في البيت المقلد الذي يتم معناه به والبيت ذي التقليدين الذي يشتمل علي معنيين تامين، مستشهداً في ذلك بالشعر محاوًلا من أوجه عدة أن يوضح ما جاء في بعض التضمين من حسن وجمال. وأما أبو الرضا الرواندي فقد دل في مقدمة شرحه علي منهجه الانتخابي حيث قال-والكلام عن ديوان الحماسة: " وكنت شديد التفات الهمة منذ صباي إلي تتبع شروحه والتقاط غررها ودررها وضم نشرها وإيداعها مجلدة خفيفة المعونة سهلة المرتقي قريبة المغزى، والأيام تماطل إلي أن أرضتني من ذلك بحواش علقتها من نسخة منه بخطي من شرح أبي علي المرزوقي والاستراباذي وأبي الحسن البياري وأبي عبد الله النمري وأبي الفتح ابن جني ونسخة للأمير أبي الفضل الميكالي، ومن مواضع أخر، وان لاح لي لائح كتبته، غير مستبعد أن يكون الأوب قد ترك للآخر شيئًا". وعلي هذا فأن شرحه يمثل تجميعًا لشروح هؤلاء الذين ذكرهم وانتخابًا منها، وان كان اتكاؤه علي شرح المرزوقي قد فاق سائر الشروح الأخرى، كما كان بجانب من ذكرهم مثل الطبرسي ينقل عن علماء اللغة والنحو والأوائل، إذ له نقولات من الخليل وسيبويه، والأصمعي، وابن الأعرابي، وأبي سعيد السيرافي، وأبي حاتم السجستاني، وأبي عثمان المازني، والزجاج. وإذا كان الطبرسي قد تميز في شرحه الانتخابي بالتركيز علي النواحي البلاغية،

فإن أبا الرضا قد تميز كذلك بخاصة تمثلت في أنه كان ينتخب من أعمال السابقين، ثم لا يكتفي بذلك بل يضيف إليها ما يعن له من رأي فيها، وهذا قوله: "وإن لاح لي فيه لائح كتبته" ولهذا رأيناه في جملة من المواضع يدلي برأيه فيما ينتخبه، ومن ذلك ما جاء عنه في بيت ملحة الجرمي الذي جاء في باب الصفات والذي يصف فيه برقًا لاح له في الليل وهو: نشاوى من الادلاج كدري مزنه يقضي بجدب الأرض ما لم يكن يقضي قال: "قد أكثروا في معنى هذا البيت، والذي يلوح لي أن معناه يقضي كدري هذا البارق بتقضية جدب الأرض ما لم يكد يقضي أي يذهب ما لم يكد يذهب من الجدب". وأحيانا لا تكون إضافته إلا إطالة وإسهابًا في إيراد معنى النص، ومن ذلك ما أورده في بيت الغطمش الضبي الذي يقول فيه: فبالخير لا بالشر فارج مودتي وأي امرٍئ يقتال منه الترهب فقد أورد آراء من سبقوه في هذا البيت الديمرتي والمرزوقي وأبي الندى ثم أورد معناه مشيرًا إلى أنه صاحبه قال: "يقول أيها الرجل الذي يغتابني وينتقصني ثم إذا رآني داجاني وتبصبص إلي لا تفعل ذلك، فإنك إن رجوت مودتي إياك ومحافظتي عليك فلن أدرك ذلك بالمداجاة إذا حضرت والاغتياب إذا غبت، ولكن إن أردت ذلك فعليك باعتياد الخير واستصلاح الدخلة وتحسين الباطن فإنك إنما تفعل معي ذلك، وتتكلف هذه المعاملة لأنك ترهبني وتستعرمني، وكيف يحتكم على من يخاف ناحيته ولا تؤمن غائلته، فلا تحتكم على ما شئت من الاغتياب في حال الغيبة

والمداجاة في حال الحضور". وهذا عمل ليس فيه جديد إضافة على ما ذكره الشراح سوى إسهاب العرض وتطويله، واستدعاء الجمل بأكثر من وجه. وإذا كان هذا المنهج قد وجد لدى عالمين غير التبريزي، فإن التبريزي بحق له قصب السبق فيه، فهو صاحبه الأول لا في شرح الحماسة فحسب بل في غيره من الشروح الأخرى التي قام بصناعتها مثل شرح المفضليات وشرح القصائد العشر. التبريزي هو مبتكر هذا المنهج الذي ظل ينمو ويتطور مع الزمن حتى اكتمل وتجلى عند البغدادي في خزانة الأدب، وبخاصة في شرح الشواهد الشعرية التي جاءت في اختيار الحماسة، ومن أجل ذلك كان من حقه علينا أن يكون تطبيق هذا المنهج في شرحه بالرغم من ملاحظاتنا التي نوهنا لها من قبل. وهي ملاحظات تتلخص في أنه قد حاول أن يجمع في شرحه ما يحقق جميع العناصر المتطلبة في الشرح، ولكنه لم يوفق بين هذه العناصر توفيقًا تامًا، وينسق وبينها بانسجام يشعرنا بالتكامل والترابط إلا في مواضع متفرقة من شرحه، كما أنه اعتمد في جمهور شرحه على المرزوقي محاولًا أن يكمل ما فيه من نقص من الشروح الأخرى، غير أن هذه الشروح لم تكن لتسد حاجته في استكمال هذا النقص، ومن ثم جاءت جملة من النصوص خالية تمامًا من أدنى شرح يذكر، وكان مقتضى عمله- وهو الشارح المنتخب- أن يسد هذا من عنده، ولكنه لم يكن مبدعًا بحيث يحقق بإبداعه استكمال ما ينتخبه من الشروح، هذا فضلًا عن انسياقه المتكرر وراء شيخه أبي العلاء في استطراداته المختلفة، وكذلك انسياقه وراء أبي رياش في نقولات مسهبة سود بها العديد من الصفحات دون أن يعمل فيها قلمه بالتهذيب والتشذيب

أو الحذف والاختصار الأمر الذي أدى إلى طغيان عنصر أخبار الشعر على عناصر الشرح في القطع التي كان أبو رياش يذكر خبر أبياتها أو بواعث الشعر فيها. هذا ما كنا قد لاحظناه عليه فيما مضى وأقمنا الأمثلة لصحته، والآن لننظر كيف حاول التبريزي أن يحقق هذا المنهج في شرحه متوخين أن نوضح ذلك من خلال العناصر التي تحقق فيها هذا الانتخاب. أ- شرح أسماء الشعراء والأعلام: جمع التبريزي لتحقيق هذا العنصر أعمال رجال سبقوه في هذا المضمار هم ابن جني وأبو العلاء وأبو رياش وأبو هلال وأبو محمد الأعرابي، كما جمع أقوال بعض العلماء الأوائل أمثال: الأصمعي وأبي زيد وغيرهما. وقد استطاع بحق أن ينتخب من هذه الأعمال والأقوال ما يحقق لهذا العنصر وجوده البارز في صنعة شرحه. صحيح أنه أكثر الاعتماد فيه على ابن جني ثم أبي العلاء، ولكنه كان في أحيان متفرقة يحاول الانتخاب من هؤلاء الذين ذكرناهم بما يوفر لمنهجه مقوماته حيث نراه يجمع بين أعمال ثلاثة علماء في موضع واحد، وذلك في مثل عمله في شرح اسم الشاعر "ابن زيابة التيمي" فقد انتخب في شرحه من ابن جني وأبي العلاء وأبي رياش، نقل عن ابن جني قوله: "زيابة اسم مرتجل للعلم وهو فعالة أو فيعالة أو فوعالة من لفظ الأرنب، وتيم فعل من تيمه الحب أي ذلله ويقال تامه، قال الشاعر: تامت فؤادي بذات الجزع خرعبٌة مرت تريد بذات العذبة البيعا ومنه تيم اللات أي عبد اللات ومنه قالوا معبد أي مذلل موطوء". ونقل عن أبي العلاء إضافة جديدة غير ما ذكر ابن جني وهي قوله: "لم يصرف الفعل من زيابة إلا أنهم قالوا رجل أزيٌب وهو الدعي وقالوا للريح: أزيب فقيل هي الجنوب وقيل هي الصبات". ثم نقل عن أبي رياش إضافة أخرى حيث أورد لقب هذا

الشاعر واسمه وشرحهما قال: "وقال أبو رياش هو فارس مجلز عمرو بن لأي، اللأي البطء، ومجلز من الجلز، وهو الفتل الشديد، وجلز السوط مقبضه، وجلز السنان أسفله قال أبو زبيد: حمدت أمري ولمت أمرك إذ أمسك جلز السنان بالنفس وكل ذلك راجع إلى الجلز الذي هو إحكام الفتل". ونراه في موضع آخر ينتخب من ابن جني والأصمعي وأبي العلاء، وذلك في شرح هشام بن المغيرة المخزومي، فقد أورد أولًا قول ابن جني وهو "هشام مصدر هاشمته هشامًا، وهو فاعليته من الهشم وهو الكسر، قالت بنت هاشم جد النبي- صلى الله عليه وسلم: عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف ثم أتى بتفسير الأصمعي فقال: "وقال الأصمعي في تفسيره: هشم ماله فأطعم الثريد" ثم أضاف إلى ذلك ما جاء عن أبي العلاء فيه وفي اسم المغيرة ومخزوم قال: "وقال أبو العلاء: هشام من هشمت الشيء إذا كسرته، وأصل ذلك أن يكون في شيء يابس إلا أنه ليس بصعب المكسر، ومنه قيل للشجرة اليابسة هشيمة وللنبت اليابس هشيم. والمغيرة بضم الميم أجود اللغتين، وقد حكي بالكسر على الإتباع، وهو من أغرت الحبل إذا أحكمت فتله أو من أغار على العدو أو من أغار المرأة، ومخزوم من خزمت البعير إذا جعلت في أنفه خزامة وهي حلقة من شعر".

وهو بجانب انتخابه من ثلاثة علماء قد ينتخب من اثنين، وهذا عنده كثير، ينتخب أحيانًا من ابن جني وأبي العلاء وأحيانًا أخرى من أبي العلاء وأبي هلال، وأحيانًا ثالثة من ابن جني وأبي محمد الأعرابي. ويمكن القول بأن التبريزي قد حقق من خلال انتخابه في هذا العنصر إضافة لها قيمتها هي تصحيح بعض أسماء الشعراء من ذوي الاختيار في الحماسة فمثل ما أفاد من هؤلاء العلماء في شرح الأسماء والأعلام أفاد منهم في تصحيح الأسماء التي وقع فيها وهم من أبي تمام، ومن أمثلة ذلك ما جاء في اسم "قراد بن عياد" فقد نقل عن أبي هلال تصحيحًا له، قال: "قال أبو هلال: هكذا في الأصل وهو خطأ، وإنما هو قراد بن العيار بن محرز، وأبوه العيار أحد شياطين العرب". وفي اسم حسان بن نشبة العدوي نقل تصحيحًا له عن أبي محمد الأعرابي قال: "قال أبو محمد الأعرابي: هذا الاسم مصحف، والصحيح جساس بن نشبة بن عساس قال جرير يهجو جخدب بن خرعب التيمي: لقد شهدت تيٌم على أم جخدٍب وكان سراة التيم رهط جساس يعني جساس بن نشبة". وفي نسب الشاعر المنخل اليشكري ذكر أبو تمام "المنخل بن الحرث اليشكري" فنقل التبريزي تصحيحًا لهذا النسب قال: "قال أبو هلال: هو المنخل ابن مسعود بن عامر بن ربيعة بن عمرو اليشكري". وسجل التبريزي من خلال انتخابه من الشراح إضافة أخرى تتمثل في أن أبا

تمام قد أورد في اختياره جملة من القطع مغفلة بدون نسبة إلى أصحابها حيث كان يصدرها بقوله: "وقال آخر" أو "وقال بعضهم" ونحو ذلك، فكان التبريزي ينقل من الشروح التي ينتخب منها ما يوضح قائلي بعض هذه القطع، ومن ذلك ما نقله في القطيعة (63) من باب الحماسة التي صدرها أبو تمام بقوله: "وقال آخر" فقد نقل التبريزي عن أبي هلال قوله: "لم يذكر أبو تمام اسمه، واسمه الحكم بن زهرة". وفي القطعة (73) من الحماسة أيضًا وقد صدرت بـ "وقال آخر" نجد التبريزي ينتخب في نسبتها قولين أحدهما لأبي رياش الذي نسبها إلى أبي الشغب العبسي، والآخر لأبي عبيدة الذي نسبها للأقرع بن معاذ القشيري. ونسب أبو تمام إحدى القطع لبعض لصوص طيئ فنقل التبريزي توضيحًا له عن أبي هلال قال: "قال أبو هلال: هو شبيب بن عمرو بن كريب". وكان أبو تمام يورد أحيانًا اسم الشاعر غير كامل فينتخب التبريزي من الشروح التي أمامه ما يكمل الاسم ويوضحه، وذلك في مثل القطعة التي نسبها أبو تمام إلى القطامي، ولم يذكر اسمه، فنقل التبريزي عن أبي هلال قوله: "واسمه عمير بن شييم بن عمرو وأوصل نسبه إلى تغلب بن وائل". وكذلك في القطعة التي صدرها أبو تمام بقوله: "وقال التميمي في منصور بن زياد" نجد التبريزي ينقل عن أبي هلال توضيحًا لهذا التميمي قال: "قال أبو هلال: هو عبد الله بن أيوب ويكنى أبا محمد". والحق أن التبريزي قد استطاع من خلال عمله في هذا العنصر أن يحقق من

الشروح التي ينتخب منها فائدة طيبة لاختيار الحماسة وبخاصة حين نعلم أن جملة من الشروح التي كان ينتخب منها لم تصل إلينا إذ لا تزال في طي المجهول لا يعرف مكانها. ب- تصحيح نسبة الشعر إلى قائليه: ومثلما أفاد التبريزي من شروح أبي رياش وأبي هلال وأبي محمد الأعرابي في العنصر السابق كانت فائدته جمة من هذه الشروح في هذا العنصر، فقد خطا بهذه الشروح التي انتخب منها شرحه خطوات عملية في هذا الجانب المهم في توثيق الشعر وتحقيق نسبته إلى قائليه. ولا شك أن اضطراب النسبة في الشعر القديم بين أكثر من شاعر يشكل عقبة للدارس في هذا الشعر، ولهذا فإن عمل التبريزي الانتخابي في هذا العنصر له قيمته في البحث الأدبي، إذ يعرض لنا من خلال الشروح التي وقف عليها، وشكلت مادة شرحه آراء هؤلاء الشراح فيما وقع فيه أبو تمام من وهم في نسبة الشعر إلى غير قائليه. والأمثلة على ذلك كثيرة متعددة، منها على سبيل المثال ما جاء في قطعة الرثاء التي قيلت في عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وقد نسبها أبو تمام إلى الشماخ بن ضرار، فقد انتخب التبريزي لنا قولين في نسبتها أحدهما لأبي رياش الذي قال: "الذي عندي أنه- أي الشعر- لمز رد أخيه" والآخر لأبي محمد الأعرابي الذي قال: "هو لجزء بن ضرار أخي الشماخ". وفي بيت الحماسة الذي نسب إلى السموءل بن عادياء الغساني وهو: وأسيافنا في كل غرٍب ومشرٍق بها من قراع الدراعين فلول نجد التبريزي ينقل عن أبي محمد الأعرابي قوله: "هذا البيت لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي، يدلك على ذلك قوله: فإن بني الديان قطٌب لقومهم

والديان هو يزيد ين قطن بن زياد بن الحرث الأصغر بن مالك بن ربيعة بن كعب الحرث الأكبر". وفي القطعة التي نسبها أبو تمام إلى يحيى بن منصور الحنفي ينقل التبريزي عن أبي رياش قوله: "هذا غلط من أبي تمام يحيى بن منصور ذهلي وهذه الأبيات لموسى بن جابر الحنفي". وفي الحماسة التي مطلعها: ألا أيهذا النابح السيد إنني على نأيها مستبسٌل من ورائها والتي نسبها أبو تمام إلى الفضل بن الأخضر الضبي نجد لدى التبريزي تصحيحًا لنسبتها من أبي هلال الذي قال: إنها لأبيه الأخضر بن هبيرة بن المنذر". ونسب أبو تمام مرثية لعمرة الخثعمية قال إنها ترثي فيها بنيها وجاء مطلعها في روايته: لقد زعموا أني جزعت عليهما وهل جزٌع أن قلت وابأباهما فأفاد التبريزي عن أبي رياش قوله: "الذي عندي أن هذه الأبيات لدرماء بنت سيار بن عبعب الجحدرية ترثي أخويها وأولها: أبي الناس إلا أن يقولوا هماهما ولو أننا اسطعنا لكان سواهما وهكذا نجد أن التبريزي قد أفاد في مواضع متفرقة من شرحه إضافات ذات جدوى في هذا العنصر، وهي إضافات قد خدمت اختيار الحماسة من حيث إن تحقيق نسبة الشعر إلى قائله أمر ضروري في عملية الشرح، وإن كنا نأخذ عليه أنه

كان ينقل الآراء في نسبة الشعر دون أن يرجح أيها أصح في نظره، ومع هذا فإن مجرد التنبيه إلى شيء كهذا يعد عملًا مفيدًا في خدمة النص الشعري. ج- أخبار الشعر ومناسباته: احتفى التبريزي بهذا العنصر كثيرًا، فلقد سبق أن أشرنا إلى أنه كان ينساق وراء أبي رياش فلا نقولات مسهبة، وهي نقولات إن لم تحقق تعادلًا وتكافؤًا بين عناصر الشرح فإنها بلا شك قد خدمت هذا العنصر وحققت به فائدة في فهم الجو الاجتماعي والنفسي الذي قيل فيه الشعر المختار في الحماسة، والتبريزي بجانب إفاداته المتعددة من شرح أبي رياش في هذا العنصر كان يفيد أيضًا من أبي محمد الأعرابي الذي رأيناه في تتبعه لأبي عبد الله النمري يعني كثيرًا بأخبار الشعر وبواعث قوله ويعد معرفة ذلك من قبل الشراح أمرًا له أهميته الكبرى في فهم الشعر وإدراك معانيه، وكذلك كان ينقل من شرح أبي هلال ومن أبي عبيدة معمر بن المثنى، ونحن لا نستطيع أن نورد نماذج لهذه الإفادات لأن جلها قد جاء في إطالة بالغة، وبخاصة نقولاته من أبي رياش، ولكن حسبنا أن نشير إلى أنه نقل لخدمة هذا العنصر من شرح أبي رياش في نحو تسعة وثلاثين موضعًا، وهي مواضع متفاوتة في أجزاء الشرح الأربعة، ونقل عن أبي محمد الأعرابي في سبعة مواضع ونقل عن كل من أبي هلال وأبي عبيدة في موضعين، وهناك مواضع متفرقة أورد فيها أخبارًا عن الشعر وأصحابه لم يعزها لأحد من هؤلاء، ولعلها من أبي رياش أو أبي عبيدة. د- أوزان الشعر وأضربه وقوافيه: مر بنا أن التبريزي كان يهتم بتحديد وزن الشعر في قطع الحماسة وأضربه وقوافيه، وأنه استطاع أن يحقق ذلك في جل قطع الحماسة وأن نحوًا من اثنتين وستين قطعة فقط هي التي لم تحظ عنده بتحديد الضرب والوزن والقافية، وهو في هذا

الجانب كان يحدد الضرب أولًا فالبحر فالقافية، كأن يقول في صدر شرح أول بيت من كل قطعة: "الأول من الطويل والقافية من لمتواتر" أو "الأول من البسيط والقافية متدارك" ونحو ذلك، ولم يورد قضايا تتصل بالوزن أو القافية في شيء من الشرح والتوضيح إلا ستة مواضع: أربعة منها جاءت منقولة نصًا من شرح أبي العلاء، وموضع واحد نقله عن المرزوقي ولم يعزه إليه، ولكن ما نقله موجود بنصه في شرح المرزوقي وهو كلام المرزوقي الذي سبق أن أوردناه عندما تكلمنا عن عنصر الوزن والقافية في شرحه، والذي كان قد قاله في قطعة سلمى بن ربيعة التي مطلعها: إن شواًء ونشوًة وخبب البازل الأمون كما نقل كلامًا عن شذوذ الوزن في القطعة التي مطلعها: "إن تسألي فالمجد غير البديع" ولم يعزه لأحد، وأغلب ظننا أنه أخذه من أبي العلاء لأن الأسلوب فيه شبيه بأسلوب أبي العلاء. وهذه النقولات الستة إنما أخذها من شرحي أبي العلاء والمرزوقي، وهما من الشروح التي انتخب منها شرحه، غير أننا وجدنا له موضعًا سابعًا ناقش فيه مسألة تتصل بوزن الشعر أفاد فيها إضافة من غير هذين الشرحين، وذلك في قطعة الربيع ابن زياد التي يرثي فيها مالك بن زهير العبسي والتي يقول فيها: ومجنباٍت ما يذقن عذوفًا يقذفن بالمهرات والأمهار

فقد أورد فيه قولًا لبي العلاء جاء فيه: "هكذا روى هذا البيت ناقصًا، وذكر أن الخليل كان يسمى هذا المقعد، وروى عن أبي عبيدة أنه كان يسمى هذا ونحوه الإقواء" ثم أضاف التبريزي إلى قول أبي العلاء هذا أن أبا عبيد ذكر في الغريب المصنف فيما يتعلق بالقوافي أن الأقواء نقصان حرف من الفاصلة، واستشهد بقوله: "أفبعد مقتل مالك بن زهير". قال التبريزي: ولم يبين ما الفاصلة، وربما توهم أن الفاصلة إحدى الفاصلتين المذكورتين في أول العروض الصغرى والكبرى، والأمر بخلاف ذلك لأن الحرف الناقص في البيت إذا قطعته من الوتد لا من الفاصلة". ومضى التبريزي مقررًا حديثه قال: "وذاكرت شيخنا أبا القاسم الرقي في وقت قراءتي عليه هذا الموضع من الغريب، فذكر أن أبا عبيد يحكي هذا عن أبي عبيدة وأن أبا عبيدة لم تكن له معرفة بهذا العلم، وكأن الرقي توهم أن المراد بالفاصلة إحدى الفاصلتين من الصغرى والكبرى، فأطلق هذا القول في أبي عبيدة، والصواب ما وقع إلي فيما بعد وذكره لي بعض الشيوخ، وهو أن المراد بالفاصلة الفصل وهم يسمون عروض البيت فصلًا، والنقصان في هذا البيت من العروض، فعلى هذا الأقواء على ضربين أحدهما اختلاف حركة الروي بالضم والكسر، والآخر، نقصان حرف من عروض البيت. فهذا هو الموضع الوحيد في هذا العنصر الذي قدم فيه التبريزي عملًا يمكن أن يعد جهدًا منه، وهو وإن بدا فيه معتمدًا على غيره فإنه دل على أنه مستوعب لقراءاته وسماعاته، يعرف كيف يوظف هذه القراءات والسماعات في مواضعها المناسبة من شرحه. هـ- الرواية: هذا العنصر رأيناه فيما سبق عند المرزوقي وابن جني وأبي هلال وأبي محمد

الأعرابي يخضع لمفاضلة واختيار، فالمفاضلة والاختيار هما المعيار السليم الذي يقاس به ذكر اختلافات الرواية، ولهذا كان لعمل هؤلاء الشراح قيمته في هذا العنصر. أما التبريزي ففضلًا عن أنه كان عالة على المرزوقي في هذا العنصر بصورة لا تخفى على من يقف على الشرحين معًا فإنه كان يورد أقوال هؤلاء الشراح ومناقشاتهم في الرواية واختيارهم لها، يرصفها جنبًا إلى جنب دون أن يتدخل بالوقوف إلى صف واحد منهم بالرأي والتعليل، ولهذا كان عمله في هذا العنصر- كما لاحظه أحمد جمال العمري- مجرد عرض للرواية لا أكثر ولا أقل، لا تخدم القارئ في شيء بل هو في واقع الأمر عمل له خطورته بالنسبة للقارئين والدارسين لأنه يجعلهم غير واثقين من صحة ما يقال وما يروي، إذ أن كثرة الروايات وتضاربها تجعل الشعر بين أذهان هؤلاء القراء والدراسيين ألعوبة غير جديرة بالثقة لكثرة ما طرأ عليه من تغييرات لفظية في الرواية. وهذا القول الذي ذهب إليه العمري هو خير ما يقال في عمل التبريزي في الرواية، لأننا حين استخرجنا من شرحه كل ما جمعه من الشراح السابقين في الرواية وبدأنا نقرؤه قراءة دراسة متأنية هالنا ما فيه من آراء متضاربة بحيث تجد الرأي ونقيضه في موضع واحد، بل يتجاوز الأمر إلى أن اللفظة الواحدة تراها في رواية هؤلاء الشراح في أكثر من شكل، والكل يحاول أن يدعم روايته لها ذاهبًا إلى أنها هي الرواية وما عداها هو الخطأ، ولا نكون مبالغين إننا في كثير من المواضع التي لفتنا الحيرة فيها بأثرابها تمنينا أن تكون تحت أيدينا نسخة من رواية الحماسة بخط أبي تمام نفسه، بل ربما باعدنا في ذلك فتمنينا أن يكون أبو تمام بين ظهرانينا حتى نسأله عن صحة هذه الأقوال الصادرة عن هؤلاء الشراح، والتي جمعها لنا التبريزي في موضع واحد دون أن يتدخل فيها بعمل يذكر. وربما يكونه هذا القول غريبًا من باحث يدري هذه الشروح، ولكنه شعور انتابنا في لحظات كثيرة أردنا أن نسجله دالين به على حيرتنا ونحن نقرأ ما جمعه

التبريزي من أقوال هؤلاء الشراح، والأمثلة على ذلك كثيرة. انظر مثلًا إلى عمل التبريزي في بيت المثلم بن رياح المري الذي يقول فيه: سأكفيك جنبي وضعه ووساده وأغضب إن لم تعط بالحق أشجعا وكان المثلم قد قال قبله في رواية أبي تمام: من مبلٌغ عني سنانًا رسالًة وشجنة أن قوما خذا الحق أودعا فنقل التبريزي عن المرزوقي قوله: "ويغلب في نفسي أن الشاعر قال: "وأغضب إن لم تعطيا الحق أشجعا" لأنه بنى الرسالة على أن تكون متوجهة نحو اثنين سنان وشجنة، ومخاطبته من بعد أحدهما في قوله "سأكفيك" على عادتهم في الافتنان والتصرف ولا يمنع من رجوعه إلى ما بنى كلامه عليه من ذكر الاثنين، وهذا ظاهر لمن تأمله". وهذا اجتهاد من المرزوقي لك أن تقبله أو ترفضه لأنه مبني على غلبة الظن، وغلبة الظن في الرواية تحتاج إلى الرجوع إلى ديوان الشاعر، وليس إلى هذا من سبيل، هذا فضلًا عن أن المرزوقي لم يعتمده هذه الرواية في متنه، وهذا يضعف اجتهاده، إذ لو كان مقتنعًا به لأثبته في متنه. هذا ما يقال في عمل المرزوقي، والأمر إلى هنا واضح جلي أن للبيت روايتين: أولى أثبتها المرزوقي في متنه وثانية قال: بأن غلبة ظنه تدفعه إلى القول بأن الشاعر قالها. ولكن التبريزي- وهو يثبت رواية المرزوقي الأولى في متنه ويورد هذا القول عن المرزوقي في الرواية الثانية- ينقل لنا في الموضع ذاته قولًا لأبي هلال العسكري جاء فيه "قوله إن لم تعط بالحق أشجعا، تصحيف قبيح، والصحيح" وأغضب إن لم يغضب الحق أشجعا" يقول: سأكفيك أمري كله لا أحملك شيئًا وأغضب لك ولحقك إن لم يغضب له أشجع".

ولم يعلق التبريزي على هذا القول بشيء كأنه لم يثبت في متنه الرواية التي وصفها أبو هلال بأنها تصحيف قبيح بل كأنه لم يلحظ أن تفسير أبي هلال لشطرة البيت مخالف لما ذهب أنه الرواية الصحيحة، فالرواية تجعل الحق فاعلًا، وأشجعًا مفعولًا به، والتفسير ظاهره أن أشجع هو فاعل الغضب. وأعجب من ذلك أن تحاول اللجوء للمرزباني الذي ترجم للمثلم وروى له هذه القطعة فتجد نفسك أمام رواية تختلف عن هذه الروايات جميعًا هي: "وأقبل إن لم تعطنا الحق أشجعا"، وأنت قد تضعف هذه الرواية لأن فيها إقواء ظاهرًا ولكنها في الوقت ذاته قد حولت الغضب إلى قبول إذ فرق بين "أغضب" الواردة في الروايات السابقة و"أقبل" الواردة عنده. ومع هذا الاضطراب الواضح في شأن رواية هذا البيت تجد نفسك باحثًا عن المعنى الذي أراده الشاعر فلا تجد ما يرضيك سوى أنها روايات ذات معان، كل معنى منها يمكن أن يكون هو الذي قصده الشاعر. ومثل آخر نسوقه في جمع التبريزي للرواية جنبًا إلى جنب دون أن يبت في ذلك برأي، ففي بيت ربيعة بن مقروم الذي يقول فيه: أرجيته عني فأبصر قصده وكويته فوق النواظر من عل نجد التبريزي ينقل عن المرزوقي- دون أن يشير إليه وفي شيء من التحريف، وهو في أصله على هذا النحو قال: "والرواية الصحيحة" "أرجأته" و"أرجيته" وهما لغتان، والهمز أفصح، قد قرئ "ترجئ من تشاء منهن" وترجي، ويروي "أرجيته" ويروي "أزجيته" والمعاني تتقارب في الكل". وعمل المرزوقي هنا أيضًا واضح، فهو قد أثبت الرواية المشهورة في متنه وهي

"أرجيته" ثم فضل عليها رواية "أرجأته" بالهمز لأنها أفصح، وأشار إلى روايتين أخريين قال إنهما تلتقيان مع السابقتين في معنى واحد، غير أن التبريزي- وقد أثبت في متنه ما أثبته المرزوقي- ينقل قولًا لأبي الفتح ابن جني جاء فيه "أكثر من ترى يروي هذا البيت" "أرجيته" بالراء، فإذا تعالى قليلًا رواه "أرجأته" بالهمزة وكلاهما تصحيف وإنما هو "أوجيته" بالواو أي ذللته وقهرته، كذلك روينا، وكذلك وجدته أيضًا في شعر القبيلة". ولم يكشف التبريزي مع أي الروايات يقف، مع روايته التي أثبتها في متنه وهي "أرجيته" أو مع الرواية التي وصفها المرزوقي بأنها أفصح وهي "أرجأته" أو مع رواية أبي الفتح التي قال بأنه وجدها في ديوان القبيلة وهي "أوجيته" إنه لم يوضح شيئًا في هذا الأمر. والحق أنا تتبعنا عمله في هذا العنصر فلم نجد له موقفًا يذكر إلا في موضع واحد، وذلك في بيت سبرة بن عمرو الفقعسي القائل: أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مسلٌم وقد سال من ذٍل عليك قراقر وهي الرواية التي أثبتها في متنه، وهي كذلك عند المرزوقي، وأشار التبريزي في شرحه إلى أنها رواية عبد الله النمري وأورد تفسير النمري لها قال: "قال النمري يقول سال هذا الوادي عليك فلم تستطع الانتقال عنه ذلًا وضعفًا" ثم نقل رواية أخرى لأبي محمد الأعرابي قال: "وقال أبو محمد الأعرابي: الصواب" وقد سال من نصر عليك قراقر" يعني نصر بن قعين بن الحرث بن ثعلبة بن دودان بن أسد ابن خزيمة يقول: دافعتهم عنك حين سال الوادي بهم عليك، كما قال الآخر: ونحن أسلنا مصعدًا بطن حائٍل ولم ير واٍد قبله سال مصعدا يعني أنهم أسالوه بالرجال"، ثم عقب على هذا بقوله: "وهذا الذي ذكره أحسن ما قيل في هذا البيت كأن الوادي سال عليهم بالرجال".

وهو وإن لم يبين وجه الحسن فيه فإنه على أية حال يعد الموقف الوحيد الذي أبدى فيه رأيًا في هذا العنصر، أما باقي عمله فيه فقد كان ناقلًا سلبيًا في إيراده الآراء المتضاربة التي جمعها من الشروح المكونة لمادة شرحه. وإذا كنا قد حكمنا بسلبية الرجل في عمله المتصل بالرواية وذهبنا من قبل إلى أن عمله الذي رأيناه منه في تجميع الأقوال التي يناقض بعضها بعضًا وتسجيلها في موضع واحد أمر يزعج القارئ والدارس معًا ويجعلهما في موقف الاضطراب والحيرة، فإن هذا لا ينبغي أن ينسينا ما سجلناه سابقًا عنه، إنه لم يكن مبدعًا في عمله بقدر ما كان جامعًا ناقلًا منتخبًا، وحسب الرجل أن يحقق هذا في شرحه وأن يترك لقارئه أو دارسه فرصة أن يختار من هذا التضارب والتناقض ما يرضي عقله وذوقه وفق معطياته الثقافية ومكنته في العمل والدراسة، وهذا بطبيعة الحال يضع قارئه أو دارسه في موقف عسير، لأن الرجال الذين كان ينقل عنهم- وعلى رأسهم أبو رياش وأبو هلال والمرزوقي وابن جني وأبو العلاء، رجال لهم وزنهم ومكانتهم في شرح الشعر وفهم لغته والخبرة الوافية بأساليب العرب فيه، ولا يعني هذا أنهم لا يخطئون في التأويل، فقد ثبت لنا ذلك عند بعضهم، ولكن أن ترجح رأي أحد منهم على الآخر في مسألة الرواية يحتاج إلى دليل مادي، يتمثل في الأصول التي اختار منها أبو تمام هذا الشعر، وأني لنا بهذه الأصول؟ . إذا كنا عاجزين عن أن نعثر على نسخة أصلية من عمل أبي تمام فهل نطمع في أن نعثر على أصول اختياره؟ بل إذا كنا عاجزين عن الحصول على جميع الشروح التي كان التبريزي ينتخب منها شرحه فهل يتيسر لنا أن نحصل على اختيار أبي تمام الأصلي أو على الأصول التي اعتمد عليها في اختياره. و- شرح الألفاظ والتراكيب: هذا العنصر ليس للتبريزي عمل ذاتي فيه سوى أنه قد أفاد من أعمال السابقين في مجال اللغة والنحو في شرح الألفاظ والتراكيب، وإذا كان له فضل عمل في هذا العنصر فإنه قد استطاع من خلال انتخابه أن يحقق توسعًا في الشرح اللغوي سواء في ذلك شرح الألفاظ أو التراكيب، وذلك أن هؤلاء العلماء الذين كان ينتخب من

أعمالهم- ابن جني وأبي العلاء والمرزوقي وغيرهم- قد حققوا في شروحهم مناقشات مستفيضة في القضايا اللغوية والنحوية، فكان تجميع ما أثاره في شرح واحد عملًا له قيمته من حيث استيفاء المادة المعروضة للنقاش والمساجلة من مختلف النواحي المتصلة بفروع اللغة. والملاحظة التي نسجلها في هذا الخصوص أن انتخاب التبريزي في القضايا اللغوية كان أبرز منه في القضايا النحوية، وذلك أنه كان في جانب النحو المتصل بشرح التراكيب وما يتبعه من مسائل الأعراب يعتمد اعتمادًا يكاد يكون كليًا على المرزوقي، ولهذا قل انتخابه في مسائل النحو والإعراب. أما في مجال اللغة فقد كان انتخابه فيها واضحًا، وكانت الإضافات التوسعية بارزة بحيث نجدها في الكثير من الأمثلة، ومن ذلك ما جاء في تفسير لفظة "الكلالة" الواردة في بيت يزيد بن الحكم الثقفي القائل: والمرء يبخل في الحقو ق وللكلالة ما يسيم فقد انتخب في تفسيرها من شرحين: شرح المرزوقي وشرح أبي العلاء. نقل عن المرزوقي- ولم يسمه كعادته- "الكلالة هم الوارث ما خلال الوالد والولد، وأصله من تكلله النسب إذا أحاط به، وقيل: هو من الكلال الإعياء كأن بعد النسب أكله". ثم نقل عن أبي العلاء إضافة وتوسعًا في تفسير اللفظة قال: "وقال أبو العلاء الكلالة التي جاءت في الكتاب العزيز دلت على أنها يعني بها الأخوة من الأم، وفي موضع آخر وقعت على الأخت التي ترث النصف، فجائز أن تكون من الأب، وإذا قيل الكلالة من ليس بوالد ولا مولود دخلت فيه الأخت وغيرها من ذوي النسب". ونراه في موضع آخر ينقل أقوال ثلاثة علماء في تفسير لفظة وردت في بيت لعبد اله بن عنمة يقول فيه:

فازجر حمارك لا يرتع بساحتنا إذن يرد وقيد العير مكروب فقد أورد عن المرزوقي في معنى "مكروب" قوله: مكروب أي ملئ قيده فتلًا حتى لا يمشي إلا بتعب كأنه يضرب أو يستعمل حتى يرم جسمه، ويؤدي الوجع منه إلى موضع حافره فيضيق عليه". ونقل عن أبي عبد الله النمري قوله: "كربت الشيء إذا أحكمته وأوثقته، ومعنى البيت أنا نرد الحمار مملوءًا قيده فتلًا كما يمتلئ الإنسان كربًا". ثم نقل عن أبي محمد الأعرابي معنى يختلف عن المرزوقي والنمري قال: "وقال أبو محمد الأعرابي: وقوله: "وقيد العير مكروب" أي إنهم يعقرونه والعقر أضيق القيود". أما التراكيب فقد أفاد فيها إضافات من الشروح بحيث حقق فيها هي الأخرى توسعًا ضخمًا في شرح اللغة، الأمر الذي غنى المادة اللغوية بالكثير من أقوال العلماء، فمثلًا في تركيب "أهذا ما لكم بجلا" الوارد في بيت جابر بن رالان السنبسي القائل: لما رأت معشرًا قلت حمولتهم قالت سعاد أهذا مالكم بجلا نراه ينقل عن شرح المرزوقي- دون عزو- قوله: "وبجل في موضع الحال، والمعنى أهذا مالك مكتفى به، والأصل في بجل البناء على السكون، ودعت الضرورة إلى تحريكه فحركه بالفتح، كان الواجب إذا حرك الكسر فيه، ومنه قول الآخر: نعم إن قلتما نعما لأن نعم أيضًا مبني على السكون فحرك آخره للضرورة بالفتح كما ترى، وقد يضاف "بجل" لكونه اسمًا كما يضاف "قد" إذا كان بمعنى حسب قال: "بجلي الآن من العيش بجل". وينقل في الموضع ذاته من شرح أبي العلاء- ولكن بعزو-

قوله: "يجوز أن يكون نصب: "بجلا" كأنه قال أهذا مالك غير مجاوز ما أراه، ويجوز أن يكون أراد بجلي أي حسبي فقلب الياء ألفًا، لأن الأخفش وغيره حكوا أن بعض العرب يقول: "جاءني غلامًا" يعني غلامي فيقلب الياء ألفًا وعلى هذا أنشدوا: أطوف ما أطوف ثم آوي إلى أما ويكفيني النقيع فلا شك أنك تلحظ في مثل هذا العمل توسعًا في شرح المادة اللغوية، وهو توسع- بلا شك- ما كان ليتحقق لولا تجميع التبريزي لأقوال هؤلاء العلماء والانتخاب منها في موضع واحد من مواضع عمله في شرح الشعر. ز- المعاني: سبق أن أوضحنا أن التبريزي قد اعتمد شرح المرزوقي أصلًا لشرحه، ينقل منه بعزو وبدون عزو، ثم كان ينتخب من الشروح الأخرى ما يكمل به النقص الذي يجده في شرح المرزوقي أو يضيف منها ما يعد جديدًا بالنسبة لما ذكره المرزوقي، ولقد كان هذا العنصر من أبرز العناصر التي عول فيها على المرزوقي، وذلك أن المرزوقي- كما رأينا من قبل- كان قد اهتم بهذا العنصر اهتمامًا ملحوظًا، حيث يوضح معاني الشعر وما فيها من تأويلات، ويزيد على ذلك أنه كان يعرض هذه المعاني في أسلوب أدبي جذاب، ومن هنا كان الشراح ذوو المنهج التجميعي الانتخابي يعولون عليه في شروحهم، لاحظنا ذلك عند أمين الدين الطبرسي وعند الرواندي، وكلاهما سار في الطريق الذي سلكه التبريزي من قبلهما. غير أننا حين نتتبع هذا العنصر في عمل التبريزي نجد أنه بجانب تعويله على المرزوقي فإن عمله لم يخل من انتخاب من شروح أخرى، جاء هذا في مواضع مختلفة من شرحه وهي مواضع دلت على إثراء هذا العنصر بالكثير من آراء الشراح في معاني الشعر بحيث ترى في الموضع الواحد أكثر من رأي. ولا شك في أن هذه الآراء المتصلة بمعاني الشعر- وإن كان فيها تباين واختلاف

في بعض الأحيان فإنها تعطي القارئ فرصة الوقوف على أعمال الشراح فلي هذا العنصر، وبخاصة الشروح التي لم تصل إلينا، كما تعطيه فرصة التأمل والاختيار في التأويلات التي كان يذهب إليها العلماء بحيث تتكون لديه حصيلة وفيرة من معاني الشعر تمكنه من فهم النص الأدبي فهما يشمل جميع المعاني المحتملة فيه، وتهيئ له السبيل في إدراك معاني الشعر بعامة، ما اختاره أبو تمام وما لم يختره. ونحن لا نريد أن نكرر أن التبريزي لم يكن له عمل خاص في هذا العنصر، ولكن مجرد تجميع أقوال العلماء والانتخاب منها يعد عملًا له فائدته، إذ يسهل للقارئ معرفة كل المعاني التي تتصل بالنص دون أن يكلف نفسه عناء قراءة الشروح التي انتخب منها التبريزي. هذا إذا توفرت لديه هذه الشروح. انظر مثلًا إلى هذا العمل في بيت موسى بن جابر الحنفي الذي يقول فيه: - هلالان حمالان في كل شتوٍة من الثقل ما لا تستطيع الأباعر فقد نقل أولًا قول المرزوقي فيه قال: "أي هما في الاشتهار والانتفاع بمنزلة هلالين، ويتكلفان في كل جدب ومحل من الأثقال والأعباء ما لو صارت أجرامًا لعجز عن النهوض بها وتحملها البعران". ثم نقل بعده قول النمري الذي قال: "أي هذان الرجلان يحملان من أعباء المغارم وأثقال الصنائع ما لو أنه يوزن لم تستطع حمله الإبل وهي أثقل الحيوان حملًا وأكثره صبرًا". ولعلك تلحظ أن هذا القول في معنى البيت شبيه بما أورده المرزوقي ولكن التبريزي أورده لكي يورد لأبي العلاء عليه، فقد أتبع قول النمري بما وجده في شرح أبي العلاء الذي قال: "قد تأول النمري له معنى قد يجوز مثله، ولكنه بعيد، وإنما ينبغي أن يحمل الشيء على الشيء على ما كثر، وذلك أنه ذهب- أي الشاعر- إلى أن هذين الممدوحين يحملان من قرى الأضياف ومن نحر الإبل ما لا تستطيعه الأباعر، أي أنها لا تقوى عليه لأنه يهلكها، وهذا مجانس قولهم بنو فلان ظلامون للجزر، وقال ابن مقبل: عاد الأذلة في داٍر وكان بها خرس الشقاشق ظلامون للجزر

أي إنهم يعقرونها كثيرًا، فكأن ذلك ظلم لها، ونحو منه قول الآخر: قتيلان لا تبكي المخاض عليهما إذا شبعت من قرمٍل وأفاني أي كانا يعقرانها فلما قتلا لم تبك عليهما". أورد التبريزي قول أبي العلاء هذا ثم عقب عليه بقوله: "فلا تعدلن عما ذكره أبو العلاء إلى غيره". ولقد رأينا في صدر كلام المرزوقي أنه يذهب في معنى "هلالان" إلى أن الممدوحين في الاشتهار بمنزلة هلالين فنقل التبريزي في الموضع ذاته قول أبي محمد الأعرابي الذي جاء فيه "سألت أبا الندى عن قوله "هلالان" من هما؟ فقال: هما مرداس وعامر ابن شماس بن لأي من بني أنف الناقة، أمهما من بني العنبر وهما خالا موسى بن جابر الحنفي" فعقب التبريزي على هذا بقوله: "وهذا خلاف ما ذكره المرزوقي". فانظر أي فائدة يحصل عليها القارئ من هذا العمل الانتخابي الذي لم يخل من تدخل التبريزي، وهذا الموضع من المواضع النادرة في شرحه التي كان يبدي فيها رأيًا حول ما ينتخبه في شرحه، أما جل المواضع الأخرى فقد كان انتخابه فيها مثل انتخابه الذي رأيناه في عنصر الرواية، إيراد للأقوال والآراء دون مفاضلة أو اختيار، وذلك مثل عمله في بيت الحماسة الذي نسبه أبو تمام لبعض بني فقعس وهو: كيما أعدهم لأبعد منهم ولقد يجاء إلى ذوي الأحقاد فقد نقل أولًا قول المرزوقي في معنى البيت دون عزو وهو: "أي قد يضطر الإنسان إلى نصرة بني الأعمام وإن كانوا منطوين على ضغائن، وهذا كما قيل لبعض حكماء العرب، ما تقول في العم وابن العم؟ قال: عدوك وعدو عدوك". ثم قال معنى آخر لأبي هلال قال: "وقال أبو هلال: يقول: ربما يضطر الإنسان أعدائه في بعض الأمور، ومثله قول الآخر:

وإني لأستبقى امرأ السوء عدًة لعدوة عريٍض من الناس جانب أخاف كلاب الأبعدين ونبحها إذا لم يجاوبها كلاب الأقارب ثم شفع ذلك بنقل ثالث لأبي عبد الله النمري في معنى جزء من البيت وهو "لأبعد منهم" قال: وقال النمري: لأبعد منهم أي لمن هو أبعد عداوة منهم، أي أشد، من قوله عز وجل: "وضلوا ضلالًا بعيدًا". ثم أردفه باعتراض أبي محمد الأعرابي على هذا المعنى قال: "وقال أبو محمد الأعرابي: غلط- أي النمري- في قوله لأبعد عداوة منهم، وإنما هو لأبعد قرابة منهم". فأنت ترى أنه يورد هذه الأقوال- وهي مختلفة مناقضة بعضها بعضًا- بدون أن يتدخل فيها بالرأي لبيان أي من هذه الأقوال وافق الصواب وأي لم يوافقه. هذه هي العناصر التي رأينا فيها لدى التبريزي عملًا انتخابيًا يحقق المنهج الذي سلكه، أما عنصر البلاغة والنقد فإن عمله فيه كان مقصورًا على النقل عن المرزوقي وعن أبي هلال، كان ينقل عن المرزوقي آراءه في الألوان البلاغية التي تعرض له في نصوص الحماسة، وينقل عن أبي هلال لمحاته النقدية التي كان يراها في الأبيات المختارة في الحماسة، ولهذا فإن من التكرار أن نتعرض بالدراسة لهذا العنصر عنده لأن عمل المرزوقي في البلاغة قد درسناه في منهجه في الفصل الثاني من هذا القسم، أما عمل أبي هلال في النقد فسوف نعرض له بالدراسة في القسم الثالث من هذا البحث. والآن- وقد فرغنا من استعراض عناصر الشرح التي شكلت انتخابًا في عمل التبريزي- لدينا بعض الملاحظات حول عمل التبريزي في الحماسة نود أن نختم بها هذه الدراسة: أولاها: أنه كان ينظم ما ينقله من الشروح، فقد رأيناه يكثر النقل من المرزوقي، ولكنه كان يتصرف فيما ينقله حيث ينظمه ويرتبه وفق الرؤية التي يراها في معالجة

عناصر الشرح، لا وفق ما جاءت في شرح المرزوقي، ولعلنا نذكر أننا حين تكلمنا عن طريقة المرزوقي في شرح النص أوضحنا أنه كان يتعامل مع النص بالشرح وفق الخطرة الأولى التي يخطر له عند قراءته، قد تكون هذه الخطرة جانبًا يتصل بالرواية فيناقشه أولًا، وقد تكون بلاغة فيبدأ بها، وقد تكون لفظة فيشرحها، وربما كانت تركيبًا فيعالج شرحه بداية، وأحيانًا قد تكون الخطرة في المعنى ذاته أو في الغرض الذي قيل فيه الشعر فيسجله، أما التبريزي فقد كان عمله أشبه بالشيء التنظيري الذي يسير وفق طريقة تقليدية هي شرح الألفاظ ثم التراكيب ثم إيراد المعنى وما فيه من اختلافات بين الشراح وأخيرًا البلاغة والنقد، وربما سبقت إيراد المعنى مناقشة الرواية، ولذا كنا نراه حين ينقل عن المرزوقي عملًا متعدد العناصر لا ينقله كما جاء في شرح المرزوقي وإنما يتدخل فيه بالتقديم والتأخير، ولم يكن يهدف من هذا أن يخفي أخذه عن المرزوقي قصدًا إلى الإيهام والتمويه كما ظن الدكتور أحمد جمال العمري، وإنما كان الرجل يحقق رؤيته الخاصة في ترتيب العناصر في عملية الشرح، وتستطيع أن تدرك هذا من خلال نماذج متعددة رأيناها في نقله عن المرزوقي، ولكن يكفي أن نعرض لك نموذجًا واحدًا حتى تدرك صدق ما ذهبنا إليه، وذلك في بيت ربيعة بن مقروم القائل: وألد ذي حنٍق علي كأنما تغلي عداوة صدره في مرجل فقد جاءت خطوات المرزوقي في شرحه على النحو التالي: 1 - خطر له أول ما خطر أن يسجل في البيت جانبًا بلاغيًا فقال: "أخرج التشبيه ما لا يدرك من العداوة بالحس إلى ما يدرك من غليان القدر حتى تجلي فصار كالمشاهد". 2 - انتقل فشرح أول لفظة في البيت، وهي لفظة "ألد"، قال: "والألد الشديد الخصومة، كأنه لد بالخصومة أي أوجر فلد به، ولذلك كان اللدد مصدر ألد ويقال في معناه ألندد".

3 - شرح لفظة الحنق قال: "والحنق شدة الغيظ يقال أحنقه فحنق". 4 - أورد معنى البيت فقال: "يقول: رب خصم شديد الخصومة ذي غيظ وغضب علي تغلي في صدره غليان المرجل بما فيه إذا كان على النار أنا دفعته عن نفسي". 5 - وضح جواب "رب" من قوله "وألد" فقال: وجواب رب هو صدر البيت الثاني. 6 - رجع مرة أخرى إلى تفسير لفظة الحنق فقال: "والحنق يجوز أن يكون عن اللزوق كأن الحقد لزق بصدره، ومنه يقال: أحنقت الدابة إذا أضمرتها". هذه هي خطوات المرزوقي في شرح البيت، وهي بلا شك تفتقر إلى الترتيب المألوف الذي درج عليه الشراح في شرح النص الشعري، ولهذا كان من الطبيعي ألا ينقله التبريزي كما ورد في شرح المرزوقي، إنما كان عمله في البيت على النحو التالي: 1 - نقل عن المزروقي خطوته الثانية وهي شرحه للفظة الألد. 2 - نقل عن أبي العلاء إضافة في شرح اللفظة قال: "وقال أبو العلاء خصم ألد أي شديد الخصومة كأنه يمل عما يريد صاحبه، أخذ من اللديد وهو صفحة العنق وجانب الوادي". 3 - مزج بين خطوتي المرزوقي الثالثة والسادسة فأورد ما قاله في معنى الحنق. 4 - أورد معنى البيت كما جاء في شرح المرزوقي. 5 - سجل ما جاء في خطوة المرزوقي الأولى وهي الجانب البلاغي. 6 - نقل قول المرزوقي: "وجواب رب هو صدر البيت الذي يليه" وختم به عملية شرح البيت ليدخل في البيت التالي الذي هو جواب رب.

وهكذا نلاحظ أن خطوات التبريزي بدأت من شرح الألفاظ ثم المعنى ثم الجوانب الفنية التي تتصل بالأسلوب، وأخيرًا الربط بين البيت وتاليه، وهذه الخطوات المنتظمة في الشرح لها قيمتها في خدمة الغاية التعليمية التي قلنا بأن شروح الحماسة قد ارتبطت بها منذ ظهورها، وظلت كذلك في مختلف العصور التي تنقلت فيها. وهي بغير شك مفيدة في استيعاب القارئ الدارس لشرح الشعر. وثانية هذه الملاحظات أنه- على كثرة نقله من الشروح دون أن يبدي رأيًا فيما ينقل- كانت له بعض المواقف التي دلت على شخصيته في العلم الانتخابي وهي مواقف- وإن كانت ضئيلة إذا ما قيست بالكثرة الكاثرة التي بدا فيها مجرد جماع ناقل منتخب- فإنها على أية حال دلت على ذاتية فيه، وعلى حضور ذهن فيما كان يعرضه من آراء. ومن أمثلة ذلك عمله في البيتين اللذين وردا في باب الملح وهما: ولقد غدوت بمشرٍف يافوخه عسر المكرة ماؤه يتدفق أرٍن يسيل من النشاط لعابه ويكاد جلد أهابه يتمزق فقد أورد فيهما رأيًا لأبي محمد الأعرابي هو أن الضرب منهما مغير وأن الصواب ما نقله عن شيخه أبي الندى وهو: ولقد غدوت بمشرٍف يافوخه عسٍر المكرة ماؤه يتفصد مرٍح يمج من المراح لعابه ويكاد جلد أهابه يتقدد حتى علوت به مشق ثنيٍة طورا أغور بها وطورًا أنجد فعلق التبريزي على هذا بقوله: "والبيتان معروفان وهذه الأبيات الثلاثة غريبة، ولا يمتنع أن تكون هذه غير البيتين، فقد يقع الحافر على الحافر حتى لا تختلف كلمة من البيت غير ما يتعلق بالقافية نحو قول امرئ القيس: يقولون لا تهلك أسى وتحمل

وقول طرفة: يقولون لا تهلك أسى وتجلد. ومن ذلك أيضًا ما جاء عنه في بيت زياد بن حمل القائل: وحبذا حين تمسي الريح باردًة وادي أشٍي وفتياٌن به هضم فقد شرح التبريزي "هضم" بأنه جمع هضوم، وهو المنافق في الشتاء، ثم قال: سألت الرقي عن قوله هضم ما معناه؟ فقال جمع أهضم وهو الضامر البطن، فقلت له قد ذكر لي أبو العلاء شيئًا غير هذا فقال: ما هو؟ قلت: قال: هضم يعني أنهم يهضمون المال أي يكسرونه وينفقونه فأنشد: إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام فهذا المثال وسابقه وغيرهما في شرحه تدل على شخصية الرجل من حيث قراءته ولقاءاته بالعلماء ومساءلته لهم، والإفادة من ذلك في مواضعه الصحيحة من الشرح، وهو يؤكد حضوره الذهني واستدعاء المعلومات في حينها أثناء عملية الانتخاب في شرح الشعر. وإذا كانت هاتان الملاحظتان إيجابيتين في عمل التبريزي الانتخابي فإن لنا أخريين سلبيتين في العمل ذاته: أولاهما: تخصه وتخص غيره من الشراح الذين اتبعوه في منهجه التجميعي الانتخابي، وهي أنهم كانوا لا يعزون جميع ما ينقلونه من آراء وأقوال إلى أصحابها، وبخاصة حين ينقلون عن المرزوقي فهم- التبريزي والطبرسي والرواندي- يوردون كلام المرزوقي في صورة توحي بأن هذا من عملهم، وهذه بطبيعة الحال ظاهرة لها خطورتها من حيث أنها تجعل الدارسين لشروحهم أو المستفيدين منها في اضطراب مستمر، حين ينسبون لهم أقوالًا ليست لهم أو يجعلون لأعمالهم قيمة لا تؤول إليهم في واقع الأمر، ولقد حدث هذا بالفعل من البغدادي في خزانة الأدب، ومن بعض الباحثين المعاصرين، فلقد رأينا البغدادي في أكثر من

موضع في الخزانة ينسب رأيًا للتبريزي أو لأمين الدين الطبرسي، وهو ليس لهما، وإنما لابن جني أو المرزوقي. وكذلك أوقع صنيع التبريزي في نقله أعمال العلماء دون عزو باحثًا معاصرًا- هو الدكتور فخر الدين قباوة- في وهم كبير حين ظن أن كل ما جاء في شروح التبريزي من أعمال رائعة لشراح سابقين إنما هي للتبريزي، وأقام على ذلك حكمًا لا يستند شيء، ولو أنه رجع إلى مصادر التبريزي في شرحه لإدراك هذه الحقيقة، وهذا ما نبه إليه الدكتور العمري حين قال: "لقد ضلل التبريزي فخر الدين قباوة، وأغرقه في الوهم حين جعله يعتقد أن الإبداع الفني كله خليق به، من جهده، من فهمه، والحقيقة أنه وإن كان من صنع يديه لكنه ليس من إعمال عقله أو كد فكره إنما هو لمام جمع عارض سارد". وثانيهما: هذا الإسهاب الذي رأيناه منه في نقله أخبار الشعر عن أبي رياش وما يتصل بها من شخصيات وأشعار، وقد أدى هذا الإسهاب إلى خلل في تنظيم العناصر عنده، بحيث تغول هذا العنصر في بعض المواضع على سائر العناصر الأخرى، وهو لم يكن يكتفي بإيراد هذه الأخبار وما يتصل بها فحسب، بل كان يزيد عليها تعليقات شيخه أبي العلاء على جزئيات منها، فهو مثلًا قد نقل عن أبي رياش خبر أرجوزة أدهم بن أبي الزعراء التي مطلعها: قد صبحت معٌن بجمٍع ذي لجب وهو خبر طويل جدًا وردت فيه أشعار مختلفة منها أبيات لمعدان بن عبيد الطائي وجههًا لمروان بن الحكم منها هذا البيت:

ألم تر للخلافة كيف ضاعت إذا كانت بأبناء السراري فلم يكتف التبريزي بإيراد الخبر وما قيل فيه من أشعار وإنما زاد عليه ما جاء عن أبي العلاء في مناقشته للفظة "السراري" الواردة في البيت السابق، وهي مناقشة فيها إفاضة وإسهاب قال: "السراري جمع سرية وحق الجمع أن يكون مشدد الياء فخففه للضرورة، وقد اختلف في اشتقاقها فقيل: هي من السر الذي هو النكاح، وقيل إنما سمي سرًا لأنه يستسر به عن العيون، وقيل: سميت سرية لأن مالكها يسر بها وهذا أقيس من القول المتقدم لأنهم يسمون السر سرًا بضم السين قال طرفة: ففداٌء لبني قيٍس على ما أصاب الناس من سٍر وضر فوزنه على فعلية، وقال قوم: إنما أخذت السرية من السراة وهي أعلى الشيء، فقيل: أراد أن مالكها يملك سراتها، وقيل: بل ذلك من فعل السراة من الناس لأن السراري إنما يتخذها أهل اليسار والسعة، وقال قوم: سميت سرية لأن مالكها يطرقها ليلًا فكأنه يسري إليها، ووزنها على هذه الوجه فعولة، وذلك أقيس من أن تجعل فعيلة إنما حكى في قولهم كوكب دري، وفعولًا وإن كان قليلًا فهو أكثر في الكلام قالوا: السبوح والقدوس والذروح". فهذا الاستطراد المسهب في شرح لفظة ترد في بيت من أبيات الاختيار وإن كان له قيمته في التوسع اللغوي الذي تميز به شرح التبريزي فإنه في الوقت ذاته قد أخل بإحدى صفات هذا المنهج المتمثلة في إيراد العناصر محاطة بالتناسق والتنظيم مشمولة بالمواءمة التي لا تجعل عنصرًا يطغى على العناصر الأخرى. هذا هو عمل التبريزي في الحماسة، حاولنا أن نعرضه في صورة لا تغمط الرجل حقه، فهو شارح حاول أن يبتكر منهجًا مغايرًا لسابقيه في شرح الشعر، وجد شيوخه وسابقيهم قد عالجوا الحماسة في شروحهم من نواح مختلفة كل شرح يركز على ناحية دون الأخرى، فأراد بمنهج جديد أن يجمع بين هذه النواحي في شرح واحد أي

أن يجمع شروحًا في شرح، ومن ثم جاء عمله جامعًا بين مناهج مختلفة، وأساليب متباينة وهو وإن بدا في عمله غير خلاق أو مبتكر فإنه في مقابل ذلك دل على جهد مضٍن، وعلى استيعاب شامل، وعلى وعي وإدراك وحضور ذهن، في استدعاء معلوماته التي قرأها أو سمعها من شيوخه أثناء عملية الشرح وأن يوظف ذلك في مواضعه، وفي هذا فضل لا ينكر ولو شفعه بفضل آخر بأن عزا نقولاته إلى أصحابها لكان شرحه الغاية الخالدة في هذا المنهج. * * *

الفصل السادس: المنهج الاختصار التسهيلي والشرح المنسوب لأبي العلاء

الفصل السادس: المنهج الاختصار التسهيلي والشرح المنسوب لأبي العلاء رأينا فيما سبق وصفًا لهذا المنهج، وأدركنا من خلال هذا الوصف أنه منهج يقوم على اختصار المعلومات التي يقتضيها الشرح وتسهيل عرضها للقراء بما يحقق الغاية من فهم النص بأقرب السبل وأسهل الطرق، لأنه منهج يراعي المتلقين للشروح وقدراتهم على الاستيعاب والتحصيل واختلاف أهوائهم ومشاربهم في قراءة الشعر وتذوقه وفهمه من خلال الشروح وفق العناصر التي تتألف منها عملية الشرح، فهو يقدم لهم هذه العناصر سهلة ميسرة خالية من تضخم المعلومات وإشباعها بالاستطراد والتطويل، بعيدة عن الإغراب والتعقيد، يقدم اللغة ويناقش ما فيها من قضايا ولكن بقدر محدود، ويعالج النحو والصرف ولكن بصورة تؤدي إلى إدراك المعنى فحسب، ويتعرض للرواية ولكن في لمحات تشير إلى اختلافها وتعددها، ويذكر أخبار الشعراء ومناسبات الشعر ولكن في اختصار وإيجاز يعينان على فهم البواعث التي أدت إلى قول الشعر أو الجو الذي قيل فيه، إلى غير ذلك من العناصر التي يقتضيها الشرح وحقق فيها هذا المنهج خطوات واضحة المعالم في الاختصار والتسهيل، خطوات تتفق مع تطور الحياة وتبدل القرون وتوالي الأجيال، وما يعتري هذه الأجيال من علو وانحدار في الدرس والتحصيل وفق التطور الذي يحدث في الحياة ووفق تبدل الأحوال من قرن إلى قرن. هذا ملخص ما رأينا في وصف هذا المنهج، أما تطبيقه في الشروح التي وصلت إلينا فقد سبق أن أوضحنا أنه يمكن تطبيقه في شرحين أحدهما الشرح الذي رجحنا نسبته إلى زيد بن علي الفارسي المتوفى سنة 467 هـ، والآخر الشرح المنسوب خطأ لأبي العلاء المعري الذي أثبتنا في دراستنا لثبت شروح الحماسة أن لا صلة لأبي

العلاء به، وأن صاحبه أحد علماء القرن السادس الهجري الذين تلقوا العلم على أبي منصور موهوب الجواليقي المتوفى سنة 539 هـ. ولما كنا قد خصصنا الكتاب الثاني من هذا البحث لتحقيق الشرح المرجح نسبته إلى زيد بن علي ودراسته رأينا أن يقوم تطبيق هذا المنهج على الشرح المنسوب لأبي العلاء حتى لا نقع في تكرار مخل أو يكون في العمل ازدواجية يجب تلافيها. ولعل أول شيء تجدر الإشارة إليه في هذا الشرح المنسوب لأبي العلاء هو مصادره، فقد أثبتت دراستنا له أن صاحبه قد أفاد من شروح سبقته، أفاد من شروح أبي رياش وأبي عبد اله النمري، وأبي علي المرزوقي، ومن ابن جني في كتابيه التنبيه والمبهج، كما أفاد من أقوال العلماء الأوائل وبخاصة في مجال اللغة والنحو من أمثال أبي عبيدة معمر بن المثنى وعبد الملك الأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وهو في مجال اللغة والنحو كثيرًا ما ينقل عن ابن جني، كما نقل عن شيخه أبي منصور الجواليقي في موضع واحد فقط. ومن المدهش حقًا أن ينسب هذا الشرح لأبي العلاء في حين أن قراءتنا له قد أثبتت أن صاحبه لم يفد من أبي العلاء في شيء، ولا ذكره في ثنايا شرحه ولا كان من مصادره التي أفاد منها. ولقد لاحظنا في عمل هذا الشارح أنه كان ينقل من مصادر أخرى دون أن يدل على أصحابها، فبقراءتنا لما تحت يدنا من شروح تأكد لدينا أنه ينقل من شرح التبريزي، ولكنه لم يذكره في شرحه، بدلالة ما جاء في شرحه البيت الذي نسب في الحماسة للعباس بن مرداس، وقد جاءت روايته في متن هذا الشرح على النحو التالي: ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسٌد مزير فقال فيه: "من روى أسد يزير فليس بجيد لأن تشبيهه له بالأسد لا فائدة لذكر

الزئير معه، ولا يدوم على حالته هذه، ومن روى مرير بالراء غير المعجمة أي قوي القلب، وبالزاي الماضي الندب". فهذا القول مأخوذ بنصه من شرح التبريزي، والتبريزي نفسه أخذه من المرزوقي دون أن يشير إلى أخذه منه، ولولا اتفاق صاحب هذا الشرح والتبريزي في تفسير معنى مرير بالراء ومزير بالزاي بما فيه اختلاف عند المرزوقي لقلنا إنه نقل من المرزوقي مباشرة، لأنه ذكر المرزوقي في ثنايا شرحه وأفاد منه- كما أسلفنا. وليس التبريزي وحده هو الذي نقل عنه صاحب هذا الشرح دون أن يشير إليه فلقد رأيناه في مواضع متفرقة ينقل عن الشرح المرجح نسبته لزيد بن علي دون أن يشير إلى أنه قد أخذ عنه، ومن أمثلة ذلك ما جاء عنه في بيتي عبد الله بن الزبير الأسدي اللذين يقول فيهما: فإنك لو سمعت بكاء هنٍد ورملة إذ تصكان الخدودا سمعت بكاء باكيٍة وباٍك أبان الدهر واحدها الفقيدا فقد قال فيهما: قال هند ورملة ثم قال باكية وباك فجاء بأنثى وذكر، ثم قال: واحدها الفقيدا ولم يقل واحدهما. يقول: لو سمعت بكاء باكية أبان الدهر واحدها، أي هما تنوحان وتلطمان الخدود معًا لا يفترقان فيقدر أنهما باكية واحدة لاتصال أصواتهما، وعطف بقوله باك على هذا". فهذا الكلام تجده بنصه في الشرح المرجح نسبته إلى زيد بن علي مع حذف بعض الزوائد في الكلام. ومثله أيضًا ما جاء في قطعة النسيب التي صدرها أبو تمام بقوله: "وقال آخر" والتي جاء منها: أحقًا يا حمامة بطن فلٍج بهذا الوجد أنك تصدقينا أرار الله نقيك في السلامى على من بالحنين تشوقينا

فإني مثل ما تجدين وجدي ولكني أسر وتعلنينا وإني لو بكيت جرت دموعي وإنك تعولين وتكذبينا وبي مثل الذي بك غير أني أجل عن العقال وتعقلينا فقد قال صاحب هذا الشرح: "الأبيات ما خلا البيت الأول تدل على أنه خاطب ناقة، ولا يخلو أن يكون البيت الأول من القصيدة أو من غيرها، فإن كان من غيرها فقد غلط في وضعه هنا (يعني أبا تمام)، وإن كان منها فلا يخلو من أن يكون في ذكر الحمامة، ثم صرف الخطاب إلى الناقة لأن السلامي ما سمع في الطائر ولا العقال، أو يكون السلامي مجازًا، ويجوز أن يكون سمى ناقته حمامًة لسرعتها". وهذا أيضًا موجود بنصه في شرح زيد بن علي، وهذا ما يجعلنا نقول: إن ظاهرة النقل من الشروح دون الإشارة إلى أصحابها قد اتسعت منذ أواخر القرن الخامس عند الخطيب التبريزي الذي بينا أنه كثير النقل من غيره دون أن ينص على ذلك واستمرت بعد ذلك طوال القرون التي تلت القرن الخامس. على أن ما يهمنا من مصادر هذا الشرح سواء ما يدل عليها أو لم يدل عليها هو مدى إفادته من معلومات في هذه المصادر وعرضها وتوظيفها بما يتلاءم والمنهج الاختصاري التسهيلي الذي سلكه في شرحه، وهذا يدفعنا إلى أن ندرس عناصر الشرح في عمله حتى نتبين كيف تحقق تطبيق هذا المنهج فيه. أ- أسماء الشعراء والأعلام: أفاد صاحب هذا الشرح من كتاب المبهج لابن جني في تحقيق هذا العنصر، ولكنه كان ينقل معلوماته في هذا الخصوص بإيجاز بالغ واختصار شديد، ولقد رأينا ابن جني من خلال منهجه العلمي التخصصي يستطرد في أعماله الخاصة بأسماء شعراء الحماسة وأعلامها استطراد واضحًا، أما صاحب هذا الشرح فقد كان يأخذ منه ما يحقق شرح الاسم أو العلم دون مجاراة ابن جني في إسهابه واستطراداته،

فمثلًا في شرح اسم "الفند الزماني" نجده يقول: "الفند الشمراخ من الجبل، كان يقال له عديد الفوارس لشجاعته، واسمه شهل بن ربيعة بن زمان، جاهلي"، فهو بهذا يشرح في إيجاز لقب هذا الشاعر وصفته ويورد اسمه ونسبه وعصره. أما ابن جني فقد أسهب في شرح لقب هذا الشاعر، ذكر أنه اسمه شهل ابن شيبان ثم وضح أنه لقب بالفند لعظم خلقته تشبيهًا بفند الجبل وهو قطعة منه، وبين أن جمع الفند أفناد، ثم انتقل فشرح "زمان" وبين احتمالات اشتقاقه مستطردًا كعادته في الحديث عن الأعلام المختومة بألف ونون مما يجهل أصل نونه هل هي زائدة أو أصلية وهل الاسم على وزن فعلان بحكم زيادة نونه أو فعال بحكم أصليتها، ثم انتقل بعد ذلك إلى شهل فأطال في شرحه وبيان اشتقاقه. وفي اسم "أنيف بن زبان النبهاني" لم يقف صاحب هذا الشرح عند أنيف وإنما شرح زبان فقال: "زبان فعلان من الزبب وهو كثرة الشعر، ونبهان قبل يقظان". ولا شك أنه نظر إلى المبهج حين قال هذا الشرح، ففي المبهج نجد قول ابن جني "أنيف تحقير أنف، ويجوز أن يكون تحقير أنف من قوله: "أو روضة أنفًا"، ويجوز أن يكون تحقير أنف وزبان للعلمية، فعلان من الزبب، وليس بفعال من الزبن، ألا تراه غير مصروف، ونبهان من الانتباه أو النياهة، فإذا كان من الانتباه فهو كقولهم في التسمية يقظان". فأنت ترى أنه قد أفاد مما جاء في المبهج، ولكن في إيجاز واختصار واضحين يدلان على طريقته في معالجة هذا العصر وفق المنهج الذي رسمه لنفسه في عملية الشرح.

ب- أخبار الشعراء ومناسبات الشعر: وكذلك لا نراه يخرج عن سبيل منهجه في ذكر أخبار الشعراء ومناسبات الشعر، فهو يستعين في هذا العنصر بما أورده أبو تمام في مقدمات ما اختاره من قطع، وبالشروح التي سبقته وبخاصة شرح أبي رياش الذي سبق أن أوضحنا أنه أكثر الشراح عناية بهذا العنصر، غير أنه كان يعرض الأخبار والمناسبات لا كما يقرؤها في هذه الشروح، وإنما يعرضها وفق منهجه القائم على الاختصار والتسهيل، ففي باب الرثاء نراه ينقل لنا خبر القطعة التي مطلعها: خليلي هبا طالما قد رقدتما أجدكما لا تقضيان كراكما ولخص هذا الخبر في "أن رجلين من بني أسد قد خرجا إلى أصبهان فآخيا دهقانًا بها في موضع يقال له راوند ونادماه فمات أحدهما وغبر الآخر والدهقان ينادمان قبره، يشربان كأسين ويصبان على قبره كأسًا، ثم مات الدهقان فكان الأسدي الغابر ينوح على قبريهما ويترنم بهذا الشعر إلى حيث مات". وفي باب المديح نراه ينقل خبرًا عن أبي رياش يذكر فيه ما جرى بين ابن عنقاء الشاعر وعميلة الفزاري، حين رأى عملية سوء حال ابن عنقاء فأفاض عليه بما يكفل له هناء العيش ورغده، فتحركت نفس ابن عنقاء لمدح عميلة فقال فيه ما رواه أبو تمام من شعر في هذا الباب. وحين وازنا بين ما أورده التبريزي عن أبي رياش في خبر هذه القطعة وما نقله هذا الشارح وجدنا فرقًا في النقلين، فالتبريزي يروي الخبر كما وجده في شرح أبي رياش، في حين أن صاحب هذا الشرح يرويه في اختصار لا يخل بالغرض الذي من أجله روى الخبر وهو بيان الباعث الذي حرك ابن عنقاء لمدح عملية، وما جاء في الأبيات من معان مرتبط بالخبر ودال عليه، بل إن معاني القطعة لا تتضح إلا بإيراد

الخبر، وهذا يدل على أن أصحاب هذا المنهج لا يعرضون من الأخبار والقصص إلا ما يعين على فهم النصوص، يؤكد ذلك أننا وجدنا التبريزي يورد كثيرًا من أخبار الشعر ومناسباته نقلًا عن أبي رياش وهي أخبار لا نجدها في هذا الشرح بالرغم من أن صاحبه قد اعتمد أبا رياش مصدرًا من مصادره ورأى شرح التبريزي، كما أسلفنا. جـ/ بحور الشعر وأضربه وقوافيه: لم يهتم صاحب هذا الشعر بهذا العنصر اهتمامًا تامًا، إذ رأيناه في بداية عمله في الباب الأول من الاختيار، وهو الحماسة، يوضح في جملة من قطع هذا الباب بحر الشعر فقط دون أن يذكر نوع الضرب أو نوع القافية فهو مثلًا نراه يقول في صدر القطعة: "وقال أبو الغول الطهوي من الوافر" أو: "وقال الفرار السلمي من الكامل" أو "وقال محمد بن عبد الله الأزدي من الطويل وهو مخروم"، ولكنه لم يلتزم بهذا في جميع قطع الاختيار بأبوابه العشرة، وإنما ظل يذكر بحر كل قطعة حتى بداية الثلث الثالث من باب الحماسة تقريبًا، ثم عدل عن ذلك، فلم يعد يحدد البحر في القطع الأخيرة من باب الحماسة أو الأبواب التي تلته، وليس من تعليل في هذا المسلك لأنه إن لم يكن قد رأى شرح أبي العلاء المعري ذي الاهتمام بأوزان الشعر وأضربه وقوافيه فإنه على الأقل رأى شرح التبريزي وأفاد منه، كما رأى شرح زيد بن علي ونقل منه، وكلا الشرحين قد عني بهذا الجانب لاسيما التبريزي الذي أوضح بحور الشعر في هذا الاختيار عدا اثنتين وستين قطعة. فكان ينبغي عليه أن يفيد منهما في خدمة هذا العنصر، ولا ينبغي أن نعزو هذا إلى ناسخ الشرح لأن الناسخ إذا غفل عن ذكر البحر في بعض القطع فإن هذه الغفلة لن تقع منه في جميع الأبواب التسعة التالية للحماسة، ولو كان صاحب هذا الشرح من المتقدمين لعزونا

ذلك إلى أن تحديد بحور الشعر وأضربه وقوافيه لم يكن في نظر المتقدمين من الشراح من العناصر اللازمة في عملية شرح الشعر على النحو الذي فصلنا الحديث فيه عند دراستنا لشرح المرزوقي. و- الرواية: وجدت الرواية شيئًا من الاهتمام في هذا الشرح غير أن صاحبه كان يعالجها في اختصار واضح، فهو في أغلب الأحيان يشير إلى اختلاف الرواية دون شرح أو مفاضلة، وفي بعض الأحيان كان يتولى شرح الرواية التي يشير إليها في أثناء عملية الشرح، فمثًلا في بيت المرار بن سعيد الفقعسي جاءت روايته له على النحو التالي: إذا شئت يومًا أن تسود عشيرًة فبالحلم سد لا بالتنزع والشتم وهي رواية مخالفة لرواية سائر الشراح الذين وقفنا على شروحهم حيث رووا "لا بالتسرع والشتم" ولقد أشار إليها صاحب هذا الشرح قال: "ويروي بالتسرع" ثم لم يكتف بذلك بل مضى شارحًا فقال: وهما أي التنزع والتسرع بمعنى واحد يقال: رجل نزع أي عجول وتنزع إذا تعجل". وربما خالف مسلكه قليلًا في الاختصار حيث كان يطيل في شرح بعض الروايات فقد قال في بيت أرطاة بن سهية الذي رواه هكذا: كفى بيننا ألا ترد تحيٌة على جانٍب ولا يشمت عاطس "من روى يسمت بالسين فذلك لأن العاطس إذا عطس انتفض فيدعي له بإعادته إلى سمته، ومن رواه بالشين المعجمة فهو من الشوامت أي القوائم، وبها عصمة صاحبها فكأنه دعا له بأن ينهضه الله". وفعل مثل هذه الإطالة في الشرح في بيت عبد الشارق بن عبد العزى، وقد رواه على هذا النحو:

ردينة لو شهدت غداة جئنا على أضماتنا وقد اختوينا فقد شرح الرواية التي أثبتها في منته ثم ذكر روايتين أخريين وشرحهما، قال: "من رواه بالخاء المعجمة من فوق فهو من الخوى وهو الجوع، أي توحشنا من الطعام لأجل الحرب، وقيل: هو من أخويته إذا أذهبت قلبه، ومن رواه بالحاء غير المعجمة فالمعنى أنه يريد ملأنا أيدينا من الغنائم، ومن رواه بالجيم فالمعنى قد دويت قلوبنا واحترقت أكبادنا من الغيظ، وهو من الجوى يريد العداوة". ولقد لاحظنا في عمله الخاص بالرواية أنه لم يفاضل بين الروايات أو ينتقد ما يورده منها إلا في موضعين فقط أحدهما الموضع الذي أشرنا إليه من قبل حين انتقد رواية "يزير" في بيت العباس بن مرداس: ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسٌد مزير ونقل عن التبريزي ما نقله عن المرزوقي في أن "من روى أسد يزير فليس بجيد لأن تشبيهه له بالأسد لا فائدة لذكر الزئير معه، ولا يدوم على حالته هذه"، والآخر جاء عنه في بيت عمرو بن معدي كرب الذي يقول فيه: ما إن جزعت ولا هلعت ولا يرد بكاي زندا فقد قال فيه: "العرب تضرب المثل بالزند في القلة كما تضرب بالنقير والفتيل والقطمير، ثم أشار إلى رواية أخرى للبيت فقال: "ويروي زيدًا يعني أخاه" ثم عقب عليها فقال: وهذه الرواية غير صحيحة لأنه فتش عن نسب عمرو فلم يوجد له أخ يسمى زيدًا". هـ- شرح الألفاظ والتراكيب: حاول صاحب هذا الشرح أن يستفيد من اللغة والنحو في تحقيق هذا العنصر الذي يعد أهم العناصر في عملية الشرح إذ لا يتضح معنى النص إلا به، غير أن

إفادته من اللغة والنحو جاءت وفق منهجه، فهو يشرح الألفاظ والتراكيب إن رأى أن ظاهر النص يقتضي ذلك، فإن كان النص لا يشتمل على الغريب الذي يحتاج إلى شرح أتى بالمعنى مباشرة، وربما رأى أن في شرح الألفاظ ما يدل على المعنى فيشرح الألفاظ فقط دون أن يأتي بالمعنى. على أنه إن كان في غلبة شرحه يحقق ما ذكرنا فإنه أحيانًا كان يركز على جانب لغوي يعرضه ويكتفي به في عملية الشرح، وأحيانًا أخرى يركز على لفظة نحوية يعرضها ثم لا يذكر بعدها شيئًا في النص، فمثلًا في بيت حرقة بنت النعمان القائل: فأٍف لدنيا لا يدوم نعيمها تقلب تاراٍت بنا وتصرف نراه يقف عند لفظة "أف" فقط فينقل عن ابن جني قول أبي علي الفارسي: "إن في أف سبع لغات أُفِّ وأَفَّ وأَفَّ وأُفُّ، وأُفَّاِّ وأُفٌّ وأُفٍّ وأِفى ممال، وزاد غيره أُفْ خفيفة، وهذه اللفظة أحد الأسماء التي سمي بها الفعل في الخبر وهي اسم لتضجرت، فهي مبنية من حيث بنيت الأسماء فمن ضم أتبع الضم الضم، ومن فتح فللخفة لأن التضعيف ثقيٍل، ومن كسر فعلى أصل حركة التقاء الساكنين، ون نون أراد التنكير أي تضجرًا، ومن لم ينون نوى التعريف أي التضجر، ومن خفف فلأنه هرب من ثقل التكرير". ونحن لا ننكر أن مثل هذا العمل الذي كان يقوم به ابن جني في التنبيه عمل له قيمته في مجال المنهج العلمي التخصصي، أما إدخاله في عمل يقوم على المنهج الاختصاري التسهيلي فيعد اضطرابًا في الالتزام بالمنهج وحللًا في ضبط المقومات التي قام عليها، ولكن يبدو أن الشراح على مختلف مناهجهم كانت تتجاذبهم أهواؤهم أثناء عملية الشرح، فالأهواء هي التي تخرجهم من حدود مناهجهم التي ارتضوها لأنفسهم، ومنهم هذا الشارح الذي كان يدفعه هواه إلى الانسياق وراء ابن جني في نقل أمور عنه لا تتفق مع منهجه، غير أن ذلك لم يرد عنه كثيرًا بحيث يجعل المنهج مختلًا اختلالًا ظاهرًا وإنما وقوعه كان في ندرة لا تحيل منهجه إلى منهج ابن جني.

وهو إذا كان ينزع إلى الانسياق وراء ابن جني في بعض مسائل اللغة فقد كان يفعل ذلك في مسائلا لنحو، ومن أمثلة ذلك عمله في بيت عصام بن عبيد الزماني الذي جاء في باب الرثاء، والذي يقول فيه: لو عد قبٌر كنت أكرمهم ميتًا وأبعدهم من منزل الذام فقد قال فيه: "لم يرد لو عد قبران، وإنما أراد لو عدت القبور قبرًا قبرًا" وكان منهجه يقتضي أن يكتفي بهذا القول في شرح هذا التركيب ولكنه انساق بهواه مع ابن جني فنقل عنه ما يعد استطرادًا في المنهج قال: "ولو قال لو عد قبر قبر لم يجز الرفع كما جاز الأول، وذلك أن هذا من مواضع العطف، فحذف حرفه بضرب من الاتساع، وهذا الاتساع خاصة إنما جاء في الحال نحو فصلت الحساب بابًا بابًا، ودخلوا رجلًا رجلًا أي متتابعين فلو رددت على البدل لم يجز، وعلى هذا قالوا: هو جاري بيت بيت ولقيته كفة كفة، فاتسعوا بالبناء مع الحال، ونحوها في ذلك الظرف نحو قولك كان يأتينا يوم يوم، وليلة ليلة، وأزمان أزمان، وصباح مساء، فإن خرجت به عن الظرفية لم يجز البناء، ألا تراك تقول: هو يأتينا كل صباح ومساء وفي ليلة ليلة فتعرب البتة". فهذا الاستطراد في شرح مسائل اللغة والنحو خلل في المنهج، ولولا أن غلبة عمله المطلقة جاءت وفق منهجه، وأن انسياقه مع ابن جني في الاستطرادات اللغوية والنحوية كان ضئيلًا لا يقاس بهذه الغلبة لما قام تطبيقنا لهذا المنهج في هذا الشرح. ونحن إذا نظرنا إلى هذا الشرح بعيدًا عن هوى صاحبه نحو ابن جني وجدنا أنه يستفيد من علماء اللغة في خدمة شرح الألفاظ والتراكيب، ولكنها استفادة محكومة بضوابط منهجه الذي اتبعه فمثلًا في بيت الحصين بن الحمام الذي يقول فيه: من الصبح حتى تغرب الشمس لا ترى من القوم إلا خارجيًا مسوما

نراه ينقل في إيجاز آراء ثلاثة علماء في شرح لفظة "خارجيًا" قال: "قال الأصمعي كل ما فاق في جنسه فهو خارجي، وقال أبو عمرو الشيباني: الخارجي من الخيل والرجال: المنكر، وقال أبو زيد: إذا لم يكن للرجل في أهل بيته شرف ولم يثبت أحد منهم ثم ثبت واحد منهم فهو خارجي، ثم عقب على ذلك بقوله: "ومن روى من الخيل فالمراد بالخارجي المنكر على ما قال أبو عمرو الشيباني، وكذلك من روى من القوم وأراد من خيل القوم لكان صحيحًا". فإذا تجاوزنا ما كان ينقله عن العلماء في مجال اللغة ونظرنا إلى غلبة عمله في المجال ذاته من خلال منهجه وجدنا انه كان يهتم بتفسير الألفاظ التي يرى أنها من الغريب ثم يورد المعنى. هذا في اللغة أما في النحو فإنه كان يتناول النحو من حيث إيضاح المعنى أنه باستثناء المواضع القليلة التي تابع فيها ابن جني، كان يركز على مناقشة المسائل النحوية التي تتصل بالمعاني، والتي تعين على إيضاح المعاني وإبرازها. فمن أمثلة شرحه للغريب من الألفاظ ثم إيراده المعنى ما جاء عنه في بيتي إياس ابن فبيصة الطائي وهما: ومبثوثٍة بث الدبا مسبطرٍة رددت على بطائها من سراعها وأقدمت والخطى يخطر بيننا لأعلم من جبانها من شجاعها فقد بدأ عمله فيهما بشرح الألفاظ قال: "الدبا صغار الجراد، والمسبطرة الممدودة على الأرض، والبطاء جمع بطيء، ووحد الخطي لأنه أراد به الجيش" ثم بين غرض الشاعر من قوله فقال: "يصف شجاعته ليعلم أنه غير جبان" ثم عرض المعنى فقال: "يقول: رب خيل متفرقة على وجه الأرض رددت أولها على آخرها، أي إنه كان مدبرًا لها وقيمًا عليها". ومثله ما جاء عنه في بيت مساور بن هند الذي هجا فيه بني أسد وهو:

زعمتم أن أخوتكم قريٌش لهم ألٌف وليس لكم ألاف قد رأى أن اللفظة الوحيدة التي تحتاج إلى شرح هي الآلاف، ولذلك فسرها بقوله: "الآلاف كتاب أمان يكتبه الملك للقوم ليأمنوا في أرضه وهو هاهنا الائتلاف" ثم عرض المعنى فقال: "زعمتم أنكم مثل قريش، وكيف تكونون مثلهم ولهم تجارة بالشام واليمن وليس لكم ذلك". وأن رأى أن النص لا يحتاج إلى شرح للألفاظ عرض المعنى بدءًا وذلك مثل عمله في بيت عبد الله بن عنمة الضبي الذي يقول فيه: لا تجعلونا إلى مولًى يحل بنا عقد الحزام إذا ما لبده مالا فقد عرض المعنى فيه بقوله: "أي لا تجعلونا مسندين إلى ابن عم يسلمنا عند الشدائد وإذا رأى منا ضعفًا اجتهد في أن يزيده، كأنه لما قال مال اللبد عن الفرس دل على استرخاء الحزام، وذلك مؤد إلى اضطراب الفارس". ونراه في مواضع أخرى يورد شرح الألفاظ دون إيراد المعنى كأنه رأى أن في شرح الألفاظ ما يدل على المعنى ويغني عنه. ومن ذلك شرحه لبيت مسكين الدرامي الذي يقول فيه: وفتيان صدٍق لست مطلع بعضهم على سر بعٍض غير أني جماعها فقد اكتفى بتوضيح مرجع الضمير في جماعها وبشرح لفظة الجماع قال: "والضمير في جماعها يرجع إلى الفتيان، ويجوز أن يرجع إلى ما دل عليه الكلام من ذكر الأسرار، والجماع اسم لما يجمع الشيء، كما أن النظام اسم لما ينظم به الشيء، وقيل الجماع الذي تجمع فيه الأسرار". وإذا كان قد رأيناه في غلبة عمله اللغوي لا يخرج عن منهجه فإنه كذلك في عمله النحوي، فهو ينظر إلى النحو وسيلة يوضح بها المعنى، ولا ينظر إليه مجالًا

يستعرض فيه ثقافته النحوية أو إظهار مقدرته على الإلمام بالقضايا النحوية وما فيها من اختلاف مذهبي على نحو ما نجد عند بعض الشراح وبخاصة ابن جني في منهجه العلمي التخصصي أو التبريزي في منهجه الانتخابي، إنما حسبه من النحو أن يعين على فهم معنى النص، ففي بيت دريد بن الصمة الوارد في باب الرثاء والذي يقول فيه: قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا فما ينقضي إلا ونحن على شطر نراه يقف عند نصب "شطرين" فيقول هو منصوب على المصدر كأنه قال: قسمنا الدهر قسمين، ويجوز أن يكون حالًا على معنى قسمناه مختلفًا فوقع الاسم موقع الصفة لما تضمن معناه كقولك: طرحت متاعي بعضه على بعض كأنك قلت متفرقًا". فلا شك أن مثل هذا العمل يعين على فهم المعنى الذي أورده بعد هذا فقال: "يريد جعلنا أوقات الدهر بيننا وبين أعدائنا مقسومة قسمين، فلا ينقضي شيء منها إلا ونحن على أحد الحدين إما علينا وإما لنا". ومثل ذلك أيضًا ما جاء عنه في بيت القتال الكلابي وهو: فلما رأيت أنني قد قتلته ندمت عليه أي ساعة مندم فقد وقف عند "أي" وبين أوجه الإعراب فيها بما يدل على المعنى ويوضحه قال: "أي رفع ونصب فمن نصب فعلى أنه وصف ظرف محذوف كأنه قال: ندمت عليه ساعة أي ساعة مندم، ومن رفع ذهب إلى مذهب الاستفهام المتعجب كأنه لما تم الكلام بقوله ندمت عليه متعجبًا: أي ساعة مندم، هذه التي ندمت فيها أي ليس هذا وقت الندم لأنه وقت حمية، فالرفع على استئناف جملة على جملة". وجملة القول فيء هذا العنصر أنه عني بشرح الألفاظ والتراكيب من خلال معالجته اللغوية والنحوية وفق منهجه إلا في الأحيان القليلة التي كان يتأثر فيها بابن جني فينقل عنه ما يخرجه عن حدود منهجه الذي سلكه.

و- المعنى: رأينا من خلال العنصر السابق أن صاحب هذا الشرح كان يعالج معاني الشعر وفق مسار متصل باللغة والنحو، فهو يعالج الألفاظ لغويًا ثم يورد المعنى، وقد يطرح مسألة إعرابية يستعين بها على إيضاح المعنى، وهو حين يعرض المعاني يعرضها بعبارات سهلة غايتها أداء الغرض في غير تنميق للأسلوب أو تخير للألفاظ، فهو في أسلوبه مختلف عن أصحاب المنهج الإبداعي الذين رأيناهم في تطبيق المرزوقي يتخيرون الألفاظ ويجودون سبكها في قالب أدبي رفيع، ومختلف كذلك عن أصحاب المنهج العلمي التخصصي الذين رأيناهم في تطبيق ابن جني يعمدون إلى العبارات التي تدل على أسلوب علمي بحت، إنه حين يعرض المعنى يعرضه مجردًا دون اللجوء إلى عبارات إيحائية مؤثرة، فأسلوبه في عرض المعنى لا هو بالأدبي الذي يمتع قارئه ويؤثر في وجدانه، ولا هو بالعلمي الذي يثير الذهن ويمتع العقل، إنه أسلوب أشبه بنثر البيت لا أكثر ولا أقل، ففي بيت عمرو بن معدي كرب الذي يقول فيه: ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت نراه يعرض معناه فيقول: "لو أن قومي ثبتوا في الحرب وصفتهم في الشعر وذكرت مفاخرهم، ولكنهم انهزموا وطرحوا الرماح التي حقها أن يطعن بها، فكأن الرماح شقت لساني فلم أقدر على ذكرهم". وفي بيت جابر بن رالان السنبسي الذي يقول فيه: فإن تبغضونا بغضًة في صدوركم فإنا جدعنا منكم وشرينا نجده يعرض المعنى بإيجاز بالغ حيث يقول: "المعنى إن تبغوضونا فحق لكم ذلك لأنا قهرناكم وذللناكم وبالغنا في الإساءة إليكم".

وهو بجانب عرضه للمعنى في أسلوب سهل مباشر كان يهتم بعرض المعنى في أكثر من وجه، وذلك وفق ما وقف عليه في شروح السابقين من معان، ففي بيت عبدة بن الطبيب الذي يرثي فيه قيس بن عاصم وهو: عليك سلام الله قيس بن عاصٍم ورحمته ما شاء أن يترحما نراه يعرض له وجهين في المعنى أحدهما صوره بقوله: "أي عليك سلامه ورحمته أبدًا لأن الله تعالى أبدًا يشاء الرحمة" والآخر صوره بقوله: "وقيل المعنى سلام الله ورحمته كثيرًا كقولك أصابنا ما شاء الله من الغيث، ورأينا من الخير ما شاء الله". وفي بيتي جران العود اللذين يقول فيهما: يوم ارتحلت برحلي قبل برذعتي والعقل متلٌة والقلب مشغول ثم انصرفت إلى نضوي لأبعثه أثر الحمول الغوادي وهو معقول نجده يصور معناهما فيقول: "هذا يصف اهتمامه بالفراق وتحيره حتى لا يدري كيف وجه الشيء فيأتيه من قبله، ألا تراه جعل الرحل قبل البرذعة ثم انصرافه إلى بعيره ليبعثه وهو معقول". ثم نقل رأيًا لأبي عبد الله النمري يتصل بالمعنى قال: قال النمري: "كذا روى أبو تمام هذين البيتين- والصواب عندي أن الأخير أول والأول أخير، وإلا كيف يرتحل عنه وهو ينصرف إليه" ثم أضاف: وغير النمري يقول هذا كله لدهشته لأنه قدم ما يؤخر وأخر ما يقدم". وكان حق الشارح أن يعقب هنا على الخطأ الذي وقع فيه النمري في تفسير ارتحلت، وقد نبه إلى هذا الخطأ أبو محمد الأعرابي حيث أفاد بأن البيتين على ما روى أبو تمام صحيحان، وإنما جاء هذا الوهم لأبي عبد الله النمري من حيث أنه فهم من قوله "ارتحلت" معنى الرحيل، ولم يقصد الشاعر إلى ذلك وإنما قصد "ارتحلت"

بمعنى وضعت الرحل قبل البرذعة التي حقها أن تكون أولًا ثم يوضع الرحل عليها". والحق أن دراستنا لهذا الشرح أثبتت أن صاحبه لم يغفل عن التنبيه على خطأ ما يورده من معاني الآخرين فحسب بل أثبتت أنه كان يخطئ في تفسير معاني النصوص فيورد في بعضها معاني بعيدة كل البعد عن المعنى الذي رمى إليه الشاعر، وهذا أهم مأخذ رأينا منه في عنصر المعاني. ولقد حاولنا أن نرصد أوهامه في هذا الخصوص فوجدناها ترجع إلى أمرين أحدهما عدم محاولته الوقوف على البواعث التي دفعت الشعراء إلى قول الشعر، والتي تؤدي معرفتها إلى إدراك مقاصد الشعراء ومراميهم من الكلام، والآخر وهمه في تصور المعنى المراد من النص نتيجة لقصور في إدراك أساليب الشعراء ومجرى كلامهم، فمن أمثلة الأمر الأول ما جاء عنه في بيت معقل بن عامر الأسدي الذي يقول فيه: أنبئه بأن الجرح يشوي وأنك فوق عجلزٍة جموم وهو بيت من أبيات قالها معقل بن عامر حين مر بابن الحسحاس بن وهب الأعيوي يوم شعب جبلة فوجده صريعًا فحمله على فرسه وداواه وأداه إلى أهله، وقال هذا الشعر يصف هذه الواقعة بينهما، وبناء على معرفة هذا الخبر الذي يدل على الباعث لقول الشعر يأتي معنى البيت، وهو معنى واضح صوره المرزوقي ونقله عنه التبريزي قال: "يريد أن تبلغيك المأمن سهل وإن ما بك من الجرح هين" غير أن هذا الشارح لما فات عليه معرفة الخبر المؤدي إلى باعث الشعر أتى في تفسيره بمعنى نقله عن النمري وهو "هذا يربط به جأشه يقول: إن شئت كررت وإن شئت فررت أي أقدم فإن الجرح يخطئ المقتل وأنت أيضًا على فرس جواد فكر إن شئت وإن شئت فر". وهو كما نرى معنى لم يقصد إليه الشاعر ولا يدل عليه البيت،

ولهذا اعترض عليه أبو محمد الأعرابي في تتبعه لأبي عبد الله النمري، وقال مشيرًا إلى تنكبه عن المعنى المراد "هذا موضع المثل". أراد طريق العنصلين فياسرت به العيس في نائي الصوى متشائم ثم أورد المعنى على نحو ما فسره المرزوقي. ومن أمثلة الأمر الثاني ما جاء عنه في بيت تأبط شرًا الذي يقول فيه واصفًا نفسه: يبيت بمغنى الوحش حتى ألفنه ويصبح لا يحمي لها الدهر مرتعا فقد صور معناه بقوله: "أي لا يكون بالليل في الموضع الذي يبيت فيه الوحش، ولا يحمي أي لا يكف الأذى عن الوحش"، وهو تفسير يدل على أن صاحبه لم يقف على شعر الصعاليك من أمثال تأبط شرًا في حديثهم عن الوحش، كما أن ظاهر الألفاظ لا يدل على ما جاء به من معنى، فقد قلبه تمامًا، ومعناه كما صوره المرزوقي "إن مجامع الأنس تكرهته فلفظته، فألف القفار، ولزم مرابع الوحش ومساكنها حتى أنست به وسكنت إليه وعدته واحدًا منها، وصار هو أيضًا على تعاقب الزمان وتصرف الأحوال لا يحمي من أجلها مرعى". هذا الوهم الذي وقع فيه الشارح في هذا المثال وسابقه في تفسير معنى الشعر ما كان لنا أن نؤاخذه عليه لولا أنه دل بقلمه على أنه قرأ شرح المرزوقي، كما أنه كان ينقل عن التبريزي دون أن يشير إليه كما أوضحنا، وإذا كان قد وقف على الشرحين معًا فكان يلزمه ألا يقع فيما وقع من خطأ في التفسير لأن مصادره التي يرجع إليها تعصمه من ذلك.

ز- البلاغة والنقد: لم يهتم الشارح بهذا العنصر، ولا حظي منه بعناية تذكر، فهو في مجال النقد لم نر له سوى نقد الرواية الذي عرضنا له فيما سبق. أما في البلاغة فقد أهمل جل نواحيها في ميادينها الثلاثة البيان والمعاني والبديع، فالذي يقرأ شرحه لا يجد سوى وقفات ضئيلة تخص الاستعارة والمجاز، وعمله فيهما لا يدل على عناية تهدف إلى تبيان أثر هذين اللونين في جودة الشعر وحسنه، وإنما يأتي الحديث عنهما عرضًا في أثناء الشرح كأن الأمر ليس من مطلبه ولا غايته. ومن ذلك ما جاء عنه في بيت مسلم ابن الوليد الذي قاله في مالك بن علي على الخزاعي وهو: نفضت بك الاحلاس نفض إقامٍة واسترجعت نزاعها الأمصار قال: "الاحلاس جمع حلس وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير وذكره هاهنا استعارة". ولعل الموضع الوحيد الذي رأينا فيه عناية بهذا اللون البلاغي، هو ما جاء عنه في بيت الفرار السلمي القائل: وكتيبٍة لبستها بكتيبٍة حتى إذا التبست نفضت لها يدي قال: "أي تركت معاونتها، ولم أشغل يدي بها، فاستعار نفض اليد للإعراض عنها، يقال: نفضت اليد من فلان ولفلان أشد النفض إذا وكلته لنفسه"، ومع ذلك فهي عناية لا تبين موطن الجمال في التصوير الاستعاري بقدر ما هي عناية شرح للتركيب الذي نجمت عنه الاستعارة. هذه هي العناصر التي قام عليها عمل هذا الشارح، حاولنا أن نستعرضها من خلال نظرتنا إلى المنهج الاختصاري التسهيلي، ولقد رأينا في غلبة عمله يحقق مقومات هذا المنهج وصفاته، إلا في مواضع قليلة عبنا عليه فيها: نقله عن ابن جني ومجاراته إياه في الاستطراد اللغوي والنحوي، كما عبنا عليه عدم إفادته من المصادر

التي كانت تحت يده إفادة تعصمه من الخطأ في تفسير الشعر، هذا فضلًا عن أننا يمكن أن نأخذه عليه تركه الكثير من القطع دون شرح، ربما رأى أنها واضحة المعاني لا تحتاج منه إلى عمل، ولكن الوضوح شيء نسبي، فما تراه أنت واضحًا قد يراه غيرك ليس بواضح، والوضوح لدى الشارح ذي المنهج التسهيلي لا يعني الترك وبخاصة إذا علمنا أن أصحاب هذا المنهج يكتبون لفئة معنية من القراء، يحاولون إعانتها على فهم الشعر وإدراك معانيه بأسهل الطرق وأقربها، وسهولة الطرق وقرب مأخذها في شرح الشعر ليست مبررًا إلى ترك الواضح منه، وإلا تحول العمل من شرح للشعر إلى رواية فقط، والرواية جزء من عمل الشارح وليست كل عمله. وإذا كان قد برز في القرن الخامس والسادس رجلان اتجها في شرح الحماسة هذه الوجهة من الاختصار والتسهيل، فإن ثمة رجلًا ثالثًا قد اتجه أيضًا إلى هذه الوجهة هو أبو الحجاج الأعلم الشنتمري وذلك في شرحه المسمى "تجلي غرر المعاني" وهو من حيث الترتيب الزمني يلي زيد بن علي الفارسي في الاتجاه إلى هذا المنهج الاختصاري التسهيلي، غير أنه اتجه في رواية متن الحماسة وجهة تختلف عن سائر الشراح الذين وقفنا على شروحهم، إذ أن جميع الشراح قد حاولوا جهد طاقاتهم أن يلتزموا باختيار أبي تمام في الحماسة دون تبديل أو تعديل وأمرهم في رواية متن الحماسة- كما رأينا- يرجع إلى ما كان لديهم من نسخ للحماسة، ووفق هذه النسخ كانت اختلافاتهم في رواية الشعر. أما الأعلم الشنتمري فقد غير في الحماسة

تغييرًا غير قليل، وهو تغيير مس أبواب الحماسة، وقطع هذه الأبواب، وترتيبها، ورواية عدد الأبيات في القطعة الواحدة. الأمر الذي يمكن معه القول بأن الأعلم قد صنع حماسة غير حماسة أبي تمام. فمن حيث الأبواب وجدناه يفصل بين باب الأضياف والمديح، الذي جاء بابًا واحدًا في سائر الشروح، غير شرح المرزوقي الذي سبق أن أوضحنا أن نساخ شرحه هم الذين جعلوا هذا الباب بابين، وأتينا بالأدلة على ذلك. أما الأعلم فقد كان واضحًا أنه هو الذي فعل ذلك، لأنه كان يرتب القطع في داخل الأبواب بحسب القوافي، يبدأ بقافية الهمزة وينتهي بقافية الياء، ولذا جاءت القطعة الأولى في كل من البابين على قافية الهمزة أو الألف كما يسميها هو، هذا فضلًا عن أنه أضاف بابًا جديدًا سماه "باب الكبر" جاء في آخر الأبواب وروى فيه ست قطع، ومن ثم صارت الأبواب في شرحه اثني عشر بابًا لا عشرة كما جاء في حماسة أبي تمام. أما اختلاف القطع فواضح أن الأعلم قد حذف جملة من القطع التي رواها أبو تمام في كل باب من الأبواب، كما أضاف في هذه الأبواب قطعًا لم يخترها أبو تمام، لعله أخذها من كتب الاختيارات التي تلت اختيار أبي تمام، ومن أمثلة ذلك قطعة رواها في باب النسيب همزية القافية ونسبها إلى أبي زبيد الطائي مطلعها: إنما مت غير أني حٌي يوم بانت بودها أسماء وكذلك قطعة رواها في الباب ذاته جاءت على قافية الباء وهي: ألا لا أرى وادي المياه ينيب ولا النفس عن وادي المياه تطيب أحب هبوط الواديين وإنني لمشتهر بالواديين غريب

وجاء ترتيب القطع مختلفًا من حيث إن أبا تمام لم ينظر إلى القوافي في الترتيب أما الأعلم فقد رتب القطع بحسب القوافي بادئًا بالهمزة ومنتهيًا بالياء. ورأيناه أيضًا في بعض القطع التي أخذها من حماسة أبي تمام لا يكتفي بما اختاره أبو تمام ورواه، بل كان يضيف إليه ما يجده في كتب أخرى، ومن أمثلة ذلك قطعة الهذيل بن مشجعة البولاني التي وردت في باب المديح والتي مطلعها: إني وإن كان ابن عمي غائبًا لمقاذف من خلفه وورائه فقد بلغت في رواية الشروح التي وقفنا عليها ستة أبيات، أضاف إليها الأعلم ثلاثة أبيات أخرى هي: وإذا استراش حمدته ووفرته وإذا تصعلك كنت من قربائه وإذا أردت عتابه أنظرته ... حتى أعاتبه ببعض خلائه وإذا غدا يومًا ليركب مركبًا صعبًا قعدت له على سمسائه ومما لاشك فيه أن هذه الاختلافات التي عمد إليها الأعلم الشنتمري فيما صنعه من اختيار قد باعدت بين كتابه وحماسة أبي تمام، ولكن الذي يهمنا هنا هو طريقته في شرح الشعر سواء في القطع التي أخذها من حماسة أبي تمام أو القطع التي أضافها من عنده، وهو شرح _كما رأيناه_ يسير وفق المنهج الاختصاري التسهيلي، وهذا واضح من ظاهر قوله في خاتمة كتابه فقد قال بعد أن أوضح تاريخ بدء العمل فيه وتاريخ الفراغ منه: "وأرجو أن يكون معطًى حقه من التلخيص والتقريب وموفًى قسطه من التلخيص والتهذيب"، فشرحه إذن يقوم على تلخيص ما قرأه من شروح سابقة، وعلى تقريب مادة الشرح لقارئيه وتلخيصها وتهذيبها. والحق أن الذي يقرأ الشرح يحس بأن الأعلم قد توخي التسهيل في شرح الشعر بصورة لا تخفي فهو شرح يقوم في غلبته العظمى على تفسير الألفاظ في النص وإيراد

معناه، والأمثلة على ذلك يستطيع أن يعثر عليها القارئ من أول الكتاب إلى آخره، ففي بيتي قيس بن الخطيم اللذين وردا في أول قطعة في باب الأدب وهما: وما بعض الإقامة في ديار يهان بها الفتى إلا عناء وبعض خلائق الأقوام داء كداء البطن ليس له دواء نراه يعمد غلى شرح لفظة "العناء" ثم يورد المعنى. قال: "العناء المشقة أي من أقام على هوان فهو في مثل حال المسافر عناء ومشقة، فلا ينبغي أن يضام على ذلك، وقوله: "وبعض خلائق الأقوام داء" أي من جبل على خلق دنيء لم يصرف عنه بغلبة الطبع عليه، فمثله مثل المبطون لا دواء له". ونراه يشرح بيتي عبد الله بن الزبير الأسدي في باب الأدب فيوجز في ذلك غاية الإيجاز والبيتان هما: لا أحسب الشر جارًا لا يفارقني ولا أحز على ما فاتني الودجا وما نزلت من المكروه منزلةً إلا وثقت بأن ألقى لها فرجا فقد قال فيهما: "يقول: إذا نزل بي شر لم أيأس من الخير، وعلمت أنه سيفارق كالجار الذي لا يقيم، ومعنى أحز أقطع، أي لا أستهلك في تتبع ما فات من عرض الدنيا ولا أموت غمًا في أثره، فضرب حز الودج مثلًا". وهو بجانب ما رأيناه من خلال هذين النموذجين في توخيه سهولة العبارة في الشرح والميل إلى تسهيل المعنى وتقريبه للقارئ، كان لا يثير القضايا النحوية واللغوية في أثناء الشرح، وإنما غايته من ذلك لا تتجاوز غاية أصحاب هذا المنهج التي تتمثل في إيضاح معنى النص بأقرب وأسهل طريق، ولذا رأيناه عرض لمسألة تتصل بالإعراب يعرض لها من خلال إبراز المعنى لا غير، ومن ذلك ما جاء عنه في بيتي عروة بن الورد اللذين يقول فيهما:

قلت لقوم في الكنيف تروحوا عشية بتنا عند مأوان رزح تنالوا الغنى أو تبلغوا بنفوسكم إلى مستراح من حمام مبرح قال: "وجزم تناولوا على جواب قوله تروحوا". وكذلك إذا عرض للرواية عرض لها في إيجاز واضح، وذلك على نحو ما جاء عنه في بيت أبي الطمحان القيني، وقد جاءت روايته له على النحو: وقبل غد يا لهف نفسي على غد إذا راح أصحابي ولست برائح ثم أشار في الشرح إلى رواية أخرى قال: "ويروي "من غد" وهو أبين". وكذلك كان شأنه في جانب البلاغة إذا عرض للون من الألوان البلاغية في شرح الأبيات. ومن أمثلة ذلك ما جاء عنه في بيت النسيب الذي نسب إلى آخر وهو: وكنت إذا أرسلت طرفك رائدًا لقلبك يومًا أتعبتك المناظر قال فيه: "الرائد المتقدم في طلب المرعى، واستعارة لأول النظر أي إذا أبصرت إلى شيء يهواه قلبك أتعبك ما نظرت إليه بما حملك من العشق". وصفوة القول أن الأعلم بشرحه هذا الذي تصرف في رواية متنه با خالف فيه اختيار أبي تمام قد استطاع أن يحقق خطوة في المنهج الاختصاري التسهيلي بعد زيد ابن علي الفارسي، وهو في التزامه بهذا المنهج كان أكثر اهتمامًا بعنصر المعنى، وإذا عرض إلى عناصر الشرح الأخرى كان الإيجاز والتيسير سبيله، وربط ما يناقشه من عناصر بعنصر المعنى بحيث يمكن أن نقول إنه قد وظف العناصر الأخرى لخدمة عنصر المعنى، وهذا أحد مقومات هذا المنهج على نحو ما وضحنا فيما سبق.

وإذا كان الأعلم الشنتمري ومن قبله زيد بن علي الفارسي قد اتجها في شرح الحماسة إلى هذا المنهج الاختصاري التسهيلي وهما، كما رأينا، من علماء القرن الخامس الهجري فإن هناك عالمًا من علماء هذا القرن قد نحا في شرحه المنحي نفسه هو أبو الحسن البياري، يدل على ذلك مقدمته التي صدر بها الجزء الأول من شرحه الذي وصل إلينا، فقد قال فيه بأسلوب ركب فيه السجع: "أما بعد فقد أجمع الرواة على كتاب الحماسة أنه أمثل كتاب عمل في الأبيات، وقد قصر به عن من لا يفهمه أنه لم يقع فيه شرح شاف ولا فسر تفسير كاف، إلا تفسيرًا لم يسغ شرقًا ولم يفتح غلقًا، فسر من شأنه اللغة فإن أخذ عنها ضل وأضل، أو من فسر أبياتًا منه أشتاتًا هو فيها، كما قال جزء بن ضرار: قضيت أمورًا ثم غادرت بعدها بوائج في أكمامها لم تفتق أو من عني بالأيام فأخلد إليها واقتصر إلا فيما قل عليها، فعمدت احتسابًا إلى

إيضاح ما بلغه علمي من غريبة ومعانيه، وذكر نكت من النقد، وفقر من الأيام، وإيماء إلى بعض ما وقع من الكتاب في غير موضعه ليتوصل بها إلى تصور ما فيه باختصار من غير إكثار". فظاهر من هذه المقدمة أن الرجل قد حدد منهجه أنه سوف يشرح الحماسة مركزًا على جوانب معينة في اختصار وإيجاز، وهو يبدو كذلك من خلال ما قرأناه له في الجزء الأول من شرحه، ولولا أن شرحه لم يصل إلينا كاملًا لكان أولى بتطبيق هذا المنهج من الشرح المنسوب خطأ لأبي العلاء المعري، إذ أن جميع مقومات هذا المنهج وصفاته تكاد تكون متوفرة فيه سوى إسهاب طفيف بدا منه في مواضع قليلة عند معالجته لبعض أجزاء من أبيات الحماسة مثل وقفته في تركيب لو وجوابها في صورها المختلفة، وذلك في أول بيت من أبيات الحماسة وهو: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا على أن هذا الإسهاب الطفيف في بعض النواحي لا يخرجه عن حد المنهج الذي رسمناه، فهو من خلال ما جاء في الجزء الأول وما نقله عنه كل من أمين الدين الطبرسي وأبي الرضا الراوندي في شرحيهما المخطوطين يبدو ملتزمًا بجميع مقومات المنهج وصفاته، إذ أن أكثر جهوده في الشرح مقصورة على توضيح الألفاظ وإيراد المعاني في سهولة ويسر وإيجاز واختصار، ومن أمثلة ذلك ما جاء عنه في بيت جعفر ابن علبة الوارد في باب الحماسة وهو: هواي مع الركب اليمانين مصعد جنيب وجثماني بمكة موثق فقد بدأ بتوضيح علة وجود البيت في باب الحماسة، مع ما ينطوي عليه من نسيب فقال: "هذا موضعه باب النسيب، وإنما وضع ها هنا، لأن فيه معنى الفخر بالنجدة، يريد أنه رابط الجأش لا يهوله ما مني به من الحبس، وما يرقبه من القتل". ثم انتقل فوضح الدافع النفسي إلى قول هذا الشعر فقال: "رأى صاحبته

وهو محبوس بدم العقيلي زارته في نسوة فلما خرجت تبعتها نفسه وانتبه فقال هذا الشعر". ثم مضى يفسر الألفاظ التي اشتمل عليها البيت من خلال وضعها في السياق لا من خلال كونها مفردة مجردة، سالكًا في ذلك سبيل الاختصار والإيجاز قال: "الركب أصحاب الإبل الواحد راكب، مصعد أصعد في الجبل ذهب، جنيب ومجنوب أي لزم الركب لا يبرحهم كأنه مجنوب إليهم، وجثمان كل شيء جسمه، موثق قد أوثق بقيد أو قد". وهو هنا وفي مواضع كثيرة نراه لا يورد المعنى حيث يستغني عنه بما يفسر من ألفاظ ورأيناه في مواضع أخرى عديدة يكتفي بإيراد المعنى مستغنيًا به عن شرح الألفاظ وذلك عندما لا تشتمل الأبيات على الغريب، وذلك في مثل عمله في بيت يزيد بن الحكم الكلابي القائل: دفعناكم بالقول حتى بطرتم وبالراح حتى كان دفع الأصابع فقد أورد معناه دون حاجة إلى شرح ألفاظه قال: "يقول: نابذتمونا فلنا لكم، واستصلحناكم بالقول فأبيتم، فصرنا إلى دفعكم بالراح، يريد مسحناكم كما تمسح الدابة الشموس، ورفقنا بكم جهدنا ثم صرنا إلى معاناتكم إما بلكم وإما قتال بسلاح، وأضاف ذلك إلى الأصابع لأنها هي التي تضبط السلاح وتعلمه". على أن هذا الشرح فيما يبدو بجانب ركونه إلى المنهج الاختصاري التسهيلي قد أضاف فوائد جمة من خلال المصادر التي اطلع عليها وبخاصة شرحي أبي رياش وأبي الندى، وتبدو هذه الفوائد في توضيح بعض القطع التي وردت غفلًا في الحماسة لأصحابها، وفي جملة من اللمحات النقدية التي جاءت في مواضع من

شرحه في نقد أبيات الحماسة، وهي تدل على أنه كان له باع طيب في مجال نقد الشعر، ولعل هذا ما دفع الدكتور هاشم الشريف إلى القول بأن شرح البياري يعد من أفضل الشروح، وهو كذلك إذا نظرنا إليه بالنسبة للشروح التي تشترك معه في المنهج الاختصاري التسهيلي، أما بالنسبة للشروح ذات المناهج الأخرى فلا نظن الأمر كذلك، فشرح المرزوقي ذو المنهج الإبداعي الفني وشرح الطبرسي ذو المنهج الانتخابي يتفوقان عليه في كثير من النواحي، بالرغم من إفادة الثاني منه، وعدم إفادة الأول من شرحي أبي رياش وأبي الندى اللذين أفاد منهما البياري. تلك هي مناهج الشراح الذين وصلت إلينا شروحهم، وهذا هو عملنا في تطبيقها من خلال النظرة الموازنة بينما طرحوه من شرح للشعر في عناصره المختلفة، حاولنا فيه أن نعطي كل شارح حقه، ما له وما عليه، مراعين في ذلك غايات الشراح، والمؤثرات التي تسلطت عليهم أثناء عملية الشرح فأثرت في مسارهم الذي سلكوه في أعمالهم. بيد أن هذا إن كان قد تحقق لنا في شروح وصلت إلينا كاملة، ومثلت الفترة الزمنية التي حددناها لعملنا، فإن هناك شروحًا أخرى تدخل في مدار عملنا لم تصل إلينا كاملة، وإنما وصل بعضها مختصرًا أو في صورة نقولات في شروح أخرى أو وصلت غلينا ولكن في صورة عمل ينأى عن سائر المقومات والصفات التي حددناها لمناهج الشراح فيما سبق، ومن هنا كانت غير واضحة المعالم في مناهجها، وكان من المتعذر دراستها تحت المناهج الخمسة التي درسناها في القسم من البحث، وطبقنا عليها أعمال الشراح. ولهذا اقتضت طبيعة العمل فيها أن ندرسها وحدات قائمة لذاتها محاولين استنطاق ما جاء إلينا منها لمعرفة مسار أصحابها في عملية شرح الشعر.

هذا من جانب، ومن جانب آخر أن دراستنا لمناهج الشراح وتطبيقها، وكذلك دراستنا لهذه الشروح غير واضحة المنهج قد كشفت لنا في مجموعها عن ظواهر عامة في عملية شرح الشعر، فاقتضى عملنا ذو النظرة الموازنة في المناهج والتطبيق أن نعرض لهذه الظواهر بالدراسة وأن نكشف من خلال بحثنا فيها عما بدا لنا من آراء، وهي آراء لا تمس شرح الشعر في الحماسة فحسب بل تمس شرح الشعر القديم بعامة. ومن أجل هذا رأينا أن يقوم قسم ثالث من هذا البحث نعقده في فصلين: فصل نعالج فيه هذه الشروح التي نوهنا بها سالفًا، والتي هي غير واضحة المعالم في مناهجها، وتحتاج إلى دراسة جزئية لا كلية. وفصل نعالج فيه هذه الظواهر التي بدت لنا في أعمال الشراح ذوي المناهج الواضحة وغير الواضحة، وهذا ما نحاوله في القسم الثالث إن شاء الله.

القسم الثالث: شروح غير واضحة المنهج/ ظواهر عامة في أعمال الشراح

القسم الثالث 1 - شروح غير واضحة المنهج 2 - ظواهر عامة في أعمال الشراح

الفصل الأول: شروح غير واضحة المنهج

الفصل الأول: شروح غير واضحة المنهج 1) شرح أبي الفتوح ثابت الجرجاني: هذا الشرح وصل إلينا كاملًا كما بينا في ثبوت شروح الحماسة، غير أنه ليس واضحًا في منهجه، ويبدو أن صاحبه قد قصد به رواية متن الحماسة التي أخذها عن عبد السلام البصري أكثر من قصده إلى عمل شرح على الشعر، فقد جاء في مقدمته "قرأت هذا الكتاب ببغداد سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة على الشيخ أبي أحمد عبد السلام بن الحسين البصري، وقال لي: قرأته على أبي رياش أحمد بن هاشم بن شبل القيسي الربعي _رحمه الله_ بالبصرة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وقال: أنشدنا أبو المطرف الأنطاكي قال: أنشدنا أبو تمام حبيب بن أوس لبعض شعراء بلعنبر". وهي رواية لها قيمتها من حيث أن السند فيها بين أبي تمام صاحب الاختيار والجرجاني صاحب الكتاب لا يتجاوز ثلاثة رجال، كما أن الفترة الزمنية بين قراءة

عبد السلام البصري على أبي رياش وقراءة الجرجاني على عبد السلام لم تتعد الثلاثين عامًا. هذا فضلًا عما أشرنا إليه سابقًا من أن أبا رياش والحسن بن بشر الآمدي هما الوحيدان اللذان أخذا الحماسة مشافهة عن أبي المطرف الأنطاكي، وعن طريقهما وصل اختيار الحماسة إلى جل العلماء الشراح الذين عنوا بشرح الحماسة. ويتضح لنا من خاتمة الجرجاني في عمله أنه حمل ديوان الحماسة إلى الأندلس ضمن كتب قرأها على الشيوخ في بغداد، وقام بتصحيحها عليهم، وأن ديوان الحماسة ظل عنده فترة من الزمن حتى أعاد النظر فيه بعمل بعض التعليقات التي تتصل بشرح غريبة وبعض معانيه، وهذا واضح من قوله في هذه الخاتمة: "تكلفت بتصحيح هذا الكتاب وشرح غريبة ومعانيه بعد طول العهد به، وهو في الكتب التي قرأتها وصححتها، ولم آمن أن يقع فيه خلل فإن آفة العلم النسيان". والحق أنه لم يتكلف فيه شرح كل غريبة، ولا شرح كل ما فيه من معان، وإنما عمله _كما بدا لنا_ مجرد تعليقات في مواضع متفرقة من الاختيار، جلها في شرح مفردات بعض الأبيات لا كلها، ويمكن أن نوجز ملاحظات قراءتنا له في الآتي: أولا: إن الشرح لا يدل على أن صاحبه قد أفاد من شروح سبقته في الحماسة، وإنما كل ما ورد في هذا الشأن أنه نقل في موضوعين فقط سماعًا عن عبد السلام البصري ذكر فيه قولين لأبي رياش، أحدهما في شرح اسم الفند الزماني، والآخر في شرح لفظة "حظباي" الواردة في بيت الفند الذي يقول فيه: ولولا نبل عوض في حظباي وأوصالي أما في غير هذين الموضعين فنحن لا نجد عنده إفادة من شارح للحماسة أو من عالم من علماء اللغة والأدب الذين رأيناهم يترددون كثيرًا في أعمال من درسنا شروحهم في تطبيق المناهج الخمسة.

ثانيًا: أنه كثيرًا ما كان يكتفي برواية قطع الاختيار دون أدنى تعليق أو شرح، فهو مثلًا أورد ثلاث قطع متوالية في باب الحماسة دون أن يعقب عليها بكلمة واحدة. وفي باب النسيب أورد خمس قطع تباعًا دون تعليق، ووقع ذلك منه في باب الأضياف والمديح فقد أورد أربع قطع متوالية دون أن يعني بشرح شيء منها. هذا بجانب وجود قطع متفرقة في مختلف الأبواب، جاءت خالية من أدنى عمل، وهي كثيرة جدًا لا طائل لحصرها وتعدادها، ويكفي أن تنظر إلى باب مذمة النساء عنده لتجد أنه قد بلغ في روايته سبع عشرة قطعة اشتملت على ستة وستين بيتًا، كان حظها من تعليقاته اثني عشر سطرًا لا غير، غلبتها المطلقة في شرح المفردات، وهي خالية تمامًا من إيراد أي معنى من معانيها. ثالثًا: أن تعليقاته على الأبيات كانت موجزة غاية الإيجاز، واقتصرت _كما أشرنا_ على شرح الألفاظ فقط، والأمثلة على ذلك كثيرة يصعب حصرها، منها على سبيل المثال ما جاء عنه في قطعة عاتكة بنت عبد المطلب التي جاءت في باب الحماسة، والتي لم يشرح منها سوى بيت واحد هو: فيه السنور والقنا ... والكبش ملتمع قناعه فقد فسر ألفاظه في إيجاز شديد قال: "السنور السلاح، والكبش رئيس القوم، وملتمع أي لامع، وقناعه يعني البيضة". وكذلك قطعة سلمى الجعفي التي يرثي فيها أخاه، وهي من ستة أبيات لم يشرح منها سوى ثلاثة ألفاظ فقط، جاءت في البيت الذي يقول فيه سلمى: فتى كان يعطي السيف في الروع حقه إذا ثوب الداعي وتشقى به الجزر

قال: "الروع الفزع، وهو هنا الحرب، وثوب أشار بثوبه، والجزر جمع جزور". رابعًا: أن عناصر الشرح التي تجلت لنا بوضوح في شروح الشراح ذوي المناهج الخمسة تبدو في هذا الشرح غير واضحة، ولا يدل العمل فيها على أدنى عناية تذكر، فعنصر تحديد أوزان الشعر وأضربه وقوافيه لا وجود له، وكذلك شرح أسماء الشعراء والأعلام. أما أخبار الشعر ومناسباته فلم يقع إلا في ثلاثة مواضع فقط. وفي عنصر اللغة كان عمله _كما ذكرنا_ مقصورًا على شرح المفردات في إيجاز مبالغ فيه، وكذلك لم نجد في النحو سوى عمل واحد جاء في بيت دريد بن الصمة الذي يقول فيه: وعبد يغوث تحجل الطير حوله وعز المصاب حثو قبر إلى قبر قال: "يروى بنصب المصاب وبرفعه، فمن رفعه جعل المصاب فاعل عز وجعل حثو قبر إلى قبر بدلًا منه، ومن نصب عنى به الرجل الذي أصيب". ومثل النحو الرواية، فهي لا تطل علينا في ثنايا الشرح إلا نادرًا، والحديث فيها يقتصر على الإشارة إلى اختلافها فقط، مثل بيت سلمى بن ربيعة فقد رواه هكذا: درت بأرزاق العفاة مغالق بيدي من قمع العشار الجلة ثم أشار قائلًا: "ويروى دارت". أما عنصر المعاني فهو الآخر قليل جدًا لا يقاس بأي عمل من أعمال الشراح الآخرين الذين وصلتنا شروحهم. وقد أدى عدم العناية بالمعاني إلى إهمال عنصر البلاغة تمامًا. أما النقد فلم نجد له فيه سوى وقفة واحدة لا قيمة لها.

وبناء على ما ذكرنا نرى أن هذا الشرح لا يمكن تصنيفه تحت أي منهج من المناهج الخمسة التي عرضناها في القسم الماضي وطبقنا عليها شروح الشراح، فليس فيه عمل الإبداعيين ولا عمل المتخصصين، ولا هو ينظر في شروح سبقته، يجمعها وينتخب منها، ولا يعمد إلى أعمال السابقين يتتبع مواطن زللها فيصلحها ويقومها، ولا يعني بجميع العناصر ليعرضها مهذبة مشذبة في اختصار وتسهيل، وإنما هو بالتحديد كتاب ضم شعر الحماسة مصححًا على يدي صاحبه مرتين، مرة أثناء قراءته على عبد السلام البصري، ومرة أخرى حين فكر في مراجعته وعمل تعليقات عليه في غريبة ومعانيه، هذا كل ما يظفر به الدارس لهذا العمل الذي سمي شرحًا من باب التجوز. 2) شرح أبي رياش بن إبراهيم الشيباني: هذا الشرح من الشروح المفقودة _كما مر بنا من قبل_، غير أن نقولات كثيرة وصلتنا منه، فقد أفاد منه أبو عبد الله النمري في عمله "شرح معاني كتاب الحماسة" الذي وصل إلينا مختصر عنه، ونقل عنه زيد بن علي في مواضع مختلفة من شرحه. كما نقل عنه التبريزي نقولات كثيرة جلها في أخبار الشعراء ومناسبات الشعر، هذا فضلًا عن أن البغدادي في الخزانة كان يورد أخبارًا وأقوالًا ينسبها إليه، الظن أنه أفادها من شرح التبريزي وغيره من شروح الحماسة التي ذكر في مقدمته أنها تحت يده. ومن خلال وقوفنا على هذه النقولات يتبين لنا أن الرجل كان إخباريًا تاريخيًا من الطراز الأول، غذ أن هذه النقولات جاءت دالة على أن شرحه كان مصبوغًا بصبغة الأخبار أكثر من كونه شرحًا لنصوص الحماسة، ولهذا رأينا أبا العلاء المعري يبني

عليه شرحه المسمى "الرياشي المصطنعي" قصدًا غلى سد ما رآه من نقص فيه". على أن أبا رياش بجانب هذه الصفة الإخبارية التي غلبت على عمله في الحماسة والتي تجلت لنا بوضوح في نقولات التبريزي المسهبة عنه فإن بعض ما نقله النمري عنه، وكذلك التبريزي، قد دل على أنه أسهم في خدمة اختيار الحماسة من جوانب متعددة، ففي مختصر شرح النمري نجد له لمحات في عنصر اللغة وعنصر المعاني، وفي شرح التبريزي حمدنا له وقفات طيبة في شرح الأعلام الواردة في الحماسة وأسماء شعرائها. وكذلك في تحديد نسبة بعض القطع التي وردت غفلًا في رواية أبي تمام مصدرة بـ"وقال آخر" أو "وقال بعضهم"، وفي تصحيح ما وهم فيه أبو تمام من نسبة ... بعض الأشعار إلى غير قائليها. هذا بجانب إثرائه قطع الاختيار بما كان يضيفه إليها من شعر أسقطه أبو تمام في نقده واختياره. فإذا نظرنا إلى عمله في عنصر اللغة وجدنا النمري ينقل لنا بعض لمحات منه، وذلك مثل ما جاء عنه في بيت الحماسة القائل: إذا كنت لا أرمي وترمى كنانتي تصب جائحات النبل كشحي ومنكبي فقد فسر أبو رياش ألفاظ هذا البيت بقوله: "الكنانة للنبل كالجعبة للنشاب، والجائحات المجتاحات، والكشح أحد جانبي الوشاح، فسميت الخاصرة كشحًا لوقوعه عليها". ومثله ما نقله عنه التبريزي في شرح معنى "الأيهم" قال: "الأيهم الرجل الشجاع، والأيهمان السيل والجمل الهائج، ويقال أيضًا السيل والحريق، وكل هذه معان متقاربة، ومؤنثة (يهماء) وهي الأرض التي لا يهتدي لها، كما أن هذه لا يكاد يهتدي لها". أما عمله في عنصر المعاني فقد أفاد منه النمري في مواضع بدت في مختصر شرحه

ليست بالكثيرة، وانتخب التبريزي شذرات منه، وهو من خلال ما رأيناه يعرض المعنى في وضوح ويسر، وذلك مثل عمله في بيت جعفر بن علبة القائل: فقالوا لنا ثنتان لابد منهما صدور رماح أشرعت أو سلاسل فقد قال فيه: "يقول: إما أن تحاربوا فنشرع إليكم صدور الرماح وإما أن تستأسروا فنجعلكم في السلاسل كما يفعل بالأسرى"، فهذا عمل أشبه بنثر البيت، ومثله ما نقله التبريزي عنه في معنى بيت كبشة أخت عمرو بن معدي كرب الذي تقول فيه: ولا تردوا إلا فضول نسائكم إذا ارتملت أعقابهن من الدم فقد صور معناه بقوله: "تقول: إذا قبلتم الدية فلا تأنفوا بعدها من شيء كما تأنف العرب، واغشوا نساءكم وهن حيض، والفضول ها هنا بقايا الدم وسمي الغشيان وردا مجازًا". وربما قدم لا يراد معنى البيت بشرح بعض ألفاظه ودعم ما صوره من معنى ببعض الشواهد من الشعر، وذلك على نحو ما نقله النمري في بيت أبي الغول الطهوي القائل: ولا يرعون أكناف الهوينا إذا حلوا ولا أرض الهدون قال: "الهدون السكون، وأصله أن تجعل المرأة على ولدها شيئًا يثقله في المهد لينام، يقال هدنته أمه". ثم أورد تصويره معنى البيت فقال: "يقول: هؤلاء القوم من عزهم ومنعتهم وشدة جرأتهم لا يرعون النواحي التي أباحتها المسالمة ووطأتها المهادنة، ولكن يرعون النواحي المتحاماة والأرضين الممتنعة" ثم دعم ذلك يقول أبي النجم:

تبقلت من أول التبقل بين رماحي مالك ونهشل" على أن أهم إسهام قدمه أبو رياش في شرحه في خدمة اختيار الحماسة إنما يتضح فيما نقله التبريزي عنه من شرح للأعلام الواردة في الحماسة وتوضيح أسماء بعض شعرائها، وتصحيح نسبة الشعر فيها، وهي في مجملها جوانب لها قيمتها في خدمة اختيار الحماسة، وتدل دلالة واضحة على مدى علم أبي رياش بأنساب العرب وأشعارها وقائلي هذه الأشعار، إذ نراه في شرح الأعلام الواردة في الحماسة لا يكتفي بتوضيح العلم فحسب بل يورد نسبه وما يتصب به من خبر. ومن أمثلة ذلك ما نقله التبريزي عنه في شرح عامر وجناب الواردين في بيت هلال بن رزين القائل: وأيقنت القبائل من جناب وعامر أن سيمنعها نصير قال في عامر: "يعني عامر الأجدار وهم بطن عظيم من كلب، وإنما لقب بالأجدار لأنه ولد في أصل جدار، وهو أخو عامر بن صعصعة لأمه". ثم قال في جناب: "هو جناب بن هبل بن عبد الله بن كلب". وفي قطعة الرثاء التي نسبها أبو تمام لآخر والتي مطلعها هذا البيت: لو كان حوض حمار ما شربت به إلا بإذن حمار آخر الأبد نجد أبا رياش يشرح اسم حمار الوارد في البيت فيقول: "هو علقمة بن النعمان ابن قيس بن عمرو ثعلبة". أما في توضيح أسماء الشعراء الذين كان أبو تمام يختصر أسماءهم فقد رأينا لأبي رياش وقفات طيبة في هذا الخصوص، ففي قطعة النسيب التي صدرها أبو تمام بقوله: "وقال ابن الطثرية" وقف أبو رياش فوضح اسمه قال: "اسمه يزيد بن

المنتشر أحد بني عمرو بن سلمة بن غشير، والطثرية أمه من حي من قضاعة يقال لهم طثر". وصدر أبو تمام قطعة في الهجاء بقوله: "وقال عارق الطائي" فوضح أبو رياش اسمه قال: "اسم عارق قيس بن جروة وإنما سمي عارقًا بقوله: لئن لم تغير بعض ما قد صنعتم لأنتحين للعظم ذو أنا عارقه وترتفع قيمة عمل أبي رياش في الحماسة في تصحيح ما وهم فيه أبو تمام من نسبة بعض قطع الحماسة إلى غير قائليها، وقد صدر ذلك منه في مواضع منها إحدى منصفات العرب التي روى أبو تمام أبياتًا منها في باب الحماسة ونسبها إلى العديل بن الفرخ العجلي وهي القصيدة التي مطلها: ألا يا اسلمي ذات الدماليج والعقد وذات الثنايا الغر والفاحم الجعد صحح أبو رياش هذه النسبة فقال: "ليست هذه الأبيات للعديل وهي قصيدة طويلة لأبي الأخيل العجلي قالها في آخر أيام بني أمية" ثم دعم هذا التصحيح بخبر أورده جاء فيه أن أبا الأخيل "وفد على عمر بن هبيرة الفزاري فقيل: إن أبا الأخيل العجلي بالباب يستأذن فقال: إذن والله لا يأذن له غيري، فقام من مجلسه حتى أتاه على الباب فأخذه بيده وأقعده معه على بساط ثم قال: أنشدني منصفتك فأنشدها إياه فكساه وأعطاه ثلاثين ألفًا". وفي قطعة الرثاء التي نسبها أبو تمام إلى امرأة والتي أولها: ألا فاقصري من دمع عينيك لن تري أبًا مثله تنمي إليه المفاخر أوضح أبو رياش صحة نسبتها وخطأ أبي تمام قال: "الذي عندي أن هذه الأبيات لمحمد بن بشير أحد بني الخارجية، وهم من غزوان بن عمرو بن قيس

عيلان، يرثي بها أبا عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي". وهكذا نجد أن عمل أبي رياش في هذا الجانب كان مفيدًا لأنه يدخل في صميم توثيق الشعر، ولقد بلغت نقولات التبريزي عنه فيه نحو عشرة مواضع، ولا ندري إن كان هذا هو كل ما صححه أبو رياش من نسبة في شعر الحماسة أو أن هناك مواضع أخرى لم ينقلها التبريزي وغيره من الشراح الذين أفادوا من شرح أبي رياش. وفي إدراكنا أن أبا رياش من خلال عمله الذي وقفنا على بعض منه في نقولات الشراح المستفيدين من شرحه يبدو شارحًا يغلب على شرحه الجانب الإخباري التاريخي مع قليل عناية ببعض العناصر الأخرى التي عرضنا لها فيما تقدم، غير أنه يبقى شيء مهم هو أن عناصر أخرى خلا شرحه منها أو لم يصل إلينا شيء منه فيها، أهمها الرواية والنحو والبلاغة والنقد، وهي بلا شك عناصر لها دورها البارز في عملية شرح الشعر، هذا فضلًا عن أن النقولات التي وصلت إلينا عنه في عنصري اللغة والمعاني لا تبين لنا بجلاء مساره فيهما، ومن أجل هذا كله بدا منهجه في شرح الشعر غير واضح المعالم، ويغلب ظننا أنه كان _من خلال نقولات التبريزي العديدة في أخبار الشعر ومناسباته وما يتصل بها من أنساب وأشعار_ إخباريًا تاريخيًا، فهو أشبه بأبي عبيدة معمر بن المثني الذي ذكر الجاحظ أنه عطف عليه ليأخذ منه علم الشعر فوجده "لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار وتعلق بالأيام والأنساب". 3) شرح معاني كتاب الحماسة لأبي عبد الله النمري: سبق أن أوضحنا عند إيرادنا لثبت شروح الحماسة أن شرح النمري لا يزال

مفقودًا، وان ما وصلنا منه ما هو إلا مختصر عنوان "معاني أبيات الحماسة" كتبه لنفسه رجل يدعى أحمد بن بكر بن أحمد الحاكم وذلك في نحو سنة 426 هـ، وهو مختصر أن لم يحقق لنا كل ما جاء عن النمري من عمل بحيث يبدو منهجه واضحًا، فإنه على الأقل قد أفادنا في استيجاء المعالم التي سلكها في بعض عمله، هذا فضلًا عن أن الناسخ صاحب هذا المختصر قد صدر مختصره بالمقدمة التي أوردها النمري في صدر شرحة، إذ جاء فيها "قال أبو عبد الله الحسين بن على النمري- رحمة الله-: هذا شرح معاني كتاب الحماسة وذكر رواياته التي هي في الخط على صورة واحدة، على ائتلاف المعاني واختلافها وإيضاح الأمثل والأرذل والمتكافئ منها، وكان أبو رياش أحمد بن هاشم القيسي - رحمة الله- أملي علينا أكثر هذا الكتاب، وقرأته بعد عليه، وأنا ذاكر ما أفادنيه منه، وناسبه إليه، كما أنسب كلا إلى أهله، وكا ما لم أنسبه في هذا الكتاب فهو خاطر خطر لي لم أسمعه قبل، ونظرت في الكتاب المعروف بالعارض في الحماسة المنسوب إلى الديمرتي، وهو كتاب شرط فيه تفسير ما يعرف من لفظ ومعني فخبط خبط عشواء فيها متتبعًا ومبتدعًا، وقد ذكرت طرفًا من خطئه وصوابه فيما تعلق بما أوردته من المعاني، وليس الغرض الرد عليه فاستوعب خلله وأسال الله أن يرشد به ويرشد بنا وهو حسبنا ونعم الوكيل.

فواضح من هذه المقدمة أن النمري قد قصد من عمله في الحماسة جانبين أحمدهما المعاني والآخر الروايات وأنه في الجانبين معًا كان يسجل ما أفاده فيه شيخه أبو رياش وبنسبه إليه. كما يسجل ما أخذه من العلماء الآخرين وبنسبه إليهم، ثم هو بجانب هذا قد نظر قبل صنعته شرحه في كتاب القاسم الديمرتي، فهو يعرض له ذاكراً ما أخطأ فيه وما أصاب، لا في كل ما جاء عنه، وإنما فيما يعرض له أثناء عمله. ومن هنا فإن مصادر شرحه وفق ما جاء في مقدمته ووفق ما خرجنا به من قراءتنا لهذا المختصر تتمثل في أربعة: أولها شيخه أبو رياش الذي أخذ عنه رواية متن الحماسة، وثانيها: علماء اللغة والأدب السابقين أمثال الأصمعي وابن الأعرابي وعلى بن سليمان الأخفش وأبي زيد الأنصاري وابن السكيت، وقد نقل عن هؤلاء جميعًا في مواضع، ومصوبًا مستحسنًا في مواضع أخري، ورابعها مصادر أخرى لم يسمها وإنما كان يشير إليها بعبارات مبهمة مثل "أنشدنا أبو رياش" ثم يقول: "وروي غيره" أو "وروي قوم" ومثل "قال الأصمعي وغيره" أو قال ثعلب وغيره" أو "وروري الديمرتي وغيره". ولقد استطاع النمري أن يوظف في عمله إفادته من هذه المصادر توظيفًا جيدًا لا سيما في جانب الرواية واختلافتها، وجانب معاني الشعر وما يتصل به من شرح للغة، وهو إن كان ينقل ما أفادته فيه أبو رياش وبنسبه إليه، وكذلك بنسب كل ما ينقله بل كان بورد أراء السابقين ثم يبين رأيه فيه، وربما اختار غيره مما هداه إليه عقله وتفكيره. ومن أمثلة ذلك ما جاء عنه في بيت سلمي بن ربيعة الضبي القائل: ومناخ نازلة كفيت وفارس نهلت قناتي من مطاء وعلت فقد نقل أولًا رأيا لثعلب في البيت قال: "قال ثعلب وغيره: هذا خطأ لأن الفارس لا يقف له حتى قناته من ظهره وبعلها، ثم نقل قول شيخه أبي رياش

وهو "يريد أنه أرواها فكأنه سقاها نهلاً وعللاً بما يكون الري" ثم انتهى إلى الوجه الذي رآه فقال: "وعندي فيه وجه آخر، ألا ترى أنك إذا قلت: نهلت إبلي من بئر فلان بهذا كلام تام ثم تقول وعلّت، فجائز أن تكون علّت منها أو من غيرها، وكذا هذا الرجل نهلت قناته من ظهر الفارس، وعلّت من غيره، أي لم يكن بلائي مقصوراً على طعنة واحدة وهذا واضح". وكذلك ما جاء عنه في بيت ابن زيّابة القائل: إنك يا عمرو وترك الندى ... كالعبد اذ قيد أجماله فقد نقل عن ابن السكيت معنى له قال: "قال ابن السكيت: أنت كالعبد اقتصر على موضع يرعى به ولا يتعزب بابله" ولكنه لم يأخذ بهذا المعنى الذي عرضه ابن السكيت على ظاهر اللفظ، وانما أورد للبيت معنى آخر قال: "عندي أنه غير ممتنع أن قوله: "وترك الندى" معناه أنك وبخلك، فان من ترك الندى فقد أخذ البخل يقول: انك وبخلك وحبسك مالك كالعبد قّيد أجماله فلا يبرحه منها بعير وكذلك أنت قّيدت مالك فلا يبرحك". فهذان المثالان وغيرهما مما جاء في عمل النمري ينأيان به عن المنهج الالتزامي النقلي الذي رأيناه أن من أهم صفاته عرض آراء السابقين بلا أدنى تدخل وبلا مساس لجوهر القول أو الرأي ولم يكن النمري بهذه الصفة بل كان يعرض رأي غيره ثم يعرض رأيه المخالف له، صحيح أنه لم يكن يصرح باعتراضه على ما يعرضه من آراء السابقين، ولكن إيراده رأيه في ذيل ما يعرضه لهم يدل ضمناً على أنه يريد من قارئة أن يأخذ به. إن السمة الوحيدة في عمله التي تشبه سمات المنهج الالتزامي النقلي تتمثل في أنه كان ينسب الأقوال إلى أصحابها، وهي سمة تعد من أخص سمات هذا المنهج، على نحو ما نوَّهنا به من قبل حين عرضنا لمناهج شراح الشعر بالمناقشة والتوضيح.

وإذا كان النمري في جل عمله لا يتصف بمنهج الالتزامين النقليين فانه في تعرضه للقاسم الديمرتي لم يكن ذا منهج تتبعي تقويمي، لأن أصحاب المنهج التتبعي التقويمي - كما رأيناهم من خلال شرح منهجهم وتطبيقه - كانوا يبنون كتبهم في المقام الأول على تتبع كتب السابقين من خلال ما فيها من زلاّت وأخطاء يعرضونها ويبينون وجه الصواب فيها، يفعلون ذلك ضاربين صفحاً عن الصحيح الذي ضمته هذه الكتب فلا يذكرونه البتة. أما النمري فلم يقم كتابه على هذا الأساس، وإنما أقامه على شرح معاني شعر الحماسة وذكر رواياته. هذا من جهة ومن جهة أخرى انه لم يتبع الديمرتي في كل خطأ وقع فيه، وهذا ظاهر من قوله في مقدمته: "وليس الغرض الرد عليه فأستوعب خلله" هذا فضلاً عن أنه لم يقصر جهده على الأخطاء وحدها، على نحو ما رأينا في تطبيق هذا المنهج على أبي هلال العسكري وأبي محمد الأعرابي، وإنما كان يذكر مواضع الصواب أيضاً، ولا أدل على ذلك من هذا المثال الذي جاء في بيت الحماسة القائل: إذا كنت لا أرمي وترمى كنانتي ... تصب جائحات النبل كشحي ومنكي فقد أثبت النمري روايته على هذا النحو وهي رواية شيخة أبي رياش الذي نقلنا شرحه للبيت فيما سبق، ولكنه أشار إلى رواية أخرى للديمرتي فقال: "وفي كتاب الديمرتي "جانحات النبل" بالنون أي كاسرات الأجنحة" ثم عقب مستحسناً هذه الرواية مفضّلاً إياها على رواية شيخه التي أثبتها قال: "وهذه الرواية أحب إليّ، فانه قلّما يقال: رماه بسهم فاجتاحه، على تلك الرواية، ومعنى جانحات عندي ما جنح منها إليه أي مال". كذلك لا يبدو من عمل النمري أنه كان في منهجه تجميعياً انتخابياً على نحو ما رأينا عند التبريزي وإضرابه، ولا علمياً تخصصياً مثل ابن جني وغيره من ذوي المنهج العلمي التخصصي، كما أنه لا يبدو من شرحه أختصارياً تسهيلياً يسلك سبيل أصحاب المنهج الاختصاري التسهيلي الذين يعرضون عناصر الشرح في سهولة

ويسر، وإنما كان الرجل مثل شيخة أبي رياش. ولكن من جهة أخرى، فقد رأينا أبا رياش قد قصر جل جهده على أخبار الشعراء ومناسبات الشعر وما يتصل بها من أيام وأنساب. أما النمري فقد بين في مقدمته أنه يقصر جهده على معاني الشعر وعلى رواياته، بيد أن شرح معاني الشعر يقتضي شرح ألفاظ الشعر وتراكيبه، وهذان - أي الألفاظ والتراكيب - يقتضيان اللغة من جانب والنحو من جانب آخر، واللغة واضحة في عمله الذي دل عليه هذا المختصر، أما النحو فإننا لم نجد له فيه عملاً يذكر سوى إشارات طفيفة لا تدل على شيء. وكذلك الأمر بالنسبة لعنصري البلاغة والنقد إذ أن عمله في البلاغة لا يتجاوز اللمحات المتناثرة التي جاءت منصبة في التشبية والاستعارة لا يعدوهما إلى الألوان البلاغية الأخرى. أما عمله في نقد أشعار الحماسة فلا وجود له مطلقاً، فهو بهذا ليس كأصحاب المنهج الفني الإبداعي الذين رأيناهم في عمل المرزوقي يوظفون اللغة والنحو والبلاغة والنقد وغيرها من عناصر الشرح توظيفاً فنياً محكماً أثناء عملية الشرح. كذلك ليس في هذا المختصر ما يدل على عنايته بعنصر الأخبار التاريخية ومناسبات الشعر إلا في مواضع ضئيلة، ويبدو أنه لما رأى شيخه أبا رياش قد وفى هذا الجانب حقه وزاد فيه زيادة لا تدع لقائل مقالاً صرف نظره عنه إلا ما كانت الحاجة تدعو إليه في توضيح المعنى فيذكره عن شيخه، وذلك في مثل بيت الشداخ ابن يعمر الكناني الذي يقول فيه: القوم أمثالكم لهم شعر ... في الرأس لا ينشرون ان قتلوا وهو من الأبيات التي لا يظهر معناها إلا بذكر قصتها، ولذا نراه يلجأ إلى شيخه أبي رياش في ذكر قصته فيقول: "وجدت بخط أبي رياش - رحمه الله - حضر الشداخ بعض الحروب فراح إليه أصحابه يوماً فقالوا: قتلنا فلاناً وفلاناً، وقتل منا فلان وفلان، وعدوا من قتلوه فقال أصحاب الشداخ: فأين فلان وفلان وعدوا من

زعموا أنهم قتلوه فقال بعض القوم: نحن فلان وفلان، فقال الشداخ: أما زعمتم أنكم قتلتموه؟ قال: إنا نقاتلهم ليلاً وينشرون صباحاً فقال الشداخ: القوم أمثالكم ...... البيت". وثمة عنصران لا وجود لهما في هذا المختصر أحدهما يتصل بشرح أسماء الشعراء والأعلام الواردة في الحماسة، والآخر يتصل بأوزان الشعر وإضرابه وقوفيه. وإذا كنا قد أشرنا في عمل المرزوقي إلى أن تحديد أوزان الشعر وقوافيه يعد من العناصر التي لم تبرز لدى شراح القرن الرابع الهجري الذي منه أبو عبد الله النمري فان شرح أسماء الشعراء والأعلام الواردة في الحماسة قد كان له وجود لدى شراح هذا القرن، ولقد رأينا لشيخة أبي رياش نصيباً من عمل فيه، ولا تفسير لخلو عمل النمري منه سوى أنه لم يوله اهتمامه، أو أن هذا المختصر لم يضم النصوص التي اشتملت على جهده فيه. كذلك لا نجد في هذا المختصر ما يشير إلى أن النمري قد عني بنسبة أشعار الحماسة إلى قائليها أو تصحيح نسبتها مما وهم فيه أبو تمام، وهو جانب رأينا شيخة أبا رياش يوليه اهتمامه ويحقق فيه عملاً مفيداً، ولعل النمري اكتفي بما حققه فيه شيخه فلم يحاول نقله أو الزيادة عليه، ولهذا رأينا أبا محمد الأعرابي يأخذ عليه ذلك في أكثر من موضع في كتابه الذي ذكرناه في المنهج التتبعي التقويمي. وبناء على كل هذا الذي ذكرناه نجد أن عمل النمري الذي رأيناه من خلال هذا المختصر لا يدخل في دائرة واحد من المناهج الخمسة التي حددناها لغلبة شراح الحماسة، ومن هنا جاءت دراستنا له وحدة قائمة لذاتها. إن أظهر عمل قدمه النمري لخدمة اختيار الحماسة يبدو - كما أشرنا سابقاً - في عنصرين: عنصر الرواية وعنصر المعاني، ففي عنصر الرواية نجد النمري مبدعاً بحق في مناقشته لها، ويتجلى إبداعه في أنه كان يربط الرواية ما ائتلف منها وما اتفق بالمعنى، يعرضها ويناقشها على هذا الأساس، وذلك مثل عمله في بيت أبي الغول الطهوي الذي رواه هكذا

ولا تبلى بسالتهم وان هم ... صلوا بالحرب حينا بعد حين ثم قال: "ويروى إلا بعد حين" ويروى تبلى وتبلى وكلاهما من البلى، تكون البسالة فاعلة ومفعولة وهي الشجاعة، وأصله أن يكره الرجل وجهه" ثم وضح معنى آخر للفعل" تبلى "قال: وتبلى أيضاً من قولهم بلوت الشيء إذا اختبرته" ثم مضى مناقشاً الروايتين "حيناً بعد حين" و "إلا بعد حين" وفق هذين المعنيين قال: فمن جعله من البلى روى "حيناً بعد حين" لا غير، أي شجاعتهم باقية غير بالية وان تكررت الحرب زماناً بعد زمان، ومن جعله من الاختبار كانت الروايتان "حيناً بعد حين" و "إلا بعد حين" على معنيين أحدهما: أنهم لا تعرف لهم بسالة في الحرب أي لا يعبسون وجوههم فيها إلفا لها واستهانة بها، والمعنى الآخر إنهم لا تعرف لهم بسالة إلا بعد حين". ومثل ذلك أيضاً ما جاء عنه في رواية بيت أبي عطاء السندي وهو: ذكرتك والخطي يخطر بيننا ... وقد نهلت منا المثقفة السمر فقد فسره بقوله: "يقول: ذكرتك في هذه الحالة الفظيعة التي لا يذكر فيها إلا من غلب على القلب، ولم تشغلني عنك مراس الحرب" ثم عرض لرواية أخرى فقال: "ووجدت في نسخة "وقد نهكت ونهكت منا المثقفة" من قولك: رجل منهوك إذا أخذ منه المرض أي تحطمت الرماح بأيدينا". ثم مضى مفاضلاً بين الروايتين بناء على المعنى فقال: "والأول أحسن ألا ترى أن ذكره لها وهو مطعون أحسن منه وهو طاعن" ثم نظر إلى معنى آخر فقال: "فان أراد بقوله نهكت منا أي طعنا بها إلى أن نهكت فالمعنى فيه وفي نهلت واحد". فلا شك أنك تلحظ في هذين المثالين أن النمري كان دقيقاً في نظره إلى الرواية واختلافها من جهة والى المعنى ومراد الشاعر من جهة أخرى. وانه كان يحاول في فنية محكمة الربط بين الاثنين معاً في عمله في صورة تشهد له بالإبداع.

أما في عنصر المعاني فالحق أن النمري قد قدم جهداً محموداً في استخلاص معاني النصوص الواردة في الحماسة، وذلك وفق ما سمعه من السابقين، ووفق ما خطر له من خواطر فيها، ولقد لاحظنا له لمحات مشرقة في هذا الخصوص تنم عن فضله وعلمه، ولقد تجلت معالجته للمعاني في عدة نواح، ففي ناحية نراه ينقل الأقوال التي سمعها في المعنى ويفاضل بينها ويضيف إليها ما يكملها ويوضحها، وذلك مثل عمله في بيت ابن زيابة القائل: الرمح لا أملأ كفي به ... واللبد لا أتبع تزاوله فقد نقل في معنى صدره ما سمعه لابن السكيت وهو قوله: "أقاتل بالرمح وغيره وإذا اقتصر على الرمح فكأنه قد ملأ يده فشغلها عن غيره" ثم أشار إلى معنى آخر قال: "وقال غيره: معنى لا أملأ كفي به أي أطعن به اختلاساً كقول الآخر: لبيقاً بتصريف القناة بنانيا ثم فاضل بين المعنيين فقال: "والقول قول ابن السكيت" ثم أضاف إليه معنى عجز البيت فقال: "وقوله واللبد لا أتبع تزاوله أي أنا فارس فإذا مال اللبد لا أميل معه". وفي ناحية أخرى نراه يقدم للمعنى بشرح الألفاظ ثم يعرضه في أسلوب سهل واضح، فإذا عرضه عمد إلى توضيح ما يؤكده ويقويه، ومن أمثلة ذلك ما جاء عنه في بيت زميل بن أبير الوارد في باب الهجاء وهو: ولست بربل مثلك احتملت به ... حصان نأت عن فحلها وهي حائل فقد بدأ عمله فيه بشرح الألفاظ قال: "الربل ضروب من النبات تتقطر بالورق من غير مطر، وإنما يكون ذلك عند طلوع سهيل من برد السحر، والجمع

ربول، وقد تربلت الأرض، والحصان المرأة العفيفة، وفحلها بعلها، والحائل التي لم تحمل، ونأت بعدت، وأراد بالنأي الطلاق فكنى عنه" ثم عرض المعنى في إيجاز ويسر قال: "يقول: ولدتك أمك من غير ذك كالربل الذي ينبت من غير مطر" ثم انطلق يؤكد هذا المعنى الذي قرره بشرح ما استوحاه من ألفاظ الشاعر فقال: "وصف أمه بالحصن وهو العفاف ليؤكد أنها لم تزن، ليؤكد أنه ولد من غير والد كبيضة التراب، وذكر أيضاً أن أمه طلقت وهي حائل غير حامل تأييداً لذلك لئلا يلحق بالرجل الذي كانت أمه تحته قبل". وفي ناحية ثالثة نراه يجزئ عرض المعنى محاولاً إبرازه من خلال هذه التجزئة، وغالباً ما يقع منه ذلك في البيت ذي التقليدين، الذي يشتمل على معنيين كل معنى قائم لذاته، وذلك مثل قول ابن زيابة: والدرع لا أبغي بها ثروة ... كل امرئٍ مستودع ماله فقد بدأ بمعنى جزئه الأول وهو الصدر قال: "الثروة والثراء كثرة المال يقول: لا أبع الدرع وان أرغبت فيها" ثم انتقل إلى معنى العجز فقال: "وقوله مستودع ماله أي ماله الذي يملكه وديعة عنده يسترجع، ويكون ماله واحد الأموال، وهذا كقولك الأموال عواري، ومثله قوله: عز وجل: "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه". يقول: فعلام أبيع درعي بمال لا يبقى ولا أبقى عليه وإنما هو وديعة؟ " ثم رجع إلى الصدر مرة أخرى فذكر رواية فيه وشرح المعنى بناء عليها قال: "ويروى لا أبغي بها نثرة" والنثرة الدرع يقول: درعي لا أبغي بها درعاً، أي قد جربتها وأحمدتها فهذا كقولك: ما أريد بأهلي أهلاً ولا بسيفي سيفاً". وفي ناحية رابعة نراه مفتوناً بعرض المعاني في أكثر من وجه، يعرض الأوجه محاولاً أن يدعم كل واحد منها بما قيل في معناه من شعر وذلك مثل عمله في تحليل

هذا البيت الذي نسبه أبو تمام لبعض بني قيس بن ثعلبة، وقيل: هو لبشامة بن حزن النهشلي وهو: بيض مفارقنا تغلي مراجلنا ... نأسو بأموالنا آثار أيدينا فقد بدأ بعرض المعاني التي سمعها ممن سبقه في قوله: "بيض مفارقنا" ثم قال: "ولاح لي في هذا البيت ثلاثة أوجه لم أسمعها فيه من قبل، أحدها أن العرب تزعم أن الكرام تشيب مفارقها ومقادم رؤوسها أول شيء، وان اللئام تشيب مآخر رؤوسها قبل مفارقها" ودعم هذا المعنى بما أنشده ابن الأعرابي من قول القائل: وشبت مشيب العبد في نقرة القفا ... وشيب كرام الناس فوق المفارق ثم أورد الوجه الثاني فقال: "والمعنى الثاني أن تكون المفارق ها هنا مفارق الطرق والواحد مفرق فيقول: الطرق إلينا بيض واضحة لكثرة من يغشانا من ضيف ومسترفد ومستنجد" ودعم هذا بقول أحدهم يصف طريقاً: يركبت عوداً واضح السلائق ... أبيض خراجاً من المضائق ثم عرض الوجه الثالث فقال: "والمعنى الثالث أن العرب إذا أسرت الرجل وأرادت المنة عليه جزت ناصيته وأطلقته فيقول: نحن لن نؤسر فتجز نواصينا فتدنس مفارقنا لقربها من النواصي، ودعم هذا المعنى بقول الخنساء: جززنا نواصي فرسانهم ... وكانوا يظنون أن لن تجزا وإذا كان أبو عبد الله النمري قد قصر جهده على الرواية وعلى معاني الشعر فان تعرضه للقاسم الديمرتي كان من خلال هذين الجانبين فهو في ثنايا عمله في روايات النص يعرض لما اعتمده الديمرتي في متنه مستحسناً تارة - كما رأينا فيما سبق - ومنتقداً تارة أخرى، وذلك كما في بيت زويهر بن الحارث فقد أثبت روايته هكذا: ألم تر أني يوم فارقت مؤثراً ... أتاني صريح الموت لو أنه قتل

وفسره على هذه الرواية ثم قال: "وروى الديمرتي وغيره "أتاني صريخ الموت" بالخاء معجمة وهو داعية. ثم انتقد الرواية والتفسير معاً قال: "وهذا تصحيف في الحرف وخطأ في تفسيره، فان الصريح هو المغيث والمستغيث، ذكر ذلك في الأضداد ولا وجه لهما ها هنا إلا على تكلف". وكذلك كان شأنه حين يعرض للديمرتي في جانب المعاني ومن أمثلته ما جاء في بيت تأبط شراً: أقول للحيان وقد صفرت لهم ... وطابي ويومي ضيق الجحر معور وكان الديمرتي قد فسر معنى قوله: "وقد صفرت لهم وطابي" بأنه أراد خلت نفسي من ودهم، فانتقده النمري بقوله: "هذا خطأ فاحش ومتى ود تأبط شراً لحيان وهو أبداً يغير عليها وينال منها". والحق أن النمري في شرحه معاني كتاب الحماسة قد استطاع أن يقدم عملاً طيباً في عنصري الرواية والمعنى أفاد منه جل الشراح الذين جاءوا بعده، غير أنه في جانب المعاني كان أحياناً يفسر المعنى على ظاهر الألفاظ الواردة في النص دون أن يسبر غورها ويصل إلى أبعادها وما تدل عليه من إيحاءات، وهذا ما جعل أبا محمد الأعرابي يتصدى له بالنقد والتجريح فيما كان يقع فيه من هذه السبيل، وقد بينا ذلك عندما عرضنا لعمل أبي محمد الأعرابي في تطبيق المنهج التتبعي التقويمي، فلا مجال لتكراره هنا. 4) شرح أبي هلال العسكري: كنا قد أوضحنا فيما سبق أن لأبي هلال عملين في الحماسة أحدهما ما درسناه في المنهج التتبعي التقويمي، وهو رسالته "ضبط مواضع من الحماسة" والآخر شرحه

للحماسة، الذي أفادت عنه جملة من المصادر، وهو مفقود لم يهتد إلى مكانه حتى الآن، غير أن التبريزي نقل عنه نقولات عديدة، فقد كان من الشروح التي اعتمد عليها في صنعة شرحة ذي المنهج التجميعي الانتخابي، كما أن البغدادي قد أفاد منه في عدة مواضع من الخزانة وترجم لأبي هلال وذكر شرحه هذا الذي نحن بصدده. ولقد ظن بعض الدارسين أن رسالته السالفة الذكر هي نفسها شرحه الذي أشارت إليه المصادر، غير أن ما جاء في هذه الرسالة - وكما وضحنا من قبل - يختلف تماماً عن هذه النقولات التي حفظها لنا التبريزي في شرحه والبغدادي في خزانته. وهذه النقولات وان كانت غير كافية في أن توضح لنا منهج الرجل بوضوح، فإنها يمكن أن تدلنا على بعض الملامح التي نستطيع في ضوئها استكشاف عمله في عناصر شرح الشعر في حدود القدر الذي سمحت به هذه النقولات. ولعل أظهر عنصر دلت عليه هذه النقولات وبدت فيه عناية واضحة من أبي هلال هو عنصر النقد، وهذا في رأينا يرجع إلى أن التبريزي الذي جعلنا نتصل بهذا الجانب من عمل أبي هلال، كان قد جعل شرح أبي هلال المعول الأول الذي يرجع إليه في سد هذا العنصر من شرحه الانتخابي، كما يرجع إلى أن أبا هلال كان أحد النقاد البارزين الذين ظهروا في القرن التاسع الهجري، وكتابه الموسوم بالصناعتين خير شاهد على هذا، فضلاً عن شهادة بعض أهل العلم له بالتقدم في نقد الشعر وتقويمه، فقد نقل لنا صاحب الخزانة رأياً لأبي محمد بن الخشاب يفيد فيه بأنه "لم يجر في سنن الفرزدق في التعجرف في شعره بالتقديم والتأخير المخل بمعانيه

والتقدير المشكل إلاّ المتنبئ، ولذلك مالّ إليه أبو علي وابن جني لأنه يوافق صناعتهما، ولا ينفع شهادة أبي علي له بالشعر لأن أبا علي معرب لا نقاد، وإنما ينفعه شهادة مثل العسكريين وأبي القاسم الآمدي، فإنهم أئمة يقتدي بهم في نقد الإعراب)). ولهذا فلا غرابة أن نجد أبا هلال يعني بهذا الجانب في شرحه للحماسة، وهو فيه يسير وفق اتجاهين: اتجاه ينتقد فيه الروايات، واتجاه ينقد فيه الأشعار التي ضمّها اختيار الحماسة، وفى المسارين معًا كان ينظر إلي اللغة وما تؤديه من معان، وينتظر إلى المعاني نفسها من حيث صحتها وجودتها، أو من حيث فسادها ورداءتها. ففي جانب تقد الرواية مثلًا نجده في بيت الرثاء الذي جاء في قطعة لعبدة بن الطبيب وقد روى هكذا: تحِيَّةَ مَنْ غَادَرْتَهُ غَرَضَ الرَّدَى اِذَا زَارَ عَنْ شَحْطٍ بلاَدَكَ سَلَّماَ ينتقد رواية ((غرض الردى)) فيقول: ((غرض الردى بالغين معجمة أي هدف الردى صباح مساء، وهذه صفة لجميع الناس، وليس فيه تخصيص لأحد، والجيد ((عرض الردى)) بالعين غير المعجمة من قولهم: فلان بعرض الأمر أي بحيث يناله ولا يخطئه، واذا كان كذلك عاش عيشة نكدة لتوقعه له لأنه بصدده، أي جعله

هذا الميت معرّضًا للأعداء ينالونه كيف يريدون)). فهو هنا قد نظر إلى مدلول لفظتي ((غرض)) و ((عرض)) واتساق هذا المدلول مع المعنى الذي رمى إليه الشاعر، فالألفاظ وما تدل عليه من معان واتفاق هذه المعاني وتجانسها مع المضمون الكلي للبيت وقيمته هي قوام عمل أبي هلال في نقده، ولهذا نراه في نقده للرواية غالبًا ما يفسرّ أولًا حروفها وفق ما هو مستعمل عند العرب، ثم يبني نقده بالنظر إلى مضمون البيت، هذا ما لمسناه منه في نقده السابق وما لمسناه في سائر النقولات التي تتصل بنقد الرواية في شرح التبريزي. ومن أمثلته ما جاء عنه في بيت الربيع بن زياد القائل: يَجِدُ النِّسَاءَ حَواسِرًا يَنْدُبْنَهُ يَلْطِمْنَ أَوْجُهَهُنَّ بالأَسْحَارِ فقد ذكر أن هذا البيت يروى ((يندبنه بالصبح قبل تبلج الأسحار)) ثم نظر إلى مدلول لفظة ((الصبح)) فقال: يريد بالصبح الحق والأمر الجلي كقوله: وَنَحْنُ أُنَاسٌ يَنْطِقُ الصُّبْحُ دُونَنَا ولم نر كالصُّبْحِ الجَليِّ مُبِينَا ثم انتقل إلى مدلول آخر للفظة يصير الكلام به مستحيلًا قال: ((ولو جعل الصبح الوقت المعروف كان الكلام محالًا، لأن الصبح لا يكون قبل التبلج)). ومثل ذلك أيضًا ما جاء عنه في بيت الرقاد بن المنذر الذي يقول فيه: فِدَىً لِفَتىً أِلْقَى إِليَّ بِرَأْسِهَا تلِاَدِي وَأَهْليِ مِنْ صَدِيٍق وَجَامِلِ فقد رواه أبو هلال ((من صديق وآبل)) ثم نقد الرواية وفق مدلول لفظة ((ابل)) مع السياق فقال: ((كان ينبغي أن يقول من صديق وعَدو، فأما أن يقول من صديق وآبل فردئِ جدًا لأنه جعل الآبل من الأهل)) فردئ أيضًا لأن قوله

من صديق يحتاج إلى قسم آخر، وإلاّ فالكلام مبتر لا خير فيه)). هذا فيما يتصل بنقد الرواية، أما نقده لما ورد في الحماسة من أشعار فان معياره فيه لم يخرج عما قلناه سابقًا من نظريته إلى المعنى من حيث الصحة والجودة أو الفساد والرداءة، نجد ذلك منه في بيت جابر بن رالان السنيبسي الوارد في الحماسة وهو: لَكِنْ تَرَى رَجُلًا فيِ إِثْرِهِ رجُلٌ قَدْ غَادَرَا رَجُلًا بالقَاعِ مُنْجَدِلاَ فقد قال فيه: ((جعل رجلين منهم على رجل واجد وهو وصف ردئ لأن من عادتهم أن يجعلوا الرجل يقاوم جماعه وتجاوزوا ذلك إلى أن قال بعضهم: ((والجيش باسم أبيهم يستهزم)) فجعل ذكر الرجل الواحد هازمًا للجيش)). وهو بجانب نظريته إلى رداءة المعنى وفساده ينظر - كما بيّنا سابقًا * إلى ألفاظ النص وما تعطيه من مدلول يتسق مع المراد من النص، وقد دلّ على ذلك في نقده بيت كبد الحصاة العجلي الوارد في باب الرثاء وهو: أَلاَ هَلَكَ الُمكَسِّرُ فاسْتَراَحَتْ حَوافي الخَيْلِ والَحيُّ الَحريدُ فقد وقف أولًا عند لفظة ((حوافي الخيل)) وفسرّها بقوله ((حوافى الخيل التي كان يحفيها لكثرة غزوه عليها ثم قال: ((والجيد هنا ((حفيات الخيل)) مخففة من حفي يحفى فهو حف إذا احتكّ حافره من كثرة السير)) ثم رجع إلى لفظه ((حوافى)) فقال: والحافي خلاف الفاعل وليس له هنا موضع لأن خيل العرب لم تكن تنعل فيقال ان هذا الرجل كان يحفي خيله لكثرة اشتغاله عن إنعالها أو لغير ذلك من الأسباب)). ولم يكتف أبو هلال بهذا في نقده البيت بل مضى إلى لفظه أخرى هى ((الحريد)) وفسرّها بقوله: ((والحريد المنفرد)) ثم بنى نقده على هذا المعنى فقال: ((لو لم يقل الحريد كان أجود لأنه لم يغز المنفرد من الأحياء إلّا لعجزه عن مجتمع الناس)) ثم عرض للحريد معنى آخر فقال: ((ويجوز أنه بالحريد البعيد، والمعنى أنه كان

يبعد المغزى والمغار لقوته وكثرة عدده)). وقد يتجاوز أبو هلال نقد أشعار الحماسة وتقويمها إل الشعراء أنفسهم وابداء رأي نقدي في شعرهم ومخالفة من سبقه في هذا الخصوص، وذلك على نحو ما جاء عنه في أشجع بن عمرو السلمي فقد قال فيه: ((كان البحتري يقول: إنه يخلي، ومعنى الاخلاء أنه يأتي بألفاظ حسنة ليس تحتها كبير معنى، وأنا لست أرى في شعره شيئًا من هذا الجنس)). وثمة عنصر غير النقد يبدو واضحًا في عمل أبي هلال، دلّت عليه هذه النقولات التى وصلت الينا عن شرحه وهو عنصر يتصل بتعريف الشعراء وبتوضيح اسم من ورد مبهمًا في عمل أبي تمام ز وبتصحيح ما وهم فيه أبو تمام من نسبه الشعر إلى غير قائليه، وهى جوانب لها قيمتها في خدمة اختيار الحماسة، وقد رأينا ذلك في عمل أبي رياش الذي درسناه فيما سبق، فأبو هلال كان مثله في تقديم هذه الخدمة الجليلة التي تكشف عن علم وافر بما قالت العرب من أشعار وبشعراء العرب وأنسابهم وقبائلهم، يبدو هذا واضحًا مما نقله التبريزى عنه.

ففي جانب تعريف الشعراء نراه يذكر لنا الشاعر وبعض ما عرف به، وذلك مثل تعريفه لعنترة بن الأخرس المعني فقد قال فيه: ((يعرف بعنترة بن عكبرة، وعكبرة أمه، وبها يعرف، وهو شاعر فارس مشهور)). وكذلك مثل تعريفه بالشاعر ((القاطمى)) وكذا أورده أبو تمام في الحماسة بدون ذكر لا سمه، فعرفه أبو هلال قال: ((اسمه عمير بن شييم بن عمرو بن عباد)) وأوصل نسبه إلى تغلب ثم قال: ((كان فحلًا رقيق الحواشي كثير الأمثال)) واستشهد من شعره بثلاثة أبيات تدل على ما قاله فيه: وَالنَّاسُ اِنْ يَلْقَ خَيْرًا قَائِلُونَ لَهُ مَا يَشْتَهِى وَلاُمِّ المخْطِئِ الهَبَلُ قَدْ يُدْرِكُ الُمتَأَنِّى بَعْضَ حَاجَتَهُ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الُمسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ وَالعَيْشُ لاَ عَيْشَ اِلاَّ مَا تَقَرُّبِهِ عَيْنٌ وَلا حَالَ الاَّ سَوْف َتَنْتَقِلُ ونراه في بعض المواضع من نقولات التبرزي عنه لا يكتفي بالتعريف بالشاعر فحسب بل يذكر معه من يشاركه في الاسم، ويبدو أنه كان في هذا مستفيدًا من الآمدي في المؤتلف والمختلف، فقد مر ّبنا أنه أفاد منه في رسالته ((ضبط مواضع من الحماسة)) في إيراد من اسمه ((أبو الطمحان)) وهذا يدفعنا إلى القول بأنه اعتمد عليه في هذا الخصوص. ففي الحماسية التى صدرها أبو تمام بقوله: ((وقال عنترة)) ولم يرد على ذلك نجد أبا هلال يقف عنده ويقول: ((يعنى عنترة بن معاويه بن شداد بن قراد)) ويورد نسبه إلى عبس بن بغيض ويقول: ((وكنيته أبو المغلس)) ثم يضيف قائلًا، ((وفي الشعراء جماعة يقال لهم عنترة، منهم هذا ومنهم عنترة بن عكبرة الطائي وهو عنترة ابن الأخرس، وقد مرّ ذكره، ومنهم عنتره بن عروس مولى ثقيف، وكان مولّداً في بلاد أزد شنوءة، شاعر راجز)).

وقد فعل ذلك في قطعة الحماسة التي نسبها أبو تمام إلى جميل بن معمر العذري قال: ((في الشعراء ثلاثة يدعون جميلًا منهم جميل بن عبد الله بن معمر ويكنى أبا عمرو ... وهو قائل هذا الشعر الذي أنشده أبو تمام، وجميل بن المعلى أحد بنى عميرة بن جويّة بن لوذان بن ثعلب بن عدي من فزازة، وجميل بن سيدان الأسدي)) وقد أورد لكل من ابن المعلى وابن سيدان شعرًا. ويتصل بتعريف الشعراء جانب آخر هو أنه كان يوضح نسبة بعض القطع التى كان أبو تمام يوردها مبهمة مصدرة ب ((وقال آخر)) أو ((وقال بعضهم)) فكان أبو هلال يجلو هذا الابهام الذي خلفه أبو تمام في عمله، ومن أمثلته ما جاء عنه في الحماسيّة التي مطلعها: اللؤم أكرم من وبر ووالده واللؤم أكبر من وبر وما ولدا وقد صدّرها أبو تمام بقوله: ((وقال آخر)) فقال أبو هلال: ((لم يذكر أبو تمام اسمه، واسمه الحكم بن زهرة، قال الجمحي: زهرة أمه وهو الحكم بن المقداد بن الحكم، وأورد نسبه إلى فزارة ثم قال: ((ويعرف بالحكم الأصم الفزاري)). وفي القطعة الواردة في باب الأضياف والمديح، وقد أغفل أبو تمام نسبتها، وقف أبو هلال ونسبها إلى قائلها قال: الشعر لجئامة بن قيس وهو أخو بلعاء بن قيس)). أما في تصحيح ما وهم فيه أبو تمام من نسبة أشعار إلى غير قائليها فقد أفادت النقولات عنه أنه قد قدّم في شرحه جهدًا محمودًا في هذا الشأن، وذلك وفق المصادر التي وقف عليها ووجد فيها من أشعار الحماسة ما كانت النسبة فيها مخالفة لما جاء عند أبي تمام.

ففي الشعر الذي نسبه أبو تمام إلي الفضل بن الأخضر بن هبيرة الضبي قال أبو هلال: هو للأخضر بن هبيرة بن المنذر، وأورد نسبه إلى ضبة بن أد. وفي حماسيّة أخرى نسبها أبو تمام إلى جربية بن الأشيم الفقعسي قال أبو هلال: ((إن غير أبى تمام رواها لسبرة بن عمرو الفقعسي، ثم أورد قصتها وقال: ((والصحيح أن الخصف بن معبد بن عبد الحرث العجلي هو الذي قال هذا الشعر الذي أنشده أبو تمام ونسبه إلى جربيه بن الأشيم)). وقد كان أبو هلال يشير أحيانًا إلى نسبة أخرى غير نسبة أبي تمام ويعزوها إلى مصدرها دون أن يبت في ذلك برأي، وذلك على نحو ما جاء عنه في الحماسية التي نسبها أبو تمام إلى شبيب بن عوانة الطائي، فقد قال أبو هلال: إن بعض علماء البصرة رواها للكروّس بن زيد بن الأخرم، وأورد نسبه إلى جديله التي هى فرع من طيئ ثم قال: ((وكان قد خاصم ابن عم له إلى مروان بن الحكم فحبسه مروان فقال: قضى بيننا مروان أمس قضية ... الأبيات. ولم يوضح رأيه فيما إذا كان الشعر لشبيب أو للكروس. ومثله أيضًا ما جاء عنه في الحماسّية التي نسبها أبو تمام إلى المثلّم بن عمرو التنوخي التي منها: اِنِّي امرؤٌ مِنْ تَنُوخَ نَاصِرُهُ مُحْتَمِلٌ في الُحرُوبِ مَا احْتَمَلُوا فقد قال أبو هلال: ((هذا الشعر في أشعار هذيل للبريق بن عياض الهذلي قال: ((إنى امرؤ من هذيل ناصره))، وكذلك لم يذكر أي النسبتين صحيح، ما ذكره أبو تمام أو ما وجده في أشعار هذيل. والحق أن شرح أبي هلال من خلال ما وصلنا عنه قد قدّم فوائد في هذا الجانب المتصل بتوثيق الشعر، واذا كنا قد رأيناه في بعض المواضع يشير إلى أن الشعر يروى

لغير من ذكره أبو تمام دون أن يقطع في ذلك يرجه لادراكه بأن المصادر الأولى لرواية الشعر التي اعتمد عليها العلماء الرواة كانت مختلفة، وحسبه في هذه الحال أن يشير إلى أن هذا النص أو ذاك قد وجده منسوبًا إلى غير الذي ذكره أبو تمام في المصادر التي توفرت لديه، وهذا إنما يقع منه في النصوص التى لم يكن فيها على يقين في أمر نسبتها أما ما كان فيها على يقين فانه يقطع فيه برأي واضح على النحو الذي رأيناه في حماسيتي الأخضر بن هبيرة والخصف بن معبد. وبجانب ما أوردناه لأبي هلال من عناصر كان لعنصر المعاني وجود في هذه النقولات، غير أن ذلك كان في مواضع قليلة، وذلك أن التبريزي _ وهو معتمدنا الأول في هذه الدراسة _ كان في منهجه الانتخابي يعوّل كثيرًا على المرزوقي في عنصر المعاني لا على أبي هلال، ولذا كانت نقولاته منه في هذا العنصر لا تتجاوز في الحسبة أصابع اليد الواحدة. أما البغدادي فلم ينقل عنه في هذا العنصر سوى في موضوع واحد، ومع ذلك فاننا من خلال هذه النقولات القليلة نحاول أن نتعرف على طريقة الرجل في معالجته لمعاني النصوص. وأول ما نلحظه في هذه النقولات أنه أحيانًا كان يعرض معنى النص قبل شرح ألفاظه، وذلك مثل ما جاء عنه في بيت ابن زيّابة القائل: يَا لَهْفَ زَيَّاَبَةَ لِلْحَارثِ الصَّابِح فالغانِمِ فالآيِبِ فقد أورد معناه أولًا قال: ((زيابة أبوه يقول: يا لهف أبي على الحارث إذ صبّح قومي بالغارة فغنم وآب سالمًا أن لا أكون لقيته فقتلته، إنما يريد يا لهف نفسي فأقام أباه مقام نفسه)) ثم وقف بعد هذا عند لفظة ((الصابح)) فقال: ((يقال: صبّح الرجل القوم _بالتشديد _كما قال الله تعالى: ((ولقد صبحهم بكرة عذابّ مستقر))، وصبحهم _ بالتخفيف _ إذا سقاهم صبوحًا فقوله ((الصابح)) فكأنه جعل الغارة لهم صبوحًا، وقيل: صبّحته في الغارة بمعنى)).

ونراه في موضع آخر يعرض المعنى في ايجاز ثم يذكر تعليلًا له قصدًا إلى تأكيد صحته، وذلك في البيت الذي نسبه أبو تمام لبعض بني عبد شمس من فقعس وهو: لاذت هنالك بالأشعاف عالمة أن قد أطاعت بليل أمر غاويها فقد أورد معناه موجزًا قال: ((يقول: أطعوا الأمر الذي دبَّره لهم بالليل غاويهم)) ثم علل لاستخدام الشاعر تدبير الأمر ليلًا فقال: إنما يدبر بالليل ليتوفر عليه ولا يشتغل بغيره، فيكون حظه من الابرام أكثر لخلو البال بالليل واجتماع الفكر فيه)) ثم أتى بآية قرآنية دعم بها هذا التعليل قال: ((وفي القرآن: بيّت طائفة منهم غير الذي تقول)). وأحيانًا نراه إذا أراد عرض المعنى عمد إلى ما فيه من تراكيب، فبيّن ما فيها من أوجه المعنى، ومن خلال هذه الأوجه يكون عرض المعنى، وذلك كما جاء عنه في بيت الفند الزماني الذي يقول فيه: أَيَا طَعْنَةَ مَا شَيْخٍ كَبِيرٍ يَفَنٍ بَالي فقد وقف عند تركيب ((أيا طعنة)) قال: ((في ندائه وجهان أحدهما أن يعجب من فظاعتها فكأنه يقول: هلمي يا طعنة فاعجببى أنت أيضًا من هولك وسعتك، والآخر أن المنادى غير الطعنة كأنه قال: يا هؤلاء اشهدوا طعنة لا يطعن مثلها شيخ)) ولم يعرض المعنى لأنه قد صار واضحًا من خلال وجهي هذا التركيب. وثمة عنصر آخر غير هذه العناصر التي تعرضنا لها هو عنصر الأخبار التاريخية التي تتصل بنصوص الحماسة ومناسبات الشعر، وقد جاءت جميع النقولات الدالة على عمله في هذا العنصر في شرح التبريزي، وقد سبق أن عرضنا نماذج منها في دراستنا لمنهج التبريزى حين وضحنا من خلالها كيف كان التبرزي ينتخب من

الشروح التي أمامه _ ومنها شرح أبي هلال _ ما يحقق لهذا العنصر وجودًا في شرحه. هذه هي العناصر التي استطعنا أن نعثر عليها من خلال نقولات التبريزي والبغدادي عن شرح أبي هلال، وهي نقولات لم تحقق لنا الوقوف على سائر العناصر التي تقوم عليها عمليّة شرح الشعر، فهناك عنصر اللغة ليست فيه نقولات تذكر، ولا يعني هذا أن أبا هلال لم يهتم بالغة في شرحه، إذ من الواضح أن من يهتم بالمعاني يهتم تبعًا باللغة، ولكن ما وجدناه من نقولات فيها غير كاف لابراز طريقة الرجل في معالجتها، وليس من غايتنا في هذا البحث أن نتصيّد المثال أو المثالين لاصدار حكم على عمل من أعمال الشراح، ربما تكتشف الأيام خطله وتهافته. واذا كان حظ اللغة في هذه النقولات إلى قُلٍّ فان حظ النحو والاعراب عنصرًا يعتمد عليه الشارح في مناقشته تراكيب النصوص وشرحها كان إلى خلو وانتفاء، ومثل ذلك يمكن أن يقال في البلاغة وعنصر أوزان الشعر وأضربه وقوافيه، وهى عناصر لا ندري إن كان لها وجود في شرح أبى هلال وأهملها التبريزي والبغدادي فلم ينقلا شيئًا منها أو أن أبا هلال لم يكن ذا عناية بها، ومن أجل ذلك كان من العسير علينا أن ندرج عمل الراجل تحت منهج من مناهج التي حددناها وطبقنا عليها عمل الشراح، وان كان ظننا يذهب إلى أصحاب المنهج الابداعي الفني منه إلى أصحاب المناهج الأخرى. 5) شرح أبي العلاء: الرياشي المصطنعي: يعد شرح أبى العلاء من الشروح المفقودة، ولقد سبق أن أوضحنا من قبل خطأ نسبة الشرح الموجود مخطوطًا في دار الكتب المصريّة الى أبي العلاء ووضحنا

وهم بعض الباحثين في اشارتهم التي تفيد بأن شرح أبي العلاء موجود لا مفقود، كما سبق أن ذكرنا أن أبا العلاء _ فيما ذكر ياقوت _ قد صنع شرحه هذا تلبية لرغبة أمير يدعى ((مصطنع الدولة)) كان قد أنقذ إليه نسخة من شرح أبي رياش وطلب منه أن يستكمل ما فيها من نقص مما لم يتناوله أبو رياش، فكان أن صنع أبو العلاء شرحه الذي بلغ أربعين كراسة وسمّاه ((الرياشى المصطنعي)) نسبة إلى أبي رياش من جهة ولمن صنع له الشرح من جهة أخرى. ويبدو أن التبريزى _ تلميذ أبي العلاء _ قد قرأ هذا الشرح عليه وأخذه عنه، ولذا كان من الشروح الأساسية التي عوّل عليها في صنعة شروحه للحماسة، وبخاصة شرحه الأوسط المتداول بين الناس، الذي درسناه فيما سبق في المنهج التجميعي الانتخابي، فعن طريق التبريزي وصلت إلينا نقولات عن أعمال أبي العلاء في الحماسة، وهي نقولات وصلت _ فيما قمنا به من إحصاء _ إلى بضعة ومائة موضع بلغ بعضها من حيث الكم العشرين سطرًا أو أكثر. بيد أن هذه النقولات مع ما فيها من تنوع واسهاب في بعضها فإنها لا تهيّئ للدارسين تحديد منهج لأبي العلاء في شرحه للحماسة، وان كنا لا نعدم من وجود ملامح يمكن أن نتبّين من خلالها طريقة تعاطيه لجملة من العناصر التي كان التبريزى يلجأ فيها إلى شرح أبي العلاء لينتخب منه ما يكمّل به عناصر شرحه. إن أبرز ما تقدمه لنا نقولات التبريزي من شرح أبي العلاء هو اهتمامه الواضح بشرح أسماء الشعراء والأعلام الواردة في أبيات الحماسية، فقد بلغت النقولات في هذا العنصر نحو اثنين وأربعين موضعًا، وهى في مجملها تدل على أن أبا العلاء كان مثل ابن جني مولعًا بمثل هذا العمل، وأنه _بلا شك _ كان متأثرًا به فيه، فهو قد

حقق من الإضافات علي ما جاء في كتاب المبهج لابن جني ما يجعلنا ندرك قيمة ما وقفنا عليه سابقًا من قول ابن جني في مقدمة المبهج: ((إن وراء هذا العمل علمًا كثيرًا وتدربًا نافعًا))، فقد استطاع أبو العلاء أن يثير عقولنا ونحن نقرأ أعماله في هذا العنصر، وجعلنا نحس بعظمته في علم اللغة واستعلائه المنفرد في الاستيعاب التام لكلام العرب. وإذا كنا قد رأينا ابن جني في المبهج يجنح كثيرًا في شرحه للأسماء الأعلام نحو التصريف والأوزان وما هو مصروف وغير مصروف، فان أبا العلاء كان في أعماله التي نقلها التبريزي واضح الاهتمام بمعاني الألفاظ التي اشتقت منها الأسماء الأعلام، وما ورد في معانيها من وجوه محاولًا أن يوفر لكل وجه شاهده من كلام العرب. ففي اسم ((شمعلة بن الأخضر)) مثلًا نراه يقف أولًا عند ((شمعلة)) فيقول: ((الشمعلة أصل بناء اشمعلّ إذا أسرع))، ثم أتى بشاهده فقال: قال أمية ابن أبي الصلت: لَهُ دَاعٍ بمَكَّةَ مُشْمَعِلٌّ وآًخَرُ فَوْقَ دَارَتِه يُنَادِي ثم انتقل إلى اسم ((الأخضر)) فبينّ فيه وجهين قال: ((الأخضر ينعت به الرجل على معنى المدح وعلى معنى الذم، واذا مدح به احتمل أن يكون مشبهًا بالبحر لأن البحر يوصف بالخضرة والربيع، وهذان الوصفان لمن ذكر بالجود، ويوصف الانسان بالأخضر لأن الخضرة من ألوان العرب قال: وَأَنَا الأخْضَرُ مَنْ يَعْرِفُنِي أَخْضَرُ الِجلْدَةِ في بَيْتِ العَرَبْ)). هذا في وجه المدح أما في وجه الذم فقد قال فيه: ((واذا جاءوا بالخضرة في معنى الذم، فانما أرادوا أنهم قد اخضروا من اللؤم لأن السواد إذا اشتد جعل خضرة فقيل ليل أخضر وأخضر الليل)) ثم أتى بشاهد على هذا قال: قال القطامي:

يَا نَاقَ سِيرِي عَنَقًا قِسْبرَّاَّ وَقَلِّبِى مَنْسِمكِ المُغْبَرَّا وَبادِرى اللَّيْلِ اِذَا مَا اخْضَرّا وأردفه بشاهد آخر هو قول جرير في هجاء بنى تيم: كسا الؤم تيما خضرة في جلودها فويل لتيم من مطارفها الخضر إن أبا العلاء في تحليله اللغوي للأعلام يعطيك كل الاحنمالات التي يمكن أن يكون العلم مأخوذًا منها، انظر مثلًا تحليله لاسم ((معدان)) من اسم الشاعر الكندي ((معدان بن جواس)) قال: ((معدان يحتمل أن يكون من المعد وهو نحو من الخطف والاختلاس يقال: امتعد الذئب الشاة إذا اختلسها، ويقال: معد الرجل اذا صار لصًا وهو راجع إلى ذلك المعنى)) ثم ينتقل إلى احتمال ثان فيقول: ((ولا يمتنع أن يكون معدان من المعد وهو الشئ الغض)) ثم رجع إلى المعنى الأول فقال: ((ويقال: معد الدلو إذا نزعها نزعًا شديدًا قال الراجز: يَا سَعْدُ يا ابْنَ عَمَلٍ يَا سَعْدُ هَلْ يَرْوِيَنْ ذَوْدَكَ نزع مَعْدُ ويقال مَعَدَ مَعْدًا إذا خَطَا خطوًا سريعًا، وهذا كله راجع إلى الخطف، وزعم قوم أن معدة الانسان سميت بذلك لشدتها، ما أراها إلّا من بعض ما ذكر من الألفاظ)). ولم يقتصر جهد أبي العلاء على شرح أسماء شعراء الحماسة بل تجاوزه إلى الأعلام التي وردت في أبيات الحماسة، ففي البيت القائل: لاَ تَعْذُلي فيِ حُنْدُجٍ اِنَّ حُنْدُجًا وَلَيْثَ عِفِرِّينٍ لَدَيَّ سَوَاءُ

وقف أبو العلاء في اسم حندج وقال: ((حندج اسم الرجل مأخوذ من الحندج وهو كثيب صغير من الرمل ربما أنبت الشجر، وقد جائت الحنادج في معنى الصغار من الإبل)). وفي البيت الذي نسبه أبو تمام لامرأة من بني شيبان وهو: بِعَيْنِ أُبَاغَ قَاسَمْنَا الَمنَايَا فَكَانَ قَسِيمُها خَيْرَ القَسيِمِ قال أبو العلاء: ((أباغ يجب أن يكون من الأبغ وهو لفظ ممات، ويجوز أن تكون الهمزة مبدلة من الواو لأنهم قالوا: وبغته إذا عبته، وقيل: إن الوبغ فساد في ريش الطائر أو وبر البعير)). ويلي هذا العنصر من حيث الكثرة في نقولات التبريزي عنصر اللغة والنحو، فلقد كان لأبي العلاء فيهما وقفات طيبة تدل على علو كعبه وبخاصة في التفسير اللغوي لألفظ أبيات الحماسة وتراكيبها. وصحيح أن عبقريّة أبي العلاء اللغويّة تجلّت في شرحه لأسماء الشعراء وأعلام الحماسة، ولكن عمله اللغوى في الأبيات قد أكد ّ هذه العبقريّة ودلّ عليها. ولقد بلغت نقولات التبريزي عنه فى مجال اللغة نحو ثلاثة وعشرين موضعًا، أما في النحو فقد بلغت نحو تسعة مواضع. ففي شرح الألفاظ نجد له وقفة في ألفاظ بيت سوار بن المضرّب القائل: بِذَبِّي الذَّمَّ عَنْ حَسِبي وَمَالي وَزَبُّونَاتِ أشْوسَ تَيَّحَانِ فهو يبدأ بشرح ((أشوس)) أولًا يقول: ((الشوس أن يضيّق الرجل أجفانه وينظر في أحد شقيه من الكبر، ويقال تشاوس الرجل إذا فعل ذلك قال حميد بن ثور: يَقرُّ بِعَيْنِي أَنْ أَرَى مِنْ مَكَانِهِ سُهَيْلًا كَعَيْنِ الأَخْزَرِ المُتَشاوِسِ

ثم رجع إلى التّيحان فقال: ((والتّيحان يروى بكسر الياء وفتحها وهو الذي يعترض الأمور)) ثم عرض إلى قصد آخر للشاعر قال به بعض القوم قال: ((وذهب قوم إلى أنه يعني بأشوس تيحان فرسًا وادعوا أن الزبونة الأذن وأنه كنى بالزبونات عن رأس الفرس وهاديه لأن أذنيه يكونان فيه)) ولم ينكر أبو العلاء هذا التفسير في قصد الشاعر بل قال: ((فاذا صح ذلك فهو مثل قولهم رماهم بهادي فرسه وبغرته ونحو ذلك كما قال عنترة: مَا زِلْتُ أَرْميهِمِ بِغُرَّةِ وَجْهِه)) وهو هنا نراه ينظر في التحليل اللغوي للألفاظ إلى ما يمكن احتماله في كلام العرب وأشعارها، وهي نظرة شملت جزءًا كبيرًا من عمله اللغوي، إذ كثيرًا ما نراه لا يفسر اللفظة من حيث سياقها فحسب بل ينظر إلى ما تعطيه من مدلول في احتمالات معانيها المتعددة، وينظر إلى عدم تنافي هذه الاحتمالات مع السياق من جهة ومع ما هو سائر في كلام العرب من جهة أخرى، ومن ذلك وقفته في الفعل ((تَعُدُّ)) من بيت راعي الابل النميري الذي يقول فيه واصفًا امرأة دعاها إلى جفنة طعامه: فَبَاتَتْ تَعُدُ النَّجْمَ فيِ مُستَحِيرَةٍ سَرِيعٍ بِأَيْدِي الآكِلِينَ جمُودُهَا قال: ((كان بعض الناس يجعل تعد هنا من العدد أي أن هذه المرأة تعد النجم في الجفنة المستحيرة أي المملوءة لأنها ترى خيال النجوم فيها، وقد يجوز هذا الوجه)) ثم نظر إلى احتمال آخر لمعنى ((تَعُدُّ)) فقال: ((وقد يحتمل أن يكون ((تَعُدُّ)) في معنى تحسب وتظن، وأصله راجع الى العدد الا أنه قد أخرج بعض الاخراج كما قال: اِذَا وَلّيْتَ مَعْرُوفًا لَئِيَمًا فَعَدُّكَ قَدْ قَتَلْتَ لَهُ قَتيلًا أى فاظنن أنك فعلت ذلك، والمراد أن المرأة تحسب النجم في الجفن لما تراه من بياض الشحم)).

وهو يستغرق في شرحه اللغوي استغراقًا منقطع النظير بحيث يوفي اللفظة الواردة في البيت وما تدل عليه من معان حقها في التفسير والتحليل، وذلك مثل عمله في لفظة ((قعاد)) الواردة في بيت عبد الله بن أوفى الخزاعي وهو: فَبِئْسَتْ قُعَادُ الفَتَى وَحْدَهَا وَبِئْسَتْ مُوفِّيَةُ الأَربَعِ قال أبو العلاء: ((قعاد الفتى ما يقعده في بيته لأن المرأة تسمى قعيدة، وهي من القعود في البيت)) وكان حق تفسير اللفظة أن ينتهي عند هذا الحد، غير أن أبا العلاء مضى مفسّرًا لفظة ((القعود)) في معنى آخر قال: ((ومن ذلك أخذ القعود من الابل وهو الفتى الذي قد صلح أن يقعد عليه الراكب))، وانطلق من هذا إلى مجال أوسع فقال: ((والقعود كلمة اتسع فيها المتكلمون حتى قال أصحاب الأضداد: يقال: قعد في معنى قام، وليس ذلك إلا على المجاز لأن القاعد خلاف المضطجع، فلما كان ذلك خروجًا من حال الضجعة إلى ما هو أعظم للشخص ظن السامع أن قعد في معنى قام، وقول النابغة: والبَطْنُ ذُو عَكَنٍ خمِيصٌ نَاعِمٌ والنَّحْرُ تَنْفُجُه بِثَدْيِ مقْعَدِ أراد أنه لم ينكسر للكبر فكأنه قاعد، ولو قيل جارية قائمة الثدي لأدى ذلك معنى قولهم ثدي مقعد، فمن هذه الجهة تأوّل بعض الناس أن قعد يكون في معنى قام)). فانظر إلى هذا الاستغراق في التفسير اللغوي الذي يدل على مدى اتساع علم الرجل في اللغة وتفسيرها ومناقشة من له رأي في معاني ألفاظها، وهو استغراق لم يقع منه في تحليل الألفاظ فحسب بل نجده لديه في تحليل التراكيب، غير أنه كان في هذا الجانب أكثر تمسكًا بما هو مشهور في كلام العرب وبما هو متفق مع سياق البيت، ففي بيت الأشتر النخعي القائل: بَقَّيْتُ وَفْرِي وانْحَرَفْتُ عَنِ العُلاَ وًلِقيتُ أَصْحَابِي بِوجْهِ عَبُوسِ

نراه يقف عند تركيب ((بقيت وفري)) فيقول: ((الذي ينبغي أن يحمل عليه معنى قوله ((بقيت وفري)) أن الوفر المال وذلك المشهور من كلام العرب)) ثم مضى مستعرضًا رأيًا فقال: ((وذكر أبو محمد الديمرتي أن الوفر ها هنا الشعر، وأنكر ذلك عليه أكثر أهل العلم، ولا يمتنع في القياس أن يسمى الشعر وفرًا لانه كالغرة في الجسد، ولأنهم قد سموا شعر الرأس إذًا كثرة وفزة، واذا صح ذلك لم يحسن أن يحمل البيت عليه لأن توفير شعر الرأس ليس من جنس الانحراف عن معالي الأمور ولقاء الضيف بالوجه العابس، وقد جاء الحديث عن النبى _ صلى الله عليه وسلم _ وعن غيره من صلحاء السلف، أنهم كانوا يوفرون شعورهم، فان ذهب إلى أنه أراد بالوفر الذي جاءت السنة باماطته عن الجسد فهو أيضا ليس بلائق إذ كان منافيًا لما بعده ... ولا يجوز أن يعدل عن أن الوفر المال الكثير)). فأنت تراه لا ينكر أن يأتي الوفر بمعنى الشعر، ولكن تفسيره بهذا المعنى في البيت، ولذا لم يجزه أبو العلاء على كثرة ما كان يجيز من معان محتملة في الألفاظ إذا اتفقت مع المشهور من كلام العرب والسياق. أما في مجال النحو فقد دلت نقولات التبريزي أنه كان يهتم به في شرحه، وذلك من جهة القواعد ومن جهة الاعراب، فمن جهة القواعد نراه مثلًا يناقش قاعدة أفعال البدء والشروع في بيت الحماسة القائل: جَعَلْتُ وَمَا بِى مِنْ جَفَاءٍ وَلاَ قِليً أَزُوركُمُ يَوْمًا وَأَهْجُركُمْ شَهْرَا فقد قال فيه: "ويروي فقد جعلت قلوص ابني سهيل" وكير من الناس يرفع الفلوض وهو وجه ردئ" ثم بين وجه ردائته من حيث مخالفته للقاعدة النحوية فقال: "لأن القائل إذا قال جعلت وهو يريد المقاربة لم يكن بد من إتيانه بالفعل كما قال: جعلت وما بي من جفاء ولا قلي أزوركم يومًا وأهجركم شهرًا

وعلى ذلك جميع ما يرد، فاذا قال القائل: جعل زيد فعله يجمل ولم يأت بلفظ الفعل فانما يحمله على المعنى كأنه قال: جعل زيد يجمل)) أما في جهة الاعراب فقد كان ينظر من خلاله إلى المعنى، ومن ذلك ما جاء عنه في بيت يزيد بن الحكم الثقفي الذى يقول فيه: والَمرْءُ يَبْخَلُ في الحُقُو قِ وَلِلْكَلَالَةِ مَا يُسِيمُ فقد وقف عند إعراب ((ما)) في قوله ((ما يبسيم)) فبّين وجوه الاعراب فيها ناظراً إلى المعنى في كل وجه قال: ((ما فيه يجوز أن تكون زائدة، ويكون المعنى أنه يخلي ماله للكلالة فكأنه أسامه فيهم كما يقال: تركت مالي في بني فلان، ويجوز أن يكون ((ما)) في معنى الذي أي والذي يسميه في رزق الكلالة، ولا يبعد أن يكون ((ما)) وما بعدها في معنى المصدر كأنه قال: واسامته لماله للغير لا لنفسه)). ومن الملاحظ في عمل أبي العلاء النحوي أنه كان دقيقًا في مناقشة أساليب الشعراء ومراعاة أن تكون تراكيبهم جارية على سنن كلام العرب، فإذا رأى التركيب لدى الشاعر قد خرج عن هذا الحد ناقشه منتقدًا في دقة، قال في بيت زميل ابن أبير الوارد في باب الهجاء: فَجِئْتَ ابنَ أَحْلاَمِ النِّيَامِ وَلَمْ تَجِدْ لِصِهْرِكَ اِلاَّ نَفْسَهَا مَنْ تُبَاعِلُ ((نصب ابن احلام النيام على الحال، وتأوّل انفصال الاضافة كأنه قال: فجئت ابنًا لأحلام النيام، والانفصال يكثر إذا كانت الصفة الجارية على الاسم الأول موضوعة للاسم الثاني في الحقيقة كقولك مررت برجل حسن الجارية فالمغنى حسن جاريته فالحسن للجارية، وليس ذلك موجودًا في مثل قوله ابن أحلام النيام لأن الابن ليس هو للأحلام، فكان ذلك منافيًا لقولك مررت برجل جميل الأصحاب لأن الأصحاب هم الذين حكم لهم بالجمال))

أما عنصر المعاني فاحلق أن ما نقله التبريزي من عمل أبي العلاء فيه كان ضئيلًا بالقياس إلى عنصر شرح الأسماء والأعلام وعنصر اللغة والنحو، وذلك لأن التبريزي كما أشرنا في أكثر من موضع كان يعوّل في عنصر المعاني على المرزوقي لا غير، ومن ثم جاءت نقولاته في عنصر المعاني من أبي العلاء وغيره من الشراح الذين انتخب شرحه منهم قليلة جدًا، ولكن هذا لا يمنع من أن نقول إن هذا القليل الذي جاءنا عن أبي العلاء يعطي مؤشر عناية منه بهذا العنصر، فلا شك أن الشارح الذي يعني باللغة والنحو هذه العناية التي رأيناها يكون من الطبيعي أن يعني المعاني، فاللغة والنحو تنبثق عناية الشارح بهما باعتبار أن ما يثيره فيهما يكون وسيلة لشرح ألفاظ النص وتراكيبه، ولقد رأينا أبا العلاء في تحليله لغة وقضاياها ولقواعد النحو ومسائل الإعراب ينظر دائمًا إلى مقاصد الشعراء ومعاونيهم، ومن ثم فليس بصحيح ما ذهب إليه الدكتور عسيلان حين أشار إلى أن عناية أبي العلاء بالجانب اللغوي جعلته لا يدقق النظر في معاني الشعر، وأنه يعمد إلى عرض المعنى بصورة تكاد تكون نثرًا للبيت. وكذلك ليس بصحيح ما أشار إليه الدكتور العمري من أن أبا العلاء حين تصدى لشرح الحماسة كان مقتصدًا على بعض النواحي اللغوية والتأويلات المعنويّة. فقول الدكتور عسيلان مدفوع من وجهين أحدهما: أن شرح أبي العلاء لم يصل إلينا كاملًا وإنما وصل إلينا بعض منه عن طريق نقولات قرأناها في شرح التبريزي، والتبريزي كما أوضحنا آنفًا لم يكن يعتمد في شرحه الانتخابي في عنصر المعاني على أبي العلاء، وإذا نقل عن أبي العلاء شيئًا في جانب المعاني فإن هذا يقع غالبًا في المواضع التي يكون أبو العلاء مخالفًا فيها المرزوقي أو غيره في فهم البيت وإيراد معناه، ومن ثم فإن القول بأن اهتمام أبي العلاء قد جعله لا يدقق في المعاني قول لا ينبغي أن يقال إلّا إذا وقفنا على أعمال الرجل كاملة في عنصر المعاني. هذا فضلًا عن أن نقولات التبريزي لا تدل على ذلك بل إننا رأيناه يناقش آراء

السابقين في المعنى في دقة ثم يبدي رأيه في وضوح وجلاء، كاشفًا لنا المعنى وفق رؤيته ووفق ما وقف عليه من كلام العرب، ولعلك حين ترجع إلى ما أوردناه له في انتخاب التبريزي لعنصر المعاني في شرحه عند بيت موسى بن جابر الحنفي القائل: هلالان حمالان في كل شتوٍة من الثقل ما لا تستطيع الأباعر تدرك حقيقة هذا القول، بل لعلك حين تقرأ عمله في إيراد معنى الشطرة الثانية من بيت عمرو بن مسعود الثقفي: أيبغي آل شداٍد علينا وما يرغى لشداٍد فصيل تعلم أن ما ذهب إليه الدكتور عسيلان من قول لا يستند إلى شيء، فقد تناول أبو العلاء معنى الشطرة مستعرضًا في دقة أوجه المعاني فيها قال: "في قوله: "وما يرغى لشداد فصيل لا يذهب به مذهب البخل وأنهم لا يعطون أحدًا فصيلًا، ولكن يحمل على أنهم لا يؤذون كما يقال: ما تروّع له شاة أي فلم يتعرضون لنا بالأذاة ونحن عنهم كافون؟ ، ويجوز أنه يصفهم بأنهم أذلة لا يظلمون أحدًا ولا يرغي فصيل لأجلهم كقوله: قبيلُة لا يغدرون بذمٍة ولا يظلمون الناس حبة خردل والدليل على أنه لم يرد بالإرغاء معنى الهبة قوله- يريد البيت الذي يليه- "إن تغمز مفاصلنا تجدنا ... الخ" لأن الكلام دال على تهدد ووعيد". فهل مثل هذا العمل يقال في صاحبه إنه كان لا يدقق في المعاني؟ . وأما قوله بأنه كان يعمد إلى عرض المعنى بصورة تكاد تكون نثرًا للبيت فهو أيضًا حكم لا يستند إلى شيء لأن المثال الذي أتى به برهانًا على حكمه هذا لا صلة

لأبي العلاء به، وذلك في بيت ربيعة بن مقروم القائل: وألد ذي حنٍق علي كأنما تغلي عداوة صدره في مرجل فقد نقل الدكتور عسيلان معناه ونسبه وهما لأبي العلاء وهو "رب خصم شديد الخصومة ذي غيظ وغضب علي تغلي عداوته غليان المرجل فيه إذا كان على النار إذا دفعته عن نفسي"، فهذا القول ليس لأبي العلاء وإنما هو للمرزوقي نقله التبريزي عنه بدون عزو، وأورده بعد قول لأبي العلاء في تفسير لفظة "ألد" الواردة في البيت فظن الدكتور عسيلان أنه لأبي العلاء، وكان ينبغي عليه في هذه الحال أن يضاهي نقولات التبريزي بشرح المرزوقي حتى لا يقع في هذا الوهم الذي وقع في مثله بعض الباحثين من نسب أقوال المرزوقي الواردة في شرح التبريزي بدون عزو إلى التبريزي نفسه، على نحو ما أوضحناه سابقًا في دراستنا لعمل التبريزي في الحماسة. وأما ما ذهب إليه الدكتور العمري من أن عمل أبي العلاء في شرح الحماسة كان مقتصدًا مقتصرًا على بعض النواحي اللغوية والتأويلات المعنويّة، فهو أيضًا رأي لا يستند إلى شيء وذلك لثلاثة أمور: أحدها أنه كان يشير في هوامشه وهو يتحدث عن شرح أبي العلاء إلى نسخة المايكروفيلم المحفوظة بمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة وهي نسخة الشرح الذي أثبتنا خطأ نسبته إلى أبي العلاء. ومن ثم فإن أي حكم بناه على قراءة هذا الشرح- إن كان قد قرأه حقًا- وخصّ به أبا العلاء يصبح في حيزّ البطلان. وثانيها: أنه فيما يبدو لنا لم يفرغ كل أعمال أبي العلاء الواردة في شرح التبريزي ولو فعل ذلك لأدرك أن أبا العلاء- الذي قال عنه: "إنه كان في شروحه على شعر المحدثين كأبي تمام والمتنبي وغيرهما، يحشو شروحه بالأخبار التاريخية

والمسائل اللغوية والعروض والقافية والنقد وإشباعها بالاستطرادات اللغوية والنحوية- هو نفسه أبو العلاء في شرح الحماسة لم يحد عن سبيله قط. وثالثها: أنه لم يقف على دواعي تأليف أبي العلاء لشرح الحماسة ولا على كيف بنى شرحه لها، فقد ألف أبو العلاء شرحه كما وضحنا تلبية لرغبة أحد الأمراء، أرسل إليه نسخة من شرح أبي رياش وطلب منه أن يكمل ما فيه من نقص، ومن ثم بنى أبو العلاء شرحه للحماسة على شرح أبي رياش فصلًا عن نظره في شروح أخرى سبقته مثل شرح الديمرتي وشرح أبي عبد الله النمري، وهنا يكمن الفرق بين شروح أبي العلاء على شعر المحدثين وشرحه على شعر الحماسة. فشروحه على شعر المحدثين لم تبن استكمالًا لعمل سابق، فلو وقف الدكتور العمري على هذا لأدراك لماذا كان أبو العلاء في شرحه على الحماسة يميل في بعض الأحيان إلى مناقضة معنى النص وما فيه من تأويلات. ذلك أنه كان ينظر في عنصر المعاني إلى عمل أبي رياش فيه وإلى عمل غيره من شراح الحماسة الآخرين، يعرض ما قالوه من تأويلات ولكنه كان وهو يفعل ذلك يدلي برأيه فيما يعرض وفق رؤيته الخاصة للنص، يتضح هذا في القليل من الأمثلة التي أوردها لنا التبريزي، ومنها ما جاء عنه في بيت الحرث بن وعلة الذهلي القائل: أن يأبروا نخلًا لغيرهم والشيء تحقره وقد ينمي فقد قال أبو العلاء: "قد اختلف في معنى هذا البيت، فقيل: أراد أنه يفارقهم، ويهبط هو وقومه أرضًا ذات نخل كان لغيرهم فيدفعونهم عنه ويأبرونه، كأنه يتهددهم بترحله عنهم لأن ذلك يؤديهم إلى الذل، واستدلوا على هذا الوجه بقوله في القصيدة: قوض خيامك والتمس بلدًا ينأى عن الغاشيك بالظلم وقيل: بل يريد أن يحاربهم فيصلحهم لغيره فيجعلهم كالنخل التي أبرت، إذ كان عدوهم ينال غرضه منهم إذا أعانه عليهم، وقيل: بل عنى أنه يسبي

نساءهم فتوطأ ذلك كالوبار الذي هو تلقيح النخل. فهذه أوجه ثلاثة في معنى البيت يعرضها أبو العلاء ثم يختار آخرها فيقول: "وهذا الوجه أشبه بمذهب العرب مما تقدم، لأنهم يكنون عن المرأة بالنخلة قال الشاعر يخاطب امرأة: ألا يا نخلًة من ذات عرٍق عليك ورحمة الله السلام وجملة القول في عمل أبي العلاء في عنصر المعاني تتلخص في أن ما وصلنا منه في نقولات التبريزي لا يكفي لإصدار حكم عام عليه، ولكنه يدل على أنه لم يهمله في شرحه ولا كان يكتفي فيه بنثر الأبيات، كما أن اهتمامه بعرض ما في النص من تأويلات لمعانيه إنا يرجع إلى اعتماده على ما كان يجده في شرح أبي رياش من عمل في عنصر المعاني فضلًا عن وقوفه على أعمال آخرين سبقوه في هذا الخصوص. وبجانب ما دلت عليه نقولات التبريزي من عناية لأبي العلاء بالعناصر السابقة، دلت أيضًا على عناية له في عنصر أوزان الشعر وأضربه وقوافيه، وهو أمر سبق أن أشرنا إليه عندما تكلمنا عن إفادة التبريزي منه في هذا العنصر، فأبو العلاء يعد من أبرز الشراح الذين اهتموا بقضايا أوزان الأشعار المختارة في الحماسة، يدلنا على ذلك ما ذكره تلميذه الخطيب التبريزي في ختام شرحه حيث أفاد بأن أبا العلاء كان ملمًا بكل الأوزان التي جاءت فيها أشعار الحماسة وبأضر بها وأنواع قوافيها وما جاء شاذًا في الوزن منها، وذلك حين قال: "قال أبو العلاء اشتمل ما وضعه أبو تمام حبيب بن أوس الطائي من أجناس الشعر الخمسة عشر على أثنى عشر جنسًا وهي: الطويل، والمديد، والبسيط، والوافر، والكامل، والهزج، والرجز، والرمل، والسريع، والمنسرح، والخفيف، والمتقارب، وفاته ثلاثة أجناس وهي: المضارع والمقتضب والمجتث. وفيه من الضروب الثلاثة والستين تسعة وعشرون ضربًا. ومن القوافي الخمس أربع وهي: المتدارك، والمتراكب، والمتواتر، والمترادف، وفاته المتكاوس، ومنه من الأوزان الشاذة ثلاثة الأول قول الضبي:

إن شواًء ونشوًة وخبب البازل الأمون والثاني قول أم السليك أو أم تأبط شرًا: طاف يبغي نجوًة من هلاٍك فهلك والثالث قول المخزومية: إن تسألي فالمجد غير البديع قد حل في تيٍم ومخزوم وطبيعي من كان هذا شأنه أن يكون له عمل في الأوزان والقوافي من خلال شرحه لنصوص الحماسة، ولقد نقل التبريزي بعضًا من هذا العمل في مواضع مختلفة من شرحه منها ما يتصل بالوزن ومنها ما يتصل بالقافية، فمن أمثلة الوزن ما جاء عنه في بيت الشداخ بن يعمر الكناني القائل: قاتلي القوم يا خزاع ولا يدخلكم من قتالهم فشل فقد قال فيه: "قوله قاتلي القوم كأنه مخروم، والخرم سقوط حرف متحرك من أول كل شعر أصل بناء أوله على حرفين متحركين والثالث ساكن، وذلك لا يجوز في هذا الوزن على رأي الخليل، والذي أعتقد أنه جائز، وقد ذكره أبو رياش على ما يجب من صحة الوزن وهو "فقاتلي القوم يا خزاع". ومن أمثلة ما يتصل بالقافية عمله في بيت موسى بن جابر الحنفي وهو: ألم تريا أني حميت حقيقتي وباشرت حد الموت والموت دونها فقد أشار أولًا إلى أن "الأحسن رفع دونها ويكون في معنى صغير، كأنه قال: والموت صغير هذه الخطة" ثم مضى قائلًا: "ولو أنشد منشد بفتح النون في دونها لكان في الشعر عيب نحو الإقواء، ومثله قليل لأنهم يقوون في المرفوع والمخفوض الذي لا هاء بعد رويه، وإذا جاءت الهاء بعد الروي فإن تغير الإعراب قليل، ورووا أن أبا عمرو بن العلاء كان ينشد قول الأعشى:

هذا النهار بدا لها من همه ما بالها بالليل زال زوالها فيرفع الزوال والقوافي منصوبة في كل القصيدة. والذي نلحظه من خلال هذين المثالين وغيرهما مما أورده التبريزي أن الرجل كان متمكنًا في هذا العلم ملمًا بجميع قواعده، مدركًا لخروج الشعراء عن حدوده من خلال وقوفه على ما روي لهم من شعر أو جاء في دواوينهم. وثمة عنصر تبدو نقولات التبريزي فيه ضئيلة لا تذكر، أقل في ضآلتها من عنصر المعاني، وهو عنصر الرواية، ويبدو أن التبريزي لم يتخذ عمل أبي العلاء فيه مجالًا لعمله الانتخابي، ولهذا جاء ما نقله عنه في الرواية ممتزجًا بعمله في اللغة من حيث أن أبا العلاء فيما يبدو كان ينظر إلى اختلاف الرواية من وجهة نظر لغوية لا من الوجهة التي كان يراها أصحاب المنهج الإبداعي الفني، فهو في نظرته للرواية أشبه بابن جني منه إلى الإبداعيين لأنه كان مثله ينظر إلى الرواية وجودتها من حيث اللغة لا غير، ومن أ/ثلة ذلك عمله في بيت ملحة الجرمي الذي يصف فيه سحابًا والذي رواه المرزوقي والتبريزي هكذا: نشاوى من الإدلاج كدري مزنه يقضي بجدب الأرض ما لم يكد يقضي فقد روى أبو العلاء "يشاوى من الإدلاج كدري مزنه" وشرح روايته لغويًا ثم قال: "ومن روى نشاوى من الإدلاج" أراد قطاه نشاوي من الإدلاج، والأجود أن يجعل تقضي من وصف المزنة لأنه يتصل بها، فإن جعل يقضي للحبى أو للبرق فجائز والأول أحسن ويكون في هذه الرواية بالياء، وفي الأول بالتاء، وإذا روي نشاوى فالأحسن أن يروى مزنه بإضافة مزن إلى الهاء".

وهناك عنصر لم نجد في نقولات التبريزي منه سوى موضع واحد، وهو عنصر الأخبار التاريخية ومناسبات الشعر، ويبدو أن التبريزي اكتفى فيه بما كان ينقله عن أبي رياش باعتبار أن أبا رياش كما وضحنا من قبل كان أو في الشراح بهذا العنصر، وبجانب هذا هناك عنصران لا وجود لهما في هذه النقولات هما عنصرا البلاغة والنقد، ولا ندري إن كان له عمل فيهما ولم يفد منه التبريزي أو أنه لم يعالجهما أصلًا في شرحه. ومهما يكن من الأمر فإن هذا الشرح "الرياشي المصطنعي" الذي صنعه أبو العلاء لخدمة اختيار الحماسة قد بدا لنا من خلال نقولات التبريزي عنه غير واضح المنهج، يصعب إدراجه تحت واحد من المناهج الخمسة التي حددناها لشراح الحماسة فهو أشبه في بعض عمله اللغوي وبخاصة في شرح الأسماء والأعلام بابن جني ولكنه يختلف عنه في أمور، أهمها أن ابن جني في عمله اللغوي كان يجنح كثيرًا إلى التصريف، ولم يكن أبو العلاء كذلك، وثانيها أن ابن جني كان في عمله اللغوي والنحوي ينظر إلى الأبيات التي تثير قضية لغوية أو نحوية ولا يهتم بالمعنى إلا من خلال ارتباطه بالإعراب في حين أن أبا العلاء قد ركز جهدًا على المعاني وتأويلاتها وإن لم تكن له صلة بالإعراب بل إنه كان يلجأ إلى الإعراب ليوضح به المعنى وليس العكس، وثالثها أن ابن جني كان يعمد كثيرًا إلى إثارة الخلاف بين أبي الحسن الأخفش وجمهرة النحاة وبخاصة سيبويه، وينظر إلى ما تعطيه أبيات الحماسة من دعم لأحد الفريقين، ولم يكن هذا من شأن أبي العلاء ولا قصد إليه في عمله اللغوي النحوي، ورابعها أن عمل ابن جني في "التنبيه" كان علميًا بحتًا. أما أبو العلاء فإنه بجانب جنوحه إلى اللغة فإن عمله لم يخل من أدب، يبدو ذلك حتى في عمله اللغوي حيث كان ينظر إلى كلام العرب فينقل من أدبها الشيء الكثير ليدلل به على صحة المعنى اللغوي للألفاظ أو التراكيب وأحيانًا لمعاني النصوص ومرامي الشعراء. وأخيرًا إن أبا العلاء لم يضع شرحه للطبقة المتخصصة العليا من أهل العلم

على نحو ما صرح ابن جني في مقدمته لكتاب "التنبيه". من أجل هذه الفروق جميعها بعد منهج أبي العلاء عن منهج ابن جني برغم تأثره به في بعض عمله ومشاكلته إياه في نواح من شرحه. كذلك لم يكن أبو العلاء مشابهًا في منهجه منهج الإبداعيين الفنيين الذين رأيناهم في تطبيق المرزوقي وذلك من حيث أنهم كانوا يقصرون عملهم على نصوص الحماسة، فيوظفون علوم اللغة والنحو والرواية والبلاغة والنقد والأخبار التاريخية توظيفًا فنيًا محكمًا لإبراز معاني النصوص، ويعرضون ذلك في أسلوب أدبي رائع، ولم يكن أبو العلاء كذلك لأنه قد تجاوز نصوص الحماسة إلى شرح أسمائها وأعلامها فضلًا عن استطراداته الكثيرة في اللغة مما أثره أبو رياش في شرحه من أخبار تاريخية، وما يتصل بها من أشعار كان أبو العلاء يقف عندها ويشرح ما فيها من لغة وأعلام، هذا فضلًا عن أن أسلوبه لم يكن أدبيًا يعني فيه بصوغ عباراته وسبكها بما يكسبها شيئًا من الإيحاءات التي تثير المتعة لدى القارئ، وإنما كان يعمد إلى أسلوب فصيح خال من الزخرفة والصياغة يؤدي به إلى أفكاره ومعانيه. كذلك اختلف أبو العلاء عن أصحاب المنهج التتبعي التقويمي، لأنه لم يقصد من شرحه أن يتتبع أبا رياش في عمله ويقوم ما فيه من أخطاء، وإنما قصد منه أن يسد ما فات على أبي رياش توضيحه من حيث أن أبا رياش كان يجنح إلى الأخبار التاريخية في المقام الأول، ففاتت عليه جملة من عناصر الشرح حاول أبو العلاء أن يكون له عمل فيها، وفق ثقافته وهواه. وطبيعي أن يختلف عمل أبي العلاء عن أصحاب المنهج التجميعي الانتخابي، وأصحاب المنهج التسهيلي الاختصاري، فنقولات التبريزي المسهبة المستطردة دلت على أنه لم يكن تسهيليًا اختصاريًا قط، كما أنه إذا كان قد نظر في شروح سبقته فإنه لم يكن ينظر فيها لينتخب منها شرحه، وإنما ليناقشها ويبين رأيه فضلًا عن أنه كان في عمله ابتكاريًا يكد ذهنه ليبرز لنا جهده وعلمه ودرايته، في حين أن الانتخابين كما رأيناهم في عمل التبريزي وغيره كانوا بعيدين عن هذا كله، إلا في مواضع قليلة لا تقاس بما قام به أبو العلاء في عمله.

الفصل الثاني: ظواهر عامة في أعمال الشراح

الفصل الثاني: ظواهر عامة في أعمال الشراح وبعد فلقد وقفنا على مناهج الشراح في الحماسة إلى نهاية القرن السادس الهجري، وطبقنا هذه المناهج على شروحهم، ما وصل منها كاملًا وغير كامل، ووقفنا بالدراسة على عناصر الشرح التي انتهوا إليها في ذلك الزمن، ومدى ما حققوه من عمل فيها. لقد كانت رحلة طويلة مع أعمال هؤلاء الشراح، ودراسة ذات نظرة موازنة، متشعبة متلاحقة كشفت عن المتشابه والمختلف، وعن الإبداع والابتكار، والتقليد والإتباع، وعن الجهد الذي يدل على عمق وأعمال فكر، والذي يدل على سطحية وعدم نفاذ، وكشفت مع هذا كله عن مدى ما اضطلع به هؤلاء الشراح من ثقافات، وما تسلط عليهم من أهواء ونزعات، وما رموا إليه من أهداف وغايات. ولقد كنا ونحن نلحظ هذه الجوانب التي كشفتها الدراسة وتتابع الأعمال بنظرتنا الموازنة نلحظ أيضًا ظواهر عامة كانت الدراسة والمتابعة تكشفها واحدة تلو الأخرى، حتى بلغت في الإحصاء ستًا ... وهي ظواهر تتصل بشرح شعر الحماسة، تمس المتن، والمادة التي خلفها الشراح في شروحهم، وتمس الشراح أنفسهم وما نقلوه في أعمالهم مما كان ينبغي التوجه إليه بالشرح والتفسير. ولأنها ظواهر لا تتصل بشعر الحماسة وشرحه فحسب بل يتصل بعضها بشرح الشعر القديم عامة رأينا أن نفرد لها هذا الفصل، نناقشها ونبين وجهة نظرنا فيها، وهي كما بدت لنا يمكن تصنيفها في مجموعات ثلاث. الأولى تتصل بمتن الحماسة، وتضم ظاهرتين، إحداهما: ندرة رجوع الشراح إلى الأصول في رواية المتن،

والأخرى تغاضيهم عن مناقشة النحل في المتن المختار من قبل أبي تمام. أما المجموعة الثانية فتتصل بالمادة التي خلفها هؤلاء الشراح، وتضم ثلاث ظواهر، إحداها: الاستطراد والتوسع في بعض عناصر الشرح، والثانية طغيان اللغة والنحو في عملية الشرح، والثالثة إغفال الشاعر والعوامل النفسية الموحية له بالشعر. وأما المجموعة الثالثة والأخيرة فتتصل بالشراح أنفسهم، وتشمل على ظاهرة واحدة هي: تسلط نزعاتهم وأهوائهم في أعمالهم التي خلفوها لنا في الحماسة. -1 - في متن الحماسة أ- ندرة رجوع الشراح إلى الأصول في رواية المتن: وهي ظاهرة شملت سائر الشروح على مختلف مناهجها، إذ أن شراح الحماسة كانوا إذا عالجوا رواية المتن عالجوها من خلال نسخ الحماسة التي لديهم أو نسخ الشروح التي وقفوا عليها وأفادوا منها، فالنمري مثلًا كان كثيرًا ما يشير إلي رواية الديمرتي وغيره في شرحه، وإلى رواية شيخه أبي رياش، والمرزوقي كان يرجعنا إلى نسخ الحماسة مختلفات المصادر، كما كان ينظر إلى رواية ابن جني في كتاب "التنبيه" ويناقشها. وابن جني نفسه كان إذا ناقش الرواية ناقشها من خلال ما قرأه من أعمال شراح سبقوه، لا يشير إليهم بالاسم ولكن يدل عليهم من خلال عمله، وكذلك كان يشير إلى رواياته التي أخذها بالسماع من الشيوخ. وأبو هلال العسكري كان يناقش الرواية في غلبة عمله من وجهة نظر لغوية أو إعرابية أو غيرهما من معايير الرواية دون أن يرجع إلى أصل من أصول متن الحماسة، وما رسالته "ضبط مواضع من الحماسة" ببعيدة عنا. وأبو محمد الأعرابي كان يعتمد

اعتمادًا دائمًا على شيخه أبي الندى. وأبو العلاء المعري كان يشير إلى نسخ الحماسة ويقول: "ويقع في بعض النسخ كذا ...... ". أما التبريزي وغيره من أصحاب المنهج التجميعي الانتخابي فقد كان موقفهم من متن الحماسة هو موقف الشروح التي انتخبوا منها أعمالهم، وجلها مما ذكرناه آنفًا، فهم قل أن يرجعوا إلى الأصول المتمثلة في أشعار القبائل ودواوين الشعراء، ولم نجد لهم في هذا الخصوص سوى إشارات طفيفة لا تكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة، منها إشارة ابن جني التي مرت بنا في بيت تأبط شرًا القائل: فأبت إلى فهٍم ولم آيبا وكم مثلها فارقتها وهي تصفر فقد قال فيه: "أن الرواية في ديوان الشاعر بالخط القديم (وما كدت آيبا) "، وإشارة ثانية له في رواية بيتين لأبي الربيس قال: إنه وجدهما بخط أبي موسى في ديوان أبي الربيس. وإشارة ثالثة لأبي هلال العسكري في القطعة التي نسبها أبو تمام إلى المثلم بن عمرو التنوخي، فقد قال فيها: "هذا الشعر في أشعار هذيل للبريق بن عياض الهذلي" وإشارة رابعة لزيد بن علي الفارسي في القطعة الأولى من باب الرثاء التي نسبها أبو تمام لأبي خراش الهذلي قال فيها: "إن هذا الشعر ليس في ديوان أبي خراش". ونحن لا نجد تعليلًا لهذه الظاهرة سوى أنهم قد شغلوا بالحماسة وروايات نسخها عن غيرها من مجاميع الشعر ودواوين الشعراء، ولم يحاولوا أن يربطوا عملهم في متن الحماسة بمصادر الشعر الأخرى، وهي مصادر لا يمكن القول بأنها كانت غير متوفرة لديهم في ذلك الزمن، فهناك كتب وصلت إلينا كانت تشير إليها وتدل عليها، والذي يقرأ كتاب المؤتلف والمختلف للآمدي المتوفى سنة 370 هـ يجد

إشارات متعددة إلى جملة من دواوين القبائل ودواوين الشعراء التي كان يرجع إليها في صنعته هذا الكتاب. وكذلك يمكن أن يجد ذلك لدى المرزباني المتوفى سنة 384 هـ، فقد كان يشير إلى مصادر للشعر من صنع أبي سعيد السكري بل إن بعض هذه المصادر من مجاميع أشعار القبائل ودواوين الشعراء كانت موجودة لدى البغدادي المتوفى سنة 1093 هـ، وقد أوردها ضمن مصادر كتابه الخزانة في المقدمة التي صدر بها هذا الكتاب. ومن ثم كان من المتيسر لهؤلاء الشراح أن يفيدوا من هذه المصادر في أعمالهم التي اتصلت برواية متن الحماسة بدلًا من أن يدوروا حول نسخ الحماسة وروايات الشراح فيها. وفي إدراكنا أنهم لو فعلوا ذلك لحققوا أمرين. أحدهما: تجنب الوقوع في افتراضات لا معنى لها أثناء عملية الشرح حين يكون في الأبيات نقص ناجم عن اختيار بعض أبيات من قصيدة الشاعر وترك الباقي، وذلك كما في أبيات عمرو بن معدي كرب الواردة في باب الحماسة، فقد كان اختيار أبي تمام لها على هذا النحو: ولما رأيت الخيل زورًا ... جداول زرٍع خليت فاسبطرت فجاشت إلى النفس أول مرٍة وردت على مكروها فاستقرت علام تقول الرمح يثقل ساعدي إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت فقد أخذ الشراح يبحثون عن جواب "لما" الواردة في البيت الأول، فدخلوا في تأويلات لا طائل لها، حتى المرزوقي صاحب المنهج الإبداعي الفني وقف عندها وأطنب في القول حيث قال: "يجوز أن يكون الفاء في "فجاشت" زائدة في قول الكوفيين وأبي الحسن الأخفش ويكون جاشت جوابًا للمّا، والمعنى: لما رأيت الخيل هكذا خافت نفسي وثارت، وطريقة جل أصحابنا البصريين في مثله أن يكون الجواب محذوفًا كأنه قال: لما رأيت الخيل هكذا فجاشت نفسي وردت على ما كرهته

فقرت طعنت وأبليت، ويدل على ذلك قوله: "علام تقول الرمح يثقل ساعدي إذا أنا لم أطعن ... " فحذف طعنت أو أبليت لأن المراد مفهوم". ثم مضى يعدد الأمثلة من القرآن والشعر التي تدل على حذف جواب الشرط في الكلام إذا كان مفهومًا من السياق. وتبعه في ذلك الخطيب التبريزي حيث نقل كلامه بنصه بدون أين يضيف إليه شيئًا، ولم يكلف أحد منهما نفسه بالرجوع إلى ديوان الشاعر لمعرفة ما إذا كان أبو تمام قد أسقط في روايته بيتًا من شعر الشاعر اشتمل على جواب "لما"، حتى جاء البغدادي في الخزانة فأورد أبيات الحماسة على نحو ما رواها أبو تمام ثم قال: "هذا المقدار أورده أبو تمام في الحماسة، وفي ديوانه أكثر من هذا" ثم مضى وذكر ما قاله الشراح في جواب "لما" وعلق عليه بقوله" وهذا تعسف نشأ من أبي تمام فإنه حذف بيت الجواب اختصارًا كعادته، لكن كان على الشارح مراجعة الأصل، والجواب هو البيت الثالث المحذوف وهو: هتفت فجاءت من زبيٍد عصابٌة إذا طردت فاءت قريبًا وكرت أما الأمر الثاني الذي كان يمكن أن يحققوه من وراء الرجوع إلى الأصول فهو معرفة ما كان يختار أبو تمام وما كان يترك، فهم قد ظلوا يرددون أن أبا تمام قد "اختطف الأرواح دون الأشباح" على حد تعبير المرزوقي، أو أن أبا تمام "في اختباره الحماسة أشعر منه في شعره" على حد التعبير الذي نقله التبريزي في مقدمة شرحه. ولكن أحدًا منهم لم يحاول أن يطبق هذه الأقوال في نص من نصوص الحماسة من خلال رجوعه إلى المصادر الأولى لشعر الحماسة، ويدل في هذا النص على ما اختاره وما تركه، ولماذا اختار ولماذا ترك؟ . إننا لم نجد شيئًا من هذا من

واحد منهم، وإنما وجدناه عند عالم من العلماء الذين لم يكن لهم عمل في الحماسة، وهو ضياء الدين بن الأثير الذي ولد في النصف الثاني من القرن السادس وعاش في القرن السابع حقبة من الزمن حيث توفي سنة 637 هـ، فقد تناول في كتابه "الاستدراك" هذا الجانب في عمل أبي تمام، وقال بعد أن أكد أن أبا تمام إمام الناس شعرًا ومعرفة بالشعر: "ولقد تأملت من الأشعار التي اختار كتاب الحماسة منها فوجدته دقيق النظر فيما أخذ، وما ترك، وسأذكر من ذلك قطعة واحدة حتى يتبين من ذكرته ونبهت عليه، وذلك أنه أورد في باب المراثي أبيات العتبي التي يرثي فيها بنيه وهي: وقاسمني دهري بني مشاطرًا فلما تقضى شطره عاد في شطري وكنت به أكنى فأصبحت كلما كنيت به فاضت دموعي على نحري فيا ليت أمي لم تلدني ... سبقتك إذ كنا إلى أمٍد نجري وقد كنت ذات ناٍب وظفٍر على العدى فأصبحت لا يخشون نابي ولا ظفري ثم مضى قائلًا: "وهذه الأبيات قد اختارها من قطعة تشتمل على ثمانية أبيات فأخذ أربعة وترك أربعة ... فأما الذي تركه فهو هذا: لقد شمت الأعداء بي وتغيرت عيوٌن أراها بعد موت أبي عمرو تجرا علي الدهر لما فقدته ... ولو كان حيًا لا جترأت على الدهر أسكان بطن الأرض لو يقبل الفدا فدينا وأعطينا لهم ساكن الظهر فيا ليت من فيها عليها وليت من عليها ثوى فيها إلى آخر الدهر ثم بين علة اختيار تلك وطرح هذه فقال: "وإذا وقف ناقد الشعر على الأبيات بجملتها رأى الجميع مختارًا ببديهة النظر، فإذا أفكر وأنعم نظره في المأخوذ منها والمتروك، علم حينئذ مقدار ما عند أبي تمام من نقد الشعر والمعرفة به. أما البيت الأول مما أخذه فليس في الأبيات ما يقوم مقامه لأن معناه منفرد برأسه، وكذلك

البيت الثاني. أما البيت الثالث فإنه مقام بيتين من المتروك هما "أسكان بطن الأرض" و "فيا ليت من فيها"، وأما البيت الرابع فإنه يقوم مقام الأول المتروك". فمثل هذا العمل لم نجده لدى شارح من شراح الحماسة لأنهم لم يحاولوا الرجوع إلى الأصول إلى في القليل النادر الذي كان قصدهم منه فحص الرواية في بيت من الأبيات لا البحث فيما اختاره أبو تمام، ولو فعلوا ذلك ووقفوا على ما أسقطه أبو تمام من شعر الشعراء في قصائدهم التي كان ينتحل منها، ورووا لنا هذا الشعر المتروك- وإن لم يناقشوه- لأتاحوا لنا فرصة التعرف بجلاء على عمل أبي تمام في الاختيار والنظر فيه وفق هذا النحو الذي سلكه ابن الأثير. ونحن لا ننكر أن جماعة من رواة الحماسة أو شراحها قد حاولت أن تضيف على ما اختاره أبو تمام في شعر في الحماسة مما وجدت في الكتب أو الدواوين، وهو ما نفسر به عادة الزيادات التي تؤدي إلى اختلاف الرواية في متون الشراح حين نجد تفاوتًا في عدد أبيات القطع لدى شارح وآخر، غير أن هذه الجماعة لم تكن تشير إلى هذه الإضافات وتدل عليها بل كان الواحد منها يورد ما يورده كأنه من اختيار أبي تمام، أو هكذا وجده في النسخ التي اعتمدها في عمله، ومن هنا كان صنيع هذه الجماعة مشكلًا آخر أدى إلى اختلاف في عدد أبيات القطع التي اختارها أبو تمام فضلًا عن المشكل الناجم عن اختلاف ألفاظ الأبيات على أكثر من وجه في روايات هؤلاء الشراح. ب- تغاضيهم عن قضية النحل في متن الحماسة: وهي ظاهرة كان السبب في لفت نظرنا إليها قطعتان من الحماسة إحداهما في باب الرثاء وهي اللامية المعروفة بلامية العرب، والتي نسبها أبو تمام إلى تأبط شرًا، وقيل: إنها لابن أخته في رثائه، ونسبها أبو الفرج في الأغاني والشريف المرتضى

في أماليه إلى الشنفري. والأخرى في باب النسيب صدرها أبو تمام بقوله: "وقال آخر، وقال أبو رياش: إنها مولدة". فأما هذه الأخرى فلم نجد في شأنها سوى هذه الإشارة التي وردت عن أبي رياش والتي لم يوضح فيها لم قال هذه العبارة؟ فأبو تمام لم ينسبها إلى شاعر قديم حتى يقال فيها هذا القول. ولم يذكر أبو عبد الله النمري- تلميذ أبي رياش- شيئًا عنها ... حتى أبو العلاء المعري الذي أقام شرحه "الرياشي المصطنعي" على شرح أبي رياش، لم يصل إلينا عنه شيء في أمرها. وكذلك التبريزي الذي نقل لنا قول أبي رياش لم يوضح لنا لماذا هي مولدة، وهناك آخرون وقفوا على شرح أبي رياش وأفادوا منه ورد ذكرهم في الفصول السابقة مثل زيد بن علي وأمين الدين الطبرسي، وصاحب الشرح المنسوب خطأ لأبي العلاء لم يولوا هذا الأمر اهتمامًا في عملهم، ونحن لا نستطيع أن نقول فيه شيئًا لأن صاحب الشعر مجهول لدينا، فأبو تمام لم ينسبه إلى أحد، ولم يبت أحد من الشراح الذي وقفنا على شروحهم في أمر نسبته، ومن ثم فإنه إذا جاز لنا أن نتكلم في هذه القطعة بشيء فهو أن رواية أبي تمام لها في الحماسة لا تدل على قدمها، فأبو تمام- كما هو معلوم- قد روى في الحماسة شعرًا قديمًا وشعرًا محدثًا، فلماذا لا يكون هذا الشعر محدثًا رواه أبو تمام، ولم يشأ أن يذكر صاحبه، فكان ما قاله أبو رياش في شأن توليده؟ ! . غير أن الذي يهمنا هنا هو القطعة الأولى التي رواها أبو تمام ودل على أنها من شعر الجاهلية، فقد توالت إشارات الشراح إلى إنها منحولة من صنع خلف الأحمر وهي إشارات جاءت متباينة في الزمن، بدأت عند أبي عبد الله النمري المتوفى سنة 385 هـ، حين ذكر في شرحه أنها لخلف الأحمر وساق دليلًا على ذلك هو قوله: "جل حتى دق فيه الأجل" قال: "إن الإعرابي لا يكاد يتغلغل إلى مثل هذا". ثم جاء الإمام المرزوقي المتوفى سنة 421 هـ، ونسبها تبعًا لأبي تمام إلى تأبط شرًا، ثم

قال: "وذكر أنها لخلف الأحمر وهو الصحيح". ورد أبو محمد الأعرابي المتوفى سنة 436 هـ على دليل النمري السابق بقوله: "ليس هذا كما ذكر بل الأعرابي قد يتغلغل إلى أدق من هذا لفظًا ومعنى، وليس من هذه الجهة عرف أن الشعر مصنوع، لكن من الوجه الذي ذكرناه لنا أبو الندى قال: "مما يدل على أن هذا الشعر مولد أنه ذكر فيه "سلع" وهو بالمدينة وأين تأبط شرًا من "سلع"؟ وإنما قتل في بلاد هذيل ورمي به في غار يقال له رخمان". ونسب زيد بن علي الفارسي المتوفى سنة 467 هـ القطعة إلى الشنفرى، وأشار بأنه ابن أخت تأبط شرًا، ثم أضاف "أن المبرد قال: إنها لخلف الأحمر، إلا أنها تنسب إلى تأبط شرًا". وأخيرًا جاء الخطيب التبريزي المتوفى سنة 502 هـ بمنهجية التجميعي الانتخابي فنقل ما قاله المرزوقي وأضاف "وقيل: قال ابن أخت تأبط شرًا" ثم نقل كلام النمري ورد أبي محمد الأعرابي عليه دون أن يعقب على ذلك بشيء. ومع هذه الإشارات التي توالت في هذه الشروح عبر فترات متباعدة، صدرت خلالها شروح أخرى تدخل في دائرة الفترة الزمنية التي حددناها لهذا البحث، فإننا لم نجد شارحًا من الشراح تناول هذه القضية بشيء من المناقشة والتفصيل وإبداء رأي قاطع فيها. فأبو هلال العسكري المتوفى سنة 395 هـ لم يصل إلينا عنه شيء فيها، وكذلك أبو العلاء المعري المتوفى سنة 449 هـ، وصحيح أن شرحي هذين العالمين لم يصلا إلينا، ولكن كلا من الشرحين كان من الشروح التي انتخب منها التبريزي شرحه، فلو أورد لأبي هلال أو لأبي العلاء كلام في هذه القضية لنقله التبريزي، ولما اكتفى بنقل كلام النمري ورد أبي محمد الأعرابي عليه، وكذلك لم يقف عند هذه القضية شراح القرن السادس أمين الدين الطبرسي

المتوفى سنة 548 هـ، وأبو الرضا الرواندي المتوفى بعد سنة 549 هـ، وصاحب الشرح المنسوب إلى أبي العلاء الذي رجحنا أنه من علماء القرن السادس. إن ما قاله النمري من دليل على كون هذه القصيدة منحولة غير مقنع، وكان يستدعي الوقوف والتعليق من قبل هؤلاء الشراح لاسيما أبو العلاء والتبريزي والطبرسي الذين وقفوا على شرحه، وما قاله أبو محمد الأعرابي من أن الأعرابي قد يتغلغل إلى أدق من عبارة "جل حتى دق فيه الأجل" لفظًا ومعنى صحيح لا قول فيه، بدلالة ما ذكره الدكتور عبد الله الطيب المجذوب أنك: "لو فتشت عما في الشطر "جل حتى دق فيه الأجل" من معنى لم تجده يزيد شيئًا عن كلمة امرئ القيس الكندي" ألا كل شيء سواه جلل". غير أن أبا محمد الأعرابي وقد أبطل كلام النمري بما نعتبره صحيحًا، ذهب بعيدًا جدًا حين اعتمد كلام شيخه الرامي إلى أن القصيدة مولدة منحولة لأن فيها ذكر "سلع" وهو المدينة وتأبط شرًا قتل ببلاد هذيل فهذا القول أضعف بكثير مما قاله النمري، فقول النمري قد تجد له تأويلًا ومخرجًا على نحو ما فعل الدكتور عبد الله المجذوب حين ذهب إلى أن لفظ الشعر فيه لف ودوران مخالف لطريقة الجاهلية، وأن هذا ما أراده النمري من قوله" أما كلام أبي محمد الأعرابي فلا مخرج له البتة، والرد عليه- كما أفاد الدكتور ناصر الدين الأسد- لا يحتاج منا إلى أكثر من أن نفتح القاموس للفيروز أبادي أو معجم البلدان لياقوت لنجد فيه أن "سلعًا" اسم لعدة مواضع ومنها "جبل لهذيل". ونحن لا نريد أن نخوض في غمار هذه القضية ومناقشة ما أثاره المعاصرون فيها، فقد تعرض لها بروكلمان ونقل آراء من سبقه من المستشرقين فيها وانتهى إلى الوقوف مع القول القائل بجاهليتها. وتصدى لها الدكتور عبد الله المجذوب وذهب إلى القول بجاهلية بعضها وتوليد بعضها وبحث فيها الدكتور ناصر

الدين الأسد في شيء من التفصيل، وانتهى إلى القول بأنها جاهلية صحيحة وليست منحولة. لا نريد أن نتعرض بالحديث لهؤلاء الباحثين فليس هذا موضعه، وإنما نريد أن نؤكد أن هؤلاء الشراح الذي تصدوا للحماسة بالشرح قد شكلوا ظاهرة عامة في موقفهم من شأن هذه القصيدة حين اكتفى بعضهم بترديد القول القائل بأنها لخلف الأحمر، وأتى اثنان منهم بكلام لا يقوم على ساق، وكان على الشراح الذين جاءوا بعدهما أن يناقشوه ويبينوا خطأه وتهافته على النحو الذي رأيناه عند المعاصرين بعد، ولكنهم لم يفعلوا ذلك لأن قضية النحل في متن الحماسة لم تكن- فيما يبدو من أعمالهم- موضع بحث ودرس لديهم. -2 - في مادة الشروح أ- التوسع والاستطراد وهي ظاهرة كان رصدنا لها مستمرًا في سائر الشروح ذات المناهج المختلفة، ابتداء من المنهج الفني الإبداعي، وانتهاء بالمنهج الاختصاري التسهيلي، غير أنها جاءت على تفاوت في هذه الشروح. فالنمري الذي ركز جهوده في الروايات والمعاني كان يتوسع في إيراد المعاني فيورد للبيت الواحد أكثر من تأويل في معناه ولكنه كان لا يستطرد في عمله كما كان يفعل الشراح الآخرون. والمرزوقي بمنهجه الإبداعي الفني كان يحاول جاهدًا أن يوظف سائر العلوم في خدمة النص توظيفًا محكمًا، وقد استطاع أن يحقق ذلك في غلبة عمله، ومع ذلك فقد لاحظاناه يقع في التوسع والاستطراد في أكثر من موضع، ويكفي أن تقرأ عمله في بيتي أبي عطاء السندي اللذين يقول فيهما: فإن تمس مهجور الفناء فربما أقام به بعد الوفود وفود فإنك لم تبعد على متعهٍد ... بلى كل من تحت التراب بعيد

لتدرك مدى توسعه واستطراده في مناقشته جواب شرط "إن" الوارد في صدر البيت الأول، فقد بالغ في التوسع والاستطراد في الشرح وضرب الأمثلة. ومثل هذا التوسع والاستطراد يمكن أن تلحظه في عمله الذي أداه في شرح تركيب "وبعض الشر أهون من بعض" الوارد في بيت أبي خراش الهذلي، غير أن ما صدر عنه من توسع واستطراد كان غالبًا في مجالي اللغة والنحو. أما بقية عناصر الشرح الأخرى التي تعاطاها ي شرحه فقد كان عمله فيها يتسم بالدقة والإحكام البعيدين عن هذه الظاهرة. أما أبو العلاء المعري فالحق أنه، ومن خلال ما وصلنا عنه في شرح التبريزي، كان أكثر الشراح توسعًا واستطرادًا، فهو في شرحه لأسماء شعراء الحماسة والأعلام الواردة في أبياتها كان كثيرًا ما يتجاوز المادة التي يناقشها إلى مواد أخرى تتصل بها، وكذلك لاحظنا منه ذلك في جملة من قضايا النحو والإعراب والعروض، فضلًا عن إسهابه المتكرر في مناقشة تأويلات المعاني وتراكيب النصوص، ولعلك حين ترجع إلى ما ذكرناه في دراستنا لشرحه "الرياشي المصطنعي" وإلى تعرضنا له بالحديث في منهج التبريزي تلميذه الذي كان يتابعه في الاستطراد والتوسع، تجد من الأمثلة ما يدل على كثرة استطراده وتوسعه، بل إنك تجد أنه لم يكن يتوسع ويستطرد في الأعمال الخاصة بنصوص الحماسة فحسب بل يتجاوز ذلك إلى التوسع والاستطراد في شرح ما كان يثيره أبو رياش في شرحه من أقوال وأخبار شعر. ومثله في هذا ابن جني في القضايا اللغوية والنحوية التي كان يثيرها في كل من المبهج والتنبيه، والأمثلة على توسعه واستطراده كثيرة لا حصر لها. يمكنك أن تلم بها إذا نظرت في أعماله في المبهج في شرح أسماء "نهار بن توسعة" و "ريطة بن

عاصم) و (أمية بن أبى الصلت)، كما يمكنك أن تجدها في (التنبيه) في إثارته الخلاف بين سيبويه والأخفش وإرسال الحديث متشعبا حين ينعكس هذا الخلاف في نص من نصوص الحماسة. ولو أجريت نظرك في عمله الذي ناقش فيه بيت المنخل اليشكري القائل: وفوارس كأوار حر النار أحلاس الذكور لوجدت توسعا واستطرادا ملحوظا في هذا العمل. وإذا كان ابن جني بمنهجه العلمي التخصصي قد برز لديه التوسع والاستطراد فان أبا محمد الأعرابي بمنهجه التتبعي التقويمي قد كان في بعض عمله الذي تتبع فيه أبا عبد الله النمري يقع في التوسع والاستطراد، وبخاصة في إيراده قصص الشعر وأخبار الشعراء وذكر ما فيها من شخصيات وأشعار. أما التبريزي ذو المنهج التجميعي الانتخابي الذي يقوم على استيفاء عناصر شرحه من الشروح التي سبقته، وتقديمها في ثوب منسق مشذب، فقد رأيناه في مواضع متعددة ينجرف مع شيخه أبي العلاء في التوسع والاستطراد، كما كان يسود العديد من الصفحات بأخبار الشعر ومناسباته التي كان ينقلها من شرح أبي رياش فضلا عن جنوحه المستمر إلى النحو وما فيه من تشعب واستطراد. إن الشراح الذين يفترض أن تكون أعمالهم خالية من هذه الظاهرة هم أصحاب المنهج الاختصارى التسهيلي، ومع ذلك فإننا لاحظنا في بعض عملهم.

إسهابا وتوسعا، وهو إسهاب وتوسع- وان جاء في قلة لا تخرجهم عن حد المنهج إلي ساروا فيه- فإنه دل على أن هذه الظاهرة قد كان لها أثرها في أعمالهم، وهو أمر كنا قد اشرنا إليه في دراستنا لهم في شرح كل من البياري وصاحب الشرح المنسوب خطأ إلى أبي العلاء، كما نوهنا له في دراستنا لشرح زيد بن علي في كتابنا الثاني من هذا البحث. ويمكن القول بأنه لم يسلم أحد من أصحاب هذا المنهج من هذه الظاهرة سوى الأعلم الشنتمري الذي شرح حماسة من صنعه تعد بعيدة عن حماسة أبي تمام وإن اشتملت على جملة من نصوصها. على أننا إذا بحثنا عن علة غلبة هذه الظاهرة على شروح شراح الحماسة وجدنا أنها ترجع إلى التأثر بأعمال الشراح الذين تخصصوا في شرح الشعر الجاهلي، فقد ذكر الدكتور أحمد جمال العمري أن شراح الشعر الجاهلي الذين ظهروا في القرن الرابع - وهو القرن الذي صدر فيه جل شروح الحماسة - قد أدركوا أن القصد من شرح الشعر هو التعليم والتثقيف إلى جانب الإمتاع. ومن ثم رأوا (أن من الواجب عليهم أن يوسعوا دائرة نشاطهم، ويحللوا، ويدققوا، ويسهبوا في شروحهم، ويستطردوا لتشمل كل ما يتصل بالنص من قريب أو بعيد، روايات وتفسيرات لغوية، وتوضيحات نحوية، وتحليلات نقدية، ونظرات بلاغية، وأخبار وأنساب وأحداث، وبذلك وضعوا أمام قارئ شروحهم وطالب عملهم مائدة ضخمة أدسم المواد العلمية التي هي حصيلة الجمع والجهد). وإذا كان هذا هو شأن الشعر الجاهلي في القرن الرابع وفهمهم لعملية شرح الشعر فمن الطبيعي أن ينعكس ذلك على شراح الحماسة من حيث إننا سبق أن أوضحنا عند حديثنا عن حركة تطور شرح الشعر عامة أن شراح الحماسة لم يكونوا بمعزل عن هذه الحركة بل إن جماعة منهم قد أسهمت- بجانب عملها في الحماسة - في شرح الشعر القديم الجاهلي والإسلامي في اختيارات غير الحماسة ودواوين الشعراء.

إن هذا التوسع والاستطراد الذي طرأ على حركة شرح الشعر لدى شراح القرن الرابع الهجري، هو الذي جعل الخطيب التبريزي في النصف الثاني من القرن الخامس يلبي رغبة أحد طالبي علم الأدب في صنع شرح خال من التوسع والاستطراد، ويقول مخاطبا إياه في مقدمته لشرح القصائد العشر: (وذكرت أن الشروح التي لها طالت بإيراد اللغة الكثيرة والاستشهادات عليها، والغرض المقصود منها معرفة الغريب، والمشكل من الإعراب، وإيضاح المعاني، وتصحيح الروايات وتبيينها مع الاستشهادات التي لابد منها من غير تطويل يمل ولا تقصير بالغرض يخل). غير أن التبريزي وهو يقول هذا الكلام لأحد طلاب عصره، ويدرك حاجة الناس في زمنه إلى ترك التوسع والاستطراد في شرح الشعر لم يسلم من هذه الظاهرة. الحق أنه قد حاول في مواضع كثيرة في شرحه أن يكون مقتصدا منسقا في انتخابه من الشروح التي سبقته، ولكنه مع هذا لم يستطع التخلص من التأثير الذي تسلط عليه من قبل شيوخه الذين درس عليهم أو الشيوخ الذين قرأ أعمالهم وأفاد منها في شروحه. وهذا الذي قلناه في التبريزي يمكن أن يقال في سائر الشراح ذوي المناهج المختلفة، وبخاصة شراح المنهج الاختصاري التسهيلي الذين أدركوا ما أدركه التبريزي، وعملوا على التخلص مما كان سائدا في شروح الحماسة وغيرها من توسع واستطراد بإثامة منهج يقوم على اختصار عناصر الشرح، وعرضها سهلة ميسرة، فهم أيضًا لم يسلموا من التأثر بهذه الظاهرة، وإن جاء هذا التأثر متفاوتًا، وفي قلة لا تقاس بأصحاب المناهج الأخرى. ب- طغيان اللغة والنحو في عملية الشرح: لاشك أن اللغة والنحو من العلوم التي تعين على فهم النص الشعري بل هما أمران مهمان في قراءة النص قراءة صحيحة، من حيث عن القراءة الصحيحة تعد

أولى العتبات التي يصعدها القارئ الدارس للوصول إلى فهم النص، ولهذا استعان يهما الشراح في تحليل النص، قصدا إلى إبراز معانيه، غير أن هذه الاستعانة ينبغي ألا تكون هي الغالبة المستأثرة بجهد الشارح وكد ذهنه في عملية الشرح، هذه بديهة من البديهيات لا تحتاج إلى وقوف وإبانة، ولكننا ونحن نقرأ شروح الحماسة التي قام عليها بحثنا لاحظنا أن غلبة أصحابها كثيرا ما يجنحون إلى التفسير اللغوي والنحوي في معالجة النص، الأمر الذي يجعلهم يغضون النظر عن العناصر الأخرى وهي عناصر لها قيمتها في تحليل النص وتبيان معانيه، ومن ثم صار هذا الجنوح المطرد ظاهرة عامة انتظمت غلبة الشراح في أعمالهم التي قرأناها لهم. ونحن هنا لا نعنى أصحاب المنهج العلمي التخصصي، لأن هؤلاء قد بنوا منهجهم في المقام الأول على معالجة القضايا اللغوية والنحوية التي تثيرها أبيات الحماسة، وإذا كان هذا هو حالهم فمن الطبيعي أن نجد اللغة والنحو يطغيان على أعمالهم ويملكان الغلبة الغالبة من جهودهم. وكذلك لا نعنى أصحاب المنهج التتبعي التقويمي لأن أصحاب هذا المنهج يقوم عملهم - كما وضحنا من قبل - على تتبع أعمال السابقين وتقويم ما فيها من أخطاء وأوهام، فهم في أعمالهم يسيرون وفق ما يتتبعونه ويصلحونه لغة كان أو نحوًا أو روايةً أو معنىً، أو خبرًا، إلى غير ذلك من الجوانب التي تكون مثار التتبع والتقويم. إن الشراح الذين نعنيهم بهذه الظاهرة هم أصحاب المناهج الثلاثة الأخرى: المنهج الإبداعي الفني، والمنهج التجميعي الانتخابي، والمنهج الاختصاري التسهيلي، فأصحاب هذه المناهج تقوم أعمالهم على صفات ومقومات لا تقتضي وجود هذه الظاهرة، لأننا لو رجعنا إلى ما قلناه في شرح هذه المناهج لوجدنا أن من أهم صفات المنهج الإبداعي الفني أنه يقوم على دعامات فنية ومقومات أدبية تتآزر وتأتلف لتخدم النص الشعري. وأن الشارح في هذا يوظف معارفه العلمية وقدراته الأدبية في فنية وابتكار توظيفا محكما تكون حصيلته النهائية إبراز المعنى

على أكمل وجه وأتم صورة. وبهذا لا يكون عمله مجرد تقديم مادة لغوية أو نحوية هي في واقع الأمر تحصيل حاصل أو تكرار لما قاله العلماء الأوائل. ولوجدنا أيضا أن عمل الشراح التجمعيين الانتخابيين يقوم على جمع الشروح السابقة، وانتخاب شرح منها تكون عناصر الشرح فيه كاملة معروضة في ثوب من التنسيق والتهذيب والتشذيب بحيث لا يكون عنصر من العناصر طاغيا طغيانا يظهر للقارئ بوضوح أو يحرم العناصر الأخرى من الوجود. ولوجدنا كذلك أن أصحاب المنهج الاختصارى التسهيلي ينبغي عليهم وقد اتخذوا هذا المنهج مرتكزًا لأعمالهم أن يعتمدوا اختصار المعلومات في الشرح مسلكًا، والتسهيل في عرضها سبيلًا بحيث يقدمون سائر العناصر التي يقتضيها الشرح ولكن في صورة تختلف عن سائر الشراح ذوي المناهج الأخرى، صورة قوامها التركيز القائم على الاقتصاد والإيجاز الموصل إلى معنى النص بأقرب طريق وفي سهولة ويسر. وبناء على هذه المقومات والصفات التي أجملنا الحديث فيها كان جنوح أصحابها نحو اللغة والنحو ظاهرة من الظواهر التي تستحق المناقشة والتعليل. ونحن لا ننكر أن أصحاب هذه المناهج قد حاولوا جهدهم أن يوفروا لأعمالهم سائر المقومات والصفات التي تقوم عليها مناهجهم، ولكنهم وهم يحققون ذلك لم يسلموا من أن يتغول عنصرا اللغة والنحو في بعض أعمالهم على عناصر الشرح الأخرى، وذلك بسبب ميلهم وجنوحهم نحو العمل اللغوي النحوي. فالمرزوقي مثلا رأيناه في مواضع مختلفة من شرحه يند عنه شيء من الميل إلى اللغة والنحو إلى درجة تجعل غلبة جهده في العمل التحليلي وقفا عليهما كليهما أو أحدهما. ومن أمثلة ذلك عمله في بيت دريد بن الصمة القائل: كميش الازار خارج نصف ساقه بعيد عن الآفات طلاع أنجد فقد جاء عمله في هذا البيت منصبًا في غلبته على اللغة إلى درجة أنسته أن يورد

ما تضمنه البيت من معنى. وكذلك الحال في بيتي الصمة بن عبد الله القشيري وهما: حننت إلى ريا ونفسك باعدت مزارك من ريا وشعباكما معا فما حسن أن تأتي الأمر طائعا وتجزع أن داعي الصبابة أسمعا فقد جاءت غلبة عمله المطلقة فيهما في مجالي اللغة والأعراب بحيث أخذ ذلك من عمله نحو عشرين سطرًا، في حين أن عرض المعنى لم يأخذ منه سوى ثلاثة أسطر. هذا فضلًا عن إغفاله تصوير الجو النفسي الذي دفع الصمة إلى هذا القول والأسلوب البلاغي الذي شمل البيتين من مخاطبة النفس بهذا العتاب في موقفيها النقيضين: مفارقتها ريا في طوع واختيار، وحنينها إليها وجزعها عليها في شوق ووله، وتسلل الشاعر بأسلوبه هذا إلى عاطفة القارئ، يحركها للتجاوب المستحب. وإذا كان المرزوقي يجنح إلى اللغة والنحو في قلة وفي مواضع يمكن أن تحصى، فإن التبريزي ذا المنهج التجميعي الانتخابي كان جنوحه نحو اللغة والنحو مطردًا، ولقد سبق أن ناقشنا هذا الجنوح في عمله عند دراسة منهجه، حيث رأيناه في مواضع عديدة يميل في عمله إلى النحو خاصة، إلى درجة تدفعه أحيانًا إلى أن ينقل في شرحه ما أورده المرزوقي من عمل في النحو، مكتفيًا به عن سائر العناصر الأخرى، ولو قرأنا عمله في بيت سعد بن مالك الذي يقول فيه يا بؤس للحرب التي وضعت أراهط فاستراحوا لوجدنا أن ما نقله من النحو في شرحه من الشروح التي كان ينتخب منها قد أحال تنسيق العناصر التي تغول واضح للنحو، إذا جاء نقله فيه واحدًا وعشرين

سطرًا، وجاء ما نقله في معنى البيت سطرًا واحدًا. أما أصحاب المنهج الاختصاري التسهيلي لفلم يسلموا من سيطرة اللغة والنحو على بعض أعمالهم، فلو قرأنا شروحهم لوجدناهم مع استيفائهم صفات منهجهم في غلبة أعمالهم فأنهم في بعض الأحيان كانوا يميلون إلى اللغة والنحو، بحيث يكون لهما الغلبة على عملهم، ويكفي أن نورد مثالًا لكل واحد من هؤلاء حتى ندرك مدى جنوحهم في بعض الأحيان إلى هذين العنصريين. ففي الشرح المنسوب خطأ إلى أبي العلاء المعري نجد أن صاحبه قد وقف في بيت هشام بن عقبة الذي يقول فيه فلم ينسني أوفى المصيبات بعده ولكن نكء القرح بالقرح أوجع ونقل عن ابن جني قوله: "يحتمل في (أوجع) أمرين أحدهما أن يكون من يوجع فحملها على الأول أقوى في الأعراب، وحملها على الثاني أقوى في المعنى، ذلك أنه إذا جعلتها من وجع يوجع كان معناه أن النكء نفسه وجع فأسندت الوجع إليه، مبالغة كقولهم: جن جنونه، وضل ضلاله، وموت مائت. والآخر أن يكون قياسه أشد إيجاعا كقولك: هو أشد إكرامًا له من غيره، غير أنه حذف همزة "أوجع" في الماضي ثم بني منه أفعل إلى معناها للمبالغة" ولم يزد على هذا العمل اللغوي البحت شيئًا يخدم به العناصر الأخرى في شرح النص التي من أهمها عرض المعنى. وفي شرح البياري رأيناه يقف في البيت الأول من باب الحماسة القائل: لو كنت من مازن لم تستبح ابلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا فيسود صفحة كاملة من تراكيب (لو) في حالات النفي والإثبات شرطًا وجوابًا دون أن يهتم بأن هذا يخرجه عن حد المنهج الذي رسمه لنفسه في مقدمته.

أما زيد بن علي فالحق أننا رأيناه أقل أصحاب هذا المنهج ميلًا إلى أن يجعل اللغة والنحو يتغولان على عمله، ومع ذلك فإن في شرحه موضعًا يشهد بتأثره بهذه الظاهرة وعدم الخروج عن دائرتها. وقد ناقشنا هذا الموضوع في الدراسة التي أقمناها حول شرحه وعناصره في الكتاب الثاني من هذا البحث. وإذا كنا قد أرجعنا الظاهرة السابقة المتمثلة في التوسع والاستطراد إلى تأثير شروح الشعر الجاهلي التي قام بها علماء القرن الرابع الهجري. فان هذه الظاهرة ترجع كذلك إلى هذا التأثير. فأنت تستطيع أن تجد شيوع اللغة والنحو في شرح أبي بكر بن الانباري المتوفى سنة 328 هـ للقصائد السبع الطوال أو شرح أبي جعفر النحاس المتوفى سنة 338 هـ للقصائد التسع المشهورات. ويكفي أن تقرأ عمل ابن الانباري في بيت طرفة بن العبد الذي يقول فيه: وبرك هجود قد أثارت مخافتي نواديها أمشي بعضب مجرد أو عمله في بيت عمرو بن كلثوم القائل: ذراعي عيطل أدماء بكر تربعت الأجارع والمتونا لتجد أن اللغة والنحو سيطرة كاملة على عمل الرجل في شرح الشعر. ومثل ذلك يمكن أن نجد أيضًا في مواضع مختلفة من شرح أبي جعفر النحاس. على أننا إذا بحثنا في شأن هذه الظاهرة وتسلطها على شراح الشعر الجاهلي في ذلك القرن، وجدناها ترجع إلى أن كل العلماء الذين تتابعوا على شرح الشعر القديم كانوا من ذوي الاهتمام باللغة والنحو، فأبو عمرو الشيباني المتوفى سنة

206 هـ أو سنة 210 هـ كان (عالمًا باللغة حافظًا لها جامعًا لأشعار العرب)، وأبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 208 هـ أو 209 هـ، أو 213 هـ (كان من أعلم الناس باللغة وأخبار العرب وأنسابها)، وعبد الملك بن قريب الأصمعي المتوفى سنة 213 هـ (كان صاحب النحو واللغة والغريب)، وابن الأعرابي المتوفى سنة 232 هـ يعد (أحفظ الناس للغات العرب)، وابن السكيت المتوفى سنة 244 هـ أو 246 هـ (كان من أكابر أهل اللغة)، وأبو حاتم السجستاني المتوفى سنة 250 هـ (كان عالمًا ثقة بعلم اللغة والشعر)، وأبو الفضل الرياشي المتوفى سنة 257 هـ، قال عنه المازني: (قرأ علي كتاب سيبويه وهو أعلم به مني)، وأبو سعيد السكري المتوفى سنة 275 هـ كان بجانب عمله في صنع الدواوين نحويًا لغويًا. فهؤلاء جميعًا كانوا من ذوي الاهتمام باللغة أو النحو أو الاثنين معًا، وقد انعكس هذا الاهتمام على أعمالهم في شرح الشعر، ومن ثم كان من الطبيعي أن يتأثر بهم شراح القرن الرابع الهجري، وإذا علمنا أن شراح الحماسة قد وقفوا على أعمال هؤلاء العلماء الأوائل كما وقفوا على أعمال القرن الرابع الذين عاصروهم أو سبقوهم بقليل، فإن تأثير هذه الظاهرة لا بد أن يتسرب بصورة ما إلى أعمالهم في الحماسة بحيث يلحظه القارئ الدارس لشروحهم. على أن هناك أمرًا يجب ألا نغفله ونحن نتحدث عن هذه الظاهرة وتسر بها إلى أعمال شراح الحماسة هو أن دراسة الشعر قد قامت في البداية لخدمة القرآن الكريم

والحديث الشريف، وكذلك الشأن بالنسبة للدراسات الأخرى في علمي اللغة والنحو، وقد ظلت هذه النظرة مسيطرة على شراح الشعر القديم بمختلف أجيالهم بالرغم من استقلال هذه العلوم وقيام كل علم منها في وحدة قائمة لذاتها لاسيما علم الشعر. ولم يكن شراح الحماسة بمعزل عن تأثير هذه الظواهر. حقًا إننا قد لاحظنا في مختلف فتراتهم يفسرون لغة الشعر بما جاء في القرآن الكريم والحديث الشريف، لا كما كانت الحال عليه في البداية حين كان المفسرون للقرآن والحديث يلجؤون إلى الشعر لتفسير ما فيها من غريب تبعًا للدعوة التي وجهها عبد الله بن عباس رضي الله عنه حيث قال: إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب، فإن الشعر ديوان العرب ولكنهم من جهة أخرى ظلوا متأثرين بهذه النظرة التي تجعل دراسة الشعر معينة على فهم القرآن والحديث بدلالة أننا نجد الخطيب التبريزي يذهب إلى هذا حيث نراه يقول في مقدمته لشرح الحماسة: (أشرف العلوم كلها علم الكتاب والسنة، وهما قطبا كل علم، وأصلا كل فهم، إذ كانا طريقًا إلى معرفة الخالق تعالى وشكر نعمته، وسبيلًا إلى إدراك السعادة والفوز بجنته، ولا يصح حقيقة معرفتهما إلا بعلم الإعراب الدال على الخطأ من الصواب، وعلم اللغة الموضحة على حقيقة العبارات، المفصحة عن المجاز والاستعارات وعلم الأشعار، إذ كان يستشهد بها في كتاب الله -عز وجل- وفي غريب أخبار رسوله -صلى الله عليه وسلم). فلا شك أن هذه النظرة التي ظلت مسيطرة على شراح الحماسة إلى زمن التبريزي، المتوفى في مطلع القرن السادس الهجري هي التي جعلتهم يجنحون دائمًا إلى اللغة والنحو في أعمالهم التي عقدوها حول الحماسة من حيث إن دراسة القرآن والحديث قد ربطت بين علوم الإعراب واللغة والأشعار وجعلتها تسير مجتمعة في خط

واحد لخدمة غايتها فهم القرآن والحديث، فهذا الربط بين الشعر واللغة والنحو هو الذي أدى إلى تغول اللغة والنحو أحيانًا في عمل شراح الحماسة، فضلًا عن اهتمام شراح الشعر بهذين العلمين، وتخصص الكثيرين منهم فيهما. ج- إغفال الشاعر والعوامل الموحية له بالشعر: لعلنا لاحظنا من خلال دراستنا لهذه الشروح أن اهتمام الشراح فيما يتصل بالشاعر كان موجهًا إلى دراسة اسمه فحللوه لنا لغويًا وبينوا ما هو مرتجل منه وما هو منقول، وأثاروا كل ما يتصل بذلك من قضايا لغوية وصرفية واشتقاقية، كما كان موجهًا إلى نسبه فأوردوه لنا إلى آخر جد وصلوا إليه في عمود النسب المتصل بقبيلته، وموجهًا أيضًا إلى القصص والأخبار التي اتصلت بما قاله من شعر فسودوا الصفحات العديدة بالأخبار المطولة التي تعج بالأسماء والأنساب والأمثال والأشعار. أما الشاعر نفسه فلا وجود له في أعمالهم، نعنى الشاعر الإنسان الذي له وجوده في شعره، وهو الوجود الذي تشير إليه عواطفه ومشاعره، ويدل عليه عقله وتفكيره والخط النفسي الذي يسير فيه أثناء بناء شعره ومعالجته لموسوعاته وعرض أفكاره ومعاينه في هذه الموضوعات، وبناء صورة وأخليته التي يؤدي بها هذه الأفكار والمعاني، وفنيته وإبداعه في صنعه الشعر بما يبرز خصائصه التي تميزه عن شعراء عصره، وربط ذلك كله بثقافته التي ألم بها وبالبيئة التي وجد فيها والمجتمع الذي عاش فيه. كل هذه الأمور التي تجعلنا نعيش مع الشاعر ونلمسه في خطوات تحليل النص أهمل الشراح النظر فيها وفي شروح نصوص الحماسة. وهذه في واقع الأمر ظاهرة لا تمس شراح الحماسة فحسب، بل تشمل سائر شراح الشعر القديم. وقد أفاد عنها الدكتور أحمد جمال العمري حين ذكر أنه لم يجد لدى الشراح القدامى من يهتم بقصد الشاعر أو دراسة العوامل المؤثرة الموحية بقول الشعر أو دراسة الخط النفسي في القصيدة، أو دراسة الخصائص المميزة لشعره. وعلل ذلك بأن "طبيعة العصور القديمة والظروف العلمية والثقافية فيها لم تكن تلتفت إلى هذا الأمر من قريب أو بعيد، لأن كل ما يهم الشارح وقتئذ هو المادة

الفنيّة، النسيج الشعري وحده، تحاول أن تعرفه وتحلله وتقومه خدمة للعلم أولًا وقبل كل شيء). وإذن فنحن لا نتوقع أن يخرج شارح من شراح الحماسة عن المسار الذي سار فيه شراح العصور الأولى للأدب أو شراح عصره، وأن يتجاوز الظروف العلمية والثقافية المحيطة به والتي توارثها أجيال العلماء إلى نهج مغاير في شرح النص يحيل عملية الشرح إلى تحليل فني يجعلنا نحس بوجود الشاعر في كل خطوة من خطواته، نلمس من خلال عواطفه وعقله ومواقفه التي أوحت له بالشعر، ندرك غرضه ومقاصده وإبداعه وخصائصه الدالة عليه. ومن المؤسف حقًا أن شراح الحماسة بعد القرن السادس، الذي كان قرن تجميع وانتخاب أو اختصار وتسهيل قد ساروا إلى جمود، يكررون ما قاله السابقون اختصارًا أو تطويلًا، ويدورون حول ما دار فيه الشراح الأوائل، ويرددون أقوال شيوخهم الذين قرؤوا عليهم كتاب الحماسة دون أن يعلموا أن هذه الأقوال هي حصيلة أعمال السابقين أخذها شيوخهم، ولم يزيدوا عليها شيئًا أو يخرجوا إلى رحاب أوسع في عملية الشرح، ولا أدل على هذا القول من شرح مجهول المؤلف كنا قد أشرنا إليه في ثبت شروح الحماسة، ذكر صاحبه في خاتمته أنه قد فرغ منه في الخمس من ربيع الأول سنة 1135 هـ، أي بعد خمسة قرون وبضعة عقود من الفترة التي حددناها لهذا البحث. ننظر في هذا الشرح فنجد صاحبه لم يصنع فيه شيئًا سوى أنه سلخ أقوال المرزوقي في شرحه وأقوال غيره من الشراح الأوائل بدون أن يدل عليهم أو ينص على أنه يأخذ منهم، قال في بيت ربيعة بن مقروم الذي يقول فيه: أرجيته عني فأبصر قصده وكويته فوق النواظر من علِ (ذكر بعض المتأخرين في (أرجيته) الرواية (أوجيته) وما عداه تصحيف) وهي عبارة المرزوقي التي سبقت الإشارة إليها في دراسته يوردها هذا الشارح دون أن

يعلم أن المرزوقي قد عنى بقوله بعض المتأخرين ابن جني معاصره. إننا لا ننكر أن الشراح الأوائل قد قدموا خدمات جليلة لديوان الحماسة وفق معطياتهم، ووفق الظروف الثقافيّة والعلمية التي كانت محيطة بهم، ولكن إغفال الشاعر والانصراف عنه إلى مسائل لغوية ونحوية وإخبارية، وترك مراميه ومقاصده، وإبراز عواطفه وخطه النفسي في بنائه الشعري، والوقوف عند خصائصه ومميزاته أمر كان ينبغي التنبه له في عملية تحليل الشعر وشرحه، لأن فصل الشاعر عن شعره لا يعطي القارئ الدارس الصورة الكليّة التي ينبغي أن يخرج بها من قراءته لتحليل النص. ولهذا رأينا عددًا من العلماء في عصرنا هذا الحديث ممن اشتغل بالحماسة يحاولون إعادة شرحها من جديد، فعل ذلك الشيخ سيد علي المرصفي في سنة 1912 م، حين أخرج للقراء الجزء الأول من كتابه ((أسرار الحماسة)) وقال في مقدمته، مشيرًا إلى صنيع الشراح الأوائل في اختيار الحماسة: (ولست في تفسير معانيه وبيان مغازيه متبعًا لقوم مدوا أيديهم على ذلك الديوان بالكتابة، وظنوا أنهم فوقوا سهام الصواب، وقد أخطؤوا غرض الإصابة، فكثيرًا ما يخلطون في أوضاع اللغة ولا ينتبهون، ويخلطون في بيان ما تقصده أدباء الشعر وما يشعرون، ملؤوا كتبهم ببضاعة الإعراب والبناء، وتحقيق ما نحاه ابن خروف أو انتحاه الفراء)). وفعل ذلك أيضًا الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، الذي أشرنا إلى أنه كان يدرس لطلابه بجامع الزيتونة شرح المرزوقي على ديوان الحماسة، ثم عدل عن ذلك فاصطنع للديوان شرحًا من تأليفه. وفعل نحوًا من هذا الأستاذ علي النجدي ناصف حين ذيّل دراسته لحماسة أبي تمام بتحليل قطع منها نحا فيها منحى المرصفي في جعله عناوين للقطع التي حللها، وسلك في تحليله مسلكًا مغايرًا لمسلك المرصفي، ومسلك كل الذين لهم في الحماسة عمل. إنه مسلك أشبه بالتحليل

الفني المعاصر الذي رأيناه عند علمائنا الأدباء مما عنوا بدراسة الشعر القديم وتحليله. وفي إدراكنا أن هؤلاء العلماء: المرصفي وابن عاشور والنجدي، الذين اتجهوا إلى الحماسة بالشرح والتحليل في زماننا هذا ما فعلوا ذلك إلا لأنهم أحسوا بأن ما قدمه الشراح الأوائل من جهود في خدمة هذا الاختيار - مع ما فيه من فضل وعلم لا ينكر- فإنه يحتاج إلى إعادة نظر ومسلك مغاير ورؤية للشاعر الحماسي غير الرؤية التي ارتآها هؤلاء الشراح، ولا نكون مبالغين إذا قلنا: إننا بالرغم من وقوفنا كذلك على أعمال بعض هؤلاء المعاصرين، فإن اختيار الحماسة لا يزال يحتاج - في رأينا- إلى من يتصدى له بالشرح والتحليل، وذلك وفق ما انتهى إليه الباحثون في عصرنا هذا بثقافتهم المتنوعة وبرؤيتهم المتجددة للأدب ودوره في الحياة، وبنظرتهم الصائبة في التراث الأدبي القديم وتنقيته وبعثه من جديد في صورة تلائم العصر والحياة التي وصل إليها قراء العربية في هذا القرن العشرين. ولا شك أن التصدي بالشرح والتحليل لاختيار الحماسة وفق ما ذكرناه سيكون له أثره في انتفاء هذه الظواهر التي رأيناها في مواد شروح الشراح لاسيما ظاهرة إغفال الشاعر ومقاصده في الشعر والمواقف النفسية الموحية له به.

-3 - في الشراح تسلّط نزعاتهم في عمليّة الشرح: وهي ظاهرة لاحظناها في سائر أعمال الشراح ذوي المناهج الواضحة، فلقد وقفنا عندها في عمل المرزوقي في نزعته إلى التعالي والتفرد من جهة، وإتباعه هواه النفسي ومزاجه من جهة أخرى، وكلا الأمرين كان لهما تأثير واضح في عمله الذي اتصل بالحماسة. فأما نزعته إلى التعالي والتفرد فقد تسلّط عليه إلى درجة جعلته يستهين بشراح الحماسة الذين سبقوه، لا يذكرهم في شرحه حين ناقشهم بل يشير إليهم بإشارات مبهمة غامضة لا تدل عليهم مثل (وقال بعضهم) أو (وروى بعضهم) وكذلك جعلته يستهين بمعاصرين مثل ابن جني الذي كان يتعرض له مناقشًا بدون أن يسميه في شرحه، وهذا بطبيعة الحال قد حرمنا من الوقوف على مصادره التي اعتمد عليها في شرحه والتي تتصل بالحماسة مما قام به شراح سابقون له في الزمن أو معاصرون له. وأما إتباعه هوى نفسه ومزاجه في شرح الشعر فقد أثر تأثيرًا واضحًا في خطه العملي لشرح النصوص، وقد تعرّض إلى هذا الجانب في عمله الدكتور أحمد جمال العمري حيث ذكر أن المرزوقي (أخضع الشرح للعامل النفسي والمزاجي، فإذا أعجبه نص جال وصال، وظل يدور حوله ذاكرًا أشياء كثيرة وطويلة، أما إذا لم يعجبه فقلما يعيره التفاتًا، وأحيانًا لا يفسره، وكان يجب عليه أن يتجرد من أهوائه وعواطفه أمام النص، وأن يكون محايدًا لأنه عالم ... والعلم يجب أن ينظر إليه بعيدًا عن الأهواء). وأما ابن جني فقد تسلطت عليه نزعة الجنوح المستمر إلى اللغة والنحو فأخضع النصوص الشعرية إلى هذه النزعة فما أثار من نصوص الحماسة قضية لغوية

أو نحوية أو عروضيّة وإظهاره بمظهر العالم العاجز الذي يتصف بالغباوة والجهل وتسويد الهذيان، في حين أن النظرة تصدى له وناقشه وحلله، وما لم يكن فيه ذلك أهمله وتغاضى النظر حتى عن روايته، ومن ثم حوّل اختيار أبي تمام الأدبي إلى عمل بعيد كل البعد عن الأدب ومجاله. ونحن نعترف بأن الرجل قد قدم عملًا طيبًا في خلال المجال الذي اصطنعه لنفسه وأفاد فوائد جمة في عنصري اللغة والنحو، ولكن هل هذا هو كل ما ينبغي عمله في اختيار شعري قام على الجودة وخلفه شاعر فذ يعد زعيم مدرسة الشعر؟ ! . وأما أبو محمد الأعرابي فقد تسلطت عليه نزعة التحدي وإظهار سقطات السابقين، فدفعته هذه النزعة إلى تزييف أعمال النمري في الحماسة العلمية الصحيحة كانت تحتم عليه أن يعرض للرجل فيما أصاب وفيما أخطأ، وأن يورد كلامه كاملًا بدون حذف أو تحوير حتى يتسم نقده له بالموضوعية وسلامة الرأي وحتى يتيح لنا الوقوف على كلاميهما معًا لنرى عمله وعمل النمري ونحكم إن كان ما تصدى به صوابًا أو غير صواب. أما أن يعمد في أكثر من موضع وبدافع من نزعته هذه إلى بتر كلام الرجل وتحويره وفق الوجهة التي يريدها فهي طريقة تبعد عن الموضوعيّة وتنأى عن سبيل العلم القويم، وكذلك تسلطت عليه نزعاه الدائمة نحو ما أخذه عن شيخه أبي الندى والتسليم به في صورة تدعو إلى الدهشة، وهذه النزعة جعلته في عمله الذي أداه في الحماسة مثل شيخه أبي الندى يخضع نصوص الحماسة وفهمها والقدرة على شرحها وتحليلها إلى عملية قصصية إخبارية بحته هي في واقع الأمر تمثل جزءًا من التحليل والشرح وليست التحليل كله. وأما التبريزي فقد رأيناه ذا نزعتين: نزعة تجعله يهتم كثيرًا باللغة والنحو، ونزعة تجعله ينساق وراء شيخه أبي العلاء فيما خلفه من عمل وما أخذه عنه أيام تلمذته له، ولقد أدت النزعة الأولى إلى كثير من الخلل الذي جاء في مواضع شملت سائر أجزاء شرحه، قصر جهده فيها على النحو واللغة دون عناصر الشرح

الأخرى حتى إن الدارس ليبحث عن معنى النص في هذه المواضع فلا يجده لأن نزعة الشارح قد قصرت العمل فقط على النحو أحيانًا واللغة أحيانًا أخرى. وأما النزعة الثانية فقد جعلت عمله مختل المنهج من حيث إن منهجه يقوم على انتخاب عناصر شرح النصوص من الشروح التي أمامه وعرضها في صورة متكاملة منسقة متآزرة لا يطغى عنصر فيها على العناصر الأخرى، فكانت نزعته نحو شيخه أبي العلاء وتأثره الواضح به قد دفعت به في كثير من المواضع إلى الاستطراد المخل لا فيما قاله أبو العلاء في شرحه لنصوص الحماسة بل في استطرادته البعيدة عنها حين كان يتعرض إلى ما ذكره أبو رياش في شرحه من أشعار فيتصدى لها بالشرح والتوضيح من جهة لغوية وغير لغوية. وأما أصحاب المنهج الاختصاري التسهيلي فلقد رأينا أحدهم، وهو صاحب الشرح المنسوب لأبي العلاء، ينزع إلى عمل ابن جني في التنبيه، فينقل منه حتى كاد يخرج بعمله عن الحد الذي رسمه لمنهجه، وهو منهج قائم، كما رأينا، على تقديم عناصر الشرح في اختصار وتسهيل، فكان نزوعه المتفاوت نحو ابن جني مؤديًا إلى خلل في مواضع من شرحه، وخارجًا بها عن الخط الذي ينبغي أن يسير فيه. وهكذا نرى من خلال هذه الملاحظات التي كنا قد تعرضنا لها بالتفاصيل والشرح عند دراستنا لعمل كل شارح أن نزعات هؤلاء الشراح قد شكّلت ظاهرة عامة كان لها تأثيرها الواضح في عمّلية الشرح وهي نزعات وإن تباينت في الموازنة بين شارح وآخر، فإن النتيجة التي أدت إليها في عمليّة الشرح كانت واحدة هي قصور في الشرح أو خلل في المنهج. وخاتمة القول في هذه الظواهر وما طرحناه فيها من قول أنها ظواهر رأيناها من خلال عملنا في هذه الشروح، جمعناها في هذا الفصل وعكسنا بالرأي وجهات نظرنا فيها، وهي وجهات نظر قد تكون مثار خلاف، إذ قد يقول قائل: إننا قد ركبنا في بعض آرائنا جواد الشطط حين حكّمنا على أعمال هؤلاء القدماء معايير في التحليل والشرح لم تجل في فكرهم في ذلك الزمن، وإنما هي نتاج ثقافي وأدبي ونقدي طرأ على الأعمال الأدبية في هذا العصر الحديث. ومن التعسف النظر إلى تقويم عمل قديم

وفق معايير حديثة، ولكنا نقول: إن مثل هذا القول قد يكون صحيحا لا سبيل إلى رده إن كنا قد حكمنا هذه المعايير في الأعمال ذاتها، وإنما نحن بنظرنا إلى عملية الشرح وفق حركة شرح الشعر في ذلك الزمن، وما تمخض عنها من عناصر للشرح، ووفق مناهج هؤلاء الشراح التي سلكوها في أعمالهم، وبناء على ذلك أعطينا كل ذي حق حقه، ولكنا ونحن نقوم بهذا لم نغفل أمرين أحدهما رؤيتنا الحديثة في تحليل الشعر وشحره، والآخر متن الحماسة الذي يضم شعرا يعد جزءا من تراث أدبي خالد تقرؤه أجيال الأمة في كل عصر من عصورها، ولهذا كان يتحتم علينا أن نلحظ ما ينبغي عمله في خدمة هذا المتن، وأن نحلل ذلك ونناقشه وفق رؤيتنا المعاصرة تجاوبًا مع النظرة الحديثة إلى التراث الأدبي والدعوة إلى دراسته وتمحيصه وعرضه في ثوب جديد يتلاءم مع ثقافة الأمة المعاصرة متوخين من ذلك أن يتصدى الباحثون في زماننا هذا إلى الحماسة، كما تصدى لها العلماء القدماء في أجيالهم المتعاقبة، حتى نستطيع أن نقدم لأجيالنا الحاضرة وأجيالنا المقبلة أعمالا في متن الحماسة تقرؤها هذه الأجيال فتحس بعظمة هذا التراث الأدبي وإبداع الشعراء الأوائل في قول الشعر وتفيد من ذلك كله في حياتها الفكرية والثقافية والأدبية.

خاتمة ونتائج

والآن وقد وصلنا إلى نهاية الكتاب نود أن نجمل منجزاته من خلال عرض أهم ما أشتمل، وما خرجنا به فيه. لقد بدأ بدراسات ممهدة ضمناها فصلين قام الأول في اختيار أبي تمام لديوان الحماسة وصنيعه فيه، حيث وقفنا عند اهتمامه بالاختيارات الشعرية وإذاعتها في كتب مميزة تميز بها عن سائر الشعراء الذين سبقوه، وناقشنا الزمان والمكان اللذين صنع فيهما هذه الاختيارات فتعرضنا لروايتين في هذا الخصوص، الرواية التي تقول بأنه قد صنع خمسة اختيارات في دار آل سلمه عندما حصره الثلج بهمذان، والرواية التي تقول: بأنه قد صنع ثلاثة اختيارات فقط، وناقشنا آراء الباحثين في الرواية الأولى وانتهينا إلى ترجيح أن أبا تمام قد صنع بهمذان ثلاثة اختيارات هي: ديوان الحماسة، والوحشيات، واختيار شعراء الفحول. أما بقية الاختيارات الأخرى فقد رجحنا أنه ظل يواصل العمل فيها بعد رحيله من همذان متنقلًا من مكان لآخر حتى انتهى به المطاف في الموصل حيث كانت وفاته سنة 232 هـ. ثم انتقلنا بالدراسة إلى ديوان الحماسة حيث ناقشنا روايته ووصوله إلى أيدي العلماء الشراح، وانتهينا إلى أنه بجانب النسخة التي خلفها أبو تمام في دراسة آل سلمه بهمذان والتي حملت فيما بعد إلى علماء أصبهان، فإن ديوان الحماسة قد أخذ مشافهة عن أبي تمام، أخذه أبو المطرف الأنطاكي، وأنشده لكل من أبي رياش أحمد بن إبراهيم، والحسن بن بشر الآمدي. وعن طريق هذين العالمين أخذ العلماء ديوان الحماسة، وتواترت الرواية بين أجيالهم من هذه السبيل. ثم عرضنا بعد ذلك إلى طريقة أبي تمام في تصنيف أبواب هذا الاختبار، وانتهينا إلى أنها عشرة أبواب لا أحد عشر بابًا كما جاء في شرح المرزوقي المطبوع الذي وجدنا فيه باب الأضياف والمديح

بابين لا بابًا واحدًا. ورجحنا أن يكون قد وقع من نساخ شرح المرزوقي، لا من المرزوقي نفسه، وأتينا بالأدلة على هذا الترجيح. وعرجنا بالبحث بعد ذلك إلى اختيار القطع في هذه الأبواب، فلاحظنا خللًا فيها نجم عن رواية بعض الشعر في باب لا يدخل في حده، وذهبنا إلى أن هذا الخلل لا يمكن تعليله باختلاف نسخ الحماسة وروايتها، وإنما أبو تمام هو وحده المسؤول عنه، وإن ذلك وقع منه بسببين أحدهما: أن أغراض الشعر لم تكن قد تبلورت بعد في عصره بالصورة التي نراها اليوم فهو رائد في تصنيف الشعر تحت هذه الأبواب. والثاني أنه كان يراعي في الباب الواحد مشاكله القطع في بعض المعاني، وإن خرجت عن الحد الذي يقوم عليه الباب. وانتقلنا بعد هذا لمقياس الاختيار عنده، وانتهينا إلى أنه مقياس جمالي فني جعله يختار بعض الشعر من شعر الشاعر ويترك بعضه الآخر، وإن هذا المقياس كان وفق المعايير النقدية التي انتهى إليها العلماء النقاد للجيد من الشعر في ذلك الزمن، ولاحظنا أنه بالرغم من أن الكثرة الغالبة من شعر الاختيار لم تخرج عن حد الجودة فإن بعض الشعر الذي ضمه الاختيار لم يسلم من انتقاد بعض المتأدبين من الكتاب مثل ابن العميد وضياء الدين بن الأثير. كذلك تعرضنا بالمناقشة إلى ما رآه علي النجدي ناصف أن أبا تمام قد أسقط باب الاعتذار من اختياره، وتمنيه لو أنه كان قد أسقط باب الملح وجاء بالاعتذار بدلًا منه معتمدًا في هذا التمني على أن الاعتذار فن كريم القول وان الملح فيها كثير من الخنا والتصريح بالعوراء، وبينا أنه بتمنيه هذا يريد من أبي تمام أن يأخذ بالمقياس الأخلاقي، وهو أمر لم يرده أبو تمام ولا رمي إليه من اختياره. ثم عرضنا بعد ذلك إلى شعراء الحماسة فلاحظنا أن أبا تمام قد عني في اختياره بالشعراء المقلين والمجهولين، وأكدنا أن غايته من هذا هي أن الشعراء المكثرين أو المعروفين قد تداول الناس دواوينهم قبل عصره واهتمت بهم كتب الاختيارات، كما لاحظنا أنه قد اختار لشعراء جاهليين وإسلاميين وأمويين وعباسيين، غير أن كثرتهم كانت من الجاهلين أو المخضرمين، ومن هنا كانت أهمية الاختيار بالنسبة لعلماء

اللغة الذين وجدوا فيه معينًا لا ينضب في الاستشهاد بما فيه من شعر في تفسير اللغة والاحتجاج بصحتها، ووقنا أيضًا على رأي بعض الباحثين أن أبا تمام قد أكثر الاختيار لشعراء قبيلته فإن اختياره لشعرهم لم يخرجه عن حد مقياس الجودة الذي بني عليه اختياره بل أكدنا أن بعض شعر قبيلته مما اختاره يعد أبلغ ما ضمت بعض أبواب الاختيار من قول. ومن ثم فلا مجال للقول بعصبية الرجل في اختياره. كما عرضنا للدعوى القائلة بأن أبا تمام قد قصد من اختياره لشعر المقلين والمجهولين إخفاء أكثر إحسان الشعراء لأنه سرق منه بعض معانيه، وطوي بعضه الآخر ليجعله عدة يرجع إليها في وقت الحاجة، ورجا من وراء ذلك أن يترك أهل المذاكرة أصول أشعارهم على جوهها ويقنعوا باختياره لهم فتبغي عليهم سرقاته، وقد بينا خطل هذه الدعوى وتهامتها من وجهين أحداهما: أن اختيار الحماسة حوى جملة من الأشعار التي استمد منها أبو تمام بعض معانيه، فلو انه كان يتوخى إخفاء الأشعار التي كان يأخذ منها معانيه لأخفي هذه الأشعار الواردة في اختياره. والآخر أن أبا تمام ليس وحده الذي كان يمتلك أشعار المحسنين حتى يحجبها عن الناس بقصد إخفاء أخذه منها أو بقصد جعلها عدة يرجع إليها عند الحاجة. وأخيرًا عرضنا في هذا الفصل لأهم قضية تمس اختيار الحماسة وهى تلك الدعوى التي أثارها كل من ابن العميد وأبي علي المرزوقي، أن أبا تمام كان يغير في ألفاظ نصوص الحماسة، يزيل ما فيها من عوار بما يناسب ذوقه ونقده، وناقشنا ذلك باستفاضة وعرضنا رأي من أدلى فيها بقول، وانتهينا إلى أن أصحاب هذه الدعوى لم يأتوا بدليل واحد يؤكد صحة ما ذهبوا إليه، وان الأمر لا يعدو أن يكون مجرد اختلاف في روايات النص، كان أبو تمام يقارن بينها فيختار منها ما يتفق مع ذوقه ونقده، كما بينا أن اختلاف الرواية ظاهرة لا تشمل اختيار الحماسة فحسب بل تشمل سائر الاختيارات الشعرية ودواوين الشعراء، وقد أتينا بما يؤكد هذا القول ويدعمه وذلك من خلال دراسة لنماذج من المفضليات والأصمعيات، وهما الاختياران اللذان اتفق أهل العلم والدراسة في الأدب على أنهما أوثق مصدرين وصلا إلينا في الشعر القديم ثم وقفنا تبعًا لذلك عند رأي الدكتور ناصر الدين الأسد

في رفض اختيار الحماسة مصدرًا من مصادر الشعر الجاهلي بحجة أن ديوان الحماسة ليست فيه رواية تعتمد على سند معروف، وبحجة الدعوى التي قال بها كل من ابن العميد والمرزوقي بأن أبا تمام كان يغير في النصوص الشعرية، فناقشنا هذا الرأي وأوضحنا وجهة نظرنا المتمثلة في أن المخطوطات التي وقفنا عليها قد أفادت بأن كتاب الحماسة بجانب وصوله إلى العلماء عن النسخة التي تركها أبو تمام في بيت آل سلمه بهمذان، فإنه قد أخذ شفاهة عن أبي تمام نفسه أخذه عنه أبو المطرف الأنطاكي وآخذه العلماء الشراح من هذه السبيل، كذلك بينا أن لا مجال للقول بأن أبا تمام لم يأخذ شعر الحماسة رواية من أحد، لأنه اختاره من مجاميع شعر القبائل ودواوين الشعراء التي صنعها العلماء الرواة المصححون للشعر القديم، فأخذه عن هذه المجاميع والدواوين يعد في حد ذاته توثيقًا لما اختار، ولقد حرصنا في هذا الخصوص أن نؤكد أن من الخير لدارسي الأدب في زماننا هذا الأخذ برأي علماء اللغة الذين وثقوا بما روى من شعر في الحماسة واعتبروه حجة يدعمون بها تفسيراتهم في اللغة فهو خير بكثير من الانسياق وراء دعاوي وأوهام لا تقوم على ساق في مجال الحجج والبراهين. هذا أهم ما عرضنا إليه بالدراسة في الفصل الأول. أما الفصل الثاني فقد تناولنا فيه حركة شرح الشعر وتطوره حتى ظهور شروح الحماسة، فرسمنا صورة لما كان عليه شرح الشعر في عصر ما قبل الإسلام وهو العصر الذي لم يكن الناس فيه في حاجة إلى شرح الشعر، لأن الشاعر في ذلك الزمن لم يكن مفصولًا عن متلقي شعره بحاجز زمني أو مكاني إلا في حالات خاصة حين يعمد الشاعر إلى استخدام تركيب أو تصوير فني يتجاوز فيه حد المألوف لديهم، فيتولى توضيحه وتفسيره أو يتولى عنه ذلك رواة شعره، ولاحظنا أيضًا أنه لما جاء الإسلام كانت الحاجة إلى شرح الشعر مثل سابقتها في الجاهلية لم تتجاوز في مطالبها تفسير لفظة أو تركيب غير مألوف، أو خبر متصل بالشعر ذاته أو قائله. غير أنه لما بدت عناية المسلمين بالقرآن وحاجته إلى فهم لغته ومعانيه بدأت عناية خاصة بالشعر لحاجتهم إليه في تفسير القرآن والحديث الشريف، ولاحظنا كذلك أن هذه العناية قد صحبتها عناية أخرى من القبائل حين استقرت في الأمصار الإسلامية، وبدأت مراجعة أشعارها في الجاهلية، ورواية هذه

الأشعار، فاقتضت هذه العناية تفسير الأحداث التي صاحبت هذه الأشعار بل تجاوز المر ذلك إلى تفسير بعض ألفاظه ومعانيه. كذلك لاحظنا أن عناية ثالثة بدأت على يدي علماء متخصصين في رواية الشعر وتدوينه، وأكدنا أنه وإن كان شرح الشعر غير مقصود لذاته في تلك الفترة التي بدأ فيها الجمع والتدوين فإنه قد خطا على يدي هؤلاء العلماء الرواة الأوائل خطوات أدت إلى توسع في عناصره إذ تجاوز ما كانت عليه الحال في الجاهلية وأول الإسلام إلى البحث في رواية الشعر وما فيها من اختلافات وذكر مناسباته وإخبار قائليه، بل امتد حتى شمل البحث في عيوبه والحكم على الشعراء والمفاضلة بينهم. ثم وقفنا عند صنيع طبقات العلماء المتوالية في شرح الشعر فلاحظنا أن الطبقة الثانية من العلماء قد اعتمدت على ما أخذته من الطبقة الأولى، ولم تقف عند نقله فحسب أو أضافوا إليه ما اعتبروه تصحيحًا لخطأ، أو توجيهًا لرأي، أو سدًا لنقص. وكذلك كان حال الطبقة الثالثة، الأمر الذي أدى إلى إثراء حركة شرح الشعر بالفيض الغزير في عناصر الشرح المختلفة، كما لاحظنا أيضًا أنه قد بدأ شيء من التخصص لدى هذه الطبقات الأولى من العلماء، تخصص بعضهم في الغريب، وبعضهم في النحو، وبعضهم في الأيام والأخبار والأنساب. ثم رأينا توالي طبقات العلماء المهتمين بشرح الشعر، وبداية اتجاه مغاير للسابقين في عملية شرح الشعر حيث نشأ لدى بعض الشراح ما يمكن أن نسميه بالشرح الأدبي الذي يعالج المعاني ومقاصد الشعراء فيها، ويركز كل همه في هذا المدار لا يتجاوزه إلى اللغة وما فيها من اشتقاقات، أو النحو وما فيه من مشكلات. وسجلنا أيضًا أنه إذا كان شرح الشعر قد بدأ عند علماء الطبقة الأولى والثانية وتلاميذهم ذا مقصد تثقيفي فإنه قد تحول عند الطبقات التي تلت هؤلاء العلماء، ومع ظهور شروح الحماسة إلى مقصد تعليمي، توسعت بسببه دائرة شرح الشعر فأصبحت على شيء غير قليل من التعمق في دراسة اللغة وقضاياها والنحو ومسائله، والرواية واختلافاتها، والمعاني وتأويلاتها، إلى غير ذلك من العلوم التي يقوم عليها شرح الشعر.

كذلك سجلنا أن شروح الحماسة عندما ظهرت إلى حيز الوجود كانت متأثرة بجميع ما طرأ على شرح الشعر عامة، لأن هؤلاء الشراح الذين تصدوا لشرح حماسة أبي تمام لم يكونوا بمعزل عن حركة شرح الشعر عامة، ومن ثم لاحظنا أنهم قد شغلوا حيزًا غير قليل بآراء العلماء السابقين أمثال الخليل والأصمعي وأبي عبيدة وابن العرابي والأخفش وغيرهم، كما لاحظنا فيهم شيئًا من التخصص في عنصر من العناصر التي يقوم عليها الشرح، إذ رأينا منهم من كان يهتم بالغريب من اللغة ويعالجه في بعض أعماله مثل أبي العلاء المعري. ومن كان يهتم بالنحو وما فيه من عويص مثل أبي الفتح ابن جني. ومن كان يهتم بالأخبار التاريخية ومناسبات الشعر وما يتصل بذلك من أيام وأنساب مثل أبي رياش. ومنهم من كان يهتم بالمعاني وما فيها من تأويلات مثل أبي عبد الله النمري. كما رأينا من حاول أن يجمع بين هذه العناصر جميعها في تفوت ملحوظ مثل أبي علي المرزوقي. كذلك لاحظنا أنهم ساروا في طريق التحول من المقصد التثقيفي إلى المقصد التعليمي، حيث كانت مناهجهم في جملتها مناهج تعليمية، تقوم على جعل النص الشعري مجالًا لتعليم جملة من العلوم المكونة لعناصر الشرح وتزويد طالبي شروحهم بالمعلومات التي تتصل بهذه العلوم في تطويل وإسهاب أو تسهيل واختصار وفق قدرات هؤلاء الطلاب الذهنية وملكاتهم الاستيعابية. على أن أهم ما لاحظناه حين بدأت شروح الحماسة في الظهور وإبان تواليها هو أن الثقافة المكونة لشرح الشعر وفهمه ونقده قد اتسعت كثيرًا، وذلك بتعدد أعمال العلماء عبر طبقات عدة، وهى أعمال شملت الكثير من علوم العربية من لغة ونحو وبلاغة ونقد ورواية وأخبار تاريخية، وكان من الطبيعي أن تسهم هذه الأعمال المتشعبة في علو ثقافة الشارح وارتقائها. وبجانب ذلك كان أهم ما خرجنا به من علاقة شروح الحماسة بحركة شرح الشعر وتطوره أن هذه الشروح تعد جزءًا من شرح الشعر عامة، فهي صورة منه وممثله له، بل أن كل الذين تصدوا لشرح ديوان الحماسة لم يكتفوا بما شرحوه فيها وإنما أسهموا إسهامات طيبة في شرح جملة من الدواوين والمختارات سواء في ذلك الشعر القديم أو الشعر المحدث.

وحين وصلنا ظهور شروح الحماسة ثم تواليها بعد ذلك عبر القرون رأينا أن نستعرض هذه الشروح منذ أول شرح وصل إلينا خبره والى عصرنا هذا الحديث، فكان أن صنعنا ثبتًا لها، وضعنا في مقدمته شرح أبي القاسم الديمرتي المتوفى سنة 287 هـ باعتباره أقدم شارح وصل إلينا خبر عنه أنه صنع شرحًا للحماسة، وسجلنا أن هذا مخالف لما ذهب إليه البغدادي في الخزانة من أن أول من شرح الحماسة هو أبو عبد الله النمري المتوفى سنة 385 هـ، ومخالف كذلك لما ذهب إليه عبد السلام هارون وعبد الله عسيلان أن أبا رياش هو أول من فعل ذلك، ولم يفتنا ونحن نوضح ذلك أن نسجل أن الديمرتي وإن جاء في مقدمة شراح هذا الثبت ليس هو أول من شرح الحماسة فقد سبق إليه من بعض الشراح الذين لم يصل إلينا خبر عن شروحهم، وذلك بناء على الإشارة التي وردت في مقدمة شرح النمري من أنه -أي الديمرتي- كان متبعًا لغيره في بعض شرحه. لقد تتبعنا الشروح وفق ما أسعفتنا به المصادر إلى هذا العصر الحديث فبلغت في ثبتنا الذي صنعناه أربعة وأربعين شرحًا، وأشرنا إلى أنه قد سبقنا في عمل مثل هذا الثبت كل من عبد السلام هارون وعبد الله عسيلان، وأن ثبت هارون قد بلغ لديه ثلاثين شرحًا، وبلغ ثبت عسيلان خمسة وثلاثين شرحًا، وبهذا نكون قد أضفنا تسعة شروح فوق ما أورداه معا، كما كنا نحن نورد هذه الشروح نناقش ما دار حولها من أقوال، ونوضح ما هو صحيح النسبة لصاحبه وما هو غير صحيح، دالين على المفقود منها والمخطوط والمطبوع، هذا فضلًا عن تذييلنا لهذا الثبت بشروح مجهولة المؤلف عثرنا عليها من خلال بحثنا وتنقيرنا في المكتبات المختلفة. ثم كان أن انطلقنا من إيراد هذا الثبت لتوضيح الشروح التي تدخل في دائرة الفترة الزمنية التي حددناها لهذا البحث وهي نهاية القرن السادس الهجري، فرأينا أن هذه الفترة قد ضمت ثلاثة أنواع من هذه الشروح، نوع تمثله شروح لم يصل عنها شيء، ولا يعرف مكانها حتى الآن، ونوع تمثله شروح وصلت إلينا، منها شرحان مطبوعان ومنها شروح مخطوطة جمعناها من مكتبات العالم، ونوع ثالث تمثله شروح لم تصل إلينا ولكن وصلت عنها نقولات متعددة في الشرحين المطبوعين

والشروح الأخرى المخطوطة. وكان من الطبيعي أن تقوم دراستنا في شروح النوع الثاني والثالث، والتي تبلغ في مجموعها ستة عشر شرحًا، منها ستة شروح في القرن الرابع، وسبعة شروح في القرن الخامس، وثلاثة شروح في القرن السادس. وحين بلغت الدراسات الممهدة غايتها في الوصول إلى تحديد الشروح التي يقوم عليها بحثنا وفق ما حددناه من فترة زمنية، اتجه البحث إلى دراسة مناهج هذه الشروح وتطبيقها في نماذج من أعمال الشراح، وذلك من خلال نظرة موازنة تحكم العمل وتضبطه، فكان أن قام القسم الثاني من هذا الكتاب مشتملًا على ستة فصول، جاء الفصل الأول في مناهج الشراح، حيث بدأنا العمل فيها بالوقوف على المناهج الثلاثة التي حددها الدكتور أحمد جمال العمري لشراح الشعر الجاهلي وهي: المنهج النقلي الالتزامي، والمنهج الإبداعي الفني، والمنهج التجميعي الانتخابي التكميلي، وعرضنا ما أورده من معايير وصفا لهذه المناهج، ورأينا أنه إذا كان شراح الشعر الجاهلي قد ساروا في شروحهم وفق هذه المناهج، فإنها بمعاييرها وصفاتها التي حددها الدكتور العمري ليست بالضرورة أن تنطبق على شراح الحماسة، وذلك بسبب أمور أربعة أعطيناها حقها في المناقشة والشرح وانتهينا إلى أن أحد هذه المناهج وهو المنهج النقلي الالتزامي لم يتخذ سبيلًا من قبل شراح الحماسة وإن كان لا نعدم من أثر له في بعض أعمال الشراح، وأن منهجين فقط يمكن أن نجدهما لدى شراح الحماسة وهما: المنهج الإبداعي الفني، والمنهج التجميعي الانتخابي، غير أننا سجلنا بداية أن جملة من المعايير والصفات التي أسبغها الدكتور العمري على هذين المنهجين بدت لنا عند التطبيق في شروح الحماسة نظرية بحتة لا سبيل إليها في هذه الشروح إلا عن طريق تصيد الأمثلة النادرة. وبجانب هذين المنهجين لاحظنا أن شراح الحماسة قد حققوا بأعمالهم ثلاثة مناهج أخرى هي: المنهج العلمي التخصصي، والمنهج التتبعي التقويمي، والمنهج الاختصاري التسهيلي. وبذلك بلغت مناهج الشراح خمسة مناهج من حيث التقنين والتطبيق. وأوضحنا من خلال الموازنة والشرح المعايير والصفات التي تقوم عليها

هذه المناهج، فبدأنا بالمنهج الإبداعي الفني الأدبي، وعرضنا إلي الجانب النظري في معايير الدكتور العمري التي طرحها في هذا المنهج، وذلك من خلال نظرتنا إلي شرح المرزوقي الي يعد خير من يمثل هذا المنهج من شراح الحماسة، وحددنا وفق الرؤية التطبيقية المعايير والصفات التي رأيناها في قيام هذا المنهج. انتقلنا بعدها إلي المنهج العلمي التخصصي فلاحظنا أوجه التشابه والاختلاف بينة وبين المنهج السابق موازنين بين المنهجين خارجين من هذه الموازنة بأهم المعايير والصفات التي أتصف بها هذا المنهج مؤكدين أن من أفضل من أتخذ هذا المنهج سبيلا هو أبو الفتح عثمان بن جني في عملية ((المبهج)) و ((التنبيه)) تدرجنا بعدها إلي المنهج التتبعي التقويمي فلاحظنا أنه منهج برز عند علماء القرن الرابع وما تلاه من قرون، وأن الأعمال فيه لم تقم من تلقاء ذاتها كما هو الحال في المنهج الإبداعي الفني، والمنهج العملي التخصصي، وإنما قامت بناء علي أعمال السابقين من حيث إنه منهج يقوم علي تتبع أعمال الشرح السابقين ورصد ما فيها من أخطاء وأوهام، ومناقشتها بالتقويم والتصحيح، وهو لهذا منهج يقوم علي طريقتين: طريقة في إنشاء الكتب وتأليفها وطريقة في التتبع والتقويم، ولا تخلو الطريقة الثانية من تأثر بالمناهج الأخرى، ورأينا أن أبرز من سلك هذا المنهج في أعمال الحماسة عالمان أحدهما أبو هلال العسكري والآخر أبو محمد الأعرابي. ثم كان أن وقفنا عند المنهج التجميعي الانتخابي فلاحظنا أنه مثل المنهج التتبعي التقويمي علي أعمال السابقين ولكنة يختلف عنة في أنه لا ينظر في أعمال السابقين ليتتبعها ويقوم ما فيها من أخطاء. وإنما هو منهج يجمع أعمال السابقين لينتخب منها شرحا مستوفيا لجميع عناصر الشرح، ولاحظنا أن الخطيب التريزي يعد رائدا في هذا المنهج، غير أن دراسة شرحه جعلتنا نقف من المعايير والصفات التي حددها الدكتور العمري لهذا المنهج موقف المعترض من حيث إن بعضها قد بدا نظريا بحتا يصعب تحققه في شرح التبريزي للحماسة، ولقد فصلنا الحديث في هذا الجانب ووضحنا بالشرح والأمثلة كل ما يدعم هذا الاعتراض، وانتهينا إلي أنة بالرغم من الخلل الواضح الذي وقع فيه التبريزي في مواضع من شرحه بسبب

نزوعه إلى النحو واللغة من جهة، ومشايعته شيخه أبي العلاء من جهة أخرى فإنه قد حاول جادا أن يفيد من الشروح التي سبقته يجمعها وينتخب منها شروحه في الحماسة، وهي شروح أفاد منها طلابه في المدرسة النظامية، كما أفاد منها طالبو علم الأدب الذين جاءوا بعده فضلا عن متابعة شارحين من شراح القرن السادس له في هذا المنهج هما أمين الدين الطبرسي، وأبو الرضا الراوندي. ثم عرضنا إلي المنهج ألاختصاري التسهيلي فتحدثنا أولا في العوامل التي دفعت فئة من الشراح إليه فلاحظنا اقتناع هذا الفئة بأن الغاية من شرح الشعر هي الوصول إلي معني الشاعر ومقصده، ومن ثم يمكن الوصول إليه من أسهل الطرق وأيسر السبل، واقتناعها كذلك بأن الشروح التي صنعها السابقون لديوان الحماسة قد جاءت مسهبة في تناول عناصر الشرح إسهابا مبالغا فيه كثير من الأعمال فلماذا لا يقوم عمل يصفي هذا الفيض الغزير التي تزخر به هذه الشروح وتنقية من الإسهاب والاستطراد وتقدمة في ثوب موشي بالاختصار والتسهيل وكذلك اقتناعها التام بأن قراء الشروح يمثلون فئات متفاوتة في القدرة علي تحصيل العلم، متباينة في الطباع والأهواء فلماذا لا يقوم منهج يراعي اختلاف قدرات المتلقين ومشاربهم وأهوائهم، يقدم لهم عناصر الشرح سهلة ميسرة خالية من الاستطراد، بعيدة عن التشعب والأغراب، منهج يضم اللغة ولكن بقدر محدود، والنحو ولكن بصورة تحقق إدراك المعني فحسب والرواية ولكن في لمحات تفي بالغرض المطلوب، وأخبار الشعراء ومناسبات الشعر ولكن في اقتصاد واقتصار. ولاحظنا أنه منهج يشبه المنهج التجميعي الانتخابي في الإفادة من أعمال السابقين، ولكنة لا يقدمها في الثوب الذي يقدمها به التجميعيون الانتخابيون الذين يكتفون بنقل ما ينتخبون من الشروح دون أن يعملوا فيه ما يشذبه ويهذبه، وإنما يقدمها في صورة يحوطها الاختصار وتحكمها السهولة ويضبطها اليسر، ورأينا أن خير ما ينطبق علية هذا المنهج شرحان أحدهما الشرح المرجح نسبته إلي زيد بن علي الفارسي والآخر المنسوب خطأ إلي أبي العلاء المعري، ولاحظنا أن هناك شرحين آخرين سلكا المنهج نفسه هما: شرح البياري وشرج الأعلم الشمنتري.

وحين انتهينا من تحديد المعايير والصفات التي قامت عليها هذا المناهج الخمسة أقتضي العمل أن نتوالى فصول خمسة في هذا القسم خصصنا كل فصل منها لتطبيق منهج من هذه المناهج، فبدأنا بالمنهج الإبداعي الفني الأدبي، ودرسنا عمل أبي علي المرزوقي من خلال فعرضنا أولا لشخصيته وما تركبت علية من نزعة اعتداد وتعال أثرت في مصادرة وعملة فلاحظنا أنها أثرت في مصادرة من حيث جعلته قليل الإفادة من الأعمال التي سبقته في شرح الحماسة بل جعلته يتعمد الإغضاء من العلماء السابقين له أو المعاصرين ممن لهم صلة بعملة في الحماسة، الأمر الذي أدي إلي حرماننا من معرفة جل الشروح التي أفاد منها في شرحه، ولاحظنا أنها أثرت في عمله في الشرح حيث جعلته متفردا بآرائه، حتى في اللغة والنحو- وهما من العلوم التوفيقية- رأينا عملة فيهما دالا علي ذاتيته وتفرده في تحليلاته اللغوية ومناقشاته للمسائل الإعرابية. ولقد حاولنا أن نتتبع أعمالة في الحماسة من خلال عناصر الشرح فرأيناه قليل الاهتمام بعناصر ثلاثة هي: مناسبات الشعر التاريخية وأخبار الشعر، وتفسير أسماء الشعراء والأعلام، وتحديد بحور الأشعار وأضربها وقوافيها. ولقد عللنا ذلك بأنة لم يقف علي شرح أبي رياش ذي الاهتمام بالأخبار التاريخية ومناسبات الشعر. ولم يقف علي كتاب ((المبهج)) لأبن جني ذي العناية بشرح أسماء الشعراء والأعلام. أما خلو شرحه من تحديد أوزان الشعر وما يتصل بها من ضروب وقواف فقد عللناه بأن هذا العنصر لم يكن من العناصر التي أهتم بها الشراح في زمنه وما قبلة. إن العناصر التي تجلت فيها عبقرية المرزوقي هي: الرواية، واللغة، والنحو، والمعاني، والبلاغة، والنقد. لقد حقق فيها أعمالا طيبة، أكدت دراستنا لها أنها تدل علي ذاتية متفردة وعلي إبداع وفنية، وعلي أسلوب أدبي مشرق برغم جنوحه المتكرر إلي أساليب المعلمين. لقد عشنا مع المرزوقي في هذه العناصر، ودرسناها عنصرا عنصرا، حتى مذهبة النحوي أفضنا في دراسته ومناقشته، فكان أهم ما خرجنا به أن المرزوقي بمنهجه الإبداعي الفني الأدبي قد كان معلما بارزا في عملة الذي أداة في الحماسة،

فشرحه يعد نسيج وحدة بالقياس إلي الشروح التي وصلت إلينا. أما المنهج العلمي التخصصي فقد اخترنا لتطبيقه أعمال أبن جني في كتابية ((المبهج)) و ((التنبيه)) فلاحظنا أنه جعل من ديوان الحماسة وأسماء وشعرائه وما ورد فيه من أعلام مجالا يثير فيه كوامن العلوم التي تخصص فيها، بل لاحظناه أنه الشارح الوحيد الذي لم يكتب للعامة، وإنما قد قصد بأعماله خاصة الخواص من ذوي التخصصي العالي والملكات ذات القدرة علي الفهم والاستيعاب. لقد تتبعنا عملة في المنهج ورأينا كيف أنه أبتدع عنصرا جديدا من عناصر الشرح يتصل بشرح أسم صاحب النص شرحا لغويا بحتا، يبحث فيه عن اشتقاق العلم، ما كان مرتجلا وما كان منقولا، وما يتصل به من نظائر في كلام العرب أو في القياس. لقد عرضنا عملة في جوانب متعددة، فلاحظنا أنة عمل دل علي سيادة مطلقة في علم التصريف، وعلي علو باذخ في الاشتقاق، واستيعاب تام لما يقبله القياس وما لا يقبله. وحين عرضنا إلي كتابة ((التنبيه)) وتتبعنا عملة في عناصر شرح الشعر لاحظنا أنه في عنصر الأوزان والقوافي لم تكن نظرته في معالجته عامة تشمل سائر نصوص الحماسة وإنما كانت نظرة خاصة تختص بما يثير قضية فحسب. كذلك رأيناه في عنصر الرواية يختلف عن الإبداعيين الفنيين الذين رأيناهم يناقشون الرواية من وجوه مختلفة، أما هو فقد ينظر إلي الرواية من جهة اللغة وجهة الإعراب، ولا يقف عندها إلا إذا كانت ذات معضلة تعوز الشرح، أو مشكلة إعرابية تحتاج إلي تأويل وإيضاح، وكذلك كان حالة في اللغة والنحو، لم يتخذ منهما وسيلة يستعين بها في تفسير الألفاظ والتراكيب بغية الوصول إلي معني النص كما هو الحال عند سائر الشراح الآخرين، وإنما كان عملة اللغوي موقوفا علي النظر إلي الألفاظ والتراكيب بغية الوصول ألي معني النص كما هو الحال عند سائر الشراح الآخرين، وإنما كان عملة اللغوي موقوفا علي النظر إلي الألفاظ نظرة جزئية من حيث هي لفظة مفردة يقف عندها يعالج تصريفها أو اشتقاقها، مستعرضا ما تثيره من قضية تتصل بالقياس أو الاشتقاق، وأما عملة النحوي فقد رصدنا فيه عدة ملاحظات أهمها إثارة للقضايا

النحوية ظاهرة الأشكال أو القضايا التي تبدو جلية ولكنها تخفي ورائها الغامض من المسائل وثانيتها تتبعه الدائم للخلاف بين سيبويه وأبي الحسن الأخفش في جملة من المسائل التي خالف فيها الأخفش جمهرة النحاة، وثالثتها تنويهه المستمر بأن الإعراب قد يجيء مخالفا للمعني، ورابعتها اعتماده الواضح علي القياس في المسائل الإعرابية. وأما عملة في المعاني فإنه لم يهتم بها إلا من خلال الإعراب، ولقد أبان ذلك في مقدمته حين أفاد بأنة تحامي تفسير شيء من معاني أبيات الحماسة إلا ما ينعقد بالإعراب، ولذا كان تعرضه لعنصر المعاني نادرا وفي مواضع قليلة من ((التنبيه)). ولما كانت المعاني ليست من همة كانت البلاغة أيضا ليست من همة فهو حين ينظر إلي لون بلاغي ينظر إلية من جهة نحوية، وكذلك كان شأنه في نقد الأشعار لواردة في الحماسة، لا ينتقدها من حيث المعاني، جودتها ورداءتها، وإنما ينتقدها حين يري خروج تركيب ما عن قواعد الإعراب التي قننها النحاة. إن أهم ما يخرج به الدارس لعناصر شرح أبن جني هو أن معالجته لها كانت مجال المشاكل التي تثيرها النصوص في اللغة وما يلحق بها من اشتقاق أو تصريف، ومجال المسائل الإعرابية وما ينص لبها من خلاف بين النحاة، ومجال المشكلات التي تتصل بالعروض والقوافي أو تتصل بشذوذ التراكيب في استخدام الشعراء. ولقد رأيناه في هذه المجالات يتحرك بأسلوب يغلب علية الطريقة الجدلية المتأثرة أحيانا بطرق المتكلمين في التعبير وهو أسلوب قد يثير في نفوسنا شيئا من المتعة الذهنية، ولكنة خال من الإثارة الوجدانية التي نجدها في أسلوب الإبداعيين أمثال المرزوقي. ثم كان أن وقفنا عند المنهج التتبعي التقويمي وطبقناه في عملين: أحدهما ((ضبط مواضع من الحماسة)) لأبي هلال العسكري، والآخر ((إصلاح ما غلط فيه أبو عبد الله النمري)) لأبي محمد الأعرابي. فأما عمل أبي هلال فقد لاحظنا انه قد تتبع نسخة للحماسة بخط أحد الشيوخ فقام بضبطها وتحريرها، وسجلنا أن عملة في تتبع هذه النسخة وتقويمها قد

دار حول جوانب ثلاثة، أحدهما: التصحيف الذي يقع في روايات الحماسة فيؤدي إلي فساد في المعني، والثاني: تحريف الرواية الذي ينجم عنة خلل المعني أو خلل الإعراب أو خلل الوزن أو خلل أن يجري الكلام علي غير المألوف عند العرب، وثالثة: الخطأ في نسبة الشعر إلي غير قائلة. ولقد ناقشنا عملة من خلال هذه الجوانب، محللين الأمثلة لدراستها وتبيان جهد الرجل فيها، وانتهينا إلي أن أبا هلال من خلال عملة في هذه الرسالة ((ضبط مواضع من الحماسة)) قد حقق منهجا في التأليف، ومنهجا في معالجة ما تناوله من تقويم وإصلاح، وقد كشفت هذه التقويمات والإصلاحات عن ثقافات في فن الشعر، وما تقتضيه هذه الثقافة من معرفة بعلم النحو واللغة والصرف والعروض، ووقوف علي الأنساب والأخبار التاريخية. وأما عمل أبي محمد الأعرابي فقد عرضنا فيه أولا لما جاء في مقدمته فلاحظنا أنه ألف هذا الكتاب الذي تعرض لأبي عبد الله النمري بدافع من التحدي وإظهار المقدرة علي التصدي بالنقد لأعمال من سبقه، ولاحظنا أيضا أن العجلة كانت صفة من صفات عملة حيث أنجزه في مدة لا تتجاوز الأسبوع، وسجلنا أن هذا أوقعة في عدم الموضوعية حينا، وإلي خلل في التتبع والتقويم أحيانا أخرى. ثم أدرسنا عملة في تتبع ما جاء في شرح معاني أبيات الحماسة لأبي عبد الله النمري، فلاحظنا أنه كان يناقشه ويرد علية في جوانب أربعة أولها: جانب الرواية تصحيح ما اعتمده النمري في متنه من رواية للحماسة، وثانيهما: تصحيح نسبة الشعر إلي غير قائليه، وثالثها: التنبيه علي أمور أغفلها النمري في شرحه، ورابعها: التصدي بالمناقشة لما قرره النمري من معاني أبيات الحماسة ولقد درسنا عملة من خلال هذه الجوانب جميعها محاولين أن نظهر ما حققه الرجل من خدمة للحماسة في تتبعه لعمل النمري وتقويمه، غير أن دراستنا له في هذه الجوانب قد كشفت عن جملة من المآخذ علية، رصدناها من خلال العمل فبلغت أربعة، أحدها: حرصه علي إيراد مثل من الأمثال في كل موضع من المواضع التي تتبع فيها النمري شعرا كان المثل أو نثرا، وقد أوقعة حرصه المتوالي في أن يورد أمثالا تعد من مرتذل القول وتجري علي ألسنة السوقة لا ألسنة العلماء، وثانيهما: أنه كان يتعمد في بعض الأحيان ألا

يورد كل ما قاله النمري في معاني الأبيات، وإنما يكتفي بذكر جزء ينطلق منه لينال من النمري، الأمر الذي جعل البغدادي يتهمه بالتزييف، وثالثهما: أنة كثيرا ما كان يخرج في عملة التتبعي التقويمي عن الموضوعية، وذلك باستخدامه العبارات الجارحة يرددها في ثنايا كتابة بقصد النيل من أبي عبد الله النمري والحط من قدرة، ورابعها: اضطرابه في الحكم علي النمري حيث اشتملت أحكامه علي شيء غير قليل من الاضطراب والتناقص، غير أننا ونحن نورد هذه الآخذ ونقيم الأمثلة علي صحتها والدلالة عليها، لم يفتنا أن نسجل ما انتهينا إلية في عمل الرجل، فهو بالرغم من هذه المآخذ التي أخذناها علية فإنه قد استطاع بحق وفي جوانب متعددة من عملة أن يسهم في خدمة ديوان الحماسة إسهاما طيبا يدل علي جهده وعلمه. أما المنهج التجميعي الانتخابي فقد خصصنا لتطبيقه ودراسته شرح أبي زكريا التبريزي الأوسط المتداول بين أيدي الناس. ولكننا قبل أن نبدأ في التطبيق نوهنا إلي أن هناك عالمين من علماء القرن السادس الهجري قد تابعا التبريزي في منهجه هذا واستطاعا أن يحققا معاييره وصفاته في عمليهما وهما أمين الدين الطبرسي، وأبو الرضا الراوندي، وكان يمكن أن نطبق هذا المنهج علي عمل أحدهما، غير أن ريادة التبريزي في هذا المنهج ألزمتنا بأن نخصه بهذا التطبيق، فكان أن لاحظنا أولا الجوانب التي بدت نظرية في كلام الدكتور العمري في هذا المنهج، فأكدنا أن التبريزي قد حاول أن يجمع في شرحه ما يحقق جميع العناصر المطلوبة في الشرح ولكنة لم يوفق بين هذه العناصر توفيقا تاما، وينسق بينهما بانسجام يشعرنا بالتكامل والترابط إلا في مواضع ضئيلة من شرحه، كما أنه أعتمد في جمهور شرحه علي المرزوقي محاولا أن يكمل ما فيه من نقص من الشروح الأخرى، غير أن هذه الشروح لم تكن لتسد حاجته في استكمال هذا النقص، ومن ثم جاءت جملة من النصوص خالية تماما من أدني شرح، وكان مقتضي عملة- وهو الشارح المنتخب- أن يسد هذا النقص من عنده، ولكنة لم يكن مبدعا بحيث يحقق بإبداعه وإعمال فكرة استكمال ما ينتخبه من الشروح، هذا فضلا عن انسياقه المتكرر وراء

شيخه أبي العلاء في إستطرادتة المختلفة، وكذلك إنسياقة وراء أبي رياش في نقولات سود بها العديد من الصفحات دون أن يعمل فيها قلمه بالتهذيب والتشذيب أو الحذف والاختصار، الأمر الذي أدي إلي طغيان عنصر أخبار الشعر علي عناصر الشرح في القطع التي كان أبو رياش يذكر خبر أبياتها أو بواعث الشعر فيها. لقد حاولنا أن نتتبع التبريزي في سائر العناصر التي ضمها شرحه قصدا إلي بيان كيفية انتخابه من الشروح التي سبقته لكل عنصر منها، وكان كل ذلك عن عدة ملاحظات بعضها سلبي وبعضها إيجابي، فمن الملاحظات الإيجابية أنة كان ينظم ما ينقله من الشروح وبخاصة حين ينقل من الشرح الواحد أكثر من عنصر، فهو كما رأيناه يكثر النقل من شرح المرزوقي، ولكنة كان يتصرف فيما ينقله حيث ينظمه ويرتبه وفق الرؤية التي يراها في معالجة عناصر الشرح لا وفق ما جاءت في شرح المرزوقي، ومنها أيضا أنة علي كثرة نقله من الشيوخ دون ان يبدي رأيا فيما ينقل، كانت له بعض المواقف التي دلت علي شخصيته في العمل الانتخابي وهي مواقف وإن كانت ضئيلة إذا ما قيست بالكثرة الكاثرة التي بدا فيها مجرد جماع ناقل، فإنها علي أية حال دلت علي ذاتية فيه، وعلي حضور ذهن فيما كان يعرضه من آراء أثناء عملية الشرح. أما الملاحظات السلبية فمنها أنه وغيرة من الشراح الذين اتخذوا هذا المنهج سبيلا قد وقعوا في ظاهرة سلبية في الانتخاب وهي أنهم كانوا لا يعزون جميع ما ينتخبون من آراء وأقوال إلي أصحابها، وبخاصة حين ينقلون عن المرزوقي حيث كانوا يوردون كلامه في صورة توحي بان هذا من عملهم وجهدهم، ومن ثم بدت خطورة هذه الظاهرة في عمل الانتخابيين من حيث إنها تجعل الدارسين لشروحهم أو المستفيدين منها في اضطراب مستمر حين ينسبون إليهم أقوالا ليست لهم أو يجعلون لأعمالهم قيمة لا تؤول إليهم في واقع الأمر. ومنها كذلك كثرة نقلة من أبي رياش أخبار الشعر وما يتصل بها من شخصيات وأشعار، وهو لم يكتف بإيراد هذه الأخبار وما يتصل بها فحسب بل كان يزيد عليها تعليقات شيخه أبي العلاء علي جزيئات

منها، وكل ذلك في إسهاب مخل أدي إلي تغول هذا العنصر علي سائر العناصر الأخرى. وإذا كنا قد سجلنا في عمل التبريزي هاتين الملاحظتين وغيرهما فإن البحث قد سجل له ما لا يغمض حقه فيما صنع، فقد حاول بحق أن يبتكر منهجا مغايرا لسابقيه في شرح الشعر، وجد شيوخه وسابقيهم قد عالجوا الحماسة في شروحهم من نواح مختلفة، كل شرح يركز في ناحية دون أخري، فأراد بمنهج جديد أن يجمع بين هذه النواحي في شرح واحد أي أن يجمع شروحا في شرح، ومن ثم جاء عملة جامعا لمناهج مختلفة وأساليب متباينة، وهو وإن بدا في جل عملة غير خلاق ولا مبتكر فيما يكمل به ما يجده من النقص في هذه الشروح، فإنه في مقابل ذلك دل عي جهد مضن وحضور ذهن في استدعاء معلوماته التي قرأها أو سمعها من شيوخه أثناء عملية الشرح، وأن يوظف ذلك في مواضعه، وفي هذا فضل لا ينكر، ولو شفعة آخر بان عزا نقولاتة إلي أصحابها، ونفي عن هذه النقولات الاستطرادات المخلة بتنسيق العناصر لكان شرحه الغاية الخالدة في هذا المنهج. وأما المنهج الأختصاري التسهيلي فقد أفدنا بأنة يمكن تطبيقه في شرح زيد بن علي والشرح المنسوب خطأ لأبي العلاء المعري، ولكن لما كنا قد عقدنا دراسة كاملة حول الشرح المرجح نسبته لزيد بن علي في الكتاب الثاني من هذا البحث اخترنا الشرح الآخر للدراسة والتطبيق، وقد لاحظنا من خلال دراستنا له أنه قد حاول في غلبة شرحه أن يوفر مقومات هذا المنهج وصفاته غير أننا أخذنا علية أمرين أحدهما ملية المتكرر إلي النقل من أبن جني في شيء من الإسهاب وبخاصة في عنصر اللغة، والآخر عدم إفادته من المصادر التي تحت يده إفادة مطلقة تعصمه من الخطأ في تفسير بعض نصوص الحماسة، فهو قد دل في شرحه أنه قرأ المرزوقي والتبريزي ولكنة كان في بعض الأحيان يأتي بتفسير خطأ للشعر، يختلف عن التفسير الذي قرره المرزوقي أو انتخبه التبريزي في شرحه. كذلك سجلنا أن هناك شارحين قد سلكا سبيل هذا المنهج أحدهما الأعلم الشنتمري الذي أستطاع أن يحقق هذا المنهج تحقيقا جيدا، ولكن شرحه جاء في

الحماسة التي صنعها، وليس في حماسة أبي تمام، أما الآخر فهو أبو الحسن البياري، غير أن شرحه لم يصل إلينا كاملا، وإنما وصل منه الجزء الأول فقط، وهو جزء لم يستكمل باب الحماسة كله، ناهيك عن سائر الأبواب الأخرى. وإذا كنا تتبعنا للشروح التي صدرت في الفترة الزمنية التي حددنها لهذا البحث قد كشفت عن شروح لم تصل إلينا كاملة أو وصلت ولكنها غير واضحة المنهج أو وصلت في صورة نقولات في شروح وصلت إلينا فإن هذا أقتضي أن يقوم قسم ثالث لدراسة هذه الشروح. ومن ثم جاء الفصل الأول من هذا القسم في دراسة شروح كل من أبي الفتوح الجرجاني، وأبي الرياش، وأبي عبد الله النمري، وأبي هلال العسكري، وأبي العلاء المعري. لقد تتبعنا هذه الشروح ودرسنا عناصر الشرح فيها، وكنا في كل شرح نجد نقصا واضحا في جملة من العناصر التي تقوم عليها عملية الشرح وتكشف عن منهج صاحبة في وضوح وجلاء، وانتهينا إلي أن هذه الشروح بصورتها التي وصلت إلينا لا يمكن تصنيفها تحت أي منهج من المناهج فشرح الجرجاني كشفت الدراسة أنه مجرد رواية مصححة لمتن الحماسة علية تعليقات متفرقة لا يمكن تسميتها شرحا إلا من باب التجوز، والنقولات التي وصلت عن شرح أبي رياش، وإن دلت علي بعض العناصر فإن غلبتها قد جاءت في الأخبار التاريخية، وهي مع هذا لم تبين لنا عملة في عناصر مهمة في الشرح مثل الرواية والنحو والبلاغة والنقد، كما أن عملة في اللغة والمعاني غير واضح في هذه النقولات الوضوح كله، ولذا صعب علينا أن نضعه تحت منهج من المناهج، ومختصر معاني أبيات الحماسة الذي وصل إلينا عن شرح أبي عبد الله النمري لم يكشف لنا عن عمل النمري إلا في عنصري الرواية والمعاني، وهو بجانب هذا قد أفاد من شيخه أبي رياش ولكنة لم يكن ذا منهج نقلي التزامي لأنة لم يقف عند حد النقل فحسب بل كان يناقش وينتقد، ويورد من رأي مخالف لمن ينقل عنة، وهو أيضا كان يتعرض للديمرتي في شرحه ولكن تعرضه لم يكن تعرض متتبع مقوم علي نحو ما رأينا عند أصحاب المنهج التتبعي التقويمي، فقد كان يعرض الجوانب الصواب والخطأ معا، كما أنة لم يتتبع كل مواطن الزلل في شرح الديمرتي، وإنما كان يناقش ما في

الشرح من زلل من خلال العنصرين اللذين قصر عملة عليهما وهما الرواية والمعاني. كذلك لم يبد النمري في شرحه تجميعا انتخابيا، فهو وإن أفاد من أعمال رجال سبقوه فإن إفادته لم تكن إفادة تجميع وانتخاب، ولم يكن كذلك ذا منهج علمي تخصصي علي النحو الذي رأيناه عند أبن جني، ولا سلك سبيل أصحاب المنهج الاختصاري التسهيلي الذين يوفرون لشروحهم سائر العناصر يعرضونها في سهولة ويسر. إن كل الذي خرجنا به من هذا المختصر أن الرجل كان مثل شيخه أبي رياش الذي رأيناه جل جهده علي الأخبار التاريخية، فهو أيضا قد قصر جهده علي دراسة الروايات وتحليل المعاني، أما عناصر الشرح الأخرى فنحن لا نكاد نظفر بشيء منها سوي لمحات ضئيلة لا تقاس بأعمال أصحاب الشروح الذين طبقنا عليهم المناهج الخمسة. أما أبو هلال في شرحه الذي لم يصل إلينا فإن النقولات التي وردت عنة قد دلت علي معالجته لجملة من عناصر الشرح كشفت عنها الدراسة حيث لاحظنا أنة كان كثير الاهتمام بنقد الأشعار الواردة في اختيار الحماسة، وتعريف الشعراء، وتصحصح نسبة القطع الواردة في الاختيار، وكشفت أيضا عن عمل له في المعاني، ولكن في مواضع قليلة، وكذلك عنصر الأخبار التاريخية. ولاحظنا أن ثمة عناصر لم ترد في هذه النقولات مثل عنصر اللغة الذي لم نجد فيه نقولات تذكر وكذلك النحو والإعراب والبلاغة وأوزان الشعر وأضربه وقوافيه، الأمر الذي جعلنا نتوقف متسائلين أكان له عمل في هذه العناصر لم تنقله لنا هذه الشروح التي وصلت إلينا أم أنة في الأصل لم يولها اهتمامه؟ ومهما كان الجواب فإن النتيجة التي خرجنا بها من هذه النقولات أنها لا تكشف عن منهج واضح لأبي هلال في شرحه يهيئ لنا السبيل إلي إدراجه تحت منهج من المناهج الخمسة، وإن كان ظننا يذهب إلي أنة أشبة بأصحاب المنهج الإبداعي الفني منة إلي أصحاب أي منهج آخر. وأما أبو العلاء في شرحه ((الرياشي المصطنعي)) فإن ما وصل إلينا عنة جاء عن

طريق ما كان ينتخبه التبريزي في شرحه، وقد رأينا بالرصد أن نقولات التبريزي عن شرح أبي العلاء قد بلغت نحو بضعة ومائة موضع، غير أنها مع تنوعها والإسهاب في بعضها لم تيسر لنا تحديد منهج أبي العلاء في شرحه فقد جاءت جل هذه النقولات في شرح أسماء الشعراء، وفي اللغة والنحو، ولاحظنا أن نقولات التبريزي عنة في عنصر المعاني كانت ضئيلة جدا، وذلك بسبب أن التبريزي في شرحه الانتخابي كان يعتمد في عنصر المعاني علي المرزوقي، ولهذا قل انتخابه من الشروح الأخرى في هذا العنصر غير أن دراستنا لعل أبي العلاء في عنصر اللغة والنحو وملاحظتنا حرصه الدائم علي مراعاة المعني في التحليل اللغوي والإعرابي جعلتنا نسجل أنة كان ذا اهتمام بهذا العنصر، فلم يكن مقتصدا مقتصرا فيه كما ذهب الدكتور العمري ولا كانت عنايته باللغة صارفة له عن التدقيق في معاني الشعر، يعرضها في صورة تكاد تكون نثرا كما ذهب الدكتور عسيلان، لقد ناقشنا هذا الجانب في كلام الباحثين وبينا عدو صحة ما ذهبنا إلية من قول. إن هناك عناصر لم تكشف عنها نقولات التبريزي من شرح أبي العلاء مثل عنصر الرواية الذي جاء النقل فيه أشد ضآلة من عنصر المعاني، ومثل عنصر الأخبار التاريخية الذي لم يورد التبريزي منة سوي في موضع واحد، ومثل البلاغة والنقد اللذين لا وجود لهما البتة في نقولات التبريزي. لقد لاحظنا إن أبا العلاء كان في شرح أسماء الشعراء أشبة بابن جني، غير أنة يختلف عنة في أنة لم يجنح إلي التصريف كما كان يفعل أبن جني، كما أنة في عنصري اللغة والنحو لم يكن مثله ينظر إلي الأبيات التي تثير قضية لغوية أو نحوية، ولا ينظر إلي المعني إلا من خلال ارتباطه بالإعراب، كذلك لم يكن يعمد إلي إثارة الخلاف بين أبي الحسن الأخفش وسيبويه وينظر إلي ما تعطيه أبيات الحماسة من دعم لرأي أحد الرجلين، كل هذه الأمور التي لاحظناها في عمل أبن حني لم يكن لأبي العلاء شأن فيها. هذا فضلًا عن أبن جني كان في عملة الذي رأيناه له في ((التنبيه)) علميا بحتا، أما أبو العلاء فإنه بجانب جنوحه نحو اللغة وتحليلها في النصوص، فإن عملة لم يخل من جانب أدبي، وبخاصة في نظرته إلي كلام العرب ونقله الكثير

من أدبها ليدلل به علي صحة المعني اللغوي للألفاظ والتراكيب أو المعاني النصوص ومقاصد الشعراء. هذا الذي فصلناه في الموازنة بين عمل أبي العلاء وأبن جني فصلناه أيضا بين عملة وأعمال أصحاب المناهج الأخرى، ومن ثم انتهينا إلي أن ما وصل إلينا من عمل أبي العلاء شيء مختلف عن سائر المناهج الخمسة بحيث لم يتأت لنا إدراجه تحت واحد منها. وإذا كنا قد درسنا الشروح الواضحة المنهج والشروح غير الواضحة فإن دراستنا لها جميعا قد كشفت عن ظاهر عامة شملت سائر أعمال الشراح، ومن هذا كان أن خصصنا الفصل الثاني من هذا القسم الأخير لدراسة هذه الظاهر فلاحظنا أنها من خلال رصدنا لها يمكن تصنيفها في ثلاث مجموعات: مجموعة تتصل بمتن الحماسة وتشمل ظاهرتين إحداهما: قلة رجوع الشراح إلي الأصول في رواية متن الحماسة، والأخرى تغاضيهم عن مناقشة النحل في المتن المختار من قبل أبي تمام، ومجموعة تتصل بمادة الشروح وتشمل ثلاث ظاهر إحداهما الاستطراد والتوسع في بعض عناصر الشرح، والثانية طغيان اللغة والنحو في عملية الشرح، والثالثة إغفال الشاعر والعوامل الموحية له بالشعر، ومجموعة تتصل بالشراح أنفسهم وتشمل ظاهرة واحدة هي تسلط نزعات الشراح وأهوائهم في أعمال الشرح. لقد درسنا هذه الظاهر وفق مجموعاتها، ووفق ما أفرزته هذه الشروح من أعمال، وانتهينا إلي أن عدم رجوعهم إلي مجاميع الشعر ودواوين الشعراء قد أدي بهم إلي الوقوع في افتراضات لا معني لها حين كان أبو تمام يختار بعض الشعر ويسقط بعضة الآخر، كما حرمهم من دراسة تطبيقية في طريقة اختيار أبي تمام للشعر، ومعرفة دقته فيما كان يختار وما كان يترك، كذلك لاحظنا أنهم لم يناقشوا الإشارات التي صدرت عن الشراح الأوائل حول نحل بعض القطع وتوليدها، وإنما وقفوا عند حد النقل وترديد ما قالوه دون أن يناقشوا صحته أو خطأه علي النحو الذي رأيناه فيما بعد عند الباحثين المعاصرين. أما في ظاهرة التوسع والاستطراد فقد لاحظنا أنة لم يسلم منها شارح من

الشراح على مختلف المناهج التي سلوكها، ولقد عللنا شيوع هذه الظاهرة في أعمالهم بتأثرهم الواضح بشراح الشعر الجاهلي في القرن الرابع الهجري الذين أدركوا أن القصد من شرح الشعر هو التعليم والتثقيف إلي جانب الإمتاع، فوسعوا من نشاطهم في الشروح فحللوا ودققوا وأسهبوا واستطردوا في كل شيء يتصل بالنص من قريب أو بعيد فجاءت شروحهم زاخرة بالمواد العلمية التي هي حصيلة الجمع والجهد، ولم تكن هذه النظرة بغائبة عن شراح الحماسة، وبخاصة إذا علمنا أنهم لم يكونوا بمعزل عن حركة شرح الشعر عامة، ومن هنا جاء إليهم التوسع .. والاستطراد حتى شمل أصحاب المنهج التجميعي الانتخابي الذين يفترض في عملهم التهذيب والتشذيب، وأصحاب المنهج الاختصاري التسهيلي الذين يفترض فيهم أن يكونوا بعيدين عن هذه الظاهرة كل البعد. أما ظاهرة طغيان اللغة والنحو في عملية الشرح فقد أوضحنا أننا لا نعني بها أصحاب المنهج العلمي التخصصي لأنهم قد بنوا منهجهم علي إثارة القضايا التي تتصل باللغة والنحو، ومن ثم فمن الطبيعي أن نجد اللغة والنحو يطغيان في أعمالهم، وكذلك لا نعني بها أصحاب المنهج التتبعي التقويمي لأن أعمالهم تقوم وفق ما يتتبعونه ويقومونه في أعمال الآخرين، نحوا كان أو لغة أو غيرهما. إننا نعني بها أصحاب المنهج الإبداعي الفني والمنهج التجميعي الانتخابي والمنهج الاختصاري، فهؤلاء تقوم مناهجهم علي مقومات وصفات لا تقتضي وجود هذه الظاهرة في أعمالهم، ولكنهم مع محاولاتهم الدائبة في توفير هذه الصفات والمقومات لأعمالهم لم يسلموا من شيوع هذه الظاهرة في شروحهم حيث رصدناها في بعض أعمال المرزوقي وفي انتخاب التبريزي وفي أعمال صاحب الشرح المنسوب خطأ لأبي العلاء، وأبي الحين البياري، وأبي القاسم زيد بن علي، ولقد عللنا لهذه الظاهرة وتسربها في أعمال هؤلاء الشراح بأنها مثل ظاهرة التوسع والاستطراد ترجع إلي التأثر بأعمال أبي بكر بن الأنباري وأبي جعفر النحاس، وهي في جملتها يمكن أن ترجعها بالنسبة لشراح الشعر القديم إلي أن كل العلماء الأوائل الذين عنوا بشرح الشعر ابتداء من أبي عمرو الشيباني المتوفى سنة 206 أو 210 هـ إلي أبي سعيد السكري المتوفى سنة

275 هـ كانوا من ذوي الاهتمامات باللغة والنحو، وقد أنعكس هذا الاهتمام علي أعمالهم في شرح الشعر ومن ثم تأثر بذلك كل من جاء بعدهم من شراح الشعر سواء في ذلك شراح الحماسة أو غيرهم. كذلك سجلنا أن نشأة دراسة الشعر وارتباطها في البداية بخدمة القرآن الكريم والحديث الشريف قد كان لها تأثير في غلو هذه الظاهرة ووجودها في شروح الشراح من حيث إن النظرة إلي شرح الشعر وسيلة إلي فهم القرآن والحديث قد ربطت علم الأشعار بعلمي اللغة والنحو لتصب جميعها في وسيلة واحدة لخدمة غاية واحدة هي فهم القرآن والحديث، ومن هنا ارتبط شرح الشعر لدي الشراح بهذين العلمين بالرغم من انفصال هذه العلوم عن بعضها وقيام كل منها في وحدة قائمة لذاتها. لقد رأينا أن اهتمام الشراح فيما يتصل بالشاعر كان منصبا علي شرح أسمة لغويا، وتبيان نسبة وقبيلته والأحداث التي كانت وراء قولة الشعر وما يتصل بها من أنساب وأيام وأمثال وأشعار. أما الشاعر نفسه فلا وجود له في تحليل الشعر وشرحه، الأمر الذي شكل ظاهرة عامة شملت سائر الشروح. إن الشاعر بعواطفه وعقله وتفكيره والخط النفسي في بناء شعرة، والعوامل الموحية له بالشعر كل هذا لم يكن من هم الشراح في ذلك الزمن، ولقد اعتمدنا في تعليل انتقاء وجود الشاعر في عملية الشرح لدي الشراح، علي ما علله الدكتور العمري في وجود هذه الظاهرة لدي شراح الشعر الجاهلي، وهي علة ترجع إلي طبيعة العصور القديمة والظروف العملية والثقافية فيها، وهي طبيعة لم تكن تلتفت إلي هذه الأمور من قريب أو بعيد، لأن كل ما يهم الشارح- وهو واقع تحت تأثير هذه الظروف- هو المادة الشعرية يحللها ويقدمها خدمة للعلم أولا وقبل كل شيء لا خدمة للشاعر وإبراز مقاصده ومراميه وخصائصه التي تميز شعرة. ولاحظنا أيضا أن سائر شراح الحماسة بعد القرن السادس الهجري داروا في الفلك نفسه بل صاروا يكررون ما قاله الأوائل اختصارا أو انتخابا دون أن يكون لهم أدني إضافة فيما خلفه هؤلاء الشراح القدماء، ومن هنا رأينا العلماء

المعاصرين الذين تصدوا إلي الحماسة بالعمل في مجال التعليم قد فكروا في عمل شرح لها وذلك علي نحو ما وضحنا في عمل الشيخ سيد علي المرصفي ومحمد الطاهر بن عاشور وعلي النجدي ناصف. أما الظاهرة العامة والأخيرة التي سجلناها لهؤلاء الشراح فهي تسلط نزعاتهم وأهوائهم في عملية الشرح، فقد رأيناها عند المرزوقي في نزعته إلي التعالي والتفرد من جهة وإتباعه هوي نفسه ومزاجه من جهة أخري، وسجلنا مدي تأثير ذلك في مصادرة وعملة، كذلك سجلنا لأبن جني جنوحه المستمر نحو اللغة والنحو مما دفع به إلي إخضاع النصوص الشعرية في الحماسة إلي هذه النزعة فحول اختيار أبي تمام الأدبي إلي عمل بعيد الأدب ومجاله. ورأيناها أيضا في عمل أبي محمد الأعرابي حيث برزت لدية نزعة التحدي وإظهار سقطات الآخرين وقد دفعته هذه النزعة إلي تزييف بعض أعمال النمري بغية إظهار عجزة وضعفه في فهم الشعر وشرحه، فخرج في عملة عن الموضوعية التي ينبغي أن يتمسك بها كل ناقد متصد إلي أعمال غيرة، كذلك سجلت الدراسة في هذا الخصوص نزعتين تحكمتا في عمل التبريزي في الحماسة إحداهما نزعته إلي اللغة والنحو، والأخرى انسياقه المتكرر وراء شيخه أبي العلاء بحيث جعلته النزعة الأولي يقصر جهده علي اللغة والنحو في كثير من النصوص التي ينتخبها من الشروح، وجعلته النزعة الثانية محتل المنهج في مواضع متعددة كان ينزلق فيها نحو الاستطراد الذي ينقله في شرحه من أعمال أبي العلاء. ولقد سجلنا كذلك أن بعض أصحاب المنهج الاختصاري التسهيلي لم يسلم من هذه الظاهرة وهو صاحب الشرح المنسوب خطأ إلي أبي العلاء حيث لاحظناه ينزع إلي أعمال أبن جني في ((التنبيه)) فينتقل منها في مواضع من شرحه مما يعد استطراد في العمل وتغليبا لعنصر علي عناصر الشرح الأخرى، ولولا أنها كانت قليلة في عملة لا تقاس بما استوفاه من صفات منهجه ومقوماته لأخرجته عن حد المنهج الذي رسمه لعملة. ولعل أهم نتيجة خرجنا بها من دراستنا لهذه الشروح جميعها، ومن خلال ما

رصدناه فيها من ملاحظات وظاهر عامة هي أننا- وفق رؤيتنا المعاصرة لشرح الشعر، ووفق فهمنا للنظرة الحديثة إلي تراثنا الأدبي والدعوة إلي دراسته وتمحيصه وعرضه في ثوب جديد يتلاءم مع ثقافة عصرنا والعصور التي سوف تليه- نري أن ديوان الحماسة، هذه الاختيار العظيم الذي خلفه أبو تمام، لا يزال في حاجة إلي جهود علماء معاصرين يتصدون لشرحه وفق المفاهيم النقدية الحديثة، والرؤية المعاصرة لعملية الإبداع الشعري وشرحه وإيصاله إلي طلاب الأدب. إننا نأمل أن نكون بهذه الدراسة قد حققنا عملا مفيدا في تراثنا الأدبي وإضافة جديدة في ميدان البحث العلمي، فإن حققنا في ذلك توفيقا فبها ونعمت، وإلا فما قصرنا في الجهد وإن حرمنا التوفيق الذي هو من عند الله تعالي، عليه توكلنا وإليه ننيب.

§1/1