شرح مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية

مساعد الطيار

المقدمة

شرح مقدمة في أصول التفسير شرح مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية د. مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار الأستاذ المساعد بكلية المعلمين بالرياض

مقدمة الطبعة الثانية

مقدمة الطبعة الثانية شكر واعتذار الحمد لله الذي أنعم عليَّ بنعمِهِ الكثيرة، والصلاة والسلام على رسوله الكريم الذي كان سببًا في هداية الخلق، وعلى آله وصحبه الذين نقلوا لنا العلم، وعلى من تبع طريقهم إلى يوم الدين. أما بعد: فقد منَّ اللهُ عليَّ بنفاذ طبعة الكتاب الأولى في زمن وجيز، حتى دعت الحاجة إلى إعادة طباعته، فأعددته للطباعة مرة أخرى بعد أن استدركت بعض الأخطاء المطبعية، وأعدت ترتيبه من جديد؛ إذ جعلت كل فصل من فصول مقدمة شيخ الإسلام قبل شرحه، بخلاف الطبعة الأولى التي جعلت فيها جميع المقدمة في مكان واحد، ثم أتبعتها بشرح الفصول فصلاً فصلاً. ولقد كان هذا التغيير بسبب ما جاءني من طلب من اطَّلع على شرح هذه المقدمة بأن يتلو كلَّ فصل من فصول مقدمة الشيخ شرحُه، فأجبتُ الطالبين لذلك، لما رأيت من حسن هذا الصنيع الذي غاب عني أول الأمر؛ لذا أعتذر من القراء الكرام الذين اقتنوا الطبعة الأولى. وكما أشكر كل من قدَّم لي نصيحة أو مشورة أو تصحيحًا أثناء إعداد الكتاب لطبعته الثانية، وأخص بالذكر أخي الدكتور عبد الرحمن بن معاضة الشهري الذي كان أول من قرأ الكتاب في طبعته الأولى، وأرشدني إلى تصويب بعض الأخطاء فيها، كما قام بالتعريف بهذا الشرح في (ملتقى أهل

التفسير/ www.tafsir.net) على الشبكة العنكبوتية، فجزاه الله عني أفضل الجزاء. وإني لأسأل الله لي ولجميع من أفادني في هذا الكتاب أو استفاد منه التوفيق والسداد، والرضا والقبول من رب العباد. د. مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار كلية المعلمين بالرياض [email protected] ص. ب/43058 الرياض/11561

مقدمة الشارح

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي يسَّر لي إتمام هذا الشرح على ما كان، وأصلي وأسلم على رسوله خير الأكوان، وأثنِّي بالصلاة على الآل الكرام، ثمَّ على الصَّحْبِ العظام، ثمَّ على التابعين إلى يوم القيام. أحمدك ربي على نعمك الوفيرة، وآلائك العظيمة، أحمدك على تيسير كل عسير، وعلى تبليغي ما كنت إليه أصبو وأسير، أحمدك حمد عاجزٍ عن الثناء عليك بما أنت أهله، فلك الحمد مثل ما أقول، وفوق ما أقول، فلك الحمد أولاً وآخرًا. أما بعد: فهذا شرح ـ قد منَّ الله به عليَّ ـ لرسالة شيخ الإسلام التي أجاب فيها بعض أصحابه الذين سألوه أن يكتب لهم (مقدمة تتضمن قواعد كلية، تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه، والتمييز في منقول ذلك ومعقوله بين الحق وأنواع الأباطيل، والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل)، وهي التي سُمِّيت ـ فيما اشتهر ـ بمقدمة في أصول التفسير. ولقد وفَّقني الله لقراءة هذه المقدمة مراتٍ كثيرة، كما وفَّقني لشرحها كذلك. ولقد حرصت على سماع بعض شروحها الموجودة اليوم لبعض العلماء (¬1)، فرأيت أنَّ هذه المقدمة بحاجة إلى أمورٍ لم أرها في شروحهم ¬

(¬1) اطلعت على تعليقات الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ التي أشرف على طبعها الشيخ عبد الله الطيار، وشرح العلامة الشيخ عبد الله بن جبرين =

أولا: ما يتعلق بالمقدمة

النافعة، فاستعنت الله على ذلك، وبدأت في كتابة هذا الشرح الذي أسأل الله أن يلقى القبول الحسن. ولقد عمدتُ في المقدمة وشرحها إلى الأمور الآتية: أولاً: ما يتعلق بالمقدمة: 1 - مراجعة مخطوطة دار الكتب القومية بمصر (¬1). 2 - تقسيم المقدمة إلى فِقَرٍ مرقَّمة، وقد جعلتها أمام كلِّ فقرة. 3 - وضع عناوين جانبية للموضوعات التي طرحها الشيخ في رسالته. 4 - التعليق على نصِّ المقدمة بما يحتاجه النصُّ، وتوضيح ما غمض من عبارات هذه المقدِّمة. ثانيًا: ما يتعلق بشرح هذه المقدمة: 1 - جعلت في الحاشية التي أمام النصوص المشروحة رقم الفقرة من مقدمة شيخ الإسلام ليسهل على القارئ معرفة النص المشروح. وقد يكون الشرح لأكثر من نصٍّ، فإني أذكر أرقامه على ما يتيسر لي، ¬

= حفظه الله، وشرح الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ وزير الشؤون الإسلامية، وشرح الشيخ عبد الرحمن بن صالح الدهش، وشرح الشيخ صالح الأسمري، ولم يتسنَّ لي الاطلاع على شرحٍ للشيخ محمد بازمول. (¬1) أتحفني أخي سالم العماري بهذه النسخة، وقد أخبرني الشيخ المحقق علي العمران عن نسخة عنده، فظهر أنها النسخة نفسها التي أُرسلت إليَّ، وهي نسخة دار الكتب القومية بمصر، تحت رقم 229 تفسير، تيمورية. وأطلعني الأخ سالم على معلومة مفادها أن هناك نسخة أخرى في المكتبة السليمانية بتركيا (الرقم 4، الخزانة: خليل أوكتين (1:297)، عدد الأوراق 59ص). ولم أعتنِ كثيرًا بتحقيق النصِّ من خلال المخطوط الذي بين يدي لأنَّ نسخة الدكتور عدنان زرزور موافقة لهذه النسخة، وقد تركت الاعتناء بتحقيقها لأجل وجود نسخٍ أخرى لهذا الكتاب المبارك، أسأل الله تيسير ذلك.

لأنَّ بعض النصوص المرقمة تنتظم في وحدة موضوعية كما هو الحال في آخر موضوعات هذه الرسالة، وهو تحرج بعض السلف في تفسير القرآن. 2 - بيان الأمثلة التفسيرية للموضوعات التي طرحها الشيخ رحمه الله. 3 - ذكر ما أجده من المواطن الأخرى من كتبه التي تكلم عنها فيما يخص موضوعات المقدمة التفسيرية، وقد جعلت بعضها ضمن الشرح، وبعضها الآخر في ملحق جعلته في نهاية هذا الشرح. 4 - ذكر نماذج من التفاسير التي ذكرها، فيما يخصُّ نقده لها. 5 - الإعراض عن تفصيل المسائل العلمية التي لا علاقة لها بالتفسير. 6 - حرصت أن لا أخرج إلى إضافات على ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى؛ لئلا يطول الشرح، ويخرج عن الأفكار التي طرحها رحمه الله. 7 - حرصت على أن أذكر بعض الكتب المعاصرة التي درست شيئًا من الموضوعات التي طرحها الشيخ رحمه الله تعالى، ولم أقصد الاستيعاب لما كتبه المعاصرون؛ لأن ذلك أمر غير ممكن (¬1). وأخيرًا .. إنني لأشكر الله شكرًا كثيرًا على ما أتمَّ عليَّ من هذا الشرح، ثمَّ أشكر الإخوة الكرام الذين أعانوني في عملي هذا، وأخصُّ منهم أخي الكريم سامي بن محمد بن جاد الله الذي أفادني في قراءته هذا الشرح، كما أشكر الأخ الفاضل علي بن أحمد بامرعي الذي تفضَّل بفهرسة هذا الشرح فهرسة فنية كاملة، والأخ سالم العماري الذي أهداني صورة لمخطوطة ¬

(¬1) لعلي أتمكن ـ إن شاء الله ـ في طبعات قادمة من أن أزيد في الكتب التي بحثت شيئًا من أفكار هذه المقدمة؛ ليتسنَّى لمن أراد شرحها أن يطلع على أكبر قدر ممكن من المعلومات المساعدة له في شرحه.

رسالة شيخ الإسلام، فأسأل الله أن يجعل ما قدمته وقدَّموه في ميزان حسناتنا يوم أن نلقاه، وأن يغفر لنا خطايانا، وأن يشمل بعفوه والدينا ومشايخنا وأهلينا وإخواننا، إنه كريم مجيب. كتبه د. مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار كلية المعلمين بالرياض [email protected] ص. ب/43058 الرياض/11561

مدخل إلى رسالة شيخ الإسلام

مدخل إلى رسالة شيخ الإسلام

أهم طبعات المقدمة

أهم طبعات المقدمة: لهذه المقدمة عدَّة طبعات، وأفضلها التي حققها الدكتور عدنان زرزور، وقد قدَّم لها بمقدمة حسنة في التعريف بها. وقد سبقها (¬1) ولحقها طبعات، لكنها ليست بمستواها من حيث العناية بالنَّص، ولا بالإخراج الفني لها. عنوان هذه المقدمة: تسمَّى هذه الرسالة (مقدمة في أصول التفسير)، وهذا العنوان ليس من صنع شيخ الإسلام، بل هو من صنع القاضي الحنبلي بدمشق (محمد جميل الشطي)، الذي نشر الرسالة عام 1355 (¬2). وقد قال شيخ الإسلام في مقدمة رسالته: «فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب له مقدمةً تتضمَّنُ قواعدَ كليةً تُعينُ على فَهْمِ القرآنِ، ومعرفةِ تفسيرِه ومعانيه، والتمييزِ ـ في منقولِ ذلك ومعقولِه ـ بين الحقِّ وأنواعِ الأباطيلِ، والتنبيه على الدليلِ الفاصلِ بين الأقاويلِ» (¬3). ¬

(¬1) ينظر: مقدمة الدكتور عدنان زرزور فقد تكلم عن الطبعات السابقة لطبعته. (¬2) يقول الدكتور عدنان زرزور (ص:22): «وليس هناك ما يشير إلى تسميتها بـ «مقدمة في أصول التفسير»، ولكن الذي دعا الشيخ محمد جميل الشطي ـ رحمه الله تعالى ـ إلى تسميتها بهذا الاسم ـ إلى جانب موضوعها بالطبع ـ قول ابن تيمية في فاتحتها: «فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب له مقدمة تتضمن قواعد كلية تعين على فهم القرآن، ومعرفة تفسيره ومعانيه ...»، والقواعد الكلية هي التي يُعبَّر عنها بـ «الأصول»، وإن كان لا مانع من أن تسمى: مقدمة في قواعد التفسير». (¬3) مقدمة في أصول التفسير، تحقيق: عدنان زرزور (ص:33).

متى كتب شيخ الإسلام المقدمة؟

متى كتب شيخ الإسلام المقدمة؟ لا يظهر من هذه الرسالة متى كتبها شيخ الإسلام؟ وقد ذكر ابن القيم (ت:751) في مدارج السالكين ما يمكن أن يفيد عن وقتها، قال: «وبعثَ إليَّ في آخر عمره قاعدةً في التفسير بخطِّه ...» (¬1). وقد تكون هذه القاعدة التي أرسلها لتلميذه هي هذه الرسالة. وواضحٌ فيها أنه كتبها بعد قراءة واسعة في كتب التفسير، وهذا ظاهر من عدد التفاسير التي ذكرها، ومن طريقته في معالجة الموضوعات التي طرحها. وشيخ الإسلام من المفسرين المحررين، وقد كان واسع الاطلاع على تفاسير السلف والخلف، وكان ذا حافظةٍ فذَّة، ونفسٍ ناقدةٍ لما تقرأ، وقد مكَّنه ذلك من القدرة على تحرير التفسير، فلم يكن ناقلاً، بل كان ناقدًا مرجِّحًا. قال تلميذه ابن عبد الهادي: «قال الشيخ أبو عبد الله بن رشيق ـ وكان من أخص أصحاب شيخنا، وأكثرهم كتابة لكلامه، وحرصًا على جمعه ـ: كتب الشيخ رحمه الله نقول السلف مجردةً عن الاستدلال على جميع القرآن (¬2)، وكتب في أوله قطعة كبيرة بالاستدلال، ورأيت له سورًا وآيات يفسرها، ويقول في بعضها: كَتَبْتُهُ للتَّذَكُّرِ، ونحو ذلك. ثم لما حُبِسَ في آخر عمره كَتَبْتُ له أن يكتبَ على جميع القرآن تفسيرًا مرتَّبًا على السُّور، فكتب يقول: إن القرآن فيه ما هو بَيِّنٌ بنفسه (¬3)، ¬

(¬1) مدارج السالكين (1:520). (¬2) هذه الطريقة شبيهة بما فعل السيوطي في الدر المنثور. (¬3) هذا النقل يفيد في تحرير مراد شيخ الإسلام في كون الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد بيَّن للصحابة معاني القرآن كما بيَّن لهم ألفاظه، حيث جعل قدرًا منه بيِّنًا بنفسه، فإذا كان يبين للمتأخرين فمن باب أولى أن يكون بيِّنًا لمن نزل عليهم بلغتهم، وهم يعرفون أحواله.

من أفاد من المقدمة

وفيه ما قد بيَّنه المفسرون في غير كتاب، ولكن بعض الآيات أشكلَ تفسيرُها على جماعة من العلماء، فربما يطالع الإنسان عليها عِدَّةَ كُتُبٍ ولا يتبيَّنُ له تفسيرُها، وربما كتب المصنِّفُ الواحدُ في آية تفسيرًا ويفسِّرُ غيرَها بنظيره، فقصدت تفسير تلك الآيات بالدليل، لأنه أهمُّ من غيره، وإذا تبيَّن معنى آية تبيَّن معاني نظائرِها. وقال: قد فتح الله عليَّ في هذه المرَّةِ من معاني القرآن، ومن أصول العلم بأشياء كان كثير من العلماء يتمنونها، ونَدِمْتُ على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن، أو نحو هذا» (¬1). من أفاد من المقدمة: جُلُّ من كتب في مسائل هذا العلم بعد شيخ الإسلام ابن تيمية؛ عالةٌ على هذه الرسالة الفريدة في بابها. وعلى وجازتها؛ فإنه قد استفاد منها كثيرٌ ممن جاء بعد شيخ الإسلام، ومنهم: 1 - تلميذه ابن كثيرٍ (ت:774) الذي ذكر جزءًا من موضوعات المقدمة في مقدمة تفسيره (¬2)، ولم يُشر فيها إلى أنه ينقل من هذه الرسالة، كما هي عادة بعض العلماء في نقولاتهم. 2 - الزركشي (ت:794) في كتابه البرهان في علوم القرآن (¬3). 3 - السيوطي (ت:911) في الإتقان في علوم القرآن (¬4). 4 - القاسمي (ت:1332) في مقدمة تفسيره محاسن التأويل (¬5). ¬

(¬1) العقود الدرية (43 ـ 44). (¬2) ينظر: تفسير ابن كثير، تحقيق: البنا (1:39 ـ 45). (¬3) ينظر (2:175)، وغيرها. (¬4) ينظر النوع الثامن والسبعون. (¬5) محاسن التأويل (1:17 ـ 22).

الموضوعات التي طرقتها المقدمة

وهناك غيرهم من اللاحقين والمعاصرين. الموضوعات التي طرقتها المقدمة: وتنقسم أفكار هذه الرسالة إلى: * بيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم معاني القرآن وألفاظه للصحابة. * اختلاف التنوع والتضاد في تفسير السلف. * سبب الاختلاف من جهة المنقول ومن جهة الاستدلال. * أحسن طرق التفسير. * التفسير بالرأي (¬1). مع طرحه لبعض المسائل العلمية المتعلقة بالتفسير وكتب التفسير أثناء هذه الموضوعات. ¬

(¬1) ينظر كلام الدكتور عدنان زرزور حول هذه الأفكار (ص:15 ـ 19).

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف

[المتن]

قال شيخ الإسلام: بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن برحمتك (1) الحمد لله، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا. (2) أما بعد: فقد سألني بعض الإخوان أن أكتب له مقدمة تتضمن قواعد كلية، تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه، والتمييز في منقول ذلك ومعقوله بين الحق وأنواع الأباطيل، والتنبيه على الدليل الفاصل بين الأقاويل؛ فإنَّ الكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغث والسمين، والباطل الواضح والحق المبين (¬1). (3) والعلم إما نقل مصدق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم، وما سوى هذا فإما مزيف مردود، وإما موقوف لا يعلم أنه بهرج ولا منقود (¬2). ¬

(¬1) المراد بهذا الكتب المتأخرة لأن التفاسير التي يذكر فيها كلام السلف صرفًا لا يكاد يوجد فيها خطأ من جهة الاستدلال، وإن كان قد يوجد فيها خطأ من جهة النقل. (¬2) هذه قاعدة علمية، فالعلم إما أن يكون صادرًا عن معصوم وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويلحق بذلك الإجماع فإن المسلمين لا يجمعون على خطأ، ومثال ذلك إثبات صفة العلو لله تعالى فإنه ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو معصوم. =

الأمة بحاجة إلى فهم القرآن

(4) وحاجة الأمة ماسَّة إلى فهم القرآن الذي هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يَخْلَقُ عن كثرة الترديد، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أُجِرَ، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، ومن تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله (¬1). قال تعالى: {يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى *قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا *قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 123 ـ 126]. ¬

= وقد أشار إلى عصمة الإجماع في هذه الرسالة عند حديثه عن حديث جابر في بيع جمله، قال: «... فإن جمهور ما في البخاري ومسلم مما يقطع بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاله؛ لأن غالبه من هذا النحو؛ ولأنه قد تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق، والأمة لا تجتمع على خطأ؛ فلو كان الحديث كذبًا في نفس الأمر، والأمة مصدقة له قابلة له لكانوا قد أجمعوا على تصديق ما هو في نفس الأمر كذب، وهذا إجماع على الخطأ وذلك ممتنع، وإن كنا نحن بدون الإجماع نُجَوِّزُ الخطأ أو الكذب على الخبر، فهو كتجويزنا قبل أن نعلم الإجماع على العلم الذي ثبت بظاهر أو قياس ظني أن يكون الحق في الباطن بخلاف ما اعتقدناه، فإذا أجمعوا على الحكم جزمنا بأن الحكم ثابت باطنًا وظاهرًا». وإما أن يكون قولاً عليه دليل معلوم، وذلك مثل الاستدلال على أن المراد بالقرء الطهر، أو أن المراد به الحيض في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]. وما سوى ذلك من العلم: فإما باطل غير مقبول، وإما متوقف فيه، وذلك مثل بعض الأخبار المروية عن بني إسرائيل وغيرهم التي لم يرد في شرعنا ما يخالفها، فلا تستطيع أن تكذبها، ولا أن تصدقها؛ لأنها تحتمل الصدق وتحتمل الكذب، فتتوقف فيها، ولا تجزم فيها بصدق، ولا كذب. (¬1) هذه الصفات للقرآن الكريم اقتبسها الشيخ رحمه الله من الأثر المروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

المقدمة من إملاء الفؤاد

وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 ـ 16]. وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [إبراهيم: 1، 2]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقَيمٍ *صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى: 52، 53]. (5) وقد كتبت هذه المقدمة مختصرة بحسب تيسير الله تعالى من إملاء الفؤاد (¬1)، والله الهادي إلى سبيل الرشاد. ¬

(¬1) قوله: «من إملاء الفؤاد» يشير إلى أمرين: الأول: أنه كتبها من حفظه، ولم يكن رجع إلى مصادر التفسير أو غيرها لكتابة إجابته على هذه المسألة. الثاني: أنه لم يراجع هذه المقدمة، ويستفاد من هذا أن ما وقع من أخطاء جلية في هذه المقدمة، فهو راجع إلى كونها إملاءً لم يُراجع، فتُحمل على سبق الذهن والوهم، والإملاء لا يكاد يسلم من الخطأ كما هو معروف مُجَرَّبٌ، فإن الإنسان إذا كتب شيئًا ثمَّ راجعه، فإنه يزيد فيه وينقص، ويصحح ما يقع عليه نظره من الأخطاء التي مرَّت عليه في الإملاء بسبب سبق الخاطر أو القلم. يقول ابن دريد ـ معتذرًا عما قد يقع في إملائه لكتاب جمهرة اللغة ـ: «فإن كنا أغفلنا من ذلك شيئًا؛ لم يُنكر علينا إغفاله؛ لأنا أمليناه حفظًا، والشذوذ مع الإملاء لا يُدفع». جمهرة اللغة، تحقيق: البعلبكي (3:1339)، وقال في موطن آخر (2:1085): «وإنما أملينا هذا الكتاب ارتجالاً، لا عن نسخة، ولا تخليد في كتاب قبله، فمن نظر فيه فليخاصم نفسه بذلك، فيعذر إن كان فيه تقصير أو تكرير».

شرح مقدمة المؤلف

شرح مقدمة المؤلف

التفسير إما منقول وإما معقول

الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان؛ فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفًا لا يكاد يوجد فيها شيء من هاتين الجهتين مثل تفسير عبد الرزاق، ووكيع، وعبد بن حميد، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، ومثل تفسير الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وبَقِي بن مخلد، وأبي بكر بن المنذر، وسفيان بن عيينة، وسنيد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي سعيد الأشج، وأبي عبد الله بن ماجه، وابن مردويه ...». الثاني: أن التفسير إما منقول وإما معقول، وقد ذكر هذه الجزئية وشرحها في فصل خاصٍّ، قال: «... منه ما مستنده النقل فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك؛ إذ العلم إما نقل مصدق وإما استدلال محقق، والمنقول إما عن المعصوم وإما عن غير المعصوم، والمقصود بأن جنس المنقول سواء كان عن المعصوم أو غير المعصوم ـ وهذا هو النوع الأول ـ منه ما يمكن معرفة الصحيح منه والضعيف، ومنه ما لا يمكن معرفة ذلك فيه. وهذا القسم الثاني من المنقول ـ وهو ما لا طريق لنا إلى الجزم بالصدق منه ـ عامته مما لا فائدة فيه، فالكلام فيه من فضول الكلام، وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته، فإن الله نصب على الحق فيه دليلاً». ويَحْسُنُ أن يعلم أن تحديد المنقول والمعقول من التفسير قضية نسبية تختلف باختلاف العصر، فقد يكون معقولاً في عصر ما هو منقول في عصر آخر، فإذا نظرت في عصر الصحابة فإن كل ما يروونه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأخبار المغيبة ـ بما فيها أخبار بني إسرائيل ـ وما يروونه من أسباب النُّزول = كل ذلك يعد منقولاً بالنسبة لهم، فيدخل في التفسير المنقول. أما ما قالوه بآرائهم سواء اتفقوا فيه أو اختلفوا، كاختلافهم في المراد بلفظ (القرء) هل هو الطهر أم الحيض؟ والمراد بالعاديات هل هي الإبل أم الخيل؟ ونحو ذلك مما كان مستنده الرأي المحمود = فإنه يدخل في باب التفسير المعقول، وجُلُّ تفسير مفسري الصحابة من هذا القسم.

المنقول بالنسبة للتابعين

وإذا نظرت في طبقة التابعين فإن المنقول بالنسبة لهم يشمل كل ما رواه الصحابة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأخبار الغيبية والإسرائيليات، وما ذكروه من أسباب النُّزول، ويضاف إلى ذلك ما قاله الصحابة بآرائهم فإنه يعد أيضًا منقولاً بالنسبة للتابعين، وإن كان في أصله يعود إلى التفسير بالمعقول. وإذا نزلت إلى طبقة أتباع التابعين فإن كل المنقولات التي ذُكِرَتْ للتابعين تُعَدُّ تفسيرًا منقولاً عندهم، ويضاف إليها ما نقلوه من معقول التابعين في التفسير. ومعنى هذا: أن ضابط المنقول في عصر الصحابة يختلف عنه في عصر التابعين، وفي عصر التابعين يختلف عنه في عصر من بعدهم. ويمكن القول أن دائرة المنقول تضيق بتقدم الزمان، وتتسع بتأخره. فإذا رجعت ـ مثلاً ـ إلى كتاب زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي (ت:597)، فالأقوال التي ينقلها المصنف هي بالنسبة لك منقولة، لأنه لا يمكن أن تعرفها إلا عن طريق النقل. وبناءً على ما تقدم فإن من بلغ درجة الاجتهاد في التفسير في العصر الحاضر فإن له مجالين: المجال الأول: هو أن يجتهد في الاختيار بين أقوال المفسرين السالفين دون أن يخرج عنها. مثال ذلك: للمفسرين قولان في معنى قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات: 1]: أحدهما: أنها الإبل. والثاني: أنها الخيل. فيُرَجِّح المجتهد المعاصر ـ مثلاً ـ أن المراد بالعاديات: الخيل؛ بدليل قوله تعالى: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات: 2]؛ لأن الخيل هي التي

يظهر فيها إيراء النار، بسبب الضرب الشديد على الحصى. فهذا ترجيح مستنده العقل، وهو يدخل في باب التفسير بالرأي، وإن كان المُرَجَّح هو من التفسير المنقول. فإذا نُظِرَ إلى نفس الأقوال المحكية في التفسير فهي بالنسبة للمجتهد المعاصر من التفسير المنقول، وإذا نظرنا إلى الترجيح بينها فهو من التفسير المعقول. المجال الثاني: هو أن يأتي المفسر بمعنى جديد لم يذكره المتقدمون، وهذا يظهر جليًا فيما يسمى بالتفسير العلمي الذي يستعين بالعلوم التجريبية في معرفة معاني الآيات القرآنية. ومثال ذلك ـ وهو مثال للدراسة وليس للتقرير ـ: أن المفسرين ذكروا في قوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] قولين عن السلف: أحدهما: أن دحاها بمعنى بسطها. والثاني: أن (دحاها) يفسرها ما بعدها، فيكون معناها: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات: 31] وما بعدها. ولم ينقل عن السلف غير هذين القولين في تفسير الآية. وأما في هذا العصر فتجد أنه ظهر رأي جديد يقول بأن الدَّحْوَ هنا بمعنى التكوير والاستدارة، فتكون لفظة (دحاها) بمعنى كوَّرها، يعني جعلها كالكُرَةِ، وهذا رأي جديد لم يقل به المتقدمون من المفسرين (¬1). ثالثًا: أن التفسير إما أن يكون منقولاً عن معصوم وهذا هو التفسير ¬

(¬1) وهذا المجال من التفسير له ضوابطه وشروطه، وليس هذا محل ذكرها وإنما المراد هنا هو التمثيل فقط.

التفسير بالرأي منقسم إلى قسمين

النبوي، وإما أن لا يكون كذلك، ويدخل فيه أقوال جميع المفسرين باختلاف عصورهم، وإن كان لتفسير السلف ميزة على تفسير غيرهم، لاعتبارات يأتي بيانها إن شاء الله تعالى. فأما الأول ـ وهو التفسير النبوي ـ: فهذا إذا ثبت نقلاً كان حجة بلا ريب. وأما الثاني ـ وهو ما عدا التفسير النبوي ـ: فلا يكون حجة حتى يقوم عليه دليل معلوم (¬1). رابعًا: في ضوء ما سبق يكون التفسير بالرأي منقسمًا إلى قسمين: القسم الأول: الرأي الصحيح وهو نوعان: أحدهما: أن يتخير من أقوال السابقين. والثاني: أن يأتي بمعنى صحيح تحتمله الآية ولا يناقض قول السلف. القسم الثاني: الرأي الباطل، وهو الذي يكون عن جهل أو عن هوى. خامسًا: أن الأمة بحاجة إلى أن تفهم القرآن، وهذا بالنسبة لعامة الأمة، فتعلم تفسير القرآن من فروض الكفايات التي لا يجوز أن تخلو الأمة من قائم بها، فإذا قام بالتفسير من يكفي فلا يجب على الفرد أن يتعلم منه إلا ما يقيم به دينه. وهذه الحاجة الماسة لا تختصُّ بجيل دون جيل، وإن كان الجيل الذي نعيشه اليوم قد ظهرت فيه انحرافات علمية كثيرةٌ، ودعوات مشككة بتراث المفسرين السابقين، وهجوم ينحو إلى تضعيف بعض فهم السابقين لكتاب الله بأي شكل من أشكال كتابة هذه الدعوات المتهجِّمة، فصارت الحاجة ـ اليوم ـ ملحَّة إلى تفهيم كلام الله سبحانه على الوجه الصحيح، وضبط ¬

(¬1) ستأتي أمثلة هذا في طرق التفسير (التفسير بالسنة).

الأصول التي يهتدي بها طلاب العلم لمعرفة الصحيح من التفسير من الأباطيل. ومن هنا فإن من المستحسن لطلاب علم التفسير أن يسيروا على قواعد واضحة ثابتة يرجعون إليها حال الاختلاف، وهذه القواعد العلمية في التفسير مبثوثة في كتب أهل العلم، وقد جُمِع شيءٌ منها في رسائل علمية، ولا زالت الحاجة قائمة إلى جمع ما بقي منها مما يتعلق بأصول هذا العلم.

بيان النبي صلى الله عليه وسلم معاني القرآن لأصحابه رضي الله عنهم

بيان النبي صلّى الله عليه وسلّم معاني القرآن لأصحابه رضي الله عنهم

[المتن]

فصل (6) يجب أن يعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بيَّن لأصحابه معاني القرآن كما بيّن لهم ألفاظه، فقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] يتناول هذا وهذا. (7) وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا القرآن ـ كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما ـ أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلّى الله عليه وسلّم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا. (8) ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة، وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلَّ في أعيننا. وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين، قيل: ثمان سنين. ذكره مالك (¬1). وذلك أن الله تعالى قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، وقال: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82، محمد: 24]، وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن. وكذلك قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2] وعقل الكلام متضمن لفهمه. (9) ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك. ¬

(¬1) الموطأ (1:205) كتاب القرآن، باب ما جاء في القرآن.

دليل العادة يدل على طلب فهم معاني القرآن

(10) وأيضًا، فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فن من العلم ـ كالطب والحساب ـ ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم ودنياهم؟! (11) ولهذا كان النِّزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جدًا، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة فهو قليل بالنسبة إلى ما بعدهم، وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر (¬1). (12) ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة، كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها، ولهذا قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم وكذلك الإمام أحمد وغيره ممن صنف في التفسير يكرر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره. (13) والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة كما تلقوا عنهم علم السنة، وإن كانوا قد يتكلمون في بعض ذلك بالاستنباط، والاستدلال، كما يتكلمون في بعض السنن بالاستنباط والاستدلال. ¬

(¬1) هذه القاعدة العلمية يدخل فيها عموم المسائل العلمية والعملية، فلم يكثر الخلاف، وتنتشر الأحزاب البدعية إلا بعد عصرهم رضي الله عنهم.

شرح بيان النبي صلى الله عليه وسلم معاني القرآن لأصحابه رضي الله عنهم

شرح بيان النبي صلّى الله عليه وسلّم معاني القرآن لأصحابه رضي الله عنهم

أولا: موضوع البيان النبوي للقرآن

أولاً: موضوع البيان النبويِّ للقرآن: ذكر شيخ الإسلام في هذا المبحث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد بيَّن للصحابة معاني القرآن كما بيَّن لهم ألفاظه، واستدلَّ لذلك بأربعة أدلة: الأول: قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وهو يشمل بيان الألفاظ وبيان المعاني. الثاني: الآثار الواردة في تعلُّم الصحابة لمعاني القرآن. الثالث: الآيات الحاثَّة على عقلِ القرآن وتدبره. الرابع: العادة الجارية بين الناس فيمن أراد أن يتعلم علمًا، فإنه يستشرح كتابًا في هذا العلم. ويُعبِّر بعض المعاصرين عن هذه المسألة بسؤال، وهو: هل فسَّر النبي صلّى الله عليه وسلّم القرآن كله، أم فسَّر بعضَه؟ (¬1). والذي يُفهم من كلام شيخ الإسلام هنا أنه فسَّره كلَّه، وقد طرق هذا الموضوع في غير هذا الموضع، وأورد فيه مثل ما أورده هنا، وهذا يعني أنَّ هذه القضية قضية محسومة عنده (¬2). ومن أمثلة ما ورد عنه في هذه القضية: ¬

(¬1) ينظر على سبيل المثال: التفسير والمفسرون، للدكتور محمد حسين الذهبي (1:50 ـ 55). (¬2) سوف أورد جوابًا له مطولاً حول هذه المسألة، وكذا كلامًا لتلميذه ابن القيم في الملاحق في آخر الكتاب.

رد شيخ الإسلام على أبي حامد الغزالي في التفسير الباطن

قال ـ في معرض حديثه عن المتشابه، وبيان أن السلف تكلموا في جميع معاني القرآن ـ: «... ثَّم إنَّ الصحابة نقلوا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة، ولم يذكر أحد منهم قط أنه امتنع عن تفسير آية. قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا ـ عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما ـ أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلّى الله عليه وسلّم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ...» (¬1). قال في بغية المرتاد (ص:330 ـ 332) في معرض ردِّه على أبي حامد الغزالي قوله في كتاب جواهر القرآن عن التفسير الباطن: «إن كنت لا تقوى على احتمال ما يقرع سمعك من هذا النمط ما لم تُسند التفسير للصحابة، فإنَّ التقليد غالب عليك» ـ: «... وأما التفسير الثابت عن الصحابة والتابعين، فذلك إنما قَبِلُوه لأنهم قد علموا أن الصحابة بلَّغوا عن النبي لفظ القرآن ومعانيه جميعًا كما ثبت ذلك عنهم، مع أن هذا مما يعلم بالضرورة من عادتهم، فإن الرجل لو صنف كتاب علمٍ في طبٍ أو حسابٍ أو غيرِ ذلك وحفظه تلامذته ـ لكان يُعْلَمُ بالاضطرارِ أنَّ هِمَمَهم تشوَّق إلى فهم كلامه ومعرفة مراده، وإن بمجرد حفظ الحروف لا تكتفي به القلوب، فكيف بكتاب الله الذي أمر ببيانه لهم، وهو عصمتهم، وهداهم، وبه فَرَقَ الله بين الحق والباطل والهدى والضلال والرشاد والغي، وقد أمرهم بالإيمان بما أخبر به فيه والعمل بما فيه، وهم يتلقونه شيئًا بعد شيء؛ كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32]، وقال تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء: 106]، وهل يتوهم عاقل أنهم كانوا إنما يأخذون منه مجرد حروفه، وهم لا يفقهون ما يتلوه عليهم، ولا ما يقرؤونه، ¬

(¬1) دقائق التفسير (1:142).

من زعم أنه لم يبين لهم معاني القرآن، أو أنه بينها وكتموها عن التابعين

ولا تشتاق نفوسهم إلى فهم هذا القول، ولا يسألونه عن ذلك، ولا يبتدئ هو بيانه لهم؟! هذا مما يعلم بطلانه أعظم مما يعلم بطلان كتمانهم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله. ومن زعم أنه لم يبين لهم معاني القرآن، أو أنه بيَّنها، وكتموها عن التابعين، فهو بمنْزلة من زعم أنه بيّن لهم النص على عليٍّ وشيئًا آخر من الشرائع والواجبات، وأنهم كتموا ذلك، أو أنه لم يبين لهم معنى الصلاة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك مما يزعم القرامطة أنَّ له باطنًا يخالف الظاهر؛ كما يقولون إن الصلاة معرفة أسرارهم والصيام كتمان أسرارهم والحج زيارة شيوخهم وهو نظير قولهم أن أبا بكر وعمر كانا منافقين، قصدهما إهلاك الرسول، وأن أبا لهب أقامهما لذلك وأنهما يدا أبي لهب وهو المراد في زعمهم بقوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]، وقولهم: إن الإشراك الذي قال الله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] هو إشراك أبي بكر وعلي في الولاية وأن الله أمره بإخلاص الولاية لعلي دون أبي بكر وقال: لئن أشركت بينهما ليحبطن عملك ونحو ذلك من تفسير القرامطة. فقولنا بتفسير الصحابة والتابعين لعلمنا بأنهم بلغوا عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما لم يصل إلينا إلا بطريقهم، وأنهم علموا معنى ما أنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم تلقيًا عن الرسول، فيمتنع أن نكون نحن مصيبين في فهم القرآن، وهم مخطئون، وهذا يعلم بطلانه ضرورة عادةً وشرعًا» (¬1). وقال: «... أحدها: أن العادة المطردة التي جبل الله عليها بني آدم توجب اعتناءهم بالقرآن المنزَل عليهم لفظًا ومعنًى، بل أن يكون اعتناؤهم بالمعنى أوكد، فإنه قد علم أنه من قرأ كتابًا في الطب أو الحساب أو النحو ¬

(¬1) بغية المرتاد (ص:330 ـ 332).

ما قاله ابن القيم حينما كان يناقش من لا يرى الاحتجاج بالأحاديث النبوية على شيء من صفات الله العلية

أو الفقه أو غير ذلك؛ فإنه لا بد أن يكون راغبًا في فهمه وتصور معانيه، فكيف بمن قرؤوا كتاب الله تعالى المنزل إليهم، الذي به هداهم الله، وبه عرفهم الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، والرشاد والغي، فمن المعلوم أن رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات، بل إذا سمع المتعلم من العالم حديثًا فإنه يرغب في فهمه، فكيف بمن يسمعون كلام الله من المبلغ عنه؟! بل ومن المعلوم أن رغبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في تعريفهم معاني القرآن أعظم من رغبته في تعريفهم حروفه، فإن معرفة الحروف بدون المعاني لا تحصل المقصود إذ (¬1) اللفظ إنما يراد للمعنى» (¬2). والملاحظ هنا أنَّ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يناقش أقوال أقوامٍ لا يرون تفسير الصحابة والتابعين، ويذهبون إلى تفسيرات شيوخهم من أهل البدع، فقد ذكر هذه الأفكار في كتبٍ يناقش فيها هؤلاء، ككتاب (بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة، والقرامطة والباطنية وأهل الإلحاد القائلين بالحلول والاتحاد)، وفي كلامه على المحكم والمتشابه. كما طرح تلميذه ابن القيم (ت:751) هذه الأفكار حينما كان يناقش من لا يرى الاحتجاج بالأحاديث النبوية على شيء من صفات الله العلية، ومما قاله في هذا المجال: «... فهذه الأحاديث تقرر نصوص القرآن، وتكشف معانيها كشفًا مفصلاً، وتقرب المراد، وتدفع عنه الاحتمالات، وتفسر المجمل منه، وتبينه وتوضحه لتقوم حجة الله به، ويعلم أن الرسول بيَّن ما أنزل إليه من ربه، وأنه بلغ ألفاظه ومعانيه بلاغًا مبينًا حصل به العلم اليقيني، بلاغًا أقام الحجة، وقطع المعذرة، وأوجب العلم، وبيَّنه أحسن البيان وأوضحه. ¬

(¬1) في مطبوعة «الفتاوى»: (إذا)، والمثبت من الطبعة المفردة لـ «المراكشية» (ص:34). (¬2) الفتاوى (5:157).

ولهذا كان أئمة السلف وأتباعهم يذكرون الآيات في هذا الباب، ثمَّ يتبعونها بالأحاديث الموافقة لها، كما فعل البخاري ومن قبله ومن بعده من المصنفين في السنة، فإن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهما يحتجون على صحة ما تضمنته أحاديث النُّزول والرؤية والتكليم والوجه، واليدين والإتيان والمجيء بما في القرآن، ويثبتون اتفاق دلالة القرآن والسنة عليها، وأنهما من مشكاة واحدة، ولا ينكر ذلك من له أدنى معرفة وإيمان، وإنما يحسن الاستدلال على معاني القرآن بما رواه الثقات عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ورثة الأنبياء، ثم يتبعون ذلك بما قاله الصحابة والتابعون أئمة الهدى. وهل يخفى على ذي عقل سليم أن تفسير القرآن بهذا الطريق خير مما هو مأخوذ عن أئمة الضلال وشيوخ التجهم والاعتزال كالمريسي والجبائي والنظام والعلاف وأضرابهم من أهل التفريق والاختلاف الذين أحدثوا في الإسلام ضلالات وبدعًا، وفرقوا دينهم وكانوا شيعًا، وتقطعوا أمرهم بينهم كل حزب بما لديهم فرحون. فإذا لم يجز تفسير القرآن وإثبات ما دل عليه، وحصول العلم اليقين بسنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصحيحة الثابتة، وكلام الصحابة وتابعيهم، أفيجوز أن يرجع في معاني القرآن إلى تحريفات جهم وشيعته، وتأويلات العلاف النظام والجبائي والمريسي وعبد الجبار وأتباعهم من كل أعمى أعجمي القلب واللسان، بعيدٍ عن السنة والقرآن، ومغمورٍ عند أهل العلم والإيمان ...» (¬1). ولما كان الأمر هنا في مناقشة أهل البدع الذين ضلوا الطريق جاء هذا التبيين منهما رحمهما الله على هذا الوجه، لكن ما في المقدمة تبين لأناس لم يُشابوا بهذه العقائد الفاسدة، فهل فسَّر النبي صلّى الله عليه وسلّم جميع القرآن؟ كان من الأولَى الحديث المفصل عن هذا في الطريق الثاني من طرق ¬

(¬1) مختصر الصواعق المرسلة (ص:456).

البيان النبوي للقرآن على قسمين

التفسير، ولكن ما دام الشيخ ذكر أصل هذه المسألة هنا، فلا بأس من تفصيلها هنا، فأقول ـ والله المستعان ـ: يمكن القول بأن البيان النبوي للقرآن على قسمين: الأول: ما جاء من تفسير نبوي صريح لآية من الآيات، والمنقول عنه صلّى الله عليه وسلّم من هذا النوع قليلٌ جدًّا إذا ما قيس بعدد الآيات المفسَّرةِ إلى عدد آيات القرآن (¬1). ومن أمثلة هذا النوع تفسيره لقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، أنَّ المغضوبَ عليهم اليهودُ، والضالين النصارى (¬2). ومن حمل البيان النبوي على هذا النوع، قال: إنَّ التفسير الوارد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قليلٌ، وهذا صحيح. الثاني: عموم سنة الرسول صلّى الله عليه وسلّم القولية والفعلية والتقريرية، فإنَّ السنة شارحة للقرآن ومبينة له، ولا يخفى أنَّ البيان قد يكون لحكم شرعي، وقد يكون لخبر غيبي، وقد يكون لغير ذلك. قال شيخ الإسلام (ت:728): «وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، وأوَّلُ النِّزاعِ النِّزاعُ في معاني القرآن، فإنْ لم يكنِ الرسول صلّى الله عليه وسلّم عالمًا بمعانيه امتنع الرجوع إليه. وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة الدين أنَّ السنة ¬

(¬1) الكتابة في هذا النوع قليلة جدًّا، وقد ختم السيوطي كتاب الإتقان في علوم القرآن (4:214) بذكر ما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من التفاسير المصرح برفعها، كما جمع السيد إبراهيم أبو عمه في كتابه «الصحيح المسند من التفسير النبوي للقرآن الكريم» جملة من التفسيرات النبوية المباشرة، وقد أضافا جملة مما ورد في كلامه صلّى الله عليه وسلّم مما يصلح أن يكون تفسيرًا للآية، ومع ذلك، فإنهما لم يستوعبا. (¬2) أخرجه جماعة، منهم عبد الرزاق في تفسيره، وأحمد بن حنبل في مسنده، وابن جرير في تفسيره، وغيرهم.

قول الشاطبي في علاقة السنة بالقرآن

تفسِّر القرآن، وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عن مُجْمَلِهِ، وأنها تفسر مجمل القرآن من الأمر والخبر» (¬1). وقد ذكر الشاطبي قريبًا من هذا في الموافقات، فقال ـ وهو يتحدث عن علاقة السنة بالقرآن ـ: «إن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب شارحة لمعانيه، ولذلك قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. وقال: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، وذلك التبليغ من وجهين: تبليغ الرسالة، وهو الكتاب، وبيان معانيه، وكذلك فعل صلّى الله عليه وسلّم، فأنت إذا تأملت موارد السنة وجدتها بيانًا للكتاب، هذا هو الأمر العام فيها ... فكتاب الله تعالى هو أصل الأصول، والغاية التي تنتهي إليها أنظار النظار، ومدارك أهل الاجتهاد، وليس وراءه مرمى، لأنه كلام الله القديم (¬2)، وأن إلى ربك المنتهى، وقد قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]» (¬3). وهذا مما لا يكاد يخفى على مسلم؛ لأن في القرآن ما لا يُعلم تفسيره إلا من جهة النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما نص على ذلك الطبري (ت:310)، وهو يتحدث عن الوجوه التي يؤخذ من قِبَلها تأويل القرآن، قال: «... والوجه الثاني: ما خص الله بعلم تأويله نبيه صلّى الله عليه وسلّم دون سائر أمته، وهو ما فيه مما بعباده إلى علم تأويله الحاجة، فلا سبيل لهم إلى علم ذلك إلا ببيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم لهم تأويله» (¬4). وإذا جَعلتَ عموم السنة مفسرة للقرآن تبيَّنَ لك أنَّ التفسير الذي يرجع إلى السُّنَّةِ ـ بهذا المفهوم ـ كثيرٌ. ¬

(¬1) الفتاوى (17:431 ـ 432). (¬2) الشاطبي ممن يذهب إلى القول بالكلام النفسي، وهذا مخالف لعقيدة سلف الأمة، انظر قوله في الموافقات (4:274). (¬3) الموافقات، للشاطبي، تحقيق: مشهور سلمان (3:230). (¬4) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (1:92).

ما يدل على أن الصحابة لم يتلقوا بيان جميع الألفاظ

لكن لا يعني هذا أنَّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم فسَّر كلَّ لفظةٍ في القرآنِ؛ لأنَّ في القرآن ما هو بيِّنُ المعنى، فلا يحتاج إلى بيان، وفيه ما هو بلغة القومِ، فلم يحتاجوا بمعرفتهم لغتهم إلى أن يسألوا عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لكن إذا استشكلوا شيئًا من القرآن سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا ظاهر في سؤالات الصحابة للرسول صلّى الله عليه وسلّم عن معاني بعض الآيات، ومن ذلك: حديثُ ابن مسعودٍ (ت:35)، قال: «لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] قلنا: يا رسولَ الله، وأيُّنا لم يظلمْ نفسَه؟ قال: ليسَ كما تقولونَ. لم يلبِسُوا إيمانَهم بظلمٍ: بشركٍ، ألم تسمعوا إلى قولِ لقمانَ لابِنه: {يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]» (¬1). إنَّ هذا الحديث يَدُلُّ على أن الصَّحابةَ رضي الله عنه كانوا يجتهدونَ في فَهمِ القرآنِ الذي نزلَ بلغتِهم على ما يفهمونَه منها، فإنْ أشكلَ عليهم منه شيءٌ سألوا رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا ظاهرٌ من هذا الحديثِ؛ لأنَّهم جعلوا معنى الظُّلمِ عامًا على ما يعرفونه من لغتِهم، فأرشدَهم النَّبيُ صلّى الله عليه وسلّم إلى المعنى المرادِ به في الآيةِ، ونبَّهَهم إلى أن المعنى اللُّغويَّ الذي فسَّروا به الآيةَ غيرُ مرادٍ، ولم ينهَهم صلّى الله عليه وسلّم عنْ أنْ يفسِّروا القرآنَ بلغتِهم، ولو كان هذا المَسْلَكُ خَطأً لنبَّهَهُم عليه. وهذا الحديث يشير إلى أنَّ المدارسة الواردة في الآثار السابقة كانت تتمُّ بين الصحابة، وأنهم كانوا يرجعون للرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما يحتاجون إليه. ومما يدلُّ على أنهم لم يتلقَّوا بيان جميع الألفاظ ما وقع بينَ ¬

(¬1) أخرجه البخاري، انظر: فتح الباري، ط: الريان (6:448). وقد أخرجه البخاري في مواضع أُخر من صحيحه.

الصَّحابةِ رضي الله عنهم منْ خِلافٍ مُحَقَّقٍ في تفسير بعضِ الألفاظِ القرآنيَّة التي لها أكثرُ من دَلاَلَةٍ لغويَّةٍ، فحملَها بعضُهُم على معنى، وحمَلَهَا الآخرُون على معنًى آخرَ. وهذا يَدُلُّ على أنَّهم لم يتلقوا من النَّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم بيانًا نبويًّا في هذه اللَّفظةِ، ولو كان عند أحدٍ منه بيانٌ لما وَقَعَ مثلُ هذا الاختلافِ. ومنْ أشهرِ الأمثلةِ التي يمكن أن يُمثَّلَ بها: اختلافُهم في لفظِ «القُرْءِ» في قولِهِ تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فقد وَرَدَ في معنى القُرْءِ قولانِ، كلاهما مُعْتَمِدٌ على اللُّغةِ، وهما: الأول: الحَيضُ، وبه قال عمرُ بن الخطَّابِ (ت:23)، وأُبَيُّ بنُ كعبٍ (ت:30)، وعبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ (ت:32)، وعليُّ بن أبي طالبٍ (ت:40)، وأبو موسى الأشعريِّ (ت:43)، وابنُ عبَّاسٍ (ت:68) رضي الله عنهم. الثاني: الطُّهرُ، وبه قالَ زيدُ بن ثابتٍ (ت:55)، وعائشةُ بنتُ أبي بكرٍ الصديقِ (ت:58)، ومعاويةُ بنُ أبي سفيان (ت:60)، وعبدُ الله بنُ عمرَ (ت:74) (¬1) رضي الله عنهم. ولو كان عند هؤلاء الصَّحابةِ الكرامِ رضي الله عنهم خبرٌ عن الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم في تفسيرِ هذه اللَّفظةِ لنقلُوه، ولمَّا لم يكنْ عندَهُم، اجتهدوا في بيانِ المرادِ معتمدينَ في ذلك على لغتِهم. ومن يقرأ في التفسير المأثور عن الصحابة يظهر له ذلك بما للصحابة من توقف في بعض معنى الآي، وما لهم من نصوص صريحة في الاجتهاد؛ كاجتهاد أبي بكر في تفسير الكلالة، وما وقع من اجتهاد ابن عباس (ت:68) في تفسير العاديات، ثمَّ رجوعه إلى قولِ علي (ت:40) رضي الله عنهم أجمعين، وغير ذلك من الدلائل التي لا تخفى، والله أعلم. ¬

(¬1) انظر أقوالهم في: تفسير الطبري، تحقيق: محمود شاكر (4:500 ـ 510).

لا يوجد في القرآن ما لا يعلم معناه

ويبقى أن تعلم أنَّ شيخ الإسلام (ت:728) يريد أن يحتجَّ على أولئك المبتدعة في أنَّ القرآن قد عُلمَ تفسيره من جهة الصحابة والتابعين، وينتج من ذلك: * أنه لا يوجد في القرآن ما لا يُعلم معناه، فلا يقع متشابهٌ كليٌّ في هذا القسم الذي يتعلق بالمعنى، إذ كله معلوم مفسَّرٌ، ومنه معاني الأسماء والصفات التي كان النِّزاع فيها مشهورًا بين المتأخرين. ولا شكَّ أنَّ عدم ورود تفسيرات جزئية لهذه المسائل التي بحثها المتأخرون لا يعني أنَّ السلف كانوا يفوضونها؛ لأنَّ التفويض لم يرد عنهم البتة، كما لم يرد عنهم إنكار معنى صفة من الصفات ولا اسم من الأسماء، ولهذا لا مدخل لهم في كون النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفسر جميع القرآن، فهم يُلزمون بأن يثبتوا بالنقل أنَّ السلف فوَّضوا المعاني أو أنكروا معانيها كما يفعل المتأخرون، والموضوع في هذا طويل، والمراد التنبيه على أنَّه لا حجة لهؤلاء في تفسيراتهم المبتدعة بكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يفسر جميع القرآن، والله أعلم. * أنه لا يوجد في القرآن ما خفِيَ علمه على الصحابة، وظهر لمن بعدهم بلا علمٍ ولا دليل ولا حجة يقوم عليها ذلك التفسير؛ كتفسيرات الرافضة والقرامطة وغيرهم من الغلاة الذين يزعمون أنَّ عندهم من تفسيره ما لا يُعلمَ إلا من جهتهم. وليس ردُّ هذه التفسيرات لكونها لم ترد عن السلف فقط، بل لأنها باطلة في ذاتها، قال شيخ الإسلام (ت:728): «وقوله [يعني: الغزالي]: إن كنت لا تَقْوَى على احتمال ما يَقْرَعُ سمعَك من هذا النمط ما لم تُسند التفسير للصحابة، فإن التقليد غالب عليك. يقال له: إنما لم أحتمل هذا النمط لأني أعلم بالاضطرار أنه باطل، وأن الله لم يُرِدْهُ، فَرَدِّي للقَرْمَطَةِ في السمعيات كَرَدِّي للسفسطة في العقليات،

لا يوجد في تفسير القرآن ما أخفاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصحابة رضي الله عنهم

وذلك كَرَدِّي لكل قول أعلم بالاضطرار أنه كذب وباطل. ولو نقل مثل هذا النمط عن أحد من الصحابة والتابعين، لعلمت أنه كذب عليهم، ولهذا تجد القرامطة ينقلون هذا عن علي رضي الله عنه، ويدَّعون أنَّ هذا العلم الباطن المخالف، لما علم من الظاهر مأخوذ عنه، ثم لم يستفيدوا بهذا النقل عن علي رضي الله عنه عند المسلمين إلا زيادة كذب وخزي، فإن المسلمين يعلمون بالاضطرار أن عليًّا لا يقول مثل هذا، وأهل العلم منهم قد علموا بالنقول الصحيحة الثابتة عن علي ما يبين كذب هذا، ويبين أن من ادعى على علي أنه كان عنده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم علم خصَّه به فقد كذب، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع» (¬1). * أنه لا يوجد في تفسير القرآن ما أخفاه الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن الصحابة رضي الله عنهم، ولا ما أخفاه على بعضهم وعلَّمه غيرهم عن قصدٍ، ولا ما علَّمه بعض الصحابة واستأثروا بعلمه فلم يُعلِّموه، ولا ما خصُّوا به بعض التابعين عن قصدٍ، حتى يصل إلى بعض الناس دون غيرهم، فكلُّ هذا مما يخالف ما هو معلوم من نقل الآثار بالضرورة، ويعرف كل من قرأ في آثار السلف عمومًا أنه لا يوجد مثل هذه العلوم الخاصة التي يزعمها بعض الرافضة أو الصوفية أو الباطنية. ولا شكَّ أن كلام شيخ الإسلام من حيث وجود بيان لجميع القرآن عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجميع ألفاظه وجُمَلِهِ فيه إشكالٌ، ويلزم منه أنَّ الصحابة الذين فسّروا القرآن كانوا يفسرونه بتفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا ينسبونه إليه، أو أن يكون شيء كثير منه لم يصل إلينا، وهذا من المسائل المشكلة، لو ثبت. والذي تدلُّ عليه الآثارُ ما يأتي: 1 - أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان له تفسيرات مباشرة لبعض آيات القرآن. ¬

(¬1) بغية المرتاد (ص:327 ـ 328).

لا يوجد في تفسيرات الصحابة ولا التابعين وأتباعهم قول بالرأي المذموم الذي يكون عن جهل وهوى

2 - أنَّ عموم سنته صلّى الله عليه وسلّم شارحة للقرآن. 3 - أنَّ أصول الدين من المعاملات والشرعيات والاعتقادات قد بيَّنها الرسول صلّى الله عليه وسلّم للصحابة بيانًا واضحًا لا لبس فيه، واختلافهم في بعض أفرادها لا يدلُّ على أنه لم يبينها لهم. وهذا يسدُّ المدخل على المبتدعة الذين ناقشهم شيخ الإسلام، وعليه يُحمل كلامه في بيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والله أعلم. 4 - أنَّ الصحابة كان لهم اجتهاد في بيان القرآن وتفسيره، ولم يقع خلافهم في أصول المسائل السابقة، وإنما وقع في جزئيات، بل ما وقع الخلاف فيه من جهة دلالة بعض الآيات على مسائل في الاعتقاد نادرٌ جدًّا، وهو يرجع إلى صحَّةِ دلالة الآية على المسألة العقدية، لا على ثبوت المسألة العقدية عندهم؛ كالاختلاف في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42]، فقد ورد عن ابن عباس وأصحابه أنها القيامة تكشف عن هول وكرب عظيم، وورد عن أبي سعيد الخدري وغيره أنَّ الساق هنا هي ساق الرب سبحانه بدليل حديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طَبَقًا واحدًا» (¬1). ومما يجب أن يعلم ويعتقد أنه لا يوجد في تفسيرات الصحابة، ولا التابعين وأتباعهم قول بالرأي المذموم الذي يكون عن جهل أو هوى، كما حصل فيمن جاء بعدهم من المتأخرين، بل كانوا يجتهدون على علمٍ، ولا يعني هذا أن يكون كل اجتهادهم صحيحًا، بل حالها كحال الاجتهاد في الفرعيات، لكن قولهم مقدم، وهو أولى من قول غيرهم من المتأخرين، وهذا الأصل مما لا يُتصوَّر أن يُنازِع فيه طالب علم يعرف عِلْمَ السلف وعلم الخلف. ¬

(¬1) رواه البخاري برقم (4919)، وهو حديث مشهور رواه غير واحدٍ من أهل العلم.

بيان ما تدل عليه الآثار من أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لهم ما يحتاجون إليه

وعموم اختلافهم في التفسير يرجع إلى اختلاف التنوع، كما أشار إليه شيخ الإسلام في أكثر من موطن، والله أعلم. بيان ما تدل عليه الآثار من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بيّن لهم ما يحتاجون إليه: * إذا أوردتَ أثر أبي عبد الرحمن السلمي الذي ذكره شيخ الإسلام، وفيه دلالة على أنَّ الصحابة كانوا يتدارسون القرآن؛ قال: «حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ـ كعثمان وعبد الله بن مسعود وغيرهما ـ: أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلّى الله عليه وسلّم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا». وأضفتَ إليه أثر ابن عمر، وهو قوله: «لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن وتنْزل السورة على محمد، فنتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها؛ كما تتعلمون أنتم القرآن اليوم، ولقد رأينا اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه» (¬1). واستحضرتَ أثر ابن مسعود (ت:35)، الذي يدُّل على أنهم كانوا إذا أشكل عليهم شيء من القرآن سألوا عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال عبد الله بن مسعود (ت:35): «لما نزلت هذه الآية {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب رسول الله، قالوا: أيُّنَا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله: إنه ليس بذاك، ألا تسمعون إلى قول لقمان لابنه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}؟». واستحضرتَ أثر ابن عباس (ت:68) في أقسام التفسير، الذي استشهد به شيخ الإسلام (ت:728) في أكثر من موطن، قال ابن عباس (ت:68): «التفسير ¬

(¬1) المستدرك، للحاكم (1:91)، (4:617)، وسنن البيهقي (3:120).

ثانيا: اهتمام الصحابة بتعلم معاني القرآن

على أربعة وجوه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى ذكره» (¬1). وإذا علمت أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يبتدئ أصحابه بالتعليم في أحيان كثيرة = ظهر لك أنَّ المدارسة التي بينهم في العلم قد تكون مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقد تكون فيما بينهم، فإذا أشكل عليهم شيء من العلم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإن كان كثير من العلم يبتدئهم به الرسول صلّى الله عليه وسلّم دون سؤال منهم. وإنَّ النتيجة التي يمكن أن تخلص إليها من جملة هذه الآثار: أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم بيّن لهم من المعاني ما احتاجوا إليه، بدلالة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك؛ كتاب الله وسنتي» (¬2). وكان من أعظم ما يدخل في البيان أصول الدين والشرائع والمعاملات، وأنَّ الخلاف الوارد في التفسيرِ كان في أمورٍ قابلة للاجتهاد، والأمر فيها واسع، وهي ترجع إلى احتمال الآية للمعنى المذكور من عدمه. ثانيًا: اهتمام الصحابة بتعلُّم معاني القرآن (¬3): طرح شيخ الإسلام في هذه المسألة دليل النقل ودليل العقل: أما دليل النقل، فما رواه أبو عبد الرحمن السُّلمي، قال: «حدثنا الذين ¬

(¬1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (1:75). (¬2) مسند الإمام أحمد (1:126)، وقد أخرجه غيره. (¬3) هذه المسألة من القضايا العلمية التي تحتاج إلى بحث ليُتعرَّف منه على طريقة السلف في تعلُّم القرآن وتعليمه حروفًا ومعاني، ثم معرفة طريقتهم في العمل به.

كانوا يقرئوننا: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلّى الله عليه وسلّم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل»، وأثر ابن عمر في تعلُّمه سورة البقرة في ثمان سنين. ويمكن أن يضاف إلى دليل النقل ما ورد عن ابن عمر، وهو قوله: «لقد عشنا برهة من دهرنا، وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن وتنْزل السورة على محمد، فنتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها؛ كما تتعلمون أنتم القرآن اليوم، ولقد رأينا اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه» (1). وكذا ما ورد عنهم من الأسئلة التفسيرية التي يستوضحون فيها عن ما يشكل عليهم في معنى آية من الآيات، ومن ذلك ما ورد عن مسروق قال: إنا سألنا عبد الله عن هذه الآية {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل ...» (2). ومنها ما ورد عن مسروق قال: قال عبد الله ـ يعني: ابن مسعود ـ: «والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله؛ إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته».

(1) رواه مسلم برقم 1887 (3:1502). (2) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (2:342)، والطبري، تحقيق: شاكر (1:80)، وهو في الصحيحين وغيرهما بلفظ (تبلغه الإبل). صحيح البخاري، باب القراء من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم رقم الحديث 4716، وصحيح مسلم رقم الحديث 2436 (4:1913).

وما ورد عن الأعمش أيضًا، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: «كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن» (¬1). وما ورد عن أبي الطفيل قال: «شهدت عليًّا يخطب، وهو يقول: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم. وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت، أم بنهار، أم في سهل، أم في جبل» (¬2). ومنها ما رواه الطبري (ت:310)، قال: «حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 206، 207]؛ قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صلى السُّبحة وفرغ دخل مربدًا له، فأرسل إلى فتيان قد قرءوا القرآن؛ منهم ابن عباس وابن أخي عيينة. قال: فيأتون فيقرءون القرآن ويتدارسونه، فإذا كانت القائلة انصرف. قال: فمروا بهذه الآية: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 206، 207]، قال ابن زيد: وهؤلاء المجاهدون في سبيل الله. فقال ابن عباس لبعض من كان إلى جنبه: اقتتل الرجلان. فسمع عمر ما قال، فقال: وأي شيء قلت؟ قال: لا شيء، يا أمير المؤمنين. قال: ماذا قلت؟ اقتتل الرجلان! ¬

(¬1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (1:80). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في تفسير سورة الذاريات، تحقيق: قلعجي (2:195)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (6:191).

ما يدل عليه العقل من وجوب اعتنائهم بالقرآن المنزل عليهم لفظا ومعنى

قال: فلما رأى ذلك ابن عباس، قال: أرى ههنا من إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم، وأرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله، فإذا لم يقبل، وأخذته العزة بالإثم، قال هذا: وأنا أشتري نفسي، فقاتله، فاقتتل الرجلان. فقال عمر: لله بلادك يابن عباس» (¬1). وهذه الآثار وغيرها تدلُّ على حرص الصحابة على تعلُّمِ كتاب الله، ومعرفة معانيه، ومدارسته والعمل بما فيه. وأما دليل العقل، فما جرت به العادة من حرص الطلاب على تعلُّم كتابٍ في العلم الذين يريدون أن يتعلموه، وقد قال في غير هذه المقدمة: «أن العادة المطردة التي جبل الله عليها بني آدم = توجب اعتناءهم بالقرآن المنَزَّل عليهم لفظًا ومعنًى، بل أن يكون اعتناؤهم بالمعنى أوكد. فإنه قد عُلِمَ أنه من قرأ كتابًا في الطبِّ أو الحساب أو النحو أو الفقه أو غير ذلك فإنه لا بد أن يكون راغبًا في فَهْمِهِ وتصوُّرِ معانيه، فكيف بمن قرؤوا كتاب الله تعالى؛ المَنزل إليهم؛ الذي به هداهم الله، وبه عرَّفهم الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، والرشاد والغيَّ. فمن المعلوم أن رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات، بل إذا سَمِعَ المتعلم من العالم حديثًا، فإنه يَرْغَبُ في فَهْمِهِ، فكيف بمن يسمعون كلام الله من المبلغ عنه؟! بل، ومن المعلوم أن رغبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في تعريفهم معاني القرآن أعظم من رغبته في تعريفهم حروفه، فإن معرفة الحروف بدون المعاني لا تُحَصِّلُ ¬

(¬1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (4:245)، قال محمود شاكر: «في المطبوعة: «لله تلادك» بالتاء في أوله، ولا معنى له، والصواب ما أثبت. وفي الدر المنثور (1:241): «لله درك»، والعرب تقول: لله در فلان، ولله بلاده».

ثالثا: قلة النزاع بين الصحابة في التفسير

المقصود، إذ اللفظ إنما يراد للمعنى» (¬1). ثالثًا: قِلَّةُ النِّزاع بين الصحابة في التفسير: المراد بالنِّزاع هنا مطلق الاختلاف، وليس النِّزاع المذموم، وقد وقع بين الصحابة اختلاف في الآيات، لكنه في أغلبه اختلاف تنوع كما سيذكر شيخ الإسلام لاحقًا، ولا شكَّ أنَّ من اطَّلع على المنقول عنهم في التفسير فإنه سيظهر له ما قرَّره شيخ الإسلام هنا من أنَّ اختلافهم في التفسير كان قليلاً، وكان أقل من اختلاف من جاء بعدهم. ومن الملاحظ أنَّ شيخ الإسلام جعل هذا الكلام، وهو قلة النِّزاع نتيجةً لما سبق أن طرحه في مسألة البيان النبوي للقرآن، فقد صدَّر هذه المسألة بقوله: «ولهذا كان النِّزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلاً جدًّا ...». وكأنه يقول: إنَّ اتِّحاد مصدر التَّلقي عندهم ـ وهو أخذهم التفسير عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ـ جعل النِّزاع في التفسير قليلاً بينهم. ذِكْرُ أمثلة للاختلاف الوارد عن الصحابة رضي الله عنهم: 1 - في تفسير قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات: 1]. قال علي وابن مسعود: هي الإبل. وقال ابن عباس: هي الخيل. 2 - في قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7]. قال علي وابن عمر: الزكاة. وقال ابن مسعود وابن عباس: عارية المتاع من الدلو والقِدْرِ ونحو ذلك. ¬

(¬1) الفتاوى (5:157).

رابعا: أن من التابعين من تلقى جميع التفسير من الصحابة

رابعًا: أنَّ من التابعين من تلقّى جميع التفسير من الصحابة: هذه المسألة التي يذكرها شيخ الإسلام واضحة؛ لأن علم التفسير كان عِلْمًا قائمًا بذاته منذ عهد الصحابة، وكان هذا العلم مما تلقَّاه التابعون عن الصحابة كما تلقَّوا عنهم علم القراءة والحديث والفقه والسلوك. وكان بعضهم أبرز من بعض في تلقيه وفي تفسيره، وكان من أبرزهم على الإطلاق إمام التابعين مجاهد بن جبر (ت:104) الذي تلقى التفسير عن ابن عباس (ت:68)، كما تلقَّاه عنه عكرمة مولاه (ت:105)، وأبو الجوزاء أوس بن عبد الله الرَّبعي (ت:83) الذي قال: «جاورت ابن عباس ثنتي عشرة سنة في داره، وما من القرآن آية إلا وقد سألته عنها» (¬1). وكان ابن عباس (ت:68) من أخصِّ الصحابة في علم التفسير، بفضل دعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم له، حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم فقهه في الدين، وعلّمه التأويل» (¬2). وكان ابن مسعود (ت:35) معلم الكوفة من كبار مفسري الصحابة، وقد تلقَّاه عنه تلاميذه في الكوفة، وكذا تلقَّاه عن علماء الصحابة في المدينة بعض التابعين؛ كزيد بن أسلم ومحمد بن كعب القرظي. وهذا معروف في تاريخ التفسير، وسيأتي إشارة شيخ الإسلام لبعض مفسري السلف في حديث لاحق من هذه المقدمة. خامسًا: أن التابعين قد يتكلمون في التفسير بالاستنباط والاستدلال: هذه المسألة من المسائل الواضحة في التفسير، ومن قرأ في تفسير ¬

(¬1) الطبقات الكبرى، لابن سعد (7:224)، وحلية الأولياء (3:79). (¬2) هو مخرج بهذا النص في بعض كتب الحديث؛ مثل: مسند الإمام أحمد (1:226، 269، 314، 328، 335)، ومسند إسحاق بن راهويه (1:230)، ومصنف ابن أبي شيبة (6:383)، والمستدرك على الصحيحين (3:615)، وغيرها.

التابعين ظهر له ذلك جليًا، لذا تجد للتابعين أقوالاً تخالف قول الصحابة ولا تعارضه أو تناقضه، بل كان بعضهم مفسِّرًا والصحابة متوافرون؛ كأبي العالية (ت:93) وسعيد بن جبير (ت:94)، وغيرهما. وسيأتي في فصل (أحسن طرق التفسير) كلام شيخ الإسلام عن تفسير التابعين.

اختلاف التنوع واختلاف التضاد في تفسير السلف

اختلاف التنوع واختلاف التضاد في تفسير السلف

[المتن]

فصل (14) الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد (¬1)، وذلك صنفان: (15) أحدهما: أن يُعبِّر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى، بمنْزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة (¬2)، كما ¬

(¬1) يقول شيخ الإسلام ـ في معرض حديثه عن اختلافهم في التفسير ـ: «وأما ما صح عن السلف أنهم اختلفوا فيه اختلاف تناقض فهذا قليل بالنسبة إلى ما لم يختلفوا فيه». وستأتي هذه العبارة في الملاحق في مكانها من النص المتعلق بها. (¬2) قد ذكر في موضع آخر هذه المصطلحات، وهو في معرض شرحه لعبارة في الإحكام لأصول الأحكام، للآمدي في مسألة اشتمال اللغة على الأسماء المجازية، فقال: (... وذلك أن قوله «يلزم الاشتراك»؛ إنما يصح إذا سُلِّم له أن في اللغة الواحدة باعتبار اصطلاح واحد ألفاظًا تدل على معان متباينة من غير قدر مشترك، وهذا فيه نزاع مشهور، وبتقدير التسليم؛ فالقائلون بالاشتراك متفقون على أنه في اللغة ألفاظ بينها قدر مشترك وبينها قدر مميز، وهذا يكون مع تماثل الألفاظ تارة، ومع اختلافها أخرى، وذلك أنه كما أن اللفظ قد يتَّحدُ ويتعدَّدُ معناه فقد يتعدَّدُ ويتَّحدُ معناه كالألفاظ المترادفة، وإن كان من الناس من ينكر الترادف المحض، فالمقصود أنه قد يكون اللفظان متفقين في الدلالة على معنى، ويمتاز أحدهما بزيادة؛ كما إذا قيل في السيف: إنه سيف وصارم ومهند، فلفظ السيف يدل عليه مجردًا، ولفظ الصارم ـ في الأصل ـ يدل على صفة =

أمثلة لاتحاد المسمى واختلاف العبارة عنه

قيل في اسم السيف: الصارم والمهند، وذلك مثل أسماء الله الحسنى، وأسماء رسوله صلّى الله عليه وسلّم وأسماء القرآن، فإن أسماء الله كلها تدل على ¬

= الصرم عليه، والمهند يدل على النسبة إلى الهند، وإن كان يعرف الاستعمال من نقل الوصفية إلى الاسمية، فصار هذا اللفظ يطلق على ذاته مع قطع النظر عن هذه الإضافة، لكن مع مراعاة هذه الإضافة؛ منهم من يقول: هذه الأسماء ليست مترادفة؛ لاختصاص بعضها بمزيد معنى. ومن الناس من جعلها مترادفة باعتبار اتِّحادها في الدلالة على الذات، وأولئك يقولون: هي من المتباينة؛ كلفظ الرجل والأسد. فقال لهم هؤلاء: ليست كالمتباينة. والإنصاف أنها متفقة في الدلالة على الذات، متنوعة في الدلالة على الصفات، فهي قسم آخر قد يسمى المتكافئة. وأسماء الله الحسنى وأسماء رسوله وكتابه من هذا النوع، فإنك إذا قلت: إن الله عزيز، حكيم، غفور، رحيم، عليم، قدير؛ فكلها دالة على الموصوف بهذه الصفات ـ سبحانه وتعالى ـ كل اسم يدل على صفة تخصه، فهذا يدل على العزة، وهذا يدل على الحكمة، وهذا يدل على المغفرة، وهذا يدل على الرحمة، وهذا يدل على العلم، وهذا يدل على القدرة. وكذلك قول النبي: «إن لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي») الفتاوى (20:423 ـ 424). ويمكن اختصار هذه المصطلحات كالآتي: 1 - الألفاظ المتباينة: هي الألفاظ المختلفة التي تدل على معانٍ مختلفة؛ كالسيف والفرس. 2 - الألفاظ المترادفة: أن يكون للشيء الواحد عدد من الألفاظ تدلُّ عليه كأسماء الأسد. 3 - الألفاظ المتكافئة: هي الألفاظ التي تتفق في الدلالة على الذات، وتختلف في الدلالة على الصفات؛ كأسماء الله. وإذا تأمَّلت الفرق بين المترادفة والمتكافئة، فإنك ستجده فرقًا دقيقًا، فمن لم يعتبر الفروق في الألفاظ الدالة على شيء واحدٍ جعلها مترادفة، ومن اعتبر فروق المعاني في الألفاظ الدالة على شيء واحد جعلها متكافئة، والله أعلم.

دلالة الاسم على الذات وعلى الصفات

مسمى واحد، فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضادًا لدعائه باسم آخر؛ بل الأمر كما قال تعالى: {قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَانَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]. (16) وكل اسم من أسمائه يدل على الذات المسماة، وعلى الصفة التي تضمنها الاسم، كالعليم يدل على الذات والعلم، والقدير يدل على الذات والقدرة، والرحيم يدل على الذات والرحمة، ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته ممن يدعي الظاهر، فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة الذين يقولون: لا يقال: هو حي، ولا ليس بحي؛ بل ينفون عنه النقيضين، فإن أولئك القرامطة الباطنية لا ينكرون اسمًا هو علم محض كالمضمرات، وإنما ينكرون ما في أسمائه الحسنى من صفات الإثبات، فمن وافقهم على مقصودهم كان مع دعواه الغلو في الظاهر موافقًا لغلاة الباطنية في ذلك، وليس هذا موضع بسط ذلك (¬1). وإنما المقصود أن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته، وعلى ما في الاسم من صفاته، ويدل أيضًا على الصفة التي في الاسم الآخر بطريق اللزوم. (17) وكذلك أسماء النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ مثل: محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب. (18) وكذلك أسماء القرآن؛ مثل: القرآن، والفرقان، والهدى، والشفاء، والبيان، والكتاب، وأمثال ذلك. ¬

(¬1) ينظر على سبيل المثال: التدمرية، مع شرحها للشيخ عبد الرحمن البراك (ص:85 ـ 88).

إذا كان المقصود تعيين المسمى عبرنا عنه بأي اسم

(19) فإذا كان مقصود السائل تعيين المسمى = عبَّرنا عنه بأي اسم كان إذا عُرِفَ مسمى هذا الاسم، وقد يكون الاسم عَلَمًا، وقد يكون صفة كمن يسأل عن قوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه: 124] ما ذِكْرُه؟ فيقال له: هو القرآن مثلاً، أو هو ما أنزله من الكتب. فإن الذِّكْرَ مصدرٌ، والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل وتارة إلى المفعول. فإذا قيل: ذِكْرُ الله بالمعنى الثاني كان ما يذكر به مثل قول العبد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وإذا قيل بالمعنى الأول كان ما يذكره هو، وهو كلامه، وهذا هو المراد في قوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه: 124]؛ لأنه قال قبل ذلك: {فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} [طه: 123]، وهُدَاه هو ما أنزله من الذِّكْرِ، وقال بعد ذلك: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه: 125، 126]. (20) والمقصود أن يعرف أن الذِّكْر هو كلامه المُنزل، أو هو ذِكْر العبد له، فسواء قيل: ذكري: كتابي، أو كلامي، أو هداي، أو نحو ذلك = كان المسمى واحدًا. (21) وإن كان مقصود السائل معرفة ما في الاسم من الصفة المختصة به، فلا بدَّ من قدر زائد على تعيين المسمى؛ مثل أن يسأل عن القدوس السلام المؤمن، وقد عَلِمَ أنه الله؛ لكن مراده ما معنى كونه قدوسًا سلامًا مؤمنًا ونحو ذلك. (22) إذا عُرف هذا، فالسلف كثيرًا ما يعبّرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه، وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر؛ كمن يقول: أحمد هو الحاشر والماحي والعاقب. والقدوس هو الغفور والرحيم؛ أي أن المسمَّى واحد، لا أن هذه الصفة هي هذه الصفة،

مثال آخر من القرآن لاتحاد المسمى واختلاف العبارة عنه

ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس. (23) مثال ذلك تفسيرهم (للصراط المستقيم): فقال بعضهم: هو القرآن؛ أي: اتباعه؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث علي الذي رواه الترمذي، ورواه أبو نعيم من طرق متعددة: «هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم». وقال بعضهم: هو الإسلام؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث النواس بن سمعان الذي رواه الترمذي وغيره: «ضرب الله مثلاً صراطًا مستقيمًا وعلى جنبتي الصراط سوران، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة وداعٍ يدعو من فوق الصراط، وداعٍ يدعو على رأس الصراط، قال: فالصراط المستقيم هو الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، والداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن»، فهذان القولان متفقان، لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهما نبَّه على وصف غير الوصف الآخر. (24) كما أن لفظ «صراط» يُشْعِرُ بوصف ثالث، وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة، وقول من قال: هو طريق العبودية، وقول من قال: هو طاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأمثال ذلك. فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها. (25) الصنف الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى لفظ الخبز، فأُرِيَ رغيفًا وقيل له: هذا. فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده.

مثال من القرآن

(26) مثال ذلك ما نقل في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]. فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيعَ للواجباتِ، والمنتهكَ للمحرماتِ. والمقتصد يتناول فاعل الواجبات، وتارك المحرمات. والسابق يدخل فيه من سبق فتقرَّب بالحسنات مع الواجبات. فالمقتصدون هم أصحاب اليمين، والسابقون السابقون أولئك المقربون. (27) ثم إن كلاً منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات، كقول القائل: السابق: الذي يصلي في أول الوقت، والمقتصد: الذي يصلي في أثنائه، والظالم لنفسه: الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار. أو يقول: السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم في آخر سورة البقرة، فإنه ذكر المحسن بالصدقة، والظالم بأكل الربا، والعادل بالبيع (¬1). والناس في الأموال إما محسن، وإما عدلٌ، وإما ظالم، فالسابق المحسن بأداء المستحبَّات مع الواجبات، والظالم آكل الربا أو مانع الزكاة، والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة، ولا يأكل الربا، وأمثال هذه الأقاويل. ¬

(¬1) يشير إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 274 ـ 275].

التعريف بالمثال أسهل من التعريف بالحد المطابق

(28) فكل قول فيه ذِكْرُ نوعٍ دخل في الآية ذُكِرَ لتعريف المستمع بتناول الآية له، وتنبيهه به على نظيره؛ فإن التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحدِّ المطابق (¬1). والعقل السليم يتفطن للنوع، كما يتفطن إذا أشير له إلى رغيف، فقيل له: هذا هو الخبز. (29) وقد يجيء كثيرًا من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لا سيما إن كان المذكور شخصًا؛ كأسباب النُّزول المذكورة في التفسير؛ كقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة ثابت بن قيس بن شماس (¬2)، وإن آية اللعان نزلت في عويمر العجلاني أو هلال بن ¬

(¬1) هذا الكلام عن التعريف بالحدِّ والتعريف بالمثال مهمٌّ جدًّا، خصوصًا في تعريف بعض العلوم التي يصعب أن يوردَ لها تعريفٌ جامعٌ مانعٌ، ففي مثل هذه الحال يُكتفى في التعريف بالوصف الذي يبيِّن نوع العلم، وعدم دخول غيره فيه. كما أنه مهمٌّ في بيان المصطلحات الشرعية التي ورد الشرع ببيانها على سبيل الإجمال في الشريعة، فتطلُّب الحدِّ الجامع المانع لها يُدخل في مزالق؛ إما علمية، وإما عملية، كالحكم على الناس وتخطئتهم وتبديعهم بسبب تعريف استوحاه فلان من نصوص الشريعة، مع أنه قد يفوته كثيرٌ من النصوص المتعلقة بذلك الأمر، ووقع هذا في تعريف بعض الناس للإيمان. ونقاش هذا والإفاضة فيه محلُّه كتب العقائد، وإنما أردت التنبيه على أنَّ الحدَّ المنطقيَّ غير لازم في تعريف الشرعيات، ولا في العلوم الإسلامية، وإن كان تحرير التعريف في العلوم الإسلامية مطلبًا، لكنه إذا عَسُرَ تحريره وتحديده، وكان ظاهرًا ـ بالجملة ـ بأدنى عبارة تبيِّن تعريف العلم اُكتفِي بها. هذا، وقد أشار الدكتور عدنان زرزور إلى كلام شيخ الإسلام عن «الحدِّ»، وذلك في مطلع كتابه «الرد على المنطقيين»، وفي كتابه الآخر: «نقض المنطق» (ص:183 ـ 200). (¬2) في نسخة الفتاوى: «نزلت في امرأة أوس بن الصامت» (13:338)، ولا أدري هل وجدها الشيخ ابن قاسم هكذا، أم عدَّلها. والصحيح من حيث النسبة ما في نسخة الفتاوى، فإن أوس بن الصامت هو زوج خولة بنت =

قولهم: نزلت في فلان، لا يعني أنها مختصة به

أمية (¬1)، وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله، وإن قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] نزلت في بني قريظة والنضير، وإن قوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يُوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] نزلت في بدر، وإن قوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة: 106] نزلت في قضية تميم الداري وعدي بن بداء، وقول أبي أيوب: إن قوله: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] نزلت فينا معشر الأنصار ... الحديث، ونظائر هذا كثير مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو في قوم من أهل الكتاب اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين. (30) فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختصٌّ بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق. (31) والناس، وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب؛ هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها ¬

= ثعلبة التي جاءت تشتكي أمر زوجها أوس. أما ثابت بن قيس، فقصته في سورة الحجرات عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2]، وهذا الخطأ يُحمل على سبق الذهن في حال الإملاء، وقد سبق التنبيه على أنه قد وقع في هذه المقدمة بعض الأخطاء بسبب أنها إملاءٌ لم يراجع. (¬1) ورد هذا الاختلاف في الرجلين في أحاديث صحيحة، منها ما رواه البخاري، وتحديد الرجل لا أثر له في فهم الآية في هذا الموطن من التفسير، فسواءٌ قيل: نزلت في رجلٍ، أو قيل: نزلت في عويمر، أو قيل: نزلت في هلال، فالحكم المترتب لا يختلف باختلاف الرجل الذي نزلت بشأنه، وإنما يُستفاد من تحقيق الروايات في هذا الأمر في الجانب التاريخي، وفي جانب الأنساب.

معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية

بحسب اللفظ (¬1). (32) والآية التي لها سبب معين: إن كانت أمرًا أو نهيًا، فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنْزلته، وإن كانت خبرًا بمدحٍ أو ذَمٍّ، فهي متناولة لذلك الشخص وغيره ممن كان بمنزلته. (33) ومعرفة سبب النُّزول يُعينُ على فهم الآية، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، ولهذا كان أصحُّ قولَي الفقهاءِ أنه إذا لم يُعرف ما نواه الحالفُ رُجِعَ إلى سبب يمينه وما هيّجها وأثارها. (34) وقولهم: «نزلت هذه الآية في كذا»؛ يراد به تارة أنه سبب النُّزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب؛ كما تقول: عنى بهذه الآية كذا. (35) وقد تنازع العلماء في قول الصاحب: «نزلت هذه الآية في كذا»، هل يجري مجرى المسند، كما يذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟ فالبخاري يُدخلُه في المسند، وغيره لا يُدخلُه في المسند، وأكثر المساند على هذا الاصطلاح؛ كمسند أحمد وغيره، بخلاف ما إذا ذكر سببًا نزلت عقِبَه، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند. (36) وإذا عرف هذا، فقول أحدهم: «نزلت في كذا» لا ينافي قول الآخر: «نزلت في كذا»؛ إذا كان اللفظ يتناولهما؛ كما ذكرناه في التفسير بالمثال. (37) وإذا ذكر أحدهم لها سببًا نزلت لأجله وذكر الآخر سببًا؛ فقد يمكن صدقُهما: بأن تكون نزلت عَقِبَ تلك الأسباب، أو تكون نزلت مرتين مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب. ¬

(¬1) بل بحسب القياس كما سيأتي (ص:88).

صنف ثالث من اختلاف التنوع: اللفظ المحتمل لأمرين: إما لكونه مشتركا، وإما لكونه متواطئا

(38) وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير: تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه؛ كالتمثيلات = هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يُظَنُّ أنه مختلف. (39) ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين: إما لكونه مُشتَركًا في اللفظ؛ كلفظ «قسورة» الذي يراد به الرامي، ويراد به الأسد. ولفظ «عسعس» الذي يراد به إقبال الليل وإدباره. (40) وإما لكونه متواطئًا في الأصل، لكن المراد به أحد النوعين، أو أحد الشيئين؛ كالضمائر في قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8، 9]، وكلفظ: «الفجر، والشفع والوتر، وليال عشر» (¬1)، وما أشبه ذلك. (41) فمثل هذا؛ قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف، وقد لا يجوز ذلك. فالأول: إما لكون الآية نزلت مرتين، فأريد بها هذا تارة، وهذا تارة. وإما لكون اللفظ المُشتَرك يجوز أن يراد به معنياه، إذ قد جوَّز ذلك أكثر الفقهاء: المالكية، والشافعية، والحنبلية، وكثير من أهل الكلام. ¬

(¬1) كذا ورد ترتيبها في نسخة الدكتور عدنان زرزور، وفي الفتاوى مرتبة حسب ترتيبها في الآيات من سورة الفجر: {وَالْفَجْرِ} {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [1 ـ 3].

أمثلة للتعبير عن المعنى بألفاظ متقاربة

وإما لكون اللفظ متواطئًا، فيكون عامًّا إذا لم يكن لتخصيصه موجب، فهذا النَّوع إذا صحَّ فيه القولان كان من الصنف الثاني (¬1). (42) ومن الأقوال الموجودة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافًا = أن يعبِّروا عن المعاني بألفاظ متقاربةٍ لا مترادفة، فإن الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن: فإما نادر، وإما معدوم، وقَلَّ أن يُعبَّر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه، بل يكون فيه تقريبٌ لمعناه، وهذا من أسباب إعجاز القرآن (¬2). (43) فإذا قال القائل: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} [الطور: 9]: إن المور الحركة؛ كان تقريبًا؛ إذ المور حركة خفيفة سريعةً. وكذلك إذا قال: الوحي: الإعلام، أو قيل: {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء: 163، وغيرها]: أنزلنا إليك، أو قيل: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 4]، أي: أعلمنا، وأمثال ذلك، فهذا كله تقريب لا تحقيق. فإن الوحي هو: إعلام سريع خفي، والقضاء إليهم أخص من الإعلام، فإن فيه إنزالاً إليهم وإيحاءً إليهم. (44) والعرب تُضمِّنُ الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته، ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض، كما يقولون في قوله: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24]؛ (أي: مع نعاجه) (¬3). و {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52، الصف: 14]؛ أي: مع الله، ونحو ذلك. ¬

(¬1) أي من العام الذي يُذكر له أمثلة. (¬2) يقول ابن عطية ـ في فصل بعنوان (نبذة مما قال العلماء في إعجاز القرآن) ـ: «وكتاب الله؛ لو نُزِعَتْ منه لفظة، ثم أُدِير لسان العرب في أن توجد أحسن منها = لم يوجد». المحرر الوجيز، ط: قطر (1:61). (¬3) ليس في نسخة د. عدنان.

عود إلى أمثلة تقريب المعنى

(45) والتحقيق ما قاله نحاةُ البصرةِ من التَّضمين، فسؤال النعجة يتضمن جمعها وضمها إلى نعاجه. وكذلك قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 73] ضُمِّن معنى: «يزيغونك ويصدونك». وكذلك قوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنبياء: 77] ضُمِّنَ معنى: «نجيناه وخلصناه». وكذلك قوله: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] ضُمِّن: يَرْوَى بها، ونظائره كثيرة. (46) ومن قال: {لاَ رَيْبَ}: لا شكّ، فهذا تقريب، وإلا فالريب فيه اضطراب وحركة، كما قال: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، وفي الحديث: أنه مر بظبي حاقف (¬1)، فقال: «لا يريبه أحد»، فكما أن اليقين ضُمِّن السكون والطمأنينة فالريب ضده (¬2)، ولفظ الشك وإن قيل: إنه يستلزم هذا المعنى؛ لكن لفظه لا يدل عليه. (47) وكذلك إذا قيل: ذلك الكتاب: هذا القرآن، فهذا تقريب؛ لأن المشار إليه، وإن كان واحدًا، فالإشارة بجهة الحضور غير الإشارة بجهة البعد والغيبة، ولفظ الكتاب يتضمن من كونه مكتوبًا مضمومًا ما لا يتضمنه لفظ القرآن من كونه مقروءًا مُظْهَرًا باديًا، فهذه الفروق موجودة في القرآن. (48) فإذا قال أحدهم: {أَنْ تُبْسَلَ} [الأنعام: 70]؛ أي: تُحبس. ¬

(¬1) قال ابن الأثير: «أي: نائم، قد انحنى في نومه» النهاية في غريب الحديث والأثر (1:413). (¬2) في نسخة زمرلي: «فالريب ضده ضمن الاضطراب والحركة».

مجموع عبارات السلف أدل على المقصود بألفاظ

وقال الآخر: تُرتهن، ونحو ذلك = لم يكن من اختلاف التضاد، وإن كان المحبوس قد يكون مرتهنًا، وقد لا يكون، إذ هذا تقريب للمعنى، كما تقدم. (49) وجمع عبارات السلف في مثل هذا نافع جدًا، فإن مجموع عباراتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين. (50) ومع هذا فلا بد من اختلاف محقق (¬1) بينهم، كما يوجد مثل ذلك في الأحكام (¬2). (51) ونحن نعلم أن عامة ما يضطر إليه عموم الناس من الاختلاف (¬3) معلوم، بل متواتر عند العامة أو الخاصة، كما في عدد الصلوات ومقادير ركوعها، ومواقيتها، وفرائض الزكاة ونُصُبِها، وتعيين شهر رمضان، والطواف، والوقوف، ورمي الجمار، والمواقيت وغير ذلك. ¬

(¬1) في نسخة الدكتور عدنان زرزور «مخفف»، وقال في الحاشية: «لعلها محقق ...»، وهي «محقق» في نسخة الفتاوى. (¬2) قال شيخ الإسلام في هذا الموضوع: «وأما ما صح عن السلف ـ أي: في التفسير ـ أنهم اختلفوا فيه اختلاف تناقض، فهذا قليل بالنسبة إلى ما لم يختلفوا فيه، كما أن تنازعهم في بعض مسائل السنة؛ كبعض مسائل الصلاة والزكاة والصيام والحج والفرائض والطلاق ونحو ذلك = لا يمنع أن يكون أصل هذه السنن مأخوذًا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وجملها منقولة عنه بالتواتر، وقد تبين أن الله تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة، وأمر أزواج نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة». وسيأتي هذا المنقول ضمن الملحق رقم (1). (¬3) العبارة فيها قلق، ولعلها «الأحكام»، فالاختلاف لا يضطر إليه عموم الناس، والأمثلة التي مثَّل بها تشير إلى أن مراده الأحكام التي لم يقع فيها خلاف، وهي المتواترة عند العامة والخاصة، وهذا التقرير ـ إن صحَّ ـ مما يُعذر به شيخ الإسلام؛ لأنه كتب هذه الرسالة إملاءً من الفؤاد، فيقع فيها مثل سبق القلم والذهن، ولعل هذا منها.

وجود الاختلاف في بعض مسائل الفرائض لا يوجب ريبا في جمهورها

(52) ثم إن اختلاف الصحابة في الجد والإخوة، وفي المُشَرَّكَة، ونحو ذلك لا يوجب ريبًا في جمهور مسائل الفرائض (¬1)، بل فيما يحتاج إليه عامة الناس وهو عمود النسب من الآباء والأبناء، والكلالة من الإخوة والأخوات، ومن نسائهم كالأزواج، فإن الله أنزل في الفرائض ثلاث آيات مفصلة؛ ذكر في الأولى الأصول والفروع، وذكر في الثانية الحاشية التي ترث بالفرض؛ كالزوجين وولد الأم، وفي الثالثة الحاشية الوارثة بالتعصيب، وهم الإخوة لأبوين أو لأب. واجتماع الجد والإخوة نادر، ولهذا لم يقع في الإسلام إلاَّ بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلّم. (53) والاختلاف قد يكون لخفاء الدليل، والذهول عنه، وقد يكون لعدم سماعه، وقد يكون للغلط في فهم النص، وقد يكون لاعتقاد معارض راجح، فالمقصود هنا التعريف بمجمل الأمر دون تفاصيله. ¬

(¬1) أي: فكما لا يوجب الاختلاف في بعض مسائل الفرائض الريب في جمهورها، فكذلك لا يُوجب الريبَ في تفسير السلف وجودُ الاختلاف المحقق بينهم فيه.

شرح اختلاف التنوع واختلاف التضاد في تفسير السلف

شرح اختلاف التنوع واختلاف التضاد في تفسير السلف

أولا: اختلاف التنوع

كالاختلاف الواقع بين الصحابة في قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة»، ففهم بعضهم أن المراد الاستعجال، فصلوا العصر في وقتها، وفهم آخرون الأمر على ظاهره، فأخّروا الصلاة حتى وصلوا بني قريظة، ومثله ما حدث من اختلافهم في تقطيع نخل بني النضير، وغيرها من الوقائع التي هي من هذا الجنس. وكلُّ هذا قد ذكره في كتابه «اقتضاء الصراط المستقيم»، وذكر أمثلةً للاختلاف الذي يكون من التنوع والذي يكون من التضاد. لكن ليست هذه الأنواع العامة هي المرادة هنا، وإنما المراد الاختلاف الذي وقع من السلفِ في التفسير. أما ما يتعلق بتعريف اختلاف التنوع والتضاد، فقد ذكر رحمه الله جملة مما يدخل في اختلاف التنوع يمكن أن يُعرَّف بها، وهو كما يأتي: أولاً: اختلاف التنوع: اختلاف التنوع في التفسير نوعان: الأول: ما يكون أحد القولين في معنى القول الآخر لكنِ العبارتان مختلفتان. الثاني: ما يكون المعنيان غيرين (¬1)، لكن لا يتنافيان، فهذا قول صحيح، وذلك قول صحيح، وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر. ثانيًا: اختلاف التضاد: ذكر في ضابط اختلاف التضاد قوله: «فهو القولان المتنافيان»، وهذا يعني أنه الذي لا يمكن حمل الآيةِ عليهما معًا، فإذا قيل بأحد القولين انتفى القول الآخر (¬2). ¬

(¬1) غيرين: متغايرين. (¬2) ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1:129 ـ 130).

المسألة الثانية: في نوعي الاختلاف اللذين يكثران في تفسير سلف الأمة

المسألة الثانية: في نوعي الاختلاف اللذَين يكثران في تفسير سلف الأمة: قد ذكر شيخ الإسلام أن اختلاف التنوع صنفان: الصنف الأول: أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمَّى غير المعنى الآخر، مع اتِّحاد المسمَّى. وقد ضرب أمثلة لتقريب هذا النوع، فذكر من ذلك جملة من أسماء السيف، فهو يسمى بالصارم والمهنَّد. فإذا قيل: ما المهنَّد؟. فالجواب: السيف. وإذا قيل: ما الصارم؟. فالجواب: السيف. لكن في المهند معنى غير المعنى الذي في الصارم، فهما دلاَّ على ذاتٍ واحدةٍ وهي السيف، وانفرد كلٌّ منهما بمعنى (وصف) مستقلٍّ عن صاحبه. فالسيف سُمِّي صارمًا نظرًا لقطعه للشيءِ، فهو يصرمه؛ أي: يقطعه. وسُمِّي مهنَّدًا بالنَّظرِ إلى محلِّ صناعته، وهو بلاد الهند، أو إلى أنَّ حَدِيدَهُ من بلاد الهند. ولا شكَّ أنَّ هذا المعنى الذي في الصارم غير المعنى الذي في المهنَّد، لكنهما لا يختلفان في دلالتهما على ذات واحدة، وهي السيف. وهذا القدر كافٍ في شرح ما يتعلَّقُ بموضوع هذا الصِّنف من الاختلاف، وما بعد ذلك ففيه استطرادٌ ليس من هذا الباب، لذا قال في نهايته: «وليس هذا موضع بسط ذلك».

ذكر رحمه الله أن التفسير يختلف باختلاف مقصود السائل

ثم ذكر رحمه الله أنَّ التفسير يختلف باختلاف مقصود السائلِ، ومقصوده لا يخرج عن احتمالين: الأول: أن يريد تعيين المسمى دون النظرِ إلى الصِّفةِ التي يحتملها اللفظُ المفسَّرُ. الثاني: أن يكون مقصودُ السائلِ معرفةَ الصفةِ المختصَّةِ بذلك الاسمِ، فيفسَّر له هذا المعنى بذاته؛ لأنه قد عَلِمَ المسمى بهذه الصفة فاحتاج إلى معرفة القدر الزائد في هذه الصفة. ومن الأمثلة التي ضربها: أن يقع سؤال السائل عن قوله تعالى: {الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ} [الحشر: 23]، فإن قلتَ: هو الله فهذا تعيين للمسمى بهذه الأوصاف. وإن قُلتَ: القدُّوس: الطاهر من كل عيبٍ ونقصٍ، والسلام: السالم من الآفات التي تلحق البشر من نوم وموت وعجز وغيرها، فهذا تفسير للقدر الزائد على دلالتها على الذات في هذه الصفة. فالله هو القدوس وهو السلام، لكن معنى القدوس غير معنى السلام. ثم قال: «إذا عرف هذا فالسلف كثيرًا ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر، كمن يقول: أحمد: هو الحاشر والماحي والعاقب. والقدوس: هو الغفور والرحيم؛ أي أن المسمَّى واحد لا أن هذه الصفة هي هذه الصفة، ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس». فقولك: أحمد والماحي والحاشر والعاقب هو واحد من جهة تسمية النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذه الأسماء، لكن لكل واحدٍ منها معنى مستقل عن الآخر، فليس معنى أحمد (الموصوف بالحمد) كمعنى الحاشر (الذي يحشر الناس)

المثال الأول

ولا كمعنى العاقب (الذي عقب الأنبياء)، ولا كمعنى الماحي (الذي محا ما قبله من الأديان). أمثلة الصنف الأول: المثال الأول: مثال ذلك: تفسيرهم للصراط المستقيم، فقال بعضهم: هو القرآن؛ أي: اتِّباعَه ... وقال بعضهم: هو الإسلام ... فهذان القولان متفقان؛ لأنَّ دين الإسلام هو اتباع القرآن، ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر كما أن لفظ صراط يشعر بوصف ثالث، وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة، وقول من قال: هو طريق العبودية، وقول من قال: هو طاعة الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأمثال ذلك فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها. فالذات الواحدةُ الصراط المستقيم، والأوصاف: اتباع القرآن، والإسلام، وطريق العبودية، والسنة والجماعة، وطاعة الله ورسوله، فكل وصف من هذه الأوصاف مغايرٌ للآخر من جهة ما يحمله من المعنى، لكنها كلَّها تدلُّ على ذات واحدةٍ، وهي الصراط المستقيم، فالصراط المستقيم هو الإسلام، والصراط المستقيم هو اتباع القرآن، وهكذا. وهذا الاختلاف الذي نظَّر له شيخ الإسلام هنا يرجع إلى أكثر من قولٍ، وإن عاد إلى ذات واحدةٍ، وقد أشار إلى نوع آخر يرجع إلى أكثر من قولٍ، وهو ـ عند التحقيق ـ يرجع إلى أكثر من ذات، وذلك عند قوله: «ومن الاختلاف ما يكون محتملاً للأمرين ...»، وسيأتي شرحه. المثال الثاني: في قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ

الصنف الثاني

يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]، ذكر ثلاثة معانٍ لتفسير لفظ «ذكري»، فقال: «... فسواءٌ قال: ذكري: كتابي، أو كلامي، أو هداي، أو نحو ذلك = كان المسمى واحدًا». الصنف الثاني: قال رحمه الله: «الصنف الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى لفظ الخبز، فأُرِيَ رغيفًا، وقيل له: هذا، فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده». وقد ضرب مثالاً لهذا الصنف بقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]. فالآية جاءت بأوصاف عامة تشمل المؤمنين، وهم على ثلاث مراتب: الظالم لنفسه، وهو المضيع للواجبات والمنتهك للحرمات. والمقتصد، وهو الفاعل للواجبات والتارك للمحرمات، دون أن يتقرب بالمندوبات بعد الواجبات. والسابق، وهو الذي يتقرب بالحسنات المندوبات مع الواجبات. وهذا عامٌّ يشمل جميع أنواع الطاعات وأنواع المنهيات، فمنهم من جعله في باب من أبواب الطاعات؛ كالصلاة والزكاة، وذكر وصفًا لما يقع من هذه الأصناف فيها. ففي الصلاة مثلاً: الظالم لنفسه: الذي يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها. والمقتصد: الذي يصليها أثناء وقتها.

فائدة التفسير بالمثال

والسابق: الذي يصليها أوَّل وقتها. وإذا تأمَّلت هذا التفسير، وجدته مثالاً لما يشمله لفظ الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات. ومن الأمثلة التي توضِّح هذا الصنف ـ أيضًا ـ ما وقع من الخلاف في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، فقد ورد عن ابن مسعود ومجاهد والشعبي أنَّ النعيم الأمنُ والصِّحَّةُ. وورد عن ابن عباس والحسن أنه السمع والبصر وصحة البدن. وهذا الذي ذكروه مثالٌ للنعيمِ، وليس هو كلَّ النعيم، لذا ورد عنهم غير هذه الأقوال؛ كالمروي عن ابن عباس أنه الماء البارد في الليلة الصائفة، والماء الدافئ في الليلة الباردة. ومنها ما ورد في قوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد: 21]، قال ابن عطية (ت:542): «وذكر بعضهم في تفسير هذه الآية أشياء هي على جهة المثال، فقال قوم من العلماء؛ منهم ابن مسعود رضي الله عنه: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}؛ معناها: كونوا في أول صف في القتال. وقال آخرون؛ منهم أنس بن مالك رضي الله عنه: اشهدوا تكبيرة الإحرام مع الإمام. وقال آخرون؛ منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه: معناه: كن أول داخل في المسجد، وآخر خارج منه، وهذا كله على جهة المثال» (¬1). فائدةُ التفسير بالمثال: نبَّه شيخ الإسلام هنا عن فائدة التفسير بالمثال فقال: «فكل قول فيه ¬

(¬1) المحرر الوجيز، ط: قطر (14:318).

أن التفسير بالمثال لا يفيد الحصر

ذكر نوع داخل في الآية ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له، وتنبيهه به على نظيره، فإن التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطابق، والعقل السليم يتفطن للنوع، كما يتفطن إذا أشير له إلى رغيف فقيل له: هذا هو الخبز». ومن هذا يمكن القول: إن التفسير بالمثال لا يفيد الحصرَ، فلو عمد مفسِّرٌ متأخرٌ إلى بيان العموم في آية ذكر السلف فيها مثالات، أو أضاف مثالاً لم يقل به السلف والعموم يحتمله، فإنه يقبل. ومن الأمثلة في ذلك ما ورد في تفسير {ثُمَّ لآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17]، قال ابن القيم (ت:754): «وقوله: {ثُمَّ لآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ}، قال ابن عباس في رواية عطية عنه: من قِبَلِ الدنيا، وفي رواية علي عنه: أشككهم في آخرتهم. وكذلك قال الحسن: من قبل الآخرة تكذيبًا بالبعث والجنة والنار. وقال مجاهد: من بين أيديهم من حيث يبصرون. {وَمِنْ خَلْفِهِمْ}، قال ابن عباس: أرغبهم في دنياهم. وقال الحسن: من قِبَلِ دنياهم؛ أزينها لهم وأشهيها لهم. وعن ابن عباس رواية أخرى: من قِبَل الآخرة. وقال أبو صالح: أُشكِّكهم في الآخرة، وأباعدها عليهم. وقال مجاهد أيضًا: من حيث لا يبصرون. {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ}، قال ابن عباس: أشبّه عليهم أمر دينهم. وقال أبو صالح: الحق أشككهم فيه.

وعن ابن عباس أيضًا: من قِبَلِ حسناتهم. قال الحسن: من قبل الحسنات؛ أثبطهم عنها. وقال أبو صالح أيضًا: من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم: أنفقه عليهم وأرغبهم فيه. وقال الحسن: وعن شمائلهم: السيئات؛ يأمرهم بها، ويحثهم عليها، ويزينها في أعينهم. وصح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ولم يقل: من فوقهم؛ لأنه علم أن الله من فوقهم. قال الشعبي: فالله ـ عزّ وجل ـ أنزل الرحمة عليهم من فوقهم. وقال قتادة: أتاك الشيطان يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله ... وقال آخرون ـ منهم أبو إسحاق والزمخشري، واللفظ لأبي إسحاق ـ: ذكر هذه الوجوه للمبالغة في التوكيد؛ أي: لآتينهم من جميع الجهات، والحقيقة ـ والله أعلم ـ: أتصرف لهم في الإضلال من جميع جهاتهم. وقال الزمخشري: ثم لآتينهم من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو في الغالب، وهذا مَثَلٌ لوسوسته إليهم وتسويله ما أمكنه وقدر عليه؛ كقوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64]، وهذا يوافق ما حكيناه عن قتادة: أتاك من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك. وهذا القول أعم فائدة، ولا يناقض ما قال السلف، فإن ذلك على جهة التمثيل لا التعيين» (¬1). ¬

(¬1) إغاثة اللهفان (1:102 ـ 104).

المسألة الثالثة: تنبيهات تتعلق بأسباب النزول

المسألة الثالثة: تنبيهات تتعلق بأسباب النُّزول (¬1): التنبيه الأول: ذكر شيخ الإسلام تنبيهًا مهمًّا فيما يتعلَّق بأسباب النُّزول الصريحة وغير الصريحة، وأنها من باب المثال في التفسير، فقال: «وقد يجيء كثيرًا من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لا سيما إن كان المذكور شخصًا؛ كأسباب النُّزول المذكورة في التفسير؛ كقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت، وإن آية اللعان نزلت في عويمر العجلاني أو هلال بن أمية، وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله. وإن قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} نزلت في بني قريظة والنضير. وإن قوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يُوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} نزلت في بدر. وإن قوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} نزلت في قضية تميم الداري وعدي بن بدَّاء. وقول أبي أيوب: إن قوله: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} نزلت فينا معشر الأنصار ... الحديث. ونظائر هذا كثير، مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو في قوم من أهل الكتاب: اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين فالذين ¬

(¬1) كُتِبَ في أسباب النُّزول كتب قديمة وحديثة، كأسباب النُّزول للواحدي، والعجاب في بيان الأسباب لابن حجر، ولباب النقول للسيوطي، وغيرها. ومن كتابات المعاصرين: 1 - أسباب النُّزول وأثرها في بيان النصوص، دراسة مقارنة بين أصول التفسير وأصول الفقه، للدكتور عماد الدين محمد رشيد، نشر دار الشهاب. 2 - الاستيعاب في بيان الأسباب، لسليم الهلالي ومحمد بن موسى آل نصر، نشر دار ابن الجوزي.

أن أسباب النزول ـ سواء أكانت صريحة أم غير صريحة ـ التي تفسر بها الآية من باب المثال

قالوا ذلك، لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم، ولا عاقل على الإطلاق». وهذا التنبيه مهمٌّ جدًّا؛ لأنك تعتبر أسباب النُّزول ـ سواء أكانت صريحة أم غير صريحة ـ التي تفسَّر بها الآية من باب المثال، ثمَّ تنظر في أسباب النُّزول غير الصريحة صحة دخول ما ذكروه في معنى الآية؛ لأنَّ الأمر ـ في غير الصريحة ـ صار من باب التفسير بالرأي. وإذا اعتبرت هذه الأسباب من باب المثال في التفسير فإنه لن يُشكلَ عليك تعدُّدُها؛ كالأسباب المذكورة في سبب نزول أول سورة الأنفال، ولا تعدد من نزلت فيه الآية؛ كالأسباب المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 3]. وهذا يعني أنَّ ما يرد عن السلف في هذا الباب إذا اعتبرته من هذه الجهة فإنه يصح عندك بلا إشكال، وإن رُحْتَ تحقِّق على غير هذا السبيل فإنك ستردُّ بعض تفسيراتهم المرتبطة بالنُّزول بسبب عدم وضوح هذا السبيل من التفسير عندك، وحرصك على تعيين سبب واحدٍ من هذه الأسباب المذكورة. وكذا قد يقع من بعض من يتعرض للتفسير؛ ردُّ بعض الأقوال التي تحتملها الآية بسبب عدم موافقتها لسبب النُّزول، مع أن الآية تحتملها إذا فسَّرتها على سبيل العموم، ومن ذلك ما ذكره ابن حجر العسقلاني (ت:852) في شرحه لصحيح البخاري عند تفسير قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]. فقد أورد عن أسلم بن عمران قال: كنا بالقسطنطينية، فخرج صف عظيم من الروم، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم ثم رجع مقبلاً، فصاح الناس: سبحان الله، ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: أيها الناس، إنكم تؤولون هذه الآية على هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعزَّ الله دينه، وكثر ناصروه، قلنا بيننا سِرًّا: إن

أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها، وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله هذه الآية، فكانت التهلكة الإقامة التي أردناها ... إلى أن قال ابن حجر: «وجاء عن البراء بن عازب في الآية تأويل آخر أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عنه بإسناد صحيح عن أبي إسحاق، قال: قلت للبراء: أرأيت قول الله عزّ وجل: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} هو الرجل يحمل على الكتيبة فيها ألف؟ قال: لا، ولكنه الرجل يذنب، فيُلْقِي بيده، فيقول: لا توبة لي». ثمَّ قال ابن حجر (ت:852): «والأول أظهر؛ لتصدير الآية بذكر النفقة، فهو المعتمد في نزولها، وأما قصرها عليه ففيه نظر؛ لأن العبرة بعموم اللفظ» (¬1). التنبيه الثاني: ذكر شيخ الإسلام بعد ذلك موضوعًا مهمًّا في التفسير بسبب النُّزول، وهو قوله: «والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص، فَيَعُم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ. والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرًا ونهيًا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإذا كانت خبرًا بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص وغيره ممن كان بمنْزلته أيضًا». وقد ذكر هذا الموضوع في موطن آخر من كتبه، فقال: «والآيات التي أنزلها الله على محمد صلّى الله عليه وسلّم فيها خطاب لجميع الخلق من الإنس والجن، إذ كانت رسالته عامة للثقلين، وإن كان من أسباب نزول الآيات ما كان موجودًا في العرب فليس شيء من الآيات مختصًا بالسبب المعين الذي نزل فيه باتفاق المسلمين، وإنما تنازعوا هل يختص بنوع السبب المسؤول عنه؟ ¬

(¬1) ينظر: فتح الباري، ط: الريان (8:33 ـ 34).

قول شيخ الإسلام في التفسير بسبب النزول: (والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب، هل يختص بسببه أم لا؟)

وأما بعين السبب فلم يقل أحد من المسلمين أن آيات الطلاق أو الظهار أو اللعان أو حد السرقة والمحاربين وغير ذلك = يختص بالشخص المعين الذي كان سبب نزول الآية. وهذا الذي يسميه بعض الناس تنقيح المناط، وهو أن يكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم حكم في معين وقد علم أن الحكم لا يختص به، فيريد أن ينقح مناط الحكم، ليعلم النوع الذي حكم فيه، كما أنه لما أمر الأعرابي الذي واقع امرأته في رمضان بالكفارة، وقد علم أن الحكم لا يختص به، وعلم أن كونه أعرابيًا أو عربيًا أو الموطوءة زوجته لا أثر له، فلو وطئ المسلم العجمي سريته كان الحكم كذلك» (¬1). وهذا المقطع فيه مسائل: المسألة الأولى: أنَّ الآية لا تختصُّ بالشخصِ المعيَّنِ دون غيرِه، ومما يدل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فأنزل الله: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. فقال الرجل: يا رسول الله، ألي هذا؟ قال: «لجميع أمتي كلهم» (¬2). وفي تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] روى البخاري عن عبد الله بن معقل قال: جلست إلى كعب بن عجرة رضي الله عنه، فسألته عن الفدية، فقال: نزلت فيَّ خاصة، وهي لكم عامة، حُملت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: «ما كنت أرى الوجع بلغ ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (19:14 ـ 15). (¬2) صحيح البخاري (4687).

المسألة الثانية: دخول ما يشبه حال ذلك الشخص في معنى الآية الواردة على سبب من طريقين

بك ما أرى! ـ أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى! ـ تَجِدُ شاةً؟ فقلت: لا، فقال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع» (¬1). وروى البخاري أيضًا عن أنس رضي الله عنه قال: «غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرينَّ الله ما أصنع، فلما كان يوم أُحد وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني أصحابه ـ، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ـ يعني المشركين ـ، ثم تقدّم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أُحد. قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع. قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنه برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. قال أنس: كنا نرى ـ أو نظن ـ أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] إلى آخر الآية» (¬2). المسألة الثانية: دخول ما يشبه حال ذلك الشخص في معنى الآية الواردة على سبب من طريقين: الأول: أن يكون من باب تعميم اللفظ، فيكون السبب المذكور مثالاً لهذا اللفظ العامِّ. الثاني: أن يكون دخوله من باب القياس، وهو معنى قول شيخ الإسلام: «وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص، فتعم ما ¬

(¬1) صحيح البخاري (1816). (¬2) صحيح البخاري (2805).

أن دخول غير السبب من باب تعميم اللفظ أقوى من دخوله من باب القياس

يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ»، يعني أن يكون بحسب القياس. ونتيجة الطريقين أنَّ الآية لا تختصُّ بشخص معيَّنٍ مطلقًا. لكن يحسن ملاحظة أن دخول غير السبب من باب تعميم اللفظ أقوى من دخوله من باب القياس. مثال ذلك: قال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى *وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 17 ـ 19]. قال ابن كثير (ت:774): «وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتى أن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك». فلو ذهبت إلى عموم اللفظ هنا، فإنك ستُدخل غير أبي بكر رضي الله عنه في مسمى الأتقى، ولا تجعله في هذا المقام خاصًّا بأبي بكر رضي الله عنه. ولو ذهبت إلى أنَّ لفظ الأتقى هنا خاصٌّ بأبي بكر رضي الله عنه، وأنت ترى غيره سيدخل معه لكن ليس من باب تعميم اللفظ، بل من باب القياس، أي أنك قايست عمله بعمل الأتقى أبي بكر، فدخل معه في هذا السياق. والفرق بين المذهبين ما يأتي: المذهب الأول: يذهب إلى أن عموم من اتصف بالتقوى فإنه يدخل في هذه الآية، ولو اتصف بمعانٍ أخرى من معاني التقوى؛ أي غير النفقة التي ذُكِرت في الآيات. المذهب الثاني: يقيس من فَعَلَ مثل فِعْلِ أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الصدقة، ولا يُعدِّي الآية عن النفقة، فهي تعم ما يشبهه في هذا الفعل من جهة القياس فحسب.

مسألة في أثر معرفة سبب النزول

ونتيجة هذين المذهبين الذهاب إلى التعميم، لكنه يختلف في إطلاق التعميم، فالقول بالعموم اللفظي أشمل من القول بالقياس؛ لأنه يُدخل جميع صور التقوى في معنى الآية، أما العموم من جهة القياس، فلا يدخل إلا الصورة التي نزلت لها الآية، وهي النفقة. قال ابن كثير (ت:774) ـ معلقًا على القول بنُزولها في أبي بكر ـ: «ولا شك أنه داخل فيها، وأنه أولى الأمة بعمومها، فإن لفظها لفظ العموم، وقوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى *وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 17 ـ 19]، ولكنه مقدم الأمة وسابق في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة، فإنه كان صِدِّيقًا تقيًا كريمًا جوادًا بذَّالاً لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم، ولم يكن لأحد من الناس عنده مِنَّةٌ يحتاج إلى أن يكافئه بها، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل، ولهذا قال له عروة بن مسعود ـ وهو سيد ثقيف ـ يوم صلح الحديبية: أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك ـ وكان الصِّدِّيق قد أغلظ له في المقالة ـ، فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل، فكيف بمن عداهم، ولهذا قال تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى *إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى *وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 19 ـ 21] ...» (¬1). مسألة في أثر معرفة سبب النُّزول: قال شيخ الإسلام: «ومعرفة سبب النُّزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، ولهذا كان أصح قولي الفقهاء أنه إذا ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تحقيق: محمد إبراهيم البنا (8:3797).

قال الشاطبي: معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن

لم يعرف ما نواه الحالف رجع إلى سبب يمينه وما هيّجها وأثارها». وما ذكره شيخ الإسلام هنا ذكره الشاطبي (ت:790) في الموافقات، وذكر له أمثلة، ومما قاله الشاطبي (ت:790): «معرفة أسباب التنْزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران: أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلاً عن معرفة مقاصد كلام العرب = إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك؛ كالاستفهام، لفظه واحد، ويدخله معان أُخَرْ من تقرير وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر، يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها، ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال، وليس كل حال ينقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة = فات فَهْم الكلامِ جملةً، أو فَهْمُ شيءٍ منه، ومعرفة الأسباب رافعةٌ لكل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بُدٍّ، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال، وينشأ عن هذا الوجهِ: الوجهُ الثاني: وهو أن الجهلَ بأسباب التنْزيل مُوقِعٌ في الشبه والإشكالات، ومُوردٌ للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النِّزاع» (¬1). والمراد بسبب النُّزول هنا السببُ الصريح، ولا إشكال في أنَّ معرفته تُعِين على فهم الآية، هذا هو الأصلُ، لكن قد ترد بعض الآيات التي لها ¬

(¬1) الموافقات، تحقيق: مشهور آل سلمان (4:146)، وفي تتمة كلامه أمثلة لوقوع الإشكال بسبب عدم معرفة سبب النُّزول.

سبب صريحٌ، ويكون معناها معروفًا بدونه، وهذه الآيات لا تكون حجة في عدم الحاجة إلى سبب النُّزول، ومن أمثلة تلك الأسباب التي تكون الآيات واضحة بدونها ما روي من سبب نزول أول سورة الممتحنة، وهو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]. فقد ورد في سببها ما حصل من حاطب بن أبي بلتعة وإرساله الخطاب لقريش يعلمهم بغزو الرسول صلّى الله عليه وسلّم لهم، والآية واضحة، ولو لم يُعلَم هذا السبب، لكن ليست كل آية لها سبب تكون بهذه المثابة، لذا قد يقع الغلط في تفسير الآية بسبب جهل سبب النُّزول، ومن أمثلة ذلك: ما وقع لعروة بن الزبير (ت:94) في فهمه لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة 158]، قال هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: «قلت لعائشة زوج النبي وأنا يومئذٍ حديث السن: أرأيت قول الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، فما أرى على أحد شيئًا أن لا يطوف بهما. فقالت عائشة: كلا لو كانت كما تقول كانت (فلا جناح عليه ألا يطوَّف بهما) إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلّون لمناة وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير.

مسألة في قولهم: نزلت هذه الآية في كذا

وهذا الأثر يدلُّ على أنَّه لما خفي على عروة بن الزبير (ت:94) سبب نزول الآية وحملها على المتبادر له من ظاهرها، ظهر له أنَّ من لم يسع بين الصفا والمروة فلا إثم عليه ولا حرج، لكن لما بيَّنت له خالته الصِّدِّيقة عائشة رضي الله عنها (ت:58) سبب نزول الآية زال هذا الاحتمال المذكور. فإذا كان خفاءُ بعض أسباب النُّزول على بعض أعلام هذا الجيل قد أورث الخطأ في فهم بعض الآيات الواردات على سبب، فما بالك بمن جاء بعدهم ممن يجهل آثارهم فيفسر القرآن بما يعرف من اللغة، أو برأي مجردٍ عن المصادر الموثوقة. مسألة في قولهم: نزلت هذه الآية في كذا: تحتمل هذه الصيغة من حكاية سبب النُّزول أحد أمرين: الأول: أن تدلَّ على سبب النُّزول المباشر. الثاني: أن يراد بها الاستدلال على الحكم بالآية، وأن هذا الحكم مما يدخل في معناها. ولا يمكن أن يُعلم المراد بأحدهما إلا بالقرائن. ومن أمثلة دلالة صيغة (نزلت في) على النُّزول المباشر: 1 - عن أبي ذر رضي الله عنه (ت:32) قال: «نزلت {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] في ستة من قريش: علي وحمزة وعبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة» (¬1). وفي روايةٍ عن قيس بن عُباد (ت: بعد 80)، قال: «سمعت أبا ذر يُقسم قَسَمًا إن هذه الآية: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] نزلت في ¬

(¬1) رواه البخاري.

الذين برزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة» (¬1). وقال علي رضي الله عنه (ت:40): «فينا نزلت هذه الآية: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}» (¬2). وهاتان الروايتان الصحيحتان عن هذين الصحابيين تدلاَّن على أن هذه الصيغة مستخدمة في سبب النُّزول الصريحة، فقَسَمُ الصحابي أبي ذرٍّ (ت:32)، وحكاية عليِّ (ت:40) صاحب الحَدَثِ: «فينا نزلت» قرينة قوية في أن هذه الصيغة في هذين الأثرين دالة على سبب النُّزول المباشر. 2 - عن ابن عباس (ت:68) أنه قال: «نزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي إذ بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السرية» (¬3). وقد ورد تفصيل قصته عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (ت:40)، قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية، واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، فلما خرجوا، وَجَدَ عليهم في شيء. قال: فقال لهم: أليس قد أمركم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى. قال: فاجمعوا لي حطبًا، ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال: عزمت عليكم لتدخُلنَّها. قال: فقال لهم شاب منهم: إنما فررتم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن أمركم أن تدخلوها، فادخلوها. ¬

(¬1) رواه مسلم، برقم 3033. (¬2) رواه البخاري. (¬3) رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم.

أمثلة على استخدام صيغة (نزلت في) في الاستدلال وإدخال ما فيها من الحكم في معنى الآية

قال: فرجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبروه. فقال لهم: لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدًا، إنما الطاعة في المعروف» (¬1). وهذا الأنصاري المبهم في هذه الرواية هو عبد الله بن حذافة السهمي (ت: في خلافة عثمان)، وكان رجلاً فيه دُعابة. وفيه هو وأصحابه نزلت هذه الآيات، فكان من أمرهم أن رجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرهم بقاعدة تنفيذ أوامر القادة وأمراء السرايا. ومن أمثلة استخدام صيغة (نزلت في) في الاستدلال وإدخال ما فيها من الحكم في معنى الآية: 1 - عن عائشة رضي الله عنها (ت:58) قالت: «نزلت هذه الآية {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] في الدعاء» (¬2). وفي الآية قول آخر، وهو أن الأمر بالمخافتة في الصلاة لا الدعاء بدلالة قوله: {بِصَلاَتِكَ}، وهي الصلاة المعروفة المشروعة، لكن لا يمتنع أن يدخل الدعاء في هذا الأمر، خصوصًا أن سياق الآيات في الدعاء، قال تعالى: {قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَانَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء: 110]. 2 - وعن عائشة (ت:58) قالت: «ما أرى هذه الآية نزلت إلا في المؤذنين {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]» (¬3). وهذا الذي قالته عائشة رضي الله عنها (ت:58) قول صحيح من جهة المعنى، لكن ¬

(¬1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما. (¬2) رواه البخاري وغيره. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (1:204).

أمثلة لصيغة (نزلت في) عند البخاري

لا يلزم أن يكون هو سبب النُّزول المباشر؛ لأنه ليس هناك حدث معين كي تنْزل الآية بسببه، والآية مكية، وفرض الأذان كان في المدينة مما يُبعِد أن تكون هذه الآية نزلت بسبب المؤذنين، وإن كانوا يدخلون في عمومها، والله أعلم. وقد جعل بعض العلماء صيغة (نزلت في) من قبيل التفسير المسند؛ أي: المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ كالإمام البخاري (ت:256) الذي يروي مثل هذه الصيغة بالإسناد، ولو لم تكن مرفوعة لاكتفى بتعليقها كما يعلِّق جملةً من التفسير المروي عن الصحابة والتابعين وتابعيهم. وأما كتب المسانيد فكما قال شيخ الإسلام (ت:728)، فهي لا تروي ما يأتي بهذه الصيغة إلا نادرًا. أمثلة لصيغة (نزلت في) عند البخاري: 1 - قال البخاري: «باب قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]. قال ابن عباس: الأنفال: المغانم. قال قتادة: ريحكم: الحرب. يقال: نافلة: عطية. حدثني محمد بن عبد الرحيم، حدثنا سعيد بن سليمان أخبرنا هشيم، أخبرنا أبو بشر عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: سورة الأنفال؟ قال: نزلت في بدر» (¬1). فإيراد هذه الرواية عن ابن عباس (ت:68) بالسند دليل على دخول مثل هذه الرواية في شرطه، وهو من رواية المرفوعات، بخلاف تفسير ابن عباس للأنفال حيث علَّق الرواية ولم يُسندها. ¬

(¬1) رواه البخاري في تفسير سورة الأنفال من كتاب التفسير.

2 - قال: «حدثنا إسحاق أخبرنا النضر حدثنا شعبة عن سليمان قال: سمعت أبا وائل عن حذيفة: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، قال: نزلت في النَّفقة» (¬1). 3 - «حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا أُقعِد المؤمن في قبره أُتِيَ، ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]. حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة بهذا وزاد: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم: 27]: نزلت في عذاب القبر» (¬2). 4 - «حدثنا عبدان أخبرنا أبي عن شعبة عن منصور عن سعيد بن جبير قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93]، فسألته، فقال: لم ينسخها شيء. وعن {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68]، قال: نزلت في أهل الشرك» (¬3). والذي يدل على ذلك أنه روى تفسيرًا كثيرًا عن ابن عباس (ت:68) وعلَّقه، ومن ذلك قوله: «باب قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، قال ابن عباس: {لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}: إلا عليها حافظ» (¬4). وهذه الصيغة (نزلت في)، مع ورودها عند البخاري (ت:256) إلا أنها ¬

(¬1) رواه البخاري في تفسير سورة البقرة من كتاب التفسير، رقم الحديث: 4244. (¬2) رواه البخاري، في كتاب الجنائز، رقم الحديث: 1303. (¬3) رواه البخاري في تفسير سورة الفرقان من كتاب التفسير، رقم الحديث: 4488. (¬4) رواه البخاري في تفسير سورة البقرة من كتاب التفسير.

بيان الحاكم عن أن ورود أسباب النزول الصريحة عن الصحابة الكرام لها حكم الرفع

قليلة بالنسبة إلى صيغة «فنَزلت»، وصيغة «فأنزل الله»، وهذه الصيغة الأخيرة هي الأكثر عنده من بين هذه الصيغ. أما الصيغة الثانية، وهو ذكر السبب المباشر للآية، وغالبًا ما يذكر السبب، ثُمَّ يُتْبِعُهُ «فنَزلت» أو «فأنزل الله»، فكل هؤلاء يدخلها في المسند؛ لأنها مرفوعة إلى عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد أبان الحاكم (ت:405) أنَّ ورودَ أسبابِ النُّزولِ الصَّريحةِ عن الصَّحابةِ الكرامِ لها حكمُ الرَّفعِ، وذكر ذلك في كتابه معرفة علوم الحديث، فقال: «... فأمَّا الموقوفُ على الصَّحابةِ، فإنَّه قلَّ ما يخفى على أهل العلم .... ومن الموقوف الذي يُستدلُّ به على أحاديث كثيرة: ما حدَّثناه أحمد بن كاملٍ القاضي، ثنا يزيد بن الهيثم، ثنا محمد بن جعفر الفيدي، ثم ابن فضيل، عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن أبي هريرة رضي الله عنه في قول الله عزّ وجل: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر: 29]، قال: تلقاهم جهنَّمُ يوم القيامة، فتلفحُهم لفحةً، فلا تترك لحمًا على عظمٍ إلاَّ وضعت على العراقيب. قال: وأشباه هذا من الموقوفات تُعَدُّ في تفسيرِ الصَّحابةِ. فأمَّا ما نقول في تفسير الصَّحابيِّ: مسندٌ، فإنَّما نقولُه في غيرِ هذا النَّوعِ (¬1)، فإنَّه كما أخبرناه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصَّفَّار، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني مالك بن أنس، عن محمد بن المنكدر، عن جابرٍ قال: كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قُبُلِها، جاء الولدُ أحول، فأنزل الله عزّ وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223]. ¬

(¬1) يقصد النوع الخامس الذي ذكره قبل هذا الكلام، وهو الموقوف من الروايات، ينظر: معرفة علوم الحديث (ص:19).

أمثلة من صحيح البخاري عن إخبار الصحابي عن آية من القرآن: إنها نزلت في كذا وكذا

قال الحاكم: هذا الحديث وأشباهُه، مسندةٌ عن آخرها، وليست بموقوفة، فإنَّ الصَّحابيَّ الَّذي شَهِدَ الوحي والتَّنْزيلَ، فأخبر عن آيةٍ من القرآنِ: إنها نزلت في كذا وكذا، فإنَّه حديثٌ مسندٌ» (¬1). ومن أمثلتها من صحيح البخاري (ت:256): 1 - حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن ابن المنكدر سمعت جابرًا قال: «كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]» (¬2). 2 - حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام عن ابن جريج قال: أخبرني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: «أن رجلاً كانت له يتيمة، فنكحها، وكان لها عِذْقٌ، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء، فنَزلت فيه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3]، أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العِذْقِ وفي ماله» (¬3). ومن أمثلتها في صحيح مسلم: 1 - باب في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]. قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن إدريس، ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث، للحاكم (ص:20)، وقد نقلته بنصِّه لإبرازِ مذهبِه، إذ قد فَهِمَ بعض الأئمة الأعلامِ أنه يعدُّ تفسير الصَّحابةِ في حكم المرفوع، وسبب ذلك اللَّبس أنه لم يفصِّل كهذا التَّفصيل في المواطن التي ذكرها في المستدرك (1:542)، (2:258)، وممن نَسَبَ له ذلك ابنُ القيِّم، قال في كتابه التبيان في أقسام القرآن (ص:142 ـ 143): «... وهذا عند طائفة من أهل الحديث في حكم المرفوع. وقال الحاكم: تفسيرُ الصحابةِ عندنا في حكم المرفوع». (¬2) رواه البخاري في تفسير سورة البقرة من كتاب التفسير، رقم الحديث: (4254). (¬3) رواه البخاري في تفسير سورة النساء من كتاب التفسير، رقم الحديث: (4297).

ورود صيغة (فأنزل الله) (فنزلت) في غير سبب النزول المباشر

عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله في قوله عزّ وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57] «{أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}، قال: كان نفر من الجن أسلموا، وكانوا يُعبدون، فبقي الذين كانوا يَعبدون على عبادتهم، وقد أسلم النفر من الجن». حدثني أبو بكر بن نافع العبدي، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57] قال: «كان نفر من الإنس يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم النفر من الجن، واستمسك الإنس بعبادتهم، فنزلت: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]» (¬1). 2 - وقال: وحدثني زهير بن حرب، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحابُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيْضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» (¬2). ورود صيغة «فأنزل الله» «فنَزلت» في غير سبب النُّزول المباشر: هاتان الصيغتان، وإن كان يغلب ورودهما في سبب النُّزول المباشر إلا أنه قد يرد في الأثر ما يُخرجهما عن كونهما سبب نزول مباشر، ومن ذلك: ما أسنده مسلم، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعًا عن جرير؛ قال عثمان: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عمرو بن شرحبيل قال: قال عبد الله: «قال رجل: يا رسول الله، أيُّ الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تدعوَ للهِ ندًّا وهو خلقك. ¬

(¬1) رواه مسلم برقم: 3030 (4:2321). (¬2) رواه مسلم برقم: 302 (1:246).

الاحتمالات الواردة على نزول الآية إذا ورد فيها أكثر من سبب

قال: ثُمَّ أيّ؟. قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يَطْعَمَ معك. قال: ثُمَّ أي؟. قال: أن تزاني حليلة جارك، فأنزل الله عزّ وجل تصديقها: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]» (¬1). فقوله هنا: «فأنزل الله» ليس المراد بها سبب النُّزول؛ بدلالة قوله: «تصديقها»، فهو ـ بلا ريب ـ لا يريد سبب النُّزول، وذلك ظاهر واضح، لكن المراد هنا التنبيه على أن هذه الصيغة ليست ملازمةً للسببية، والله أعلم. الاحتمالات الواردة على نزول الآية إذا ورد فيها أكثر من سبب: ذكر شيخ الإسلام احتمالين: الاحتمال الأول: أن تكون الآية نزلت عقب هذه الأسباب، فيكون أكثرُ من حدث سببًا لنُزول الآية، ومثال ذلك: 1 - الأسباب الواردة في قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]. فقد أخرج البخاري حديث جابر بن عبد الله، قال: «كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنَزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]» (¬2). وأخرج أبو داود حديث ابن عباس، قال: «إن ابن عمر ـ والله يغفر ¬

(¬1) رواه مسلم برقم: 86 (1:91). (¬2) أخرجه البخاري في تفسير سورة البقرة من كتاب التفسير، رقم الحديث: 4254.

له ـ أوهم، إنما كان هذا الحي من الأنصار ـ وهم أهل وثن ـ مع هذا الحي من يهود ـ وهم أهل كتاب ـ وكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحًا منكرًا، ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات. فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك، فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف، فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني. حتى شَرَى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله عزّ وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}؛ أي: مقبلات ومدبرات ومستلقيات يعني بذلك موضع الولد» (¬1). ولا مانع من أن يكون الحديث الذي ذكره ابن عباس قد صار، وذُكر بعده زعم اليهود الذي ذكره جابر، فنَزلت الآية لأجل هذين الشأنين المتعلقَين بطريقة نكاح اليهود وزعمهم فيه. 2 - الأسباب الواردة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77]. أورد البخاري بسنده عن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان. قال: فقال الأشعث: فيَّ والله كان ذلك. كان بيني وبين رجل من ¬

(¬1) سنن أبي داود رقم الحديث: (2164) (2:249)، ومعنى (شَرَى أمرهما): انتشر.

الاحتمال الثاني: أن تكون الآية نزلت مرتين، مرة لهذا السبب، ومرة لذلك السبب الآخر

اليهود (¬1) أرض فجحدني، فقدمته إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألك بينة؟». قلت: لا. قال: فقال لليهودي: احلف. قال: قلت: يا رسول الله إذًا يحلف ويذهب بمالي، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} إلى آخر الآية» (¬2). وأورد البخاري (ت:256) كذلك بسنده عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن رجلاً أقام سلعة ـ وهو في السوق ـ فحلف بالله: «لقد أُعطي بها ما لم يعط؛ ليوقع فيها رجلاً من المسلمين، فنَزلت {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً}» (¬3). ولا مانع من أن تكون الآية قد نزلت بشأن هذين الحدثين، فهي تصدق عليهما بلا ريب، وليس هناك ما يرجح أحدهما على الآخر، حتى لو كان في القصة الأولى صاحب الخبر؛ إذ لا يمتنع أن تكون حصلت تلك قبلها بقليل، ثمَّ حصلت قصته فنَزلت الآية بشأنهما أو العكس. الاحتمال الثاني: أن تكون الآية نزلت مرتين، مرة لهذا السبب، ومرة لذلك السبب الآخر. وهذا الاحتمال فيه ضعْفٌ، فهو لم يرد عن السلف، وإنما هو تخريج عقلي لورود الآثار بأكثر من سبب للآية الواحدة. ودعوى نزول الآية مرتين له ما يبرِّره في بعض الآثار، خصوصًا إذا ¬

(¬1) في بعض الروايات لهذا الأثر: «بيني وبين ابن عمٍّ لي». وهي عند البخاري وغيره. (¬2) أخرجه البخاري في مواضع، منها الحديث برقم: (2523). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب ما يُكره من الحلف في البيع، رقم الحديث: (1982).

كانت الآية مكية، وحُكِي لها سبب نزول مدنيٍّ، فقد تكون نزلت أول مرة عامَّة، ثمَّ نزلت مرة أخرى لسبب معيَّنٍ؛ كقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10]. فقد ورد أن الشاهد هو عبد الله بن سلام، وسورة الأحقاف مكية، وفي مثل هذا المثال تقع الاحتمالات الآتية: 1 - أن تكون نزلت مرة عامةً، ثمَّ نزلت مرة أخرى خاصَّة لبيان دخول ابن سلام فيها، وهذا الاحتمال العقلي مجرد افتراض يحتاج إلى أثر يؤكده، وذلك ما لا وجود له. 2 - أن تكون الآية مدنيةً، وتكون نزلت بالفعل في عبد الله بن سلام، لكنها وُضِعت في سورة مكيَّةٍ لشيءٍ من مناسبتها بموضوع الآيات المكية. وهذا الاحتمال أقرب إلى القبول من الاحتمال الأول، وله في ذاته شواهد، وهو وضع آيات مدنية في سور مكية. 3 - أن تكون الآية مكية، ولم يقع حكمها إلا في المدينة، وهذا احتمال عقليٌّ آخر، لكن هذا التخريج يخرج بالآية عن أن تكون في باب أسباب النُّزول؛ لأنَّ أسباب النُّزول تقع قبل الآية لا بعدها. 4 - أن يكون الرسول صلّى الله عليه وسلّم قرأها، فحسب من رواها أنها نزلت بشأن ذلك السبب، والفرق بين ذلك وسابقه أن الاحتمال السابق يقول بأن الشاهد المراد بالآية عبد الله بن سلام، ولم يتبين ذلك إلا بعد وقوع حادثته. أما في الرابع فتكون الآية عامَّة، وتكون قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم لها بعد حادث عبد الله بن سلام استشهادًا منه لصورة من الصور التي تدخل في عموم الآية.

أما كون بعض الآيات تنْزل في مكة لحدثٍ يقع في المدينة، فقد ورد ذلك، ومن أمثلته: في قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]، ورد عن عمر ما يدل على أنها آية مكية، وهي في سورة مكية. قال الطبري: «حدثنا ابن عبد الأعلى قال: ثنا ابن ثور عن معمر عن أيوب قال: لا أعلمه إلا عن عكرمة أن عمر قال لما نزلت: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} [القمر: 45] جعلت أقول: أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يثب في الدرع ويقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر» (¬1). ثم أورد رواية عن ابن عباس تفيد أنها نزلت بعد بدر، قال: «حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا داود، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]، قال: كان ذلك يوم بدر، قال: قالوا: نحن جميع منتصر. قال: فنَزلت هذه الآية» (¬2). وظاهرٌ هنا أن رواية عمر هي المقدَّمة، والرواية الثانية إن صحَّت عن ابن عباس، فلعله توهَّم أنها سبب النُّزول لِمَا سَمِعَ من أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآيات. ولا يقال: إن الصحابة كانوا يعلمون القرآن ونزوله، فإن علمهم بجميعه من حيث جملتهم كائنٌ، لكن ليس كلهم يعلم عن نزوله وأحواله، ¬

(¬1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (27:108). (¬2) تفسير الطبري، ط: هجر (22:158)، وفيه سقط في المطبوعات من تفسير الطبري، كما نبَّه عليه المحققون في طبعة هجر، وهذا السند غريب؛ لأنه من رواية علي بن أبي طلحة من غير سنده المشهور.

بل من كان منهم مختصًّا به قليل؛ كعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، حيث ورد عنهما النص بعلمهما الخاص بذلك. وقد ختم كلامه عن هذين النوعين بقوله: «وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير: تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه، كالتمثيلات هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف». وهذا الذي قاله شيخ الإسلام دالٌّ على تمام استقراء لتفسير السلف، وهذا لا يخالف ما سيذكره من وجود نوعين آخرين، وهما كثيران أيضًا. ومن قرأ في تفسير السلف يظهر له كثرة اختلاف التنوع الذي يعود إلى التمثيل للعام. كما أن الاختلاف الذي يعود إلى أمرين ـ الذين سيأتي الحديث عنهما ـ فيه تداخل مع النوع الأول، وسيأتي التنبيه عليه لاحقًا، إن شاء الله.

نوعان آخران من اختلاف التنوع

نوعان آخران من اختلاف التنوع بعد حديثه عن أسباب النُّزول ذكر نوعين من الاختلاف: النوع الأول: ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين: إما لكونه مشتركًا في اللفظ، وإما لكونه متواطئًا. أولاً: المشترك اللغوي: المشترك في اللفظ هو المشترك اللغوي (¬1)، وهو ما اتَّحد لفظه واختلف معناه؛ كالعين تطلق على العين الباصرة وعلى عين الماء. ومثَّل للمشترك في اللغة بلفظِ قسورة من قوله تعالى: {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 51]، ولفظ عسعس من قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17]. فلفظ قسورة قد فُسِّر بأنه الأسد، ورد ذلك عن أبي هريرة (ت:59)، وابن عباس (ت:68) (¬2)، وزيد بن أسلم (ت:136)، وابنه عبد الرحمن (ت:182). ¬

(¬1) يمكن الاستفادة في موضوع المشترك اللغوي في ألفاظ القرآن من الكتب الآتية: 1 - التضاد في القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق، وقد سبق ذكره، والتضاد نوع من المشترك اللغوي. 2 - الاشتراك اللفظي في القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق، لمحمد نور الدين المنجد، نشر دار الفكر المعاصر. 3 - المشترك اللفظي في الحقل القرآني، للدكتور عبد العال سالم مكرم، نشر دار الرسالة. 4 - المشترك اللفظي في ضوء غريب القرآن، للدكتور عبد العال سالم مكرم، مطبوعات جامعة الكويت. (¬2) من طريق يوسف بن مهران، وعلي بن أبي طلحة.

ثانيا: المتواطئ

وفسِّر بأنهم رجال القنص، وعبَّر عنه شيخ الإسلام بالرامي، وقد ورد هذا التفسير عن ابن عباس (ت:68) (¬1)، وسعيد بن جبير (ت:94)، وورد غير ذلك في التفسير (¬2). وإذا تأمَّلت هذين القولين وجدتهما يرجعان إلى ذاتين متغايرتين، لا إلى ذات واحدة، فالقسورة بمعنى الأسد مخالفٌ في اللفظ والوصف للقسورة بمعنى رجال القنص؛ أي: الرماة. وأما تفسير لفظ عسعس من قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17]، فقد قيل فيه: عسعس: أدبر، ورد ذلك عن علي بن أبي طالب (ت:40)، وابن عباس (ت:68)، والضحاك (ت:105)، وقتادة (ت:117)، وابن زيد (ت:182). وقيل: عسعس: أقبل، ورد ذلك عن مجاهد (ت:104)، والحسن (ت:110)، وعطية العوفي (ت:111) (¬3). وهذا يجوز أن يرجع إلى ذات واحدةٍ، وهي الليل، لكن يختلف الوصف فيها، بسبب كون الحرف من أحرف التضاد في اللغة، فيكون الإقسام بإدبار الليل وإقباله، وهما جهتان متغايرتان في الوصف. ثانيًا: المتواطئ: المتواطئ مصطلح منطقي، وهو نسبة وجود معنى كلي في أفراده وجودًا متوافقًا غير متفاوت؛ كالإنسانية لزيد وعمرو، فهي تدلُّ على أعيان متعددة بمعنى واحد مشترك بينها، وهي متساوية فيه. ومثَّل للمتواطئ بنوعين: ¬

(¬1) من طريق عطية العوفي. (¬2) ينظر في تخريج هذه الروايات، والتفسيرات الأخرى: تفسير الطبري، ط: هجر (23:455 ـ 460). (¬3) ينظر في تخريج هذه الأقوال: تفسير الطبري، ط: هجر (24:159 ـ 161).

النوع الأول من المتواطئ

النوع الأول من المتواطئ: الضمير الذي يحتمل رجوعه إلى أكثر من ذات، وذلك في مثل قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 8 ـ 9]. وقد ورد في تفسير الضمير قولان: الأول: أنه يرجع إلى الربِّ سبحانه، قال ابن عباس (ت:68): «دنا ربه فتدلَّى» (¬1). الثاني: أنه يرجع إلى جبريل عليه السلام، وهو قول الجمهور، منهم: الحسن (ت:110)، وقتادة (ت:117) والربيع (ت:139)، والمعنى: دنا جبريل وتدلَّى (¬2). والنسبة إلى الضمير لا تختلف من ذات إلى ذات، فإذا قلت: هو محمد، وهو أحمد، وهو بكر، لا تختلف دلالة الضمير في ذاتها بسبب اختلاف هذه الذوات، فكلها تشترك اشتراكًا متساويًا في دلالة الضمير عليها، والله أعلم. والآيات التي وقع فيها الاختلاف بسبب مفسر الضمير كثيرة، منها ما ورد في تفسير قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 9]. وقوله تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ *وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات: 6 ـ 7]. ¬

(¬1) نسبة هذا القول مشهورة لابن عباس، وقد أورد الطبري رواية من روايات المعراج عن أنس بن مالك، وفيها: «ودنا الجبار رب العزة، فتدلى، حتى كان قاب قوسين أو أدنى». ومن باب الفائدة، فإن الطبري اختار القول بأن المتدلي جبريل، مع أن القول الآخر فيه صحابيان، وهذا القول لما كان محتملاً بالاجتهاد، لم يقدم قول الصحابي، وهذا محل بحثٍ. (¬2) ينظر في تخريج هذه الأقوال، تفسير الطبري، ط: هجر (22:14 ـ 15).

النوع الثاني من المتواطئ

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ} [الانشقاق: 6]. وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. وغيرها كثير. النوع الثاني من المتواطئ: الأوصاف التي حُذِفَ موصوفها؛ كقوله تعالى: {وَالْفَجْرِ *وَلَيَالٍ عَشْرٍ *وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 1 ـ 3]. وقد ورد عن السلف أقوال في الفجر، منها ما أورده السيوطي في الدر المنثور: الفجر: أول الغداة؛ أي: الصبح، وقد ورد عن ابن عباس (ت:68)، وعكرمة (ت:105). الفجر: فجر يوم مزدلفة، وقد ورد عن عكرمة (ت:105). الفجر: فجر يوم النحر، وقد ورد عن مجاهد (ت:104). الفجر: فجر أول المحرم من السنة، وقد ورد عن ابن عباس (ت:68). وقد ورد غير ذلك من الأقوال، وهذه الأقوال التي ذكرت، وإن اختلفت في تحديد الفجر، فإنَّ نسبتها إلى مسمى الفجر واحدة لا تختلف، ففجر أول يوم من السنة، أو فجر يوم مزدلفة، أو فجر يوم النحر، أو كل فجر لا تختلف في فجريتها عن بعضها البعض. وكذا ما ورد من الأقوال في تفسير (الشفع والوتر)، فكل الأقوال التي ذكروها لا تختلف في نسبتها إلى الشفعية أو الوترية، فالصلوات مثلاً: منها شفع ومنها وتر، والخلق شفع، والرب وتر، ويوم عرفة وتر ويوم النحر شفع، وهكذا غيرها من الأقوال، فنسبتها إلى ما ذكرتُ لا تختلف، وهذا هو معنى المتواطئ.

ويدخل في هذا كثير من الأوصاف التي لم يُذكر لها موصوف، فوقع الاختلاف في تحديده بسبب عدمِ ذكرِه، واحتمالِ الوصف لأكثر من واحد، كلفظ النازعات وما بعدها، ولفظ الخنّس وما بعدها، وغيرها. ثُمَّ نبَّه على نتيجة هذا الاحتمال في التفسيرات الواردة عن السلف، وجعل هذه الاحتمالات لا تخرج عن أمرين: الأول: أنَّ مثل هذه الاحتمالات قد لا يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالتها السلف، بل يكون المراد أحدها. وهذا يعني أن تحديد أحد هذه المحتملات يحتاج إلى ترجيح، والترجيح يحتاج إلى علمٍ بطرق الترجيح وقواعده (¬1)، وهو علم مستقل من علم أصول التفسير. الثاني: أن مثل هذه الاحتمالات قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالتها السلف، وذكر لذلك عللاً: الأولى: إما لكون الآية نزلت مرتين فأريد بها هذا تارة وهذا تارة. وقد سبقت الإشارة إلى مسألة نزول الآية مرتين، وأنها لا دليل من الآثار عليها سوى الاحتمال العقلي. الثانية: وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه؛ إذ قد جَوَّز ذلك أكثر الفقهاء المالكية والشافعية والحنبلية وكثير من أهل الكلام. الثالثة: وإما لكون اللفظ متواطئًا، فيكون عامًا إذا لم يكن لتخصيصه موجب. أقول: وأكثر ما يقع موجب التخصيص في تنازع الضمير، والأمثلة التي ¬

(¬1) ينظر في: قواعد الترجيح ما كتب الشيخ الدكتور حسين الحربي في كتابه: (قواعد الترجيح عند المفسرين).

سبق ذكرها تدلُّ على أن المرادَ أحد هذه الأقوال المذكورة، كالاختلاف الوارد في الذي دنا في قوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8]. ثمَّ قال: «فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني». أقول: وفي عود هذه العبارة احتمالان: الأول: تحتمل أن تعود إلى المشترك والمتواطئ الذي ساق الحديث عنه من أول قوله: «ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملاً لأمرين ...»، ولا يكون ذلك إلاَّ بالنظر إلى تعميم الوصف في المشترك والمتواطئ، دون النظر إلى ما يترجح منها. ومثال المشترك اللغوي، ما وقع من الخلاف في تفسير قوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6]. فقد قيل فيه أقوالٌ: الأول: المسجور، الموقد المحميُّ، وهو قول عليٍّ (ت:40) وشِمْرُ بن عطية، ومجاهد (ت:104)، وابن زيد (ت:182). الثاني: المسجور: المملوء، وهو قول قتادة (ت:117). الثالث: المسجور: الذي ذهب ماؤه، حكاه الطبري (ت:310) عن ابن عباس (ت:68) من طريق عطية العوفي (ت:111). الرابع: المسجور: المحبوس، وهو قول ابن عباس (ت:68) من طريق علي بن أبي طلحة (ت:143) (¬1). فإذا نظرت إلى صحة إطلاق هذا اللفظ (السَّجر) على هذه المعاني (المختلفة) جعلته من هذا الباب شبيهًا بالعام الذي له أفراد، فهذا لفظٌ مشتركٌ له أكثر من معنى، وذاك لفظٌ عامٌ له أكثر من فردٍ. الثاني: تحتمل أن تعود إلى المتواطئ دون المشترك؛ لأنه قال: «وإما ¬

(¬1) ينظر في أقوالهم: تفسير الطبري، ط: هجر (21:567 ـ 569).

لكون اللفظ متواطئًا، فيكون عامًا إذا لم يكن لتخصيصه موجب، فهذا النوع إذا صحَّ فيه القولان كان من الصنف الثاني». ويكون بالنظر إلى تعميم اللفظ المتواطئ على محتملاته، دون النظرِ إلى صحة احتمال الآيةِ لما قيل فيها من هذه الأقوال. ويصحُّ ذلك بلا إشكالٍ في المتواطئ الذي هو من قبيل الأوصاف التي حذف موصوفها؛ كالفجر والشفع والوتر والمرسلات والنازعات وغيرها، فكل الخلاف الوارد على هذه الشاكلة من الألفاظ يجوز أن يقال فيها بتعميم الوصف، فيدخل فيها كل موصوف مناسبٍ لها، ومثال ذلك ما ورد في تفسير النازعات، فقد أورد الطبري فيها أقوالاً وهي: 1 - الملائكة التي تجذب روح الكافر من أقاصي بدنه، ورد ذلك عن ابن مسعود (ت:32)، وابن عباس (ت:68)، ومسروق (ت: نحو 63)، وسعيد بن جبير (ت:95). 2 - الموت ينْزع النفوس، وهو قول مجاهد (ت:104). 3 - النجوم تنْزع من أفق إلى أفق، وهو قول الحسن (ت:110)، وقتادة (ت:117). 4 - القسي تنْزع بالسهم، وهو قول عطاء (ت:114). 5 - النفس حين تنْزع، وهو قول السدي (ت:128). ثمَّ قال: «والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالنازعات غرقًا، ولم يخصص نازعة دون نازعة، فكل نازعة غرقًا فداخلة في قَسَمِه، مَلَكًا كان أو موتًا، أو نجمًا، أو قوسًا، أو غيرَ ذلك، والمعنى: والنازعات إغراقًا كما يغرق النازع في القوس» (¬1). ¬

(¬1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (30:28).

النوع الثاني من الاختلاف الموجود عنهم ويجعله بعض الناس اختلافا: أن يعبروا عن المعنى بألفاظ متقاربة

وأما المتواطئ الذي من قبيل مفسر الضمير، ففي احتمال مشابهتهِ اللفظَ العامَّ إشكالٌ؛ لأن الضمير ـ في كثير من الأحيان ـ يراد به ذاتٌ واحدة لا غير، ففي قوله: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24] المنادي إما جبريل، وإما عيسى، ولا يُتصوَّر جواز إرادتهما معًا حتى يقال بمشابهته للعموم. تنبيه: يلاحظ أنَّ الاختلاف العائد إلى المشترك اللغوي، وإلى المتواطئ الذي هو من قبيل الأوصاف فيه شبه بالنوع الأول الذي يعود إلى تنوع الأسماء والصفات، فالتغاير بين الأقوال هو الجامع بينهما، واحتمال عودهما إلى ذات واحدة حاصل بطريق التأويل، وإليك المثال الموضح لذلك: في تفسير الصراط المستقيم بالإسلام أو القرآن هناك تغاير في الأوصاف بين الإسلام والقرآن، واتفاق في عودها إلى مراد واحد وهو الصراط المستقيم. وكذا في النازعات، ففي تفسيره بالملائكة أو النجوم تغاير، وهما يعودان إلى معنى واحد وهو النَّزعُ، فإذا ذهبت إلى هذا التأويل ظهر لك أنَّ هذا الاختلاف الذي يعود إلى ما يكون اللفظ فيه محتملاً للأمرين من باب التفصيل في النوعين الأولين. النوع الثاني من الاختلاف الموجود عنهم ويجعله بعض الناس اختلافًا: أن يُعبِّروا عن المعنى بألفاظ متقاربة: ومن الأمثلة التي ذكرها تفسير لفظ «تبسل» من قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} [الأنعام: 70].

وقد أورد فيها معنيين: تحبس، وترتهن. وهذان اللفظان متقاربان في المعنى، وإن كان لكل واحدٍ منهما معناه الخاصُّ به، وتفسير لفظ تبسل بهما من باب تقريب المعنى فحسب. قال ابن عطية (ت:542): «ومعناه: تُسْلَم، قاله الحسن وعكرمة، وقال قتادة: تُحبس وتُرتهن، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: تُفضح، وقال الكلبي وابن زيد: تجزى. وهذه كلها متقاربة المعنى ...» (¬1). ومن أمثلة التعبير عن المعنى بألفاظ متقاربة ما يأتي: 1 - ورد في تفسير لفظ اتسق من قوله تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق: 18] عدة أقوال: الأول: إذا استوى، ورد ذلك عن ابن عباسٍ (ت:68) (¬2)، وسعيد بن جبير (ت:94)، ومجاهد (ت:104)، وعكرمة (ت:105)، والضحاك (ت:105)، وقتادة (ت:117). الثاني: إذا اجتمع وامتلأ، عن الحسن (ت:110). الثالث: لثلاث عشرة ـ أي: صار مستديرًا ـ عن سعيد بن جبير (ت:94)، ومجاهد (ت:104). الرابع: إذا استدار، عن قتادة (ت:117). وهذه الأقوال متقاربة المعنى، فاستوى واجتمع واستدار وامتلأ كلها تعبير عن صيرورة القمر بدرًا، وهي التي تبدأ بليلة الثالث عشر كما ذكر مجاهد في تفسيره. ¬

(¬1) المحرر الوجيز، ط: قطر (5:238). (¬2) من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وزاد العوفي عبارة «اجتمع».

ولعلك تلاحظ ورود أكثر من عبارة عن المفسر الواحد، وما ذاك إلا لأنه ليس هناك اختلافٌ حقيقيٌ، وإنما هو اختلاف عبارة. 2 - ورد في تفسير قوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 59] قولان متقاربان: الأول: الذَّنوب، الدَّلو، وقد ورد عن ابن عباس (ت:68)، والحسن البصري (ت:110). الثاني: الذَّنوب: السَّجْلُ، وقد ورد عن سعيد بن جبير (ت:94)، ومجاهد (ت:104)، وقتادة (ت:117). هذا وستأتي إشارة شيخ الإسلام إلى التعبير عن التفسير عند السلف عند حديثه عن الطريق الرابع من طرق التفسير، وهو التفسير بأقوال التابعين وسأذكر هناك طرفًا من تخريجه لعباراتهم. 3 - قوله تعالى: {ثُمَّ يَاتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَاكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف: 48]. قال الطبري: «{إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ}، يقول: إلا يسيرًا مما تحرزونه. والإحصان: التَّصْيِير في الحِصْنِ، وإنما المراد منه الإحراز»، ثم أورد الرواية عن السلف كالآتي: ـ قتادة (ت:117): ما تدخرون. ـ ابن عباس (ت:68): تخزنون، وفي رواية أخرى: تُحرزون. ـ السدي (ت:128): ترفعون. ثمَّ قال ـ معقِّبًا ـ: «وهذه الأقوال في قوله: {تُحْصِنُونَ}، وإن اختلفت ألفاظ قائليها فيه، فإن معانيها متقاربة، وأصل الكلمة وتأويلها على ما بيَّنتُ» (¬1). ¬

(¬1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (12:231)، وينظر في هذه الطبعة (4:54، 56)، (6:64)، (10:28)، (12:24)، (13:50، 61).

مسائل علمية في هذا الفصل

مسائل علمية في هذا الفصل أورد شيخ الإسلام عددًا من المسائل في نهاية هذا الفصل، وهي: 1 - الألفاظ المترادفة. 2 - التضمين. 3 - فائدة جمع أقوال السلف. 4 - وقوع الاختلاف المحقق في تفسير السلف. 5 - أسباب الاختلاف. وسأذكر هذه المسائل على قدر ما عرضها به الشيخ رحمه الله. أولاً: الألفاظ المترادفة: إن مسألة وجود الترادف بين الألفاظ من أصول مسائل فقه اللغة، وقد كتب فيما يتعلق بها من جهة اللغة ومن جهة تطبيقاتها على ألفاظ القرآن جمع من الباحثين (¬1)، وهي من المباحث التي حظيت بدراسة وافرة من قِبَل علماءِ اللغة والأصول، وقد طرح شيخ الإسلام ـ في هذا الموضِع ـ رأيه في ¬

(¬1) ينظر على سبيل المثال: الفروق اللغوية، وأثرها في التفسير، للأستاذ الدكتور محمد الشايع، ويمكن الاستفادة في باب الفروق بين الألفاظ من الكتب الآتية: مقاييس اللغة لابن فارس، والفروق في اللغة لأبي هلال العسكري، ومفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، وبصائر ذوي التمييز للفيروزآبادي، ويلاحظ أنه اعتمد في بيان معاني الألفاظ على كتاب الراغب الأصفهاني.

الترادف بوضوح، وذهب إلى أنه قليل في اللغة، وأمَّا في القرآن فنادرٌ أو معدومٌ. ويلاحظ أنَّ شيخ الإسلام قد طرح مصطلح الترادف في النوع الأول من أنواع الاختلاف في تفسير السلف، حيث قال: «... بمنْزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة، كما قيل في اسم السيف: الصارم والمهند ...»، ولا يلزم من كلامه هذا أنه يرى الترادف؛ لأنه يريد تقرير الأسماء المتكافئة، وأنها بين المترادفة ـ على من يقول بالترادف ـ والمتباينة، والله أعلم. ويقابل القولَ بالترادف القولُ بوجود فروقٍ بين الألفاظ المشتركة في الدلالة على ذاتٍ واحدة أو معنى واحدٍ من المعاني. والذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنه لا بدَّ من وجود فروقٍ بين الألفاظ، وأنَّ عدم معرفة الفرق لا يعني عدم وجوده، وطريق معرفة الفروق مبثوثة في كتب العلماء، وليس هذا محلُّ طرحها. والقول بالفروق اللغوية يعني الاشتراك في معنى عامٍ بين اللفظين، ثمَّ يمتاز أحدهما، أو كلاهما بفرق عن الآخر، ولعل بعض من ذهب إلى الترادف ذهب إلى وجود المعنى العام بين اللفظين فحكم به، وليس يعني بترادفهما الاتفاق التام في المعنى. وطَرْحُ شيخ الإسلام لهذه المسألة بإيجاز أراد به الانطلاق إلى أنَّ تفسير لفظة بلفظة لا يعني أنها مطابقة لها بتمام معناها، بل لا بد من وجود فرقٍ بين اللفظ المفسَّرِ واللفظ المفسِّر، وأن عملية التفسير هذه إنما هي من باب تقريب المعنى لا تحقيقه. ولهذا قد يُفسَّر اللفظ بجزءٍ من معناه، أو بلازم من لوازمه، أو بما هو أعمُّ منه، أو بما يقاربه، وكلُّ ذلك لأجل تقريب المعنى لا تحقيقه.

ثانيا: التضمين

ومن الأمثلة التي طرحها: تفسير لفظ أوحينا، قال: «وكذلك إذا قال: الوحي: الإعلام، أو قيل: {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}: أنزلنا إليك». أما تفسيره بالإعلام، فهو تفسير بجزءٍ من المعنى، لذا قال بعد ذلك: «... فهذا كله تقريب لا تحقيق، فإن الوحي هو إعلام سريع خفي ...». ومن ثَمَّ، فكل وحيٍ إعلامٌ، وليس كل إعلامٍ وحيًا، ويجمعه مع الإعلام معنى الإعلام العام، ثمَّ ينفرد الوحي بمدلولات جزئية لا تنطبق على مجرد الإعلام. وأما تفسيره بالإنزال، فهو من باب التفسير باللازم، وهو لازم للوحي بالقرآن فقط، وليس لازمًا للفظ الوحي من حيث المدلول اللغوي، إذ ليس كل وحي يلزم منه الإنزال، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، فهذا الوحي لا يلزم منه الإنزال. والنتيجة من هذا تقرير أن تفسير المعنى بألفاظ متقاربة، ليس من باب المطابقة بين معنى اللفظين، وإنما هو من جهة تقريب معنى اللفظ المفسَّر. ثانيًا: التضمين: التضمين يأتي في الفعل والشبيه في الفعل، وهو أن يُقصدَ بلفظ معناها الحقيقي، ويلاحظ معه معنى آخر يناسبه، ويدل على هذا المعنى الآخر حرف الجرِّ المذكور مع اللفظ الأول (¬1). ¬

(¬1) يمكن الاستفادة في موضوع التضمين من الآتي: 1 - تناوب حروف الجر في لغة القرآن الكريم، لمحمود حسن عواد، دار الفرقان للنشر والتوزيع الأردن. 2 - مسالك القول في النقد اللغوي، لصلاح الدين الزعبلاوي. =

وهذا يعني أنَّ اللفظ المذكور لا يناسبه حرف الجرِّ المذكور معه، ويكون حرف الجرِّ قد دلَّ على معنى يناسبه، ويكون أيضًا مناسبًا للَّفظِ المذكور، وفيه معنى زائد عليه، فلا يُضمَّن اللفظ ما هو في معناه، كلفظ (استند) لا يُضمَّن معنى (اعتمد). وهذا المبحث من البحوث الصالحة للدراسة في ألفاظ القرآن الكريم، لكثرة التطبيقات الموجودة فيه، فكل حرف قيل فيه بأنه يعاقب حرفًا في معناه، فهو داخل في التضمين. وقد طرح شيخ الإسلام (ت:728) عددًا من الأمثلة، وهي: 1 - قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24]، فسأل يتعدى بنفسه، فيقال: سأله كذا، ويتعدَّى بعن، فيقال سأله عن كذا، ولا يتعدى بإلى. فلما جاء في الآية متعديًا بإلى دلَّ على أنَّ فعل سأل قد أُشرِب معنى فعل آخر معه، وهو ضمَّ أو جمع، ويكون التقدير: لقد ظلمك بسؤاله أن تضمَّ نعجتك إلى نعاجه، فالسؤال ضُمِّن معنى الضمِّ أو الجمع. 2 - قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52]، وقد ذكر فيه تأويل من يقول بتعاقب الحروف، ويكون المعنى عنده من أنصاري مع الله، أما على التضمين، فيُقدَّر لفظ الضمِّ، ويكون تقدير المعنى على التضمين: من ضامُّون نصرهم إياي إلى نصر الله إياه، أفاد هذا المعنى الطاهر بن عاشور (¬1). 3 - الفعل «يفتنونك» في قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء: 73]، ¬

= 3 - التضمين في العربية؛ بحث في البلاغة والنحو، أد. أحمد حسن حامد. (¬1) التحرير والتنوير (3:255).

وجعله مضمنًا معنى يصدونك أو يزيغونك، ويكون التقدير: وإن كادوا ليفتنونك فيصدونك عن الذي أوحينا إليك، أو فيزيغونك عن الذي أوحينا إليك (¬1). 4 - الفعل «نصرناه في قوله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: 77]، وجعله مضمَّنًا معنى نجيناه وخلَّصناه، ويكون التقدير: ونصرناه، فنجيناه وخلصناه من القوم الذي كذبوا بآياتنا (¬2). 5 - الفعل «يشرب» في قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6]، وقد ضمَّنه معنى يروى بها، والتقدير: عينًا يشرب فيروى بها عباد الله. والقول بالتضمين أعرق في البلاغة من القول بتعاقب الحروف؛ لأنه يبقى سؤالٌ لمن يقول بتعاقب الحروف، وهو أنَّ المتكلِّمَ ما ترك المعنى الظاهر إلى هذا المعنى إلا لسبب، خصوصًا إذا عُلِمَ أنَّ النص يستقيم بالحرف الذي يُزعم فيه التعاقب، فلو قيل: لقد ظلمك بسؤال نعجتك مع نعاجه، لاستقام الكلام، ولما كان في المعنى أيُّ مشكلٍ، لكن لما تُركَ هذا الظاهر واختير حرف آخر لا يتناسب مع الفعل أو شبيهه، فإن ذلك قد دلَّ على إرادة معنى يحتاج إلى تحرير وتنقيب، وهو ما ذهب إليه من قال بالتضمين. ¬

(¬1) قال الطاهر ابن عاشور: «وعُدِّي «يفتنونك» بحرف عن لتضمينه معنى فعل كان الفَتْنُ من أجله، وهو ما في معنى يصرفونك». التحرير والتنوير (15:171). (¬2) قال الطاهر ابن عاشور: «وعُدِّي «نصرناه» بحرف من لتضمينه معنى المنع والحماية، كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ مِنَّا لاَ تُنْصَرُونَ} [المؤمنون: 65]، وهو أبلغ من تعديته بعلى؛ لأنه يدل على نصر قوي تحصل به المنعة والحماية فلا يناله العدو بشيء، وأما نصره عليه فلا يدلُّ إلا على المدافعة والمعونة» التحرير والتنوير (17:113).

ثالثا: فائدة جمع أقوال السلف

ثالثًا: فائدة جمع أقوال السلف: قال شيخ الإسلام (ت:728) في هذه المسألة: «وجمع عبارات السلف في مثل هذا نافع جدًّا، فإن مجموع عباراتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين». وهذه الفائدة جاءت نتيجة لتنبيهه على أنَّ التفسير الذي يرد عن السلف قد يكون تفسيرًا بجزء من المعنى، فيذكر كل واحدٍ منهم جزءًا منه، وبجمع عباراتهم يُدرك معنى اللفظ، ويظهر المراد منه بتمامه. وقد ضرب أمثلة لذلك: الأول: تفسير الريب بالشك، وهو جزءٌ من مسمى الريب، والتفسير به لتقريب المعنى لا لتحقيقه بمطابقه، إذ في الريب معنى زائد عن الشكِّ، وهو الاضطراب والحركة. الثاني: تفسير ذلك الكتاب بهذا القرآن، والتفسير باسم الإشارة الدالِّ على القرب والحضور غير معنى البعد والغيبة، لكن المشار إليه واحد. وكذا تفسير الكتاب بالقرآن، وإن أفاد أنه مقروءٌ، وأنه هذا الكتاب إلا أنَّ التفسير به لا يدلُّ على معنى الكتابة التي في لفظ الكتاب، فكان التفسير به من هذه الجهة تقريب للمعنى، وليس تفسيرًا له بمطابق معناه. ثمَّ قال عبارته هذه بعد ذلك، وهي: «وجمع عبارات السلف في مثل هذا نافع جدًّا، فإن مجموع عباراتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين». ولو عمَّم ـ رحمه الله ـ قاعدته هذه لكان صوابًا أيضًا، وذلك أنَّ جمع عبارات السلف في معنى الآية أدلُّ على المقصود، وهذه قاعدة تشمل بيان الألفاظ وبيان المعاني عمومًا، والله الموفق.

رابعا: وقوع الاختلاف المحقق في تفسير السلف

رابعًا: وقوع الاختلاف المحقق في تفسير السلف: أشار شيخ الإسلام (ت:728) في أول هذا الفصل إلى هذه المسألة بقوله: «الخلاف في التفسير قليلٌ ... وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد». وقال في آخر هذا الفصل بعد تحريره لاختلاف التنوع: «ومع هذا، فلا بدَّ من اختلاف محقق بينهم، كما يوجد مثل ذلك في الأحكام». ثمَّ ضرب أمثلة لذلك من أحكام الفرائض. ولم يذكر ـ رحمه الله تعالى ـ أمثلة للاختلاف المحقق بينهم في التفسير، وضابط هذا الاختلاف أنه الذي لا يمكن معه حمل الآية على المعنيين معًا، ولا على أنهما وجهان منفصلان من التفسير، وهذا لا يكون إلا إذا تعيَّن أحد المعنيين المختلف فيهما، أما إذا لم يتعين، فإنه يجوز حمل الآية عليهما معًا، أو جعلهما وجهين متغايرين في معنى الآية، فكأنَّ الآية ـ على هذين التفسيرين ـ صارت بمثابة آيتين. وسأذكر لك أمثلة لهذه الأوجه التي ذكرتها: 1 - قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 237]، اختلف السلف في الذي بيده عقد النكاح على قولين: الأول: أنه ولي أمر المرأة، وقد قال به جماعة من السلف؛ منهم ابن عباس (ت:68)، وعلقمة (ت:62)، والأسود بن يزيد (ت:75)، والحسن (ت:110)، وإبراهيم النخعي (ت:96)، وعطاء (ت:114)، وأبو صالح، والزهري (ت:124)، والسدي (ت:128)، وزيد بن أسلم (ت:136)، وابنه عبد الرحمن (ت:182)، وربيعة الرأي (ت:136)، وعكرمة (ت:105).

وهو القول الأول لمجاهد (:104)، وطاوس (ت:106)، وشريح (ت: قبل 80)، ثمَّ رجعوا إلى أنَّ الذي بيده عقد النكاح هو الزوج. الثاني: أنه الزوج، وهو قول جماعة من السلف أيضًا، وقال به: علي بن أبي طالب (ت:40)، والشعبي (ت:103)، وجبير بن مطعم (ت:58)، ومحمد بن سيرين (ت:110)، وسعيد بن المسيب (ت: بعد 90)، وسعيد بن جبير (ت:95)، ومحمد بن كعب القرظي (ت:118)، والربيع بن أنس (ت:139)، والضحاك (ت:105)، وسفيان الثوري (ت:161)، وهو القول الأخير لمجاهد (ت:104)، وطاوس (ت:106)، وشريح (ت: قبل 80) (¬1). وهذان القولان لا يمكن القول بهما معًا، كما لا يمكن أن تجعل الآية بمثابة الآيتين، فيقال بهما على تغايرهما، فيكون يجوز أن يعفو هذا أو أن يعفو ذلك، بل لا بدَّ أن يكون المراد بالآية أحدهما، وهذا معنى اختلاف التَّضادِّ الذي يحتاج إلى بيان أي المعنيين هو الصحيح. 2 - في قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24]، اختلف مفسرو السلف في المنادي من هو على قولين: الأول: أنَّ المنادي جبريل عليه السلام، وهو قول ابن عباس (ت:68) وعمرو بن ميمون الأودي (ت:74)، والضحاك (ت:105)، وقتادة (ت:117)، والسدي (ت:128). الثاني: أن المنادي عيسى عليه السلام، وهو قول أُبَيِّ بن كعب (ت:30)، ومجاهد (ت:104)، والحسن (ت:110)، ووهب بن منبه (ت:114)، وسعيد بن جبير (ت:95)، وابن زيد (ت:182) (¬2). والمنادي هنا واحد، ولا يحتمل أن يكون ناداها الاثنان، ولا دلالة ¬

(¬1) ينظر في هذه الاختلافات: تفسير الطبري، ط: الحلبي (2:542 ـ 549). (¬2) تنظر أقوالهم في: تفسير الطبري، ط: الحلبي (16:67 ـ 68).

خامسا: أسباب الاختلاف

تدل على ذلك من قريب ولا من بعيد، لذا لا يحتمل المنادي إلا أحدهما. خامسًا: أسباب الاختلاف: ذكر الشيخ رحمه الله تعالى بعض أسباب الاختلاف، فقال: «والاختلاف قد يكون لخفاء الدليل، والذهول عنه، وقد يكون لعدم سماعه، وقد يكون للغلط في فهم النص، وقد يكون لاعتقاد معارض راجح ...». وقد فصَّل هذه الأسباب في رسالته المعروفة برفع الملام عن الأئمة الأعلام، وغالب هذه الأسباب في سبب الاختلاف في الأحكام الفقهية. أما موضوع أسباب اختلاف المفسرين، فموضوع آخر، وقد أشار إليه بإشارات عابرة في هذه الرسالة المباركة؛ كحديثه عن الاختلاف بسبب الاشتراك اللغوي، أو بسبب التواطؤ، وكذا ما سيذكره في الفصل الآتي من الاختلاف الذي مستنده النقل والذي مستنده الاستدلال. وموضوع أسباب الاختلاف ـ خصوصًا اختلاف السلف ـ جدير بالعناية، وهو أصل من أصول التفسير المفيدة والمهمة لمن أراد أن يتعلم التفسير (¬1). ¬

(¬1) ينظر في أسباب الاختلاف في التفسير: أسباب اختلاف المفسرين، للأستاذ الدكتور محمد الشايع، واختلاف المفسرين أسبابه وآثاره، للأستاذ الدكتور سعود الفنيسان، وفصول في أصول التفسير.

الاختلاف الواقع في كتب التفسير من جهة النقل ومن جهة الاستدلال

الاختلاف الواقع في كتب التفسير من جهة النقل ومن جهة الاستدلال

[المتن]: الاختلاف في التفسير يرجع إلى النقل أو الاستدلال

فصل (54) الاختلاف في التفسير على نوعين: منه ما مستنده النقل فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك؛ إذ العلم إما نقل مصدَّق، وإما استدلال محقَّق (¬1). (55) والمنقول؛ إما عن المعصوم، وإما عن غير المعصوم. والمقصود بأن جنس المنقول؛ سواء كان عن المعصوم أو غير المعصوم. وهذا هو الأول، فمنه ما يمكن معرفة الصحيح منه والضعيف، ومنه ما لا يمكن معرفة ذلك فيه. وهذا القسم الثاني من المنقول ـ وهو ما لا طريق لنا إلى الجزم بالصدق منه ـ عامَّتُه مما لا فائدة فيه، والكلام فيه من فضول الكلام. وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته، فإن الله نصب على الحق فيه دليلاً (¬2). (56) فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه: اختلافهم ¬

(¬1) قد أشار شيخ الإسلام إلى هذه المسألة في أول هذه الرسالة، ينظر (ص:17). (¬2) هذا يعني أن وجود الاختلاف بين المجتهدين لا يعني ضياع الحق الثابت من شرع الله، فالوصول إلى الحق مرهون بفهم الأدلة على وجهها الصحيح، وإن وقع خلاف ذلك كان الحق له غير مُحَالِف.

المبهم قد يكون منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم

في لون كلب أصحاب الكهف، وفي البعض الذي ضرب به موسى (¬1) من البقرة، وفي مقدار سفينة نوح، وما كان خشبها، وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر، ونحو ذلك. (57) فهذه الأمور طريق العلم بها النقل، فما كان من هذا منقولاً نقلاً صحيحًا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ كاسم صاحب موسى أنه الخضر ـ فهذا معلوم، وما لم يكن كذلك، بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب ـ كالمنقول عن كعب، ووهب، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم ممن يأخذ عن أهل الكتاب ـ فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة (¬2)، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه». (58) وكذلك ما نقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب، فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض (¬3)، وما نقل في ذلك عن بعض الصحابة نقلاً صحيحًا فالنفس إليه أسكن مما نقل عن بعض التابعين؛ لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقلُّ من نقل التابعين، ومع جزم الصاحب فيما يقوله؛ فكيف يقال: إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم؟! والمقصود أن مثل هذا الاختلاف الذي لا يعلم صحيحه، ¬

(¬1) في نسخة زمرلي: «ضُرب به قتيل موسى». (¬2) لاحظ هذه الفقرة، وانظر في حال بعض من يردُّ الإسرائيلية لأنها إسرائيلية، وإن لم يكن عنده حجة في تكذيبها. (¬3) ستأتي هذه المسألة عند حديثه عن تفاسير التابعين ضمن أحسن طرق التفسير (ص:259).

ما يحتاج إليه من المنقول موجود كثيرا

ولا تفيد حكاية الأقوال فيه = هو كالمعرفة لما يروى من الحديث الذي لا دليل على صحته، وأمثال ذلك. (59) وأما القسم الأول الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود فيما يحتاج إليه ولله الحمد، فكثيرًا ما يوجد في التفسير والحديث والمغازي أمور منقولة عن نبينا صلّى الله عليه وسلّم وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، والنقل الصحيح يدفع ذلك، بل هذا موجود فيما مستنده النقل، وفيما قد يعرف بأمور أخرى غير النقل (¬1). (60) فالمقصود أن المنقولات التي يُحتاج إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره، ومعلوم أن المنقول في التفسير أكثره كالمنقول في المغازي والملاحم، ولهذا قال الإمام أحمد: «ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير، والملاحم، والمغازي»، ويروى: «ليس لها أصل»؛ أي: إسناد؛ لأن الغالب عليها المراسيل، مثل ما يذكره عروة بن الزبير، والشعبي، والزهري، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق، ومن بعدهم؛ كيحيى بن سعيد الأموي، والوليد بن مسلم، والواقدي، ونحوهم في المغازي؛ فإن أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة، ثم أهل الشام، ثم أهل العراق، فأهل المدينة أعلم بها لأنها كانت عندهم، وأهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد فكان لهم من العلم بالجهاد والسِّيَرِ ما ليس لغيرهم، ولهذا عظَّمَ الناس كتاب أبي إسحاق الفزاري الذي صنفه في ذلك، وجعلوا الأوزاعي أعلم بهذا الباب من غيره من علماء الأمصار. (61) وأما التفسير، فإن أعلم الناس به أهل مكة؛ لأنهم ¬

(¬1) أشار شيخ الإسلام إلى الطرق التي يُعرف بها كذب المنقول في كتبه؛ منها منهاج السنة (7:437).

حكم المراسيل متعددة الطرق الخالية من المواطأة في التفسير وغيره

أصحاب ابن عباس؛ كمجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم من أصحاب ابن عباس؛ كطاووس، وأبي الشعثاء، وسعيد بن جبير وأمثالهم. (62) وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم (¬1)، وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه مالك التفسير، وأخذه عنه أيضًا ابنه عبد الرحمن، و (أخذه عن عبد الرحمن) (¬2) عبد الله بن وهب. (63) والمراسيل إذا تعدَّدت طُرُقها وخَلَتْ عن المواطأة قصدًا أو الاتفاق بغير قصد كانت صحيحة قطعًا، فإن النقل إما أن يكون صدقًا مطابقًا للخبر، وإما أن يكون كذبًا تعمد صاحبه الكذب، أو أخطأ فيه؛ فمتى سَلِمَ من الكذب العمد والخطأ كان صدقًا بلا ريب. (64) فإذا كان الحديث جاء من جهتين أو جهات، وقد عُلِمَ أن المخبرين لم يتواطؤوا على اختلاقه، وعُلِمَ أن مثل ذلك لا تقع الموافقة فيه اتفاقًا بلا قصد = عُلِمَ أنه صحيح، مثل شخص يُحَدِّث عن واقعة جَرَتْ، ويذكر تفاصيل ما فيها من الأقوال والأفعال، ويأتي شخص آخر قد عُلِمَ أنه لم يواطئ الأول، فيذكر مثل ما ذكره الأول من تفاصيل الأقوال والأفعال، فيُعلم قطعًا أن تلك الواقعة حق في الجملة، فإنه لو كان كل منهما كَذَبَها عمدًا أو خطأً؛ لم يتفق في العادة أن يأتي كل منهما بتلك التفاصيل التي ¬

(¬1) هذه العبارة غير واضحٍ المراد منها، وهي معترضة، وتحتمل أن تكون في أهل الكوفة، وأنهم تميَّزوا عن غيرهم. وهذا الغموض ـ إن صحَّ ـ يرجع إلى الإملاء وعدم المراجعة التي قد سبق التنبيه على وجود أشياء ترجع إليها. (¬2) ساقطة من نسخة عدنان.

اعتضاد الطرق بعضها ببعض وإن لم تكن قوية بمفردها

تمنع العادة اتفاق الاثنين عليها بلا مواطأة من أحدهما لصاحبه. (65) فإن الرجل قد يتفق أن ينظم بيتًا وينظم الآخر مثله، أو يكذب كذبة ويكذب الآخر مثلها، أما إذا أنشأ قصيدةً طويلةً ذات فنون على قافية ورَوِيٍّ فلم تَجْرِ العادة بأن غيره ينشئُ مثلها لفظًا ومعنى مع الطول المفرط، بل يُعلم بالعادة أنه أخذها منه، وكذلك إذا حَدَّثَ حديثًا طويلاً فيه فنون، وحَدَّث آخر بمثله، فإنه إما أن يكون واطأه عليه أو أخذه منه، أو يكون الحديث صدقًا. (66) وبهذه الطريق يُعلَم صدق عامة ما تتعدد جهاته المختلفة على هذا الوجه من المنقولات وإن لم يكن أحدها كافيًا؛ إما لإرساله، وإما لضعف ناقله، لكن مثل هذا لا تضبط به الألفاظ والدقائق التي لا تعلم بهذه الطريق، بل يحتاج ذلك إلى طريق يثبت بها مثل تلك الألفاظ والدقائق، ولهذا ثبتت غزوة بدر بالتواتر، وأنها قبل أُحد، بل يعلم قطعًا أن حمزة وعليًّا وعبيدة برزوا إلى عتبة وشيبة والوليد، وأن عليًّا قتل الوليد، وأن حمزة قتل قِرْنَه، ثم يُشَكُّ في قِرْنِهِ هل هو عتبة أو شيبة؟ (67) وهذا الأصل ينبغي أن يُعرف، فإنه أصلٌ نافعٌ في الجزم بكثير من المنقولات في الحديث والتفسير والمغازي وما ينقل من أقوال الناس وأفعالهم وغير ذلك (¬1). (68) ولهذا إذا رُوي الحديث الذي يتأتى فيه ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من وجهين، مع العلم بأن أحدهما لم يأخذه عن الآخر جُزم بأنه حق، لا سيما إذا عُلِمَ أن نقلَته ليسوا ممن يتعمد الكذب، وإنما ¬

(¬1) هذا الكلام يدخل في باب النقد التاريخي، وهو مهمٌّ جدًّا، ولعلماء الجرح والتعديل في هذا عناية فائقة يُستفاد منها في نقد كثيرٍ من المنقولات.

حفاظ الأمة من علماء السلف إنما يخاف عليهم الغلط أو النسيان

يُخاف على أحدهم النسيان والغلط، فإن من عَرَفَ الصحابة؛ كابن مسعود، وأُبيِّ بن كعب، وابن عمر، وجابر، وأبي سعيد، وأبي هريرة وغيرهم = عَلِمَ يقينًا أنَّ الواحد من هؤلاء لم يكن ممن يتعمد الكذبَ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فضلاً عمَّن هو فوقهم، كما يعلمُ الرجلُ من حالِ من جرَّبه وخَبَرَهُ خِبْرَةً باطنةً طويلةً أنه ليس ممن يسرق أموال الناس، ويقطعُ الطريق، ويشهد بالزُّور، ونحو ذلك. (69) وكذلك التابعون بالمدينة ومكة والشام والبصرة، فإن من عَرَفَ مثل أبي صالح السَّمان، والأعرج، وسليمان بن يسار، وزيد بن أسلم، وأمثالهم = عَلِمَ قطعًا أنهم لم يكونوا ممن يتعمد الكذب في الحديث، فضلاً عمن هو فوقهم، مثل محمد بن سيرين، أو القاسم بن محمد، أو سعيد بن المسيب، أو عَبِيدَة السَّلْمَاني، أو علقمة، أو الأسود، أو نحوهم (¬1). (70) وإنما يخاف على الواحد من الغلط؛ فإن الغلط والنسيان كثيرًا ما يعرض للإنسان. (71) ومن الحفاظ من قد عَرَفَ الناس بُعْدَه عن ذلك جدًا، كما عرفوا حال الشعبي والزهري وعروة وقتادة والثوري وأمثالهم، لا سيما الزهري في زمانه، والثوري في زمانه، فإنه قد يقول القائل: إن ابن شهاب الزهري لا يُعْرَفُ له غَلَطٌ مع كثرة حديثه، وسَعَةِ حفظه. ¬

(¬1) هذا الموضوع، وهو معرفة أحوال الرجال، ودراسة حياتهم = مما افتقدته بعض الدراسات الاستشراقية الحاقدة أو الاستغرابية المقلدة للاستشراق، فلم يقرءوا في تدوين السنة وأحوال رجالها، فتراهم يسخرون من الحديث النبوي، ويستغربون من طريقة حفظه، بل قد يهزءون، والعياذ بالله. أما هم، فيعتبرون أنفسهم أصحاب المنهج العلمي الصحيح الذي يجب أن تعرض عليهم تجارب الأمم ليصححوها أو يفنِّدوها، سبحانك ربي هذا بهتان عظيم.

الحديث الطويل المروي من وجهين مختلفين يمتنع أن يكون غلطا أو كذبا

(72) والمقصود أن الحديث الطويل إذا رُوِيَ ـ مثلاً من وجهين مختلفين، من غير مواطأة ـ امتنع عليه أن يكون غلطًا، كما امتنع أن يكون كذبًا، فإن الغلط لا يكون في قصة طويلة متنوعة، وإنما يكون في بعضها، فإذا رَوَى هذا قصةً طويلةً متنوعةً، ورواها الآخرُ مثلما رواها الأولُ من غير مواطأة = امتنع الغلطُ في جميعها، كما امتنع الكذب في جميعها من غير مواطأة. (73) ولهذا؛ إنما يقع ـ في مثل ذلك ـ غلطٌ في بعض ما جرى في القصة، مثل حديث اشتراء النبي صلّى الله عليه وسلّم البعير من جابر، فإن من تأمَّل طرقه عَلِمَ قطعًا أن الحديث صحيح، وإن كانوا قد اختلفوا في مقدار الثمن. وقد بَيَّن ذلك البخاري في صحيحه، فإن جمهور ما في البخاري ومسلم مما يقطع بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاله؛ لأن غالبه من هذا النحو؛ ولأنه قد تلقاه أهل العلم بالقبول والتصديق، والأمة لا تجتمع على خطأ؛ فلو كان الحديث كذبًا في نفس الأمر، والأمة مصدقة له قابلة له لكانوا قد أجمعوا على تصديق ما هو في نفس الأمر كذب، وهذا إجماع على الخطأ وذلك ممتنع، وإن كنا نحن بدون الإجماع نُجَوِّزُ الخطأ أو الكذب على الخبر، فهو كتجويزنا قبل أن نعلم الإجماع على العلم الذي ثبت بظاهر أو قياس ظني أن يكون الحق في الباطن بخلاف ما اعتقدناه، فإذا أجمعوا على الحكم جزمنا بأن الحكم ثابت باطنًا وظاهرًا. (74) ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقًا له أو عملاً به أنه يوجب العلم، وهذا هو الذي ذكره المصنِّفون في أصول الفقه، من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، إلا فرقة قليلة من المتأخرين

العبرة بإجماع أهل الحديث في قبول خبر الواحد

اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك، ولكن كثيرًا من أهل الكلام أو أكثرهم يوافقون الفقهاء وأهل الحديث والسلف على ذلك، وهو قول أكثر الأشعرية؛ كأبي إسحاق، وابن فورك، وأما ابن الباقلاني فهو الذي أنكر ذلك، وتبعه مثل أبي المعالي وأبي حامد وابن عقيل وابن الجوزي وابن الخطيب والآمدي ونحو هؤلاء، والأول هو الذي ذكره الشيخ أبو حامد وأبو الطيب وأبو إسحاق وأمثاله من أئمة الشافعية، وهو الذي ذكره القاضي عبد الوهاب وأمثاله من المالكية، وهو الذي ذكره أبو يعلى وأبو الخطاب وأبو الحسن ابن الزاغوني وأمثالهم من الحنبلية، وهو الذي ذكره شمس الدين السرخسي وأمثاله من الحنفية. (75) وإذا كان الإجماع على تصديق الخبر موجبًا للقطع به فالاعتبار في ذلك بإجماع أهل العلم بالحديث، كما أن الاعتبار في الإجماع على الأحكام بإجماع أهل العلم بالأمر والنهي والإباحة. (76) والمقصود هنا أن تعدد الطرق مع عدم التشاعر أو الاتفاق في العادة يوجب العلم بمضمون المنقول؛ لكن هذا يُنتفع به كثيرًا في علم أحوال الناقلين. وفي مثل هذا يُنتفع برواية المجهول والسيء الحفظ، وبالحديث المرسل، ونحو ذلك، ولهذا كان أهل العلم يكتبون مثل هذه الأحاديث، ويقولون: إنه يصلح للشواهد والاعتبار ما لا يصلح لغيره. قال أحمد: قد أكتب حديث الرجل لأعتبره، ومَثَّل هذا بعبد الله بن لهيعة قاضي مصر، فإنه كان من أكثر الناس حديثًا، ومن خيار الناس؛ لكن بسبب احتراق كتبه وقع في حديثه المتأخر غلط، فصار يُعْتَبَر بذلك ويُستشهد به، وكثيرًا ما يقترن هو والليث بن سعد، والليث حجة ثبت إمام.

علماء الحديث قد يضعفون حديث الثقة الصدوق لوقوعه في الغلط

(77) وكما أنهم يستشهدون ويعتبرون بحديث الذي فيه سوء حفظ فإنهم أيضًا يُضعِّفون من حديث الثقة الصدوق الضابط أشياء تبين لهم غلطه فيها بأمور يستدلون بها، ويسمون هذا «علم علل الحديث»، وهو من أشرف علومهم بحيث يكون الحديث قد رواه ثقة ضابط وغلط فيه، وغلطُه فيه عُرِفَ؛ إما بسببٍ ظاهرٍ؛ كما عرفوا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تزوج ميمونة وهو حلال، وأنه صلَّى في البيت ركعتين، وجعلوا رواية ابن عباس لتزوجها حرامًا، ولكونه لم يصلِّ = مما وقع فيه الغلط، وكذلك أنه اعتمر أربع عمر، وعلِموا أن قول ابن عمر: أنه اعتمر في رجب مما وقع فيه الغلط، وعلموا أنه تمتَّع وهو آمن في حجة الوداع، وأن قول عثمان لعلي: «كنا يومئذٍ خائفين» مما وقع فيه الغلط، وأن ما وقع في بعض طرق البخاري: «أن النار لا تمتلئ حتى ينشئ الله لها خلقًا آخر» مما وقع فيه الغلط، وهذا كثير. (78) والناس في هذا الباب طرفان: طرف من أهل الكلام ونحوهم ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله لا يُميِّز بين الصحيح والضعيف، فَيَشُكُّ في صحة أحاديث، أو في القطع بها (¬1)، مع كونها معلومة مقطوعًا بها عند أهل العلم به. وطرف ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به كلما وجد لفظًا في حديث قد رواه ثقة، أو رأى حديثًا بإسناد ظاهره الصحة يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته، حتى إذا عارض الصحيح المعروف أخذ يتكلف له التأويلات الباردة، أو يجعله دليلاً له في مسائل العلم، مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط. ¬

(¬1) ما أكثر هذا الصنف اليوم ممن يتعالمون، ويزعمون اتباع العقل، أو المنهج العلمي الصحيح، وهما منهم براء.

الحديث عليه أدلة يعلم بها صحته من كذبه

(79) وكما أن على الحديث أدلة يعلم بها أنه صدق وقد يقطع بذلك، فعليه أدلة يعلم بها أنه كذب ويقطع بذلك، مثل ما يقطع بكذب ما يرويه الوضاعون من أهل البدع والغلو في الفضائل، مثل حديث يوم عاشوراء وأمثاله مما فيه أن من صلى ركعتين كان له كأجر كذا وكذا نبيًا. (80) وفي التفسير من هذه الموضوعات قطعة كبيرة، مثل الحديث الذي يرويه الثعلبي والواحدي والزمخشري في فضائل سور القرآن سورة سورة فإنه موضوع باتفاق أهل العلم. (81) والثعلبي هو في نفسه كان فيه خير ودين، وكان حاطب ليل ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع. (82) والواحدي صاحبه كان أبصر منه بالعربية، لكن هو أبعد عن السلامة واتباع السلف. (83) والبغوي تفسيره مختصر من الثعلبي، لكنه صان تفسيره عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة. (84) والموضوعات في كتب التفسير كثيرة، مثل الأحاديث الكثيرة الصريحة في الجهر بالبسملة، وحديث عليٍّ الطويل في تصدقه بخاتمه في الصلاة، فإنه موضوع باتفاق أهل العلم، ومثل ما رُوِي في قوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]: أنه عليٌّ، {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12]: أذنك يا علي.

النوع الثاني: ما مستنده الاستدلال

فصل (85) وأما النوع الثاني من مستندي الاختلاف وهو ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل، فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين ـ حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان؛ فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفًا لا يكاد يوجد فيها شيء من هاتين الجهتين مثل تفسير عبد الرزاق، ووكيع، وعبد بن حميد، وعبد الرحمن بن إبراهيم دُحيم، ومثل تفسير الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وبقي بن مخلد، وأبي بكر بن المنذر، وسفيان بن عيينة، وسنيد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي سعيد الأشج، وأبي عبد الله بن ماجه، وابن مردويه ـ: إحداهما: قوم اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها. والثانية: قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده بكلامه من كان من الناطقين بلغة العرب، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنزَل عليه والمخاطب به. (86) فالأولون رَاعَوا المعنى الذي رأوه (¬1) من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان. ¬

(¬1) أي أنهم اعتقدوا رأيًّا؛ كالمعتزلة الذين يرون تخليد مرتكب الكبيرة، فهم يراعون هذا المعنى عند تفسيرهم للآيات الدالة على وقوع المعصية من المسلم التي توعَّد الله بها، فيحملون هذا الوعيد على التخليد في النار.

غلط هؤلاء قد يكون في المعنى وقد يكون في اللفظ

والآخرون رَاعَوا مجرد اللفظ، وما يجوز عندهم أن يريد به العربي، من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلِّمِ وسياق الكلام. (87) ثم هؤلاء كثيرًا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة (¬1)، كما يغلط في ذلك الذين قبلهم (¬2)، كما أن الأولين كثيرًا ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به القرآن (¬3)، كما يغلط في ذلك الآخرون (¬4)، وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق، ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق. ¬

(¬1) أي أنهم يفسرون القرآن بمعنى لغويٍّ صحيح، لكن لا يكون هو المراد في الآية المفسَّرة، ولا يُفهم منه أنهم يغلطون في احتمال اللفظ معناه في اللغة، فالوقوع في هذا ليس بكثيرٍ. (¬2) في هذا إشارة إلى شيءٍ من التلازم بين أهل النظر إلى المعنى وأهل النظر إلى اللفظ، ذلك أنَّ أهل المعنى يغلطون في المعنى المراد ثمَّ هم قد يستدلون لهذا المعنى بدلالة لغوية صحيحة، لكنها ليست المرادة في ذلك السياق، ولا هي تتلاءم معه. ومن نظر إلى اللفظ، وفسَّر به دون النظر إلى ملابساته، فإنه سينتج عنه خطأ في المعنى؛ لأنَّ كون هذا المعنى من جهة العربية صحيحًا؛ لا يلزم منه أن يكون هو المراد بمعنى اللفظ في الآية. وسيأتي في الشرح بيان الأمثلة الموضحة لذلك. (¬3) هذا يعني أنه قد يفسر هؤلاء القرآن بمعانٍ باطلة غير صحيحة، وهذا واقع عند كثير من طوائف أهل البدع على تفاوت بينهم في هذه المعاني الباطلة، كمن يجيز الرقص للصوفية مستدلاً بقوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ}، فالمعنى الذي فسَّروا به القرآن ـ وهو جواز الرقص للرجال ـ باطل. (¬4) كمن يفسر الاستواء بالاستيلاء، وهو معنى باطل لم يرد في لغة العرب، فمن ينفي الاستواء بمعنى العلو، ثمَّ يفسره بالاستيلاء، قد وقع في أمور: 1 - أنه نفى معنى صحيحًا ثابتًا لله تعالى. 2 - أنه فسَّر الاستواء بمعنى لم يرد في لغة العرب، وهو الاستيلاء. 3 - أنه حمل كلام الله على معنى باطل بسبب اعتماد معنى باطل من جهة اللغة.

الذين اعتقدوا معاني ثم حملوا ألفاظ القرآن عليها صنفان

(88) والأولون صنفان: تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به. وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يُرَدْ به. وفي كلا الأمرين: قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلاً، فيكون خطؤهم في الدليل والمدلول. وقد يكون حقًا فيكون خطؤهم في الدليل لا في المدلول. وهذا كما أنه وقع في تفسير القرآن فإنه وقع أيضًا في تفسير الحديث. (89) فالذين أخطؤوا في الدليل والمدلول ـ مثل طوائف من أهل البدع ـ اعتقدوا مذهبًا يخالف الحق الذي عليه الأمة الوسط الذين لا يجتمعون على ضلالة؛ كسلف الأمة وأئمتها، وعمدوا إلى القرآن فتأوَّلوه على آرائهم: تارة يستدلون بآيات على مذهبهم ولا دلالة فيها. وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه. ومن هؤلاء فرق الخوارج، والروافض، والجهمية، والمعتزلة، والقدرية، والمرجئة، وغيرهم. (90) وهذا كالمعتزلة مثلاً فإنهم من أعظم الناس كلامًا وجدالاً، وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم؛ مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم شيخ إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي كان يناظر الشافعي، ومثل كتاب أبي علي الجبائي، والتفسير الكبير للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني، ولعلي بن عيسى الرماني، والكشاف

أصول المعتزلة الخمسة

لأبي القاسم الزمخشري، فهؤلاء وأمثالهم اعتقدوا مذاهب المعتزلة. (91) وأصول المعتزلة خمسة؛ يسمونها هم: التوحيد، والعدل، والمنْزلة بين المنْزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتوحيدهم هو توحيد الجهمية الذي مضمونه نفي الصفات، وغير ذلك. قالوا: إن الله لا يُرى، وإن القرآن مخلوق، وإنه ليس فوق العالم، وإنه لا يقوم به علم ولا قدرة، ولا حياة ولا سمع ولا بصر، ولا كلام، ولا مشيئة، ولا صفة من الصفات. (92) وأما عدلهم فمن مضمونه أن الله لم يشأ جميع الكائنات ولا خلقها كلها، ولا هو قادر عليها كلها؛ بل عندهم أن أفعال العباد لم يخلقها الله لا خيرها ولا شرها، ولم يرد إلا ما أمر به شرعًا، وما سوى ذلك فإنه يكون بغير مشيئته، وقد وافقهم على ذلك متأخرو الشيعة؛ كالمفيد، وأبي جعفر الطوسي وأمثالهما. (93) ولأبي جعفر هذا تفسير على هذه الطريقة؛ لكن يضم إلى ذلك قول الإمامية الاثني عشرية؛ فإن المعتزلة ليس فيهم من يقول بذلك، ولا من ينكر خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. (94) ومن أصول المعتزلة مع الخوارج إنفاذ الوعيد في الآخرة، وأن الله لا يقبل في أهل الكبائر شفاعة، ولا يخرج منهم أحدًا من النار. (95) ولا ريب أنه قد ردَّ عليهم طوائف من المرجئة والكرامية والكلابية وأتباعهم؛ فأحسنوا تارة وأساءوا أخرى، حتى صاروا في طرفي نقيض، كما قد بُسط في غير هذا الموضع.

الوجوه التي يظهر فيها بطلان تفاسير من اعتقدوا رأيا وحملوا ألفاظ القرآن عليه

(96) والمقصود أن مثل هؤلاء اعتقدوا رأيًا ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين لا في رأيهم ولا في تفسيرهم، وما من تفسير من تفاسيرهم الباطلة إلا وبطلانه يظهر من وجوه كثيرة، وذلك من جهتين: تارة من العلم بفساد قولهم. وتارة من العلم بفساد ما فسروا به القرآن؛ إما دليلاً على قولهم أو جوابًا على المعارض لهم. (97) ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحًا، ويدس البدع في كلامه، وأكثر الناس لا يعلمون؛ كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله. (98) وقد رأيت من العلماء المفسرين وغيرهم من يذكر في كتابه وكلامه من تفسيرهم ما يوافق أصولهم التي يعلم ويعتقد فسادها ولا يهتدي لذلك. (99) ثم إنه بسبب تطرف هؤلاء وضلالهم دخلت الرافضة الإمامية، ثم الفلاسفة، ثم القرامطة وغيرهم فيما هو أبلغ من ذلك، وتفاقم الأمر في الفلاسفة والقرامطة والرافضة، فإنهم فسروا القرآن بأنواع لا يقضي العالم منها عجبه، فتفسير الرافضة كقولهم: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1]: هما أبو بكر وعمر. و {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]؛ أي: بين أبي بكر وعلي في الخلافة. و {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]: هي عائشة. و {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12]: طلحة والزبير.

بعض التفسيرات من غير الرافضة تقارب تفسيرات الرافضة من وجوه

و {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الرحمن: 19]: علي وفاطمة، و {اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]: الحسن والحسين. {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]: في علي بن أبي طالب. و {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ *عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 1 ـ 2]: علي بن أبي طالب. و {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] هو علي، ويذكرون الحديث الموضوع بإجماع أهل العلم، وهو تصدُّقه بخاتمه في الصلاة. وكذلك قوله: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]: نزلت في علي لما أصيب بحمزة. (100) ومما يقارب هذا من بعض الوجوه ما يذكره كثير من المفسرين في مثل قوله: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] أن الصابرين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والصادقين أبو بكر، والقانتين عمر، والمنفقين عثمان، والمستغفرين علي. وفي مثل قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] أبو بكر، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} عمر، {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} عثمان، {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} علي. (101) وأعجب من ذلك قول بعضهم: {وَالتِّينِ} [التين: 1] أبو بكر، {وَالزَّيْتُونَ} [التين: 1] عمر، {وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 2] عثمان، {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين: 3] علي، وأمثال هذه الخرافات التي تتضمن تارة تفسير اللفظ بما لا يدل عليه بحال، فإن هذه الألفاظ لا تدل على هؤلاء الأشخاص، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29] كل ذلك نعت للذين معه، وهي التي يسميها النحاة خبرًا بعد خبر.

وتتضمن تارة جعل اللفظ المطلق العام منحصرا في شخص واحد

(102) والمقصود هنا أنها كلها صفات لموصوف واحد وهم الذين معه، ولا يجوز أن يكون كل منها مرادًا به شخص واحد، وتتضمن تارة جعل اللفظ المطلق العام منحصرًا في شخص واحد كقوله: إن قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55] أريد بها علي وحده، وقول بعضهم: إن قوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] أريد بها أبو بكر وحده، وقوله: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] أريد بها أبو بكر وحده ونحو ذلك. (103) وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسنة والجماعة وأسلم من البدعة من تفسير الزمخشري، ولو ذكر كلام السلف الموجود في التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل، فإنه كثيرًا ما ينقل من تفسير محمد بن جرير الطبري ـ وهو من أجلّ التفاسير وأعظمها قدرًا ـ ثم إنه يَدَعُ ما نقله ابن جرير عن السلف لا يحكيه بحال، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم، وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة؛ لكن ينبغي أن يُعطَى كل ذي حق حقه، ويعرف أن هذا من جملة التفسير على المذهب. (104) فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في تفسير الآية قول، وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان = صاروا مشاركين للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا. (105) وفي الجملة؛ من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئًا في ذلك، بل مبتدعًا، وإن كان مجتهدًا مغفورًا له خطؤه، فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته،

من أصول العلم

وطرق الصواب، ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فمن خالف قولهم وفسَّر القرآن بخلاف تفسيرهم، فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعًا، ومعلوم أن كل من خالف قولهم له شبهة يذكرها إما عقلية وإما سمعية، كما هو مبسوط في موضعه. (106) والمقصود هنا التنبيه على مثار الاختلاف في التفسير، وأن من أعظم أسبابه البدع الباطلة التي دعت أهلها إلى أن حرفوا الكلم عن مواضعه وفسروا كلام الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم بغير ما أريد به، وتأولوه على غير تأويله، فمن أصول العلم بذلك أن يعلم الإنسان القول الذي خالفوه، وأنه الحق، وأن يعرف أن تفسير السلف يخالف تفسيرهم، وأن يعرف أن تفسيرهم محدث مبتدع، ثم أن يعرف بالطرق المفصلة فساد تفسيرهم بما نصبه الله من الأدلة على بيان الحق. وكذلك وقع من الذين صنفوا في شرح الحديث وتفسيره من المتأخرين من جنس ما وقع فيما صنفوه من شرح القرآن وتفسيره. (107) وأما الذين يخطؤون في الدليل لا في المدلول، فمثل كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء وغيرهم؛ يفسرون القرآن بمعان صحيحة، لكن القرآن لا يدل عليها؛ مثل كثير مما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي في حقائق التفسير، وإن كان فيما ذكروه ما هو معان باطلة، فإن ذلك يدخل في القسم الأول، وهو الخطأ في الدليل والمدلول جميعًا، حيث يكون المعنى الذي قصدوه فاسدًا.

شرح الاختلاف الواقع في كتب التفسير من جهة النقل ومن جهة الاستدلال

شرح الاختلاف الواقع في كتب التفسير من جهة النقل ومن جهة الاستدلال

مسائل الاختلاف الواقع في كتب التفسير من جهة النقل ذكر في هذا الفصل أن الاختلاف في التفسير على نوعين: الأول: ما يرجع إلى النقل. والثاني: ما يرجع إلى الاستدلال. وقد طرح فيما يرجع إلى النقل الموضوعات الآتية: 1 - الإسرائيليات. 2 - الإشارة إلى أسانيد التفسير، وغلبة المراسيل عليها، وحكمها. 3 - الموضوعات في كتب التفسير، مع الإشارة إلى بعض الكتب التي فيها ضعف من هذه الجهة.

النوع الأول: ما يرجع إلى النقل

النوع الأول: ما يرجع إلى النقل أما ما يرجع إلى النقل، فهو من جهة المنقول عنه على قسمين: إما أن يكون عن المعصوم، وهم الرسل، وإما أن يكون عن غير المعصوم، وهم من سواهم. وجنس المنقول عن المعصوم وغيره على قسمين: الأول: ما يمكن معرفة الصحيح من الضعيف منه. الثاني: ما لا يمكن معرفة الصحيح من الضعيف. وهذا القسم الثاني، وهو ما لا يمكن معرفة صحيحه من ضعيفه فيه أمور: الأول: أنَّه مما لا فائدة فيه. الثاني: أنه لا دليل على صحته. الثالث: أنه لا تقوم الديانة به. الرابع: أنه يأتي في الغالب في الأخبار؛ كلون كلب أصحاب الكهف، واسم الشجرة التي أكل منها آدم. الخامس: أنَّ كثيرًا من هذه الأخبار مما أُخِذَ عن بني إسرائيل (¬1)، وكثير منها مليء بالغرائب، والاختلاف في النقل، ويغلب عليها أنها من ¬

(¬1) طرح شيخ الإسلام الإسرائيليات في موضع آخر من هذه الرسالة عند حديثه عن الطريق الثالث من طرق التفسير، وهو تفسير القرآن بأقوال الصحابة، وسأفصل القول هنا وأذكر الفوائد التي ذكرها هناك.

الإسرائيليات عند شيخ الإسلام في هذه المقدمة

القسم الذي قال فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه». الإسرائيليات عند شيخ الإسلام في هذه المقدمة: تحدث عن الإسرائيليات في موضعين من هذه الرسالة، قال في الموطن الأول: «... فما كان من هذا منقولاً نقلاً صحيحًا عن النبي ـ كاسم صاحب موسى أنه الخضر ـ فهذا معلوم، وما لم يكن كذلك، بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب؛ كالمنقول عن كعب، ووهب، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم ممن يأخذ عن أهل الكتاب، فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة؛ كما ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه». وكذلك ما نُقِلَ عن بعض التابعين، وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب، فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض (¬1)، وما نقل في ذلك عن بعض الصحابة نقلاً صحيحًا فالنفس إليه أسكن مما نقل عن بعض التابعين؛ لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين، ومع جزم الصاحب فيما يقوله؛ فكيف يقال: إنه أخذه عن أهل الكتاب، وقد نهوا عن تصديقهم؟». وقد قال في الموطن الآخر: «... ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره عن هذين الرجلين ابن مسعود وابن ¬

(¬1) سيأتي ذكر مسألة اختلافهم، وكونه ليس حجة على بعضهم البعض عند حديثه عن تفسير التابعين في فصل أحسن طرق التفسير (ص:292).

عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حيث قال: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو. ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك. ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه. والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته؛ لما تقدم. وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني. ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرًا، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعِدَّتِهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضُرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ

تلخيص أفكار شيخ الإسلام في الإسرائيليات

وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22]. فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام، وتعليم ما ينبغي في مثل هذا. فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعّف القولين الأولين، وسكت عن الثالث، فدل على صحته، إذ لو كان باطلاً لردَّه كما ردَّهما، ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عِدَّتِهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه فلهذا قال: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا}؛ أي: لا تُجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك، فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب. فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تُستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن يُنَبَّه على الصحيح منها، ويُبطل الباطل، وتُذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النِّزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيشتغل به عن الأهم، فأما من حكى خلافًا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص؛ إذ قد يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكى الخلاف ويطلقه، ولا يُنَبِّه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضًا، فإن صَحَّح غير الصحيح عامدًا فقد تعمَّد الكذب أو جاهلاً فقد أخطأ، كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقوالاً متعددة لفظًا ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنًى فقد ضيَّع الزمان، وتكثَّر بما ليس بصحيح، فهو كلابس ثَوبَي زور، والله الموفق للصواب». تلخيص أفكار شيخ الإسلام في الإسرائيليات: يتلخص من هذين الموضعين ما يأتي: أولاً: أن بعض أخبار بني إسرائيل منقول عن النبي صلّى الله عليه وسلّم نقلاً صحيحًا، ولا ريب في قبول هذه الأخبار، حتى لو كانت فيما لا يقوم عليه علم أو عمل، كاسم صاحب موسى أنه الخَضِرُ.

ثانيًا: أنَّ أخبار بني إسرائيل على ثلاثة أحوال: أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه. والضابط في القبول والردِّ في هذا هو الشرع، فما كان موافقًا قُبِلَ، وما كان مخالفًا لم يُقبل. ويدل لذلك أمثلة، منها ما رواه الطبري (ت:310) عن سعيد بن المسيب، قال: «قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنم؟ فقال: البحر. فقال: ما أراه إلا صادقًا، {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6]، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] مخففة» (¬1). فصدَّقه أمير المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه لوجود ما يشهد له من القرآن. وما رواه البخاري (ت:256)، قال: وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطًا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار، فقال: «إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا ـ مع ذلك ـ لنبلو عليه الكذب» (¬2). وقد يقع الردُّ من بعض الناس لبعض الإسرائيليات بدعوى مخالفة الشرع، ولا يكون ذلك صحيحًا في الحقيقة؛ لأنَّ ما ينسبه للشرع قد لا يكون صحيحًا أنه منه، بل هو رأي عقلي محضٌ وقع فيه شبه عنده أنه من الشرع، ويظهر ذلك جليًا فيما يتعلق بعصمة الأنبياء، إذ معرفة حدود هذه العصمة قد دخله التخريج العقلي، والتأويل المنحرف بدعوى تنْزيه الأنبياء، فظهر بذلك مخالفة ظاهر القرآن. ¬

(¬1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (27:18)، وقوله: «مخفّفة» على قراءة (سجِرت) بكسر الجيم بلا تشديد. (¬2) سيأتي التعليق عليه (ص:160).

والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وهذا لا يكون ردُّه أو قبوله إلا بحجَّة، كما قال شيخ الإسلام: «فما كان من هذا منقولاً نقلاً صحيحًا، عن النبي؛ كاسم صاحب موسى أنه الخضر، فهذا معلوم، وما لم يكن كذلك، بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب؛ كالمنقول عن كعب، ووهب، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم ممن يأخذ عن أهل الكتاب، فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة، كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه». ويلاحظ في هذا القسم أنه تجوز حكايته، ويُستدلُّ لجواز حكايته بأمور: الأول: استدل شيخ الإسلام بالاختلاف الواقع في عِدَّة أصحاب الكهف، فقال: «... ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز كما قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22]». ثمَّ نبَّه على الأدب في مقام نقل الأقوال. الثاني: قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج». وقوله: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ...». فقد أجاز صلّى الله عليه وسلّم التحديث عنهم، ولم ينكر ذلك أو يذكر له شرطًا، بل أمر بالتوقف فيما يحكون. الثالث: أن هذا عمل جمهور من السلف في التفسير وغيره، وعملهم هذا موافق لجواز التحديث الذي بيّنته الأحاديث النبوية. أما ما وقع من النكير من بعض السلف، فإنه يُحمل على أمور:

الأول: بسبب الإكثار من الرجوع إليهم. الثاني: بسبب تصديقهم فيما يقولون. الثالث: بسبب طلب الاهتداء بما عندهم. كما يلاحظ أنَّ غالب هذا القسم مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني. وهذه الأخبار قد تكون منقولة عن الصحابة، وما كان كذلك فالنفس إليه أسكن، وقد تكون منقولة عن التابعين، وهذا النقل أقلُّ في القبول من المنقول عن الصحابي لاعتبارات، منها: 1 - أنَّ المنقول عن الصحابة أقل من المنقول عن التابعين. 2 - أن ما نُقِل عن الصحابة فالقلب إليه أسكن لاحتمال أن يكون رواها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو عمن أخذها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. 3 - أن جزم الصحابي بما يقوله لا يُتصوَّر معه أنه نقله عن بني إسرائيل. ويتبع هذا الكلام فائدة نفيسة، وهي: تعليق الأمر بالإسرائيلية دون راوي الإسرائيلية، فإذا توقفت وجعلت الرواية محتملة للصدق أو الكذب، أو جزمت بردِّها فإنك لا تردَّها لأن الراوي ممن عُرِف بالأخذ من بني إسرائيل، بل لأنَّ في الخبر شبهة الإسرائيليات فحسب، وإلا جاز التوقف في كثيرٍ من الأخبار الغيبية التي رواها بعض الصحابة لأجل أنه يروي عن بني إسرائيل، وليس ذلك بحقٍّ، فابن عباس (ت:68) قد اشتهر أخذه عن بني إسرائيل، وصحَّ عنه بعض الأمور الغيبية، فلو عُمِلَ بهذه القاعدة لما قُبِلَ قوله فيها، ولكنَّ الأمر على خلاف ذلك، فقد قُبِلَ قوله، وأُخِذَ به، ومن ذلك ما ورد عنه في الكرسي من قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255]. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: «حدثني أبي، نا ابن مهدي، عن

إشكال في موقف ابن عباس من الإسرائيليات

سفيان، عن عمار الدُّهْنِي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره» (¬1). فإذا أعملت هذه القاعدة، وهي أن من عُرِفَ بالأخذ عن بني إسرائيل لا يُقبل نقله هذا، وكنت ممن ظهر له أن ابن عباس (ت:68) قد أخذ عنهم، فإنك ستتوقف في دلالة هذا الخبر، وهذا ما لم يعمل به أهل السنة، بل تلقوا خبره بالقبول، وأثبتوا به هذه العقيدة التي يتضمنها الخبر. إشكال في موقف ابن عباس من الإسرائيليات: أخذ ابن عباس (ت:68) عن أهل الكتاب مما لا يحتاج إلى إثبات، لكن الأمر الذي يحتاج إلى بحث ما ورد عنه في صحيح البخاري (ت:256)، قال: «حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن سعد، أخبرنا ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدث، تقرءونه محضًا لم يُشَبْ؟ وقد حدَّثكم أن أهل الكتاب بدَّلوا، وغيَّروا، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله، ليشتروا به ثمنًا قليلاً، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ لا والله، ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل إليكم» (¬2). فما مراده من هذا النهي؟ لقد حرصت على تتبع هذا الأثر عن ابن عباس لعلّي أظفر بشرح يبين مقصوده، لكني لم أظفر بشيء في ذلك، وقد اجتهدت في تبيُّن الاحتمالات التي جعلت ابن عباس (ت:68) يقول هذا، مع أنه قد ورد عنه الأخذ عن بني إسرائيل، فظهر لي منها: ¬

(¬1) السنة (2:454)، وقد روي في غير ما كتاب من كتب السنة. (¬2) رواه البخاري برقم (6929)، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء».

مسألة في ضابط العقل في رد الإسرائيليات

أولاً: أن يكون السائل يريد طلب الاهتداء بما عندهم، أو معرفة شرع الله، أو معرفة بعض العقائد دون غيرها من الأخبار؛ لأن هذه الأمور لا يجوز أن تؤخذ عن غير المعصوم في خبره. أما الأخبار الأخرى فإنها مما لا يلزم تصديقه ولا تكذيبه، ولا يُبنى عليها علم، وليس فيها هدى، قال ابن كثير (ت:747): «ثم ليعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان؛ لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل، وما أقلَّ الصدق فيه، ثم ما أقلَّ فائدة كثير منه لو كان صحيحًا. قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا أبو عاصم، أخبرنا سفيان، عن سليمان بن عامر، عن عمارة بن عمير، عن حريث بن ظهير، عن عبد الله هو ابن مسعود قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا؛ إما أن تكذبوا بحق، أو تصدقوا بباطل، فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال» (¬1). ثانيًا: أن يكون رأيًا متأخرًا له. ثالثًا: أنه رأى كثرة الرجوع إليهم، فأراد أن يسد هذا الباب. مسألة في ضابط العقل في ردِّ الإسرائيليات: يلاحظ هنا أنَّ ضابط العقل أو الغرابة ليس مما يُتفقُ عليه. ففي تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69]، ورد الخبر الآتي: إن موسى كان رجلاً حَيِيًّا سِتِّيرًا، لا يُرَى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستَتِر هذا التستر إلا من عيب بجلده: إما برصٌ، وإما أُدْرَةٌ، وإما آفةٌ. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، تحقيق: البنا (6:2700 ـ 2701)، والمراد بالتالية: البقيَّة.

وإن الله أراد أن يُبَرِّئه مما قالوا لموسى، فَخَلا يومًا وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإنَّ الحجر عَدَا بثوبه، فأخذ موسى عصاه، وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عُرْيانًا أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون. وقام الحجر، فأخذ ثوبه، فلبسه، وطَفِقَ بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا، فذلك قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69] (¬1). فهذا الخبر لا تخفى غرابته، وقد لا تُصدِّقه بعض العقول، لكن إذا علِمت أنه خبر صحيح مرويٌّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رواه البخاري (ت:256) وغيره = سلَّمت لذلك الخبر، وأدركت أنه خبر حقيقي واقع، مع ما فيه من الغرابة. وليس يعني هذا أن يُقبل كل خبرٍ مع ما فيه من الغرابة، لكن المراد أنَّ الغرابة ليست ضابطًا كافيًا في ردِّ مثل هذه الأخبار. ومن الأمور التي يحسن التنبه لها أنَّ رواية السلف للإسرائيلية ـ خصوصًا الصحابة ـ لا يعني قبول ما فيها من التفاصيل، ومرادهم بها بيان مجمل ما ورد في القرآن بمجمل ما ذُكِرَ في القصة، دون أن يلزم ذكرهم لها إيمانهم بهذه التفاصيل التي تحتاج في نقلها إلى سند صحيح، وذلك عزيز جدًّا فيما يرويه بنو إسرائيل في كتبهم. وقد ورد في بعض آثار الصحابة ما يدل على أنهم يميزون كذبها ويعرفونه، ولا يصدقون كل ما يُروى لهم من الإسرائيليات، وإن كان الذي ¬

(¬1) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، رقم الحديث: (3404).

مسألة في وقوع الاختلاف بين علماء الكتاب فيما يروونه

يذكرها لهم محله الصدق عندهم، ومن ذلك ما ورد في خبر الخليفة معاوية بن أبي سفيان (ت:60). قال البخاري (ت:256): وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطًا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار، فقال: «إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب». قال ابن حجر: «وقال ابن حبان في كتاب الثقات: أراد معاوية أنه يخطئ أحيانًا فيما يخبر به، ولم يُرِدْ أنه كان كذابًا. وقال غيره: الضمير في قوله: لنبلو عليه، للكتاب لا لكعب، وإنما يقع في كتابهم الكذب؛ لكونهم بدَّلوه وحرَّفوه. وقال عياض: يصح عوده على الكتاب، ويصح عوده على كعب وعلى حديثه، وإن لم يقصد الكذب ويتعمده؛ إذ لا يشترط في مسمى الكذب التعمد، بل هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، وليس فيه تجريح لكعب بالكذب. وقال ابن الجوزي: المعنى: إن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذبًا، لا أنه يتعمد الكذب، وإلا فقد كان كعب من أخيار الأحبار» (¬1). مسألة في وقوع الاختلاف بين علماء الكتاب فيما يروونه: قال شيخ الإسلام: «وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرًا، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعدتهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت؟ وأسماء الطيور التي ¬

(¬1) فتح الباري (13:335).

فائدة: في عدم تحري العلماء فيما ينقل عن أهل الكتاب

أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز». وهذا القول يفيد أن الغالب على مرويات بني إسرائيل أنها أخبارٌ عن أحداث، وفيها تفاصيل لا تنفع من جهة الاهتداء، لذا فإنه لا يلزم قبول هذه التفاصيل. ولاحظ أن بعض الآيات التي فُسِّرت بالإسرائيليات معروفة المعنى على جهة الإجمال، والمراد بها واضح لا لبس فيه، لكن يقع الإشكال في المراد بهذا المجمل، هل هو ما جاء في القصة الإسرائيلية وتفصيلاتها، أو هو غير ذلك؟ وهذه المرويات يقع فيها اختلاف واضح، وسببُ ذلك وجودُ الاختلاف في النقل عند بني إسرائيل، وهو اختلافٌ يبين عدم ضبطهم لهذه القصص والأخبار؛ فقد دخلها إما النقص، وإما الزيادة. وهذا كثيرٌ جدًّا عندهم، وهو يدلُّ على عدم الضبط، أو على وجود التحريف المقصود، إذ لم يكن بعض أحبارهم يترفَّع عن هذا. ويتلخص من قول شيخ الإسلام في هذه المسألة الآتي: 1 - أن غالب ما في هذه الأخبار لا فائدة تعود إلى أمر ديني. 2 - أن علماء أهل الكتاب يختلفون فيه، ويأتي تبعًا لذلك اختلاف المفسرين الذين ينقلون عنهم، مثل أسماء أصحاب الكهف ... إلخ. 3 - أن نقل الخلاف عنهم في مثل هذا جائز. فائدة: في عدم تحرِّي العلماء فيما يُنقل عن أهل الكتاب: قال شيخ الإسلام «... وأيضًا فعلماء الدين أكثر ما يحررون النقل

مسألة في خبر عبد الله بن عمرو والزاملتين

فيما ينقل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه واجب القبول، أو فيما ينقل عن الصحابة. وأما ما ينقل من الإسرائيليات ونحوها؛ فهم لا يكترثون بضبطها ولا بأحوال نقلها؛ لأن أصلها غير معلوم، وغايتها أن تكون عن واحد من علماء أهل الكتاب أو من أخذ عن أهل الكتاب؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا حدثكم أهل الكتاب؛ فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه، وإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه». فإذا كنا قد نهينا عن تصديق هذا الخبر وأمثاله مما يؤخذ عن أهل الكتاب لم يجز لنا أن نصدقه، إلا أن يكون مما يجب علينا تصديقه، مثل ما أخبرنا به نبينا عن الأنبياء وأممهم، فإن ذلك يجب تصديقه مع احتراز في نقله، فهذا هذا ...» (¬1). مسألة في خبر عبد الله بن عمرو والزاملتين: قال شيخ الإسلام: «... رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك». يثير موضوع الزاملتين عددًا من الأسئلة، من أهمها: 1 - ما صحة خبر هاتين الزاملتين؟ الذي يبدو أن خبر الزاملتين له أصل صحيح، وإن كان خبرُ الزاملتين عزيزًا جدًّا، لا تكاد تجده في كتب الآثار، ومن الآثار التي ورد فيها خبر هاتين الزاملتين ما رواه الإمام أحمد: ¬

(¬1) تلخيص كتاب الاستغاثة، المعروف بالرد على البكري، لابن تيمية، تحقيق: أبي عبد الرحمن محمد بن علي عجال، نشر مكتبة الغرباء الأثرية.

قال الإمام أحمد: ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن الحكم، سمعت سيفًا يحدث عن رشيد الهجري، عن أبيه أن رجلاً قال لعبد الله بن عمرو: حدثني ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودعني وما وجدت في وسقك يوم اليرموك. قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (¬1). فإن صحَّ هذا الخبر، فإنه يدلُّ على أنَّ بعض الذين يروون عن عبد الله بن عمرو بن العاص (ت:65) يتحرَّزون من الرواية عن هاتين الزاملتين. 2 - هل ثبت أن عبد الله كان من الصحابة الذين رجعوا إلى مرويات بني إسرائيل؟ وهل يوجد فيما بين أيدينا روايات إسرائيلية مروية من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص؟ إن الذي بين يدينا من الروايات الإسرائيلية لا ترجع إلى عبد الله بن عمرو، بل الرواية عنه في هذا الباب نادرة جدًّا، فهل يصلح أن يقال: إنه يروي من تلك الزاملتين؟ فأين رواياته (¬2)؟ ¬

(¬1) مسند الأمام أحمد (2:194). (¬2) إنني أتعجَّب من سلوك الدكتور محمد محمد أبو شهبة ـ رحمه الله ـ في كتابه (الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير) الذي كان فيه ذا غَيرَة وحماية لجناب كلام ربِّ العالمين، لكن بالأسلوب العاطفي الخطابي لا العلمي المتوازن، وقد قال في حقِّ عبد الله بن عمرو بن العاص قولة من لم يطَّلع على الآثار، قال: «وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص تفاسير كثيرة فيما يتعلق بالقصص وأخبار الفتحة (كذا) والآخرة وما أشبهها، بأن تكون مما تحمله عن أهل الكتاب الذين أسلموا، وما وجده من كتبهم التي أصاب منها في اليرموك زاملتين، وقد نقد العلماء كل ذلك، وبيَّنوا الصحيح من العليل والمقبول من المردود ...». الإسرائيليات والموضوعات في التفسير (ص:159). فأين ما يقوله الدكتور رحمه الله في حقِّ عبد الله بن عمرو، وأين بيان العلماء الذين أحال عليهم؟!

بيد أن ابن كثير (ت:774) توقَّف في بعض الآثار (¬1)، وحملها على الزاملتين، وأنا أسوقها ليتبَّين أثر خبرهما على عَلَمٍ من أعلامِ نُقَّادِ الأحاديث والآثار: 1 - قال ابن كثير (ت:774) في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96]: «... فأما الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة في كتابه دلائل النبوة من طريق ابن لهيعة عن يزيد أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: «بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فأمرهما ببناء الكعبة، فبناه آدم، ثم أمر بالطواف به، وقيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت وضع للناس» = فإنه كما ترى من مفردات ابن لهيعة، وهو ضعيف، والأشبه ـ والله أعلم ـ أن يكون هذا موقوفًا على عبد الله بن عمرو، ويكون من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من كلام أهل الكتاب». وعندي في نسب هذا الخبر إلى مرويات بني إسرائيل نظر، فإن من خَبَرَ كتبهم لا يجد فيها ذكرًا للكعبة، وهو مما حرفوه، وحذفوه من كتبهم، كما حذفوا كل فضيلة لإسماعيل، وللعرب من أهل الجزيرة العربية. والحقُّ أن أمر الزاملتين يلفُّه غموضٌ لا يكفي فيه أنَّ من شكَّ في مروية جاءت عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن ينسبها لهاتين الزاملتين. 2 - وقال في تفسير قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَاتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَاتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَاتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [الأنعام: ¬

(¬1) لم أجد من نقد آثارًا عن عبد الله بن عمرو، ونسبها إلى الزاملتين سوى ابن كثير، في تفسيره وتاريخه (1:19)، (2:107، 299، 326)، (6:61)، (8:340)، وهذا غريب يحتاج إلى بحث واستقصاء لتتبُّع ما قاله النقاد في مرويات عبد الله بن عمرو بن العاص.

158 -]: «... قال الطبراني: حدثنا أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان الرقي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زبريق الحمصي، حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار، حدثنا ابن لهيعة، عن حيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا طلعت الشمس من مغربها خر إبليس ساجدًا ينادي ويجهر: إلهي، مُرْنِي أن أسجد لمن شئت. قال: فيجتمع إليه زبانيته، فيقولون كلهم: ما هذا التضرع؟! فيقول: إنما سألت ربي أن ينظرني إلى الوقت المعلوم، وهذا الوقت المعلوم. قال: ثم تخرج دابة الأرض من صدع في الصفا، قال: فأول خطوة تضعها بأنطاكيا، فتأتي إبليس فتخطمه». هذا حديث غريب جدًا، وسنده ضعيف، ولعله من الزاملتين اللتين أصابهما عبد الله بن عمرو يوم اليرموك فأما رفعه فمنكر والله أعلم». أقول: كان يكفي في نكارته ضعف إسناده، وأمر الزاملتين ما دام غير معلومٍ فلا حاجة إلى تحميل ابن عمرو، أمرهما بهذه الصورة، والله أعلم. 3 - وقال في تفسير قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78]: «... وقد روي متصلاً من وجه آخر كما قال محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير، قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر ـ، فقال: هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم، فدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه، وآية ذلك أنه دُفِنَ معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه، فابتدره الناس، فاستخرجوا منه الغصن، وهكذا رواه أبو داود، عن يحيى بن معين، عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن ابن إسحاق به. قال شيخنا أبو الحجاج المزي: وهو حديث حسن عزيز.

قلت: تفرد بوصله بجير بن أبي بجير هذا شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث. قال يحيى بن معين: ولم أسمع أحدًا روى عنه غير إسماعيل بن أمية. قلت: وعلى هذا، فيخشى أن يكون وهم في رفع هذا الحديث، وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو مما أخذه من الزاملتين. قال شيخنا أبو الحجاج ـ بعد أن عرضت عليه ذلك ـ: وهذا محتمل والله أعلم». وفي هذا نظر أيضًا، فأبو رغال عربي، وليس في كتب بني إسرائيل أخبار العرب الذين في جزيرة العرب، وهذا ـ كما قلت لك ـ ظاهر من كتبهم التي بين يدينا اليوم، وكذا من المرويات المنسوبة لهم، ولست أدري، لماذا يُحمِّل ابن كثير (ت:774) ابن عمرو أمر هاتين الزاملتين في مثل هذا الخبر العربي؟! 4 - وقال في تفسير قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً} [الفرقان: 25]: «قال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا المعتمر بن سليمان عن عبد الجليل، عن أبي حازم، عن عبد الله بن عمرو قال: «يهبط الله عزّ وجل حين يهبط، وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب؛ منها النور والظلمة، فيضرب الماء في تلك الظلمة صوتًا تنخلع له القلوب». وهذا موقوف على عبد الله بن عمرو من كلامه، ولعله من الزاملتين، والله أعلم». ولا أدري لم يُنسب هذا الخبر إلى الزاملتين، وليس فيه ما هو غريب، فكم من أمور الآخرة التي صحَّت، وهي غريبة، فما المانع من أن يكون مما تلقاه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؟! 3 - وإذا كان أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب، فإنه يلزم أحد أمرين:

مسألة في قول الإمام أحمد في كتب التفسير

الأول: أنه كان يعرف الرسم الذي كُتِبت به هذه الكتب، وهذا احتمال بعيد جدًّا (¬1). الثاني: أنها كانت تُترجم له. 4 - وإذا كانت تُترجَم له، فمن ذا الذي كان يُترجم له؟. هذه الأسئلة تحتاج إلى بحث خاصٍ، وهي جديرة بالعناية؛ لأنها تحلُّ غموضًا في سيرة عبد الله بن عمرو وهاتين الزاملتين، وما ترتَّب عنهما من أنه كان يحدِّث عن بني إسرائيل. أقول بعد ذلك: لو ثبت خبر الصحيفتين، وأنَّ عبد الله كان يُحدِّث منهما، فالأمر كما قال شيخ الإسلام: «فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك». مسألة في قول الإمام أحمد في كتب التفسير: قال شيخ الإسلام: «... فالمقصود أن المنقولات التي يحتاج إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره، ومعلوم أن المنقول في التفسير أكثره كالمنقول في المغازي والملاحم، ولهذا قال الإمام ¬

(¬1) قال الإمام أحمد: «ثنا قتيبة، ثنا ابن لهيعة، عن واهب بن عبد الله، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: رأيت فيما يرى النائم كأن في إحدى أصبعي سمنًا، وفي الأخرى عسلاً، فأنا ألعقهما، فلما أصبحت ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «تقرأ الكتابين: التوراة والفرقان»، فكان يقرؤهما». مسند أحمد (2:222). وعلَّق الذهبي في سير أعلام النبلاء على هذا الخبر، فقال: «ابن لهيعة ضعيف الحديث، وهذا خبر منكر، ولا يشرع لأحد بعد نزول القرآن أن يقرأ التوراة، ولا أن يحفظها؛ لكونها مبدلة محرفة منسوخة العمل قد اختلط فيها الحق بالباطل، فلتجتنب، فأما النظر فيها للاعتبار وللرد على اليهود فلا بأس بذلك للرجل العالم قليلاً، والإعراض أولى. فأما ما رُوِيَ من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أذن لعبد الله أن يقوم بالقرآن ليلة وبالتوراة ليلة، فكذب موضوع، قبَّح الله من افتراه ...» سير أعلام النبلاء (3:86).

أحمد: ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير، والملاحم، والمغازي ـ ويروى: ليس لها أصل؛ أي: إسناد؛ لأن الغالب عليها المراسيل، مثل ما يذكره عروة بن الزبير، والشعبي، والزهري، وموسى بن عقبة، وابن إسحاق ومن بعدهم؛ كيحيى بن سعيد الأموي، والوليد بن مسلم، والواقدي ونحوهم في المغازي». تأتي عن الإمام أحمد (ت:241) بعض العبارات المجملة التي لا يُدرى المراد بها على وجه التحديد؛ لأنها لم تلق تفسيرًا منه. ومن هذه الروايات المجملة هذه الرواية التي اختلفت فيها تخريجات العلماءِ، وتباينت فيها آراؤهم، فقد روى الخطيب البغدادي (ت:463) بسنده هذا الأثر عن أحمد بن حنبل (ت:241)، ثم قال في شرح هذه العبارة: «وهذا الكلام محمول على وجه، وهو أنَّ المراد به كتب مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها، ولا موثوق بصحتها لسوء أحوال مصنفيها وعدم عدالة ناقليها وزيادات القصاص فيها» (¬1). وهذا التخريج فيه نظر؛ إذ ليس في عبارة الإمام أحمد (ت:241) ما يدلُّ عليه، وما تلك التخريجات إلا للغموض والإجمال في تلك العبارة التي قالها الإمام أحمد بن حنبل (ت:241). ولو عُرِفَ المراد بالتحديد بمصطلح «إسناد» أو مصطلح «أصول» الذي جاءت به الرواية عن الإمام أحمد لحُلَّ المراد بقوله، ولزال الإشكال. وأقرب ما يمكن تفسيرها به أن يكون أراد الإسناد المرفوع للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا التخريج لعبارة الإمام أحمد (ت:241) هو الذي أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية (ت:728) في عبارته السابقة حيث ذكر المراسيل التي يقابلها المسند المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: «ويروى: ليس لها أصل؛ أي: إسناد؛ لأن الغالب عليها المراسيل». ¬

(¬1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2:162).

كما نصَّ في كتابه منهاج السنة على ذلك فقال: «وأما أحاديث سبب النّزول فغالبها مرسل ليس بمسند، ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل: ثلاثة علوم لا إسناد لها ـ وفي لفظ: ليس لها أصل ـ التفسير والمغازي والملاحم، ويعني أن أحاديثها مرسلة» (¬1). وهذا يشير إلى أن مراد الإمام أحمد (ت:241) بالتفسير أسباب النُّزول خاصة، والحقيقة أن أسباب النُّزول جزء من علم التفسير، وهي نوعان: الأول: أسباب النُّزول الصريحة، وهذه التي يقع فيها الإرسال؛ لأن التابعي أو من بعده ينسب الحدث إلى عصر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو لم يشاهده قطعًا، وهذا هو الإرسال في الرواية. الثاني: أسباب نزول غير صريحة، وهذه تدخل في باب التفسير بالرأي؛ لأنَّ المفسر إذا ذكر حدثًا معيَّنًا، وصدَّره بعبارة النُّزول، فليس يلزم أن يكون مراده أنه سبب النُّزول المباشر، بل يريد التنبيه على دخول هذا الحدث في معنى الآية. لكن المطَّلِع على التفسير المروي عن السلف عمومًا يجد أن المرويَّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قليل جدًّا، ويمكن أن يكون مراد الإمام أحمد (ت:241) بمصطلح الإسناد: المرفوع فحسب، وهذا يصدق على هذه العلوم الثلاثة التي ذكرها حيث يكثر إسناد أخبارها إلى من بعد الصحابة، وهي تشترك في أنها أخبار روائية لا يمكن إدراكها بغير الخبر، فالمخبِر إما أن يكون سامعًا وإما أن يكون مشاهدًا، وهذا لا يتحقق إلا للصحابي فقط، والله أعلم. ¬

(¬1) منهاج السنة النبوية (7:435).

مسألة في المراسيل في التفسير

مسألة في المراسيل في التفسير: إن الذي يغلب في مراسيل التفسير مجيئها في أسباب النُّزول، وعبارة شيخ الإسلام في هذه المسألة هنا ظاهرة أن المراد بها أسباب النُّزول؛ لأنها تحكي خبرًا تاريخيًّا مرتبطًا بآية من الآيات. وما ذكره شيخ الإسلام من تحرير في هذه المسألة مفيد للمفسر الذي يريد تحرير أسانيد أسباب النُّزول، وهو يصلح للنقد التاريخي عمومًا، وقد أشار إلى ذلك بقوله: «وهذا الأصل ينبغي أن يعرف، فإنه أصل نافع في الجزم بكثير من المنقولات في الحديث والتفسير والمغازي، وما ينقل من أقوال الناس وأفعالهم وغير ذلك». وقد ذكر ضوابط قبول هذه المراسيل، وهي: 1 - أن لا يكون مصدرها مفردًا، بل يكون متعدِّدًا. 2 - أن تخلوَ من المواطأة. 3 - أن يتلقاها العلماء بالقبول. وهذا القيد مهم معتَبرٌ، وهو قد ذكره عند ذكره لحديث الآحاد، حيث قال: «ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقًا له، أو عملاً به أنه يوجب العلم». وكذا يمكن القول بأن هذه القيد معتبر في قبول المراسيل التي ترد في التفسير، لكن قد يكون هناك مرتبة أخرى في قبول حكاية النُّزول الذي من قبيل الرأي، وهو أن يتوارد المحققون من المفسرين على ذكره دون اعتراض عليه، فإن هذا قرينةٌ تُشعِرُ بقبوله أيضًا. 4 - أن الاختلاف في التفاصيل الدقيقة لا يؤثر في أصل الخبر، وهذا الاختلاف في التفاصيل لا يرجع إلى الكذب، بل إلى الضبط، وضربَ مثالاً لذلك باختلاف الثمن في قصة بيع جابر بعيره على النبي صلّى الله عليه وسلّم. وهذه المسألة من نفائس هذه المقدمة التي يحسن بالمعتنين بالتفسير الاستفادة

منها في حال دراسة أقوال مفسري السلف، والاستفادة تكون على حالين: الأولى: الاستفادة منها في مجال دراسة أسباب النُّزول، كما صوَّرها شيخ الإسلام في هذه المسألة، وضرب لها مثالاً بالمتبارزين يوم بدر. ومثل ذلك ما وقع من الاختلاف في سبب نزول التحريم في شرب العسل؛ هل كان شربه عند زينب أو عند حفصة؟. فهذا الاختلاف لا يضر في أصل القضية، وكونه امتنع عن شرب العسل (¬1). الثانية: الاستفادة منها في مجال دراسة أقوال السلف الأخرى، خصوصًا ما يرتبط منها بالأخبار؛ كالأخبار الغيبية عمومًا. ومن أمثلة ذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور: 4]، فقد ورد في تفسيرِ السَّلفِ أنَّه بيتٌ في السماء، بحذاء الكعبةِ، تعمرهُ الملائكةُ، يدخلُه منهم سبعونَ ألف ملَكٍ، ثمَّ لا يعودونَ إليه، ويقال له: الضُّرَاحُ، وهذا قولُ عليٍّ (ت:40) رضي الله عنه. ووردَ هذا التفسيرُ عن ابن عباسٍ (ت:68) من طريق عطيَّةَ العوفي (ت:111)، وجعله بحذاء العرشِ، ولم يذكر اسمه (¬2). وورد عن مجاهد (ت:104) من طريق ابن أبي نجيح: أنه بيت في السماء، يقالُ له: الضُّراحُ. وعن عكرمة (ت:117): بيتٌ في السماءِ، بحيالِ الكعبةِ. وعن الضحاكِ (ت:105) من طريق عبيد المكتب: يزعمونَ أنه يروح إليه سبعونَ ألف ملكٍ من قبيلةِ إبليس، يقال لهم: الحِنُّ. ¬

(¬1) المراد هنا ضرب مثال لهذه المسألة، وليس الحديث هنا عن الراجح في سبب نزول سورة التحريم، والرأي الصواب في ذلك أن سببها تحريمه الجارية على نفسه، ينظر في علل هذا الترجيح: محاسن التأويل للقاسمي. (¬2) قال ابن كثيرٍ بعد أن ذكر هذه الروايةَ: «وكذا قال عكرمةُ، ومجاهد، والربيع بن أنسٍ، والسديُّ، وغير واحدٍ من السَّلفِ». تفسير ابن كثير، تحقيق: سامي السَّلامة (7:429).

وقد روى قتادة (ت:117)، وابن زيدٍ (ت:182) عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم مرسلاً أنه بيتُ اللهِ في السماءِ، وأنه يدخله في اليوم سبعونَ ألفَ ملَكٍ لا يعودونَ إليه. وزادَ قتادةُ (ت:117): تحته الكعبةُ، لو خَرَّ لخَرَّ عليها. وفي الصحيح من حديثِ المعراجِ أنَّ رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم رأى إبراهيمَ عليه السلام في السماءِ السابعةِ، مُسندًا ظهرَه إلى البيتِ المعمورِ، وأنه يدخله سبعونَ ألفَ ملَكٍ لا يعودونَ إليه (¬1). وقد ذكر ابن حجرٍ (ت:852) أنه قد ورد عن الحسنِ ومحمد بن عباد بن جعفر أنَّ البيت المعمور: الكعبةَ، وقال: «والأول أكثرُ وأشهرُ» (¬2). وإذا حللَّتَ هذه الأقوالَ فإنكَ ستجدُ الآتي: أنَّ الحديثَ الواردَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في البيتِ المعمورِ ليسَ فيه إشارةٌ إلى الآيةِ؛ أي أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقصدْ تفسيرَ الآيةِ مباشرةً، ولكنَّ هذا الأثرَ يُستفادُ منه في بيانِ المرادِ بالقسمِ في هذه الآيةِ، لأنَّ القسمَ بالبيتِ المعمورِ قد يحتملُ الكعبةَ؛ لأنها بهذه الصِّفةِ، فهي معمورةٌ بالطائفينَ والقائمينَ والركَّعِ السجودِ. ولكن تواردَ جمهورِ السَّلفِ على أنه البيتُ الذي في السماءِ، مع ما في هذا الحديثِ من ذكر له يجعلُ القولَ الصوابَ أنَّ المرادَ به بيتُ السماءِ. ومن هنا فالبيتُ الذي في السماء من علمِ الغيبِ، فما المقبول من وصفِه فيما وردَ في الآثار؟ 1 - أنه بيتٌ في السماء السابعة (¬3). 2 - أنَّ إبراهيمَ مسندٌ ظهره إليه. ¬

(¬1) رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أنس بن مالكٍ. (¬2) فتح الباري (6:309). (¬3) ورد في طرق حديث المعراج غير ذلك، لكن هذا هو الصحيح.

3 - أنه يدخله سبعونَ ألفَ ملكٍ، ثمَّ لا يعودونَ إليه. وهذه الأوصافُ ثابتةٌ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وقد ورد عن السَّلفِ أنه في السماء، دون تحديدها، وأنه يدخلهُ سبعونَ ألفَ ملكٍ ثم لا يعودونَ إليه. وزادَ عندهم من أوصافِه: 4 - أنه بحذاءِ الكعبةِ، عن عليٍّ، وعكرمةَ. 5 - أنه بحذاء العرشِ، عن ابنِ عباسٍ. 6 - أنَّ اسمه الضُّراحُ، عن عليٍّ، ومجاهدٍ. 7 - أنَّ الذين يدخلونه يقال لهم: الحِنُّ، وهم من قبيلةِ إبليسَ، تفرَّدَ به الضحاكُ (ت:105). أمَّا ما انفردَ بروايتِه التابعيُّ، وهو الضحاكُ (ت:105)، فإنه لا يقبلُ بسبب هذا الانفرادِ. وأمَّا ما وردَ في الوصفينِ (4، 5)، واسم هذا البيتِ (6)، فإنَّك إذا جعلتَ ما وردَ عن الصَّحابيِّ في هذا الأمرِ الغيبيِّ في حكمِ المرفوعِ، قَبِلْتَها، وإلاَّ توقَّفتَ على الثابتِ صراحةً، وهي الأوصاف التي وردتْ في الحديثِ. لكنْ يُعزِّرُ أمرَ قبولِ أقوالهم تعدُّدُ القائلينَ بها، مع احتمال عدم أخذ الآخِرِ عن الأول، خصوصًا إذا أضفتَ ما نسبه ابن كثيرٍ (ت:774) إلى السُّدِّيِّ (ت:128)، والربيع بن أنسٍ (ت:139)، وغير واحدٍ من السلفِ، فإنَّ تواردَ أقوالِهم على أمرٍ من الأمورِ يدلُّ على أصلِه، وهذه قاعدةٌ علميَّةٌ مفيدةٌ جدًا في العلمِ، وخصوصًا في التفسيرِ، لكثرةِ ما يردُ من اختلافٍ في أسباب النُّزولِ وغيرها، فإنه بجمعِ ما وردَ من الخلاف يتبيَّنُ الأصلُ المشترَكُ بين الأقوالِ، فيحكمُ به، وإن اختُلفِ في إثباتِ بعضِ تفاصيلِه، كما هو الحالُ في هذا المثالِ. وهذه القاعدة التي ذكرها شيخ الإسلام في دراسة الأخبار واضحةٌ جدًّا

في كلامه، ومعزَّزة بالمثال كما هو الحال عنده في أنواع الاختلاف. وقد ذكر مثل هذا التفصيل في كتابه منهاج السنة، فقال: «والمراسيل قد تنازع الناس في قبولها وردها، وحسب الأقوال أن منها المقبول ومنها المردود الموقوف، فمن عُلِمَ من حاله أنه لا يرسل إلا عن ثقة قُبِلَ مرسلُه، ومن عُرِفَ أنه يرسل عن ثقة وغير الثقة كان إرساله رواية عمن لا يعرف حاله، فهذا موقوف. وما كان من المراسيل مخالفًا لما رواه الثقات كان مردودًا. وإذا جاء المرسل من وجهين = كلٌّ من الراويين أخذ العلم عن شيوخ الآخر فهذا مما يدل على صدقه؛ فإن مثل ذلك لا يتصور في العادة تماثل الخطأ فيه وتعمد الكذب = كان هذا مما يعلم أنه صدق. فإن المخبر إنما يؤتى من جهة تعمد الكذب ومن جهة الخطأ، فإذا كانت القصة مما يعلم أنه لم يتواطأ فيه المخبران، والعادة تمنع تماثلهما في الكذب عمدًا والخطأ؛ مثل أن تكون القصة طويلة فيها أقوال كثيرة رواها هذا مثل ما رواها هذا؛ فهذا يعلم أنه صدق. وهذا ما يعلم به صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم وموسى عليه السلام، فإن كلاً منهما أخبر عن الله وملائكته وخلقه للعالم وقصة آدم ويوسف وغيرهما من قصص الأنبياء عليهما السلام بمثل ما أخبر به الآخر مع العلم بأنَّ واحدًا منهما لم يستفد ذلك من الآخر، وأنه يمتنع في العادة تماثل الخبرين الباطلين في مثل ذلك، فإن من أخبر بأخبار كثيرة مفصلة دقيقة عن مخبر معين لو كان مبطلاً في خبره لاختلف خبره لامتناع أن مبطلاً يختلق ذلك من غير تفاوت، لا سيما في أمور لا تهتدي العقول إليها، بل ذلك يبين أن كلا منهما أَخبر بعلمٍ وصدقٍ. وهذا مما يعلمه الناس من أحوالهم، فلو جاء رجل من بلد إلى آخر وأخبر عن حوادث مفصلة حدثت فيه تنتظم أقوالاً وأفعالاً مختلفة، وجاء من

مسألة الموضوعات في كتب التفسير

عَلِمْنَا أنه لم يواطئه على الكذب، فحكى مثل ذلك = عُلِمَ قطعًا أن الأمر كان كذلك، فإن الكذب قد يقع في مثل ذلك؛ لكن على سبيل المواطأة، وتلقي بعضهم عن بعض، كما يتوارث أهل الباطل المقالات الباطلة؛ مثل مقالة النصارى والجهمية والرافضة ونحوهم، فإنها وإن كان يُعلَم بضرورة العقل أنها باطلة، لكنها تلقاها بعضهم عن بعض فلما تواطأوا عليها جاز اتفاقهم فيها على الباطل. والجماعة الكثيرون يجوز اتفاقهم على جحد الضروريات على سبيل التواطؤ؛ إما عمدًا للكذب، وإما خطأً في الاعتقاد، وأما اتفاقهم على جحد الضروريات من دون هذا وهذا = فممتنع» (¬1). مسألة الموضوعات في كتب التفسير: هذا الموضوع من الموضوعات المهمة، وهو موضوع مرتبط بالوضع في الحديث النبوي، ولا يصلح بحثه من دون التعريج على هذا الموضوع. ويلاحظ أن شيخ الإسلام ذكر صنفين من الوضاعين: الأولون: أهل البِدع والغلو؛ كالرافضة الذين وضعوا فضائل في عاشوراء، وفي عليٍّ وآله رضي الله عنهم. والآخرون: بعض أهل الزهد الذين وضعوا أحاديث في فضائل ¬

(¬1) منهاج السنة النبوية (7:436 ـ 437).

الأعمال. وقد أشار إلى بعض كتب التفسير التي تحوي شيئًا من هذه الموضوعات، وهي: تفسير الثعلبي (ت:427)، وتفسير الواحدي (ت:468)، وتفسير الزمخشري (ت:538)، وهذه الكتب الثلاثة تروي حديثًا في فضائل السور عن أُبَي بن كعب (ت:32) فيه فضل سور القرآن سورةً سورة، وهو حديث موضوع كما نصَّ على ذلك جمع من العلماء، منهم ابن الجوزي (ت:597) في كتابه الموضوعات، قال: «... وقد فرَّق هذا الحديث أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره، فذكر عند كل سورة منه ما يخصُّها، وتبعه أبو الحسن الواحدي ... وهذا حديث في فضائل السور مصنوع بلا شكٍّ ... وبعد هذا فنفس الحديث يدل على أنه مصنوع، فإنه قد استنفد السور، وذكر في كل واحد ما يناسبها من الثواب بكلام ركيك في نهاية البرودة، لا يناسب كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» (¬1). وفي هذا الموضوع مجموعة من الوقفات: الأولى: أنَّ تحرير الموضوعات في التفسير يحتاج إلى دراسة تقويمية خاصة. وهو ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: في العلوم التي لا أثر لها في التفسير؛ كفضائل السور. القسم الثاني: فيما له أثر مباشر في التفسير؛ كتخصيص كثير من الآيات في علي وآل بيته رضي الله عنهم عند مفسري الرافضة (¬2)، وقد سَرَتْ بعض مروياتهم في قليل من التفاسير السُّنِّية؛ خصوصًا تفسير الثعلبي (ت:427) (¬3). ¬

(¬1) الموضوعات (1:174). (¬2) مما يحسن بحثه في جانب تفسير الرافضة: الإمامة وأثرها على تفاسير الرافضة. (¬3) لما كان تفسير الثعلبي قد سرت فيه بعض مرويات الرافضة المكذوبة، وهو سنيُّ المعتقد حرص بعض الرافضة على إخراج الكتاب، فطُبِعَ الكتاب في دار إحياء التراث، وقد صدَّروه بعناوين براقة فقالوا: دراسة وتحقيق الإمام محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعدي، ولا تحقيقَ ولا تدقيق ثَمَّ، بل طبعته طبعة سيئة سقيمة مليئة بالأخطاء، فصار الانتفاع به كالانتفاع بالميتة للمضطر. =

وأحب أن أشير هنا إلى أمور: 1 - أن وجود بعض الروايات في بعض التفاسير المسندة؛ كتفسير الطبري (ت:310) ليس عيبًا في المفسِّر، فهو يروي بالإسناد الذي يَصِلُه. 2 - أن من زعم أن هذه الروايات قد تكون مدسوسة في تفسير أحد الأئمة فإن زعمه فيه نظر، بل فيه اتهام الأئمة بالغفلة (¬1). الثانية: أنَّ هذا الوضع لم يكن مؤثِّرًا بدرجة كبيرة تشكِّل ظاهرةً في التفاسير المعتمَدة من التفاسير المسندة وغيرها؛ كتفسير الطبري (ت:310)، وابن أبي حاتم (ت:327)، والبغوي (ت:516)، وابن عطية (ت:542)، وابن كثير (ت:774)، وغيرهم من المحققين. الثالثة: أن بعض التفاسير اشتهرت بوجود الموضوعات فيها، ومن أشهرها تفسير الثعلبي وتفسير النقاش. ومثل هذه التفاسير بحاجة إلى دراسة؛ خاصَّة من هذا الجانب، ثمَّ هناك دراسة أخرى تُتَابع أثر هذه الروايات التي ذكروها على تفاسير اللاحقين لهم. ¬

= وما يؤسف عليه أن الأقسام الجامعية لأهل السنة تترك بعض التفاسير بحجة الخلل فيها، فما ضرَّ لو دُرست وحُقِّقت وبُيِّن ما فيها من الخطأ، فهذا أولى من أن تُترك، ثم تظهر كظهور هذه الطبعة السقيمة، والله المستعان. ملاحظة: تَمَّ تحقيق كتاب الثعلبي في رسائل جامعية عديدة في جامعة أم القرى بمكة والجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، ولعل الله ييسر خروجه. (¬1) ذهب إلى هذا التوجيه الدكتور محمد محمد أبو شهبة في غير ما موطن، وإن هذا المذهب لعجيب، وليس من أسلوب المنهج العلمي في شيءٍ، ولو فتحنا باب الافتراضات العقلية لما سَلِمَ كثيرٌ من المرويات، ومن نصوصه في هذا ما علَّقه على قصة يوسف عليه السلام قال: «... وإما أن تكون مدسوسة على هؤلاء الأئمة، دسها عليهم أعداء الأديان، كي تروج تحت هذا الستار، وبذلك يصلون إلى ما يريدون من إفساد العقائد، وتعكير صفو الثقافة الإسلامية الأصيلة، وهذا ما أميل إليه». الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير (ص:225).

نقد شيخ الإسلام لبعض المفسرين

فكم من كتاب من كتب المتأخرين ـ كتفسير ابن عادل (ت:880) ـ كثُرت فيه الأقوال، فما كان فيه عند أصحاب القرن الرابع ثلاثة أقوالٍ ـ مثلاً ـ صار عند المتأخرين فيه سبعة أقوالٍ، وهكذا دواليك، وهذه فكرة تحتاج إلى متابعة ودراسة تستقرئُ هذه الزيادات، وتعرف مصدرها الذي صدرت عنه، وتنظر في أثرها على التفسير. نقد شيخ الإسلام لبعض المفسرين: نقد شيخ الإسلام ثلاثة كتبٍ في روايتها للحديث الموضوع في فضل كل سورة، وقد أشار إلى صيانة البغوي (ت:516) لتفسيره من هذه الأحاديث الباطلة لعلمه بالحديث، وقد ذكر شيخ الإسلام نقده للثعلبي (ت:427) وتلميذه الواحدي (ت:468)، ومدحه للبغوي (ت:516) في كتابه منهاج السنة النبوية، فقال: «وأما ما نقله من تفسير الثعلبي، فقد أجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبي يروي طائفة من الأحاديث الموضوعات؛ كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبي أمامة في فضل تلك السورة، وكأمثال ذلك، ولهذا يقولون: هو كحاطب ليل. وهكذا الواحدي تلميذه، وأمثالهما من المفسرين ينقلون الصحيح والضعيف، ولهذا لما كان البغوي عالمًا بالحديث؛ أعلم به من الثعلبي والواحدي، وكان تفسيره مختصر تفسير الثعلبي = لم يذكر في تفسيره شيئًا من الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبي، ولا ذكر تفاسير أهل البدع التي ذكرها الثعلبي، مع أن الثعلبي فيه خير ودين؛ لكنه لا خبرة له بالصحيح والسقيم من الأحاديث، ولا يميز بين السنة والبدعة في كثير من الأقوال» (¬1). ويمكن إجمال القول فيهم كما يأتي: أولاً: الثعلبي (ت:427): ـ لم يكن عالمًا بالحديث. ¬

(¬1) منهاج السنة النبوية (7:12).

ثانيا: الواحدي (ت:468)

ـ يروي الأحاديث والروايات الباطلة. ـ كان حاطب ليل لا يميِّز بين الصحيح والضعيف. ـ أنه ذكر تفاسير بعض أهل البدع. ـ كان ـ في نفسه ـ ذا خير ودين. ـ وقد ذكر في موطن آخر من كتبه أنه ناقلٌ لا يكاد يُنشِئ قولاً من نفسه، قال: «... فأما البغوي، فقال: فصَلِّ حمدًا لله. وهو ينقل ما ذكره الثعلبي في تفسيره في مثل هذا الموضع. والثعلبي يذكر ما قاله غيره، سواءً قاله ذاكرًا أو آثرًا، ما يكاد يُنشِئ من عنده عبارة» (¬1). ـ معرفة الفضل لصاحبه، ولو كان عنده خطأٌ علميٌّ، وهو ما عبَّر عنه شيخ الإسلام بأن الثعلبي (ت:427) كان فيه خير ودين. وكم هو عزيز هذا النقد المتوازن اليوم، فإنك لا تكاد ترى في من ينقد العلماء وطلبة العلم إلاَّ الحطَّ من منزلتهم، وعدم معرفة ما لهم من الفضل، وكم من عالمٍ غمرت حسناتُه سيئاته، لكن النقاد لا يرون إلا السيئات، والله المستعان. ثانيًا: الواحدي (ت:468): ـ كان ينقل الصحيح والضعيف بدون تمييز. ـ لم يكن له بصر بالحديث. ـ كان أبعد من السلامة من البِدع من شيخه الثعلبي (ت:427). ـ كان بصره بالعربية أكثر من بصر شيخه الثعلبي (ت:427). والملاحظ أنه كان ـ في كتابه البسيط ـ مكثرًا من النقل جدًّا في علوم ¬

(¬1) قاعدة حسنة في الباقيات الصالحات، تحقيق: أشرف بن عبد المقصود (ص:52).

ثالثا: البغوي (ت:516)

العربية، ولم يكن من أصحاب التحرير، وهذا ظاهر في كتابه حيث ينقل الصفحات الطوال من كتاب تهذيب اللغة للأزهري (ت:370)، وكذا من الحجة للقراء السبعة لأبي علي الفارسي (ت:377)، وغيرهما من علماء اللغة والنحو. وقد تكلم شيخ الإسلام على هذين التفسيرين من جهة نقلهما للآثار الباطلة في غير ما موطن، منها قوله: «وإذا كان تفسير الثعلبي وصاحبه الواحدي ونحوهما فيها من الغريب الموضوع في الفضائل والتفسير ما لم يجز معه الاعتماد على مجرد عزوه إليها، فكيف بغيره؛ كتفسير أبي القاسم القشيري، وأبي الليث السمرقندي، وحقائق التفسير لأبي عبد الرحمن السلمي الذي ذكر فيه عن جعفر ونحوه ما يعلم أنه من أعظم الكذب. مع أن هؤلاء المصنفين أهل صلاح ودين وفضل وزهد وعبادة، ولكنهم كما قال مالك: أدركت في هذا المسجد سبعين شيخًا؛ كل له فضلٌ وصلاح ودين، ولو ائتمن أحدهم على بيت مال لأدَّى فيه الأمانة، يقول أحدهم: حدثني أبي، عن جدي، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما نأخذ عن أحد منهم شيئًا» (¬1). ثالثًا: البغوي (ت:516): ـ اختصر تفسيره من تفسير الثعلبي (ت:427). ـ صان تفسيره من الأحاديث الموضوعة التي ذكرها الثعلبي (ت:427)؛ لأنه كان له بصر بعلم الحديث. ـ صان تفسيره من الأقوال الباطلة المبتدعة. رابعًا: الزمخشري (ت:538): ـ يروي الحديث الموضوع في فضائل كل سورة. وسيأتي كلام لشيخ الإسلام على هذا التفسير من جهة الاعتقاد في مبحث لاحق إن شاء الله. ¬

(¬1) الرد على البكري (1:59).

مسائل الاختلاف الواقع في كتب التفسير من جهة الاستدلال

مسائل الاختلاف الواقع في كتب التفسير من جهة الاستدلال 1 - أن أكثر الخطأ في الاستدلال من جهتين لا توجدان في تفسير السلف: أحدهما: قوم اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها، وكان نظرهم إلى المعنى أسبق. وهم صنفان: تارة يسلبون لفظ القرآن ما دلَّ عليه وأريد به. وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به. وهؤلاء قد يكون خطؤهم في الدليل والمدلول. وقد يكون خطؤهم في الدليل لا المدلول. ويدخل في هذا طوائف من المبتدعة؛ كالخوارج والروافض والجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة والصوفية وغيرهم. والثانية: قوم فسَّروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب بكلامه، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنَزَّل عليه، والمخاطب به، وكان نظرهم إلى اللفظ أسبق. 2 - ذكر ضمن ذلك المنهج العقدي العام لبعض التفاسير وأثرها على التفسير إجمالاً. وعموم هذا الفصل جاء تنظيرًا بلا أمثلة، بخلاف الفصل السابق الذي نصَّ على أمثلةٍ لكثير من قضاياه.

أولا: كتب التفسير التي تخلو من الخطأ بسبب الاستدلال

أولاً: كتب التفسير التي تخلو من الخطأ بسبب الاستدلال سبق التنبيه على نقد شيخ الإسلام لكتب التفسير في مقدمة كتابه، حيث قال: «فإنَّ الكتب المصنفة في التفسير مشحونة بالغث والسمين، والباطل الواضح والحق المبين». وهذا الوصف يخرج منه الكتب المسنِدة التي تذكر تفسير السلف صرفًا، وقد عدَّ منها جملة من التفاسير النقلية التي اعتمدت منهج النقل عن السابقين دون التعرض للترجيح بينها، سوى ما كان من إمام المفسرين ابن جرير الطبري (ت:310). وعلَّلَ سبب عدم وجود الخطأ من جهة الاستدلال؛ بأن هذا النوع من الخطأ إنما وقع بعد جيل الصحابة والتابعين، وهذه التفاسير إنما تنقل تفسير علماء التفسير من هاتين الطبقتين، بخلاف من جاء بعدهم ممن نقل عن أهل البدع، كما وقع للثعلبي (ت:427)، حيث تجد في كتابه النقل عنهم. وهذه الكتب من حيث وصولها إلينا على ثلاثة أقسام: الأول: ما وصل إلينا، وهي: تفسير عبد الرزاق (ت:211)، وتفسير الطبري (ت:310)، وجزء من تفسير ابن المنذر (ت:318)، وأغلب تفسير ابن أبي حاتم (ت:327). الثاني: ما وصل إلينا أجزاء من مروياته عبر كتب أخرى، وهي: تفسير عبد بن حميد (ت:249)، وسفيان بن عيينة (ت:198)، وسنيد (ت:226)، وابن مردويه (ت:410)، وأبو سعيد الأشج (ت:257). الثالث: ما فُقِدَ، وليس له أثر، وهي: تفسير وكيع (ت:197)، وأحمد بن حنبل (ت:241)، وإسحاق بن راهويه (ت:238)، وبقي بن مخلد (ت:276)، وابن ماجه (ت:273).

ثانيا: الوجه الأول من سببي الخطأ في الاستدلال

ثانيًا: الوجه الأول من سببي الخطأ في الاستدلال: قوم اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها، وكان نظرهم إلى المعنى أسبق. إن هذه المسألة من المسائل العلمية المهمة جدًّا، وهي تصلح لأن يتفرَّع عليها بحث متكاملٌ، فكم من بِدعٍ تشرَّبها مسلمٌ، ثم راح يحمل ألفاظ القرآن عليها؛ لئلا تنخرم القاعدة التي يسير عليها. وهذه المسألة الدقيقة تسري على جمهورِ الذين يرجعون إلى القرآن ـ وفي أذهانهم مقررات سابقة ـ لأجل الاستفادة منه تفسيرًا أو حكمًا أو فوائدَ أو إعرابًا، أو غير ذلك. فمن دخله، وفي ذهنه معنى من المعاني؛ راح يبحث عن دليل يناسب المعنى الذي عنده؛ سواءً أكان ذلك عن قصدٍ، كما هو شأن أهل التحريف، أم كان من غير قصد، بحيث يغلب عليه ما في ذهنه من حيث لا يدري. ويظهر لك هذا الأمر جليًّا في هذا العصر الذي كثُرت فيه الأهواء والآراء المبتدعة، والتفسيرات الغريبة، فالطبيب يدخل إليه بذهنية الطبيب ومعلوماته، فيصرف معاني الآيات إلى ما يرى أنه مناسب لموضوعاتٍ طبيةٍ عنده، والفلكي يصرف الآيات إلى ما استقر عليه علم الفلك عنده، وهكذا دواليك. ولا يمكن التخلُّص من هذه المسألة الشائكة إلا بالتَّجرد من هذه المعلومات التي تُسلَّطُ على آيات القرآن ليُبحث عن ما يناسبها منه، ثمَّ أن تُتَعلَّم أصول التفسير التي لا ينبغي لأحد أن يتكلم في القرآن إلا بمعرفتها. أصناف من كان نظرهم إلى المعنى أسبق: يدخل في هذا طوائف من المبتدعة؛ كالخوارج والروافض والجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة والصوفية وغيرهم، كذا ذكر شيخ الإسلام،

الصنف الأول: من يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به

ويمكن أن يُزاد عليه في هذا العصر التفسيرات العصرية المنحرفة، والتفاسير التي تعتمد على العلوم الكونية والتجريبية، أو ما يُسمى بالإعجاز العلمي. فهذه الطوائف تشترك في أنَّها تأتي إلى القرآن، وقد استقرَّت عندها معلومات تريد أن تجد لها ما يسندها منه، فتراهم يتشبَّثون بغرائب التأويل؛ لئلاَّ ينخرم ما قعَّدوه، وألا يظهر بطلان ما أصَّلوه. إن معاني القرآن هي أشرف المعاني، وقد بيَّنها الصحابة والتابعون وأتباعهم، ولما خرجت البدع المخالفة للسنة ذهب أهلها يستدلون لها بالقرآن، فوقعوا بين أمرين: الأول: أن يدل القرآن على خلاف ما ذهبوا إليه، فعمدوا إلى مثل هذه الآية وحرَّفوها إما لتناسب معتقدهم، وإما لإبطال استدلال أهل السنة بها. الثاني: أن يأتوا إلى الآية ويحملونها لمجرد الشبهة على ما لم تدلّ عليه مطلقًا، ولولا وجود هذا المعتقد، لما حملوها على هذا المحمل. وهذان الصنفان يرجع إليهما كثير من الأخطاء التي وقع فيها أهل البدع في الماضي والحاضر، وهذا ما نبَّه إليه شيخ الإسلام في هذا الفصل، حيث جعل الذين وقع منهم الخطأ في المعاني راجعًا إلى صنفين: قد يكون خطؤهم في الدليل والمدلول، أو يكون خطؤهم في الدليل لا المدلول. الصنف الأول: من يسلبون لفظ القرآن ما دلَّ عليه وأريد به: فالقرآن له معنى صحيح واضح أريد به، وهؤلاء يسلبونه هذا المعنى الواضح، وينفونه عنه بسبب البدعة التي يعتقدونها. فالمعتزلة والإباضية ـ مثلاً ـ يعتقدون عدم رؤية الربِّ سبحانه وتعالى في الجنة، فجاؤوا إلى الآيات التي تدلُّ على الرؤية فنفوا عنها ذلك، وسلبوا منها دلالة الرؤية.

فقوله تعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 ـ 23] صريح في ثبوت رؤية الباري سبحانه، لكن المعتزلة لا يثبتون الرؤية، فكيف يفسرون هذه الآية؟. لقد فسروها بتفسيراتٍ؛ منها ما ذكره الأخفش المعتَزلي (ت:215) في معاني القرآن، قال: «يعني ـ والله أعلم بالنظر إلى الله ـ إلى ما يأتيهم من نِعمِه ورزقِه، وقد تقول: والله ما أنظر إلا الله وإليك؛ أي: أنتظر ما عند الله، وما عندك» (¬1). ومنها ما قال هود بن محكِّم الإباضي (من علماء القرن الثالث): «قال الله عزّ وجل: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} أي: ناعمة. {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}؛ أي تنتظر الثواب، وهي وجوه المؤمنين ...» (¬2). ولو لم تكن هذه العقيدة موجودة عندهم لما نفوا الرؤية الواضحة الصريحة في هذه الآية، وحملوا الآية على ما لم يُرد بها. وخطأهم في هذه الآية في الدليل والمدلول، فالدليل وهو قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} لا يدل على المدلول الخطأ وهو نفي الرؤية. ¬

(¬1) معاني القرآن، للأخفش، تحقيق: هدى قراعة (2:558). (¬2) تفسير كتاب الله العزيز لهود بن محكِّم (4:444)، وقد ذكر بعده هذه الرواية، قال: «وحدثني مسلم الواسطي، قال: سمعت أبا صالح يقول في قوله تعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، قال: تنتظر الثواب من ربها. قال أبو صالح: ما رآه أحد من خلقه ولا يراه أحد». وليس هذا منه اعتمادًا على الرواية، فالحديث الصحيح، وتفسير جمهور السلف جاء بوقوع الرؤية، فلا يلتبس عليك ما اعتمده من وقوع أبي صالح وقبله شيخه مجاهد في هذا التفسير غير المعتمد. فائدة: كذا جاء في تفسير هود بن محكم: «وحدثني مسلم الواسطي»، والقائل هو يحيى بن سلام، فكتاب هود مختصر من كتاب يحيى، لكنه حذف منه ما لا يتناسب مع معتقده كتفسير الآية هنا برؤية الباري، كما أضاف إليه ما يتناسب مع معتقده الإباضي، راجع في ذلك مقدمة المحقق فقد بيّن ذلك بجلاء.

فنفي الرؤية ـ وهو المدلول ـ غير صحيح من جهة الشرع، لذا لا يمكن أن يكون له دليل، فأي استدلال بدليل، فإنه يعني وقوع الخطأ في فهم الدليل، ثم في تفسيره، وهو المدلول. وذهب المرجئة ـ وتبعهم الأشاعرة ـ إلى أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، وهو التصديق، وإذا وُجِدَ التصديق انتفى ضدُّه، وقد أثَّر مفهوم الإيمان على تفسيراتهم، ومن أمثلةِ ذلك ما وقعَ فيه ابن عطيَّةَ (ت:542) في رأيه في كفرِ العنادِ والجحودِ، ومن ذلك ما ذكرَ في قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، قال: «وظاهر قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} حصولُ الكفرِ عنادًا، وهي مسألةٌ قولينِ (¬1)، هل يجوزُ أن يقعَ أم لا؟ ... قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والذي يظهرُ عندي في هذه الآيةِ وكلِّ ما جرى مجراها: أنَّ الكفرةَ كانوا إذا نظروا في آياتِ موسى أعطتهم عقولُهم أنَّها ليست تحت قدرةِ البشرِ، حصلَ لهم اليقينُ أنها من عند اللهِ تعالى، فيغلبُهم أثناء ذلك الحسدُ، ويتمسَّكونَ بالظنونِ في أنه سِحرٌ وغير ذلك مما يختلجُ في الظَّنِّ بحسبِ كلِّ آيةٍ، ويلجون في ذلك، حتى يُستلبَ ذلك اليقين أو يدوم كذلك مضطربًا، وحُكمه حكمُ المستلَبِ في وجوه عذابهم» (¬2). وقال في قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ ¬

(¬1) هذا النقل من طبعة المغرب، ويبدو أنه سقط حرف الجرِّ (على)، وفي المحرر الوجيز، ط: قطر (11:179): «وهي مسألة فيها قولانِ». (¬2) المحرر الوجيز، ط: المغرب (12:96 ـ 97). وقد نقلتُه منها لأنَّ في طبعة: قطر (11:179 ـ 180) سقطٌ مخلٌّ يُقدَّر بسطرينِ، والله المستعانُ، وقد كرر هذه النظرية في (5:182 ـ 184)، وينظر: (1:249، 446 ـ 447)، (4:304 ـ 305)، (12:489 ـ 490).

يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]: «و {يَجْحَدُونَ}، حقيقته في كلام العرب: الإنكارُ بعد المعرفةِ، وهو ضدُّ الإقرار ...» (¬1). ثمَّ قال: «وكفر العنادِ جائزُ الوقوعِ بمقتضى النَّظرِ، وظواهرُ القرآنِ تعطيه؛ كقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]، وغيرها ...» (¬2)، ثُمَّ قالَ: «وأنا أستبعدُ العنادَ مع المعرفةِ التامَّةِ» (¬3). فانظر كيف سلب ابن عطية (ت:542) ما دل عليه القرآن مع أنَّ نصَّ القرآن وظاهره يدلُّ على أنهم علموا علمًا يقينيًا، ولكنهم لم يؤمنوا. وهذا الخطأ ـ أيضًا ـ في الدليل وفي المدلول، فنفي كفر الجحود ـ وهو المدلول ـ غير صحيح من جهة الشريعة، فظاهر الآيات تؤيِّد وقوعه، لذا فإنه لا يمكن أن يوجد دليل يدلُّ عليه، فالنفي الذي وقع من ابن عطية (ت:542) خطأ في الدليل وفي المدلول. ويمكن أن يقال ههنا قاعدة: كل مدلول باطل في ذاته ـ أي لا يدل عليه الشرع ـ فالخطأ فيه يقع من جهة الدليل والمدلول معًا، لأن الدليل الشرعي لا يمكن أن يدل على معنى باطل. ومن أمثلة ما وقع فيه الصوفية في الخطأ في الدليل والمدلول ما ورد عن بعضهم من أنه فسر قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] من أنه الرقصُ، وبنى على ذلك جواز الرقص للرجال، كما يفعله الصوفية. وهذا خطأ، فالرقص من حيث هو لا يجوز للرجال، لذا فربطه بالقرآن خطأ محضٌّ. ¬

(¬1) المحرر الوجيز، ط: قطر (5:182). (¬2) المحرر الوجيز، ط: قطر (5:183). (¬3) المحرر الوجيز، ط: قطر (5:184).

الصنف الثاني: من يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به

الصنف الثاني: من يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به: إن هذا الصنف أثر من آثار الصنف الأول، فغالب ما يقع فيه سلب لمعنى من معاني القرآن أنه يقع فيه حَمْلٌ على معنى غير مراد، والله أعلم. فالمعتزلة لما نفوا الرؤية، حملوا قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] على معانٍ باطلة لم يدل القرآن عليها، ولا هي من مراداته؛ كمن جعل ناظرة من الانتظار، ومن جعل «إلى» جمعٌ بمعنى الآلاء. والأمثلة على حمل القرآن على ما لم يدل عليه ولم يُرد به كثيرة جدًّا، ويكفي أن تأخذ تفسيرًا من تفاسير الرافضة، فإنك ستجد أمثلة بالعشرات، وسترى كيف يقع حمل القرآن على ما لم يُرد به. ومن أمثلة ذلك ما ورد في تفسير شيخ الطائفة الطوسي الرافضي (ت:460)، فقد ذكر تفسير أهل السنة قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلاً} [النساء: 59]، وأن المراد بأولي الأمر: الأمراء أو العلماء، ثمَّ قال: «... وروى أصحابنا عن أبي جعفر وأبي عبد الله أنهم الأئمة من آل محمد صلّى الله عليه وسلّم، فلذلك أوجب طاعتهم بالإطلاق، كما أوجب طاعة رسوله وطاعة نفسه كذلك. ولا يجوز إيجاب طاعة أحد مطلقًا إلا من كان معصومًا مأمونًا منه السهو والغلط، وليس ذلك بحاصل في الأمراء والعلماء، وإنما هو واجب في الأئمة الذين دلت الآية على عصمتهم وطهارتهم، فأما من قال: المراد به العلماء فقول بعيد ...» ثمَّ قال: «ولذا قال في آية أخرى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، ولأنه إذا كان قولهم حجة من حيث كانوا معصومين حافظين للشرع جروا مجرى الرسول صلّى الله عليه وسلّم في هذا الباب» (¬1). ¬

(¬1) التبيان في تفسير القرآن، للطوسي (3:236 ـ 237).

وظاهر من هذا التفسير أنه أثر من آثار اعتقاد إمامة آل بيت علي رضي الله عنه من نسل الحسين رضي الله عنه فقط، وأن هؤلاء الأئمة معصومون من الخطأ، ومن ثمَّ فإن اتباعهم بإطلاقٍ شرعٌ ودينٌ. وكون هذه الآية مخصوصة بأئمة البيت لا دليل عليه، وما استدلَّ به إنما يروج عند أصحابه لا غير، وليس في الآية ما يدلُّ على حملها على هذا المحمل البتة. وهذا من الخطأ في الدليل وفي المدلول، فوجود أئمة معصومين لا صحَّة له البتة، والزعم بأنَّ الله أمر بإطاعة أهل البيت ـ لأجل أنهم أهل البيت ـ دون غيرهم = لم يأتِ فيه شيء صحيح، لذا فحمل هذه المعاني التي لم يرد فيها نصٌّ في الشرع على القرآن خطأ محض. ولولا المفهوم الخاص لأئمة آل البيت عند الرافضة، وادعاء العصمة لهم لما وقع هذا التحريف للآية، لذا لا تجد مثل هذا التحريف في الآية إلا عند الرافضة ومن سار على سبيلهم من الإسماعيلية. وقد كان من آثار هذه العقيدة (الإمامة) عند الرافضة أن حملوا آيات على أنها فضائل لعلي وآل بيته رضي الله عنهم، وأنها نزلت بشأنهم، وبالمقابل نزعوا أي فضيلة تخص أبا بكر الصديق رضي الله عنه في الآيات، مع وضوح فضله فيها، وكونها من الظاهر الذي لا يكاد ينكر، لكنهم يحرفون معناها إلى ما يوافق عقيدتهم في الصحابة الكرام، وإليك المثال: في قوله تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]، قال الطوسي الرافضي (ت:460): «وليس في الآية ما يدل على تفضيل أبي بكر؛ لأن قوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} مجرد الإخبار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج ومعه

غيره، وكذلك قوله: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} خبر عن كونهما فيه، وقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} لا مدح فيه أيضًا؛ لأنَّ تسمية الصاحب لا تفيد فضيلة، ألا ترى أن الله تعالى قال في صفة المؤمن والكافر: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ} [الكهف: 37]، وقد يسمون البهيمة بأنها صاحب الإنسان كقول الشاعر: وصاحبي بازل شمول وقد يقول الرجل المسلم لغيره: أرسل إليك صاحبي اليهودي، ولا يدلُّ ذلك على الفضل. وقوله: {لاَ تَحْزَنْ} وإن لم يكن ذمًّا، فليس بمدح، بل هو نهي محضٌّ عن الخوف. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}؛ قيل: المراد به النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو أريد أبو بكر معه لم يكن فيه فضيلة؛ لأنه يحتمل أن يكون ذلك على وجه التهديد؛ كما يقول القائل لغيره إذا رآه يفعل القبيح: لا تفعل، إن الله معنا، يريد أنه مطلع علينا، عالم بحالنا. والسكينة قد بيّنا أنها نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم بما بيّناه من أن التأييد بجنود الملائكة كان يختص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فأين موضع الفضيلة للرجل لولا العناد. ولم نذكر هذا للطعن في أبي بكر، بل بيَّنا أن الاستدلال بالآية على الفضل غير صحيح» (¬1). فيالله العجب من هذا الكلام والتحريف الذي يُستعمل فيه كل تخريج غريب، يُغالب به ظاهر الآية ونصَّها، فمجرد الاحتمال حجة، وليس هذا فقط بل هو احتمال باطل متهافت، فهل مقام الغار مقام تهديد لأبي بكر، ¬

(¬1) التبيان في تفسير القرآن، للطوسي (5:222 ـ 223).

سبحانك ربي هذا بهتان عظيم، ونشهدك على حبِّ أبي بكر وبغض من يبغضه. أما إذا جاء الأمر لعلي رضي الله عنه ـ وله من الفضائل الصحيحة ما لا يُنكر، وهو غنيٌّ عن تلك الفضائل المكذوبة ـ لم تجد مثل هذه التخريجات، بل إن الآيات التي يُستدلُّ بها في كثيرٍ من الأحيان لا تخصُّه وحده، لكنهم يخصونها به، ويرونها فضيلة له، ومن ذلك: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، ذكر الطوسي (ت:460) فيمن نزلت هذه الآية أربعة أقوال: الأول: نزلت في أبي بكر، ونسبه إلى الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج. الثاني: نزلت في الأنصار، ونسبه إلى السدي. الثالث: نزلت في أهل اليمن، وذكر أنه روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأن الطبري اختاره. الرابع: أنها نزلت في أهل البصرة ومن قاتل عليًّا، ونسبه إلى أبي جعفر وأبي عبد الله وعمار وحذيفة وابن عباس. ثم قال الطوسي (ت:460) معلقًا على القول الرابع: «... فروي عن أمير المؤمنين أنه قال يوم البصرة: والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم، وتلا هذه الآية، ومثل ذلك روي عن حذيفة وعمار وغيرهما. والذي يقوِّي هذا التأويل أن الله تعالى: وصف من عناه بالآية بأوصاف؛ وجدنا أمير المؤمنين مستكملاً لها بالإجماع؛ لأنه قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى

الْمُؤْمِنِينَ} وقد شهد النبي صلّى الله عليه وسلّم لأمير المؤمنين بما يوافق لفظ الآية في قوله يوم ندبه لفتح خيبر بعد فرار من فرَّ عنها واحدًا بعد واحدٍ (¬1): «لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارٌ غير فرَّار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه»، فدفعها إلى أمير المؤمنين، فكان من ظفره ما وافق خبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ثمَّ قال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، فوصف من عناه بالتواضع للمؤمنين والرفق بهم، والعزة على الكافرين، والعزيز على الكافرين هو الممتنع من أن ينالوه مع شدة نكايته فيهم ووطأته عليهم، وهذه أوصاف أمير المؤمنين التي لا يُدانَى فيها ولا يُقارب. ثمَّ قال: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ} فوصف ـ جلَّ اسمه ـ من عنا بهذا الجهاد، وبما يقتضي الغلبة فيه، وقد علمنا أنَّ أصحاب رسول الله بين رجلين: رجلاً لا عناء له في الحرب ولا جهاد. والآخر له جهاد وعناء، ونحن نعلم قصور كل مجاهد عن منزلة أمير المؤمنين في الجهاد، فإنهم مع منزلتهم في الشجاعة وصدق البأس لا يلحقون منزلته ولا يقاربون رتبته؛ لأنه المعروف بتفريج الغمم، وكشف الكرب عن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو الذي لم يحم قط عن قرن، ولا نكص عن هول، ولا ولَّى الدبر، وهذه حالة لم تسلم لأحد من قبله ولا بعده، فكان بالاختصاص بالآية أولى؛ لمطابقة أوصافه لمعناها. فأما من قال إنها نزلت في أبي بكر، فقوله بعيد من الصواب؛ لأنه ـ تعالى ـ إذا وصف من أراد بالآية بالعزة على الكافرين، وبالجهاد في سبيله مع اطراح اللوم؛ كيف يجوز أن يظن عاقل توجيه الآية إلى من لم يكن له حظ في ذلك الموقف؛ لأن المعلوم أن أبا بكر لم يكن له نكاية في ¬

(¬1) لا يجهلك أخي القارئ ما في هذا الزعم من خطأ، بل كذبٍ، والله المستعان.

المشركين، ولا قتيل في الإسلام، ولا وقف في شيء من حروب النبي صلّى الله عليه وسلّم موقف أهل البأس والفناء، بل كان الفرار شيمته، والهرب ديدنه، وقد انهزم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في مقام بعد مقام، فانهزم يوم أُحد، ويوم حنين، وغير ذلك، فكيف يوصف بالجهاد في سبيل الله ـ على ما يوصف في الآية ـ من لا جهاد له جملة (¬1)، وهل العدول بالآية عن أمير المؤمنين مع العلم الحاصل بموافقة أوصافه إلى غيره إلا عصبية ظاهرة، ولم يذكر هذا طعنًا على أبي بكر رضي الله عنه، ولا قدحًا فيه؛ لأن اعتقادنا فيه أجمل شيء بل قلنا: أليس في الآية دلالة على ما قال (كذا)» (¬2). ولا أدري لماذا لم يناقش من قال بأنها نزلت في الأنصار، أو نزلت في أهل اليمن؟! ولماذا اختار إبطال كونها نزلت في أبي بكر؟! ثم يزعم ـ بعد هذا ـ أنه لا يطعن في أبي بكر، وأن اعتقاده فيه أجمل شيء؛ سبحان الله، والحمد لله الذي لم يجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا. وإني لأعجب من هؤلاء القوم، ألا يمكن أن تثبت فضائل علي رضي الله عنه إلا بتنقُّص صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الآخرين؟! ولولا ما يعتقده من أمر الولاية لعلي لما ذهب إلى مثل هذا الكلام الذي يظهر منه روح العصبية، ولَعَلِمَ أن الآية عامة في كل من ينطبق عليه هذا الوصف، ويا ليته بيَّن كيف يُطلق لفظ القوم الدال على المجموع على شخص واحد؟! ومن الأمثلة التي وقع فيها الخطأ في الدليل دون المدلول، ما ذكره القرطبي عن بعض المتصوفة أنه فسر قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ ¬

(¬1) سبحانك ربي هذا بهتان عظيم. (¬2) التبيان في تفسير القرآن، للطوسي (3:555 ـ 557).

قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]، قال: «هذه الآية مثل ضربه الله للدنيا، فشبَّهها الله بالنهر، والشاربَ منه بالمائل والمستكثر منها. والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهد فيها. والمغترف غرفة بيده بآخذ منها قدر الحاجة، وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة». هذا الكلام ـ وهو المدلول ـ لو ذُكِرَ مجرَّدًا عن الآية، ولم يُزعم أنها تدلُّ عليه لكان كلامًا حسنًا مقبولاً، فهو ـ من حيث هو ـ كلام صحيح يوافق الحقَّ، لكن كون الآية دلت عليه غير صحيح مطلقًا. وهذا النوع كما يكثر عند الصوفية، فإنه يكثر اليوم عند الوُعَّاظِ، وعند متطلِّبي الفوائد التربوية، ومن يحرص على تنْزيل الآيات على الواقع، ومن يتتبع تنْزيل القرآن على المكتشفات العلمية المعاصرة. فكل هؤلاء قد يذكرون في كلامهم ما هو صحيح في ذاته، غير مخالفٍ لشيء من الشريعة، لكن يقع الخطأ في كون الآية تدلُّ على المسألة التي يذكرونها. فالمنازعة هنا في صحَّة دلالة الآية على هذه الفائدة أو تلك، وليس في صحة الفائدة في ذاتها، والله أعلم. وأختم هذا المبحث بنقل كلام آخر لشيخ الإسلام في هذا الموضوع، قال: «... وأغرب من هذا ما قاله لي مرة شخص من هؤلاء الغالطين في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ}، قال: المعنى: وما يعلم تأويل (هو)؛ أي: اسم (هو) الذي يقال فيه: هو هو، وصنَّف ابن عربي كتابًا في (الهو).

فقلت له ـ وأنا إذ ذاك صغيرٌ جدًّا ـ: لو كان كما تقول؛ لكُتِبت في المصحف مفصولة (تأويل هو)، ولم تُكتب موصولة. وهذا الكلام الذي قاله هذا معلوم الفساد بالاضطرار، وإنما كثير من غالطي المتصوفة لهم مثل هذه التأويلات الباطلة في الكتاب والسنة. وقد يكون المعنى الذي يعنونه صحيحًا؛ لكن لا يدل عليه الكلام، وليس هو مراد المتكلم. وقد لا يكون صحيحًا؛ فيقع الغلط تارة في الحكم، وتارة في الدليل؛ كقوله بعضهم: {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}؛ أي: أن رأى ربه استغنى. والمعنى: إنه ليطغى أن رأى نفسه استغنى. وكقول بعضهم: فإن لم تكن تراه؛ يعني: فإن فَنِيتَ عنك رأيت ربك. وليس هذا معنى الحديث، فإنه لو أريد هذا لقيل: فإن لم تكن؛ تَرَهْ، وقد قيل: تراه. ثم كيف يصنع بجواب الشرط، وهو قوله: فإنه يراك. ثم إنه على قولهم الباطل تكون كان تامة؛ فالتقدير: فإن لم تكن؛ أي: لم تقع ولم تحصل. وهذا تقدير مُحَالٌ، فإن العبد كائنٌ موجودٌ ليس بمعدوم. ولو أريد فناؤه عن هواه، أو فناء شهوده للأغيار = لم يعبر بنفي كونه، فإن هذا مُحَالٌ. ومتى كان المعنى صحيحًا، والدلالة ليست مرادة، فقد يسمى ذلك إشارة. وقد أودع الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي (حقائق التفسير) من هذا قطعة» (¬1). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (10:560 ـ 561).

ثالثا: الوجه الثاني من سببي الخطأ في الاستدلال

ثالثًا: الوجه الثاني من سببي الخطأ في الاستدلال: قوم فسَّروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب بكلامه، من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن، والمنَزَّل عليه، والمخاطب به، وكان نظرهم إلى اللفظ أسبق. يدخل في هذا المقام أصناف من المتأوِّلين للقرآن، يجتمعون فيه، وإن كانت الأسباب بينهم مختلفة، ومن هذه الأسباب: 1 - عدم اعتبار المصطلحات الشرعية. 2 - عدم الاعتماد على الملابسات التي تحدِّد المدلول العربي المراد، ولا على الوارد عن السلف في ذلك. 3 - الدعوة إلى تفسير القرآن من قِبَلِ أي قارئ عربي كائنًا من كان لكون القرآن نصًا عربيًا أدبيًا. وهؤلاء كلهم جرَّدوا القرآن عن ملابساته، وجعلوه لفظًا عربيًّا مجرَّدًا، فتأوَّلوه على هذا التأوُّل، فوقعوا في الخطأ من هذه الجهة. وهنا ملحظ مهمٌّ جدًّا، وهو أن اللغة لا يمكن أن تستقل بفهم القرآن، وإن كانت من أكبر مصادره وأكثرِها؛ لكونه نزل قرآنًا عربيًّا. كما أن هناك ملحظ دقيق آخر، وهو أنَّ هؤلاء الذين ذهبوا إلى هذا الفعل من الاعتماد على اللغة دون غيرها من المصادر يدخلون في زمرة من اعتقد معانٍ فأراد حمل القرآن عليها، حيث إنهم جعلوا اللغة التي وصلت إليها أفهامهم حكمًا على نصوص القرآن، وما من شكٍّ أن الأفهام ـ مهما بلغت ـ لا يمكن أن تستوعب المعاني، فالحكم على المعنى من خلال معلومهم من اللغة دون غيرها تحكُّمٌ ظاهرٌ، خصوصًا إذا ظهر في عباراتهم ما يدلُّ على ردِّ قول السلف أو ازدرائه.

كما يلاحظُ أيضًا أنَّ قومًا من المبتدعة ذهبوا إلى تقرير بدعِهم بمجازات جائزة في اللغة من حيث الورود، غير أن الخلاف معهم في جوازها في موضع الاختلاف، كما في تفسير اليد في مثل قول الله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] بأنها النعمة، وذلك وارد في اللغة من حيث إطلاق اليد على النعمة، وإنما الاختلاف معهم في عدم صحة هذا الإطلاق هنا، وأن الصحيح حمل اليد على ظاهرها حملاً يليق بذات الله وجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا تكييف ولا تعطيل. وأعود للتمثيل للأسباب السابقة، فأقول: أولاً: عدم اعتبار المصطلحات الشرعية: إذا تنازع اللفظَ الحقيقةُ الشرعيةُ والحقيقة اللغويةُ؛ قدِّمتِ الحقيقةُ الشرعيةُ؛ لأنَّ الشارعَ مَعْنِيٌّ ببيان الشرع لا ببيان اللغة. وتركُ المصطلح الشرعي ـ مع إرادته ـ يدخل في فعل من لم ينظر في الخطاب إلى المخاطب ولا إلى المنزَل عليه. ويظهر في مثل هذا النوع أنَّ لاعتقاد المعاني السابقة أثرًا في اختيار المعنى اللغوي دون المعنى الذي ينازَع عليه أهل السنة، وبسط مثل الموضوعات محله كتب الاعتقاد. ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما وقع من الاختلاف بين طوائف الأمة في مسمى الإيمان، فالإيمان في الشرع: قول وعمل واعتقاد، وذهبت المرجئة إلى أنه التصديق فقط دون غيره من المعاني؛ لأنَّه كذلك في اللغة. وهؤلاء ـ وإن كانوا قد اعتقدوا ثمَّ قصروا المعنى على المدلول اللغوي ـ اعتمدوا على المعنى اللغوي دون نظر إلى مراد المتكلم على الحقيقة. وليس المراد هنا ذكر التفصيل في الردِّ، وإنما الذي يتعلق بالأمر هنا التنبيه الجملي على خطأ حمل الإيمان على مجرد التصديق دون سائر

المعاني التي دلّ الشرع على دخولها فيه كما هو مبسوط في كتب الاعتقاد. ثانيًا: عدم الاعتماد على الملابسات التي تحدِّد المدلول العربي المراد: التعبير بالملابسات أوسع من التعبير بسبب النُّزول، فهو يشمله ويشمل قصص الآي، وغيرها من الملابسات المتعلقة بالنُّزول؛ كعادات العرب، وعقائدهم، وشرائعهم. ومن ذلك ما وقع في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى (ت:210): «... ومجازها: أي اطلبوا البر من أهله ووجهه، ولا تطلبوه عند الجهلة المشركين» (¬1). وهذا الذي ذهب إليه أبو عبيدة يجعل الأمر على التمثيل لا الحقيقة، فالبيوت ليست البيوت المسكونة، وإنما هي تمثيل لمن يسأل من لا علم له، ولا يسأل من عنده علمٌ، فهو كمن يأتي البيت من ظهره دون بابه المعروف. وهذا الذي قاله جائزٌ من جهة العربية، وهو محتملٌ لو كان الكلام مجرَّدًا عن سياقه، أما سياقه فيدلُّ على معنى آخر، وهو أن البيوت على الحقيقة، وهي البيوت المسكونة، وعلى هذا جاء تفسير السلف. والآية تحكي عادة وشريعة جاهلية كانوا يعملون بها، فعن البراء رضي الله عنه، قال: «نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤوا لم يدخلوا من قِبَلِ أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار، فدخل من قبل بابه فكأنه عُيِّرَ بذلك، فنَزلت {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}» (¬2). ¬

(¬1) مجاز القرآن (1:68). (¬2) رواه البخاري، ويُنظر في تفسير السلف: تفسير الطبري، ط: الحلبي (2:186 ـ 188)، =

فالذي شهِد التنْزيل ـ وهو البراء ـ يبيِّن أن المراد بالبيوت البيوتُ المسكونةُ، ولا مجال مع تفسيره هذا إلى القول بهذا المجاز البعيد الذي قاله أبو عبيدة (ت:210). وقد كان من آثار هذا الأسلوب أنه كلما ابتعد التفسير عن عصر السلف ظهر عند بعض المفسرين أو المشاركين في التفسير تكثير المحتملات من جهة العربية دون النظر إلى ملابسات النُّزول، ولا إلى الوارد عن السلف في ذلك. ومن أراد أمثلة ظاهرة على وقوع مثل هذا الأمر في تفسير الآيات، فليطَّلع على مثل تفسير الماوردي (ت:450)، وغرائب التفسير وعجائب التأويل للكرماني (ت: بعد 500)، وتفسير ابن عادل الحنبلي (ت:880)، وغيرها ممن يُعنى بنقل الغرائب دون تمحيص لها وردٍّ عليها. ومن الكتب التي لها باعٌ في باب تكثير المحتملات من جهة العربية دون النظر إلى ملابسات النُّزول، ولا إلى الوارد عن السلف = أمالي الشريف المرتضى (ت:436) (¬1)، فهو يُكثِر من ذكر المحتملات اللغوية، ولو كانت ضعيفة بل شاذَّة غير معتبرٍ بملابسات النُّزول، بل يكتفي بورود ¬

= وفي تفسيرهم تفاصيل أخرى لهذه العادة الجاهلية. (¬1) هذه الأمالي من نفائس الكتب، وأحسنها في عرض المعلومات وتنوعها، لولا ما كان من مذهبٍ رديءٍ لمؤلفها، فهو معتزلي رافضيٌّ، واعتزالياته أشهر وأظهر من رافضياته في هذا الكتاب. ولقد فُقِد اليوم جانب الإملاء والكتابة على هذه الطريقة الماتعة، فلا تكاد ترى إملاءً متنوعًا من عالم متنوع الفنون يتنقل بك من فائدة لغوية، إلى نكتة بلاغية، إلى حكم فقهي، إلى تفسير غريب لفظة، إلى ترجمة علمٍ، إلى بيان آية، إلى غير ذلك، حتى كأنَّك تسير في دوحةٍ غنَّاء مليئة بالطيور المغردة والزهور البهيجة والخضرة النضرة. وقد رتَّب كتابه هذا على منهج لطيف، فيبدأ بتأويل آية، ثمَّ بشرح حديث، ثمَّ بشرح شعر، وسار على هذا في غالب كتابه.

الاحتمال على النصَّ، وانظر ما قاله في هذه الآية السابقة من احتمالات بعيدة عن سياق الآية وملابساتها. أورد الشريف المرتضى خمسة احتمالات في معنى جملة {وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}، وهي: 1 - أنها عادة في التطير عند الجاهليين وذلك أن الرجل منهم إذا قصد حاجة فلم تُقض له، ولم ينجح فيها رجع فدخل من مؤخر البيت ولم يدخل من بابه، فدلهم الله على أن هذا من فعلهم لا برَّ فيه، وأمرهم من التُّقَى بما ينفعهم ويقربهم إليه. 2 - ذكر السبب المذكور عن البراء وغيره الذي يجعل البيوت حقيقة في البيوت المسكونة، وهو مذكور في الفقرة السابقة. 3 - ذكر جواب أبي عبيدة، وهو مذكور في الفقرة السابقة. 4 - جواب الجبائي المعتزلي، وهو أن الله ضرب المثل لمن أتى الأمر من غير جهته وأن هذا ليس من البر ... وأمر إتيان الأمور من وجوهها ... (¬1). 5 - أن تكون البيوت كناية عن النساء، ويكون المعنى: وأتوا النساء من حيث أمركم الله، والعرب تسمي المرأة بيتًا ... وإذا تأمَّلت هذه الأقوال التي ذكرها ـ سِوَى القول الثاني ـ ظهر لك جليًّا بُعدها عن الصواب، ونزعها الآية عن سياقها وملابساتها، والذهاب بها إلى معنى عربي غير مرادٍ، فما علاقة السياق ـ مثلاً ـ بإتيان النساء من حيث أمر الله، تأمَّل وانظر، هل تجدُ علاقة؟! ¬

(¬1) أمالي الشريف المرتضى (1:376 ـ 378).

ثالثًا: الدعوة إلى تفسير العربي كائنًا من كان لكون القرآن نصًا عربيًا أدبيًا: هذه الدعوة جاءت في هذا العصر، وهي وإن كانت متأخِّرة عن عصر شيخ الإسلام إلا أنها تدخل في هذا الباب، حيث يزعم أصحاب هذه الدعوة أنهم عرب يفهمون الخطاب العربي، ولا حاجة لهم بقول من تقدَّمهم، بل شطح أمين الخولي فزعم أنه يجوز للعربي من دون نظر إلى معتقده أن يدرس القرآن دراسة أدبية، لا لأنه يملك أدوات التفسير بل لأنه عربي يتذوَّق العربية فقط. يقول أمين الخولي: «... وهذا الدرس الأدبي للقرآن في ذلك المستوى الفني، دون نظر إلى أي اعتبار ديني، هو ما نعتده وتعتده معنا الأمم العربية أصلاً، العربية اختلاطًا؛ مقصدًا أول ...» (¬1). ويدخل في هذه الدعوة كل من زعم اليوم أنه عربي يستطيع فهم القرآن بعربيته، ويرى أنه ليس بحاجة إلى قول فلان أو علان من المفسرين، فهم رجال كما أنه رجل. وهذه دعوة متهافتة، فكم من قول شاعر ذهب إدراك مراده على وجهه بسبب جهل ملابسات قوله، فما بالك بكتاب الله الذي له أكثر من مصدرٍ في تفسيره، واللغة أحدها، وهي لا تستقلُّ بفهمه. وأولئك الذين يزعمون ـ اليوم ـ أنهم يفسرون القرآن أو يتذوقونه بعربيتهم يُخفون أو يَخفى عليهم ـ مقدمات وآراء يعتقدونها؛ يحملون ألفاظ القرآن عليها، ويحرفونها إليها. وقبل أن أختم الحديث هنا عن هذا الموضوع أُشير إلى جملة علوم العربية ومنْزلتها من التفسير، فأقول: ¬

(¬1) التفسير: نشأته .. تدرجه .. تطوره (ص:78).

1 - إنَّ القرآن نزل بلسان عربيٍّ مبينٍ، ففهمه لا يمكن أن يكون خارج إطار هذه اللغة الشريفة. 2 - إنَّ هذه اللغة الشريفة مصدرٌ من مصادرِ التفسير، وهي من أوسع مصادر التفسير المعتمدة، وقد اعتمد عليها في تفسير القرآن مفسرو السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، كما اعتمد عليها اللغويون المعاصرون لأتباع التابعين، واعتمد عليها كل من جاء بعدهم من المفسرين واللغويين، ولم يخرج عن هؤلاء الذين تعرضوا لكتاب الله سوى قوم من الباطنية نحوا بكلامهم في كتاب الله إلى الرمز والإلغاز الذي ليس من صفة هذه الشريعة السمحة الميسرة للعالمين. 3 - أن علوم العربية (النحو والصرف واللغة والبلاغة) تختلف الحاجة إليها من علم إلى علم في بيان كلام الله سبحانه، وأعظمها شأنًا في ذلك علم مفردات اللغة الذي لا يمكن أن تخلو آية من الحاجة إليه بخلاف غيره من العلوم العربية. 4 - يلاحظ في علم النحو أمور؛ منها: الأول: إن علم النحو من العلوم التي دخلها ريحُ اعتقادِ المعنى وحمل ألفاظ القرآن عليه، ذلك أنَّ النحويين قعَّدوا قواعد جعلوها أصولاً، صاروا يحتكمون إليها، ويحكمون بها على قراءات القرآن، وعلى تفسيرات السلف، فصاروا ـ بهذا العمل ـ أشبه بطريقة المعتزلة وغيرهم من المتكلمين الذين قعَّدوا قواعد عقلية يحتكمون إليها، ويحكمون بها على القرآن. الثاني: كثرة المحتملات النحوية التي يوردها المعربون لآيات القرآن، حتى إنهم ليذكرون ـ في بعض الأحيان ـ أعاريب شاذة وضعيفة؛ إما للتكثُّرِ بها، وإما لنُصرة المذهب، وإما لغير ذلك من الأسباب. وقد سجَّل بعض العلماء ملاحظتهم على ذلك؛ فمن ذلك ما قاله

أبو حيان (ت:745): «ينبغي أن يُحمَل [أي: القرآن] على أحسنِ إعرابٍ، وأحسنِ تركيبٍ، إذ كلامُ اللهِ تعالى أفصحُ الكلامٍ، فلا يجوزُ فيه جميعُ ما يُجَوِّزُه النُّحاةُ في شعرِ الشَّمَّاخِ والطِّرِّمَّاحِ وغيرهما، من سلوكِ التَّقاديرِ البعيدةِ، والتَّراكيبِ القلقةِ، والمجازاتِ المُعقَّدةِ» (¬1). وقال ابن القيم (ت:751): «لا يجوزُ أن يُحمل كلامُ الله عزّ وجل ويفسَّرَ بمجرَّدِ الاحتمالِ النَّحويِّ الإعرابيِّ الذي يحتملُه تركيبُ الكلام، ويكونُ الكلامُ به له معنى ما، فإنَّ هذا المقامَ غلط فيه أكثرُ المعربين للقرآنِ، فإنَّهم يفسِّرون الآية ويعربونها بما يحتملُه تركيب تلك الجملةِ، ويُفهمُ من ذلك التَّركيبِ أيُّ معنًى اتَّفقَ، وهذا غلطٌ عظيمٌ يقطعُ السَّامعُ بأنَّ مرادَ القرآنِ غيرُه. وإن احتملَ ذلك التَّركيبُ هذا المعنى في سياقٍ آخرَ وكلامٍ آخرَ، فإنَّه لا يلزمُ أن يحتملَه القرآنُ؛ مثلُ قولِ بعضهم في قراءة من قرأ {وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، بالجرِّ: إنَّه قَسَمٌ. ومثلُ قول بعضِهم ـ في قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217]ـ: إنَّ المسجد مجرورٌ بالعطفِ على الضميرِ المجرورِ في «به». ومثل قول بعضهم ـ في قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ} [النساء: 162]ـ: أنَّ المقيمين مجرورٌ بواو القسم، ونظائرُ ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا، وأوهى بكثيرٍ. بل للقرآنِ عُرْفٌ خاصٌّ، ومعانٍ معهودةٌ، لا يُناسِبُه تفسيرُه بغيرِها، ولا يجوزُ تفسيرُه بغيرِ عرفِه والمعهودِ من معانيه، فإنَّ نسبة معانيه إلى المعاني، كنسبةِ ألفاظه إلى الألفاظِ، بل أعظمُ. ¬

(¬1) ينظر: البحر المحيط، لأبي حيان، بعناية: عرفات العشا حسونة (1:12، 207).

رابعا: نقد بعض التفاسير المخالفة لمنهج السلف، وبيان المنهج العقدي العام لها

فكما أنَّ ألفاظَهُ ملوكُ الألفاظِ وأجلُّها وأفصحُها، ولها من الفصاحة أعلى مراتِبها التي يعجزُ عنها قدر العالمين، كذلك معانيه أجلُّ المعاني وأعظمُها وأفخمُها، فلا يجوزُ تفسيرُه بغيرِها من المعاني التي لا تليقُ به، بل غيرُها أعظمُ منها وأجَلُّ وأفخمُ، فلا يجوزُ حملُه على المعاني القاصرةِ بمجرَّدِ الاحتمالِ النَّحويِّ الإعرابيِّ. فتدبَّرْ هذه القاعدة، ولتكنْ منك على بالٍ، فإنَّكَ تنتفعُ بها بمعرفة ضَعْفِ كثيرٍ من أقوالِ المفسِّرينَ وزيفها، وتقطع أنها ليست مرادَ المتكلم ـ تعالى ـ بكلامِه» (¬1). وهذا الموضوع فيما يتعلق بالعربية ومنْزلتها من علوم التفسير مما يحتاج إلى ترتيب المعلومات التي يُعنى بها المفسر، وهو بحاجة إليها؛ لأنَّ كثيرًا من المعلومات المتعلقة بعلوم العربية لا فائدة فيها من جهة التفسير، وإنما فائدتها في تلك العلوم أصالةً، وهذا موضوع يحتاج إلى بحث مستفيض يبين فيه علاقة هذه العلوم العربية بالتفسير من جهة، وبالقرآن من جهة أخرى. رابعًا: نقد بعض التفاسير المخالفة لمنهج السلف، وبيان المنهج العقدي العام لها: ذكر شيخ الإسلام ـ في هذا الفصل ـ نوعين من التفاسير: الأول: تفاسير نقلية، وهي التي تنقل تفسير السلف صِرفًا، وبيّن أن هذه لا يقع فيه خطأ من جهة الاستدلال، وقد مضى الحديث فيها. الثاني: تفاسير أهل البدع على مراتبهم في ذلك، وهذه التفاسير يقع فيها الخطأ من جهة الاستدلال، وقد سبق بيان وجه الخطأ. ¬

(¬1) بدائع الفوائد (3:538).

وسيكون الحديث هنا عن هذه التفاسير، وذكر شيءٍ من أمثلةٍ للمعتقدات التي ذكرها شيخ الإسلام؛ ليتبين أثر ذلك المعتقد على تحريف التفسير. 1 - تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصمِّ (ت:201)، وهو من متقدمي المعتزلة من أهل القرن الثاني، وقد أشار شيخ الإسلام إلى تقدُّم زمنه بقوله: «شيخ إسماعيل بن علية (ت:218) الذي كان يناظر الشافعي (ت:204)». وقد بقيت نقولات من تفسيره عند الرازي (ت:604) في تفسيره مفاتيح الغيب، حيث كان حريصًا على نقل أقوال المعتزلة ومناقشتها (¬1). 2 - كتاب محمد بن عبد الوهاب؛ المعروف بأبي علي الجبائي (ت:303)، وهو من المقدَّمين عند المعتزلة، وله آراء وأتباع، وكتابه في التفسير يسمى (التفسير الكبير) (¬2). ومن هذا الكتاب نقول عند الطوسي الرافضي المعتزلي (ت:460) في كتابه التبيان في تفسير القرآن، وعند الرازي (ت:604) في تفسيره مفاتيح الغيب. 3 - كتاب القاضي عبد الجبار الهمذاني (ت:415) المسمى بالتفسير الكبير (¬3). ¬

(¬1) ينظر في ترجمته: كتاب المنية والأمل المنسوب للقاضي عبد الجبار المعتزلي، وقد ذكر تفسيره، ووصفه بأنه عجيب، وذكر أن الجبائي المعتزلي لا يذكر أحدًا في تفسيره سواه. المنية والأمل، تحقيق الدكتور عصام الدين محمد علي (ص:67 ـ 71). (¬2) سير أعلام النبلاء (14:184). (¬3) ينظر في هذا الكتاب: مقدمة الدكتور عدنان زرزور لكتاب (متشابه القرآن) للقاضي عبد الجبار، وقد اعتنى ببعض كتبهم وتراثهم؛ ككتابه: الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير، والحاكم هذا معتزلي؛ كما أشار في تعليقاته على مقدمة شيخ الإسلام (ص:83) أنه أعدَّ دراسة عن منهج المعتزلة في تفسير القرآن.

وهذا الكتاب ليس له ذكرٌ في كتب التفسير، وقد طُبِع للقاضي عبد الجبار (ت:415) كتاب (متشابه القرآن)، وكتاب (تنْزيه القرآن عن المطاعن)، وهما كتابان متعلقان بالقرآن، لكنهما غير كتابه الكبير في التفسير. 4 - كتاب علي بن عيسى الرماني (ت:384) الجامع لعلم القرآن. وهذا الكتاب بقيت منه نقول في بعض كتب التفسير، كتفسير الماوردي (ت:450) النكت والعيون، وتفسير الطوسي الرافضي (ت:460) التبيان في تفسير القرآن، كما أنه قد بقيت قطعة مخطوطة منه. وهو تفسير تظهر فيه صبغة الاعتزال واضحة جليَّة، فما تكاد تمرُّ آية فيها نصر لمذهبهم ـ فيما يرى ـ إلا انتصر له وبيّنه، وما من آية يرى فيها ردًّا على خصوم المعتزلة إلا ذكره. ويتصف هذا الكتاب بحسن التنظيم، مع العناية الفائقة بالمذهب الاعتزالي وبالفروق اللغوية، ويكثر فيه طريقة السؤال والجواب: (فإن قيل ... فالجواب). 5 - كتاب الزمخشري (ت:538) المسمَّى (الكشاف عن حقائق التنْزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل)، وهو التفسير المطبوع كاملاً من تفاسير المعتزلة، وقد فاق أسلافهم في قدرته على دسِّ اعتزالياته بعبارات ظاهرها السلامة، وباطنها الاعتزال، حتى لقد فات على بعض الفضلاء دقَّة النظر في عباراته، فأوردها في مقام الاحتجاج أو ذكرها دون أن يلحظ عليها ما فيها من اعتزال؛ كما أشار شيخ الإسلام إلى ذلك. 6 - كتاب أبي جعفر الطوسي (ت:460) المسمَّى (التبيان في تفسير القرآن)، وهو مطبوعٌ، ومادته العقدية مستقاة من كتب المعتزلة، وما يتعلق بالإمامة فهي مستقاة من كتب الإمامية الرافضة ككتب شيخه محمد بن

محمد بن النعمان (ت:413) المسمى بالمفيد (¬1)، وغيره من أئمة الرافضة. وهذا الكتاب فيه تنظيم للمعلومات، ويغلب عليه النقل، فقد نقل عن مفسري المعتزلة كالجبائي (ت:303)، والرماني (ت:384)، والبلخي وأبي مسلم الأصفهاني (¬2). ونقل عن الفراء (ت:207)، والزجاج (ت:311)، والطبري (ت:310)، وعن الطبري (ت:310) نقل كثيرًا من أقوال السلف في التفسير. وهو يسمي أهل السنة بـ (العامَّة)، كعادة الرافضة في هذه التسمية لأهل السنة. والمقصود هنا أنَّ أبا جعفر الطوسي (ت:460) قد أدخل في تفاسير الإمامية تفسيرات المعتزلة على سبيل القبول لها، وكذا سار على ذلك من جاء بعده من الرافضة؛ كالطبرسي (ت:548) في تفسيره (مجمع البيان) (¬3)، وهو مطبوع متداول. وهذا يعني أنهم أخذوا بأصول المعتزلة العقلية في أصولهم الخمسة، وما يندرج تحتها من مسائل كلامية، دون كلام المعتزلة في الإمامة؛ حيث إن جمهور المعتزلة ـ خصوصًا متأخروهم ـ على إمامة الأئمة الأربعة على ترتيبهم في الخلافة. وقد بقي الرافضة على ما عندهم من أصول نقلية مكذوبة في حقِّ آل البيت، وهو ما يسمى عندهم بـ (الإمامة) (¬4)، فلم يُعملوا فيها العقل، فكانوا ¬

(¬1) المفيد هو الذي ذكره شيخ الإسلام قبل ذكر الطوسي، لكني لم أجد من ذكر له كتابًا في التفسير، فتركت الترجمة له. (¬2) ينظر: مقدمة الطوسي للتبيان (1:1). (¬3) الطبرسي ممن اختصر تفسير الكشاف، ينظر في ذلك: مقدمة المعتني بطباعة هذا التفسير. (¬4) لا يلزم أن يكون الرافضة وافقوا المعتزلة في جميع الجزئيات، لكنهم وافقوهم في الأصول، وفي كثيرٍ من المسائل التفصيلية في الاعتزال، لذا تجد مما فارق فيه =

أمثلة لبعض أصول المعتزلة والرافضة التي حملوا ألفاظ القرآن عليها

متناقضين فكريًّا في الجمع بين طرفي النقيض (¬1). أمثلة لبعض أصول المعتزلة والرافضة التي حملوا ألفاظ القرآن عليها: قال شيخ الإسلام: «وأصول المعتزلة خمسة؛ يسمونها هم: التوحيد، والعدل، والمنْزلة بين المنْزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... وقد وافقهم على ذلك متأخرو الشيعة؛ كالمفيد، وأبي جعفر الطوسي، وأمثالهما». أولاً: أصول المعتزلة التي وافقتهم عليها الرافضة (¬2): الأصل الأول: التوحيد: وقد ذكر شيخ الإسلام بعض ما يندرج تحت هذا الأصل، فقال: «وتوحيدهم هو توحيد الجهمية الذي مضمونه نفي الصفات، وغير ذلك. ¬

= الرافضةُ المعتزلة مسألة الشفاعة، فالرافضة يثبتونها بخلاف المعتزلة ينظر كتاب تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة، لعبد اللطيف عبد القادر الحفظي، دار الأندلس الخضراء، 1421هـ. (¬1) أصول الرافضة الأولى تعتمد على النقل المكذوب، كما هو معروف من حال هذا المذهب، ولما أخذوا بالاعتزال في آخر أمرهم ظهر عندهم تناقض فكري في الجمع بين أصول الرافضة النقلية التي يؤمنون بها وأصول الاعتزال، وعلى سبيل المثال: يرى المعتزلة أن الله لا يفعل القبيح، وأن التقبيح والتحسين عقليان، وقد سرى هذا عند الرافضة، ولم يعارضوه. فيقال لهم: إذا كان علي أحق بالإمامة، وهو أفضل الصحابة على الإطلاق، فإن أخذ الإمامة منه قبيح، وقد قدَّره الله ووقع، ولا يخرج هذا الأمر من حالين: الأولى: أن يكون وقع في ملك الله ما لا يريده، وذلك عجز يُنَزَّه الله عنه. الثانية: أن يكون أراده ورضيه، وعلى مذهبكم يكون قد فعل القبيح، وهو منَزَّه عنه. وفيما يبدو أنَّ هذه المسألة مما تحتاج إلى عناية من أهل الاعتقاد لبيان نقض أصول الرافضة بأصول المعتزلة. (¬2) لا يلزم من هذه الموافقةِ الموافقةُ التامة، بل قد يخالف الرافضة بناءً على أصول عندهم تخالف المذهب الاعتزالي، لكنهم من حيث الجملة يوافقون المعتزلة في أصولهم الخمسة، وانظر مثالاً لذلك فيما سأنقله من نقل عن الرماني والطوسي في أصل إنكار المنكر عند المعتزلة.

قالوا: إن الله لا يُرى، وإن القرآن مخلوق، وإنه ليس فوق العالم، وإنه لا يقوم به علم ولا قدرة، ولا حياة ولا سمع ولا بصر، ولا كلام، ولا مشيئة، ولا صفة من الصفات». المثال الأول: في قوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 115] قال الرماني (ت:384): «ويقال: هل الصفة بلن يكفروه مجازٌ؟ الجواب: قال أبو علي (¬1): نعم؛ إذ الصفة لله جل وعزَّ بأنه شاكر مجازٌ، وحقيقته أنه يثيب على الطاعة ثواب الشاكر على النعمة، فلما استعير للثواب الشكر، استعير لنقيضه من منع الثواب الكفر. وإنما الشكر في الأصل: إظهار النعمة من المنعم عليه بالقيام بحقها، والكفر ستر النعمة من المنعم عليه بتضييع حقها» (¬2). ففسر أبو علي الجبائي (ت:303) الصفة بلازم معناها، وجعله هو المعنى المراد، وهذا تفسير للشيء بخلاف ظاهره، بل الصواب أن صفات الله على الحقيقة، ويدخل فيها ما يذكرونه من هذه اللوازم، لكن ليست هي المرادة دون غيرها كما هو الحال في تفسير المعتزلة في هذا الموطن. الأصل الثاني: العدل: ذكر شيخ الإسلام بعض ما يندرج تحته من مسائل الاعتقاد، فقال: «وأما ¬

(¬1) هو الجبائي. (¬2) الجامع لعلم القرآن (مخطوط)، وقد نقل عنه هذا التفسير الطوسي في التبيان (2:576)، قال: «وقوله: {فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} مجاز، كما أن الصفة لله بأنه شاكر مجاز. وحقيقته أنه يثيب على الطاعة ثواب الشاكر على النعمة، فلما استعير للثواب الشكر استعير لنقيضه من منع الثواب الكفر؛ لأن الشكر بالأصل: هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم، والكفر ستر النعمة من المنعَم عليه بتضييع حقِّها، ومعنى الآية: فلن يُمنعوا ثوابه ...».

عدلهم فمن مضمونه أن الله لم يشأ جميع الكائنات ولا خلقها كلها، ولا هو قادر عليها كلها؛ بل عندهم أن أفعال العباد لم يخلقها الله لا خيرها ولا شرها، ولم يرد إلا ما أمر به شرعًا، وما سوى ذلك فإنه يكون بغير مشيئته». مثال: في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [آل عمران: 109]، قال الرماني (ت:384): «ويقال: لم وجب في الآية الإضافة بمعنى «مالك»، ولم يجب بمعنى «خالق»؟ الجواب: لأنه على طريقة «هذه الأبْنِيةُ لِرَبِّكَ»؛ بمعنى أنه مالك لها. ولا يطلق هذه الصفة بمعنى صانع لها، لأنه لا يدخل فيه معاصي العباد؛ لإيجابها الذمَّ، وإنما الآية مدح وتعظيمٌ لله تعالى» (¬1). فانظر كيف أدخل نفي خلق أفعال العباد في هذه الآية، وليس في الآية حجة عليها، ولا هي متعلقة بهذه المسألة من قريب ولا من بعيد، بل افترض الإشكال وأجاب عنه بكلام غير صحيح (¬2). الأصل الثالث: المنْزلة بين المنْزلتين: وهذا الأصل يدخلون فيه العاصي في أصحاب الخلود في النار، ¬

(¬1) الجامع لعلم القرآن (مخطوط)، وقد نقل عنه الطوسي الرافضي في تفسيره التبيان في تفسير القرآن (2:555) هذا الموضع فقال: «وقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} معناه: ولله ملك ما في السموات. والملك: هو ما له أن يتصرف فيه، ولا يجوز أن يقول مكان ذلك: ولله خلق ما في السموات؛ لأنَّ ذلك يدخل فيه معاصي العباد، والله منزه عنها، والآية خرجت مخرج التعظيم لله تعالى، وذكر عظيم المدح». (¬2) ينظر: تفسير الرازي لهذه الآية، فقد ناقش المعتزلة واحتج عليهم، ولا يخفى على القارئ الكريم أن الرازي يردُّ على مذهب الأشاعرة. ملحوظة: نسب الرازي الكلام السابق بمعناه إلى أبي علي الجبائي (ت:303)، وقد يكون الرماني (ت:384) استفاده من الجبائي (ت:303).

فيقولون: الفاسق في منْزلة بين المنْزلتين، ومآله إلى النار، ومن أمثلة ذلك ما ورد في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106]، قال الرماني (ت:384): «ويقال: إذا كان الذين اسودت وجوههم كفارًا، والذين ابيضت وجوههم مؤمنين؛ لأنهم في رحمة الله خالدين فيها، فما تنكر على ذلك ألا يصحَّ المنْزلة بين المنْزلتين؟ الجواب: لا يجب ذلك من قِبَلِ أن الفاسق يخرج عن هاتين الحالتين إلى حال الغُبرة أو نحوها من الألوان التسعة في المنظر، أو يكون ممن يسود وجهه ويدخل في الكفار على التغليب لأعظم الصفتين كما يُغلَّب المذكَّر على المؤنث، وليس في ذكر اليوم بأنه يسود فيه وجوه ويبيض فيه وجوه ما يدلُّ على أنه لا تغبَّرُّ فيه وجوه كما أنه ليس في ... (¬1) يعفو فيه السلطان عن قوم ويعاقب قومًا ما يدل على أنه ليس هناك من لا يستحقُّ واحدًا من الأمرين» (¬2). ¬

(¬1) في المخطوط كلام لم أتبيَّنه، وسيأتي ما يوضِّح معناه عند نقل كلام الطوسي على هذه الآية. (¬2) تفسير الرماني، وقد نقل الطوسي في تفسيره (2:551 ـ 552) كلام الرماني هذا فقال: «فإن قيل: إذا كان الذين اسودت وجوههم كفارًا، والذين ابيضت وجوههم مؤمنين، فهلاَّ دل على أنه لا واسطة بين الكفر والإيمان من الفسق؟ قلنا: لا يجب ذلك؛ لأن ذكر اسوداد الوجوه وابيضاضها لا يمنع أن يكون هناك وجوه أخر مغبرة أو نحوها من الألوان، أو يكونوا أدخلوا في جملة الذين اسودت وجوههم على التغليب لأعظم الصفتين كما يغلب المذكر على المؤنث. وليس ذكر اليوم بأنه تسود فيه وجوه وتبيض فيه وجوه بمانع من أن يكون فيه وجوه عليها الغبرة، كما أن القائل إذا قال: هذا يوم يعفو فيه السلطان عن قوم ويعاقب فيه قومًا = لا يدلُّ على أن ليس هناك من لا يستحق واحدًا من الأمرين، على أن الآية تدل على أن الذين اسودت وجوههم هم المرتدون؛ لأنه قال: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، وليس كل الكفار هذه صورتهم جاز لنا إثبات فاسقين مثل ذلك ...».

الأصل الرابع: إنفاذ الوعيد: يرى المعتزلة أن آيات الوعيد نافذة، وليس يجوز فيها غير ذلك، ولا يرون أن العصاة تحت المشيئة؛ لذا يرون المنْزلة بين المنْزلتين، ثمَّ يخرجون بعد ذلك إلى تخليد صاحب الكبيرة في النار. في قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]، قال الرماني (ت:384): «وقد تضمنت الآية النهي عن الاختلاف في الحق مع التحذير من الاغترار بمن فعله من الناس بما له من شدة العقاب بالخلود في النار» (¬1). وقد رتَّبوا على ذلك أن نفوا شفاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأهل الكبائر، في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران: 192] قال الرماني (ت:384): «يقال: هل في الآية دلالة على بطلان مذهب المرجئة؟ الجواب: نعم؛ لأن من أخزاه الله فليس من أهل الجنة، وقد بيّن الله ذلك في قوله: {يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8]، ولقوله تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 270، آل عمران: 192، المائدة: 72]، ولو سأل سائل إخراجهم من النار لكان لهم أنصر الأنصار. ويقال: ما وجه الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يخرج قوم من النار بالشفاعة مع دلالة الآية؟ الجواب: فيه قولان: الأول: أنه لولا الشفاعة لواقعوا كبيرة يستوجبون بها الدخول فيها فيخرجون بالشفاعة على هذا الوجه، كما يقال: أخرجني من السلعة؛ إذ لولا مشورته لدخل فيها بابتياعه لها. ¬

(¬1) الجامع لعلم القرآن (مخطوط).

الثاني: لولا الشفاعة لدخلوها بما معهم من الصغيرة، ثم أخرجوا عنها إلى الجنة» (¬1). الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] قال الرماني: «ويقال: هل يجب في إنكار المنكر حمل السلاح؟ الجواب: نعم إن احتيج إليه بحسب الإمكان؛ لأن الله جلَّ ثناؤه قد أمر به، فإذا لم ينجع فيه الوعظ والتخويف، ولا التناول بالأيدي والنعال وجب حمل السلاح؛ لأن الفريضة لا تسقط مع الإمكان إلا بزوال المنكر الذي لزم فيه الجهاد» (¬2). ¬

(¬1) الجامع لعلم القرآن (مخطوط)، وقد خالف الطوسيُّ (3:83) الرمانيَّ في هذا الموضوع، وذهب إلى وقوع الشفاعة لأهل الكبائر، وذكر مذهب الرماني بنصِّه، ثمَّ ردَّ عليه في الاحتمالين اللذين ذكرهما، فقال: «والأول فاسد؛ لأنه مجاز، والثاني ليس بمذهب لأحد من القائلين بالوعيد؛ لأن الصغيرة تقع مكفرة لا عقاب عليها، فكيف يدخل النار؟!». (¬2) الجامع لعلم القرآن (مخطوط)، ويظهر ـ والله أعلم ـ أن هذا المبحث في تراث المعتزلة ـ في أغلب تاريخهم ـ عقلي بحت، إذ لم يظهر لهذا المبدأ أثرٌ في تاريخهم. أما الطوسي، فقد نقل آراء المعتزلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذهب إلى موافقة الرماني في هذا الباب، لكنه اشترط فيه ما يوافق عقيدته الإمامية، فعقَّب على قول الرماني بقوله: «وأكثر أصحابنا ـ يقصد الرافضة الإمامية ـ على أن هذا النوع من إنكار المنكر لا يجوز الإقدام عليه إلا بإذن سلطان الوقت». التبيان في تفسير القرآن (2:549). ويقصد بسلطان الوقت المهدي المنتظر عندهم، وهو الإمام الثاني عشر الذي دخل السرداب ولم يخرج حتى هذا الوقت. ولكنهم في هذا العصر حصل لهم انقلاب فكري، فظهرت فكرة ولاية الفقيه الذي يجوز له القيام بأعمال إمام الوقت، فحملوا السلاح، وقتلوا المسلمين.

ثانيا: الأصل الذي خالفت فيه الرافضة المعتزلة (الإمامة)

ثانيًا: الأصل الذي خالفت فيه الرافضة المعتزلة (الإمامة): يقول شيخ الإسلام: «وقد وافقهم ـ أي المعتزلة ـ على ذلك متأخرو الشيعة؛ كالمفيد، وأبي جعفر الطوسي وأمثالهما. ولأبي جعفر هذا تفسير على هذه الطريقة؛ لكن يضم إلى ذلك قول الإمامية الاثني عشرية؛ فإن المعتزلة ليس فيهم من يقول بذلك، ولا من ينكر خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي». وهذا يعني أنهم لم يأخذوا من المعتزلة القول بإمامة الأئمة الأربعة؛ لأن عندهم من أصولهم ما يخالف هذه الإمامة، فهم يذهبون إلى إنكار إمامة الثلاثة، ويرون أن الإمامة في علي رضي الله عنه وفي أبنائه من الحسين فقط ـ تأمَّل ـ دون غيره من أولاده! وقد جرَّهم هذا إلى تحريف معاني الآيات، والكذب في النُّزول، وتخصيص الآيات العامة في علي رضي الله عنه وفي أبنائه الذين زُعِمت لهم الإمامة، كما جرَّهم ذلك إلى الاعتداء الفاحش على أفضل القرون بما لا يرضى به مسلم في أهل قبيلته فكيف بالصحابة الكرام. وليس المقام مقام احتجاج وردٍّ، بل المراد ذكر أمثلة لذلك الانحراف، وسأذكرها من تفسير الطوسي (ت:460) الذي أشار إليه شيخ الإسلام. ومن الأمثلة ـ وهي كثيرةٌ جدًّا ـ: 1 - في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة 67]، ذكر أقوالاً في سبب نزولها، وذكر منها: «الرابع: قال أبو جعفر وأبو عبد الله: إن الله تعالى لما أوحى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يستخلف عليًّا كان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه، فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعًا له على القيام بما أُمِر بأدائه» (¬1). ¬

(¬1) التبيان في تفسير القرآن، للطوسي (3:588).

2 - في قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]، قال الطوسي (ت:460): «واستدل بهذه الآية جماعة على فضل أبي بكر، فإنه لا خلاف أنه كان من المبايعين تحت الشجرة، وقد ذكر الله أنه رضي عنهم، وأنه أنزل السكينة عليهم، وأنه علم ما في قلوبهم من الإيمان، وأثابهم فتحًا قريبًا. والكلام على ذلك مبني على القول بالعموم، ومن أصحابنا ـ يعني: الإمامية ـ من قال: لا صيغة للعموم ينفرد بها، وبه قال كثير من المخالفين، فمن قال بذلك كانت الآية عنده مجملة لا يُعلم المعني بها، وقد بايع النبيَّ جماعةٌ من المنافقين بلا خلاف، فلا بدَّ من تخصيص الآية على كل حال، على أنه تعالى وصف من بايع تحت الشجرة بأوصاف قد علمنا أنها لم تحصل في جميع المبايعين، فوجب أن يختص الرضا بمن جمع الصفات؛ لأنه قال: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا} [الفتح: 18]، ولا خلاف بين أهل النقل أن الفتح الذي كان بعد بيعة الرضوان ـ بلا فصل ـ هو فتح خيبر، وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك قال: «لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرَّارٌ غير فرار، ولا يرجع حتى يفتح الله على يده»، فدعا عليًّا فأعطاه الراية، وكان الفتح على يده، فوجب أن يكون هو المخصوص بحكم الآية، ومن كان معه في ذلك الفتح لتكامل الصفات فيهم، على أن ممن بايع بيعة الرضوان طلحة والزبير (¬1)، وقد وقع منهما من قتل علي ما خرجا به عن الإيمان، وفسقا عند جميع المعتزلة (!) ومن جرى مجراهم (¬2). ¬

(¬1) من العشرة المبشرين بالجنة، وانظر ماذا يقول عنهما. (¬2) كأنه يريد أصحابه الرافضة، والفسق عند المعتزلة يقتضي التخليد في النار، فتأمل.

خامسا: دخول الفلاسفة والرافضة والقرامطة في التأويلات بسبب تأويلات أهل الكلام

ولم يمنع وقوع الرضا في تلك الحال من مواقعة المعصية فيما بعد، فما الذي يمنع من مثل ذلك في غيره؟ وليس إذا قلنا: إن الآية تختص بالرجلين كان طعنًا عليهما، بل إذا حملناها على العموم دخلا، وكل متابع معهما، فكان ذلك أولى» (¬1). خامسًا: دخول الفلاسفة والرافضة والقرامطة في التأويلات بسبب تأويلات أهل الكلام: يقول شيخ الإسلام: «ثم إنه بسبب تطرف هؤلاء وضلالهم (¬2) دخلت الرافضة الإمامية، ثم الفلاسفة، ثم القرامطة وغيرهم فيما هو أبلغ من ذلك، وتفاقم الأمر في الفلاسفة والقرامطة والرافضة، فإنهم فسروا القرآن بأنواع لا يقضي العالم منها عجبه» (¬3). التطرف الذي وقع عند المعتزلة في باب التأويل، قد جرَّ ـ كما ذكر شيخ الإسلام ـ غيرهم إلى فتح باب التأويل إلى حدود لا يقضي منها العالم عجبه. فالتأويل ـ بلا ضوابط شرعية ـ لا قيد له؛ لذا فإنَّ كل طائفة تحتجُّ على الأخرى بمبدأ التأويل الذي أجازت لنفسها استخدامه. وهذا التأويل العقلي أو المذهبي غير المنضبط بالشرع = لا تخلو منه طائفة من طوائف المسلمين سوى ما كان عليه الصحابة والتابعون ومن سار على نهجهم ممن انضبط بالكتاب والسنة، وأخذ بفهم الصحابة والتابعين لهما، وجعلها الحكم على فهم من جاء بعدهم. وبما أن شيخ الإسلام قد ذكر بعض تأويلات الرافضة، فإني سأذكر ¬

(¬1) التبيان في تفسير القرآن، للطوسي (9:328 ـ 329). (¬2) يعني: المعتزلة. (¬3) ينظر الملحق رقم (8)، ففيه ذكر شيخ الإسلام أمثلة تفسيرية مما لا يقضي العالم منها عجبه.

نصين من نصوص الطائفتين الأخريين لتتم الأمثلة بذلك. مثال من تفاسير القرامطة الإسماعيلية: للقرامطة الإسماعيلية تفاسير معدودة، وهي تنحو منحى الرمز والتلغيز، وتعمد إلى تأويل الشرائع بتأويلات تُخرجهم عن الالتزام بشرائع الإسلام، ومن تفاسيرهم المطبوعة تفسير بعنوان (مزاج التسنيم) لإسماعيل بن هبة الله الإسماعيلي، قال في كلامه على قوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70]: «{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} يعني: بما ألقاه إليهم من الفوائد. {جَعَلَ السِّقَايَةَ} يعني: عذق تلك الصور المجتمعة من صور أهل دعوته. {فِي رَحْلِ أَخِيهِ} يعني: في ضمنه، وذلك حين أقامه خليفة له لكون النص هو الأمر للصور في جميع أهل المراتب تجتمع بالمنصوص عليه، ثم قال تعالى: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} وهو داعي البلاغ في حضرة يوسف الذي كان أصله فيها داعي البلاغ كذلك في الأدوار المتقدمة. {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} يعني: المستفيدون كأصولهم. {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} يعني: مُدَّعون ما ليس لكم من درجات المفيدين المطلقين بغير أمر من صاحب الترتيب لتلك المراتب في دعوته في الحديث والقديم بحسب ما ارتقم في ذاته في تلك المحارات، والملهم له بذلك ما يتصل بصورته من تحريك العمود النوراني بتدبير صاحب الزمان» (¬1). فانظر في مثل هذا النصِّ الذي يفهمه القارئ بلا تعقيد؛ كيف تعقَّد بهذه الرموز والتلغيزات؟! فقد حشاه بمصطلحات الباطنية الإسماعيلية ¬

(¬1) مزاج التسنيم (ص:74 ـ 75)، لإسماعيل بن هبة الله الإسماعيلي الباطني، عُني بتصحيحه المستشرق ر. شتروطمان، المجمع العلمي، غوتينغن.

كصاحب الزمان، والعمود النوراني، ومراتب الدعوة، وداعي البلاغ ... إلخ من مصطلحات الإسماعيلية التي لا تخفى على من قرأ في تراث هؤلاء القوم، والله المستعان. مثال من تفاسير الفلاسفة: وأما الفلاسفة فقد وصل بهم التأويل إلى تأويل أحوال الآخرة، وأنه ليس ثمة جنة ولا نار، وغاية ما يثبتونه المعاد الرُّوحاني، ونقاش ذلك مبسوط في كتب العقائد (¬1)، والمراد هنا التمثيل بقول أحد أئمتهم في هذا المجال، ومن ذلك ما ذكره الفيلسوف ابن رشد الحفيد في كتابه (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) من أنَّ الشريعةَ على ثلاثةِ أقسامٍ: 1 - ظاهرٌ لا يجوزُ تأويله ... 2 - وظاهرٌ يجبُ على أهلِ البرهانِ تأويلُه، وحملهم إياه على ظاهره كفرٌ، وتأويل غير أهل البرهانِ له، وإخراجه عن ظاهره كفرٌ في حقِّهم أو بدعة، ومن هذا الصِّنفِ آيةُ الاستواء وحديث النُّزول ... 3 - والصنف الثالث من الشرع مترددٌ بين هذين الصنفينِ، يقع فيه شكٌ، فيلحقُه قومٌ ممن يتعاطى النظر بالظاهر الذي لا يجوزُ تأويله، ويلحقه آخرونَ بالباطنِ الذي لا يجوزُ حمله على الظاهرِ ... (¬2). ثمَّ قال: «فإن قيل: فإذا تبين أن الشرع في هذا على ثلاث مراتب، فمن أي المراتبِ الثلاثِ هو عندكم ما جاء في صفات المعاد وأحواله؟ فنقول: إنَّ هذه المسألة الأمر فيها بيِّنٌ أنها من الصنفِ المختلَفِ فيه، وذلك أنا نرى قومًا ينسبون أنفسهم إلى البرهان يقولون: إن الواجب حملها ¬

(¬1) ينظر مثلاً: درء تعارض العقل والنقل، لشيخ الإسلام ابن تيمية. (¬2) ينظر: فصل المقال (ص:27 ـ 28).

على ظاهرها إذا كان ليس هناك برهان يؤدي إلى استحالة الظاهر فيها، وهذه طريقة الأشعرية. وقوم آخرون ممن يتعاطون البرهان يتأوَّلونها، وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافًا كثيرًا، وفي هذا الصنف أبو حامد (¬1) معدودٌ هو وكثيرٌ من المتصوفة ...» (¬2). ومن أمثلة التفسير الفلسفي ما كتبه ابن سينا (ت:428) في تفسير بعض سور القرآن على المنهج الفلسفي الذي كان يعتنقه، ومن تفسيراته تفسيره لسورة الصمد، قال في تفسير قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]: «الهو المطلق: هو الذي لا تكون هويته موقوفة على غيره، فإن كل ما كان هويته موقوفة على غيره مستفادة منه، فمتى لم يعتبر غيره لم يكن هو هو. وكل ما كان هويته مستفادة من ذاته؛ فسواء اعتبر غيره أو لم يعتبر، فهو هو. لكن كل ممكن فوجوده من غيره، وكل ما كان وجوده من غيره فخصوصية وجوده منه لعلة، وذلك هو الهوية، فإذن كل ممكن فهويته من غيره، فالذي يكون هويته لذاته هو واجب الوجود» (¬3). في هذا المثال ترى ابن سينا (ت:428) كيف حشد عبارات فلسفية في تفسير أول ألفاظ هذه السورة (هو)، وهي عبارات تحتاج إلى فكٍّ وحلٍّ ليُفهم مقصوده منها، فهي مصطلحات فلسفية خاصة، وليست مما يعتمد على لغة العرب أو على تفسير السلف، أو على أمور تتصل بالشريعة (¬4). ¬

(¬1) يقصد: الغزالي. (¬2) فصل المقال (ص:28). (¬3) تفسير سورة الإخلاص، لابن سينا، تحقيق: الدكتور عبد الله عبد الرحمن الخطيب ضمن مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية الصادرة عن جامعة الكويت (ع51، ص:71). (¬4) ينظر: دراسة الدكتور عبد الله عبد الرحمن الخطيب لابن سينا وتفسيره في مجلة =

سادسا: الأمثلة التي ذكرها شيخ الإسلام في انحرافات التفسير

وهذا العمل عنده يعني أن الشريعة والفلسفة متَّحدان وهو كذلك عند غيره من الفلاسفة الذين لا يرون تناقضًا بين الفلسفة والشريعة، فتراهم يُحرِّفون الشريعة لتتطابق بطريقتهم مع الفلسفة، وأنت تعلم أن الشريعة من الفلسفة براءٌ. ولهم في التوفيق بين الدين وآراء الفلاسفة طرق ليس هذا محلها. سادسًا: الأمثلة التي ذكرها شيخ الإسلام في انحرافات التفسير: قال شيخ الإسلام: «فتفسير الرافضة كقولهم: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1]: هما أبو بكر وعمر، و {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]؛ أي: بين أبي بكر وعلي في الخلافة، و {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]: هي عائشة، و {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12]: طلحة والزبير، و {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الرحمن: 19]: علي وفاطمة، و {اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] الحسن والحسين، {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]: في علي بن أبي طالب، و {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 1 ـ 2]: علي بن أبي طالب، و {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55]: هو علي، ويذكرون الحديث الموضوع بإجماع أهل العلم، وهو تصدُّقه بخاتمه في الصلاة، وكذلك قوله: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]: نزلت في علي لما أصيب بحمزة. ومما يقارب هذا من بعض الوجوه ما يذكره كثير من المفسرين في مثل قوله: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] أن الصابرين رسول الله، والصادقين أبو بكر، والقانتين عمر، والمنفقين عثمان، والمستغفرين علي (¬1). ¬

= الشريعة والدراسات الإسلامية الصادرة عن جامعة الكويت (ع51). (¬1) ذكره الكرماني في كتابه غرائب التفسير وعجائب التأويل (1:247)، ثم عقَّب =

قاعدة في ضابط معرفة الانحراف في تفسير الألفاظ بأشخاص معينين

وفي مثل قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29]: أبو بكر، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}: عمر، {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}: عثمان، {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}: علي. وأعجب من ذلك قوله بعضهم: {وَالتِّينِ} [التين: 1]: أبو بكر، {وَالزَّيْتُونَ} [التين: 1]: عمر، {وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 2]: عثمان، {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين: 3]: علي، وأمثال هذه الخرافات التي تتضمن تارة تفسير اللفظ بما لا يدل عليه بحال، فإن هذه الألفاظ لا تدل على هؤلاء الأشخاص، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29] كل ذلك نعت للذين معه، وهي التي يسميها النحاة خبرًا بعد خبر. والمقصود هنا أنها كلها صفات لموصوف واحد وهم الذين معه، ولا يجوز أن يكون كل منها مرادًا به شخص واحد، وتتضمن تارة جعل اللفظ المطلق العام منحصرًا في شخص واحد كقوله: إن قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 55] أريد بها علي وحده، وقول بعضهم: إن قوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] أريد بها أبو بكر وحده، وقوله: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] أريد بها أبو بكر وحده ونحو ذلك». ذكر شيخ الإسلام في هذه الأمثلة قاعدة في ضابط معرفة الانحراف في تفسير الألفاظ بأشخاص مُعَيَّنين، وهما ضابطان مهمَّان لمن يقرأ في التفسير: ¬

= بقوله: «وما ذكره بعض المفسرين أن الصابرين محمد صلّى الله عليه وسلّم، والصادقين أبو بكر، والقانتين عمر، والمنفقين عثمان، والمستغفرين بالأسحار علي رضي الله عنهم أجمعين = فليس بصحيح ولا مرضي أيضًا؛ لأن كل واحد منهم موصوف بالصفات الخمس، اللهم إلا أن يحمل على معنى الازدياد منه، كما قال عليه السلام: «أفقهكم معاذ، وأفرضكم زيد، وأقرأكم أُبَي»؛ لأن أفعل التفضيل تقتضي الاشتراك في الوصفية أولاً، ثم الازدياد».

الضابط الأول: تفسير اللفظ بما لا يدل عليه بحال

الضابط الأول: تفسير اللفظ بما لا يدل عليه بحال: وهذا الضابط مهم جدًّا، ولا يُتوصل إلى معرفته وضبطه إلا بمعرفة أصول التفسير؛ إذ الجاهل قد يقع في الخطأ ولا يعلم به. ومعرفة ما يرتبط باللفظ من مدلولات جائزة يخرج عن هذا الانحراف؛ إذ قد يُفسَّر اللفظ بجزء من معناه أو بلازم معناه، أو يفسَّر بشخص يكون على سبيل التمثيل، وليس على سبيل القصد الأول كما هو الحال في هذه التفسيرات المنحرفة. والمقصود أن بعض التفاسير التي قد تكون صورتها على هذا السبيل يمكن توجيهها وقبولها على وجه من الصواب ما دام بينها وبين اللفظ شيء من العلاقة التي لا يأباها اللفظ ولا السياق. أما ما ذكره شيخ الإسلام من الأمثلة فليس هناك ما يربط اللفظ المفسَّر باللفظِ المفسِّر البتة، بل فيه خروج باللفظ من مدلوله، وخروج بالسياق عن معناه المراد به، والسياق بهذا التفسير يكون مفكَّكًا غير مترابط، وما قال من قال بهذا التفسير المنحرف إلا بسبب اعتقاده الفاسد. الضابط الثاني: جعل اللفظ العام منحصرًا في شخص واحد: قد سبق أن طرح شيخ الإسلام موضوعًا مرتبطًا بهذه المسألة عند حديثه عن تفسير اللفظ العام بمثال له (¬1)، وقد قال: «والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين أن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ. ¬

(¬1) ينظر (ص:65) من هذا الكتاب.

والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرًا ونهيًا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنْزلته، وإن كانت خبرًا بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص وغيره ممن كان بمنْزلته». وعلى هذا فإن من زعم أن آية نزلت في شخص معين، ولا يدخل معه غيره، فذلك دليل بطلان زعمه؛ لأن ذلك يدل على عدم العمل بالآية، وأن تفسيرها قد توقف عند ذلك المعين فقط. وإذا تأملت بعض تفسيرات الرافضة في هذا الباب وجدتهم يأتون إلى آيات لا علاقة لها بالموضوع الذي يريدون إثباته فيحملون الآية عليه، كما فعلوا في تفسير {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} بأنه علي بن أبي طالب، أو يأتون إلى آيات نزلت في شأن لا علاقة لها بالتفسير الذي يفسرون به؛ كتفسيرهم {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} بأنهما أبو بكر وعمر، أو يذكرون سبب النُّزول ـ وهو مكذوب ـ في علي رضي الله عنه، ولا يستجيزون دخول غيره معه، كما مرَّ في بعض النقول عن الطوسي (ت:460). ويدخل معهم بعض المتصوفة والعباد الذين يفسرون بهذه الطريقة العجيبة، وقد ذكر شيخ الإسلام بعض أمثلة لهم، فهؤلاء كلهم قد خرجوا باللفظ العام إلى تخصيصات لا يدل عليها الدليل، ولا يصلح أن تكون هي المرادة وحدها في التنْزيل، لكنه الجهل أو التعصب، وقانا الله شرَّهما. مسألة: قد يقول قائل: ما الفرق بين ما نجده من تفسيرات للسلف فيها حمل للعموم على أشخاص، فيقولون: إنها نزلت في فلان، مع ملاحظة أن الشخص المذكور أو حاله إنما كان بعد نزول الآيات أو بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهذا مشكل من هذه الجهة؟. الجواب: إنه قد سبق الإشارة إلى شيءٍ من جواب هذه المسألة، وأوضِّح الفرق هنا فأقول: 1 - إنه ليس في عبارة من فسَّر من السلف دلالة على التخصيص، بل

هو يذكره على سبيل المثال فحسب، وهو من باب تنْزيل الآيات على ما يناسبها من الأشخاص والأحوال، لذا يمكن أن يدخل معه غيره ممن يصدق فيه الوصف العام المذكور في الآية. 2 - إنَّ ما يذكرونه مما تدلُّ عليه الآية دلالة واضحة حيث إنه داخل في عموم معنى اللفظ، بخلاف هذه التفسيرات التي لا تدل على التفسير بالمثال، كالتمثيل المذكور في آية سورة الفتح {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29]. 3 - إن السياق لا ينبو عن تفسيرات السلف التمثيلية بخلاف التفسيرات التي لا تمتُّ بأي صلة؛ كالتفسيرات التي ذكرها عمن فسَّر التين والزيتون بتلك التفسيرات العجيبة، أو من فسر يدا أبي لهب بأن المقصود منهما أبو بكر وعمر حاشاهما عن ذلك. تنبيه: مما يحسن التنبُّه له أنه لا يجوز حمل القرآن على أسباب ثبت أنها مكذوبة؛ كالسبب المذكور في نزول آية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55]، فهذا السبب لو كان صحيحًا لما كان دالاً على تخصيص علي رضي الله عنه بهذه الخصيصة التي يزعمها الرافضة بل يجوز حملها على غيره على سبيل العبرة بعموم اللفظ؛ كما هو الحال في تفسير الآية النازلة على سبب. لكن هذه الواقعة المذكورة مكذوبة لا يجوز التفسير بها، ولو كانت ثابتة بعد نزول الآية مثلاً، ثم ذُكِرت مثالاً للآية أو استُشهِد بها في تفسير الآية لاحتمل قبولها من جهة دلالة المعنى العام لإيتاء الزكاة عليها، لكن هذه الحادثة غير مقبولة بأي وجه من هذه الوجوه التي يُقبل فيها التمثيل أو الاستشهاد لكونها كذبًا. ويدخل في ذلك تفسيرات غلاة الصوفية الذين يفسرون القرآن بغير

ما دل عليه ظاهر الشريعة، وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام فقال: «ويفسرون القرآن بما يوافق باطنهم الباطل كقوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ}: فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله. وقولهم: إن العذاب مشتق من العذوبة. ويقولون: إن كلام نوح في حق قومه ثناء عليهم بلسان الذم. ويفسرون قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بعلم الظاهر، بل {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلا يعلمون غيره، {وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} فلا يسمعون من غيره ولا يرون غيره، فإنه لا غير له فلا يرون غيره. ويقولون في قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}: إن معناه: قدّر ذلك لأنه ليس ثم موجود سواه فلا يتصور أن يعبد غيره، فكل من عبد الأصنام والعجل ما عبد غيره؛ لأنه ما ثَمَّ غيرٌ. وأمثال هذه التأويلات والتفسيرات التي يَعلم كل مؤمن وكل يهودي ونصراني علمًا ضروريًا أنها مخالفة لما جاءت به الرسل؛ كموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم أجمعين. وجماع القول في ذلك أن هذا الباب نوعان: أحدهما: أن يكون المعنى المذكور باطلاً؛ لكونه مخالفًا لما علم فهذا هو في نفسه باطل، فلا يكون الدليل عليه إلا باطلاً؛ لأن الباطل لا يكون عليه دليل يقتضي أنه حق. والثاني: ما كان في نفسه حقًا، لكن يستدلون عليه من القرآن والحديث بألفاظ لم يُرَدْ بها ذلك فهذا الذي يسمونه إشارات، وحقائق التفسير لأبي عبد الرحمن فيه من هذا الباب شيء كثير. وأما النوع الأول: فيوجد كثيرًا في كلام القرامطة والفلاسفة المخالفين

للمسلمين في أصول دينهم، فإن من عَلِمَ أن السابقين الأولين قد رضي الله عنهم ورضوا عنه عَلِمَ أن كل ما يذكرونه على خلاف ذلك، فهو باطل. ومن أقرَّ بوجوب الصلوات الخمس على كل أحد ما دام عقله حاضرًا = عَلِمَ أن من تأوَّلَ نصًّا على سقوط ذلك عن بعضهم؛ فقد افترى. ومن عَلِمَ أن الخمرَ والفواحشَ محرمةٌ على كل أحد = ما دام عقله حاضرًا = عَلِمَ أن من تأوَّل نصًّا يقتضي تحليل ذلك لبعض الناس أنه مفترٍ. وأما النوع الثاني: فهو الذي يشتبه كثيرًا على بعض الناس، فإن المعنى يكون صحيحًا لدلالة الكتاب والسنة عليه، ولكن الشأن في كون اللفظ الذي يذكرونه دلَّ عليه، وهذان قسمان: أحدهما: أن يقال: إن ذلك المعنى مراد باللفظ فهذا افتراء على الله، فمن قال: المراد بقوله: {تَذْبَحُوا بَقَرَةً}: هي النفس. وبقوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ}: هو القلب. {وَالَّذِينَ مَعَهُ}: أبو بكر. {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ}: عمر. {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}: عثمان. {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا}: علي = فقد كذب على الله؛ إما متعمدًا، وإما مخطئًا. والقسم الثاني: أن يجعل ذلك من باب الاعتبار والقياس، لا من باب دلالة اللفظ، فهذا من نوع القياس، فالذي تسميه الفقهاء قياسًا هو الذي تسميه الصوفية إشارة، وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل؛ كانقسام القياس إلى ذلك، فمن سمع قول الله تعالى: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} وقال: إنه اللوح المحفوظ أو المصحف، فقال: كما أنَّ اللوح المحفوظ الذي كُتِبَ فيه حروف القرآن لا يمسه إلا بدن طاهر فمعاني القرآن لا يذوقها إلا القلوب الطاهرة، وهي قلوب المتقين = كان هذا معنًى صحيحًا واعتبارًا صحيحًا، ولهذا يروى هذا عن طائفة من السلف.

سابعا: تفسير الزمخشري وابن عطية والطبري

قال تعالى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}، وقال: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}، وقال: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ}، وأمثال ذلك. وكذلك من قال: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا جنب»، فاعتبر بذلك أن القلب لا يدخله حقائق الإيمان إذا كان فيه ما ينجسه من الكِبْرِ والحسدِ = فقد أصاب. قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}، وقال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً}، وأمثال ذلك ...» (¬1). سابعًا: تفسير الزمخشري وابن عطية والطبري: تفسير الزمخشري (ت:538): قال شيخ الإسلام: «ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحًا، ويدس البدع في كلامه، وأكثر الناس لا يعلمون كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله. وقد رأيت من العلماء المفسرين وغيرهم من يذكر في كتابه وكلامه من تفسيرهم ما يوافق أصولهم التي يعلم أو يعتقد فسادها ولا يهتدي لذلك». ذكر شيخ الإسلام صنيع الزمخشري (ت:538) في تفسيره الموسوم بالكشاف عن حقائق التنْزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل حيث بناه على ¬

(¬1) الفتاوى (13:239 ـ 242).

مذهب المعتزلة، وقد ذكر شيخ الإسلام هذا عنه في موطن آخر فقال: «وأما الزمخشري فتفسيره بالبدعة وعلى طريقة المعتزلة من إنكار الصفات والرؤية والقول بخلق القرآن، وأنكر أن الله مريد للكائنات وخالق لأفعال العباد وغير ذلك من أصول المعتزلة، وأصولهم خمسة يسمونها التوحيد والعدل والمنْزلة بين المنْزلتين وإنفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن معنى التوحيد عندهم يتضمن نفي الصفات ولهذا سمى ابن التومرت أصحابه الموحدين وهذا إنما هو إلحاد في أسماء الله وآياته. ومعنى العدل عندهم يتضمن التكذيب بالقدر، وهو خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات والقدرة على شيء، ومنهم من ينكر تقدم العلم والكتاب، لكن هذا قول أئمتهم، وهؤلاء منصب الزمخشري، فإن مذهبه مذهب المغيرة بن علي وأبي هاشم وأتباعهم، ومذهب أبي الحسين، والمعتزلة الذين على طريقته نوعان: مسايخية وخشبية. وأما المنْزلة بين المنْزلتين فهي عندهم أن الفاسق لا يسمى مؤمنًا بوجه من الوجوه كما لا يسمى كافرًا فنَزَّلوه بين منْزلتين. وإنفاذ الوعيد عندهم معناه أن فساق الملة مخلدون في النار لا يخرجون منها بشفاعة ولا غير ذلك كما تقوله الخوارج. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتضمن عندهم جواز الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف، وهذه الأصول حشا بها كتابه بعبارة لا يهتدي أكثر الناس إليها، ولا لمقاصده فيها مع ما فيه من الأحاديث الموضوعة، ومن قلة النقل عن الصحابة والتابعين» (¬1). وهذه الطريقة التي سلكها الزمخشري (ت:538) في تقرير عقيدته تدلُّ على ذكاء وفطنة، فقد كان يذكر من الكلام ما يكون في ظاهره مقبولاً، لكنه ¬

(¬1) الفتاوى (13:386 ـ 387).

في باطنه يظهر فيه أثر من آثار الاعتزال، ومن الأمثلة التي أوردها الزمخشري (ت:538) ما يأتي: 1 - ابتدأ الزمخشري (ت:538) تفسيره بقوله: «الحمد لله الذي أنزل القرآن كلامًا مؤلَّفًا منظَّمًا»، وهذه العبارة سليمة في ظاهرها ليس فيها ما يُشكِل، لكنَّ معتقد المعتزلة في أن المتصف بهذه الأوصاف هو المُحدَث؛ لذا فهذه الأوصاف تدلُّ على أن القرآن مخلوق عند الزمخشري (ت:538)، فبدلاً من التعبير بقوله: «الحمد لله الذي خلق القرآن» ذكر هذه الأوصاف للقرآن التي يوافقه عليها المخالفون له، لكن النتيجة عنده تخالف النتيجة عند مخالفيه، فهذه الأوصاف عنده لا يتصف بها إلا المخلوق، بخلافه أهل السنة الذين يرون أن القرآن كلام الله، وأن وصفه بهذه الأوصاف لا يخرجه عن كونه صفة لله سبحانه. 2 - قال في تفسير الإيمان في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]: «فإن قلت: ما الإيمان؟ قلت: أن يعتقد الحق، ويُعرب عنه بلسانه، ويُصدِّقه بعمله. فمن أخلَّ بالاعتقاد ـ وإن شَهِدَ وعَمِلَ ـ فهو منافق، ومن أخلَّ بالشهادة فهو كافر، ومن أخلَّ بالعمل فهو فاسق» (¬1). هذا التعريف للإيمان لا يختلف عن تعريف أهل السنة والجماعة، لكنه لما شرح تعريفه هذا جعل من أخل بالعمل فاسقًا، وليس في ذلك ما يُشكل، لكن المشكل في هذه العبارة هو معنى الفاسق عنده، ومآل الفاسق وحكمه (¬2). ¬

(¬1) الكشاف (1:129). (¬2) يلاحظ أن المستدركين على الزمخشري في هذا الموضع قد جعلوا مسمى الإيمان على التصديق فقط، ذلك لأنهم إما أشاعرة وإما ماتريدية، ينظر مثلاً: تعليق الجرجاني وابن المنير على تفسير الزمخشري.

تفسير ابن عطية (ت:542)

3 - قال في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]: «... {فَقَدْ فَازَ}: فقد حصل له الفوز المطلق المتناول لكل ما يُفاز به، ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله والعذاب السرمد، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد» (¬1). وهذه العبارة ظاهرها السلامة كما ترى، لكنه بطَّنها نفيَ رؤية الباري سبحانه وتعالى، فجعل غاية الفوز دخول الجنة فقط، وإنما غاية الفوز رؤية الباري، ودخول الجنة من لوازم ذلك الفوز المطلق، لكنه لما لم يكن يرى الرؤية، حُمِل كلامه على إرادة نفيها بهذه العبارة التي لو كان قائلها ممن يثبتون الرؤية لما ثُرِّب عليه للعلة التي ذكرت. 4 - ومن الأمثلة التي لم يكن فيها لبس في ظهور التأويل عنده ما ورد من تفسيره لقوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]، قال: «ومعنى سماع الله له: أنه لم يَخْفَ عليه، وأنه أعد كفاءةً من العقاب»، وهذا التفسير لسماع الله ليس صوابًا، بل فيه نفي للمعنى الحقيقي لصفة السماع، وتفسير لها بلازمها على أنه هو المعنى الحقيقي لها، وذلك خطأ في التأويل. تفسير ابن عطية (ت:542): قال شيخ الإسلام (ت:728) في تفسير ابن عطية (ت:542) الموسوم بالمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: «وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسنة والجماعة وأسلم من البدعة من تفسير الزمخشري، ولو ذكر كلام السلف الموجود في التفاسير المأثورة عنهم على وجهه لكان أحسن وأجمل، فإنه كثيرًا ما ينقل من تفسير محمد بن جرير الطبري وهو من أجلِّ التفاسير ¬

(¬1) الكشاف (1:485).

وأعظمها قدرًا، ثم إنه يدع ما نقله ابن جرير عن السلف لا يحكيه بحال، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم، وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة؛ لكن ينبغي أن يعطي كل ذي حق حقه، ويعرف أن هذا من جملة التفسير على المذهب». في هذه العبارة تحدث شيخ الإسلام عن تفسير ابن عطية (ت:542)، ووازن بينه وبين تفسير الزمخشري (ت:538)، فجعله أتبع للسنة من تفسير الزمخشري (ت:538)،وذلك حقٌّ، فابن عطية (ت:542) أشعريٌّ، والأشاعرة أقرب إلى السنة (منهج السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم) من المعتزلة، لكن هذا ليس من المدح المطلق، بل فيه عدل في الحكم على العلماء، والميزان في ذلك القرب من الحق والبعد عنه (¬1). ¬

(¬1) وقع محققو الجزء الأول من تفسير ابن عطية في الطبعة القطرية في أخطاء على شيخ الإسلام في كلامه على تفسير ابن عطية، وأنا أسوقها هنا لمناسبة المقام، فأقول: 1 - وقعوا في التدليس حينما ذكروا كلامه في نقد تفسير ابن عطية، وجعلوا مكان كلامه فيه نقطًا، ولم يذكروه، فجاءت هذه العبارة في مقدمة الكتاب هكذا: «تفسير ابن عطية خير من تفسير الزمخشري، وأصح نقلاً وبحثًا، وأبعد عن البدع ..... بل هو خير منه بكثير، بل لعله أرجح هذه التفاسير»، والعبارة التي خذفوها هي: «وإن اشتمل على بعضها». الفتاوى (13:388). 2 - في كلامهم على عقيدة ابن عطية زعموا أن شيخ الإسلام يتهمه بالاعتزال، وذلك فهم غير سديد لعبارة شيخ الإسلام، قالوا: «... «أن تفسير ابن عطية أتبع للسنة والجماعة، وأسلم من البدع من تفسير الزمخشري»، وهذا الكلام يغمز ابن عطية بالاعتزال، لكنه يخفف من اعتزاله، ويجعله أقرب إلى أهل السنة بالنسبة للزمخشري، فهو قرب نسبي». وهذا الذي فهموه من عبارة شيخ الإسلام من أنه يغمز ابن عطية بالاعتزال غير صحيح البتة، بل هو يذكر ملمِّحًا لمعتقد الأشعرية الذين بنوا أصولهم من جنس ما بنت المعتزلة أصولها عليه، وهو مسألة تقديم العقل على النقل، ولم يُرِدْ ما ذهبوا إليه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = ومراده بالسنة والجماعة ما كان عليه سلف الأمة قبل أن يولد الأشعري ويؤسس طريقته الكلامية التي سار عليها أصحابه من بعده، وزادوا عليها أصولاً قرَّبتهم إلى المعتزلة، ثم إلى من هم أشر من المعتزلة، أعني الفلاسفة. 3 - نقدوا شيخ الإسلام في اعتراضه على ابن عطية في عدم نقل قول السلف، أنقله بطوله ليتبين منهج هؤلاء في نقدهم، قالوا: «أنه ينقل عن الطبري، ولكنه يترك ما نقله الطبري عن السلف فلا يحكيه، ولو أنه ذكر كلامهم هذا لكان تفسيره أجمل وأحسن. ولسنا نظن أن ابن عطية كان ملزمًا بنقل كل كلام السلف الذي نقله ابن جرير الطبري، فلكل أسلوبه، وقد كان ابن جرير ينقل كل الآراء، ويرجح بعضها على بعض أحيانًا وفي أحيان أخرى يتركها بدون ترجيح. أما ابن عطية، فلا يختار هذا الأسلوب، إنه صاحب منهج يقوم على مبادئ، ومن مبادئه ألا ينقل إلا ما يطمئن إلى صحته، ويرى أنه يتفق مع العقل، فنقد ابن تيمية غير وارد، وهل معنى أن يكون ابن عطية من أهل السنة والجماعة أن يتقبل كل صغيرة وكبيرة، وأن يسلِّم بكل ما يقول علماء المذهب دون أن يكون له رأي شخصي، إن هذا يلغي شخصيته، ويلغي شخصية كل عالم يريد أن ينصف نفسه ويحترم عقله، وإذا كان ابن تيمية في زمانه يتقبل هذا الرأي به فما أحسبنا في هذه الأيام نرضى لأنفسنا بأن نُسلِّم للسابقين بكل قول حتى ولو لم تقبله عقولنا، وهذا هو ما فعله ابن عطية على الرغم من تقدمه الكبير في الزمن علينا» مقدمة تحقيق المحرر الوجيز، ط: قطر (1:18). هذا التعليق فيه مغالطات عدَّة تقوم على عدم فهم الفرق بين منهج السلف في الاعتقاد ومنهج الأشاعرة، وقد أثر هذا المنهج على طريقة الاستفادة من تفسير السلف المنقول، وإليك بعض الملحوظات على هذا التعليق: أولاً: ذكروا منهج الطبري الاختياري، ولكنهم ذكروا امتياز ابن عطية عليه بأنه صاحب منهج يقوم على مبادئ، ولا ينقل إلا ما يطمئن إلى صحته، ويرى أنه يتفق مع العقل! ولازم هذا القول أن ابن جرير أقل شأنًا من ابن عطية في هذا المقام، وأنه ليس له مبادئ يقوم عليها، مع أن الناظر للتفسيرين يرى ما تميَّز به ابن جرير من القدرة العقلية العلمية في النقد والتقويم للتفاسير التي يرويها، لكن هؤلاء لما كانوا في حال المدافعة عن ابن عطية لم ينتبهوا إلى لازم قولهم هذا. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

_ = ثانيًا: أنهم جعلوا العقل أصلاً يُحتكم إليه، وقد ذكروا ذلك في أكثر من موطن، وقضية الاحتكام إلى العقل، وتقديمه على المروي، بل على نصوص الشرع هو منهج أهل البدع. ثالثًا: من قال بأنه يجب أخذ كل ما ورد عن السلف والتسليم له دون تمحيص؟! هذا تحميل لكلام شيخ الإسلام ما لا يحتمل، أو هو عدم فهم له. هل كان الطبري الذي ذكروا منهجه مسلِّم لكل ما قاله السلف، وهل كان من منهج شيخ الإسلام قبول كل ما ورد عن السلف؟ لا شكَّ أن ذلك الكلام الصادر عنهم إنما كان سببه الحمية لابن عطية، فغلب عليهم ذلك دون التأمل في عباراتهم، ولا في دراسة منهج شيخ الإسلام في الأخذ بروايات السلف. وهذا الأمر واضح لا مرية فيه، فتقرير الأصل: أن كلام السلف حجة، وأنهم مرجع يجب الرجوع إليه، لكن لا يعني هذا قبول أفراد الروايات عنهم، وذلك أمر من الوضوح بمكان بأدنى تأمل لمنهج النقد العلمي عند أهل السنة والجماعة، لكن ليس العقل وحده هو المصدر الذي تُحكم به الروايات. رابعًا: يظهر من عباراتهم الأخيرة التهويش في العبارات، واستخدام الأسلوب الخطابي الذي لا يقوم به تقرير القضايا العلمية، ومن قال: إن اعتماد آراء السلف فيه إلغاءٌ للشخصية العلمية، ومن قال بأن عقولنا هي الحكم على آراء السلف، وعقل من هذا الذي يُحتكم إليه؟ فما من شكٍّ أنه سيقع اختلاف كبير في قبول المرويات بين العالم والآخر، فما بالك بين العديد من العلماء. أقول: لتكن دراسة القضايا دراسة علمية بعيدةً عن التعصب والتهويش الخطابي في العبارات، سلَّمني الله وإياكم من هذه الأساليب التي لا تجدي نفعًا في العلم. خامسًا: لقد كان كلام شيخ الإسلام متوازنًا معتدلاً، ولم ينسب ابن عطية إلى المعتزلة كما فهمه هؤلاء الأفاضل، بل الذي كان صريحًا في نسبه إلى المعتزلة من كان على مذهبه الاعتقادي، وهو ابن عرفة المالكي الأشعري (ت:803) كما نقل عنه ذلك ابن حجر الهيتمي في فتاواه الحديثية، والمحققون الأفاضل قد اطلعوا على هذا الكلام، لكنهم لم ينقلوه بنصِّه، بل أشاروا إليه باقتضاب، فمن نصَّ بصراحة على اعتزاله كان أولى بالمناقشة ممن لم ينسبه إلى الاعتزال، ولا أدري ما الذي دعاهم إلى إطالة النقاش مع شيخ الإسلام، وترك نقاش ابن عرفة والهيتمي الأشعريين؟! سئل ابن حجر الهيتمي: هل في تفسير ابن عطية اعتزال؟ =

ثمَّ نبَّه على وقوع ابن عطية (ت:542) في خلل من جهة ترك تفسير السلف إلى أقوال بعض أئمة الأشاعرة كابن فورك (ت:406) (¬1) والجويني (¬2) وغيرهم ممن ينعتهم بالمحققين. وترك كلام السلف إلى أمثال هؤلاء منقصة في التأليف، كما عدَّه شيخ الإسلام (ت:728)، لذا أعقب ذلك ببيان قاعدة عامة في الخلل الذي يقع في التعامل مع أقوال السلف = بقوله: «فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في تفسير الآية قول، وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان صاروا مشاركين للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا». ¬

= فأجاب بقوله: «نعم، فيه شيء كثيرٌ، حتى قال الإمام المحقق ابن عرفة المالكي: يُخشى على المبتدئ منه أكثر ما يُخاف عليه من كشاف الزمخشري؛ لأن الزمخشري لما علِمت الناس منه أنه مبتدع تخوفوا منه، واشتهر أمره بين الناس مما فيه من الاعتزال ومخالفة الصواب، وأكثروا من تبديعه وتضليله وتقبيحه وتجهيله، وابن عطية سُنِّي، لكن لا يزال يُدخل من كلام بعض المعتزلة ما هو من اعتزاله في التفسير، ثمَّ يُقِرُّه ولا يُنبِّه عليه، ويعتقد أنه من أهل السنة، وأن ما ذكره من مذهبهم الجاري على أصولهم، وليس الأمر كذلك، فكان ضرر تفسير ابن عطية أشد وأعظم على الناس من ضرر الكشاف». الفتاوى الحديثية، لابن حجر الهيتمي (ص:242). فانظر إلى هذه الشدة في نقد ابن عطية، وكيف جعله ابن عرفة أضر من الزمخشري، فلم لم يُناقشوا قوله، ونوقش قول شيخ الإسلام؟! (¬1) محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني، أبو بكر، فقيه شافعي، متكلم أصولي، مشارك في التفسير، له فيه كتاب، وله كتاب (حل الآيات المتشابهات)، توفي مسمومًا سنة 406. معجم المفسرين (2:514). (¬2) عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، إمام الحرمين، شافعي، متكلم أشعري، ولد سنة 419، وتوفي سنة 478، ذكر له في كشف الظنون (1:443) كتابًا في علم التفسير.

ومن الأمثلة في تفسير ابن عطية (ت:542): 1 - في قوله تعالى: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، قال: «أجمع أهل السنة أن الله تبارك وتعالى يُرى يوم القيامة؛ يراه المؤمنون، قاله ابن وهب عن مالك بن أنس رضي الله عنه (¬1). والوجه أن يُبيَّن جواز ذلك عقلاً، ثُمَّ يُستند إلى ورود السمع بوقوع ذلك الجائز، واختصار تبيين ذلك: أن يُعتبر بعلمنا بالله عزّ وجل، فمن حيث جاز أن نعلمه لا في مكان، ولا متميِّزًا، ولا متقابلاً، ولم يتعلق علمنا بأكثر من الوجود، جاز أن نراه غير مقابلٍ ولا محاذي ولا مكيَّفًا ولا محدودًا، وكان أبو عبد الله النحوي يقول: مسألة العلم حلقت لِحَى المعتزلة ـ ثم ورد الشرع بذلك، وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] ...» (¬2). يظهر من هذا النصِّ أن مسائل الاعتقاد عند ابن عطية (ت:542) إنما تُبيَّن بالعقل أولاً ـ وذلك طريق المعتزلة في تقرير العقائد ـ ثمَّ بعد بيانها بالعقل يُلتفت إلى ما ورد في السمع، وكأنه فضلة في هذا الباب، فأي شيءٍ أوضح من أنه ذهب إلى تقرير أصوله العقدية بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم؟! وقد قال في هذه المسألة: «... والرؤية إنما يثبتها بأدلة قطعية غير الآية، فإذا ثبتت حسُن تأويل أهل السنة في هذه الآية وقَوِيَ» (¬3). ¬

(¬1) يا ليت ابن عطية أخذ بجميع مذهب مالك في الاعتقاد، فإنه لم يذكره في كثير من مسائل الاعتقاد التي ذهب إليها، فضلاً عن أن يتبعه فيها، بل كان يذكر مذهب الأشاعرة على ما قرأه على أشياخه من كتب ابن فورك والجويني، كما ذكره هو في فهرست شيوخه، وكما هو ظاهر من نقله لأقوالهم، واعتماده المذهب الأشعري في تفسيره. (¬2) المحرر الوجيز، ط: قطر (5:306). (¬3) المحرر الوجيز، ط: قطر (15:219).

والأدلة القطعية عنده هي الأدلة العقلية، فإذا ثبتت بالدليل العقلي جاء بعد ذلك تأويل الآية، وحملها على ما أجازه الدليل العقلي عنده. 2 - في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 73]، قال: «وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ} الآية. خلق: ابتدع وأخرج من العدم إلى الوجود، وبالحق: أي: لم يخلقها باطلاً لغير معنى، بل لمعانٍ مفيدة ولحقائق بينة، منها ما يحسه البشر من الاستدلال بها على الصانع، ونزول الأرزاق وغير ذلك. وقيل: المعنى: بأن حُقَّ له أن يفعل ذلك. وقيل: بالحق؛ معناه بكلامه، في قوله للمخلوقات: {كُنْ}، وفي قوله: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: إن المخلوقات إنما إيجادها بالقدرة لا بالكلام، واقتران (كن) بحال إيجاد المخلوقات فائدته إظهار العزة والعظمة ونفوذ الأوامر وإعلان القصد، ومثال ذلك في الشاهد أن يضرب إنسان شيئًا فيكسره، ويقول حال الكسر بلسانه: انكسر، فإن ذلك إنفاذ عزم، وإظهار قصد ـ ولله المثل الأعلى ـ لا تشبيه، ولا حروف، ولا صوت، ولا تغيُّر، أمره واحد كلمح بالبصر، فكأن معنى الآية على هذا القول: وهو الذي خلق السموات والأرض بقوله: كن؛ المقترنة بالقدرة التي بها يقع إيجاد المخلوق بعد عدمه، فعبَّر عن ذلك بالحق» (¬1). وهذا التحرير الذي ذكره مبني على رأي الأشاعرة في كلام الله سبحانه، وأنه معنى واحد قائم بالنفس، وهو ما يعبرون عنه بالكلام النفسي، وفي هذا ما فيه من إنكار صفة الكلام لما يرونه من أنه يلزم منها قيام ¬

(¬1) المحرر الوجيز، ط: قطر (5:248)، ووازن بما ذكره الطبري في هذه الآية.

الحوادث في الله، وهو منَزَّه عن ذلك، ولهذا تجد أن الخلل في كلام الله عندهم قد انجرَّ على مواضع كثيرة في التفسير، فمثلاً يقول في قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ} [إبراهيم: 1]: «وقوله: {أَنْزَلْنَاهُ} في موضع الصفة للكتاب، قال القاضي ابن الطيب وأبو المعالي وغيرهما: إن الإنزال لم يتعلق بالكلام القديم الذي هو صفة الذات، لكن بالمعاني التي أفهمها الله جبريل عليه السلام من الكلام» (¬1). ولا يخفى ما في هذا الكلام من الخلل العقدي ممن هو مطلع على عقائد الأشاعرة في كلام الله، والجدل في هذا محله كتب العقائد، والمراد هنا التمثيل، والله الموفق. وبالجملة، ففي تفسير ابن عطية الأشعري مواضع كثيرة فيها خلل من جهة الاعتقاد، وقد وقع عنده انحراف في تفسيرها، بل قد يقع عنده مخالفة لظاهر الآية بسبب شبه اعتقادية، أو بسبب مدافعة ما يرد عليه مما يخالف مذهبه، وذلك ظاهر في مثل تفسيره لقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14]، فظاهر الآية أنهم قد استيقنوا بالآيات الدالة على نبوة موسى عليه السلام، وعلموا علمًا يقينيًّا بنبوته، لكنهم جحدوا ذلك، فكفرهم كفر جحود. أما ابن عطية رحمه الله فلجلج في هذه الآية وشبيهاتها، ومنع وقوع كفر الجحود، لأنه ينافي أصلاً من أصوله، وهو أن المعرفة تقتضي الإيمان، فإذا وُجِدت المعرفة انتفى الكفر، قال: «وظاهر قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} حصولُ الكفرِ عنادًا، وهي مسألةٌ قولينِ (¬2)، هل يجوز أن يقعَ أم لا؟ فجوَّزت ذلك فرقةٌ، وقالتْ: يجوزُ أن يكونَ الرجلُ عارفًا، إلاَّ أنَّه ¬

(¬1) المحرر الوجيز، ط: قطر (8:193). (¬2) هذا النقل من طبعة المغرب، ويبدو أنه سقط حرف الجرِّ (على)، وفي المحرر الوجيز، ط: قطر (11:179): «وهي مسألة فيها قولانِ».

يجحدُ عنادًا ويموتُ على معرفتِهِ وجحودِه، فهو بذلك في حكمِ الكافرِ المخلَّدِ، قالوا: وهذا حُكمُ إبليسَ، وحكمُ حييِّ بنِ أخطبٍ وأخيه، حسبَما رُوِيَ عنهما. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وإن عُورِضَ هذا المثالُ، فُرِضَ إنسانٌ ويجوزُ (¬1) فيه ذلك. وقالت فرقةٌ: لا يصِحُّ لوجهينِ: أحدهما: أنَّ هذا لا يجوزُ وقوعُه من عاقلٍ. والوجهُ الآخر: أنَّ المعرفةَ تقتضي أنْ يَحِلَّ في القلبِ، وذلكَ إيمانٌ، وحكمُ الكافرِ لا يلحقُه، إلاَّ بأن يَحِلَّ في القلبِ كفرٌ، ولا يصحُّ اجتماعُ الضِّدينِ في محلٍّ. قالوا: ويشبهُ في هذا العارفُ الجاحدُ أن يُسلبَ عندَ الموافاةِ تلك المعرفةِ، ويحل بدلَها الكفرُ. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والذي يظهرُ عندي في هذه الآيةِ وكلِّ ما جرى مجراها: أنَّ الكفرةَ كانوا إذا نظروا في آياتِ موسى أعطتهم عقولُهم أنَّها ليست تحت قدرةِ البشرِ، حصلَ لهم اليقينُ أنها من عند اللهِ تعالى، فيغلبُهم أثناء ذلك الحسدُ، ويتمسَّكون بالظنونِ في أنه سِحرٌ وغير ذلك مما يختلجُ في الظَّنِّ بحسبِ كلِّ آيةٍ، ويلجون في ذلك، حتى يُستلبَ ذلك اليقين أو يدوم كذلك مضطربًا. وحُكمه حكمُ المستلبِ في وجوه عذابهم» (¬2). ¬

(¬1) الصواب بإسقاط الواو، وهي غير موجودة في المحرر الوجيز، ط: قطر (11:179). (¬2) المحرر الوجيز، ط: المغرب (12:96 ـ 97). وقد نقلتُه منها لأنَّ في طبعة: قطر (11:179 ـ 180) سقطٌ مخلٌّ يُقدَّر بسطرينِ، والله المستعانُ، وقد كرر هذه النظرية في (5:182 ـ 184)، وينظر: (1:249، 446 ـ 447)، (4:304 ـ 305)، (12:489 ـ 490).

تفسير الطبري

تفسير الطبري: أشار شيخ الإسلام إلى تفسير الطبري (ت:310) إشارة عابرة، وأثنى عليه في مقام الحديث عن تفسير ابن عطية (ت:542) وموقفه من تفسير السلف، فوصف تفسير الطبري (ت:310) بأنه من أجل التفاسير المأثورة، وأعظمها قدرًا، وذلك حقٌّ يعرفه من اطَّلع على تفسير الإمام ابن جرير الطبري (ت:310) الذي جعل المأثور من تفسير السلف أصلاً من أصوله التي يعتمدها في التفسير، بل لم يكن يرى الخروج عن أقوالهم، وإنما يتخيَّر المتخيِّر من بين أقوالهم حسب ما يظهر له من ترجيح على أسلوب علمي رصين متين. ولما كان اعتماده على مأثور التفسير عن السلف كبيرًا = كان من أغنى المصادر بآثار السلف في التفسير، لكنه لم يجمد على المأثور دون أن يكون له ترجيحات ونقد للتفاسير، وقد اعتمد على قواعد علمية ترجيحية في تقديم الأقوال والقول بها، أو في نقد الأقوال التي لا يرى صحتها. ولما كان هذا المنهج الذي سلكه الطبري سلِم من المخالفات العقدية بالجملة، وإن كان قد يذكر بعضها للردِّ عليها. ثامنًا: تفسير أبي عبد الرحمن السلمي، وأقوال الصوفية: قال شيخ الإسلام: «وأما الذين يخطؤون في الدليل لا في المدلول فمثل كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء وغيرهم يفسرون القرآن بمعاني صحيحة، لكن القرآن لا يدل عليها مثل كثير مما ذكره أبو عبد الرحمن السلمي في حقائق التفسير (¬1)، وإن كان فيما ذكروه ما هو معان باطلة، فإن ¬

(¬1) قال الدكتور عدنان زرزور عند هذا الموطن من تعليقه على مقدمة شيخ الإسلام: «أبو عبد الرحمن السلمي هو محمد بن الحسين بن موسى الأزدي النيسابوري، المتوفى سنة 412، وقد اختلف في توثيقه. وكتابه (حقائق التفسير) الذي كان يجب أن يُسمى أباطيل التفسير، أو أضاليل التفسير، قال فيه الذهبي ـ بحق ـ: «إنه تحريف وقرمطة»، حتى إن السبكي يستغرب من شيخه الذهبي أن يصف =

ذلك يدخل في القسم الأول، وهو الخطأ في الدليل والمدلول جميعًا، حيث يكون المعنى الذي قصدوه فاسدًا». 1 - أعاد شيخ الإسلام الحديث عن الخطأ في الدليل والمدلول، وقد سبق ذكره وذكر أمثلة له، لكن اللفتة التي أحب التنبيه عليها هي قوله: «من الصوفية والوعاظ والفقهاء»، وهؤلاء يدخلون إلى باب الاستنباط لاستنباط معاني تخدمهم في أغراضهم، فيقعون فيما ذكره شيخ الإسلام من الخطأ في الدليل، وهو كون الآية دالة على هذا المعنى، وليس خطؤهم في المدلول، وهو الكلام المُستنبط الذي يذكرونه تحت الآية المستنبط منها، فهو بذاته كلام صحيح لا خلاف فيه، وإنما النِّزاع في كون الآية دلَّت عليه. ولو تأملت حال الوعاظ وبعض المربِّيْنَ اليوم لرأيت منهم ما يذكره شيخ الإسلام من إقحام القرآن في أغراضهم والاستدلال به على معانٍ صحيحة في ذاتها، لكن الآيات التي يوردونها لا تدلُّ على ما ذهبوا إليه من الاستدلال. ومن الأمثلة على خطأ المتفقهة في الدليل لا المدلول، ما ذكره ابن عطية (ت:542) من استدلال المهدوي (ت:440) (¬1) في قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَنْ ¬

= السلمي بالجلالة مع علمه بما في كتابه من التحريف!! والذي نستغربه نحن ـ بعد ذلك ـ أن يقول فيه السبكي: «كان شيخ الصوفية وعالمهم في خرسان»، وأن له «اليد الطولى في التصوف، والعلم الغزير، والسير على سنن السلف»!! لأننا لا ندري ما هو العلم الغزير، وما هي سنن السلف بعد هذه التأويلات القرمطية التي في الكتاب، وكما أن التصوف الذي فيه لا يمُتُّ إلى السنة والشريعة بصلة. ولكنه من ذلك النوع الفلسفي الذي كان غالبًا في القرنين الرابع والخامس، والذي كان متأثرًا بالحركات الباطنية التي اجتاحت العالم الإسلامي. قال الإمام أبو الحسن الواحدي: صنَّف أبو عبد الرحمن السلمي (حقائق التفسير)، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر». (¬1) أحمد بن عمار، أبو العباس المهدوي، مقرئ، مفسر، من المهدية بتونس، له =

يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]، قال: «قال المهدوي: ودلَّت هذه الآية على أن السقف لربِّ البيت الأسفل، إذ هو منسوب إلى البيوت. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا تفقُّهٌ واهنٌ» (¬1). ومن أمثلة التفقه الخطأ في الدليل والمدلول ما ذكره الماوردي (ت:450) في استنباط بعضهم في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَاتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260]، قال: «وحُكِي أن إبراهيم ذبح أربعة من الطير، ودقَّ أجسامهن في الهاون لا روحهن (¬2)، وجعل المختلط من لحومهن عشرة أجزاء على عشرة جبال، ثم جعل مناقيرها بين أصابعه، ثم دعاهن فأتين سعيًا، تطاير اللحم إلى اللحم، والجلد إلى الجلد، والريش إلى الريش، فذهب بعض من يتفقه من المفسرين إلى أن من وصَّى بجزء ماله لرجل أنها وصية بالعشر؛ لأن إبراهيم وضع أجزاء الطير على عشرة جبال» (¬3). 2 - تحدث شيخ الإسلام عن تفسير أبي عبد الرحمن السلمي (ت:412) في غير ما موطن من كتبه (¬4)، وقد ذكر تصنيفًا للروايات التي ينقلها السلمي ¬

= كتاب في التفسير بعنوان (التفصيل الجامع لعلوم التنزيل)، واختصره، سمى المختصر (التحصيل)، توفي سنة 440. (¬1) المحرر الوجيز، ط: قطر (13:219 ـ 220). (¬2) قال المحقق: «كذا في الأصل». (¬3) النكت والعيون للماوردي، تحقيق: السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم (1:336). (¬4) ينظر في حديثه عن أبي عبد الرحمن السلمي ما يأتي: بغية المرتاد (ص:328)، الرد على البكري (1:59)، الاستقامة (1:191)، مجموع الفتاوى (6:376)، (11:41 ـ 43، 581)، (13:242 ـ 243)، (35:184).

(ت:412)، فقال: «وكتاب حقائق التفسير لأبي عبد الرحمن السُّلمي يتضمن ثلاثة أنواع: أحدها: نُقُولٌ ضعيفةٌ عمن نُقِلتْ عنه مثل أكثر ما نقله عن جعفر الصادق، فإن أكثره باطل عنه، وعامتها فيه من موقوف أبي عبد الرحمن، وقد تكلم أهل المعرفة في نفس رواية أبي عبد الرحمن حتى كان البيهقي إذا حدث عنه يقول: حدثنا من أصل سماعه (¬1). ¬

(¬1) قال شيخ الإسلام في أبي عبد الرحمن السلمي ورواياته: «وهو في نفسه رجل من أهل الخير والدين والصلاح والفضل، وما يرويه من الآثار فيه من الصحيح شيء كثير، ويروي أحيانًا أخبارًا ضعيفة، بل موضوعة؛ يعلم العلماء أنها كذب. وقد تكلم بعض حفاظ الحديث في سماعه، وكان البيهقي إذا روى عنه يقول: «حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه»، وما يظن به وبأمثاله ـ إن شاء الله ـ تعمُّد الكذب، لكن لعدم الحفظ والإتقان يدخل عليهم الخطأ في الرواية، فإن النُّساك والعُبَّاد؛ منهم من هو متقن في الحديث مثل ثابت البناني والفضيل بن عياض وأمثالهما، ومنهم من قد يقع في بعض حديثه غلط وضعف؛ مثل مالك بن دينار وفرقد السبخي ونحوهما. وكذلك ما يأثره أبو عبد الرحمن عن بعض المتكلمين في الطريق، أو ينتصر له من الأقوال والأفعال والأحوال؛ فيه من الهدى والعلم شيء كثير، وفيه أحيانًا من الخطأ أشياء، وبعض ذلك يكون عن اجتهاد سائغ، وبعضه باطل قطعًا؛ مثل ما ذكر في حقائق التفسير قطعة كبيرة عن جعفر الصادق وغيره من الآثار الموضوعة، وذكر عن بعض طائفة أنواعًا من الإشارات التي بعضها أمثال حسنة واستدلالات مناسبة، وبعضها من نوع الباطل واللغو. فالذي جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن ونحوه ـ في تاريخ أهل الصفة، وأخبار زهاد السلف، وطبقات الصوفية ـ يستفاد منه فوائد جليلة، ويجتنب منه ما فيه من الروايات الباطلة، ويتوقف فيما فيه من الروايات الضعيفة. وهكذا كثير من أهل الروايات ومن أهل الآراء والأذواق من الفقهاء والزهاد والمتكلمين وغيرهم = يوجد فيما يأثرونه عمن قبلهم، وفيما يذكرونه معتقدين له = شيء كثير، وأمر عظيم من الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله، ويوجد أحيانًا عندهم من جنس الروايات الباطلة، أو الضعيفة، ومن جنس الآراء والأذواق الفاسدة، أو المحتملة شيء كثير» الفتاوى (11:42 ـ 43).

والثاني: أن يكون المنقول صحيحًا لكن الناقل أخطأ فيما قال. والثالث: نُقُولٌ صحيحةٌ عن قائلٍ مصيبٍ. فكل معنى يخالف الكتاب والسنة فهو باطل وحجته داحضة. وكل ما وافق الكتاب والسنة والمراد بالخطاب غيره إذا فسر به الخطاب فهو خطأ. وإن ذكر على سبيل الإشارة والاعتبار والقياس فقد يكون حقًا وقد يكون باطلاً. وقد تبين بذلك أن من فسر القرآن أو الحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله ملحد في آيات الله محرف للكلم عن مواضعه، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام» (¬1). أمثلة من كتاب حقائق التفسير لأبي عبد الرحمن السلمي: 1 - قال أبو عبد الرحمن السلمي: «قوله: {وَالطُّورِ} [الطور: 1] قال عبد العزيز الكناني: أقسم الله تعالى بالطور، والطور الجبل، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم، كان في أمته كالجبال والأرض؛ استقرَّت به الأمة على دينهم إلى يوم القيامة، كما استقرت الأرض بالجبال ... قوله: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 2] قال عبد العزيز الكناني: أقسم بالكتاب المنزل عليه، فهو مسطور في اللوح المحفوظ. {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 3] قال: في المصاحف. {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور: 4]: هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، كان ـ والله ـ بيتًا بالكرامة معمورًا، وعند الله مسرورًا مشكورًا. ¬

(¬1) الفتاوى (13:242 ـ 243).

{وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور: 5]: هو رأس النبي صلّى الله عليه وسلّم، كان ـ والله ـ سقفًا مرفوعًا، وفي الدارين مشهورًا، وعلى المنابر مذكورًا. {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6] وهو قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم، كان ـ والله ـ بحرًا من حبِّ الله تعالى مملوءًا، فأقسم الله تعالى بنفس محمد صلّى الله عليه وسلّم عمومًا، وبرأسه خصوصًا، وبقلبه ضياءً ونورًا، وبكتابه حجة على المصاحف مسطورًا، فأقسم الحبيب بالحبيب، فلا وراءها قسم» (¬1). ولا يخفى ما في هذه التفسيرات لهذه الآيات من حمل الكلام على ما لم يُرد به أصلاً، وهو تحريف في معاني كلام الله. 2 - قال أبو عبد الرحمن السلمي: «وقال بعضهم: كان أيوب قائمًا مع الحقِّ في حال الوجد، فلما كشف عنه البلاء وأظهره، وكشف ما به، قال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ}» (¬2). فانظر كيف جعل هذا المتصوف كشف الضر ضرًّا، وكأنه يريد أن يقول: إن حال الوجد الذي يلقاه أيوب حال ضرِّه كان نعمة، وأن الخروج منه ضرٌّ، فلما كشفها عنه، قال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ}، وهذا فهم باطل، وهو من أعاجيب الصوفية. وقد نقل أبو عبد الرحمن عن جعفر الصادق قريبًا من هذا، قال: «لما تناهى أيوب في البلاء واستعذبه؛ صار البلاء وطنًا له، فلما اطمأنت إليه نفسه، وسكن عنه البلاء = شكره الناس على صبره، ومدحوه عليه، فقال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ} لفقد الضر» (¬3). ¬

(¬1) زيادات حقائق التفسير، لأبي عبد الرحمن السلمي، تحقيق: جيرهارد بوورينغ (ص:188 ـ 189). (¬2) حقائق التفسير، لأبي عبد الرحمن السلمي، تحقيق: سيد عمران، ط: دار الكتب العلمية (2:11). (¬3) حقائق التفسير، لأبي عبد الرحمن السلمي، تحقيق: سيد عمران، ط: دار الكتب العلمية (2:10).

ومثل هذا لا يُعقل خروجه عن جعفر الصادق رحمه الله، إذ هو مخالف للفطرة والشرع، فكيف يكون فَقْدُ الضُّرِّ ضُرًّا؟! 3 - ومن الكلام الباطل المخالف لشريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ما رواه ـ مكذوبًا ـ عن جعفر الصادق، قال في قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]: «لو نظر العبد إلى السماء بحقيقة البصر والبصيرة لسكن إلى ضمان الله له رزقه، ولما تحرك من أجل رزقه» (¬1). فأول كلامه حقٌّ لا خلاف فيه، وآخر كلامه مخالف للشريعة، ولا يصحُّ صدوره من مثل هذا العالم الرباني، ولا شكَّ في كذبهم عليه فيه، فآفته من ناقليه عنه، وناسبيه إليه. 4 - في قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58]، أورد أبو عبد الرحمن السلمي تفسيرات للصوفية، منها: «قال أبو عثمان: البلد الطيب مثل قلب المؤمن النقي، يخرج نباته بإذن ربه، تظهر على الجوارح أنوار الطاعات والزينة بالإخلاص، والذي خبث قلب الكافر لا يظهر منه إلا النكد والشؤم والظلم على الجوارح من إظهار المخالفات». «وقال الجوزجاني: البلد الطيب هو القلب؛ يخرج نباته بإذن ربه، بظهور أنواع الطاعات على الجوارح، والذي خبُث من القلوب لا يظهر على الجوارح إلا بالمخالفات» (¬2). تأمل الفرق بين عبارة أبي عثمان، وعبارة الجوزجاني التي فيها الجزم ¬

(¬1) زيادات حقائق التفسير، لأبي عبد الرحمن السلمي، تحقيق: جيرهارد بوورينغ (ص:187). (¬2) حقائق التفسير، لأبي عبد الرحمن السلمي، تحقيق: سيد عمران (1:231).

تاسعا: مكانة تفسير من خالف السلف، وكيفية معرفة تلك المخالفة

بأن البلد الطيب في الآية هو القلب، ولا شكَّ أن هذا الجزم غير صحيح، لكن أن يحمل المعنى على القلب على سبيل المقايسة والمشابهة، فذلك محتملٌ، والآية أعمُّ من ذلك. 5 - ومن المكذوب على جعفر الصادق رضي الله عنه وعن آله، ما ذكره أبو عبد الرحمن في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، قال: «سمعت منصورًا يقول بإسناده عن جعفر عليه السلام، قال: البيت هاهنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فمن آمن به، وصدَّق برسالته دخل في ميادين الأمن والأمانة» (¬1). ولا شكَّ أن من آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم دخل في ميادين الأمن والأمانة، لكن أن يكون المراد بالبيت محمدًا صلّى الله عليه وسلّم، فذلك ما لا يصحُّ، والسياق واضح في بطلان هذا القول العجيب، وما أكثر عجائب هؤلاء القوم في تفسيراتهم لكلام الله. تاسعًا: مكانة تفسير من خالف السلف، وكيفية معرفة تلك المخالفة: أشار شيخ الإسلام في نهاية هذا الفصل إلى قضية مهمة للغاية، وهي تتعلق بالموازنة بين تفسيرات السلف وتفسيرات الخلف، والموقف من تفسيرات الخلف المناقضة لتفسيرات السلف. وقد ذكر أنه إذا كان للسلف في تفسير الآية قول، وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر من أجل مذهب اعتقدوه، وذلك المذهب ليس من مذاهب السلف، فإنهم يصيرون مشاركين لأهل البدع الذين يعتقدون ثم يستدلون. وهؤلاء لا يخلو حالهم في المخالفة من الآتي: ¬

(¬1) حقائق التفسير، لأبي عبد الرحمن السلمي، تحقيق: سيد عمران (1:64 ـ 65).

1 - أن يكون مجتهدًا مخطئًا، وهذا يُغفر له خطؤه. 2 - أن يكون مبتدعًا، وهذا يأثم بابتداعه. ثُمَّ إن القرآن قرأه جيل الصحابة والتابعين وتابعيهم، وكانوا أعلم به ممن جاء بعدهم، كما أنهم أعلم بالحق الذي نزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولا يُعقل أن يكون من جاء بعدهم أهدى طريقًا منهم. ومن خالفهم من غير هوى وقصدٍ للضلالة، فإنه لا يخلو أن يكون عنده شبهة عقلية أو سمعية، وهذا ظاهر من مخالفة كثير من الفرق التي تقصد الحق، لكنها لم تهتدِ إليه. وإثبات علم السلف بمعاني القرآن والشريعة من الأمور المهمة التي نحتاجها اليوم، إذ ظهرت كتابات لا تعيرهم أدنى اهتمام، بل هي لا تعترف بصحيح السنة، وتعرض إلى نقدها بطرق عقلية عقيمة تدلُّ على نقص الباحث في مادة البحث، فضلاً عن نقصه العلمي بالشريعة وتاريخها. وهذا أصل مهم للغاية يحسن تثبيته بالأدلة المقنعة لينقطع بذلك جدل المجادلين، وتخريفات المنحرفين الذين ما يفتؤون يخرجون في كل حين شيئًا من خواء عقولهم المريضة. فالذين نزل بلغتهم القرآن، وشاهدوا أحوال النُّزول، وعرفوا أحوال من نزل عليه صلّى الله عليه وسلّم، وتدارسوه في حياته وبعد وفاته ألا يكونون أقدر على فهمه ممن جاء بعدهم؟! بلى. ثمَّ نقلوه لجيل التابعين الذي حملوا راية التفسير، ونقلوه لأتباع التابعين، الذين صار التفسير في جيلهم بين التفسير النقلي المحض، والتفسير الذي يدخله الاجتهاد، وعليهم يكاد يتوقف النقل، إذ لم يُنقل عن الطبقة التي بعدهم شيءٌ يُذكر في التفسير. ومن جاء بعد أتباع أتباع التابعين فإما أن يكون ممن يتخيَّر من

أقوالهم، وإما أن يجتهد اجتهادًا سليمًا يسلك فيه طريقهم، ولا يناقض في اجتهاده أقوالهم. ولقد كانت أسباب الاختلاف في هذه الأجيال الثلاثة أسبابًا علمية مقبولة، ولما ظهرت البدع، وصار هؤلاء المبتدعة يريدون تعزيز بدعهم بالاستدلال بالقرآن ازدادت شُقة الخلاف، وصار من أكبر أسباب الاختلاف بين المتأخرين الاختلاف في المعتقد، فحُرِّف كلام الله ليوافق مذاهبهم، والله المستعان. وأما كيفية معرفة فساد أقوال هؤلاء فقد ذكر شيخ الإسلام طريقة ذلك، ورتبها على الآتي: 1 - معرفة القول الصواب الذي خالفه هؤلاء المبتدعة. 2 - أن يتيقن أن قول السلف هو الحقُّ، وأن تفسير السلف يخالف تفسير المبتدعة. 3 - أن يعرف أن تفسير المبتدعة مُحدثٌ مبتدع. 4 - أن يعرف بالأدلة التي نصبها الله للحق فساد قولهم. هذا خلاصة ما ذكره في هذه الفقرة، ويمكن أن يزاد عليه: معرفة الرأي المبتدع على وجهه وحقيقته، إذ كثيرٌ ممن يقرؤون التفسير لا يُحسنون معرفة المذاهب المخالفة، فيفوت عليهم شيء من أقوال المبتدعة، وتدخل عليهم وهم لا يشعرون. وقد سبق التنبيه على منهج الزمخشري (ت:538)، وكيف كان يُدخل اعتزالياته أثناء كلامه في تفسير الآية بحيث لا يُشعَر بها. وقد رأيت بعض من يحقق تفسيرًا من التفاسير المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة لا يعرف سوى المخالفة في بعض صفات الذات الإلهية؛ كصفة اليد أو الوجه، أو بعض صفات الفعل؛ كالغضب والرحمة، ولا تراه يتعدى ذلك إلى موضوعات العقيدة المختلفة كالقول في كلام الله، والقول في الإيمان، والقول في القدر، وغيرها من مسائل العقيدة.

ومما يحسن التنبه له في هذا المقام أمور: 1 - أنَّ الانحراف كان قديمًا، لكن بعضه لم تظهر له آثارٌ كتابية؛ كعقيدة الخوارج وعقيدة أوائل الرافضة. 2 - أنَّ هذه المعتقدات قد دخلها التَّطوُّر، فالخوارج في أول أمرهم ليسوا هم الخوارج بعد استقرار مذهبهم بأَخَرَةٍ، والرافضة الأوَّلون ليسوا كالرافضة المتأخرين، وكلتا هاتين الطائفتين قد تبنَّوا عقيدة المعتزلة، وأخذوا منها بنصيب وافر. 3 - أنَّ بعض هذه الفرق قد تتفق في نهايات مسائل الاعتقاد، لكنها وصلت إليها بطرائق عقدية مختلفة، وهذا يعني أن اتفاقهم في النهايات لا يلزم منه اتفاقهم في البدايات وفي الاستدلالات. 4 - أن انتساب أحد المفسرين لإحدى الفرق لا يلزم منه أن يكون ممن يقول بجميع أقوالها، فقد يخالف فيما هو مشهور من مقولات أصحابه. 5 - أن بعض المسائل التفصيلية في الاعتقاد مما قد يقع فيه الخلاف بين أصحاب الفرقة الواحدة، فيحسن معرفة ذلك، لكي يُنسب القول إلى قائله. وهذا يعني أن الانطلاق في تقرير المسائل العقدية في محيط الفرقة الواحدة لا يلزم منه الوصول إلى نتائج واحدة متفق عليها، وهذه هي طبيعة البحث العقلي المجرد عن الوحي. وأخيرًا، فإنه يحسن بمن يريد أن يقرأ التفسير من كتبه المتعددة أن يكون عارفًا بالقول الصواب الذي عليه السلف، مُلِمًّا بأقوال هذه الفرق لكيلا يقع في أقوالهم وهو لا يشعر بذلك.

أحسن طرق تفسير القرآن

أحسن طرق تفسير القرآن

[المتن]

فصل (108) فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب: إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أُجمِل في مكان فإنه قد فُسِّر في موضع آخر، وما اختُصر في مكان فقد بُسِطَ في موضع آخر. (109) فإن أعياك ذلك، فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له؛ بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: كل ما حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو مما فهمه من القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]، ولهذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إلا إني أوتيت القرآن ومثله معه» يعني: السنة. (110) والسنة أيضًا تنْزل عليه بالوحي كما ينْزل القرآن؛ لا أنها تتلى كما يتلى، وقد استدل الإمام الشافعي وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك. (111) والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «بِمَ تحكم؟ قال: بكتاب الله.

تفسير القرآن بأقوال الصحابة

قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. قال: فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صدره، وقال: الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله»، وهذا الحديث في المساند والسنن بإسناد جيد. (112) وحينئذٍ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا (¬1) في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن، والأحوال التي اختصوا بها؛ ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم؛ كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين؛ مثل: عبد الله بن مسعود، قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب، قال: أنبأنا جابر بن نوح، أنبأنا الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: قال عبد الله ـ يعني: ابن مسعود ـ: والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته، وقال الأعمش أيضًا: عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن. (113) ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وترجمان القرآن، ببركة دعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له حيث قال: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل». ¬

(¬1) نوَّع شيخ الإسلام في أسلوب الخطاب، ففي السنة كان الخطاب للغائب: «فإن أعياك ...»، وهنا جاء الخطاب عن المتكلم: «نجد، رجعنا»، وقد استشكلها الدكتور عدنان زرزور، حيث قرأ «نجد»: «تجد»، فجعل «رجعنا»: «رجعت».

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، أنبأنا وكيع، أنبأنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال: قال عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ: «نِعْمَ ترجمان القرآن ابن عباس». ثم رواه عن يحيى بن داود، عن إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح؛ أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود أنه قال: «نِعْمَ الترجمان للقرآن ابن عباس». ثم رواه عن بندار، عن جعفر بن عون، عن الأعمش به كذلك. فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة. وقد مات ابن مسعود في سنة ثلاث وثلاثين على الصحيح، وعُمِّرَ بعده ابن عباس ستًا وثلاثين، فما ظنُّك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود؟ وقال الأعمش عن أبي وائل: استخلف عليٌّ عبدَ الله بن عباس على الموسم، فخطب الناس، فقرأ في خطبته سورة البقرة ـ وفي رواية: سورة النور ـ ففسَّرها تفسيرًا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا. (114) ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره عن هذين الرجلين: ابن مسعود وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: «بلِّغوا عَنِّي ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»، رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو. (115) ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك.

(116) ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح. والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه. والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به، ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم. (117) وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيرًا، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعدَّتِهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم. (118) ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22]. فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام، وتعليم ما ينبغي في مثل هذا، فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعَّف القولين الأولين، وسكت عن الثالث، فدل على صحته، إذ لو كان باطلاً لردَّه كما ردهما، ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا

طائل تحته، فيقال في مثل هذا: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ}، فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه؛ فلهذا قال: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا}؛ أي: لا تُجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك، فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب. فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن يُنبَّه على الصحيح منها، ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النِّزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيُشتغل به عن الأهم، فأما من حكى خلافًا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص؛ إذ قد يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكي الخلاف ويطلقه، ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضًا، فإن صحَّح غير الصحيح عامدًا فقد تعمد الكذب، أو جاهلاً فقد أخطأ. (119) كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقوالاً متعددةً لفظًا ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنًى، فقد ضيَّع الزمان، وتكثَّر بما ليس بصحيح، فهو كلابس ثوبي زور، والله الموفق للصواب.

تفسير القرآن بأقوال التابعين

فصل (120) إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين؛ كمجاهد بن جبر، فإنه كان آية في التفسير؛ كما قال محمد بن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح، عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها. (121) وبه (¬1) إلى الترمذي، قال: حدثنا الحسين بن مهدي البصري، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئًا. وبه إليه قال: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الأعمش، قال: قال مجاهد: لو كنتُ قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت. (122) وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا طلق بن غنام، عن عثمان المكي، عن ابن أبي مليكة قال: رأيت مجاهدًا سأل ¬

(¬1) هذه العبارة «وبه إلى الترمذي» تشير إلى عطف متن على سند سابق، أو جزء من سند على سند سابق، والسند السابق لا يتوافق معه لا من جهة رجال الإسناد ولا من جهة المروي عنه، ولا يظهر هنا داعي للعطف بهذه العبارة، ولا أدري ما سببها، وهذا الأسلوب سيتكرر، حيث سيأتي في الجملة اللاحقة: «وبه إليه»، وسيأتي كذلك في الفصل اللاحق. وهذه تحتاج إلى مراجعة لمعرفة هذا الأسلوب.

ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، قال: فيقول له ابن عباس: اكتب حتى سأله عن التفسير كله، ولهذا كان سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. (123) وكسعيد بن جبير (¬1)، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح. والحسن البصري، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيب، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم. (124) فتذكر (¬2) أقوالهم في الآية فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافًا فيحكيها أقوالاً وليس كذلك، فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو نظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن، فليتفطن اللبيب لذلك، والله الهادي. (125) وقال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يُرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول ¬

(¬1) عطف على قوله: «كمجاهد بن جبر»، فقد استطرد في ذكر مزية مجاهد في التفسير، وذكر كذلك مزية قتادة بين ما ذكره لمجاهد، وهذا راجع إلى كونه رحمه الله أملى المقدمة ولم يراجعها، إذ ينقص هذه الفقرة التي ذكر فيها مزية مجاهد الترتيب. ولما انتهى من ذكر مزية مجاهد عطف عليه غيره من التابعين بقوله: «وكسعيد بن جبير». (¬2) العبارة قلقة، والعطف بهذا الموضوع ـ وهو تباين ألفاظهم في عباراتهم التفسيرية ـ لا يظهر منه علاقته بما ذكره سابقًا، وعدم ترابط هذه الجمل راجع إلى الإملاء الذي سبق التنبيه عليه في أول المقدمة.

التفسير بالرأي المجرد

بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك. (126) فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام (¬1). (127) حدثنا مؤمل (¬2)، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار». حدثنا وكيع (¬3) حدثنا سفيان، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار». وبه إلى الترمذي قال: حدثنا عبد بن حميد، حدثني حسان بن هلال، قال: حدثنا سهيل أخو حزم القطعي، قال: حدثنا أبو عمران الجوني، عن جندب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ». ¬

(¬1) يمكن أن تكون هذه الجملة معطوفة على قوله: «فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير، فالجواب ...»؛ أي: فالجواب كذا وكذا، فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام. (¬2) يلاحظ أنَّ في التعبير بقوله: «حدثنا مؤمل» اختصارًا؛ لمعرفة القارئ بالقائل، أو أنه سقطٌ من الناسخ، أو أنه سقط من المؤلف، ولم ينتبه له، وهذا عائد إلى مسألة الإملاء التي سبق التنبيه عليها. وقائل: «حدثنا مؤمل» هو الإمام أحمد، فقد روى هذا الحديث بهذا السند في مسنده (1:269)، وكان من الأولى أن ترد العبارة هكذا: قال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل ... إلخ. (¬3) قائل: «حدثنا وكيع» هو الإمام أحمد أيضًا، فقد روى هذا الحديث في مسنده بهذا السند (1:233).

(128) قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم. وهكذا رُوِيَ عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيرهم أنهم شدَّدوا في أن يُفسَّر القرآن بغير علم، وأما الذي رُوي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنهم فسروا القرآن؛ فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن، أو فسروه بغير علم، أو من قبل أنفسهم. (129) وقد رُوِيَ عنهم ما يدل على ما قلنا أنهم لم يقولوا من قِبَل أنفسهم بغير علم (¬1)، فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أُمِرَ به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل، فهو في النار، وإن وافق حُكْمُه الصوابَ في نفس الأمر، لكن يكون أخفَّ جرمًا ممن أخطأ، والله أعلم. (130) وهكذا سمى الله تعالى القَذَفَةَ كاذبين، فقال: {فَإِذْ لَمْ يَاتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] فالقاذف كاذب (¬2)، ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر؛ لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به، وتكلَّف ما لا علم له به، والله أعلم. (131) ولهذا تحرَّج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى شعبة، عن سليمان، عن عبد الله بن مرة، عن أبي معمر، قال: قال أبو بكر الصديق: «أيُّ أرض تُقِلُّنِي، وأيُّ سماء تُظِلُّنِي إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم؟!». ¬

(¬1) أصل هذا الكلام عند الترمذي، وفيه اختلاف يسير، ينظر: سنن الترمذي، تحقيق: إبراهيم عطوة عوض (5:200). (¬2) أي: يلزمه وصف الكذب، وإن كان قد رأى الزنى بعينه، وذلك في ظاهر الأمر للناس، ما دام لم يأت بأربعة شهداء يشهدون على هذا الأمر.

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا محمود بن يزيد، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] فقال: «أيُّ سماء تُظِلُّنِي، وأيُّ أرض تُقِلُّنِي إن أنا قلتُ في كتاب الله ما لا أعلم؟». منقطع (¬1). (132) وقال أبو عبيد أيضًا: حدثنا يزيد عن حميد، عن أنس: أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأبُّ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر. وقال عبد بن حميد: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت عن أنس، قال: كنا عند عمر بن الخطاب ـ وفي ظهر قميصه أربع رقاع ـ فقرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] فقال: ما الأبُّ؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف، فما عليك أن لا تدريه؟!. (133) وهذا كله محمول على أنهما رضي الله عنهما إنما أرادا استكشاف علم كيفية الأب (¬2)، وإلا فكونه نبتًا من الأرض ظاهر لا يُجهل؛ لقوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا *وَعِنَبًا وَقَضْبًا *وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً *وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس: 27 ـ 30] (134) وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة: أن ابن عباس سئل عن آية ـ لو سئل عنها بعضكم لقال فيها ـ فأبى أن يقول فيها. إسناد صحيح. ¬

(¬1) أي إسناد هذا الأثر منقطع، فإبراهيم التيمي لم يلق أبا بكر الصدِّيق. (¬2) يظهر ـ والله أعلم ـ أنَّ لفظ الأبِّ لم يكن من لغة قريش، لذا لم يعرفها هذان الصحابيان الجليلان القرشيان.

(135) وقال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، قال: سأل رجل ابن عباس عن: يوم كان مقداره ألف سنة؟. فقال له ابن عباس: فما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟. فقال الرجل: إنما سألتك لتحدثني!. فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله في كتابه، الله أعلم بهما. فكَرِهَ أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم. (136) وقال ابن جرير: حدثني يعقوب ـ يعني: ابن إبراهيم ـ، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن مهدي بن ميمون، عن الوليد بن مسلم، قال: جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله فسأله عن آية من القرآن، فقال: أُحرِّج عليك إن كنت مسلمًا لما قُمْتَ عنِّي، أو قال: أن تجالسني. (137) وقال مالك: عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال: إنا لا نقول في القرآن شيئًا. وقال الليث: عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن. وقال شعبة: عن عمرو بن مرة، قال: سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن، فقال: لا تسألني عن القرآن، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شيء؛ يعني: عكرمة. وقال ابن شوذب: حدثني زيد بن أبي يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام ـ وكان أعلم الناس ـ، فإذا

سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع. (138) وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن عبدة الضبي، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عبيد الله بن عمر، قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير؛ منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع. (139) وقال أبو عبيد: حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث، عن هشام بن عروة، قال: ما سمعت أبي تأوَّل آية من كتاب الله قط. (140) وقال أيوب وابن عون وهشام الدستوائي: عن محمد بن سيرين، قال: سألت عَبِيدة السَّلْمَاني عن آية من القرآن، فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل من القرآن، فاتق الله وعليك بالسداد. (141) وقال أبو عبيد: حدثنا معاذ، عن ابن عون، عن عبيد الله بن مسلم بن يسار، عن أبيه، قال: إذا حدَّثت عن الله فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده. (142) حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه. (143) وقال شعبة: عن عبد الله بن أبي السفر، قال: قال الشعبي: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله. (144) وقال أبو عبيد: حدثنا هشيم، أنبأنا عمر بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله. (145) فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغةً وشرعًا فلا حرج عليه؛ ولهذا رُوِيَ

عن هؤلاء وغيرهم أقوالٌ في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه؛ لقوله تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، ولِمَا جاء في الحديث المروي من طرق: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار». (146) وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، عن أبي الزناد قال: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله. والله سبحانه وتعالى أعلم.

شرح أحسن طرق تفسير القرآن

شرح أحسن طرق تفسير القرآن

الرابع: إن تمايز المفسرين عمومًا هو في مدى اعتمادهم على هذه الطرق، ولا يكاد أن يخلو منها كتاب في التفسير؛ إما نصًّا وإما إشارة. وبعد هذا أستعرضُ ما طرحه شيخ الإسلام، وأضيف إليه بعض التنبيهات.

تفسير القرآن بالقرآن

تفسير القرآن بالقرآن (¬1): قال شيخ الإسلام: «إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر». نص الشيخ هنا على أنَّ طريق تفسير القرآن بالقرآن هي أصحُّ الطرقِ، وهذا حقٌّ لا مرية فيه، لكن يلاحظ في تفسير القرآن بالقرآن أمور: الأمر الأول: أن يكون تفسير القرآن بالقرآن لا يتنازع فيه اثنان لوضوحه واستبانته، وأوضح أمثلته ما يكون على طريقة السؤال والجواب، أو على طريقة ذكر الموصوف ثم إتباعه بأوصافه. ومن أمثلة طريقة السؤال والجواب قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ *النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 1 ـ 3]. فتفسير الطارق لا محالة هو النجم الثاقب، والخلاف في المراد بالنجم الثاقب لا يُخرجه عن كونه هو الطارق. ¬

(¬1) ينظر في تفسير القرآن بالقرآن: فصول في أصول التفسير (ص:22 ـ 26)، ومقالات في علوم القرآن وأصول التفسير (127 ـ 137). ويحسن بطالب علم التفسير أن يقرأ في كتاب الموافقات للشاطبي قسم الكتاب، وهو مملوءٌ بمادة متعلقة بالتفسير وعلوم القرآن. ومن باب الاستطراد: لو أنَّ باحثًا قرأ كتاب الموافقات للشاطبي واستخلص منه ما يتعلق بعلوم القرآن والتفسير، ورتبها ترتيبًا متوافقًا لخرج في ذلك ما يقرب من المجلد، ولكان كتابًا نفيسًا يصلح للمدارسة في الدروس والدورات العلمية.

ومن أمثلة طريقة ذكر الموصوف وإتباعه بأوصافه قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63]. فتفسير أولياء الله بأنهم الذين آمنوا وكانوا يتقون من تفسير القرآن بالقرآن. وكثيرٌ من هذا النوع يأتي متواليًا كما في هذه الآيات، ويمكن أن يكون غير متوالٍ، مثل تفسير: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] بقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]. ومثل قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1]، حيث فُسِّر (ما يُتلى) بقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173]، وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 115]. وهذا يدخل في باب الإجمال الذي ذكره شيخ الإسلام بقوله: «فما أُجمِل في مكان، فإنه قد فُسِّر في موضع آخر». الأمر الثاني: أن يكون تفسير القرآن بالقرآن مما يغمض ولا يدركه كل أحدٍ كتفسير التزويج في قوله تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] بقوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاَثَةً} [الواقعة: 7]، وقوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]. أو تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30]، بقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ *وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق: 11 ـ 12].

وهذا الغموض مدعاة لوجود الاختلاف في تفسير المعنى الذي فُسِّر بالآية الأخرى، وهذا النوع يدخله الاجتهاد، فالمفسر هو الذي يرى أن هذه الآية تفسير هذه الآية، كما يلاحظ وجود واسطة بين الآيتين لتكون هذه الآية مفسرة لتلك الآية، ففي آية الرتق والفتق وقع ما يأتي: 1 - فُسِّر الرتق بعدم إنزال المطر من السماء، وعدم الإنبات من الأرض، وفُسِّر الفتق بإنزال المطر من السماء، وإخراج النبات من الأرض. 2 - جُعِل هذا المعنى للرتق والفتق هو مدلول الرجع والصدع في آيتي سورة الطارق، وهذا يعني أنه لا يُتوصَّل إلى تفسير آية بآية إلا بالاجتهاد المبني على تفسير المدلولين في الآية، وإظهار توافقهما في المعنى. ولو أخذت بالأوجه الأخرى في تفسير الرتق والفتق، فإنه لا يمكنك حمل هذه الآية على آيتي سورة الطارق، لاختلاف المعنى بينهما على الأوجه الأخرى. الأمر الثالث: أن تفسير القرآن بالقرآن لا يتقصر على أصحاب المنهج الحقِّ، بل تجد ذلك عند أهل البدع، حيث تراهم يحملون معنى آية على آية أخرى، وهذا هو عين تفسير القرآن بالقرآن، لكنه مبنيٌّ على منهجهم في الفهم، واجتهادهم في البيان المبني على معتقدهم. وعمل هؤلاء يدلُّك بوضوح على دخول الاجتهاد والرأي في تفسير القرآن بالقرآن، وأنه لا يلزم الأخذ بكل ما قيل فيه إنه تفسير قرآن بقرآن، وإلا للزم أخذ أقوال المبتدعة المبنية على هذا الطريق. والأمثلة على عمل المبتدعة بهذا الطريق كثيرة جدًّا، ولو أقام باحث بحثًا على هذا الموضوع لخرج بكمٍّ وفير من الأمثلة في هذا الباب، ومن ذلك أنَّ أحمد بن يحيى الزيدي المعتزلي (ت:325) (¬1) قال في «رسالة الرد ¬

(¬1) هو الإمام أحمد بن يحيى بن الحسين الحسني العلوي الزيدي، من كبار علماء =

على مسائل الإباضية»: «واعلم يا أبا محمد (¬1) ـ حفظك الله ـ أن هؤلاء القوم إنما أرادوا بذلك تعنيتنا، وأن يدروا ما عندنا من المعرفة باللغة، والذي نذهب إليه ونحبه في التفسير في أن تكون الحجة منا في التفسير بشواهد من كتاب الله على كتاب الله، ولا بدَّ مع ذلك من الاستشهاد باللغة والشعر ...» (¬2). ومن الأمثلة التي أوردها في كتابه قوله: «وسألت عن قوله تعالى: {وَلاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، كأنهم يرون أن القول على أن الله عزّ وجل يريد أن يمنعهم من الإيمان، ومما أمرني أن أدعوكم إليه من الحق! وليس وجه الآية كما ظنَّت المجبرة، وإنما عنى نوح صلوات الله عليه: إن كان يريد عذابكم فلن ينفعكم، والعذاب فهو الغيُّ (¬3)، ألا ترى أن الله سبحانه يقول: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]؛ يقول: فسوف يلقون عذابًا ...» (¬4). فهذا التفسير الذي بين يديك ظاهره تفسير قرآن بقرآن، لكنه خطأ محضٌ، وتحريف ظاهر بسبب شبهة عقلية اعتزالية، وهي عدم جواز الإغواء ¬

= الزيدية، ولد سنة 275، قتل القرامطة وانتصر عليهم، له عدد من الرسائل في الاعتقاد على مذهب المعتزلة ككتاب النجاة، وكتاب التوحيد، توفي بصعدة سنة 325. من مقدمة محقق رسالة الإمام أحمد بن يحيى. (¬1) لم أدر من أبو محمد هذا، ولم يذكر المحقق من هو؟ (¬2) رسالة الرد على مسائل الإباضية، طُبع بعنوان: الخوارج طليعة التكفير في الإسلام، تحقيق: إمام حنفي سيد عبد الله (ص:88). (¬3) كذا في نسخة المحقق، ولعلها: «وأما العذاب فهو الغي»، أو تكون: «والعذاب هو الغي» من دون الفاء، والله أعلم. (¬4) رسالة الرد على مسائل الإباضية، طُبع بعنوان: الخوارج طليعة التكفير في الإسلام، تحقيق: إمام حنفي سيد عبد الله (ص:150 ـ 151).

على الله سبحانه لأنه قبيح، والله لا يفعل القبيح، فَحَمَلَ معنى «يغويكم» على معنى العذاب، وهو ليس كذلك، بل هو بمعنى الإضلال، ثُمَّ استشهد لذلك بأحد أوجه تفسير قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]. فتدبر كيف وصل إلى تفسير آية بآية أخرى، حيث ستجد أنه مرَّ برابط بينهما قبل ربطهما ببعضهما، حيث فسَّر الغواية والغي بالعذاب، فحمل الأولى على الأخرى، فهل يُقبل هذا التفسير على أنه تفسير قرآن بقرآن؟! لا شكَّ أنه من التفسيرات غير الصحيحة، ومثل هذا لا يُقبل، ولا ينظر إلى كونه فسَّر آية بآية. الأمر الرابع: رأيته أنه قد التبس على بعض الفضلاء التفريق بين كون تفسير القرآن بالقرآن مأثورًا أو رأيًا، وقد سمعت بعضهم يجعله مأثورًا مطلقًا، وعندي أنَّ هذا الفاضل لم يُفرِّق بين طريق وصول القرآن إلينا، وهو الأثر، وطريقة وصولنا إلى تفسير آية بآية، وهو الرأي والاجتهاد. الأمر الخامس: أنه لا يلزم من ربط آية بآية أن يكون من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، بل ربط الآيات ببعضها أوسع من تفسير القرآن بالقرآن، ومن جعل كل ربط بين آيتين من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، فإنه قد وسَّع مبحث تفسير القرآن بالقرآن بما لا حدَّ له، فجمع الموضوعات في المعنى الواحد، وجمع النظائر القرآنية، وجمع ما يوهم الاختلاف، وجمع القصص في الموضوع الواحد = كل هذا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن عند التوسع في الإطلاق. أما لو جعلت ضابط الحاجة إلى البيان هو القيد في تفسير القرآن بالقرآن، فإنه سيخرج كثيرٌ من ربط الآيات ببعضها. ومن البيان: تفسير لفظة غريبة بلفظة أشهر منها، وبيان المجمل، وتخصيص العامِّ، وتقييد المطلق وبيان الناسخ للآية المنسوخة، وكل ما كان فيه بيان آية بآية فهو من تفسير القرآن بالقرآن.

ومن تقييد المطلق تفسير قوله تعالى: {وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى: 5]، فقد أطلق الاستغفار لكل من في الأرض، ثم جاء تقييده بالذين آمنوا في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7]. فلو لم تحمل آية غافر على آية الشورى، لجعلت الاستغفار كائنًا للكفار، وإذا حملتها عليها أخرجت الكفار من دائرة الاستغفار، وبهذا يبين الأثر التفسيري في تقييد المطلق، وكذا في أشباهه من الخاص والبيان والناسخ. ومن أمثلة بيان لفظة غريبة في آية ـ وهو قليل في تفسير القرآن ـ بالقرآن = بيانُ معنى لفظ (سجيل) في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود: 82]، فهذا في عذاب قوم لوط عليه السلام، ولما ذكر هذا العذاب في موضع آخر قال: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات: 33]، فدلَّ على أن السِّجيل هو الطين. الأمر السادس: أنه لا يلزم أن يكون لكل آيةٍ آيةٌ أخرى تفسرها، وذلك أمر ظاهر، ولا يبعد أن يكون تفسير القرآن بالقرآن من أقلِّ المصادر؛ إذا اعتبرت أنَّ ضابط البيان ضابطٌ صحيح في مصطلح «تفسير القرآن بالقرآن». وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام بقوله: «والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة»، وهذا يعني أنه قد لا يجد تفسيرًا من القرآن لكل آية من القرآن. الأمر السابع: التفريق بين باب الاستدلال وباب التفسير، ففي الاستدلال يكون القرآن المصدر الأول من مصادر التشريع بلا خلاف بين المسلمين، ثمَّ يتلوه المصدر الثاني، وهو السنة النبوية. وفي التفسير يكون القرآن كذلك المصدر الأول، وهو على قسمين:

الأول: أن يستخدم المفسر القرآن في بيان ما غمض منه في موضع، وذلك يدخل في حدِّ البيان الذي سبقت الإشارة إليه، ويغلب هذا المنهج على أبي الوفاء ثناء الله الهندي الأمر تسري (ت:1367) (¬1) في كتابه «تفسير القرآن بكلام الرحمن» (¬2). وهذا القسم هو الذي أشار إليه شيخ الإسلام بقوله: «فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر». الثاني: أن يستخدم القرآن في بيان ضعف بعض الأقوال التفسيرية، أو تقوية بعض الأقوال التفسيرية أو الاستشهاد به استطرادًا للتفسير الذي يذكره المؤلف، أو جمع أماكن ورود اللفظ، أو جمع موارد القصة الواحدة، أو ذكر فائدة في الآية والاستدلال لها بالقرآن، أو غير ذلك من وجوه الاستفادة من القرآن في التفسير، وعلى هذا سار كثير ممن قصد تفسير القرآن بالقرآن؛ كابن كثيرٍ الدمشقي (ت:774) في كتابه «تفسير القرآن العظيم»، والأمير الصنعاني (ت:1182) (¬3) في كتابه «مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن»، ومحمد الأمين الشنقيطي (ت:1393) في كتابه: «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن»، وغيرهم. ¬

(¬1) ثناء الله الأمر تسري بن محمد الخضر، من أحد سلالات براهمة كشمير المعروفة بسلالة «منتو»، ولد سنة 1285 في مدينة (أمر تسر)، وبها تعلَّم، ثم انتقل إلى مدينة ديوبند فدرس العلوم، ثم رجع إلى مسقط رأسه (أمر تسر) قاوم البدع كبدعة القادياني وغيرها، له عدد من المؤلفات منها تفسير القرآن، توفي سنة 1367 في مدينة (سر كودها). من مقدمة صفي الرحمن المباركفوري لتفسير ثناء الله الأمر تسري. (¬2) الكتاب من مطبوعات دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض، ط1: 1423 ـ 2002. (¬3) محمد بن إسماعيل الصنعاني، المعروف بالأمير الصنعاني، صاحب كتاب سبل السلام، ولد بمدينة كحلان سنة 1099، ثم انتقل إلى صنعاء، ورحل إلى الحرمين، ثم عاد إلى صنعاء، وكان رأسًا في العلم، له تصانيف كثيرة، منها تفسيره مفاتح الرضوان، توفي سنة 1182.

وإليه تشير عبارة شيخ الإسلام في قوله: «وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر»، إذ كثيرٌ من ذلك المختصر يرجع إلى القصص دون غيره؛ كما هو الحال في قصة آدم وموسى وعيسى وغيرهم ممن تكررت قصصهم في القرآن. ويمكن أن يمثل له بقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] حيث ذكر ربنا تبارك وتعالى ما كان من عملهم الذي عوقبوا عليه في قوله: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَاتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَاتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163]. وأخيرًا، فإن موضوع تفسير القرآن بالقرآن لم يلق العناية اللائقة به حتى هذا الحين، وعندي أنَّ الموضوع مليءٌ بالأفكار، وهو بحاجة إلى دراسة دقيقة.

تفسير القرآن بالسنة

تفسير القرآن بالسنة (¬1): لا خلاف في كون السنة المصدر الثاني في التشريع فضلاً عن التفسير (¬2)، وسيكون الحديث هنا عن كونها مفسرة للقرآن، دون النظر إلى جانب الأحكام العملية وما يترتب عليها من مباحث هي من صلب أصول الفقه لا التفسير. وقد نصَّ على كون السنة شارحةً للقرآن في كلامه، فقال: «فإنها شارحة للقرآن، وموضحة له». وهذا بالنظر إلى جمهور السنة بالنسبة للقرآن، ويدخل في ذلك السنة القولية والفعلية والتقريرية، وأغلب ذلك في الأحكام العملية من الجهة التفصيلية. وهذا الذي يظهر فيه بيان السنة للقرآن، كما أشار إلى ذلك الطبري في مقدمة تفسيره في بيان وجوه التفسير، فقال: «... ونحن قائلون في البيان ¬

(¬1) ينظر في تفسير القرآن بالسنة: فصول في أصول التفسير (ص:27 ـ 29)، ومقالات في علوم القرآن وأصول التفسير (ص:138 ـ 151)، والتفسير النبوي للقرآن الكريم وموقف المفسرين منه، للدكتور محمد إبراهيم عبد الرحمن، نشر مكتبة الثقافة الدينية، ومرشد المفسرين والمحدثين إلى ما ورد من التفاسير المصرح برفعها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، لمحمد إبراهيم سليم، نشر مكتبة القرآن. (¬2) لا يُفهم من هذا أنَّ السنة من حيث التشريع بمرتبة نازلة عن الكتاب، بل هما في مرتبة واحدة كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» فهما في الاحتجاج سواء، بل هناك قضايا في القرآن لا تفهم إلا بالسنة. ومن ثمَّ فلا يُفهم من هذه التعبيرات تأخر مرتبة الاحتجاج بالسنة على القرآن، والله أعلم. ينظر: رسالة منْزلة السنة في الإسلام، وبيان أنه لا يُستغنى عنها بالقرآن، ورسالة كيف نفسر القرآن، كلاهما للشيخ المحدث ناصر الدين الألباني.

عن وجوه مطالب تأويله: قال الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لنبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، وقال أيضًا جلَّ ذكره: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]، وقال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]. فقد تبين ببيان الله ـ جل ذكره ـ أن مما أنزل الله من القرآن على نبيه صلّى الله عليه وسلّم ما لا يُوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وذلك تأويل جميع ما فيه من وجوه أمره: واجبه وندبه وإرشاده، وصنوف نهيه، ووظائف حقوقه وحدوده، ومبالغ فرائضه ومقادير اللازم بعض خلقه لبعض، وما أشبه ذلك من أحكام آيهِ التي لم يُدرك علمها إلا ببيان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأمته. وهذا وجه لا يجوز لأحد القول فيه إلا ببيان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له تأويله بنصٍّ منه عليه، أو بدلالةٍ قد نصبها دالَّةٍ أمته على تأويله» (¬1). ولو أدرتَ النظر في أحوال الاستفادة من السنة في التفسير؛ لظهر لك ما يأتي: الحال الأولى: أن يكون في سنته تفسير مباشر للقرآن، وذلك هو التفسير النبوي الذي يكون فيه القصد إلى بيان معنى لفظة أو جملة، أو بيان مجمل، أو بيان غيبي لا يظهر لهم كيفيته، وقد تكون منه ابتداءً، وقد تكون إثر سؤال أو استشكالٍ من الصحابة، ولكل نوع من هذه أمثلته. ومن أمثلة تفسيراته: ¬

(¬1) تفسير الطبري، تحقيق: التركي، ط: هجر (1:67 ـ 68)، وقد كرَّر هذا المعنى في مقدمته (1:73، 82، 88).

1 - في قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38]، قال أبو ذر: «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسجد عند غروب الشمس، فقال: يا أبا ذر، أتدري أين تغيب الشمس؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38]» (¬1). 2 - في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] قال عدي بن حاتم: «قلت: يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الأسود؟ أهما الخيطان؟ قال: إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين، ثم قال: لا، بل هما سواد الليل، وبياض الفجر» (¬2). 3 - في قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58]، قال صلّى الله عليه وسلّم: «قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب، وقولوا حِطَّة، فدخلوا يزحفون على أستاههم (¬3)، فبدَّلوا، وقالوا: حطة، حبة في شعيرة» (¬4). وفي هذا النوع يكون المفسرون سواء في التفسير بهذا التفسير النبوي، ولا يتميز الصحابي إلا بلُقياه وسماعه، أما أن يحمل معنى الآية على تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم فذلك ما يستوي معه غيره، وهذا يعني أن التفسير النبوي نقليٌّ أثريٌّ ليس لأحد فيه سوى النقل والوقوف عنده فلا يُتجاوز. الحال الثانية: أن يكون في سنته ما يوضح القرآن وإن لم يكن من ¬

(¬1) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. (¬2) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. (¬3) أستاههم: أدبارهم. (¬4) أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه، ومسلم والترمذي وغيرهم.

التفسير المباشر، ولهذا صور متعددة؛ كأن يَرِدَ المعنى الذي في الآية في الحديث، أو أن تَرِدَ اللفظة التي في الآية في الحديث، وهي بيِّنة فيه، أو يَرِدَ في السنة تفاصيل أمر مجمل في القرآن، أو أن يَرِدَ فيها الإشارة إلى موضوع من موضوعات القرآن، وما إلى ذلك مما لا يكون القصد منه التفسير المباشر، بل يَرِدُ الحديث عاريًا من الآية. ومن أمثلته: 1 - أن يَرِدَ في الحديث إشارة إلى المعنى الذي في الآية، ومن ذلك ما ذكره ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81]، قال: «{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً}؛ أي: عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط به كفره، فما له من حسنة. وفي رواية عن ابن عباس قال: الشرك. قال ابن أبي حاتم: ورُوي عن أبي وائل وأبي العالية ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه. وقال الحسن أيضًا والسدي: السيئة: الكبيرة من الكبائر. وقال ابن جريج عن مجاهد: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، قال: بقلبه. وقال أبو هريرة وأبو وائل وعطاء والحسن: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، قالوا: أحاط به شركه. وقال الأعمش عن أبي رزين عن الربيع بن خيثم: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، قال: الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب. وعن السدي وأبي رزين نحوه، وقال أبو العالية ومجاهد والحسن في رواية عنهما وقتادة والربيع بن أنس: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} الموجبة الكبيرة.

وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى. ويذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا سليمان بن داود الطيالسي، حدثنا عمران القطان، عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه. وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرب لهم مثلاً كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم ـ يعني الطعام ـ، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادًا، وأججوا نارًا، فأنضجوا ما قذفوا فيها». 2 - أن يرد في السنة زيادة تفصيل لأمر مجمل جاء في الآية؛ ما ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَجِيىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23]، قال: «وقوله تعالى: {وَجِيىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23]، قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، عن العلاء بن خالد الكاهلي، عن شقيق، عن عبد الله ـ هو ابن مسعود ـ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يُؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» (¬1). وهذا النوع مما يدخله الاجتهاد، وهو يتفاوت في الوضوح بالاستدلال بالسنة من مثال إلى غيره، فقد يكون بعضها واضحًا وضوحًا جليًّا بحيث لا يقع نزاع في أن هذا الحديث يصلح تفسيرًا للآية، وبعضها قد يغمضُ ويقع فيه النِّزاع. والذي يؤكَّد عليه أنه يحسن أن لا يلتبس هذا النوع بالذي قبله، والفرق بينهما واضحٌ: ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تحقيق: سامي السلامة (8:399).

فالأول فيه قصد التفسير مباشرة من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وغالبًا ما تردُ الآية المنصوص على تفسيرها في حديثه صلّى الله عليه وسلّم، لذا لا يدخله الاجتهاد، بل هو نقليٌّ محض يلزم قبوله والأخذُ به. والثاني يدخله الاجتهاد، فالمفسِّر هو الذي اجتهد في بيان أن هذا الحديث ـ الذي لم يرد من الرسول صلّى الله عليه وسلّم على سبيل التفسير؛ لأنه لم يذكر آيةً يفسرها ـ مفسِّر وموضِّح لمعنىً في هذه الآية. الحال الثالثة: أن يستفاد من سنته في التفسير بأنواع شتى من الاستفادات غير ما ذُكر من السابقات؛ كالاستشهاد بحديثٍ نبويٍّ على صحة تفسير من التفسيرات، أو أن يَرِدَ في الحديث لفظة واردة في القرآن وهي غير بيِّنة في الموضِعين، أو أن يستفاد من الحديث في ترجيح قول على قول، أو غير ذلك من وجوه الاستفادات، وهي كثيرة جدًّا. 1 - فمِنْ ورود اللفظة في الحديث والآية مع عدم وضوحها فيهما؛ ما أورد ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ *عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} [المعارج: 36، 37]، فقد أورد عن جابر بن سمرة «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج عليهم وهم حلق، فقال: ما لي أراكم عزين» (¬1). فمعنى التَّفَرُّقِ يؤخذ من تعليق الصحابي «وهم حِلَق»، أما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما لي أراكم عزين» فلا يُبيِّن معنى لفظ عزين. 2 - ومن ذلك: تفسير قوله تعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ *كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 15، 16]، قيل: هم القراء من الصحابة، وقيل: هم الملائكة، قال ابن العربي المالكي (ت:543): «لقد كان أصحاب محمد سفرة كرامًا بررة، ولكن ليسوا بمرادين بهذه الآية، ولا قاربوا المرادين بها، بل هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق، ولا يشاركهم فيها سواهم، ولا يدخل معهم في متناولها غيرهم. ¬

(¬1) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي في الكبرى.

رُوِيَ في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: مثل الذي يقرأ القرآن، وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرؤه، وهو يتعاهده، وهو عليه شديد، فله أجران» (¬1). ولا إشكال في أنَّ هذا النوع من باب الاجتهاد، فعلى قدر معرفة المفسر بالأحاديث النبوية يكون ذكره لها في تفسيراته. وهناك نوع يذكره بعض من تكلم في تفسير القرآن بالسنة، وهو غير داخلٍ فيه، وهو أن يكون في السنة حكم لم ينص عليه القرآن، وهذا لا علاقة له بتفسير القرآن بالسنة البتة، ومحلُّه كتب أصول الفقه التي تتحدث عن السنة مصدرًا من مصادر التشريع. وهذا الطريق (تفسير القرآن بالسنة) يحتاج إلى دراسة علمية تُجلِّي كنوزه، وهو موضوع فيه طول وتفريعات كثيرة، ولم تفِ بها البحوث المعاصرة ـ فيما رأيت ـ والله أعلم. ¬

(¬1) أحكام القرآن لابن العربي (4:1906).

تفسير القرآن بأقوال الصحابة

تفسير القرآن بأقوال الصحابة: بيَّن شيخ الإسلام في هذا الفصل بعض مسائل تتعلق بتفسير الصحابة (¬1)، ويمكن إجمالها فيما يأتي: 1 - سبب الرجوع إلى تفسير الصحابة. 2 - من اشتهر بالتفسير من الصحابة. 3 - الإسرائيليات في تفسير الصحابة، وهذا الموضوع قد تمَّ بسطه سابقًا (¬2)، فلا حاجة لنقاش هذه المسألة هنا. أولاً: سبب الرجوع إلى تفسير الصحابة: ذكر في هذا الموضوع الأسباب باقتضابٍ شديد؛ لأنه لا يكاد يوجد خلاف بين علماء المسلمين في الرجوع إلى تفسير الصحابي، وبعض ما يُكتب من الخلاف نظريٌّ يخالفه واقع التطبيق. ومَنزلة الصحابة في الإسلام مما استقرَّ عند المسلمين، ولا يخالف فيها إلا من في قلبه مرض، ولذا لم يُطل شيخ الإسلام في هذا الطريق ولا في الذي قبله، لأنها من أصول المسلمين، بخلاف اليوم الذي ظهر فيه من يستنكر هذه الأصول، ويطعن في الثوابت، أسأل الله العافية. ¬

(¬1) ينظر في تفسير الصحابة للقرآن فصول في أصول التفسير (ص:30 ـ 34)، ومقالات في علوم القرآن وأصول التفسير (ص:152 ـ 170)، وتفسير الصحابة للدكتور عبد الله أبو السعود بدر، نشر دار ابن حزم. (¬2) ينظر (ص:167).

وقد أشار شيخ الإسلام إلى بعض أسباب الرجوع إلى تفسير الصحابي بقوله: «وحينئذٍ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن، والأحوال التي اختصوا بها؛ ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح»، هي: 1 - مشاهدة النُّزول، وتلك خصِّيصة لا يمكن أن تكون لغيرهم، والذي يحضر هذه التنزلات يدرك ما لا يدركه من لم يكن شاهدًا. يقول الشاطبي ـ في حجية بيان الصحابة للقرآن ـ: «وأما الثاني: مباشرتهم للوقائع والنوازل، وتنْزيل الوحي بالكتاب والسنة، فهم أقعد في فهم القرائن الحالية، وأعرف بأسباب النُّزول، ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك، والشاهد يرى ما لا يراه الغائب. فمتى جاء عنهم تقييد بعض المُطلَقات، أو تخصيص بعض العمومات، فالعمل عليه على الصواب، وهذا إن لم يُنقل عن أحدهم خلاف في المسألة، فإن خالف بعضهم فالمسألة اجتهادية» (¬1). وهذه مسألة عقلية لا يدخلها إلا الجدل السفسطي، فلو افترضت ملكًا له مستشارون هم من خاصته، ألا يكونون أعلم بأحواله وبإشارته وبأوامره من غيرهم، فإذا كان الأمر كذلك، كان الرجوع إليهم لمعرفة أمور الملك مما يتحتَّم. وكذا لو تُصُوِّر عالمٌ له طلابٌ اختصوا به، وتلقوا على يده العلم، ولازموه ملازمة طويلة، فكتب لهم في العلم كتابًا، فإنهم أدرى بأسرار هذا الكتاب من غيرهم، لما لهم من المشاهدة لحال شيخهم، ومعرفتهم بطريقته. فإذا كان ذلك أمرًا عقليًّا بدهيًّا، فكيف يعترض معترض على صحة ¬

(¬1) الموافقات. تحقيق: مشهور آل سلمان (4:128).

الرجوع إلى تفسير الصحابة، أو يطعن طاعن في فهمهم لكتاب الله، ومعرفتهم به، مع ما عُرف عن بعضهم من الخلوص لهذا الكتاب والاعتناء به. 2 - الأحوال التي اختصوا بها، وهذه الأحوال ـ كما ترى ـ مجملة، وهي تشتمل على حالين: الأولى: الأحوال التي لا يشاركهم فيها غيرهم بسبب رؤيتهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذه ترجع إلى موضع مشاهدة التَّنْزيل، ومعرفة أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم، فتشكَّل لهم بذلك أحوالٌ خاصَّةٌ لا يشاركهم فيها غيرهم، والشاهد يدرك من الأحوال ما لا يدركه الغائب، فإنَّ للمشاهدةِ أثرًا لا يدركه غير المشاهد، ويظهر هذا في طلاب العلم الذين يتلقون العلم في حِلَقِ العلم، فيأخذون عن الشيخ مباشرة، حيث يتأثرون به حتى قد يبلغ التأثر بطريقة كلامه وعرضه للدرس. أما من يأخذه من طريق الكتب أو الأشرطة فإنه لا يدرك هذه المشاهدة التي اختص بها المشاهد. الثانية: الأحوال المشتركة التي شاركهم فيها غيرهم ممن جاء بعدهم، لكن من بعدهم أقل شأنًا منهم. ومعرفة هذه الأحوال يُرجع فيها إلى سيرة الصحابة الكرام، لمعرفة علومهم وآثارهم في العلم، فمن قرأ في علومهم ظهر له من هذه الأحوال الشيء الكثير. 3 - الفهم التام والعلم الصحيح، وهذا ظاهر باستقراءِ علمِهم، وتتبعِ دقيقِ فهمِهم، وتلك أيضًا من آثار مشاهدة التنْزيل، ومعرفة أحوال النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومعاشرته، والأخذ عنه مباشرة، مع ما لهم من العلم بلغتهم، والاستعداد الفطري للعلم والتعلم. وموضوع تفسير الصحابة موضوع طويل، وهو يحتاج إلى عمل رسالة فيه، والمكتوب فيه لا يكفي، والله الموفق.

تفسير القرآن بأقوال التابعين

تفسير القرآن بأقوال التابعين (¬1): طَرَقَ شيخ الإسلام في هذا الموضوع سبب الرجوع إلى تفسير التابعين، وهو رجوع كثيرٍ من الأئمة إلى تفسيرهم، وهذا ـ بلا شك ـ سبب أكيد، ويضاف إليه ثلاثة أمور: 1 - تلقيهم العلم على يد الصحابة الذين شاهدوا التنْزيل، وعرفوا أحوال من نزل فيه الخطاب، وتلقوا علمهم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. 2 - خلوهم من البدع والأهواء، فلم يكونوا شيعًا وأحزابًا، بل كانوا متفقين على أصول أهل السنة والجماعة التي أرساها الصحابة. وقد نشأ عن ذلك سبب ثالث، وهو: 3 - ائتلاف أقوالهم، وقلة الاختلاف في التفسير بالنسبة لمن جاء بعدهم، وهذا يرجع إلى ما سبق أن ذكره شيخ الإسلام بقوله: «ولهذا كان النِّزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليلٌ جدًا، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة، فهو قليل بالنسبة لمن جاء بعدهم، وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر». 4 - عدم فساد ألسنتهم بالعجمة، فكانوا في وقت الاحتجاج اللغوي، ¬

(¬1) ينظر في تفسير القرآن بأقوال التابعين: فصول في أصول التفسير (ص:39 ـ 40)، وكتاب تفسير التابعين عرض ودراسة ومقارنة، للدكتور محمد بن عبد الله بن علي الخضيري، نشر دار الوطن.

بل بعضهم كان من الحُجَجِ اللغوية التي يُرجع إلى قولهم في بيان كلام العرب. طبقات مفسري السلف بعد الصحابة: ذكر شيخ الإسلام عددًا من علماء التابعين من المفسرين، وهم ـ حسب ورودهم عنده ـ مجاهد بن جبر (ت:104)، وسعيد بن جبير (ت:95)، وعكرمة (ت:105)، ومسروق بن الأجدع (ت:63)، وسعيد بن المسيب (ت: بعد 90)، وأبو العالية (ت:93)، والربيع بن أنس (ت:139)، وقتادة (ت:117)، والضحاك بن مزاحم (ت:105). وبعد ذكره لهم ألحق بهم غيرهم من التابعين ممن لم يذكرهم، وأتباع التابعين، ومن بعد أتباع التابعين. والذي يرجع في التفسير المدوَّن عن السلف يجد أنَّ المنقول يقف عند طبقة أتباع التابعين على رأس المائتين تقريبًا، وأما من جاء بعدهم من أتباع أتباع التابعين، فإنه قد كان ناقلاً للتفسير، ولم يكن في عهدهم إلا أقوال مفردة لبعض العلماء، وهي معتمدة على أقوال هذه الطبقات الثلاث. عبارات السلف في التفسير: ذكر أن السلف قد يقع في عباراتهم في تفسير الآية تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافًا فيحكيها أقوالاً وليس كذلك، وذكر أنَّ تعبيراتهم قد تكون: بالتعبير عن الشيء بلازمه، أو التعبير عنه بنظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه. واللازم نوعان: الأول: أن يكون لازمًا للفظ من جهة المدلول اللغوي، ويدخل في ذلك التنبيه على جزء المعنى عندما يكون اللفظ مشتملاً على أجزاء من المعاني لا

يطلق عليه لأجل أحدها بل لوجودها كلها؛ كالإذن يستلزم العلم، إذ كيف يأذن بما لا يعلم، وليس الإذن مجرد العلم فقط، بل هو علمٌ مع إباحةٍ. الثاني: لازم للمعنى المراد، وفي هذا يشترك مدلول اللفظ مع المعنى السياقي المراد فيتكون منها المعنى الجملي، ومن ذلك تفسير ابن جريج (ت:150) لقوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيْسَتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49]، قال: «يسترقون نساءكم» (¬1). فتعبيره هذا تفسير بلازم المعنى السياقي، إذ هم يستبقونهنَّ أحياء ليكنَّ رقيقات حال كونهنَّ نساءً. وهذا الاختلاف لا يكون اختلافًا محققًا، بل هو يرجع إلى معنى واحد في النهاية. ويمكن أن يضاف إلى تعبيرات السلف ما سبق أن ذكره في اختلاف التنوع، فالتفسير بالمثال، وتفسير اللفظ بما يقارب معناه نوعان داخلان في طرق السلف في التعبير عن التفسير. كما يضاف إليها ما ذكره في موطن آخر حيث ذكر طريقتين في تعبيرهم، وهي: أن يذكروا بعض صفات المفسَّر أو أن يذكروا بعض أنواعه، قال: «... ثم قول من قال من السلف: هادي السموات والأرض، لا يمنع أن يكون في نفسه نورًا، فإن عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المفسَّر من الأسماء أو بعض أنواعه، ولا ينافي ذلك ثبوت بقية الصفات المسمى، بل قد يكونان متلازمين، ولا دخول لبقية الأنواع فيه، وهذا قررناه غير مرة في القواعد المتقدمة، ومن تدبره عَلم أن أكثر أقوال السلف في التفسير متفقة غير مختلفة» (¬2). ¬

(¬1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2:46). (¬2) تفسير سورة النور، لابن تيمية، نشر دار الوعي بحلب (ص:192).

وشيخ الإسلام لم يوضح مراده بهذه المصطلحات، ولا ذكر لها أمثلة توضِّحها، ويمكن إجمال هذه التعبيرات فيما يأتي: 1 - بالتعبير عن الشيء بلازمه. 2 - أو التعبير عنه بنظيره. يحتمل قوله بنظيره بما يشبهه من بعض الوجوه دون بعض، وإذا كان كذلك، فهو يدخل في رقم (6) الآتي ذكره. 3 - ومنهم من ينص على الشيء بعينه. 4 - أن يذكروا بعض صفات المفسَّر من الأسماء. 5 - أو بعض أنواعه. وهذا وسابقه قد مرَّ في مثال تفسير اسم الله (النور). 6 - تفسير اللفظ بما يقارب معناه. 7 - التفسير بالمثال. وهذان الأخيران قد سبقت أمثلتهما في اختلاف التنوع. حجية قول التابعين في التفسير: ذكر شيخ الإسلام قول شعبة بن الحجاج (ت:160) في قبول قول التابعين في التفسير، وشرحه بأنها لا تكون حجة حال الاختلاف، فإذا وقع خلاف بين مجاهد (ت:104)، وعكرمة (ت:105)، فلا يكون قول مجاهد حجة على قول عكرمة، لأنه مجاهد (ت:104)، ولا العكس. وهذا التنظير ينطبق على تفسير الصحابة أيضًا، فليس اختيار القول لأنه قول ابن عباس (ت:68) مع وجود المخالف له من الصحابة، وهكذا غيره من الصحابة. لكن إذا اتفقوا على قول كان حجَّةً لأجل منْزلة الإجماع وحُجِّيته، كما لو أجمع الصحابة على قول.

ومن جاء بعدهم فله أن يقول بقول الواحد منهم، لكن اختياره لأحد أقوالهم ليس حجة على القول الثاني، فيسقطه بسبب أنه اختار قول فلان منهم. وإذا لم يرد التفسير إلا عن الواحد منهم، فالأصل قبوله، ما لم يظهر عليه ما يوجب عدم ذلك، وقوله ـ في مثل هذا الحال ـ مقدَّمٌ على قول من بعده، وعلى هذا المنهج سار إمام المفسرين ابن جرير الطبري (ت:310) حيث يعتمد ـ في بعض الأحيان ـ على قول الواحد من التابعين، بل على قول الواحد من أتباع التابعين، إذا لم يكن في الآية إلا قول الواحد منهم. والاعتراض على رأيهم لا يخلو من حالين: الأولى: أن يكون الاعتراض اعتراضًا علميًّا مقنعًا، بحيث يكون مبنيًّا على أصول علميَّةٍ معتبرة، وهذا يجوز الاعتداد به عند الاختلاف، مع ملاحظة أنَّ بعض الاعتراضات ـ مع ما فيها من أسلوب علميٍّ معتبر ـ قد تقصُر عن فهم تفسير السلف، ويقع الاعتراض في غير محلِّه. الثانية: أن يكون الاعتراضُ مبنيًّا على مذهب غير معتبر، ورأي مخالفٍ لرأيهم، أو أن يكون عن عِلْمٍ ناقصٍ، وذلك ما يصدر من بعض المعاصرين الذين لم يدركوا مرامي كلام السلف، كما يقع لبعض من يتعاطون الإعجاز العلمي، فيقع منهم الاعتراض أو التثريب على السلف. وإذا كان الاعتراض ممن هذه صفته، فإنه لا يُقبل؛ لأنه لم تكتمل فيه الشروط العلمية للردِّ على الأقوال. مسألة في كيفية الترجيح بين أقوال التابعين: الترجيح بين أقوال المفسرين (¬1) أوسع من الترجيح بين أقوال التابعين، ¬

(¬1) ينظر في الترجيح بين أقوال المفسرين كتاب: قواعد الترجيح عند المفسرين، =

وما ذكره شيخ الإسلام هنا عريٌّ عن الأمثلة، ويظهر أنَّ كون هذه الرسالة صدرت عن إملاء خلت في كثيرٍ من المواضع المهمة من الأمثلة، وقد ذكر في المرجع عند اختلاف التابعين، وأرجع الترجيح بين أقوالهم إلى أمور ثلاثة: الأمر الأول: لغة القرآن والسنة (¬2)، ويدخل في هذا نوعان: الأول: الاستعمال القرآني؛ سواءً أكان أغلبيًّا، أم كان مطَّردًا، والمطَّردُ يكون مصطلحًا قرآنيًّا. ¬

= للدكتور حسين الحربي. (¬1) ينظر في الترجيح بين أقوال المفسرين كتاب: قواعد الترجيح عند المفسرين، للدكتور حسين الحربي. (¬2) ذكر شيخ الإسلام مصطلح «لغة القرآن» في غير هذا الموضع، فقال: «... والمعنى الثاني في لفظ السلف ـ وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقًا ـ: هو نفس المراد بالكلام، فإن الكلام إن كان طلبًا كان تأويله نفس الفعل المطلوب، وإن كان خبرًا كان تأويله نفس الشيء المخبَر به. وبين هذا المعنى والذي قبله بون، فإن الذي قبله ـ أي: التأويل بمعنى التفسير ـ يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام؛ كالتفسير والشرح والإيضاح، ويكون وجود التأويل في القلب واللسان له الوجود الذهني واللفظي والرسمي، وأما هذا، فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج سواء كانت ماضية أو مستقبلة فإذا قيل: طلعت الشمس، فتأويل هذا نفس طلوعها، ويكون التأويل من باب الوجود العيني الخارجي، فتأويل الكلام: هو الحقائق الثابتة في الخارج بما هي عليه من صفاتها وشؤونها وأحوالها، وتلك الحقائق لا تعرف على ما هي عليه بمجرد الكلام والإخبار إلا أن يكون المستمع قد تصوَّرها أو تصوَّر نظيرها بغير كلام وإخبار، لكن يعرف من صفاتها وأحوالها قدر ما أفهمه المخاطب؛ إما بضرب المثل، وإما بالتقريب، وأما بالقدر المشترك بينها وبين غيرها، وإما بغير ذلك. وهذا الوضع والعرف الثالث هو لغة القرآن التي نزل بها، وقد قدمنا التبيين في ذلك، ومن ذلك قول يعقوب عليه السلام ليوسف: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَاوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف: 6]». الفتاوى (13:289 ـ 290). وينظر من كلامه في لغة القرآن والسنة المواضع الآتية: بيان تلبيس الجهمية (1:532)، النبوات (ص:236، 273)، الصفدية (2:84)، الفتاوى (1:245)، (5:63)، (6:91، 112)، (7:115)، (12:319)، (17:353، 364، 368).

الثاني: المصطلح الشرعي، وهو الاستعمال الوارد للفظ في لغة الشارع، فيكون مبيِّنًا ومرجِّحًا، إذا وقع الاختلاف. الأمر الثاني: عموم لغة العرب: وفي هذا لا يعني أنَّ التابعين وأتباعهم قد يفسرون بغير ما يُعرف من لغة العرب، لكنَّ الأمر يمكن أن يُحمل على موضوعين في لغة العرب: الأول: أن يكون القول المذكور هو الاستعمال المشهور للفظة، فيقدَّم على غيره مما لا يتَّصِف بهذا مما يكون هو الأغرب أو الأقل في الاستعمال. الثاني: أن يكون الاشتقاق أليق بأحد الأقوال من غيره، فيقدَّم هذا القول على غيره مما يبعد عن اشتقاق اللفظ. الأمر الثالث: أقوال الصحابة: وهذا المرجِّح يفيد فيما يقع فيه الاختلاف من جهة مشاهدة النُّزول على وجه الخصوص (¬1)، فقول الصحابي في النزول مقدَّمٌ على قول غيره مطلقًا، إذ الشاهد الذي يرى ويروي أعلم بالحال من الغائب الذي يروي ولم يَرَ. أما إذا كان الأمر يرجع إلى الاجتهاد المعتمد على اللغة أو غيرها، فإنَّ عمل المفسرين على تقديم القول الصحيح، ولو كان في القول غير المختار صحابيٌّ، وهذا يظهر باستقراء منهج المفسرين المعتبرين أمثال ابن جرير الطبري (ت:310)، والنحاس (ت:338)، وأبي المظفر السمعاني (ت:489)، والبغوي (ت:516)، وابن عطية (ت:542)، والقرطبي (ت:661)، وابن كثير (ت:771)، وغيرهم من المحققين (¬2). ¬

(¬1) متى يُقدَّم تفسير الصحابي مطلقًا؟ مسألة تحتاج إلى بحث، وفيها عدم وضوح، خصوصًا أنَّ التنظيرات التي ذُكِرَت في تفسير الصحابي يخالفها تطبيقات العلماء أثناء كتابتهم للتفسير وترجيحاتهم بين الأقوال. (¬2) هذا الذي ظهر لي من عمل المفسرين، وهذه المسألة تحتاج إلى بحث واستقراء =

الرأي في التفسير

الرأي في التفسير: بعد أن أنهى شيخ الإسلام الحديث عن أحسن طرق التفسير ذكر عددًا من القضايا المتعلقة بالتفسير بالرأي (¬1)، وهي: 1 - حكم التفسير بالرأي المجرد. 2 - الأحاديث الناهية عن ذلك. 3 - تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، والمقصود بتحرج هؤلاء. ثمَّ ختم الرسالة بحديث ابن عباس في تقسيم التفسير. مسألة التفسير بمجرد الرأي، وموقف السلف من تفسير القرآن بالرأي: إنَّ التفسير بمجرد الرأي، دون أن يكون مستندًا على دليل علميٍّ صحيح، وأسلوبٍ علمي معتبر يُعتبرُ تفسيرًا بالرأي المذموم، وهو حرام، والأحاديث التي أوردها شيخ الإسلام من رواية الترمذي ـ مع أنها لا تصح؛ لضعفها ـ إلا أنَّ فيها من المعنى ما هو حقٌّ تشهد له نصوص أخرى، ومن ¬

= وتقرير، ولعل الله يوفق لها من يقوم ببحثها. (¬1) تحدثت عن التفسير بالرأي في كتابي فصول في أصول التفسير (ص:47 ـ 52)، مقدمة كتابي مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر، ومقالات في علوم القرآن وأصول التفسير (ص:209 ـ 229)، وقد كتب فيه الدكتور محمد زغلول كتابًا بعنوان: التفسير بالرأي قواعده وضوابطه وأعلامه، نشر مكتبة الفارابي بدمشق.

ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، فجعل القول عليه بغير علم من المحرمات، والتفسير قول على الله، فإن كان بغير علم كان من المحرمات كما ورد في الآية. وهذا النوع من الرأي هو الذي نهى عنه السلف، وعليه تُحمل نصوصهم الواردة في النهي عن الرأي في التفسير، والله أعلم. أما ما ورد من تحرُّجهم من التفسير، فهم على قسمين: القسم الأول: من لم يقل في التفسير تحرُّجًا، وندرت عنه الرواية في ذلك؛ كعروة بن الزبير (ت:93)، الذي قال عنه ابنه هشام (ت:146): «ما سمعت أبي يتأوَّل آية من كتاب الله قط». ويلاحظ أنَّ هذا المذهب لم يرد عن أحد الصحابة، ولم يُنقل أنَّ أحد أعلام الصحابة الكرام توقَّف عن عموم التفسير تحرُّجًا سوى الرواية التي أوردها الطبري عن جندب بن عبد الله البجلي (ت: بعد 60)، فقد جاء في الرواية أن طلق بن حبيب سأله عن آية من القرآن، فقال له: «أُحرِّج عليك إن كنت مسلمًا لما قمتَ عني، أو قال: أن تجالسني» (¬1). وهذه الرواية قد تكون من أجل مسألة مشكلة، ولا يلزم منها أنه كان يمتنع عن عموم التفسير، وإن كان الأمران محتملين. القسم الثاني: من وردت عنه أقوال في التفسير، وورد عنه التوقف في بعض التفسيرات من باب التحرُّج؛ كسعيد بن المسيِّب. ويمكن ملاحظة أنَّ هؤلاء لم يكونوا يحرصون على الاجتهاد في التفسير، مع أنهم يملكون أدواته، وإنما كانوا يتكلمون في المعلوم من التفسير، وهو المنقول لهم عمَّن قبلهم من الصحابة أو بعض أقرانهم، لذا قد ¬

(¬1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (1:86).

ترد في بعض تفسيراتهم بعض الغرائب المتعلقة بأخبار بني إسرائيل لأجل هذا السبب، وهو أنهم ينقلون ما وردهم، ولا يجتهدون اجتهادًا خاصًّا. والتوقف في الاجتهاد في بعض الآيات ورد عن القليل من الصحابة ممن تعرضوا للتفسير؛ كما هو الوارد عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في التوقف في تفسير الأبِّ من قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]. وقد ظهر التحرُّجُ بنوعيه في طبقة التابعين: الأولى: بعض علماء أهل المدينة، قال عبيد الله بن عمر: «لقد أدركت فقهاء المدينة، وإنهم ليغلظون القول في التفسير؛ منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع» (¬1). الثانية: بعض علماء أهل الكوفة، قال عنهم إبراهيم النخعي: «كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه» (¬2)، ويقصد بأصحابه: علماء الكوفة من التابعين. وهذا هو ظاهر الآثار ـ التي نقلها شيخ الإسلام وغيره ـ عن المتحرِّجين من التفسير، أما علماء التفسير من أهل مكة وأهل البصرة وبعض أهل المدينة، فكان لهم قدم السبق في الاجتهاد في التفسير. وهذا التحرُّجُ لا يعني أنهم لا يفهمون معاني القرآن، وإنما هو مذهب خاصٌّ بمن توقَّف عن التفسير، ولم يرَ أن يكون من المفسِّرين تورُّعًا منه، مع قيام غيره به، فكأنَّه قد كُفيَ ذلك الأمر. مسألة في تَحرُّج أبي بكر من القول بالرأي في الأبِّ، وقوله به في الكلالة: قد يقول قائل: لم توقَّف الصِّديق في تفسير لفظ الأبِّ من قوله تعالى: ¬

(¬1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (1:85). (¬2) فضائل القرآن، لأبي عبيد القاسم بن سلام، تحقيق: وهبي سليمان غاوجي (ص:229).

{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31]، فقال: «أي أرض تقلني، وأي سماءٍ تُظلني إذا قلت في القرآن برأيي، أو بما لا أعلم؟» (¬1)، وقال برأيه في الكلالة في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً} [النساء: 12]، فقد روى الشعبي (ت:103) عنه قال: «إني قد رأيت في الكلالة رأيًا، فإن يكن صوابًا فمن الله وحده لا شريك له، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان، والله منه بريء ...» (¬2)؟. فالجواب: 1 - أنَّ جهل معنى «الأبِّ» كمفردة لا يؤثر على فهم المعنى العامِّ للآية، فهو ظاهر أنه نبات، لكنَّ تحديد نوعه عنده غير ظاهرٍ، بخلاف الكلالة التي يتأثر بعدم معرفتها معرفة حكم الله. 2 - أنَّ أبا بكر كان عالم الأمة ومسؤولها الأول، والكلالة تحتاج إلى اجتهاد لبيان حكم الله في هذه المسألة العملية، فكان قوله بها مما لا بدَّ منه، بخلاف معنى «الأبِّ» الذي لو جُهِلَ معناه لم يكن له مثل هذا الأثر. أثر ابن عباس في تقسيم التفسير: أورد شيخ الإسلام أثر ابن عباس (ت:68) في تقسيم التفسير، وختم به الكتاب، وفيه الدلالة على أنَّ العلماء يقولون بما يعلمون من التفسير، ويسكتون عما لا يعلمون، فما كان غير معلومٍ لم يقولوا به، ويدخل في ذلك ما لا يعلمه إلا الله، كما يدخل فيه ما يجهلونه مما يعلمه غيرهم، ¬

(¬1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (1:78). (¬2) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (8:53).

وهذا هو المتشابه النسبي الذي إن خَفِيَ على بعضهم فإنه لا يلزم خفاؤه عن الجميع بخلاف الذي لا يعلمه إلا الله فإنه يخفى على جميع الناس (¬1). ¬

(¬1) قد شرحت هذا الحديث شرحًا موجزًا في كتاب فصول في أصول التفسير (ص:17 ـ 18)، وكذا كتاب مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير (ص:121 ـ 126)، وأشرت فيه إلى شرح الماوردي (ت:450) لهذا الأثر في تفسيره المعنون بالنكت والعيون (1:37 ـ 38).

الملاحق العلمية: نقول من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية

الملاحق العلمية: نقولٌ من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية

الملحق الأول ويشتمل على ثلاث مسائل

الملحق الأول ويشتمل على ثلاث مسائل: الأول: مسألة البيان النبوي للقرآن. الثانية: مسألة اختلاف التنوع. الثالثة: مسألة أسباب النُّزول. جاء في «مجموع الفتاوى» (5:153 ـ 163) ما نصه: «سئل شيخ الإسلام فريد الزمان بحر العلوم تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله عن رجلين تباحثا في «مسألة الإثبات للصفات، والجزم بإثبات العلو على العرش». فقال أحدهما: لا يجب على أحد معرفة هذا، ولا البحث عنه: بل يكره له، كما قال الإمام مالك للسائل: وما أراك إلا رجل سوء. وإنما يجب عليه أن يعرف ويعتقد أن الله تعالى واحد في ملكه، وهو رب كل شيء وخالقه ومليكه؛ بل ومن تكلم في شيء من هذا فهو مجسم حشوي. فهل هذا القائل لهذا الكلام مصيب أم مخطئ؟ فإذا كان مخطئًا فما الدليل على أنه يجب على الناس أن يعتقدوا إثبات الصفات والعلو على العرش ـ الذي هو أعلى المخلوقات ـ ويعرفوه؟ وما معنى التجسيم والحشو؟ أفتونا وابسطوا القول بسطًا شافيًا يزيل الشبهات في هذا مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى.

فأجاب: الحمد لله رب العالمين. يجب على الخلق الإقرار بما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم، فما جاء به القرآن العزيز أو السنة المعلومة وجب على الخلق الإقرار به جملة، وتفصيلاً عند العلم بالتفصيل؛ فلا يكون الرجل مؤمنًا حتى يقر بما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. فمن شهد أنه رسول الله شهد أنه صادق فيما يخبر به عن الله تعالى، فإن هذا حقيقة الشهادة بالرسالة؛ إذ الكاذب ليس برسول فيما يكذبه، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ *لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ *ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 ـ 46]. وبالجملة، فهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام؛ لا يحتاج إلى تقريره هنا، وهو الإقرار بما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو ما جاء به من القرآن والسنة؛ كما قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 151]. وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231]. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]. وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].

ومما جاء به الرسول: رِضَاهُ عن السابقين الأولين، وعن من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]. ومما جاء به الرسول: إخباره بأنه تعالى قد أكمل الدين بقوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3]. ومما جاء به الرسول: أمر الله له بالبلاغ المبين كما قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]. ومعلوم أنه قد بلغ الرسالة كما أمر ولم يكتم منها شيئًا، فإن كتمان ما أنزل الله إليه يناقض موجب الرسالة؛ كما أن الكذب يناقض موجب الرسالة. ومن المعلوم من دين المسلمين أنه معصوم من الكتمان لشيء من الرسالة، كما أنه معصوم من الكذب فيها، والأمة تشهد له بأنه بلّغ الرسالة كما أمره الله، وبيّن ما أنزل إليه من ربه، وقد أخبر الله بأنه قد أكمل الدين؛ وإنما كمل بما بلغه؛ إذ الدين لم يعرف إلا بتبليغه، فعلم أنه بلغ جميع الدين الذي شرعه الله لعباده كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك». وقال: «ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، وما من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به». وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا.

إذا تبين هذا: فقد وجب على كل مسلم تصديقه فيما أخبر به عن الله تعالى: من «أسماء الله وصفاته» مما جاء في القرآن وفي السنة الثابتة عنه، كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان؛ الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه. فإن هؤلاء هم الذين تلقوا عنه القرآن والسنة، وكانوا يتلقون عنه ما في ذلك من العلم والعمل، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي: لقد حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا القرآن، كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلّى الله عليه وسلّم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا. وقد قام عبد الله بن عمر ـ وهو من أصاغر الصحابة ـ في تعلم البقرة ثماني سنين، وإنما ذلك لأجل الفهم والمعرفة، وهذا معلوم من وجوه: أحدها: أن العادة المطردة التي جبل الله عليها بني آدم توجب اعتناءهم بالقرآن ـ المنزل عليهم ـ لفظًا ومعنى، بل أن يكون اعتناؤهم بالمعنى أوكد، فإنه قد علم أنه من قرأ كتابًا في الطب أو الحساب، أو النحو أو الفقه أو غير ذلك، فإنه لا بد أن يكون راغبًا في فهمه، وتصور معانيه، فكيف بمن قرؤوا كتاب الله تعالى المنزل إليهم، الذي به هداهم الله، وبه عرّفهم الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، والرشاد والغي؟! فمن المعلوم أن رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات، بل إذا سمع المتعلم من العالم حديثًا فإنه يرغب في فهمه؛ فكيف بمن يسمعون كلام الله من المبلغ عنه، بل ومن المعلوم أن رغبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم في تعريفهم معاني القرآن أعظم من رغبته في تعريفهم حروفه، فإن معرفة الحروف بدون المعاني لا تحصّل المقصود؛ إذ اللفظ إنما يراد للمعنى. الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى قد حضهم على تدبره وتعقله واتباعه في غير موضع، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]،

وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَاتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. فإذا كان قد حض الكفار والمنافقين على تدبره: علم أن معانيه مما يمكن الكفار والمنافقين فهمها ومعرفتها، فكيف لا يكون ذلك ممكنًا للمؤمنين؟ وهذا يبين أن معانيه كانت معروفة بينة لهم. الوجه الثالث: أنه قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]، فبيّن أنه أنزله عربيًا لأن يعقلوا، والعقل لا يكون إلا مع العلم بمعانيه. الوجه الرابع: أنه ذم من لا يفهمه فقال تعالى: {وَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الإسراء: 45، 46]، وقال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]، فلو كان المؤمنون لا يفقهونه أيضًا لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى به. الوجه الخامس: أنه ذم من لم يكن حظه من السماع إلا سماع الصوت دون فهم المعنى واتباعه، فقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]، وقال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44]، وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16]، وأمثال ذلك.

وهؤلاء المنافقون سمعوا صوت الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولم يفهموا وقالوا: ماذا قال آنفًا؟ أي الساعة، وهذا كلام من لم يفقه قوله، فقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16]، وأمثال ذلك. فمن جعل السابقين الأولين ـ من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ـ غير عالمين بمعاني القرآن؛ جعلهم بمنْزلة الكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى عليه. الوجه السادس: أن الصحابة رضي الله عنهم فسروا للتابعين القرآن، كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره، أقف عند كل آية منه وأسأله عنها، ولهذا قال سفيان الثوري: «إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به». وكان ابن مسعود يقول: «لو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته». وكل واحد من أصحاب ابن مسعود وابن عباس نقل عنه من التفسير ما لا يحصيه إلا الله. والنقول بذلك عن الصحابة والتابعين ثابتة معروفة عند أهل العلم بها. فإن قال قائل: قد اختلفوا في تفسير القرآن اختلافًا كثيرًا، ولو كان ذلك معلومًا عندهم عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يختلفوا فيه. فيقال: الاختلاف الثابت عن الصحابة، بل وعن أئمة التابعين في القرآن أكثره لا يخرج عن وجوه: أحدها: أن يعبر كل منهم عن معنى الاسم بعبارة غير عبارة صاحبه، فالمسمى واحد، وكل اسم يدل على معنى لا يدل عليه الاسم الآخر، مع أن كلاهما حق؛ بمنْزلة تسمية الله تعالى بأسمائه الحسنى، وتسمية الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأسمائه، وتسمية القرآن العزيز بأسمائه، فقال تعالى: {قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَانَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110].

فإذا قيل: الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام، فهي كلها أسماء لمسمى واحد سبحانه وتعالى، وإن كان كل اسم يدل على نعت لله تعالى لا يدل عليه الاسم الآخر. ومثال هذا التفسير كلام العلماء في تفسير (الصراط المستقيم) فهذا يقول: هو الإسلام، وهذا يقول: هو القرآن؛ أي: اتباع القرآن، وهذا يقول: السنة والجماعة، وهذا يقول: طريق العبودية، وهذا يقول: طاعة الله ورسوله. ومعلوم أن الصراط يوصف بهذه الصفات كلها، ويسمى بهذه الأسماء كلها ولكن كل واحد منهم دل المخاطب على النعت الذي به يعرف الصراط، وينتفع بمعرفة ذلك النعت. الوجه الثاني: أن يذكر كل منهم من تفسير الاسم بعض أنواعه أو أعيانه على سبيل التمثيل للمخاطب، لا على سبيل الحصر والإحاطة، كما لو سأل أعجمي عن معنى لفظ الخبر، فأُرِيَ رغيفًا، وقيل: هذا هو، فذاك مثال للخبز وإشارة إلى جنسه؛ لا إلى ذلك الرغيف خاصة. ومن هذا ما جاء عنهم في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]. فالقول الجامع: أن الظالم لنفسه: هو المفرط بترك مأمور أو فعل محظور. والمقتصد: القائم بأداء الواجبات وترك المحرمات. والسابق بالخيرات: بمنْزلة المقرب الذي يتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض حتى يحبه الحق. ثم إن كلاً منهم يذكر نوعًا من هذا. فإذا قال القائل: الظالم: المؤخر للصلاة عن وقتها.

والمقتصد: المصلي لها في وقتها. والسابق: المصلي لها في أول وقتها حيث يكون التقديم أفضل. وقال آخر: الظالم لنفسه: هو البخيل الذي لا يصل رحمه ولا يؤدي زكاة ماله. والمقتصد: القائم بما يجب عليه من الزكاة وصلة الرحم وقرى الضيف والإعطاء في النائبة. والسابق: الفاعل المستحب بعد الواجب كما فعل (الصديق الأكبر) حين جاء بماله كله، ولم يكن مع هذا يأخذ من أحد شيئًا. وقال آخر: الظالم لنفسه: الذي يصوم عن الطعام، لا عن الآثام. والمقتصد: الذي يصوم عن الطعام والآثام. والسابق: الذي يصوم عن كل ما لا يقربه إلى الله تعالى، وأمثال ذلك = لم تكن هذه الأقوال متنافية، بل كلٌّ ذكر نوعًا مما تناولته الآية. الوجه الثالث: أن يذكر أحدهم لنُزول الآية سببًا، ويذكر الآخر سببًا آخر لا ينافي الأول، ومن الممكن نزولها لأجل السببين جميعًا، أو نزولها مرتين: مرة لهذا، ومرة لهذا. وأما ما صح عن السلف أنهم اختلفوا فيه اختلاف تناقض، فهذا قليل بالنسبة إلى ما لم يختلفوا فيه، كما أن تنازعهم في بعض مسائل السنة، كبعض مسائل الصلاة والزكاة والصيام والحج والفرائض والطلاق، ونحو ذلك = لا يمنع أن يكون أصل هذه السنن مأخوذًا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ وجملها منقولة عنه بالتواتر. وقد تبين أن الله تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة؛ وأمر أزواج نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة.

وقد قال غير واحد من السلف: إن «الحكمة» هي السنة؛ وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه». فما ثبت عنه من السنة فعلينا اتباعه؛ سواء قيل: إنه في القرآن، ولم نفهمه نحن، أو قيل: ليس في القرآن؛ كما أن ما اتفق عليه السابقون الأولون والذين اتبعوهم بإحسان؛ فعلينا أن نتبعهم فيه؛ سواء قيل: إنه كان منصوصًا في السنة ولم يبلغنا ذلك، أو قيل: إنه مما استنبطوه واستخرجوه باجتهادهم من الكتاب والسنة».

الملحق الثاني كلام ابن القيم (ت:751) في مسألة البيان النبوي للقرآن

الملحق الثاني كلام ابن القيم (ت:751) في مسألة البيان النبوي للقرآن: قال في مختصر الصواعق لابن القيم (ص: 457 ـ 463) ما نصه: «... فأما المقام الأول، فبيانه من وجوه: أحدها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بيَّن لأصحابه القرآن: لفظَه ومعناه، فبلغ معانيه كما بلغ ألفاظه. ولا يحصل البيان والبلاغ المقصود إلا بذلك، قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقال: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58]، وقال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 3]؛ أي: بيِّنت وأزيل عنها الإجمال، فلو كانت آياته مجملة لم تكن قد فُصِّلت، وقال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]، وهذا يتضمن بلاغ المعنى، وأنه في أعلى درجات البيان. فمن قال: إنه لم يبلغ معاني كلامه وكلام ربه بلاغًا مبينًا، بل بلغهم ألفاظه، وأحالهم في فهم معانيه على ما يذكره هؤلاء، لم يكن قد شهد له بالبلاغ، وهذا هو حقيقة قولهم حتى أن منهم من يصرح به ويقول: إنَّ المصلحة كانت في كتمان معاني هذه الألفاظ، وعدم تبليغها للأمة، إما لمصلحة الجمهور، ولكونهم لا يفهمون المعاني إلا في قوالب الحسيات وضرب الأمثال، وإما لينال الكادحون ثواب كدحهم في استنباط معانيه واستخراج تأويلها من وحشي اللغات وغرائب الأشعار، ويغوصون بأفكارهم الدقيقة على صرفها عن حقائقها ما أمكنهم.

وأما أهل العلم والإيمان فيشهدون له بما شهد الله به وشهدت به ملائكته وخيار القرون أنه بلّغ البلاغ المبين القاطع للعذر المقيم للحجة الموجب للعلم واليقين لفظًا ومعنى والجزم بتبليغه معاني القرآن والسنة كالجزم بتبليغه الألفاظ، بل أعظم من ذلك؛ لأن ألفاظ القرآن والسنة إنما يحفظها خواص أمته. وأما المعاني التي بلّغها فإنه يشترك في العلم بها العامة والخاصة. ولما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجمع لأحد مثله قبله ولا بعده، في اليوم الأعظم في المكان الأعظم؛ قال لهم: «أنتم مسؤولون عني؛ فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، ورفع أصبعه الكريمة إلى السماء رافعًا لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء قائلًا: اللهم اشهد، فكأنا شهدنا تلك الأصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله، وذلك اللسان الكريم وهو يقول: «اللهم اشهد»، ونشهد أنه بلّغ البلاغ المبين، وأدَّى رسالة ربه كما أُمر، ونصح أمته غاية النصيحة، وكشف لهم طرائق الهدى، وأوضح لهم معالم الدين وتركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، فلا يحتاج مع كشفه وبيانه إلى تنطع المتنطعين، فالحمد لله الذي أغنانا بوحيه ورسوله عن تكلفات المتكلفين. قال أبو عبد الرحمن السلمي ـ أحد أكابر التابعين الذين أخذوا القرآن ومعانيه عن مثل عبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وتلك الطبقة ـ: «حدّثنا الذين كانوا يقرؤوننا القرآن من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلّى الله عليه وسلّم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، فتعلمنا القرآن والعلم والعمل». فالصحابة أخذوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألفاظ القرآن ومعانيه، بل كانت عنايتهم بأخذ المعاني أعظم من عنايتهم بالألفاظ، يأخذون المعاني أولاً، ثم يأخذون الألفاظ ليضبطوا بها المعاني حتى لا تشذ عنهم.

قال حبيب بن عبد الله البجلي وعبد الله بن عمر: «تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيمانًا»، فإذا كان الصحابة تلقَّوا عن نبيهم صلّى الله عليه وسلّم معاني القرآن كما تلقوا عنه ألفاظه؛ لم يحتاجوا بعد ذلك إلى لغة أحد، فنقل معاني القرآن عنهم كنقل ألفاظه سواء؛ ولا يقدح في ذلك تنازع بعضهم في بعض معانيه، كما وقع من تنازعهم في بعض حروفه، وتنازعهم في بعض السنة؛ لخفاء ذلك على بعضهم، فإنه ليس كل فرد منهم تلقَّى من نفس الرسول صلّى الله عليه وسلّم ـ بلا واسطة ـ جميع القرآن والسنة، بل كان بعضهم يأخذ عن بعض، ويشهد بعضهم في غيبة بعض، وينسى هذا بعض ما حفظه صاحبه. قال البراء بن عازب: «ليس كل ما نحدثكم سمعناه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن كان لا يكذب بعضنا بعضًا». الوجه الثاني: أن الله سبحانه أنزل على نبيه الحكمة كما أنزل عليه القرآن وامتن بذلك على المؤمنين، والحكمة هي السنة؛ كما قال غير واحد من السلف، وهو كما قالوا، فإن الله تعالى قال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]، فنوَّع المتلو إلى نوعين آيات وهي القرآن، وحكمة وهي السنة، والمراد بالسنة ما أخذ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سوى القرآن كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إنه مثل القرآن وأكثر». وقال الأوزاعي عن حسان بن عطية: «كان جبرائيل ينْزل بالقرآن والسنة ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن». فهذه الأخبار التي زعم هؤلاء أنه لا يستفاد منها علم نزل بها جبرائيل من عند الله عزّ وجل كما نزل بالقرآن، وقال إسماعيل بن عبد الله: «ينبغي لها أن تحفظ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنها بمنزلة القرآن». الوجه الثالث: أن الرجل لو قرأ بعض مصنفات الناس في النحو والطب أو غيرهما أو قصيدة من الشعر، كان من أحرص الناس على فهم

معنى ذلك وكان من أثقل الأمور عليه قراءة كلام لا يفهمه؛ فإذا كان السابقون يعلمون أن هذا كتاب الله وكلامه الذي أنزل إليهم وهداهم به وأمرهم باتباعه، فكيف لا يكونون أحرص الناس على فهمه ومعرفة معناه من جهة العادة العامة والعادة الخاصة، ولم يكن للصحابة كتاب يدرسونه وكلام محفوظ يتفقهون فيه إلا القرآن وما سمعوه من نبيهم صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكونوا إذا جلسوا يتذاكرون إلا في ذلك. قال البخاري: «كان الصحابة إذا جلسوا يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم، ولم يكن بينهم رأي ولا قياس»، ولم يكن الأمر بينهم كما هو في المتأخرين: قوم يقرؤون القرآن ولا يفهمونه، وآخرون يتفقهون في كلام غيرهم ويدرسونه، وآخرون يشتغلون في علوم أخر وصنعة اصطلاحية، بل كان القرآن عندهم هو العلم الذي يعتنون به حفظًا وفهمًا وعملاً وتفقهًا، وكانوا أحرص الناس على ذلك ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرهم، وهو يعلم تأويله ويبلغهم إياه كما يبلغهم لفظه، فمن الممتنع أن لا تتحرك نفوسهم لمعرفته، ومن الممتنع أن لا يعلمهم إياه، وهم أحرص على كل سبب ينال به العلم والهدى، وهو أحرص الناس على تعليمهم وهدايتهم، بل كان أحرص الناس على هداية الكفار ...».

الملحق الثالث كلام آخر لابن القيم (ت:751) في مسألة البيان النبوي للقرآن

الملحق الثالث كلام آخر لابن القيم (ت:751) في مسألة البيان النبوي للقرآن: قال ابن القيم في الصواعق المرسلة (2:636 ـ 639): «وكذلك عامة ألفاظ القرآن نعلم قطعًا مراد الله ورسوله منها، كما نعلم قطعًا أن الرسول بلغها عن الله، فغالب معاني القرآن معلوم أنها مراد الله خبرًا كانت أو طلبًا، بل العلم بمراد الله من كلامه أوضح وأظهر من العلم بمراد كل متكلم من كلامه، لكمال علم المتكلم، وكمال بيانه، وكمال هداه وإرشاده، وكمال تيسيره للقرآن، حفظًا وفهمًا عملاً وتلاوة، فكما بلّغ الرسول ألفاظ القرآن للأمة، بلّغهم معانيه، بل كانت عنايته بتبليغ معانيه أعظم من مجرد تبليغ ألفاظه، ولهذا وصل العلم بمعانيه، إلى من لم يصل إليه حفظ ألفاظه، والنقل لتلك المعاني أشد تواترًا وأقوى اضطرارًا، فإن حفظ المعنى أيسر من حفظ اللفظ، وكثير من الناس يعرف صورة المعنى ويحفظها، ولا يحفظ اللفظ، والذين نقلوا الدين عنه، علموا مراده قطعًا لما تلا عليهم من تلك الألفاظ. ومعلوم أن المقتضى التام لفهم الكلام الذي بلغهم إياه قائم وهم قادرون على فهمه وهو قادر على إفهامهم، وإذا حصل المقتضى التام لزم وجوده مقتضاه. وبالجملة فالأدلة السمعية اللفظية قد تكون مبنية على مقدمتين يقينيتين: إحداهما: أن الناقلين إلينا فهموا مراد المتكلم. والثانية: أنهم نقلوا إلينا ذلك المراد كما نقلوا اللفظ الدال عليه. وكلا المقدمتين معلومة بالاضطرار، فإن الذين خاطبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم باسم

الصلاة والزكاة والصوم والحج والوضوء والغسل وغيرها من ألفاظ القرآن في سائر الأنواع من الأعمال والأعيان والأزمنة والأمكنة وغيرها = يعلم بالاضطرار، أنهم فهموا مراده من تلك الألفاظ التي خاطبهم بها أعظم من حفظهم لها، وهذا مما جرت به العادة في كل من خاطب قومًا بخطبة أو دارسهم علمًا، أو بلّغهم رسالة، وإن حرصه وحرصهم على معرفة مراده أعظم من حرصهم على مجرد حفظ ألفاظه. ولهذا يضبط الناس من معاني المتكلم، أكثر مما يضبطونه من لفظه، فإن المقتضى لضبط المعنى أقوى من المقتضى لحفظ اللفظ لأنه هو المقصود واللفظ وسيلة إليه وإن كانا مقصودين، فالمعنى أعظم المقصودين، والقدرة عليه أقوى فاجتمع عليه قوة الداعي، وقوة القدرة، وشدة الحاجة. فإذا كانوا قد نقلوا الألفاظ التي قالها الرسول مبلغًا لها عن الله، وألفاظه التي تكلم بها يقينًا، فكذلك نقلهم لمعانيها، فهم سمعوها يقينًا، وفهموها يقينًا ووصل إلينا لفظها يقينًا، ومعانيها يقينًا، وهذه الطريقة إذا تدبرها العاقل علم أنها قاطعة، وأن الطاعن في حصول العلم بمعاني القرآن شر من الطاعن في حصول العلم بألفاظه، ولهذا كان الطعن في نقل بعض ألفاظه من فعل الرافضة. وأما الطعن في حصول العلم بمعانيه، فإنه من فعل الباطنية الملاحدة، فإنهم سلموا بأن الصحابة نقلوا الألفاظ التي قالها الرسول، وأن القرآن منقول عنه، لكن ادعوا أن لها معاني تخالف المعاني التي يعلمها المسلمون، وتلك هي باطن القرآن وتأويله. وقول القائل: الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين = دهليز إلى مذهب هؤلاء ومرقاة إليه، لكن الفرق بينهما أنه يقول: لا أعلم مراد المتكلم بها، وهم يقولون: مراده هذه التأويلات الباطنة ...».

الملحق الرابع أنواع اختلاف التنوع في تفسير السلف

الملحق الرابع أنواع اختلاف التنوع في تفسير السلف: قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى (13:381 ـ 384) في سؤال جاء فيه: «سئل رحمه الله عن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» فاختلاف المفسرين في آية واحدة إن كان بالرأي فكيف النجاة؟ وإن لم يكن بالرأي فكيف وقع الاختلاف، والحق لا يكون في طرفي نقيض. أفتونا؟ فأجاب رحمه الله تعالى: ينبغي أن يعلم أنَّ الاختلاف الواقع من المفسرين وغيرهم على وجهين: أحدهما: ليس فيه تضاد وتناقض؛ بل يمكن أن يكون كل منهما حقًا، وإنما هو اختلاف تنوع أو اختلاف في الصفات أو العبارات، وعامَّة الاختلاف الثابت عن مفسري السلف من الصحابة والتابعين هو من هذا الباب، فإن الله سبحانه إذا ذَكَرَ في القرآن اسمًا مثل قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، فكلٌّ من المفسرين يُعَبِّرُ عن الصراط المستقيم بعبارة يدل بها على بعض صفاته، وكلُّ ذلكَ حقٌّ، بمنْزلة ما يسمى الله ورسوله وكتابه بأسماء كل اسم منها يدل على صفة من صفاته، فيقول بعضهم: الصراط المستقيم كتاب الله، أو اتباع كتاب الله. ويقول الآخر: الصراط المستقيم هو الإسلام أو دين الإسلام. ويقول الآخر: الصراط المستقيم هو السنة والجماعة. ويقول الآخر: (الصراط المستقيم) طريق العبودية، أو طريق الخوف والرجاء والحب، وامتثال المأمور واجتناب المحظور، أو متابعة الكتاب

والسنة، أو العمل بطاعة الله أو نحو هذه الأسماء والعبارات. ومعلوم أن المسمى هو واحد وإن تنوَّعت صفاته وتعددت أسماؤه وعباراته، كما إذا قيل: محمد هو أحمد، وهو الحاشر، وهو الماحي، وهو العاقب، وهو خاتم المرسلين، وهو نبي الرحمة، وهو نبي الملحمة. وكذلك إذا قيل: القرآن هو الفرقان، والنور، والشفاء، والذكر الحكيم، والكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت. وكذلك أسماء الله الحسنى {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]، وهو {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى *وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى *وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى *فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 2 ـ 5]، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ} {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} ... {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 22 ـ 24]، وأمثال ذلك. فهو سبحانه واحد صمد، وأسماؤه الحسنى تدل كلها على ذاته، ويدل هذا من صفاته على ما لا يدل عليه الآخر، فهي متفقة في الدلالة على الذات متنوعة في الدلالة على الصفات؛ فالاسم يدل على الذات والصفة المعينة بالمطابقة، ويدل على أحدهما بطريق التضمن، وكل اسم يدل على الصفة التي دل عليها بالالتزام؛ لأنه يدلُّ على الذات المتكنى بها جميع الصفات، فكثير من التفسير والترجمة تكون من هذا الوجه. ومنه قسم آخر، وهو أن يذكر المفسِّر والمترجِم معنى اللفظ على سبيل التعيين والتمثيل، لا على سبيل الحدِّ والحصر؛ مثل أن يقول قائل من العجم: ما معنى الخبز؟ فيشار له إلى رغيف، وليس المقصود عينه، وإنما الإشارة إلى تعيين هذا الشخص. وهذا كما إذا سألوا عن قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]، أو عن قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقُوْا وَالَّذِينَ

هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، أو عن {الصَّالِحِينَ} أو {الظَّالِمِينَ} ونحو ذلك من الأسماء العامَّة الجامعة = التي قد يتعسَّر أو يتعذَّر على المستمع أو المتكلم ضبط مجموع معناه؛ إذ لا يكون محتاجًا إلى ذلك، فيذكر له من أنواعه وأشخاصه ما يحصل به غرضه، وقد يستدل به على نظائره. فإن الظالم لنفسه: هو تارك المأمور فاعل المحظور، والمقتصد هو فاعل الواجب وتارك المحرم، والسابق هو فاعل الواجب والمستحب وتارك المحرم والمكروه. فيقول المجيب بحسب حاجة السائل: الظالم: الذي يفوت الصلاة والذي لا يسبغ الوضوء، أو الذي لا يتم الأركان ونحو ذلك. والمقتصد: الذي يصلي في الوقت كما أمر. والسابق بالخيرات: الذي يصلي الصلاة بواجباتها ومستحباتها، ويأتي بالنوافل المستحبة معها، وكذلك يقول مثل هذا في الزكاة والصوم والحج وسائر الواجبات. وقد رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يتعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله فمن ادَّعَى علمَه فهو كاذب».

الملحق الخامس في طرق معرفة الكذب في المنقول

الملحق الخامس في طرق معرفة الكذب في المنقول: قال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية (1:437): «فصل في الطرق التي يُعلم بها كذب المنقول. منها: أن يُروى خلاف ما عُلم بالتواتر والاستفاضة؛ مثل أن نعلم أن مسيلمة الكذَّاب ادَّعى النبوة، واتَّبعه طوائف كثيرة من بني حنيفة، فكانوا مرتدين لإيمانهم بهذا المتنبئ الكذاب، وأن أبا لؤلؤة قاتل عمر كان مجوسيًا كافرًا، وأن الهرمزان كان مجوسيًا أسلم، وأن أبا بكر كان يصلِّي بالناس مدة مرض الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ويخلفه في الإمامة بالناس لمرضه، وأن أبا بكر وعمر دفنا في حجرة عائشة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومثل ما يعلم من غزوات النبي صلّى الله عليه وسلّم التي كان فيها القتال ـ كبدر، وأُحد، ثم الخندق، ثم خيبر، ثم فتح مكة، ثم غزوة الطائف ـ والتي لم يكن فيها قتال؛ كغزوة تبوك وغيرها. وما نزل من القرآن في الغزوات؛ كنزول الأنفال بسبب بدر، ونزول آخر آل عمران بسبب أُحد، ونزول أولها بسبب نصارى نجران، ونزول سورة الحشر بسبب بني النضير، ونزول الأحزاب بسبب الخندق، ونزول سورة الفتح بسبب صلح الحديبية، ونزول براءة بسبب غزوة تبوك، وغيرها، وأمثال ذلك. فإذا روي في الغزوات وما يتعلق بها ما يُعلم أنه خلاف الواقع = عُلم أنه كذب؛ مثل ما يروي هذا الرافضي ـ وأمثاله من الرافضة وغيرهم ـ من الأكاذيب الباطلة والظاهرة في الغزوات؛ كما تقدّم التنبيه عليه.

ومثل أن يُعلم نزول القرآن في أي وقت كان، كما يُعلم أن سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال وبراءة نزلت بعد الهجرة في المدينة، وأن الأنعام والأعراف ويونس وهود ويوسف والكهف وطه ومريم و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} وغير ذلك نزلت قبل الهجرة بمكة، وأن المعراج كان بمكة، وأن الصُفَّة كانت بالمدينة. وأن أهل الصفة كانوا من جملة الصحابة الذين لم يقاتلوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكونوا ناسًا معينين، بل كانت الصفة منْزلاً ينْزل بها من لا أهل له من الغرباء القادمين، وممن دخل فيهم: سعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وغيرهما من صالحي المؤمنين. وكالعُرَنيِّين الذين ارتدُّوا عن الإسلام، فبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم في آثارهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسَمَل أعينهم، وألقاهم في الحرّة يستسقون، فلا يسقون، وأمثال ذلك من الأمور المعلومة. فإذا روى الجاهل نقيض ذلك عُلم أنه كذب. ومن الطرق التي يُعلم بها الكذب أن ينفرد الواحد والاثنان بما يُعلم أنه لو كان واقعًا لتوفرت الهمم والدواعي على نقله، فإنه من المعلوم أنه لو أخبر الواحد ببلدٍ عظيم بقدر بغداد والشام وبغداد والعراق لعلمنا كذبه في ذلك، لأنه لو كان موجودًا لأخبر به الناس. وكذلك لو أخبرنا بأنه تولَّى رجل بين عمر وعثمان، أو تولَّى بين عثمان وعلي. أو أخبرنا بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يؤذَّن له في العيد، أو في صلاة الكسوف أو الاستسقاء. أو أنه كان يُقام بمدينته يوم الجمعة أكثر من جمعة واحدة. أو يُصلَّى يوم العيد أكثر من عيد واحد.

أو أنه كان يصلي العيد بمنى يوم العيد. أو أن أهل مكة كانوا يتمون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى خلفه. أو أنه كان يجمع الصلاتين بمنى كما كان يقصر. أو أنه فرض صوم شهر آخر غير رمضان. أو أنه فرض صلاة سادسة وقت الضحى أو نصف الليل. أو أنه فرض حج بيت آخر غير الكعبة. أو أن القرآن عارضه طائفة من العرب، أو غيرهم بكلام يشابهه، ونحو هذه الأمور = لكنَّا نعلم كذب هذا الكاذب. فإنا نعلم انتفاء هذه الأمور بانتفاء لازمها، فإن هذه لو كانت مما يتوفر الهمم والدواعي على نقلها عامة لبني آدم، وخاصة لأمتنا شرعًا، فإذا لم ينقلها أحد من أهل العلم، فضلاً عن أن تتواتر، عُلم أنها كذب. ومن هذا الباب نقل النص على خلافة عليٍّ، فإنَّا نعلم أنه كذب من طرق كثيرة؛ فإن هذا النص لم ينقله أحد [من أهل العلم] بإسناد صحيح، فضلاً عن أن يكون متواترًا، ولا نُقل أن أحدًا ذكره على عهد الخلفاء، مع تنازع الناس في الخلافة وتشاورهم فيها يوم السقيفة، وحين موت عمر، وحين جُعل الأمر شورى بينهم في ستة، ثم لما قُتل عثمان واختلف الناس على عليّ، فمن المعلوم أن مثل هذا النص لو كان كما تقوله الرافضة من أنه نص عَلَى عليٍّ نصًّا جليًّا قاطعًا للعذر علمه المسلمون = لكان من المعلوم بالضرورة أنه لا بد أن ينقله الناس نقل مثله، وأنه لا بد أن يذكره الكثير من الناس ـ بل أكثرهم ـ في مثل هذه المواطن التي تتوفر الهمم على ذكره فيها غاية التوفر، فانتفاء ما يُعلم أنه لازم يقتضي انتفاء ما يعلم أنه ملزوم، ونظائر ذلك كثيرة. ففي الجملة؛ الكذب هو نقيض الصدق، وأحد النقيضين يُعلم انتفاؤه،

تارة بثبوت نقيضه، وتارة بما يدل على انتفائه بخصوصه. والكلام مع الشيعة أكثره مبني على النقل، فمن كان خبيرًا بما وقع، وبالأخبار الصادقة التي توجب العلم اليقيني علم انتفاء ما يناقض ذلك يقينًا، ولهذا ليس في أهل العلم بالأحاديث النبوية [إلا] ما يوجب العلم بفضل الشيخين وصحة إمامتهما، وكذب ما تدَّعيه الرافضة. ثم كل من كان أعلم بالرسول وأحواله، كان أعلم ببطلان مذهب الزيدية وغيرهم، ممن يدَّعي نصًّا خفيًّا، وأن عليًّا كان أفضل من الثلاثة، أو يتوقف في التفضيل؛ فإن هؤلاء إنما وقعوا بالجهل المركَّب أو البسيط؛ لضعف علمهم بما علمه أهل العلم بالأحاديث والآثار».

الملحق السادس في كتب التفسير

الملحق السادس في كتب التفسير: «سئل شيخ الإسلام ـ كما في الفتاوى (13:385 ـ 388) ـ عن جندي نسخ بيده صحيح مسلم والبخاري والقرآن، وهو ناوٍ كتابة الحديث والقرآن العظيم، وإن سمع بورق أو أقلام اشترى بألف درهم، وقال: أنا إن شاء الله أكتب في جميع هذا الورق أحاديث الرسول والقرآن، ويؤمل آمالاً بعيدة، فهل يأثم أو لا؟ وأي التفاسير أقرب إلى الكتاب والسنة؟ الزمخشري؟ أم القرطبي؟ أم البغوي؟ أو غير هؤلاء؟ فأجاب: الحمد لله، ليس عليه إثم فيما ينويه ويفعله من كتابة العلوم الشرعية، فإن كتابة القرآن والأحاديث الصحيحة والتفاسير الموجودة الثابتة من أعظم القربات والطاعات. وأما التفاسير التي في أيدي الناس، فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة (¬1)، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين، كمقاتل بن بكير (¬2)، والكلبي. والتفاسير غير المأثورة (¬3)، بالأسانيد كثيرة؛ كتفسير عبد الرزاق، ¬

(¬1) قوله: الثابتة، لا يعني أنها صحيحة، بل مراده ـ والله أعلم ـ أنها الطرق المشهورة المروية عنهم بلا خلاف بين العلماء، وإلا ففي هذه الطرق ما هو معروفٌ بالضعف، كطريق العوفيين عن ابن عباس. (¬2) الصواب: بن بشير، وهو مقاتل بن سليمان بن بشير البلخي، فلعله نسبه إلى جدِّه، فوقع خطأ في النسخ، والله أعلم. (¬3) لعلها: المأثورة، فهذه التفاسير التي ذكرها تروي المأثور عن السلف.

وعبد بن حميد، ووكيع، وابن أبي قتيبة (¬1)، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه. وأما التفاسير الثلاثة المسؤول عنها فأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة البغوي، لكنه مختصر من تفسير الثعلبي، وحذف منه الأحاديث الموضوعة، والبدع التي فيه، وحذف أشياء غير ذلك. وأما الواحدي، فإنه تلميذ الثعلبي، وهو أخبر منه بالعربية؛ لكن الثعلبي فيه سلامة من البدع، وإن ذكرها تقليدًا لغيره. وتفسيره وتفسير الواحدي (البسيط، والوسيط، والوجيز) فيها فوائد جليلة، وفيها غث كثير من المنقولات الباطلة وغيرها. وأما الزمخشري، فتفسيره محشوٌّ بالبدعة، وعلى طريقة المعتزلة من إنكار الصفات والرؤية والقول بخلق القرآن، وأنكر أن الله مريد للكائنات وخالق لأفعال العباد، وغير ذلك من أصول المعتزلة. وأصولهم خمسة يسمونها التوحيد، والعدل، والمنْزلة بين المنْزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لكن معنى التوحيد عندهم يتضمن نفي الصفات، ولهذا سمى ابن التومرت أصحابه الموحدين، وهذا إنما هو إلحاد في أسماء الله وآياته. ومعنى العدل عندهم يتضمن التكذيب بالقدر، وهو خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات والقدرة على شيء، ومنهم من ينكر تقدم العلم والكتاب؛ لكن هذا قول أئمتهم، وهؤلاء منصب الزمخشري (؟)، فإن مذهبه مذهب المغيرة بن علي وأبي هاشم وأتباعهم، ومذهب أبي الحسين. والمعتزلة الذين على طريقته نوعان: مسايخية وخشبية. ¬

(¬1) هذا الاسم فيه غرابة، ولا أدري من هو؟

وأما المنْزلة بين المنزلتين، فهي عندهم أن الفاسق لا يسمى مؤمنًا بوجه من الوجوه، كما لا يسمى كافرًا، فنَزلوه بين منْزلتين. وإنفاذ الوعيد عندهم معناه أن فساق الملة مخلدون في النار، لا يخرجون منها بشفاعة، ولا غير ذلك؛ كما تقوله الخوارج. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتضمن عندهم جواز الخروج على الأئمة، وقتالهم بالسيف. وهذه الأصول حشا [بها] كتابه بعبارة لا يهتدي أكثر الناس إليها، ولا لمقاصده فيها، مع ما فيه من الأحاديث الموضوعة، ومن قلة النقل عن الصحابة والتابعين. وتفسير القرطبي خير منه بكثير، وأقرب إلى طريقة أهل الكتاب والسنة، وأبعد عن البدع، وإن كان كل من هذه الكتب لا بد أن يشتمل على ما ينقد؛ لكن يجب العدل بينها، وإعطاء كل ذي حق حقه. وتفسير ابن عطية خير من تفسير الزمخشري، وأصح نقلاً وبحثًا، وأبعد عن البدع، وإن اشتمل على بعضها، بل هو خير منه بكثير؛ بل لعله أرجح هذه التفاسير؛ لكن تفسير ابن جرير أصح من هذه كلها. وثَمَّ تفاسير أُخَر كثيرة جدًا، كتفسير ابن الجوزي، والماوردي».

الملحق السابع أمثلة تفسيرية مما لا ينقضي منها عجب العالم

الملحق السابع أمثلة تفسيرية مما لا ينقضي منها عجب العالم: قال شيخ الإسلام ـ كما في الفتاوى (13:235 ـ 239) ـ: «فصل: وأما إذا أريد بالعلم الباطن العلم الذي يبطن عن أكثر الناس، أو عن بعضهم، فهذا على نوعين: أحدهما: باطن يخالف العلم الظاهر. والثاني: لا يخالفه. فأما الأول فباطل: فمن ادعى علمًا باطنًا أو علمًا بباطن وذلك يخالف العلم الظاهر كان مخطئًا، إما ملحدًا زنديقًا وإما جاهلاً ضالاً. وأما الثاني فهو بمنْزلة الكلام في العلم الظاهر قد يكون حقًا، وقد يكون باطلاً فإن الباطن إذا لم يخالف الظاهر لم يعلم بطلانه من جهة مخالفته للظاهر المعلوم، فإن عُلِمَ أنه حقٌّ قُبِلَ، وإن عُلِمَ أنه باطل رُدَّ وإلا أمسك عنه، وأما الباطن المخالف للظاهر المعلوم فمثل ما يدعيه الباطنية القرامطة من الإسماعيلية والنصيرية وأمثالهم، ممن وافقهم من الفلاسفة وغلاة المتصوفة والمتكلمين. وشرُّ هؤلاء القرامطة، فإنهم يدَّعون أن للقرآن والإسلام باطنًا يخالف الظاهر؛ فيقولون: «الصلاة» المأمور بها ليست هذه الصلاة، أو هذه الصلاة إنما يؤمر بها العامة، وأما الخاصة فالصلاة في حقهم معرفة أسرارنا، و «الصيام» كتمان أسرارنا، و «الحج» السفر إلى زيارة شيوخنا المقدَّسين، ويقولون: إن «الجنة» للخاصة: هي التمتع في الدنيا باللذات، و «النار» هي التزام الشرائع والدخول تحت أثقالها. ويقولون: إن «الدابة» التي يخرجها الله للناس هي العالم الناطق بالعلم

في كل وقت، وإن «إسرافيل» الذي ينفخ في الصور هو العالِم الذي ينفخ بعلمه في القلوب حتى تحيا، و «جبريل» هو العقل الفعال الذي تفيض عنه الموجودات، و «القلم» هو العقل الأول الذي تزعم الفلاسفة أنه المبدع الأول، وأن الكواكب والقمر والشمس التي رآها إبراهيم هي النفس والعقل وواجب الوجود، وأن الأنهار الأربعة التي رآها النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج هي العناصر الأربعة، وأن الأنبياء التي رآها في السماء هي الكواكب. فآدم هو القمر، ويوسف هو الزهرة، وإدريس هو الشمس، وأمثال هذه الأمور. وقد دخل في كثير من أقوال هؤلاء كثير من المتكلمين والمتصوفين؛ لكن أولئك القرامطة ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، وعامة الصوفية والمتكلمين ليسوا رافضة يفسقون الصحابة ولا يكفرونهم؛ لكن فيهم من هو كالزيدية الذين يفضلون عليًا على أبي بكر، وفيهم من يفضل عليًا في العلم الباطن كطريقة الحربي وأمثاله، ويدَّعون أن عليًا كان أعلم بالباطن، وأن هذا العلم أفضل من جهته، وأبو بكر كان أعلم بالظاهر. وهؤلاء عكس محققي الصوفية وأئمتهم، فإنهم متفقون على أن أعلم الخلق بالعلم الباطن هو أبو بكر الصديق، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن أبا بكر أعلم الأمة بالباطن والظاهر، وحكى الإجماع على ذلك غير واحد. وهؤلاء الباطنية قد يفسرون: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12] أنه علي، ويفسرون قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] بأنهما أبو بكر وعمر، وقوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12] أنهم طلحة والزبير، والشجرة الملعونة في القرآن بأنها بنو أمية. وأما باطنية الصوفية فيقولون في قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} [طه: 24، النازعات: 17] إنه القلب، و {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] إنها النفس، ويقول أولئك: هي عائشة، ويفسرون هم والفلاسفة تكليم موسى بما يفيض عليه من العقل الفعال أو غيره، ويجعلون (خلع النعلين) ترك الدنيا

والآخرة، ويفسرون (الشجرة) التي كلم منها موسى و (الوادي المقدس) ونحو ذلك بأحوال تعرض للقلب عند حصول المعارف له، وممن سلك ذلك صاحب «مشكاة الأنوار» وأمثاله، وهي مما أعظم المسلمون إنكاره عليه، وقالوا: أمرضه «الشفاء»، وقالوا: دخل في بطون الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج فما قدر، ومن الناس من يطعن في هذه الكتب، ويقول: إنها مكذوبة عليه، وآخرون يقولون: بل رجع عنها، وهذا أقرب الأقوال؛ فإنه قد صرح بكفر الفلاسفة في مسائل، وتضليلهم في مسائل أكثر منها، وصرح بأن طريقتهم لا توصل إلى المطلوب. وباطنية الفلاسفة يفسرون الملائكة والشياطين بقوى النفس، وما وعد الناس به في الآخرة بأمثال مضروبة لتفهيم ما يقوم بالنفس بعد الموت من اللذة والألم، لا بإثبات حقائق منفصلة يتنعم بها ويتألم بها، وقد وقع في هذا الباب في كلام كثير من متأخري الصوفية، ما لم يوجد مثله من أئمتهم ومتقدميهم، كما في كلام كثير من متأخري أهل الكلام والنظر من ذلك ما لا يوجد عن أئمتهم ومتقدميهم. وهؤلاء المتأخرون ـ مع ضلالهم وجهلهم ـ يدَّعون أنهم أعلم وأعرف من سلف الأمة ومتقدميها، حتى آل الأمر بهم إلى أن جعلوا الوجود واحدًا، كما فعل ابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله فإنهم دخلوا من هذا الباب حتى خرجوا من كل عقل ودين، وهم يدعون مع ذلك أن الشيوخ المتقدمين: كالجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وإبراهيم الخواص، وغيرهم ماتوا وما عرفوا التوحيد، وينكرون على الجنيد وأمثاله إذا ميزوا بين الرب والعبد كقوله: «التوحيد» إفراد الحدوث عن القدم، ولعمري إن توحيدهم الذي جعلوا فيه وجود المخلوق وجود الخالق هو من أعظم الإلحاد الذي أنكره المشايخ المهتدون، وهم عرفوا أنه باطل فأنكروه وحذروا الناس منه، وأمروهم بالتمييز بين الرب والعبد، والخالق والمخلوق،

والقديم والمحدث، وأن التوحيد أن يعلم مباينة الرب لمخلوقاته وامتيازه عنها، وأنه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. ثم إنهم يدعون أنهم أعلم بالله من المرسلين، وأن الرسل إنما تستفيد معرفة الله من مشكاتهم، ويفسرون القرآن بما يوافق باطنهم الباطل، كقوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} [نوح: 25]، فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله، وقولهم: إن العذاب مشتق من العذوبة ...».

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع من مصادر الشرح ومراجعه: 1 - أمالي الشريف المرتضى (غرر الفوائد ودرر القلائد)، لعلي بن الحسين الموسوي، المعروف بالشريف المرتضى، نشر مكتبة البابي الحلبي، ط1، 1373. 2 - التبيان في تفسير القرآن لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، تحقيق أحمد حبيب العاملي، نشر دار إحياء التراث العربي. 3 - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي، تحقيق الدكتور محمود الطحان، نشر مكتبة المعارف. 4 - الرد على مسائل الإباضية لأحمد بن يحيى الزيدي، تحقيق: إمام سيد حنفي. 5 - الفتاوى الحديثية، لأحمد بن حجر الهيتمي، نشر مطبعة البابي الحلبي، ط3. 6 - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، للزمخشري، نشر دار المعرفة ببيروت. 7 - الكشف والبيان في تفسير القرآن، لأبي إسحاق أحمد بن محمد الثعلبي، تحقيق أبي محمد بن عاشور. 8 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لأبي محمد بن عطية، تحقيق: عبد العال السيد إبراهيم، طبعة قطر، ط1، 1398. 9 - المستدرك على الصحيحين، للحاكم، نشر دار الكتاب العربي. 10 - الموافقات، لأبي إسحاق الشاطبي، تحقيق: مشهور حسن آل سلمان، نشر مكتبة ابن عفان. 11 - بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد من القائلين بالحلول والاتحاد، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: موسى الدويش، نشر مكتبة العلوم والحكم بالمدينة النبوية، ط1، 1408. 12 - تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تحقيق: سامي السلامة، نشر مكتبة طيبة. 13 - تفسير سورة النور، حققه: محمود إبراهيم زايد، عبد المعطي قلعجي، نشر دار الوعي، حلب.

14 - تلخيص كتاب الاستغناء (المعروف بالرد على البكري)، تحقيق: أبي عبد الرحمن محمد بن علي عجال، نشر مكتبة الغرباء الأثرية. 15 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للطبري. 16 - جمهرة اللغة، لابن دريد، تحقيق: رمزي منير بعلبكي، نشر دار العلم للملايين، ط1، 1978. 17 - حقائق التفسير، لأبي عبد الرحمن السلمي، تحقيق: سيد عمران، نشر دار الكتب العلمية 18 - دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية، تحقيق: محمد السيد الجليند، نشر مؤسسة علوم القرآن، ط2، 1404. 19 - سنن أبي داود. 20 - سنن الترمذي، تحقيق: أحمد شاكر، نشر دار إحياء التراث العربي ببيروت. 21 - صحيح البخاري. 22 - صحيح مسلم. 23 - فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، طبعة دار الريان للتراث بالقاهرة، ط1، 1407. 24 - مجاز القرآن، لأبي عبيدة، تحقيق: فؤاد سزكين، نشر مؤسسة الرسالة، ط2، 1401. 25 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع عبد الرحمن بن قاسم، ط1، 1398. 26 - محاسن التأويل للقاسمي، وقف على طبعة محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت، ط2، 1398. 27 - مختصر الصواعق المرسلة، لابن القيم، اختصره محمد بن الموصلي، نشر دار الندوة الجديدة ببيروت، 1405. 28 - مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق: عدنان زرزور، نشر دار القرآن الكريم. 29 - مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق: زمرلي. 30 - منهاج السنة النبوية، لابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، نشر جامعة الإمام.

§1/1