شرح مقدمة التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي

مساعد الطيار

شرح مقدمة التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي شرحها د. مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار اعتنى بإخراجها بدر بن ناصر بن صالح الجبر دار ابن الجوزي

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة الشرح

مقدمة الشرح الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فهذا شرح للمقدمة الأولى من مقدمتَي كتاب: «التسهيل لعلوم القرآن» لمحمد بن أحمد بن جزي الكلبي. وإني لأشكر الله الذي يسَّر لي إتمام شرحها، وإني لأسأله أن يبارك لي في وقتي لأنجز سواها مما هو بين يدي. ولا يفوتني في هذا المقام أن أشكر أخي بدر بن ناصر بن صالح الجبر الذي أعانني على إخراج هذا الشرح بهذه الصورة التي بين يديكم، فقد كان مراجعاً ومدقِّقاً ومخرجاً، فجزاه الله عني خيراً، وبارك له في كل أموره. وقبل البدء بشرح هذه المقدمة أشير إلى كتاب: «ابن جزي ومنهجه في التفسير» لعلي بن محمد الزبيري رحمه الله، فإنه يُعدُّ من أحسن الكتب التي كُتبت في بيان منهجِ مُفَسِّر، وقد ذكر في ترجمة ابن جزي رحمه الله ما نصه: (ـ مولد ابن جزي ووفاته ـ: ولد أبو القاسم محمد بن أحمد بن جزي في يوم الخميس تاسع ربيع الثاني عام 693هـ، الموافق 1294م في مدينة غرناطة عاصمة الأندلس في ذلك العهد، واستُشهد رحمه الله في ضحوة يوم الاثنين السابع من جمادى الأولى عام 741هـ، الموافق 30 أكتوبر/ت1 سنة 1340م في معركة (طريف) بعد أن أبلى بلاء حسناً ـ تقبَّل الله شهادته ـ.

لقد فُقد رحمه الله وهو يشحذ هِمم الناس، ويحرِّضهم ويثبِّت بصائرهم، وكان هذا هو آخر العهد به، لقد حفظ لنا صاحب «نيل الابتهاج» نصّاً تاريخياً هامّاً يتعلق باستشهاد ابن جزي نقله عن فهرسة الحضرمي ـ أحد تلاميذ ابن جزي ـ جاء فيه: قال الفقيه المحدث الوزير أبو بكر بن ذي الوزارتين ابن الحكيم: (أنشدني ـ يقصد ابن جزي ـ يوم الوقيعة من آخر شعره قوله: قصدي مؤمل في جهري وإسراري ... ومطلبي من إلهي الواحد الباري شهادةٌ في سبيلِ اللهِ خالصةٌ ... تمحو ذنوبي وتُنجيني من النار إن المعاصي رجسٌ لا يُطَهِّرُها ... إلا الصَّوارمُ في أيْمانِ كُفَّارِ ثم قال: (في هذا اليوم أرجو أن يعطيني الله ما سألته في هذه الأبيات، وهكذا صدق الله ابن جزي، فصدقه وانتقل إلى جوار ربه بموكب الشهداء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فأكرمهم وآواهم، وفي هذه المعركة استشهد العديد من علماء الأندلس وأعيانهم، كما استشهد العديد من علماء المغرب وأعيانه) (¬1). هذا موجزٌ نكتفي به فيما يتعلق بحياة ابن جزي، ومن أراد المزيد في كتب ابن جزي وعلمه وطريقته في العلم وشيوخه وتلاميذه، فيمكنه مراجعة كتاب الزبيري. ¬

(¬1) ابن جزي ومنهجه في التفسير، لعلي الزبيري، ص169، 170.

سبب تأليفه للكتاب ومقاصده

سبب تأليفه للكتاب ومقاصده قال المصنف رحمه الله (¬1): الحمد لله العزيز الوهَّاب، مالك الملوك وربِّ الأرباب، هو الذي أنزل على عبده الكتاب هدًى وذكرى لأولي الألباب، وأودعه من العلوم النافعة، والبراهين القاطعة غاية الحكمة وفصل الخطاب، وخصَّه بالخصائص العليَّة، واللطائف الخفيَّة، والدلائل الجليَّة، والأسرار الربَّانية العُجاب، بكل عجب عجاب، وجعله في الطبقة العليا من البيان حتى أعجز الإنسان والجانّ، واعترف زعماء أرباب اللسان بما تضمَّنه من الفصاحة والبراعة والبلاغة والإعراب والإغراب، ويسَّر حفظه في الصدور، وضمن حفظه من التبديل والتغيير، فلم يتغير، ولا يتغير على طول الدهور وتوالي الأحقاب، وجعله قولاً فصلاً، وحكماً عدلاً، وآية بادية، ومعجزة باقية يشاهدها من شهد الوحي ومن غاب، وتقوم بها الحجة للمؤمن الأوَّاب، والحجَّة على الكافر المرتاب، وهدى الخلق بما شرع فيه من الأحكام، وبيَّن من الحلال والحرام، وعلَّم من شعائر الإسلام، وصرف من النواهي والأوامر، والمواعظ والزواجر، والبشارة بالثواب، والنذارة بالعقاب، وجعل أهل القرآن أهل الله وخاصَّته، واصطفاهم من عباده وأورثهم الجنة وحسن المآب. فسبحان المولى الكريم الذي خصَّنا بكتابه، وشرَّفنا بخطابه، فيا له من نعمة سابغة، وحجة بالغة، أوزعنا الله الكريم القيام بواجب شكرها، وتوفية حقها، ومعرفة قدرها، وما توفيقي إلا بالله هو ربي لا إله إلا هو ¬

(¬1) كُتبَت هذه المقدمة اعتماداً على تحقيق الدكتور: محمد بن سيدي محمد بن مولاي للتفسير الذي طبع أثناء تنقيح هذا الشرح ومراجعته، فوثقت هذه المقدمة منه.

عليه توكلت وإليه متاب، وصلاة الله وسلامه وتحياته وبركاته وإكرامه على من دلَّنا على الله، وبلَّغنا رسالة الله، وجاءنا بالقرآن العظيم وبالآيات والذكر الحكيم، وجاهد في الله حق الجهاد، وبذل جهده في الحرص على نجاة العباد، وعلَّم ونصح وبيَّن وأوضح حتى قامت الحجة، ولاحت المحَجَّة، وتبيَّن الرشد من الغي، وظهر طريق الحق والصواب، وانقشعت ظلمات الشك والارتياب، ذلك سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي القرشي الهاشمي المختار من لُباب اللباب، والمصطفى من أطهر الأنساب، وأشرف الأحساب، الذي أيده الله بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، والجنود القاهرة، والسيوف الباترة الغضاب، وجمع له بين شرف الدنيا والآخرة، وجعله قائداً للغر المحجَّلين والوجوه الناضرة، فهو أول من يشفع يوم الحساب، وأول من يدخل الجنة ويقرع الباب، فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين وأصحابه الأكرمين خير أهل وأكرم أصحاب، صلاة زاكية نامية لا يحصر مقدارها العد والحساب، ولا يبلغ إلى أدنى وصفها ألسنة البلغاء ولا أقلام الكتَّاب، أما بعد: فإن علم القرآن العظيم هو أرفع العلوم قدراً، وأجلها خطراً، وأعظمها أجراً، وأشرفها ذكراً، وأن الله أنعم عليَّ بأن شغلني بخدمة القرآن وتعلُّمه وتعليمه، وشغفني بتفهم معانيه وتحصيل علومه، فاطلعت على ما صنفه العلماء رضي الله عنهم في تفسير القرآن من التصانيف المختلفة الأوصاف، المتباينة الأصناف، فمنهم من آثر الاختصار، ومنهم من طوَّل حتى أكثر الأسفار، ومنهم من تكلَّم في بعض فنون العلم دون بعض، ومنهم من اعتمد على نقل أقوال الناس، ومنهم من عوَّل على النظر والتحقيق والتدقيق، وكل أحد سلك طريقاً نحاه، وذهب مذهباً ارتضاه، وكلاًّ وعد الله الحسنى، فرغبتُ في سلوك طريقهم، والانخراط في سلك فريقهم، وصنفتُ هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم وسائر ما يتعلق به من العلوم، وسلكت مسلكاً نافعاً؛ إذ جعلته وجيزاً جامعاً، قصدت به أربع مقاصد تتضمن أربع فوائد:

الفائدة الأولى: جمع كثير من العلم في كتاب صغير الحجم؛ تسهيلاً على الطالبين، وتقريباً على الراغبين، فلقد احتوى هذا الكتاب على ما تضمَّنته الدواوين الطويلة من العلم ولكن بعد تلخيصها وتمحيصها، وتنقيح فصولها، وحذف حشوها وفضولها، ولقد أودعته من كل فن من فنون علم القرآن اللباب المرغوب فيه دون القشر المرغوب عنه من غير إفراط ولا تفريط، ثم إني عزمت على إيجاز العبارة، وإفراط الاختصار، وترك التطويل والتكرار. الفائدة الثانية: ذكر نُكت عجيبة وفوائد غريبة قلَّما توجد في كتاب؛ لأنها من بنات صدري ونتائج فكري، ومما أخذته عن شيوخي رضي الله عنهم، أو مما التقطته من مستظرفات النوادر، الواقعة في غرائب الدفاتر. الفائدة الثالثة: إيضاح المشكلات، إما بحل العُقَد المقفلات، وإما بحسن العبارة ورفع الاحتمالات وبيان المجملات. الفائدة الرابعة: تحقيق أقوال المفسرين والتفرقة بين السقيم منها والصحيح، وتمييز الراجح من المرجوح؛ وذلك أن أقوال الناس على مراتب، فمنها الصحيح الذي يعوَّل عليه، ومنها الباطل الذي لا يلتفت إليه، ومنها ما يحتمل الصحة والفساد، ثم إن هذا الاحتمال قد يكون متساوياً أو متفاوتاً، والتفاوت قد يكون قليلاً أو كثيراً. وإني جعلت لهذه الأقسام عبارات مختلفة تعرف بها كل مرتبة وكل قول، فأدناها ما أُصرِّحُ بأنه خطأ أو باطل، ثم ما أقول فيه: إنه ضعيف أو بعيد، ثم ما أقول: إن غيره أرجح منه أو أقوى أو أظهر أو أشهر، ثم ما أقدم غيره عليه إشعاراً بترجيح المتقدم، أو بالقول فيه: قيل، كذا قصداً للخروج من عهدته. وأما إذا صرحت باسم قائل القول فإني أفعل ذلك لأحد أمرين: إما للخروج عن عهدته، وإما لنصرته إذا كان قائله ممن يُقتدى به، على أني لا أنسب الأقوال إلى أصحابها إلا قليلاً؛ وذلك لقلة صحة إسنادها إليهم، أو لاختلاف الناقلين في نسبتها إليهم، وأما إذا ذكرت شيئاً دون حكاية قوله عن أحد؛ فذلك إشارة إلى أني أتقلده وأرتضيه سواء كان من تلقاء

نفسي أو مما أختاره من كلام غيري، وإذا كان القول في غاية السقوط والبطلان لم أذكره تنزيهاً للكتاب عنه، وربما ذكرته تحذيراً منه، وهذا الذي ارتكبت من الترجيح والتصحيح مبني على القواعد العلمية، أو على ما تقتضيه اللغة العربية، وسنذكر بعد هذا باباً في موجبات الترجيح بين الأقوال إن شاء الله. وسميت هذا الكتاب كتاب «التسهيل لعلوم التنزيل»، وقدمت في أوله مقدمتين: إحداهما: في أبواب نافعة، وقواعد كلية جامعة، والأخرى: فيما كثر دوره من اللغات الواقعة. وأنا أرغب إلى الله العظيم الكريم أن يجعل تصنيف هذا الكتاب عملاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، ووسيلة توصلني إلى جنات النعيم، وتنقذني من عذاب الجحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (¬1). ¬

(¬1) انظر التسهيل بتحقيق الدكتور: محمد بن مولاي 1/ 47 - 50.

بدأ المؤلف كتابه بالحمد والثناء على الله سبحانه، والصلاة والسلام على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ثم ذكر أن علم القرآن هو أرقى العلوم قدراً، وأجلها خطراً، وأعظمها أجراً، وهذه القضية لا يكاد يختلف عليها علماء المسلمين، فعِلم القرآن هو أجل العلوم الإسلامية؛ لأن القرآن هو كلام الله سبحانه، ومنه تؤخذ الشريعة والعقائد، وكل علوم الإسلام ترجع إلى هذا الكتاب، وذكر أن العلماء قد خدموه إقراء وتفسيراً وتدبراً واستنباطاً، وذكر أيضاً أن من نِعم الله عليه أنه شغله بخدمة القرآن وتعلمه وتعليمه، وهذا نراه كثيراً في كلام العلماء، وهو التنبيه على ما منَّ الله عليهم به من التفرغ لخدمة كتاب الله سبحانه وتعالى بأنواع من الخدمة، فنجد بعض العلماء قد تفرغ للإقراء فقط؛ يصحِّح للطلاب القراءة، ولا تكاد تجده يُحسن غير هذا، وهذه نعمة، فلو أردت منه غير هذا ما استطاع، فهذا علم من علوم القرآن قد ميَّز به سبحانه بعض الناس، وهناك أناس قد تفرغوا لتفسيره والاستنباط منه. ثم ذكر تصنيفات العلماء في التفسير، وذكر لها أوصافاً، كأنه يريد أن يبين السبب الموجب لتأليفه التفسير، ولعلنا نذكر لكل نوع مثالاً من هذه المصنفات التي صُنِّفت قبل ابن جزي ـ أي: قبل عام 741هـ. قوله: (ومنهم من آثر الاختصار) مثاله: تفسير الوجيز للواحدي (ت468هـ). قوله: (ومنهم من طوَّل حتى أكثر الأسفار) مثاله: تفسير الرازي (ت606هـ). قوله: (ومنهم من تكلم في بعض فنون العلم دون بعض) مثاله: ابن العربي (ت543هـ) في (أحكام القرآن) حيث خصَّه بنوع مما يتعلق بالتفسير وإن كان الكتاب ينحو منحًى فقهياً لكن المقصد من ذلك أنه تكلم على جزء من علم التفسير، وكذا كتب غريب القرآن أو كتب معاني القرآن التي اختصت بنوع من علم التفسير دون الأخذ بكل معلومات التفسير. قوله: (ومنهم من اعتمد على نقل أقوال الناس) مثاله: الثعلبي (ت427هـ)، وابن أبي حاتم (ت327هـ)، والماوردي (ت450هـ) وابن الجوزي (ت597هـ)، فهؤلاء يُعدون نَقَلَةً للتفسير. قوله: (ومنهم من عوَّل على النظر والتحقيق والتدقيق) مثل: ابن جرير (ت310هـ)، وابن عطية (ت542هـ)، وغيرهم. المقصود أن هذه الأوصاف العامة التي ذكرها يمكن أن توصف بها بعض التفاسير، وبعضها قد يجتمع فيه أكثر من وصف. ثم قال بعد ذلك: (فرغبت في سلوك طريقهم، والانخراط في مساق فريقهم). يثير قوله هذا سؤالاً، وهو: ما الفائدة أن يُخرج العالم تفسيراً، فالتفاسير كثيرة؟

الجواب: إن من أهم المقاصد التي يقصدها المؤلف ويرجوها، بركةَ ذلك العمل؛ بأن يكون ممَّن ألف في التفسير، وممَّن يعتمد الناس كتابه في الرجوع إليه والاستفادة منه، فيترحَّمون عليه، لذا فإنه ينظر في ذلك إلى الأجر الأخروي؛ ولهذا لا نستغرب عندما نرى علماء المسلمين يحرصون على أن يُخلِّفوا أثراً بعدهم، ولقد كان من أثر ذلك أن حرص العلماء على تخليد علومهم في كتب تناقلتها الأجيال، حتى إننا نجد اليوم من التفاسير ما كُتب في القرن الهجري الأول والثاني والثالث والرابع ... إلخ، وكثرة المخطوطات في تفسير القرآن تدل على أن هذا المقصدَ من المقاصدِ المهمةِ للعالِمِ؛ لأنه يريد أن يخلف أثراً بعده يستفاد منه. قوله: (وصنفت هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم، وسائر ما يتعلق به من العلوم). يظهر من قوله هذا أنه قصد أن يكون كتابه في علمين: الأول: تفسير القرآن، وهو الذي عبَّر عنه بقوله: (وصنفت هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم). الثاني: علوم القرآن ممَّا عدا التفسير، وهو الذي عُطفت عليه جملة: (وسائر ما يتعلق به من العلوم)، بل قد يدخل في هذه العبارة كل ما يتعلق بالقرآن من معلومات، سواءٌ أكانت من علوم القرآن والتفسير، أم كانت من علوم أخرى، لكن سيأتي في عباراته ما يدلُّ على أنه يريد علوم القرآن العظيم (¬1). قوله: (وسلكت مسلكاً نافعاً؛ إذ جعلته وجيزاً جامعاً). لو قُمتَ بموازنة بين تفسير ابن جُزي وبين أحد التفاسير التي ذكرها مثل: تفسير المهدوي (ت440هـ) أو مكي بن أبي طالب (ت437هـ) أو ¬

(¬1) ينظر التعليق على قوله: (ولقد أودعته من كل فن من فنون علم القرآن) (ص14).

غيرهما فإنك ستجدُ أن تلك التفاسير أطول من تفسيره بكثير، وأن طريقتَها في التصنيف الاستيعابُ والاستطرادُ، وهي خلافُ طريقة ابن جُزي الذي عَمَد إلى الاختصار، فالاستطرادات عنده قليلة بالنسبة للكمِّ الذي كتبه في هذا التفسير؛ لذا يصح أن يطلق عليه: التفسير الوجيز الجامع، فهو جامع للأقوال مع وجازة العبارة. قوله: (قصدت فيه أربع مقاصد) هنا فائدة مهمة وهي أنه يحسن بنا أن نعرف مقاصد المؤلفين في تآليفهم، فابن جزي ألف كتابه هذا لمقاصد أربع ذكرها، وكان قد سبق أن أشار إلى مقصد عام، وهو أن ينخرط في سلك المفسرين. وهذه المقاصد الأربعة التي نصَّ عليها تُعدُّ خطة العمل التي أراد ابن جُزيٍّ أن يقوم عليها كتابه، فكأنه يقول: إن هذه المقاصد ستكون موجودة في كتابه (¬1). فالمؤلف أراد أن يحقق أربع فوائد وهي: (الفائدة الأولى: جمع كثير من العلم في كتاب صغير الحجم؛ تسهيلاً على الطالبين، وتقريباً على الراغبين) وهذه الفائدة تتعلق بقضية الإيجاز؛ أي: أنه قصد أن ¬

(¬1) فائدة في دراسة منهج المفسر: حينما يريد الباحث أن يدرس منهج مفسِّر، والمفسِّر قد نصَّ على خطة عمله في مقدمة التفسير ـ كما فعل ابن جُزيٍّ، فإنه سيحاكمه إلى مقاصده في تأليف كتابه، ولا يصحَّ ـ كما يقع من بعض الباحثين ـ أن نحاكمه إلى مقاصد أخرى لم ينصَّ عليها، وهذه قاعدة علمية يجب على الباحث أن ينتبه لها، فيقف مع مقاصد المؤلف وشرطه في كتابه دون أن يفتعل عليه غيرها ويحاكمه إليها، فإذا قال المؤلف ـ مثلاً ـ: «اشترطت في كتابي هذا أن أذكر رواية من روايات المذهب»، وأطلق فلا يجوز أن يأتي إنسان ويقول: «من عيوب المؤلف أنه يذكر روايات ضعيفة في المذهب»؛ فهذا الاستدراك غير صحيح؛ لأن المؤلف لم يشترط أن يميز الصحيح والضعيف، وإنما اشترط على نفسه أن يذكر رواية في المذهب، فإذا لم يذكر رواية من روايات المذهب وذكر رواية من روايات مذهب آخر فإنه يقال: إنه خالف شرطه، فذكر من غير روايات المذهب مع وجود رواية في المذهب.

يكون الكتاب صغير الحجم سهلاً على من أراد أن يطلب علم التفسير، وهذا المقصد هو الذي أراده الواحدي (ت468هـ) لما كتب كتابه: (الوجيز) ليسهل على من أراد أن يقرأ التفسير استظهار كتابه أو حفظه، قال: «... إلى إيجاز كتاب في التفسير، يقربُ على من تناوله، ويسهل على من تأمله، من أوجز ما عمل في بابه، وأعظمه فائدة على متحفِّظيه وأصحابه. وهذا كتاب أنا فيه نازل إلى درجة أهل زماننا، تعجيلاً لمنفعتهم، وتحصيلاً للمثوبة في إفادتهم ما تمنَّوه طويلاً، فلم يُغْنِ عنهم أحدٌ فتيلاً ...» (¬1). إذن هذا المقصد يحسن أن يكون مقصداً لمن أراد أن يؤلف لعامة الناس، فليس كل الناس يستطيع أن يقرأ المجلدات الكبار، وكأن ابن جُزيٍّ رحمه الله أراد أن يقرِّب التفسير للراغبين فيه فقال: (صغير الحجم تسهيلاً على الراغبين). ثم وصف كتابه فقال: (فلقد احتوى هذا الكتاب على ما تضمنته الدواوين الطويلة من العلم، ولكن بعد تلخيصها وتمحيصها، وتنقيح فصولها، وحذف حشوها وفضولها). كأن المؤلف ينتقد بعض الكتب ـ وإن لم يذكرها ـ ويشير إلى أن فيها مشكلة من جهة الإطالة في العبارة أو الحشو، والمراد به: زيادة ما لا داعي له، وكأنه أراد أن يقول: (سأجعل كتابي مختصراً)، ويدل لذلك العبارة التي ستأتي في قوله: (من غير إفراط ولا تفريط). ثم قال بعد ذلك: (ولقد أودعته من كل فن من فنون علم القرآن) نلاحظ أنه قال أولاً: (صنفت هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم وسائر ¬

(¬1) الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، للواحدي، تحقيق صفوان داوودي، ص87.

ما يتعلق به من العلوم) ثم رجع مرة أخرى وقال: (ولقد أودعته من كل فن من فنون علم القرآن اللباب المرغوب فيه دون القشر المرغوب عنه). وهذا يشير إلى ما ذكرته سابقاً من أن إدخال مسائل بعض أنواع علوم القرآن من مقاصد ابن جزي في تفسيره هذا. ثم قال: (من غير إفراط ولا تفريط) كأنه يقول: جعلته وجيزاً مختصراً ليس فيه ذلك الحشو ولا ذلك التطويل. ثم قال: (ثم إني عزمت على إيجاز العبارة وإفراط الاختصار وترك التطويل والتكرار)، بدأ بذكر الأسلوب الكتابي الذي سينتهجه في عباراته في هذا التفسير (¬1). ثم قال رحمه الله: (الفائدة الثانية: ذكر نكت عجيبة وفوائد غريبة قلما توجد في كتاب؛ لأنها من نبات صدري، وينابيع ذكري، ومما أخذته عن شيوخي رضي الله عنهم، أو مما التقطته من مستظرفات النوادر، الواقعة في غرائب الدفاتر). ¬

(¬1) وقد لاحظ صاحب كتاب «منهج ابن جزي في التفسير» أن هذا الإفراط في الاختصار قد يصل إلى أن يكون فيه غموض في العبارة، والكاتب ـ وهو يكتب أحياناً ـ يكتب ما في ذهنه، فيُحسُّ ـ وهو يكتب ـ أنه قد أبان العبارة، وأن من سيقرأ له سيفهم عنه، والواقع أن العبارة قد تكون مضغوطة جداً وتحتاج إلى فكٍّ واستشراح، لذا تجد في بعض عبارات العلماء بسبب هذا الإفراط في الاختصار وضغط العبارة؛ تجد أن من يأتي بعدهم يتعبُ، بل قد يحارُ في فَكِّ هذه العبارة. ومن كُتب التفسير التي تتميز بضغط العبارة، واحتياجها إلى استشراح وفكٍّ = تفسير البيضاوي (ت685هـ)، ففي بعض عباراته ضغط شديد يصل إلى حد الغموض؛ ولعل هذا الغموض في العبارة أحد أسباب اعتماد هذا الكتاب منهجاً تدريسياً عند علماء الأتراك بحيث إن الطالب يحتاج إلى المعلم لفك عبارات هذا الكتاب. ونجد هذا أيضاً في «تفسير الجلالين» في بعض المواطن، فالإفراط في الاختصار إذا كان مؤدياً إلى الغموض فإنه يعد من عيوب التأليف؛ لأن المقصد من التأليف أن يفهم الطالب، وليس المقصد أن يبحث الطالب عن المراد من هذه العبارة ولماذا وردت هكذا؟

يتحدث المؤلف عن المقصد الثاني من هذا التأليف، وهو (ذكر نكت عجيبة وفوائد غريبة)، وغالباً ما تكون في باب المُلَح أو الاستنباطات الطريفة. ثم قال عنها: (قلما توجد في كتاب) أي: لا يوجد كتاب يحوي هذه النكت، ولا يزال الناس إلى اليوم ينشدون كتاباً يجمع هذه النكت، وهذا صعب، فهي كثيرة جداً، ولا يمكن حصرها. ثم ذكر رحمه الله مصادره في هذه النكت والفوائد: 1 - قال: (من بنات صدري ونتائج فكري). وهذا ما يقع له حسب اجتهاده وتدبره في الكتاب العزيز، ولا يعني هذا ألا يكون قد سُبِق إليها، لكنه حسب علمه لم يطلع عليها، وإن وقع لك وأنت تقرأ كتابه شيئاً ادَّعى افتراعه وابتداعه، ثم رأيته لأحد ممن تقدمه، فاعلم أن الأمر كما يقال: (وقع الحافر على الحافر)، فاتفق هو مع المتقدم عليه دون اطلاع سابق، وذلك كثير في كتب أهل العلم. 2 - قال: (مما أخذته عن شيوخي بالمشافهة، فهي غير مسطرة في كتاب). هذه الدرر التي يأخذها عن شيوخه كالتي يصل إليها بمحض اجتهاده، وقيدها عنده أنها غير مدونة في كتب أهل العلم، فهي من بنات أفكار شيوخه، لكن لا يلزم ألا يكون وصل إليها أحد قبلهم ـ كما مرَّ التنبيه على ذلك في الفقرة السابقة. ومن باب الفائدة، فإن الطالب لو جعل له كرَّاساً يجمع فيه الفوائد واللطائف التي يسمعها من أساتذته في شتى العلوم والمعارف لحفظ من فوائد العلم شيئاً كثيراً. ولقد كان عمِل بهذه الفكرة أحد أصحابي، ورأيت كُنَّاشةً جمع فيها فوائد ولطائف وأشعار مما كان يسمعه من الأستاذين في سني دراسته في

الكلية، وكان فيها من اللطائف والمعارف الشيء الكثير، حتى كأنك تسير في حديقة غنَّاء مليئة بأنواع الثمار والفواكه والزهور. وأذكر من فوائد ما علِق في ذاكرتي من أثناء دراستي في الجامعة تعليقاً لأحد أساتذة التربية على قوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22]، قال ما معناه: جاء لفظ صاحب للردِّ على زعمهم بأن محمداً صلّى الله عليه وسلّم مجنون؛ إذ كيف تتهمونه بالجنون، وهو مصاحب لكم تعلمون جميع أحواله، وأنتم أشد الناس معرفة بصدقه وأمانته. 3 - قال: (أو مما التقطته من مستظرفات النوادر الواقعة في غرائب الدفاتر). أي: أنه أخذها من مصادر لا يتصور أنها من مراجع علم التفسير، فقد تكون من كتاب فقهي أو كتاب أدبي أو كتاب لغوي، والقارئ قد يقع على شيء من علم التفسير في غير مظانِّه، ومن هذه الكتب ـ على سبيل المثال ـ: كتاب «نتائج الفكر» للسيهلي (ت581هـ)، فهذا الكتاب ـ وهو في علم النحو ـ لا يُتوقَّع أن يوجد فيه شيء مما يتعلق بالتفسير؛ فأنَّى لك أن تكتشف أن فيه من النكت والطرائف والفوائد التفسيرية الشيء الكثير العجيب، وإنك واجد فيه مِنْ براعة السهيلي في استنباط الكثير من بلاغة القرآن ولطائف لغته ودقائقها الشيء الكثير، وقد استفاد منه ابن القيم (ت751هـ) كثيراً في كتابه: «بدائع الفوائد». ذكر السهيلي (ت581هـ) بحثاً ماتعاً حول سؤال قال فيه: (فإن قيل: كيف جاز {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1]، {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8]، والمقصود بالذكر والتسبيح هو الرب تبارك وتعالى، لا اللفظ الدال عليه؟ قلنا: هذا سؤال قد كعَّ عنه أكثر المحصِّلين، ونكتة عجز عنها أكثر المتأولين ... والقول السديد في ذلك ـ والله المستعان ـ أن نقول: الذِّكر

على الحقيقة محله القلب؛ لأنه ضدُّ النسيان، والتسبيح نوع من الذكر، فلو أطلق الذكر والتسبيح لما فُهِم منه إلا ذلك، دون اللفظ باللسان، والله عزّ وجل إنما تعبَّدنا بالأمرين جميعاً، ولم يتقبل من الإيمان إلا ما كان قولاً باللسان، واعتقاداً بالجَنان، فصار معنى الآيتين على هذا: اذكر ربك وسبح ربك بقلبك ولسانك، ولذلك أقحم الاسم تنبيهاً على هذا المعنى حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان؛ لأن الذكر بالقلب مُتَعَلَّقُه المسمى المدلول عليه بالاسم دون سواه، والذكر باللسان متعلَّقه اللفظ وما يدلَّ عليه؛ لأن اللفظ لا يراد لنفسه، فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبَّح دون ما يدل عليه من المعنى، هذا ما لا يذهب إليه خاطر، ولا يتوهَّمُه ضمير، فقد وضحت تلك الحكمة التي من أجلها أُقحِم ذكر الاسم، وأنه به كملت الفائدة، وظهر الإعجاز في النظم والبلاغة في الخطاب. فهذه نكتة لمتدبرها خير من الدنيا بحذافيرها، والحمد لله على ما فَهَّمَ وعَلَّم) (¬1). ومن لطيف ما نقله ابن القيم (ت751هـ) عن شيخه ابن تيمية (ت728هـ) في هذه الآية قوله: «وعبَّر لي شيخنا أبو العباس ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة فقال: المعنى: سبِّح ناطقاً باسم ربك متكلماً به، وكذا سبح اسم ربك؛ «المعنى: سبِّح ربك ذاكراً اسمه، وهذه الفائدة تساوي رحلة، لكن لمن يعرف قدرها، فالحمد لله المنان بفضله ونسأله تمام نعمته» (¬2). ثم قال رحمه الله: (الفائدة الثالثة: إيضاح المشكلات إما بحل العقد المقفلات، وإما بحسن العبارة ورفع الاحتمالات وبيان المجملات). ¬

(¬1) نتائج الفكر، للسهيلي، تحقيق محمد البنا، ص44، 45. (¬2) بدائع الفوائد 1/ 19.

يشير بهذه الفائدة إلى أن هناك مشكلات؛ سواء ما يقال فيه: «مشكل القرآن» أو فيما يُشكِل من المسائل العلمية التي يذكرها العلماء، فنبَّه أنه سيعمل على حلِّ هذه العقد المقفلات: • إما بحسن العبارة فتكون واضحة بحيث تنفك المشكلة، ويزول الغموض. • وإما برفع الاحتمالات بأن يذكر القول الصواب فيها، إن كانت تحتاج إلى بيان القول الصواب، أو بأن يبين عن المراد باللفظة أو الجملة إذا احتملت أكثر من معنى. وإما ببيان المجملات بأن يذكر المعنى البيِّن من هذه الأقوال التي فيها إجمال، فحسن العبارة وطريقة التعبير عنها كفيل بإيضاح وإفهام هذه القضايا المشكلة. ثم تحدث ابن جزي عن الفائدة الرابعة فقال: (الفائدة الرابعة: تحقيق أقوال المفسرين والتفرقة بين السقيم منها والصحيح، وتمييز الراجح من المرجوح ....). المؤلف جعل من مقاصد التأليف عنده تحقيق أقوال المفسرين أي: تمييز الصحيح من الضعيف، وتمييز الصحيح من الباطل، وهذا المقصد موجود في بعض التفاسير؛ لأن بعض الكتب يغلب عليها النقل وعدم التحقيق، وأما الكتب التي تتميز بالتحقيق فمن أهمها: تفسير الإمام الطبري (ت310هـ) رحمه الله تعالى فهو من الكتب التي تعتمد تمييز الراجح من المرجوح والتحقيق في أقوال المفسرين، وكذلك تفسير ابن عطية (ت542هـ)، وتفسير القرطبي (ت671هـ)، وتفسير البحر المحيط لأبي حيان (ت745هـ)، وتفسير ابن كثير (ت774هـ)، وتفسير الألوسي (ت1270هـ)، وتفسير الطاهر ابن عاشور (ت1393هـ) وهو «التحرير والتنوير»، هذه بعض الكتب التي عملت بما يذكره المؤلف وإن لم تذكر ـ

في الغالب ـ نصّاً منظماً كنصِّ المؤلف، وهذه الكتب المحررة ستجد فيها نقاشات علمية وترجيحات وتحريرات في التفسير، فابن جزي قدَّم تنظيراً متكاملاً، ثم سيذكر التطبيقات في التفسير. وقد جعل المؤلف أقوال الناس على مراتب؛ منها: 1 - الصحيح الذي يعول عليه. 2 - والباطل الذي لا يلتفت إليه (¬1). 3 - وما يحتمل الصحة والفساد، ثم يذكر مع هذا الاحتمال قد يكون متساوياً وقد يكون متفاوتاً، والتفاوت قد يكون قليلاً أو كثيراً. ¬

(¬1) مقاصد التأليف جزء من المنهج، والمؤلف أراد بكتابه أن يكون وجيزاً جامعاً محققاً للأقوال فيه، ولكن عند النظر في تعامله رحمه الله مع هذه المقاصد وتطبيقه لها نجد أن في ذلك إشكالية، فقد وقع فيه تفسير باطل كما أنه تفسير طويل، وقد نبَّه الزبيري الذي كتب في منهج ابن جزي على هذا، وذكر من الأمثلة على الإطالة في التفسير ما ذكره عند قوله: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} [الشورى: 38] قال: «قيل يعني: الأنصار؛ لأنهم استجابوا لما دعاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم الى الإسلام، ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم؛ لأنه بدأ أولاً بصفات أبي بكر الصديق ثم صفات عمر بن الخطاب ثم صفات عثمان بن عفان ثم صفات علي بن أبي طالب فكونه جمع هذه الصفات ورتبها على هذا الترتيب يدل على أنه قصد بها من اتصف بذلك، فأما صفات أبي بكر فقوله: {... لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36] وإنما جعلناها صفة أبي بكر وإن كان جميعهم متصفاً بها لأن أبا بكر كانت له فيها مزية لم تكن لغيره»، ثم ذكر بعد ذلك صفات عمر فقال: «وأما صفات عمر فقوله: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37]» جعلها في عمر فسار على هذا الأسلوب فقسَّم الآية على الخلفاء الراشدين ثم قال في عثمان: «أما صفات عثمان فقوله: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]، ثم انتقل إلى صفة علي فقال: «وأما صفة عليٍّ فقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] لأنه لما قاتلته الفئة الباغية قاتلها انتصاراً للحق»، إلى أن ذكر بعد ذلك ما فيه إشارة إلى الحسن والحسين رضي الله عنهما وإشارة إلى بني أمية في كلام طويل مخالف لعقلية ابن جزي المحقق، ولكن كما تعلمون الكمال عزيز، فوقع في مثل هذا المثال مما يمكن أن يستدرك عليه المستدرك، فقد وقع فيما نهى عنه في قضية التمييز بين الصحيح والباطل، لكن هذا لا يشوش على الكتاب إطلاقاً ولا يفقده تميزه.

هذه التفصيلات التي ذكرها في حال العمل التفسيري قد لا نحتاج إليها كثيراً؛ أي: أننا لا نعمل بها في حال الاختلاف، ولا ننظر هل هذا من هذا القسم أو من ذاك؛ لذا لو أردنا أن نمثل لما يكون متساوياً أو ما يكون متفاوتاً لصعب علينا في كل مثال يقع فيه اختلاف، وهذه إن ذُكرت في باب التنظير، فلا يلزم أن يوجد لها تطبيقات كثيرة في التفاسير في كل الأحوال. أما الصحيح والضعيف، أو الصحيح والباطل فهذا يوجد، ويمكن التمثيل له فنقول: هذا تفسير صحيح وهذا تفسير ضعيف. قوله: (وإني جعلت لهذه الأقسام عبارات مختلفة تعرف بها كل مرتبة وكل قول). المؤلف لم يجعل القارئ يستقرئ طريقته في قضية الترجيح، بل ذكر طريقته تلك في هذه المقدمة بوضوح، فذكرها بالترقي من الأدنى إلى الأعلى. • فأدناها: ما صرَّح بأنه خطأ أو باطل، فهو أضعف الأقوال. • ثم ما ذكر أنه ضعيف أو بعيد، وهذا مرتبته أعلى قليلاً من الذي قبله. • ثم ما يقول فيه: إن غيره أقوى أو أرجح أو أظهر أو أشهر، وهذا أعلى من سابقه. • ثم ما يقدم غيره عليه إشعاراً بترجيح المتقدم وأن الذي بعده أقل منه عند المؤلف. ثم قال: (وأما إذا صرَّحت باسم قائل القول فإني أفعل ذلك لأحد أمرين: إما للخروج عن عهدته، وإما لنصرته إذا كان قائله ممن يقتدى به). الأصل عند ابن جزي عدم التصريح بالأسماء، وقد ذكر سبب ذكره الأسماء في بعض المواطن:

الأول: إذا أراد أن يخرج من عهدة القول. الثاني: إذا أراد أن ينصر القول؛ لأن قائل هذا القول إمام معتبر فهذه قاعدته في التصريح بالأسماء. ثم علَّل سبب عدم تصريحه بالأسماء، فقال: (على أني لست أنسب الأقوال إلى أصحابها إلا قليلاً؛ وذلك لقلة صحة إسنادها إليهم، أو لاختلاف الناقلين في نسبتها إليهم). أوجز المؤلف قضية اختلاف الناقلين في نسبتها إلى أصحابها وهي تحتاج إلى تأمل، والظاهر من العبارة أنه يقصد مفسري السلف؛ لأن غيرهم من العلماء كالطبري (ت310هـ) أو ابن عطية (ت542هـ) وغيرهم إن نَسَبَ إليهم شيئاً فسينظر في كتبهم التي بين يدينا ويعرف صحته من عدمه، لكن الذين قد لا يصح الإسناد إليهم، أو يكون للواحد منهم أكثر من قول، هم مفسرو السلف، وهذا يدل على أن عنده مشكلتين تحفَّان ببعض تفسيرات السلف: الأولى: قلة صحة الإسناد إليهم. الثانية: اختلاف الناقلين في نسبتها إليهم. وهاتان المشكلتان تحتاجان إلى نظر آخر غير ما ذكره الإمام ابن جزي رحمه الله، وهو: أولاً: إن ما يتعلق بصحة الإسناد لم يكن مشكلة جوهرية عند المفسرين، فلم يتوقف ابن جزي أو من قبله أو بعده من المفسرين من الاستفادة من مرويات السلف بهذه الأسانيد التي فيها ما هو ضعيف وليس باطلاً أو موضوعاً، وأخذوا منها بيان معاني القرآن، ورجحوا بها أقوالهم على أقوال المتأخرين، والمقصود أن قضية صحة الإسناد في آثار السلف في التفسير لا تمثل مشكلة كبيرة؛ بدلالة أن علماءنا منذ القرن الثاني ومن بعده لم يتوقفوا في هذه الأسانيد وقبلوها وعملوا بما فيها مع

علمهم التام بما في بعضها من كلام؛ كما في رواية الضحاك (ت105هـ) عن ابن عباس (ت68هـ) فإن فيها انقطاعاً؛ لأن الضحاك لم يلق ابن عباس. وكذلك رواية العوفيين عن جدهم عطية العوفي (ت111هـ) عن ابن عباس فإن فيها ضعفاً ـ أيضاً ـ وهذا معروف عند علماء الحديث والتفسير، ومع ذلك أخذوا بهذه الروايات من حيث الجملة. وهنا ينبه إلى فائدة مهمة قد تخفى على بعض طلاب العلم، وهو أن عمل العلماء وتتابعهم على قبول هذه الرواية محكَّم معتبرٌ، وكذا هو الحال في كثير من روايات السلف التي عُلمت مخارجها، أو كانت نُسخاً تروى عن أصحابها بالإسناد إليهم، كنسخة عطية العوفي (ت111هـ) عن ابن عباس، أو نسخة علي بن أبي طلحة (ت145هـ) عن ابن عباس. ثانياً: إن قضية اختلاف الناقلين في نسبتها إليهم، فيها نظر؛ لأن المختلف في نسبته إلى الناقلين يحتاج أن نثبت وقوع الاختلاف فيه؛ فقد ينسبه راوٍ إلى عكرمة (ت105هـ) وآخر ينسبه إلى مجاهد (ت104هـ) فاختلفت النسبة لكن قد يكون هذا القول قال به مجاهد وقال به عكرمة فليس هناك اختلاف؛ لأن غالب ما ينقل عنهم هو من باب اختلاف التنوع الذي يكون بين جميع المفسرين من السلف ويكون عن المفسر الواحد؛ ولذا تجد رواية عن ابن عباس بمعنى ورواية أخرى بمعنى آخر وليس بينهما تضاد، وإنما هو من باب التنوع، فهذا القول صحيح، والقول الآخر صحيح، والمقصود أن اختلاف نقل الناقلين عنهم لا يُعدُّ مشكلة. ثم ذكر طريقته في الأقوال الباطلة فقال: (وإذا كان القول في غاية السقوط والبطلان لم أذكره تنزيهاً للكتاب، وربما ذكرته تحذيراً منه) بمعنى أنه إذا ورد تفسير باطل أو ضعيف في كتابه فقد يذكره للتحذير منه والتنبيه عليه. ثم ذكر بعد ذلك مصطلح الترجيح والتصحيح، ولا نستطيع من

خلال عبارة المؤلف أن نميز ونفرِّق بينهما، ولا نقول: إن العطف يقتضي المغايرة؛ لأن المؤلف قد يكون ذكر هذا من باب تنويع العبارة وليس من باب المغايرة، ثم قال: (وسنذكر بعد هذا باباً في موجبات الترجيح)، ويلاحظ أنه غيَّر المصطلح، فسمَّاها قبل ذلك قواعد الترجيح، ثم سمَّاها هنا موجبات الترجيح، ثم سمَّاها وجوه الترجيح في بابها الذي سيناقش فيه ذلك، وتنوع مصطلحات العالم قد يكون من باب تنويع العبارة، وقد يكون له مقصد لا نعرفه. ثم قال: (وسميته كتاب التسهيل لعلوم التنزيل). الأصل في هذا الكتاب أنه كتاب تفسير، فنُصَنِّفه في كتب علوم التفسير؛ لكن المؤلف أراد أن يضيف إليه أنواعاً من علوم القرآن، وهذا ظاهر من تسمية المؤلف له حيث جعله في «علوم التنزيل»، أي: «علوم القرآن». لذا أقول: من أراد أن يكتب في تصنيف علوم القرآن فلا بد أن يذكر هذا الكتاب أثناء كتابته عن تطور علوم القرآن في المراحل التاريخية؛ لأن علوم القرآن مقصد من مقاصد التأليف عند المؤلف ونصَّ عليها في أكثر من موطن، ولما سمَّى كتابه لم يسمِّه «تفسيراً»، بل سمَّاه: «التسهيل لعلوم التنزيل»، فيجب أن نعرف أن للعلماء مناهج في الحديث عن علوم القرآن فبعضهم ألف مؤلفات مفردة كالناسخ والمنسوخ، وأحكام القرآن والمكي والمدني، وبعضهم ألف كتباً فيها جمع لعددٍ من علوم القرآن، ومن أشهرها: كتاب البرهان للزركشي (ت794هـ)، والإتقان للسيوطي (ت911هـ). والمشكلة التي قد تقع لبعضنا في الوقت الحاضر أنه لا يفهم أنواع علوم القرآن إلا من خلال ما كتبه «صاحب البرهان» و «صاحب الإتقان»، فأي كتاب لا يتمثَّل فيه صبغة البرهان وصبغة الإتقان فإنه عنده ليس من كتب علوم القرآن.

وتنظير أنواع علوم القرآن من خلال هذين الكتابين فحسب فيه نظر، بل الصواب أن نتتبع المراحل التاريخية، ونرى كيف تعامل العلماء مع أنواع علوم القرآن، وننظر في مقاصد كتبهم، فإن كان واضحاً من مقصدهم التأليف في أنواع علوم القرآن فلا يجدر بنا أن نغفله عند الحديث عن تاريخ علوم القرآن والمؤلفات فيه (¬1). قوله: (وقدمت في أوله مقدمتين: إحداهما: في أبواب نافعة، وقواعد كلية جامعة، والأخرى: فيما كثر دوره من اللغات الواقعة). هذه مقدمة المقدمة، أمَّا المقدمة التي سيذكر فيها ما يتعلق بعلوم القرآن وأصول التفسير فهي المقدمة الأولى التي سنشرحها. وأما المقدمة الثانية، فقد ذكر فيها الألفاظ التي يكثر دورانها في القرآن وبيّن معانيها فجعلها كأنها كتاب في مفردات ألفاظ القرآن بحيث لا يحتاج إلى أن يذكر معاني هذه الكلمات في كل موضع ترد فيه. وهذه الطريقة لها جانب حسن، ولها جانب غير ذلك، وذلك مبني على مدى استفادة القارئ منهما؛ لأن قارئ التفسير ـ مثلاً ـ قد يقرأ في ¬

(¬1) هناك كتب لم تُعَنْوَن بأنها في «علوم القرآن»، ولكن حقيقتها أنها في علوم القرآن، ككتاب «فهم القرآن» للحارث المحاسبي (ت243هـ) الذي ضمَّن كتبه جملة من أنواع علوم القرآن؛ كفضائل القرآن، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، وأساليب القرآن من التقديم والتأخير والإضمار وغيرهما. كما أن هناك كتباً قد اشتملت على جملة من أنواع علوم القرآن، وإن لم تكن في علوم القرآن؛ ككتاب الإيضاح للأندرابي (ت470هـ) الذي ضمَّن مقدمته جملة من أنواع علوم القرآن بالإضافة إلى أنواع علوم الإقراء وما يتعلق بها، فقد ذكر في الأبواب التي ربت على الخمسين باباً جملة من أنواع علوم القرآن، منها: الباب الأول: في ذكر بعض ما جاء في فضائل القرآن وأهله وأخلاقهم ونعوتهم وصفاتهم. الباب الرابع: في ذكر تأليف القرآن وجمعه في المصحف، ومن جمعه؟ وكيف جُمع؟ وما السبب الداعي إلى جمعه واجتماع الناس عليه؟ الباب العاشر: في ذكر تنزيل الكتب وترتيب نزول السورة المكية والمدنية، وكم نزلت منها بمكة، وكم نزلت بالمدينة؟ ... إلخ من الأبواب التي ذكرها في مقدمة كتابه.

سورةٍ ما، ولا يجد تفسير لفظة من الآية، فيظن أن المؤلف قد أهملها، وإنما تركها لأنه ذكرها في هذه المقدمة التي فسَّر فيها الألفاظ. وإذا كان القارئ يعلم عن منهج المؤلف، فإنه سيضطر للرجوع إلى هذه المقدمة ليعرف ما قاله المؤلف في بيان معنى هذه اللفظة، وهذا فيه تطويل في تحصيل الفائدة في غير مظنتها. وأما محاسن جمع تفسير الألفاظ في محلٍّ واحد، فمن جهة أن من أراد أن يقرأ مفردات القرآن عند ابن جزي يجدها مجموعة في مكان واحد. فوائد علمية مستخلصة من هذه المقدمة: يمكن استخراج النتائج والفوائد من هذه المقدمة التي جعلها تمهيداً للمقدمتين الأولى والثانية، فمن هذا الفوائد: 1 - تفريق المؤلف بين علوم التفسير وعلوم القرآن. 2 - أن علوم القرآن مقصد من مقاصد التأليف عند المؤلف؛ أي: ليس الكتاب تفسيراً، وإنما هو تفسير قصد فيه ذكر مسائل علوم القرآن. 3 - وضوح مقاصد تأليف الكتاب عند المؤلف. 4 - وضوح منهج المؤلف. 5 - عناية المؤلف بتحقيق الأقوال التفسيرية. 6 - اعتماد المؤلف على القواعد العلمية في الترجيح بين الأقوال.

الباب الأول: نزول القرآن الكريم

الباب الأول نزول القرآن الكريم قال رحمه الله: المقدمة الأولى: فيها اثنا عشر باباً، الباب الأول: في نزول القرآن وجمعه في المصحف ونقطه وتحزيبه وتعشيره وذكر أسمائه. في نزول القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أول ما بعثه الله بمكة، وهو ابن أربعين سنة إلى أن هاجر إلى المدينة، ثم نزل عليه بالمدينة إلى أن توفاه الله، فكانت مدة نزوله عليه عشرون سنة، وقيل: كانت ثلاثاً وعشرين سنة على حسب الاختلاف في سنِّه صلّى الله عليه وسلّم يوم توفي هل كان ابن ستين سنة؟ أو ثلاث وستين سنة؟ وكان ربما تنزل عليه سورة كاملة، وربما تنزل عليه آيات مفترقات، فيضم عليه السلام بعضها إلى بعض حتى تكمل السورة. وأول ما نزل عليه من القرآن: صدر سورة العلق، ثم المدثر والمزمل، وقيل: أول ما نزل المدثر، وقيل: فاتحة الكتاب، والأول هو الصحيح؛ لما ورد في الحديث الصحيح عن عائشة في حديثها الطويل في ابتداء الوحي قالت فيه: «جاءه الملك وهو بغار حراء قال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني وغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني ثم قال: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَا وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]، فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرجف

فؤاده فقال: «زمِّلوني زمِّلوني، فزمَّلوه حتى ذهب عنه ما يجد من الرَّوع» (¬1)، وفي رواية من طريق جابر بن عبد الله: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «زملوني، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} (¬2) [المزمل: 1]، وأما آخر ما نزل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]، وقيل: آية الربا التي في البقرة، وقيل: الآية قبلها (¬3). الفرق بين علوم القرآن وعلوم التفسير: علوم التفسير وعلوم القرآن بينهما فرق، ونعرفه إذا فهمنا المراد بالتفسير الذي هو (بيان معاني كلام الله)، فإذا جئنا إلى قوله تعالى: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2] فمعناه: أن الله سبحانه وتعالى أوجد هذا الإنسان من العلقة التي تتكون في رحم المرأة، وهذا هو التفسير؛ لأنه بيان للمعنى. أما إذا قلنا: إن هذه الآيات الخمس الأولى من سورة العلق، أولُ ما نزل من القرآن، وقال آخر: ليست أول ما نزل بل نزل قبلها {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1]؛ كما هو مروي عن جابر (ت:78هـ)، فإن هذا الخلاف لا يؤثر في فهم المعنى، وهذه المعلومة مرتبطة بالآية بلا ريب؛ فلا تكون من علوم التفسير، بل تكون من علوم القرآن. المقصود أن المعنى إذا كان لا يتم إلا بفهم معلومة معينة فنقول: إن هذه المعلومة من التفسير، وإذا كان المعنى يفهم بدون هذه المعلومة فهي من علوم الآية؛ أي: من علوم القرآن، وليست من علوم التفسير. وعلوم القرآن قد تكون من علوم السورة؛ كفضائلها، وعدد آياتها، واسمها. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، ورقم الحديث (6982). (¬2) رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه وردت في الصحيحين وغيرهما بلفظ: فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ينظر: صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، ورقم الحديث (4926). (¬3) التسهيل 1/ 51، 52.

وقد تكون من علوم الآية، كسبب نزولها، ومكان نزولها، ومشكلها، وما وقع فيها من النسخ ... إلخ. ومن أمثلة علوم السورة: فضائل السور، ومن ذلك فضل سورة البقرة التي ورد فيها عدد من الأحاديث، فإن المسلم إذا أراد أن يتعلم تفسيرها، ولم يكن يعرف فضائلها فإن جهله هذا بفضائلها لا يؤثر على فهمه للمعاني. ومن علوم الآية في هذا الموضوع فضل آية الكرسي، فإن المسلم لو لم يعرف فضلها فإن فهمه لن يتأثر بعدم هذه المعرفة. والمؤلف يحدثنا في هذا الباب عن نزول القرآن على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو نوع من علوم القرآن، ثم ذكر الخلاف المشهور في مدة بقاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم في مكة، فقيل: عشر سنوات، وقيل: ثلاث عشرة سنة، وهو الراجح، وتوفي وعمره ثلاث وستون سنة؛ كما رجحه المحققون، وعلى هذا تكون مدة نزول القرآن ثلاث وعشرون سنة. وقال في الفائدة التي بعدها: (وكان ربما تنزل عليه سورة كاملة)، مثل: سورة الكوثر وسورة الناس وسورة الفلق وسورة الفاتحة، وغيرها من قصار السور. قال بعدها: (وربما تنزل عليه آيات مفترقات، فيضم عليه السلام بعضها إلى بعض حتى تكمل السورة)، ولذا ورد قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا» (¬1)، وترتيب الآيات في السور كان بوحيٍ من الله سبحانه وتعالى إجماعاً؛ وإذا نظرت إلى سورة العلق فإنك ستجد أن الآيات الخمس الأولى من سورة العلق أنها كانت أول ما نزل في غار حراء، أما الآيات التي بعدها فهي متأخرة في النزول؛ لأنها تتحدث عن حدث ¬

(¬1) رواه الإمام أحمد في الحديث ذي الرقم (399) 1/ 460.

بعد إظهار الدعوة؛ لأنها تتكلم عن الرجل الذي ينهى (أبو جهل) عبداً إذا صلى (محمد صلّى الله عليه وسلّم)، وهذا كان بعد فترة طويلة، فجعلت هذه الآيات مع أول الآيات التي نزلت، فالرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يضم الآيات إلى الآيات في السورة. الخلاف في أول ما نزل: الصحيح أن أول ما نزل هو صدر سورة العلق. وقيل: أول ما نزل: المدثر، وهو مذهب الصحابي جابر بن عبد الله. وقيل: فاتحة الكتاب، وهذا قول ضعيف جداً؛ لكنه يذكر في كتب علوم القرآن. لكن الذي وقع فيه الخلاف صدر سورة العلق وصدر سورة المدثر، ولولا أثر جابر رضي الله عنه لما حُكِيَ الخلاف، وهذا الأثر فيه إشكال كبير، فإن جابراً سئل عن أول ما نزل؟ فقال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] فالسؤال عن الأولية مطلقاً، وبعض العلماء يخرِّجه على أولية مخصوصة، ويقول: إن جابراً رضي الله عنه أراد أنها أول ما نزل بالإنذار أو بالنبوة. والذي يظهر من خلال الأثر الذي ورد عن جابر، أن جابراً لم يعلم عن نزول الآيات في غار حراء، ويظهر أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يحدِّثه بنزول الآيات بل حدثه بمجيء جبريل عليه السلام إليه في غار حراء فقط، ثم حدَّثه بما حصل بعد هذا المجيء، فجابر رضي الله عنه حدَّث بما عَلِمَ، وظنَّ أن ما قاله الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو أول ما بدئ به في الوحي، ولو أخذناه على هذا المحمل فليس ـ في نظري ـ هناك مشكلة، وجابر رضي الله عنه لو كان يعلم أن المَلَكَ لما نزل في غار حراء قرأ على الرسول صلّى الله عليه وسلّم: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} لم يقل: (أول ما نزل سورة المدثر). ثم إن هذا مذهب فرد من الصحابة، والصحابي قد يقع منه الغلط، وليس له عصمة.

قوله: (وأما آخر ما نزل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]، وقيل: آية (الربا) (¬1) التي في البقرة، وقيل: الآية قبلها). آخر ما نزل على الإطلاق فيه خلاف، والتعبير بعبارة (آخر ما نزل) عند السلف على قسمين: القسم الأول: أن يكون مرادهم الآخرية المطلقة، وعليه قول بعضهم: آخر ما نزل سورة الكوثر. القسم الثاني: آخرية نسبية، وعليه قول بعضهم: (آخر ما نزل سورة المائدة، وهي محكمة)، ومراده أن جميع آياتها لا يوجد فيها نسخ. وقول بعضهم: «إن آخر آية نزلت آية الربا»، مراده الآخرية المطلقة، وهي من قوله تعالى: {الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} إلى قوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281]. ومن قال منهم: آخر آية نزلت قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281]، فإنه لا يخالف هذا القول؛ لأن الأول ذكر أول الآيات التي نزلت آخراً، والثاني ذكر آخر آية مما نزل آخراً. والذي ينتج من خلال بحث (آخر ما نزل) ما يأتي: 1 - أنه لا يوجد اتفاق على الآخرية المطلقة. 2 - أنه يوجد آخريات نسبيه كثيرة، كآخر ما نزل من آيات الربا، أو آيات الخمر، أو آيات الجهاد. ¬

(¬1) في المطبوع من التفسير: «آية الزنى»، وهو خطأ في قراءتهم المخطوط، والصحيح ما أثبت بعد مراجعة ثلاث مخطوطات للتفسير والمقدمة بتحقيق محمد بن مولاي، وهي مكتوبة بالألف الممدودة، وطبعات التفسير فيها أخطاء كثيرة، وهو يحقق الآن، ولعله يطبع قريباً.

3 - كل آخرية نسبية يقابلها أولية نسبية، وقد يقع الخلاف في بعض مواطن الأوليات النسبية؛ كالخلاف في آية الخمر الأولى، هل هي قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 67]، أو قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219].

جمع المصحف وكتابته

جمع المصحف وكتابته قال رحمه الله: وكان القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متفرقاً في الصحف، وفي صدور الرجال، فلما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قعد علي بن أبي طالب رضي الله عنهم في بيته فجمعه على ترتيب نزوله، ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير ولكنه لم يوجد. فلمَّا قتل جماعة من الصحابة يوم اليمامة في قتال مسيلِمة الكذاب أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن مخافة أن يذهب بموت القراء، فجمعه في صحف غيرَ مرتب السور، وبقيت تلك الصحف عند أبي بكر، ثم عند عمر بعده، ثم عند ابنته حفصة أم المؤمنين. وانتشرت في خلال ذلك صحف كتبت في الآفاق عن الصحابة، وكان بينها اختلاف، فأشار حذيفة بن اليمان على عثمان بن عفان رضي الله عنهما فجمع الناس على مصحف واحد خيفة من اختلافهم، فانتدب لذلك عثمان، وأمر زيد بن ثابت فجمعه وجعل معه ثلاثة من قريش: عبد الله بن الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وسعيد بن العاص بن أمية، وقال لهم: «إذا اختلفتم في شيء فاجعلوه بلغة قريش»، وجعلوا المصحف الذي كان عند حفصة إماماً في هذا الجمع الأخير، وكان عثمان رضي الله عنه يتعهدهم ويشاركهم في ذلك، فلمَّا كمل المصحف نسخ عثمان رضي الله عنه منه نسخاً، ووجَّهها إلى الأمصار، وأمر بما سواها أن تخرق أو تحرق، يروى بالحاء والخاء المنقوطة (¬1). ¬

(¬1) التسهيل 1/ 52، 53.

تحدث المؤلف عمَّا اصطُلح عليه «جمع القرآن»، وذكر حال القرآن في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: (وكان القرآن على عهد رسول الله متفرقاً في الصحف وفي صدور الرجال). وقوله: (في الصحف) فيه مشكلة؛ لأنه قد يُفهم منه أنه كان مجموعاً بأكمله في الصحف، والمعروف أنه لم يكن في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم مجموعاً كاملاً في الصحف فقط، وإنما كان في عدة أدوات من أدوات الكتابة مثل كتف البعير واللخاف الذي هو رقائق الحجر، وغيرها من الأدوات المتعاهدة عندهم، فكانوا يكتبون بأي شيء يمكن أن يكتب فيه. والقرآن كتب في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم تحت إشرافه صلّى الله عليه وسلّم؛ ولهذا حفظ في عهده مقروءاً ومكتوباً، وهذا ما أشار إليه المؤلف بقوله: (متفرقاً في الصحف وفي صدور الرجال). ويعني بقوله: (وفي صدور الرجال): ما يقرؤونه من المحفوظ في صدورهم. ومن المسائل المتعلقة بجمع القرآن في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم: أولاً: يلاحظ أن هناك آيات في القرآن نزلت وهي تشير إلى حفظ القرآن في السطور؛ بمعنى أن القرآن سيكون محفوظاً فيما بعد في الكتب، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} [البينة: 2]، وكذلك قوله سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2]، ولا يسمى الشيء كتاباً إلا إذا كان مكتوباً، وفي القرآن غيرها من الأدلة التي تنصُّ على أنه سيكون مكتوباً مدوَّناً. ثانياً: أن الحفاظ كانوا أكثر من الكتاب في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فالاعتماد على الحفظ كان أكثر من الكتابة، وهذه قضية مهمة؛ لأن

المؤلف سيشير إلى شيء من ذلك فيما بعد، وأريد أن أُبرز هذا الجانب؛ لأنه مهم، فأقول: الأصل في القرآن القراءة المحفوظة في الصدور، وليست الكتابة، فنحن عندما نتعلم القرآن ننطلق من المقروء، كما كان الأمر عند الصحابة الذين تلقوا القرآن مشافهة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يأخذوه من كتاب، لذا نقول: هم ينطلقون مما يسمعونه من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ثم يكتبه بعضهم. ولم يُعهد عنهم أنهم اعتمدوا المكتوب دون المحفوظ في الصدور، وهذه قاعدة مهمة يجب أن نتنبه لها، فنعلم أن أي خطأ ينسبُهُ الملاحدة والمستشرقون إلى كتابة المصحف، أو الزعم بأن الرسم يحتمل قراءات متعددة، وكان ذلك هو السبب في تعدد القراءات؛ نعلم أنه يدل على خطأ مَنْ نسبَ الخطأَ إليها؛ لأن المكتوب لا يؤثر على المحفوظ في الصدور المتلقَّى مشافهة من النبي صلّى الله عليه وسلّم. والذي أريد تقريره أن الأصل في القرآن عندنا أننا ننطلق من المحفوظ المقروء وليس من المكتوب، ويدل على ذلك أمور: 1 - أن القرآن لم يجمع في مصحف في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإنما جمع متفرقاً، وكذلك كان مبثوثاً في صدور حفظة القرآن. 2 - أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتفاوتون في حفظه، فمنهم من كان يحفظه كاملاً مثل زيد بن ثابت رضي الله عنه (ت:45هـ)، ومنهم من كان يحفظ بعضه، ومن ثمَّ فإن جمهور الصحابة لا يخفى عليهم القرآن، وإن كان قد يخفى بعضُه على بعضِهم. 3 - أن التلقي بالمشافهة كانت هي الأصل الذي انتقل به القرآن جيلاً بعد جيل، وهناك آثار تدل على حرص الصحابة على تلقي القرآن مشافهة من النبي صلّى الله عليه وسلّم. ثالثاً: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يشرف على كتابة القرآن، إن لم يكن

قارئاً، فقد كُتِب بين يديه، وكان يراجعه على جبريل يعارضه؛ لذا فإن الأصل ألا يتعدى الصحابة ما تعلموه من الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنه هو الذي وكِلت إليه مهمة بيان القرآن وتعليمه للناس، وهذه قاعدة كلية يجب استصحابها في كل ما يتعلق بالقرآن، مثل ما يتعلق بترتيب آياته وسوره، وما يقال بعد ذلك يكون خلاف الأصل. ومن أدلة ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه، عن ابن الزبير: «قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] قَدْ نَسَخَتْهَا الآيَةُ الأُخْرَى، فَلِمَ تَكْتُبُهَا أَوْ تَدَعُهَا؟! قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، لاَ أُغَيِّرُ شَيْئاً مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ». قوله: (فلما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قعد علي بن أبي طالب رضي الله عنهم في بيته فجمعه على ترتيب نزوله). هذا الأثر الوارد عن علي رضي الله عنه أنه جلس في بيته وجمع القرآن وكتب مصحفه على ترتيب النزول ليس بصحيح، وقد ضعفه ابن حجر (ت:852هـ) لانقطاعه، ثم قال: (وعلى تقدير أَن يكون محفوظاً فمراده بجمعه: حفظه في صدره)، ثم قال: (وما تقدم من رواية عبد خير عن علي أصح، فهو المعتمد) (¬1)، ويقصد برواية عبدِ خيرٍ: ما رواه ابن أبي داود (ت:316هـ) في المصاحف بسند حسن عن عبد خير قال: سمعت عليّاً يقول: «أعظم النَّاس فِي المصاحف أجراً أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع كتاب الله» (¬2). ¬

(¬1) فتح الباري، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، ورقم الحديث (4986) 8/ 629. (¬2) المصاحف لابن أبي داود، 1/ 154.

والمقصود من هذا: أن هذا الأثر لا يصح، وليس فيه حجة أو عمدة لمن يحتج بأن علياً رضي الله عنه كان له مصحف كاملٌ. أما قول المؤلف: (ولو وجد مصحفه لكان فيه علم كبير ولكنه لم يوجد) فهذا غريب، فأي علم سيوجد في مصحف علي رضي الله عنه؟ فإن قصارى الأمر أنه سيكون فيه رأي عليٍّ رضي الله عنه في ترتيب نزول القرآن، والاختلاف في ترتيب النزول أمر مشهور ومعروف. فإن قيل: لعل فيه تعليقات وتفسيرات من عليٍّ رضي الله عنه. الجواب: إن الأصل أن الصحابة لم يكونوا يكتبون مع القرآن غيره، وإنما جاءت هذه الشبهة في أن الصحابة كانوا يكتبون بعض تفسيراتهم، وهو ما اصطُلح عليه باسم «القراءات التفسيرية»، لِمَا وُجِد من بعض القراءات الشاذة مثل: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» فكلمة «متتابعات» قراءة شاذة، وليست تفسيراً؛ لأن من رواها نصَّ على أنها قراءة، وليست من قبيل التفسير، ومن الآثار في ذلك: في «مصنف ابن أبي شيبة»: «ابن علية عن ابن عون قال: سألت إبراهيم عن صيام الثلاثة أيام في كفارة اليمين، قال: في قراءتنا «فصيام ثلاثة أيام متتابعات»». وفيه: «وكيع عن أبي جعفر عن الربيع عن أبي العالية قال: كان أبي يقرؤها: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات»» (¬1). وفي رواية يحيى الليثي لموطأ مالك، قال: «وحَدَّثَنِي عَنْ مَالِك عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ الْمَكِّيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ مُجَاهِدٍ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَجَاءَهُ إِنْسَانٌ فَسَأَلَهُ عَنْ صِيَامِ أَيَّامِ الْكَفَّارَةِ أَمُتَتَابِعَاتٍ أَمْ يَقْطَعُهَا؟ قَالَ حُمَيْدٌ: فَقُلْتُ لَهُ: نَعَمْ يَقْطَعُهَا إِنْ شَاءَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لا يَقْطَعُهَا، فَإِنَّهَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ»» (¬2). ¬

(¬1) المصنف، كتاب الأيمان والنذور، ورقم الحديثين (12501، 12503). (¬2) الموطأ، 155.

وبعض العلماء خرّج هذا تخريجاً عقلياً فقال: إن هذه القراءة قراءةٌ تفسيرية، لكن لا يوجد في الآثار إشارة إلى أن أحداً من الصحابة كتب في مصحفه غير القرآن. المقصد أن علياً رضي الله عنه لو كتب مصحفه على ترتيب النزول فإنه لا يوجد شيء من العلم الذي ذكره ابن جزي إلا معرفة ترتيب النزول فقط على رأي علي بن أبي طالب رضي الله عنه (ت40هـ)، ومعلوم أن ترتيب النزول فيه خلاف بين الصحابة، وعليٌّ رضي الله عنه (ت40هـ) من أعلم الصحابة بالقرآن والنزول، كما ذكر ذلك عن نفسه، وكذلك ابن مسعود رضي الله عنه (ت32هـ) من أعلم الصحابة بالقرآن وفيمن نزل القرآن، لكن عندما يتعارض قول صحابي مع آخر فإنه لا يمكن اعتماد قول أحدهما إلا بحجة. قوله: (فلما قتل جماعة من الصحابة يوم اليمامة في قتال مسيلمة الكذاب أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن مخافة أن يذهب بموت القراء فجمعه في صحف غير مرتب السور). قوله: (فجمعه في صحف غير مرتب السور) هذا قول بعض أهل العلم، لكن فيه نظر، إذ لا يوجد دليل صريح عن أحد من الصحابة أن مصحف أبي بكر رضي الله عنه (ت13هـ) غير مرتب السور، وإن كان الأثر الذي رواه الإمام أحمد وغيره، عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قُلْتُ: لِعُثْمَانَ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الأَنْفَالِ، وَهِيَ مِنَ «الْمَثَانِي» (¬1)، ¬

(¬1) ورد في هذا الأثر ذكر أقسام لسور القرآن، وقد وردت قسمة رباعية في الأحاديث، وعليها عمل الصحابة، وهي: السبع الطوال، فالمئين، فالمثاني، فالمفصل. وقد ذُكر في هذا الأثر ثلاثة منها. ومما يلاحظ أن مصطلح المثاني يُطلق ثلاثة إطلاقات، ولكل إطلاق اعتبار خاص؛ لذا لا يوجد بينها تناقض: الأول: أن المثاني سورة الفاتحة؛ لأنها تثنى في كل ركعة، وقد صح الخبر في ذلك الإطلاق عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «... {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هِيَ =

وَإِلَى بَرَاءَةٌ، وَهِيَ مِنَ «الْمِئِينَ»، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَوَضَعْتُمُوهَا فِي «السَّبْعِ الطِّوَالِ»، فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم مِمَّا يَاتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ مِنَ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ لَهُ، فَيَقُولُ: «ضَعُوا هَذِهِ فِى السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا». وَإِذَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الآيَاتُ قَالَ: «ضَعُوا هَذِهِ الآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا». وَإِذَا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ قَالَ: «ضَعُوا هَذِه الآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا» (¬1). وَكَانَتِ الأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَةٌ مِنْ أَوَاخِرِ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ. قَالَ: فَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهاً بِقِصَّتِهَا، فَظَنَنَّا أَنَّهَا مِنْهَا، وَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ»، قد يعتمد عليه من يرى أن ترتيب السور بالاجتهاد، إلا أن هذا الأثر يمكن النظر فيه من خلال النقاط الآتية: ¬

= السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ» رواه البخاري وغيره. الثاني: أنها السبع الطوال، وقد ورد هذا عن جمع من الصحابة كابن مسعود وابن عمر وابن عباس، وغيرهم من السلف، وقد ورد هذا في تفسيرهم لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] من سورة الحجر، وسُميت مثاني؛ لأنها تثنَّى فيها المواعظ والقصص والأحكام، كما ذكر الطبري في توجيه هذا القول عند تفسير آية الحجر. الثالث: القرآن كله، ومعنى كونه مثاني؛ أي: يشبه بعضه بعضاً، وهو قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]، وسمي القرآن كله مثاني؛ لأنه تُثنى فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحجج، كما وجَّه ذلك الإمام الطبري في تفسير آية الزمر. (¬1) المسند برقم (399) 1/ 460.

أولاً: أن سبب سؤال ابن عباس رضي الله عنه هو ترك سطر البسملة بين السورتين. ثانياً: أن ابن عباس رضي الله عنه ينسب هذا العمل إلى عثمان رضي الله عنه بقوله: «لم عمدتم»، ويحتمل أن يريد به عثمان رضي الله عنه واللجنة التي كلفها أيضاً. ثالثاً: أن قصارى الأمر أن الذي لم يبلغهم ترتيبه هو سورة الأنفال وبراءة، فاجتهد عثمان رضي الله عنه في وضعهما في السبع الطوال، وحذف سطر البسملة لاحتمال كونهما سورة واحدة. ويحسن هنا أن نستحضر تفسير بعض السلف لقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] أنها السبع الطوال، وهذا يعني أن من مصطلحاتهم في أسماء السبع الطوال أنها السبع المثاني؛ لأنها تثنَّى فيها المواعظ والعبر والقصص، قال الطبري: «وقائلو هذه المقالة مختلفون في المثاني، فكان بعضهم يقول: المثاني هذه السبع، وإنما سُمِّين بذلك لأنهنَّ ثُنِّي فيهنّ الأمثالُ والخبرُ والعِبَر. * ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن يونس، عن ابن سيرين، عن ابن مسعود في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} قال: السبع الطُّوَل. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن سعيد الجريريّ، عن رجل، عن ابن عمر قال: السبع الطُّوَل. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يَمان، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} قال: السبع الطُّوَل» (¬1). وها أنت ترى ثلاثة من الصحابة قد أطلقوا على «السبع الطوال» ¬

(¬1) تفسير الطبري (تحقيق التركي) 14/ 107، 108.

مصطلح «المثاني»، وإذا صحَّ ذلك، فلا مانع من أن ابن عباس أراد بالمثاني في هذا الأثر السبع الطوال، خصوصاً أنه قد ورد التفسير عنه بذلك في تفسير آية الحجر. وإذا كان ذلك كذلك، فإن ابن عباس لا يخالف في كون الأنفال من السبع الطوال التي سماها السبع المثاني، وإنما يسأل عن عدم جعل البسملة بين سورة من الطوال، وسورة من المئين، وهي التوبة. وكأن عثمان يقول: إني نزعت سطر البسملة بينهما، وظننت أنهما سورة واحدة مكملة للسبع الطوال، والله أعلم. وبعد، فإن الأظهر أن يكون مصحف عثمان منتسخاً من مصحف أبي بكر على ما هو معروف الآن من ترتيب، والأصل أن ترتيب كل ما يتعلق بالقرآن من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكذا مصحف أبي بكر، ومن ثَمَّ فإنه يكون على ما كان عليه القرآن في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ولا يعكِّر على هذا إلا هذا الأثر الذي يشير إلى عدم معرفة ترتيب سورتي الأنفال والتوبة. ولقد كان الكاتب زيد بن ثابت رضي الله عنه (ت45هـ) الذي ذُكِر أنه حضر العرضة الأخيرة، من أعلم الصحابة بالقراءة وبالمنزَّل على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو الذي كتبه في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي عهد أبي بكر بمعونة عمر رضي الله عنه (ت23هـ)، ثم كتبه في عهد عثمان رضي الله عنه (ت35هـ)، ولم يرد عن واحد منهم أن ما فعله عثمان يخالف ما فعله أبو بكر؛ لأن عمل عثمان هو النسخ فقط كما يدل عليه أثر حذيفة في جمع الناس على مصحف (¬1)، ولم يرد أن ما فعله أبو بكر يخالف ما كان على عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإذا لم يرد هذا، فالأصل البقاء على الأصل، والأصل أن يكون المصحف في عهد ¬

(¬1) وردت مادة نسخ متعددة بتصريفاتها في أثر حذيفة: «ننسخها، فنسخوها، نسخوا» مما يدل على أن عمل لجنة عثمان رضي الله عنهم إنما كان النسخ من مصحف أبي بكر رضي الله عنه.

الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما هو في عهد عثمان رضي الله عنه، وأي خلاف يورد في هذا يحتاج إلى دليل صريح، لذا فإن القول بأن القرآن في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن معروف الترتيب، أو أن المصحف في عهد أبي بكر رضي الله عنه غير مرتب السور، قولٌ فيه نظر. قوله: (وانتشرت في خلال ذلك صحف كتبت في الآفاق عن الصحابة، وكان بينها اختلاف، فأشار حذيفة بن اليمان على عثمان بن عفان رضي الله عنهما فجمع الناس على مصحف واحد خيفة من اختلافهم). ذكر المؤلف رحمه الله انتشار الصحف في عهد عثمان، ولكن لا يعني هذا تكاثر المصاحف كما نشاهده اليوم في مساجد المسلمين، بل هو انتشار نسبي؛ أي: أنها بالنسبة إلى ما قبلها من عام (25هـ) أكثر، وإلا فإن القراءة من خلال الحفظ في عهد عثمان أكثر رضي الله عنه من القراءة من خلال الصحف. ومع أن الكتابة صار لها انتشار إلا أنها لم تصل إلى أن تكون الصحف أصولاً يُرجع إليها ـ كما هو الحال اليوم ـ فما زال المقروء من الصدور سائداً في العالم الإسلامي، والقرآن يتلقى من خلال أفواه القراء. ولما لاحظ حذيفةُ بن اليمان رضي الله عنه (ت36هـ) في فتح أرمينية القَرَأةَ يختلفون، كما ورد في الأثر عنه: «... وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ» (¬1)، ولم يكن لهم أصل يرجعون إليه لمعرفة الصحيح من غيره، كما كان الحال لما وقع ـ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه (ت23هـ) وأبي بن كعب رضي الله عنه (ت30هـ) ـ الاختلاف في القراءة؛ رجعا إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فبيَّن لهما صحَّة قراءتهما مع اختلافها، فإذا كان قد وقع ذلك ممن حضر التنزيل ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، ورقم الحديث (4987).

وشاهده، فما بالك بمن جاء بعدهما، وليس هو بإيمان عمرَ رضي الله عنه ولا بإيمان أبيِّ بن كعب رضي الله عنه (ت21هـ)، لذا فإن وقوع التلاحي في قراءة القرآن في عهد قريب من عهد النبوة أمر غير مستغرب، خصوصاً إذا علمنا أن الذي وقع بينهم هم أناس من التابعين، وقد يكون بعضهم ليس من أهل العلم إنما سمع وأخذ عن بعض الصحابة، ثم انتقل يغازي، وليس عنده من العلم الشيء الكبير، فإذا قرأ هو بقراءة، وقرأ الآخر بقراءة تخالفه، واعترض هذا على ذاك، وذاك على هذا، فعندئذ يبدأ التنازع، وتظهر المشكلة. لما أشار حذيفة (ت36هـ) على عثمان (ت35هـ) أن يجمع الناس على مصحف واحد انتدب لهذا أربعة وهم: 1 - زيد بن ثابت رضي الله عنه (ت45هـ) الذي كتب في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وكان الكاتب الخاص للوحي، وهو الذي كتبه في عهد أبي بكر وكتبه في عهد عثمان. 2 - عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ (ت73هـ). 3 - سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ (ت59هـ). 4 - عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَام. وهؤلاء الثلاثة من قريش كانوا يُملون عليه ويراجعون معه، وقال لهم: «إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم» (¬1)، فأعطاهم عثمان منهجاً عاماً في الكتابة. ثم قال المؤلف بعدها: (وجعلوا المصحف الذي كان عند حفصة إماماً في هذا الجمع الأخير). ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، ورقم الحديث (3506).

كان عمل هؤلاء الصحابة هو النسخ كما قال زيد بن ثابت رضي الله عنه (ت45هـ): «فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ... حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان المصحف إلى حفصة» (¬1)، فلم يضيفوا شيئاً جديداً، ثم بعد اكتمال النسخ أرسلوا نسخاً إلى الأمصار، وحرَّق ما سواها، فجمع ما عند الصحابة من نسخ وأحرقها إلا ابن مسعود رضي الله عنه الذي انفرد بالاعتراض ـ فكان موقفه فرديّاً، فاحتفظ بمصحفه واستشهد بقوله: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَاتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] وتبنى هذا الموقف ومات عليه؛ ولذا بقيت كثير من القراءات التي تنسب إلى ابن مسعود (ت32هـ) تخالف مصحف عثمان وإن كان يوجد قراءات غيرها تخالف مصحف عثمان كقراءة أُبَيّ (ت21هـ) أو أبي الدرداء (ت32هـ) لكن أكثر الموجود مما يخالف مصحف عثمان هو مما روي عن ابن مسعود. والحكمة التي أرادها عثمان من حرق المصاحف ألا يبقى شيء يخالف المصحف الذي أجمع عليه الصحابة وكتبوه في هذه المصاحف. وكان عدد النسخ التي كتبت ـ على الصحيح ـ ستة: 1 - نسخة اختص بها عثمان، وهي التي قُتل، وهي بين يديه يقرأ منها. 2 - نسخة جعلها بين يدي زيد يقرئ بها أهل المدينة. 3 - نسخة لأهل الكوفة. 4 - نسخة لأهل مكة. 5 - نسخة لأهل البصرة. 6 - نسخة لأهل الشام ومما يلحظ أن هذه الأمصار التي ذهبت إليها النُّسَخ هي التي خرج منها القراء، وهي التي اعتُمد عليها في عدِّ الآي. ¬

(¬1) هذا القول جزء من الحديث السابق، صحيح البخاري، رقم الحديث (4987).

ويُذكر نسخة لأهل البحرين، ونسخة لأهل اليمن، لكن لا يوجد أي ذِكْرٍ لما في هذه النسخ من رسم في الكتب، والخبر بها منقطع، ولعله ليس بصحيح. الفروق في مصاحف عثمان الستة: أما الفروق التي نجدها في المصاحف من جهة الرسم فمتعددة، ومنها ما لا علاقة له بالرسم مباشرة؛ لاتفاقه في الرسم واختلافه في النطق، ومن ذلك أن قريشاً لا تهمز، وغيرها يهمز؛ ولذا جاءت قراءة المكي ابن كثير (ت120هـ) بغير الهمز، فكلمة (يومنون) تكتب هكذا بغير همز؛ لأن الهمز من علم الضبط الذي حدث بعد الصحابة رضي الله عنهم (¬1)، وهي تحتمل قراءة من يهمز ومن لا يهمز. ومن الفروق ما وقع من خلاف في باب المقطوع والموصول، مثلاً (إنما) هل تكتب متصلة أم منفصلة؟ وكذلك «ألاَّ» كتبت في مواطن متصلة وفي مواطن أُخَرَ كتبت منفصلة «أن لا»، وكذا تاء التأنيث بالتاء المفتوحة أو المربوطة وقع فيها خلاف، وغيرها مما يدخل في باب الموصول والمفصول. ومن الفروق ـ كذلك ـ زيادة الكلمة أو نقصانها مثل: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا} جاءت في مصحفٍ كذا، وفي مصحف آخر {تَجْرِي تَحْتَهَا}. ¬

(¬1) مما يؤسف عليه أن كثيراً من المعتنين بحفظ القرآن لا يعرفون مثل هذه الأمور، ولا يدرون ما الذي كان من عمل الصحابة رضي الله عنهم، وما الذي حدث بعدهم، فالهمز ـ مثلاً ـ هو من فعل علماء الضبط، وكانوا يضعونه بلون مغاير للسواد تمييزاً له عما هو من عمل الصحابة، وكذا غيره مما يدخل في علم الضبط، فإنه كان يُعمل بلون مغاير للسواد ليتميز ما كان من عمل الصحابة مما كان من عمل غيرهم، وقد أبدع الدكتور أحمد شرشال في إخراجه لكتاب أبي داود سليمان بن نجاح «مختصر هجاء التنزيل» حيث أخرجه على هذه الشاكلة، وهو من مطبوعات مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.

ولا يخالف هذا ما تقرَّر من أن الأصل اتباع المحفوظ وتقديمه على المرسوم؛ لأن المرسوم في هذه القضايا المعينة صار أصلاً يُعتمد عليه في القراءة، فيتبع كل قوم ما وقع من الرسم عندهم، ولا تعارض بين ذلك، فمن كان في مصحفه «وأوصى» فإنه يقرأ كذلك، ومن كان في مصحفه {وَوَصَّى} فإنه يقرأ كذلك، وهذا مما يقع فيه اتِّباع الرسم اتباعاً تامّاً. وأما ما عدا ذلك فإنه يعود إلى المحفوظ، خصوصاً أن هناك قضايا صوتية كثيرة لا يمكن رسمها، وإنما حدث ضبطها ـ بعد جيل الصحابة ـ بعلم الضبط، ومثال ذلك أن القارئ بالإمالة أو الفتح في قوله تعالى: {وَالضُّحَى} لا يختلف الرسم بينهما ألبتة. والمقصود أن هذه الأمور إنما تؤخذ عن مشافهة القارئ، فالقراءة ما زالت هي الأصل، والمرسوم رتبة ثانية. ومما يحسن بالباحث أن يستوعب قضايا الرسم التي في مصاحف عثمان، ويعرف ما كان من رسم الصحابة مما جاء بعدهم من باب الضبط؛ لكي لا يقع في بعض الأخطاء الطريفة؛ كمن يقول: وكتبوا في مصحف {فَتَبَيَّنُوا} وفي مصحف «فتثبّتوا»، فإن هذا غلط؛ لأن النقط ليس من عمل الصحابة رضي الله عنهم، ولا هو مما يتعلق بالرسم. هل ألزم عثمان رضي الله عنه الناس بحرف واحد؟ لما نسخ عثمان رضي الله عنه هذه المصاحف لم يلزم الناس بحرف واحد مما نزل، ومن قال بذلك اعتمد على قوله: «فاكتبوه بلسان قريش»، ولكن الصحيح أنه أراد بذلك أن يكون الرسم موافقاً للقراءة الأُولى التي نزل بها القرآن، وهي قراءة قريش، ثم إنه إذا كتب بعد ذلك برسم فإن ذلك لا يمنع أن يقرأ بما يخالف الرسم ولو احتمالاً، بدليل أنهم ينصُّون في كتب الرسم على أن بعض الألفاظ كتبت بوجه واحد في جميع

المصاحف، ووقع خلاف بين القراء في القراءة، فقرئت بأكثر من وجه؛ مثل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، فقوله: {الصِّرَاطِ} كتبت في جميع المصاحف بالصاد لكن القراءة فيها ثلاثة أوجه: الصاد، والسين، وإشمام الصاد زاياً. والسين يمكن أن تكتب، لكنهم لم يكتبوها في مصحف كما هو الحال في بعض ما تعددت قراءته، وقد وقع الاتفاق على أن قراءة السين ثابتة، ويُقرأ بها ولو لم تكن مكتوبة. أما إشمام الصاد زاياً، فهي تكتب بالصاد، والإشمام مسألة صوتية لا يمكن رسمها، لكن يقع ضبطها في علم الضبط بعد ذلك. ومما كُتب في جميع المصاحف بوجه واحد وقرئت بأكثر من وجه كلمة «ضنين» في قوله: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24] كتبت في جميع المصاحف بالضاد، وقرئت بقراءتين بالظاء والضاد، فلا يقال: من قرأ بالظاء فقد خالف رسم المصحف؛ لأن الأصل في مثل هذا ما ثبتت قراءته، وإن لم يوافق الرسم موافقةً تامة، لذا نقول: إن ما هو مسند إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وثابتٌ عند القراء ومشتهر بينهم ومُتَلقًّى بالقَبول، فإنه هو الصحيح المعتمد، والرسم إنما هو ضابط للمقروء، أما لو صح السند إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولم يُتلق بالقبول، فإنه يردُّ، ويُعتدُّ برده بالرسم إن كان مخالفاً؛ كالقراءة التي ذكرها أبو الدرداء فيما رواه البخاري أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قرأ: «والذكر والأنثى» (¬1) في قوله: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل: 3] فلا يمكن أن نقرأ بـ «والذكر والأنثى» مع أنها ثابتة في الصحيح؛ لأننا لا نجد في مصحف من المصاحف أنها كُتِبت «والذكر والأنثى»، أما قوله: {تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} [التوبة: 100] أو (مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ) [التوبة: 100] فقد أجزناها ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في كتاب التفسير، ورقم الحديث (4944).

بالحذف؛ لأنها في أحد المصاحف العثمانية هكذا، وأجزناها بإثبات «مِن»؛ لأنها في بقية المصاحف العثمانية هكذا، لكن «والذكر والأنثى» لا توجد في أي مصحف من المصاحف التي أرسلها عثمان، ولهذا لا يقرأ بها لأنها لم تشتهر في الرواية، ولمخالفتها للمرسوم، وإذا كانت مخالفة للمرسوم فستكون مخالفة للمقروء المشهور. وهذه القراءة «والذكر والأنثى» نثبت أنها قراءة قرأ بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم لكنها نسخت، فأي قراءة ثبتت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يقرأ بها القراء بالطرق المشتهرة المقبولة عندهم، فإن ذلك يدل على أنها مما نسخ، وطريقة معرفة نسخها أنها لا توجد في مصحف عثمان، والأصل في القرآن تلقيه من النبي صلّى الله عليه وسلّم قراءة أو نسخاً أو ترتيباً، ولا يمكن لأحد أن ينسخ منه شيئاً أو يزيل منه حرفاً واحداً؛ لأن هذه مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن رب العالمين. فإن قال قائل: إن عثمان رضي الله عنه عمل هذا العمل كله لأجل اتقاء الاختلاف في القراءة، ولكن القراءة لم تتحد بعده، فما زالت مختلفة فما الفائدة من عمل عثمان رضي الله عنه؟ نقول: يجب أن ننتبه لملحوظة مهمة وهي أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم توفي والقراءات الثابتة لا يعلمها إلا بعض الصحابة، ثم كُتب المصحف في عهد أبي بكر ـ ولم يكتب إلا ما ثبتت قرآنيته ـ ولم يُلزم الناس به؛ لأن عمل أبي بكر إنما كان لحفظ المقروء في السطور، ثم جاء عهد عمر رضي الله عنه ولم يقع إلزام منه بما في مصحف أبي بكر، وإن كان قد وقع منه نهيٌ لبعض الصحابة أن يقرؤوا ببعض الأحرف، وكذلك في أول عهد عثمان رضي الله عنه لم يكن منه إلزام للأمة بشيء من هذه الأحرف، فكل واحد من الصحابة يقرأ بما سمعه وثبت عنده عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فابن مسعود رضي الله عنه يقول: «والله لقد أخذت من فيِّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضعاً وسبعين

سورة» (¬1)، فهو يقرئ بما سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يتنازل عن قراءةِ وإقراء ما سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى مات، فابن مسعود وغيره من الصحابة كانوا يُقرئون بما سمعوا، ولذا انتشر المنسوخ بسبب عدم وجود المرجعية لما هو ثابت عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم في العرضة الأخيرة، ولما تفاقم الأمر جمع عثمان رضي الله عنه الناس على الثابت من هذه الأحرف عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فثبَّت لنا عثمان رضي الله عنه مصدراً ومرجعية في معرفة القرآن الذي ثبت والقرآن الذي نُسخ، ولم يعتمد في ذلك على اجتهاده، بل اعتمد على مصحف أبي بكر، وأبو بكر اعتمد على ما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ به ومات وهو من القرآن، وما عدا ذلك مما لم يجمعه الصحابة ويتفقوا عليه فإنه يدخل في باب المنسوخ. وبفعل عثمان من تثبيت الصحيح الباقي من المقروء دون المنسوخ، توقفت القراءات الصحيحة المنسوخة التي قرأ بها النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يقرأ بها الصحابة بعد فعل عثمان رضي الله عنه، وتوقَّف الإقراء بها، فلا يوجد أحد يقرأ بتلك القراءات مثل (والذكر والأنثى) وغيرها. ثم بعد ذلك العملِ الذي قام به عثمان والصحابة رضي الله عنهم فإنه إذا خرج مجاهد في سبيل الله من الكوفة، وآخر من الشام، وقرأ الكوفي بقراءة تخالف قراءة الشامي فإنهم كلهم ينسبون القراءة إلى مرجع معتبر عندهم، وهو المرجع الذي اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم، وهذا الاتفاق في المرجعية لم يكن موجوداً قبل نسخ المصاحف. هل بقي شيء من مصاحف عثمان الستة؟ لا يصح وجود شيء من هذه المصاحف الستة التي أمر عثمان رضي الله عنه بكتابتها، مثل مصحف طشقند الذي ينسب إلى عثمان ليس بصحيح، لكنه كتب على نسق المصاحف العثمانية. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، ورقم الحديث (5000).

تنبيه: إن الأصل في علم الرسم هو استقراء المصاحف العثمانية، فهي المصدر الوحيد لمعرفة علم الرسم، لكنها غير موجودة الآن، فصار عندنا مصدر النقل عن بعضها، وهو ما قام به مثل أبي عبيد (ت224هـ) وغيره ممن اطلع على مصحف من هذه المصاحف، فحكوا ما في هذه المصاحف من الرسوم، فصارت حكايتهم مصدراً من مصادر علم الرسم، ثم تتابع العلماء يكتبون على حسب ما حكي في كتب الرسم. فائدة: هناك من علماء الخط مثل ابن البواب (ت423هـ) وغيره ممن كتب المصاحف لم يلتزموا فيها بالرسم العثماني، بل كتبوها بالإملاء المتعارف عندهم، وأهل المغرب كانوا يعتنون بالرسم أكثر من أهل المشرق. ومن أنفس الكتب في الرسم ما طبع في مجمع الملك فهد رحمه الله الذي هو كتاب «الطراز شرح ضبط الخراز»، وهو أصل من الأصول التي اعتمد عليها في المصاحف المطبوعة في عصرنا.

ترتيب السور

ترتيب السور قال رحمه الله: فترتيب السور على ما هو الآن من فعل عثمان وزيد بن ثابت والذين كتبوا معه المصحف، وقد قيل: إنه من فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك ضعيف ترده الآثار الواردة في ذلك (¬1). الخلاف في ترتيب السور على قسمين: 1 - منهم من يرى أن العمل من الصحابة. 2 - منهم من يرى أنه من الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وإذا رجعنا إلى الآثار التي وردت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم نجد أن كثيراً منها قد جاء بترتيب السور على حسب المعروف عندنا اليوم، يقول صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» (¬2)، ويقول: «اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران» (¬3)، وهي كذلك اليوم في المصاحف. وما دام النبي صلّى الله عليه وسلّم قد نطق بسورٍ مرتبة حسب ترتيب المصحف، فإن ما لم يرد إلا من طريق الصحابة في عملهم يُحمل على هذا المنصوص عليه، كالوارد عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: «بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفُ وَمَرْيَمُ وَطَهَ وَالأَنْبِيَاءُ هُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الأُوَلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلاَدِي» (¬4). ¬

(¬1) التسهيل 1/ 53، 54. (¬2) رواه البخاري في صحيحه في كتاب صفة الصلاة، برقم 756. (¬3) أخرجه مسلم، كتاب فضائل القرآن، ورقم الحديث (804). (¬4) رواه البخاري في كتاب التفسير، تفسير سورة الأنبياء برقم (4739).

وهذه الآثار تدلُّ على أن الصحابة أخذوا ترتيب السور من النبي صلّى الله عليه وسلّم. وكان من أعلمهم بترتيبها زيد بن ثابت (ت45هـ) الذي كان من أخص كتَّابِ المصحف بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم، هذا مع ما ذُكر أنه قد حضر العرضة الأخيرة (¬1)، لذا فهو أبصر بأمور المصحف من غيره من الصحابة، ولعله لهذا السبب كان في لجنة المصحف في عهد أبي بكر رضي الله عنه، ثم في عهد عثمان رضي الله عنه. والصحيح أن مصحف أبي بكر كان مرتب السور، وذهب بعض العلماء الكبار أنه لم يكن مرتب السور، ويقولون: كان مرتب الآيات باتفاق، والذين قالوا بأن ترتيب السور كان بالاجتهاد اعتمدوا على مجموع أدلة نذكرها، ثم نذكر الرد عليها بإيجاز: 1 - منهم من ذكر أن مصاحف الصحابة رضي الله عنهم مختلفة بالترتيب. والجواب عن ذلك أن يقال: أولاً: إن مصاحف الصحابة رضي الله عنهم خاصة بهم، ولم يلزم واحد منهم بما في مصحفه من الترتيب؛ لأنه كان يكتبه لنفسه، والصحابي عندما كان يكتب لم يكن ملتزماً بالترتيب، وإنما وقع الالتزام بذلك بعد مصاحف عثمان رضي الله عنه المتفق عليها (¬2). ¬

(¬1) العرضة الأخيرة هي آخر قراءة للنبي صلّى الله عليه وسلّم على جبريل عليه السلام، وقراءة جبريل عليه أيضاً، وقد ورد في الحديث الصحيح، ومن ذلك ما ورد في صحيح البخاري، قال: «باب: كَانَ جِبْرِيلُ يَعْرِضُ الْقُرْآنَ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وَقَالَ مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ فَاطِمَةَ عليها السلام: أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي». (¬2) أي: بمصاحفه الستة التي كتبها، ولم يقع فيها خلاف في ترتيب السور، بل جاءت على نسق واحد في ذلك.

ثانياً: لم يكن كل الصحابة يعلمون ترتيب السور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لذا اجتهد من كتب منهم مصحفاً خاصّاً بترتيب خاصٍّ عنده. 2 - من أدلتهم: استدلوا بقراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم في صلاته في قيام الليل فقرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران (¬1)، فخالف الترتيب. والجواب أن يقال: إن هذه المخالفة فيها احتمالان: الاحتمال الأول: أن يكون ذلك منه صلّى الله عليه وسلّم قبل معرفته بالترتيب. الاحتمال الثاني: أن يكون صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يبين الجواز؛ أي: جواز مخالفة الترتيب في الصلاة، فيجوز للإنسان أن يقرأ (آل عمران) ثم (البقرة)، بدلالة أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم فَعَلَه (أي: مخالفة الترتيب)، وهذا هو التوجيه الصحيح لهذا الحديث. أما قول بعضهم ممن يمنع القراءة بدون ترتيب بأن هذا الحديث منسوخ فهذا غير صحيح؛ لأن النسخ لا بد له من ناسخ، كما أن الحكم بالنسخ صعب، والصواب العمل بالحديث، وإعمال الحديث أولى من إهماله. كما أنه لم يُذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى أو اعترض على أحد يقرأ بخلاف الترتيب؛ بدلالة أن الرجل الذي كان يقرأ في كل ركعة سورة ويقرأ سورة الإخلاص معها (¬2)، فيحتمل أنه قرأ سورة الإخلاص وقرأ سورة بعدها، وبذلك يكون قد قرأ بغير الترتيب. هذا، فضلاً على أنه قد أجمع المسلمون على تعليم القرآن في ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، ورقم الحديث (772). (¬2) أخرجه البخاري، باب الجمع بين السورتين في الركعة، ورقم الحديث (774).

الكتاتيب بالبدء بسورة الناس ثم يصعد الطالب بعكس السور، ولم يخالف في هذا أحد. 3 - ومن أدلتهم حديث ابن عباس مع عثمان، وقد سبقت الإشارة إليه، والجواب عنه. والمقصود من هذا أن نعرف ما هو الأثر العلمي للقول بالتوقيف أو الاجتهاد في ترتيب السور؟ يظهر أثر الخلاف في ترتيب السور من الجهة العلمية في مسألة تناسق سور القرآن، وهو ما يسمى بعلم المناسبات، فإذا قيل: إن الذي رتبه الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخذاً منه عن جبريل، فهذا يعني أنه من ترتيب الله سبحانه وتعالى، ولا بد أن يكون لحكمة، فيبحث عن الحكمة ما دام منسوباً إلى المشرِّع، أما إذا كان الترتيب من اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم فقد يكون هناك حكمة عند المجتهد، وقد لا يكون كذلك، وإنما رتبوها باعتبارات معينة.

نقط المصحف

نقط المصحف قال رحمه الله: وأما نقط القرآن وشكله فأول من فعل ذلك الحجاج بن يوسف بأمر عبد الملك بن مروان وزاد الحجاج تحزيبه، وقيل: أول من نقطه يحيى بن يعمر، وقيل: أبو الأسود الدؤلي. وأما وضع الأعشار فيه، فقيل إن الحجاج فعل ذلك، وقيل: بل أمر به المأمون العباسي (¬1). هذا يتعلق بما يسمى بضبط المصحف أو علم الضبط، والحَجَّاجُ (ت:95) مع ما يعرف عنه من شر إلا أن له عنايةً بالمصحف اشتُهر بها، فبعد كتابة المصحف العثماني أضيف على الرسم إضافات وهو ما يسمى بمراحل النقط: أولاً: إضافة أبي الأسود الدؤلي (ت69هـ)، وهو من كبار التابعين، ومن تلاميذ علي (ت40هـ) رضي الله عنه، وهو أول من أدخل النقط في المصاحف، حيث أحضر كاتباً وقال له: «خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتيَّ فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعت شيئاً من هذه الحركات غنَّةً فانقط نقطتين ـ يقصد التنوين ـ» (¬2)، ¬

(¬1) التسهيل 1/ 54. (¬2) نزهة الألباء، لابن الأنباري، ص18.

ولم يذكر السكون، وهذه العلامات توضع على أواخر الكلمات؛ لضبط الإعراب، وهي بدايات علم النحو ـ أيضاً ـ وليس على كل من الكلمة، ولون المداد الذي وضعه هو الأحمر، والرسم مداده أسود، لذا يتميز عمل أبي الأسود عن عمل الصحابة. فإذا جاء عند قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] فـ {وَيْلٌ}: يوضع أمام اللام من قِبَلِ وسطها دائرتان باللون الأحمر {وَيْلٌ}. و {لِكُلِّ} يضع النقطة الحمراء تحت اللام (لكل.). و {هُمَزَةٍ} يضع تحت التاء المربوطة نقطتان {هُمَزَةٍ}، وهكذا، واستمر هذا النقط حتى مع وجود النقط الذي جاء بعده، فأبو عمرو الداني (ت:444) يقول: «وترك استعمال شكل الشعر، وهو الشكل الذي في الكتب الذي اخترعه الخليل في المصاحف الجامعة الأمهات وغيرها، أولى وأحقُّ؛ اقتداءً بمن ابتدأ النقط من التابعين، واتباعاً للأئمة السابقين» (¬1). ثانياً: نقط الإعجام على يد يحيى بن يعمر (ت129هـ)، وقيل: نصر بن عاصم (ت90هـ)، وهي النُّقَطُ التي توضع فوق الحرف أو تحته، فالباء نقطة واحدة تحت، والتاء مثناة فوق، والثاء مثلثة فوق، والجيم في الوسط إن كانت مفردة أو تحتها إن كانت موصولة، والخاء فوق، وهكذا. ويظهر أن بداية النقط كانت متقدمة على هذا الزمن، لكنها استقرت على يد هذين العلَمَين، فقد ورد في نقش سدِّ الطايف إبان خلافة معاوية نقط الإعجام لبعض الحروف، مما يشير إلى أن النقط قد ابتدأ في ذلك العصر، ثم اكتمل في عصر نصر ويحيى. ¬

(¬1) المحكم في نقط المصاحف (ص22).

ثالثاً: جاء بعدهما الخليل (ت175هـ) وأدخل الشكل الذي هو الآن الفتحة والضمة والكسرة وكان له فيها اصطلاح ثم عدِّل بعده بعض الشكل، فالكسرة كان يضع لها الياء الصغيرة المعقوفة الموجودة في المصحف في مثل الصلة الصغرى والكبرى (. . .)؛ كان يضعها تحت الحرف المكسور، ثم مع تقادم الزمان رأوا أن سنة الياء هذه لا يحتاج إليها، فحذفوها وصارت الكسرة ـ كما هي معروفة في الإملاء اليوم ـ ألفاً مبطوحةً تحت الحرف، لعدم اشتباهها بغيرها. وكان نقْطُ يحيى ونَصْرٍ وشكْلُ الخليل بالمداد الأسود؛ لأنه لا يؤثر على بنية الرسم بخلاف عمل أبي الأسود؛ لأنه كان دائرة كبيرة فكان يضعها بالأحمر، واستمر عمل الخليل وعمل أبي الأسود في الكتب حتى عهد متأخر، ثم اعتُمد رسم الخليل وتنوسي عمل أبي الأسود الدؤلي، وهكذا بقي هذا العمل ثم أضيفت إضافات فيما بعد، مثلاً: الألف الصغيرة المسماة بالخنجرية التي هي إشارة إلى الألف المحذوفة (¬1)، ¬

(¬1) المحكم في نقط المصاحف للداني، تحقيق د. عزة حسن (ص3 - 4).

والزيادات يضعون عليها دائرة صغيرة إشارة إلى هذا الحرف الزائد، وطريقة كتابة الشكل في المظهر والمُدغم والمُخفى والقلب وغيرها، وهذا من عمل علماء الضبط جيلاً بعد جيل، حتى استقرَّ على ما هو معروف في المصاحف اليوم، وكل هذا يدخل عندهم في مسمى «علم الضبط». وهذا تسلسل تاريخي يوضح ما قام به العلماء من الرسم والضبط: (¬1) 1 - عام (24 - 25هـ) تمَّ رسم المصاحف العثمانية. 2 - عام (58هـ) توفي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكان قد بنى سدَّ الطائف، وكُتبت بعض أحرف النقش بضبط الإعجام في عصره. 3 - في عام (53) توفي زياد بن أبيه، وقد قيل: إن أبا الأسود الدؤلي (ت:69) وضع نقط الإعراب في ولايته (¬2). 4 - في عهد عبد الملك بن مروان (ت86هـ) أمر الحجاج (ت95هـ) نصر بن عاصم (ت90هـ) ويحيى بن يعمر (ت129هـ) بوضع نقط الإعجام، فأتموا الأحرف كلها. 5 - اعترض على نقط أبي الأسود الدؤلي (ت:69)، وهو نقط الإعراب؟ الصحابي عبد الله بن عمر (ت73هـ). 6 - وضع الخليل بن أحمد (ت170هـ تقريباً) الشكل. 7 - بعد الخليل (ت170هـ) قام علماء الضبط على مرِّ العصور بتجويد الضبط حتى وصل إلى ما نعرفه اليوم في ضبط المصاحف. ¬

(¬1) ملاحظة: سيكون التأريخ بوفاة العلم، مع ملاحظة أن العمل سيكون قبل وفاته قطعاً. (¬2) المحكم في نقط المصاحف للداني، تحقيق د. عزة حسن (ص3 - 4).

قوله: (وأما وضع الأعشار فيه، فقيل: إن الحجاج فعل ذلك). الأعشار: وضع علامة على الآية رقم (10) ومضاعفاتها. والأخماس: وضع علامة على الآية رقم (5) ومضاعفاتها. كانت الأعشار والأخماس في عهد التابعين، وقد واجهت اعتراض بعض العلماء في جعل الأخماس والأعشار في المصحف اقتداء بفعل الصحابة، ويظهر من خلال الآثار أن التعشير ظهر في عهد مبكر، فقد روى الداني بسنده عن مسروق عن عبد الله بن مسعود (ت35هـ): «أنه كره التعشير في المصحف» (¬1). وقد ذكر آثاراً أخرى عن السلف من التابعين وأتباعهم في كراهية التعشير. ولما كان عمل أبي الأسود ـ وهو من كبار التابعين ـ حادثاً، أنكر ذلك بعض علماء التابعين، بل أنكره بعض من عاصر هذا من الصحابة وهو عبد الله بن عمر (ت73هـ) رضي الله عنه، وإنكار ابن عمر رضي الله عنه له لا يعني أن الصحابة أنكروا أن يُدخل في رسم عثمان ما ليس منه. فإن قال قائل: ماذا عن قول ابن مسعود رضي الله عنه: «جرِّدوا القرآن»، وقول عمر رضي الله عنه: «جرِّدوا القرآن»؟ أقول: إن هذا الأثر عن عمر (ت23هـ) وابن مسعود (ت32هـ) لم يجئ في مساق المصحف، إنما جاء في مساق تعليم الناس قراءة القرآن، فعمر رضي الله عنه أراد: إذا أردتم أن تعلموا الناس فعلموهم القرآن ولا تدخلوا معه غيره في تعليمهم، وكما هو معلوم من منهج عمر أنه كان ينهى عن التحديث عن رسول صلّى الله عليه وسلّم، عن قرظة بن كعب، قال: خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر بن الخطاب إلى صرار فتوضأ ثم قال: «أتدرون لم مشيت معكم؟»، قالوا: نعم، نحن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مشيت معنا، ¬

(¬1) نقط المصاحف، للداني، تحقيق عزة حسن، ص14.

قال: «إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تبدونهم بالأحاديث فيشغلونكم، جرَّدوا القرآن، وأقلُّوا الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وامضوا وأنا شريككم» (¬1). وكذلك قول ابن مسعود هذا؛ ليس مراده جرَّدوا المصحف بل جرَّدوا القرآن مما يزاد فيه، فقد جاء عنده رجل وقرأ باستعاذة طويلة فقال: «جردوا القرآن»، أي: لا تضيفوا إلى القرآن ما ليس منه، ومن ذلك ما رواه النسائي بسنده عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله: «جردوا القرآن ليربوا فيه صغيركم ولا ينأى عنه كبيركم، فإن الشيطان يفر من البيت يسمع تقرأ فيه سورة البقرة» (¬2). وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي المغيرة قال: قرأ رجل عند ابن مسعود فقال: استعذ بالله العليم من الشيطان الرجيم، فقال: عبد الله: «جردوا القرآن» (¬3). وهذان الأثران عنه يدلان على أن مراده تجريد القرآن حال القراءة، وليس تجريد المصحف، لكن من جاء بعدهم من التابعين وغيرهم خرَّج على قولهم، فكل من استدل بقول عمر أو ابن مسعود نقول له: هذا تخريج على قولهم وليس هو مراد قولهم، ففي عهد عمر (ت23هـ) وابن مسعود (ت32هـ) لم يكن هناك نقط ولا شكل ولا غيره مما يدل على أنهم لم يريدوا ما استدل به بعض المتأخرين على كلامهم. ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب العلم، برقم (353). (¬2) أخرجه النسائي، كتاب عمل اليوم والليلة؛ برقم (10734). (¬3) المصنف، كتاب فضائل القرآن (30884).

أسماء القرآن

أسماء القرآن قال المصنف رحمه الله: وأما أسماؤه فهي أربعة: القرآن، والفرقان، والكتاب، والذكر، وسائر ما يسمى صفات لا أسماء، كوصفه بالعظيم، والكريم، والمتين، والعزيز، والمجيد، وغير ذلك. فأما القرآن فأصله مصدر قرأ ثم أطلق على المقروء، وأما الفرقان فمصدرٌ أيضاً، معناه التفرقة بين الحق والباطل، وأما الكتاب فمصدر ثم أطلق على المكتوب، وأما الذِّكر فسُمي القرآن به لما فيه من ذكر الله، أو من التذكير والمواعظ، ويجوز في السورة من القرآن الهمز وترك الهمز لغة قريش، وأما الآية فأصلها العلامة، ثم سُمِّيت الجملة من القرآن به؛ لأنها علامة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم (¬1). طرح المؤلف مسألة في أسماء القرآن، وهي الفرق بين الاسم والصفة، وهي مشكلة علمية طويلة، وفيها خلاف كبير، لكن المشتهر عند العلماء هو ما ذكره المؤلف أن أسماء القرآن هذه الأربعة: وهي الفرقان والقرآن والكتاب والذكر، وبعضهم قد يضيف إليها أسماء أخرى مثل: التنزيل، وهذه الأربعة المذكورة جعلها المؤلف أسماء، وجعل سائر ما ذكر بعد هذه الأسماء من الصفات، مثل: الكريم، والمتين، والعزيز، والمجيد. ¬

(¬1) التسهيل 1/ 54، 55.

من الأمور التي يمكن أن يتميز بها الاسم على الصفة، أن الاسم يكون أصلاً والصفة تكون تابعاً، فإذا وجدنا شيئاً من هذه المذكورات على أنها أوصاف وهي تابعة ولم نجدها أصلاً يتبعه غيره فنعلم أنها صفات، كالذِّكر في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فدل ذكره أصالة ـ دون أن يكون تابعاً لغير ـ على الاسمية. هذا، وكل اسم يتضمن صفة، فهذه الاسمية متضمنة للصفة، لكن لما وصف بأنه قرآن مجيد فلا يسمى القرآن بأنه المجيد، فأنت لا تقول مثلاً: أعطني المجيد، أو اقرأ المجيد؛ لأن هذا وصف، لكن تقول: اقرأ التنزيل، اقرأ الذكر، اقرأ الكتاب، اقرأ القرآن. وهذا من الأشياء التي يمكن أن يميز بها بين أسماء القرآن وصفاته، وإن كان التفريق بين الاسم والصفة من المسائل الشائكة. ثم ذكر أن القرآن مصدر قرأ بمعنى تلا، هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء في اشتقاق لفظ القرآن، والهمزة فيه أصلية، وأطلق على المقروء. وكون أصل مادة: «قرأ» يرجع إلى معنى الجمع لا يؤثر على أن يكون المراد بالقرآن المقروء؛ أي: المتلو؛ لأن المتلو أو المقروء يرجع إلى معنى الجمع؛ لأنك حينما تقرأ تجمع الحرف إلى الحرف، والكلمة إلى الكلمة، والجملة إلى الجملة، والآية إلى الآية، فتكون قد جمعت هذه وقرأت، فهناك نوع من التلازم بين القراءة والجمع. وبعض العلماء يرى أن أصل مادة: «قرأ» الجمع. لكن الأشهر في إطلاق القرآن أنه المقروء وليس المجموع. والفرقان مصدر من فرق، وهو الذي فرَّق بين الحق والباطل. والكتاب مصدر، ثم أطلق على المكتوب.

وذكر أن الذكر سمي به: إما لما فيه من ذكر الله، وإما لما فيه من التذكير والمواعظ، ومنه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]، على أحد وجوه تأويل الذكر في هذه الآية. أما الحديث عن السورة فقد أوجز فيه، ولم يعرِّف السورة، وإنما أشار إلى أنه يجوز في السورة من القرآن الهمز وترك الهمز يعني السورة والسؤرة، وهي بترك الهمز لغة قريش التي نزل بها القرآن. والسورة لغة: بمعنى المنزلة الرفيعة، وهذا علو معنوي، أو من السُّور المحيط بالبناء؛ لأنه عالٍ، وهذا علو حسيٌّ، وكأن من جعلها من المنزلة الرفيعة نظر إلى ما لها من الرفعة والشأن، ومن جعلها من السُّور، إما أن يكون نظر إلى الرفعة، وإما أن يكون نظر إلى الإحاطة، فيكون مراده أن لها حدوداً ذات مبدأ ومنتهى تُعرف بها. تسمية السور: الأصل في تسمية سور القرآن أنها من النبي صلّى الله عليه وسلّم، أما المسمَّيات الموجودة الآن فإنها على ثلاث مراتب: 1 - منها ما ثبت تسميته عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. 2 - منها ما ثبت تسميته عن الصحابة، مثل ما ورد في صحيح البخاري أن سعيد بن جبير (ت95هـ) قال: «سألت ابن عباس عن سورة الأنفال، فقال: تلك سورة بدر» (¬1)، فسماها ابن عباس سورة بدر. 3 - منها ما ثبت عمَّن دون الصحابي بدءاً من التابعين إلى يومنا هذا، ومما يلحظ أنه يغلب عليها أن تسمى ببدايات السورة، مثل: سورة (لم يكن)، سورة (أرأيت)، سورة (عم) وهكذا، والاصطلاح على تسمية سورة باسم جائز؛ لأنه لم يرد نهي من النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك، وما زال ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب التفسير، ورقم الحديث (3031).

العمل عند المسلمين على هذا من عهد الصحابة والتابعين إلى يومنا هذا، فليس في هذا إشكال ولا نكير. وطلبُ الحكمة فيما ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سمَّاه مرتبط بكونه صلّى الله عليه وسلّم لا يخرج عنه إلا ما هو حكمة، لذا يصح أن نبحث عن علة التسمية النبوية. أما الآية، فأصلها العلامة، ثم سمِّيت الجملة من القرآن بها، وعلل المؤلف هذا بأنها علامة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكون الآية علامة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يعني أن هذا سبب التسمية، وإنما المراد بها القطعة من السورة التي يعبر عنها بعض العلماء ويقول: «ذات مبدأ ومقطع»؛ أي: لها بداية ونهاية وهي جزء من السورة، ولو نظرنا في القرآن لوجدنا أن تسمية الآية جاء على معانٍ: الآية المكتوبة التي لها مبدأ ومقطع؛ كما في قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، والمراد بالآية هنا الآية ذات المبدأ والمقطع، وليس العلامة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم. والآية التي هي حجة على الكفار، ودالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2]، فالرؤية هنا تقتضي الرؤية البصرية؛ أي: إن يروا آية «العلامة الدالة على صدقه صلّى الله عليه وسلّم» من آيات النبي صلّى الله عليه وسلّم التي يظهرها لهم، وليس المراد بالآية هنا ذات المبدأ والمقطع.

الباب الثاني: السور المكية والمدنية

الباب الثاني السور المكية والمدنية قال رحمه الله: الباب الثاني في السورة المكية والمدنية: اعلم أن السور المكية هي التي نزلت بمكة ويعد منها كل ما نزل قبل الهجرة وإن نزل بغير مكة، كما أن المدنية هي السورة التي نزلت بالمدينة ويعد منها كل ما نزل بعد الهجرة وإن نزل بغير المدينة. وتنقسم السور ثلاثة أقسام: قسم مدنية باتفاق، وهي اثنان وعشرون سورة، وهي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، وبراءة، والنور، والأحزاب، والقتال، والفتح، والحجرات، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، والتحريم، وإذا جاء نصر الله. وقسم فيها خلاف هل هي مكية أو مدنية؟ وهي ثلاث عشرة سورة: أم القرآن، والرعد، والنحل، والحج، والإنسان، والمطففون، والقدر، ولم يكن، وإذا زلزلت، وأرأيت، والإخلاص، والمعوذتان. وقسم مكية باتفاق وهي سائر السور. وقد وقعت آيات مدنية في سور مكية كما وقعت آيات مكية في سور مدنية، وذلك قليل مختلف في أكثره. واعلم أن السور المكية نزل أكثرها في إثبات العقائد، والرد على المشركين، وفي قصص الأنبياء، وأن السور المدنية نزل أكثرها في الأحكام الشرعية، وفي الرد على اليهود والنصارى، وذكر المنافقين والفتوى في مسائل، وذكر غزوات النبي صلّى الله عليه وسلّم وحيث ما ورد {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهو

مدني، وأما {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} فقد وقع في المكي والمدني (¬1). قال رحمه الله: (اعلم أن السور المكية هي التي نزلت بمكة، ويُعدُّ منها كل ما نزل قبل الهجرة، وإن نزل بغير مكة. كما أن المدنية هي السورة التي نزلت بالمدينة ويُعدُّ منها كل ما نزل بعد الهجرة، وإن نزل بغير المدينة). وصف المؤلف رحمه الله المكي بوصفين: الأول: التي نزلت بمكة. الثاني: أن يكون قبل الهجرة. ويبدو من سياق عبارته أن ما نزل بمكة بعد الهجرة، فهو مدني لا مكي لقوله: (ويعد منها كل ما نزل بعد الهجرة وإن نزل بغير المدينة)، وبهذا يكون تعريفه التفصيلي هذا على رأي الذي اشتهر عند المتأخرين. والملاحظ هنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يخرج في العهد المكي إلا إلى الطائف، ولم يُذكر أنه نزل عليه قرآن خارج مكة، إلا إذا اعتبرت أن غار حراء خارج مكة، فيكون لما قاله المؤلف رحمه الله مثالٌ. وأما قوله في تعريف المدني: (كما أن المدنية هي السورة التي نزلت بالمدينة ويُعدُّ منها كل ما نزل بعد الهجرة، وإن نزل بغير المدينة)، فهو باعتبار الزمان كما هو ظاهر. وكون ما نزل بالمدينة مدنيٌّ لا خلاف فيه ألبتة لا من جهة اعتبار المكان، ولا من جهة اعتبار الزمان. ويبقى ما نزل في العهد المدني خارج المدينة؛ كيف يمكن أن يوصف من جهة النزول؟ ¬

(¬1) التسهيل 1/ 56، 57.

إن الظاهر في عبارات السلف ـ وهم العمدة في هذا الباب ـ اعتبار المكان، والنصُّ عليه. واعتبار المكان في عباراتهم يتضمَّن اعتبار الزمان بدهياً؛ لأن أسفار النبي صلّى الله عليه وسلّم لم تكن إلا في العهد المدني، فإذا قيل: نزلت سورة الفتح في الحديبية، فقد أفاد هذا القول الأمرين معاً: (المكان والزمان)؛ لأن أمر الحديبية إنما كان بعد الهجرة. أما لو عُبِّر بالزمان فقط، فإنه لا يفيد في تحديد المكان، فلو قيل: سورة الفتح مدنية، نزلت بعد الهجرة، فإن هذا القول لا يفيد في تعيين المكان الذي نزلت فيه، ولا شكَّ أن في تحديد المكان فائدة زائدة على اعتماد الزمان فقط. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الأفضل في مثل هذا الحال أن يعبر عن المكان، ثم يتبع بالزمان إن كان الأمر يحتاج إلى ذلك. ويمكن تقسيم السور ـ بناءً على هذا ـ كالآتي: • ما نزل في مكة. • ما نزل في المدينة. • ما نزل في ضواحيهما أو في أسفاره صلّى الله عليه وسلّم بعد الهجرة، وهذه يغلب عليها أنها مدنية، إن لم تكن كلها كذلك. ومثال ما نزل في ضواحي المدينة: ما ورد عن عكرمة (ت105هـ) أنه سئل عن آية فقال: «نزلت بسفح سلع» (¬1)؛ أي: جبل سلع، فحدد المكان وهو سفح جبل سلع، وهو من جبال المدينة. ومما نزل في أسفاره صلّى الله عليه وسلّم سورة التوبة، فقد نزل بعضها أثناء عودته من غزوة تبوك. ومما نزل في ضواحي مكة بعد الهجرة آية المائدة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3]، فقد ¬

(¬1) حلية الأولياء، لأبي نعيم 3/ 327.

جاء اليهودي إلى عمر قال: «لقد نزلت عليكم آية لو نزلت فينا معشر اليهود لجعلنا يومها عيداً، فقال: أي آية؟ فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3]». قال عمر: «والله إني لأعلم أين نزلت؟ نزلت على الرسول صلّى الله عليه وسلّم عشية عرفة» (¬1). ومما نزل في مكة بعد الهجرة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، فقد روى ابن جرير عن ابن جريج: «قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} قال: نزلت في عثمان بن طلحة قبض منه النبي صلّى الله عليه وسلّم مفتاح الكعبة، فدخل به البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح. قال: وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكعبة، وهو يتلو هذه الآية: فداه أبي وأمي، ما سمعته يتلوها قبل ذلك» (¬2). وبهذا التحليل يمكن القول بأنه لا يوجد اختلاف أو تناقض بين من يحدد المكان وبين من يحدد الزمان، ومن ثمَّ فإننا لا نحتاج إلى طرح هذه الاعتبارات على أنها أقوال تحتاج إلى ترجيح بينها، وإنما نجعل الأصل اعتبار المكان، ونجعل اعتبار الزمان ضابطاً في المكي والمدني؛ لأن عدم ترجيح اعتبار المكان يناقض قول السلف، كقول عمر: «والله إني لأعلم أين نزلت في عرفة» (¬3)، ولم يقل: «متى نزلت»، ولا يتصور أن يُفهم أن عمر لا يدرك أنها نزلت بعد الهجرة، وإنما الظاهر من ذلك أنه حينما حدد المكان فإنه قد حدَّد الزمان، ولم يلغه، وعلى هذا يمكن القول بأن من عبر بالزمان من العلماء المتأخرين فإنه من باب التحرير وضبط المسألة وليس قولاً آخر يعارض القول بالمكان. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة برقم (7268). (¬2) تفسير الطبري (تحقيق التركي) 7/ 171. (¬3) تفسير الطبري 8/ 86.

وهذا الضابط الذي هو (ما نزل قبل الهجرة فهو مكي)، و (ما نزل بعد الهجرة فهو مدني) ضابط متقدم قال به علماء من طبقة صغار التابعين أمثال: يحيى بن سلام البصري (ت200هـ)، وعلي بن الحسين بن واقد (ت211هـ) وما قاله يحيى بن سلام البصري موجود في مقدمة مختصريه: «تفسير هود بن محكم، وتفسير ابن أبي زمنين»، وهذا هو بتمامه: «قال يحيى: إن ما نزل بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي عليه السلام المدينة فهو من المكي. وما نزل على النبي عليه السلام في أسفاره بعدما قدم المدينة فهو من المدني، وما كان من القرآن {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهو مدني، وما كان {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} ففيه مكي ومدني، وأكثره مكي» (¬1). وقال علي بن الحسين بن واقد (ت211هـ): «كل القرآن مكي أو مدني غير قوله: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] فإنها أنزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجحفة حين خرج مهاجراً إلى المدينة. فلا هي مكية ولا مدنية، وكل آية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل الهجرة فهي مكية، نزلت بمكة أو بغيرها من البلدان، وكل آية نزلت بالمدينة بعد الهجرة فإنها مدنية، نزلت بالمدينة أو بغيرها من البلدان» (¬2). قوله: (وتنقسم السور ثلاثة أقسام: قسم مدنية باتفاق .....). هذا المبحث يتعلق بأقسام السور في قضية المكي والمدني (¬3)، هذا ¬

(¬1) تفسير القرآن العزيز لابن أبي زمنين (1:113)، وتفسير هود بن محكم (1:69). (¬2) ذكره السيوطي في الدر المنثور 11/ 521. (¬3) من المصادر المعاصرة المهمة في هذا الباب رسالتان علميتان في الجامعة الإسلامية، الأولى طُبعت تحت عنوان «المكي والمدني» للدكتور حسين عبد الرزاق أحمد، وقد درس كل ما له تعلق بالمكي والمدني من سورة الفاتحة إلى سورة الإسراء، والرسالة الثانية لم تطبع بعد، وهي للدكتور محمد بن عبد العزيز الفالح، وقد بحث المكي والمدني من سورة الكهف إلى سورة الناس.

التقسيم الذي ذكره فيه خلاف، والكلام فيها يطول، لكن نأخذ مثالاً في ذلك، وهي أم القرآن؛ وقع فيها خلاف على ثلاثة أقوال: 1 - قيل: نزلت بمكة. 2 - قيل: نزلت في المدينة. 3 - قيل: إن جزءاً منها نزل بمكة وجزءاً بالمدينة، وهذا أضعف الأقوال. والصحيح أنها نزلت بمكة، وأقوى الأدلة على ذلك هو ما ورد في سورة الحجر في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، والرسول صلّى الله عليه وسلّم قد فسر أن المراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم أنها الفاتحة، فبيانه صلّى الله عليه وسلّم ليس بعده بيانٌ، وسورة الحجر مكية بالاتفاق، وبهذا فسورة الفاتحة مكية؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أوتيها كما هو نصُّ الآية. واستدلوا بأدلة أخرى مثل انعقاد الصلاة بها، وغيرها من الأدلة، لكن هذا من أقوى الأدلة وأوضحها وأصرحها؛ لأنه قد يقول قائل: يحتمل أنه كان يصلي ولم تفرض الفاتحة بعدُ، وإنما فرضت في المدينة، فنقول: إنه لو سقط الاستدلال بهذا لا يسقط الاستدلال بآية الحجر، وهي مكية. نزول السورة أو الآية مرتين: يقصد بنزول السورة أو الآية مرتين أن تكون نزلت أول مرة لغرضٍ، ثم حدث أمر فأُنزلت مرة أخرى للغرض الحادث، وليس نزول جبريل عليه السلام لمدارسة النبي صلّى الله عليه وسلّم في رمضان من هذا الباب. والقول بنزول السورة أو الآية مرتين خلاف الأصل، والأحاديث الواردة في كون آية نزلت مرتين فيها ضعف (¬1). ¬

(¬1) ينظر في هذه المسألة: المحرر في أسباب النزول، للدكتور خالد المزيني.

قوله: (وقد وقعت آيات مدنية في سور مكية، كما وقعت آيات مكية في سور مدنية، وذلك قليل مختلف في أكثره). الأصل أن تكون السورة مكية كلها أو مدنية كلها، والاستثناء خلاف الأصل، ولا يخرج عن نوعين: الأول: أن ترد آية مكية في القرآن المدني، وهو قليل مختلف فيه، بل إن ابن حجر رحمه الله يقول: (فلم أره إلا نادراً) (¬1)، يعني وقوع الآيات المكية في السور المدنية قليل. الثاني: أن ترد آية مدنية في القرآن المكي، وهو موجود وكثير (¬2). قوله: (واعلم أن السور المكية نزل أكثرها في إثبات العقائد، والرد على المشركين، وفي قصص الأنبياء، وأن السور المدنية نزل أكثرها في الأحكام الشرعية، وفي الرد على اليهود والنصارى ....). يمكن أن يطلق على هذه موضوعات المكي والمدني، وهو الذي عُرف ـ فيما بعد ـ عند السيوطي وغيره بضوابط المكي والمدني. وذكر أن أكثر السور المكية في إثبات العقائد والرد على المشركين، وفي قصص الأنبياء، وقوله: (أكثرها) دقيق؛ لأن بعض السور المدنية لا تخلو من إثبات العقائد، ولا تخلو من الرد على المشركين، ولا تخلو من قصص الأنبياء، وهذا يفيد في إدراك كون السورة مكية بالنظر إلى الموضوعات الرئيسة التي طرحها المؤلف، وإن كان ليس لازماً، إذ قد وردت ـ مثلاً ـ قصة آدم في سورة البقرة، وهي مدنية. أما السور المدنية فموضوعاتها الأحكام الشرعية والمراد بها التفصيلات وليس أصول الأحكام؛ لأن الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة كان موجوداً في مكة، وكذلك الرد على اليهود والنصارى والمحاجة ¬

(¬1) فتح الباري في شرح صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن 8/ 658. (¬2) هذه الآيات المستثناة في السور مجال جيِّد للمدارسة ولتدريب الطلاب على البحث والتحرير.

والمجادلة والمخاصمة معهم لم يقع إلا في المدني، أما ذكر اليهود والنصارى فقد جاء في القرآن المكي، كذلك ذكر المنافقين كان بالمدينة قطعاً؛ لأن النفاق لم يظهر إلا في المدينة، وكذلك الفتاوى في المسائل كان في المدينة بعد أن تشكل المجتمع الإسلامي، وصار الأمر والنهي راجعاً إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك الحديث عن غزوات النبي صلّى الله عليه وسلّم مدنية؛ لأن غزواته كانت بالمدينة. وهذه الموضوعات علامات أو أمارات للتمييز بين المكي والمدني. قوله: (وحيث ما ورد {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فهو مدني، وأما {يَاأَيُّهَا النَّاسُ} فقد وقع في المكي والمدني). هذا القول يدخل في باب الضوابط؛ أي: «ضوابط المكي والمدني»، وهذا الضابط أغلبي؛ لأنه ورد قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] في سورة النساء، وهي مدنية. وأغلب مسائل المكي والمدني من علوم القرآن وليست من علوم التفسير؛ لأنه ليس لها أثر في المعنى، فمثلاً إذا عرفت أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] «نزلت في جوف الكعبة» فإن هذا ليس له أثر في المعنى. وهناك مسائل جزئية منه لها أثر في التفسير، خاصة ما يتعلق بالترجيح بين الأقوال، كما هو الحال في خلافهم في المراد بالشاهد في قوله تعالى: {... وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10] هل هو موسى عليه السلام بناءً على أن السورة مكية، أو عبد الله بن سلام رضي الله عنه؟

وكونها في سورة مكية كان مما احتج به مسروق (ت63هـ) والشعبي (ت103هـ) ومن قال بقولهما؛ على من قالوا بأنه عبد الله بن سلام (ت43هـ) الذي لم يظهر أمره إلا في المدينة. إذن المكي والمدني ينقسم قسمين: قسم نحتاج إليه في التفسير، وقسم يكون من علوم السورة أو علوم الآية «علوم القرآن».

الباب الثالث: في المعاني والعلوم التي تضمنها القرآن

الباب الثالث في المعاني والعلوم التي تضمَّنها القرآن قال رحمه الله: الباب الثالث في المعاني والعلوم التي تضمَّنها القرآن، ولنتكلم في ذلك على الجملة والتفصيل، أما الجملة فاعلم أن المقصود بالقرآن دعوة الخلق إلى عبادة الله وإلى الدخول في دين الله، ثم إن هذا المقصد يقتضي أمرين لا بد منهما وإليهما ترجع معاني القرآن كله: أحدهما بيان العبادة التي دعي الخلق إليها، والأخرى ذكر بواعث تبعثهم على الدخول فيها وترددهم إليها، فأما العبادة فتنقسم إلى نوعين: وهما أصول العقائد، وأحكام الأعمال، وأما البواعث عليها فأمرين: وهما: الترغيب والترهيب. وأما على التفصيل فاعلم أن معاني القرآن سبعة وهي: علم الربوبية، والنبوة، والمعاد، والأحكام، والوعد، والوعيد، والقصص. فأما علم الربوبية فمنه إثبات وجود الباري جلّ جلاله، والاستدلال عليه بمخلوقاته، فكل ما جاء في القرآن من التنبيه على المخلوقات، والاعتبار في خلقة الأرض والسموات والحيوان والنبات والريح والأمطار والشمس والقمر والليل والنهار وغير ذلك من الموجودات، فهو دليل على خالقه، ومنه إثبات الوحدانية، والرد على المشركين، والتعريف بصفات الله من الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغير ذلك من أسمائه وصفاته، والتنزيه عما لا يليق به، وأما النبوة فإثبات نبوة الأنبياء عليهم السلام على العموم، ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم على الخصوص، وإثبات الكتب التي أنزلها الله عليهم، ووجود الملائكة الذين كان منهم وسائط بين الله وبينهم، والرد على من كفر بشيء من ذلك، وينخرط في سلك هذا ما ورد في القرآن

من تأنيس النبي صلّى الله عليه وسلّم وكرامته والثناء عليه وسائر الانبياء صلى الله عليه وعليهم أجمعين، وأما المعاد فإثبات الحشر، وإقامة البراهين، والرد على من خالف فيه وذكر ما في الدار الآخرة من الجنة والنار والحساب والميزان وصحائف الأعمال وكثرة الأهوال ونحو ذلك. وأما الأحكام فهي الأوامر والنواهي، وتنقسم خمسة أنواع: واجب ومندوب وحرام ومكروه ومباح، ومنها ما يتعلق بالأبدان كالصلاة والصيام وما يتعلق بالأموال كالزكاة، وما يتعلق بالقلوب كالإخلاص والخوف والرجاء وغير ذلك، وأما الوعد فمنه وعد بخير الدنيا من النصر والظهور وغير ذلك، ومنه وعد بخير الآخرة وهو الأكثر كأوصاف الجنة ونعيمها، وأما الوعيد فمنه تخويف بالعقاب في الدنيا، ومنه تخويف بالعقاب في الآخرة، وهو الأكثر كأوصاف جهنم وعذابها وأوصاف القيامة وأهوالها، وتأمل القرآن تجد الوعد مقروناً بالوعيد قد ذكر أحدهما على أثر ذكر الآخر؛ ليجمع بين الترغيب والترهيب، وليتبين أحدهما بالآخر كما قيل «بضدها تتبين الأشياء». وأما القصص فهو ذكر أخبار الأنبياء المتقدمين وغيرهم كقصة أصحاب الكهف وذي القرنين، فإن قيل: ما الحكمة في تكرار قصص الأنبياء في القرآن؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أنه ربما ذكر في سورة من أخبار الأنبياء ما لم يذكره في سورة أخرى، ففي كل واحدة منهما فائدة زائدة على الأخرى، الثاني: أنه ذكرت أخبار الأنبياء في مواضع على طريقة الإطناب وفي مواضع على طريقة الإيجاز؛ لتظهر فصاحة القرآن في الطريقتين، الثالث: أن أخبار الأنبياء قصد بذكرها مقاصد فيتعدد ذكرها بتعدد تلك المقاصد، فمن المقاصد بها: إثبات نبوة الأنبياء المتقدمين بذكر ما جرى على أيديهم من المعجزات، وذكر إهلاك من كذبهم بأنواع من المهالك، ومنها إثبات النبوة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم لإخباره بتلك الأخبار من غير تعلم من أحد وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49]، ومنها: إثبات الوحدانية

ألا ترى أنه لما ذكر إهلاك الأمم الكافرة قال: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود: 101]، ومنها: الاعتبار في قدرة الله وشدة عقابه لمن كفر، ومنها تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم عن تكذيب قومه له بالتأسي بمن تقدم من الأنبياء كقوله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنعام: 34]، ومنها: تسليته عليه السلام ووعده بالنصر كما نصر الأنبياء الذين من قبله، ومنها: تخويف الكفار بأن يعاقبوا كما عوقب الكفار الذين من قبلهم، إلى غير ذلك مما احتوت عليه أخبار الأنبياء من العجائب والمواعظ واحتجاج الأنبياء وردهم على الكفار وغير ذلك، فلما كانت أخبار الأنبياء تفيد فوائد كثيرة ذكرت في مواضع كثيرة ولكل مقام مقال (¬1). هذا الباب من نفائس هذه المقدمة، ويحسن أن نذكر فيه تنبيهاً، وهو أن علماءنا السابقين لم يغفلوا عن النظر الموضوعي للقرآن، وكلام ابن جزي مثال من الأمثلة، وما ذكره في المعاني والعلوم التي تضمنها القرآن، لا يمكن أن يكون إلا بعد النظرة الشمولية لموضوعات القرآن. فإن قال قائل: لكن ما ذكره ليس كل المعاني والعلوم التي تضمنها القرآن. نقول: نعم، لكن ما ذكره هو أصل كل شيء، إذ إن أغلب ما يذكر بعد ذلك هو راجع إلى هذه المعاني التي ذكرها هنا، لذا يحسن أن ننتبه إلى أنَّ تراث العلماء السابقين فيه أشياء كثيرة قد نغفل عنها فنظن أنهم لم يفعلوا ولم يتكلموا، وهم قد تكلموا وأفاضوا، لكن جهلنا بما عندهم من العلم جعلنا نزعم مثل هذا الزعم. والمؤلف رحمه الله جعل مقصود القرآن الكلي دعوة الخلق إلى عبادة الله سبحانه، ثم ذكر أن هذا المقصد يقتضي أمرين ـ ترجع إليهما معاني القرآن كله ـ: ¬

(¬1) التسهيل 1/ 58 - 61.

أحدهما: بيان العبادة التي دُعِيَ الخلقُ إليها. الآخر: ذكر بواعث «الترغيب والترهيب» تبعثهم على الدخول فيها وتردهم إليها، ثم ذكر في العبادة أصول العقائد وأصول الأحكام التي هي الأعمال المعروفة في تقسيمات العلماء. وأما المقاصد التفصيلية فذكر سبعة من العلوم: العلم الأول: علم الربوبية، وهو يريد به توحيد الباري، وعلم الأسماء والصفات، أما علم الألوهية فسيدخل عنده في باب الأحكام الذي سيذكره، لكنه لم يشر إليه إشارة واضحة، بل اكتفى بالإشارة إلى بعض الأعمال القلبية التي تدخل في توحيد الألوهية، فقال: (وما يتعلق بالقلوب كالإخلاص والخوف والرجاء وغير ذلك وما يتعلق بالأبدان). العلم الثاني: علم الأحكام والأوامر والنواهي، وهذا يرجع كله إلى توحيد الألوهية الذي هو توحيد الله بأفعال عباده. والأول: هو توحيد الربوبية توحيد الله بأفعاله، ودخل فيه باب الأسماء والصفات. ملحظان فيما يتعلق بالنظر الموضوعي للقرآن: الأول: حديث عائشة رضي الله عنها لما جاءها العراقي يسأل قال: «أي الكفن خير؟ قالت: ويحك ما يضرك، قال: يا أم المؤمنين أريني مصحفك، قالت: لم؟ قال: لعلي أؤلف القرآن عليه؛ فإنه يقرأ غير مؤلف، قالت: وما يضرك أيها قرأت قبل، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبداً، لقد نزل بمكة على محمد صلّى الله عليه وسلّم وإني لجارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]، وما نزلت سورة البقرة والنساء

إلا وأنا عنده، قال: فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور» (¬1)، في هذا الحديث إشارة إلى النظر الموضوعي لموضوعات القرآن، فعائشة رضي الله عنها تبيِّن لنا أن القرآن نزل أول ما نزل فيه ذكر الجنة والنار، وأما قضايا الحلال والحرام إنما كانت آخر ما نزل لما كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم في المدينة، فالمقصد من هذا أنه يجب علينا عند ذكر موضوعٍ معينٍ مثل هذه الموضوعات الجديدة أن نقرأ في تراثنا؛ لأنا سنجد له أصولاً وإشارات. الثاني: الذي نذكره فيما يتعلق بالموضوعات وهو خارج عن حدِّ علوم القرآن لكن الإشارة إليه مفيد، وهو النظر في الموضوعات التي طرحها القرآن الكريم، والنظر في الموضوعات الموجودة في كتب أهل الكتاب اليوم التي تسمى بأسفار بني إسرائيل (العهد القديم والعهد الجديد)، فلو جمعت الموضوعات التي طرقها القرآن والموضوعات التي طرقتها هذه الكتب فسيكون هناك اختزال شديد في أسفارهم لقضايا كثيرة عُني بها القرآن، كالتربية على الأخلاق، وتزكية النفس، وقضية الجنة والنار، والثواب والعقاب. وسنجد أن الموضوعات التي طرقها القرآن فيها تكامل وشمولية في النظرة إلى الحياة والإنسان والكون، والعلاقة بالخالق سبحانه وتعالى، وعلاقة المسلم بالمسلم، وعلاقة المسلم بغير المسلم، ومثل هذه التفصيلات ليست موجودة فيما بين يدي اليهود والنصارى اليوم. ثم إن القرآن لما نزل بهذه الموضوعات أثّر على الحياة الجاهلية، فالرجل الجاهلي كان أعلى هدف يريد أن يصل إليه في حياته أن يكون أمير القبيلة، أو فارسها، أو يتزوج فلانة، أو يحصل على الناقة الفلانية، أو أن يحصل على الخيل الفلاني، وهذه كلها قضايا دنيوية، لكن لما نزل القرآن فجَّر في هؤلاء طاقات لم تكن موجودة عندهم، ومن الأمثلة ذلك ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، ورقم الحديث (4993).

الرجل الذي قال: «فزت ورب الكعبة»، فقد روى البخاري عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم أَقْوَاماً مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ فِي سَبْعِينَ، فَلَمَّا قَدِمُوا، قَالَ لَهُمْ خَالِي: أَتَقَدَّمُكُمْ، فَإِنْ أَمَّنُونِي حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وَإِلاَّ كُنْتُمْ مِنِّي قَرِيباً. فَتَقَدَّمَ، فَأَمَّنُوهُ، فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم إِذْ أَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. ثُمَّ مَالُوا عَلَى بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ فَقَتَلُوهُمْ، إِلاَّ رَجُلاً أَعْرَجَ صَعِدَ الْجَبَلَ. قَالَ هَمَّامٌ: فَأُرَاهُ آخَرَ مَعَهُ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ عليه السلام النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ، فَرَضِيَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، فَكُنَّا نَقْرَأُ أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِي عَنَّا وَأَرْضَانَا. ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحاً، عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لِحْيَانَ وَبَنِي عُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ صلّى الله عليه وسلّم» (¬1)، فانظر كيف تحوَّل هؤلاء العرب في التفكير في فترة وجيزة جداً. تكرار القصص: أما ما ذكره في أسباب تكرار قصص القرآن فهو من النفائس الجيدة وهي: الأولى: (أنه ربما ذكر في سورة من أخبار الأنبياء ما لم يذكره في سورة أخرى، ففي كل واحدة منهما فائدة زائدة على الأخرى). مثال ذلك: ما ورد في قصة موسى عليه السلام وتتبع أخته له، فإنك تجد في كل موضع ما لا تجده في الآخر، وتخصيص موطن بالزيادة إنما يكون لحكمة، وقد وردت مختصرة في سورة طه، قال تعالى: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى} [طه: 40]، وورد في سورة القصص زيادات، ¬

(¬1) رواه البخاري في كتاب الجهاد، باب من ينكب في سبيل الله (9).

قال تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ *وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 11، 12]. الثانية: من الحِكَم في تكرار القصص كما ذكر: (أنه ذكرت أخبار الأنبياء في مواضع على طريقة الإطناب، وفي مواضع على طريقة الإيجاز؛ لتظهر فصاحة القرآن في الطريقتين). قال الجرجاني في «التعريفات»: «الإطناب: أداء المقصود بأكثر من العبارة المتعارفة» (¬1)، والإيجاز ضده. واستخدامهما في القصص القرآني مرة بالإطناب ومرة بالإيجاز هو كما قال المؤلف رحمه الله: (لتظهر فصاحته)، وهذا يعني أن الإطناب في موطنه، والإيجاز في موطنه من مقام الاقتدار على الكلام، والإتيان بالبلاغة على أعلى نظام. الثالثة: (أن أخبار الأنبياء قصد بذكرها مقاصد فتعدد ذكرها بتعدد تلك المقاصد) ذكر مقاصد القصص القرآنية وهي: 1 - إثبات نبوة الأنبياء. 2 - إثبات النبوة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم. 3 - إثبات الوحدانية. 4 - الاعتبار في قدرة الله وشدة عقابه. 5 - تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم. 6 - وعده بالنصر كما نصر الأنبياء الذين من قبله. 7 - تخويف الكفار. وهذه المقاصد صالحة للبحث، بحيث يكون كل مقصد مدار بحث في القصص القرآني. ¬

(¬1) التعريف للجرجاني (ص29).

الباب الرابع: فنون العلم التي تتعلق بالقرآن

الباب الرابع فنون العلم التي تتعلق بالقرآن قال رحمه الله: اعلم أن الكلام على القرآن يستدعي الكلام في اثني عشر فناً من العلوم وهي: التفسير، والقراءات، والأحكام، والنسخ، والحديث، والقصص، والتصوف، وأصول الدين، وأصول الفقه، واللغة، والنحو، والبيان (¬1). ذكر المؤلف بعض العلوم المرتبطة بالقرآن، وهي عند الزركشي والسيوطي «أنواع علوم القرآن»، والمؤلف سمَّاها: «فنون العلم التي تتعلق بالقرآن»، وهذا من باب الاصطلاح، وقد ذكر المؤلف منها اثني عشر علماً. يلاحظ أن المؤلف جعل التفسير من «فنون العلم التي تتعلق بالقرآن»، ثم نبَّه على أن العلوم الأخرى إما أنها أدوات تعين على التفسير، وإما أن لها تعلق ولو بوجه بالتفسير. ويحسن قبل أن ندخل في موضوع الفنون أن نقول: لو تأملنا هذه العلوم الاثني عشر: «وهي التفسير، والقراءات، والأحكام، والنسخ، والحديث، والقصص، والتصوف، وأصول الدين، وأصول الفقه، واللغة، والنحو، والبيان»، فإننا سنجد فيها ثلاث قضايا: ¬

(¬1) التسهيل 1/ 62.

الأولى: التصوف ليس من علوم القرآن بل هو نتاج علمٍ وثمرته، فإدخاله في فنون العلم فيه إشكال، ولا أدري لماذا أدخله هنا؟ الثانية: هذه العلوم منها ما هو منبثق من القرآن، ومنها ما يشاركه فيها غيره، فعلم القراءات مثلاً لا يمكن أن نأخذه من غير القرآن، فهو علم منبثق من القرآن، أما الناسخ والمنسوخ فليس علماً خاصاً بالقرآن بل تشاركه السنة، ففيها ناسخ ومنسوخ، والقرآن فيه ناسخ ومنسوخ، والجامع بين السنة والقرآن أنهما نصَّان تشريعيان، فبالنظر إلى الكتاب على أنه نص تشريعي تأتي معه السنة، فعلم الناسخ والمنسوخ ليس خاصاً بالقرآن ولا بالسنة بل هو لهما معاً، ومنهما نشأ العلم المترتب على الفقه فيهما، وهو علم أصول الفقه. وعالم أصول الفقه عندما يستنبط فإنه يستنبط من القرآن والسنة، فما أُخذ من كتب أصول الفقه وأضيف إلى كتب علوم القرآن لا يعني أنه فضلة في علوم القرآن وأصل في أصول الفقه. والمشاهد أن هناك تشابهاً فيما كتبه من كَتَب في علوم القرآن ومن كَتَب في أصول الفقه، وسبب ذلك أن مَن كَتَب في أصول الفقه أسبق في التحرير ممن كتب في علوم القرآن، فجاء الذي يكتب في علوم القرآن مثل الزركشي (ت794هـ) في (برهانه) أو السيوطي (ت911هـ) في (إتقانه) أو غيرهما، ونقل مادة أصول الفقه في الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والمطلق والمقيد وغيرها، ووضعها عنده في أنواع علوم القرآن. ولو نُظِر إلى هذه العلوم على أنها من علوم القرآن لظهر عندنا مسائل مغايرة لما هو معروف في كتب أصول الفقه. على سبيل المثال: إذا رجعنا إلى مسائل (العموم والخصوص) في كتب علوم القرآن، فإننا سنجد أن البحث فيها بحث أصولي بحت؛ أي: أنه يغلب عليه جانب الأحكام الذي هو مادة أصول الفقه.

ولا تجد الذين بحثوا في علوم القرآن تعرضوا للتفسير بالمثال، وكونه لا يُعدُّ تخصيصاً، ولو نظرت إلى تفسير السلف لوجدت تفسير العموم بالمثال كثير عندهم، وسبب ذلك أن تفسير العموم بالمثال ليس من مباحث أصول الفقه، فلم يذكروه، ثم إن من كتب في علوم القرآن غفل عن ذلك، مع كثرة تطبيقاته في تفسير السلف. هذا مثال من الأمثلة التي تدل على أننا لو بحثنا هذه العلوم التي لها علاقة بأصول الفقه من جهة علوم القرآن فسنظفر بأمثلة وموضوعات ومعلومات ليست موجودة في أصول الفقه، فاستقاء علوم القرآن من كتب أصول الفقه دون تحرير المسائل المختصة بالتفسير جعل في كتب علوم القرآن قصوراً (¬1). الثالثة: هذه العلوم التي ذكرها منها ما لا يقوم التفسير إلا به فهو مما يحتاجه المفسر، ومنها ما يحتاج جزءاً منه، ومنها ما ليس له علاقة بالتفسير وإنما له علاقة بعلم آخر، وسيتبين ذلك بالتفصيل عند الحديث عن كل علم من هذه العلوم. والمقصد أن من المهم لطالب علم التفسير ولمن يقرأ في علوم القرآن أن يتنبه للفروق بين الموضوعات وما الذي يحتاجه في حال التفسير الذي هو بيان معاني كلام الله؟ وما الذي يحتاجه بعد التفسير؟ فليس كل ما كُتِبَ في كُتُبِ التفسير يمكن أن يحكى لطلاب العلم؛ لأن فيه أشياء تعد فضلة، فهناك معلومات تكون مضافة لكتب التفسير وهي من المعلومات التي تأتي بعد التفسير، فما هو القدر الذي نحتاجه من هذه المعلومات؟ ¬

(¬1) مما يحسن أن يوجَّه إليه الطلاب في البحوث التطبيقية أن يستخرجوا مسائل علوم القرآن من خلال كتب المفسرين، وأن يجتهدوا في استدراك المسائل المتعلقة بأنواع علوم القرآن مما لم يذكره علماؤنا السابقون رحمهم الله.

هذه المعلومات هي التي يتمايز بها العلماء في مناهجهم؛ ولذا صار عندنا اتجاهات مختلفة: اتجاه عقدي، واتجاه فقهي، واتجاه نحوي، وغيرها، فكل واحد من هؤلاء تميز بميزة لم تكن عند الآخر أضافها إلى كتابه، أما المادة التفسيرية، فالغالب أن يكون بينهم تقارب، وإن كان هناك اختلاف في الاختيار. فإن قال قائل: هل هذه فقط هي علوم القرآن التي ذكرها المؤلف؟ الجواب: لا، وإنما ذكر المؤلف بعضها، ويمكن أن يستدرك على هذا علوم كثيرة جداً، فلو قال قائل مستدركاً: أمثال القرآن، واستدل بقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] على أنها من العلوم المهمة التي يجب أن يعلمها المفسر وغير المفسر بناء على دلالة الآية، فإن هذا صواب.

العلم الأول من علوم القرآن: التفسير

العلم الأول من علوم القرآن: التفسير قال رحمه الله: فأما التفسير فهو المقصود بنفسه، وسائر هذه الفنون أدوات تعين عليه، أو تتعلق به، أو تتفرع منه، ومعنى التفسير: شرح القرآن وبيان معناه، والإفصاح بما يقتضيه بنصه، أو إشارته، أو فحواه (¬1). المؤلف رحمه الله عبَّر عن التفسير بمعنى الشرح، وهذا هو أحد مدلولات هذه اللفظة في اللغة، وإن كان لفظ الشرح من حيث الاصطلاح العام بين طلبة العلم يتجه إلى شرح الحديث، والتفسير يتجه إلى تفسير القرآن، فأنت تقول: شرح فلان الحديث ولا تقول: فسّر فلان الحديث، وتقول: فسر فلان آية، ولا تقول: شرح الآية، هذا في الغالب، فقوله: «شرح القرآن» كأنه اعتمد على الأصل اللغوي لمعنى التفسير، وهي أحد معاني التفسير في اللغة. قوله: (شرح القرآن وبيان معناه، والإفصاح بما يقتضيه بنصه ـ الذي هو المنصوص عليه ـ أو إشارته أو فحواه)، والمؤلف رحمه الله أدخل (النص والإشارة والفحوى) وهي من علم أصول الفقه، ولم يذكر أمثلة عليها، لكن يظهر أن المؤلف قد توسع في مفهوم التفسير فأدخل ما ليس من باب الشرح والبيان للمعاني في علم التفسير، ويمكن وضوح هذه ¬

(¬1) وردت في بعض النسخ: «نجواه» بالنون والجيم بعدها، والصواب: «فحواه» بالفاء والحاء بعدها كما هو في (التسهيل) تحقيق: محمد بن مولاي 1/ 62.

المشكلة من خلال المثال، فلو أردنا تفسير قوله سبحانه وتعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]، نقول: أي: هلك وخسر أبو لهب وقد خسر؛ لأنه إخبار بأنه قد وقع في الخسارة، {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2] أي: لم ينفعه ماله ولا ولده، ثم قال: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3] أي: سيدخل ناراً حامية ذات لهب، {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] أي: وامرأته ستصلى النار أعني حمالة الحطب، أي: التي تحمل الشوك فتلقيه في طريق النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو أنها كانت تمشي بالنميمة. وبهذا لا نجد أن شيئاً من معاني الآيات بقي بلا تفسير. وفي قوله: {وَامْرَأَتُهُ} إشارة إلى صحة عقود أنكحة الكفار؛ لأن الله سبحانه نسب المرأة الكافرة إلى زوجها الكافر، كما أشار إلى ذلك الشافعي، وهذا من دقة استنباطه، ولكن هذه الإشارة ليست تفسيراً؛ لأنك لو فقدت هذه المعلومة ولم تطرأ على بالك فإنها لا تؤثر في فهم المعنى، وما دامت لا تؤثر في فهم المعنى فهي خارجة عن حد التفسير، لكنها من علوم الآية؛ لأنها مستنبطة منها. والمقصد من هذا أن قول المؤلف: (بيان معناه) هذا هو حقيقة التفسير، وما سوى ذلك فهو خارج عن حد بيان المعنى.

الإجماع والاختلاف في التفسير

الإجماع والاختلاف في التفسير قال المصنف رحمه الله: واعلم أن التفسير منه: متفق عليه، ومختلف فيه، ثم إن المختلف فيه على ثلاثة أنواع: الأول: اختلاف في العبارة مع اتفاق في المعنى، فهذا عده كثير من المؤلفين خلافاً وليس في الحقيقة بخلاف؛ لاتفاق معناه، وجعلناه نحن قولاً واحداً، وعبَّرنا عنه بأحد عبارات المتقدمين، أو بما يقرب منها، أو بما يجمع معانيها، الثاني: اختلاف في التمثيل؛ لكثرة الأمثلة الداخلة تحت معنى واحد وليس مثال منها على خصوصه هو المراد، وإنما المراد: المعنى العام التي تندرج تلك الأمثلة تحت عمومه، فهذا عده أيضاً كثير من المؤلفين خلافاً وليس في الحقيقة بخلاف؛ لأن كل قول منها مثال للمراد وليس بكل المراد، ولم نعده نحن خلافاً بل عبرنا عنه بعبارة عامة تدخل تلك الأقوال تحتها، وربما ذكرنا بعض تلك الأقوال على وجه التمثيل مع التنبيه على العموم المقصود. الثالث: اختلاف المعنى، فهذا هو الذي عددناه خلافاً ورجَّحنا فيه بين أقوال الناس حسبما ذكرناه في خطبة الكتاب (¬1). لما ذكر تعريف التفسير انتقل إلى موضوعات في علوم أصول التفسير ويطلق عليها الإجماع والاختلاف في التفسير؛ لأنه قال: (واعلم أن التفسير منه متفق عليه وهذا يمثل الإجماع، ومنه ما هو مختلف فيه وهذا يمثل الاختلاف). ¬

(¬1) التسهيل 1/ 62، 63.

والتفسير ليس كله متفقاً عليه بل هناك خلاف بين السلف، وإذا كان بين السلف خلاف فمن باب أولى أن يكون خلاف فيمن جاء بعدهم؛ لأنه كلما ابتعد العصر عن زمن النبوة زادت رقعة الاختلافات، وهذه قاعدة علمية ذكرها شيخ الإسلام في «مقدمة في أصول التفسير»، فالاختلاف مقرر، وكذلك الإجماع مقرر (¬1). والذي يعنينا في هذا الباب هو الاختلاف الذي نصَّ عليه المؤلف، وقد انطلق المؤلف في أنواع الاختلاف من اللفظ والمعنى، فقال في النوع الأول: (اختلاف في العبارة مع اتفاق في المعنى، فهذا عده كثير من المؤلفين خلافاً وليس في الحقيقة بخلاف لاتفاق معناه). أقول: لعل السبب الذي جعل بعض المفسرين يعده اختلافاً راجع إلى منهجية المفسر، فابن الجوزي (ت597هـ) في «زاد المسير» قد يجعل في الآية سبعة أقوال، وإذا تأملنا هذه الأقوال وجدنا أن بعضها يرجع إلى بعض، فكأن هذه المنهجية في تعداد الأقوال جَعَلَها أقوالاً مستقلةً، وكأنها متغايرة، والحقيقة أن بعضها يرجع إلى بعض. وهذا الأسلوب ليس منه ما يفعله بعض المفسرين من الحفاظ على عبارات السلف، فيذكرون كل قول بسنده كما هو الحال في تفسير الطبري (ت310هـ) وابن أبي حاتم (ت327هـ). فهذا ليس من هذا الباب الذي يذكره المؤلف؛ لأن المقصد من ذلك أن يذكر من قال بهذا القول من المفسرين، أو على سبيل ما ورد في لفظ هذه الآية من المعاني عند السلف، وليس على سبيل أنها أقوال؛ لذا يفرق بين هذين المنهجين. ¬

(¬1) كتب الشيخ الدكتور محمد بن عبد العزيز الخضيري رسالة علمية «الإجماع في التفسير»، وهي مطبوعة.

أما المثال على اختلاف العبارة واتفاق المعنى، فقوله تعالى: {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} [الأنعام: 70] فـ {تُبْسَلَ} قيل: تحبس، وقيل: ترتهن، فـ (تحبس وترتهن) تدخل في اختلاف العبارة واتفاق المعنى؛ لأن الحبس والارتهان في النهاية بمعنى الحبس، فعبارة الرهن غير عبارة الحبس، والمعنى الكلي واحد. مثال: قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق: 17] بعضهم قال: (وما جمع)، وبعضهم قال: (وما ضم)، وبعضهم قال: (وما حوى)، وهذا اختلاف في العبارة بين (حوى) و (ضم) و (جمع)، لكن المعنى في النهاية واحد، فهذا اختلاف في العبارة والمعنى واحد. الثاني: قال رحمه الله: (اختلاف في التمثيل لكثرة الأمثلة الداخلة تحت معنى واحد، وليس مثال منها على خصوصه هو المراد، وإنما المراد المعنى العام التي تندرج تلك الأمثلة تحت عمومه)؛ أي: لفظٌ عامٌّ فُسِّر بأمثلة. مثاله: قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32] الظالم لنفسه: هو الذي يؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها، والمقتصد: هو الذي يصليها في وقتها، والسابق بالخيرات: هو الذي يصليها في أول الوقت، هذا قول من الأقوال، لكن هل المراد بالظالم لنفسه فقط هو الذي يؤخر الصلاة، والمقتصد الذي يصليها في وقتها وإن أخرها عن أوله، والسابق هو الذي يصليها في أول الوقت. ليس المقصود هذا المعنى فقط دون غيره، إنما هو مثال لعمل من أعمال الإسلام يقع فيه ظلمٌ للنفس أو اقتصادٌ أو سبقٌ في الخيرات. مثال: قوله تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3] بعضهم قال: (قدر؛ أي: خلق الطفل وهداه إلى ثدي أمه)، وبعضهم قال: (هدى

الذكر للأنثى) هذه الأقوال إذا تأملناها هي أمثلة فقط، لنوع من أنواع الهداية والتقدير الرباني. مثال: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] {الْحَسَنَاتِ} قيل: الصلوات الخمس، وقيل: إنها قول العبد: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر). وهذه الأقوال إنما هي ذكر وأمثلة للحسنات، ولو قال قائل: إن الحسنات هي بر الوالدين، وقال آخر: إن الحسنات هي إيتاء الصدقة، وقال آخر: إن الحسنات هي متابعة الحج، بعد الحج فهذا كله داخل في معنى الحسنات، فالحسنات لفظ عام، ويشمل أمثلة كثيرة. ثم قال: (فهذا عدَّه أيضاً كثير من المؤلفين خلافاً وليس في الحقيقة بخلاف؛ لأن كل قول منها مثال للمراد، وليس بكل المراد؛ ـ أي: ليس كل قول فيها هو المراد كله ـ، ولم نعده نحن خلافاً بل عبرنا عنه بعبارة عامة تدخل تلك تحتها، وربما ذكرنا بعض تلك الأقوال على وجه التمثيل مع التنبيه على العموم المقصود). فإن قال قائل: كيف نعرف أن المفسر أراد التمثيل ولم يرد التخصيص؟ الجواب: إن الأصل في تفسير العام بما يشعر الخصوص أنه يُحمل على التمثيل إلا أن تدل عبارة المفسر على التخصيص بأن يذكر لفظة «خاصة»، أو توجد قرينة غيرها تدل عليه. ومن قرائن كون التفسير على سبيل المثال أن يرد عن المفسرين أكثر من مثال، وهذا يدلُّ على أنهم أرادوا التمثيل للفظ العام، وليس التخصيص، ومثال ذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3]، قيل: الشفع: العاشر من ذي الحجة، والوتر: يوم عرفة، فيوم تسعة يتحقق فيه أنه وتر، ويوم عشرة يتحقق فيه أنه شفع، وهذا عليه

كثير من السلف؛ لأنهم في قوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2] قالوا: إنها عشر ذي الحجة، وإذا رجعنا إلى أقوال المفسرين المتأخرين نجد أنها وصلت إلى عشرين قولاً، قال ابن الجوزي: «وللمفسرين في (الشفع والوتر) عشرون قولاً» (¬1). قال بعضهم: الشفع: الخلق، والوتر: الله. وقيل: الشفع والوتر هي الصلوات، منها شفع ومنها وتر، والوتر في الصلوات هي المغرب والبقية هي شفع. وقيل: الوتر: آدم، والشفع: حواء؛ لأن آدم كان وتراً، ولما خلقت حواء كانا شفعاً، وذُكر غير هذه الأقوال، وليس في أحد هذه الأقوال ما يدل على التخصيص. مثال التخصيص: قول بعضهم عند قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} [الليل: 17]: نزلت في أبي بكر خاصة، فالعبارة دالة على التخصيص والقرينة واضحة جداً عند من قال بهذا. ومن يقول: إنها نزلت في أبي بكر خاصة لا يعني أنه لا يُدخل غير أبي بكر في هذا الخطاب، بل يدخل عنده من باب القياس وليس من باب تعميم اللفظ، ومن يقول: إن أبا بكر رضي الله عنه مثال من أمثلة الأتقى، وهو أعلى مثال يذكر، فإنه يجعل اللفظ عامّاً. وهذه الآية مثال على الاختلاف في (هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب)؟. فمن يرى التعميم في اللفظ فإنه لا يحتاج إلى القياس، أما من يرى تخصيص اللفظ وأنها نزلت في أبي بكر خاصة فيدخل غيره معه على سبيل القياس وليس على سبيل تعميم اللفظ، وهذا من باب المسائل المهمة فيما يتعلق ببحث العموم والخصوص في تفسير السلف. ¬

(¬1) زاد المسير 1543.

النوع الثالث من أنواع الاختلاف قوله: (الثالث اختلاف المعنى، فهذا هو الذي عددناه خلافاً ورجَّحنا فيه بين أقوال الناس حسب ما ذكرناه في خطبة الكتاب). هذا النوع تتعدد فيه المعاني وتختلف، لكن ليست على سبيل التمثيل، وهو يختلف عن النوع السابق كما ستظهر من خلال المثال. مثاله: القُرء في قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فمن قال: القرء: (الحيض) يغاير من قال: القرء: (الطهر)؛ لأنه يلزم أن يكون المراد بالقرء؛ إما الحيض وإما الطهر، وهذا من باب التضاد، وهذا يلزم منه أن يكون في أكثر من معنى. ومن أمثلة ما يرد فيه أكثر من معنى، وإن لم تكن متضادة، ما ورد في تفسير قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ *عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 1، 2] قيل: {النَّبَإِ} هو القرآن، وقيل: هو البعث، وهذا الاختلاف يرجع إلى أكثر من معنى. مثال آخر: قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2]. قيل: {الْكِتَابَ} هو القرآن، وقيل: هو التوراة وهذا يرجع إلى أكثر من معنى. هذه ثلاثة أنواع من أنواع الاختلاف عند ابن جزي، لا يخرج أي نوع من أنواع الاختلاف عنها. واختلاف المعنى قد يكون متقارباً، ويسمى اختلاف تنوع، وقد يكون بين قول صحيح وقول غير صحيح يحتاج إلى الترجيح، وقد يكون كلا القولين صحيحاً على وجه لا يمكن حمل الآية على المعنيين فيلزم الترجيح بينهما كما في معنى القرء.

أمثلة تطبيقية على أنواع الاختلاف: هذه أمثلة على أنواع الاختلاف من تفسير ابن الجوزي لزيادة التوضيح والبيان: مثال: {يَازَكَريَا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم: 7]. فيه ثلاثة أقوال: 1 - لم يسمَّ يحيى قبله. 2 - لم تلد العواقر مثله. 3 - لم نجعل له من قبل مثلاً وشبهاً (¬1). هذه الأقوال لو طبقناها على أنواع الاختلاف عند ابن جزي فإننا نجد أن القول الثاني والثالث يدخلان في اختلاف العبارة واتحاد المعنى. أما القول الثاني والثالث مع القول الأول، فهذا من باب اختلاف المعنى؛ لأن المعنيين مختلفان. مثال: قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} [مريم: 24]. فيه قولان: أنه الملَك، وقيل: المنادي هو عيسى (¬2). هذا من النوع الثالث وهو اختلاف المعنى؛ لأن المنادي واحد؛ إما هذا؛ وإما ذاك. مثال: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24]، {سَرِيًّا} قيل: 1 - النهر الصغير، وهو قول جمهور المفسرين. ¬

(¬1) زاد المسير 878. (¬2) زاد المسير 882.

2 - أنه عيسى عليه السلام، وهو قول الحسن (ت110هـ) وغيره. هذا يرجع إلى النوع الثالث وهو اختلاف المعنى (¬1). مثال: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7] فيه خمسة أقوال: 1 - أن السر: ما أسره الإنسان في نفسه، وأخفى: ما لم يكن بعد وسيكون. 2 - أن السر: ما حدثت به نفسك، وأخفى: ما لم تتلفظ به. 3 - أن السر: هو العمل الذي يسره الإنسان من الناس، وأخفى: منه الوسوسة. 4 - أن معنى الكلام يعلم أسرار عباده وقد أخفى سره عنهم فلا يعلم. 5 - يعلم ما أسره الإنسان إلى غيره وما أخفاه في نفسه (¬2). هذا من النوع الثاني وهو الاختلاف في التمثيل للعموم؛ لأن «السر وأخفى» لفظان عامان يشملان هذه الأقوال. مثال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، المراد بالغيب فيه أقوال: 1 - أنه الوحي. 2 - أنه القرآن. 3 - أنه الله عزّ وجل. 4 - أنه ما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار ونحو ذلك مما ذكر في القرآن (¬3)، وهذا من النوع الثاني؛ لأن الغيب لفظ عام، والوحي غيب بالنسبة لنا، والقرآن مرتبط بالوحي، وذات الله سبحانه بالنسبة لنا ¬

(¬1) زاد المسير 882. (¬2) زاد المسير 900. (¬3) زاد المسير 39.

غيب، وفيما يتعلق بإنزال القرآن بالنسبة لنا غيب، فلا تستطيع أن تقول شاهدت نزول القرآن فهذا غيب، وكذا الجنة غيب، ونحن لا نتكلم عن الثبوت بل نتكلم عن المشاهدة (¬1). مثال: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} [الجن: 4] السفيه فيه أقوال: 1 - إبليس. 2 - أنه كفار هؤلاء الجن. هذا من النوع الثاني إذا كانت الإضافة تدل على العموم، ويمكن أن يكون من الثالث وهو اختلاف المعنى إذا جعلت إبليس من غير الجن. مثال: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، فيه ثلاثة أقوال: 1 - أنه الزوج. 2 - أنه الولي. 3 - أنه أبو البِكْرِ (¬2). على القول بأن أبا البكر هو الولي فيكون القول الثاني والثالث من النوع الأول وهو اختلاف عبارة؛ لأنه في نهاية الأمر هو الولي. واختلافهم في كونه الولي أو الزوج يدخل في النوع الثالث: اختلاف المعنى. مثال: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر: 20] المشار إليه {فِيهَا}: فيه قولان: 1 - الأرض. ¬

(¬1) زاد المسير 1478. (¬2) زاد المسير 146.

2 - الأشياء التي أُنبتت (¬1). هذا فيه اختلاف في مرجع الضمير. وهنا قاعدة: الأصل في الاختلاف في مرجع الضمير أن يكون من النوع الثالث؛ لأنه يؤدي إلى اختلاف المعنى. مثال: قوله تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ *وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات: 6، 7] فيه قولان: 1 - أنه الرب. 2 - أنه الإنسان (¬2). هذا يعود إلى النوع الثالث، وهو اختلاف المعنى. مثال: {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] التأويل فيه قولان: 1 - هو التفسير. 2 - العاقبة المنتظرة (¬3). وهذا يرجع إلى النوع الثالث. مثال: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78] {هُوَ سَمَّاكُمُ} قيل: الله، وقيل: إبراهيم عليه السلام (¬4)، وهذا يرجع إلى النوع الثالث. ويحسن أن نشير إلى الذين تكلموا عن أنواع الاختلاف الوارد في التفسير هم: شيخ الإسلام، ثم ابن جزي، ثم الشاطبي، ثم الشيخ ابن عثيمين، فهؤلاء لهم تنظير في أنواع الاختلاف الوارد في التفسير. ¬

(¬1) زاد المسير 757. (¬2) زاد المسير 1580. (¬3) زاد المسير 179. (¬4) زاد المسير 968.

الفرق بين التفسير والتأويل

الفرق بين التفسير والتأويل قال رحمه الله: فإن قيل: ما الفرق بين التفسير والتأويل؟ فالجواب أن في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: أنهما بمعنى واحد، الثاني: أن التفسير للفظ والتأويل للمعنى، الثالث وهو الصواب: أن التفسير: هو الشرح، والتأويل: هو حمل الكلام على معنى غير المعنى الذي يقتضيه الظاهر بموجب اقتضى أن يحمل على ذلك ويخرج على ظاهره (¬1). المرجع الأول في الفرق بين التفسير والتأويل هما الكتاب والسنة، والمرجع الثاني هو اللغة، والتأويل مرتبط بالقرآن، وأصل النقاش في ذلك هو قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران: 7]، فنحن نحتاج إلى الرجوع أولاً إلى الكتاب والسنة لمعرفة مصطلح التأويل فيها، ثم الرجوع إلى تفسير المفسرين من السلف الذين اعتمدوا على اللغة، وننظر في قولهم. ولا يوجد في الكتاب والسنة وفي تفسير السلف وفي اللغة للتأويل إلا أحد معنيين: 1 - التفسير. 2 - ما تؤول إليه حقائق الأشياء. ولو وقفنا عند هذا الحد ولم نرجع إلى الخلافات التي وردت حتى ¬

(¬1) التسهيل 1/ 63.

صارت خمسة عشر قولاً بين التفسير والتأويل لكان المعنى واضحاً في الفرق بين التفسير والتأويل. فإن قال قائل: هل التفسير هو التأويل؟ نقول: (نعم) باعتبار، و (لا) باعتبار، فإذا كان مرادك بالتأويل كشف معنى الكلام صار في معنى التفسير، وإذا كان مرادك بالتأويل ما تؤول إليه حقيقة هذا الكلام، فهذا غير التفسير. في قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ} [النمل: 82]. التأويل بمعنى التفسير: يخبر الله أنه يُخرج للناس في آخر الزمان دابة من دواب الأرض .... التأويل بمعنى ما تؤول إليه حقيقة الشيء منه (شكل الدابة ولونها وطولها ومتى تخرج)، وهذا التأويل بمعنى ما تؤول إليه حقيقة الشيء لا يمكن إدراكه إلا إذا وقع. والتأويل بهذا المعنى لا علاقة له بالتفسير؛ لأن التفسير بيان المعاني، وإدراك الحقيقة خارج عن بيان المعاني، لكن لا يعني أن هذه الحقيقة لا معنى لها، بل لها معنى، لكن النظر هنا إلى كيفيتها وليس إلى معناها. أما الآية التي وقع فيها الخلاف هي قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران: 7] فإن قلنا: إن المراد بالتأويل التفسير، فإن المتشابه يعلمه الله سبحانه ويعلمه العلماء، لكن المتشابه هنا هو المتشابه في المعاني. وجمهور الأمة يعرفون معاني القرآن من حيث جملتهم، وليس هناك معنى يخفى على الجميع، وإن خَفِي على بعضهم فإن غيرهم من العلماء يعلمونه، ويكون الخفاء على بعضهم من قبيل المتشابه النسبي؛ أي: هو بالنسبة لمن خَفِيَ عليه متشابه، وبالنسبة لمن علِمه محكم، وهذا يدخل في التأويل الذي هو بمعنى التفسير.

وإذا قلنا إن التأويل هو المتشابه الكلي الذي لا يعلم حقيقته ووقت وقوعه إلا الله، فيكون ما يدخل في هذا التأويل من هذه الجهة، وإن كان معناه معروفاً خارجاً عن حدِّ التفسير، وهذا التفصيل هو القول الحق في هذه الآية؛ لأنه هو الوارد عن السلف من الصحابة والتابعين الذين هم أعلم الأمة بتفسير القرآن. وإنما وقع الإشكال في مصطلح التأويل لمَّا استخدم المجاز، وجُعِل مطية لبعض التأويل المنحرف في العلوم الإسلامية، فوقع بذلك تفسير التأويل في كتاب الله بالمعنى الذي ذكره المؤلف، وهو القول الثالث الذي ذهب أنه هو الصواب، فذهب إلى أن المراد به حمل الكلام على معنى غير المعنى الذي يقتضيه الظاهر. وتخصيص التأويل بهذا المعنى دون غيره ليس بصواب؛ لأن هذا ليس معروفاً في كلام الله، ولا في كلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولا في كلام السلف، ولا في لغة العرب، وقصارى الأمر أن يكون هذا من باب الاصطلاح، والاصطلاح لا يُحَكَّم على ألفاظ القرآن وألفاظ السنة وكلام العرب؛ لأنه سيؤدي إلى خلل وخطأ جسيم في حمل معنى كلام الله وكلام رسوله على ما لم يريداه. الإشكال في كلام المؤلف أنه جعله هو معنى التأويل لا غير، أما حمل الكلام على معنى غير المعنى الذي يقتضيه الظاهر لموجب، فهو يرجع إلى معنى التفسير، ومثال ذلك قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [الإسراء: 59] المعنى الظاهر: آتينا ثمود الناقة ذات البصر، لكن هذا الظاهر ليس المراد، وإنما المراد: آية مبصرة، وإذا قلنا إن هذا من حمل الكلام على معنى غير المعنى الذي يقتضيه الظاهر، وإذا تأملنا هذا المعنى الذي ذُكر عند المتأخرين وهو المخصِّص للتأويل نجد أنه في حقيقته تفسير؛ لأنه إذا كان هذا هو المراد من كلام الله وكلام رسوله، فإنه يكون من باب التفسير في النهاية.

والمقصود من هذا أننا عندما نترك الظاهر الصحيح في المعنى إلى غير الظاهر لموجب فهو في الحقيقة تفسير سواء سمَّيناه تأويلاً وخصَّصناه بهذا المصطلح، أو سمَّيناه بأي مصطلح آخر فهو يرجع إلى معنى التفسير، لكن الإشكال أنه جُعل هو معنى التأويل لا غير، وحُمل عليه كلام الله وكلام رسوله عليه السلام، لكن لو كان بهذا المعنى الذي ذكرنا فإما أن يكون من باب التفسير، وإما أن يكون من باب ما تؤول إليه حقائق الأشياء. وإذا أردت أن تسلم من إشكالات التأويل فقِفْ عند هذا الحد؛ لأن التأويل يأتي بمعنى (ما تؤول إليه حقائق الأشياء) ويأتي بمعنى (التفسير) ويعرف هذا من السياق، كما هو الحال من استعمال أبي جعفر الطبري لهذه العبارة في عنوان كتابه: (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، وكذا يستعمل هذه العبارة (القول في تأويل قوله تعالى) في كل كتابه من بدايته إلى نهايته، ويريد بذلك التفسير، ولا يريد به ما تؤول إليه حقائق الأشياء، ولا صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر.

العلم الثاني من علوم القرآن: القراءات

العلم الثاني من علوم القرآن: القراءات قال رحمه الله: وأما القراءات فإنها بمنزلة الرواية في الحديث فلا بد من ضبطها كما يضبط الحديث بروايته، ثم إن القراءات على قسمين: مشهورة، وشاذة، فالمشهورة هي القراءات السبع، وما جرى مجراها كقراءة يعقوب، وابن محيصين، والشاذة ما سوى ذلك. وإنما بنينا هذا الكتاب على قراءة نافع المدني لوجهين: أحدهما: أنها القراءة المستعملة في بلادنا بالأندلس وسائر بلاد المغرب الأخرى؛ والآخر: الاقتداء بالمدينة شرفها الله؛ لأنها قراءة أهل المدينة، وقال مالك بن أنس: «قراءة نافع سنة»، وذكرنا من سائر القراءات ما فيها فائدة في المعنى والإعراب، وغير ذلك، دون ما لا فائدة فيه زائدة، واستغنينا عن استيفاء القراءات؛ لكونها مذكورة في الكتب المؤلفة فيها، وقد صنَّفنا فيها كتباً نفع الله بها، وأيضاً فإنا لما عزمنا في هذا الكتاب على الاختصار حذفنا منه ما لا تدعو إليه الضرورة، وقد ذكرنا في هذه المقدمات باباً في قواعد أصول القراءات (¬1). العلم الثاني من العلوم: علم القراءات، وقد ذكر المؤلف عن القراءات أنها بمنزلة الحديث، ويريد بذلك أن الطريق إليها الرواية، لكن لا شك أن طريقة تلقي القراءات تختلف عن طريقة تلقي الأحاديث، ¬

(¬1) التسهيل 1/ 63، 64.

فالأحاديث إذا كانت تنفع فيها الوجادة وغيرها، فإن القراءات لا ينفع فيها إلا المشافهة فقط: إما عرضاً وإما سماعاً، فلا يمكن أخذها من غير هذين الطريقين إطلاقاً، وكذلك ضبط ألفاظ القرآن في منتهى الدقة تماماً بحيث لا يقع فيه خلل بخلاف ضبط ألفاظ الحديث فقد يقع فيه الخطأ من الناقل، فضبط روايات القرآن أصح وأعلى وأدق من ضبط روايات الحديث. قوله رحمه الله: (وإنما بنينا هذا الكتاب على قراءة نافع). أفادنا المؤلف أن كتابه مبني على قراءة نافع (ت117هـ) برواية قالون (ت220هـ)، وهي قراءة أهل المدينة، لذا فإنه يلزم في طباعة هذا التفسير أن يكون مرسوماً بهذه الرواية، ليتوافق مع التفسير، ولو طبع بقراءة حفص (ت180هـ) فسيقع فيه خلل في التفسير، فتكون الآية على قراءة حفص (ت180هـ)، والتفسير على قراءة قالون (ت220هـ). ثم ذكر سبب الأخذ بقراءة قالون: الأول: (أنها القراءة المستعملة في بلادنا بالأندلس وسائر بلاد المغرب)، وهذا يفيدنا في تاريخ القراءات، ففي القرن الثامن الذي هو عصر المؤلف كانت قراءة قالون هي المستخدمة في تلك البلاد، ولا تزال كذلك إلى الآن. ثم قال: (الآخر: الاقتداء بالمدينة شرفها الله؛ لأنها قراءة أهل المدينة) حيث روى عن نافع (ت117هـ) راوياه: ورشٌ (ت190هـ) وقالون (ت220هـ)، وورش عَرَضَ ما عنده، وقالون قرأ بالقراءة العامة التي ارتضاها نافع، وأقرأ بها أهل المدينة وغيرهم. ثم ذكر قول الإمام مالك بن أنس (ت179هـ): «قراءة نافع سنة» (¬1)، ومالك هو إمام أهل المدينة، ولهذا يقتدي به المالكية من أهل المغرب في اعتماد قراءة نافع. ¬

(¬1) السبعة لابن مجاهد، ص62.

وقد أشار المؤلف إلى ضابط لطيف فيما يحتاجه المفسر من هذا العلم، فقال: (وذكرنا من سائر القراءات ما فيها فائدة في المعنى، والإعراب، وغير ذلك، دون ما لا فائدة فيه زائدة)، وهذا يعني أن المفسر لا يحتاج كل علم القراءات في التفسير، يحتاج منه الاختلاف الذي يكون مرتبطاً ببيان المعنى، ومن الأمثلة على ما لا نحتاجه في التفسير من القراءات قوله تعالى: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 19] فـ (تخشى) قرئ بالفتح والإمالة، وهذه ليس لها أثر في التفسير. مثال آخر: في قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] فيها قراءتان ـ كما ذكر الشوكاني (¬1) وغيره ـ: الأولى: بالفك وهو الإظهار، والثانية: بالإدغام، وهذا ليس له أثر في التفسير. لكن قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24] {بِضَنِينٍ}: (ببخيل)، و (بظنين) بالظاء (بمتهم)، فيه أثر في التفسير؛ لأن المعنى يختلف. مثال آخر: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون: 67] قرئت (تَهْجُرُون) من (هجر)، وقرئت (تُهْجِرُون) من (أهجر)، وهذا له أثر في المعنى. والمقصد أن اختلاف القراءات إذا كان له أثر في المعنى فلا شك أنه من التفسير، وإذا لم يكن له أثر في المعنى فيكون من خصوصيات علم القراءات، ولذا لا يلزم المفسر أن يكون عالماً بتفاصيل علم القراءات؛ ولا نطلب من المفسر أن يكون مقرئاً، كما لا نطلب من المقرئ أن يكون مفسراً. ومن ثَمَّ، فلا يقال للمفسر: ماذا قرأ نافع؟ وماذا قرأ قالون؟ وكيف ¬

(¬1) فتح القدير 5/ 181.

تقرأ هذه؟ بل هذا يطلب من المقرئ فهذه مهمته، ومهمة المفسر أن يبين الفرق بين (هجر) و (أهجر) في (تَهْجُرُون) و (تُهْجِرُون)، والفرق بين (سُكِرَت) و (سُكِّرَت) والفرق بين (بضنين) و (بظنين)، والفرق بين (يُعَذِّبُ) و (يُعَذَّبُ) في قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 25]. وكأن ابن جزي يريد أن يقول: ما له فائدة فيما يتعلق بالمعنى والإعراب وما قرب منه فإنه يأخذ به؛ مثل: البلاغة، لكن ما سوى ذلك فإنه يتركه؛ لأن المرجع فيها كتب القراءات؛ ولذلك قال: (واستغنينا عن استيفاء القراءات لكونها مذكورة في الكتب المؤلفة فيها) فهو انتخب من علم القراءات ما له علاقة بالمعنى والإعراب وما قرب من ذلك. ثم ذكر تأليفه في هذا العلم، وله رحمه الله كتاب مطبوع في قراءة نافع (ت117هـ) برواية قالون (ت220هـ). ثم ذكر سبب الاختصار وأنه عمد إليه، حيث قال: (فإنا لما عزمنا في هذا الكتاب على الاختصار حذفنا منه ما لا تدعو إليه الضرورة وقد ذكرنا في هذه المقدمات باباً في قواعد أصول القراءات)، وسيذكر المؤلف عند حديثه عن مصادره في هذا الكتاب: كتاب المهدوي (ت440هـ) الذي توسع في القراءات فجعلها من صلب الكتاب، وذكرها على طريقة كتب القراءات، فالمهدوي رحمه الله بنى كتابه على علوم منها: علم التفسير وعلم الإعراب وعلم القراءة، فيذكر القراءة ويوجهها، ويذكر قضايا في الأداء وغيرها.

العلم الثالث: أحكام القرآن

العلم الثالث: أحكام القرآن قال رحمه الله: وأما أحكام القرآن فهي ما ورد فيه من الأوامر والنواهي والمسائل الفقهية، وقال بعض العلماء: إن آيات الأحكام خمسمائة آية، وقد تنتهي إلى أكثر من ذلك إذا استقصى تتبعها في مواضعها، وقد صنف الناس في أحكام القرآن تصانيف كثيرة، ومن أحسن تصانيف المشارقة فيها: تصنيف إسماعيل القاضي، وأبي الحسن إلكيا، ومن أحسن تصانيف أهل الأندلس: تأليف القاضي الإمام أبي بكر بن العربي، والقاضي الحافظ ابن محمد بن عبد المنعم بن عبد الرحيم المعروف بابن الفرس (¬1). يتحدث المؤلف عن علم أحكام القرآن حيث قال: (فهي ما ورد فيه من الأوامر والنواهي والمسائل الفقهية) كأنه أراد بذلك علم الفقه، والمفسر لا يحتاج إلى علم الفقه بأصوله وفروعه في علم التفسير؛ لأن المفسر ليس فقيهاً ولا يطلب منه أن يذكر فروع المسائل الفقهية، ولا يُطلب منه استنباطٌ مثل استنباط الفقهاء، بل يُطلب من المفسر أن يفهم المسائل الفقهية المنصوص عليها في القرآن؛ لأن المسائل الفقهية المنصوص عليها في القرآن هي من التفسير. والمقصود أن أحكام القرآن المنصوص عليها في القرآن هي جزء ¬

(¬1) التسهيل 1/ 65.

من علم التفسير بلا ريب؛ لأنه لا يتم فهم المعنى إلا بفهم الحكم الشرعي المنصوص عليه، أما ما عدا ذلك من الاستنباطات أو تفصيل مسائل الفروع في باب من أبواب الفقه فهذا ليس من مهمة المفسر، ولا هو من صلب التفسير، ولا هو مما يحسن إدخاله في كتب التفسير. الكتب التي ذكرها المؤلف مختصة بأحكام القرآن فقط، فهم يأخذون الآيات التي فيها أحكام ويناقشون أقوال الفقهاء فيها، والراجح منها، كلٌّ على مذهبه، والمذكورون كلهم مالكية، و «أبو الحسن كباه» هذا لا أعرفه (¬1)، أما البقية فهم معروفون، فـ «إسماعيل القاضي» (ت282هـ) من علماء المالكية المتقدمين، وطبع جزء صغير جداً من كتابه «أحكام القرآن»، أما «ابن العربي» (ت543هـ) فكتابه مشهور وهو مطبوع، أما «ابن الفرس» (ت597هـ) فقد طبع كتابه مؤخراً في ثلاث مجلدات. ¬

(¬1) كذا ورد في المطبوع الذي بين يدي، ثم رأيت تحقيق الأستاذ الدكتور محمد بن سيدي محمد مولاي، وقرأه (أبو الحسن إلكيا)، وهو إلكيا الهراسي (ت:450)، وكتابه في أحكام القرآن مطبوع، ولا أدري لماذا لم يعلِّق المحقق الفاضل على هذا الموطن، فالنسخ مختلفة في كتابته. وإن كان اعتمد على ما كتبه الدكتور علي بن محمد الزبيري في كتابه (ابن جزي ومنهجه في التفسير ص708)، فإن الأمر لا يزال بحاجة إلى مزيد تحرير؛ لأني وجدت أن ابن فرحون في (تبصرة الحكام) يذكره باسم (كباه)، يقول: «قَالَ تَعَالَى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273]، قَالَ ابنُ الْفَرَسِ: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ كَبَاهْ لَمَّا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بالسِّيمَا، حَالٌ يَظْهَرُ عَلَى الشَّخْصِ، حَتَّى إذَا رَأَيْنَا مَيِّتاً فِي دَارِ الاسْلاَمِ وَعَلَيْهِ زُنَّارٌ وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ، فَإِنَّهُ لاَ يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُقَدَّمُ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الدَّارِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَيَقُومُ ذَلِكَ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ، وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] وَوَرَدَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ صلّى الله عليه وسلّم فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ». هذا، والذي في المطبوع من كتاب أحكام القرآن لابن الفرس (قال ابن الحسن)، ولم يذكر (كباه). وهذا النقل الذي ذكره ابن فرحون عن ابن الفرس موجود في كتاب (أحكام القرآن) لإلكيا الهراسي (1:230)، وهذا يدعو إلى تحقيق هذه التسمية، هل هي خطأ أو هو مما يُعرف به الكيا، وخفي علينا؟.

والمصنفون في كتب الأحكام هم الحنفية والمالكية والشافعية، أما الحنابلة فلا يكاد يوجد لهم كتب في أحكام القرآن. ثم ذكر المؤلف أن آيات الأحكام في خمسمائة آية فقط، وهذا هو المشهور، ومنه ما فعله «مقاتل» في تفسير خمسمائة آية في الأمر والنهي، ولكن لو تُتُبِّع ذلك فقد يوجد أكثر. وهذا القول في عدد آيات الأحكام يحتاج إلى تجلية؛ لأن قائله لم يبيِّن هل مراده الآيات الصريحة أم ماذا؟

العلم الرابع: النسخ

العلم الرابع: النسخ قال رحمه الله: وأما النسخ فهو يتعلق بالأحكام؛ لأنها محل النسخ؛ إذ لا تنسخ الأخبار، ولا بد من معرفة ما وقع في القرآن من الناسخ والمنسوخ والمحكم وهو ما لم ينسخ، وقد صنف الناس في ناسخ القرآن ومنسوخه تصانيف كثيرة، وأحسنها تأليف القاضي أبي بكر بن العربي، وقد ذكرنا في هذه المقدمات باباً في قواعد النسخ، وذكر ما تقرر في القرآن من المنسوخ وذكرنا سائره في مواضعه (¬1). قوله: (وقد ذكرنا في هذه المقدمات باباً في قواعد النسخ) هذه المقدمات هي في الباب السابع، أما قوله: (في مواضعه) فيقصد مواضعه من الآيات. ثم أشار المؤلف إلى الفائدة التي تدل على أن علم الناسخ والمنسوخ هو جزء من أحكام القرآن، وأحكام القرآن ـ المنصوص عليها ـ جزء من التفسير. قوله: (وأما النسخ فهو يتعلق بالأحكام؛ لأنها محل النسخ إذ لا تنسخ الأخبار). الأحكام هي محل النسخ؛ والأخبار لا تنسخ، وهي قاعدة مطردة ¬

(¬1) التسهيل 1/ 65، 66.

في علم الناسخ والمنسوخ بلا إشكال، لكن إذا رجعنا إلى بعض التفاسير نجد عن ابن عباس رضي الله عنه (ت68هـ) أنه قال في قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]: هذه منسوخة نسخها قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]، فابن عباس أدخل على الخبر النسخ، ونحن نعلم أن هذه الجملة خبر وليست بحكم، والمؤلف قال: إن الأخبار لا تنسخ، فإما أن يكون كلام ابن عباس خطأ، وإما أن يكون تقرير العلماء الذي أُجمِع عليه ـ وهو أن الأخبار لا تنسخ ـ خطأ، وإما أن نقول إن هناك اختلافاً في مفهوم النسخ، وهذا هو الصواب؛ إذ إن فيما يدخل تحت مصطلح النسخ اختلاف بين السلف ومن جاء بعدهم، وإذا أخذنا الأمر بهذا التفصيل، فإن العبارتين صحيحتان؛ نظراً لاختلاف الاعتبار في المراد بالنسخ. ومن هنا أقول: يجب على طالب العلم أن يعتني بالمصطلحات، وأن يعرف مصطلح كل قوم، وتطور هذه المصطلحات، واختلافها عند العلماء، وإلا وقع طالب العلم في الخلل؛ كما وقع في ذلك بعض المتأخرين في إنكاره النسخ في عبارة ابن عباس. ويمكن القول بأن النسخ على نوعين: 1 - نسخ كلي: وهذا الذي يدخل في الأحكام، ولا يجري على الأخبار إطلاقاً، وهو مراد المتأخرين. 2 - نسخ جزئي: وهذا يدخل في الأحكام والأخبار، وهو ما يستخدمه السلف، فهم يستخدمون الكلي والجزئي لكن المتأخرين يستخدمون الكلي فقط، ولما كانوا يستخدمون النسخ الكلي الذي لا يقع إلا في الأحكام قالوا: إن الأخبار لا يقع فيها نسخ، أما السلف فكانوا

يوسعون الدائرة في النسخ الكلي والجزئي، فأي رفع من معنى الآية يعتبرونه نسخاً، ويدخل في ذلك تخصيص العام، وتقييد المطلق، وبيان المجمل والاستثناء، ومن ثَمَّ فإنه ليس هناك خلاف بين كلام ابن عباس وكلام غيره في هذا الباب. وفي الناسخ والمنسوخ تصانيف كثيرة جداً، ومن أنفسها: 1 - ما ذكره المؤلف: كتاب «الناسخ والمنسوخ» لأبي بكر بن العربي (ت543هـ). 2 - قبله: كتاب «الناسخ والمنسوخ» لابي عبيد القاسم بن سلام (ت224هـ). 3 - كتاب «الناسخ والمنسوخ» لمكي بن أبي طالب (ت437هـ). 4 - كتاب «الناسخ والمنسوخ» لابن الجوزي (ت597هـ). هذه من أنفس الكتب عند المتقدمين، أما الدراسات المعاصرة ففيها كتب كثيرة، ومن أنفسها: 1 - كتاب «النسخ في القرآن» لمصطفى زيد. 2 - كتاب الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد الأمين في «الآيات المنسوخة في القرآن».

العلم الخامس: الحديث

العلم الخامس: الحديث قال المصنف رحمه الله: وأما الحديث فيحتاج المفسر إلى روايته وحفظه لوجهين: الأول: أن كثيراً من الآيات في القرآن نزلت في قومٍ مخصوصين، ونزلت بأسباب قضايا وقعت في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، من الغزوات والنوازل والسؤالات، ولا بد من معرفة ذلك لِيُعْلَم فيمن نزلت الآية، وفيما نزلت، ومتى نزلت؟ فإن الناسخ يُبْنَى على معرفة تاريخ النزول لأن المتأخر ناسخ للمتقدم، والوجه الآخر: أنه ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كثيرٌ من تفسير القرآن، فيجب معرفته لأن قوله عليه السلام مقدم على أقوال الناس (¬1). الشرح هذا العلم الخامس من العلوم التي ذكرها المؤلف، وهو (الحديث)، وقد ذكر قسمين من علم الحديث: القسم الأول: يمكن أن يطلق عليه ما له حكم الرفع؛ لأنه قال: (إن كثيراً من الآيات في القرآن نزلت في قومٍ مخصوصين، ونزلت بأسباب قضايا وقعت في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم) إلى آخر كلامه، وهذا إنما يتعلّق بالحوادث التي نزلت في عهده صلّى الله عليه وسلّم وليست من كلامه صلّى الله عليه وسلّم، فإذا ورد مثلاً أن الصحابي قال: نزلت هذه الآية في فلان، فالأصل أن هذا له حكم الرفع. القسم الثاني الذي ذكره: ما يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من تفسير القرآن مباشرةً، وهو التفسير النبوي، أما قول المؤلف: (إنه ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ¬

(¬1) التسهيل 1/ 66.

كثيرٌ من تفسير القرآن) فإن كان يقصد التفسير النبوي المباشر، ففيه نظر؛ لأن ما رُوِيَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن كثيراً، وذلك مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم لما قرأ: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] قال: «ألا إن القوة الرمي» (¬1)، وفي قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن المغضوب عليهم: اليهود، والضالين: النصارى» (¬2). وهذه التفسيرات النبوية المباشرة قليلة. وإن كان مراد المؤلف أوسع من هذا المفهوم، وهو أنه قد يرد في السنة ما يشرح القرآن، وما يرد في السنة على مراتب من أعلاها: أن يكون الحديث النبوي مفسراً للآية بحيث لا يكاد يختلف اثنان أن هذا الحديث يفسر هذه الآية، مثل قوله سبحانه وتعالى: {وَجِيىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23] بعض المفسرين يذكر الحديث المذكور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه يجاء بجهنم لها سبعون ألف زمام، لكل زمام سبعون ألف ملكٍ يجرونها» (¬3)، فهذه التفاصيل في مجيء جهنم إنما علمت من جهته صلّى الله عليه وسلّم. فإذا ورد في الحديث ما يكون موافقاً لمعنى الآية، وقام المفسِر بحمل الحديث على الآية، فإن هذا ـ بلا شك ـ من عمل المفسر. وفي بعض الأحيان قد يكون التوافق الشديد بين معنى الآية وبين معنى الحديث واضحاً وضوحاً تاماً، فإذا أدخلنا هذا النوع فلا شك أنه سيكون كثيراً. وقد قال المؤلف في وجوه الترجيح: (الثاني: حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم ¬

(¬1) أخرجه مسلم في باب فضل الرمي والحث عليه من حديث عقبة بن عامر، ورقم الحديث (1971). (¬2) أخرجه أحمد في مسنده من حديث عدي بن حاتم، ورقم الحديث (19381) 32/ 124. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفتها ونعيمها من حديث ابن مسعود، ورقم الحديث (2842).

فإذا أراد عليه السلام تفسير شيءٍ من القرآن عولنا عليه، لا سيما إن ورد في الحديث الصحيح)، فإذا وقع خلاف بين المفسرين، وكان عندنا تفسير نبوي مباشر، فلا شك أنه إذا ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فإنه يقدم على قول غيره بلا ريب، وهذا بإجماع، لكن إن وقع تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث من أحاديثه دون أن يكون هناك نصٌّ أنها تفسير للآية فقد يقع الخلاف، ومن خالف لا يكون مخالفاً للتفسير النبوي، ولكي يتضح الأمر نقول: إذا ورد في تفسير آية حديثٌ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يوافق معناه معنى الآية، ولم يفسر به المفسر فترك المفسر له واختياره لقول آخر لا يعد من باب ترك التفسير النبوي؛ لأن المسألة رجعت إلى الاجتهاد. مثال ذلك: قوله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] معلوم أن في الآية قولين: القول الأول: أن المراد بالساق هنا هي ساق الرب سبحانه وتعالى، ويدل على ذلك حديث رواه البخاري وغيره: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة فيبقى كل من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً» (¬1)، فهذا الحديث في جميع رواياته لم يشر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أنه يفسِّر الآية. القول الثاني: أن المراد بالساق: ما تكشفه القيامة من أهوالها وكربها، وهذا قول ابن عباس وبعض تلاميذه. فصار عندنا تفسيرٌ نحا منحى لغوياً وهو تفسير ابن عباس، وتفسير آخر أخذ بحديث ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن لا يعد ابن عباس ومن تبعه مخالفين للتفسير النبوي؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم هنا لم يفسر هذه الآية، وإنما تشابه ما ذكر صلّى الله عليه وسلّم مع شيءٍ مما في الآية، وليس كل الآية؛ لأننا لو ¬

(¬1) صحيح البخاري في كتاب التفسير من حديث أبي سعيد الخدري، ورقم الحديث (4919).

رجعنا إلى الحديث الذي رواه البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: «قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «هَلْ تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْواً»؟ قُلْنَا: لاَ، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ لاَ تُضَارُونَ فِى رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ، إِلاَّ كَمَا تُضَارُونَ فِى رُؤْيَتِهِمَا ـ ثُمَّ قَالَ: ـ يُنَادِي مُنَادٍ لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ. فَيَذْهَبُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ، وَأَصْحَابُ الأَوْثَانِ مَعَ أَوْثَانِهِمْ، وَأَصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ، وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللهِ. فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلاَ وَلَدٌ فَمَا تُرِيدُونَ، قَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللهِ. فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صَاحِبَةٌ وَلاَ وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نُرِيدُ أَنْ تَسْقِيَنَا. فَيُقَالُ: اشْرَبُوا. فَيَتَسَاقَطُونَ حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا يَحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ. وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا ـ قَالَ ـ: فَيَاتِيهِمُ الْجَبَّارُ. فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا. فَلاَ يُكَلِّمُهُ إِلاَّ الأَنْبِيَاءُ فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: السَّاقُ. فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقاً وَاحِداً، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَي جَهَنَّمَ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الْجسْرُ؟ قَالَ: «مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلاَلِيبُ وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ، لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ تَكُونُ بِنَجْدٍ يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ

وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْباً، فَمَا أَنْتُمْ بِأَشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ، قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ، وَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِى إِخْوَانِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا وَيَصُومُونَ مَعَنَا وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا. فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ. وَيُحَرِّمُ اللهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيَاتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا». قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: «فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي فَاقْرَءُوا: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ فَيَقُولُ الْجَبَّارُ بَقِيَتْ شَفَاعَتِي. فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ أَقْوَاماً قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ بِأَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ: مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ فِي حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، قَدْ رَأَيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ إِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ، فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أَخْضَرَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ كَانَ أَبْيَضَ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ، فَيُجْعَلُ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلاَءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلاَ خَيْرٍ قَدَّمُوهُ. فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ وَمِثْلُهُ مَعَهُ»، وظاهر من هذا الحديث أن الذين يُكشف لهم ساق الرحمن هم المؤمنون ومن كان يسجد لله رياء وسمعة، أما غيرهم من الكفار ففي النار، وسياق الآية في الكفار، والسورة مكية تخاطبهم، ومن كان يسجد رياءً وسمعة «النفاق» لم يظهر إلا في المدينة؛ لذا لم يتطابق الحديث مع الآية وإنما فيه تشابه في بعض أجزائهما.

والمقصود من هذا أنه حينما يأتي تفسير عن السلف بهذا أو بذاك فلا يكون هناك نكير، فمن ذهب إلى اعتماد الحديث فله رأيه ومصدره، ومن ذهب إلى اعتماد المدلول اللغوي فله رأيه ومصدره، لكن لو ثبت أن كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا يفسر القرآن، لقلنا: إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم حدد المدلول اللغوي المناسب والمراد لقوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}. تنبيه: لو سلمنا جدلاً أن الآية ليست من آيات الصفات كما يقوله المخالفون ويستدلون بتفسير ابن عباس لها على عدم إثبات الساق له، فنقول: ثبوت ساق الرب سبحانه وتعالى ليس في هذه الآية فقط بل هو ثابت بغيرها، والحديث صريح جداً: «يكشف ربنا عن ساقه»، وهذا لا تدخله مجازات، وبهذا يتحرر أن تفسير ابن عباس ليس خلاف منهج أهل السنة والجماعة؛ لأنه لم ينكر ثبوت صفة الساق فيُحتجَّ بتفسيره هنا، وثبوت الساق عنده من خلال الحديث النبوي بلا ريب. لكن المخالف يُنكِرُ صفة الساق ويؤولها سواء في الحديث أو في الآية، وهذا الفرق بين المذهبين، فابن عباس رضي الله عنه ومن ذهب مذهبه لا ينكرون ساق الرب؛ لأنها ثابتة ثبوتاً واضحاً صريحاً في أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم. وأخيراً، فالحديث النبوي ـ بشقيه سواء أكان تفسيراً نبوياً مباشراً أم كان حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم من غير التفسير ـ من المصادر التي يحتاجها المفسر.

العلم السادس: القصص

العلم السادس: القصص قال رحمه الله: وأما القصص فهي من جملة العلوم التي تضمنها القرآن، فلا بد من تفسيره إلا أن الضروري منه ما يتوقف التفسير عليه، وما سوى ذلك زيادة مستغنًى عنها، وقد أكثر بعض المفسرين من حكاية القصص الصحيح وغير الصحيح حتى إنهم ذكروا منه ما لا يجوز ذكره مما فيه تقصير بمنصب الأنبياء عليهم السلام، أو حكاية ما يجب تنزيههم عنه، وأما نحن فاقتصرنا في هذا الكتاب من القصص ما يتوقف التفسير عليه، وعلى ما ورد منه بالحديث الصحيح (¬1). الشرح قوله: (وأما القصص فهو من جملة العلوم التي تضمنها القرآن) لا شكَّ أن القصص من العلوم التي تضمنها القرآن، وهي من موضوعاته، وبعضها مما لا يشاركه فيها غيره من المصادر، وبعضها قد يكون مذكوراً في مصادر سابقة، لكن القرآن يتميز عليها بكونه صدق وحقٌّ، لم يدخله تحريف ولا تبديل. ثم قال: (إلا أن الضروري منه ما يتوقف التفسير عليه، وما سوى ذلك زيادة مستغنى عنها) فالضروري من القصص ما يتوقف التفسير عليه وما عداه فهو زائد في الغالب، وهو ما يؤخذ من غير المصادر الإسلامية خصوصاً إذا كان من مرويات بني إسرائيل، لكن ليس كل ما هو زائد ¬

(¬1) التسهيل 1/ 66.

على القصص القرآني يكون مستغنى عنه؛ لأن هناك قصصٌ نبوية شارحة لبعض القصص القرآني وفيها فوائد لم تذكر في القرآن، مثل قصة موسى مع الخضر، فالله سبحانه وتعالى قصَّ القصة في سورة الكهف، والرسول صلّى الله عليه وسلّم لما قصها أضاف إضافات ليست موجودة في الآيات، فلا يقال: إنه مما يستغنى عنه ما دام فيه فائدة. ثم عاب المؤلف على بعض المفسرين حكاية القصص غير الصحيح فقال: (وقد أكثر بعض المفسرين من حكاية القصص الصحيح وغير الصحيح، حتى إنهم ذكروا منه ما لا يجوز ذكره مما فيه تقصير بمنصب الأنبياء عليهم السلام، أو حكاية ما يجب تنزيههم عنه). في هذا الموضوع أمور تحتاج إلى تجلية، فأقول: إن نقل أصحاب كتب التفسير لهذه المرويات لا يخرج عن حالتين: الأولى: أن يكون هؤلاء المفسِّرون قد نقلوا مباشرة من أهل الكتاب، وهذا نادر جدّاً. الثانية: أن يكون أمثال الطبري (ت310هـ) والثعلبي (ت427هـ) نقلة للتفسير، ويكون من جملة ما نقلوه ما رووه عن السلف من هذه الأخبار. وإذا كان الأمر كذلك فلا تثريب عليهم في نقلهم، وإن كان سيلحق اللوم بأحد، فإنه سيلحق من نقلوا عنه من السلف، كعمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس. ومستند هؤلاء الصحابة ومن جاء بعدهم في حكاية ما ورد عن بني إسرائيل من قصص هو الإباحة النبوية، وذلك في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» (¬1). ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء من حديث عبد الله بن عمرو، ورقم الحديث (3462).

إن الذي رفع الحرج هو النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ بعد أن نَهَى فترةً عن التحديث عنهم ـ فلماذا يأتي بعض الباحثين اليوم بتضييق ما رُفع عنَّا فيه الحرج، فهل يريد أن يستدرك على هذا الحديث أم ماذا؟! والمنهج الذي نتعامل به مع الإسرائيليات كما هو وارد في الأخبار ما يأتي: 1 - جواز التحديث عنهم كما أجازه صلّى الله عليه وسلّم. 2 - التحديث عنهم بدون تصديق ولا تكذيب كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» (¬1)، وهذا يعني أن الإسرائيليات مجرد أخبار لا تصدق ولا تكذب. 3 - نضيف إلى هذا طريقة عمل السلف مع هذه المرويات، فهم لم يقبلوها مطلقاً ولم يردوها مطلقاً، وإنما كانوا إذا قبلوا شيئاً قبلوه بحجة، كما عند عليٍّ رضي الله عنه عندما جاءه يهودي فسأله علي: أين النار؟ قال: في البحر، قال علي: ما أُراه إلا صادقاً {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6]، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] بالتخفيف (¬2). إن عليّاً رضي الله عنه لما صدَّق خبر اليهودي لم يصدقه تصديقاً مطلقاً مجرداً، وإنما كان عنده حجة يرجع إليها. ويبدو أن التشدد الواقع اليوم على مرويات بني إسرائيل لا يخلو من سببين: الأول: ما تراه من افترائهم على أنبياء الله، وإلصاق التهم بهم. الثاني: ما نراه من تسلط دولة يهود، وعيثها في الأرض فساداً، مما أحدث ردة فعل تجاه كل ما هو من بني إسرائيل. ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير في باب {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} من حديث أبي هريرة، ورقم الحديث (4485). (¬2) تفسير الطبري، سورة التكوير، 24/ 138.

وهذا له وجه، لكن الله أمرنا بالعدل، فقال: {... وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152]، وليس من العدل أن نقول: إن كل ما عندهم هو خطأ، وأنه لا تجوز روايته، بل عندهم خطأ كثير، وعندهم صواب، ولا ندع صوابهم لأجل كثرة خطئهم. وهذا المنهج المتشدد في كثير من الدراسات المعاصرة ليس هو المنهج الصحيح؛ لأن الأصل عندنا أن نأخذ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو الذي أباح لنا، وهو الذي أرشدنا إلى عدم التصديق وعدم التكذيب، ولا نصدق ولا نكذب إلا بالبرهان مثلما فعل السلف، فمعاوية رضي الله عنه (ت60هـ) يقول عن كعب الأحبار: «وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب» (¬1)، وليس يقصد أنه يكذب، وإنما يقصد أن نبلوا ما في أخبارهم من كذب فنميز ما فيها. والسلف لم يكن عندهم قصور في تصور هذه المسألة، وأنهم كانوا يُدخلون ما هبَّ ودبَّ من دون تعقُّل، هذا ليس بصحيح إطلاقاً. كما أننا لن نكون ـ وهذا مما يلزم أن يعلمه طلاب العلم ـ أحسن حالاً في العلم من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، ولن نكون أحسن حالاً منهم في تفسير القرآن وتنزيه الأنبياء أبداً، فهم الأعلم والأسلم والأحكم والأفهم في هذه الأمور، فإذا تقرر هذا حسُن بنا أن نرجع إلى علمهم وأن نعرف كيف علموه وكيف تعلموه وكيف تعاملوا معه. أما أن نقعِّد قواعد ثم نحكِّم أقوال السلف بها فلا؛ فقواعدنا يقع فيها الخلل من جهة كونها لا تستوعب مصطلح السلف بحذافيره، لذا سيؤدي تحكيمها على أقوال السلف إلى الاعتراض عليهم أو ردِّ أقوالهم كما في قضية الناسخ والمنسوخ التي سبق التفصيل فيها. ¬

(¬1) صحيح البخاري في كتاب الاعتصام، ورقم الحديث (7361).

ومما يصلح ذكره هنا ما يتعلق بمنصب النبوة وما الذي يجوز على الأنبياء؟ فأقول: الشرع هو الذي يحدد ما يجوز وما لا يجوز، والعقل تبع للشرع في هذا، بمعنى ألا يعترض على ما يثبت بالشرع في حق الأنبياء، لكن هذا الموضوع دخله التحكم العقلي، وصارت تُردُّ ظواهر بعض النصوص بدعوى مخالفتها للعصمة (أي: العصمة التي يفترضها المفسِّر، وليست العصمة التي هي بمقتضى الشرع)، كما وقع من أقوال مخالفة لظاهر قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِيناً *لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 1، 2]. كما صارت تُردُّ بعض ما يصح وقوعه من القصص الواردة في حقِّ بعض الأنبياء بدعوى مخالفتها للعصمة، دون النظر فيما قد يصحُّ من القصة من جهة الاحتمال، لا من جهة ثبوت الحادثة، كما ورد في قصة سليمان عليه السلام في قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34]، فالجسد ـ كما ورد عن مفسري السلف ـ هو الشيطان الذي تسلط على ملك سليمان عليه السلام، وهذا القدر من القصة له ما يشهد له من جهة وقوعه كوناً، فأيوب عليه السلام يقول: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] فقد مسَّه الشيطان وتسلط عليه، والرسول صلّى الله عليه وسلّم سُحر، والسِّحرُ من الشيطان، وهذا فيه تسلط، لكنه تسلطٌ في أمور مادية دنيوية، وليس تسليطاً على الجانب النبوي. وبهذا فإن مبدأ تسلُّط الشيطان على الأنبياء واقع وموجود، ويجوز أن نذكر هذا القدر من هذه الرواية من باب الاحتمال، وليس من باب الثبوت، ولا يخالف هذا عصمة سليمان عليه السلام، وما عدا ذلك مما في القصة من التفاصيل فإنه لا يمكن إثباتها إلا بحجة من الشارع، وبهذا نفرق بين إثبات أصل القصة وإثبات تفاصيلها؛ كمُدَّةِ هذا التسلُّط

ومقداره، فهذا لا يمكن أن يُثبت من الرواية الإسرائيلية الموجودة إطلاقاً، لذا يدخل فيما لا يصدق ولا يكذب. أما إذا كان مما يُتفَق عليه أنه يخالف ما عُرف من حال الأنبياء كما يذكر في الرواية هذه أن الشيطان تسلَّط على نساء سليمان بنكاحهنَّ فهذا مما يُعلم بطلانه؛ لمخالفته لحال الأنبياء، وهذا مما وقع الإجماع على إنكاره. ونحن نحتاج إلى التعامل مع القصص بطريقة علمية لا عاطفية، على حدِّ قوله تعالى: {... وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152]. وبعض الإسرائيليات ورد عن جماعة من الصحابة؛ كعمر (ت23هـ)، وابن مسعود (ت32هـ)، وابن عباس (ت68هـ)، وغيرهم من الصحابة والتابعين وأتباعهم. ومما ورد عن عمر ذكره لقوة موسى عليه السلام في قوله تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]، قال ابن كثير: «قال الله تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا} [القصص: 24] قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبد الله، أنبأنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عَمْرو بن ميمون الأوْدي، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن موسى عليه السلام، لما ورد ماء مدين، وجد عليه أمة من الناس يسقون، قال: فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر، ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين تذودان، قال: ما خطبكما؟ فحدثتاه، فأتى الحجر فرفعه، ثم لم يستق إلا ذنوباً واحداً حتى رويت الغنم. إسناد صحيح» (¬1). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير 6/ 2652، وانظر: مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الفضائل، ورقم الحديث (32503).

وهذا الوارد عن عمر لا ننكره؛ لأن فيه غرابة ولا نستبعد أنه كان فيه قوة عشرة رجال. والمقصود أن ننتبه إلى أن ضابط العصمة والكلام الذي ذكره المؤلف يحتاج إلى ضبط؛ ولتعلم أنَّ الأصل في معرفة ما الذي يجوز وما الذي لا يجوز فيما يتعلق بالأنبياء إنما يؤخذ من الشرع. ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى منهجه في نقل الإسرائيليات، فقال: (وأما نحن فاقتصرنا في هذا الكتاب من القصص ما يتوقف التفسير عليه، وعلى ما ورد منه بالحديث الصحيح). وقوله: (ما يتوقف التفسير عليه) يفيد في تحديد ماهية التفسير، وأن بعض المعلومات التي تُذكر في كتب التفسير ليس لها أثر في التفسير، وهذه المعلومات إما أن تكون فضلة، وإما أن تكون من علوم القرآن. وأما اقتصاره على ما ورد من الحديث الصحيح، فهو منهج حسن، لكن ليس بملزم لغيره ممن أخذ بالتصريح النبوي في تجويزه الرواية عن بني إسرائيل في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» رواه البخاري.

العلم السابع: التصوف

العلم السابع: التصوف قال رحمه الله: وأما التصوف فله تعلق بالقرآن لما ورد في القرآن من المعارف الإلهية ورياضة النفوس وتنوير القلوب وتطهيرها باكتساب الأخلاق الحميدة واجتناب الأخلاق الذميمة، وقد تكلمت المتصوفة في تفسير القرآن، فمنهم من أحسن وأجاد، ووصل بنور بصيرته إلى دقائق المعاني، ووقف على حقيقة المراد، ومنهم من توغل في الباطنية وحمل القرآن على ما لا تقتضيه اللغة العربية، وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي كلامهم في التفسير في كتابٍ سمَّاه «الحقائق»، وقال بعض العلماء: بل هي البواطل، وإذا أنصفنا قلنا: فيه حقائق وبواطل. وقد ذكرنا هذا الكتاب في ما يستحسن من الإشارات الصوفية دون ما يعترض أو يقدح فيه، وتكلمنا أيضاً على اثني عشر مقاماً من مقامات التصوف في مواضعها من القرآن، فتكلمنا على الشكر في أم القرآن، لما بين الحمد والشكر من الاشتراك في المعنى، وتكلمنا على التقوى في قوله تعالى في البقرة: {هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، وعلى الذكر في قوله فيها: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]، وعلى الصبر في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، وعلى التوحيد في قوله فيها: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163]، وعلى المحبة في قوله فيها: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، وعلى التوكل في قوله في آل عمران: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]، وعلى المراقبة في قوله في النساء: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وعلى الخوف والرجاء في قوله في (الأعراف): {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56]، وعلى التوبة في قوله في

(النور): {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} [النور: 31]، وعلى الإخلاص في قوله في (لم يكن): {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] (¬1). هذا الكلام يتعلق بالتصوف، وقد سبق أن نبهتُ إلى أنه ليس من علوم القرآن، بل هو نتاج وثمرة للعلم. وقد علل المؤلف سبب تعلقه بالقرآن، فقال: (لما ورد في القرآن من المعارف الإلهية، ورياضة النفوس وتنوير القلوب)، وإننا لو أخذنا حجة المؤلف وأجريناها على علوم أخرى غير علم التصوف وغير العلوم التي ذكرها، سنجد أن غيرها يمكن أن يدخل معها، لكن كأن المؤلف يريد أن ينبه على التصوف؛ لإرادة تزكية النفوس بالقرآن، والتزكية من أهم ثمرات القرآن. وتزكية النفوس بالقرآن في معزلٍ عن علوم القرآن، وفي معزلٍ عن التفسير أصلاً؛ لأنها تدخل في باب الآثار والنتائج. ثم قال بعد ذلك: (وقد تكلمت المتصوفة في تفسير القرآن فمنهم من أحسن وأجاد ووصل بنور بصيرته إلى دقائق المعاني، ووقف على حقيقة المراد، ومنهم من توغل في الباطنية، وحمل القرآن على ما لا تقتضيه اللغة العربية). يلاحظ أن المتصوفة صاروا فرقة خاصة، وما داموا كذلك؛ فإن لهم مراجعهم ومصادرهم ومصطلحاتهم الخاصة، وهذه مشكلة في حد ذاتها؛ فحينما تتكلم هذه الفرقة عن القرآن لن تتكلم بمثل ما يتكلم فيه أهل التفسير، وإنما ستتكلم بطريقتها الخاصة، وقد يوافق ما يذكرونه ¬

(¬1) التسهيل 1/ 66 - 68.

الحق ويكونون وصلوا إلى دقائق معانٍ ووقفوا على حقيقة المراد، مثلما وقف ووصل إليه غيرهم، فهذا ليس خاصاً بهم بسبب سلوكهم التصوف بل غيرهم وصل إلى هذه المعاني ولم يسلك هذا الطريق الذي سلكوه. أما من توغل في الباطنية فمشكلته أعظم؛ لأنه يستخدم الرموز في تفسير كلام الله سبحانه وتعالى مثل التفسير المنسوب لابن عربي الحاتمي (ت638هـ)، وكذا تفسير البحر المديد، لابن عجيبة التطواني (ت1224هـ)، وتفسير الألوسي (ت1270هـ) الذي يذكر التفسير على أسلوب العلماء والمفسرين، ثمَّ يذكر تفسير من يسميهم (أهل الحقائق)، ويذكر من كلامهم ما هو موغل في الباطنية. أما ما ذكره سهل بن عبد الله التستري (ت283هـ) في تعليقه على بعض الآيات، وأبو عبد الرحمن السلمي (ت412هـ) في كتابه «حقائق التفسير»، والقشيري (ت465هـ) في (لطائف الإشارات)، فإنه لا يخلو من الأحوال الآتية: 1 - أن يكون ما قالوه أو أثروه من قبيل التفسير. 2 - أن يكون من قبيل الاستنباط. 3 - أن يكون من قبيل توارد المعاني، ومقايسة معنى القرآن بمعنى آخر، وهذه قضية تكثر عند المتصوفة، حيث نجدهم يحرصون على أن يقيسوا ما ورد من المعنى القرآني بحالٍ أخرى لا علاقة لها بالآية إطلاقاً، وهذه الأحوال الثلاثة لا تخلو ـ أيضاً ـ من ثلاثة أحوال: أـ أن يكون الكلام حقاً مراداً بالقرآن أو دل عليه القرآن من جهة الاستنباط. ب ـ أن يكون الكلام حقاً، لكن ليس هو المراد بالجملة المفسَّرة من القرآن، أو لا تدل عليه، وهذا يُقبل على أنه كلام مستقلٌ لا علاقة له

بالآية، وإذا كان من باب المقايسة فإنه يُقبل إذا صحَّت المقايسة، ويكون كسابقه، وليس لأنه متعلق بالتفسير. ج ـ أن يكون الكلام باطلاً، وهذا لا يُقبل؛ لأن القرآن لا يفسر بالباطل، ولا يدل على الباطل. وإليك أمثلة على كون الكلام حقاً مراداً بالقرآن أو يدل عليه القرآن، وهي منقولة من تفسير سهل بن عبد الله التستري (ت283هـ): المثال الأول: في قوله سبحانه وتعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] قال سهل: (أي: أضداداً)، فتفسير الأنداد بالأضداد صحيح فهو من التفسير الصحيح، ثم قال بعد ذلك: «فأكبر الأضداد: النفس الأمارة بالسوء المتطلعة إلى حضورها ومناها بغير هدًى من الله» (¬1)، فقوله هذا غير مقبول إذا كان يريد أن الأنداد لا تفسر إلا بالنفس الأمارة بالسوء، أما إن كان يريد أن هذا المقطع من الآية يشير إلى أن النفس الأمارة بالسوء هي أحد معاني الأضداد وهي أكبر الأنداد كما يراه، فنحن نقبل هذا الكلام على سبيل أن النفس الأمارة بالسوء مثال من الأمثلة التي تدخل في معنى الأنداد في قوله: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} على أنه عام، ولا شك أن النفس الأمارة بالسوء فيها شيء من هذا المعنى الذي ذكرته الآية، وأنها تكون نداً لله؛ لأنه لو اتبع نفسه جعلها مُشَرِّعَة له، وكذا لو اتبع هواه كما قال الله سبحانه وتعالى في قوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]. المثال الثاني: في قوله تعالى: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35] قال: «ولم يرد الله معاني الأكل في الحقيقة، وإنما أراد معاني مساكنة الهمة مع شيء هو غيره؛ أي: لا يهتم بشيء هو غيره، فآدم صلوات الله عليه لم يعتصم من الهمة والفعل في الجنة، فلحقه ما ¬

(¬1) تفسير التستري، تحقيق محمد باسل عيون السود، ص27.

لحقه من أجل ذلك»، ثم قال: «فأهل الجنة معصومون فيها من التدبير» (¬1) إلى آخر كلامه الذي هو مرتبط بعبارات الصوفية، ولكن هذا الكلام غير صحيح بل هو باطل في ذاته، فلا يمكن أن يدل عليه القرآن إطلاقاً. فقوله: (لم يرد الله معاني الأكل في الحقيقة) هذا مخالف لقوله تعالى: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا}، وهذا المعنى الباطل لا يمكن أن يكون مراداً بالقرآن. المثال الثالث: في قوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] قال: «أهل القرآن، يعني العباد الذين اصطفى، أهل القرآن يلحقهم من الله السلام في العاجل في قوله تعالى: {وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ}، وسلامٌ في الآجل وهو قوله: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]» (¬2). هذا الكلام يصح على أن نأخذه من باب التمثيل، وسبق أن ذكرنا من القواعد أن تفسير العام قد يكون بالأمثلة، فإن كان من باب التمثيل فهو صحيح، وإن كان من باب التخصيص، فالتخصيص يحتاج إلى دليل. هذه الأمثلة التي أخذناها من تفسير (سهل التستري) هي أمثلة على التفسير الصحيح، والإشارة الصحيحة، والتفسير الباطل، ونأخذ مثالاً على المقايسة التي ذكرناها: وهو أن يكون من قبيل توارد المعاني، قال سهل في قوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} [الحشر: 2] قال: (أي: يخربون قلوبهم ويبطلون أعمالهم باتباعهم البدع)، فالآية لم تنزل في أهل البدع أصلاً، وإنما نزلت في سياق اليهود، والمعنى الذي ذكرته الآية ¬

(¬1) تفسير التستري، تحقيق محمد باسل عيون السود، ص29. (¬2) تفسير التستري، ص116.

يشبه المعنى الذي ذكره سهل كأنه يريد أن يذكر معنى يشبه المعنى المذكور في الآية، فهو مقبول من باب توارد المعاني وليس من توارد التفسير، ولو قال: هذا هو التفسير نقول: خطأ؛ لأن السياق لا يدل على ذلك. وباب الاستشهاد والاستدلال أوسع من باب التفسير. فمن يقرأ كلام الصوفية ـ خصوصاً في هذا النوع، وهو توارد المعاني ـ في كتاب التستري (ت283هـ)، أو أبي عبد الرحمن السلمي (ت412هـ) أو القشيري (ت465هـ)، فلا يردُّه ابتداءً، بل ينظر فيه ليعرف ما يمكن أن يقبل منه، وما لا يُقبل منه. وكتاب سهل بن عبد الله التستري (ت283هـ) من كلامه هو، وكذا لطائف الإشارات للقشيري (ت465هـ)، أما حقائق التفسير لأبي عبد الرحمن السلمي (ت465هـ)، فهو منقول، وبعضه فيه كذب، ليس من أبي عبد الرحمن، وإنما من طرف من روى عنه أبو عبد الرحمن، وبعضه نقلٌ صحيحٌ عن بعض المتصوفة؛ سواء أكان كلامهم خطأً محضاً أم صحيحاً. هذا باختصار ما يتعلق بتفاسير الصوفية، أما تفاسير الصوفية الباطنية أو الفلسفية؛ فالأصل فيها البطلان. أما قوله رحمه الله: (وقد ذكرنا في هذا الكتاب ما يستحسن من الإشارات الصوفية دون ما يعترض أو يقدح فيه)، فلعل المؤلف يقصد كتابه هذا الذي بين أيدينا، فقد ذكر في كلامه من إشارات الصوفية ما يرى هو أنه يدخل فيما يستحسن دون ما يُقْدَحُ فيه أو يُعْتَرض عليه، ثم بعد ذلك ذكر اثني عشر مقاماً من مقامات التصوف، وهذه المقامات ليست خاصة بالتصوف كما يلاحظ، بل تسميتها بالتصوف أو حصرها بأن هذه من مقاماته تخصيص لأمرٍ لا دليل عليه.

وهذه المقامات لا تخلو أن تكون مما عليه عامة المسلمين، أو لا. فإن كان مما عليه عامة المسلمين فلا معنى لتسميتها بهذا الاسم «التصوف». وإن كانت مما يختص بفرقة بعينها يطلق عليها المتصوفة، وهي تخالف الشريعة، فإنها تردُّ ولا تُقبل، والحال هنا أن ما ذكره باسم مقامات التصوف هو مما وافق الشريعة، وليس خاصاً بالتصوف، بل هو من دين الإسلام. فهذه المقامات التي ذكرها المؤلف ليس فيها إشكال من جهة الذكر، لكن كوننا نخص هذه المقامات بالمتصوفة فقط، فماذا بقي لغيرهم؟ لذا نقول: إن هذه المقامات لجميع المسلمين، وكذا غيرها من المقامات التي لم يذكرها المؤلف، ولا أدري لماذا خصَّ المؤلف هذه المقامات بالذكر دون غيرها.

العلم الثامن: أصول الدين

العلم الثامن: أصول الدين قال رحمه الله: وأما أصول الدين فيتعلق بالقرآن من طرفين أحدهما ما ورد في القرآن من إثبات العقائد، وإقامة البراهين عليها والرد على أصناف الكفار، والآخر أن الطوائف المختلفة من المسلمين تعلقوا بالقرآن، وكل طائفة منهم تحتج إلى مذهبها بالقرآن، وترد على من خالفها، وتزعم أنه خالف القرآن ولا شك أن منهم المحق والمبطل، فمعرفة تفسير القرآن أن توصل في ذلك إلى التحقيق مع التسديد والتأييد من الله والتوفيق (¬1). ذكر في أصول الدين مسألتين: الأولى: ما ورد في القرآن من إثبات العقائد وإقامة البراهين عليها وسبق الحديث عنها حين تكلم عن موضوعات القرآن. الثانية: أن طوائف من المسلمين تعلقوا بالقرآن، وكل طائفة منها تحتج لمذهبها بالقرآن؛ ولذا فأصول الدين والعقيدة لها أثر في التفسير، ولا بد من ضبط العقيدة لينضبط تفسير الآيات المتعلقة بالعقيدة؛ لأن فهم الآيات المرتبطة بالعقائد تفسيرٌ، ومن الأمثلة المشهورة في ذلك الاختلاف في تفسير قوله سبحانه وتعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، فمن يقول بأن معنى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}: «تنتظر ¬

(¬1) التسهيل 1/ 68.

ثواب ربها» فهذا فسَّر الآية على وجهٍ باطل، ومن قال: «تنظر إلى ربها» فقد فسَّر على وجه آخر، وهو الوجه الصحيح في معنى الآية. ولا بد من ضبط الاعتقاد لينضبط التفسير، والآيات المرتبطة بالاعتقاد كثيرة؛ ولهذا قد يقع الخلل عند بعض المفسرين من جهة الاعتقاد كما في إثبات الرؤية في الآية السابقة، ولما كانت العقائد لها تأثير جعل بعض العلماء من شروط المفسر صحة الاعتقاد، لذا لا بدَّ لطالب علم التفسير من معرفة الحق، ومعرفة الباطل، وكيفية الرد على الباطل، وإذا اختلت واحدة منها فسيكون فيه قصور. ومما يلحظ أن بعض المعاصرين ـ ممن دَرَسَ مناهج العلماء في التفاسير ـ قد حصر مسائل الاعتقاد في باب الصفات الخبرية فقط، وتراه يحكم على عقيدة المؤلف من خلال باب الصفات، وهذا فيه خلل؛ لأن المؤلف قد يقع في بعض الأخطاء في باب دون غيره من الأبواب، فالبغوي (ت516هـ) مثلاً عند قوله سبحانه وتعالى: {الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] قال: «والرحمة إرادة الله تعالى الخير لأهله، وقيل: ترك عقوبة من يستحقها وإسداء الخير إلى من لا يستحق، فهي على الأول صفة ذات، وعلى الثاني صفة (فعل)». وقال في تفسير {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]: «إرادة الانتقام» (¬1)، وفي «شرح السنة» قال: «وقوله: إِنَّمَا أَنْتِ رحمتي، سمَّى الْجَنَّة رحمة؛ لأن بِهَا تظهر رحمة الله تَعَالَى عَلَى خلقه، كَمَا قَالَ: أرحم بك من أشاء، وإلا فرحمة الله تَعَالَى من صفاته التي لَمْ يزل بِهَا موصوفاً لَيْسَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صفة حادثة، وَلا اسم حادث، فَهُوَ قديم بجميع أسمائه وصفاته جلّ جلاله، وتقدست أسماؤه» (¬2)، وقال في تفسير: {بَلْ يَدَاهُ ¬

(¬1) تفسير البغوي 1/ 55. (¬2) شرح السنة (15/ 257).

مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]: «ويد الله صفة من صفاته كالسمع والبصر والوجه وقال جل ذكره: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: [«كلتا يديه يمين»] والله أعلم بصفاته، فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم. وقال أئمة السلف من أهل السنة في هذه الصفات: أَمِرُّوها كما جاء بلا كيف» (¬1). ولذا لا يُعَدُّ البغوي مخالفاً للمنهج العام، والاستدراك عليه في مثال أو في مثالين لا يخرجه من دائرة السنة والجماعة. ونسْبةُ العلماء إلى بعض الفرق تحتاج إلى علم وعدلٍ وإنصاف، فلا يستعجل الباحث في مثل هذه الأمور. وإذ لم يستطع الباحث أن يستقرئ كتاب التفسير، وكذلك كتب العالم الأخرى ـ إن وُجِدت ـ فإنه يستعمل عبارة: (وافق الفرقة الفلانية في كذا)، ولا ينسبه إلى فرقة من الفرق إلا بعد الاستقراء التام، فابن جزي ـ مثلاً ـ ذكر الصفات السبع التي يقول بها الأشاعرة، فإن لم يكن عندي في عقيدته استقراء، فإني أقول: وافق الأشاعرة في إثبات الصفات السبع. ¬

(¬1) تفسير البغوي 3/ 76، 77.

العلم التاسع: أصول الفقه

العلم التاسع: أصول الفقه قال رحمه الله: وأما أصول الفقه، فإنها من أدوات تفسير القرآن، على أن كثيراً من المفسرين لم يشتغلوا بها، وإنها لنعم العون على فهم المعاني وترجيح الأقوال، وما أحوج المفسر إلى معرفة النص والظاهر، والمجمل والمبين، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، وفحوى الخطاب، ولحن الخطاب، ودليل الخطاب، وشروط النسخ، ووجوه التعارض، وأسباب الخلاف، وغير ذلك من علم الأصول (¬1). الشرح قوله: (أصول الفقه من أدوات تفسير القرآن على أن كثيراً من المفسرين لم يشتغلوا بها، وإنها لنعم العون على فهم المعاني وترجيح الأقوال). علم أصول الفقه من العلوم التي قد يكون لها أثر في فهم المعاني؛ لذا أحتاج منه القدر الذي تتبين به المعاني. وقد أستفيد منها في الترجيح بين الأقوال أثناء الاختلاف الواقع بين المفسرين. أما الاستنباط فإنه يقوم على تعلم أصول الفقه على التفصيل؛ لذا فأنا أحتاجه في الاستنباط، وأحتاج منها قدراً أقل للتفسير. ¬

(¬1) التسهيل 1/ 68، 69.

والمفسرون قد يعملون بضوابط أصول الفقه دون أن ينصوا على ذلك، ومثاله: ما يتعلق بقضية العام والخاص، فالمفسرون المتقدمون خاصة يتعاملون معها تعاملاً تطبيقيّاً، وقد يبرز عند بعض المفسرين المتأخرين الذين لم يكن لهم عناية بأصول الفقه. ولا شكَّ أن من يتعلم أصول الفقه فإن قدرته وملكته في بيان المعاني والاستنباطات ستكون أقوى وأجدر ممن ليس عنده شيء من هذه الأداة، فمعرفة العام والخاص، والمطلق والمقيد، وفحوى الخطاب مما يحتاجه المفسر، ومثال ذلك حمل العموم في قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى: 5] على الخصوص، بمعنى: الملائكة يستغفرون للمؤمنين، بدلالة قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7] فجعلت الآية الثانية {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} مخصصة لعموم الآية الأولى {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ}.

العلم العاشر: اللغة

العلم العاشر: اللغة قال رحمه الله: وأما اللغة فلا بد للمفسر من حفظ ما ورد في القرآن منها، وهي غريب القرآن وهي من فنون التفسير. وقد صنف الناس في غريب القرآن تصانيف كثيرة، وقد ذكرنا بعد هذه المقدمة مقدمةً في اللغاتِ الكثيرة الدوران في القرآن، لئلا نحتاج أن نذكرها حيث وقعت فيطول الكتاب بكثرة تكرارها (¬1). هذا العلم العاشر، وهو علم اللغة، وخصَّ المؤلف علم اللغة ببيان المفردة؛ لأنه قال: (فلا بد للمفسر من حفظ ما ورد في القرآن منها وهي غريب القرآن وهي من فنون التفسير). وغريب القرآن من فنون التفسير إجماعاً، فإذا لم يُفهم معنى الكلمة لم يُفهم معنى الآية، وعلم المفردات هو العلم الوحيد الذي يستخدم في جميع الآيات، فما من آية إلا وفيها حاجة إلى معرفة معنى الكلمة، أما العلوم الأخرى فنحتاجها في آيات دون آيات، فأسباب النزول تأتي في بعض الآيات دون بعض، وقصص الآي في بعض الآيات دون بعض. وقد صنف الناس في غريب القرآن تصانيف كثيرة كما ذكر المؤلف، وهذا يدل على حاجة الناس إلى كتب غريب القرآن، وكل مؤلف يرى أن الناس بحاجة إلى طريقة جديدة في التصنيف أو إضافة ¬

(¬1) التسهيل 1/ 69، 70.

معلومات، وكل عالم يكتب غريب القرآن يُدخل ما يرى أن قارئ القرآن بحاجة إلى معرفته، لذا يتفاوتون في عدد المفردات التي يقع عليها تفسيرهم. وكتب غريب القرآن صنفت على قسمين: 1 - على الترتيب الألف بائي، مثلما فعله المؤلف في مقدمته الثانية، وهذا كثير جداً، ومن أنفَسها كتاب «مفردات القرآن» للراغب الأصفهاني (ت: بعد 400)، وكتاب تفسير غريب القرآن لأبي بكر الرازي (ت: بعد 666)، وقد مشى فيه على نظام التقفية، وهو ترتيب الكلمة حسب آخرها، ثم ترتيبها بعد ذلك حسب أولها، فلفظة: «بقر» في باب الراء، يأتي قبلها لفظة: «بصر» لأن الصاد قبل القاف. وليس كل واحد يستطيع أن يصل إلى بعض الألفاظ، ويعرف أين مكانها من خلال الترتيب الألف بائي، وترتيب أبي بكر الرازي على نظام التقفية. مثلاً: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر: 53] نجد أن أصل لفظة: «مستطر» من مادة: «سطر»، لكن ليس كل واحد يتقن معرفة أصل اللفظة، فقد يشتبه عليه تقارب بعض الألفاظ فيظنها من أصل واحد؛ مثل لفظة: «مستطيراً» في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7]، فقد يظنَّ القارئ أنها من مادة: «سَطَرَ»، وهي من مادة (طَيَرَ). ومثلها لفظ: «مسيطر»: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] على قراءة السين: «بمسيطر» فيجدها في مادة: «سيطر»، وليست من مادة الكلمتين السابقتين، وهذا مما قد يشكل على بعض القراء. 2 - على ترتيب السور، يعني الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران وهكذا. وكل نوع من هذه التصنيفات له فوائده الخاصة، فترتيب السور

أسهل في الرجوع لأي قارئ للقرآن؛ لأنه إذا عرف الكلمة ومكانها من كل سورة، فإنه يسهل عليه الرجوع إليها في الكتاب. كما أن الترتيب على السور يعطي الحافظ فرصة معرفة معاني القرآن في السورة التي يقرأ فيها. أما على الترتيب الألف بائي الذي يرجع إلى أصل الاشتقاق فإنه يفيد في ربط الصيغ والتصاريف التي تكون من مادة واحدة؛ ككلمة «وسق» وكلمة «اتسق»، فهما من مادة واحدة، وهي مادة: «وسق» بمعنى: جمع. وفي هذا الترتيب لطائف لا تخفى على من يراجع مفردات القرآن التي سارت على هذا النحو من الترتيب، إذ يحرص بعض المؤلفين على بيان وجوه استعمال اللفظة في القرآن، كما هو الحال في كتاب الراغب الأصفهاني.

العلم الحادي عشر: النحو

العلم الحادي عشر: النحو قال رحمه الله: وأما النحو فلا بد للمفسر من معرفته، فإن القرآن نزل بلسان العرب، فيحتاج إلى معرفة علم اللسان، والنحو ينقسم إلى قسمين: أحدهما: عوامل الإعراب وهي أحكام الكلام المركب. والآخر: التصريف وهي أحكام الكلمات قَبْل تركيبها. وقد ذكرنا في هذا الكتاب من إعراب القرآن ما يحتاج إليه من الْمُشْكِلِ والمختلف، أو ما يفيد فهم المعنى، أو ما يختلف المعنى باختلافه، وإن ما تعرض إلى سوى ذلك من الإعراب السهل الذي لا يحتاج إليه إلا المبتدئ، فإن ذلك يكون بغير كبير فائدةٍ (¬1). المفسر لا يطلب منه أن يكون متقناً لفن النحو بجميع تفاصيله، وإنما يكون عنده أصول المسائل من هذا العلم، أما التفاصيل والتشقيقات فهذه ليست بلازمة، ومحلها كتب النحو. والأصل أن الإعراب فرع المعنى؛ أي: أن الإعراب يُبنى على فهم المعنى. وهذا يعني أن المنطلق هو المعنى، وليس الإعراب، فنحن لا ¬

(¬1) التسهيل 1/ 70.

نعرب لنفهم المعنى، وإنما نفهم المعنى ثمَّ نُعرب، هذا هو الأصل، لكن الآن صار النحو قواعد يُتوصَّل بها إلى فهم المعنى، وهذا لا يعني أن القاعدة (الإعراب فرع المعنى) التي ذكرت خطأ، وإنما تغيَّر الأمر بسبب اختلاف الزمان، إذ بعد تقعيد النحو صرنا ننطلق من قواعده لمعرفة المعنى. والذي يدلُّ على أن المعنى هو الأصل أن تفسير السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم قد خلا من الإعراب، لكن لا يعني هذا أنهم لا يُعربون، بل كان الإعراب سجيَّة القوم، ولما قام علم النحو صار يُطلب به فهم المعاني، وهذا هو معنى قول المؤلف: (أو ما يفيد فهم المعنى)، وهذا الذي سار عليه المفسرون المعربون جيلاً بعد جيل، وإن لم تكن لهم عناية مستمرة بأثر الإعراب في المعنى.

العلم الثاني عشر: علم البيان

العلم الثاني عشر: علم البيان قال رحمه الله: وأما علم البيان، فهو علم شريف تظهر به فصاحة القرآن، وقد ذكرنا منه في هذا الكتاب فوائد فائقة، ونكتاً مستحسنة رائقة، وجعلنا في المقدمات باباً في أدوات البيان ليفهم به ما يرد منها مفرقاً في مواضعه من القرآن (¬1). قول المؤلف: (علم البيان) يريد به «علم البلاغة»، وهذا العلم من العلوم التي حصل لها تطوُّر في المسمَّى حتى استقرَّت تسميته على «علم البلاغة» بأقسامه الثلاثة «البديع والبيان والمعاني» وقد تكلم عنه المؤلف في (الباب العاشر)، وفَصَّل فيه، كما أشار إليه عند الحديث عن قصص القرآن؛ حيث قال في فوائد تكرار القصص: «الثاني: أنه ذكرت أخبار الأنبياء في مواضع على طريقة البيان، وفي مواضع على طريقة الإيجاز لتظهر فصاحة القرآن في الطريقتين». أشار المؤلف بقوله: (فهو علم شريف تظهر به فصاحة القرآن) إلى أنَّ الهدف منه يظهر في أمرٍ آخر غير التفسير، وهو «إعجاز القرآن»، فهذا العلم أصلٌ في باب الإعجاز، فمن أراد أن يبين إعجاز القرآن فيلزمه أن يكون متقناً للبلاغة. ¬

(¬1) التسهيل 1/ 70.

وكونه علمٌ مرتبط ببيان إعجاز القرآن من جهة النظم العربي لا يعني أننا لا نحتاجه مطلقاً في فهم المعنى، لكن المراد أن ما نحتاجه منه قليلٌ، ولهذا يمكن القول: إنه ليس من علوم التفسير، وإنما تلزم معرفة تفاصيله من أراد أن يتكلم عن إعجاز القرآن، أو أراد أن يبين فصاحة القرآن. ومن الأمثلة التي يتأثر بها المعنى في حمل الجملة على وجه من الأساليب البلاغية ما ورد في تفسير قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17]، فهل هذا من باب التغليب والمراد: ربُّ المشرق ورب المغرب؟ أو هو على الحقيقة اللفظية، وأراد بـ {الْمَشْرِقَيْنِ}: مشرق الشمس في الشتاء، ومشرق الشمس في الصيف، ومغربها في الصيف والشتاء. والوجه الأول من الباب البلاغي، وقد يكون قوله فيه ناتجاً عن فهم أسلوب العرب في الخطاب، وإن لم يكن عنده في ذهنه الترتيب البلاغي لهذه القضايا. وهذا الموضوع مجال بحث جيد، وهو «أبواب البلاغة» أو «مسائل البلاغة» التي لها أثر في بيان المعنى.

الباب الخامس: أسباب الخلاف بين المفسرين ووجوه الترجيح

الباب الخامس أسباب الخلاف بين المفسرين ووجوه الترجيح يقول المصنف رحمه الله: الباب الخامس في أسباب الخلاف بين المفسرين والوجوه التي يرجح بها بين أقوالهم، فأما أسباب الخلاف فهي اثنا عشر: الأول: اختلاف القراءات. الثاني: اختلاف وجوه الإعراب وإن اتفقت القراءة. الثالث: اختلاف اللغويين في معنى الكلمة. الرابع: اشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر. الخامس: احتمال العموم والخصوص. السادس: احتمال الإطلاق أو التقييد. السابع: احتمال الحقيقة أو المجاز. الثامن: احتمال الإضمار أو الاستقلال. التاسع: احتمال الكلمة زائدة أو غير زائدة. العاشر: احتمال كون الكلام على الترتيب أو على التقديم والتأخير. الحادي عشر: احتمال أن يكون الحكم منسوخاً أو محكماً. الثاني عشر: اختلاف الرواية في التفسير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعن السلف رضي الله عنهم. وأما وجوه الترجيح وهي اثنا عشر: الأول: تفسير بعض القرآن ببعض، فإذا دل موضع من القرآن على

المراد بموضع آخر حملناه عليه، ورجحنا القول بذلك على غيره من الأقوال. الثاني: حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإذا ورد عنه عليه السلام تفسير شيء من القرآن عوَّلنا عليه لا سيما إن ورد في الحديث الصحيح. الثالث: أن يكون القول قول الجمهور، وأكثر المفسرين، فإن كثرة القائلين بالقول يقتضي ترجيحه. الرابع: أن يكون القول قول من يُقْتَدَى به من الصحابة، كالخلفاء الأربعة وعبد الله بن عباس لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل» (¬1). الخامس: أن يدل على صحة القول كلام العرب من اللغة والإعراب أو التصريف أو الاشتقاق. السادس: أن يُشعر بصحة القول سياق الكلام، ويدل عليه ما قبله أو ما بعده. السابع: أن يكون ذلك المعنى المتبادر إلى الذهن، فإن ذلك دليلٌ على ظهوره ورجحانه. الثامن: تقديم الحقيقة على المجاز، فإن الحقيقة أولى أن يحمل عليها اللفظ عند الأصوليين، وقد يترجح المجاز إذا كثر استعماله حتى يكون أغلب استعمالاً من الحقيقة، ويسمى مجازاً راجحاً والحقيقة مرجوحة، وقد اختلف العلماء أيهما يقدم؟ فمذهب أبي حنيفة تقديم الحقيقة لأنه الأصل، ومذهب أبي يوسف تقديم المجاز الراجح لرجحانه، وقد يكون المجاز أفصح وأبرع فيكون أرجح. التاسع: تقديم العموم على الخصوص، فإن العموم أولى؛ لأنه الأصل، إلا أن يدل دليل على التخصيص. ¬

(¬1) مسند أحمد برقم (2397) 4/ 225، وأخرجه البخاري في كتاب الوضوء برقم (143) بلا زيادة: (وعلمه التأويل).

العاشر: تقديم الإطلاق على التقييد، إلا أن يدل دليل على التقييد. الحادي عشر: تقديم الاستقلال على الإضمار، إلا أن يدل دليل على الإضمار. الثاني عشر: حمل الكلام على ترتيبه، إلا أن يدل دليل على التقديم والتأخير (¬1). عقد المؤلف رحمه الله هذا الباب للحديث عن أسباب الاختلاف، والكلام عن وجوه الترجيح. ولو تأملنا أسباب الاختلاف التي وردت في وجوه الترجيح، فهي كما يلي: الإطلاق والتقييد، والحقيقة والمجاز، والإضمار والاستقلال، وحمل الكلام على ترتيبه، والعموم والخصوص، واختلاف الرواية يقابله في وجوه الترجيح أن يكون قول الجمهور وقول من يقتدى به، وكذا اختلاف اللغويين في معنى الكلمة واشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر يقابله في وجوه الترجيح، النوع الخامس، وهو الأدلة على صحة القول كلام العرب من اللغة والإعراب والتصريف والاشتقاق. والفرق بين الأسباب والوجوه واضح، فبالنظر إلى السبب في الاختلاف تقول: ما سبب الاختلاف؟ فيكون الجواب: الحقيقة والمجاز. ثم تقول: ما المقدَّم؛ الحقيقة أو المجاز؟ والجواب: الأصل تقديم الحقيقة على المجاز. ¬

(¬1) التسهيل 1/ 71 - 73.

وقد نبهت على ارتباط بعض أسباب الاختلاف بوجوه الترجيح؛ لأن المؤلف رحمه الله قرن بينهما في هذه المقدمة، وقد يشكل على القارئ كون هذا يُعدُّ مرة سبباً، ومرة وجهاً من وجوه الترجيح. السبب الأول من أسباب الاختلاف: اختلاف القراءات: ليس كل الاختلاف في القراءات داخلاً في التفسير، وليس الاختلاف في القراءات من أسباب اختلاف المفسرين إلا إذا كان الاختلاف في معنى قراءة واحدة، وهذا سيرجع إلى أسباب الاختلاف الأخرى وليس إلى كونها قراءة يخالفها قراءة أخرى. أما الاختلاف في نحو قوله سبحانه وتعالى: {ارْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] فيدخل في التفسير وليس في اختلاف المفسرين، يقول ابن جزي: «من قرأه بكسر العين فهي من الرَّعْيِ ـ يعني: يرتعِ ـ أي: من رعى الإبل أو من رعي بعضهم لبعض وحراسته، ومن قرأه بالإسكان فهو من الرتع وهو الإقامة في الخصب والتنعم، والياء على هذا أصلية، ووزن الفعل (يفعل) ووزنه على الأول (نفتعل)، ومن قرأ {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} بالياء فالضمير ليوسف، ومن قرأ بالنون فالضمير للمتكلمين، وهم إخوة يوسف» (¬1). وهذا الاختلاف في القراءات ـ كما ترى ـ لم يؤثر على اختلاف المفسرين، فالذين قرأوا «يرتعِ» لم يختلفوا في معناها، والذين قرأوا «يرتعْ» لم يختلفوا أيضاً في معناها، فالمفسرون لم يختلفوا، إنما هؤلاء فسروا قراءة، وهؤلاء فسروا قراءة أخرى؛ ولذا فإن إدخال اختلاف القراءات في أسباب الاختلاف غير دقيق (¬2). ¬

(¬1) التسهيل (تحقيق: د. عبد الله الخالدي) 1/ 382. (¬2) كنت قد ذكرت هذا من أسباب اختلاف المفسرين في كتابي: «فصول في أصول التفسير»، ثم ظهر لي ـ فيما بعد ـ أنه لا يدخل في ذلك؛ لأن القراءتين بمثابة الآيتين، والاختلاف في القراءتين كالاختلاف في الآيتين.

مثال آخر: في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24] بعضهم قال: {بِضَنِينٍ} بالضاد: بمتهم. وفسر آخرون هذه القراءة (بالضاد): بضعيف، ومنه قولهم: «حبل ضنين» أي: حبل ضعيف. والاختلاف في معنى «ضنين» هل هو متهم أو ضعيف جاءت في قراءة واحدة، فاختلاف المفسرين ليس بسبب اختلاف القراءة بل بسبب فهم معنى اللفظ في هذه القراءة. فأي اختلاف مبني على القراءات ليس داخلاً في الاختلاف في التفسير، وإذا وقع الاختلاف في معنى القراءة، فهذا يدخل في واحد من أسباب اختلاف المُفسرين الأخرى. السبب الثاني: اختلاف وجوه الإعراب وإن اتفقت القراءات: ربط المؤلف الإعراب بالقراءات؛ لأن الاختلاف في القراءة قد يكون له أثر في اختلاف الإعراب. والأصل أن الاختلاف في الإعراب مبني على الاختلاف في المعنى، لكنا هنا ننطلق من الإعراب فنجعله سبباً في الاختلاف في المعنى؛ لأننا ننطلق في فهم الكلام العربي من خلال قواعد النحو. وإن كان الأصل أنك تفهم المعنى ثم تعرب؛ ولذا قالوا: (الإعراب فرع المعنى)، ومن ثَمَّ فإن اختلاف وجوه الإعراب لا يكون من أسباب اختلاف المفسرين إنما نتيجة لاختلافهم في فهم المعنى. فإن قال قائل: إننا في الواقع نأخذ المعنى من الإعراب، فنحن نعرب، ثم نقول المعنى على هذا الإعراب كذا. نقول: إنَّ واقع الدراسة عندنا الآن أننا ننطلق من الإعراب إلى المعنى، لكن الصحيح أن الاختلاف في الإعراب نتيجة عن الاختلاف في المعنى، وليس سبباً من أسباب الاختلاف. ومثال ذلك: في قوله سبحانه وتعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ *سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 4، 5].

يقول ابن جزي: «{مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} متعلقٌ بما قبله، فالمعنى أن الملائكة ينزلون ليلة القدر من أجل كل أمر يقضيه الله في ذلك العام» (¬1)، فهو رحمه الله رَكَّبَ المعنى على الإعراب، لكن الذي فسر أولاً من السلف ـ قبل أن يأتي علم الإعراب ـ انطلق من المعنى، فجاء المتأخر وحمل المعنى على الإعراب. ثم قال: «وقيل: إن المجرور يتعلق بما بعده، والمعنى أنها سلامٌ من كل أمر؛ أي: سلامٌ من الآفات، قال مجاهد: لا يصيب أحدٌ فيها داء»، وقول مجاهد هذا بيان معنى وليس إعراباً، والمعرب يبني الإعراب على كلام مجاهد فيقول: الجار والمجرور متعلق بـ {سَلاَمٌ}، ثم قال بعد ذلك: «والأظهر أن الكلام تم عند قوله: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}، ثم ابتدأ قوله: {سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، ثم اختُلف في معنى {سَلاَمٌ} فقيل: إنه من السلامة، وقيل: إنه من التحية؛ لأن الملائكة يسلمون على المؤمنين القائمين فيها، وكذلك اختلف في إعرابه فقيل: {سَلاَمٌ هِيَ} مبتدأ وخبر، وهذا يصح؛ سواء جعلناه متصلاً مع ما قبله أو منقطعاً، وقيل: {سَلاَمٌ} خبر مبتدأ مضمر تقديره: أمرها سلام، أو القول فيها {سَلاَمٌ}، وهي مبتدأ وخبر {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي: دائمةً حتى طلوع الفجر». ومن هذا المثال يظهر لك أن الاختلاف في الإعراب مبني على الاختلاف في المعنى ونتيجة له، وليس من أسباب اختلاف المفسرين. السبب الثالث: اختلاف اللغويين في معنى الكلمة: هناك تداخل بين هذا السبب والسبب الرابع الذي يليه، وهو «اشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر»؛ لأن اللغويين إن اختلفوا في معنى كلمة فلا يخلو الحال من الأمور الآتية: ¬

(¬1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 2/ 500.

الأول: أن ينكر أحدهم معنى يثبته الآخر. وهذا الاعتراض ـ إن ثبت ـ فإنه قد يكون هو مراد المؤلف في السبب الثالث. الثاني: أن يكون المعنيان صحيحين في اللغة، ويكون الاختلاف بين اللغويين في المراد بالمعنى في هذه الآية، فإن كان كذلك، فإنه هذا يدخل في السبب الرابع. ومن أمثلة ما وقع فيه اعتراض على صحة نقل المعنى عن العرب ما ورد في تفسير القرطبي: قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف: 15] «... أي: عدلاً، عن قتادة. يعني: ما عبد من دون الله عزّ وجل. الزجاج (¬1) والمبرد: الجزء ها هنا البنات، عجَّب المؤمنين من جهلهم إذ أقروا بأن خالق السموات والأرض هو الله، ثم جعلوا له شريكاً أو ولداً، ولم يعلموا أن من قدر على خلق السموات والارض لا يحتاج إلى شيء يعتضد به أو يستأنس به؛ لأن هذا من صفات النقص. قال الماوردي (¬2): والجزء عند أهل العربية البنات، يقال: قد أَجزأت المرأة إذا ولدت البنات، قال الشاعر (¬3): إن أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يوماً فلا عَجَبُ ... قد تُجْزِئُ الحُرَّةُ المِذْكَارُ أحْياناً ¬

(¬1) الزجَّاج فسَّر معنى الجزء في السياق، ولم يقل بأن الجزء في اللغة بمعنى البنات، بل قد شكَّك في البيت الذي يُستدلُّ به على هذا المعنى، قال الزجاج: «وقد أنشدت لبعض أهل اللغة بيتاً يدلُّ على أن معنى: جُزءٍ معنى الأناث ولا أدري البيت قديم أم مصنوع. أنشدوني: إِنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يوماً فلا عَجَبٌ ... لا تُجْزِئُ الْحُرَّةُ المِذْكَارُ أَحْياناً أي: إن آنثت؛ أي: ولدت أُنثى» معاني القرآن وإعرابه 4/ 406، 407. (¬2) انظر كلام الماوردي في تفسيره. (¬3) أول من أنشده الزجاج، ولا يُعرف قائله. معاني القرآن وإعرابه 4/ 407.

الزمخشري (¬1): ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث، وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب، ووضع مستحدث متحول، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه: أجزأت المرأة، ثم صنعوا بيتاً، وبيتاً: إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب زَوِّجْتُهَا مِنْ بَنَاتِ الأَوْسِ مُجْزِئَةً (¬2) وإنما قوله: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} متصل بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} أي: ولئن سألتهم عن خالق السموات والأرض ليعترفن به، وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزءاً فوصفوه بصفات المخلوقين. ومعنى {مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} أن قالوا: الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءاً له وبعضاً، كما يكون الولد بضعة من والده وجزءاً له. وقرئ «جزؤٌ» بضمتين» (¬3). ومن أمثلة ما هو صحيح في اللغة، لكن يقع الاختلاف في كونه هو المراد بالسياق ما ورد من اعتراض الطبري (ت310هـ) على أبي عبيدة (ت210هـ) في تفسير لفظة: {يُعْصِرُونَ}، قال الطبري رحمه الله في قوله: {ثُمَّ يَاتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يُعْصِرُونَ} [يوسف: 49]: «وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل ممن يفسر القرآن برأيه على مذهب كلام العرب ـ يقصد أبا عبيدة معمر بن مثنى ـ يوجه معنى قوله: ¬

(¬1) انظر كلام الزمخشري في تفسيره 4/ 245. (¬2) صدر بيت من البسيط وعجزه: ....... ... للعَوْسَجِ اللَّدْن في أبياتها زَجَلُ وقد أنشده أبو العباس أحمد بن يحيى (ثعلب) في مجالسه 1/ 145. (¬3) الجامع لأحكام القرآن 16/ 69.

{وَفِيهِ يُعْصِرُونَ} إلى: وفيه ينجون من الجدب والقحط بالغيث، ويزعم أنه من (العَصَر) و (العُصْرَة) التي بمعنى المنجاة من قول أبي زبيد الطائي (¬1): صَادِياً يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغَاثٍ ... وَلَقَدْ كَانَ عُصْرَةَ المَنْجُودِ أي: المقهور، ومن قول لبيد (¬2): فَبَاتَ وَأَسْرَى الْقَوْمُ آخِرَ لَيْلِهِمْ ... وَمَا كَانَ وقافاً بِغَيْرِ مُعَصَّرِ قال: وذلك تأويلٌ يكفي من الشهادة على خطئِهِ خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين» (¬3). فالخلاف في معنى: {وَفِيهِ يُعْصِرُونَ} وقول الجمهور: يعصرون العنب حتى يكون خمراً فهي من (العَصْر)، وقول أبي عبيدة أنه من النجاة فهي من (العُصْرة). وابن جرير رحمه الله لم يخالف أبا عبيدة في مدلول لفظة: {يُعْصِرُونَ} وأنها تأتي بمعنى (العُصْرة) التي هي المنجاة، بل خالفه في أن هذا المعنى ليس مراداً في هذا السياق. السبب الرابع: اشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر: الاشتراك في اللفظ: أن يكون للفظ أكثر من معنى في لغة العرب؛ كلفظ (عسعس) الذي يأتي بمعنى: أقبل، ومعنى أدبر، إذ العرب استخدمت هذا اللفظ في هذين المعنيين المتضادين، فهما معنيان متضادان مشتركان في لفظ واحد. ومن أمثلة ما له أكثر من معنى محتملٍ ما ورد في تفسير قوله سبحانه وتعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] هل المراد بالقرء الحيض أو المراد به الطهر؟ ¬

(¬1) جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي، ص583. (¬2) ديوانه، ص49. (¬3) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ط. هجر 13/ 197.

وكلا المعنيين وارد من جهة اللغة ومحتمل في السياق، وإن كان ترجيح أحدهما في هذا السياق إبعاد للآخر. وقد يذكرون أكثر من معنى وتحتملها الآية كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] قيل: معتق من الجبابرة، وقيل: قديم، والقديم والمعتق من الجبابرة معنيان مشتركان في هذه اللفظة، والآية تحتمل هذا وتحتمل هذا، فالاختلاف هنا بسبب اشتراك اللفظ بين معنيين. وقد يكون الاختلاف بسبب الاشتراك في الصيغة دون أصل الاشتقاق كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2]، ذكر ابن جزي في معنى {مُسْتَمِرٌّ} قولين: «ذاهب يزول»، وقيل: «شديد»، ومن قال: «ذاهب» فإن أصل اللفظة والاشتقاق يختلف عنده عمَّن قال: شديد، فمن قال: ذاهب جعل الفعل منها «مَرَّ يَمُرُّ» فهو مستمر، ومن قال: (شديد) أخذه من «أَمَرَّ يُمِرُّ» فهو مستمرٌّ؛ كما يقال: «حبل مرير»، فهذا فيه اشتراك في الصيغة (مستمرٌّ)، وليس في أصل الاشتقاق (مرَّ، وأمرَّ)، ولذا فتفسير هذه الصيغة مشترك بين معنيين. والاشتراك يكون أحياناً في أصل الاشتقاق؛ مثل: القرء، وأحياناً يكون الاشتراك في الصيغة، وليس في الأصل كما في {الْعَتِيقِ} في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فمن جعله المعتق من الجبابرة جعله من الفعل الرباعي «أَعْتَقَ ـ يُعْتِقُ»، ومن جعله بمعنى القديم جعله من الفعل الثلاثي «عَتُقَ»، فهو قديم. ارتباط النوع الخامس من وجوه الترجيح بهذين السببين: ننتقل الآن للحديث عن النوع الخامس من وجوه الترجيح وهو: أن يدل على صحة القول كلام العرب من اللغة والإعراب والتصريف والاشتقاق؛ لأنا ربطناه بالسبب الثالث والرابع وهو اختلاف اللغويين واشتراك اللفظة في معنيين فأكثر، فالتعامل مع الاختلاف فيهما لا يخلو من أحوال:

1 - إذا كانت اللفظة التي فسر بها القرآن ليست من لغة العرب، فلا شك أنها تُردّ كما في تفسير «استوى» في قوله: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] بمعنى استولى، نقول: «استولى» هذه ليست من لغة العرب فهي مردودة. 2 - إذا كانت اللفظة صحيحة من جهة لغة العرب وفيها اشتراك فإننا نفعل كما فعل الطبري في المثال السابق (¬1)، فإن كان السياق يدل على صحة هذا المعنى قبلناه، وإن لم يدل عليه رددناه، حتى لو كان المعنى في ذاته من جهة اللغة صحيحاً. إذا احتمل السياق المعنيين فنحن أمام أمرين: إما أن نُعمِل جميع المعاني على سبيل الأخذ بجميع الأقوال، وإما أن نرجح أحدها لحاجتنا للترجيح في مثل القرء؛ لأنه اختلاف تضاد، وإمَّا أن نرجِّح أحدهما بتقديم الأولى في السياق، ويكون الثاني صحيحاً، وليس مردوداً لكنه أقلُّ قوة من الأول. وإن أمكن الجمع بين هذه الأقوال وهي مشتركةً فإعمالها أولى من إهمالها. مثال هذا {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6] فيجوز أن يقال: إنه الموقد والمملوء والمحبوس، وكل واحد منها بالنظر إلى وقتٍ أو مرحلة من مراحل هذا البحر، فجاز إعمال جميع هذه الأقوال، وهي من باب المشترك اللغوي. السبب الخامس: احتمال العموم والخصوص: ويقابله من وجوه الترجيح الوجه التاسع: «تقديم العمومي على الخصوصي فإن العمومي أولى؛ لأنه الأصل، إلا أن يدلَّ دليل على التخصيص». ¬

(¬1) رده على أبي عبيدة في تفسير «وفيه يعصرون».

ومن أمثلة هذا السبب: في تفسير سورة الكوثر عند المؤلف، يقول: «والكوثر (بثاء) مبالغة من الكثرة، وفي تفسيره سبعة أقوال: الأول: حوض النبي صلّى الله عليه وسلّم. الثاني: أنه الخير الكثير الذي أعطاه الله في الدنيا والآخرة، وقاله ابن عباس (ت68هـ) وتبعه سعيد بن جبير (ت95هـ)، فإن قيل: إن النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله فالمعنى أنه على العموم. الثالث: أن الكوثر القرآن. الرابع: أنه كثرة الأصحاب والأتباع. الخامس: أنه التوحيد. السادس: أنه الشفاعة. السابع: أنه نورٌ وضعه الله في قلبه» (¬1). ثم قال: «ولا شك أن الله أعطاه هذه الأشياء كلها، ولكن الصحيح أن المراد بالكوثر الحوض؛ لأنه ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتدرون ما الكوثر؟ هو نهر أعطانيه الله وهو الحوض آنيته عدد نجوم السماء»» (¬2). وأشهر الأقوال القول الأول والثاني أن المراد بالكوثر: النهر، أو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، والمؤلف هنا لا يرى أن في الأقوال عموماً وخصوصاً؛ ولذا لم يتعامل مع الأقوال بتقديم العام على الخاص، بل يرى أن حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم هو المفسِّر، ومن وجوه الترجيح عنده أن يكون حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقول النبي صلّى الله عليه وسلّم يقطع أن النهر الذي ¬

(¬1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 2/ 517. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة من حديث أنس بلفظ: «فإنه نهر وعدنيه ربي عزّ وجل عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم»، ورقم الحديث (400).

أعطاه الله إياه يدخل في المراد بالكوثر في هذه الآية، ولو نظر المؤلف إلى تفسير الكوثر من باب العموم المخصوص؛ فإن من فسر الكوثر بالنهر فإنه يكون من باب التمثيل عنده، وليس من باب التخصيص. والمؤلف أشار إلى العموم بقوله: «ولا شك أن الله أعطاه هذه الأشياء كلها»، وإن كان رجَّح بوجه آخر من وجوه الترجيح وهو الوجه الثاني من وجوه الترجيح «الترجيح بالسنة». مثال آخر: في قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى: 5] يقول ابن جزي (¬1): «عمومٌ يراد به الخصوص؛ لأن الملائكة إنما يستغفرون للمؤمنين من أهل الأرض، فهي كقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7]»، فالمؤلف يذهب إلى أن هذه الآية خصصت الآية السابقة وهي قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ}، ولم يُعمل وجه الترجيح المتعلق به، وهو تقديم العام على الخاص، بل هو يرجِّح الخاص على العام بدليل الآية، فأعمل قاعدة أخرى من وجوه الترجيح وهي تفسير بعض القرآن ببعض، فإذا دل موضع من القرآن على المراد بموضع آخر حملناه عليه ورجحنا القول بذلك على غيره من الأقوال. السبب السادس: احتمال الإطلاق أو التقييد: ويقابله في وجوه الترجيح الوجه العاشر: «تقديم الإطلاق على التقييد إلا أن يدل دليل على التقييد». ومن أشهر الأمثلة في ذلك قضية الرقبة في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، وفي آية المجادلة: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3]، ففي آية المجادلة: ¬

(¬1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 2/ 244.

{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} إطلاق، وفي آية النساء {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} تقييد، وكثير من العلماء حمل هذا المطلق على المقيد لكن نقول: إن الأصل هو الإطلاق وعدم التقييد، إلا إذا دل الدليل كما في هذا المثال، ثم إن حمل المطلق على المقيد في هذا المثال هو راجع أيضاً إلى الوجه الأول من وجوه الترجيح الذي هو تفسير بعض القرآن ببعض. السبب السابع: احتمال الحقيقة والمجاز: الكلام عن الحقيقة والمجاز طويل، وسيأتي شي مما تعلق به عند كلام المؤلف عنه في وجوه الترجيح. والمراد هنا أن من أسباب الاختلاف بين المفسرين أن يحتمل الكلام حمله على الحقيقة، ويحتمل حمله على المجاز، فيذهب كل فريق إلى أحد الاحتمالين. ومن المعلوم أن الكلام إذا دار بين الحقيقة والمجاز، فإن الأصل إعمال الحقيقة وتقديمها على المجاز. مثاله: عند المؤلف في قوله: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12] (أي: إذا رأتهم جهنم، وهذه الرؤية تحتمل أن تكون حقيقة أو مجازاً بمعنى صارت منهم بقدر ما يُرى على البعد) فالمؤلف ذكر هذا الكلام وأنه يحتمل فيه أن يكون حقيقة وأن يكون مجازاً، ولا شكَّ أن الحقيقة أظهر. مثال آخر: في قوله: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] قال: «الفعل مسند إلى جهنم، وقيل: إلى خزنتها من الملائكة، والأول أظهر، واختلف هل تتكلم جهنم حقيقةً أو مجازاً بلسان الحال؟ والأظهر أنه حقيقة، وذلك على الله يسير». لو أردنا أن ننظر في المثال الأول والمثال الثاني، فالمؤلف في الأول كأنه توقف هل تحمل على الحقيقة أو على المجاز؟ وفي الثاني

حملها على الحقيقة، ونقول: من باب أولى أيضاً أن يحمل المثال الثاني على الحقيقة؛ لأن أحوال الآخرة غير أحوال الدنيا، وكما قال المؤلف: «وذلك على الله يسير»، فإذن نثبت كل هذه الأفعال لجهنم على الحقيقة. ومن الأمثلة كذلك في قول الله: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] يقول: «الضمير يعود على الكتاب المكنون، ويحتمل أن يعود على القرآن المذكور قبله، إلا أن هذا ضعيفٌ لوجهين: أحدهما: أن مسَّ الكتاب حقيقة ومس القرآن مجاز، والحقيقة أولى من المجاز»، المؤلف ذهب إلى أن المراد بالقرآن كلام الله، والكلام لا يمس، فقال: «ومس القرآن مجاز، والحقيقة أولى من المجاز» (¬1)، وإذا كان المراد الكتاب الذي هو المصحف فهذا يستقيم في هذا المعنى {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} يعني يمس المصحف، فالمؤلف رحمه الله ذكر سبب الاختلاف وأعمل قاعدة الترجيح المتعلقة به فسبب الاختلاف هو احتمال الحقيقة والمجاز، ووجه الترجيح الذي أعمله هو تقديم الحقيقة على المجاز. السبب الثامن: احتمال الإضمار والاستقلال: يقابله في وجوه الترجيح: تقديم الاستقلال على الإضمار. والمراد بالإضمار أن يكون في الكلام شيء أضمره المتكلم ولم يذكره، ويوجد في السياق ما يدل على هذا الإضمار، وتُرك ثقةً بالسامع، وهذا الأسلوب موجود بلغة العرب. أما الاستقلال فمعناه: أن الكلام لا يحتاج أن يكون فيه إضمار، بل هو مفهوم على ظاهر ألفاظه، وليس هناك كلام قد أخفي أو أضمر. ¬

(¬1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 2/ 339.

من الأمثلة على ذلك: في قوله سبحانه وتعالى: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] قال المؤلف: «يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون «الله» مبتدأ و «شهيد» خبره، والآخر أن يكون تمام الجواب عند قوله: {أَكْبَرُ شَهَادَةً} بمعنى أن الله أكبر شهادة، يعني يقول: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ} ثم يبتدئ على تقدير: «هو شهيد بيني وبينكم»، ثم قال بعد ذلك: «والأول: أرجح لعدم الإضمار»، فالمؤلف يرى عدم الحاجة إلى هذا الإضمار ما دام الكلام مفهوماً بدونه، فهو أرجح، ثم قال: «والثاني أرجح لمطابقته للسؤال؛ لأن السؤال بمنزلة من يقول: من أكبر الناس؟ فيقال في الجواب: فلان، وتقديره فلان أكبر» (¬1) إلى آخر كلامه. مثال آخر: في قوله سبحانه وتعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} [مريم: 2] يقول: «{ذِكْرُ} تقديره: «هذا ذكر عَبْدَهُ زَكَرِيَّا» وصفه بالعبودية تشريفاً له وإعلاماً له بتخصيصه وتقريبه، ونصب «عبده» على أنه مفعول لـ «رحمة»، فإنها مصدر أضيف إلى الفاعل، ونصب المفعول، وقيل: هو مفعول بفعل مضمر تقديره: «رَحِمَ عبدَه»، وعلى هذا يُوقَف على ما قبله، وهذا ضعيف، وفيه تكلف الإضمار من غير حاجةٍ إليه» (¬2). السبب التاسع: احتمال الكلمة زائدة: هذا السبب لا يقابله شيء من وجوه الترجيح لكن لو أردنا أن نضع له وجهَ ترجيحٍ كما صنع المؤلف فيمكن أن نقول: إذا وقع الاختلاف بين الزيادة وعدمها، فالأصل عدم الزيادة؛ أي: أن القول بعدم الزيادة مقدم على القول بالزيادة. ¬

(¬1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 1/ 256. (¬2) التسهيل (تحقيق الخالدي) 1/ 477.

وعلينا هنا أن نحرِّر مصطلح الزيادة، فنقول: كلام العلماء في الزائد في القرآن على قسمين: الأول: دعوى زيادة الكلمة أو الحرف بحيث يتأتَّى المعنى الدقيق للجملة بدونه، وهذا وقع فيه أبو عبيدة (ت210هـ) رحمه الله تعالى في بعض أمثلة له؛ كما في قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] يقول: «إذ» زائدة (¬1)، والمعنى: وقال ربك، والحقيقة أن «إذ» هنا لها معنى، والقول بزيادتها يذهب المعنى الذي فيها. والتحرير أن هذا النوع من دعوى الزيادة ليس موجوداً في كلام الله سبحانه وتعالى، فلا يمكن أن يوجد حرف أو كلمة زائدة في المعنى بحيث لو حُذفت لالتأم المعنى التئاماً تاماً، وصار كما لو جيء بها؛ أي: أن وجود الحرف أو الكلمة وحذفهما سواء في أداء المعنى. النوع الثاني: وهو الذي يقع في كلام بعض العلماء، وهو المراد بقول كثير منهم بالزيادة في القرآن، ومرادهم وجود الزيادة من جهة المعنى الكلي دون المعنى التفصيلي، وهو الذي يطلق عليه الزيادة في الإعراب، وهذا النوع موجود في كلام العرب وموجود في كلام الله، فيقال: زائدة من جهة الإعراب أما من جهة المعنى فلها غرض. ومن أمثلة ذلك: ما ورد في قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]، فالمُعرِبُ يقول: {مِنْ} زائدة إعراباً، ثم ينبه على فائدتها من جهة المعنى الثاني فيقول: «وفائدتها التأكيد». فجملة «هل خالق غير الله» مساوية لقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} في المعنى الكلي الذي تؤديه هذه وهذه، أما في المعنى التفصيلي فقولك: «هل خالق غير الله» ليست مثل {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}؛ لأن {مِنْ} جاءت لزيادة التأكيد. ¬

(¬1) مجاز القرآن 1/ 36.

وقد نبه بعض العلماء المعاصرين على أن من باب الأدب مع كلام الله ألا نسمّي هذه بالزوائد، بل نسميها (صلة) يعني صلة كلام، وهي قضية لفظية ليست أكثر ولا أقل؛ لأن (صلة) أيضاً فيها شيء من المعنى الزائد، كأنها ليست أصلاً، لكن لا شك أن التعبير بغير الزيادة فيه أدب مع كلام الله سبحانه وتعالى، وهذا يشكر عليه من يعترض على مصطلح الزيادة، لكن الذي أريد أن ننتبه له أنه إذا ورد عن العلماء المتقدمين مثل هذه العبارات ومراده هذا النوع الثاني ـ فإنه لا يُثرَّب عليهم لأنه معنى صحيح، ولا يفهم من كلامهم أن مرادهم أن هذه الكلمة لو سقطت من الجملة لكانت الجملة تؤدي تمام المعنى مثل ما لو كانت موجودة، هذا لا يقول به أحد من العلماء المتقدمين، ولو قال به أحد فإنه لا شك مردود. من الأمثلة على ذلك عند المؤلف في قوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] قال: «يحتمل أيضاً أن يكون خطاباً للملائكة أو للمؤمنين، والمعنى {فَوْقَ الأَعْنَاقِ} أي: على الأعناق حيث المفصل بين الرأس والعنق؛ لأنه مذبحٌ، والضرب فيها يطير الرأس. وقيل: المراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق. وقيل: المراد الأعناق و {فَوْقَ} زائدة» (¬1). وهذا القول الأخير هو أضعف الأقوال؛ لأن {فَوْقِ} لها مدلول، فإذا أسقطنا مدلول {فَوْقَ} صار «فاضربوا الأعناق» مثل: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ}، ولا شك أن عدم القول بالزيادة أولى من القول بالزيادة فيترجح أحد القولين الأولين ليثبت معنى الفوقية للعنق؛ إما أن يراد به الرأس، وإما فوق العنق الذي هو المقتل؛ لأنه يسقط الرأس كله. ¬

(¬1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 1/ 323.

مثال آخر: في قوله: {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} [يوسف: 80] قال: «تحتمل (ما) وجوهاً: الأول: أن تكون زائدة. والثاني: أن تكون مصدرية ومحلها الرفع في الابتداء تقديره: وقع من قبل تفريطكم بيوسف. والثالث: تكون موصولة محلها الرفع أيضاً» (¬1). قال: «والأول أظهر»، وهو القول بالزيادة. ولا يعني هذا أن المؤلف يرى أن في القرآن زائداً من جهة المعنى، بل هو زائد من جهة الإعراب فقط، أما المعنى فلا. مثال آخر أيضاً: في قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [إبراهيم: 21] يقول: «{مِنْ} الأولى: للبيان، والثانية: للتبعيض، ويجوز أن يكونا للتبعيض معاً، قاله الزمخشري» ثم قال: «والأظهر أن الأولى للبيان والثانية زائدة، والمعنى: هل أنتم دافعون أو متحملون عنا شيئاً من عذاب الله» (¬2). فجعل {مِنْ} الثانية زائدة من جهة الإعراب، لكن لا شك أنها ليست زائدة من جهة المعنى؛ لأن قوله: {مِنْ شَيْءٍ} أكدت العموم. مثال: في قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75] قال: «لا» في هذا الموضع وأمثالها زائدة، وكأنها زيدت لتأكيد القسم أو لاستفتاح الكلام نحو: ألا. فالمؤلف جعل لها معنى، وهو التأكيد، ثم قال بعد ذلك: «وقيل: هي نافية لكلام الكفار كأنه يقول: لا صحة لما يقول الكفار، وهذا ضعيف، والأول أحسن؛ لأن زيادة «لا» كثيرة معروفة في كلام العرب» (¬3). ¬

(¬1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 1/ 393. (¬2) التسهيل (تحقيق الخالدي) 1/ 411. (¬3) التسهيل (تحقيق الخالدي) 2/ 338، 339.

اعتمد المؤلف في الترجيح على الوجه الخامس، وهو: أن يدل على صحة القول كلام العرب من اللغة والإعراب أو التصريف أو الاشتقاق. السبب العاشر: احتمال حمل الكلام على الترتيب وعلى التقديم والتأخير: ويقابله في وجوه الترجيح الوجه الثاني عشر: «حمل الكلام على ترتيبه، إلاَّ أن يدل الدليل على التقديم والتأخير». وعِلْم المقدم والمؤخر على نوعين: 1 - نوع يرتبط بعلم البلاغة. 2 - ونوع يرتبط بالمعنى والتفسير. والكلام الذي يناقشه المؤلف في سبب الاختلاف وما يقابله من وجوه الترجيح هو مرتبط بالمعنى والتفسير وليس بالبلاغة. أما مثال ما يتعلق بالبلاغة عند المؤلف ففي قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79] يقول: «وفي كلامه تقديم وتأخير؛ لأن قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} مؤخرٌ في المعنى عن ذكر غصبها؛ لأن خوف الغصب سببٌ في أنه عابها، وإنما قُدِّمَ للعناية به» (¬1)، فهذا التقديم ليس له أثر في المعنى بل هو مرتبط ببلاغة الكلام فقُدِّم المؤخر للعناية به. أما النوع الثاني: فهو المتعلق بالتفسير، ومن أمثلته من كلام المؤلف في قوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28] «فقوله: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} صفة للمؤمن، وقيل: كان من بني إسرائيل» فقوله: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} على هذا يتعلق بقوله: {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} ـ يعني: يكتم إيمانه من آل فرعون ـ ثم قال: «والأول أرجح؛ ¬

(¬1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 1/ 472.

لأنه لا يحتاج فيه إلى تقديمٍ وتأخير، ولقوله: {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَاسِ اللَّهِ} [غافر: 29] لأن هذا كلامُ قريبٍ شفيق؛ ولأن بني إسرائيل حينئذ كانوا أذلاء بحيث لا يتكلم أحد منهم بمثل هذا الكلام» (¬1)، فالمؤلف يرجِّح أن يكون المؤمن من آل فرعون وليس من بني إسرائيل؛ لأن الأصل أن يكون الكلام على ترتيبه، ولا يقال بالتقديم والتأخير إلا إذا لم يفهم إلا بالتقديم والتأخير. مثال: في قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى *فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 4، 5] لما قال: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} المرعى إذا خرج يكون لونه غالباً أخضر، ثم قال: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً} هذه الحالة بعد الخضرة و «أحوى» يعني: مائلاً إلى السواد من شدة القدم، يعني: أصابته الشمس حتى صار العود الأصفر مائلاً إلى السواد، فالعيدان الدقيقة إذا اجتمعت في المرعى بجوار بعضٍ تراها مائلة إلى السواد. بعض المفسرين جعل «أحوى» صفة للمرعى، فيكون فيه تقديم وتأخير إذ قال: «والذي أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء» وقال: «إن من شدة خضرته يكون مائلاً إلى السواد كما قال الله سبحانه وتعالى: {مُدْهَآمَّتَانِ} [الرحمن: 64] في خضرة في الجنة، فيكون من شدة الخضرة إذا رآها الرائي من بعيد يرى أنها مائلة إلى السواد». وعلى هذا التفسير يكون فيه تقديم وتأخير. وما دام الكلام يفهم على ترتيبه فهماً سليماً، فالقول به أولى من القول بالتقديم والتأخير. السبب الحادي عشر: احتمال أن يكون الحكم منسوخاً أو محكماً: المؤلف رحمه الله تعالى في هذه المقدمة يذكر بعض المعلومات ¬

(¬1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 2/ 230.

مرة بعد مرة كما في قضية النسخ، فقد ذكر جزءاً منها قبل ذلك، وقد سبق أن قررنا (¬1) أن النسخ على نوعين: 1 - نسخ جزئي. 2 - نسخ كلي. والنسخ الجزئي يقع في الأحكام والأخبار، وهو مراد السلف عندما يطلقون النسخ، أما المتأخرون فيطلقون عليه تخصيص العام أو تقييد المطلق، أو تبيين المجمل، أو الاستثناء، أما النسخ الكلي فلا يقع إلا في الأحكام فقط، واتفق على ذلك السلف والمتأخرون. من الأمثلة على النسخ الجزئي عند المؤلف في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم: 39] يقول هنا: «السعي هنا بمعنى العمل، وظاهرها أنه لا ينتفع أحد بعمل غيره، وهي حجة لمالك في قوله: «لا يصوم أحد عن وليه إذا مات وعليه صيام»، واتفق العلماء على أن الأعمال المالية ـ كالصدقة والعتق ـ يجوز أن يفعلها الإنسان عن غيره، ويصل نفعها إلى من فُعِلت عنه، واختلفوا في الأعمال البدنية كالصلاة والصيام، وقيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} [الطور: 21] قال: والصحيح أنها محكمة لأنها خبر، والأخبار لا تنسخ» (¬2). قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} خبر، والخبر ـ بناءً على قواعد المتأخرين ـ لا يدخله النسخ، وقد عبَّر عن ذلك المؤلف فقال: «لأنها خبر، والأخبار لا تنسخ»، ومن عبّر بالنسخ من السلف عبّر عنه بمصطلحه الذي يشمل النسخ الكلي والجزئي، ومراده هنا النسخ الجزئي، وهو من باب تخصيص العام، كما هو قول المتأخرين. ¬

(¬1) ص109. (¬2) التسهيل (تحقيق الخالدي) 2/ 321.

تنبيه: على رأي بعض العلماء أن الولد من كسب الإنسان، وأنه يدخل في سعيه فليس فيها شيء من ذلك. مثال آخر: من النسخ الكلي الذي يقع عند السلف وعند المتأخرين في قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] يقول: «اختلف هل هي منسوخة أو محكمة؟ فالذين قالوا: إنها منسوخة قالوا: معناها الميراث بالحِلْف الذي كان في الجاهلية، وقيل: بالمؤاخاة التي آخى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بين أصحابه ثم نسخها: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]، فصار الميراث للأقارب، والذين قالوا إنها محكمة اختلفوا فقال ابن عباس: هي في المؤازرة والنصرة بالحلف لا في الميراث به، وقال أبو حنيفة: هي في الميراث ...». فهذا هو النسخ الكلي عند السلف وعند المتأخرين؛ لأنها داخلة في الأحكام. تمييز عبارة النسخ عند المتقدمين: فإن قال قائل: إذا وردت عبارة السلف في آية من الآيات وهي حُكم وحملوها على النسخ فهل يكون من النسخ الجزئي أو النسخ الكلي؟ نقول: لا نستعجل في حمل عبارات السلف في الأحكام الواردة في دائرة النسخ على النسخ الكلي؛ لأن النسخ في الأحكام قليلٌ جداً، وكل الخلاف الدائر في الناسخ والمنسوخ إذا استطعنا أن نُخَرِّجَهُ على الأبواب التي ذكرها المتأخرون (تخصيص العام، وتقييد المطلق، والاستثناء وتبيين المجمل)، فهذا أولى. وبعضهم يرى أن النسخ الكلي لم يقع إلا في ست آيات فقط، وبعضهم يرى أنه لم يقع الاتفاق على النسخ إلا في آية واحدة وهي آية

المجادلة التي فيها ذكر مناجاة النبي صلّى الله عليه وسلّم (¬1)، وأن البقية محمولة إما على التقييد، وإما على التخصيص، أو الاستثناء. السبب الثاني عشر: اختلاف الرواة في التفسير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن السلف: هذا السبب ذكره المؤلف وليس له أي مثال، ولذا سنذكر عدداً من الاحتمالات والقواعد الواردة على هذا السبب وهي: 1 - أن التفسير النبوي لم يقع فيه اختلاف إطلاقاً، فلم يأت عن صحابي أنه يقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم فسَّر بكذا، ويأتي آخر ويقول إنه فسَّره بخلاف ذلك. 2 - أنه لم يقع اختلاف بين التفسير النبوي وكلامه صلّى الله عليه وسلّم في غير التفسير؛ لأن هذا يدل على التناقض والرسول صلّى الله عليه وسلّم منزه عن مثل هذا، فلا يمكن أن يفسر آية بمعنى، ثم يذكر في سنته معنى يناقض هذا المعنى. 3 - أن يقع اجتهاد من المفسر في تفسير الآية بسنة أو بكلام النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا الاختلاف ليس بسبب السنة وإنما بسبب اجتهاد المفسر، فعندما يأتي مفسر ويحمل الآية على كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ويأتي مفسر آخر ويحمل الآية على كلام آخر للرسول صلّى الله عليه وسلّم، فالخلاف الذي وقع ليس في كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإنما في حمل كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم على معنى الآية. 4 - أن يقع اختلاف في التفسير النبوي، والتفسير المروي عن بعض السلف؛ أي: أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم فسر بمعنى، ثم يأتي عن مفسر معنى غيره، وهذا وقع كما في الأقوال في تفسير الكوثر، فمنهم من ¬

(¬1) قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12]، وينظر كتاب الآيات المنسوخة في القرآن الكريم للدكتور عبد الله بن محمد الأمين الشنقيطي (ص95 - 97).

قال: إن الكوثر هو نهر في الجنة، ومنهم من قال: إنه الخير، فقد وقع خلاف بين تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين تفسير المفسر. 5 - أن يقع اختلاف بين المتأخرين فيحمل بعضهم الآية على حديث نبوي وبعضهم يحملها على تفسير بعض الصحابة والتابعين. ومن ذلك ما ورد في فتنة سليمان، فبعض المتأخرين قال: إن فتنة سليمان هي فيما رواه البخاري بسنده عن «عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السلام: لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ ـ أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ ـ كُلُّهُنَّ يَاتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ الله، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: قل إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ الله. فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلاَّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فُرْسَاناً أَجْمَعُونَ» (¬1). فحمل الآية على الحديث. وحمل آخرون معنى الآية على الرواية الواردة عن بعض مفسِّري السلف: عن ابن عباس وغيره؛ قال: هو صخر الجنيّ تمثَّل على كرسيه جسداً (¬2) ـ فحملوها على بعض الروايات الإسرائيلية كما هو مشهور. 6 - أن يقع الاختلاف في التفسير المروي عن السلف، وهذا كثير. ومثال ذلك: ما رواه الطبري بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس حدثه قال: «بينما أنا في الحجر جالس، أتاني رجل يسأل عن {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله، ثم تأوي إلى الليل، فيصنعون طعامهم، ويورون نارهم. فانفتل عني، فذهب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو تحت سقاية زمزم، فسأله عن {وَالْعَادِيَاتِ ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، ورقم الحديث (2819). (¬2) تفسير الطبري، تحقيق التركي 20/ 88.

ضَبْحًا} فقال: سألتَ عنها أحداً قبلي؟ قال: نعم، سألت عنها ابن عباس، فقال: الخيل حين تغير في سبيل الله، قال: اذهب فادعه لي؛ فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله لكانت أول غزوة في الإسلام لَبدر، وما كان معنا إلا فَرَسان: فرس للزبير، وفرس للمقداد، فكيف تكون العاديات ضبحاً! إنما العاديات ضبحاً من عرفة إلى مزدلفة إلى منى؛ قال ابن عباس: فنزعت عن قولي، ورجعت إلى الذي قال علي رضي الله عنه». وبعد، فهذه الوجوه والاحتمالات الواردة على عبارته، لكن الأول والثاني غير واقعين إطلاقاً، أما الثالث والرابع والخامس والسادس فهي واردة في التفسير. وسبب الاختلاف بين المفسرين في هذا المقام هو الاختلاف في المصدر، فمنهم من كان مصدره التفسير النبوي المباشر، ومنهم من اعتمد على حديث نبوي لم يكن وارداً في تفسير الآية مباشرة، ومنهم من اعتمد على اللغة، إلى غير ذلك مما قد يظهر للباحث. ومن أمثلة اختلاف المفسرين بسبب اختلاف المصدر ما ورد في تفسير قوله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، فقد ورد عن ابن عباس (ت68هـ) وتلاميذه: «تكشف القيامة عن كرب وهول» (¬1)، ومصدرهم فيه هو اللغة، وفسَّر آخرون الآية اعتماداً على الحديث النبوي الوارد في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يكشف ربنا عن ساقه». ويمكن أن نقول: إن سبب الاختلاف بالنسبة لنا هو اختلاف الرواية عن السلف. فإن قال قائل: هل ابن عباس يعرف حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ ¬

(¬1) انظر: تفسير الطبري، تحقيق التركي 23/ 187.

نقول: عندنا احتمالان: الأول: أنه لم يبلغه هذا الحديث، فحمله على ما يعرف من لغة العرب. الثاني: أنه يعرف هذا الحديث، وعلى هذا احتمالان: 1 - أنه ينكر ثبوت الساق للرب، وهذا الافتراض لم يثبت عن ابن عباس مطلقاً. 2 - أنه يرى أن هذه الآية ليست من آيات الصفات لكنه يثبت الساق بدليل آخر وهو الحديث النبوي الذي يظهر فيه بكل وضوح ثبوتها بقوله: «يكشف ربنا عن ساقه»، ومن ثمَّ، فكلام ابن عباس ليس فيه تأويل ولا مجاز، ولو حملناها على أن الحديث يفسرها فهذه طريقة في الترجيح، ولو حملناها على قول ابن عباس وتلاميذه، دون إنكار ثبوت الساق في الحديث النبوي، فهذه طريقة أخرى محتملة. إن اعتماد بعض المؤولين وأصحاب المجاز على كلام ابن عباس وغيره، فهذا مردود لأن ابن عباس لم ينكر الساق مثلهم. هذه أسباب الاختلاف وشرحها كما وردت عند المؤلف، ومن أراد الفائدة والاطلاع على مزيد من الأسباب فلينظر في كتاب الأستاذ الدكتور سعود الفنيسان وهو «اختلاف المفسرين أسبابه وآثاره»، وكتاب الأستاذ الدكتور محمد الشايع واسمه: «أسباب اختلاف المفسرين».

وجوه الترجيح

وجوه الترجيح سمَّى المؤلف هذا النوع من العلم بـ «وجوه الترجيح» (¬1)، وسبق أن أشار إلى تسميات أخرى، وهي «القواعد العلمية»، وسمَّاها أيضاً «موجبات الترجيح»، حيث قال في أول هذه المقدمة: (وهذا الذي «ارتكبت» من الترجيح والتصحيح مبني على القواعد العلمية، أو ما تقتضي اللغة العربية، وسنذكر بعد هذا باباً في موجبات الترجيح بين الأقوال). ويمكن أن نضيف لها مصطلحاً رابعاً، وهو «قرائن الترجيح». ولا شك أن أقوى هذه المصطلحات في التعبير هو «قواعد الترجيح»، وهذه القواعد مصدرها الاستقراء، بحيث يستقرئ الباحث مجموع الأمثلة، ثم يستنبط منها قاعدة، واستنباط هذه القواعد عقليٌّ. ومن ثَمَّ، فإنه قد يقع في القواعد تنازع في الأمثلة فيكون المثال صالحاً لإعمال أكثر من قاعدة، ومثاله عندنا قاعدة «عود الضمير إلى أقرب مذكور»، وقاعدة «ترتيب الضمائر أولى من تفكيكها»، أي: إن عود الضمائر إلى مذكور واحد أولى من تفكيكها، ومثال ذلك: في قوله سبحانه وتعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 9] اتفق المفسرون على أن الضمير في ¬

(¬1) يمكن الاستفادة في وجوه الترجيح من كتاب الدكتور حسين الحربي: «قواعد الترجيح عند المفسرين»، وكتاب الدكتور خالد السبت «قواعد التفسير»، وهذه الكتب مفيدة للغاية في هذه الموضوعات التي هي من أهمِّ أصول التفسير.

{وَتُسَبِّحُوهُ} يعود إلى الله سبحانه وتعالى، واختلفوا في الضمير في {وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} هل يعود إلى لفظ الجلالة أو يعود إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم؟ على قولين: 1 - إن أعملت قاعدة «عود الضمير إلى أقرب مذكور» فإنه يكون عائداً إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أي: لتؤمنوا بالله ورسوله، وتعزِّروا رسوله، وتوقروا رسوله، وتسبِّحوا الله. فإذا أعملتَ هذه القاعدة صار في الجملة تفكيك للضمائر. 2 - وإن أعملت قاعدة «ترتيب الضمائر أولى من تفكيكها»، فإن معنى الجملة سيكون: لتؤمنوا بالله وتؤمنوا برسوله، وتعزروا الله وتوقروا الله وتسبحوا الله، وعلى هذا تكون الضمائر كلها تعود إلى مذكور واحد. وهاهنا تأتي المنازعة العقلية أيهما يقدم ترتيب الضمائر وعودها إلى مذكور واحد، أو تفكيك الضمائر؟ ولا شك أن الترتيب مقدم على التفكيك، لكن لو ذهب أحد إلى المذهب الآخر فله وجه. ومن الأمثلة على تنازع الضمير بين هاتين القاعدتين قوله: {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ *وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات: 6، 7] {وَإِنَّهُ} إذا أعدناه لأقرب مذكور؛ فإنه يعود للرب، فهو شهيد على العبد، ولو أعملنا قاعدة ترتيب الضمائر في عودها على أول مذكور؛ فإنها تكون للعبد، أي: وإن الإنسان على ذلك لشهيد؛ يشهد على نفسه بكنوده. وقد تأتي أكثر من قاعدة مرجحة للمعنى، كأن تكون قاعدة السياق وقول الجمهور؛ لأن قول الجمهور يعتبر قرينة، فإذا أعملنا قاعدة السياق ووافقت قول الجمهور فإن هذا القول يتأكد رجحانه. وقد يكون التنازع قوياً حين تتنازع قاعدتان، فيختلف الوجه التفسيري بناء على اختلافهما، كتنازع قاعدة تقديم القول الموافق للسياق مع قاعدة تقديم قول الجمهور.

من أمثلة ذلك: قوله سبحانه وتعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف: 10] اختلف في الشاهد هل هو موسى عليه السلام أو عبد الله بن سلام رضي الله عنه (ت43هـ)، فذهب مسروق (ت63هـ) وتبعه الشعبي (ت103هـ) إلى أن الشاهد موسى عليه السلام، وذهب سعد بن أبي وقاص (ت54هـ)، وعبد الله بن سلام نفسه وابنه يوسف وابن عباس (ت68هـ)، وبعض تلاميذ ابن عباس؛ ذهبوا إلى أن الشاهد هو عبد الله بن سلام. فلو أعملت قاعدة تقديم قول الجمهور، فإنك ستقول: الشاهد هو عبد الله بن سلام. ولو أعملت قاعدة القول الموافق للسياق، فإنك ستقول: الشاهد موسى، ويؤيده أن الآية في سورة الأحقاف المكية، وسياق الآيات مخاصمة ومحاجة مع كفار مكة، وإيمان عبد الله بن سلام لم يكن عند نزول الآية. فهذا تنازع قوي بين القواعد، ولهذا تأرجح الطبري رحمه الله تعالى في ترجيحه، وأشار إلى القاعدتين معاً، فقال: «والصواب من القول في ذلك عندنا أن الذي قاله مسروق في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل؛ لأن قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] في سياق توبيخ الله تعالى ذكره مشركي قريش، واحتجاجاً عليهم لنبيه صلّى الله عليه وسلّم، وهذه الآية نظيرة سائر الآيات قبلها، ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكر، فتوجه هذه الآية إلى أنها فيهم نزلت، ولا دلّ على انصراف الكلام عن قصص الذين تقدّم الخبر عنهم معنى، غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن ذلك عنى به عبد الله بن سلام وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل، وما أريد به. فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك، وشهد عبد الله بن سلام، وهو

الشاهد من بني إسرائيل على مثله، يعني على مثل القرآن، وهو التوراة، وذلك شهادته أن محمداً مكتوب في التوراة أنه نبيّ تجده اليهود مكتوباً عندهم في التوراة، كما هو مكتوب في القرآن أنه نبيّ» (¬1). تفصيل وجوه الترجيح عند المؤلف: القاعدة الأولى: تفسير بعض القرآن ببعض، فإذا دل موضع من القرآن على المراد بموضع آخر حملناه عليه، ورجحنا القول بذلك على غيره من الأقوال. هذه القاعدة أو الوجه من وجوه الترجيح ليس وجهاً مطلقاً؛ لأن العمدة في الترجيح بالقرآن الاجتهاد من المفسر، أما ما يخرج عن هذا مما لا يمكن أن يقع فيه خلاف في أنه من باب تفسير القرآن بالقرآن فمثل تفسير الطارق بأنه النجم الثاقب في قوله سبحانه وتعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ *النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 1 - 3]. ومثله قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ *ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ *يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 17 - 19] ثم إن المفسر لما اجتهد وربط الآية بالآية اعتمد مصدراً معيناً، إما أنه اعتمد على مشابهة لفظية، وإما أنه اعتمد على معنى لغوي، وإما أنه اعتمد على فهم المعنى العام. ومثال هذا ما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] لو رجعنا إلى أقوال المفسرين فإننا سنجد قولين: القول الأول: قُرنت الأصناف بالأصناف، الكفار مع الكفار، والمنافقون مع المنافقين، والمؤمنون مع المؤمنين، ويصنَّف أيضاً الكفار فعبدة النجوم مع بعض، وهكذا. ¬

(¬1) تفسير الطبري (21/ 131 - 132).

وممن فسرها بهذا عمر بن خطاب رضي الله عنه، ونظَّرها بقوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاَثَةً *فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ *وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ *وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 7 - 10]، وكذلك بقوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]؛ أي: أصنافهم، وليس المراد زوجاتهم؛ لأنه قد تكون زوجة الكافر مؤمنة، وقد تكون زوجة المؤمن كافرة. والمقصود من هذا أن عمر رضي الله عنه لما فسَّر هذه الآية بهذا المعنى اعتمد على اللغة؛ لأنه فسر التزويج بمعنى القَرْن، أي: قَرْن الأصناف، فـ «زوجت» بمعنى قُرِنَت الأصنافُ بالأصنافِ. القول الثاني: أن الأرواح ردت إلى الأجساد {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} أي: قرنت الأرواح بالأجساد، ثم يبعث الإنسان كما هو معلوم في كيفية البعث التي أخبر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم عنها، فالقول الثاني لم يعتمد على آية، ومع ذلك نقول: كلا القولين صحيح، فالآية تحتمل هذا وتحتمل هذا، لكن عند الترجيح نرجِّح القول الأول؛ لأمور: 1 - أن القرآن دلَّ على هذا المعنى الأول. 2 - أنه قول الجمهور. 3 - من قرائن الترجيح أنه فَهْمُ عمر بن الخطاب الذي أشار إليه المؤلف (إذا كان قول من يؤتم به أو يقتدى به فإنه يكون قولاً معتبراً). مثال آخر: في قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20] السبيل: قيل: طريق خروجه من بطن أمه، وهذا قول الجمهور. والقول الآخر: أن المراد بالسبيل طريق الخير والشر، واستدل صاحب هذا القول بقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]. وإذا أعملت قاعدة تفسير القرآن بالقرآن يعدُّ قرينة، فإنا نرجح القول

الثاني؛ لأن المراد هديناه سبيل الخير والشر، لكن المرجَّح والمقدَّم هنا هو القول الأول؛ لأنه قول الجمهور، ولأن السياق يدل عليه، فالله سبحانه وتعالى يتكلم عن تكوين الإنسان وأطوار خلقه فقال: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ *ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ *ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 19 - 21] وليس الكلام عما يتعلق بقضية الخير والشر. المقصود من هذا: أن القول بأن القول الذي يشهد له قرآن يُقدَّم على غيره ليس لازماً أو على إطلاقه، بل يُعدُّ قرينة في الترجيح حينما يفسِّرُ مفسرٌ آيةً بآية، لكن القول الثاني هو الأقوى والأصوب لموافقته للسياق، ولكونه قول الجمهور، ولو كان حمل الآية على الآية ملزماً، فماذا نعمل حينما نجد بعض المبتدعة يفسرون آية بآية؟ هل نقبل تفسيرهم؟! لا شكَّ أننا لا نقبله، ولو كان من قبيل تفسير القرآن بالقرآن؛ لأنهم لم يحملوا آية على آية إلا على قواعدهم البدعية، ولو لم تكن هذه القواعد البدعية لما حملوا آية على آية، ومثال ذلك: يفسِّر بعض المعتزلة قوله تعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] بأنها تنتظر ثواب ربها، وينفون رؤية الباري، ويستشهدون لذلك بقوله تعالى: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، ولولا قولهم بعدم رؤية الباري لما حملوا هذه الآية على تلك. القاعدة الثانية: إذا كان المفسر اعتمد على كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم. مثال ذلك: قوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34] بعض المفسرين المتأخرين حملوا هذه الآية على حديث سليمان أنه قال: «والله لأطوفنَّ الليلة على مائة امرأةٍ، تلد كل امرأةٍ منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك: قل إن شاء الله

فنسي فطاف بهن، فلم تأت امرأة منهن بولد إلا واحدة بشق غلام» (¬1)، فقالوا: إن هذا هو الجسد الذي أخبر الله سبحانه وتعالى عنه، والرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يربط هذا الحديث بالآية، وإنما أخبر بخبرٍ عن سليمان عليه السلام، فحَمْلُ الحديثِ على الآية ليس من فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإنما من عمل المجتهد. ومفسرون آخرون حملوا الآية على ما ورد في بعض الإسرائيليات أنه وقع تسلُّط من الشيطان على سليمان عليه السلام. الأصل ألا نوجب تفسير الآية بالحديث إلا إذا ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أراد أن هذا المعنى مفسر لهذه الآية، وهذا النوع نطلق عليه «التفسير النبوي المباشر»؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نصَّ على الآية، وأراد تفسيرها. أما إذا ورد الحديث مطلقاً من غير آية، فإن الاطمئنان إلى حمل الآية على الحديث أحرى، لكنه ليس ملزماً، فليس كل استفادةٍ من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم في تفسير الآيات يلزم أن يكون صحيحاً، وإذا كان حمل المعنى على الآية صحيحاً فإنه لا يلزم أن يكون حجة؛ لأنه من عمل المجتهد، ونحن نقبله لأمور أخرى منها: أن يكون وارداً عن بعض من يُقتدَى به؛ كتفسير ابن عباس لـ {اللَّمَمَ} في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} [النجم: 32]، قال: «ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق ...» (¬2)، فجعل هذا الحديث مفسراً لـ {اللَّمَمَ} أي: الصغائر التي تكفرها الصلوات. تنبيه: هناك مجالان لا يمكن الزيادة فيهما على ما ورد من التفسير النبوي ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب كفارات الأيمان من حديث أبي هريرة، رقم الحديث (6720). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان، ورقم الحديث (6243).

«بيان أحكام القرآن أو مغيباته»، فهذان لا يمكن لأحد ألبتة أن يزيد عليهما؛ لأن الزيادة في مثل هذا تعتبر تنقيصاً في حقِّ النبي صلّى الله عليه وسلّم. وادِّعاءُ أن بيانه صلّى الله عليه وسلّم كان ناقصاً مستحيلٌ؛ لأنه أوتي جوامع الكلم، وكان بيانه في غاية التمام والوضوح. مثال: تفسيره لحكم من أحكام القرآن، وما ورد في تفسيره لاعتزال النساء في المحيض، لما سأله الصحابة عن ذلك؛ لأن اليهود كانوا أهل كتاب، وكانوا يفعلون ذلك فيعتزلونهن في المحيض، ولا يؤاكلوهن ولا يشاربوهنَّ، ولا ينامون معهن. فالصحابة رضي الله عنهم ـ خصوصاً الأنصار ـ كانوا يقتدون ببعض أفعال اليهود، فسألوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن هذا هل هو من دين الله؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، وهذا فيه عموم، ولو بقِيَ النصُّ على عمومه لفُهِمَ أن النساء تُعتَزَل في المحيض اعتزالاً تاماً: عن الأكل والشرب والنوم وغيره، لكن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في تفسير الاعتزال: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» (¬1)، فدل على أن العموم الوارد في هذه الآية ليس مراداً منه جميع الاعتزال، وإنما المراد الاعتزال في النكاح فقط، وهذا فيه مخالفة لليهود. ولا يجوز لأحد أن يأتي بقول يخالف قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم ويزيد عليه بدعوى احتمال معنى الاعتزال لأنواع أخرى غير النكاح، فالرسول صلّى الله عليه وسلّم خصَّ هذا العموم بالنكاح فقط، ولا يحتمل ـ بعد بيانه ـ دخول أي نوع من الاعتزال غير ما ذكر. ومثال القضايا الغيبية التي لا يمكن إدراكها إلا بخبر المعصوم، وما لم يدرك من خبره صلّى الله عليه وسلّم لا يمكن أن يقال به، ما وقع من سؤال الصحابة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن حياة الشهداء لما نزلت الآية في ذلك، وهي ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، ورقم الحديث (302).

قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] أخبر «بأن أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت» (¬1)، فإخباره صلّى الله عليه وسلّم عن حياة الشهداء لا يمكن أن يدرك بالعقل إطلاقاً، لذا لا يمكن الزيادة على هذا البيان النبوي. ويبقى المشكل في الأمر فيما لو فسر صلّى الله عليه وسلّم بعض الآيات، وهي تحتمل أكثر من المعنى الذي ذكره، فهل يجوز الزيادة على تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم، إذا كانت الآية تحتمله، مثال ذلك ما ورد من التفسير النبوي لقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} قال: «هم اليهود» {وَلاَ الضَّالِّينَ} قال: «هم النصارى» (¬2)، فقد وردت تعبيرات من العلماء مخالفة لعبارة النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ كما يقول: المغضوب عليهم: من ضلَّ في العلم، والضالين: من ضلَّ في العمل، كما قال بعضهم: «من ضل من علمائنا فهو من المغضوب عليهم، ومن ضل من عبادنا فهو من الضالين»، وهذه العبارات كلها في النهاية لا تخرج عن أن تكون أمثلة للمغضوب عليهم والضالين، لكن المقصودين بالآية أولاً هم اليهود والنصارى، فإذا جاء مفسر وقال: ليس المراد اليهود والنصارى نقول: أخطأت؛ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فسر الآية بذلك، لكن إذا قال: {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} اليهود ويدخل معهم كل ما شابههم في هذا العمل نقول: نعم؛ لأنه داخل في باب القياس. مثال آخر: تفسيره صلّى الله عليه وسلّم لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، قال: «ألا إن القوة الرمي» (¬3)، ولا يصح أن يقال: إن تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم هنا تخصيص ولا يجوز أن نُعِدَّ إلا الرمي، بل كأنه أراد التنبيه على أقوى القوة وأعلى القوة وهي الرمي، لكن لا يعني ذلك أن ¬

(¬1) أخرجه مسلم في باب أن أرواح الشهداء في الجنة، ورقم الحديث (1887). (¬2) سبق تخريجه ص112. (¬3) سبق تخريجه ص112.

غيره من أنواع القوة غير مراد، لذا فإن ما ورد عن بعض السلف من تفسيرات أخرى كقول بعضهم: القوة: ذكور الخيل؛ لأنها هي التي كانت يقاتل بها، فإن هذا يدخل في معنى الآية؛ لأنه من القوة، وهو لا يناقض قول النبي صلّى الله عليه وسلّم. مثال آخر: لما فسر صلّى الله عليه وسلّم «الغاسق» بالقمر قال لعائشة رضي الله عنها: «استعيذي من شرِّ هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب» (¬1)، والمراد به القمر إذا دخل في الليل، وبعض المفسرين قال: الغاسق: الليل إذا دخل؛ لأن الليل والقمر بينهما تلازم، فالقمر لا يخرج إلا بالليل، وإذا جاء الليل خرج القمر، فالتعبير بالليل لا يخالف التعبير بالقمر لكن عبارة النبي صلّى الله عليه وسلّم لا شك أنها أولى. القاعدة الثالثة: أن يكون القول قول الجمهور وأكثر المفسرين. لا شك أن كونه قول الجمهور فإن النفس إليه أسكن واتِّباعُه أولى، وقد سبق ذكر أمثلة لذلك. القاعدة الرابعة: أن يكون قول من يُقتدى بهم من الصحابة كالخلفاء الأربعة وعبد الله بن عباس لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل» (¬2). هذا الحديث جعل بعض العلماء يعتمد قول ابن عباس إذا كان في الآية خلافٌ كالواحدي (ت468هـ) في (الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)، قال: «وهذا كتاب أنا فيه نازل إلى درجة أهل زماننا؛ تعجيلاً لمنفعتهم، وتحصيلاً للمثوبة في إفادتهم ما تمنوه طويلاً، فلم يغن عنهم أحد فتيلاً، وتارك ما سوى قول واحد معتمد لابن عباس رحمه الله، أو من هو في ¬

(¬1) أخرجه الترمذي وصححه في كتاب تفسير القرآن، ورقم الحديث (3366)، وأخرجه أحمد برقم (25802) 43/ 8. (¬2) سبق تخريجه ص144.

درجته ...» (¬1). وكذلك ابن الوزير (ت840هـ) (¬2) في كتابه «إيثار الحق على الخلق» في فصل عقده بعنوان: «فصل في الارشاد إلى طريق المعرفة لصحيح التفسير»، قال: «وأكثرهم تفسيراً حبرُ الأمة وبحرُها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقد جُمِع عنه تفسير كاملٌ، ولم يتفق مثل ذلك لغيره من الصدر الأول الذين عليهم في مثل ذلك المعول. ومتى صحَّ الإسناد إليه كان تفسيره من أصحِّ التفاسير مقدماً على كثير من الأئمة الجماهير، وذلك لوجوه: أولها: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دعا له بالفقه في الدين وتعليم التأويل؛ أي: التفسير؛ كما تقدم تقريره في الكلام على المتشابه. وصح ذلك واشتهر عن رسول الله، وله طرق في مجمع الزوائد. وقال الحافظ أبو مسعود في أطرافه أنه مما أخرجه البخاري ومسلم بكماله، وفيهما من غير طريق أبي مسعود عند سائر الرواة: «اللهم علمه الكتاب والحكمة»، وفي رواية: «اللهم فقهه في الدين»، وفي رواية الترمذي: أنه رأى جبريل عليه السلام مرتين، ودعا له النبي صلّى الله عليه وسلّم بالحكمة مرتين، وينبغي معرفة سائر مناقبه مع ذلك في مواضعها، ولولا خوف الإطالة لذكرتها. وثانيها: أن الصحابة اتفقوا على تعظيمه في العلم عموماً، وفي التفسير خصوصاً، وسمَّوه البحر والحبر، وشاع ذلك فيهم من غير نكير، وظهرت إجابة الدعوة النبوية فيه، وقصة عمر معه رضي الله عنهم مشهورة في سبب تقديمه وتفضيله على من هو أكبر منه من الصحابة وامتحانه في ذلك. وثالثها: كونه من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، وستأتي الإشارة ¬

(¬1) الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، للواحدي، تحقيق صفوان داوودي 1/ 87. (¬2) محمد بن إبراهيم، المعروف بابن الوزير، مؤلف كتاب العواصم والقواصم، توفي سنة (840هـ).

إلى مناقبهم الغزيرة في آخر المختصر، فيكون المعظِّم له، والموفي له حقه في ذلك قد قام بحق الثقلين وعمل بالوصية النبوية فيهما. ورابعها: أنه ثبت عنه إنه كان لا يستحلُّ التأويل بالرأي، روي عنه أنه قال: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»، وفي رواية: «بغير علم» رواه أبو داود في العلم، والنسائي في «فضائل القرآن» والترمذي في «التفسير»، وقال: حديث حسن وشرطه فيما قال فيه: حديث حسن أن يأتي من غير طريق. وخامسها: أن الطرق إليه محفوظة متصلة غير منقطعة، فصح منها تفسير نافع ممتع، ولذلك خصصته بالذكر، وإن كان غيره أكبر منه وأقدم وأعلم وأفضل؛ مثل: علي بن أبي طالب عليه السلام من جنسه وأهله وغيره من أكابر الصحابة رضي الله عنهم، لكن ثبوت التفسير عنهم قليل بالنظر اليه رضي الله عنهم أجمعين» (¬1). وما ذكره من تقديم ابن عباس، فإنه صحيح بالجملة، ووجود ابن عباس في قول من أقوال التفسير، مع استشعار الدعاء النبوي له، يورث قرينة الصحة، لكنها ليست مطلقة، بل إن هذا يوجد في القول الذي يذهب إليه الأربعة: أبو بكر أو عمر أو عثمان أو علي، فوجودهم في قول يُعَدُّ قرينة، وليس أصلاً وقاعدة وحجة مطلقة. ولا يكاد يوجد قول قال به أحد هؤلاء الأربعة خاصة، ويكون مخالفاً لمعنى الآية، أو يكون فيه ضعف شديد بحيث لا يقبل إطلاقاً، لكن قد يكون غيره أرجح منه، ويكون قول أحدهم محتملاً،، ومن تبع قولهم المحتمل على أنه قول من يقتدى به، فَفِعْلُه صحيح ومعتبر. وأرى أن من الضروري التنبيه على كيفية التعامل مع كلام السلف من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وأقول: عندنا قاعدة كلية وهي أن قول السلف معتبر، وأنه لا يجوز خلافه. ¬

(¬1) إيثار الحق على الخلق (ص146، 147).

فإن قال قائل: كيف تقبل قول السلف وأنت ترى فيه اختلافاً أو أقوالاً ضعيفة؟ فالجواب: إن تقعيد هذه القاعدة لا يعني قبول كل ما جاء عن السلف على إطلاقه، والأمر فيه تفصيل: الأول: إذا كان في تفسير الآية إجماع، فهذا حجة بلا ريب. الثاني: إذا وقع اتفاق السلف على قول، ووقع خلاف بعضهم، فيكون قول الجمهور «الاتفاقُ» (¬1) هو المقدَّم على قول غيرهم. الثالث: إذا وقع الخلاف بينهم، فإن ما وقع من اختلافهم عليه، فهو إجماع من هذه الجهة، أي: إنه إجماع منهم على هذه الأقوال، وأن الآية لا يخرج معناها عندهم عمَّا قالوه. وهذا النظر دقيق، قد يغيب عمَّن لم يتأمله، وفي هذه الحال لا يجوز إحداث قول يبطل أقوالهم جميعها، وبهذا يظهر مقام القاعدة الأصولية التي ذكرها الأصوليون في أنه لا يجوز إحداث قول ثالث فيما إذا اختلفوا على قولين (¬2). ¬

(¬1) يستخدم بعض العلماء مصطلح الاتفاق للتعبير عن رأي الجمهور، وليس المراد به الإجماع، وبهذا عبَّرت هنا، فالقول المتفق عليه أي الذي اتفق عليه الجمهور. ولا يخفاك أن حكاية الاتفاق تحتاج إلى استقراء، كما لا يخفاك أن تتابع العلماء على نقل قول من الأقوال دون نكير يُشعر بقبول هذا القول، وهذا من الأمور المهمة التي يجب أن يتنبه لها طالب العلم، ولا يردُّ القول إلا إذا ظهر الخطأ فيه، وأبان المخطِّئُ بالتدليل أو التعليل موقع ذلك الخطأ. (¬2) جاء في المسودة ص329: «مسألة: إذا تأول أهل الإجماع الآية بتأويل ونصوا على فساد ما عداه لم يجز إحداث تأويل سواه. وإن لم ينصوا على ذلك، فقال بعضهم: يجوز إحداث تأويل ثان إذا لم يكن فيه إبطال الأول، وقال بعضهم: لا يجوز ذلك، كما لا يجوز إحداث مذهب ثالث، وهذا هو الذي عليه الجمهور، ولا يحتمل مذهبنا غيره». المسودة لابن تيمية، طبعة المدني.

ويكون التعامل مع هذا الاختلاف بأن يُعمل بالمرجحات، فيرجِّح المفسر المتأخر أحد الأقوال بناءً على القواعد العلمية المعتبرة عند أهل العلم. وبهذا التفصيل يُعرف الفرق بين التنظير العام، وهو القول بأن تفسير السلف حجة، والتفصيل في المسألة على هذا النحو، فهناك فرق بين تقعيد القاعدة الكلية وبين التطبيقات. ومما يُبنى على هذه القاعدة أن ما قالوه في معاني الآية ـ ولو اختلفوا ـ لا يمكن أن يخرج عنه التفسير الصحيح من وجه من الوجوه؛ أي: أن الصواب من معنى الآية فيما قالوه، ولا يمكن أن يكون هناك آية قد جهلوا ـ كلهم ـ معناها، أو فهموا ـ كلهم ـ معناها على وجه الخطأ، ثم تبين لمن بعدهم وجه الصواب فيها. ومن تدبَّر هذا المعنى عرف سبب القول بهذه القاعدة: «تفسير السلف حجة». ولهذا أقول: يجب أن نربي أنفسنا على احترام قول العلماء، وبخاصة سلف الأمة من أصحاب القرون المفضلة «الصحابة والتابعون وأتباعهم»، فهذا هو الأصل في العلم (¬1)، لكن لا يعني ذلك أن نجعل لها قدسية وأنها معصومة من الخطأ، فحين يتبين لك خطأ محض واضح بلا ريب في قول واحد منهم، فبينه بالأسلوب العلمي المؤدب الذي فيه ¬

(¬1) من العجيب أن ترى الواحد منا يدافع عن قول شيخه الذي تلقى عليه العلم، أو يمجد قول عالم متأخر قد يكون عليه أخطاء وملحوظات، ولا تراه يلقي بالاً لقول هؤلاء الكرام من سلف الأمة، ويبدو أن سبب ذلك عائد إلى التربية العلمية التي يتلقاها طالب العلم في بداية طلبه، وكلما كان تلقيه على من يرى قول السلف ويعتبره، كان أكثر احتراماً لقولهم واعتباراً به ممن تلقى العلم على من لم يعتبرهم، وحاله أن يقول: هم رجال ونحن رجال.

احترام للسابقين، وليس بأسلوب التهكم كما يفعله بعضهم، أو بإقصاء أقوالهم وعدم ذكرها إذا لم يكن يفهم مقصود هذه الأقوال، فأقوال السلف من حيث الجملة حجة معتبرة، ولا يجوز مناقضتها ولا إبطالها، وحينما نأتي إلى التفصيلات سنجد أن عندهم أقوالاً ضعيفة فهذه تردُّ بالأدلة العلمية، وإن وجدنا عندهم اختلافاً؛ فإذا لم يمكن القول بها جميعاً على سبيل اختلاف التنوع، فإنه يمكن أن نرجح بين أقوالهم بالقواعد العلمية المعتبرة. ومعرفة هذا الأسلوب من التعامل مع أقوال السلف مهم لطالب العلم الذي يريد أن يدرس التفسير؛ لأنه سيواجه أقوالاً قد يضعِّفها، لكن تضعيفه لها بسبب نقص في العلم عنده، وليس لأن القول في ذاته ضعيف، بل لأنه لم يفهم مراده فخطَّأه، وقد يفهم مراده على غير ما أراده فيخطِّئ ما فهمه هو ظنّاً منه أن هذا هو معنى القول، والواقع أن الخطأ في فهمه، وليس في القول الذي قال به واحد من علماء السلف. ومن الأمثلة التطبيقية على التعامل مع قول السلف: ورد عن قتادة (ت117هـ) أنه قال: «إن الله خلق النجوم لثلاثة فوائد: الأولى: نجوم، والثانية: زينة، والثالثة: علامات {وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] يعني: علامات للاهتداء، قال: فمن زعم غير ذلك فقد كفر» (¬1). عند مناقشة هذا القول يجب أن ننتبه لسببِهِ وموجبهِ، فبعض الأقوال يتبين لنا من خلال النظر في السياق أو المعرفة التاريخية التي تحتفُّ بالقول: أن لهذا القول سبباً جعل هذا المفسر يذكره، فَحَصْرُ قتادة (ت117هـ) فائدةَ خَلْقِ النجوم في هذه الحِكَمِ الثلاث فيه ردٌّ على من يزعم ¬

(¬1) تفسير الطبري 14/ 193.

أن للنجوم تأثيراً ذاتياً، وهم عَبَدَةُ النجوم، وهذا ظاهر من عبارته. فإن قال قائل: هل يلزم من ذكر الله في كتابه هذه الفوائد الثلاث ألا يكون لها فوائد غيرها؟ الجواب: لا يلزم، وأما نَفْيُ قتادة (ت117هـ) لغير هذه الحِكم الثلاث فهذا غير صحيح؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم ينف غيرها من الحكم إنما ذكر هذه الحكم الثلاث، فقول قتادة (ت117هـ) مقبول، لكن تقييده هذا ليس بصحيح، ونحن حين نخطئ هذه الجزئية عنده نعترف له بأنه ذو منزلة في العلم، وأنه كما قيل: لم يمر على الأمة أحفظَ من قتادة. والاستدراك على قتادة لا يعني تضعيفه بذاته، وعدم اعتبار أقواله، بل الأمر متعلق بالنقاش العلمي في هذا الموضع فقط. ومما يلحظ في تعامل بعض المعاصرين مع أقوال السلف هو إقصاء بعض أقوالهم وعدم ذكرها، ومن ذلك قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15، 16] الخنس: إما أن تكون الكواكب والنجوم، وهو قول ابن عباس (ت68هـ)، وإما أن تكون بقر الوحش والظِّبا (جمع ظبية)، وهو قول ابن مسعود (ت32هـ)، وإذا نظرنا إلى سياق الآية وجدناه يحتمل هذا ويحتمل هذا، كما قال سفيان بن عيينة: «ليس في تفسير القرآن اختلاف إذا صح القول في ذلك، وقال: أيكون شيء أظهر خلافاً في الظاهر من الخنس. قال ابن مسعود: هي بقر الوحش وقال علي: هي النجوم. قال سفيان: وكلاهما واحد؛ لأن النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل، والوحشية إذا رأت إنسياً خنست في الغيضان وغيرها، وإذا لم تر إنسياً ظهرت. وقال سفيان: فكلٌّ خنس» (¬1) يعني: النجوم والكواكب وبقر الوحش والظبا، فليس هناك مانع أن ¬

(¬1) السنة للمروزي ص3.

نقول: إن المقسم به هذا وهذا معاً؛ لأن الوصف يحتملهما، ولو قدَّمت القول بالكواكب والنجوم لأجل أن السياق في آيات كونية: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18]، فتتناسب مع هذا القول، فإنه ترجيح له وجهه، لكن لا يعني أن القول الآخر باطل. ورأيت بعض المعاصرين يقتصر على قول من قال: هي النجوم، وبعضهم يفسر الآية ولا يذكر أقوال السلف ألبتة، وكأنه لا قول لهم في الآية، وبعضهم يُبطِل أن يراد بالآية بقر الوحش والظبا. والأسلوب الصحيح أن تذكر أقوالهم، فإن احتملتها الآية قيل بها جميعاً، وإن ترجَّح عندك أحدها ذكرته، ثم ذكرت موجب الترجيح، مع ملاحظة أن تقديمَ القول لا يَلزمُ منه إبطال القول الآخر ما دام من قبيل اختلاف التنوع، بل هو من قبيل تقديم القول الأَولى عندك. القاعدة الخامسة: أن يدل على صحة القول كلام العرب من اللغة والإعراب أو التصريف أو الاشتقاق. يلاحظ أن هذه الجهة العربية قد تدل على صحة القول من جهة حمل القرآن على المعنى العربي، لكن لا يلزم أن تدل على ترجيحه، فالقُرْءُ ـ مثلاً ـ يطلق في كلام العرب على الحيض والطهر، فدل كلام العرب على صحة القول من هذه الجهة، لكننا نحتاج إلى مرجِّح آخر لنعرف المراد منه في الآية. فدلالة كلام العرب على صحة القول لا تكفي إلا أن يكون هناك قول صحيح وقول باطل من جهة اللغة، كما قيل في لفظ الاستواء بأنه بمعنى الاستيلاء، وبه فُسِّر استواء الرحمن في مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وهذا المعنى لم يثبت في اللغة. ومثل هذا القول الباطل يصحُّ القول بأنه لا يدل عليه كلام العرب. ومن حيث العموم فإنه لا بد من معرفة كلام العرب والنظر في

لغتهم لمعرفة المشهور من المعاني والشاذ منها أو القليل؛ لأن حمل كلام الله على المشهور أولى من حمله على الشاذِّ أو القليل. ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا} [النبأ: 24] قيل البرد: هو النوم، وقيل البرد: الهواء البارد، والأشهر في إطلاق اللفظ عند العرب هو الهواء البارد، وإطلاقه على النوم قليل، ولما تعارض المعنى الأشهر والأقل فإننا نقدم الأشهر، من باب تقديم الأولى، وإن كان المعنى الثاني له وجهٌ صحيح والآية تحتمله. القاعدة السابعة: أن يكون ذلك المعنى المتبادر إلى الذهن، فإن ذلك دليلٌ على ظهوره ورجحانه. المتبادر إلى الذهن قضية نسبية، يصعب الحكم بها؛ لأن ما يتبادر إلى ذهني قد لا يكون متبادراً إلى ذهنك، لكن لو وقع الاتفاق على المتبادر للذهن، أو قال به الجمهور قبلناه. مثال على الاختلاف في المتبادر للذهن قوله: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي ياإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46]، فالمراد بالرجم قيل: السب، وقيل: الرجم بالحجارة، والمتبادر للذهن ـ بسبب كثرة الاستعمال ـ الرمي بالحجارة. هذه القواعد التي تحتاج إلى بيان، أما بقية القواعد كتقديم الحقيقة على المجاز، والإطلاق على التقييد، والاستقلال على الإضمار، والعموم على الخصوص، وحمل الكلام على ترتيبه فقد سبق الحديث عنها بالأمثلة عند ذكر أسباب اختلاف المفسرين، وهناك أسباب وقواعد كثيرة غير هذه يمكن أن تؤخذ من مظانها التي ذكرتها.

الباب السادس: طبقات المفسرين

الباب السادس طبقات المفسرين قال المصنف رحمه الله: الباب السادس في ذكر المفسرين، اعلم أن السلف الصالح انقسموا على فرقتين: فمنهم من فسر القرآن وتكلم في معانيه وهم الأكثرون، منهم من توقف عن الكلام فيه احتياطاً، لما ورد من التشديد في ذلك، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفسر من القرآن إلا آيات تعد علّمه إياهن جبريل، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن برأيه وأصاب فقد أخطأ». وتأول المفسرون حديث عائشة رضي الله عنه بأنها في مغيبات القرآن التي لا تعلم إلا بتوقيف من الله تعالى، وتأولوا الحديث الآخر بأنه فيمن تكلم في القرآن بغير علم ولا أدوات، لا فيمن تكلم فيما تقتضيه أدوات العلوم ونظر في أقوال العلماء المتقدمين، فإن هذا لم يقل في القرآن برأيه. واعلم أن المفسرين على طبقات: فالطبقة الأولى: الصحابة رضي الله عنهم، وأكثرهم كلاماً في التفسير: ابن عباس، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يثني على تفسير ابن عباس ويقول: كأنما ينظر إلى الغيب من سترٍ رقيق، وقال ابن عباس: ما عندي من تفسير القرآن فهو عن علي بن أبي طالب. ويتلوهما عبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكل ما جاء من التفسير عن الصحابة فهو حسن. والطبقة الثانية: التابعون، وأحسنهم كلاماً في التفسير، الحسن بن

أبي الحسن البصري وسعيد بن جبير، ومجاهد مولى ابن عباس، وعلقمة صاحب عبد الله بن مسعود، ويتلوهم عكرمة، وقتادة، والسدي، والضحاك بن مزاحم، وأبو صالح، وأبو العالية. ثم حمل تفسير القرآن عدول كل خلف، وألف الناس فيه: كالمفضل، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، والبخاري، وعلي بن أبي طلحة، وغيرهم. ثم إن محمد بن جرير الطبري جمع أقوال المفسرين، وأحسن النظر فيها. وممن صنف في التفسير أيضاً أبو بكر النقاش، والثعلبي، والماوردي إلا أن كلامهم يحتاج إلى تنقيح، وقد استدرك الناس على بعضهم. وصنف أبو محمد بن قتيبة في غريب القرآن ومشكله وكثير من علومه. وصنف في معاني القرآن جماعة من النحويين كأبي إسحاق الزجاج، وأبي علي الفارسي، وأبي جعفر النحاس. وأما أهل المغرب والأندلس فصنف القاضي منذر بن سعيد البلوطي كتاباً في غريب القرآن وتفسيره. ثم صنف المقرئ أبو محمد مكي بن أبي طالب كتاب «الهداية في تفسير القرآن»، وكتاباً في غريب القرآن، وكتاباً في ناسخ القرآن ومنسوخه، وكتاباً في إعراب القرآن إلى غير ذلك من تآليفه، فإنها نحو ثمانين تأليفاً، أكثرها في علوم القرآن من القراءات والتفسير وغير ذلك. وأما أبو عمرو الداني فتآليفه تنيف على مائة وعشرين إلا أن أكثرها في القراءات ولم يؤلف في التفسير إلا قليلاً. وأما أبو العباس المهدي فمتقن التآليف، حسن الترتيب، جامع لفنون علوم القرآن.

ثم جاء القاضيان أبو بكر بن العربي، وأبو محمد عبد الحق بن عطية فأبدع كل واحدٍ وأجمل، واحتفل وأكمل، فأما ابن العربي فصنف كتاب «أنوار الفجر» في غاية الاحتفال والجمع لعلوم القرآن، فلما تلف تلافاه بكتاب «قانون التأويل» إلا أنه اخترمته المنية قبل تخليصه وتلخيصه، وألف في سائر علوم القرآن تآليف مفيدة. وأما ابن عطية فكتابه في التفسير أحسن التآليف وأعدلها، فإنه اطلع على تآليف من كان قبله فهذبها ولخصها، وهو مع ذلك حسن العبارة، مسدد النظر، محافظ على السنة. ثم ختم علم القرآن بالأندلس وسائر المغرب بشيخنا الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، ولقد قطع عمره في خدمة القرآن، وآتاه الله بسطة في علمه، وقوة في فهمه، وله فيه تحقيق، ونظر دقيق. ومما بأيدينا من تآليف أهل المشرق تفسير أبي القاسم الزمخشري، وأبي الفضل الغزنوي، وأبي الفضل بن الخطيب. فأما الزمخشري، فمسدد النظر، بارع في الإعراب، متقن في علم البيان، إلا أنه ملأ كتابه من مذهب المعتزلة ونصرهم، وحمل آيات القرآن على طريقتهم، فتكدر صفوه، وتَمَرَّرَ حُلْوُه، فخذ منه ما صفا، ودع ما كدر. وأما الغزنوي، فكتابه مختصر جامع، وفيه من التصوف نكت بديعة. وأما ابن الخطيب، فتضمن كتابه ما في كتاب الزمخشري، وزاد عليه إشباع الكلام في قواعد علم الكلام، ونَمَّقَهُ بترتيب المسائل، وتدقيق النظر في بعض المواضع، وهو على الجملة كتاب كبير الجرم، وربما احتاج إلى تنخيل وتلخيص، والله ينفع الجميع بخدمة كتابه، ويجزيهم أفضل ثوابه (¬1). ¬

(¬1) التسهيل 1/ 74 - 81.

هذا الباب في ذكر طبقات المفسرين: الطبقة الأولى: السلف الصالح (¬1). قال المؤلف: (واعلم أن السلف الصالح انقسموا إلى فرقتين) وعند استقرائنا للتفاسير التي وردت بالأسانيد سنجد أنها لم تخرج عن الطبقات الآتية: 1 - طبقة الصحابة. 2 - طبقة التابعين. 3 - طبقة أتباع التابعين. وبعد جيل أتباع التابعين اعتمد أهل السنة على النقل من مأثورهم عن هذه الطبقات الثلاث، ولم يظهر من تصدى للتفسير وعُرف به، وأغلب من كتب ـ في هذه الفترة ـ أو شارك في التفسير كان ناقلاً، حتى ظهر ابن جرير الطبري (ت310هـ) بمنهج المفسر الناقد والمرجح بين الأقاويل. وممن كتب في هذه الفترة تفسيراً روائياً: آدم بن أبي إياس (ت220هـ)، وأحمد بن حنبل (ت240هـ)، وكذلك عبد بن حميد (ت249هـ). ويرد هاهنا سؤال مهم، وهو: ألا يوجد تميُّز بين هذه الطبقات الثلاث؟ والجواب: إن الأصل في هذا تقديم قول الصحابي، وأخص ما يقع فيه تقديم قول الصحابي ما كان مرتبطاً بالنزول، وبأحوال من نزل ¬

(¬1) المراد بالسلف «الصحابة والتابعون وأتباعهم»، وبعض من يتعاطى التفسير من المعاصرين يطلق السلف بالإطلاق اللغوي، وهو كل من سبق من علمائنا، وهذا صحيح، لكن المراد بالسلف هنا هم من ذكرت.

فيهم الخطاب، فهم الذين عاصروا التنزيل، وشاهدوا تنَزُّلاته، وعرفوا الأحوال المحيطة به، والأحوال المرتبطة بمن نزل فيهم القرآن الكريم. وقد نبَّه إلى هذه الحيثية جماعة من أهل العلم، منهم الحاكم في كتابه «معرفة علوم الحديث»، فقد ذكر في النوع الخامس «معرفة الموقوفات» هذه المسألة، فقال: «حدثناه أحمد بن كامل القاضي، ثنا يزيد بن الهيثم، ثنا محمد بن جعفر الفيدي، ثنا ابن فضيل عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن أبي هريرة رضي الله عنه في قول الله عزّ وجل: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر: 29] قال: «تلقاهم جهنم يوم القيامة فتلفحهم لفحة فلا تترك لحماً على عظم إلا وضعت على العراقيب». قال: وأشباه هذا من الموقوفات تُعدُّ في تفسير الصحابة، فأما ما نقول في تفسير الصحابي مسند (¬1)، فإنما نقوله في غير هذا النوع، فإنه كما أخبرناه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني مالك بن أنس، عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: «كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قُبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله عزّ وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223]» قال الحاكم: هذا الحديث وأشباهه مسندة عن آخرها، وليست بموقوفة، فإن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا وكذا فإنه حديث مسند، ومما يلزم طالب الحديث معرفته نوع من الموقوفات، وهي مرسلة قبل الوصول إلى الصحابة» (¬2). ¬

(¬1) يقصد أن له حكم المرفوع. (¬2) معرفة علوم الحديث، تحقيق فارس السلوم، ص148 - 151.

وأما ما يقوله الصحابي برأيه، فإن مصادرهم الكبرى في تفسيراتهم الاجتهادية هي: «القرآن والسنة واللغة»، وهذه المصادر يشترك معهم فيها كل من جاء بعدهم، وفي تقديم قول الصحابي في هذه الحال تفصيل ـ بعد القول بأن الأصل تقديم قوله مطلقاً ـ يظهر من تطبيقات علماء التفسير المحرِّرين؛ كابن جرير الطبري (ت310هـ)، وابن عطية الأندلسي (ت542هـ)، وابن كثير الدمشقي (ت774هـ)، فإنهم قد يقدمون قول غيرهم عليهم في حال كون التفسير من باب الاجتهاد لاعتبارات علمية. ومما يحسن أن يلاحظ في هذه الطبقات جهة تاريخية دقيقة، وهي أن هذه الطبقات الثلاث متداخلة، وإن كانت طبقة الصحابة معروفة متميزة، إلا أنا نجد في طبقة التابعين وتابعي التابعين تداخلاً بين كبار التابعين وصغارهم من جهة، وبين صغار التابعين وكبار أتباع التابعين من جهة أخرى، لكن يمكن الاستفادة من تحديد نهاية فترة أتباع التابعين بما حدَّها ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) في كتابه «تقريب التهذيب» فقد ذكر عبد الرزاق (ت211هـ) نموذجاً على صغار أتباع التابعين، وإن كان لا يلزم أن من توفي في زمنه أن يكون لقي التابعين، وهذا يُعرف من كتب الجرح والتعديل التي تحرص على ذكر شيوخ المترجم له وذكر تلاميذه. ومن باب الفائدة: فإن بعض التابعين كانوا يتكلمون في التفسير أثناء وجود الصحابة، فتلاميذ ابن عباس (ت68هـ) الآفاقيون؛ كسعيد بن جبير (ت94هـ)، وأبي الشعثاء جابر بن زيد (ت93هـ)، كانوا يفسرون القرآن في بلدانهم، وكذا كانوا بعد وفاة شيخهم ابن عباس (ت68هـ)، إذ لا زال صغار الصحابة متوافرون؛ كعبد الله بن عمر (ت73هـ)، وأنس بن مالك (ت93هـ)، وقد ظهر هؤلاء التابعون واشتهروا بالتفسير، بل فاقت شهرتهم من كان في عهدهم من الصحابة.

قال المؤلف: (واعلم أن السلف الصالح انقسموا إلى فرقتين: فمنهم من فسر القرآن وتكلم في معانيه وهم الأكثرون، ومنهم من توقف عن الكلام فيه احتياطاً، لما ورد من التشديد في ذلك). أما المفسرون للقرآن من الصحابة والتابعين فكثير، وهم أكثر ممن نُقل عنهم التحرُّج في التفسير، وفي طبقة الصحابة لا يكاد يوجد من توقَّف عن القول في كتاب الله بالكلية، فالتحرج التام لم يكن مشهوراً في جيل الصحابة بل ظهر في جيل التابعين، خصوصاً أهل المدينة وأهل الكوفة. وبعض التابعين الذين نُقل عنهم التحرُّج من القول في التفسير، أو التشديد فيه، نجد أن لهم فيه أقوالاً، مما يعني أنهم أرادوا القول بالرأي المذموم الذي يكون عن غير علم، أما إذا كان المفسر آثراً لقول، وعارفاً به، فإنه يخرج من دائرة التحرُّج، وتراه يفسر القرآن، ومثال ذلك سعيد بن المسيب (ت94هـ)، فإنه رُوي عنه التشدُّد في التفسير، ومن ذلك ما رواه الطبري (ت310هـ) في مقدمة تفسيره عن تلاميذه، فقد روى بسنده عن يحيى بن سعيد، قال: «سمعت رجلاً يسأل سعيد بن المسيب عن آيةٍ من القرآن، فقال: لا أقول في القرآن شيئاً» (¬1). وفي رواية أخرى عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: «أنه كان إذا سُئل عن تفسير آية من القرآن، قال: أنا لا أقول في القرآن شيئاً» (¬2). وروى بسنده ـ أيضاً ـ عن حماد بن زيد، قال: «حدثنا عُبيد الله بن عمر، قال: لقد أدركت فقهاء المدينة، وإنهم ليُغلظون القول في التفسير، منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيَّب، ونافع» (¬3). ¬

(¬1) تفسير الطبري، تحقيق التركي 1/ 79. (¬2) تفسير الطبري، تحقيق التركي 1/ 79. (¬3) تفسير الطبري، تحقيق التركي 1/ 79.

وقد بيَّن تلميذه (يحيى بن سعيد) الراوي عنه في الرواية الأولى هذا التحرُّز، فقد أورد الطبري بسنده عنه، عن ابن المسيَّب: «أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن» (¬1)، فدلَّ هذا على أنه كان يفسر القرآن، لكنه لا يفسر إلا ما علِمه فقط. تنبيه: لم يرد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه نهى عن تفسير القرآن، بل الوارد عنه الدعاء لابن عمه (ابن عباس) بالتفقيه في الدين، وتعليم التأويل. قال المؤلف: (فقد قالت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفسر من القرآن إلا آيات تُعد علَّمه إياهنَّ جبريل، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من قال في القرآن برأيه وأصاب فقد أخطأ». وتأول المفسرون حديث عائشة رضي الله عنه بأنها في مغيبات القرآن التي لا تعلم إلا بتوقيف من الله تعالى، وتأولوا الحديث الآخر بأنه فيمن تكلم في القرآن بغير علم ولا أدوات، لا فيمن تكلم فيما تقتضيه أدوات العلوم ونظر في أقوال العلماء المتقدمين، فإن هذا لم يقل في القرآن برأيه). أما الأحاديث التي ذكرها المؤلف في سبب التوقف فهي أحاديث ضعيفة جداً، وليس فيها ما يحتج به من جهة الإسناد، فالحديث الأول: لا يحتج به مطلقاً. قال الطبري ـ بعد تخريجه لمعنى هذا الأثر (¬2) الوارد عن عائشة ـ: ¬

(¬1) تفسير الطبري، تحقيق التركي 1/ 79 - 80. (¬2) أما الخبر الذي روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنه لم يكن يفسِّر من القرآن شيئاً إلا آياً بعَددٍ، فإن ذلك مصحِّح ما قلنا من القول في الباب الماضي قَبْل، وهو: أنّ من تأويل القرآن ما لا يُدرك علمُه إلا ببيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وذلك تفصيل جُمَلِ ما في آيه من أمر الله ونَهْيه وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وسائر معاني شرائع دينه، الذي هو مجمَلٌ في ظاهر التنزيل، وبالعباد إلى تفسيره الحاجة ـ لا يدرَك علمُ تأويله إلا ببيان من عند الله على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وما أشبه ذلك مما تحويه آيُ القرآن، من سائر =

«هذا مع ما في الخبر الذي رُوي عن عائشة من العلَّة التي في إسناده، التي لا يجوز معها الاحتجاجُ به لأحدٍ ممن علم صحيحَ سَند الآثار وفاسدَها في الدين. لأنّ راويه ممن لا يُعْرف في أهل الآثار، وهو: جعفر بن محمد الزبيري» (¬1). والحديث الثاني: «من قال في القرآن برأيه وأصاب فقد أخطأ» (¬2)، قال فيه الترمذي: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي سُهَيْلِ بْنِ أَبِي حَزْمٍ». ¬

= حُكْمه الذي جعلَ الله بيانه لخلقه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلا يعلم أحدٌ من خلق الله تأويل ذلك إلا ببيان الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، ولا يعلمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا بتعليم الله إيَّاه ذلك بوحْيه إليه، إما مع جبريل، أو مع من شاء من رُسله إليه. فذلك هو الآيُ التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفسِّرها لأصحابه بتعليم جبريل إياه، وهنَّ لا شك آيٌ ذوات عَددٍ. ومن آي القرآن ما قد ذكرنا أن الله جل ثناؤه استأثرَ بعلم تأويله، فلم يُطلعْ على علمه مَلَكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولكنهم يؤمنون بأنه من عنده، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله. فأما ما لا بُدَّ للعباد من علم تأويله، فقد بيّن لهم نبيهم صلّى الله عليه وسلّم ببيان الله ذلك له بوحيه مع جبريل. وذلك هو المعنى الذي أمره الله ببيانه لهم فقال له جل ذكره: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. ولو كان تأويل الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ أنه كان لا يفسر من القرآن شيئاً إلا آياً بعَددٍ ـ هو ما يسبقُ إليه أوهامُ أهل الغباء، من أنه لم يكن يفسّر من القرآن إلا القليل من آيه واليسير من حروفه، كان إنما أُنزلَ إليه صلّى الله عليه وسلّم الذكرُ ليَترك للناس بيانَ ما أنزل إليهم، لا ليبين لهم ما أُنزل إليهم. وفي أمر الله جلّ ثناؤه نبيَّه صلّى الله عليه وسلّم ببلاغ ما أنزل إليه، وإعلامه إياه أنه إنما نزل إليه ما أنزل ليبين للناس ما نزل إليهم، وقيامِ الحجة على أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد بلّغ وأدّى ما أمره الله ببلاغه وأدائِه على ما أمره به، وصحةِ الخبر عن عبد الله بن مسعود بقيله: كان الرجل منا إذا تعلم عشرَ آيات لم يجاوزهُن حتى يعلم معانيهنّ والعملَ بهنّ ـ ما ينبئ عن جهل من ظنَّ أو توهَّم ـ أنّ معنى الخبر الذي ذكرنا عن عائشة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنه لم يكن يفسر من القرآن شيئا إلا آياً بعَددٍ، هو أنه لم يكن يبين لأمته من تأويله إلا اليسير القليل منه». (¬1) تفسير الطبري، تحقيق التركي 1/ 83. (¬2) أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن من حديث جندب بن عبد الله، برقم (2952).

وهذا الأثر له معنى صحيح، وهو أن يقول في القرآن بلا علم فيصيب المعنى الصحيح لكنه أخطأ طريق الوصول إليه، فهو يأثم من هذه الجهة؛ لأنه سيقول قولاً على الله بغير علم، ولهذا قال: (وتأول الحديث الآخر بأنه في من تكلم في القرآن بغير علم ولا أدوات، لكن من تكلم فيما تقتضيه أدوات العلم ...)، ومثل هذا تخريج الطبري (ت310هـ) لمعنى هذا الأثر، فقد قال: «يعني صلّى الله عليه وسلّم أنه أخطأ في فعله، بقيله فيه برأيه، وإن وافق قِيلُه ذلك عينَ الصَّواب عند الله؛ لأن قِيله فيه برأيه، ليس بِقِيلِ عالمٍ أنَّ الذي قال فيه من قول حقٌّ وصوابٌ، فهو قائل على الله ما لا يعلم، آثم بفعله ما قد نهى عنه وحُظِر عليه» (¬1). وابن جزي ـ رحمه الله تعالى ـ كأنه يشير إلى أن الرأي نوعان: رأي مذموم وهو غير مقبول، ورأي محمود وهو مقبول. والرأي المذموم سببه أحد أمرين: 1 - الجهل الذي أشار له الحديث، فإن كان جاهلاً وفسر القرآن، فإنه يأثم حتى لو أصاب؛ لأنه من القول على الله بغير علم، وهو محرم كما في قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} إلى أن قال في آخر الآية: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] ويشمل هذا القول عليه في الأحكام وتفسير كلامه، فالتفسير بجهل يدخل في القول على الله بلا علم. فإن قال قائل: عندما أقرأ القرآن قد تظهر لي معانٍ، فهل يدخل هذا في القول على الله بغير علم؟ نقول: ما دام مجرد تفكير لا يأثم فيه، لكن يلزمه ألا ينشر هذا الفهم حتى يرجع إلى أهل العلم، أما إذا تصدى لنشر هذا الفهم دون أن يكون عالماً، فإنه يأثم. ¬

(¬1) تفسير الطبري، تحقيق التركي 1/ 74.

ومن أمثلة وقوع الفهم وسؤال أهل العلم فيه: ما وقع من الصحابة رضي الله عنهم لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، فإنهم فهِمُوا أن المراد عموم الظلم، وقالوا: «وأينا لم يظلم نفسه» (¬1)، ولم يسكتوا على فهمهم هذا أو ينشروه، بل راجعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، واستفهموا منه. وهذا المسلك ليس فيه تحجير على العقول كما قد يظنُّ بعض الناس، بل نقول: إن لكل علمٍ أصولاً، ومن لا يعلم أصول العلم فإنه لا يُقبل منه، وإذا كان لا يعرف الأصول، وكان قد فهم فهماً، فإنه لا ينشره حتى يسأل أهل العلم. 2 - الهوى، ولا يقع ـ عادة ـ إلا من عالم: إما لأجل نصرة مذهبٍ، وإما لنصرة شيخ. والعالم قد يكون عنده نقص في العلم في جهة معينة، فيقع منه الخطأ، وهذا ليس عيباً في العالم، إذ لا يلزم أن يحيط العالم بكل العلم حتى لا يُظنَّ منه الخطأ. فائدة: بعض الناس قد يقول بقولٍ ولا يستطيع التراجع عنه، فتجده يدافع عنه دفاعاً مستميتاً مع علمه اليقيني أن قوله خطأ، لكونه لم يؤدب نفسه على أنه إذا أخطأ قال: أخطأت، كما فعل مالك (ت179هـ) رحمه الله لما ردَّ على السائل وقال: «لا أدري»، فالهوى يدخل في القول على الله بغير علم؛ لأنه مخالف للحق. ¬

(¬1) أخرحه البخاري في كتاب استتابة المرتدين من حديث عبد الله بن مسعود، ورقم الحديث (6937).

أما الرأي المحمود فهذا يكون عن علم، ولهذا قال المؤلف: (لا فيمن تكلم بما تقتضيه أدوات العلوم ونظر في أقوال العلماء المتقدمين فإن هذا لم يقل في القرآن برأيه)، فلا بد من العلم، ولا بد من معرفة الأدوات التي يستطيع أن يصل بها إلى فهم القرآن، فإذا كان عنده هذه الأدوات وأخطأ صار من المجتهدين الذين أخطؤوا، لكن قد يدخل عليه الهوى فيجعله من أهل القول على الله بغير علم. قوله: (واعلم أن المفسرين على طبقات: فالطبقة الأولى: الصحابة رضي الله عنهم، وأكثرهم كلاماً في التفسير ابن عباس، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يثني على تفسير ابن عباس ويقول: كأنما ينظر إلى الغيب من سترٍ رقيق. وقال ابن عباس: ما عندي من تفسير القرآن فهو عن علي بن أبي طالب). ذكر في الطبقة الأولى الصحابة، وذكر أشهرهم على الإطلاق، وهو ابن عم الرسول صلّى الله عليه وسلّم ابن عباس رضي الله عنه، وذكر ثناءَ ابنِ عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والثناء عليه لم يكن من ابن عمه فقط، بل كان جملة من الصحابة يظهرون الثناء على تفسير ابن عباس رضي الله عنه. وقد أوتي ابن عباس في هذا العلم ما لم يُؤت غيره من الصحابة، وذلك أثر من آثار بركة دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «اللهم فقِّهه في الدين، وعَلِّمه الكتاب»، وفي رواية: «وعَلِّمه التأويل» (¬1). أما قول ابن عباس: «ما عندي من تفسير القرآن فهو عن علي بن أبي طالب»، فهذا ـ إن صح ـ من كمال تواضع ابن عباس؛ لأنه ¬

(¬1) سبق تخريجه ص144.

ينسب العلم إلى شيخه علي رضي الله عنه، ومما يلحظ أن علياً رضي الله عنه توفي سنة أربعين، وابن عباس رضي الله عنه توفي سنة ثماني وستين؛ أي: بقي ابن عباس رضي الله عنه ثماني وعشرين سنة بعد عليٍّ رضي الله عنه، ولا شك أنه حصَّل في هذه السنين كثيراً من العلوم، لكن لا يمنع أن يكون استفاد من علي رضي الله عنه استفادة كبيرة لا سيما أن ابن عباس رضي الله عنه كان حريصاً على أخذ العلم عن كبار الصحابة، وعلي رضي الله عنه كان أطول الخلفاء الأربعة عُمُراً، وأكثرُهم تفرغاً، فتلقى ابن عباس منه شيئاً كثيراً، ولا شك أن علياً رضي الله عنه كان يقدم ابن عباس ويحبه؛ لذا ولاَّه على البصرة لما آلت الخلافة إليه. أما عِلْمُ علي رضي الله عنه بالقرآن فهذا لا خلاف فيه، وقد وقف على المنبر ـ لما كان في الكوفة ـ وقال: «لا يسألني أحد عن آية من كتاب الله إلا أخبرته»، فقام ابن الكواء ـ وهو من الخوارج ـ وسأله عن الذاريات {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات: 1]، وغيرها. وفي رواية عن أبي الطفيل قال علي رضي الله عنه: «لا تسألني عن كتابٍ ناطقٍ ولا عن سنةٍ ماضية إلا حدثتكم، فسأله ابن الكواء عن الذاريات فقال: هي الرياح». والرواية الأخرى عن أبي الطفيل قال: شهدت علي يخطب وهو يقول: «سلوني، ووالله لا تسألوني عن شيءٍ إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية وإلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهلٍ أم في جبل» (¬1). فعِلمُ علي رضي الله عنه لا يُخْتَلف فيه، فهو عالم بالقرآن، لكن الرواية عنه أقلُّ من الرواية عن ابن عباس، فأكثر المروي عن ابن عباس، ثم عن ابن مسعود، ثم عن علي بن أبي طالب. ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في مستدركه في كتاب التفسير، ورقم الحديث (3788).

قوله: (ويتلوهما عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكل ما جاء من التفسير عن الصحابة فهو حسن). إن كان المراد بالفقه في التفسير، فتمييز ذلك صعب، وإن كان من باب عدد المروي، فقد سبق أن المروي عن ابن مسعود أكثر من المروي عن علي. أما زيد بن ثابت (ت45هـ) فالروايه عنه في التفسير قليلة جدّاً، وقد اختص بعلمي «القراءة والفرائض»، وقد يكون الصحابي عالماً في جانب من العلوم الشرعية ويجعله بعض المتأخرين عالماً في علوم أخرى لم تشتهر الرواية عنه فيها، ونحن لا نثبت ولا ننفي، لكنا لا نجد روايات كثيرة لزيد بن ثابت، ولا لعبد الله بن عمر (ت73هـ)، ولا لعبد الله بن عمرو، فالمنقولات في التفسير عن هؤلاء الثلاثة قليلة جداً. ولا خلاف في كون هؤلاء الثلاثة من علماء الصحابة، لكن لم يشتهر عنهم أنهم تصدوا للتفسير، وهذا لا ينفي عنهم العلم وإنما ينفي عنهم مسألة التصدي للتفسير. قوله: (وكل ما جاء من التفسير عن الصحابة، فهو حسن). وذلك لاحتمال أن يكون الصحابي سمع التفسير من النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإن لم يكن سمع التفسير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد شاهد التنزيل وأحواله، وعرف النبي صلّى الله عليه وسلّم وسنته وأحواله، وعرف أحوال من نزل فيهم الخطاب، وهو صاحب اللغة التي نزل بها القرآن، وهذه المقومات تجعل فهمه وإدراكه للمقاصد والمعاني أكثر من فهم غيره. وهذه مسألة عقلية لا يصحُّ الجدل فيها، إذ لو تصورنا ـ مثلاً ـ أن كتاب «الشعر» لأرسطو قد شرحه أحد تلاميذه، وبيَّن مقاصد شيخه في هذا الكتاب، ثم جاء متأخر من المعاصرين وقال: أخطأ تلميذ أرسطو

في فهم كلام أرسطو، فالذي يُقبل ـ عقلاً ـ قول التلميذ؛ لأنه أوثق بشيخه وأعرف بمقاصده وأعرف بأساليبه، كذلك القرآن لما كان نازلاً بلغة الصحابة وعندهم من مشاهدات الأحوال ما ليس عند غيرهم فقولهم لا شك أنه أصوب مِنْ قولِ مَنْ جاء بعدهم. قوله: (والطبقة الثانية: التابعون، وأحسنهم كلاماً في التفسير الحسن بن أبي الحسن البصري، وسعيد بن جبير، ومجاهد مولى ابن عباس، وعلقمة صاحب عبد الله بن مسعود، ويتلوهم عكرمة، وقتادة، والسدي، والضحاك بن مزاحم، وأبو صالح، وأبو العالية). لما ذكر الطبقة الأولى «الصحابة» أتبعها بالطبقة الثانية «التابعين»، والمشهور أن المقدم في التفسير مجاهد (ت104هـ)، بيد أن المؤلف قدَّم الحسن بن الحسن البصري (ت110هـ)، لذا قال عنه سفيان الثوري (ت161هـ): «إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به» (¬1)، ثم سعيد بن جبير (ت95هـ)، وإن كان قد انشغل ببعض القضايا التي نتج عنها قتله، فلم يُسْتَفَدْ منه كثيراً بخلاف مجاهد الذي كان متفرغاً للتعليم أكثر منهم، أما علقمة (ت62هـ) صاحب ابن مسعود (ت32هـ) فالتفسير المروي عنه قليل، وبعض تفسيره مأخوذ من تفسير شيخه، ويظهر أن سبب ذلك راجع إلى أسلوب التعليم أو التلقي عند أصحاب ابن مسعود، فكان رضي الله عنه يشدد على أصحابه فيقول لهم: «اتبعوا ولا تبتدعوا»، ولهذا قلَّ المفسرون من أصحاب ابن مسعود، وغلب عليهم نقل تفسيره، بخلاف أصحاب ابن عباس، فإنهم كثيرون، كما أنهم يقولون بأقوال تخالف قول شيخهم، وهي من باب اختلاف التنوع، لكنها لا تناقض قوله. قوله: (يتلوهم عكرمة، وقتادة، والسدي، والضحاك بن مزاحم، وأبو صالح، وأبو العالية). ¬

(¬1) تفسير الطبري، المقدمة 1/ 85.

هؤلاء من التابعين، ويقع السؤال السابق في مراده بهذا الترتيب، هل هو من جهة جودة التفسير أم من جهة أخرى، والأقرب أنه يريد جودة التفسير، والمفاضلة في جودة التفسير صعبة، ولا حاجة لنا بها. قوله: (ثم حمل تفسير القرآن عدول كل خلف، وألف الناس فيه كالمفضل، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، والبخاري، وعلي بن أبي طلحة، وغيرهم). يلاحظ في كلام المؤلف أمور: الأول: أن المؤلف رحمه الله لم يرتب العلماء حسب وَفَياتهم، بل قدَّم وأخَّر. الثاني: أنه أدخل أتباع التابعين ومن جاء بعدهم، ولم يذكر المشهورين منهم كابن جريج (ت150هـ)، ومقاتل بن حيان (ت150هـ)، ومقاتل بن سليمان (ت150هـ)، وابن زيد (ت182هـ)، والتفسير الوارد عن هؤلاء كثيرٌ جداً. وقد ذكر المفضل، ولم ينسبه، ولعله يقصد المفضل بن سلمة (ت290هـ) وله كتاب «ضياء القلوب في معاني القرآن»، وعبد الرزاق الصنعاني (ت211هـ) وتفسيره مطبوع، وعبد بن حميد (ت249هـ) وطبعت قطعة صغيرة من تفسيره، والبخاري (ت256هـ)، وعلي بن أبي طلحة (ت143هـ). ومما يلحظ على عبد الرزاق وعبد بن حميد وعلي بن أبي طلحة أنهم رووا التفسير فهم نقلة له، وهذه هي الصفة الغالبة على الجيل الذي جاء بعد أتباع التابعين، حتى ظهر المفسر الناقد في الطبقة التي تليهم. وأما البخاري، فإن تفسيره مفقود، وتجد في صحيحه أنه كان صاحب اختيار وانتقاء في التفسير؛ لأن تراجم أبوابه تدلُّ على ذلك. ويمكن أن نختصر القول في هذه الطبقات من حيث الرواية والدراية إلى الآتي:

1 - جيل الصحابة كان جيل رواية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أو عن بعضهم البعض، وإن كان ظهور الدراية فيهم أكثر. 2 - جيل التابعين كان جيل رواية ودراية، وكانت الدراية فيه كثيرة. 3 - جيل أتباع التابعين كان جيل دراية، وإن كانت الرواية فيه كثيرة جدّاً. 4 - ما بعد جيل أتباع التابعين كان جيل رواية، ولم يظهر فيه مفسر صاحب اختيار، حتى ظهر ابن جرير الطبري (ت310هـ)، وكان بداية عهد جديد للتفسير، وبه برز المفسر الناقد والمرجح بين الأقوال. قوله: (ثم إن محمد بن جرير الطبري جمع أقوال المفسرين، وأحسن النظر فيها). كان منهج الطبري (ت310هـ) يقوم على جمع الروايات، ثم الترجيح بينها إن كان المقام يحتاج إلى ترجيح، وكتابه أفضل كتب التفسير في المادة التطبيقية على فهم المعنى، والترجيح بين الأقاويل المختلفة في التفسير؛ لأن جُلَّ الكتاب مبني على التفسير، ولا يكثر من المسائل العلمية التي تكون ملتصقة بالآية والمشكلات وغيرها. قوله: (وممن صنف في التفسير أشياء أبو بكر النقاش والثعلبي والماوردي، إلا أن كلامهم يحتاج إلى تنقيح، وقد استدرك الناس على بعضهم). محمد بن الحسن أبو بكر النقاش (ت351هـ) كان عالماً بالقراءات والتفسير، وكان أول أمره يتعاطَى نقش السقوف والحيطان فسُمي النقاش، أما كتابه فاسمه: «شفاء الصدور في تفسير القرآن»، وهو مختصر من كتابه «مختصر التفسير» (¬1)، قال النقاش في تفسير قوله تعالى: ¬

(¬1) قال النقاش في مقدمة تفسيره: «فصرفت عنايتي، وشغلت همتي لتفسير مختصر، فيه بغية العالِم، وفائدة المتعلِّم، وحذفتُ منه الطُّرق والأسانيد؛ لأنا أودعنا ذلك =

{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} ... : «واختلف أهل التفسير في سبب نزول هذه الآية، وفيمن نزلت؛ ذكرنا في هذا المختصر جملاً من ذلك، أودعنا الطرق واختلاف الروايات كتابنا الموسوم بمختصر التفسير؛ لأنا وسمنا هذا بكتاب شفاء الصدور، واختصرناه من ذلك» (¬1). وألّف كتاباً آخر وهو: «الإشارة في غريب القرآن» وكتاب «الموضح في معاني القرآن»، وله كتاب في القراءات أيضاً. وهذا الكتاب فيه فوائد، ومن لطائف هذا الكتاب مقدمته، ومن عجيب ما ذكره فيه فصل سمَّاه: «شواذ التفسير»، وذكر بعض التفاسير ¬

= واختصرناه في كتابنا الموسوم بـ «مختصر التفسير» ... وقد اشتمل كتابنا هذا على علوم كثيرة، فمن أراد الاستقصاء في نوع من هذه الأنواع، فلينظر فيما ذكرنا فإنه يصادف بغيته، مع أن كتابنا المختصر قد اشتمل على كثير من الأخبار المسندات والمراسيل، والتفاسير بالروايات، والقراءات الشاذة والمشهورة، والآيات الناسخات والمنسوخات، والمجملات والمفسرات، والمتشابهات والأقسام والجوابات، وما تعلق من التفسير بالإعراب، واللغات، والتصريح والكنايات، والخاص والعام، والمقدم والمؤخَّر، والمكي والمدني، والموصول الذي لا يجوز قطعه، فمن قطعه تحرف من معناه فذاك غير جهته، والمفصل الذي أوله غير متعلق بمعنى ما بعده وما بعده يتعلق بأوله، ومواضع الاختصار التي لا تظهر، والإشارة والإضافة، وكلام يدخل بين كلامين ليس منه، وسؤال عن حجة قرر الله العباد فلم يردوا جواباً، والحروف التي افتتح الله بها السور وما لا يعلم إلا الله برواية وأثر، والوعد والوعيد، والمدح الذي لا يصير ذماً، والذم الذي لا يصير مَدحاً، ومواضع بيان الحيرة عن الجواب، والنظائر والوجوه والأمر والنهي، والحلال والحرام، وما يطول تعداده عن علم الظاهر والباطن حتى خفت أن يخرج هذا الكتاب عن حد الاختصار، ويبلغ ذلك ثمانية آلاف ورقة، فأحببت اختصار هذا المختصر؛ ليسهل ذلك على من أراد حفظه، أو أراد الوقوف على كل آية، وما فيها من حرف حرف، ومعانيها، فيطلع على غوامض الأمور المشكلة، والأنباء المجهولة، ويجعل ما كان منها بعيداً قريباً، وما كان منها عسيراً يسيراً، وما كان منها لطيفاً جليلاً، وأسأل الله التوفيق والتأييد والتسديد، وما كان من هذا المختصر من صواب فمن الله عزّ وجل، وما كان من خطأ أو زلل فمني، أستغفر الله تعالى منه». (¬1) رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى «أبو بكر النقاش ومنهجه في تفسير القرآن الكريم» للدكتور علي بن إبراهيم الناجم.

التي يرى أنها ضعيفة جداً مثل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ} [الجن: 18] المساجد المراد بها أعضاء السجود، وهو قول مروي عن عكرمة (ت104)، وقد ذكر أمثلة غيره. ثم ذكر بعده أبو إسحاق الثعلبي أحمد بن محمد بن إبراهيم (ت427هـ)، وله مقدمة في تفسيره مفيدة جداً، وذكر فيها طرق التفسير التي رواها عن أشياخه، واستفاد من بعض كتب التفاسير المعاصرة له وكتب كتابه، ومن لطائف مقدمته أنه صنف الذين كتبوا في التفسير؛ نذكرها من باب الفائدة، يقول: «فألفيت المصنفين في هذا الباب فرقاً على طرق، فرقة منهم أهل البدع والأهواء ـ ثم قال ـ وفرقة ألَّفوا وقد أحسنوا غير أنهم خلطوا أباطيل المبتدعة بأقوال السلف الصالحين، وفرقة اقتصروا على الرواية والنقل دون الدراية والنقد، وقسم خرم الإسناد الذي هو الركن والعماد، وقسم حازوا قصب السبق لكنهم طولوا الكتب بالمُعادات وكثرة الطرق والروايات، وقسمٌ جنوا التفسير دون الأحكام وبيان الحلال والحرام والمشكلات» (¬1). لما ذكر هؤلاء ذكر أنه يريد الاستفادة من جميع هذه المناهج، وأنه سيذكر في كتابه أربعة وعشرين فناً. أما الماوردي علي بن محمد بن حبيب (ت450هـ) فقد جمع بين أقاويل السلف والخلف، وحذف الإسناد وأشار فقط إلى صاحب القول، وأدخل فيها أقاويل المعتزلة في كتابه، ولم ينتقد في كتابه إلا قليلاً؛ ولهذا طُعِنَ عليه بسبب نقله لأقوال المعتزلة وعدم استدراكه عليهم حتى قيل إنه من المعتزلة، وهذا القول فيه نظر؛ لأنه لم يكن يتبنى مذهبهم تبنياً صريحاً، ولأنه وضع الكتاب مختصراً بأسلوب ذكرِ القولِ، ومن قال به، دون الاعتراض على التفسيرات التي ذكرها، فهذا لم يكن من منهجه. ¬

(¬1) تفسير الكشف والبيان للثعلبي 1/ 74.

وقد أضاف إلى نقولاته ما ظهر له من المحتملات في التفسير، فإذا قال: «يحتمل» فهذا من قوله، ولهذا قال عنه: «وذاكراً ما سنح به الخاطر من معنى يحتمل، عبرت عنه بأنه محتمل» (¬1). وقوله: (إلا أن كلامهم يحتاج إلى تنقيح) يريد كتاب النقاش والثعلبي والماوردي، لما في تفاسيرهم من الملاحظات التي تحتاج إلى استدراكات، خصوصاً ما أدخله الماوردي من أقوال المعتزلة. قوله: (وقد استدرك الناس بعضهم على بعض) يدل على أن الاعتراض بين المفسرين، والاستدراك على المتقدمين له تاريخ طويل، وهو موضوع بحاجة إلى بحث يُنظر فيه إلى أنواع الاستدراكات، وأسبابها، وأقسامها، إذ قد يكون الاستدراك على المنهج العام للمفسرين، كما وقع من استدراك الثعلبي على كتب التفسير قبله (¬2)، وقد يكون على تفسير مفسر لآية، وقد يكون غير ذلك. وتجلية تاريخ الاستدراك مفيد في معرفة أصول التفسير عند هؤلاء المفسرين. وقوله: (وصنف أبو محمد بن قتيبة في غريب القرآن ومشكله وكثيرٌ من علومه). صنّف ابن قتيبة كتابين في علوم القرآن، وهما من العلوم المشتركة مع علوم العربية: تفسير غريب القرآن، وتأويل مشكل القرآن، وهما كتابان متممان لبعضهما كما أشار إلى ذلك ابن قتيبة (¬3). أما أن يكون لابن قتيبة كتب أخرى في علوم القرآن فإن هذا فيه ¬

(¬1) النكت والعيون 1/ 21. (¬2) ينظر: مقدمة الثعلبي لتفسيره، هذا ومن الاستدراكات التي كانت على تفسير الثعلبي؛ كتاب (مباحث التفسير) لأحمد بن محمد بن المظفر الرازي (ت:631)، وقد طُبع في دار كنوز أشبيليا بتحقيق الأخ الفاضل حاتم بن عابد القرشي. (¬3) تفسير غريب القرآن، المقدمة، 3.

نظر؛ لأنه لا يُعرف لابن قتيبة (ت276هـ) مشاركة في التفسير أو في علوم القرآن إلا في هذين الكتابين، وهناك كتاب فيه بعض الأسئلة التي وردت له عن التفسير. قوله: (وصنف في معاني القرآن جماعة من النحويين كأبي إسحاق الزجاج، وأبي علي الفارسي، وأبي جعفر النحاس). ما ذكره المؤلف من مؤلفات النحويين إنما هو مثال، ولم يكن من شرط المؤلف استقراء المؤلفات، وهؤلاء النحويون الذين ذكرهم قد سُبقوا إلى الكتابة في معاني القرآن، فقد كتب قبلهم جماعة؛ كقطرب (ت206هـ)، والفراء (ت207هـ)، والأخفش (ت215هـ)، وغيرهم. وأبو إسحاق الزجاج (ت311هـ) كتابه معروف وهو «معاني القرآن وإعرابه» مطبوع في خمسة مجلدات ويحتاج إلى إعادة تحقيق؛ لأن التحقيق الموجود فيه أخطاء. أما أبو علي الفارسي (ت377هـ) فله في معاني القرآن كتاب «الإغفال» لما أغفله الزجاج في معانيه، فشيخه الزجاج كتب معاني القرآن وإعرابه وأبو علي الفارسي تعقبه وأغلب التعقبات نحوية. أما أبو جعفر النحاس (ت338هـ) فله كتب في علوم القرآن وهي كتاب «معاني القرآن»، وكتاب «إعراب القرآن»، وكتاب «الناسخ والمنسوخ»، وكتاب «القطع والائتناف»، وكتبه نفيسة جداً، ومما يلحظُ أنه استفاد في جميع كتبه من تفسير الطبري في ترجيحاته ومروياته. قوله: (وأما أهل المغرب والأندلس فصنف القاضي منذر بن سعيد البلوطي كتاباً في غريب القرآن وتفسيره). بعد أن ذكر أهل المشرق ذكر أهل المغرب والأندلس، وابتدأ بذكر القاضي منذر بن سعيد البلوطي (ت355هـ)، وذكر له كتاب «غريب القرآن وتفسيره» وقد اجتهدت في البحث عن هذا الكتاب في الطبقات والتراجم

فلم أجد له ذِكْراً، وقد ذكروا له كتاباً في «الناسخ والمنسوخ»، وكتاباً آخر في أحكام القرآن يسمى «الإنباه على استنباط الأحكام من كتاب الله»، واستقرأت من خلال الحاسوب بعض المنقول عن منذر بن سعيد عند ابن عطية (ت542هـ) ومن جاء بعده، وكانت النقول المنسوبة إليه قليلة. ومما ذكره عنه ابن عطية واستدركه عليه؛ قوله في الجنة هل هي مخلوقة أو لا؟ ونسبه إلى المعتزلة. وقد أكَّد أبو حيان الأندلسي (ت745هـ) هذه النسبة، فهو ظاهري في الفروع، ومعتزلي في العقائد كما تذكر كتب الطبقات. قوله: (ثم صنف المقرئ أبو محمد مكي بن أبي طالب كتاب «الهداية في تفسير القرآن»، وكتاباً في غريب القرآن، وكتاباً في ناسخ القرآن ومنسوخه، وكتاباً في إعراب القرآن إلى غير ذلك من تآليفه، فإنها نحو ثمانين تأليفاً أكثرها في علوم القرآن، والقراءات، والتفسير، وغير ذلك). أبو محمد مكي بن أبي طالب (ت437هـ) المشهور بالتصنيف في علوم القرآن، أغلب علمه وكتبه في علوم القرآن والكتب التي ذكرها كتاب «الهداية في تفسير القرآن» محقق في رسائل جامعية، وقد طُبِع مؤخَّراً، وكتاب «غريب القرآن» مطبوع، وكتاب «الناسخ والمنسوخ» مطبوع، وكتاب «إعراب القرآن» مطبوع، وله كتاب «المشكل في غريب القرآن» والبعض يسميه تفسير غريب القرآن، وكتابه الذي يعنينا هو التفسير واسمه: «الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه وجمل من فنون علومه»، وقد نبهت ـ سابقاً ـ أن بعض المؤلفين لهم طريقة في تصنيف علوم القرآن، وهي إدخال علوم القرآن في كتب التفسير، وهذا الكتاب منها.

قوله: (وأما أبو عمرو الداني فتآليفه تنيف على مائة وعشرين إلا أن أكثرها في القراءات ولم يؤلف في التفسير إلا قليلاً). ألّف أبو عمرو الداني (ت444هـ) أغلب كتبه في علم القراءات، وهو إمام في القراءات والرسم والضبط، أما التفسير فلا أذكر أن له تفسيراً، لكن كتبه لا تخلو من التعرض للتفسير وبيان معانيه. قوله: (وأما أبو العباس المهدي فمتقن التآليف، حسن الترتيب، جامع لفنون علوم القرآن). أبو العباس المهدي أو المهدوي (ت440هـ) ممن اختص بعلم القرآن، وله كتابه هذا «التحصيل»، وهذا الكتاب كما قال: «جامع لفنون علوم القرآن»، وقد رتبه على خمسة علوم: على التفسير والإعراب والأحكام والنسخ، والتفسير والقراءات والإعراب (¬1)، وطريقته صعبة كما قال ابن عطية (¬2)؛ لأنه يذكر مقطعاً من الآيات، ثم يفسرها، ثم يعربها، ثم ينتقل إلى الأحكام والناسخ والمنسوخ، ثم ينتقل إلى القراءات وتوجيهها ويذكرها، ثم إذا انتهى منها تكلم عما فيها من فرش الحروف مما يتعلق بالقراءات، أو ما يتعلق ببعض القضايا المتعلقة بالرسم، وهذه الطريقة صعَّبت الاستفادة من الكتاب، وهي من طرائق التأليف التي دمجت بين علوم القرآن والتفسير. قوله: (ثم جاء القاضيان أبو بكر بن العربي، وأبو محمد عبد الحق بن عطية، فأبدع كل واحدٍ وأجمل، واحتفل وأكمل، فأما ابن العربي فصنف كتاب «أنوار الفجر» في غاية الاحتفال، والجمع لعلوم ¬

(¬1) يُنظر تحقيق سورتي الفاتحة والبقرة للباحث علي بن محمد وسعيد هرموش. (¬2) قال: «ورأيت أن تصنيف التفسير كما صنع المهدوي رحمه الله مُفرِّقٌ للنظر، مشعِّبٌ للفكر» (ط قطر 1:11) هذا في وصف ترتيب كتابه، وقد قدمه في موطن آخر (1:32) فقال: «وأبو العباس المهدوي متقن التأليف».

القرآن، فلما تلف تلافاه بكتاب «قانون التأويل» إلا أنه اخترمته المنية قبل تخليصه وتلخيصه، وألف في سائر علوم القرآن تآليف مفيدة). كتاب ابن العربي (ت543هـ) «أنوار الفجر» يذكر المؤلف أنه تلف، ويبدو أنه اعتمد على قول ابن العربي رحمه الله: «وقد كنا أملينا في كتاب «أنوار الفجر» ثمانين ألف ورقة؛ تفرقت بين أيدي الناس، وحصل عند كل طائفة منها فنٌّ، وندبتهم أن يجمعوا منها ولو عشرين ألفاً ...». وفي بعض الروايات تذكر أنه باقٍ، فقد ورد عن يوسف المغربي الحزَّام الذي كان يحزم كتب السلطان أبي عنان المريني أنه رآه في ثمانين مجلداً لم ينقص منه شيء (¬1). وهذا يعني أنه قد نفذت نسخة فريدة لم يطلع عليها ابن العربي (ت543هـ) آنذاك، والكتاب ـ فيما يبدو ـ ليس موجوداً الآن، ولعله إن كان موجوداً أن يمنَّ الله على أحد المحققين بملاقاته. أما كتابه «قانون التأويل»، فقد كتب ابن العربي تحت هذا العنوان كتابين: الأول: «واضح السبيل إلى معرفة قانون التأويل في فوائد التنزيل»، وهذا الكتاب قد وقع اختلاف في تسميته، ويظهر أن ابن جزي قد اختصر عنوانه، وهو مقصوده بالكتاب الحافل الذي ألَّفه ابن العربي بعد كتاب أنوار الفجر، وقد استظهر الدكتور محمد السليماني أن يكون ابن العربي قد ألف هذا الكتاب في آخر عمره (¬2)، لكنه لم يتمَّه كما أشار إلى ذلك ابن جزي. ¬

(¬1) انظر المقدمة الحافلة التي قدَّمها الأستاذ الدكتور المحقق البارع محمد السليماني لكتاب «قانون التأويل»، وقد أجاد أيما إجادة في الكلام عن مؤلفات ابن العربي؛ انظر ص148، وانظر: الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب 2/ 255. (¬2) مقدمة الدكتور محمد السليماني لكتاب قانون التأويل، ص125.

الثاني: «قانون التأويل»، وهو في مجلد، وفيه حشد لمسائل متنوعة في علوم شتى، وفيها مسائل متعلقة بعلوم القرآن، وقد نص على قانون التأويل في كتابه هذا (¬1). والمقصود أن هذا الكتاب المطبوع ليس هو الذي أراده ابن جزي بقوله: «ثم تلافاه بكتاب قانون التأويل، وإنما المراد به الكتاب الأول الذي ذكرته قبله باسم: «واضح السبيل إلى معرفة قانون التأويل في فوائد التنزيل». قوله: (وأما ابن عطية، فكتابه في التفسير أحسن التآليف وأعدلها، فإنه اطلع على تآليف من كان قبله فهذبها ولخَّصها، وهو مع ذلك حسن العبارة، مسدد النظر، محافظ على السنة). تفسير ابن عطية (ت542هـ) كما سمَّاه مؤلفه: «المحرر الوجيز»، وقد قال ابن عطية ـ في مقدمة تفسيره ـ: «وقصدت فيه أن يكون جامعاً وجيزاً محرراً» (¬2). أما قوله: (محافظ على السنة)؛ إن كان في الأحكام فنعم، وإن كان يقصد أنه في الاعتقاد على مذهب السلف من الصحابة والتابعين، فلا؛ لأن المعروف عنه ـ رحمه الله تعالى ـ أنه على مذهب الأشعري (ت324هـ)، وهو مذهب كلامي حادث، وهذا ظاهر من الآيات التي تعرض لها بما يتعلق بالاعتقاد. والعجب من ابن حجر الهيتمي (ت974هـ) وابن عرفة المالكي (ت803هـ) ـ وهما أشعريان ـ أنهما اشتدَّا في النقد على ابن عطية (ت542هـ)، ونسباه إلى الاعتزال، فقد جاء في «الفتاوى الحديثية»: «سئل ابن حجر هل في تفسير ابن عطية اعتزال؟ قال: نعم فيه شيء كثير حتى ¬

(¬1) (ص646)، وانظر: دراسة الدكتور محمد السليماني لهذه الفكرة (ص248) (¬2) المحرر الوجيز 1/ 4.

قال الإمام المحقق ابن عرفة المالكي: يخشى على المبتدئ منه أكثر مما يخاف على الزمخشري، فالزمخشري لما علمت الناسُ منه أنه مبتدع تخوَّفوا منه، واشتهر أمره بين الناس أن فيه من الاعتزال المخالف للصواب، وأكثر من تبديعه وتضلليه وتقبيحه وتجهيله، وابن عطية سني، لكن لا يزال يُدخِل من كلام بعض المعتزلة ما هو من اعتزاله في التفسير، ثم يقره وينبه عليه ويُعتقد أنه من أهل السنة، وأن ما ذكره من مذهبهم الجاري على أصولهم، وليس الأمر كذلك، فكان ضرر تفسير ابن عطية أشد وأعظم على الناس من ضرر الكشاف» (¬1). ولا شك أن كلام ابن حجر الهيتمي وابن عرفة في ابن عطية فيه نظر وليس على إطلاقه، وإن كان ابن عطية قد ذكر بعض كلام المعتزلة ولم ينتقده، لكنه في الحقيقة قليل، أما الأصول التي سار عليها فهي على أصول ابن فورك (ت406هـ)، والجويني (ت478هـ)، وهو قد قرأ كتبهما كما ذكره هو في فهرست شيوخه، وإذا جاء إلى الآيات المرتبطة بالاعتقاد سواء في الصفات أو في القدر أو في القرآن أو غيرها سار على مذهب هؤلاء وهم من المتكلمين الأشاعرة. و «تفسير ابن عطية» من أنفس كتب التفسير، وفيه عناية بتوجيه أقوال المفسرين، وله في ذلك ما لم يُسبق ـ فيما أعلم ـ إليه، ومن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65]، قال: «و: {تَفَكَّهُونَ} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة معناه: تعجبون، وقال عكرمة: تلامون. وقال الحسن معناه: تندمون، وقال ابن زيد: تتفجعون، (وهذا كله تفسير لا يخص اللفظة، والذي يخص اللفظ، هو: تطرحون الفاكهة عن أنفسكم وهي المسرة والجدل) (¬2)، ورجل فكه ¬

(¬1) الفتاوى الحديثية، لابن حجر الهيتمي (بالتاء) ص242. (¬2) المحرر الوجيز: 15/ 380.

إذا كان منبسط النفس غير مكترث بالشيء، وتفكَّه من أخوات تحرَّج وتحوَّب». قوله: (ثم ختم علم القرآن بالأندلس وسائر المغرب بشيخنا الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، ولقد قطع عمره في خدمة القرآن، وآتاه الله بسطة في علمه، وقوة في فهمه، وله فيه تحقيق، ونظر دقيق). أبو جعفر بن الزبير (ت708هـ) اشتهر بما ذكره المؤلف من دقة فهمه في القرآن، وظهر من خلال كتابين له، وهما مطبوعان: الكتاب الأول «ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل»، والكتاب الثاني هو «البرهان في تناسب سور القرآن). قوله: (ومما بأيدينا من تآليف أهل المشرق تفسير أبي القاسم الزمخشري، وأبي الفضل الغزنوي، وأبي الفضل بن الخطيب. أما الزمخشري: فمسدد النظر، بارع في الإعراب، متقن في علم البيان؛ إلا أنه ملأ كتابه من مذهب المعتزلة ونَصَرهم، وحمل آيات القرآن على طريقتهم، فتكدَّر صفوُه، وتمرَّرَ حلوُه، فَخُذْ منه ما صَفا، ودَعْ ما كَدَرَ). ذكر في الزمخشري (ت583هـ) ثلاث قضايا: 1 - أنه بارع في الإعراب، وإن كان بعض النحويين المتأخرين يستدركون عليه كثيراً في قضايا النحو، ويعيبون تقصيره في بعض مسائله، كما يفعل ذلك أبو حيان الأندلسي (ت745هـ) في تفسيره «البحر المحيط». 2 - أنه متقن في علم البيان، وهذا مما أطبق عليه العلماء، وهو مما يُسَلَّم فيه للزمخشري، وقد استفاد منه من جاء بعده. 3 - أنه ملأ تفسيره بكلام المعتزلة؛ وقد قصد إلى ذلك، وربما أخفاه بطريقة ذكية في التعبير حتى قال فيه البلقيني (ت805هـ):

«استخرجت من الكشاف اعتزالاً بالمناقيش» (¬1) ولأجل هذا صار يُنظر إلى كلامه بريبة، ويُظنُّ أنه أرد ببعض عباراته نصرة مذهبه الاعتزالي، وذلك مثل ما وقع في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] قال: «فقد حصل له الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز به ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله والعذاب السرمد، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد» (¬2)، وفي عبارته هذه ما يشعر بأن دخول الجنة هو الفوز المطلق، وبأنه ليس وراء دخول الجنة فوز آخر، وباطن هذه العبارة إنكار رؤية الباري التي هي أعظم الفوز. وهذا التفسير قد كثرت الدراسات عليه قديماً، وقد اعتنى به العلماء، وقرؤوه مع طلابهم، وأكثر من اعتنى به علماء الماتريدية والأشاعرة، وهم يتعقبونه في مسائل الاعتقاد، وهناك من اعتنى به من جهة البلاغة، وفي ذلك حواشي نفيسة كحاشية القزويني، وحاشية الطيبي. والزمخشري له كشَّافان: «الكشَّاف القديم» ولكنه غير موجود و «الكشاف الجديد» وهو مطبوع، وكتبَه وهو مجاور في بيت الله كما قال: «في مقدار مدّة خلافة أبي بكر» (¬3)، أي: في سنتين وستة أشهر تقريباً. قوله: (أما الغزنوي، فكتابه مختصر، وفيه من التصوف نكت بديعة). وقع في بعض نسخ المخطوطة «القونوي»، والصواب الغزنوي، وقد ذكر نقولاً عنه في تفسيره، ونصَّ على ذلك في مواضع منها تفسير ¬

(¬1) الإتقان في علوم القرآن، النوع الثمانون طبعة مجمع الملك فهد 6/ 2345. (¬2) الكشاف 1/ 477. (¬3) الكشاف 1/ 44.

قوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون: 36]، قال: «... وقال الغزنوي: هي للتأسف والتأوه ..» (¬1)، ومنها في تفسير قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} [العلق: 11] ... الآيات، قال: «... وخالفهما أيضاً الغزنوي في الجواب فقال: إن جواب قوله إن كان على الهدى محذوف ...» (¬2). قوله: (وأما ابن الخطيب فتضمن كتابه ما في كتاب الزمخشري، وزاد عليه إشباع الكلام في قواعد في الكلام، ونمقه بترتيب المسائل، وتدقيق النظر في بعض المواضع، وهو على الجملة كتاب كبير الجرم ربما احتاج إلى تنخيل وتلخيص، والله ينفع الجميع بخدمة كتابه، ويجزيهم أفضل ثوابه). ابن الخطيب هو الرازي المعروف محمد بن عمر (ت604هـ)، وكنيته أبو عبد الله أشهر من كنيته بأبي الفضل، وقد صنف كتابه: «التفسير الكبير»، وسماه أيضاً: «مفاتيح الغيب»، وقد انتقد بعض العلماء هذه التسمية. والرازي ـ كما ذكر المؤلف ـ استفاد من الزمخشري، لذا تجد الفائدة في كتاب الزمخشري في سطر، ثم ترى الرازي يشققها إلى مسائل، وكان هذا هو منهج الرازي في كتابه، وهو ممن اعتنى بالتقسيم. وقد انتقده آخرون بأن فيه كل شيء إلا التفسير، وهذا النقد فيه مبالغة، وإنما فيه التفسير وفيه كثير مما ليس من التفسير، وقد أشار إلى هذا أبو حيان الأندلسي (ت745هـ)، فقال: «فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة لا حاجة لها في علم التفسير» (¬3). ¬

(¬1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 2/ 51. (¬2) التسهيل 2/ 489. (¬3) تفسير البحر المحيط 1/ 492.

وقد أدخل في تفسيره مسائل كثيرة من العلوم ليست من التفسير إطلاقاً، فتجد فيه الفلسفة والمنطق والتنجيم والكلام عن السحر. والتفسير بحاجة إلى تلخيص، كما أشار ابن جزي؛ لاستخراج النكات العلمية المرتبطة بالآيات والتفسير، فالكتاب مليء بالفوائد كعلم المناسبات، وحل بعض المشكلات التفسيرية. وهناك خلاف طويل هل الرازي أتمه أو لم يتمه؟ وكتب في ذلك الشيخ يحيى المعلمي رحمه الله تعالى وغيره، لكن يكاد يُتفق أنه لم يكمل تفسيره، وهناك خلاف هل أكمله أحد تلاميذه أو غيرهم؟

الباب السابع: في الناسخ والمنسوخ

الباب السابع في الناسخ والمنسوخ قال المصنف رحمه الله: النسخ في اللغة: هو الإزالة والنقل، ومعناه في الشريعة رَفع الحكم الشرعي بعد تقرّره، ووقع في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: نسخ اللفظ والمعنى، كقوله: «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم». الثاني: نسخ اللفظ دون المعنى كقوله: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم». الثالث: نسخ المعنى دون اللفظ، وهو كثير، وقع منه في القرآن على ما عد بعض العلماء مائتا موضع واثنتا عشرة موضعاً منسوخاً إلا أنهم عدوا التخصيص والتقييد نسخاً، والاستثناء نسخاً، وبين هذه الأشياء وبين النسخ فروقٌ معروفة، وسنتكلم على ذلك في مواضعه، ونقدم منها ما جاء من نسخ مسالمة الكفار والعفو عنهم، والإعراض، والصبر على أذاهم بالأمر بقتالهم ليغني ذلك عن تكراره في مواضعه، فإنه وقع منه في القرآن مائة آية وأربع عشرة آية من أربع وخمسين سورة: ففي البقرة: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة: 83]، {وَلَنَا أَعْمَالُنَا} [البقرة: 139]، {وَلاَ تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] أي: لا تبدؤوا بالقتال، {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ} [البقرة: 191]، {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217]، {لاَ إِكْرَاهَ} [البقرة: 256] وفي آل عمران: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} [آل عمران: 20]، {مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28].

وفي النساء: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [النساء: 63 و81] في موضعين، {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]، {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} [النساء: 84]، {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ} [النساء: 90]. وفي المائدة: {وَلاَ آمِّينَ} [المائدة: 2] {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99]، {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105]. وفي الأنعام: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66]، {ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام: 91]، {عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104]، {وَأَعْرِضْ} [الأنعام: 106]، {عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [الأنعام: 107]، {وَلاَ تَسُبُّوا} [الأنعام: 108] {فَذَرْهُمْ} [الأنعام: 112، 137] في موضعين: {يَاقُوْمِ اعْمَلُوا} [الأنعام: 135] {قُلِ انْتَظِرُوا} [الأنعام: 158] {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]. وفي الأعراف: {فَأَعْرَضَ} [الأعراف: 199] {وَأَمْلَى لَهُمْ} [الأعراف: 183]. وفي الأنفال: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ} [الأنفال: 72] يعني: المجاهدين. وفي التوبة: {فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة: 7]. وفي يونس: {فَانْتَظِرُوا} [يونس: 20] {فَقُلْ لِي عَمَلِي} [يونس: 41] {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} [يونس: 46] {وَلاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يونس:65] لما يقتضي من الإمهال {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} [يونس: 99] {فَمَنِ اهْتَدَى} [يونس: 108] لأن معناه الإمهال {وَاصْبِرْ} [يونس: 109]. وفي هود: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} [هود: 12] أي: تنذر ولا تجبر {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [هود: 93] {انْتَظِرُوا} [هود: 122]. وفي الرعد: {عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} [الرعد: 40]. وفي الحجر: {ذَرْهُمْ} [الحجر: 3] {فَاصْفَحْ} [الحجر: 85] {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر: 89] {وَأَعْرَضَ} [الحجر: 94]. وفي النحل: {إِلاَّ الْبَلاَغُ} [النحل: 35] {عَلَيْكَ الْبَلاَغُ} [النحل: 82] {وَجَادِلْهُمْ} [النحل: 125] {وَاصْبِرْ} [النحل: 127].

وفي الإسراء: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} [الإسراء: 54]. وفي مريم: {وَأَنْذِرْهُمْ} [مريم: 39]، {فَلْيَمْدُدْ} [مريم: 75]، {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84]. وفي طه: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} [طه: 135]. وفي الحج: {وَإِنْ جَادَلُوكَ} [الحج: 68]. وفي المؤمنون {فَذَرْهُمْ} [المؤمنون: 54]، {ادْفَعْ} [المؤمنون: 96]. وفي النور: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [النور: 54]. وفي النمل: {فَمَنِ اهْتَدَى} [النمل: 92]. وفي القصص: {لَنَا أَعْمَالُنَا} [القصص: 55]. وفي العنكبوت: {أَنَا نَذِيرٌ} [العنكبوت: 50] لما يقتضي من عدم الإجبار. وفي الروم: {فَاصْبِرْ} [الروم: 60]. وفي لقمان: {وَمَنْ كَفَرَ} [لقمان: 12]. وفي السجدة: {وَانْتَظِرْ} [السجدة: 30]. وفي الأحزاب: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48]. وفي سبأ: {قُلْ لاَ تُسْأَلُونَ} [سبأ: 25]. وفي فاطر: {إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} [فاطر: 23]. وفي يس: {فَلاَ يَحْزُنْكَ} [يس: 76]. وفي الصافات {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [الصافات: 174] {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [الصافات: 178]، وما يليهما. وفي ص: {اصْبِرْ} [ص: 17] {أَنَا مُنْذِرٌ} [ص: 65]. وفي الزمر: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [الزمر: 3] لما فيه من الإمهال {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ} [الزمر: 15]، {يَاقَوْمِ اعْمَلُوا} [الزمر: 39]، {فَمَنِ

اهْتَدَى} [الزمر: 41] {أَنْتَ تَحْكُمُ} [الزمر: 46]؛ لأن فيه تفويضاً. وفي المؤمن: {فَاصْبِرْ} في موضعين [المؤمن: 55، 77]. وفي السجدة: {ادْفَعْ} [فصلت: 34]. وفي الشورى: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الشورى: 6]، {فَإِنْ أَعْرَضُوا} [الشورى: 48]. وفي الزخرف: {فَذَرْهُمْ} [الزخرف: 83]، {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89]. وفي الدخان: {فَارْتَقِبْ} [الدخان: 59]. وفي الجاثية: {يَغْفِرُوا} [الجاثية: 14]. وفي الأحقاف: {فَاصْبِرْ} [الأحقاف: 35]. وفي القتال: {فَإِمَّا مَنًّا} [محمد: 4]. وفي ق: {فَاصْبِرْ} [ق: 39]، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45]. وفي الذاريات: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ}، [الذاريات: 54]. وفي الطور: {قُلْ تَرَبَّصُوا} [الطور: 31]، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48]، {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُوا} [الطور: 45]. وفي النجم: {فَأَعْرِضْ} [النجم: 29]. وفي القمر: {فَتَوَلَّ} [القمر: 6]. وفي ن: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [القلم: 48]، {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} [القلم: 44]. وفي المعارج: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً} [المعارج: 5]، {فَذَرْهُمْ} [المعارج: 42]. وفي المزمل: {وَاهْجُرْهُمْ} [المزمل: 10]، {وَذَرْنِي} [المزمل: 11]. وفي المدثر: {ذَرْنِي} [المدثر: 11]. وفي الإنسان: {فَاصْبِرْ} [الإنسان: 24]. وفي الطارق: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} [الطارق: 17].

وفي الغاشية: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22]. وفي الكافرون: {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون: 6]. نَسَخ ذلك كله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] (¬1). عقد المؤلف باباً للناسخ والمنسوخ، وهو من علوم القرآن، لكن إذا كان المعنى يتغير، فإن المسألة في النسخ تكون من التفسير، وسواء أكان النسخ في رفعٍ جزئيٍّ أم في رفعٍ كليٍّ. والنسخ هنا على اصطلاح المتأخرين، وهو المتعلق بالأحكام، أما النسخ الجزئي الذي كان عند السلف فهو الذي عدّه بعضهم تخصيصاً أو تقييداً أو بياناً أو استثناءً، والمؤلف قد انتقد عدَّ التخصيصِ والتقييدِ والاستثناءِ نسخاً. ونقول: إذا كان هذا اصطلاحهم فلا يُثرب عليهم فيه، بل إذا فهمنا مرادهم فلا مشكلة في عبارتهم ما داموا لم يقصدوا النسخ الذي ارتضاه المؤلف. وإذا ورد النسخ عند السلف في الأحكام فإن كانت عبارتهم تحتمل أنهم يريدون التقييد والتخصيص والاستثناء حمل النسخ عندهم على هذا المعنى، لكن إن دلت العبارة على أنه النسخ الكلي فإنها تحمل عليه. وإذا ورد النسخ عند السلف في الأخبار المحضة (¬2) فهم يريدون النسخ الجزئي؛ لأن الأخبار لا تنسخ نسخاً كليّاً، أما النسخ الجزئي ¬

(¬1) إذا كان الخبر يتضمن حكماً، كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فإنه يلحق بالأحكام، ويجوز أن يدخله النسخ الكلي. (¬2) التسهيل 1/ 82 - 87.

الذي هو التخصيص والتقييد والاستثناء وبيان المجمل، فهذا يدخل في الأخبار كما يدخل في الأحكام. أنواع النسخ التي ذكرها المؤلف ثلاثة: 1 - نسخ اللفظ والمعنى. 2 - نسخ اللفظ دون المعنى. 3 - نسخ المعنى دون اللفظ. وأصل مبحث النسخ في النوعين الأولين أنه من مباحث الرواية، وليس الدراية، لذا فإن البحث فيه يتطلب ثبوت الرواية بالنسخ، ثمَّ يُصار إلى الدراية، أما ما وقع من نقد لوقوع النسخ في هذين النوعين من جهة الدراية، فإن هذا ليس بصواب، ولا شكَّ أن الآثار تدلُّ على وقوع هذه الأنواع الثلاثة. وأما النسخ في الأحكام ـ وهو النوع الثالث ـ فإنه لا يقع إلا عند التعارض التام بين النصوص بحيث لا يمكن إعمال النصَّين معاً، فيجتهد الفقيه هاهنا بالقول بالنسخ. فإن قال قائل: هل المجتهد هو الذي ينسخ؟ نقول: الناسخ هو الشارع، فالذي أنزل المنسوخ هو الذي أنزل الناسخ، فالأمر إلى الله سبحانه وتعالى في ذلك. وعمل المجتهد عند حصول التعارض في النصوص هو الحمل على النسخ، ثم مناقشة صحة النسبة من عدمها، أما الذي ينسخ آية بآية فهو الشارع سبحانه. فإن قال قائل: هل ورد قرآن ونسخ بالكلية؟ نقول: هذا بحث نقلي، فإذا ثبت النقل، فإنه يُحكم به، والمطلوب من العقل تفهُّم وجه النسخ، وليس الاعتراض عليه، والمؤلف قد أورد

رواية في آية منسوخة، وهي: «لا ترغبوا عن آبائكم»، فالطريق الذي عرفنا به هذه الآية أنها منسوخة هو طريق النقل عن الصحابة، فالصحابي عندما يخبر بعبارات تدل على أنها كانت قرآناً فيقول: كان مما يتلى، أو كان مما أنزل الله، أو كان مما نقرأ، هذه العبارات تدل على أن آية نزلت وكانت تقرأ ثم نسخت، وهذا النوع لا مجال لإنكاره؛ لأن إثباته إنما هو من جهة الخبر ولا شك أن هذه الأخبار التي ارتبطت بها هذه الآثار أخبار آحاد، وخبر الواحد يوجب العلم خصوصاً إذا عَمِلَت به الأمة، أو إذا كثرت أخبار آحاد في قضية معينة فتدل على ثبوت هذه القضية. قال الدكتور مصطفى زيد ـ بعد ذكره لكلام طويل عن الآيات المنسوخة نسخاً كلياً؛ أي: لفظاً وتلاوة ومعنى ـ في كتابه: «النسخ في القرآن» ـ وهو من أنفس كتب النسخ ـ قال: «وفي بعض هذه الروايات جاءت هذه العبارات التي لا تتفق ومكانة عمر ولا مكانة عائشة»، ثم قال بعد ذلك: «مما يجعلنا نطمئن إلى اختلاقها ودسها على المسلمين» (¬1). أقول: هذه الطريقة من الحكم غريبة جدّاً، وهي تخالف منهج البحث العلمي، وقد وقع بعض المعاصرين في هذه المشكلة، فإذا أعياه شيء من الآثار قال: إنه من بثِّ الزنادقة، وأقول: إذا دُسَّ شيء على المسلمين هل سيخفى على جهابذة العلماء؟! لذا يجب التنبه لهذه القضية الفكرية التي توجد عند بعض الباحثين، إذ مع جودة بحوثهم إلا أنهم إذا جاءتهم نصوص لم يعرفوا وجهها اعترضوا عليها بمثل هذا الاعتراض، والواجب الاعتماد على الآثار المنقولة وجعلها أصلاً، ثمَّ تفهُّمها، ومعرفة وجهها، وتخريجها تخريجاً سليماً، وليس ردُّها بهذه الطريقة الغريبة. ¬

(¬1) النسخ في القرآن في فقرة (389).

الإشكالية الواقعة للدكتور مصطفى رحمه الله ومن شابهه في هذه القضية الفكرية أنه لم يقتنع بهذه الآثار فأراد أن يردها بأي سبيل، فصار يدفعها دفع الصائل؛ أي: يردها بأي شيء كان، فوصل إلى أن هذا من دسِّ الزنادقة! وهذا الأسلوب في تخريج مثل هذه القضية فيه تهمة لعلمائنا السابقين، وأنهم لم يعرفوا الصحيح من الضعيف، مع ما عُرف عنهم من حرص في التنقيب عن ذلك. والمنهج الحق: أن الآثار إذا وردت عن الصحابة، فإننا نثبتها، ونجتهد في تفهُّمها، فالصحابة أعلم بكتاب الله، وأعلم بحقوق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، وأعلم بحقوق الأنبياء، فإذا عبر الواحد منهم عن شيء واقع في هذه الأمور، فالواجب معرفة وجهها، وليس تخطئة الصحابي أو الناقل عنه بلا برهان مقبول في ذلك الردِّ. والأَولى في هذا المقام أن نقول بثبوت قرآنية هذه الآيات، ثمَّ نحكم بنسخها؛ سواء بقي حكمها مثل «الشيخ والشيخة» أو لم يبق حكمها. فإن قال قائل: هل للآيات المنسوخة لفظاً ما للقرآن المتواتر؟ نقول: إن الآيات الثابتة يتعلق بها حكمان: 1 - التعبد بألفاظها، والصلاة بها. 2 - العمل بالأحكام التي تتضمنها. وما نسخ لفظاً يزول ما يتعلق به من الفضل والتعبد ويبقى ما يتعلق بالحكم، فنعمل بما فيها من أحكام إن لم يثبت نسخها. أما ما يتعلق بالإعجاز والبلاغة القرآنية فليس لها حكم القرآن؛ لاحتمال دخول الرواية بالمعنى حيث نقلت كما تنقل الأحاديث، ولكن لا شك أنها تُعتبر من أفصح الكلام. وبعض المعاصرين اعترض على آية «الشيخ والشيخة إذا زنيا

فارجموهما ألبتة» فقال: إن جملة «الشيخ والشيخة» فيها ركاكة في اللفظ، وفيها ثقل. وأقول: إن اختيار «الشيخ والشيخة» فيه بلاغة كما في قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «وأشيمط زان» (¬1)، فإذا كان الزنا يقع من الشيخ والشيخة في مثل هذا الوقت فهو شنيع، وإذا كان يعاقبان فمن باب أولى أن يعاقب غيرهما من الشباب، فاختيار هذا اللفظ فيه تشنيع على من يفعل هذا الفعل إذا كان يفعله في الكِبَرِ، فمن باب أولى من يفعله في الصغر. الآيات التي وقع فيها النسخ كثيرة، وفيها اختلاف بين العلماء منذ بدأت الكتابة في الناسخ والمنسوخ، ولكن الآيات التي نسخت نسخاً كليّاً قليلة جداً، وليست كما يَزعم أنها أكثر من مئتي آية. ومن الآيات المنسوخة آية الصدقة في سورة المجادلة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة: 12، 13]. وقد حكى الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد الأمين الإجماع على وقوع النسخ في هذه الآية (¬2). أما ما يتعلق بالآية التي أوردها المؤلف عندما قال: «ونقدم منها ما جاء من نسخ مسالمة الكفار والعفو عنهم والإعراض والصبر على أذاهم بالأمر بقتالهم»، فإن الأمر بقتال الكفار لا يلزم أن يكون منازعاً للآيات الأخرى، وإنما هي مرتبطة بالأحوال، وكذلك الكثير من الآيات التي ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في المعجم الصغير من حديث: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ـ وذكر منهم ـ أشيمط زانٍ» 2/ 20، وأخرجه مسلم بلفظ: «شيخ زان»، في كتاب الإيمان، ورقم الحديث (107). (¬2) الآيات المنسوخة في القرآن الكريم ص87.

ذكرت هي في قضايا ليس لها علاقة بالقتال أصلاً، وإنما لها علاقة بالمعاملة، أو طريقة المجادلة، أو غير ذلك. والمقصد من ذلك أن هذه الأمثلة التي ذكرها المؤلف، لكل واحدةٍ تخريجٌ على حال من الأحوال، وليس لها علاقة بقضية الناسخ والمنسوخ. ولو جمعت الآيات التي قيل إنها نسخت لفظاً ـ سواء بقي معناها أم لم يبق ـ لخرج فيها بحث جيد، ويكون البحث مؤصلاً من جهة المتن ومن جهة الإسناد، فإذا ثبت المتن والإسناد فإنه يشار إليه كما في صحيح البخاري في قوله سبحانه: الذَّكَرَ وَالأُنْثَى (¬1)، وكما في قول أنس (ت93هـ): «أُنزل في الذين قتلوا ببئر معونة قرآنٌ قرأناه ثم نسخ بعد: «بلِّغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه» (¬2)، وكما في كلام أبي موسى الأشعري (ت44هـ) للقراء: «وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني قد حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» (¬3). ومن باب الفائدة إذا ورد عن التابعي حكاية قراءة عن الصحابي، كما يقول بعض تلاميذ ابن مسعود: قرأ ابن مسعود كذا كما في: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات»، فلا يقال: هذه قراءة تفسيرية، فلفظ: «متتابعات» ليست آية، وإنما هي تفسير على هذا القول. وهذا تخريج عقلي دعت إليه حماية القرآن من أن تكون هذه الألفاظ من الآيات، ثمَّ إنها نُسخت، والصحيح أن هذه قراءة؛ لأمور: الأول: أن التابعي ينص على أن الصحابي قرأ، ولم يقل: فسَّر، ¬

(¬1) أخرجه البخاري، في كتاب التفسير، ورقم الحديث (4944). (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، ورقم الحديث (2801). (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة، ورقم الحديث (1050).

والتابعي يروي التفسير والقراءة عن الصحابي، وهو يعرف الفرق بين التفسير والقراءة، ويمايز بينهما، ولو كانا من باب واحد، لما كان هناك فائدة في قوله: «قرأ فلان ...». الثاني: أن قوله: بأنها قراءة تفسيرية فيه اتهام للتابعي بالعيّ في إيصال المعلومة واتهام له بعدم فهم شيخه. الثالثة: أنه قد ثبت عنهم قراءات ليس فيها زيادة، ولم يُحكم عليها بأنها تفسيرية، وأسلوب روايتها لا يختلف عن هذه القراءات التي فيها زيادات؛ لذا لا يستقيم أن نقول إنها تفسير مع أن التابعي قال إنها قراءة. ومما ورد من الآثار مما يجمع بين منسوخ التلاوة والحكم، ومنسوخ التلاوة دون الحكم، ما ورد في صحيح مسلم عن عائشة قالت: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرِّمن ثم نسخن بخمس معلومات يحرِّمن، وتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهي فيما يُقرأ من القرآن» (¬1). ومعنى الخبر: 1 - أنه نزل عشر رضعات، وكانت تُقرأ. 2 - ثم نزل خمس رضعات، وكانت تقرأ. 3 - ثم وقع للخمس رضعات نسخٌ في التلاوة، وبقي حكمها معمولاً به. 4 - صارت العشر رضعات مما نُسخ تلاوة وحكماً. ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب الرضاع، ورقم الحديث (1452).

الباب الثامن: القراءات

الباب الثامن القراءات قال: الباب الثامن في جوامع القراءات، وهي على نوعين: مشهورة، وشاذة. المشهورة: القراءات السبع، وهو حرف نافع المدني، وابن كثير المكي، وأبو عمرو بن العلاء البصري، وابن عامر الشامي، وعاصم، وحمزة والكسائي، الكوفيَيْن، ويجري مجراهم في الصحة والشهرة: يعقوب الحضرمي، وابن محيصن، ويزيد بن القعقاع. والشاذة ما سوى ذلك، وإنما سميت شاذة؛ لعدم استفاضتها في النقل، وقد تكون فصيحة اللفظ، وقوية المعنى. ولا يجوز أن يقرأ بحرف إلا بثلاثة شروط: موافقته لمصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، وموافقته لكلام العرب ولو على بعض الوجوه، أو في بعض اللغات، ونقله نقلاً متواتراً أو مستفيضاً. واعلم أن اختلاف القراء على نوعين: أصول، وفرش الحروف. فأما الفرش: هو ما لا يرجع إلى أصل مطّرد، ولا قانون كلي، وهو على وجهين: اختلاف في القراءة باختلاف المعنى، وباتفاق المعنى. وأما الأصول: فالاختلاف فيها لا يغير المعنى، وهي ترجع إلى ثمان قواعد: الأولى: المدّ وهو في حروف المد الثلاثة، ويزاد فيها على المد الطبيعي بسبب الهمزة أو التقاء الساكنين. الثانية: الهمز وأصله التحقيق، ثم قد يخفف على سبعة أوجه:

إبدال واو أو ياء أو ألف، وتسهيل بين الهمزة والواو، وبين الهمزة والياء، وبين الهمزة والألف، وإسقاط. الثالثة: الإظهار والإدغام، والأصل الإظهار ثم يحدث الإدغام في المثلين، أو المتقاربين، وفي كلمة، وكلمتين. وهو نوعان: إدغام كبير انفرد به أبو عمرو، وهو إدغام المتحرك، وإدغام صغير لجميع القراء، وهو إدغام الساكن. الرابعة: الإمالة وهي: أن تنحو بالفتحة نحو الكسرة، وبالألف نحو الياء، والأصل الفتح، ويوجب الإمالة: الكسرة، والياء. الخامسة: الترقيق والتفخيم، والحروف على ثلاثة أقسام: مفخم في كل حال، وهي حروف الاستعلاء السبعة، ومفخم تارة، ومرقق أخرى، وهي الراء واللام والألف، فأما الراء: فأصلها التفخيم وترقق للكسر والياء، وأما اللام: فأصلها الترقيق وتفخم لحروف الإطباق، وأما الألف: فهي تابعةٌ للتفخيم والترقيق لما قبلها، والمرقق على كل حال سائر الحروف. السادسة: الوقف، وهو على ثلاثة أنواع: سكون جائز في الحركات الثلاثة، والرَّوم في المضموم والمكسور، وإشمام في المضموم خاصة. السابعة: مراعاة الخط الوقف. الثامنة: إثبات الياءات وحذفها وتسكينها وفتحها (¬1). المؤلف رحمه الله قال عن القراءات: (وهي على نوعين: مشهورة وشاذة)، ثم ذكر القراءات السبع، ووصفها بأنها مشهورة، وجعل قراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي (ت205هـ)، وابن محيصن محمد بن ¬

(¬1) التسهيل 1/ 88 - 91.

عبد الرحمن (ت132هـ)، ويزيد بن القعقاع أبو جعفر المدني (ت130هـ)، جعلها تجري مجراهم في الصحة والشهرة. وهذا الاختيار لقراءة ابن محيصن دون خلف بن هشام (ت229هـ) المعروف بـ «خلف العاشر» مخالف لما هو عليه الحال عند غير المؤلف، فقراءة ابن محيصن تُعدُّ في الشواذِّ، وليست قريبة من قراءة السبعة فتأخذ هذا الحكم. وابن جزي له كتابان في القراءات: «المختصر البارع في قراءة نافع»، وكتاب: «أصول القراء الستة غير نافع»، وهذا يعني أنه مشارك في هذا العلم، وقوله هذا بحاجة إلى وقفة؛ ليُنظر فيها حال أسانيد هذه القراءة ورتبتها عند أهل عصره. وقراءة ابن محيصن (ت132هـ) هي ضمن أربع قراءات تُروى كاملة عن أصحابها بالإسناد، وهي: قراءة الحسن البصري (ت110هـ)، وقراءة سليمان بن مهران الأعمش (ت 148هـ)، وقراءة اليزيدي؛ أبو محمد يحيى بن المبارك (ت202هـ). قال المؤلف في وصف القراءة الشاذة: (وإنما سُمِّيت شاذَّة لعدم استفاضتها في النقل، وقد تكون فصيحة في اللفظ، وقوية المعنى). وقوله هذا يشير إلى أنها قد تكون قبل انعدام استفاضتها لها شأن آخر، لكن النقل تخلَّف عنها من جهة الاستفاضة، فلم ترقَ إلى القراءات التي وصفها بأنها «مشهورة»، وهو وصف جعله مقابل لوصف الشذوذ. وهذا الضابط الذي ذكره للشذوذ يشير إلى أن هناك قراءات كثيرة أُهملت، فلم تبلغ حدَّ الاشتهار، وهذا مكان بحث لأولي القراءات، إذ هذا الأمر يحتاج إلى تحرير، وهو «مراحل تشذيذ القراءات القرآنية»، ولو تأملتَ تاريخ القراءة وتدوينها لوجدت الآتي: 1 - منذ عهد أبي بكر إلى صدر خلافة عثمان (سنة 25 تقريباً)، لم

يكن يُحكى الشذوذ بين الصحابة في قراءاتهم المختلفة، وإن كان قد يقع بينهم استدراكات على قراءة بعضهم. 2 - بعد نسخ المصاحف ـ في عهد عثمان ـ من مصحف أبي بكر، وقع إلزام الناس بوجوه القراءة الثابت بقاؤها في العرضة الأخيرة، وأمر عثمان بطرح ما سواها، ولذلك أمر بحرق المصاحف. ومن هنا بدأ تبيُّن القراءة المقبولة من القراءة غير المقبولة. 3 - بقي بين يدي الناس بعض القراءات التي تسللت عبر روايتها إما مفردة، وإما كاملة كـ «القراءات الأربع»، وهذه القراءات حكم العلماء عليها بالشذوذ لأحد أسباب أشار إليها المؤلف؛ كأن تخالف رسم مصحف عثمان، أو أن تكون منقولة بطريقة أقلَّ من الطرق المشهورة، وغالب ما يقع عليه أحد هذين الوصفين فإن العلماء لا يتلقونه بالقَبول. والمؤلف قد أشار إلى ذلك في قوله: (ولا يجوز أن يقرأ بحرف إلا بثلاث شروط: 1 - موافقته لمصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه. 2 - وموافقته لكلام العرب ولو على بعض الوجوه أو في بعض اللغات. 3 - ونقله نقلاً متواتراً أو مستفيضاً). إن كان يقصد بالشرط: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، فإن بعض هذه المذكورات فيها نظر من جهة تسميتها بالشروط، وإذا ورد النقل المتواتر أو المستفيض، فإن الشرطين المذكورين قبله تبع له، ذلك أن الأصل في ثبوت القرآن هو الحفظ القلبي (¬1)، والرسم إنما هو زيادة في الضبط، بحيث لو تُصُوِّر عدم ¬

(¬1) يقول ابن الجزري: «ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة». النشر في القراءات العشر 1/ 6.

وجوده فإنه لا يقع خلل في نقل القرآن؛ لأن أغلب من نزل عليهم القرآن كانوا يستظهرونه، ولم يكونوا أهل عناية بكتابته لسببين: الأول: قوة الحفظ والاستظهار عندهم. الثاني: قلَّة أدوات الكتابة عندهم. لكن هذا الرسم أفاد ـ مع تقدم الزمن ـ في ضبط القرآن، وصار معياراً لردِّ بعض القراءات الشاذَّة؛ إذ ليس كل القراءات الشاذة تخالف رسم المصحف. الشرط الأول: موافقته لمصحف عثمان بن عفان: مما يلاحظ في سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه لم ينشط لكتابة القرآن إلا عندما جاء إلى المدينة، وقد كتبه مفرَّقاً على اللخاف والأكتاف والسُّعُف وغيرها، ثم لما توفي صلّى الله عليه وسلّم جمعه أبو بكر، ثم في عهد عثمان نُسِخَت المصاحف من مصحف أبي بكر. فالقاعدة المعتمدة على المسألة التاريخية لحفظ القرآن وتدوينه: أن الرسم متأخر عن القراءة، وأن القراءة أصل والرسم فرع، وأنه لا يلزم أن يكون الرسم ـ دائماً ـ موافقاً للفظ، وهذا ليس في تدوين القرآن ولا في الإملاء الذي بين يدينا اليوم، بل هذا معروف في جميع لغات العالم، فالمرسوم لا يلزم أن يطابق جميع الملفوظ، بل قد يوجد أحرف زوائد أو أحرف ناقصة، وأهل كل لغة يعرفون ذلك من لغتهم ولا يحتاجون فيها إلى معلم خارجي يبين لهم ذلك، وإنما يحتاج ذلك من لم تكن لغته مثل لغتهم. وإذا عرفنا هذه القاعدة نعلم أن كل ما يقال من نقص الرسم أو أن الرسم سبب في الخطأ في القراءة فهو باطل. وإذا نظرت إلى مزاعم المستشرقين من أن هناك خطأ في رسم

الصحابة بوجود نقص أو زيادة، أو أن بعض القراء أخطأ؛ لأنه قرأ هذا الرسم أو خالف ذاك الرسم، فإنه يمكن القول بأن هذا جهل مركب؛ لأنه لا يوجد في أي لغة من اللغات من ينطلق من المرسوم، بل الأصل أن ينطلق من المقروء وإن وقع بينه وبين المرسوم اختلاف. مسائل في قول المؤلف: (موافقته لمصحف عثمان): الأولى: الموافقة لمصحف عثمان معتبرة ولو احتمالاً؛ لأن بعض الكلمات كتبت بوجهٍ واحد، وقرئت بأكثر من وجه، كلفظة (الصراط) في سورة الفاتحة، فقد قرئت بالسين والصاد. الثانية: إن بعض الكلمات لها (أداء صوتي) لا يمكن أن يرسم، ولم يجتهد الصحابة في ضبطه، وهذا يدلُّ على أن الأصل هو المقروء من الصدور، ومن ذلك لفظة: «الصراط» في سورة الفاتحة، فقد قرئت بوجه ثالث، وهو إشمام الصاد زاياً، وهذه القراءات الثلاث (بالصاد وبالسين وبإشمام الصاد زاياً) كلها ثابتة ومقروء بها، وقد اتفقت المصاحف على كتابة هذه اللفظة بالصاد، ومن عِلَل ذلك أن الصاد هي الأصل، وأن اللفظة لو كُتبت بالسين لم يكن لقراءة الإشمام وجه ظاهر في هذه اللفظة. والمقصود أن مما يجب أن يُتنبَّه له أنه ليس كل مقروء يمكن كتابته؛ لأنه قد يكون متعلقاً بأمور صوتية، والأمور الصوتية ـ من مدٍّ وإدغام وفكٍّ وإبدال وتسهيل وإمالة وغيرها ـ مما لا يمكن رسمه، ولذا كان من علماء علوم القرآن بعد جيل الصحابة أن أدخلوا علم ضبط المصاحف، وكان بدأ شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى ما نراه اليوم في مصاحف المسلمين. الثالثة: أن بعض الاختلافات في الرسم تبع للمصحف الذي أرسل إلى ذلك القطر أو ذاك، ويكون رسم كل مصحف على حسب القراءة

التي يقرأ بها قراء ذلك المصر، فقوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد: 24]، جاء الرسم موافقاً لمن يثبت الضمير {هُوَ}، والمصحف الذي يقرأ به هؤلاء يكون هذا اللفظ مثبتاً فيه، لكن لو كتبنا المصحف على رواية من يحذف (هو)، فإننا نحذفها ولا نثبتها، قال ابن مجاهد: «قرأ نافع وابن عامر: (إِنَّ اللهَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [الحديد: 24]، ليس فيها هو، كذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام. وقرأ الباقون: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد: 24]، وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والعراق) (¬1). الرابعة: لم يحرص الصحابة على تدوين كافة وجوه الاختلاف في الرسم، بل إن بعض الكلمات كُتبت على وجه واحد، وهي تقرأ بعدة وجوه قرائية، وهذا يدلُّ ـ أيضاً ـ على أن الأصل هو المقروء من الصدور، وليس المرسوم، ومن ذلك أن المصاحف اتفقت على رسم واحد في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24]، فرسموها بالضاد، وهي تقرأ على وجهين بالضاد وبالظاء، لذا فإنها تكتب في جميع المصاحف على جميع الروايات بالضاد بخلاف المسألة السابقة التي ثبت أن الصحابة كتبوها على وجهين، ولو أشير لمن يقرأ بالظاء بوضع حرف ظاء صغير فوقها، لجاز، ولكان هذا من باب الضبط. الرابعة: الرسم ليس توقيفياً؛ أي: ليس مأخوذاً عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإنما يدخل في باب الإجماع، فهو إجماع من الصحابة. وإذا نظرنا إلى تاريخ تدوين المصحف، فإنه سيتبين لنا أنه قبل نسخ المصاحف ـ وكذا أثناءها ـ كان هناك اختلاف في المرسوم كما كان ¬

(¬1) السبعة في القراءات لابن مجاهد، تحقيق د. شوقي ضيف ص627.

الحال في اختلافهم في المقروء، ثمَّ إن الأمر استقر على مرسوم المصاحف العثمانية التي نسخوها من مصحف أبي بكر رضي الله عنه، وبهذا يمكن القول بأنه قد انعقد الإجماع على مرسوم مصاحف عثمان رضي الله عنه. وأما تحليل الاختلاف في الرسم، فإنه أمر سهل جدّاً، وليس اختلافهم بدعاً في هذا الأمر، بل لا يزال الاختلاف في المرسوم «الإملاء» قائماً إلى اليوم، والأمر في ذلك أنه يدخل في باب اختلاف التنوع، فالإملاء في بعض المرسوم له أكثر من وجه، وهو اصطلاح يختلف من كاتب إلى آخر، ومن عصر إلى عصر، وإذا أخذناه من هذا الباب هان الأمر وسهُل، ولم يكن هناك تعنيف ولا تثريب، ولظهر لنا أن كل ما وُجِّه من نقد لمرسوم المصاحف العثمانية من الصحابة أنفسهم ـ كالمروي عن عائشة ـ إنما هو من هذا الباب، إذ كلٌّ حكم بما يعرف، وأنكر ما لا يعرف، وهذا أمر يوجد في المرسوم وفي القراءة وفي الأحكام وفي غيرها. لذا نقول: إنما اعترض الصحابي على الرسم؛ لأنه حكم بما يعلم، والرسم الآخر لم يعرفه فحكم بخطئه، وإذا كان الأمر كذلك فإن الجواب عن مثل ذلك أن يقال: إن اعتراض الصحابي لكونه لم يعلم بالوجه الآخر لا يعني أن ما اعترض عليه أنه خطأ محض، بل نقول: إن ما جهله هو قد علمه غيره. أما ما روي عن عثمان من قوله: «إن فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها» (¬1)، فإنه ضعيف لا يُحتجُّ بمثله، غير أن له توجيهاً يسلم به من الفهم الذي وقع فيه بعض الناس؛ إذ كيف يُتصوَّر أن عثمان يرى الخطأ في مرسوم كتاب الله ويسكت عنه، ولا يأمر بتعديله، ثم أين الصحابة من هذا؟! ¬

(¬1) المصاحف، لابن أبي داود (طبعة دار البشائر) 1/ 228.

ويمكن توجيه مراد عثمان رضي الله عنه أنه قصد باللحن أن صورة الكتابة في بعض المواطن تختلف عن طريقة اللفظ والقراءة، وأن العرب سيقيمونه بقراءتهم فهم لن يقرأوا «الربو» بالواو كما كتبت وإنما بالألف؛ لأن المقروء عندهم هو الأصل. الشرط الثاني: موافقته لكلام العرب ولو على بعض الوجوه أو في بعض اللغات: أما شرط موافقته لكلام العرب فإنه لا يدخل في مصطلح الشرطية؛ لأنه إذا ثبتت القراءة وتواترت، فإنها حجة عربية بذاتها (¬1). الشرط الثالث: ونقله نقلاً متواتراً أو مستفيضاً: قول المؤلف في الشرط الثالث (نقله نقلاً متواتراً أو مستفيضاً)، فيه إشارة إلى اختلاف نوعي النقل، وهما التواتر والاستفاضة، وكأنه يشير إلى ما قيل من أن القراءات السبع متواترة، وأن القراءات الثلاثة المتممة مشهورة، والله أعلم. ومفهوم التواتر في القراءات فيه أمور مشكلة، والبحث فيها لا يؤثِّر على صحة نقل القرآن، وإنما المراد من بحثها تبيُّن وجه هذه القراءات على مرِّ العصور، خصوصاً في الأزمنة الأولى قبل اشتهار تدوين القراءات وانتشارها في الأمصار. وهذا الموضوع من الدِّقة بمكان، بحيث إنه يحتاج في علاجه إلى باحث ماهر يستطيع أن يخرج بنتائج وافرة تدعم حفظ القرآن بما أوكل الله به المسلمين من حفظه؛ إذ كانوا هم السبب الذي جعله الله من تمام حفظ القرآن، فهيأ لهم سبل ذلك الحفظ، فبقي القرآن يتلى ¬

(¬1) ينظر في هذا: تنبيه الدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ في كتابه النفيس «حديث الأحرف السبعة»، ص146، ط: دار النشر الدولي.

على مرِّ العصور، وفي جميع الأقطار، جيلاً بعد جيل، وما زاد أحد فيه شيئاً، ولا نقصوا منه شيئاً، وفي ذلك عبرة لمن يطعن في نقل القرآن ـ لو كان يعتبر ـ ذلك أن البشر لو تمالؤوا على حفظ كتاب مثله فإنهم لا يستطيعون ذلك، وشاهد ذلك تلك المخطوطات التي تكون للكتاب الواحد، فانظر كم هي الفروق التي تقع بينها؟ وإن كتاب الله المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم يتميز عن غيره من كتب الله بميزة الحفظ من النقص والزيادة والتحريف والتبديل، أما كتب الله السابقة، فهي إما من المفقود الذي لا يعرف له أثر، وإما مما استُحفظ عليه البشر، ووكلت المهمة إليهم، فما قاموا بها، بل وقع التبديل والتحريف عندهم، كما وردت الإشارة إليه في القرآن في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيدِيهِمْ وَوَيلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]، وقوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46] ولا يمكن أن تجد كتاباً من كتب اليهود والنصارى مما ينسبونه إلى أنبيائهم عليهم السلام هو باللغة التي نزل بها، بل كلها مترجمة، ولا يوجد منها شيء بلغته الأولى، مما أعطى مجالاً لمن استُحفظوا على هذه الكتب أن يقع عندهم التحريف والتبديل، أما القرآن فإنه يتلى باللغة نفسها التي نزل بها، فلله الحمد والمنة. والمقصود: أنه لا خوف علينا نحن المسلمين من نقاش هذا الموضوع، وإنه إن لم يزدنا قناعة بما عندنا، فإنه لن يغير من الواقع شيئاً، والله الموفق. ومشكلة مصطلح التواتر، وظهوره بين المتكلمين مشكلة معروفة، وقد أحدثت مشكلات علمية في علم الحديث والاعتقاد وغيرهما، وانجرَّ ذلك على أسانيد القراءة، وغيرها، مما يحتاج إلى إعادة النظر في مفهوم

هذا المصطلح، وإلى تحرير المراد به في كل علم، وإلى استبداله بما يتناسب مع طبيعة كل علم، بحيث لا يبقى غامضاً موهماً، وتُحمَّل بعض القضايا العلمية عليه، وهي لا تحتمله أصلاً، إذ كم هُدم من معلومات بسبب القول به على اصطلاح المتكلمين. وقضية التواتر في القراءات فيها إشكالية من جهة أن في الأسانيد التي تنسب إلى القراء أفراداً، فحمزة (ت156هـ) قد ينفرد ـ مثلاً ـ ببعض الألفاظ، فهذا التي انفرد به تعدُّ آحاداً؛ ولهذا إذا أردنا أن نتعامل مع القراءات بأسلوب مصطلح التواتر الموجود في كتب أصول الفقه سنصطدم بمثل هذا الأمر. والأولى أن ننظر في القراءات نظراً تاريخياً، فهؤلاء السبعة لا نجد أحداً من العلماء المتخصصين يخالف في أن قراءاتهم كانت مشهورة، ومتلقاة بالقبول عندهم، وهذا يعني أن العلماء ارتضوها بضابط الشهرة وضابط القبول، وهذان الضابطان صحيحان. وإذا نظرنا إلى بعض القراءات تاريخياً، فإننا سنجد بعضها مشتهرة لكنها غير مقبولة؛ كالقراءات الأربع المتممة للعشر. لكن لا يمكن أن تكون مقبولة وهي غير مشتهرة، وعندي أن ضابط الشهرة أدق من ضابط التواتر، فالقراءة المقبولة هي التي اشتهرت وتلقاها العلماء بالرضى والقبول، فابن مجاهد (ت324هـ) لما اختار هؤلاء السبعة لم يخالفه أحد في الاختيار مما يدل على أن الأئمة السبعة قد اتفقت الأمة على إمامتهم وأنهم أهل لنقل القراءة، وما أضيف فيما بعد إليهم يكون داخلاً ضمن قراءاتهم، وهو قليل، وقد تلقته الأمة بالقبول. ومن تأمَّل تاريخ القراءات، واعتمد على المصطلحات التي يذكرها علماء القراءات المتقدمين، لا يجد لفظة «تواتر»، وإنما يجد «قراءة

العامة»، «القراءة المستفيضة»، «القراءة المشهورة» «القراءة التي عليها قَرَأَة الأمصار». وهذه المصطلحات التي يتعامل بها أهل القراءة المتقدمين بحاجة إلى دراسة، لمعرفة واقعها عند أصحاب الشأن، والنظر في مدى الحاجة إلى ذلك التغيير الذي طرأ على هذه المصطلحات التي كانت مشتهرة بين القراء. وهنا نحتاج إلى دراسة الاعتراض على القراءات عند المتقدمين، وكيفية الخلوص منه إلى القول بالتواتر عند المتأخرين. وموضوع الاعتراض على القراءات مما لا خفاء فيه، لكن البحث والتحرير فيه قليل جدّاً. ومن أمثلة ذلك: 1 - روى البخاري بسنده عن ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم «أَرَأَيْتِ قَوْلَهُ: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: 110] أَوْ كُذِبُوا. قَالَتْ: بَلْ كَذَّبَهُمْ قَوْمُهُمْ. فَقُلْتُ: وَاللهِ لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ وَمَا هُوَ بِالظَّنِّ. فَقَالَتْ: يَا عُرَيَّةُ، لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ. قُلْتُ: فَلَعَلَّهَا أَوْ كُذِبُوا. قَالَتْ: مَعَاذَ اللهِ لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا، وَأَمَّا هَذِهِ الآيَةُ قَالَتْ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ، وَطَالَ عَلَيْهِمُ الْبَلاَءُ، وَاسْتَاخَرَ عَنْهُمُ النَّصْرُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَتْ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَظَنُّوا أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللهِ» (¬1). فهذه عائشة رضي الله عنها لم تر قراءة «كُذِبوا» بالتخفيف، واعتمدت ما تعرفه ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، ورقم الحديث (3389).

من قراءة التثقيل، ورأت أن في قراءة التخفيف معنى غير لائق بالأنبياء عليهم السلام فمنعته، واعترضت على قراءة التخفيف لأجل ما تحتمله من هذا المعنى. 2 - روى الحاكم في المستدرك بسنده ـ ورواه غيره ـ عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: قرأ عبد الله رضي الله عنه: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12] بضم التاء (عجبتُ)، قال شريح: «إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم»، قال الأعمش: فذكرت لإبراهيم فقال: إن شريحاً كان يعجبه رأيه إن عبد الله كان أعلم من شريح، وكان عبد الله يقرؤها: «بل عجبتُ» (¬1). فشريح اعترض على قراءة الضم، وظنَّ أن صفة العجب لا تجوز على الله، وقد اعترض عليه الأعمش بكون قراءة الضم هي قراءة عبد الله بن مسعود، وعبد الله لم يعترض على معنى هذه القراءة مما يدل على أنه يقول بمعنى هذه القراءة. ونقد القراءات استمرَّ عند العلماء، ولم يخلُ ابن مجاهد في كتابه «السبعة» من نقد القراءات، ففي قراءة ابن عامر (ت118هـ) {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117، آل عمران: 59، مريم: 35] قال: «واختلفوا في قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] في نصب النون وضمها فقرأ ابن عامر وحده {كُنْ فَيَكُونُ} بنصب النون. قال أبو بكر: وهو غلط، وقرأ الباقون «فيكونُ» رفعاً) (¬2). وقال: «قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] قرأ ابن عامر وحده «كن فيكونَ» بالنصب. قال أبو بكر: وهو وهم» (¬3). ¬

(¬1) أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، ورقم الحديث (3661). (¬2) السبعة ص169. (¬3) السبعة ص206، 207.

وقال: «قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} [مريم: 35]. قرأ ابن عامر وحده كن «فيكونَ» نصباً وهذا خطأ في العربية» (¬1). وهذا الذي انتقده ابن مجاهد واعترض عليه قبله غيره من العلماء، وعلى قبولهم سار العمل. وبعد: فإن النظر في تاريخ القراءات يعطي أمرين مهمين: الأول: أن اعتماد التواتر الأصولي لا يصلح في القراءات؛ لأنه قد ثبت وجود أفراد في قراءات السبعة، ولا يوجد أسانيد متواترة لها، وهذا معلوم لا يرتاب فيه من يعرف أسانيد القراءات. والمقصود أن اعتماد الوارد من الأسانيد لا يكفي في بعض أفراد القراءات السبعة أو العشرة في حكاية التواتر فيها، بل إن اعتماد مصطلح التواتر الأصولي مشكل فيها بلا ريب. الثاني: أن اشتهار القراءة، وتلقي علماء هذا الشأن لها بالقبول لها يكفي، لذا لا ترى في علماء الأمة من بقي على إنكار قراءة من القراءات السبع أو المتممة للعشر، بل تلقتها الأمة بالقبول، وهذا التلقي أقوى من القول بالتواتر الأصولي الذي لا ينضبط مع علم القراءات. وهذا ظاهر لمن تأمل تاريخ القراءات، ومما يشير إلى ذلك موقفهم من ابن مقسم (ت:354) وابن شنبوذ (ت:328)، وإنكارهم لمذهبهما الذي خرجا به عن المشهور من مذاهب العلماء في تلقي القراءات. والمقصود ألا نلتزم بمصطلح التواتر الأصولي، بل نقول بأن القرآن وصل إلينا بالنقل المستفيض، وهذه العبارة التي يذكرها ابن جرير الطبري (ت310هـ) كثيراً في كتابه، وكذا ابن مجاهد (ت324هـ)، والداني (ت444هـ)، ومكي (ت437هـ) وجمهور علماء القراءة المتقدمين، أما لفظ ¬

(¬1) السبعة ص409.

التواتر فلم يذكروه، وإنما عبروا بالاستفاضة والشهرة، أو بأنها نقل العامة أو اتفاق العامة. فإن قال قائل: إن بعض العلماء حصل منهم إنكار لبعض القراءات كما وقع من الطبري (ت310هـ) رحمه الله تعالى حيث أنكر قراءة ابن عامر (ت118هـ). نقول: إنكاره لقراءة ابن عامر (ت118هـ) سببه: أن السند الذي عنده فيه مشكلات من جهات، ومنها: 1 - أنه لا يُعرف أن أحداً أخذ القراءة على عثمان، والطريق الذي رواه ابن عامر عن المغيرة عن عثمان بن عفان. 2 - أن في سند قراءة ابن عامر رجلاً مجهولاً من أهل الشام لا يُعرف بالنقل عند أهل النقل، وهو عراك بن خالد المري. وإذا نظرت إلى الأسلوب العلميِّ الذي سلكه الطبري، فإنك ستجده صحيحاً؛ لأن الطبري لم يعترض على قراءة ابن عامر اعتباطاً، بل اعترض بحجة علمية معتبرة. لكن هذا الذي جهله الطبري من رجال السند عرفه غيره، فأهل الشام تلقوا قراءة ابن عامر بالقبول، أما قول الطبري رحمه الله تعالى فغير مقبول في هذا وإن كان إماماً في التفسير وفي القراءات وغيرها، فنحن نحترم العالم، لكننا لا نقبل قوله ما دام خطأً. وهذا يدعونا ألا نحكم على العلماء المتقدمين بأنهم ردوا قراءة متواترة ـ أي: متواترة بالنسبة لنا ـ فلا نقول ـ عندما ردَّ بعض علماء البصرة كالمبرد (ت285هـ) قراءة حمزة (ت156هـ) {الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1]: إن المبرد ردَّ قراءة متواترة؛ لأننا يلزمنا أن نُثبت أنه كان يرى تواترها، ثم ردَّها بعد حكمه بتواترها، ولو كان الأمر كذلك لصحَّ التشنيع عليه؛ لكنه لم يحكم بتواترها فنقول: إنه ردَّ قراءة متواترة.

وهذا يعني أننا حينما نخطّئ العالمَ المتقدمَ على أنه ردَّ قراءةً متواترةً؛ نخطِّئه بمصطلحٍ حدث بعده، ونخطئه بقضية علمية لم تثبت عنده، ونحن لم نبحث عن سبب تخطئته هو للقراءة لكي نفسِّر هذا الأمر ولا نبرره، وهذا مما لا تكاد تجد أحداً من الباحثين حرص على بيانه، وهو مهم جدّاً. ومن يتتبَّع التاريخ سيجد أن الاعتراض على بعض القراءات موجود منذ عهد الصحابة وتتابع من جاء بعدهم على ذلك، لكن لا نقول إن فلاناً قد ردَّ قراءة متواترة إلا إذا ثبت أنه يثبت أنها متواترة ثم يردها، ومن ثَمَّ لا نقول ـ مثلاً ـ: إن عائشة ردَّت قراءة متواترة، وذلك لأنه لم يثبت عندها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ بها، إذا لا يُتصوَّر أن تثبت عندها القراءة ثُمَّ تردُّها. ومما يقرب من مبحث الاعتراض على القراءة موضوع «الترجيح بين القراءات»، وهو قديم الوجود، وقد نشأ مع اختيار الأئمة للقراءات، والاختيار جزء من الترجيح، وغالباً ما يكون الاختيار والترجيح مبنياً على علَّه معينة دعت ذلك إلى هذا الاختيار أو الترجيح، وهذا العمل لم يكن فيه أي ضير عند العلماء، ولم يصدر المنع في الترجيح بين القراءات والتشديد في ذلك إلا متأخراً. وهي مسألة لها تعلق بتفاضل كلام ـ الله سبحانه وتعالى ـ من وجه، والتفاضل ثابت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد أخبر عن فضل بعض سور القرآن وآيه في غير ما حديث. ثمَّ نشأ عن هذا مسألة أخرى أيضاً، وهي هل بعض الجمل أو الآي أبلغ من بعض؟ والقول الصواب في هذا أنه لما كان كلام الله سبحانه وتعالى منزل على كلام العرب، فإنه سيقع التفاضل في البلاغة من جهة، وتقرير ذلك: أن كلام الله كلَّه أبلغ ما يكون، وهو في المرتبة العليا من البلاغة بلا ريب،

لكنه في ذاته يمكن أن يكون بعضه أبلغ من بعض؛ لأنه جارٍ على سَنَنِ كلام العرب، وكلام العرب يتفاضل في البلاغة. أما قول المؤلف رحمه الله: (واعلم أن اختلاف القراء على نوعين: أصول، وفرش الحروف .....)، فهذا ليس له علاقة أو أثر فيما يتعلق بالتفسير، وكلام المؤلف فيها جيد ففيه استيعاب لجمهور ما يتعلق بمسائل علم القراءات، ولذا لن نتكلم عنها.

الباب التاسع: الوقف

الباب التاسع الوقف قال: الباب التاسع: في المواقف، وهي أربعة أنواع: موقف تام، وحسن، وكاف، وقبيح. وذلك بالنظر إلى الإعراب والمعنى، فإن كان الكلام مفتقراً إلى ما بعده في إعرابه أو معناه، وما بعده مفتقراً إليه كذلك لم يجز الفصل بينهما، والوقف على الكلام الأول قبيح، وذلك الفصل بين كل معمول وعامله، وبين كل ذي خبر وخبره، وبين كل ذي جواب وجوابه، وبين كل موصولٍ وصلته، وإن كان الكلام الأول مستقلاًّ يفهم دون الثاني إلا أن الثاني غير مستقل إلا بما قبله. فالوقف على الأول كافٍ، وذلك في التوابع والفضلات كالحال، والتمييز، والاستثناء، وشبه ذلك، إلا أن وصْل المستثنى المتصل آكد من المنقطع، ووصل التوابع والحال إذا كانت أسماء مفردة آكد من فصلها إلا إذا كانت جملة، وإن كان الكلام الأول مستقلاًّ والثاني كذلك، فإن كانا في قصة واحدة فالوقف على الأول حسن، وإن كانا في قصتين مختلفتين فالوقف تام. وقد يختلف الوقف باختلاف الإعراب أو المعنى، ولذلك اختلف الناس في كثيرٍ من المواقف، ومن أقوالهم فيها راجح ومرجوح وباطل، وقد يقف لبيان المراد وإن لم يتم الكلام. تنبيه: هذا الذي ذكرنا من رعي الإعراب والمعنى في المواقف استقر عليه العمل، وأخذ به شيوخ المقرئين، وكان الأوائل يراعون رؤوس الآيات فيقفون عندها لأنها في القرآن كالفِقَر في النَّثْرِ والقَوافِي في الشعر،

ويؤكد ذلك ما أخرجه الترمذي (¬1) عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقطع قراءته يقول: «الحمد لله رب العالمين» ثم يقف «الرحمن الرحيم» ثم يقف (¬2). ذكر المؤلف عدداً من أنواع الوقف وهي: الوقف التام والحسن والكافي والقبيح، وسأرتب هذه المصطلحات، وأذكر تعريفاتها على المشهور عن أهل هذا الفنِّ، ثم أذكر أمثلة موضحة لها ليتمَّ المراد. أولاً: الوقف التام: ذكر المؤلف الوقف التام، فقال: (وإن كان الكلام مستقلاًّ والثاني كذلك، فإن كانا في قصة واحد فالوقف على الأول حسن، وإن كانا في قصتين مختلفتين فالوقف تام). وهو كذلك عند الجمهور، وهو ما كان الاستقلال فيه تاماً بين الجملتين كالوقف على قوله سبحانه وتعالى: {الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5]، ثم البدء بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 6] فهذه الجملة ليس لها علاقة من جهة الإعراب أو المعنى بالآية التي قبلها؛ لأن ما قبلها قصة عن الذين آمنوا، وهذه بداية قصة عن الكفار. وضابط الوقف التام أن تستقل الجملة الثانية بالابتداء استقلالاً تاماً يفهم منها المخاطب الانقطاع التام كأغلب مواطن النداء بـ {يَاأَيُّهَا} فإنه يدل على الانفصال التام بين ما قبلها وما بعدها. ¬

(¬1) التسهيل 1/ 92، 93. (¬2) أخرجه الترمذي، كتاب فضائل القرآن، برقم (2923).

ثانياً: الوقف الكافي: ذكر المؤلف وصفه للوقف الكافي، فقال: (وإن كان الكلام الأول مستقلاًّ يفهم دون الثاني إلا أن الثاني غير مستقل إلا بما قبله. فالوقف على الأول كافٍ، وذلك في التوابع والفضلات كالحال والتمييز والاستثناء وشبه ذلك إلا أن وصل المستثنى المتصل آكد من المنقطع، ووصل التوابع والحال إذا كانت أسماء مع ذاتٍ آكد من وصلها إلا إذا كانت جملة)، وهذا الذي قاله أشبه بالوقف الحسن عند الجمهور؛ لأن التوابع ألصق بالوقف الحسن والقبيح من غيرهما. الوقف الكافي عند الجمهور: هو ما كان فيه ارتباط من جهة المعنى وليس من جهة الإعراب كالوقف عند قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] فهناك ارتباط في المعنى بين الجملتين، لكن من حيث الإعراب هي جملة إعرابية تامة، ومن ضوابط الوقف الكافي وجود الروابط اللفظية غير الإعرابية مثل الضمائر في {قُلُوبِهِمْ}، و {سَمْعِهِمْ} فهي تدلُّ أن الحديث عن سابقين في هذا السياق. مثال آخر: الوقف عند قوله: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}، ثم البدء بقوله: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] ففيه ارتباط بما قبله من جهة المعنى؛ سواء كان قوله: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} من كلام الله أو من كلام بلقيس على حسب الخلاف الوارد عند المتأخرين في التفسير. فائدة: لما أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم ابن مسعود (ت32هـ) أن يقرأ عليه سورة النساء، ووصل إلى قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «حسبك

الآن»، وقطع ابن مسعود القراءة، وهذا القطع على وقف كافٍ، وليس على وقف تامٍّ؛ لأن بعده قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]، وهذا مرتبط بما قبله من جهة المعنى؛ لأن السياق لم ينتهِ في الحديث عن هذا الموقف العظيم، وإنما يكون الوقف التامُّ على قوله تعالى: {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}؛ لأن الذي بعده النداء الدال على التمام، وهو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 41 - 43]، وهذه جملة جديدة منفصلة انفصالاً تاماً عما قبلها. ثالثاً: الوقف الحسن: ذكر المؤلف الوقف الحسن بقوله: (وإن كان الكلام مستقلاًّ والثاني كذلك، فإن كانا في قصة واحدة فالوقف على الأول حسن، وإن كانا في قصتين مختلفتين فالوقف تام). وهذا الذي قاله في الوقف الحسن هو الوقف الكافي عند الجمهور، قالوا: هو ما يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء بما بعده لارتباطه به من جهة الإعراب؛ كالوقف عند قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2]، فالحسن هو ما كان معنى الجملة الموقوف عليها تاماً من جهة الإعراب، لكن لا يحسن البدء بما بعده؛ لأن ما بعدها مرتبط بها من جهة الإعراب؛ كالبدء بقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ}. رابعاً: الوقف القبيح: الوقف القبيح عند المؤلف: (فإن كان الكلام مفتقراً إلى ما بعده في إعرابه أو معناه، وما بعده مفتقراً إليه كذلك لم يجز الفصل بينهما، والوقف على الكلام الأول قبيح)، ويمكن أن يتلخَّص في الوقف القبيح نوعان:

1 - الفصل بين متلازمين؛ كالفصل بين كل معمولٍ وعامله وبين كل ذي خبر وخبره، كما في قوله سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2]، فمن قرأ وقال: {الْحَمْدُ}، ثم سكت، فإن الوقف لا يُفهم معنى، فالحمد مبتدأ لم يجئ خبره، وفصله عن خبره فصل بين أمرين بينهما ترابط شديد. وكذلك في قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} لو وقفت على {رَبِّ} فلن يُفهم معنى من هذا الوقف. 2. إدخال ما ليس من الجملة فيها، وهذا لم يذكره المؤلف، وهو الوقف على كلمة تدخل في حكم ما قبلها وهي خارجة عنه، كما لو وقف على في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى} [الأنعام: 36]، فالوقف هنا قبيح؛ لأنك تثبت للموتى سماعاً، والسماع إنما هو للذين يسمعون فقط. خلاصة: الخلاف في مواطن الوقوف وفي أنواعها كثيرٌ جدّاً، لكن هذه الوقوف الأربعة هي التي تذكرها أغلب كتب الوقوف، وهي مرتبطة بالإعراب والمعنى كما يأتي: أولاً: إذا وجد الرابط الإعرابي فعندنا احتمالان في نوع الوقف: الأول: أن يكون الوقف حسناً، إن كان الموقوف عليه جملة تامة بنفسها. الثاني: أن يكون الوقف قبيحاً، إن كان الموقوف عليه جملة ناقصة في الإعراب. ثانياً: إذا انعدم التعلق الإعرابي فعندنا في الوقف احتمالان: الأول: أن يكون تاماً، وذلك إذا انعدم الارتباط بالمعنى، وكان كل كلام مستقلٍّ بذاته.

الثاني: أن يكون كافياً وذلك إن وجدت الروابط اللفظية غير الإعرابية؛ كالضمائر. قول المؤلف: (وقد يختلف الوقف باختلاف الإعراب أو المعنى)، وهذا كثير، وهو أحد أسباب الاختلاف في الوقف التام والوقف الكافي في كثير من مواضعه على رأي الجمهور في تعريف الوقف الكافي، بل قد يكون الاختلاف في موطن بين مواقف ثلاثة: «التام والكافي والحسن»، ومن ذلك ما ورد في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1]، قال زكريا الأنصاري في المقصد: «{وَمَا فِي الأَرْضِ} حسن، وقال أبو عمرو: «كاف، وقيل: تام» (¬1)، ولا شكَّ أن مثل هذا الاختلاف مبني على الاختلاف في النظر في الإعراب والمعنى. قول المؤلف: (ولذلك اختلف الناس في كثيرٍ من المواقف، ومن أقوالهم فيها راجح، ومرجوح، وباطل)، أما الباطل، فإدراكه أسهل من إدراك الراجح من المرجوح؛ لأنه يقع الخلاف في الوقف ـ كما سبق ـ ويحتاج الأمر إلى مرجحات. ومن باب الفائدة، فإن كلام المؤلف هذا يشير إلى أمر مهم، وهو أن الوقف والابتداء من آثار فهم المعنى «التفسير»، والعجيب أن يستملح بعض القراء بعض الوقوفات الباطلة، ويرتكب في هذا مخالفة معنى الآية ونظمها، كمن يقف على لفظة {فِيمَ} من قوله تعالى: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43]، ثم يبتدئ بقوله: {أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} على أنه خطاب مبتدأ موجه للنبي صلّى الله عليه وسلّم على معنى: أنت يا محمد من ذكراها، ويستدل لذلك بمثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار ¬

(¬1) المقصد لأبي زكريا الأنصاري، طبعة دار المصحف ص85.

بالوسطى والسبابة» (¬1). والمعنى الصحيح لهذه الآية: في أيّ شيء أنت من ذكر الساعة والبحث عن شأنها، إنما أنت منذر من يخاف هذه الساعة. قول المؤلف: (وقد يقف لبيان المراد، وإن لم يتم الكلام). هذا الوقف يسميه بعض من كتب في الوقف والابتداء وقف البيان، وهو أن يقف ليبين معنى لا يبين إلا بالوقوف عليه، أو أن يقف على كلمة وكأنه واقف واصل؛ أي: بلا قطع نفس. والأول أولى، وهو شبيه بالوقف اللازم عند السجاوندي، وعلامته في المصحف (م) كما في الوقف على قوله: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36]، لكن عدم تمام الكلام لا يكون إلا إذا كان من قبيل الوقف الكافي، أما إذا كان من قبيل الوقف القبيح، فإنه لا يمكن أن يوجد وقف بيان يصح الوقف عليه لأجل بيان معنى ما؛ لأن القبيح لا يمكن أن لا يكون قبيحاً، والله أعلم. ويمكن التمثيل له بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 29]. فالوقف على لفظ الجلالة (يعلمه الله) وقف بيان؛ لأن الفعل {يَعْلَمْهُ} مجزوم بإن الشرطية، والفعل «ويعلمُ» في الجملة التي بعدها مرفوع، وهو مستأنف، وليس معطوفاً على الفعل السابق، فالوقف يبين الفرق بين الفعلين في الإعراب. ¬

(¬1) أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: (بعثت أنا والساعة كهاتين)، ورقم الحديث (6503).

الباب العاشر: الفصاحة والبلاغة وأدوات البيان

الباب العاشر الفصاحة والبلاغة وأدوات البيان قال المصنف: الباب العاشر في الفصاحة والبلاغة وأدوات البيان، أما الفصاحة فلها خمسة شروط: الأول: أن تكون الألفاظ عربية، لا مما أحدثه المولدون ولا مما غلطت فيه العامة. الثاني: أن تكون من الألفاظ المستعملة لا من الوحشية المستثقلة. الثالث: أن تكون العبارة واقعة على المعنى موفية له لا قاصرة عنه. الرابع: أن تكون العبارة سهلة سالمة من التعقيد. الخامس: أن يكون الكلام سالماً من الحشو الذي لا يحتاج إليه، وأما البلاغة فهي سياق الكلام على ما يقتضيه الحال والمقام من الإيجاز والإطناب، ومن التهويل، والتعظيم، والتحقير، ومن التصريح، والكناية، والإشارة، وشبه ذلك بحيث يهز النفوس، ويؤثر في القلوب، ويقود السامع إلى المراد أو يكاد، وأما أدوات البيان فهي صناعة البديع، وهي تزيين الكلام كما يزين العَلَم الثوب، وقد وجدنا في القرآن منها اثنين وعشرين نوعاً، ونبهنا على كل نوعٍ في المواضع التي وقع فيها من القرآن، ونذكر هنا أسماءها ونبين معناها. الأول: المجاز، وهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينهما وهو اثنا عشر نوعاً: التشبيه والاستعارة، والزيادة والنقصان، وتشبيه المجاور باسم مجاوره، والملابس باسم ملابسه، وإطلاق اسم الكل على البعض وعكسه، وتسمية السبب باسم المسبب وعكسه، والتسمية باعتبار ما

يستقبل، والتسمية باعتبار ما مضى، وفي هذا خلاف هل هو حقيقة أو مجاز؟ واتفق أكثر أهل علوم اللسان وأهل الأصول على وقوع المجاز في القرآن؛ لأن القرآن نزل بلسان العرب، وعادة فصحاء العرب استعمال المجاز، ولا وجه لمن منعه؛ لأن الواقع منه في القرآن أكثر من أن يحصى. الثاني: الكناية، وهي العبارة عن الشيء بما لا يلازمه من غير تصريح. الثالث: الالتفات، وهو على ستة أنواع: خروج من التكلم إلى الخطاب، أو الغيبة، وخروج من الخطاب إلى التكلم، أو الغيبة، وخروج من الغيبة إلى التكلم، أو الخطاب. الرابع: التجريد، وهو ذكر شيء بعد اندراجه في لفظ عام متقدم، والقصد بالتجريد تعظيم المجرد ذكره، أو تحقيره، أو رفع الاحتمال. الخامس: الاعتراض، وهو إدراج كلامٍ بين شيئين متلازمين كالخبر والمخبر عنه، والصفة والموصوف، والمعطوف والمعطوف عليه، أو إدخاله في أثناء كلام متصل، والقصد به تأكيد الكلام الذي أدرج فيه. السادس: التجنيس، وهو اتفاق اللفظ مع اختلاف المعنى، ثم إن الاتفاق قد يكون في الحروف والصيغة أو في الحروف خاصة، أو في أكثر الحروف لا في جميعها، أو في الخط لا في اللفظ، وهو تجنيس التصحيف. السابع: المطابقة، وهو ذكر الأشياء المتضادة كالسواد والبياض والحياة والموت، والليل والنهار، وشبه ذلك. الثامن: المقابلة، وهو أن يجمع بين شيئين متصاعداً، ثم يقابلهما بأشياء أخر. التاسع: المشاكلة، وهي أن تذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته.

العاشر: الترديد، وهو رد الكلام على آخره، ويسمى في الشعر: رد العَجُز على الصدر. الحادي عشر: لزوم ما لا يلزم، وهو أن تلتزم قبل حروف الروي حرفاً آخر، وكذلك عند رؤوس الآيات. الثاني عشر: القلب، وهو أن يكون الكلام يصلح ابتداء قراءته من أوله وآخره نحو: دعد، أو تعكس كلماته فتقدم المؤخر منها وتؤخر المقدم. الثالث عشر: التقسيم، وهو أن تقسم المذكور إلى أنواعه أو أجزائه. الرابع عشر: التتميم، وهو أن تزيد في الكلام ما يوضحه أو يؤكده وإن كان مستقلاًّ دون هذه الزيادة. الخامس عشر: التكرار، وهو أن تضع الظاهر موضع المضمر فتكرر الكلمة على وجه التعظيم، أو التهويل، أو لمدح المذكور، أو ذمه، أو للبيان. السادس عشر: التهكم، وهو إخراج الكلام عن مقتضاه استهزاءً بالمخاطب أو بالخبر ككلام البشارة موضع النذارة. السابع عشر: اللف والنشر، وهو أن تلف في الذكر شيئين فأكثر، ثم تذكر متعلقاتها وفيه طريقتان: أن تبدأ في ذكر المتعلقات بالأول، وأن تبدأ بالآخر. الثامن عشر: الجمع، وهو أن تجمع بين الشيئين فأكثر في خبر واحدٍ وفي وصفٍ واحد وشبه ذلك. التاسع عشر: الترصيع، وهو أن تكون الألفاظ في آخر الكلام مستوفية الوزن أو متقاربة مع الألفاظ التي في أوله. العشرون: التسجيع، وهو أن يكون كلمات الآية على رَوِيِّ حرف واحد.

الحادي والعشرون: الاستطراد، وهو أن يتطرق من كلام إلى كلامٍ آخر، بوجه يصل ما بينهما ويكون الكلام الثاني هو المقصود كخروج الشاعر من النسيب إلى المدح بمعنى يتعلق بالطرفين مع أنه إنما قصد المدح. الثاني والعشرون: المبالغة، وقد تكون بصيغة الكلمة نحو: صيغة فعال ومفعال، وقد تكون بالمبالغة في الأخبار أو الوصف، فإن اشتدت المبالغة فهو غلو وإغراق، وذلك مستكره عند أهل الشان (¬1). قول المؤلف في شروط الفصاحة: (أن تكون الألفاظ عربية، لا مما أحدثه المولدون ولا مما غلطت فيه العامة)، هذه المسألة ليس لها علاقة بفصاحة القرآن وإنما يتكلم المؤلف عن الفصاحة من حيث العموم؛ ولهذا ذكر هذه المسألة، وليس لها علاقة بالقرآن؛ لأن ألفاظ القرآن قبل المولدين وقبل المُحْدِثين. وقد أشار المؤلف إلى ثلاثة مصطلحات وهي: الفصاحة، والبلاغة، وأدوات البيان. وهذه المصطلحات الثلاثة التي ذكرها ترجع إلى باب البلاغة، والمؤلف لم يذكر التقسيم الذي نعرفه اليوم، وهو: علم المعاني وعلم البديع وعلم البيان، فهذه المصطلحات والتقسيمات لم يُعْمِلها كما لم يعملها من كان قبله، بل هي تحريرات متأخرة. بعد أن تحدث المؤلف عن شروط وقيود الفصاحة ذكر أن البلاغة هي سياق الكلام على ما يقتضيه الحال والمقام، فقد يقتضي الحالُ الإيجاز أو يقتضي الإطناب، ومن البلاغة اختيار الألفاظ في الأماكن المناسبة لها، وهي تدل على براعة المتكلم. ¬

(¬1) التسهيل 1/ 94 - 97.

ثم ذكر أدوات البيان وأنها علم البديع التي تكون محسنة للكلام البليغ، مثل الطباق والمقابلة وغيرها من المحسنات البديعية. أما ما يتعلق باستعمال الألفاظ، فالقرآن لم يستخدم لفظة وحشية، وإن كان فيه ألفاظ فيها غرابة من جهة المعنى، وألفاظ فيها ثقل من جهة النطق؛ لكنها ليست من الألفاظ المستكرهة، وإذا تأملت بعض هذه الألفاظ ستجد أنها تؤدي الغرض المقصود منها من جهة البلاغة، مثل قوله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة: 38] لفظة {اثَّاقَلْتُمْ} لفظة ثقيلة أخف منها (تثاقلتم)، ولكن عُبِّرَ بـ {اثَّاقَلْتُمْ} لتشير إلى الحالة التي تدل على أن هذا الإنسان قد لزق بالأرض حتى لا يكاد يقوم، ولا يمكن أن تؤدي هذه الصورة لفظة «تثاقلتم»؛ لأن التثاقل يدل على محاولة القيام لكن فيه ثقل، أما {اثَّاقَلْتُمْ} فهي تدل على اللصوق بالأرض لصوقاً تاماً، وهذه الكلمة لو وضعت في مكان آخر ما صلحت لكنها في هذا الموطن صالحة وتؤدي المعنى الذي جاءت من أجله، ولو غيرت بلفظة أخرى ما استقامت الجملة على المعنى الذي هي به من جهة هذه اللفظة. ولا شك أن القرآن قد وصل في اختيار الألفاظ إلى الحد الأعلى الذي لا يمكن أن يوجد في كلام متكلم؛ ولهذا يستدرك الناس على أعظم أهل البيان من الشعراء وغيرهم في اختياراتهم، لكن لا يمكن أن يستدرك على القرآن في كلمةٍ واحدة، ولا يمكن أن يقال: إن هذه اللفظة لو كان بدلاً منها تلك اللفظة لكانت أبرع. ومن المستدركات على بعض الشعراء ما استدرك على امرئ القيس في لاميته في قوله (¬1): ¬

(¬1) ديوان امرئ القيس، ص65، 66.

وَجيدٍ كَجيدِ الرِئمِ لَيسَ بِفاحِشٍ ... إِذا هِيَ نَصَّتهُ وَلا بِمُعَطَّلِ وَفَرعٍ يَزينُ المَتنَ أَسوَدَ فاحِمٍ ... أَثيثٍ كَقِنوِ النَخلَةِ المُتَعَثكِلِ غَدائِرُها مُستَشزِراتٌ إِلى العُلا ... تَضِلُّ المدارى في مُثَنًّى وَمُرسَلِ فقوله: (غَدائِرُها مُستَشزِراتٌ) إن امرؤ القيس يتحدث عن امرأة خرجت في التوِّ من الاغتسال، فالمشط عندما يُجرى على الشعر ويتجه في تمشطه إلى الأعلى ففيه صعوبة، وانظر إلى العبارات التي ذكرها بعض العلماء في نقد هذا، فيقول البغدادي (ت1093هـ): «وهذا البيت استشهد به صاحب تلخيص المعاني على أن في «مستشزرات» تنافراً لثقلها على اللسان، وعسر النطق بها» (¬1)، وقال في «صبح الأعشى»: «الصفة الثالثة من صفات اللفظ المفرد الفصيح: ألا يكون متنافر الحروف فإذا كانت حروفه متنافرة بحيث يثقل على اللسان ويعسر النطق به فليس بفصيح، ثم ذكر هذا البيت وقال بعده: فلفظ «مستشزرات» من المتنافر الذي يثقل على اللسان ويعسر النطق به» (¬2). قال الوزير ضياء الدين بن الأثير (ت637هـ) في المثل السائر: «فلفظة مستشزرات مما يقبح استعمالها؛ لأنها تثقل على اللسان ويشق النطق بها ـ ثم قال ـ: ولقد رآني بعض الناس وأنا أعيب على امرئ القيس هذه اللفظة فأكبر ذلك لوقوفه مع شبهة التقليد في أن امرأ القيس أشعر الشعراء، فعجبت من ارتباطه بمثل هذه الشبهة الضعيفة وقلت له: لا يمنع إحسان امرئ القيس من استقباح ما له من القبح بل مثال ذلك كمثال غزال المسك فإنه يخرج منه المسك والبعر ولا يمنع طيب ما يخرج من مسكه من خبث ما يخرج من بعره، ولا تكون لذاذة ذلك الطيب حامية للخبيث من الاستكراه، قال: فأُسكت الرجل عند ذلك» (¬3). ¬

(¬1) خزانة الأدب، للبغدادي 1/ 131. (¬2) صبح الأعشى، للقلقشندي 2/ 255. (¬3) المثل السائر، لابن الأثير 1/ 192.

هذا ما قاله النقاد في بيت امرئ القيس، وهناك وجه آخر لو نظرنا إليه لاختلف الحكم، وهو أن هذه اللفظة مع استثقالها جاءت في مكانها البليغ التام من جهة دلالتها على المعنى وتصويرها للحال، فالمرأة إذا كان شعرها طويلاً وغسلته فإنه يتجعد ويدخل بعضه في بعض، فإذا أجرت عليه المشط كان إجراؤه صعباً، فهذه الحالة الصعبة تمثلها لفظة «مستشزرات»، فالتعبير بهذه اللفظة لمناسبة الحال من شعر المرأة، ومناسبة اللفظة للحال من تمام البلاغة، والله أعلم. ثم تكلم المؤلف عن علوم البلاغة التي استنبطها وهي موجودة في القرآن وعدَّتها عنده اثنان وعشرون نوعاً، ويلاحظ على هذه الأنواع ما يأتي: الأول: أن بعض الأنواع التي ذكرها ليس موجوداً في القرآن. الثاني: أن بعض الأنواع التي ذكرها قد لا يكون له أثر في بيان المعاني وإنما أثره في حسن الكلام من جهة البلاغة؛ ولذا نقول: ليس كل نوع من أنواع علوم البلاغة يستفاد منه في بيان المعاني «التفسير»، وإنما يستفاد من علم البلاغة لبيان «إعجاز القرآن». وإذا كانت المسألة البلاغية تؤثر على المعنى فإنها تكون من باب بيان المعاني «التفسير»، ومن أنواع علوم البلاغة في آن واحدٍ. وقد تحدث المؤلف عن النوع الأول من أنواع علم البلاغة في القرآن وهو المجاز فقال: (الأول: المجاز وهو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينهما) إلى أن قال: (واتفق أهل العلم واللسان وأهل الأصول على وقوع المجاز في القرآن لأن القرآن نزل بلسان العرب، وعادة فصحاء العرب استعمال المجاز، ولا وجه لمن منعه؛ لأن الواقع منه في القرآن أكثر من أن يحصى). سبق أن المؤلف قال في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7]

قال: «إن هذا مجاز باتفاق» (¬1)، فقوله: إن المجاز موجود باتفاق، ليس بصحيح؛ لأن هناك من خالف في وقوع المجاز، ولهذا قوله: (واتفق أهل العلم واللسان وأهل الأصول على وقوع المجاز في القرآن)، رأي له، لكن المخالف لا يرى أنه مجاز بل هو حقيقة عنده، والمؤلف يرى أنه لا يوجد مخالف في ذلك، والحقيقة أنه يوجد مخالف، وكون المخالفين أقل من المجيزين، فإن هذا لا يمنع من اعتبار رأيهم لا سيما أنهم جبال في العلم مثل ابن خويز منداد (ت390هـ) من المالكية وغيره، وتبعه من العلماء شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ)، ثم تلميذه ابن القيم (ت751هـ)، ثم من المعاصرين الشيخ محمد الأمين (ت1393هـ) رحمهم الله تعالى جميعاً. أما ما يتعلق بأصل الوضع في الحقيقة ثم النقل إلى المجاز فهي قضية تاريخية تحتاج أن تثبت، وهذا من الحجج التي رد بها المانعون للمجاز، فما هو الدليل التاريخي على أن المراد بالكتاب: المكتوب والمسطور في الكتب، فقد يكون أصل المادة هو الجمع، وسمي المكتوب كتاباً؛ لأن فيه معنى الجمع. والمجيزون يقولون: عندنا قاعدة وهي أن المجاز إذا شاع استعماله صار حقيقة، ومما يدل على الحقيقة أن الذي يتبادر إلى أذهان الناس كما في الكتاب أنه المكتوب، وكوننا لا نعرف أصل الكلمة لا يمنع من وجود معنى أغلبي يمكن أن يتفق عليه كثير من علماء اللغة فيكون هو المعنى المراد، وهذا ليس فيه إشكال، والإشكال في تسمية انتقال استعمال الكلمة من معناها المشهور إلى معنى آخر هل يسمى حقيقة أو مجازاً؟ أهل المجاز يسمونه مجازاً، وأهل الحقيقة لا يسمونه مجازاً بل ¬

(¬1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 1/ 70.

يسمونه توسعاً في كلام العرب كما يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي. ونقول: إنكار المجاز صعب، ومصادرةُ أقوالِ الآخرين الذين لا يرون المجاز صعبٌ أيضاً، وأرى أن المشكلة ليست في تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز بل المشكلة في القرينة وهي التي استخدمها أصحاب المجاز في تعطيل الصفات، وبعضهم استخدمها في تعطيل الأسماء، وبعضهم استخدمها في تعطيل أمور الآخرة، فالقرينة هي التي جعلت المانعين للمجاز يمنعونه، والمجاز والتأويل قرينان فلا يكون تأويل إلا بمجاز؛ ولا يكون مجاز إلا بقرينة، لكن هذه القرينة قد يختلف عليها أصحاب المجاز، وقد تكون القرينة، غير صحيحة كقولهم في أسماء الله وصفاته إنها مجاز، والقرينة هي خوف التشبيه كما في قوله سبحانه وتعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] يقولون: يداه، أي: نعمتاه أو قدرتاه. فقرينة خوف التشبيه ليست قرينة صحيحة؛ لأن تفسيرها بهذا التفسير «نعمتاه أو قدرتاه» يجعل موضع {يَدَاهُ} ليس لها أي معنى، ثم إنه ابتعد عن إثبات الله لليد كما أثبته لنفسه خشية التشبيه والتجسيم، ثم وصفه بالقدرة، والعبد له قدرة فنقول له: أوِّل القدرة، فإن قال: لا، قدرة الله غير قدرة العبد، قلنا: يد الله صفة ليست كيد المخلوق، فالإشكالية في المجاز هي في القرينة، فنحن لا نصحح هذه القرينة، ولذا لا نقول بالمجاز في أسماء الله ولا في صفاته ولا في أمور المعاد التي وقعت عند كثير من المتكلمين. هذا إذا سلمنا لهم بالقول بالمجاز، أما القول بالمنع فهو قطع للطريق من أوله، وجعلُ الكلام كله على الحقيقة فلا مجاز. فإن قال قائل: إن المجاز يمكن أن يكذب. نقول: هذه القاعدة ليست بصحيحة وليست على إطلاقها؛ لأن الأصل في أخبار الله سبحانه وتعالى الصدق.

تنبيهات: الأول: عدم الأخذ بالمجاز في أسماء الله وصفاته والغيبيات لا يعني عدم الأخذ به أيضاً في تفسير كلام الله، فإن حمل قوله تعالى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77] على المجاز لا يورث مشكلة من جهة المعنى، وليس فيها تحريف لكتاب الله، فإذا قيل: الجدار ليس له إحساس، والإرادة من عمل العقلاء فهذا صارف له عن الحقيقة، فإن هذا لا يؤثر على المعنى، بخلاف القول بالمجاز في أسماء الله وصفاته؛ لأنه ينفي معانيها ودلالاتها عن اللائق بها. الثاني: معرفة الحقيقة من المجاز يكون بكثرة الاستعمال في الحقيقة، أو يكون هو المتبادر للذهن، فإذا قلت كلمة «عين» فإن أول ما يتجه الذهن إليه هو العين الباصرة. وكون العين وضعت في اللغة الأولى للعين الباصرة، فإنه يرجع إلى مسألة أصل اللغات أي: هل اللغة توقيفية أو اصطلاحية؟ لكن الذي يدل عليه الدليل النقلي أن أصل اللغات توقيفي ثم دخله الاصطلاح، ولذلك أدلة: 1 - أن هذه الألفاظ العربية منطوق بها في السماء، فإن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم عليه السلام ونفخ فيه الروح، عطس آدم، فقال: «الحمد لله، فقال له ربه: رحمك الله يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة إلى نفرٍ منهم وسلِّم عليهم، فلما ذهب قال: السلام عليكم، فردوا عليه: وعليكم السلام ورحمة الله» (¬1). 2 - قضية الاشتقاق، فآدم لفظ مشتق؛ إما من الأُدْمَةِ وهي السُّمرَة ¬

(¬1) أخرجه الترمذي في كتاب التفسير من حديث أبي هريرة، ورقم الحديث (3368)، وقال عنه: حسن غريب، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح.

أو من أديم الأرض الذي هو التراب، وهذا يشير إلى أن اللغة التي تكلم بها آدم لغة اشتقاق، ومن قال: بأنها سريانية، فإنها تسمية لا تخرج بالاسم عن الأصل المقصود الذي ذكرته، وهو كونها لغة اشتقاقية بأي اسم سميت هذه اللغة. وآدم عليه السلام قد نطق بهذه اللغة الاشتقاقية منذ أن خلقه الله، وانظر إلى قوله للملائكة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ردوا عليه بمثله، وإذا كانت الأسماء لا تتغير، فإنه قد نطق باسم الجلالة كما نعرفه اليوم، وكذا اسم السلام. وكذا ورد في الحديث: «قال الله عزّ وجل: أنا الرحمن وأنا خلقت الرحم واشتققت لها من اسمي» (¬1)، أي: من الرحمن والرحيم، فالاشتقاق هذا هو الذي جعل اللغة التي تكلم بها آدم تستمر إلى يومنا هذا، وإن كان بعض اللغات حدث فيها تغيير كبير حتى خرجت عن لغة الاشتقاق، وفقدته برمته، ولذلك أسباب تاريخية يمكن دراستها في غير هذا الموضع. وإذا تأملت اللغات التي يتكلم بها الناس فإنك ستجد أن اللغة العربية أسعد اللغات حظاً بهذه اللغة الاشتقاقية الأولى؛ لأن أصولها ممتدة من جهة الاشتقاق إلى أمدٍ سحيق، فهي لغة أنبياء العرب كالنبي صالح، شعيب، وهود عليهم السلام وهم قبل إبراهيم؛ أي: قبل اليهود، بل ستجد أنها قبل هؤلاء كلهم، فهذه أسماء أصنام قوم نوح عربية {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]، وقوم نوح بينهم وبين آدم عشرة قرون، كما ورد عن ابن عباس، وهذا يشير إلى أن اللغة الاشتقاقية الآدمية كانت موجودة في قوم نوح عليه السلام، وأن أصول كلام العرب كان ممتداً إلى قوم نوح. ¬

(¬1) أخرجه أحمد في مسند عبد الرحمن بن عوف، ورقم الحديث (1681) 3/ 213.

وبقاء الاشتقاق في اللغة التي تكلم بها آدم هو الذي ولَّد هذه اللهجات المتكاثرة، وكذا ولَّد معاني جديدة حسب الحاجة التي يحتاجها الناس، وحسب ما يقوم عندهم من حضارات مادية تحتاج إلى أسماء جديدة. وإذا نظرت إلى تاريخ حدوث المسميات، فإنك ستجد المجاز يطلُّ عليك؛ لأن الحقيقة هي أول ما يتبادر إلى الذهن عند جمهور الناس، أو ما يُجمَع أو يتفق عليه كثير من علماء اللغة، ثم إن بعض المجازات قد تكون أصلاً إذا كثر استعمالها، ولهذا إذا رجعت إلى كتاب ابن فارس (ت395هـ) في مادة «لبس» تجد أن أصلها الاختلاط (¬1)؛ وفي قولنا: «لبست الثوب» اختلف العلماء هل هو من الستر أو الاختلاط؟، وإذا نظرت إلى مادة «لباس»، فإنها ترجع إلى لبس الثوب، مع أنه ليس هو الأصل. وإذا قرأت قولهم في بيان بلاغة قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] يقول ابن جزي: «تشبيه بالثياب لاشتمال كل واحد من الزوجين على الآخر» (¬2)، فذكر أنه مجاز، وهذا فيه نظر، بل هو حقيقة، لكننا لما غفلنا عن الأصل الأول الذي هو الستر أو الاختلاط، ظننا أنه لا علاقة له بمعنى اللباس هنا، وذهبنا إلى أن التشبيه باللباس الذي يُلبس؛ لأنه هو الأشهر والأظهر من الاستعمال في مادة «لباس». فإذا أثبتنا أن هذا هو الحقيقة لكثرة الاستعمال أو لكونه المتبادر إلى الذهن فهذه قضية يتسامح فيها، ولا يمكن أن نصل إلى علم يقيني مطلقٍ فيها، والمسألة فيها اجتهاد، وهي حكم بغلبة الظن. ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة، 912. (¬2) التسهيل (تحقيق الخالدي) 1/ 111.

قوله: (الثاني: الكناية، وهي العبارة عن الشيء بما لا يلازمه من غير تصريح). الكناية فيها خلاف هل وقعت في القرآن أو لا؟ وهناك كتاب معاصر ذهب مؤلفه أن القرآن ليس فيه كناية، لكن نقول: كلام الله سبحانه وتعالى فيه عبارات عن أشياء من غير تصريح فلما قال الله سبحانه وتعالى: {كَانَا يَاكُلاَنِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] عن «عيسى وأمه» فابن عباس يقول: «إن الله يكني» كأنه يقول: إن الله أراد التنبيه على أن من يأكل الطعام يحتاج إلى إخراج، ومن يكون بهذه المثابة فإنه فقير محتاج إلى هذا، والله هو الغني، فهو منزه عن أن يكون ممن يحتاج إلى طعام. والإشارة إلى لازم الأمر كنايةً ليس فيه إشكال فهي موجودة في القرآن، قال ابن عباس (ت68هـ): «إن الله حييٌ يَكْنِي عن الأمر». قوله: (الثالث: الالتفات. وهو على ستة أنواع: خروج من التكلم إلى الخطاب، أو الغيبة. وخروج من الخطاب إلى التكلم، أو الغيبة. وخروج من الغيبة إلى التكلم، أو الخطاب). الالتفات هو انتقالٌ من خطابٍ إلى خطاب، وهو من أنواع البلاغة النفيسة جداً، كما في قوله سبحانه وتعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 2 - 4] هذا كلام عن غائب، ثم انتقل إلى الكلام عن حاضر بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، فصار فيه التفات من الحديث عن الغائب للحديث مع المخاطب (¬1). ¬

(¬1) ذكر ابن جزي هذا الالتفات، فقال: «الفائدة الرابعة عشرة ذكر الله تعالى في أول هذه السورة على طريق الغيبة ثم على الخطاب في إياك نعبد وما بعده وذلك يسمى الالتفات، وفيه إشارة إلى أن العبد إذا ذكر الله تقرب منه فصار من أهل الحضور فناداه».

وفي قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ *ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 61، 62] قال ابن جزي: («ثم ردوا» خروج من الخطاب إلى الغيبة). وفي قوله تعالى: {طه *مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى *إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 1 - 3]. قال ابن جزي: «وبدأ السورة بلفظ المتكلم في قوله: {مَا أَنْزَلْنَا}، ثم رجع إلى الغيبة في قوله: {تَنْزِيلاً مِمَنْ خَلَقَ الأَرْضَ} الآية، وذلك هو الالتفات». والالتفات بأنواعه التي ذكرها ابن جزي كثير في القرآن، وقد كُتب فيه كتب عديدة. قوله: (الرابع: التجريد، وهو ذكر شيء بعد اندراجه في لفظ عام متقدم، والقصد بالتجريد تعظيم المجرّد ذكْرُه، أو تحقيرُه، أو رفعُ الاحتمال). التجريد شبيه بمسألة ذكر الخاص بعد العام، وهو عبَّر عنها بهذا المصطلح، وذكر أغراضه الثلاثة التي نصَّ عليها، ومن أمثلة ذلك ما ورد في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98]، فجبريل وميكائيل من الملائكة، وذِكْرُهُم ـ بعد ذلك ـ من ذِكْرِ شيءٍ بعد اندراجه في لفظ عام، وهم الملائكة، ثم خصهم بالذكر لتعظيمهم. قوله: (الخامس: الاعتراض، وهو إدراج كلامٍ بين شيئين متلازمين كالخبر والمخبر عنه، والصفة والموصوف، والمعطوف والمعطوف عليه، وإدخاله في أثناء كلام متصل، والقصد به تأكيد الكلام الذي أدرج فيه).

هذا ما يسمى الجملة المعترضة، وهو من محاسن البلاغة؛ لأن الاعتراض له مقاصد، وذكر المؤلف أحدها وهو: (والقصد به أن يكون تأكيد الكلام الذي أدرج فيه)، ومثاله قوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76] فهذه الجملة فيها اعتراضان: الأول: أن هذه الجملة معترضة بين القسم وجوابه، قال تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ *وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75 - 76]. الثاني: جملة {لَوْ تَعْلَمُونَ} معترضة بين الخبر والمبتدأ، فأصل الجملة «وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ عَظِيم». وقد ذكر المؤلف أحد أغراض الجملة المعترضة، وهو تأكيد الكلام، وله أغراض أخرى تطلب في كتب البلاغة. قوله: (السادس: التجنيس، وهو اتفاق اللفظ مع اختلاف المعنى. ثم الاتفاق قد يكون في الحروف والصيغة، أو في الحروف خاصة، أو في أكثر الحروف لا في جميعها، أو في الخط لا في اللفظ، وهو تجنيس التصحيف). التجنيس ويسمى عند غيره الجناس، وفائدته تحسينُ الكلامِ، وهو يدخل في علم البديع كما في قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] وللشاطبي (ت790هـ) كلام شديد على باب التجنيس وكثير من علم البديع حتى إنه كان يقول: «فما يؤمننا من سؤال الله تعالى لنا يوم القيامة من أين فهمتم عني أني قصدت التجنيس الفلاني بما أنزلت من قولي: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، أو قولي: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168]؟ فإن في دعوى مثل هذا على القرآن وأنه مقصود للمتكلم به خطراً بل هو راجع إلى معنى قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً

وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] وإلى أنه قول فى كتاب الله بالرأي وذلك بخلاف الكناية فى قوله تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، وقوله: {كَانَا يَاكُلاَنِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]، وما أشبه ذلك» (¬1). وهذا يدعو إلى الاحتراز من جملة ما يذكر من المحسنات البديعية في «علم البديع»؛ لأنه يرتبط بصفاء الجملة من جهة مسمعها، لكن لا يلزم أن كل ما قالوه في علم البديع من القرآن من أمثلة يكون صحيحاً، وإن كان بعضها صحيحاً؛ كقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43] قوله: {أَضْحَكَ وَأَبْكَى}، وهل يمكن أن يأتي الخطاب بغير ذلك، حتى نقول: إن اختيار الطباق مقصود لذاته، ولعل هذا ما يريد الشاطبي نقده، وهو الذي ينبغي ألا يقال أنه من مرادات الله في كلامه. قوله: (التاسع: المشاكلة، وهي أن تذكر الشيء بلفظ آخر لوقوعه في صحبته). المشاكلة إذا وردت في صفات الله ففيها إشكالية؛ لأن الأصل إثبات الصفة؛ مثل: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]، فمن نفى جعلها من باب المشاكلة: لمَّا ذكر مكرَهم ذكر مكرَه بهم، وقد وقع من ابن جزي رحمه الله هذا، فقال: «ومكر الله الموصوف بالسرعة هو عقابه لهم سماه مكراً مشاكلة لفعلهم وتسمية للعقوبة باسم الذنب» (¬2)، وما ذهب إليه ليس بصحيح، بل هذه من الصفات المقابلة التي لا تُذكر إلا بمقابلها، فيقال: إن الله يمكر بمن يمكر به أو بالمؤمنين، ولا يجوز أن يُتعدَّى هذا اللفظ عن غير هذه المقابلة، ولا يؤخذ من هذه الصفة اسماً ولا وصفاً مطلقاً. أما قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فهي من باب المشاكلة، والمشاكلة هنا صحيحة، وهذا يعني أنه ليس كل ما ورد في باب المشاكلة يكون مراداً به المشاكلة، ولا أنه لا يكون من باب المشاكلة، والأمر راجع إلى النظر في السياق والأحوال والأصل فيما ورد من الآيات في صفات الله مما يُظنُّ أنه من باب ¬

(¬1) الموافقات 4/ 263. (¬2) التسهيل (تحقيق الخالدي) 1/ 354، 355.

المشاكلة؛ والأصل حمله على الحقيقة كما هو مذهب أهل السنة والجماعة. قوله: (العاشر: الترديد، وهو رد الكلام على آخره، ويسمى في الشعر ردُّ العَجُزِ على الصَّدر). قد يكون الترديد في آية، بحيث تُختم بما بدأت به، وقد يكون في القصة ذات الموضوع الواحد، وقد يكون في السورة، مثل ما ورد في سورة المؤمنون التي بدأت بأهل الفلاح في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]، خُتِمت بمن نفي عنهم الفلاح في قوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ *وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 117، 118] وهذا من لطائف رد العجز على الصدر. قوله: (الحادي عشر: لزوم ما لا يلزم، وهو أن تلتزم قبل حروف الروي حرفاً آخر، وكذلك عند رؤوس الآيات). كما في سورة الرحمن كقوله: {تُكَذِّبَانِ} وقوله: {مُدْهَآمَّتَانِ} [الرحمن: 64] وغيرها فقد التزمت بأكثر من حرف، وقد يأتي في الآيات ما يخالف هذا النسق. ومصطلح «لزوم ما لا يلزم» إنما هو في الشعر، والمقصود به أن الأصل أن الشاعر يلتزم بالقافية المعينة، فإذا زاد عليها التزامه بالقافية وحرف قبلها أو أكثر كان من باب لزوم ما لا يلزم، وهذا مما لا أثر له على فهم المعنى، ولم يكن شعراء الجاهلية يلتزمونه، وإنما اعتنى به بعض شعراء الإسلام في العصر العباسي ومن جاء بعدهم.

قوله: (الثاني عشر: القلب، وهو أن يكون الكلام يصلح ابتداء قراءته من أوله وآخره؛ نحو دعد، أو تعكس كلماته، فتقدم المؤخر منها وتؤخر المقدم). هذا نوع لم يكن العرب يعتدُّون أو يحتفون به، وإنما أخذ به بعض علماء البلاغة المتأخرين الذين حرصوا على علم البديع وغيره، ومما يمثلون به في ذلك قوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} [الأنبياء: 33] تقرأ من أولها كما تقرأ من آخرها بالقلب ولا تختلف (¬1)، وهذا من الإغراق في التلغيز، ولا يمكن أن يكون من مرادات الله، ولا هو مما يُعنى به أهل البلاغة الحقة، ولا هو مما يؤثر في المعنى، لكن هذا الموضوع مما اعتنى به بعض الشعراء والمعتنون بالبلاغة من المتأخرين حيث كانوا يُجْهِدون أذهانهم ليخرجوا مثل هذه الأبيات أو الخطب الطويلة التي تقرأ من الأعلى إلى الأسفل وتقرأ من الأسفل إلى الأعلى ولا تختلف، مثل قول الشاعر (¬2): مودتُهُ تدومُ لكُلِّ هَوْلٍ ... وهلْ كُلٌّ مَوَدَّتُهُ تدومُ قوله: (الثالث عشر: التقسيم، وهو أن تقسم المذكور إلى أنواعه أو أجزائه). هذا ليس فيه شيء من البلاغة؛ لأن من الطبيعي أن الشيء إذا كان له أنواع أو أجزاء وأريد ذكرها أن تذكر أقسامها وأجزاؤها. قوله: (الرابع عشر: التتميم، وهو أن تزيد في الكلام ما يوضحه أو يؤكده، وإن كان مستقلاً دون هذه الزيادة). التتميم لزيادة التأكيد، وهذا لا شك أنه يوجد في القرآن، لكن ننبه إلى أن حذف هذا الكلام ينقص المعنى الدقيق المراد، أما قول المؤلف: ¬

(¬1) يلاحظ في هذا عدم العناية بالإعراب، وإنما المراد الألفاظ، ويتركب الإعراب على حسب وجوده في الجملة الأولى، ولو كان للإعراب أثر عند من يقول بمثل هذا لما سلِم له إلا القليل من الأمثلة. (¬2) هو القاضي الأرجاني، انظر: خزانة الأدب للحموي 2/ 37.

إن الكلام واضح بغير هذه الإضافة فهذا لا يمكن أن يكون في القرآن منه شيء فقد لا يفهم المعنى المراد إلا بهذه الزيادة. وقد أورد ابن جزي في قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] مثالاً، فقال: «ففي قوله: {عَلَى حُبِّهِ} تتميم وهو من أدوات البيان» (¬1). قوله: (الخامس عشر: التكرار، وهو أن تضع الظاهر موضع المضمر فتكرر الكلمة على وجه التعظيم أو التهويل أو مدح المذكور أو ذمه أو للبيان). وضع الظاهر موضع المضمر، وعكسه لا شك أنه من البلاغة بمكان؛ لأن له مقاصد كثيرة، وذكر المؤلف منها: التعظيم، أو التهويل، أو مدح المذكور، أو ذمه، أو للبيان مثاله: وضع الظاهر موضع المضمر، في سورة المنافقين في قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، ولم يقل: (والله يشهد إنهم لكاذبون) مع أنه سبق ذكرهم، فأعاد لفظة المنافقين مرة أخرى، وهذا من وضع الظاهر موضع المضمر. قوله: (السادس عشر: التهكم، وهو إخراج الكلام عن مقتضاه استهزاء بالمخاطب أو بالخبر؛ ككلام البشارة موضع النذارة). التهكم يوجد له بعض الأمثلة كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]، أو وضع البشارة موضع النذارة وهذا كثير كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَامُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]، كذلك قول قوم شعيب: {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] قالوه من باب التهكم. ¬

(¬1) التسهيل (تحقيق الخالدي) 2/ 437.

قوله: (السابع عشر: اللف والنشر، وهو أن تَلُفَّ في الذكر شيئين فأكثر، ثم تذكر متعلقاتها، وفيه طريقتان: أن تبدأ في ذكر المتعلقات بالأول. وأن تبدأ بالآخر). إذا بدأت بمتعلق الأول، فإنه يسمى لفٌّ ونشر مرتب؛ أي: أن الأول للأول، والثاني للثاني على وفق ترتيبها في النظم، ومثاله في قوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73]، فقوله: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} يعود إلى {اللَّيْلِ}، وقوله: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} يعود لـ {وَالنَّهَارَ}. وإذا بدأت بمتعلق الثاني، فهو لفٌّ ونشر غير مرتب «ويسمى: مشوَّشاً»، فالأول للثاني، والثاني للأول، ومثاله في قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا *إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيرًا *إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَاسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان: 3 - 5]. فابتدأ بذكر الشاكر، ثم عطف عليه ذكر الكافر، ثم ذكر مآل الكافر، ثم عاد إلى ذكر مآل الشاكر، على طريقة اللف والنشر غير المرتب. قوله: (التاسع عشر: الترصيع، وهو أن تكون الألفاظ في آخر الكلام مستوفية الوزن، أو متقاربة مع الألفاظ التي في أوله). هذا يدخل في باب علم الفاصلة، ويلاحظ أن اللام والنون يتعاقبان في هذه الفواصل، وكذلك النون والميم تتعاقب، وهذه الألفاظ كما ذكر مستوفية الوزن وقد تكون متقاربة كما في قوله: {فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *مُدْهَآمَّتَانِ} [الرحمن: 63، 64] تجد {تُكَذِّبَانِ} و {مُدْهَآمَّتَانِ} متوازنتان في العدد.

قوله: (العشرون: التسجيع، وهو أن يكون كلمات الآية على روي حرف واحد). كما في سورة الرحمن وسورة الصمد، وقد وقع خلاف بين العلماء في صحة وجود السجع في القرآن، والخلاف لفظي، ومآله إلى الاتفاق، فالسجع الباطل الذي نهي عنه، وهو سجع الكهان لا يوجد في كلام الله، وهو يخالف السجع الصحيح الوارد في كلام الله وفي كلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم وفي كلام بلغاء العرب. قوله: (الحادي والعشرون: الاستطراد، وهو أن يتطرق من كلام إلى كلامٍ آخر، بوجه يصل ما بينهما، ويكون الكلام الثاني هو المقصود؛ كخروج الشاعر من النسيب إلى المدح بمعنى يتعلق بالطرفين مع أنه قصد المدح)]. الاستطراد موجود في القرآن كما في: {عَبَسَ وَتَوَلَّى *أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى *وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى *أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى *أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى *فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى *وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى *وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى *وَهُوَ يَخْشَى *فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 1 - 10]، ثم قال بعدها: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ *فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 11، 12]، ثم استطرد بذكر القرآن: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ *مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ *بِأَيْدِي سَفَرَةٍ *كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 13 - 16]، فانتقل من حدث العتاب إلى شرف القرآن بتناسقٍ جميل لا يشعر به القارئ، وهذا كثير في القرآن ويقع فيه ما يسمى عند بعضهم حسن التخلص، وهو الانتقال من موضوعٍ إلى آخر على سبيل بديع من حسن التخلص.

الباب الحادي عشر: إعجاز القرآن

الباب الحادي عشر إعجاز القرآن قال المصنف رحمه الله: الباب الحادي عشر: في إعجاز القرآن وإقامة الدليل على أنه من عند الله عزّ وجل ويدل على ذلك عشرة وجوه: الأول: فصاحته التي امتاز بها عن كلام المخلوقين. الثاني: نظمه العجيب وأسلوبه الغريب من مقاطع آياته وفواصل كلماته. الثالث: عجز المخلوقين في زمان نزوله وبعد ذلك إلى الآن عن الإتيان بمثله. الرابع: ما أخبر فيه من أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية، ولم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم تَعَلَّمَ ذلك ولا قرأه في كتاب. الخامس: ما أخبر فيه من الغيوب المستقبلة فوقعت على حسب ما قال. السادس: ما فيه من التعريف بالبارئ جل جلاله، وذكر صفاته وأسمائه، وما يجوز عليه وما يستحيل عليه ودعوة الخلق إلى عبادته وتوحيده، وإقامة البراهين القاطعة، والحجج الواضحة، والرد على أصناف الكفار، وذلك كله يعلم بالضرورة أنه لا يصل إليه بشر من تلقاء نفسه، بل بوحي من العليم الخبير، ولا يشك عاقل في صدق من عرف الله تلك المعرفة، وعظَّم جلاله ذلك التعظيم ودعا عباد الله إلى صراطه مستقيم. السابع: ما شرع فيه من الأحكام، وبيَّن من الحلال والحرام، وهدى إليه من مصالح الدنيا والآخرة، وأرشد إليه من مكارم الأخلاق، وذلك غاية الحكمة وثمرة العلوم.

الثامن: كونه محفوظاً عن الزيادة والنقصان، محروساً على التغير والتبديل على تطاول الزمان بخلاف سائر الكتب. التاسع: تيسيره للحفظ، وذلك معلوم بالمعاينة. العاشر: كونه لا يمله قارئه ولا سامعه على كثرة الترديد، بخلاف سائر الكلام (¬1). ما طرحه المؤلف في إعجاز القرآن واضح ويسير، ورأيت أن أطرق بعض الجوانب التي لم يتطرق لها المؤلف، وهي: أولاً: مصطلح الإعجاز والمعجزة لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام السلف الذين هم الصحابة والتابعون وأتباع التابعين، بل الذي ورد في القرآن يقابله: الآية والبرهان والسلطان، والآية هي أغلب ما ورد من الدلالة على المعجزة، كما في قوله سبحانه وتعالى في موسى عليه السلام {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى} [النازعات: 20] سمَّاها آية ولم يسمِّها معجزة، فلفظ المعجزة والإعجاز باعتباره مصطلحاً إنما ورد عند المتكلمين من المعتزلة ثمَّ سار بعدهم، ومن ثَمَّ؛ فإن آثار الاعتزال والمذهب الكلامي سيكون باقياً في مصطلح المعجزة، ومن ذلك ما وقع في تعريف المعجزة: (إنها أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي، سالم من المعارضة). ومما وقع في هذا التعريف من خلل أنه ليس كل معجزة تظهر للنبي عليه السلام يلزم منها أن تكون مقرونة بالتحدي، وموضوع نقد مصطلح المعجزة يطول. وليست هذه دعوة لإلغاء مصطلح المعجزة، وإنما للتنبيه على ما وقع تاريخياً في موضوع المعجزة، ومعرفة الصحيح المقابل لها من ¬

(¬1) التسهيل 1/ 98، 99.

كلام الله سبحانه وتعالى حيث سمَّاها آية؛ لأن فيها دلالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، فالله سبحانه وتعالى أرسل موسى إلى فرعون بالآيات؛ لتدل على صدق موسى وليؤمن فرعون وقومه. ولو قُلت في تعريف المعجزة: «هي الآية الدالة على صدق النبي التي لا يمكن أن تأتي من غيره»، لكان أقرب لمصطلح القرآن. ثانياً: الأنبياء لم يلتزموا بتحدي أقوامهم بالمعجزات، إنما أظهروها لكي يؤمن القوم فقط لا غير؛ ولذا فقيد التحدي في التعريف ليس موجوداً في جميع المعجزات فقد أجرى الله على نبيه آيات لم يكن فيها تحدّ. ولا يُفهم من هذا أن الأقوام قادرة على الإتيان بجنس معجزات الأنبياء لعدم قيد التحدي؛ لأن الجهة منفكة بين الأمرين، فالمعجزات جاءت معهم للتدليل على صدقهم والبشر غير قادرين على الإتيان بمثلها؛ فعدم القدرة شيء والتحدي شيء آخر. ثالثاً: الأصل أن الكلام عن إعجاز القرآن ينطلق من القول بالقرآن، فعلى أقوال المذاهب الإسلامية في القرآن ينتج عنها الكلام في المعجزة، لكن الملاحظ أن هناك انفصالاً بين تعريف القرآن عند بعض أهل الكلام، والكلام عن المعجزة، فالمعتزلة يقولون في القرآن: إنه مخلوق وليس كلام الله على الحقيقة، وما دام القرآن عندهم مخلوقاً فالإعجاز ليس ذاتياً فيه، بل الإعجاز مخلوق أيضاً، فصارت حقيقة الإعجاز شيء وحقيقة القرآن شيء آخر، وعلى قول المعتزلة في القرآن فإن أنسب الأقوال في إعجاز القرآن إلى قولهم بخلق القرآن، هو القول بالصَّرفة؛ بفتح الصاد من «صَرَف يَصْرِف صَرْفاً»، وهو قول أحد شيوخهم، وهو النَظَّام (¬1)، وقد اعترض عليه في قوله هذا العلماء حتى ¬

(¬1) أبو إسحاق إبراهيم بن يسار المعتزلي، توفي سنة بضع وعشرين ومائتين.

المعتزلة؛ لأنه يرى أن العرب يقدرون على أن يأتوا بمثله لكن صُرفوا عن ذلك، وهذا ـ عندي ـ يتناسق مع مذهبهم بخلق القرآن. ومن يرى الكلام النفسي، فالقرآن الذي نقرأه ليس معجزاً عنده، وإنما المعجز على الحقيقة خالق الإعجاز، ولذا انتفت ذاتية الإعجاز من القرآن؛ ولذا قال بعضهم: «إن نسبة الإعجاز إلى القرآن مجاز، وأن المعجز على الحقيقة هو الله». والمقصود أنه لا بد من الانتباه إلى الربط بين المراد بالإعجاز وأقوال هؤلاء الأقوام بالقرآن. أما قول أهل السنة والجماعة بأن القرآن كلام الله على الحقيقة، فإنه معجز بذاته، وهم من يلتئم معهم الكلام عن الإعجاز في القرآن. رابعاً: أن القرآن هو الذي نُصَّ فيه على التحدي صراحة دون غيره من آيات النبي صلّى الله عليه وسلّم أو آيات الأنبياء السابقين؛ ولذا تحداهم أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور، أو بسورة، وبعض العلماء ذهب إلى أنه ورد التحدي بآية لكن هذا القول فيه نظر؛ لأن قوله: {فَلْيَاتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 34] مجملٌ يبيّنه ما وقع من التدرج في التحدي: إما القرآن كاملاً، وإما عشر سور، وإما سورة، وبها خُتمت مراحل التحدي. أما سائر آيات النبي صلّى الله عليه وسلّم أي معجزاته فلم يُتحدَّ بها، فالرسول صلّى الله عليه وسلّم حصل له بعض المعجزات مثل: حنين الجذع، وتسبيح الحصى بكفه، وردِّه عين أحد الصحابة والتفل عليها فعادت وبرئت، والتفل في البئر فزادت، فالصواب الذي أراه أنه لم يقع التحدي إلا بالقرآن فقط؛ لأنه هو المنصوص عليه، وما عدا ذلك من آيات الأنبياء سواء ظهرت أمام

الكفار أم أمام المؤمنين فإنه لم يقع فيها التحدي مطلقاً، والدليل واضح من نص القرآن. وأنبِّه إلى أن معارضة هؤلاء الأقوام أو طلبهم للآية ليس من التحدي كما عارض فرعون موسى لما أتى له بآيات كاليد والعصا، فعارضه بالسحرة، أو كطلب ثمود الناقة من صالح فهذا ليس فيه تحدّ. فإن قال قائل: إن آيات الأنبياء لم يكن التحدي فيها مقالاً بل كان التحدي فيها حالاً، فحالهم حال من وقع منه التحدي. أقول: يجب أن نفرق بين كون التحدي صراحة وبين أن نقول: إنه لا يستطيع أحد أن يأتي بآية مثل آيات الأنبياء، فالتحدي أخص من كونه لا يستطيعه البشر، وكونه من الله فهذا باتفاق، ويظهر أنه لالتباس هاتين النقطتين وقع قول بعضهم بأن التحدي حاليٌّ، وإن لم يقع مقالاً. خامساً: وجوه الإعجاز في القرآن كثيرة كالإخبار بالغيبيات، لكن الشيء الذي عجز عنه العرب وتحداهم أن يأتوا بمثله هو ذلك «النظم والبيان العربي»، أما المعاني الموجودة فهي تبع وليست أصلاً، فسورة العصر مثلاً: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر] ليس فيها إعجاز غيبي أو تشريعي، بل فيها ما يتعلق بالنظم والبيان بدليل أن كُتُبَ الله سبحانه وتعالى التي نزلت على أنبيائه فيها مغيبات، وفيها تشريع وفيها أخبار مِثل الأخبار الواردة في القرآن؛ لأن المتكلم بها واحد والحقيقة المتكلم عنها واحدة، لكن الذي تميز به القرآن هو ما يتعلق بالنظم والبيان الذي لا يستطيع العرب أن يأتوا بمثله، فهذا هو المتحدى به، وهو الذي ينتظم في جميع سور القرآن، أما وجوه الإعجاز الأخرى فتختلف في بعض السور، مثلاً: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] فيها إعجاز غيبي وإعجاز في النظم

والبيان، لكن ليس فيها إعجاز تشريعي، وقد نأتي إلى سورة أخرى فيها إعجاز تشريعي وإعجاز النظم والبيان، وليس فيها إعجاز غيبي. والخلاصة: أن إعجاز النظم والبيان العربي واقع في كل سورة، وما سواه من أنواع الإعجاز التي حكاها العلماء تتخلف في بعض السور، وفي هذا دلالة على أن المتحدى به هو ما يوجد في كل سورة دون ما سواه، ليتناسب مع قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَاتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]، وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]. سادساً: العرب أدركوا سر الإعجاز، وعبروا عن ذلك بعبارات مجملة تدل على ما وقع في نفوسهم من إدراك ما ماز به هذا الكلام كلامهم، وإن لم يحصل منهم التفصيل، فالواحد منهم إذا سمع القرآن أذعن له إذعان العارف بأن هذا ليس من كلام البشر؛ كما في مقولة الوليد بن المغيرة وكذلك قصة إسلام أبي ذر (ت32هـ)، لما قال أنيس لأخيه أبي ذر: «إني ذاهب إلى مكة هل لك حاجة؟»، قال: «نعم إنه قد خرج فلان وكان يذكر كذا وكذا فانظر لي في خبره»، وفي رواية قال: «إني لقيت رجلاً بمكة على دينك يزعم بأن الله أرسله يسمونه الصادق، قلت: ما يقول؟ قال: يزعمون أنه كاذب وأنه ساحر وأنه شاعر، وقد سمعت قوله، فوالله ما هو بقولهم، وقد سمعت قولهم، فوالله إني لأراه صادقاً» (¬1)، وكذا ما ورد في قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي (ت11هـ)، لما أراد أن يدخل البيت الحرام نبهه بعض سادات قريش، وقالوا له: إنه يفرق بين المرء وزوجه، وإنه ساحر، وإنا نخشى عليك وعلى قومك، حتى قال: «والله لا أدخل المسجد إلا وأنا سادٌّ أذني، قال: ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، ورقم الحديث (2473).

فعمدت إلى أذني، فحشوتها كُرْسُفاً، ثم غدوت إلى المسجد، فإذا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائماً في المسجد، فقمت قريباً منه، وأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، فقلت في نفسي: والله إن هذا لعجز، وإني امرؤ ثبت، ما تخفى علي الأمور؛ حسنها وقبيحها، والله لأستمعن منه، فإن كان أمره رشداً أخذت منه، وإلا اجتنبته، فنزعت الكُرْسُفَةَ، فلم أسمع قط كلاماً أحسن من كلام يتكلم به، فقلت: يا سبحان الله! ما سمعت كاليوم لفظاً أحسن ولا أجمل منه، قال: فانتظرته صلّى الله عليه وسلّم ....» إلى أن ذكر قصة إسلامه (¬1). سابعاً: ليست معجزة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ودليل صدقه هو التحدي بالقرآن فقط، بل هناك دلائل ووجوه أخرى، ومن أهمها أحواله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا ما فعله هرقل ملك الروم لما أراد أن يستدل على صدق هذا الرسول الذي أرسل له يأمره باتباعه. ومن أبرز وجوه الإعجاز التي في القرآن الإعجازُ الغيبيُّ؛ كما في قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ *سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ *وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ *فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد]، فلم يؤمن أبو لهب، ولا آمنت زوجه أم جميل، وقد أخبر أنهما يموتان كافرين به، ومضى على هذا التنزيل فترة من الزمن حتى ماتا، ولم يتخلف هذا الخبر البتة. ومن غيوبه الباقية والمستمرة ما في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23، 24] فلم يعارض أحد من العرب القرآن، ولا يستطيع أحد هذا أبداً. ¬

(¬1) الطبقات الكبرى، لابن سعد 4/ 439.

ومن غيوبه الباقية والمستمرة ما قال في اليهود: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الْدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 94، 95]، وقال: {قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة: 6، 7]، ولم نسمع أن يهودياً تمنى الموت. ومن وجوه صدقه العقلية تلك العتابات للرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ كما في قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، {لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]، ولو كان من عنده لأخفى مثل هذه العتابات، وقد نبهت إلى ذلك السيدة عائشة، فقد روى البخاري بسنده عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «اتَّقِ الله، وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ». قَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم كَاتِماً شَيْئاً لَكَتَمَ هَذِهِ. قَالَ: فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ. وَعَنْ ثَابِتٍ: «{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ} نَزَلَتْ فِى شَانِ زَيْنَبَ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَة» (¬1). ومن الأدلة العقلية على صدقه أننا نجد ذكر غيره من الأنبياء أكثر من ذكره نفسِه صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان من عنده فكيف يغفل عن الإكثار من ذكر نفسه صلّى الله عليه وسلّم، فإننا نجد ـ مثلاً ـ ذكر اسم موسى عليه السلام أكثر من ذكر اسم محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا من الدلائل العقلية الدالة على صدقه، وعلى أن هذا القرآن من لدن حكيم خبير. ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، ورقم الحديث (7420).

ومع تكاثر وجوه الأدلة الدالة على صدقه؛ إلا أنني أُؤَكِّد على أن المقصودين أولاً بهذا التحدي هم العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، أما من عداهم من الأمم إلى قيام الساعة فهم تبع لهم في هذا؛ لأنه إذا عجز العرب الذين هم أصحاب الفصاحة والبيان وأصحاب اللغة التي نزل بها القرآن، فمن باب أولى أن يعجز غيرهم؛ لأنهم لا يمكن أن يصلوا إلى درجة العرب في البيان. ولذا تعجب من بعض المستشرقين أمثال: (نولدكه) الذي كتب «تاريخ القرآن» عندما يعترض على ألفاظ في القرآن أو يزعم أن محمداً صلّى الله عليه وسلّم هو الذي كتب القرآن وأنه أخذه من كتب اليهود أو النصارى، وتزداد عجباً عندما ينتقد ويقول: «ولقد قرأها محمد خطأً لم يعرفها، وهي كذا وكذا»، وهذا كله جهل، فلو كان محمد صلّى الله عليه وسلّم كما يزعم لانتقده هؤلاء الذين أمامه وجالدوه بالسيوف، لكنهم لم يحتجوا على كلمة في القرآن، ولم يقولوا بأنها ليست عربية، فكيف ظهر له ما لم يظهر لمن كانوا أشدَّ منه حرصاً على إبطال ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولا شك أن هذا خلل فكري في المنهج العلمي الذي يدعيه المستشرقون، ومن يحترم عقله لا يمكن أن يقول مثل هذا القول، ولذا تلاحظ أن كثيراً من المستشرقين إذا ناقشوا ـ حسب زعمهم ـ قضية أَخْذِ القرآن من الكتب السابقة، لا يذكرون إلا احتمالاً واحداً وهو أن محمداً كتب القرآن بنفسه، وأنه أخذ من الكتب السابقة، والعجيب أنهم لا يذكرون الاحتمالات العقلية الأخرى، وهذا ـ بلا شكٍّ ـ مخالف للمنهج العلمي؛ أما الاحتمال الآخر وهو أن يكون محمد صلّى الله عليه وسلّم أخذ من المصدر الذي أُخِذت منه التوراة، ومن المصدر الذي أُخِذ منه الإنجيل، لكننا لا نجدهم يجعلون مثل هذا افتراضاً ـ على الأقل ـ كما هي عادتهم في فرض الافتراضات، ثم بناء الأحكام العلمية عليها. ولا يظهر أنهم يُغفلون مثل هذا الاحتمال غفلة منهم؛ لأنهم لو

ذكروه لقالوا: إنه نبي، ولو قالوا بذلك لاضطروا إلى لزوم التصديق به، وهم لا يريدون ذلك، فتراهم لأجل هذا يُغفِلون هذا الاحتمال ولا يذكرونه. وهذا الأسلوب من إسقاطاتهم الشنيعة التي أسقطوا بها أسلوب بعض الدراسات العلمية عن أسفارهم، فظهر لبعض الدارسين لها أن بعض قصصه مأخوذة عن كتب السابقين وأخبارهم، ولا يلزم أن هؤلاء الدارسين قد قالوا الحقّ في ذلك، أو أن يكونوا وصلوا إلى القول الصواب، لكنهم استخدموا هذا الأسلوب من الموازنة، وظهروا بهذه النتائج، ثم جاء هؤلاء وأرادوا إسقاط هذا على دراسة مصدر القرآن، فقالوا بمثل هذه الأقوال الغريبة في مصدر القرآن الكريم. ونحن لسنا مع هذه الدراسات التي انتقدت أسفارهم، بل نثبت ما ثبت عندنا باليقين من قصص الأنبياء وما لم يثبت في القرآن أو السنة، فمذهبنا فيه كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» (¬1). ثامناً: لا يلزم فيما يتعلق بمعجزات الأنبياء ـ في رأيي الخاص ـ أن تتوافق مع ما اشتهر به أقوامهم، فقوم عيسى عليه السلام لم يثبت أنهم كانوا خبراء بالطب، وكذا معجزات الأنبياء الآخرين كنوح وصالح وهود وإبراهيم عليهم السلام لا يظهر أن معجزاتهم كانت من جنس ما برع به أقوامهم، لكن بعض المعجزات قد تكون موافقة لما برع به قوم النبي؛ كما عند موسى حيث كانوا سحرة. تاسعاً: ما ظهر من المعجزات على يد بعض الأولياء، فإن تسميتها «كرامات» تسمية اصطلاحية محضة، ولا تغير من جنس موضوع خرق ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير في باب {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} من حديث أبي هريرة، ورقم الحديث (4485).

العادة شيئاً، لكنها لا يمكن أن تبلغ ما يظهر على يد النبي صلّى الله عليه وسلّم بحال، فالنار التي أُلقي فيها إبراهيم عليه السلام ليست كالنار التي ألقي فيها أبو مسلم الخولاني، ولا بقاؤه فيها كبقائه، فنار إبراهيم أعظم، وظهور كرامة الله له أمام قومه أعظم أيضاً. وآية النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يمكن أن تلتبس بما يصدر من غيره سواء أكان وليّاً أم ساحراً أم كاهناً، بل إن آية الولي تبع للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي دليل على صدقه، ولا يمكن أن تخرج على يد من يدَّعي الولاية وهو لا يكون متابعاً للنبي صلّى الله عليه وسلّم، بل إذا ظهر مثل ذلك لمن ليس مُتَّبعاً للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو دليل على أنه من تلاعب الشيطان بالإنسان، فإن الله لا يظهر الكرامة لأعدائه.

الباب الثاني عشر: في فضائل القرآن

الباب الثاني عشر في فضائل القرآن قال المصنف رحمه الله (¬1): الباب الثاني عشر: في فضائل القرآن وإنما نذكر ما ورد في الحديث الصحيح فمن ذلك ما ورد: عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه» (¬2). وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه ويتتعتع به وهو عليه شاقٌّ فله أجران» (¬3). وعن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأُتْرُجَّة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها طيب، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر» (¬4). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «استذكروا القرآن فلهو أشد تفصياً من صدور الرجال من النِّعم بعُقُلها» (¬5). ¬

(¬1) التسهيل 1/ 100 - 103. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب فضائل القرآن، ورقم الحديث (804). (¬3) أخرجه مسلم في كتاب فضائل القرآن، ورقم الحديث (798). (¬4) أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة، ورقم الحديث (5427). (¬5) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، ورقم الحديث (5032).

وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خيركم من تعلَّم القرآن وعلمه» (¬1)، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع آخرين» (¬2). وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلّى الله عليه وسلّم سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه، فقال: هذا باب من السماء فُتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم. فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة، لم تقرأ بحرف منها إلا أعطيته. وعن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» (¬3) (¬4). وعن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اقرؤوا البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» (¬5). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان يفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة» (¬6). وعن أُبَيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم»؟ قلت: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. فضرب في صدري وقال: «ليهنك العلم يا أبا المنذر» (¬7). وعن النواس بن سمعان أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ¬

(¬1) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، ورقم الحديث (5027). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين، ورقم الحديث (817). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن ورقم الحديث (5009). (¬4) أخرجه مسلم في كتاب فضائل القرآن، ورقم الحديث (806). (¬5) أخرجه مسلم في كتاب فضائل القرآن، ورقم الحديث (804). (¬6) أخرجه أحمد في مسند أبي هريرة، ورقم الحديث (7821) 13/ 224. (¬7) أخرجه مسلم في كتاب فضائل القرآن، ورقم الحديث (810).

«يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمهم سورة البقرة وآل عمران، وضرب لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: «وإنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شَرْقٌ أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجَّان عن صاحبهما» (¬1). وعن أبي الدرداء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصِم من الدجال» (¬2). وعن أبي الدرداء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سورة قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن» (¬3). وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألم تر آيات أنزلت عليَّ لم ير مثلهن قط، قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس» (¬4). في هذا الباب الثاني عشر ختم المؤلف المقدمة الأولى ببيان فضل القرآن، وهو باب معروف، وكتب فيه العلماء قديماً وفيه كتب مطبوعة؛ ولذا سأكتفي بذكر بعض الفوائد التي ذكرها المؤلف وهي تنقسم إلى قسمين: 1 - الفضائل العامة للقرآن كله. 2 - الفضائل الخاصة لسور أو آية معينة. والأحاديث فيها تنقسم إلى أقسام ثلاثة: ¬

(¬1) أخرجه مسلم في كتاب فضائل القرآن، ورقم الحديث (805). (¬2) أخرجه مسلم في كتاب فضائل القرآن، ورقم الحديث (809). (¬3) أخرجه مسلم في كتاب فضائل القرآن، ورقم الحديث (812). (¬4) أخرجه مسلم في كتاب فضائل القرآن، ورقم الحديث (814).

1 - الأحاديث الصحيحة. 2 - الأحاديث الضعيفة. 3 - الأحاديث الموضوعة. وينتبه من القسم الثالث وهو الأحاديث الموضوعة؛ لأنه قد وُضع في فضل كل سورة حديث، حيث وُضِع على أبيّ بن كعب رضي الله عنه ثم رفع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو الذي يصدِّر به الزمخشري (ت538هـ) تفسير كل سورة، وكذا البيضاوي (ت658هـ)، والواحدي (ت468هـ) في البسيط، والثعلبي (ت427هـ). وفي باب فضل القرآن يُناقش بعض العلماء قضية تفاضل القرآن، والقاعدة في هذا أنه لا يجوز التفضيل إلا بسند عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فالمفضِّل هو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ثم إذا ثبت التفضيل عنه صلّى الله عليه وسلّم حُكِم به ولا يصح تأويله، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أي آية أعظم يا أبا المنذر؟»، فجعل أعظم آية في القرآن آية الكرسي، وغيرها عظيم، لكنه لا يكون بمزيتها، وكما في سورة الصمد وأنها تعدل ثلث القرآن، وكذا سورة الفاتحة.

فهرس المصادر والمراجع

فهرس المصادر والمراجع 1 - ابن جزي ومنهجه في التفسير: علي محمد الزبيري، دار القلم، دمشق، ط1، 1407هـ. 2 - الإتقان في علوم القرآن: لجلال الدين السيوطي، تحقيق: مركز الدراسات القرآنية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة المنورة، ط1، 1426هـ. 3 - إتيان الحق على الخلق في ردّ الخلافات إلى المذهب الحق من أصول التوحيد: لابن الوزير اليماني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1407هـ 1987م. 4 - بدائع الفوائد: لابن قيم الجوزية، تحقيق: معروف مصطفى زريق، ومحمد وهبي سليمان وعلي عبد الحميد، دار الخير، دمشق، ط1، 1414هـ 1994م. 5 - التسهيل لعلوم التنزيل: تحقيق: الدكتور محمد بن مولاي، دار الضياء، الكويت، ط1، 1430هـ 2009م. 6 - التسهيل لعلوم التنزيل: لابن جزي، الكلبي، تحقيق: د. عبد الله الخالدي، دار الأرقم، بيروت. 7 - التعريفات: لعلي بن محمد الجرجاني، منشورات مكتبة لبنان. 8 - تفسير البحر المحيط: أبو حيان الأندلسي، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث، لبنان، ط2، 1421هـ. 9 - تفسير الطبري «جامع البيان عن تأويل آي القرآن»: تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، القاهرة، ط1، 1422هـ. 10 - تفسير غريب القرآن: لابن قتيبة، تحقيق السيد أحمد صقر، دار الكتب العلمية، بيروت، طبعة 1398هـ 1978م. 11 - تفسير القرآن العظيم: لابن كثير، تحقيق: د. محمد إبراهيم البنا، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1419م ـ 1998م.

12 - الجامع لأحكام القرآن: لأبي عبد الله القرطبي، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1424هـ 2003م. 13 - جمهرة أشعار العرب: أبو زيد القرشي، تحقيق: علي محمد البجاوي، د. ت. 14 - حديث الأحرف السبعة وصلته بالقراءات القرآنية: للدكتور عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ، دار النشر الدولي. 15 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: أبو نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط5، 1407هـ. 16 - خزانة الأدب وغاية الأرب: لابن حجة الحموي، شرح: عصام شعيتو، دار الهلال، بيروت، ط1، 1987م. 17 - خزانة الأدب: عبد القادر البغدادي، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط4، 1420هـ. 18 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور: لجلال الدين السيوطي، تحقيق: الدكتور عبد الله التركي، دار هجر، القاهرة، ط1، 1424هـ 2003م. 19 - الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب: ابن فرحون المالكي، تحقيق: محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث، القاهرة. 20 - ديوان امرئ القيس: تحقيق: ياسين الأيوبي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1419هـ. 21 - ديوان لبيد بن ربيعة: تحقيق وشرح: إحسان عباس، وزارة الإرشاد، الكويت، 1962م. 22 - زاد المسير في علم التفسير: لابن الجوزي، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1423هـ 2002م. 23 - السبعة في القراءات: لابن مجاهد، تحقيق: شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، ط3. 24 - شرح السنة للبغوي: تحقيق: شعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1403هـ 1983م. 25 - صبح الأعشى في صناعة الإنشا: أبو العباس القلقشندي، مصورة عن الطبعة الأميرية، وزارة الثقافة المصرية. 26 - الطبقات الكبرى: لابن سعد، تحقيق: رياض عبد الله عبد الهادي، دار إحياء التراث، بيروت، ط1، 1417هـ.

27 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب ومحمد فؤاد عبد الباقي، دار الريان، القاهرة، ط1، 1407هـ. 28 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير: للشوكاني، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط2، 1383هـ 1964م. 29 - قانون التأويل: لابن العربي، تحقيق: محمد السليماني، دار القبلة، جدة، ط1، 1406هـ 1986م. 30 - الكتب الستة (صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، جامع الترمذي، سنن النسائي، سنن ابن ماجه): ضمن موسوعة الحديث الشريف، دار السلام، الرياض، ط1، 1422هـ 2001م. 31 - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: للزمخشري، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث، لبنان، ط2، 1421هـ. 32 - الكشف والبيان في تفسير القرآن: لأبي إسحاق الثعلبي، تحقيق: أبي محمد بن عاشور، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1422هـ. 33 - المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: لابن الأثير، تحقيق: محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت، ط1420هـ. 34 - مجاز القرآن: لأبي عبيدة، تحقيق: محمد فؤاد سزكين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1401هـ. 35 - مجالس ثعلب: لأبي العباس أحمد بن يحيى، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1960م. 36 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: لابن عطية، تحقيق: المجلس العلمي بفاس، 1395هـ. 37 - المحكم في نقط المصاحف: لأبي عمرو الداني، تحقيق الدكتور عزة حسن، نشر دار الفكر. 38 - المستدرك على الصحيحين: للحاكم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1422هـ. 39 - مسند أحمد: تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1420هـ. 40 - المسودّة في أصول الفقه: لابن تيمية، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني، القاهرة.

41 - المصاحف: لابن أبي داود، تحقيق: محب الدين عبد السبحان، دار البشائر، بيروت، ط2، 1987م. 42 - المصنف: لابن أبي شيبة، تحقيق: د. محمد عوامة، دار القبلة، جدة، ط1، 1427هـ 2006م. 43 - معالم التنزيل: البغوي، تحقيق: محمد النمر وغيره، دار طيبة، ط4، 1417هـ. 44 - معاني القرآن وإعرابه:، لأبي إسحاق الزجاج، تحقيق: الدكتور عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب، بيروت، ط1، 1408هـ 1988م. 45 - معجم مقاييس اللغة: لابن فارس، تحقيق: د. محمد عوض رجب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1، 1422هـ 2001م. 46 - الموافقات: للشاطبي، تحقيق: مشهور حسن آل سلمان، دار ابن عفان، مصر، ط1، 1421هـ. 47 - موطأ الإمام مالك: (رواية يحيى بن يحيى الليثي)، دار الكتب العلمية، بيروت. 48 - نزهة الألباء في طبقات الأدباء: لأبي بكر الأنباري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، 1418هـ. 49 - النشر في القراءات العشر: لابن الجوزي، تحقيق: علي محمد الضباع، دار الكتب العلمية، بيروت. 50 - الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: لأبي الحسن الواحدي، تحقيق: صفوان داوودي، دار القلم، دمشق، ط1، 1415هـ 1995م.

§1/1