شرح معاني شعر المتنبي لابن الإفليلي - السفر الأول

ابن الإِفلِيلي

الجزء الأول

الجزء الأول بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد قال أبو الطيب يمدح الأمير الدولة أبا الحسن علي بن عبد الله بن حمدان عند نزوله إنطاكية، (ومنصرفه) من الظفر بحصن برزويه، في جمادى الأخيرة من ستة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وهي أول ما أنشده. رحم الله الجميع بمنه. وفاؤُكما كالرَّبعِ أشْجاهُ طاسِمُه ... بأن تُسْعِدا والدَّمعُ أشْفَاهُ ساجِمُهْ يقول: وفاؤكما لي بالإسعاد على الحب كهذا الربع، الذي أشجاه

للنفس ما ذهب من آثاره، وعفا من رسومه، ووفاؤكما كذلك، وإذا عدمت إسعادكما جلست استشف بالدمع الذي هو جنة المحزون. وأشفاه ساجمه كما أن وفاؤكما أشجاه للنفس ذاهبه. وما أنا إلاّ عاشقُ كُلُّ عاشقٍ ... أعقُّ خَلِيْلَيْهِ الصَّفَّيينِ لائِمُهُ ثم قال، مبيناً لعذره، وطاعناً على صاحبيه في لومه: وما أنا إلا عاشق يريد: أنه كمن تقدمه من العشاق، وكل عاشق خليليه المصافيين الذي يؤثر لومه، ويستجيد عذله، فلا شكر ما أكرهه من لومكما، وأرغبه من إسعادكما. وقد يَتَزَيا بالهَوَى غَيْرُ أهْلِهِ ... وَيَسْتَصْحِبُ الإنْسَانُ من لا يُلائِمُهْ ثم أكد ملامة صاحبيه، بأنهما منعاه ما يمكنهما من إسعاده، بظاهر يتكلفانه له وإن لم يعتقداه بالهوى أهله، ويستصحب الإنسان من لا يوافقه على رأيه. بَلِيْتُ بِلَى الأطْلالِ إنْ لَمْ أقِفْ بها ... وُقوفَ شَحِيْحٍ ضَاعَ في التُّرْبِ خَاتِمُهْ ثم دعا على نفسه، مستبصراً في مذهبه، بأن يبلى بلى الأطلال

الدارسة، ويتغير تغير الرسوم العافية، إن لم يقف بديار أحبته، متتبعاً لها، ومعتنياً بها، وقوف شحيح ضاع خاتمه في الترب. واعتمد خاتمه؛ لأنه صغير الجرم، مهم الأمر، فلصغره يخفى موضعه، ولاهتمامه يحب تتبعه. واشترط ضياعه في الترب ليكون تطلبه فيه، وهو موضع آثار الديار، ورسوم الأطلال. كَئِيْبَاً تَوَقَّاني العَوَاذِلُ في الهَوَى ... كَمَا يَتَوَقَّى رَيَّضَ الخَيْلِ حَازِمُهْ ثم يقول: إنه يقف في هذه الأطلال كئيباً محزوناً، يتوقاه عاذله، ويتخوفه لائمه، كما يتوقى الذي يحزم الفرس الريض صولته، ويحذر نفرته. قِفي تَغْرَمِ الأولى مِنَ اللَّحْظِ مُهْجَتي ... بِثَانيةٍ وَالمُتْلِفُ الشَّيَء غَارِمُهْ ثم خاطب محبوبته، فاستوقفها ليطلب لحظته الأولى لها، بمهجته التي أتلفتها؛ لأن المتلف غارم. واشترط اللحظة الأولى، يشير بذلك إلى تناهي

حسن محبوبته؛ لأن من أتلف في أول لحظة فهو من الحسن في أرفع مرتبة. سَقَاكِ وَحَيانا بِكِ الله إنَّما ... عَلَى الْعِيسِ نَوْرُ والخُدُودُ كَمائِمُهْ ثم دعا لمحبوبته بالسقيا، رعاية لها، وتمنى قربها، شغفاً بها، ثم مائل شيئين بشيئين أحسن مماثله؛ مثل الخدور المشتملة على أحببته بالأكمام المشتملة على النور، ومثل حسن أحببته بحسن النور، فماثل بين ساترين مستطرفين، ومستورين مستحسنين. وما حَاجَةُ الأظْعَان حَوْلَكِ في الدُّجَى ... إلى قَمَرٍ ما واجدُ لَكِ عَادِمُهْ ثم ذكر أن الأظعان حول محبوبته لا تحتاج إلى الاستنارة بقمر؛ لأنها تستغني بضيائها، وتستنير بحسنها، ولا يعدم القمر من وجدها. إذا ظَفِرتْ مِنْكِ العُيُونُ بِنَظْرَةٍ ... أَثابَ بها مُعْي المَطِيِّ وَرَازِمُهْ ثم قال: إن العيون إذا ظفرت بلحظة من محبوبته أوجبت من النشاط، وبعثت من الفرج، ما يثوب معه إلى المعي نشطته، وإلى الضعيف قوته. حَبيبُ كأنَّ الحُسْنَ كان يُحِبُّهُ ... فَآثَرَهُ أوْ جَارَ في الحُسْنِ قاسِمُهْ ثم وصف حبيبته بوفور الحظ من الحسن، حتى كأن الحسن أحبه، فخصه بجملته وآثره في قسمته.

تَحُولُ رِمَاحُ الخَطَّ دُونَ سِبَائِهِ ... وَيُسْبَى لهُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ كَرائِمُهْ ثم قال: إن محبوبته من قوم أعزة، لا يطرح عدو في أن يسبي فيهم، ولا تعتصم كرائم غيرهم منهم، وإنها تأمن السبي، ويسبى لها كرائم الأحياء. وَيُضْحَى غُبارُ الخْيلِ أدْنَى سُتُورِهِ ... وآخِرُهَا نَشْرُ الكِبَاءِ المُلازِمُهْ ثم ذكر: أن أدنى ستورها ممن أرادها غُبار خيول قومها، وأقربها منها دخان بخورها، فوصفها بأشد المنعة، وذكر أنها في غاية النعمة. وَمَا اسْتَغْرَبَتْ عَيْني فِرَاقَاً رأيْتُهُ ... ولا عَلَّمَتْني غَيْرَ ما القَلْبُ عَالُمِه ثم قال: إنه لم يستغرب ما طرقه به الدهر من فراق أحبته، لما تصرف فيه من حوادث الأيام وفجائعها، وإنما علم ما علم، وطرق بما عهد. فلا يَتَّهِمْني الكَاشِحُونَ فَإنني ... رَعَيْتُ الرَّدَى حَتَّى حَلَتْ لي عَلاقِمُهْ ثم قال: فلا يتهم الكاشحون قوله، ولا يستنكروا أمره، فقد تقلب في صروف الدهر وشدائده حتى استحلى مرة، واستسهل صعبه.

مُشِبُّ الذي يَبْكي الشَّبَابَ مُشِيْبُه ... فَكَيْفَ توَقَّيهِ وَبانْيهِ هَادِمُهْ ثم ذكر تقلب الدهر بأهله، وتصريفه لهم بطبعه، وأنه الذي سر بالشباب وأبكى بالمشيب، فكيف توقيه! وإنما يهدم ما بناه، ويأخذ ما أعطاه. وَتَكْملةُ العَيْشِ الصِّبَا وَعقِيْبُهُ ... وغَائِبُ لَوْنِ العَارضَيْنِ وَقَادِمُهْ ثم قال: إن العمر إنما تكملته بالصبا والكبر، والشباب والشيب، وإنها تتعاقب وتتداول؛ فالصبا أول، والكبر آخر، وسواد الشعر غائب، والشيب قادم. وما خَضَبُ النَّاسُ البَياضَ لأنهُ ... قَبِيْحُ ولكنْ أحْسَنُ الشَّعْرِ فَاحِمْهْ ثم قال: إن الشيب لم يخضب لقبحه، ولا استحسن سواد الشعر لنفسه، ولكن الشيب ذل على انقضاء العمر فاستكره، وأطمع فاحم الشعر في العيش فاستحسن. وأحْسَنُ مِنْ ماءِ الشَّبِيْبةَ كُلِّهِ ... حَيَا بارٍقٍ في فازَةٍ أنا شائِمُهْ الحيا: الغيث الذي تحي به الأرض، والبارق: السحاب الملمع، والشائم الذي يرقب موضع الغيث، والفازة القبة.

وكان سيف الدولة قد اصطنع فازة ديباج فوصفها أبو الطيب في هذا الشعر، وتسبب، فقال: إن أحسن من ماء الشبيبة الذي اجتمع الناس على الكلف بوقته، والأسف لفقده، جود يشبه الغيث بكثرته، لملك يخلف السحاب بكرمه، نشيمه: أي: نرقبه من قبة، وننتجعه من فازة وأشار بذلك إلى كرم سيف الدولة الممدوح، وجعله حياً على الاستعارة. عَلَيْها رِياضُ لم تَحُكْهَا سَحَابةُ ... وأغْصَانُ دَوْحِ لم تَغَنَّ حَمَائِمُهْ ثم وصف الفازة، فشبه أثوابها بقطع الرياض، إلا أن أمثلة زهراتها لم تحكه أيدي السحاب، وأغصان شجرها مخالفة لأغصان سائر الشجر؛ لأنها لا تتغنى حمائمها، ولا تتجاوب طيورها. فأومى بهذا الاشتراط إلى أنها صور ممثلة، وصناعات مؤلفة، وهذا من البديع يعرف بالإيماء والإشارة.

وَفَوْقَ خَواشي كُلِّ ثَوْبٍ مُوَجَّهِ ... مِن الدُّرِّ سِمْطُ لم يُثَقّبْهُ نَاظِمُهْ السمط: السلك المغلق المنظوم، والموجه: المستقبل. ثم ذكر: أن كل ثوب يستقبل من هذه الفازة فوق حواشيه سموط لآلئ تجتمع غير مثقوبة، وتتآلف غير منظومة، يومئ بهذا الاشتراط إلى أنها لآلئ أمثلة لا لآلئ حقيقة. تَرَى حَيِوانَ البَّرَّ مُصْطَلحَاً بها ... يُحَاربُ ضِدُّ ضِدَّهُ ويُسَالُمهْ ثم ذكر ما تشتمل عليه أثواب هذه الفازة من التصاوير، وأن الأضداد من حيوان البر تبدو فيها إذا سكنت مصطحبة متسالمة، وإذا اضطربت مختلفة متواثبة. إذَا ضَرَبَتْهُ الرَّيحُ مَاجَ كأنَّه ... تَجُولُ مَذَاكِيهِ وَتَدْ أي ضَراغِمُه المذاكي: الخيل المسنة، وتدأي: تتهيأ للوثوب، والضراغم: الأسد.

ثم يقول: إذا حركت الريح شيئاً من هذه الأثواب، أراك المذاكي من خيله في هيئة المتجاولة، والضراغم من أسده في هيئة المتصاولة. وفي صُورةِ الرّوميِّ ذي التَّاجِ ذِلَّةُ ... لأبْلَجَ لا تيجَانَ إلاَّ عَمَائِمُهْ الأبلج: النقي ما بين الحاجبين، وهو من صفات السادة. فيقول: إن في أمثلة ذلك الديباج صورة سيف الدولة، وصورة ملك الروم وقد تخاضع له، وتذلل على عادته، وأن ملك الروم، وإن كان متوجاً فإن التيجان في الحقيقة العمائم التي هي زي سيف الدولة، وأن أرفع الزي زي من تكون له الغلبة، وتعرف فيه القدرة. تُقَبِّلُ أفْواهُ المُلُوكِ بِساطَهُ ... وَيكْبُرُ عَنْها كُمُّهُ وَبَراجِمُهْ البراجم: رؤوس السلاميات من ظاهرة الكف، إذا قبض القابض يده نشزت وارتفعت، واحدتها برجمة. ثم أخذ في مدحه، ووصف حاله، فقال: إن الملوك يتواضعون عن تقبيل

يده وكمه، ويقتصرون على تقبيل بساطه، إعظاماً لقدره، واعترافاً بفضله. قِياماً لمن يَشْفي مِنَ الدَّاءِ كَيُّهُ ... ومِنْ بَيْن أذْني كُلِّ قَرْمٍ مواسِمُهْ ثم ذكر أن الملوك يقومون بين يديه إعظاماً له، وأن أدبه يبصرهم من جهلهم، ويشفيهم من دائهم، وأن ملكه لقرومهم وذوي الأقدار منهم، يقوم مقام السمة بين آذانهم، والوشم في الأعناق والأيدي غاية استدلال المالك لمن ملكه، وقد فعل ذلك الحجاج بقوم من عجم السواد؛ ولذلك قال الفرزدق في بعض من طعن على نسبه من العرب: لو كانَ حيَّاً لَهُ الحَجَّاجُ ما وُجِدَتْ ... كَفَّاهُ سَالِمةً من نَقْشِ حَجَّاجِ قَبَائِعُها تَحتَ المَرَافِقِ هَيْبَةَ ... وأنْفَذَ مِمَّا في الجُفون عَزَائِمُهْ القبائع: رؤوس السيوف، واحدتها قبيعة. ثم ذكر أن الملوك لإعظامها له، تعتمد بين يديه على قبائع سيوفها، وعزائمه أنفذ مما في جفونها.

لَهُ عَسْكرا خَيْلٍ وطَيْرٍ إذا رَمَى ... بَها عَسْكَراً لم تَبقَ إلاَّ جَمَاجِمُهْ ثم ذكر أن الطير تصحب خيله اعتياداً لكثرة وقائعها، على نحو قول النابغة. إذا ما غَزَوا بالجيشِ حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب فكأنها لملازمتها عسكره من عديد جيشه وحشمه، فإذا رمى عسكراً بخيله وطيره أهله، ولم يبق منه غير جماجم أهله. أجِلَّتُها من كُلَّ طَاغٍ ثَياُبُه ... وَمْوطُئَها مِنْ كُلَّ بَاغٍ مَلاَ غُمهُ ثم ذكر قدرته على أعاديه، واستعلاءه على مخالفيه، فقال: إن جلال خيله من ثياب طغاتهم، وماطئها ملاغم أفولههم، مشيراً بذلك إلى قتلهم، والملاغم: ما حول الفم، وليس تتم الصفة التي ذكر إلا بعد الإمعان في قتلهم، وإهلاكه لهم، وبلوغ الغاية في الظهور عليهم.

فقد مَلَّ ضَوْءُ الصُّبْحِ مِمَّا تُغِيُره ... وَمَلَّ سَوادُ الليلِ مِمَّا تُزَاحِمُهْ ثم ذكر: أنه لا يزال يغير في الصبح، ويسري في الليل، ويطاعن بالرماح حتى تتكسر صدورها، ويلاطم بالسيوف حتى يملها. ومَلَّ القَنَا مِمَّا تَدُقُّ صُدُور ... ومَلَّ حَدِيدُ الهْنِدِ مِمَّا تُلاَطُمهْ سَحَابٌ مِنَ العِقْبَانِ تَزحَفُ تَحْتَهَا ... سَحَاب إذا اسْتَقَتْ سَقَْتَها صَوَارِمُهْ ثم وصف جيوشه وكثرتها، وصحبة الطير لها وملازمتها، فشبه العقبان لكثرتها بسحائب مستعلية، تحتها سحاب من جيوشه، إذا استسقت سقتها سيوفه من ماء أعدائه، وألحمت طيوره أجسادهم وحذف من هذا في لفظه ما دل عليه بإشارته. سَلَكْتُ الدَّهْرِ حَتَّى لَقِيْتُهُ ... عَلَى ظَهْرِ عَزْمِ مُؤْيدَاتٍ قَوَائمُهُ المؤيدات: المثقلات. ثم ذكر نفسه: أنه سلك صروف الدهر بتقلبه فيهان حتى لقي سيف

الدولة ممتطياً لعزم قد أثقل وفوره قوائمه. وجرى هذا على سبيل. الاستعارة. مَهَالِكَ لم تَصْحْب بَهَا الذَّئبَ نَفْسُهُ ... ولا حَمَلتْ فيِهَا الغُرابَ قَوادُِمهْ ثم وصف ما تقلب فيه من خطوب الدهر، قبل لقائه سيف الدولة، التي لا تصحب الذئب فيها نفسه مع جراته عليها، ولا تحمل الغراب فيها قوادمه مع اعتياده لها. والقوادم: صدور ريش جناح الطائر، أربع في كل جناح. فَأَبْصَرْتُ بَدْراً لا يَرَى البَدْرُ مِثْلَهُ ... وخَاَطْبُت بَحْراً لا يَرَى العْبَر عَائِمْ عبر النهر: شطه. ثم ذكر: أنه من سيف الدولة؛ ممدوحه، بدر كرم، ومولى نعم، يستعظم البدر أمره، ويقصر دونه، ولا يعهد مثله، وخاطب بحراً لا يبصر العائم شطه، ولا يدرك الناظر ساحله. غَضِبْتُ لَهُ لَمَّا رَأيتُ صِفاتِهِ ... بِلاَ وَاصفٍ والشَّعر تَهْدي طَمَاطُمة

الطماطم: أصوات لا يستبين لفظها. ذكر: أنه غضب له من جلالة أوصافه، وتقصير وصافه، وشبه ما كان يمدح من الشعر قبله بالطماطم، التي هي أصوات لا تفهم، واختلاطات لا تعلم، فوجه إلى قصده عزمه، وأعمل في امتداحه نفسه. وكُنْتُ إذَا يَمَّمْتُ أرْضَاً بَعِيدة ... سَرَيْتُ فَكُنْتُ السِّرَّ واللَّيْلُ كَاتِمُهْ يقول: إنه لنفاذ عزمه، وشدة جلده، إذا قصد أرضاً بعيدة إدرع الليل، والليل، واستتر به، وواصل السرى فيه، وكان موضعه من اشتمال الليل عليه، والخفاء فيه، موضع السر من حامله، والضمير المصون من كاتمه. لَقَدْ سَلَّ سَيَّفَ الدَّوْلةِ المْجْدُ مُعْلِماً ... فَلاَ المَجْدُ مُخْفِيهِ ولا الضَّرْبُ ثَالُمِهْ ثم أخذ في المدح، فقال: إن المجد قد أعلم سيف الدولة، مباهياً بجلالته، وواثقاً بصرامته، فلا المجد يخفيه لتزيينه بموضعه، ولا الضرب يتلثمه لحسبه وكرمه. عَلَى عاتِقِ المُلْكِ الأغَرِّ نِجَادُهُ ... وفي يَد جَبَّارِ السَّماواتِ قائِمُهْ

ثم أخذ له صفات من اسمه، أبان بها جلالة قدوه، فقال: إنه من الملك في أرفع مواضعه، ومن تأيد الله عز وجل في المحل الذي تمضيه فيه يده، وإذا كان كذلك، اكتنفه نصرهن وساعدته أقداره. تُجارِبُهُ الأعْدَاءُ وَهْيَ عِبَادُهُ ... وَتَدَّخِرُ الأمْوَالَ وَهْيَ غَنَائِمُهْ ثم قال: الأعداد تحاربه وهي عباده، والعباد: جمع عبد على قياسه. لأن قدرته عليهم قدرة المالك على عبده، وتدخر الأموال وهي غنائم له؛ لأنها غير ممتنعة عليه. وَيَستْكْبِرُون الدَّهْرُ والدَّهْرَ دُونه ... وَيَستْعظمون الموتَ والموتُ خَادُمِهُ ثم قال: فمالهم يستكبرون الدهر، الدهر دونه؛ لأنه مستعمل بحسي إرادته، تقرب له فيه السعادة بغيته، ويسهل عليه الإقبال رغبته، وكذلك يستعظمون الموت، الموت يخدمه؛ لأنه يفني أعداءه، ويبتر أعمارهم، ويقلل عددهم، وييسر الله ذلك له، وينتقم من أعدائه به.

وإن الذي سَمَّى عَلِيَّاً لَمُنْصِفُ ... وإنَّ الذي سَمَّاهُ سَيْفاً لَظَالِمُهْ ولما ذكر أن الدهر طوعه، والموت معينه، قضى بالظلم على من سماه سيفاً؛ لتقصر السيف عنه، وبالإنصاف على من سماه علياً؛ لمشاكلة العلو له، وجعل هذا الاسم، وإن كان علياً علماً مخصوصاً، صفة مشتقة له، تشاكل حاله، وتوافق حقيقته. وما كُلُّ سَيْفِ يَقْطَعُ الهامَ حَدُّهُ ... وتَقْطَعُ لَزْبَاتِ الزَّمَانِ مَكَارِمُهْ ثم أكد ذلك بقوله: أنه لا يوجد سيف غيره يقطع الهام حده، ويوجب الخصب فضله، وتقطع لزبات الزمان مكارمه، وهي الشدائد، فبين أن فضله على السيف فضل ظاهر، وشرفه عليه شرف بين، وأنه يقصر عنه، ويتواضع دونه.

وقال يمدحه، وقد عزم الرحيل عن إنطاكية: أيْنَ أزْمَعْتَ أيُّهذا الهُمَامُ ... نَخْنُ نَبْتُ الرُّبَا وأنْتَ الغَمَامُ المزمع: المعتزم، والربا: جمع ربوة، وهي الأكمة. فيقول: أين أزمعت على الرحيل عنا أيها الملك، ونحن الذين أظهرتهم نعمك، إظهار الغمام لنبت الربا، وهو من آنق النبت، ولذلك ضرب الله تعالى المثل به، فقال تعالى: (ومَثَلُ الذينَ يُنْفِقونَ أمْوَالَهم ابْتِغاءَ مَرْضاتِ الله وتَثْبِيتاً من أنْفُسِهم، كَمَثلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أصَابها وابلُ). وهو مع ذلك أقرب النبت موضعاً من الغمام، وأشده افتقاراً إليه، لأنه لا يقيم فيه، ويسرع الانسكاب عنه، ولهذا شبه أبو الطيب حاله به.

نَحْنُ مَنْ ضَايَقَ الزَّمانُ له في ... كَ وخَانَتْهُ قُرْبَكَ الأيَّامُ ثم ذكر: أن الزمان ضايقه في الاقتراب من سيف الدولة، ولم يسمح له به، وخانته الأيام فيه؛ لاتصال حركاته، وكثرة غزواته. في سَبيل العُلاّ قِتَالُكَ والسل ... مُ وَهَذا المُقامُ والإجْذَامُ السلم: الصلح، وأوله يكسر ويفتح، فمن كسره ذكره، ومن فتحه أنثه، والإجذام: الإسراع. فيقول: إن قتال سيف الدولة وسلمه، وإقامته ورحلته في طريق المجد وسبيل الكرم، وإنه لا يألف من ذلك إلا ما شرف قدره، وأظهر فضله. ليْتَ أنا إذا ارتَحَلتْ لَكَ الخَيْلُ ... وَأنَّا إذا نَزَلْتَ الخِيَامُ ثم قال: ليت أني ومن يتصل بي نتحمل من مئونتك ما تتحمله الخيل عند رحلتك، وننوب في صيانتك عن الخيام عند إقامتك، رغبة في الشرف بقربك، والقضاء لحقوق فضلك. كُلَّ يَوْمٍ لَكَ احتِمَالُ جَديدُ ... وَمَسيرُ للمَجْدِ فيه مُقامُ

ثم ذكر: أنه لا ينفك من مرحلة وغزوة، يرفه المجد فيها بتعبه، ويجمه بتمونه، فيوجب ذلك انفراده به، واجتيازه له، ولقد أبدع بالمطابقة بين المسير والمقام. وإذَا كانَتِ النُّفُوسُ كِبَارَاً ... تَعِبَتْ في مُرَادِهَا الأجْسَامُ ثم قال: وإذا عظمت النفوس، وارتفعت الهمم، سهل في مرادها الشديد، وقرب البعيد، وتعبت الأجسام، الأجسام، واستكره المقام. وَكَذا تَطْلُع البُدُورُ عَلَيْنَا ... وَكَذَا تَقْلَقُ البُحُورُ العِظَامُ وكذلك البدور إنما تطلع علينا سائرة، وتبدو لأعيننا راحلة، والبحر يمد ويحشر، ويهيج ويضطرب، فبين أن من عظم شأنه، كثر تمونه، ولم يستقر به موضعه، والبدور جمع بدر، وكأنه جعل بدر كل شهر بدراً على حياله. ولَنَا عَادَةُ الجَميلِ من الصَّبرِ ... لَو أنَّا سِوَى نَوَاكَ ثم يقول: نحن أهل الصبر والحفاظ، والمعتادون لذلك، لو أننا

نطرق بغير نواك، ونعرض لغير بعدك، ولكن ذلك مما يخذل الصبر فيه محاولة، ولا يسعد عليه طالبه. كُلُّ عَيشٍ ما لَمْ تُطِبْهُ حِمَامُ ... كُلَّ شَمْسٍ ما لَمْ تَكُنْهَا ظَلامُ ثم بين ذلك، بأن ذكر: أن العيش في غير جنبته موت، والحياة إذا لم تطب بقربه حمام، والشمس إذا لم تتأيد بضيائه ظلمته، والنهار إذا لم يستمد ببهجته سدفة، ومن كانت هذه حاله، فالصبر معدوم عند فقده. أزِلِ الوَحْشَةَ التَّي عِنْدَنا يا ... مَنْ بِهِ يأنَسُ الخميسُ اللُّهَامُ الخميس: الجيش، واللهام: الذي يلتهم الأرض بكثرته، والالتهام: الابتلاع. فيقول: أزل بقدومك علينا الوحشة التي أوجبتها رحيلك عنا، يا من بموضعه يأنس الجيش الكثير، والذي يعتد الجيش بشجاعته أكثر من اعتداده بجماعته. وأبدع بالمطابقة بين الأنس والوحشة. والذي يَشْهَدُ الوغى سَاكِنَ ... القلْبِ كأنَّ القِتَالَ فِيها ذِمَامُ ثم قال: والذي يشهد الحرب، رابط الجأش، ثابت النفس، غير

حافل بشدتها، ولا مشتغل بمخوف عاقبتها، حتى كأن قتاله فيها ذمام يقضيه، وفرض يؤديه. والَّذي يَضْرِبُ الكَتَائبَ حَتَّى ... تَتَلاقَى الفِهَاقُ والأقدَامُ الفهاق: جمع فهقة، وهو العلم الذي يكون على اللهاة. ثم ذكر: أن السيف الدولة يضرب كتائب أعدائه، حتى تطأ الأقدام فهاق فرسانها، فتتلاقى حينئذ. وأشار بذلك إلى قتلهم، وسقوط رؤوسهم عن أجسادهم. وإذَا حَلَّ سَاعَةً بِمَكانٍ ... فَأذَاهُ عَلَى الزَّمانِ حَرَامُ يريد: أن سيف الدولة إذا حل ببلد أقل إحلال، أجاره على الدهر، وكشف عنه صروفه، وحرم عليه أذاه، وأمن ببركته، وجانبه المكروه بسعادته. والذي تُنْبِتُ البِلادُ سُرُورُ ... والَّذي تُمْطِرُ السَّحَابُ مُدَامُ

ثم قال: فكأن السرور نبات ذلك البلد لكثرته فيه، وكأن المدام سحابه؛ لظهور فرح أهله به. كُلَّما قِيلَ قَدْ تَنَاهَى أَرَانَا ... كَرَماً ما اهْتَدت إليه الكِرامُ يريد: أنه يبلغ في الكرم ما لا ترتقب الزيادة فيه، ويفعل منه كل ما تنتهي المعرفة إليه، فإذا قيل هذا غاية الكرم، أبدع فيه ما لا عهد لأحد بمثله، ولا يبلغه كريم بجهده. وَكِفَاحاً تَكِعُّ عنهُ الأعَادي ... وارْتيَاحاً يَحَارُ فيه الأنامُ ثم قال: وكذلك يظهر في الحرب جلاداً تنكص الأعداء منه على أعقابها، وتفر منه على وجوهها، ثم ذكر أنه يرتاح للكرام ارتياحاً، تحار العقول فيه، وتعجز الأنام عنه. إنَّما هَيْبَةُ المُؤمَّلِ سَيْفِ الدْ ... دَولَة المُلْكِ في القُلوبِ حُسَامُ فَكَثيرُ مِنَ الشُّجاعِ التَّوَقِّي ... وَكَثيرُ من البليغِ السَّلامُ ثم ذكر: أن في القلوب من هيبته، ما يشبه السيف في نفاذه، ثم قال: فالشجاع مقصر عن مباطشته، وكثير له توقيه، والبليغ منقطع عن مفاتحته، ويستعظم لفه أن يسلم عليه.

وقال عند مسيره عنها: رَوَيْدَكَ أيُّها المَلِكُ الجُليلُ ... تأيَّ وَعُدَّهُ مِمَّا تُنِيلُ يقول: تمهل أيها الملك في رحيلك، وترفق في سيرك، واجعل ذلك مما تعتد به في نوالك، عند أهل بلدك، وهباتك للمشتملين بنعمتك. وَجُودُكَ بالمُقامِ وَلَوْ قَليلاً ... فَمَا فِيما تجودُ بِهِ قَليلُ وقال: وجودك في أن يقيم، ولو قليلاً، فيه بقربك، وإن كان لا قليل فيما تنيله، ولا يسير فيما تسمح به. لأكْبِتَ حَاسِدَاً وأرَي عَدُوَّاً ... كأنَّما وَداعُكَ والرَّحيلُ يقول له: ترفق في رحيلك؛ لأكبت بذلك حاسداً يشبه وداعك، وعدواً يشله رحيلك، فشبه الحاسد بالوداع، وكلاهما ذو ظاهر ولا حقيقة له، والعدو بالرحيل، وكلاهما معلن بمكروهه، فشبه شيئين بشيئين أصح تشبيه، وهذا أرفع وجوه البديع. وَيَهْدَأ ذا السّحَابُ فَقَدْ شَكَكْنَا ... أتَغْلِبُ أمْ حَياهُ لكمْ

ثم سأله انتظار سكون المطر وهدوئه، إذ قد افضل منه ما لا يشبه جود الممدوح، حتى شككه في من يستحقه من الفريقين؛ تغلب قومه أم خيا السحاب الذي هو يشبهه. وَكُنْتُ أَعِيبُ عَذْلاَ في سَمَاحٍ ... فها أَنا في السَّمَاحِ لَهُ عَذُولَ ذكر: أنه كان يعيب العذل في السماح حتى رأى جود الممدوح، فرأى من إفراصه، ما أوجب عليه أن يأتي في عذله على جوده، ما كان ينهى عنه وَمَا أَخْشَى نُبُوَّكَ عن طَريقٍ ... وَسَيْفُ الدَّوْلةِ اَلْماضِي الصُّقِيل ثم قال: إنه لم ينهه عن الرحيل في المطر إلا رغبة في الاستكثار منه، لا خوفاً لنبوه عن وحل الطريق وخصوبته، فهو سيف الدولة الماضي حده، الصقيل متنه. وَكُلُّ شَوَاةِ غِطْريفٍ تَمَنَّى ... لِسَيْرِكَ أَنَّ مَفْرِقَهَا السَّبِيلُ يريد: أن الطريق تتشرف به، وتأتي على جمع الوجوه له. حتى أن رؤوس السادة تود أن مفارقها بدل من طرقه، لتزداد شرفاً بسيره فيها، ورفعة باقترابه منها.

وَمثل العمق مملوء دماء ... مشت بك في مجاريه الخيول يقول: ما أخشى نبوك عن هذه الوادي المعترض لك، ولو أنه مليء من دماء وقائعك، فمشت بك خيولك في مجاريه، فكيف أخشى عليك سيله.؟ إذَا اعتادَ الَفتَى خوض المنايا ... فأهون ما يمر به الوحول ثم قال: إن من اعتاد أن يخوض غمرات المنايا، فأهون ما يعانيه خوض الماء والطين؛ وهما الوحل. ومن أمر الحصون فما عصته ... أطاعته الحزونة والسهول قال: من أطاعته الحصون الممتنعة فأفتتحها، والقلاع المتصعبة فتملكها، أطاعته لا محالة حزون الطرق وسهولها، وتمكن له قريبها وبعيدها.

أًتَخْفُرُ كُلَّ مَنْ رَمَتِ اللْيالي ... وَتُنْشِرُ كُلَّ دَفَنَ الخُمُولُ! قال: أتجير كل من رمته الليالي بصروفها، وقصدته بخصوبها، وتحيي كل من سقط ذكره، ودفنه خموله، فتجير ذلك بحمايتك له، وتحيي هذا بإكرامك إياه. وَنَدْعُوكَ الُحسَامَ وهَلْ حُسَامٌ ... يَعِيْشُ بِهَ مِنَ الموتَ القَتِيل! قال وندعوك سيفاً، والسيف يعدم الحياة، وأنت تعيده، وهو يتلفها، وأنت تهبها، فكيف نسيمك بما فعلك ضد فعله، وقدرك فوق قدره؟. وَمَا لِلسَّيْفِ إِلا القَطْعَ فِعْلُ ... وأَنْتَ القَاطِعُ البُرُّ الوَصُولُ قال: وما للسيف فعل غير قطعه، وأنت تقطع أعاديك، وتصل مؤمليك وتسر قصادك، وتحوط رعيتك فتشركه في أرفع أحواله، وتنفرد دونه بأرفع أحوالك أجل أوصافك.

وأنت الفارس القوال صبراً ... وقد فني التكلم والصهيل يقول: أنت الفارس الثابت النفس، الرابط الجأش، الداعي إلى الصبر، إذا طاشت العقول، وخرست الألسن، فلم يقدر الأبطال على الكلام، ولا الخيل على الصهيل. يَحِيْدُ الرُّمْحُ عَنْكَ وفيهِ قَصْدُ ... وَيَقْصُرُ أَنْ يَنَالَ وفيهِ طُولُ ثم قال: إن في هذا المقام تنهبك الأبطال، فتحيد رماحهم عنك مع استقامتها، وتقصر عن أن تنالك مع طولها؛ يريد: أنه لا يتعاطى الفرسان مطاعنته، ولا تمثيل مقاومته. فلو قَدَرَ السَّنَانْ على لِسَانٍ ... لَقَالَ لَكَ الَسنَانُ كَمَا أَقُولُ يقول: فلو أن سنان الرمح ينطق، لصدق ما أصفه من هيبته لك، ولقال بمثل ما أقول من ذلكن لترفيعه بك. وَلَوْ جَازَ الخُلودُ خَلَدْتَ فَرُدَاً ... ولَكِنْ لَيْسَ للدُّنْيَا خَليلُ يقول: ولو أن الدنيا خلدت أحداً لتزينها بهن وما جمعه الله من الفضائل لكنت أنت ذلك المخلد، لعلو قدرك، وجلاله أمرك، ولكن الدنيا ليس لها خليل تؤاخيه، ولا أحد تبقيه وتصافيه.

وتوفيت لأن سيف الدولة بما فارقين، وورد خبرها إلى حلب، وأبو الطيب بإنطاكية، فقال هذه القصيدة، وأنشدها سيف الدولة بحلب في جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة. نُعِدُّ المَشْرَفِيَّةَ والعَوَالي ... وتَقْتُلُنا المَنُونُ بلا قِتَال يقول: نعد صوارم السيوف، وعوالي الرماح، لمنازلة الأعداء، ومدافعة الأقران، وتحترمنا المنية دون قتال أو نزال، لا يمكننا حذارها، ولا يتهيأ لنا دفاعها. وَنَرْتَبطُ السَّوابِقَ مُقْرَبَاتٍ ... ومَا يُنْجينَ مِنْ خَبَبِ اللَّيالي قال: ونرتبط عتاق الخيل وسوابقها، ونكرمها باستقراب مرابطها، وهي مع ذلك لا تعصمنا بجهدها واستفراغها من عقوبة الدهر لنا، وخبب لياليه في آثارنا، بل ذلك العفو يغلب جهدها، ويعجز أبعد غايات سعينا. وَمَنْ لم يَعْشَقِ الدُّنْيَا قَديماً ... وَلَكِنْ لا سَبيلَ إلى الوِصالِ يقول: إن النفوس مجبولة على عشق الدنيا، مع التيقن بسرعة

زوالها، والتحقق لامتناع وصالها وإن سرورها يعقبه الحزن، وحياتها يقطعها الموت. نَصِيْبُكَ في حَيَاتِكَ مِنْ حَبيبٍ ... نَصِيبُكَ في مَنَامِك من خَيَال يقول: إن نصيب الإنسان من وصال حبيبه في حياته، كنصيبه من وصال خياله في منامه؛ لاتفاق الأمرين في سرعة انقطاعهما، واشتباههما في صحة زوالهما، وإن الحالين كلاهما يعدم، ويحدث عنه ويمتثل، فما ظنك بحق يشبه الباطل، ويقظة يشاكلها النوم.! رَماني الدَّهْرُ بالأرزاءِ حتَّى ... فُؤادي في غِشاءٍ من نِبالِ ثم ذكر: أن الدهر قصده بفجائعه، ورماه بمصائبه، واعتمده بسهامه، وأثبت فيه نصاله، حتى صار منها في غشاء يشمله، ووعاء يعمه. فِصرْتُ إذَا أصَابتْني سِهامَ ... تَكَّسَرتِ النَّصالُ على النِّصَالِ قال: فهو إذا أصابه الدهر بخطب من خطوبه، وصرف من صروفه،

فإن ذلك إنما يوافق مثله، ويفرع شكله، وكنى بنصال السهام عن اجتداد الخطوب، وقال: إن بعضها يكسر بعضاً في فؤاده، لتزاحمها فيه، وتكاثرها عليه. وَهَانَ فَمَا أبَالي بالرَّزَايا ... لأني ما انتفَعْتُ بأن أُبالي قال: وهان، يريد: رمي الدهر له برزاياه، فحذف الرمي لدلالة قوله (رماني الدهر) عليه، وأضمر ثقة بما قدمه من التفسير؛ لأنه لما قدم وصف حاله، ورمي الدهر له، قال (وهان)، يريد: وهان ذلك، وإضمار ما يقدم ذكره حسن في الكلام، ثم ذكر أنه لا يبالي بما طرقه من الرزايا لتتابعها، فهو لا يجزع لها، لتيقنه أن الجزع غير نافع فيها. وهَذَا أوَّلُ النَّاعِيْنَ طُرَّاً ... لأوَّلِ مَيْتَةٍ في ذَا الجَلالِ كَأنَّ الموتَ لم يَفْجَعْ بِنَفْسٍ ... وَلَمْ يَخْطُرْ لِمَخْلُوقٍ بِبِالِ ثم قال: إن الناعي لأم سيف الدولة أول من نعى ميتة في شرفها، ومفقودة في مثل منزلتها، وإم المصيبة بها أنست المصائب، وبعثت من الحزن ما أفقد جميل الصبر، وأوجب أشد الجزع، حتى كأن الموت قبلها لم يفجع بنفس، ولا خطر ببال.

صَلاةُ الله خَالِقنَا حَنُوطُ ... على الوَجْهِ المُكَفَّنِ بالجَمَالِ ثم قال: رحمة الله ومغفرته حنوط هذه الميتة التي غيبها الجمال كما غيبها الكفن، وسترها كما سترها القبر. عَلَى المَدْفُونِ قَبْلَ التُّرْبِ صَوْناً ... وَقَبْلَ اللَّحْدِ في كَرَمِ الخِلاَلِ ثم قال: على التي كانت قبل أن تدفن في الترب دفينة في ستر الصيانة، وقبل أن تشتمل في اللحد مشتملة بالكرم والديانة، وأن شخصها وإن أبلاه الترب، وغيره الموت، فذكر كرمه جديد، وأثر فضله ظاهر، وشاهد إحسانه بين. فإنَّ لَهُ بِبَطْنِ الأرْضِ شَخْصاً ... جَديداً ذِكْرُنَاهُ وَهو بَالي وقال: (ذكرناه)، فوضع الضمير المتصل موضع الضمير المتصل، وقد ذكر سيبويه أن ذلك جائز في الشعر، وأنشد عليه: همُ القائلون الخيرَ والآمِرُونَهُ ... إذا ما خَشُوا من مُحْدَثِ الأمْرِ مُعْظَمَا فوضع الهاء في قوله (والآمرونه) موضع المنفصل، كما وضعها المتنبي في قوله (ذكرناه).

أطَابَ النَّفْسَ أنكِ مُتِّ مَوْتَاً ... تَمنَّتْهُ البَوَاقي والخَوَالي يقول: عزى عن عظيم مصابك أن الموت طرقك ولا بد منه، على سبيل من الرفعة، وحال من السلطان والنعمة، يتمنى الموت في مثلها كل من كان قبلك، ومن يتلوك بعدك. وَزُلْتِ وَلَمْ تَرَيْ يَوْماً كَرِيهاً ... يُسَرُّ الروحُ فيه بالزَّوَالِ رِوَاقُ العِزِّ فَوْقَكِ مُسْبَطُّر ... وَمُلْكُ عليَّ ابْنِكِ في كَمَالِ ثم إنك لن تري في حياتك يوماً تكرهينه، ولا شيئاً تسائين به، وعوفيت من خطوب الدهر التي يتمنى لها الموت، فزلت ورواق العز ممدود عليك، وابنك كامل ملكه، جليل قدره. سَقَى مَثْوَاكِ غَادٍ في الغَوَادي ... نَظِيرُ نَوَالِ كَفَّكِ في النَّوَالِ ثم قال: سقى قبرك غيث وابل، يكون موقعه في السحاب، موقع نوال كفك في العطاء، وأشار بذلك إلى أن إعطاءها غاية ما يطلبه المتمني في الكثيرة.

لِساحِيهِ على الأجْدَاثِ حَفْشُ ... كأيْدي الخَيْلِ أبْصَرَتِ المَخَالي ثم وصف ذلك الغيث الذي دعا لها به، فقال: لساحيه، وهو وابله وغزيرة، على الأجداث، وهي القبور، وقع يشبه بشدته وقع أيدي الخيل على الأرض، إذا بحثت بها عند نظرها إلى العلف. أُسَائِلُ عَنْكَ بَعْدَكِ كُلَّ مَجْدٍ ... وَمَا عَهْدي بِمَجْدٍ مِنْكِ خَالي يَمُرُّ بِقَبْرِكِ العافي فَيَبْكي ... ويَشْغُلُهُ البكاءُ عن السُّؤَالِ ثم قال: إن المجد كان مقصوراً عليها في حياتها، فصار (معدولاً) عنها بعد مماتها، وإن العافي، وهو السائل، إذا مر بقبرها، وتذكر ما كان يشمله منها، وما يناله من فضلها، أذهله الحزن عن الطلب، وشغله البكاء عن السؤال. وما أهدَاكِ للجدْوَى علَيْهِ ... لَوْ أنَّك تَقْدِرينَ على فِعَالِ يقول: وما كان أعلمك بطريق الإفضال عليه، لو أن الموت أمهلك، والأفعال تتمكن لك. بِعَيْشِكِ هَلْ سَلَوتِ فإنَّ قَلْبي ... وإن جَانَبْتُ رَبْعَكِ غَيْرُ سالي

يقول: بعيشك هل سلوت عن الحياة، فإني غير سال عن الحزن عليك، أذكرك وإن كنت بعيداً عن موضعك، وأندبك وإن كنت منتزحاً عن أرضك. نَزَلْتِ عَلَى الكَرَاهيةِ في مَكَانٍ ... بَعُدْتُ عَنِ النَّعامَى والشَّمَالِ ثم قال: نزلت مكرهة في منزل بعدت فيه عن الرياح مع شدة هبوبها، وقصرت أن تدركك مع سيرها، فدل على أنها في بطن الأرض، وأشار أبدع إشارة إلى اللحد. تُحَجَّبُ عَنْكِ رائِحَةُ الخُزَامَى ... وتُمْنَعُ مِنْكِ أنْدَاءُ الطَّلالِ ثم أكد ذلك بأن قال: تحجب عنك رياح الرياض العبقة، وتمنع منك أنداء طلالها المونقة، وأشار بالخزامى والأنداء إلى الرياض أحسن إشارة، ودل على القبر أبين دلالة، واعتمد الطلال من بين سائر الأمطار؛ لأنها أسمحها في الروض، وقطرها برقته يثبت على طاقات النور، ويرسخ بلينه في الأرض. بِدَارٍ كُلُّ سَاكِنِها غَرِيْبُ ... طَويلُ الهَجْرِ مُنْبَتُّ الحِبَالِ

ثم أكد بيان ما أبهمه، فقال: بدار من القبر ساكنها غريب، وقاطنها فقير، من حل فيها امتنع وصالة، ومن صار إليها انبتت حباله. حَصَانُ مِثْلُ مَاءِ المُزْنِ فيهِ ... كَتُومُ السِّرِّ صَادِقَةُ المَقَالِ ثم قال: إن أم سيف الدولة في شرف نسبها، وعلو منصبها، وطهارة نفسها، وصيانتها في قومها، كماء المزن، قد تناهت صيانتها كتناهي صيانته فيه، وارتفع موضعها كارتفاع موضعه، وطاب عنصرها كطيب عنصره، وهي مع ذلك كاتمة لسرها، صادقة في قولها. يُعَلَّلُها نِطاسِيُّ الشَّكَايا ... وواحِدُها نِطَاسِيُّ المعَالي إذا وَصَفُوا له دَاءً بِثَغْرٍ ... سَقَاهُ أسِنَّةَ الأسَلِ الطَّوالِ أخبر: أنها تعللت بطبيب عالجها، وقد ولدت طيب المكارم، وواحدي الفضائل، وأنه إذا وصفت له علة بثغر شفت من دائها أسنته، وأمنت مخافتها سيوفه، ولكن المنية لا تدفع بقدرة، ولا يعتصم منها بمنعة. وَلَيْسَتْ كالإنَاثِ ولا اللَّوَاتي ... تُعَدُّ لَهَا القُبُورُ من الحِجَالِ ولا مَنْ في جَنازَتِها تِجاَرُ ... يَكُونُ وَدَاعُها نَفْضَ النِّعَالِ

يقول: ليست كالإناث اللواتي تنقص بالجبلة، ويتمنى موتهن للسترة؛ لأنها عاشت ظاهرة الإحسان، وماتت مرتفعة المكان، وولدت ملكها تشرف الملوك بخدمته، ويتصرفون على حسب إرادته، فهم كانوا أهل جنازتها، لا التجار الذين يمتطون إلى المشاهد أقدامهم، وينفضون عند انصرافهم نعالهم. مَشَى الأمَرَاءُ حَوْلَيْها حُفَاةً ... كأنَّ المَرْوَ من زِفَّ الرِّئالِ حوليها: بمعنى حولها، تقول العرب: حولك وحوليك وحوالك وحواليك، كل ذلك بمعنى واحد، والمرو: حجارة بيض براقة تكون فيها النار والزف: صغير الريش، والرأل: ولد النعامة، وجمعه رئال. فيقول: إن الأمراء مشوا في هذه الجنازة حفاة متحزنين، قد ملكتهم الهيبة، وأفرطت عليهم الجلالة، حتى صاروا يطئون المرو ولا يتألمون به كما لا يتألم زف الرئال من وطأه. وَأبْرَزَتِ الخُدُورُ مُخَبَّآتٍ ... يَضَعْنَ النِّفْسَ أمْكِنَةَ الغَوالي النقس: المداد.

وأبرزت الخدور من نوادي هذه الميتة وحشمها، مخبآت غذتهن النعمة، وأنشأتهن الرفاهية، فهن يضعن النفس من وجوههن موضع الغالية. أتَتْهُنَّ المُصِيْبَةُ غَافِلاتٍ ... فَدَمْعُ الحُزْنِ في دَمْعِ الدَّلاَلِ الدلال: الدالة. يقول: أتتهن المصيبة على حين غفلة، ولم يكن من المصائب على عادة، فهن يظهرن الدلال مع الحزن، ويبدين الوله مع الحسن. وَلو كانَ النَّسَاءُ كَمَنْ فَقَدْنَا ... لَفُصِّلَتِ النَّسَاءُ عَلَى الرِّجالِ يقول: لو كمل النساء كمال هذه الفقودة، واحتزن ما احتازته من الفضل، لبان فضل النساء على الرجال، فرب تأنيث يقصر التذكير عنه، ولا يبلغ مبلغه، ولا ينال موضعه. وَمَا التَّأنِيثُ لاسْمِ الشَّمْسِ عَيْبُ ... ولا التَّذْكيرُ فَخْرُ لِلْهلاَلِ ثم بين ذلك بأن الشمس مؤنثة، والفضل لها، والقمر مذكر، وليس يعدل بها. وأفْجَعُ مَنْ فَقَدْنَا مَنْ وَجَدْنَا ... قُبَيْلَ الفَقْدِ مَفْقُودَ المِثالِ ثم قال: إن أعظم المفقودين فجيعة، وأجلهم مصيبة، من فقد

مثاله قبل فقده، وعدم نظيره قبل موته، وهذه المفقودة كذلك؛ إنها لم يماثلها أحد في فضائلها مدة حياتها، فعظمت الفجعة بها عند تمامها. يُدَفِّنُ بَعْضُنَا وَيَمْشي ... أواخِرُنَا عَلَى هَامِ الأوَلي الأوالي: بمعنى الأوائل، إلا أنه قلب، والعرب تفعل ذلك. فيقول: إن الإنسان مجبول على السلوة، مطبوع على الإعراض عن الرزية، فالحي يدفن سالياً، والآخر يطأ قبر الأول ناسياً، والمصير واحد، والاغترار زائد. وَكَمْ عَيْنٍ مُقْبلةِ النَّواحي ... كَحِيلٍ بالجَنَادل والرَّمَالِ ثم قال: وكم من ذي نعمة نقل عنها إلى لحده، وذي رفاهية أخرج منها إلى قبره، وذي عين محبوبة مزينة عوضت بالبلى من زينها، وبالتراب من كحلها. وَمُغْضٍ كانَ لا يُغْضِي لخَطْبٍ ... وَبَالٍ كَانَ يُفْكِرُ في الهُزَالِ الهزال: سوء الحال.

ثم قال: ورب من كان لا يغضي للخطوب لرفعة قدره، قد ثنى الموت طرفه، وغير جسمه، ورب من كان يحذر الضر، ويتوقع الفقر، قد عاجله الموت فأبلاه قبل ما كان يحذره، وإخترمه قبل الذي كان يتوقعه. والإغضاء: تقريب ما بين الجُفُونِ. أسَيْفَ الدَّوْلَةِ اسْتَنْجِد بِصَبْرٍ ... وَكَيْفَ بِمِثْل صَبْرِكَ لِلْجَبالِ الاستنجاد: الاستعانة. فيقول لسيف الدولة: استعن بالصبر، وأنت أهله، وأثبت من الجبال فيه. وأنْتَ تُعَلِّمُ النَّاسَ التَّعَزيَّ ... وَخَوْضَ الموتِ في الحَرْبِ السِّجالِ الحَرْبُ السجال: التي تتداول فيها الغلبة، وذلك أدعى إلى شدتها. ثم قال: وأنت أهل العزاء؛ لأن العزاء منك يتعلم، والجدير بالصبر؛ لأن الصبر إليك ينسب، وبك يقتدي في الإقدام على الموت، والنفاذ في غمرات الحرب، والاستقلال بشدائدها، والقيام بها عند تساجلها. وَحَالاتُ الزَّمانِ عَلَيْكَ شَتَّى ... وَحَالُكَ وَاحِدُ في كُلِّ حَالِ فحالات الزمان تختلف عليك بالسراء والضراء، والشدة والرخاء،

وحالك لا تختلف في كرم نفسك، ونفاذ عزمك. وما يتكفل الله به من جميل العاقبة لك. فلا غِيْضَتْ بِحَارُكَ يا جَمْومَاً ... على الغَرَائِب والدَّخالِ غيض: الماء: ذهابه، والجموم: البئر الغزيرة، والعلل: الشرب الثاني، والدخال: هاهنا أن تشرب الإبل ثم تثار فتعرض على الماء، وقد يقال بخلاف ذلك، والغرائب من الإبل: المستضيفة إلى إبل أهل الماء من غيرها. فيقول لسيف الدولة: لا أعدم الله العفاة جزيل عطائك، ومتتابع إحسانك، يا بحر كرم يتدفق مع كثرة الواردين له، ويزيد مع ترادف الشارعين فيه، فينال منه الغريب القاصد، كما ينال القريب القاطن، وضرب لذلك مثلاً من السقيا، فشبههة بالمورد الغزير الذي يكثر مع تتابع الشرب فيه، وليس تصير الغرائب من الإبل إلى العلل والدخال إلا عن غزر المورد، وبلوغ إبل الماء إلى غاية الري. رَأيْتُكَ في الَّذينَ أرَى مُلُوكاً ... كأنَّكَ مُسْتَقيمُ في مُحَالِ فإن تَفُقِ الأنَامَ وأنتَ منهُمْ ... فإن المِسْكَ بَعْضُ دَمِ الغزَالِ

ثم قال: إن بيان فضله على الملوك، كبيان فضل الاستقامة على المحال، والحق على الباطل، فإن فاق الأنام وهو منهم، وفضلهم مع مشاركته في الجنس لهم، فالمسك من دم الغزلان في أصله، وسائر دماء الحيوان يقصر عنه، ولا يشبه بشيء منه، ورب واحد قد بذ أمه، وبعض قد فات جملة.

ونجم خارجي يعرف بابن هرة الرماد في كلب ببرية حمص، فأغار على أطراف حمص، وصاحب حربها أبو وائل، تغلب بن داود بن حمدان من قبل سيف الدولة، وكان قد خرج من ذلك اليوم كالمنتزه وحده، فأسره الخارجي، وطالبة بمال، وخيل كانت له سوابق، فوعده بها، واتصل الخبر بسيف الدولة، فسار في جيشه، فما أراح حتى أوقع به، وجعل العرب على مقدمته، فوقعت بابن هرة الرماد فهزمها، إلى أن بلغ إلى سيف الدولة، وكان سيف الدولة في ألفين من غلمانه ووجوه رجاله، فحمل عليه فقتله وجميع أصحابه، واستنقذ أبا وائل، فقال أبو الطيب - أنشدها في شعبان سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة. إلامَ طَمَاعِيَةُ العَاذِلِ ... وَلاَ رَأيَ في الحُبِّ لِلْعَاقِلِ إلام: هي إلى التي للخفض، دخلت على ما التي للاستفهام، فبنيت

معها بناء كلمة واحدة، وسقطت الألف من ما استخفافاً، واعتداداً بالي في الكلمة الموصولة بها، وكذلك يفعلون بما التي للاستفهام إذا اتصل بها سائر حروف الجر، ولا يفعلون ذلك بما في الخبر، وأخرجهم إلى ذلك كثرة الاستعمال، لما في الاستفهام، والطماعية: مصدر بمعنى الطمع، كالعلانية والكراهية. فيقول: إلى أي شيء يصرف العاذل طمعه من سلوان المحب، وما يرجوه من ذلك ممتنع، والمقصد بينه وبين المحب مختلف؛ لأن المحب مغلوب على أمره، والمتعقب العاقل مختار لنفسه، ولا رأي له في الحب الذي يوجع قلبه، ويشغل نفسه. يُرَادُ مِنَ القَلْبِ نِسْيَانُكُمْ ... وتَأبى الطِّبَاعُ على النَّاقِلَ الطباع والطبيعة: بمعنى واحد، وهما الخليقة. ثم أكد ذلك بقوله، مخاطباً لأحبته: يريد العاذل من القلب نسيانكم،

وقد جرى حبكم منه مجرى الطبيعة، وحل فيه محل الخليقة، والطبيعة لا تنقاد لناقلها، ولا تتأتى لمخالفها. وإنِّي لأعْشَقُ مِنْ عِشْقِكُمْ ... نُحُولي وكُلُ امْرئ ناحِلِ أخبرنا باستبصاره في عشق وأنه لتأكد نيته في ذلك، يعشق نحول جسمه، ويأنس باتصال سقمه، ويعشق كل ناحل، لمشاكلته إياه في حاله. وَلَوْ زُلْتُمُ ثُمَّ لَنْ أبْكِكُمْ ... بَكَيْتُ على حُبِّي الزَّائِلِ ثم قال: ولو زلتم ولم أبك على نأيكم، وأظهر الأسف لفقدكم، لبكيت لفقد حبكم، وأسفت لعدم عشقكم، اغتباطاً بذلك فيكم، واستعذاباً لما ألقاه بكم. واستفتاحه بقوله: (ولو زلتم)، وتقفيته بعد ذلك بالزائل، باب من أبواب البديع يعرف بالتصدير. أيُنْكِر خَدِّي دُمُوعي وَقَدْ ... جَرَتْ مِنْهُ في مَسْلَكٍ سَائلِ

يقول، مؤكداً لما قدمه من استئناسه بوجوده، واستسهاله لحاله: أينكر خدي ما أسيل عليه من الدمع، وهو يسكن من ذلك إلى حال قد عرفها، وعادة قد ألفها، وتجري منه في طريق مسلوك، وسبيل معمور؟ والمسلك السائل: الذي يكثر المرور فيه. أأوَّلُ دَمْعٍ جَرَى فَوْقَهُ ... وأوَّلُ حُزْنٍ عَلى رَاحِلِ ثم أكد، فقال: أهذا الدمع أول دمع أذريته؟ وهذا الحزن أول حزن شكوته؟ هذا الذي لا أعرف غيره، ولا أود فقده. وَهَبْتُ السُّلُوَّ لِمَنْ لامَني ... وَبِتُّ مِنَ الشَّوْقِ في شَاغِلِ يقول، مستبصراً في حبه، ومعرضاً عن المتكلف للومه: وهبت للائم لي السلو الذي يدعوني إليه، والجلد الذي يخضني عليه، وبت من الشوق فيما يشغلني عن لومه، ويزهدني في عذله. كأنَّ الجُفُونَ على مُقْلتي ... ثِيابُ شُقِقْنَ علَى ثَاكِلِ ثم شبه قلة التقاء جفونه على مقلته، واشتغاله بما يذريه من عبرته، بثياب مشقوقة على ثاكل موجعة ووالهة مفجعة، وشبه مقلته في حزنها

بتلك الثاكل في وجدها، وتبعيد السهر لما بين جفونه بتشقيق الثاكل لثياب حدادها. وهذا مما شبه به شيئين بشيئين في بيت واحد، وهو من أرفع وجوه البديع. وَلَوْ كُنْتُ في غَيْرِ أَسْرِ الهَوَى ... ضَمِنْتُ ضَمَانَ أبي وَائِلِ ثم خرج إلى وصف أمر أبي وائل احسن خروج، فقال: ولو كنت أسير غير الحب، ومغلوباً في غير سبيل العشق، لاحتلت بحيلة أبي وائل في الاستتار، وضمنت لآسري ضمانه من الفكاك، وسلكت في الاحتيال عليه سبيله. فَدَى نَفْسَه بِضَمَان النُّضَارِ ... وأعْطَى صُدُورَ القَنَا الذَّبِلِ النضار: الذهب. فيقول: إن أبا وائل ضمن لآسره اعتداداً من الذهب يقتدي بها، وأعطى عن ذلك صدور الرماح، يشير بذلك إلى جيش سيف الدولة الذي استنقذه.

وَمَنَّاهُمُ الخَيْلَ مَجْنُوبَةً ... فَجِئْنَ بكُلَّ فَتًى باسِلِ ثم قال: ومناهم أن يقود إليهم الخيل التي اشترطوا عليه في فدائه. فجاءتهم تحمل إليهم كل فتى باسل. والباسل: الشجاع. كَأَنَّ خَلاصَ أَبي وَائِلٍ ... مُعَاوَدَةُ القَمَرِ الآفلِ ثم شبه خلاص أبي وائل من إساره، بخروج القمر من سراره، ومعاودته، وما كان عليه من السيادة، بمعاودة القمر الآفل لضيائه، ومراجعته لبهائه. دعَا فَسَمِعْتَ وَكَمْ سَاكتٍ ... على البُعْدِ عِنْدَك كالقَائِل ثم قال؛ مخاطباً لسيف الدولة: دعا فسمعت دعوته على بعد محله، وأصرختها على انتزاح مستقره، ورب ساكت عنك لبعده كالمخاطب لك؛ لما يوجبه كرمك من اهتمامك بشأنه، واعتنائك بأمره. فَلَبَّيْتَهُ بِكَ في جَحْفَلٍ ... لهُ ضَامنٍ وَيِه كَافلِ

ثم قال: فلبيته إذ دعاك بنفسك في جحفل، ضامن لفك أسره، كافل بتعجل نصره. خَرَجْنَ مِن النَّفْعِ في عَارِضٍ ... وَمِنْ عَرَقِ الرَّكْضِ في وَابِلِ النفع: الغبار، والعارض: السحاب، والوابل: المطر الكثير. فيقول: إن خيل سيف الدولة خرجت من العجاج، فيما يشبه السحاب، وعليها من العرق الذي أوجبه الركض، فيما يشله غزير المطر، وأشار بهذا إلى شدة الطلب. فَلَمَّا نَشِفْنَ لَقِيْنَ السَّياطَ ... بِمثْل صَفَا البَلَدِ المَاحِلِ الصفا: الحجر الأملس. ثم قال: فلما نشق عرق هذه الخيل على ما التبس به من الغبار، لقيت سياط الفرسان من جلودها، بمثل الحجر الأملس، الذي يكون في البلد الممحل، وهو البعيد العهد بالمطر، وذلك أبلغ في يبسه وجفوفه، وهذه الزيادة التي تطلب بها الغاية، وقد كان يتم الكلام دونها، باب من أبواب البديع يعرف بالتتميم. شَفَنَّ لِخَمْسٍ إلى مَنْ طَلَبْ ... نَ قَبْلَ الشُّفُونِ إلى نَازلِ

الشفون: النظر. فيقول: إن خيل سيف الدولة أدركت بغيتها، قبل أن ينزل فرسانها عن ظهورها، وأنها نظرت بعد خمس ليال من ركضها إلى من ركضها إلى أن طلبته، قبل نظرها فيها إلى نزول من حملته. وأشار بذلك إلى فرسان هذه الخيل، لم يفتروا في الركض، حتى أوقعوا بالقوم الذين أسروا عليهم. فَدَانَتْ مَرَافِقُهُنَّ البَرَى ... على ثِقَةٍ بالدَّمِ الغاسِل البرى: التراب ثم قال: إن هذه الخيل التي جهدت في الطلب، وتدنست جلودها بما تصبب عنها من العرق، وما التبس بذلك من غبار الرهج، قاربت مرافقهن التراب بإثارتها له، لا بدعتها فيه، وقد تيقنت أن دم من توقع به يغسلها، وخوضها فيه بعد الظفر يطهرها. وَما بَيْنَ كَاذَتي المُسْتَغيرِ ... كما بَيْنَ كادتي البائلِ

الكاذة: لحم مؤخر الفخذ. ثم ذكر: أن هذه الخيل ركضت المدة التي ذكرها، وبلغت من الظفر إلى الغاية التي وصفها، وهي كالمتفحجة لكرمها ونشاطها، لم تحتك كاذتاها. ولا تدانت عراقيبها. وهذا يحدث على الخيل الهجن عند الركض الشديد، بل كان ما بين كاذتي المغير منها كالذي بين كاذتي البائل، لم تستحل عن خلقها، ولا اضطربت في شيء من أمرها. فَلُقَّينَ كلَّ رُدْينيَّةٍ ... وَمَصْبوحةٍ لَبَنَ الشَّائلِ الردينية: الرماح تنسي إلى ردينة؛ اسم امرأة كانت تبيع الرماح في الجاهلية، والشائل: الناقة التي ابتدأ حملها فحف لذلك لبنها، والمصبوح من الخيل: الذي يسقى اللبن صباحاً لكرامته على صاحبه. فيقول: إن خيل سيف الدولة بعد جهدها في الطلب، وإغراقها في الركض، لقيت مع الخارجي أشداء الأعراب، الذين يطاعنون بالرماح، وتعدو بهم كرائم الخيل التي تؤثر باللبن عند قلته، ويكون صبوحها مع شدة الحاجة إليه.

وَجَيْشَ إمَامٍ عَلَى نَاقَةٍ ... صَحيحِ الإمَامَةِ في البَاطِلِ ولقيت جيشاً إمامه على ناقة، قد تيقن استهلاك أصحابه دونه، وامتثل أن الغلبة له، فأعرض لذلك عن ركوب الخيل، ووصفه بحالة من كذبه في دعواه واشتهاره بباطله. فأقْبَلن يَنْحَزْنَ قُدَّامَهُ ... نَوافِرَ كالنَّحْلِ والعاسِلِ ثم قال: إن خيل سيف الدولة تهيبت الخارجي في أول لقائه، وانصرفت إلى سيف الدولة منحازة بين يدي الخارجي، كانحياز النحل بين يدي عاسلها، وافتراقها إذا أحست بسائرها. فَلَّما بَدَوْتَ لأصْحَابهِ ... رَأتْ أسْدُها آكِلَ الآكلِ يقول: لسيف الدولة: فلما بدوت لأصحاب الخارجي بعد انحياز أصحابك بين يديه، رأت أسد خيله منك أسد الأسود، وآكل الآكل، الذي يغلب الغالب، ويستهضم القادر. بِضَرْبٍ يَعُمُّهُمُ جَائِرٍ ... له فِيهُمُ قِسْمَةُ العَادِلِ وبدونت لهم بضرب عم جماعتهم، وشمل جملتهم، أبلغ فيهم إبلاغ الجائر، وأفرط إفراط المسرف، وسوى بينهم فيما نالهم منه تسوية العادل،

وشمل جميعهم شمول المنصف، وطابق بين الجور والعدل. وَطَعْنٍ يَجْمَعُ شَذَّا نُهُمْ ... كما اجْتَمعَتْ دِرَّةُ الحافِلِ الشَّذان: القوم المتفرقون، وشذان الحصى: ما أفترق منه، والحافل من الشياه: التي قد اجتمع في لبنها في ضرعها. ثم قال: وبدوت لهم جمع شذانهم بشدته. وحصرهم لمخافته، كما يجمع الضرع الحافل درته، ويحصر لبنه. إِذا ما نَظَرْتَ إلى فَارِسٍ ... تَحيَّرَ عَنْ مَذْهَبِ الرَّاحلِ يقول لسيف الدولة: إن أصحاب الخارجي لما رأوك، تداخلهم من هيبتك، وأدركهم من مخافتك، ما صار فارسهم معه يعجز عما يبلغه الراجل، وقويهم يقصر عما يفعله الضعيف. فَظَلَّ يُخَضَب منها اللَّحى ... فَتًى لا يُعِيدُ على النَّاصِل ثم قال: فخضب لحاهم بدمائهم منك فتى، لا يقصد بخضابه قصد التزيين، وإنما يقصد به. قصد الإهلاك، فليس يحفل إذا أتلف النفس بما أخطئه خضابه من الشعر. ونصول الشعر: خروجه خروجهُ من الخضاب.

ولا يَسْتَغِيثُ إلى ناصِرٍ ... ولا يَتَضَعْضَعُ مِنْ خَاذِلِ ثم قال: إنه لا يستغيث إلى ناصر ينصره، لاستغنائه بنفسهن ولا يتضعضع لخاذل يخذله، لما يسند إليه من بأسه. ولا يَزَعُ الطّرْفُ مُقْدَمٍ ... ولا يَرْجِعُ الطَّرْفَ عن هَائِلِ الوزع: الكف، والطرف: الفرس الكريم. فيقول: إن سيف الدولة لا يكف فرسه عن مقدم لشجاعته، ولا يغض طرفه عن هائل لجرأته. إذَا طَلَبَ التَّبْلَ لم يَشْأَهُ ... وإن كانَ دْيناً عَلَىَ مَاطِلِ التبل: الترة، هائل الشأو: السبق. ثم قال: إذا طلب ثاراً يفته، وإن كان متعذراً أمره، ممتنعاً موضعه، وضرب قوله: (وأن كان دنيا على ماطل) مثلا في ذلك. خُذُوا ما أَتَاكُمْ بِهِ واعْذِرُوا ... فَإنَّ الغَنِيمَة في العَاجِلِ ثم قال: هازئاً بهم: خذوا ما أتاكم به من هذه الوقعة متجوزين، وتصبروا لذلك عاذرين، فغن الغنيمة فيما استعجل، والغبطة فيما اقتضى.

وهذا على طريق الهزء بهم، والتوبيخ بالوقعة التي عجلها سيف الدولة لهم. وإنَّ كَانَ أَعجَبَكُمْ عَامُكُمْ ... فَعُودوا إلى حِمْصَ في القَابِلِ يقول، على نحو ما تقدم من هزئه بهم: وإن كنتم مستلقين بما نالكم في هذا العام من سيف الدولة، فعودا إلى عمله في حمص في العام القابل، فإنه يعود بمثل ما أوقعه بكم. فإنَّ الحُسَامَ الخضِيبَ الَّذي ... قُتِلتُمْ بِهِ في يِدِ القَاتِلِ ثم قال: فإن السيف الخصيب بدمائكم، المسلمون لقتلكم، في يد الذي قتل جماعتكم، وأذل عزاكم، وأذهب نخوتكم. يَجُودُ بِمثْلِ الذي رُمتُمُ ... فَلَمْ تُدْركُوه على السَّائِلِ ثم قال: إنه يجود على سائله بمثل الذي رمتموه فأعجزكم، ويسمح لقاصده بمثل الذي حاولتموه فأهلككم، ولو سألتموه لعمكم فضله، ولو قصدتموه لشملكم عفوه.

أَمَامَ الكَتِيْبَةِ تزْهى بِهِ ... مَكَان السَّنَانِ من العامِلِ الزهو: الكبر، والعامل: صدر الرمح. فيقول: إن سيف الدولة لإقدامه، وجزاء نفسه في صدور خيله، وأوائل كتائبه، تتيه فرسانه به، وتزهى بموضعه، وإنه منها بمكان السنان من صدر الرمح، والسنان الذي له الفعل، وبه يكون الطعن، وسائر الرمح أداة تعضده، وآلة تؤيده. وإني لأعْجَبُ مِنْ آملٍ ... قِتالاً بِكُمٍّ على بَازِلِ البازل من الإبل: الذي قد ظهر نابه. ثم رجع إلى الخارجي، فقال: وإني لأعجب بمن يؤمل قتالاً بكمه، دون أن يصل شيئاً من السلاح بنفسه، ويقتحم الحرب على جمل دون أن يقتحمها على فرس. أقَالَ لَهُ اللهُ لا تَلْقَهُمْ ... لماضٍ عَلَى فَرَسٍ حَائِلِ الحائل من الخيل: التي لم تحمل. الله أمره بأن لا يأخذ للحرب آلتها، ولا يتأهب فيها بأهبتها، وأن

لا يلقى محاربة بسيف ماض صارم، على فرس كريم حائل؟ واشترط الحيال؛ لأنه أمكن للجري. إذا ما ضَرَبْتَ به هَامَة ... بَرَاها وغَنَّاك في الكَاهلِ الكاهل: أعلى الظهر. ثم قال: إذا ضرب بذلك السيف هامة براها بحدته، ونفذ فيها بصرامته، وبلغ إلى الكاهل فصوت فيه، وتخطى الهامة بقربها إليه. وَلَيْسَ بأولِ ذي هِمَّةٍ ... دَعَتْهُ لَمِا لَيْسَ بالنَّائِلِ يقول: إن هذا الخارجي ليس فيما حاوله من معارضة الدولة، بأول من هم بما يمتنع عليه، ورام ما لا يجد سبيلاً إليه. يُشَمِّرِ لِلُّجِّ عّنْ سَاقِهِ ... وَيَغْمُرهُ المَوْجُ في السَّاحِلِ يقول: إنه فيما يتعاطاه من مقاومة جملة جيوشه، وعجزه عن أقلها، وما رامة من التعرض لشدة عزائمه، وهلاكه بأيسرها، كمن يريد أن

يخوض لجة البحر، ويضعف عن الوقوف في شطه، ويريد اقتحام معظمه، والموج يغمره في ساحله، فيتعرض للصعب الكبير، يعجز عن السهل الحقير. أما لِلخَلافَةِ من مُشْفِقٍ ... على سَيْفِ دَرْلَتِها الفَاضَل يَقُدُّ عِدَاها بلا ضارِبٍ ... وَيَسْرِي إليهْم بِلاَ حَامِلَ يقول: أما للحلافة من ضنين بسيف دولتها، ومشفق على حائط جملتها، الذي قد بان فضله، وارتضي سعيه، فهو يقد أعداءها دون ضارب بنهضة، يسري إليهم دون حامل ينقله، فإذا افتقر السيف إلى من يضرب به، كان هو منفرداً فعله، وإذا التجأ إلى من يحمله، كان هو مكتفياً بنفسه. تَرَكْتَ جَمَاجِمَهُمْ في النَّقَا ... وَمَا يَتَحَصَّلْنَ للنَّاخِلِ النقا: الكثيب من الرمل.

فيقول: تركت جماجم أصحاب الخارجي في النقا، وقد فترقت أجسادهم، بعد أن أوقعت بها من الضرب ما هشمها، ودقق أجزاءها، حتى التبست بالرمل، ولم تتحصل لناخلها، ولا انفصلت لمتأملها. وأَنَبَتَّ مِنْهُم رَبِيعَ السَّبَاعِ ... فَأَثْنَتْ بإِحسَاِنكَ الشَّامِلِ ثم قال: وأنبت من أجسادهم ربيع السباع، فأحصبت في لحومها، إخصاب السائمة في بيعها، فأَثنت بما عنها من فضلك، وشملها من إحسانك، وأجرى أكثر لفظ هذا البيت على الاستعارة. وعُدْتَ إلى حَلبٍ ظاهراً ... كَعَوْدِ الحُلِيَّ إلى العَاطلِ ثم قال: وعدت إلى حلب مستقرك ظافراً مستعلياً، فحليت بعد العطل بعودتك، وأنست بعد الوحشة بأوبتك. وَمِثْلُ الذي دُسْتَهُ حَافِياً ... يُؤَثّرُ في قَدَمِ النَاعل دست الشيء: إذا وطئته فيقول: ومثل الذي أدركته بعقوك، وتناولته بأيسر سعيك، يعجز عنه غيرك، وإن أجهد فيه نفسه، ويقصر عنه، أخذ له أهبته، وكنى بالحافي عن المسترسل، وبالناعل عن المتاهب، وحمل الكلام على الاستعارة.

وكمَ لَكَ مِنْ خَبَرٍ شَائِعٍ ... لَهُ شِيَةُ الأبلَق الجائلِ الشية: العلامَة ثم قال: وكم لك من خير شائع ذكره، ومن فعل جليل قدره، قد شهره كريم أثرك، كما تشهر الأبلق الجائل شيته، وتبينه، علامته. وَيَوْمٍ شَرَابُ بَنيهِ الرَّدَى ... بَغيضِ الحُضُورِ إلى الواغِلِ الواغل: الداجل على القوم في طعام أو شراب دون أن يدعوه. ثم قال: وكم لك من يوم أقمت فيه سوق الحرب، وتنازع بنوه شراب الردى، وتعاطوا كؤوس الموت، فأبغض حضوره الواغل فيه، وتكره شدته الصالي به، وجرى هذا الكلام على مثل ما تقدم من الاستعارة، وهي من أبواب البديع. تَفكُّ العُنَاةَ وتُغْني العُفَاةَ ... وَتَغْفِرُ للمُذْنِبِ الجَاهلِ العناة: الأسرى، والعفاة: السؤال. فيقول: تفك الأسرى ببأسك، وتغني السؤال بكرمك، وتغفر للجاهلين بحلمك.

فَهُنَأكَ النَّضرَ مُعْطيكه ... وأرضَاهُ سَعْيُكَ في الأجلِ ثم قال: فهناك الله ما منحك من نصره، وزادك فيما آتاك من فضله، ووصل ما وهب من ذلك في العاجل، بما يرضيه من سعيك في الآجل. فّذِي الدَّارُ أخْوَنُ من مُومِس ... وأخْدَعُ من كَفَّهِ الحَابِلِ وقوله: (فذي الدار أخون من مومس)، ذي حرف يشار به إلى المؤنث، كما يشار بذا إلى المذكر، والدار التي أشار إليها الدنيا، والمومس: المرأة الفاجرة، والحابل: الصائد، وكفته: حبالته. فيقول: هذه الدنيا أخون من الفاجرة التي تحلف من وثق بها، وأخدع من الحبالة التي تصرع من اطمأن إليها. تَفَانَي الرَّجَالُ على حُبَّها ... وَمَا يَحْصُلونَ على طَائِلِ ثم قال: إن الرجال قد تفانوا على حبها، ولم يحصلوا على طائل من أمرها، لأنها تأخذ ما تعطيه، وتهدم ما تبنيه، وتمر بعد حلاوتها، وتعوج بعد استقامته، فمن عرفها رفضها، ومن تدبرها هجرها.

وسار سيف الدولة إلى الموصل لنصرة أخيه الحسين بن عبد الله بن حمدان لما قصده من بغداد أحمد بن بويه الديلمي، ليغلبه على أرض الموصل، فلما أحسن الديلمي بإقبال سيف الدولة، قارب الحسن بن عبد الله، وأحبابه إلى أن يبعث إلى حضرة السلطان من خراج الموصل بما جرت به عادته ببعثه، وانصرف عنه إلى بغداد دون حرب. فقال أبو الطيب في ذلك، أنشدها في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة. أعْلَى الممالِكِ ما يُبْنى على الأسَلِ ... والطَّعنُ عِنْدَ مُحِّبيهنَّ كالقُبلِ الممالك: جمع مملكة، وهي سلطان الملك في رعيته، والأسل: الرماح، والقبل جمع قبلة. فيقول: أعلى الممالك رتبة، وأطهرها رفعة، ما بني على الحرب، ودفع عنه بالطعن والضرب، وأشار بالأسل إلى هذه العبارة، وما يكون الطعن عند مالكه، والقتال عند محبه كالقبل المستعذبة، واللذات المغتنمة. وما تَقِرُّ سيوفُ في مَمالِكِها ... حَتَّى تَقَلْقَلَ دَهْرَاً قَبْلُ في القُلَلِ

التقلقل: دوام الحركة، والقلل: الرؤوس، واحدتها قلة، وقلة كل شيء: أعلاه. ثم قال: وما تقر سيوف في دولها، وتسكن في ممالكها، حتى تطول حركتها في ضرب رؤوس المخالفين، وتشهر آثارها في قمع المعترضين، فحينئذ تنوب رهبتها عن استلالها، وتغني هيبتها عن استعمالها، وأشار بذلك إلى انصراف الديلمي دون حر، تهيباً لسيف الدولة. مِثْلُ الأميرِ بَغَى أمْراً فَقَرَّبَهُ ... طُولُ الرَّمَاحِ وَأيْدي الخيل والإبلِ يقول، مصدقاً لما شرطه، ومحققاً لما ذكره: مثل الأمير سيف الدولة بغى حماية الموصل، ودفع الديلمي عنها، فقرب له ذلك طول رماحه في وقائعه، وإسراع خيله وإبله إلى أعاديه. وَعَزْمَةُ بَعَثَتْها هِمَّةُ زُحَلُ ... مِنْ تَحْتِها بِمَكانِ التُّرْبِ من زُحَلِ ثم قال: وعزمة استعملها نافذة، بعثتها منه همة عالية، يتواضع زحل عن علو موضعها، كتواضع الترب عن علو موضعه. على الفُرَاتِ أعَاصيرُ وفي حَلَبٍ ... تَوَحُّشُ لِمُلَقَّى النَّصرِ مُقْتَبَلِ

الفرات: نهر معروف، والأعاصير: الرياح الكثيرة الغبار، واحدها إعصار، والمقتبل: الذي تناهى شبابه، ولا أثر فيه للكبر. فيقول: إن على الفرات، وهو في حدود أعمال الديلمي، غبرات من العجاج، تثيرها كتائب سيف الدولة، وفي حلب، دار مستقرة من الشام توحش منها لملك، قد عوده الله الظهور على أعاديه، ولقاه النصر في مقاصده، مقتبل في شبيبته، متناه في قوته. تْتُلُو أَستَّنُهُ الكُتْبَ التي نَفَذَت ... وَيَجْعَلُ الخيلَ أَبْدالاً من الرُّسل ثم قال: مشيرا إلى أمر الديلمي: ينذر أعاديه بكتبه، ويعذر إليهم برسله، فإذا قامت حجته عليهم، تلت أسنته كتبه، وعاقبت خيوله رسله، وكان إيقاعه بهم، بدلاً من تحذيره لهم. يَلْقَى الملوكَ فلاَ يَلْقَى سِوَى جَزَىٍ ... وما أَعَدُّو فلا يَلْقَى سوى نَقَلِ النقل: الغنيمة. فيقول: إن سيف الدولة يلقى الملوك إذا خالفته، فلا يلقى منها

إلا جزر سيوفه، وما أعدوه من سلاحهم وآلاتهم، فلا يلقى إلا غنائم جيوشه، لما عوده الله من الظهور عليهم، والنكاية فيهم. صَانَ الخَليفَة بالأبْطَال مُهْجَتَهُ ... صِيَانَةَ الذَّكَرِ الهِنْديَّ بالخِلَلِ الخلل: جلود جفون السيوف، واحدتها خلة، والخلة: كل جلد من منقوش. ثم قال: إن الخليفة لما عليم أنه سيفه الذي يسطو به، صانه بالأبطال الذين أثبتهم في رسمه، والحماة الذين جردهم لحفظه، كما يصان السيف الكريم بالجفون التي ينتقل فيها، والأغماد التي يحفظ بها، وجعل هذا الوصف إشارة لما شرفه به الخليفة من تلقيه بسيف الدولة. الفَاعِلُ الفِعْلَ لم يُفْعَلْ لِشدَّته ... والقائلُ القولَ لم يُتْرَكْ ولم يُقَلِ يقول: إن سيف الدولة يفعل الذي عنه الفاعلون لشدته، وعظم شأنه في حقيقته، ويقول القول الذي عجز القائلون عنه قبله فلم يقدروا على مثله، ولا قصدوا إلى تركه. والباعِثُ الجيشَ قد غَالَتْ عَجاجَتُهُ ... ضَوَْء النَّهارِ قَصار الطُّهْرُ كالطَّفَلِ

الغول: الإهلاك، والطفل: وقت المساء. ثم قال: وهو الباعث الجيش الشديد بأسه، الكثير عدده، الذي تذهب عجاجته بضوء النهار، وتطمس إشراق الشمس في وقت الظهر، حتى تصير على مثل حالها في وقت الغروب، وأشار بذلك إلى عظم الجيش. الجوُّ أضْيَقُ ما لاقاهُ سَاطِعُها ... وَمُقْلةُ الشَّمْسِ فِيْهِ أحْيَرُ المُقَلِ الجو: ما بعد من الهواء، والساطع: المنتشر. فيقول: إن ما بعد من الهواء أضيق بساطع هذا الرهج مما قرب؛ لأن فيما بعد تجتمع جملته، وتتوافى كثرته، وما قرب فإنما يرده الشيء بعد الشيء فيتخلى منه، ولا يجتمع فيه، ومقلة الشمس أحير المقل به؛ لقربها من مستقره، ودنوها من مجتمعه. يَنالُ أبْعَدَ مِنْهَا وهِيَ نَاظِرَةُ ... فما تُقَابِلُهُ إلاَّ عَلَى وَجَلِ ثم قال: إن هذا العجاج بتتابعه، واتصاله وترادفه، يعلو على

الشمس مع ارتفاع موضعها، إليه، وهي ناظرة إليه، غير مساوية في العلو له، فتقابله وجله من ذهابه بنورها، وتلاحظه مشفقة من استيلائه على ضوئها، وأشار بما وصف من كثرة هذا العجاج إلى كثرة الجيش الذي يثيره، وعظم الجمع الذي يبعثه. قَدْ عَرْضَ السيفَ دونَ النَّازِلاتِ به ... وظَاهرَ الحَزْمَ بَيْنَ النَّفس والغِيَلِ المظاهرة: المعاونة، والغيل: جمع غيلة: وهي قتل الخديعة. فيقول: قد عرض السيف دون ما ينزل به، وجرده فيما يحدث عليه، واستعان بالحزم في دفع الغيل عن نفسه، وأقامه حاجزاً بينها وبينه. ووَكَّلَ الظَّنَّ بالأسْرَار فانْكِشَفَتْ ... لَهُ ضَمائِرُ أهْلِ السَّهْلِ والجَبلِ ثم قال: إنه وكل صادق ظنه بما يطويه أهل السهل والجبل دونه، فعلم ما أسروه، وانكشف له ما أضمروه، وكذلك الألمعي، وهو الحاذق بالأمور، يصيب بظنه، حتى كأنه مبصر لما غاب عنه، ويعلم بتقديره، حتى كأنه شاهد لما يعد منه.

هو الشَّجَاعُ يَعُدُّ البُخْلَ من جُبنٍ ... هو الجَوادُ يَعُدَّ من بَخَلِ البخل والبخل: لغتان، والإغذاذ: الإسراع في السير. فيقول: إن السيف الدولة الشجاع المتناهي في الشجاعة، فالبخل عنده باب من الجبن؛ لأن من سمح بنفسه لم يبخل بكرائم ماله، وهو الجواد المتناهي الجود، والجود بالنفس غاية الجود، ومن جاد بنفسه لم يجبن عن عدوه، ومن كان كذلك، فالجبن عنده باب من البخل، فدل على أن الشجاعة والجود من طريق واحد، وأجمل، ما فسره أبو تمام بقوله: وإذا رأيتَ أبا يزيدٍ في وغىً ... وندًى ومُبْدئ غارةٍ ومُعيْدا يَقْري مُرَجِّيه حَشاشةَ مالهِ ... وشَبَا الأسِنَّةِ ثُعْرَةً ووَريْدا أيقَنْتَ أن مِنَ السَّماحِ شَجَاعةً ... وعَلِمْتَ أنَّ من الشجاعةِ جودا فبين أبو التمام وفسر، وجمع أبو الطيب واختصر. يَعُودُ مِنْ كُلِّ فَتْحٍ غَيْرَ مُفْتَخِرٍ ... وقَدْ أغَذَّ إليهِ غَيْرَ مُحْتَفِلِ ثم قال: إنه يفتح الفتوح العظيمة فلا يفخر بها، ويسرع إليها ولا يحتفل بها، استقلالاً لعظيم ما يفعله، وارتفاعاً عن تهيب ما يقصده.

ولا يُجيرُ عَلَيْهِ الدَّهْرُ بِغْيَتَهُ ... ولا تُحَصِّنُ دِرْعُ مُهْجَةَ البَطَلِ يقول: إن الله عز وجل قد قرن بسيف الدولة من نصره، وأمده من عونه، بما لا يمنعه الدهر معه من بغية، ولا يجير عليه من اعتقد له معصية، ولا تحصن الدرع دونه مهجة البطل إذا خالفه، ولا تعصمه من الهلاك إذا أراده. إذا خَلَعْتُ على عِرْضٍ لهُ حُلَلاً ... وَجَدْتُها مِنْهُ في أبْهَى مِنَ الحُلَلِ ثم قال: إنه إذا خلع عليه حلة من شعره، والبسه ثوباً من مدحه، وجد تلك الحلة متزينة بفضله، وذلك المدح متشرفاً بقدره، فهو يرفع الشعر فوق رفعته له، وتزين المدح أكثر من تزينه به. بذي الغَبَاوةِ من إنشادِهَا ضَرَرُ ... كما تُضِرُّ رياحُ الوَرْدِ بالجُعَلِ ثم قال: إن ذا الغباوة، وهو الجاهل، إذا أنشد ما يمدحه به، وأسمع ما ينظمه فيه، بعد على فهمه، وأثر ذلك في نفسه، وانكشف له قدر تقصيره، واستضر بحسن قوله، وبديع شعره، كما يستضر الجعل يرياح الورد التي تؤذيه بطيبها، وتقتله بمضادته لها. لَقَدْ رَأتْ كلُّ عَينٍ مِنْكَ مالِئَها ... وَجَرَّبَتْ خيرَ سَيْفٍ خَيْرَةُ الدُّولِ

يقال: خير وخير وخيرة، كل ذلك بمعنى واحد، قال الله عز وجل: (فِيهِنَّ خَيْراتُ حِسانُ) بمعنى خَيْراتٍ. فيقول: لقد رأت كل عين من جمالك ما بهرها، ومن جلالتك ما ملأها، وجربت خيرة الدولة، أي: أفضل الدول، منك أفضل السيوف. فما تُكَشَّفُكَ الأعداءُ عن مَلَلٍ ... مِنَ الحُرُوبِ ولا الآراءُ عن زَلَلِ ثم قال: فما كشفت الأعداء منك، بطول ممارستها، مللاً في حربها، ولا أبدت الآراء منك، مع تزاحمها عليك، زللاً في تناولها. وَكَمْ رِجَالٍ بلا أرْضٍ لِكَثْرَتهم ... تَرَكْتَ جَمْعَهُمُ أرْضاً بلا رَجُلِ يقول: وكم جمع جمعة الأعداء لك، تغيب الأرض مع كثرة رجاله، وتخفى عن الأبصار بتزاحم جموعه، حتى كأنهم رجال دون أرض، أفنيت أعدادهم، وقتلت جمعهم، وتركت موضعهم أرضاً دون رجال. مَا زَالَ طِرْفُكَ يجري في دِمَائِهمُ ... حَتَّى مَشَى بِك مَشْيَ الشَّاربِ الثَّمِلِ

الطرف: الفرس الكريم، والثمل: السكر. ثم قال: ما زال طرفك يطأُ دماءهم، ويقتحم معتركهم، حتى أزلقته الدماء بكثرتها، فمشى مشي الشارب السكران، الذي لا يثبت بنفسه، ولا يطمئن في مشيه. يا مَنْ يَسيرُ وَحُكْمَ النَّاظريْنِ لَهُ ... فيما يَرَاهُ وَحُكْمَ القَلْبِ في الجَذَلِ يقول: يا من يسير، وله حكم ناظريه في ألاّ يريهما الله إلا ما يسره، وحكم نفسه في ألا يعرفها الله إلا ما يجذله، والجذل: الفرح. إنَّ السَّعَادةَ فِيمَا أنْتَ فَاعِلَهُ ... وُقِّفْتَ مُرْتَحِلاً أو غَيْرَ مُرْتَحِلِ ثم قال: إن السعادة فيما يقضي به الله لك، والتوفيق فيما تمضي عليه فعلك، مقيماً كنت أو ظاعناً، مستقراً أو راحلاً، بهذا إلى انصرافه عن الديلمي، وقال إن فعله اله لك من الموادعة التي اختارها محاربك، قد جعل لك فيه السعادة، وقرن لك به الخيرة.

أجْرِ الجِيَادَ عَلَى ما كُنْتَ مُجْريّهَا ... وَخُذْ بِنَفْسِكَ في أخْلاَقِك الأُوَلِ يقول: أجر خيلك على ما كنت تجريها عليه، من غزو الروم، وحماية الثغر، فقد كفاك الله ما كنت تحذره على أخيك من الديلمي، وخذ بنفسك من ذلك فيما تقدم من أخلاقك، وشهر من مذاهبك، واعدل عن السلم إلى الحرب، وعن إلى الجهاد. يَنْظُرنَ من مقل أدمى أحجتها ... قرع الفوارس بالعسالة الذبل الأحجة: جمع حجاج، وهو العضم الذي يحيط بالعين، والعسالة: الرماح التي تهتز لطولها، والذبل اليابسة. ثم وصف حال خيله في السبيل التي ندبه إليها، فقال: ينظرن من مقل أدمى أحجتها قرع الفوارس لها الرمح في حين الطراد، وأشار بذلك إلى ما حضه عليه من غزو الروم. فلا هَجَمْتَ بِها إلاَّ عَلَى ظَفَرٍ ... ولا وَصَلْتَ بها إلاَّ إلى أمَلِ ثم قال، داعياً له: فلا الله إلا على ظفر يظهرك به على عدوك، ولا أوصلت إلا أمل يقرب لك به مرادك.

وأمره سيف الدولة بالمسير معه في هذه السفرة فقال: سِرْ حلَّ حَيْثُ تَحُلُّهُ النُّوَّارُ ... وَأرَادَ فيكَ مُرَادَكَ المِقْدارُ يقول: سر، جعل الله كل محل تحله روضة مونقة، وحديقة ممرعة، وأجرى المقادير بما تريده، أحكامها بما تحبه. وإذا ارتَّحَلْتَ فَشَيَّعَتْك سَلامَةُ ... حَيْثُ اتَّجَهْتَ وَدِيمَةُ مِدْرَارُ الديمة: السحابة، والمدرار: الغزيرة. ثم قال: وإذا ارتحلت، فصحبك الله بسلامته حيث توجهت، وسقى بلادك كيف تصرفت. وَصَدَرْتَ أغْنَمَ صادرٍ عن مَوْرِدٍ ... مَرْفُوعَةً لِقُدُومِكَ الأبْصَارُ يقول: ورجعك الله أظفر راجع عن مقصده، وأصدرك أغنم صادر عن موروده، عزيزاً نصرك، ممتدة الأبصار نحوك. وَأرَاكَ دَهْرُكَ ما تُحاوِلُ في العِدَى ... حَتَّى كأَنَّ صُرُوفَهُ أَنْصَارُ وأرَاك دهرك في عدوك ما تحاوله من كبته، وتكفل لك فيه بما تتمناه

في أمره، حتى كأن صروفه تنصرك، باعتمادها له، وخطوبه تعينك، في اغترائها به. أنْتَ الذي بَجَحَ الزَّمَانُ بِذْكِره ... وتَزَيَّنَتْ بِحَديثهِ الأسْمارُ بجح الرجل بالشيء: إذا كان يهذي به فرحاً، والسمر: حديث القوم بالليل. فيقول: أنت الذي كلف بذكره، وزهي بموضعه، وتزين السمر بحديثه، وحسن بما تضمنه من خيره. وإذَا تَنَكَّرَ فالفَنَاءُ عِقَابُهُ ... وإذا عَفَا فَعَطاؤُهُ الأعْمَارُ ثم قال: وأنت يقترن الفناء بعقابه إذا غضب، وتستدام الحياة بعفوه إذا رضي، فسخطه هلك، ورضاه نجاة. وَلَهُ وإنْ وَهَبَ المُلُوكُ مَوَاهِبُ ... دَرُّ المُلُوكِ لِدَرَّهَا أغْبَارُ الدر: اللبن الكثير، والغبر: بقية اللبن في الضرع، وجمعه أغبار. فيقول: إن لسيف الدولة، إذا فذوكرت مواهب الملوك، مواهب

عظيمة، وعطايا جليلة، كثير مواهب الملوك يقل عندها، وعظيمها يصغر فيها، وضرب الدر مثلا للكثير، والغبر مثلاً للقليل. لله قلبك ما يخافُ من الرَّدَى ... وتخاف أنْ يَدْنُو إليك العَارُ ثم قال: لله قبلك لا تهاب الموت وسطوته، ولا تخاف الردى وشدته، وتخاف دنو العار إليك، وتشفق من وصمته، وتتوقع قبح أحدوثته. وَتَحيدُ عن طَبَعِ الخلائقِ كُلِّهِ ... وَيَحسدُ عَنْكَ الجَحْفَلُ الجَرَّارُ ثم قال: وتحيد عن جميع ما يدنس الخلق ويعيبه، والجحفل الجرار يحيد عنك، وذو البأس الشديد يفرق منك. يا مَنْ يَعِزُّ الأعِزَّةِ جَارُهُ ... وَيَذِلُّ في سَطَواتِهِ الجّبَّارُ

يقول: يا أيها الملك الذي تتواضع الأعزة لجاره، وتذل الملوك لأمره، وتعترف لجلالة قدره. كُنْ حَيْثُ شِئْتَ فما تُحُولُ تَنُوفَةُ ... دُونَ اللَّقَاءِ ولا يَشُطُّ مَزَارُ البتنوفة: الفلاة، ويشط: يبعد. ثم قال: كن كيف شئت من الطعن والإقامة، والاستقرار والرحلة، فما يمنعني الفلوات وتجشمها من لقائك، ولا يعوقني بعد المزار، ونأي المقصد عن صحبتك. وَبِدُونِ مَا أنَا مِنْ وِدَادِكَ مَضْمِرُ ... يُنْضَى المَطِيُّ ويَقْرُبُ المُسْتَارُ المستار: موضع المسير. ثم قال: وبدون ما أضمره من ودك، وأعترف به من فضلك، يهون الشديد، ويستقرب البعيد، وينضى المطي، ويهجر الوطن، ويستسهل السفر، فكيف أمتنع منك أو أتأخر على حال عنك؟ إنَّ الَّذي خَلَّقْتُ خَلْفي ضَائِعُ ... مَا لي عَلَى قَلقي إليه خِيَارُ

يقول: إن الذي خلقت ممن يهمني أمره، ويلزمني حفظه، ضائع بمغيبتي، محتل بمفارقتي، وما لي على قلقي إليه خيار أؤثره، ولا مراد اقصده. وإذا صُحِبْتَ فَكُلُّ مَاءٍ مَشرَبُ ... لولا العِيالُ وكُلُّ أرضٍ دَارُ ثم يقول: وإذا صحبتك فكل ماء أنزل به مشرب استعذبه، وكل أرض أسير فيها وطن أتخيره، لولا العيال وضيعتهم، والأهل وخلتهم. إذْنُ الأميرِ بأنْ أعوُدَ إليهِمُ ... صِلَةُ تَسِيرُ بشُكْرِهَا الأشْعَارُ ثم قال: وإن الأمير في أن أعود إليهم، وإسعافه في أن أشرف عليهم، صلة تسير الأشعار بشكرها، وتتقيد بما يضع عندي من فضلها.

وقال يرثي أبا الهيجاء عبد الله بن سيف الدولة، وتوفي بميافارقين. أنشدها في صفر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة. بِنَا مِنْكَ فَوْقَ الرَّمْلِ ما بِكَ في الرَّمْلِ ... وَهَذا الذي يُضْني كذَاكَ الذي يُبْلي يقول: بنا من السقم بعدك، والأسف لفقدك، وضنى الأجسامِ لمصيبتك، وتغيرها لرزيتك، وإن كنا على ظاهر الأرض، كالذي بك في باطنها، من بلى جسمك، وتغير الترب لحسنك، وهذا الذي يضني أجسامنا كذاك الذي يبلى جسمك. كأنَّكَ أبْصَرْتَ الَّذي بي فَخِفْتَهُ ... إذا عِشْتَ فاخْتَرْتَ الحِمَامَ عَلَى الثُّكْلِ الحمام: الموت، والثكل: فقد الحبيب. ثم قال: كأنك أبصرت الذي ألقاه من الحزن عليك، وأقاسيه من الوجد بك، وعلمت أن الدنيا مجبولة على فقد الأحبة، وإعدام الأعزة، فآثرت الموت على الثكل، واخترت الحمام على الحزن. تَرَكْتَ خُدُودَ الغَانِياتِ وَفَوْقَها ... دُمُوعُ تُذِيبُ الحُسْنَ في الأعْيُنِ النَّجِل

يقول: تركت خدود الغانيات من نوادبك، والمنعمات من بواكيك، وفوقها دموع مسفوحة عليك، منهملة لمصابك، كأنها ذوب الحسن في العيون الباكيات بها، وصابته في الجفون المذرية لها. تُبلُّ الثَّرى سُوْداً مِنَ المِسْكِ وَحْدَهُ ... وَقَدْ قَطَرَتْ حُمْراً على الشَّعَرِ الجَثْلِ الشعر الجثل: الكثير الملتف، والعين النجلاء: الواسعة الحسنة، والجمع نجل. ثم قال: يقطر من الجفون والخدود على الأصداغ، وقد حمرها الدم، وتبل الأرض من الأصداغ، وقد سودها المسك. فأشار إلى حال بواكيه في النعيم والرفعة، وما هن ببسيله من حر المصيبة. فَإنْ تَكُ في قَبْرٍ فإنك في الحَشَى ... وإنْ تَكْ طِفْلاً فالأسَى لَيْسَ بالطَّفْلِ يقول: فإن تك في قبر تضمنك، ولحد قد سترك، فإن مثالك في القلب ساكن، ومحلك في الحشا لطيف، وإن تك طفلاً في سنك، وصغيراً فيما انصرم من عمرك، فإن الرزء بك ليس بالصغير، والحزن عليك ليس باليسير.

ومِثْلُكَ لا يُبْكَى على قَدْرِ سِنِّهِ ... ولكِنْ عَلى قَدْرِ المْخِيْلَةِ والأصْل المخيلة: السحابة التي يتأكد الرجاء في مطرها، وبها سميت الدلالة الصادقة في الشيء مخيلة. يقول: ومثلك لا يبكى على قدر سنه، وما انصرم من يسير عمره، ولكن على قدر مخيلة نجابته، وما يتيقن من جليل سيادته، وما يعليه من أصيله الكريم، ويسمو به من نسبه الرفيع. أَلَسْتَ مِنَ القَوْمِ الذي مِنْ رِمَاحِهمْ ... نَدَاهُمْ وَمِنْ قَتْلاَهُمُ مُهْجَةُ البُخْلِ يقول: ألست من القوم الذين كرمهم من سلاحهم، ونداهم من رماحهم، ومهجة البخل من قتلاهم، فهم يسطون على الأعداء بما يرتهنونهم به من الفضل، ويتكلمونهم بما يشيعون فيهم من الجود. بِمَوْلُودِهمْ صُمْتُ اللِّسَانِ كَغَيْرهِ ... ولَكِنَّ في أعْطَافِهِ مَنْطِقَ الفَضْلِ عطف الرجل: جانبه من رأسه إلى وركه.

ومولودهم إذا أصمتنه الحيلة، ومنعته من الكلام الطفولة، نطقت السيادة من أعطافه منطق فصل، وشهدت له مخايل الكرم شهادة عدل. تُسَلِّيهُمُ عَلْيَاؤُهُمْ عَنْ مُصَابهم ... وَيَشْغِلُهُمْ كَسْبُ الثَّنَاءِ عن الشُّغُلِ يقول: يسليهم الكرم عن مصائبهم، ويوجب لهم الصبر في فجائعهم، ويشغلهم كسب الثناء عن الشغل بغيره، فيحتارون من فضله بحسب اعتنائهم بأمره. أقَلُّ بِلاَءً بالرَّزَايا مِنَ القَنَا ... وأقْدَمُ بَيْنَ الجَحْفَلَيْنِ مِنَ النَّبْلِ البلاء: المبالاة. فيقول إن رهط سيف الدولة أقل مبالاة بالرزايا من الرماح المتوقعة، وأنقذ بين الجحفلين المتقاتلين من السهام المرسلة،

فشبههم لجرأة أنفسهم، وجلدهم على الرزايا إذا طرقتهم، بالرماح والسهام، التي تصيب ولا تصاب، وتهاب ولا تهاب. عَزَاَءكَ سَيْفَ الدَّولةِ المُقْتَدَى بِهِ ... فإنِّكَ نَصْلُ والشّدَائِدُ للنَّصْلِ ثم قال لسيف الدولة: (عزاءك المقتدى به، فإنك نصل) بمعنى: تعز عزاءك المقتدى به، فأنت الأسوة في صبرك، والأوحد في كرمك فضلك، وأنت سيف، والشدائد للسيف، يكشفها بحدثه، وينفذ فيها بصرامته. مُقِيمُ من الهَيْجَاءِ في كُلِّ مَنْزِلِ ... كأنَّكَ مِنْ كُلِّ الصَّوارِمِ في أهْلِ يقول: أنت مقيم في كل منزل الحرب، تأنس بها، ولا تستوحش لها، حتى كأن صوارمها أهلك، وأسلحتها المتوقعة رهطك، تنصرك ولا تخذلك، وتظفرك ولا تظفر بك. وَلَمْ أرَ أعْصَى مِنْكَ لِلحُزْنِ عَبْرَةً ... وأثْبَتَ عَقْلاً والقُلُوبُ بلا عَقْلِ ثم قال: إن عبرته تتعاصى على الحزن؛ لما هو عليه من الجلد والصبر، وإنه أثبت الناس عقلاً إذا أذهبت الحرب العقول بشدتها، وأذهلتها بمخافتها، يشير بذلك إلى استسهاله لأمرها، واستقلاله بحملها.

تَخُونُ المَنَايا عَهْدَهُ في سَلِيلِهِ ... وَتَنْصُرُهُ بَيْنَ الفَوارِسِ والرَّجْلِ السليل: الولد. فيقول معجباً بأمره، ومنبهاً على جلالة قدره: وإن الموت حتم من الله تعالى على جميع خلقه. تخالفه المنايا فتخترم نفس ابنه، وتخون عهده في سليله وتنصره في حربه، وتطيعه عند مواقعته بعدوه، وفي هذا شاهد على أن الموت لا يدفع بقوة، ولا يمتنع منه برفعة. وَيَبْقَى عَلَى مَرَّ الحوادِثِ صَبْرُهُ ... وَيَبْدُو الفِرَنْدُ على الصَّقْلِ الفرند: وشيء السيف. ثم قال: إن الحوادث لا تذهب بصيره، ولا تخل بجلده، ولكنها تبقي ذلك وتظهره، وتبديه وتبينه، كما يبدي فرند السيف صقله، ويظهر بجلائه فضله. وَمَنْ كَانَ ذَا نَفْسٍ كَنَفْسكَ حُرَّةٍ ... فَفيهِ لها مُغْنٍ وفيها له مُسْلي ثم قال: ومن كان ذا نفس حرة كنفسك، وذا طبيعة كريمة كطبيعتك، ففي جلالته ما يغني نفسه عن كل حميم يفقده، وفي كرم نفسه ما يسليه عن كل مهم يطرقه.

وما الموتُ إلا سَارِقُ دَقَّ شَخْصُهُ ... يَصُولُ بِلاَ كَفَّ وَيَسْعَى بلا رِجْلِ يقول: وما الموت الذي لا يؤمن في حين الغفلة، ولا يدفع بأشد الحيلة، إلا كسارق مختلس، خفي شخصه، شديد أمره، يصول دون كف يظهرها، ويسعى دون رجل ينقلها، وذلك أشد لبطشه، وأسرع لسعيه. يَرُدُّ أبُو الشَّبْلِ الخميسَ عن ابنِهِ ... وَيُسْلِمُهُ عِنْدَ الوِلادَةِ للنَّمْلِ الشبل: ولد الأسد، والخميس: الجيش الكبير. ثم قال، دالاً على أن حوادث الدهر، لا يمتنع منها بقوة، ولا يدفع محتومها بشدة: يرد الأسد الجيش عن ابنه، ويسلمه لأذى النمل عند ولادته، فيحميه من العظيم الكثير، ويسلمه للحقير اليسير، وضرب في ذلك مثلاً بقيام سيف الدولة بجليل الأمور، وهو مع ذلك لا يدفع الموت عن ابنه، ولا يمتنع منه بنفسه. يريد أنه يعجز عن المخاتلة من لا يعجز عن المبارزة. بِنَفْسِي وَلِيدُ عَادَ مِنْ بَعْدِ حَمْلِه ... إلى بَطْنِ أمٍّ لا تُطْرِّقُ بالحَمْلِ

التطريق بالحمل: أن يخرج بعض الولد ويبقى بعضه. فيقول: بنفسي ولد عاد من بعد حمل أمه إلى بطن أم لا تطرق بحملها، ولا تبدي ما استتر من بطنها. فأشار بذلك إلى الأرض، وأنها لا تبدي قبورها من أجنته، ولا تطرق بمن تضمنته. بَدَا وَلَهُ وَعْدُ السَّحابَةِ بالرِّوَي ... وَصَدَّ وَفِينَا عُلَّةُ البَلَدِ المَحْلِ الروي: الماء الكثير، والغلة: العطش. ثم قال: بدا ذلك الوليد وشواهد الكرم بادية عليه، ومخايله ظاهرة فيه، فوعد من فضله بمثل ما يعد به السحاب من وبله، ثم صد باخترام الموت له، فأبقى بأنفسنا مثل غلة البلد الممحل، إذا منع من السحاب الممطر. وَقَدْ مَدَّتِ الخَيْلُ العِتَاقُ عُيونَها ... إلى وَقْتِ تَبْديل الرِّكَابِ مِنَ النَّعْلِ الخيل العتاق: هي الكرام. فيقول: وقد مدت الخيل الكرام أعينها إليه، وتنافست عتاقها فيه،

وارتقبت أن يصير من السن إلى حال يتعوض فيها بالركاب من النعل، وبركوب الخيل من المشي. وَرِيْعَ له جَيْشُ العدوَّ وما مَشَى ... وَجَاشَتْ له الحربُ الضَّروس وما تَغلى جاشت القدر: إذا غلت وهاجت، فاستعار ذلك في الحرب، والضروس: الشديدة الغص، والروع: الفزع. ثم قال: وفزع له جيش العدو، وهو في سن من لا يمشي؛ لصغره، وغلت الحرب الشديدة باهتياجها، لاعتدادها بموضعه، قبل أن يباشرها بنفسه، وتستعمل فيها ما يرتقب من سعيه، وجرى الكلام في جاشت على الاستعارة، وإن كان ما وصفه غير مشهور الحقيقة. أيَفْطِمُهُ التَّوْرابُ قَبْلَ فِطامِهِ ... وَيَأكُلُهُ قَبْلَ البُلوغِ إلى الأكْاش الفطام: منع الصبي من الرضاع، والتوراب: لغة في التراب. فيقول: أيفطمه التراب باشتماله عليه، قبل بلوغه سن الفطام؟

ويأكل جسمه بإبلائه له قبل بلوغه سن الأكل؟ يشير إلى اخترام الموت له في سن الطفولية. وَقَبْلَ يَرَى مَنْ جُودِهِ ما رَأيْتَهُ ... وَيَسْمَعَ فيه ما سَمِعْتَ مِنَ العَذْلِ ثم قال، مخاطباً لسيف الدولة: وقبل أن يرى من عموم جوده ما رأيته، ويشهد من كثرته ما شهدته، ويسمع من العذل فيه كالذي سمعت، ويعرض عنه كما أعرضت. ودل بكثرة العذل عليه، علي قلة إصغائه غليه، وحذف أن من كلامه، وهو يريدها في قوله: (وقبل يسرى). والعرب تفعل ذلك: قال الشاعر وهو طرفه. (ألا أيُّهذا الزَّاجري أحْضُرَ الوَغَى) يريد: أن أحضر، فحذف لدلالة الكلام على ما أراد. وَيَلْقَى كَما تَلْقَى من السَّلْمِ والوَغَى ... وَيَمْسِي كَمَا تَمْسِي مَلِيكاً بلا مِثْلِ يقول: ويلقى كالذي تلقاه من عظيم سلطانك، وارتفاع شأنك

في السلم وجلالة قدرك، ومشهور ظفرك في الحرب، ويصير في حالك ملكاً لا يماثل ملكه، وسلطاناً لا يعترض أمره. تُوَلَّيه أوسَاطَ البِلاَدِ رِمَاحُهُ ... وَتَمْنَعُهُ أطْرَافُهُنَّ من العَزْلِ ثم قال: توليه رماحه قواعد البلاد، ووسائط الأرض، بتغلبه عليها، وتمنعه أطراف تلك الرماح، برهبة الأعداء لها، من أن يعزل عنها، وطابق بين الولاية والعزل، والأوساط والأطراف، وذلك من البديع. نُبَكِّي لِموْتَانَا على غَيْرِ رَغْبَةٍ ... تَفُوتُ من الدُّنيا ولا مَوْهبٍ جَزْلِ يقول: نبكي على موتانا، ونحزن لهم، ونكثر الأسف لفراقهم، ونحن نتيقن أنهم لا يفوتهم من الدنيا ما يرغب في مثله، ولا يمنعون منها ما يجب أن يتنافس في نيله؛ لأنها بجملتها غرور، وتمنع من بقي فيها بصحبتها يسير. إذا ما تأمَّلْتَ الزَّمانَ وَصَرْفَهُ ... تَيَقَّنْتَ أنَّ الموتَ ضَربُ مِن القَتْلِ

ثم قال: إذا ما تأملت الزمان وصروفه، وتدبرت الدهر وخطوبة، تيقنت أن ما حتم على الإنسان من الموت، كالذي يتوقعه من القتل؛ لأن الأمرين متساويان في مكروههما، متماثلان فيما يشاهد من عدم الحياة بهما، فما ظنك بشيء يكون آخر مصيره إلى أكره ما يحذر من أموره، وهذا يوجب الزهد في الدنيا، ويدعو إلى الإعراض عنها، وقلة الأسف عليها. هَلْ الوَلَدُ المَحْبُوبُ إلاَّ تَعِلَّةُ ... وهل خَلْوةُ الحسناءِ إلا أذَى البَعْلِ التعلة: الشغل. فيقول: هل الولد المرغوب فيه إلا شغل لوالده، وفتنة لمنسله، وهل خلوة الحسناء التي تدعو إليه إلا أذى للبعل المتعرض لها؛ لأنه غير مستديم للذتها، ولا حامد للنسل في عاقبتها. وَقَدْ ذُقْتُ حَلْوَاَء البَنيْنَ على الصِّبَا ... فلا تَحْسِبنِّي قُلتُ ما قُلتُ عن جَهْلِ والحلوى: معروفة، واسمها يستعار لكل ما استحلي. ثم قال: وقد ذقت حلاوة البنين في حين الصبوة، والعدم لحقيقة

المعرفة، ثم لحظتهم بعين اليقين، بعد تجربتي لأمرهم، وإحاطتي بعلمهم، فلا تحسبني ذممتهم عن غير معرفة، وزهدت فيهم دون تجربة. وما تَسَعُ الأزْمَانُ عِلْمِي بأمْرِها ... ولا تُحْسِنُ الأيَّامُ تَكْتُبُ ما أمْلي يقول، مؤكداً لما قدمه من إحاطته بالأمور، وما خض عليه من الزهد في الدنيا، وقلة الأسف على التولد: وما تسع الأزمان ما أعلمه من أمرها، وأتيقنه من شدة تكدرها. يريد أنها تضيق عن علمه وتقصر، وتعجز عن الاشتمال عليه وتتأخر، وأنها لا تحسن أن تكتب من ذلك ما يمله، وتضبط ما يعده. وما الدَّهْرُ أهلُ أنْ تُؤَمَّلَ عِنْدَه ... حَيَاةُ وأنْ يُشْتَاقَ فيه إلى نَسْلِ ثم قال: وما يحسن بالدهر المذموم أمره، الشديد تنكره، أن تؤمل عنده حياة، أو يشتاق فيه إلى نسي؛ لأن مآل الحياة فيه إلى الموت، ومآل

النسل فيه إلى الفقد بعد طول الشغل والنصب، ومعاناة الكد والطلب، وما كان كذلك، فالسرور يسير بوجوده، والحزن غير واجب عند فقده.

وسأله عن صفة فرس ينفذه إليه، فقال ارتجالاً. مَوْقِعُ الخَيْلِ مِنْ نَدَاك طَفيفُ ... وَلَوْ أنَّ الجيَادَ مِنْها ألُوفُ ومن اللَّفْظِ لَفظةُ تَجْمَعُ ... الوَصف وذاكَ المُطَهَّمُ المَعْرُوفُ ما لَنا في النَّدَى علَيْكَ اختِيارُ ... كُلُّ مَا يَمْنَحُ الشَّريفُ شَريفُ الطفيف: الحقير، والمطهم من الخيل: التام الخلق. فيقول: موقع الخيل حقير في جودك، والألوف منها يسير في بذلك، ثم قال: ومن اللفظ قليل يجمع الكثير من النعت، ولفظة تشتمل على جملة الوصف، في الخيل، المطهم التام خلقه، المعروف المشهور عتقه، ثم قال: وما لنا في نداك اختيار عليك، أنت الشريف، وشريف ما تهبه، والرفيع، ورفيع ما تبذله.

وخيّره بين فرسين: دهماء وكميت، فقال ارتحالاً: اخْتَرْتُ دَهْمَاَءتَيْنِ يا مَطَرُ ... وَمَنْ لَهُ في الفَضَائِلِ الخِيَرُ الخيرُ: جمع خيرة، وخيرة الشيء: أرفعه. فيقول لسيف الدولة: اخترت دهماء هاتين الفرسين، وأسقطها التي للتنبيه، كما تقول في المذكر: اخترت أفضل دين، وأنت تريد هاذين، وشبهه بالمطر في عموم جوده، وتدفق كرمه، فقال له: يا مطر، ويا من له من الفضائل أجلها رتبة، وأبينها رفعة. وَرُبَّما فَالَتِ العيونُ وَقَدْ ... يَصْدُقُ فِيها وَيَكْذِبُ النَّظَرُ قال الشيء: إذا أخطأ. ثم قال: ربما أخطأت العيون فيما تؤثره، وغلطت فيما تتخيره، فالنظر يصدق ويكذب، ولست أبرئ نفسي من ذلك، فيما تخيرته. واستحسنته. أنْتَ الذي لو يُعَابُ في مَلاءٍ ... ما عيبَ إلاَّ بأنَّهُ بَشَرُ

يقول أنت الذي لو يعيبه عائب في ملا يحصلون قوله، ويراقبون كذبه وصدقه، ما عيب إلا بأنه بشر يماثل في كرمه وفضله. وإنَّ إعطاءهُ الصَّوارِمُ وال ... خَيْلُ وسُمْرُ الرِّماحِ والعَكَرُ العكر: ثلاث مائة من الإبل، فما زاد على ذلك. ثم قال: وإن إعطاءه، السلاح التي توجب المنعة، والخيل التي تقرب البغية، والكثرة العظيمة من الإبل التي تضمن الثروة، فعائبه لا يعيبه إلا بيان فضله، وتناهي كرمه. وهذا من البديع باب يعرف بالاستثناء. فَاضِحُ أعْدائهِ كأنَّهُمُ ... لَهُ يَقِلُّونَ كُلّما كَثُرُوا يريد: أنه يفضح أعداءه، بظهور فضله فيهم، واستحكام غلبته عليهم حتى كأنهم كلما كثروا يقلون له؛ لأنه يحتقرهم، ويملكهم ويستذلهم، ويقهرهم. أعَاذَكَ اللهُ مِنْ سِهَامِهِمُ ... وَمُخطِئُ مَنْ رَمِيَّهُ القَمَرُ ثم دعا له، فقال: أعاذك الله مما يرمونك به من كيدهم، ويوجهونه إليك من مكرهم، وإعاذة الله لك مضمونة، وكفايته متيقنة؛ لأنك القمر في بيان فضلك، وعلو قدرك، ومخطئ من رميه القمر؛ لأنه يحاول ما لا يدركه، ويرمي ما لا يبلغه.

وأمر سيف الدولة بإنفاذ خلع إليه، فقال: فَعَلَتْ بِنَا فِعْلَ السَّمَاءِ بأرْضِهِ ... خِلَعُ الأميرِ وَحَقَّهُ لم نَقْضِهِ السماء: المطر. فيقول: فعلت خلع الأمير بنا، فيما ظهر علينا من حسنها وجمالها، فعل المطر بالأرض، فيما يكسوها من الروض، ويظهر فيها من الزهر. فَكَأنَّ صِحَةَ نَسْجِها مِنْ لَفْظِهِ ... وَكَأنَّ حُسْنَ نَقَائِها مِنْ عِرْضِهِ ثم وصف تلك الخلع، فقال: فكأن صحة نسجها تحكي من سيف الدولة صحة لفظه، وكأن حسن رونقها يحكي رونق عرضه. وإذَا وَكَلْتَ إلى كَريمٍ رَأيَهُ ... في الجُودِ بانَ مَذِيقُهُ مِنْ مَحْضِهِ المذيق: المخلوط، والمحض: الخالص. ثم قال: وإذا وكلت إلى الكريم رأيه في الجود، كشف لك حقيقته، وأبان لك يقينه، وعرفت بما يبديه لك، فضل ما بين المذيق والمحض، وفرق ما بين المشوب والصفو.

وقال أيضاً يمدحه: لا الحُلْمُ جَادَ بِهِ ولاَ بِمِثَالِهِ ... لَوْلا ادِّكارُ وزِيَالِهِ الزيال: كالزوال، يقال: زال الشيء زوالاً، وزالت الخيل بركبانها زيالاً، تقلب الواو ياء للكسرة التي قبلها. فيقول: إن الأحلام لم يكن في قوتها أن تجود بمن أحبه فتقربه، ولا بما يشبهه فتمثله، لولا ما يدعو إلى ذلك من وكيد التذكير لوداعه عند فرقته، وزياله عند رحلته. إنَّ المُعيدَ لَنَا المَنامُ خَيَالهُ ... كَانَتْ إعَادَتُهُ خَيَالَ خَيَالِهِ ثم قال: إن المحبوب الذي أعاد لنا النوم خياله، كانت تلك الإعادة لخفه وقعتها، وتقاصر مدتها من ذلك الخيال، كالخيال الذي لا حقيقة له، ولا شفاء للعاشق به. بِتْنَا يُنَوِلنا المُدَامُ بكَفِّهِ ... مَنْ لَيْسَ يَخْطُرُ أن نَراهُ بِبَالِهِ ثم وصف حاله عند زيارة الطيف له، وما قرب بذلك من البعيد وأمكنه من العسير، فقال: إنه بات يتناول المدام من كف محبوبه،

وذلك المحبوب لا يخطر بباله رؤيته، لتباعده عنه ولا يتوهمها، لانفصاله بالمسافة المتراخية منه. نَجْني الكَواكِبَ مِنْ قَلائِدِ جِيدهِ ... وتنالُ عَيْنَ الشَّمْسِ من خَلْخَالِهِ ثم شبه جواهر عقود محبوبه بالكواكب، ولمعان خلاله بعين الشمس، وذكر أنه بات يجني الكواكب من تلك القلائد، بتناوله لها، وينال عين الشمس من تلك الخلاخل، بلمسه إياها، فأحرز صواب التشبيه فيما شبه به، مما لا زيادة عليه في حسن المنظر، وامتناع الموضع. وأشار إلى المعانقة والملامسة أحسن إشارة، وغير عنهما ألطف عبارة. بِنْتُمْ عَنِ العَيْنِ القَريحَةِ فِيكُمْ ... وَسَكَنْتُمْ وَطَنَ الفُؤادِ الوَالِهِ فَدّنَوْتُمُ وَدُنُوُّكُمْ مِنْ عِنْدهِ ... وَسَمَحْتُمُ وَسَماحُكُمْ مِنْ مَالِهِ الفؤاد: القلب، والوله: ذهاب العقل لشدة الحب فنقول: بنتم عن العين القريحة من مواصلة البكاء لبينكم، وسكنتم وطن الفؤاد الواله بحبكم، المشغول بذكركم، المقصور على تمثلكم،

فأدناكم الحلم من عاشقكم في نومه، بذكره لكم، وقربكم الوهم منه في يقظته، لشغفه بكم، فذلك الدنو من عنده، ولا من عندكم، وذلك السماح من ماله، لا من قبلكم. وأجرى ذكر السماح والمال على طريق الاستعارة. إنِّي لأبْغِضُ طَيْفَ مَنْ أحْبَبْتُهُ ... إذَ كَانَ يَهْجُرُنَا زَمَانَ وِصَالِهِ يقول: إنه يبغض طيف محبوبه مع كلفه به، ويكرهه مع ارتياحه له؛ لأنه كان يهجره في زمان الوصل، ولا يطرقه مع التئام الشمل. مِثْلَ الصبَابَةِ والكآبَةِ والأسَى ... فَارَقْتُهُ فَحَدَثْنَ من تَرْحَالِهِ ثم قال: مثل الصبابة والكآبة والأسى، فارقت من أحب، فحدثن بفرقته، وعدمته، فشكوتهن بعد رحلته، وكذلك الطيف، إنما زار في زمان الهجر، وطرق عند امتناع الوصل. وقد استَقَدْتُ مِن الهَوَى وأذَقْتُهُ ... مِنْ عِفَّتي ما ذُقْتُ منْ بَلْبَالِهِ البلبال: شدة الوجد.

فيقول: وقد أخذت قودي من الهوى، وأذقته من الأسف بالعفة، التي سهلت لي خلافه، كالذي أذاقني من الألم ببلابله، والتحمل للواعجه. وَلَقَدْ ذَخَرْتُ لِكُلِّ أرضِ سَاعةً ... تَسْتَجْفِلُ الضِّرْغَامَ عَنْ أشْبَالِهِ الاستجفال: الاستعجال. ثم قال: ولقد ذخرت للأرض وقعة أوقعها، وساعة أثور فيها، تستعجل الضرغام بشدتها عن شبله، وتجعل له أوكد شغل في نفسه تَلْقَى الوُجُوهُ بها الوجُوهَ وَبَيْنَها ... ضَرْبُ يَجُول الموتُ في أجْوَالِه الأجوال: النواحي، واحدها جول. ثم وصف تلك الساعة، فقال: إن وجوه الأبطال الذين لا ينكصون، يلقى بعضها بعضاً، وبينها ضرب شديد، وجلاد وكيد، يكثر الموت فيه،

ويجول في نواحيه. وجانس بقوله يجول الموت في جواله؛ لأن حروف الأصل في يجول وفي أجواله واحدة، والمراد بالكلمتين مختلف، واتفاق هذا في الكلام هو التجنيس، وهو من البديع. وَلَقَدْ خَبَّأتُ مِنَ الكلامِ سُلافَهُ ... وسَقَيْتُ مَنْ نَادَمْتُ من جِرْيَالِهِ السلاف والسلافة: ما سال من الخمر دون أن يعصر، والجريال: صيغ أحمر، وما اشتدت حمرته من الخمر، يسمى جريالاً على المشابهة. فيقول: إنه خبأ من الكلام أسهله وأفضله، وما هو منه كالسلاف في ضروب الخمر، وأظهر منه ما لا يدفع فضله، ولا ينكر حسنه، كالجريال في أنواعها، إلا أن الذي أظهره مع تقدمه دون الذي خبأه. يشير بهذا إلى قدرته على الكلام وإحاطته به. وإذَا تَعَثَّرَتِ الجِيادُ بِسَهْلهِ ... بَرَّزْتُ غَيْرَ مُعَثَّرٍ بِجِبَالِهِ ثم قال: وإذا بعد سهل الكلام على أهل الإحسان، وصعب انقياده لهم، صعوبة المقامات التي توجب ذلك، برزت هنالك غير مقصر في

غوامض القول، ولا متعثر في بدائع الشعر. وكنى (بالسهل) عما قرب من الكلام، (وبالجبال)، عما غمض منه، (وبالجياد)، عن أهل الإحسان، فاستعار هذه الألقاب أحسن استعارة، وأشار إلى إحسانه أبدع إشارة، وكل ذلك من بديع الكلام. وَحَكَمْتُ في البَلَدِ العَراءِ بناعِجٍ ... مُعْتَادِهِ مُجْتَابِهِ مُغْتَالِهِ العراء: الأرض الفضاء التي لا يستثر فيها، والناعج من الجمال: الأبيض، وذلك من دلائل كرمه، والمجتاب للبلد: الذي يقطعه، والمغتال له: الذي يستوفي غايته. فيقول: إنه اقتدر على الفقر العراء بجمل معتاد للسير فيه، مستضلع بالقطع له، مستقل ببلوغ غايته، فحكم في هذا الفقر، بركوبه جملاً هذه صقته. يَمْشي كَمَا عَدَتِ المَطِيُّ وَرَاءهُ ... وَيزِيدُ وَقْتَ جَمَامِها وكَلالِهِ العدو: ضرب من الجري.

ثم قال: إن هذا الجمل لقوته يساوي بمشيه جري غيره من المطي، فيستظهر بمشيه على عدوها، وبعفوه على جهدها، فتصير وراءه، ويزيد على ذلك عند كلاله وجمامها، وتعبه وراحتها، فما ظنك به إذا تساوت الحال وذهب عنه الكلال؟ وَتُراعُ غَيْرَ مُعقَّلاتٍ حَوْلَهُ ... فَيَفُوتُها مُتَجَفَّلا بِعِقَالِهِ وتراع المطي حول هذا الجمل، وكلها لا عقال عليه، وهو معقول بينها، فتفر هذا الجمل لفراها، فيفوتها مسرعاً، وهو بعقاله، وهي مطلقة ويتقدمها موثقاً برباطه، وهي مجتهدة. والمتجفل: المسرع. فَغَدَا النَّجَاحُ وَرَاحَ في أخْفَافِهِ ... وَغَدَا المِرَاحُ وَرَاحَ في إِرْقَالِهِ المراح: النشاط. يقول: إنه أعمل هذا الجمل في قصد هذا الرئيس، فاقترن الظفر بسيره، والفوز والغبطة بسفره، وبلغه والنجاح يغدو ويروح في أخفاف مطيته، والنشاط يحملها، والقوة تنهض بها.

وَشَرِكْتُ دَوْلَةَ هَاشِمٍ في سَيْفِهَا ... وَشَقَقْتُ خِيْسَ المُلْكِ عَن رِئْبَالِهِ الرئبال: الأسد: والخيس: أجمته. يقول: إنه شرك دولة هاشم في هذا الرئيس، الذي هو سيفها، فاختاره لقصده، كما اختاره الملك لنفسه، ووصل إلى دار سلطانه، ورفيع مكانه، فأبدى له مستقر تلك المنعة، وموضع تلك الرفعة، عن أسد الملك المانع منه، وسيفه المدافع عنه، وكنى بالرئبال عن سيف الدولة، وبالخيس عن بلده. عَنْ ذَا الَّذي حُرِمَ اللَّيوثُ كَمالَهُ ... يُنْسِي الفَريسَةَ خَوْفَهُ بجَمَالِهِ الفريسة: ما اختطفه الأسد، فدق عنقه. فيقول إنه شق خيس الملك عن الأسد، الذي حرمت الأسد كماله، ومنعت خصاله؛ لأنه يشركها ببأسه، ويفوتها بحسنه، فهي منسوبة إلى القبح، وهو لحسنه ينسي فريسته خوفه بجمال وجهه، ويشغلها ببهائه عما تتوقعه من بأسه. وَتَواضَعَ الأمَراءُ حَوْلَ سَرِيرهِ ... وتُرِى المَحَبَّةَ وهي من آكَالِهِ الآكال: جمع أكل.

ثم قال: إنه لشدة هيبته، وارتفاع رتبته، تتواضع الأمراء حول سريره، وتعتصم بالخضوع له، وتريه محبتها، وليست من أشكاله، وتتودده، وهي من آكاله. وَيُمِيتُ قَبْلَ قِتَالِه، وَيَبَشُّ ... قَبْلَ نَوَالِهِ، وَينِيلُ قَبْلُ سُؤَاِلِه البشاشة: الاستبشار. فيقول إن هذا الممدوح يميت بهيبته قبل أن يقاتل، ويستبشر بنواله قبل أن يعطي، وينيل من يقصده قبل أن يسأل. إنَّ الرِّياحَ إذا عَمدْنَ لِنَاظِرٍ ... أعْنَاهُ مُقْبِلُهَا عن استعْجَالهِ ثم ضرب له مثلاً، في قوته على ما يقصده، وقدرته على ما يفعل، بالريح في قوة هبوبها، وعجلة مسيرها، فقال: وكذلك الرياح إذا اعتمدت الناظر إليها، أغناه سرعة حلولها عن استعجالها في مسيرها. أعطَى وَمَنَّ على الملوكِ بِعَفْوِهِ ... حَتَّى تَسَاوَي النَّاسُ في إفْضَالِهِ يقول: أعطى، فغم بفضله، واقتدر على الملوك المرتفعين عن

تقبل العطاء، فمن عليهم بعفوه، وكان صفحه عنهم من أوفر العطاء عندهم، فتساوى، الملوك والسوق فيما شملهم من إفضاله، وتماثلوا فيما أحاط بهم من إحسانه. وإذا غَنُوا بِعَطَائِهِ عن هَزِّهِ ... وإلى فأغْنَى أن يَقُولوا وَالِهِ ثم قال: وإذا أغنى كرمه عن مسألته، وابتداؤه للعطاء عن هزه وإلى ذلك وتابعه، وأعاده وواصله، فأغنى احتماله عليه من تحريكه بالمسألة إليه. وَكَأنَّما جَدْوَاهُ من إكْثَارهِ ... حَسَدُ لسائِلِهِ على إقْلاَلِهِ الجَدْوَى: العطاء. فيقول: وكأنما عطاؤه لكثرته، وما هو عليه من مواصلته، استكراه منه للمال، وحسد للسائل على الإقلال. غَرَبَ النُّجُومُ فَغُرْنَ دُونَ هُمُومِه ... وَطَلَعْنَ حِيْنَ طَلَعْنَ دُونَ مَنَالِهِ الهم والهمة بمعنى واحد. ثم قال: إن النجوم مع ارتفاع مواضعها، وانتزاح مغاربها

ومطالعها، تغرب مقصرة عما تبلغه همته، وتطلع متواضعة عما يدركه تناوله. واللهُ يُسعِدُ كلَّ يَوْمٍ جَدَّهُ ... وَيَزيدُ من أعْدَائِهِ في آلِهِ يقول: والله يمده في كل يوم بكرامة يصلها به، وسعادة يجددها له، ويظفره بمن ناوأه، ويظهره على من عاداه، ويجعلهم بعد العداوة أتباع أمره، وأنصاراً لحزبه. لَو لَمْ تَكُنْ تَجْري عَلى أسَيافِهِ ... مُهَجَاتُهُمْ لَجَرَتْ عَلَى إقْبَالِهِ ثم قال: لو لم يهلكهم بوقائعه، وتجري مهجاتهم على سيوفه، لتكفل له بذلك إقبال جده، وما أظهره الله من تمكنه وسعده. فَلِمثْلِهِ جَمعَ العَرَمْرَمُ نَفْسَهُ ... وَبِمِثلْه انفَصَمَتْ عُرَا أَقْتَالِ العرموم: الجيش الكثير، والأقتال: الأعداء، والواحد قتل، والانفصام: الانقطاع فيقول: فلمثل سيف الدولة جمعت الجيوش أنفسها، وسلمت

طاعتها، إعظاماً لقدره، بفضله، وبمثله من أهل الحزامة، والمتقدمين في الرياسة، انفصمت عرا أعدائه، وانحل عقدهم، وانفل حدهم. لم يَتْركوا أثَرَاً عَلَيْهِ مِنَ الوَغَى ... إلاَّ دِمَاَءهُم على سِرْ بَالِهِ ثم قال، مشيراً إلى استنفاذه لأعدائه، بقتله لهم، وبلوغه المراد منهم: لم يتركوا عليه للحرب أثراً يظهره، وشاهداً يتكلفه؛ لاستغنائه عن ذلك ببلوغ البغية فيه، إلا ما في ثوبه من دمائهم، التي سفكتها صوارمه، وأجرتها وقائعه، وهذا من البديع يعرف بالاستثناء. يا أيُّها القمرُ المُباهي وَجْهَهُ ... لا تُكْذَبَنَّ فَلَسْتَ من أشْكالِهِ يقول: يا أيها القمر الذي يباهي وجه سيف الدولة بنوره، ويساجله بحسنه، لا تكذبن عن نفسك، فهو أبهى منك وأحسن، وأضوء منك وأنور، وله في البأس والكرم رتب لا تبلغها، ومنازل لا تستحقها، فلست ممن يشاكله ويضاهيه، ويماثله ويساويه. وإذَا طَمَا البَحْرُ المُحِيْطُ فَقُلْ لَهُ ... دَعْ ذا فإنَّك عاجِزُ عَنْ حَالِهِ ثم قال: وإذا طما البحر المحيط، وطموه: ارتفاعه، فقل له: دع ما

تظهره، فكرم سيف الدولة يغمرك، ومواهبه تحقرك، وأنت عاجز عن رتبته، ومقصر عن جلالته ورفعته. وَهَبَ الّذي وَرِثَ الجُدودَ وما رَأى ... أفْعالَهُمْ للابْنٍ بلا أفْعَالِهِ ثم قال: (وهب الذي ورث الجدود)، والعرب تسقط حرف الجر مع ورث، فتعمل الفعل، والحرف ثابت في النية، فيقول أحدهم: ورثت أبي ماله، وهو يريد: ورثت من أبي ماله، وأنشد سيبويه: وَرِثْتُ أبي أخْلاَقَهُ: عاجِلَ القِرَى ... وَعْبْطَ المَهارِي كُومُها وشبُوبُها يريد من أبي. فيقول أبو الطيب: إن سيف الدولة لسعة فضله، وعموم جوده، وهب الذي ورثه من جدوده، وأشار بهذا إلى استنفاذه لجمعه، واستيعابه لكسبه؛ لأن نفقة التالد بعد نفقة الطارف، ولم يقنع بما خلده جدوده من المجد، وأسلفوه من الجود، دون أن يتلوهم بفعله، ويماثلهم، ولا رأى أن أفعال

الآباء تشرف الابن، إذا لم تشرفه أفعاله، وترفعه أحواله، نحو قول الجعدي: لِسْنَا وإن كَرُمَتْ أوائِلُنا ... يَوْماً على الأحْسَابِ نَتَّكِلُ حَتَّى إذا فَنِيَ التُّراثُ سِوَى العُلاَ ... قَصَدَ العُدَاةَ مِنَ القَنَا بِطِوَالِهِ قم قال: حتى إذا أفنى البذل تراثه، واستوعب طارفه وتالده، ولم يبق من ذلك إلا العلا التي خلدها، والمكارم التي شيدها، طلب المال مغالبة، فقصد عداه بطوال رماحه، واستعمل فيهم صوارم سيوفه. وبأرعَنٍ لَبِسَ العَجَاجَ إلَيْهِمِ ... فَوْقَ الحَديدِ وَجَرَّ مِنْ أذْيالهِ الرعن: أنف الجبل، والأرعن: الجيش الكبير التي تكون له فضول، كفضول الجبال ورعونها.

فيقول: إن سيف الدولة قصد أعاديه بجيش ضخم، له رعون وفضول، يلبس ما يثيره من العجاج فوق ما يلبس فرسانه من السلاح، ويجر أذياله لوفوره، ويسحبها إلى العدو في مسيره. فَكَأنَّما قَذِي النَّهَارُ بِنَقْعهِ ... أوْ غَضَّ عَنْهُ الطَّرْفَ من إجلالِهِ القذى: ما وقع في العين فعاقها عن النظر، والنفع: الغبار. ثم قال: إن ذلك العجاج طمس ضياء النهار بشدته، حتى كأنه قذي بغباره، أو غض طرفه عنه، لمخافته وإجلاله. يشير بذلك إلى تغلب الإظلام على نوره، واستيلاء العجاج على ضوئه. الجَيْشُ جَيْشُكَ غَيرَ أنَّكَ جَيْشُهُ ... في قَلْبِهِ وَيَمِينِهِ وَشِمَالِهِ يقول: الجيش جيشك في امتثاله لأمرك، وتصرفه على إرادتك، وأنت جيشه في أنه إنما يشجع بشجاعتك، ويقدم بك، وتهابه الأعداء من أجلك. هذه حالك في قلبه، ويمينه وشماله، فإذا امتنع الرؤساء بجيوشهم، فأنت تمنع جيشك، وإذا احتموا بجموعهم، فأنت تحمي جمعك. تَرِدُ الطَّعَانَ المُرَّ عَنْ فُرْسَانِهِ ... وَتُنازِلُ الأبْطَالَ عَنْ أبْطَالِهِ

ثم قال: يسبق فرسانه إلى الطعان، فيرد قبلهم مرة، ويسبق أبطاله إلى النزال، فيصلي دونهم حره. كُلُّ يُريدُ رجالهُ لحِياتِهِ ... يا مَنْ يريدُ حَياتَهُ لِرجالِهِ ثم قال: كل الأمراء غيرك يريد الرجال ليستبقي حياته، وأنت تريد الحياة لتسبقيني رجالك، وتحفظ جمعك، جندك. دُونَ الَحلاوةِ في الزَّمان مَراَرةّ ... لا تُخْطَى إلا على أهواله يقول: دون حلاوة الظفر، ولذة بلوغ الأمل، مرارة من الغرر، ومشقة من الخطر، لا تتجاوز تلك المرارة إلا بمقارعة أهوال الزمان وشدتها، والتعرض لمحنتها وصعوبتها، وضرب هذا مثلاً فيها قدمه، والمثل أرفع وجوه البديع. فَلِذاكَ جَاوَزَها عَليُّ وَحْدَهُ ... وَسَعى ُبمْنُصِلِه إلى آمالِه ثم قال: فلذلك انفرد علي بجواز تلك المرارة، وتخطي تلك الصعوبة، وسعي إلى أمله بسيفه، واقتدار على مراده بعزمه.

وقال أيضاً، يمدحه: أنا مِنْكَ بَيْنَ فَضَائِلٍ وَمَكارمِ ... وَمِن ارتَياحِكَ في غَمَامٍ دائِمِ الارتياح: انبساط الخلق بالمعروف. فيقول لسيف الدولة: أنا منك بين فضائل باهرة، ومكارم شاملة، ومن ارتياحك في سحاب لا يقلع، وعطاء لا ينقطع. وَمِنَ احتِقَارِكَ كُلَّ ما تَحْبو بهِ ... فِيما ألاَ حِظُهُ بعَيْنَيْ حَالِمِ ثم قال: وأنا من احتقارك لعظيم ما تفعله، وكثير ما تبذله في شيء ألحظه بعيني حالم غير محقق، ومتوهم غير مصدق. إنَّ الخَليفَةَ لَمْ يُسَمِّكَ سَيْفَهُ ... حَتَّى بَلاَكَ فَكُنْتَ عَيْنَ الصَّارِمِ الابتلاء: التجربة، وعين الشيء: حقيقته. فيقول: إن الخليفة لم يمسك سيف دولته حتى جربك، فكنت السيف حقيقة لا ينبو حدك، ولا ينفل عزمك، ولا يطمع فيك عدوك.

فإذا تَتَوَّجَ كُنْتَ دُرَّةَ تَاجِهِ ... وإذا تَخَتَّمَ كُنْتَ فَصَّ الخَاتَمِ ثم قال: فأنت أرفع آلات تاجه إذا تتوج؛ لأنك درته، وأجل ما يشتمل عليه خاتمه إذا تختم؛ لأنك فصه. يشير إلى أنه أرفع ما يترفع الخليفة به، وأجل ما يباهي بموضعه. وإذا انتَضَاكَ على العِدَى في مَعْرَكِ ... هَلَكُوا وَضَاقَتْ كَفُهُ بالقائِمِ يقول: إذا جردك على أعاديه في معرك، وعارضهم بك في موقف، أهلك بنفاذك جمعهم، وأذل بابتدارك عزمهم، وضاقت كفه عن قائم سيف أنت حقيقته، وقل هذا الاسم لقدرك، وتواضع لجلالة أمرك. أَبْدَى سَخَاؤُكَ عَجْزَ كُلِّ مُشَمِّرٍ ... في وَصْفِهِ وأضَاقَ ذَرْعَ الكَاتِمِ ثم قال: أبدى سخاؤك لكثرته عجز واصفه، وأضاق كرمك بتظاهره ذرع كاتمه، فمحاول وصفه لا يبلغه، لعجزه عنه، ومحاول كتمه لا يمكنه، لما تبين منه.

وقال فيه، وقد أمر له بفرس وجارية. أيَدْرس الرَّبْعُ أيَّ دَم أرَاقَا ... وأيَّ قُلُوبِ هَذا الرَّكْبِ شاقَا الشعراء تذكر أن الحزن إذا أفرط، والبكاء إذا اتصل، امتزج الدم بالدمع، فتلاه في جريه، وانحدر في فيقول: أيدري هذا الربع أي الركب الوقوف به، أراق دمه، مما كلفه من البكاء فيه، وأكد اشتياقه بما جدده من الجزع عليه؟ لَنَا وَلأهْلِهِ أبَداً قُلوبُ ... تَلاقى في جُسُومٍ ما تَلاقَا ثم قال: لنا وللراحلين من أهله قلوب تتلاقى أبداً، بما هي عليه من التذكر لسالف العهد، والامتثال لأيام الوصل، في أجساد متباينة، وأجسام غير متلاقية. وَمَا عَفَت الرِّياحُ لَهُ مَحَلاً ... عَفَاهُ مَنْ حَدَا بِهمُ وَسَاقَا يقول: وما غير آثار هذا الربع، وعفي رسومه، اختلاف الرياح عليه، وتكررها بالهبوب فيه، وإنما غيره وعفاه، وأخلقه وأبلاه، من رحل بأهله عنه، وأخرج العامرين له منه. فَلَيْتَ هَوَى الأحِبَّةِ كانَ عَدْلاً ... فَحَمَّلَ كُلَّ قَلْبٍ ما أطَاقَا

ثم قال: فليت هوى الأحبة الراحلين، والآلاف المتحملين، عدل في حكمه، وأنصف من نفسه، فحمل كل قلب ما يطيقه من الحب، وأودعه ما يستقل به من الصبابة والوجد. نَظَرْتُ إليهمُ والعَيْنُ شَكْرَى ... فَصَارَتْ كُلُّهَا للدَّمْعِ مَاقَا العين الشكري: الممتلئة بالدمع، والمآق: طرف العين مما يلي الأنف، وهو مخرج الدمع من العين. فيقول: نظرت إليهم عند رحلتهم، والعين ممتلئة بدمعها، فصارت كلها مخرجاً للدمع، لكثرته فيها، وشدة انحداره منها. يخبر عن غلبة البكاء له. وَقَدْ أخَذَ التَّمامَ البَدْرُ فيهمْ ... وأعْطَاني من السَّقَمِ المُحَاقَا قم قال: وقد أخذ البدر الراجل فيهم حال التمام في حسنه، والكمال في جماله، وأعطاني المحاق من السقم عليه، والنحول من الوجد به، والتضاؤل بعد الفقد له. وطابق بين المحاق والتمام، وذلك من بديع الشعر. وَبَيْنَ الفَرْعِ والقَدَمَيْنِ نُورُ ... يَقُودُ بِلاَ أزِمَّتِها النِّيَاقَا

الفرع: الشعر، والنياق: جمع ناقة. فيقول: وبين الفرع والقدمين نور، من ضياء وجه من أحبه، وتلألؤ حسنه، يقود النياق بلا أزمة، ويحدوها على السير بلا مؤونة. وَطَرْفُ إن سَقَى العَشَّاقَ كَأسَاً ... بِهَا نَقْصُ سَقَانِيها دِهَاقا الدهاق: الممتلئة. وفيما هنالك منه، لحظ فاتر، وطرف ساحر، إذا سقى العشاق المغرمين به كأساً من خمرة ناقصة، سقانيها دهاقاً مترعة. وَخَضرُ تَثْبُتُ الأبْصَارُ فيه ... كأنَّ عَلَيْهِ مِنْ حَدَقٍ نِطَاقَا وفيما هنالك أيضاً، خصر لطيف، تثبت الأبصار فيه، وتتردد لحسنه عليه، وتكثر الإعجاب منها به، حتى كأن عليه منها نطاقاً يشمله ووشاحاً يعمه. سَلي عَنْ سِيْرتي فَرَسي وسَيْفِي ... وَرُمحي والهَمَلَّعَةَ الدِّفَاقَا الهملعة: الناقة الخفيفة القوية، والدفاق: السريعة

فيقول للتي يخاطبها: سلي عن سيرتي في الإقدام على الأهوال، والقوة على الأسفار، والنفاذ في الفلوات، فرسي الذي يحملني في الحرب، وسيفي ورمحي اللذين أبطش بهما في الطعن والضرب، وناقتي التي تحملني في الأسفار، وأقطع عليها الفلوات بالارتحال. تَرَكْنَا مِنْ وَرَاء العِيْسِ نَجْداً ... ونَكَّبْنَا السَّمَاوَةَ والعِراقَا السماوة: فلاة بين الشام والعراق. ثم قال: تركنا نجداً من وراء رواحلنا، ونكبنا عن السماوة والعراق في سفرنا، قاصدين سيف الدولة في موضعه من الشام، ومستقره من تلك الأرض. فَمَا زَالَت تَرَى واللَّيْلُ دَاجٍ ... لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ الملِكِ ائْتِلاَقَا الائتلاق: التلألؤ واللمعان. يقول: فما زالت عيسنا عند دجو ليلها، واعتراض الظلام لها، ترى لسيف الدولة الملك ضياء يقتادها، ونوراً يسطع لها، إشارة إلى ما تظاهر في أرضه من فضله، وأشرق فيها من أنوار مجده. أدِلَّتُهَا رِيَاحُ المِسْكِ مِنْهُ ... إذا فَتَحَتْ مَنَاخِرَها انْتِشَاقا

يقول: أدلة عيسنا إليه، تضوع المسك لفوحه، وسطوع روائح طيبه، فإذا فتحت مناخرها، قادها استنشاق ذلك الفوح نحوه، وعرفت بتضوعه أرضه. أباحَكِ أيُّها الوَحَشُ الأعَادي ... فَلِمْ تَتَعَرَّضينَ له الرِّفَاقَا ثم قال: مخاطباً للوحش المعترضة له: أباحك سيف الدولة، أيها الوحش، العداد، بوقائعه فيهمن وقتله لهم، وإلحامك أجسادهم، فما لك، واعتراض الرفاق التي تعتمده، وأشار بهذا القول إلى كثرة إيقاعه بمن يخالفه، وشده استظهاره على من يعارضه. وَلَوْ تَبَّعْتِ مَا طَرَحَتْ قَنَاهُ ... لَكَفَّكِ عَنْ رَذَايَانَا وَعَاقَا الرذايا: جمع رذية، وهي ما هزل من الإبل، وانقطع فلم يستطع براحاً. فيقول للوحش المعترضة له: لو تبعت ما طرحت لك قناة، من قتلى وقائعه، وصرعى ملاحمه، لأغناك ذلك عنها، ومنعك بكثرته منها. وَلَوْ سِرْنا إليه في طَريقٍ ... مِنَ النِّيرانِ لم نَخَفِ احتِرَاقَا

ثم قال: ولسنا نرهب أيها الوحش سطوتك، ولا نخاف على ركائبنا مضرتك؛ لأن ما يحيط بنا من سعادة سيف الدولة مقصودنا يكفك، وما نتقلب فيه من إقباله يعوقك، ولو سلكنا إليه طرقاً من النيران، لعادت ببركته برداً وسلاماً لا نحذرها، وأمناً وعافية لا نتألمها. إمَامُ للأئِمَّةِ من قُرَيْشٍ ... إلى مَن يَتَّقونَ لَهُ شِقَاقَا إمام القوم: متقدمهم، والشقاق: الخلاف. فيقول: إن سيف الدولة بجلالة قدره، وارتفاع أمره، يتخذه الخلفاء من قريش، وهم أئمة الناس، إماماً في حروبهم، يقدمونه إلى من يحذرون نفاقه، ويتوقعون خلافه، فيذل لهم عزه، ويسهل عليهم صعبه. يَكُونُ لَهُمْ إذا غَضِبُوا حُساماً ... ولِلْهَيْجَاءِ حِينَ تَقُومُ سَاقَا ساق الشيء: ما قام عليه.

ثم قال: يكون لهم سيفاً يبطشون به عند غضبهم، وساقاً يعتمدون عليها في حربهم، فبموضعه يحتمي سلطانهم، وبمكانه يذل لهم أعداؤهم. فلا تَسْتَنْكِرَنَّ لَهُ ابْتِساماً ... إذَا نَهقَ المَكَرُ دَمَاً وَضَاقَا المكر: مجال الحرب، وفهقه: اتساعه وجري الدم فيه فيقول لمخاطبه: فلا تنكرن استبشار سيف الدولة بالحرب، واستسهاله لها، وابتسامه عند تضايق مجالها، وانسفاك الدم في مكرها، فهو متيقن لغلبة من نازعه، والظهور على من ناصبه. فَقَدْ ضَمِنَتْ لَهُ المُهَجَ العَوَالي ... وَحَمَّل هَمَّهُ الخَيْلَ العِتَاقَا يقول فقد ضمنت له رماحه مهج أعدائه، وتكفل له بما يبغيه منهم، عتاق خيله، وأبطال جيشه. إذَا أنْعِلْنَ في آثَارِ قَوْمٍ ... وإنْ بَعِدَوا جَعَلْنَهُمُ طِرَاقَا إنعال الخيل: تصفيح أيديها بالحديد، والطراق: تضعيف جلد النعل. ثم قال: إذا أنعلت خيله في آثار قوم، وحاول غزوهم، وقصد أرضهم، وإن بعدوا بجهدهم وتحرزوا بطاقتهم، أسرعت تلك الخيل في

قتلهم، واستباحة حريمهم، وغادرت أجسادهم بعد القتل كالطراق، يدوسها الحافر، ويطأها القدم. وإن نَقَعَ الصَّريخُ إلى مَكانٍ ... نَصَبْنَ لَهُ مُؤَللةَ دِقَاقا النقع: ارتفاع الصوت، والصريخ: المستغيث، والمؤللة: المحددة، والدقاق: الرقاق. فيقول: (وإن نقع الصريخ) أي: ارتفع الصوت باستغاثة إلى مكان قد طرقه عدو، أصاخت خيله إلى ذلك الصوت أصاخت استشعار للحذر، وتسرع إلى الجري. والخيل تحدد آذانها عند مثل هذه الحال. فأشار بهذا الوصف إلى تبادر هذه الخيل نحو الصريخ، ودل بانتصاب آذانها على حذرها، وبدقتها على كرمها. فَكَانَ الطَّعْنُ بَيْنَهُما جَوَاباً ... وَكَانَ اللَّبْثُ بَيْنَهُما فُوَاقَا الفواق: ما بين الحلبتين ثم قال: فكان الطعن بينهما جواباً، يريد: بين هذه الخيل وبين العدو الطارق، يعني أن جواب ذلك الصريخ، كان بطعن هذه الخيل في نحور

الطارقين، وكان اللبث بينهما فواقاً، يريد: أنها لم تلبث العدو إلا فواق ناقة، واستبان ظفرها، ففر الأعداء عنها ناكصين، وولوا منهزمين. مُلاقَيةُ نَواصِيها المَنايَا ... مُعَاوِدَةُ فَوارِسَها العِنَاقَا ثم قال: إن خيل سيف الدولة تلقى نواصيها المنايا مقدمة عليها، وتواجهها متسرعة إليها، وتعتاد فوارسها عناق الأقران في الحرب، وتلك غاية الصبر، وأبعد أوصاف البأس؛ لأن الحرب أولها المراماة، ثم المطاعنة، ثم المجالدة ثم المعانقة. تَبِيْتُ رِمَاحُهُ فَوْقَ الهَوادِي ... وَقَدْ ضَرَبَ العَجَاجُ لَها رِوَاقَا هوادي الخيل: أعناقها. فيقول: تبيت رماح سيف الدولة معرضة على أعناق خيله في سراه إلى عدوه، والعرب تعرض الرماح على أعناق الخيل في السير، وتسددها في الحرب، فيقول: إنه يبيت وهذه حال خيله، وما تثيره من الغبار

والعجاج كالرواق عليها. يشير إلى أنه يسري إلى أعاديه، ويدرع الليل نحوهم. تَميلُ كَأنَّ في الأبْطَالِ خَمْراً ... عُلِلْنَ بِهِ اصْطَباحاً واغْتَبَاقا الخمر والخمار بمعنى، يراد بها بقية السكر، والعل: إعادة الشرب. ثم قال: تميل فرسان تلك الخيل، كأن بها خماراً من مداومة السهر، وغلبة النوم، كأن ذلك الخمار يتكرر لهم اغتباقاً بعد اصطباح، يشير بهذا إلى ملازمة هذه الخيل للغارات. تَعَجَّبَتِ المُدَامُ وَقَدْ حَسَاها ... فَلَمْ يَسْكَرْ وَجَادَ فَما أفَاقَا ثم قال: تعجبت المدام وقد شربها، فعجزت عن إحالة ذهنه، وقصرت عن مغالبة عقله، واستولى عليه جوده، فلم يفق من طربه له، ولا صحا من ارتياحه به. أَقَامَ الشّعْرُ يَنْتَظِرُ العَطَايا ... فَلَمَّا فَاقَتِ الأمْطَارَ فَاقَا يقول: أقام الشعر ينتظر زمان الكرم، وأوان العطاء، فلما ظهر منه بسيف الدولة ما فاق الأمطار بكثرته ظهر شعر أبي الطيب، ففاق الشعر ببراعته. وَزَنَّا قِيمَةَ الدَّهماءِ مِنْهُ ... وَوَفَّيْنَا القِيَانَ بِهِ الصَّدَاقَا

ثم قال: بعثنا منه إلى سيف الدولة ما كافأ قيمة الدهماء، وهي الفرس التي أهداها إليه. ووفى بصداق القينة التي بعث بها مع الفرس، فأشار إلى أنه قارض بشعره جوده، وكافأ بمدحه هبته. وَحَاشَى لارتِيَاحِكَ أنْ يُبَارى ... وَلِلْكَرَمِ الذَّي لك أن يُباقى حاشى: بمعنى التعويذ والتنزيه، والارتياح: الطرب لفعل الجميل، والمباقاة: المداومة. فيقول، معتذراً مما قدمه في قوله هذا؛ إنه كافأ جود سيف الدولة بشعره: وأعيذ ارتياحك من أن يجازى، ويماثل، ويساوي ويشاكل، وأعيد كرمك من أن يباقيه شاكر بشكره، أو يستوفيه شاعر بشعره. ولَكِنَّا نُداعِبُ مِنْكَ قَرْماً ... تَرَاجَعَتِ القُرومُ له حِقَاقَا القرم: الصعب من الإبل، والحقاق: جمع حقة، وهي التي استحقت أن يحمل عليها من النوق. يقول: ولكنا فيما قدمناه من ذلك مفاكهون لك، مداعبون منك، لملك قرم، عادت له قروم الملوك وصعابها كالحقاق، تخضع لأمره، وتسلم لحكمه. وجرى في القروم والحقاق على سبيل الاستعارة: فَتىً لا تَسْلُبْ القَتْلَى يَدَاهُ ... وَيَسْلُبُ عَفْوُهُ الأسْرَى الوَثَاقَا

يقول: إن سيف الدولة يقتل الأقران، ولا يسلبهم، ويطلق الأسرى ولا يوثقهم، إيثاراً للإبقاء عند الغلبة، واحتمالاً على العفو عند المقدرة. وَلَمْ تَأتِ الجَميلَ إليَّ سَهْواً ... ولم أظْفَرْ بِهِ مِنْكَ اسْتِرَاقا ثم قال: ولم تأت ما أوليتنيه من الجميل ساهياً في فعلك، ولا مضيعاً في فضلك، ولا ظفرت به منك ظفر المسترق، ولا قبلته قبول المختلس، ولكني كنت أهلاً لما أسديته، وكنت مصيباً فيما أوليته. فَأبْلِغْ حَاسِديَّ عَلَيْكَ أني ... كَبَا بَرْقُ يُحَاوِلُ بي لِحَاقَا كبا الجاري: إذا سقط لوجهه. فيقول: فأبلغ من يحسدني عليك، أني الذي لا يدرك، والمتقدم الذي لا يلحق، وأن البرق لو سابقني لكبا وقصر، وعجز وتأخر. وَهَلْ تُغْنى الرَّسائِل في عَدَّو ... إِذا ما لم يَكُنَّ طُبَاً رِقَاقا ثم قال: والرسائل في العدو غير مغنية، والأقوال فيه غير مجزية، إذا لم تكن الرسائل سيوفاً ماضية، والزواجر أفعالاً واقعة.

إذَا ما النَّاسُ جَرَّبَهُمْ لِبِيبٌ ... فإنَي قَدْ أَكَلْتُهُمُ وَذَاقَا يقول: إذا ما الناس جربهم لبيب، عالم بأمورهم، خبير بأحوالهم، فموقع ذلك مني على ثبات معرفته، موقع الذائق من الآكل، والمتطرف من المستوعب، لإحاطتي بمعرفتهم، وتمكني في اخيبارهم. فَلَمْ أرَ ودَّهُمْ إلاّ خِداعاً ... ولم أرَ دِيْنَهُمْ إلا نِفَاقاً قال، فلم أر ما يتجاوزن به من الود إلا خداعاً ومكادبة، وما يبدونه من التدين إلا نفاقاً وكمظاهرة. يُقَصِّر عَنْ يَمينكَ كُلُّ بَحْرٍ ... وَعمَّا لم تُلِقْهُ ما ألاقَا لاق الشيء بالشيء: إذا لصق به وأمسك فيه. فيقول: يقصر كل بحر عن يمينك، لعظم جودك، واتساع كرمك، ويقل ما يمسكه البحر ويجمعه عند ما تهبه وتبذله. وَلَوْلا قُدْرَةُ الخَلاَّقِ قُلْنَا ... أعَمْداً كانَ خَلْقُكَ أمْ وِفَاقا ثم قال: ولولا اتساع قدرة الله عز وجل، لقلنا لما اجتمع فيك من

ضروب الخير، وتكامل لك من صنوف الفصل، أتيسر هذا أم قصد، واتفق أم اعتمد، ولكنا لا نقول ذلك لاتساع القدرة عليه. فَلا حَطَّتْ لكَ الهَيْجاءُ سَرْجَاً ... ولا ذَاقَتْ لَكَ الدُّنيا فِرَاقا ثم دعا له، فقال: حطت الهيجاء سرجك، بفقدها لك، ولا زلت مالكاً لتدبيرها، ولا ذاقت الدنيا فراقك، وبقيت مصرفاً لأمورها.

وقال يمدحه، ويرثي أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان، أنشدها إياه في جمادى الأولى من سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة. مَا سَدِكَتْ عِلَّةُ بِمَوْرُودِ ... أكْرَمَ مِنْ تَغْلِبَ بنِ دَاودِ السدك: المولع بالشيء. فيقول: ما ولعت علة بمورود نالته، وعليل داومته، أكرم من هذا الهالك تغلب بن داود. يَأنَفُ من مِيْتَةِ الفِرَاشِ وَقَدْ ... حَلَّ بٍِهِ أصْدَقُ المَوَاعيدِ ثم قال: يأنف من أن يموت على فراشه، وأن يهلك حتف أنفه، وقد حل به من الموت وما لا يدفعه بأنفته، ولا يرده بشجاعته؛ لأنه أصدق موعود، وختم غير مردود. وَمِثْلُهُ أنْكَرَ المَماتَ عَلَى ... غَيْر سُرُوجِ السَّوَابحِ القُودِ السوابح في الخيل: التي تمد أيديها في الجري، والقود: الطوال الأعناق، واحدها أقود.

فيقول: ومثل أبي وائل من الممارسين للحرب، والمتحققين بها، والمقدمين على شدائدها، أنكر الموت على غير سروج الخيل السوابح في طردها، الدالة على الكرم بقودها وحسن خلقها. بَعْدَ عِثَارِ القَنَا بِلَبَّتِهِ ... وضَرْبِهِ أرؤُّسَ الصَّنَادِيدِ الصناديد: الملوك. ثم قال، مؤكداً لما قدمه: بعد استهدافه للرماح، وتعثرها بلبته، واعتصامه منها بحصانة سلاحه، وضربه رؤوس الملوك في وقائعه، وإقدامه عليهم في ملاحمه. وَخَوْضِهِ غَمْرَ كُلِّ مَهْلَكَةٍ ... للذِّمْرِ فيها فُؤَادُ رِعْدِيدِ الغمر: مجتمع الماء، فاستعار ذلك من الحرب، والذمر: الشجاع، والرعديد: الجبان. ثم قال: وبعد خوضه من الحرب أشد مواضعها، واقتحامه على مجتمع مهالكها، حيث يكون قلب الشجاع الجريء، كقلب الجبان الضعيف، أصابه الموت وادعاً في حاله، واخترمه آمناً بين أهله.

فَإنَّ صَبَرْنَا فإنَّنَا صُبُرُ ... وإن بَكَيْنَا فغيْرُ مَرْدُودِ يقول: فإن صبرنا على هذا المصاب، فنحن متقدمون في الصبر، مستقلون بمؤلم الرزء، وإن بكينا، فغير مردود من نبكيه، ولا مرجو من نحزن عليه. وَإنْ جَزِعْنَا لَهُ فَلاَ عَجَبُ ... ذَا الجَزْرُ في البَحْرِ غَيْرُ مَعْهُودِ ثم قال: وإن جزعنا على هذا المفقود، فلا عجب في ذلك، ففقده جليل أمره، والمصاب به لم يعهد مثله. وضرب بالجزر الذي ينتقص البحر مثلا في هذا الرزء، وكنى به عن عظيم هذا الخطب. أيْنَ الهِباتُ التي يُفَرِّقُها ... عَلَى الرَّزَافاتِ والمَوَاحيدِ الزرافات: الجماعات، والمواحيد: الأفراد واحدها موحد. فيقول: أين كرم المفقود، وهباته التي كانت تعم وتخص، وتنال الجماعات فتعمهم. والآحاد فتغمرهم.؟

سَالِمُ أهلِ الوِدَادِ بَعْدَهُمْ ... يَسْلَمُ للحُزْنِ لا لِتَخْلِيدِ ثم قال: سالم أهل الوداد بعد من يفقدونه منهم، إنما يسلم للحزن والهم والتنغيص والألم، ثم الموت مآلهم، والخلود ممنوع منهم. فَمَا تُرَجِّي النُّفُوسُ مِنْ زَمَنٍ ... أحْمَدُ حَالَيْهِ غَيْرُ مَحْمُودِ ثم قال: فماذا ترجيه النفوس من دهر غشوم، متعسف ظلوم، أحمد حاليه للمتمتع بالحياة فيه مذموم منكد، مكروه منغص، بعد حتف يرصده، وحميم يفقده. إنَّ نُيُوبَ الزَّمَانِ تَعْرِفُني ... أنَا الَّذي طَالَ عَجْمُها عُودي نيوب الزمان: خطوبه، واحدها نائب، والعجم: العض والمضغ. فيقول: إن نيوب الزمان تعرفه بتكررها عليه، وتعرضها كثيراً له، وإنها طال ما عجمت عوده، وقصدت بمكارهها نحوه.

وَفيَّ ما قًَارَعَ الخُطُوبَ ومَا ... أنَّسَني بالمصائِبِ المسُّودِ ثم قال: وفي من الصبر والجلد، والحفاظ والكرم، ما مثله قارع الخطوب فغلبها، وأنسى بسود المصائب وهونها، وهونها، وحذف مما ذكرناه ما في قوة الكلام أن يدل عليه. مَا كُنْتَ عَنْهُ إذا اسْتَغَاثَكَ يا ... سَيفَ بَنِي هَاشِمٍ بِمَغْمُودِ وكان أبو وائل، هذا المرثي، قد أسره الخارجي بالشام، واستغاث سيف الدولة، فأسرى إلى الخارجي فقتله، واستنفذ أبا وائل، على ما تقدم في القصيدة التي أولها (إلام طماعية العاذل)، فيقول: ما كنت عنه إذ استغاثك من أسر الخارجي، يا سيف خلفاء بني هاشم، بمغمود عن نصره ولا يغافل عن أمره، بل أصرخت دعوته، وكشفت كربته. يا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ يا أمْلَكَ ال ... أَمْلاَك طُرَّاً يا أَصْيَدَ الصَّيدِ الأصيد: الملك المعظم الذي لا يكاد يلتفت لعزته. ثم قال مرفعاً بسيف الدولة؛ يا أكرم من نذكر من الأكرمين،

وأملك الملوك المعظمين، وأصيد الصيد منهم، وأعز ذوي العزة فيهم. قَدْ مَاتَ مِنْ قَبْلِها فَأنْشَرَهُ ... وَقْعُ قَنَا الخَطِّ في اللَّغَاديدِ اللغاديد: واحدها لغدود، وهو ما بين أسفل اللحي من آخره، وموصل العنق في الرأس. فيقول: قد مات أبو وائل قبل هذه الميتة بالأسر، فأحياه غياثك له، وأنشره إسراعك إليه، وطعن فرسانك برماحهم في مقاتل الآسرين له. وكنى باللغاديد عن ذلك. وَرَمْيُكَ اللَّيْل بالجُنُودِ وَقَدْ ... رَمَيْتَ أجْفَانَهُمْ بتَسْهيدِ ثم قال: وإنك رميت الليل سارياً إليهم بجنودك، وقد أسكنت السهاد جفونهم، مسرعاً بهم غير متوقف، ومقدماً غير متخوف، فلو دوفع الموت لدافعته عنه على عادتك، ولو غولب لاستنقذته منه على سجينك. وهذه العبارة وإن لم تكن في لفظة، فقد دل عليها بإشارته. فَصَبَّحَتْهُ رعَالُها شُزُباً ... بَيْنَ ثُبَاتٍ إلى عَبَاديدِ الرعال: قطع الخيل، والشزب: الضامرة، والثبات: الجماعات المتآلفة، واحدتها ثبة، والعباديد: الجماعة المتفرقة.

فيقول واصفاً لاستنقاذ سيف الدولة لأبي وائل، وإيقاعه بالخارجي وأصحابه: فصبحتهم رعال الخيل ضامرة، لطول الركض، منها كتائب ثبات مجتمعة، وعباديد مفترقة. تَحْمِلُ أغْمَادَها الفِداَء لَهُم ... فانْتَقَدوا الضَّرْبَ كالأخَادِيدِ الأخاديد: حفر في الأرض. ثم قال: تحمل إليهم عن الفداء الذي طلبوه من أبي وائل، سيوفاً مصلتة، ومنايا حاضرة، فانتقد أصحاب الخارجي عما طلبوه من الفداء، ضرباً أبقى في أجسادهم جراحاً كالأخاديد. يشير إلى شدته وثباته وقوته. مَوْقِعُهُ في فَرَاشِ هَامِهمُ ... وَريحُهُ في مَنَاخِرِ السِّيدِ الفراش: طرائق في باطن عظم الرأس، والسيد: الذئب، وأشار به إلى النوع. ثم قال: موقع ذلك الضرب في فراش رؤوسهم، وريحه في أنوف الذئاب التي تقصدهم. يشير إلى أن هذا الضرب لم يقصر بهم عن القتل،

وأن هذه الوقعة غادرتهم جزر السباع، تنهش أجسادهم، وتتقوت لحومهم. أفْنى الحَياةَ التَّي وَهَبْتَ لَهُ ... في شَرَفٍ شَاكِراً وَتَسْويدِ يقول: أفنى أبو وائل حياته، التي كانت هبتك له، في شرف بك وتسويد منك، شاكراً لك على نعمتك، قائلاً بفضل منتك. سَقيمَ جِسْمٍ، صَحيحَ مَكْرُمَةٍ ... مَنْجُودَ كَرْبٍ غيَاثَ مَنْجُودِ المنجود: المغاث، يقال نجدت الرجل وأنجدته: إذا أغثته، والمنجود: المكروب. سقيم الجسم بما شكاه من علته، صحيح الكرم بما استبان من سيادته، منجوداً بك عند كربه، غياث منجود يستغيث به. ثُمَّ عَدَا قِدَّهُ الحِمَامُ وما ... تَخْلُصُ مِنْهُ يَمينُ مَصْفُودِ القد: ستر من جلد غير مدبوغ يصفد به الأسير، والتصفيد: ربط اليد إلى العنق.

ثم إذا الموت له كالقد الذي يملك الأسير، فلم يمكنك فكه بقدرتك، ولا تأتي لك غياثه مع عظيم مملكتك، والموت قد لا يتخلص المصفود به، وأسر لا يتمكن غياث المعرض له. وجرى في هذا الكلام على الاستعارة، وذلك على ما قدمناه من بديع الكلام. لا يَنْقُصُ الهَالِكُونَ مِنْ عَدَدٍ ... مِنْهُ عَليُّ مُضَيَّقُ البِيْدِ يقول: لا ينقص الهالكون وإن جل أمرهم، وعز فقدهم، من عدد قوم، علي سيف الدولة منهم، وهو الملك الذي تضيق اليد بجمعه، وتغص بجيشه، وكان أبو وائل ابن عمه، فيريد: أن موته لا يوجب نقصاً في عشيرته، وسيف الدولة رئيس جمعهم، ومؤثل مجدهم. تَهُبُّ في ظَهْرِهَا كَتَائبهُ ... هُبُوبَ أرْوَاحِها المَرَاويدِ الرياح المراويد: التي تطلب غاياتها، واحدها مرواد. والريادة: الطلب. ثم قال: تهب كتائبه في ظهور تلك البيد، ممتثلة لأوامره، فتشبه الرياح بسرعتها، وتغالبها بكثرتها.

أَوَلَ حَرْفٍ مِنِ اسمِهِ كَتَبَتْ ... سَنابكُ الخَيْلِ في الجَلاَمِيدِ السنابك: جمع سنبك، وهو مقدم حافر الفرس. ثم قال: أول حروف اسمه، صورته صورة ما تثبته سنابك الخيل في ظهور الجلاميد. يشير إلى أول حروف علي، وهو العين، فيقول: إنه كان فألا يؤذن بانقياد الخيل لأمره، وتصرفها على حكمه. مَهْمَا يُعَزَّ الفَتَى الأَميرُ به ... فلا بإقْدَامِهِ ولا الجُودِ الفتى: الشاب المقتبل. فيقول: مهما فقده الفتى الأمير فعزي به، يشير إلى رئاسته واقتبال شبيبته، فلن يفقد إقدامه وكرمه، وفيهما الخلف الكريم ممن يفقده، والعوض الجميل ممن يعز به.

وَمِنْ مُنانا بَقَاؤُه أَبداً ... حتى يُعَزَّى بِكُلَّ مَوْلُودِ ثم قال: ونحن نتمنى له بقاء الخلود، حتى يعزي في كل كريم يولد، ويغنى عن كل فاضل يفقد.

وركب سيف الدولة لتشييع عبده يماك، لما نفذ في مقدمته إلى الرقة، وهاجت ريح شديدة، فقال أبو الطيب. لا عَدِمَ اُلمشَيَّعُ ... لْيتَ الَّرَياحَ صُنَّعُ ما تَصنَعُ يقول: لا عدم سيف الدولة هذا العبد المحب، والوالي الناصح، ثم أقبل على سيف الدولة، فقال: ليت هذه الريح تحذو حذوك، وتفعل فعلك. بكرن ضراً وبكرت تنفع ... وسجسج أنت وهن زعزع وواحد أنت وهن أربع ... وأنت نبع والملوك خروع السجسج: الريح الطيبة ما بين الحر والبرد، والزعزع: الريح الشديدة المؤذية، والنبع: شجر صلب العود يصنع منه القسي، والخروع: شجر ضعيف العود. ثم قال: فقد بكرت بضرها، وبكرن بنفعك، وآذات بشدتها، وأحسنت برفقك، فقصرت عنك، وهي أربع، وأنت واحد، وهي كثيرة

وأنت مفرد، فمن شبه الريح بك في كرمك، فقد ظلمك، ومن أضافها إليك في فضلك، فقد جهلك، وكذلك أنت، إذا قرنت الملوك بك، كالنبع إذا قرن الخروع به، تضعف عند صلابة عودك، وتصغر عند جلالة أمرك.

وسايره وهو يريد الرقة، واشتد المطر في موضع يعرف بالثديين، فقال: لِعَيْنِي كُلَّ يومٍ مِنْكَ حَظٌ ... تَحَيَّرُ مِنْهُ في أمْرٍ عُجَابَ جِمَالَهُ ذا الحُسامِ على حُسَامٍ ... وَمَوْقِعُ ذا السَّحابِ على سَحَابِ وزاد المطر، فقال: تَجِفُّ الأَرضُ من هذا الرَّبابِ ... وَيُخْلِقُ ما كَسَاهَا من ثِيَابِ وما يَنْفَكُّ مِنْكَ الدَّهْرُ رَطْبَاً ... وَلاَ يَنْفكُّ غَيْثُكَ في انسِكَابِ وتُسَايرُكَ السَّوَاري والغَوادي ... مُسَايَرةِ الأَحِيَّاءِ الطَّرابِ وتُفِيدُ الجودَ مِنْكَ فَتَحْتَذِيه ... وَتَعْجِرُ عن خلائِقِكَ العِذَابِ الحمالة: علاقة السيف، والرباب، السحاب، والسواري من السحاب: التي تطرق بالليل، للغوادي التي تنشا بالصباح. فيقول: في كل يوم أردد عيني منك في منظر يعجب بحسنه، ويعجز اللسان عن وصفه، ولا يحط العقل بحقيقته؛ لأنك أجل السيوف، وتشرف السيف بحمله، وجودك أنفع من السحاب: ويعتادك السحاب بوجله، فحملك للسيف إِفضال عليه؛ لأنك غني عنه، واستصحابك للسحاب إزراء عليه، لأنك أعم نفعاً منه.

ثم قال الزيادة: إن سيف الدولة يعمر السحاب بجوده، ويعلمون بفضله؛ لأن السحاب يمطر ويقشع، ويسكب ويقلع، وما يظهر على الأرض من زهراته يذوي ويذبل، ويحل ويرحل، وجود سيف الدولة لا يقلع وبلة، ولا يفتر سكبه، وآثار إحسانه ظاهرة لا تعدم، وشواهده دائمة لا تنصرم، ثم قال: تسايرك السحاب على اختلاف أوقاتها، وتصرف أحوالها، مسايرة من يطرب لصحبتك، ويشاق إلى غرتك. ثم قال: فتشهد من جودك ما لا تعلمه، ويتبين لها من كرمك ما لا تبلغه، فتتلوك ممتثلة لك، وتحكيك مقتدية بك، وتعجز عن شرف خلائقك، ولا تبلغ عذاب شمائلك.

وأجمل سيف الدولة ذكره، فقال أبو الطيب: أنَا بالوُشاةِ إذا ذَكَرْتُكَ أشْبَهُ ... تَأتي النَّدَى وَيُذَاعُ عَنْكَ فَتَكْرَهُ وإذا رَأيْتُكَ دُونَ عِرْضٍ عَارِضاً ... أيْقَنْتُ أنَّ اللهَ يَبْغِي نَصْرَهُ يقول لسيف الدولة: أنا فيما أنشره من فضلك، وأقول به من كرمك، شبيه بالواشي بك؛ لأني أظهر ما تبغي ستره، وأنشر ما تأبى ذكره، وأنت لا تباهي بإنعامك، ولا تريد سمعة بإحسانك، وإنما كرمك طبيعة منك، وفضلك جبلة فيك، ثم قال: وإذا رأيتك معترضاً دون عرض تحفظ حرمته، وتحمي جهته، أيقنت أن الله يحميه ويحفظه ويقيه؛ لأنه ناصر من تنصره، حافظ من تحفظه.

وأجمل أيضاً ذكره، فقال: رُبَّ نَجِيْعٍ بِسَيْفِ الدَّوْلَةِ انْسَفَكا ... وَرُبَّ قَافيةٍ غَاضَتْ بِهِ مَلِكَا مَنْ يَعْرِفِ الشَّمْسَ لا يُنْكِرْ مَطَالِعِهِا ... أَوْ يُبْصِرِ الخَيْلَ لا يسْتَكْرِمِ الرَّمَكَا تَسُرُّ بالمالِ بَعْضَ المالِ تَمْلِكُهُ ... إنَّ البلادِ وإنَّ العِالَمينَ لَكَا النجيع: الدم، والرمك: جمع رمكة، وهي الفرس التي تتخذ للنتاج دون الركوب. فيقول: رب مخالف عصى سيف الدولة، فسفك دمه، ورب معاند له من الملوك سمع شعري فيه، فغاظه حسنه، ثم ضرب لسيف الدولة مثلاً في اختياره لقصده، ومعرفة سيف الدولة بقدره، فقال: من عرف الشمس لم ينكرها، لاختلاف مطالعها، ومن عرف سيف الدولة لم ينكره، لاختلاف مقاصده، وتباين مواضعه، ومن أبصر عتاق الخيل لم يستكرم هجان الرمك، وذلك شأن سيف الدولة في اصطناعه لأبي الطيب، وإعراضه عن حساده؛ لأن موقعه منهم هذا الموقع.

ثم قال: تسر بما تهينه من مالك من تهبه له من قصادك وخولهم، وهم في وقوعهم تحت ملكك، وتصرفهم تحت أمرك، على حسب نهبك وأمرك، كمالك الذي تنفرد بملكه، وتتحكم في أمره، فأنت تسر بمالك مالك، ويوقرك من لا يخرج عن ملكك، فالأرض في قبضتك، وعمروها أهل طاعتك.

وسايره وهو يريد آمد، وتوسط الأجبال، فقال له: يُؤَمِّمُ ذا السَّيْفُ آمالَهُ ... فَلاَ يَفْعَلُ السَّيْفُ أفْعَالَهُ إذَا سَارَ في مَهْمَةٍ عَمَّهُ ... وإنْ سَارَ في جَبَلٍ طَالَهُ وأنْتَ بِمَا نِلْتَنا مَالِكُ ... يُثَمِّرُ مِنْ مالهِ مالَهُ كأنَّكَ ما بَيْنَنَا ضَيْغَمُ ... يُرَشَّحُ للْفَرْسِ أشْبَالَهُ المهمة: القفر، والضيغم: الأسد والفرس: دق العنق، والأشبال: جمع شبل، وهو ولد الأسد، والترشيح: التهيئة. فيقول: يقصد هذا الملك، الذي يشبه السيف به، إلى ما يريده ويأمله، ويعتقده، فلا يفعل السيف في استعجال ذلك فعله، ولا يلحق في إدراكه كشأوه، فإن سار في مهمة بكثرة جيشه، وإن سار في جبل بعلو مجده. ثم قال، مخاطباً له: وأنت بما نلتنا به من فضلك، وتابعه لنا من بذلك، مالك يثمر ماله بماله، ويحوط ملكه بملكه؛ لأننا لك في وقوعنا

تحت أمرك، وما يحيط بنا من ملكك، كالمال الذي تحويه وتضبطه، وتحوزه وتملكه. ثم قال: كأنك فيما تسبقنا إليه من مقارعة الأبطال، وما تنفرد به دوننا من مغازلة الأقران، أسد ينهج لأشباله ما يفعله، ويضربها على ما تأتيه وتمثله.

ودخل على سيف الدولة بميافارقين في يوم شديد المطر والبرد، وهو على الشراب، فقال له سيف الدولة: عاب عليك يا أبا الطيب إنسان قولك: لَيْتَ أنَّا إذا ارتَحَلْتَ الخَيْلُ ... وأنَّا إذا نَزَلْتَ الخِيامُ وقال: إنه جعل الخيام فوقك، وأومأ إلى بعض من حضر، فقال أبو الطيب؛ وأراد قطع الكلام: لَقد نسَبُوا الخِيامَ إلى عَلاءِ ... أبَيْتُ قَبُولَهُ كُلَّ الإبَاءِ وما سَلَّمْتُ فَوقَكَ للثُّريا ... ولا سَلَّمْتُ فَوْقَكَ للسَّمَاءِ يقول: لقد نسبوا الخيام من الرفعة، وأوجبوا لها من علو الرتبة، ما أباه ولا أسلمه، وأنفه ولا أثبته، ثم قال: وما سلمت للثريا أن لا تفوقها بمجدك، ولا للسماء ألا تبلغها بشرفك وفضلك. وقد أوْحَشْتَ أرضَ الشَّامِ حَتَّى ... سَلَبْتَ رُبُوعَهَا ثَوْبَ البَهاءِ تَنَفَّسُ وَالعَوَاصِمُ مِنْكَ عَشْرُ ... فَيُعْرَفُ طِيْبُ ذَلِكَ في الهَوَاَء يقول: وقد أوحشت أرض الشام برحيلك عنها، وسلبت ربوعها ثوب البهاء بخروجك منها.

ثم قال: تتنفس وأنت بأرض الجزيرة، والعواصم منك على سير عشر ليال، فيعرف ذلك أهل الشام في هوائهم، ويتبينون الفوح في بلادهم، ويؤكد لهم أمثال ذلك استشرافهم إلى أوبتك، واشتياقهم إلى غرتك.

وذكر سيف الدولة لأبي العشائر جده وأباه، وجد أبي العشائر الحسين ابن حمدان، عم سيف الدولة، فقال أبو الطيب: أغْلَبُ الحَيِّزَيْنِ ما كُنْتَ فيه ... وَوَليُّ النَّماءِ مَن تَنْمِيِهِ ذا الذَّي أنتَ جَدُّهُ وأبوه ... دِنْيَةً دونَ جَدِّهِ وأبيهِ يقول لسيف الدولة: أغلب فروع نسبك على الشرف الحيز الذي أنت فيه، وولي الكثرة في المفاخر والحسب من تنميه، يريد بذلك: ما عرف به سيف الدولة أبا العشائر من شرف أبيه وجده. ثم قال لسيف الدولة: هذا أبو العشائر، أنت جده وأبوه، لأن شرف ك أنهض به من شرفهما، وسلطانك أظهر عليه من سلطانهما، فأنت بما أحاط به من فضلك، وتجدد له من الشرف بك، جده وأبوه دنية، دون جده وأبيه.

وسأله سيف الدولة إجازة بيت، وهو: وإني الممنوعُ المقَاتِلِ في الوغَى ... وإن كُنْتُ مَبْذُولَ المقاتِلِ في الحُبِّ فقال: فَدَيْنَاكَ أهْدَى النَّاسِ سَهْماً إلى قَلْبِ ... وأقْتَلُهُمْ للدَّارعينَ بلا حَرْبِ تَفَرَّدَ بالأحكَامِ في أهْلِهِ الهَوَى ... فأنْتَ جَميلُ الخُلْفِ مُسْتَحْسَنُ الكِذْبِ الكذب، والكذاب والكذب كل ذلك بمعنى واحد. فيقول: فديناك وإن كنت أثبت الناس إصابة للقلوب بسهامك دون رمي، وأقتلهم للدارعين بحبك دون حرب. ثم قال: وكذلك الهوى منفرد بالحكم في أهله، فمن هوي كان جميلاً خلقه، ومن عشق كان مستحسناً كذبه. وإني لَممْنُوعُ المقاتِلِ في الوغى ... وإن كُنْتُ مَبْذُولَ المقَاتِلِ في الحُبِّ ومَنْ خُلِقَتْ عَيْنَاكَ بَيْنَ جُفُونِهِ ... أصابَ الحَدُورَ السَّهلَ في المُرْتَقَى الصَّعْبِ يقول: وإني وأن استضعفت في الحب فأصيبت مقاتلي به، وقلت

مدافعتي فيه، لظاهرة في الحرب قوتي، وشديدة فيه منعتي، وبعيدة على الأقران إصابتي. ثم خاطب محبوبه، فقال: ومن خلقت بين جفونه عيناك، ورشق القلوب بسهامك، سهل عليه ما يصعب مثله، وقرب له ما يبعد تناوله.

وأذن المؤذن، فوضع سيف الدولة القدح من يده، فقال أبو الطيب: إلا أذِّنْ فَمَا أذْكَرْتَ نَاسي ... ولا لَيَّنْتَ قَلْبَاً وَهُوَ قَاسِي ولا شُغِلَ الأمِيرُ عَن المعَالي ... وَلا عَن حَقِّ خَلِقِهِ بِكَاسِ وركب سيف الدولة، وركب الجيش معه بالتجافيف والسلاح، فقال أبو الطيب يمدحه، ويصف الجيش: إذا كَانَ مَدْحُ فالنَّسيبُ المُقَدَّمُ ... أكُلُّ فَصِيحٍ قَالَ شِعْرَاً مُتَيَّمُ يقول: إن الشعراء مجمعون على تقديم النسيب في أشعارهم، والاستفتاح به في مدائحهم، وليس كل فصيح منهم عاشقاً، ولا كل شاعر

سلف لهم متيماً، ولكن أخرهم في ذلك يتلو أولهم، حتى كأن ما يتناصفونه من الحب قد جعلوه فاتحة الشعر. لَحُبُّ ابن عَبْد اللهِ أوْلَى فإنَّهُ ... بِهِ يُبْدَأُ الذِّكْرُ الجَمِيلُ وَيُخْتَمُ ثم قال: وإذا كان هذا، فلحب ابن عبد الله، يريد: سيف الدولة، أحق ما استفتح الشعر به، وأولى ما قدم الذكر له، فبسيف الدولة يبدأ الذكر الجميل ويختم، وبمجده يفتح ويتمم. أطَعْتُ الغَوَاني قَبْلَ مُطْمَحِ نَاظِري ... إلى مَنْظَرٍ يَصُغُرْنَ عَنْهُ وَيَعْظُمُ ثم قال: أطعت الغواني في التشبيب بهن، والإيثار لهن، قبل عند يطمح ناظري إلى ما شهدته من مملكه سيف الدولة، التي يقل حسنهن عند حسنها، ويصغر شأنهن عند شأنها. والطموح: الارتفاع. تَعرَّضَ سَيْفُ الدَّولَةِ الدَّهْرَ كُلَّهُ ... يُطَبِّقُ في أوْصَالِهِ ويُصَمِّمُ التطبيق: إبانة القطع، والتصميم: النفاذ في الأمر.

فيقول: تعرض سيف الدولة الدهر كله متحكماً فيه، مستولياً عليه، يطبق منه فيما يقطعه، ويصمم إليه فيما يقصده. يشير إلى أن أموره فيه جائزة، وأحكامه عليه نافذة، وذكر التطبيق والتصميم على سبيل الإبداع فيما استعارة له من ذلك. فَجَازَ له حَتَّى عَلَى الشّمْس حُكْمُهُ ... وَبَانَ له حَتَّى عَلَى البَدْرِ مَيْسَمُ الميسم: العلامة التي يضعها المالك على ما يملكه. ثم قال: فجاز حكمه حتى حكم على ما لا يجوز الحكم عليه، وبان وسمه حتى وسم ما لا يبين الوسم فيه، وجعل ذكر الشمس والبدر كناية عن هذه العبارة، والعرب تفعل ذلك، تصف الممدوح بالقدرة على ما لا يقدر أحد عليه في الحقيقة، ليوجب له بذلك غاية القوة، وأبعد نهايات القدرة. كَأنَّ العِدَى في أرْضِهم خُلَفَاؤُهُ ... فإنْ شَاَء حَازُوها وإن شَاَء سَلَّموا يقول: كأن أعاديه من الروم وغيرهم، خلفاؤه في بلادهم، وعماله في قواعدهم، فإن أعرض عنهم، استمتعوا بالبقاء فيها، وإن غزاهم

سلموها إليه بالخروج عنها. يشير إلى تصرف أعاديه تحت أمره، وعجزهم عن التعرض لحربه. ولا كُتْبَ إلاَّ المشْرَفِيَّةُ عِنْدَه ... ولا رُسْلُ إلا الخَميسُ العَرَمْرَمُ المشرفية: سيوف منسوبة إلى المشارف، وهي مواضع تطبع فيها السيوف، والخميس، والعرمرم: الكثير. ثم قال مؤكداً لما قدمه، من اقتداره عليهم: إنه لا كتب يستعملها إليهم غير سيوفه، ولا رسل يوجهها نحوهم غير جيوشه، فهم متصرفون على حكمه، عاجزون عن المخالفة لأمره. فَلَم يَخْلُ من نَصْرٍ لَهُ مَنْ لَهُ يَدُ ... ولم يَخْلُ من شُكْرٍ لَهُ مَنْ له فَمُ يقول مخبراً عن عظيم ملكه، وما ظهر من عموم فضله: فلم يخل من نصره أحد له يد يبطش بها؛ لوقوف جميع الناس عند أمره، ووقوعهم تحت طاعته وملكه، ولم يخل من شكره أحد له فم ينطق به، لما شملهم من إحسانه، وأحاط بهم من إنعامه. فبين أن طاعة الجميع له طاعة وداد ومحبة، لا طاعة استكراه وغلبة. ولم يَخْلُ من أسْمَائِهِ عُودُ مَنْبَرٍ ... ولم يَخْلُ دِينَارُ ولم يَخْل دِرْهَمُ

ثم قال: ولم يحل من أسمائه عود منبر؛ يريد أن بلاد الأرض مضافة إلى ولايته، مختطب على منابرها له بلزوم طاعته، ولم يحل دينار، ولم يخل درهم؛ يريد: أن دنانير الآفاق ودراهمها مطبوعة باسمه، مسككة بذكره. يشير إلى عظم شأنه، واتساع أعمال سلطانه. ضَرُوبُ وَمَا بَيْنَ الحُسامَيْن ضَيِّقُ ... بَصيرُ وَمَا بَيْنَ مُظْلِمُ يقول: إنه شديد الضرب، رابط الجأش، إذا ضاق ما بين الحسامين بتجالد الأبطال، وتقارب ما بين الأقران، وأنه بصير إذا أظلم ما بين الشجاعتين، بتمثل الموت لهما، وتيقن المنية عندهما، فهنالك يثبت نظره لقوة نفسه، ولا يشخص بصره لتمكن بأسه. تُباري نُجُومَ القَذْفِ في كُلِّ لَيلَةٍ ... نُجُومُ لَهُ مِنْهُنَّ وَرْدُ وأدْهَمُ نجوم القذف: الشهب التي ترمي بها الشياطين. ثم قال: تباري نجوم القذف مع سرعة انصبابها، وشدة انحدارها، خيول له كالنجوم في شدة عدوها، وسرعة جريها، منهن الورد والأدهم. يَطأْنَ من الأبْطَالِ مَنْ لا حَمَلْنَه ... وَمِنْ قِصَدِ المُرَّانِ مَا لاَ يُقَوَّمُ المران: الرماح، وقصدها: قطعها.

ثم قال: يطأن من الأبطال من لا حملنه؛ يريد: أن خيل سيف الدولة تطأ من الأبطال المقتولين في وقائعه من لا جعلها الله أن تحمل من يصير في حاله، ويؤول إلى مآله، وكذا تطأ في تلك الوقائع من قطع الرماح ما قد تدقق فلا يمكن تقويمه، وتكسر فلا يحاول تعديله. فَهُنَّ مَعَ السَّيدَان في البَرِّ عُسَّلُ ... وَهُنَّ مَعَ النِّيْنَان في الماء عُوَّمُ السيدان: الذئاب، واحدها سيد، والعسل: المسرعة، واحدها عاسل، والنينان: الحيتان، واحدها نون. فيقول: إن خيل سيف الدولة لكثرة غاراته، واتصال غزواته، تقطع الفلوات نحو أعاديه عسلاً مع الذئاب التي الفلوات مستقرها، وتعبر الأنهار نحوهم عائمة مع الحيتان التي الأنهار مواضعها. وَهُنَّ مَعَ الغِزْلاَنِ في الوادِ كُمَّنُ ... وَهُنَّ مَعَ العِقْبَانِ في النَّيقِ حُوَّمُ النيق: ما استعلى من حروب الجبل، والوشيج: الرماح.

وكذلك تكمن عليهم مع الغزلان في الأودية التي فيها كنسها، وتقتحم عليهم رؤوس الجبال مع العقبان التي فيها وكورها، فأشار إلى أن سيف الدولة للقوة عزائمه، ونفاذه في مقاصده، قد استوى عند خيله، وفرسان جيشه؛ البر والبحر، والسهل والوعر، لا يبعد عليه مطلب، ولا يمتنع منه موضع. إذَا جَلَبَ النَّاسُ الوَشِيجَ فإنَّه ... بِهِنَّ وفي لَبَّاتِهنَّ يُحَطَّمُ ثم قال: إذا جلب الناس الرماح على سبيل الجمع لها، وحملوها على طريق التزين بها، فإن سيف الدولة في نحور الخيل يكسرها، وبوقائعه يفنيها يحطمها. بِغُرَّتِهِ في الحرْبِ وَالسِّلمِ والحِجَى ... وَبَذْلِ اللُّهَى والحَمْدِ والمَجْدِ مُعْلِمُ المعلم: الذي يسم نفسه بعلامة يعرف بها، واللهى: العطايا، واحدتها لهوة. فيقول: إن سيف الدولة معلم بجمال وجهه، ووفور عقله، وعموم جوده، وجلاله مجده، وإجماع الناس على حمده، وإن هذه الخلال

تسمه في سلمه وحربه، وينفرد بها من بين أبناء دهره. يُقِرَّ لَهُ بالفَضْلِ مَنْ لا يَوَدُّهُ ... وَيَقضي لَهُ بالسَّعْدِ مَنْ لا يُنَجِّمُ ثم قال: إن من لا يوده يقر بفضله، ولا يدفعه لبيانه، ومن لا ينجم يقضي بسعده، ولا ينكره لاتصاله. أجارَ عَلَى الأيَّامِ حتَّى ظَنَنْتُهُ ... تُطالبُه بالرَّدِّ عادَ وَجَرْهُمُ ثم قال: إن سيف الدولة أجار على الأيام بكفه للحوادثها، وأنصف منها بإنقاذه من مكارهها، حتى حسبت عاداً وجرهماً، هاتين القبلتين الفانيتين، والجماعتين الهالكتين، سيسئلانه ردهما، على بعد العهد، وما انصرم عليهما من تقادم الدهر، وأن سعادته إذا قربت ما كان يبعد، وسهلت ما كان يعسر، فما تمكن له من ذلك يوجب عليه أن يطلب بما لا يمكن فعله، ويسأل ما يمتنع مثله. ضَلالاً لهذي الرِّيحِ ماذا تُريده ... وهَدْياً لهذا السَّيلِ ماذا يُؤَمِّمُ

ثم دعا على الريح، ولم يدع لها، ودعا للسيل، ولم يدع عليه؛ لأن الريح اعترضت سيف الدولة في مسيره، ولم تسعده على شيء من أموره، والسحاب وإن كان رام ثنيه بوبله، ووعر طريقه بسيله، فإنما تلاه متعلماً من جوده، وصحبه مسعداً له على رأيه، قاضياً لذمام القبر الذي قصده، ومروضاً بسقياه للربع الذي اعتمده. فيقول: ضل سعي هذه الريح، ووفق لهداه هذا السيل، ماذا تريده هذه، وماذا يقصده هذا، حين يعترضان سيف الدولة في مسيره، ويجاهران بالخلاف على أمره. ألم يَسْألِ الوَبْلُ الذي رَامَ تَيْنَنَا ... فَيُخْبِرَهُ عَنْكَ الحَديدُ المُثَلِّمُ ثم قال: ألم يسأل الوبل الذي رام ثنينا بسكنه، واعترضنا في طريقنا بسيله، كاشفاً عن أمره سيف الدولة، ومستفهماً عن حاله، فيخبره الحديد الذي ثلمته وقائعه، وكسرته بالجلاد كتائبه، ويعلمه بأنه الذي لا يرد عزائمه، ولا تواجه بالاعتراض مطالبه. وَلَّمَا تَلَقَّاكَ السَّحَابُ بِصَوْبِهِ ... تَلَقَّاهُ أعْلى منه كَعْباً وَأكْرَمُ فَبَاشَرَ وَجْهاً طَالَ ما بَاشَر القَنَا ... وَبَلَّ ثِيَاباً طَالَ ما بَلَّها الدَّمُ

يقول: ولما تلقاك السحاب بصوبه، واعترضك في طريقك بسكبه، تلقاه منك من يعلوه برفعته، ويزري عليه بكرم راحته، فباشر وجهاً طال ما باشر الرماح، فلم تثنه مباشرتها، وبل ثياباً طال ما بلها الدم، ولم يعقه بللها، فكيف يهاب وقع المطر من لا يهاب وقع الرماح، ويتألم بلل الماء من لا يتألم بلل الدم؟ تَلاَكَ وَبَعْضُ الغَيْثِ يَتْبَعُ بَعْضَهُ ... مِنَ الشَّامِ يَتْلو الحَاذِقَ المُتَعَلِّمُ يقول: تلاك الغيث والبعض يتبع كله، والشكل يألف شكله، وأنت الغيث بعموم جودك، وسابغ فضلك، فقفا أثرك من الشام، يتلوك كما يتلو المتعلم الحاذق، ويقفوك كما يقفو المتأخر الأول. فَزَارَ التي زَارَتْ بِكَ الخَيلُ قَبْرَها ... وَجَشَّمَهُ الشَّوقُ الذي تجَشَّمُ التجشم: التكلف. ثم قال: فزار الغيث المتوفاة التي زارت الخيل بك قبرها؛ يريد: أم

سيف الدولة، وجشمه شوقه إلى ذلك كالذي جشمك شوقك، وأسعدك الغيث قاضياً لحقك، وتبعك معظماً لقدرك، وعلم أن المتوفاة تلزم السحاب زيارتها، وتحق عليه كرامتها؛ لأنها كانت بجودها، وتزيد على صوبه بكرمها. وَلَّما عَرَضْتَ الجَيْشَ كانَ بَهَاؤُهُ ... عَلَى الفَارسِ المُرْخِي الذُّؤَابَةِ مِنْهُمُ الذؤابة: الضفيرة من شعر الرأس، ويسمى بذلك ما سدل من فضل العمامة، وإلى هذا قصد أبو الطيب. فيقول لسيف الدولة: ولما عرضت الجيش وتصفحته، كان بهاؤه على عظم شأنه، وتكاثر شجعانه، على الفارس المعتم بين جماعة المتجففين، المرخي ذؤابة عمامته من بين سائر المغتفرين. وهذا زي أمراء العرب في الحرب، وأشار بذلك إلى سيف الدولة. حَوَالَيْهِ بَحْرُ للتَّجافيفِ مائجُ ... يَسيرُ به طَوْدُ من الخَيْلِ أيْهَمُ التجافيف: جمع تجفاف، وهو ضرب من السلاح تلبسه الرجال والخيل، والطود: الجبل، والأيهم: الطويل.

ثم قال: حواليه من تلألؤ السلاح، ولمعان التجافيف، ما بشبه البحر بكثرته، ويحكيه ببريق جملته، ويسير بذلك البحر موكب من الخيل كالجبل الأيهم في اعتلائه وازدحامه، واكتنازه واتصاله. تَسَاوَتْ بهِ الأقتارُ حَتَّى كَأَنَّهُ ... يُجَمَع أَشْتَاتَ الجبِالِ القتر: الغبار. فيقول: تساوت بهذا الجيش العجابات، فصار ما يثور منها في الجبل الصلد، كالذي يثور منها في القرار الرخو، يشير إلى أن هذا الجيش يسحق الجبال بكثرته، ويحطمها بعظمه، فيستوي الرهج في السهل والوعر، وفي الصلب والرخو، ويشتمل العجاج على الجميع، حتى تصير الجبال كأنها في ذلك العجاج منتظمة، وبما غشيها من الجيش متصلة، وألم بقول النابغة. جَيْشٌ يَظَلُّ به الفَضَاءُ مُعَضَلاً ... يَدَعُ الآكامَ كأنَّهُنَّ صَحَارى وَكُلُّ فَتًى للحَرْبِ فَوْقَ جَبِيْنهِ ... من الضَّربِ سَطْرُ بالأسِنَّةِ مُعْجَمُ

العجم: الشكل والنفط. ثم قال: وكل فتى؛ يريد: كل فتى، قد جرحته الحرب، ووسمه الطعن والضرب، ففي جبينه للسيوف آثار مستطيلة تشبه السطر، وللأسنة فيه نكت مجتمعة تشبه العجم، وأشار باعتماد الجراح لوجوههم، إلى شجاعتهم وبأسهم، وإقدامهم وصبرهم. يَمُدُّ يَدَيِهِ في المُفاضَةِ ضَيْغَمُ ... وَعَيْنَيْهِ مِنْ تَحْتِ التَّريكَةِ أرْقَمُ المفاضة: الدرع، والضيغم: الأسد، والتريكة: البيضة، والأرقم: الحية. فيقول: إن هؤلاء الفتيان الذين ذكرهم، كلهم أسد في شدته، أرقم أفعوان في بسالته، يمد في درعه يدي أسد؛ قوة وشدة، ويمد من تحت تريكته عيني أرقم؛ إقداماً وشجاعة. كأجْنَاسِها رَاياتُها وشِعَارُها ... وَمَا لَبِسَتْهُ والسَّلاحُ المُسَمَّمُ الشعار: علامة ينادى بها في الحرب، والمسمم المحسن المزين.

ثم أشار إلى الخيل التي قدم ذكرها، فقال: كأجناسها في الفضل والكرم أجناس راياتها المؤيدة، وشعارها المنصور، وما لبسته من سلاحها الشاك، وحملته من حديدها الصقيل المحسن. وأدَّبَهَا طُولُ القِتَال فَطَرْفُهُ ... يُشيرُ إليها من بَعِيدٍ فَتَفْهَمُ يقول: وأدب هذه الخيل طول ممارسة القتال، والتقلب في شدائد الحروب، ففارسها يشير إليها على بعد بما يقصده فتفهمه، ويومئ إليها بما يريده فتفعله. تُجاوِبُهُ فِعْلاً وَمَا تَسْمَعُ الوَحَى ... ويُسْمِعُهَا لَحْظَاً وَمَا يتكَلَّمُ الوحى: الاستعجال. ثم قال: يسمعها فارسها بلحظه دون أن يتكلم، وتجاوبه بفعلها دون أن تستعجل. تَجَانَفُ عن ذَاتِ اليَمينِ كَأنَّها ... تَرِقُّ لِمَيَّافارقيْنَ وَتَرْحَمُ

التجانف: الميل والعدول وميافارقين: مدينة من العواصم، كان عسكر سيف الدولة بقربها، فيقول: إن هذه الخيل تتجانف عن ذات اليمن، وهناك كانت هذه المدينة المذكورة، فكأنها تعدل عنها مشفقة، وتجانبها في سيرها مترحمة. وَلٍوْ زَحَمَتْهَا بالَمنَاكِبِ زَحْمَةً ... دَرَت أَيُّ سُوْرَيْهَا الضِّعيفُ المُهَدَّمُ ثم قال: ولو زاحمتها هذه الخيل بمناكبها، وصادمتها بمواكبها؛ لأيقنت أن سور هذه المدينة مع شدة قوته، وشهرة منعته، كان يعجز عن زحام سورة هذه الخيل وينخر، ويضعف دون ذلك ويتهدم. وأشار بهذا الوصف إلى عظم هذا الجيش، وجعل سوراً، أخبر عنه على طريق الاستعارة. عَلَى كُلَّ طَاوٍ تَحْتَ طَاوٍ كَأنَّهُ ... مِنَ الدَّمِ يُسْقَى أوْ مِنَ اللَّحْمِ يُطْعَمُ الطاوي: الضامر البطن. فيقول: إن فرسان هذا الجيش، كلهم طاو في خلقه، ضرب في

جسمه، على الخيل كلها طاو بطنه، مجدول خلقه، كأنما يسقى من فهو يتجرعه ولا يستكثر، ويطعم اللحم، فهو يتبلغ به ولا يستبطن. لها في الوَغَى زِيُّ الفوارسِ فَوْقَها ... فَكُلُّ حِصَانٍ دَارعُ مُتَلتَّمُ وَمَا ذاكَ بُخْلاً بالنّفُوسِ عَلَى القَنَا ... وَلَكنَّ صَدْمَ الشَّرِّ بالشَّرَّ أحْزَمُ الحصان: الذكر من الخيل. ثم قال: وهذه الخيل بالدروع مشتملة، وفي الجواشن متلثمة، وفي زي فرسانها، وعلى حال ركبانها، وليس ذلك فرقاً من الموت، وتهيباً للسلاح، ولكن الحزم أن يصدم الشر بمثله، ويتقدم إليه بشكله. أتَحْسِبُ بِيضُ الهِنْدِ أصْلَكَ أصْلَها ... وأنَّكَ مِنها؟ سَاَء ما تَتَوَهَّمُ يقول: أتحسب سيوف الهند مع جلالتها ورفعتها، ونفاذها وهيبتها، أنك منها، بمشاكلتها لك في الاسم، وموافقتها لك في اللقب؟ ساء ما ظنته، وخاب سعيها فيما توهمته! إن السيوف بعض آلاتك؛ تصرفها ولا تصرفك، وتستعملها ولا تستعملك.

إذا نحنُ سَمَّينَاكَ خِلْنَا سُيُوفَنَا ... مِن التِّيهِ في أغْمَادِها تَتَبَسَّمُ ثم قال: إذا نحن سميناك بسيف الدولة، خلنا سيوفنا في أغمادها تتبسم، مزدهية بك، وتتكبر بادعائها لك. ولم نَرَ مَلْكاً قَطُّ يُدْعى بِدونِهِ ... فَيَرْضَى وَلَكِنْ يَجْهَلونَ وَتَحْلُمُ يقول: ولم نر ملكاً قبلك يدعى بدونه، بما يتواضع عن قدره فيرضى ويصبر، ويغضي ويغتفر، ولكنهم يجهلون وتحلم، ويقصرون عن حقيقة وصفك فتكرم. أخذتَ على الأرواحِ كل ثنية من العيش تعطي من تشاء وتحرم الثنية: الطريق في رأس الجبل. فيقول: أخذت على نفوس الناس بمجاميع الطرق. يشير بذلك إلى قوة ملكه، وتمكن أمره. فأنت تعطي من أطاعك ورجاك، وتحترم من خالفك وعصاك، عالماً بما تفعله، قادراً على ما تقصده، تسعدك الأقدار على إرادتك، وتسهل لك وجوه رغبتك.

فَلاَ مَوْتَ إلاَّ مِنْ سِنَانِكَ يُتَّقَى ... ولا رِزْقَ إلاَّ من يَمِينِكَ يُقْسَمُ ثم قال: فلسنا نعلم قتلاً يتقى، إلا من سلاحك في وقائعك، ولسنا نعلم عطاء يقصد، من غير هباتك ومكارمك.

وضرب لسيف الدولة بميافارقين خيمة كبيرة، وأشاع الناس أن المقام يتصل. وهبت ريح شديدة، فسقطت الخيمة، وتكلم الحساد عند سقوطها، فقال أبو الطيب: أيَنْفَعُ في الخَيْمَةِ العُذَّلُ ... وَتْشَملُ مَنْ دَهْرَها يَشْملُ يقول: أينفع في الخيمة أن تلام بفعلها، وتعذل على سقوطها؟ وعذرها بين، والموجب لفعلها ظاهر. كيف لها أن تشمل الدهر بسلطانه، ويجير عليه بإحسانه! وِتَعْلُو الذي زُحَلُ تَحْتَهُ ... مُحَالُ لَعَمْرُكَ ما تُسأَلُ ثم قال: وكيف تعلو من يتواضع زحل عن رفعته، ويقصر دون بلوغ منزلته؟ محال ما تسأله، وممتنع ما تحمله. فَلِمْ لا تَلُومُ الذي لاَمَها ... وَمَا فَصُّ خَاتِمهِ يَذْبُلُ ثم قال: ولم لا تلوم هذه الخيمة لائمها على سقوطها، والرئيس

الذي تهيبته، وأعجزها الاشتمال عليه، يقصر يذبل مع عظمه عن فص خاتمه، ويخف عند ركابته كخفته، ويقل عند جلالته كقلته؟ تَضِيقُ بِشَخْصِكَ أَرْجَاؤها ... وَيَرْكُضُ في الوَاحِدِ الجَحْفَلُ ثم قال، مخاطباً لسيف الدولة: تضيق أرجاء هذه الخيمة بشخصك إعظاماً له، وفي الواحد من تلك الأرجاء يركض الجيش العظيم، ويتصرف الجمع الكبير، فإنما ضاقت بك على طريق الإجلال لك. وَتَقْصُرُ مَا كُنْتَ في جَوْفِها ... وَيُرْكَزُ فِيها القَنَا الذُّبَّلُ ثم قال: وتقصر عند كونك في جوفها، مكبرة للاشتمال عليك، وتضطرب مستعظمة للاستعلاء فوقك، وذلك لجلالتك لا لصغرها وقصرها، ولهيبتك لا لتطأطؤها؛ لأن القنا الذبل تركز فيها لعلوها، وتقصر عنها لارتفاعها. وَكَيْفَ تَقُومُ عَلَى راحةٍ ... كَأنَّ البِّحَارَ لها أنْمُلُ ثم قال، باسطاً لعذر الخيمة في سقوطها: وكيف تقوم هذه الخيمة مشتملة على من البحار كالأنمل لراحته، يعمها بأيسر جوده، ويزيد عليها بأقل بذله؟

فَلَيْتُ وَقَارَكَ فَرَّقْتَهُ ... وَحَمَّلْتَ أرْضَكَ مَا تَحْمِلُ ثم قال: فليتك أيها الرئيس فرقت وقارك وقسمته، وشاركت فيه وبعضته، وحملت الأرض منه ما تحمله، وكلَّفتها ما تبلغه! فَصَارَ الأنَامُ بهِ سَادَةً ... وَسُدْتَهُمُ بالذي تَفْضُلُ ثم قال: فكان في ذلك ما يصير الأنام به سادة بمثله، ورؤساء بما يصل إليهم من فضله، وكان فيما يفضل عنهم ما تسود به جماعتهم، وتستحق معه رياستهم. رَأتْ لَوْنَ وَجْهِكَ في لَوْنِهَا ... كَلَوْنِ الغَزَالَةِ لا يُغسَلُ ثم قال: رأت هذه الخيمة لون وجه سيف الدولة في لونها، وتلألؤ حسنه في حسنها، كنور الشمس يشرق ولا يغسل، ويضيء ولا يغير. وَأنَّ لها شَرَفاً بَاذِخَاً ... وَأنَّ الخِيَامَ بها تَخْجَلُ ثم قال: ورأت أن لها به شرقاً باذخاً، واعتلاء ظاهراً، وأنها تخجل الخيام بعجزها، وتحقرها بجلالة قدرها.

فلا تُنْكِرَنَّ لها صَرْعَةً ... فَمِنْ فَرِحَ النَّفْسِ ما يُقْتُلُ ثم قال: وغير بديع أن يصرعها طربها، ويستخفها فرحها، فمن الفرح ما يقتل بشدته، ومن الطرب ما يضر بزيادته. وَلوْ بُلِّغَ النَّاسُ مَا بُلِّغَتْ ... لَخَانَتْهُمُ حَوْلَكَ الأرْجُلُ ثم قال: ولو بلغ الناس العقلاء ما بلغته هذه الخيمة، من الصيانة لك، والاتصال بك، والاشتمال عليك، لخانتهم أرجلهم، فلم تحملهم، وصرعهم فرحهم، ولم يحملهم. وَلَما أمرتَ بِتَطْنِيْبِها ... أشيْعَ بأنَّكَ لا تَرْحَلُ ثم قال لسيف الدولة: ولما أمرت بنصب هذه الخيمة، ومد أطنابها، أشاع الناس أن ذلك لأمر وقفك عن الرحيل، وعذر ثبطك عن الغزو. فما اعْتَمَدَ اللهُ تَقْويضَها ... وَلَكِنْ أشِارَ بما تَفْعَلُ فلم يكن سقوطها إرادة من الله، لحط ما رفعته منها، ولكن نبهك على الرحيل الذي أعرضت عنه، وأراك رشدك في النهوض الذي أخرت أمره.

وَعَرَّفَ أنَّكَ مِنْ هَمِّه ... وأنَّكَ في نَصْرِهِ تَرْفُلُ ثم قال: وأبان أنه يذكرك راضياً عنك، وينصرك مانعاً منك، ففي نصره ترفل، وفي تأييده تتقلب. فما العَانِدُون وما أثَّلُوا؟ ... وَمَا الحاسِدونَ وما قَوَّلُوا؟ ثم قال: وما قدر العاندين وما جمعوه، وما بلغ حسدهم، ومبلغ ما اختلفوه، إذا اقترن ذلك بجلاله سلطانك، واستضاف إلى علو مكانك؟ هُمُ يَطْلُبونَ فَمَنْ أدَرَكوا؟ ... وَهُمُ يَكْذبونَ فمن يَقْيْلُ؟ ثم قال: هم يجتهدون في الطلب، فسلهم أين منزلة من أدركوه من نظرائهم من منزلتك؟ وأين محلهم من علو رتبتك؟ وهم يكذبون، فسلهم عمن يقبل كذبهم، ويسمع إفكهم إلا طغام لا يحفل بهم، وهمج لا يعرج عليهم؟ وَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ ما يَشْتَهُونَ ... وَمِنْ دُونِهِ جَدُّكَ المُقْبِلُ ثم قال: وهم يتمنون من الظهور عليك، بحسب ما تبلغه شهواتهم، ويعترضهم دون ذلك، إقبال جدك، وتمكن سعدك، وما يتكفل الله به من إعلاء أمرك.

وَمَلْمومَةٍ زَرَدُ ثَوْبُها ... ولكِنْهُ بالقَنَا مُخْمَلُ يقول لسيف الدولة: ورب كتيبة لك، لباس فرسانها الدروع، حتى كأنها منها في ثوب شامل، ولباس سابغ، إلا أن ذلك الثوب محتمل بالرماح البادية منه، مشعب بالقنا المتشاجرة فيه. يُفَاجِئُ جَيْشَاً بِهَا حَيْنُهُ ... وَيُنْذِرُ جَيْشَاً بِهَا القَسْطَلُ ثم قال: إذا فاجأت تلك الكتيبة جيشاً فاجأه بها حينه، وقابله منها حتفه، ويقدمها عند إيقاعها به من عجاج خيلها، ورهج غبارها، ما ينذر غير ذلك الجيش بأمرها، ويهزمه بتوقع بأسها. جَعَلْتُكَ بالقَلْبِ لي عُدَّةً ... لأنَّك باليَدِ لا تُجْعَلُ ثم قال: جعلتك بالقلب لي عدة أعتدها، وعصمة أعتقدها؛ لأنك أرفع من أن تصرف فتنقل، وتتناول باليد فتجعل. لَقَد رَفَعَ اللهُ من دَوْلةٍ ... لَهَا مِنْكَ يا سَيْفَها مُنْصُلُ

ثم قال: لقد رفع الله شأن دولة صيرك سيفها، وأنت ملك الملوك (وجعلك) منصلها، وأنت أمير الأمراء. فإن طُبِعَتْ قَبْلَكَ المُرْهَفَاتُ ... فإنَّكَ مِنْ قَبْلِها المِفْصَلُ يقول: فإن تقدمتك السيوف بزمان طبعها، وسبقتك بوقت صناعتها، فأنت تسبقها بنفاذ أمرك، وتتقدمها بمضاء عزمك. وإن جَادَ قَبْلَك قَوْمُ مَضَوْا ... فإنَّكَ في الكَرَمِ الأوَّلُ ثم قال: وإن تقدمك أجواد سلفت أعمارهم، وتراخت مددهم، فأنت تتقدمهم بعموم جودك، وتسبقهم بسبوغ كرمك، فإن تقدموك بالزمان، فأنت تتقدمهم بالإحسان. ثم قال: وكيف تقصر عن غاية من الفضل، ومنزلة من الكرم والبأس، والأسد ولدتك، وثديها أرضعتك؟ وَكَيْفَ تُقَصِّرُ عن غَايةٍ ... وأمُّكَ مِنْ لَيْثِها مُشْبِلُ

وَقَدْ وَلَدَتْكَ فَقَالَ الوَرَى ... ألم تَكُنِ الشَّمْسُ لا تَنْجُلُ ثم قال: وقد ولدتك أمك، وهي الشمس في رفعة قدرها، وجلالة أمرها، فاستعظم الناس أن يكون مثلها يلد، ومن صار في مثل منزلتها ينسل، فكيف بك وأمك الشمس جلالة ورفعة، وأبوك الأسد صرامة وشدة؟ فَتَبَّاً لِدينِ عَبيدِ النُّجومِ ... وَمَنْ يَدَّعي أنَّها نَعْقِلُ ثم يقول: فأهلك الله أصحاب النجوم، والمصدقين بها، وعبيدها المعظمين لها، وأبعد الله القائلين: إنها عاقلة مميزة، وعالية مدبرة. وَقَدْ عَرَفَتْكَ فَمَا بَالُهَا ... تَرَاكَ تَرَاهَا ولا تَنْزِلُ وقد عرفتك وشاهدتك، وأبصرتك وتبينتك، فما بالها تراك تنظر إليها ولا تنزل خاضعة لك، وتنحط من أماكنها متواضعة عنك؟ وهي في الحقيقة لا تبلغ رتبة فضلك، ولا تقارب جلالة قدرك. وَلَوْ بِتُّمَا عِنْدَ قَدْرَيْكُما ... لَبِتَّ وأعَلاكُمَا الأسْفَلُ يقول: ولو بتما، وموضع كل واحد منكما على حسب فضله، ومكانه حيث يستحق بقدره، لبت في مواضع النجوم، وباتت في موضعك، تعلوها وتسفل منك، وتسبقها وتتواضع عنك.

أنَلْتَ عِبَادَك ما أمَّلَتْ ... أنَالَكَ رَبُّكَ ما تَأمُلُ ثم قال: أنلت عبيدك، وهم العباد، ما أملوه من فضلك، وحققت رجاءهم فيما استدعوه من كرمك، أنالك ربك ما تأمله، وأيدك على ما تقصده، وتكفل لك بتقريب ما تريده.

وركب سيف الدولة في بلد الروم، من منزل يعرف بالسنبوس، في جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. وأصبح وقد صف الجيش قاصداً سمندو، وكان أبو الطيب متقدماً، فالتفت فرآه وقد خرج من الصفوف يدير رمحاً بيده، فرجع إليه، فسايره، وأنشده: لِهذا اليومِ بَعْدَ غدٍ أريجُ ... وَنَار في العَدُو لها أجِيْجُ الأريج: الفوج، وأجيج النار: اشتعالها. فيقول: لهذا اليوم بعد غد، بطيب ذكره، وكريم خبره، ومشكور أثر سيف الدولة فيه، فوح يتضوع، وطيب يعبق، ونبأ محمود يؤثر. تَبِيْتُ بِهِ الحَوَاصِنُ آمِنَاتٍ ... وَتَسْلَمُ في مَسَالِكِها الحَجِيجُ الحواصن: العفائف، واحدتهنَّ حصان. ثم قال: يشير إلى ما يوقعه سيف الدولة في ذلك اليوم بالعدو، وأن ذلك يوجب له من قوة سلطانه، ما تأمن به الحواصن من نساء

الثغور، وما يسلم معه السالكون لطرق الحج. فَلاَ زَالَتْ عُدَاتُكَ حَيْثُ كَانَتْ ... فَرائِسَ أيهَّا الأسَدُ المَهِيج فريسة الأسد: ما دق عنقه. فيقول لسيف الدولة: فلا زالت أيها الرئيس، الذي يشبه اهتياجه في حربه اهتياج الأسد عند غضبه، عداتك حيث تصرفت من الجهات، وأين كانت من البلاد، فرائس تصرعهم وقائعك، وتتحكم فيهم صوارمك. عَرَفتُكَ والصّفوفُ مُعّبَّاتُ ... وأنتَ بغَيْرِ سَيْرِكَ لا تَعيْجُ العائج: المكترث، يقال: عاج بعيج إذا اكترث، وعاج يعوج إذا انعطف. ثم قال: عرفتك مع كثرة عساكرك، وازدحام كتائبك، والصفوف معبئات للحرب، مهيئات للطعن والضرب، وأنت لا تحفل بغير سيرك ولا تكترث للقاء عدوك. وَوَجْهُ البحرِ يُعْرَفُ من بعيدٍ ... إذا يِسْجُو فكيفَ إذا يَمُوجُ

يقال: البحر يسجو إذا سكن، ويموج إذا ارتج. ثم ضرب مثلاً، فقال: وكذلك البحر لا يخفي موضعه مع سكونه، ولا يغيب عن الأبصار مع قراره، فكيف إذا هاج وزحر، وارتج وطمح؟! وأنت كذلك، لا يخفي على البعيد موضعك مع السلم، فكيف بك عند تأهبك للحرب؟! بأَرضٍ تَهْلِكُ الأشْوَاطُ فيها ... إذا ملَئِتْ من الركضِ الفُرُوجُ الأشواط: جمع شوط، وهو ما بين أول الطلق وآخره. فيقول: إن هذا الجيش يسير من أرض الروم في أرض بسيطة، بعيد آخرها، نائية نهايتها، وإن ذلك البعد يقرب على هذا الجيش بشدة ركضه، وسرعة سيره، فتهلك الأِشواط عند ما هو بسبيله من الإسراع إلى العدو، والجد في قصده. تُحَاولُ نَفْسَ مَلْكِ الرومِ مِنْهاَ ... فَتَفْدِيهِ رَعِيَّتُهُ العُلُوجُ ثم قال: تحاول من هذه الأرض نفس ملك الروم، فتيقنا بفراره، ويعتصم منا بهربه، ويجعل فداءه رعيته المغنومة، وعساكره المهزومة.

أَبا الغَمَراتِ تُوْعِدُنَا النَّصَارى ... وَنَحنُ نُجُومُها وَعسَ البُرُوجُ غمرات الحرب: شدائدها. فيقول: أبشدائد الحرب تواعدنا النصارى، وهي أوطاننا التي نألفها، ومواضعنا التي نسكنها؟ فانتقالنا فيها كانتقال النجوم في بروجها، وتصرفها في منازلها، فكيف نهاب ما لا نعدمه، ونتوقع ما لا نفقده؟! وَفِينَا السيْفُ حَمْلَتُهُ صَدُوق ... إذَ لاَقى وَغَارَتُهُ لَجوجُ ثم قال، مؤكداً لما قدمه: وفينا سيف الدولة، وهو السيف صرامة وشدة، ونفاذاً وعزيمة، إن حمل صدقت حملته، وإن أغار أبعدت في المقصد غارته. نُعَوِّذُهُ من الأعيانِ بَأساً ... وَيَكْثُرُ بالدُّعاءِ لَهُ الضَّجِيْجُ ثم قال: نعوذه من بأس العيون مخافة أن تلقعه، ويكثر الضجيج بالدعاء له شكراً على ما يفعله. رَضِيْنَا والدُّمُسْتُقُ غَيْرُ راضٍ ... بِمَا حَكَمَ القواضِبُ والْوَشِيجُ الدمستق بالرومية: قائد جيوش الروم، والقواضب: السيوف، والوشيج: الرماح.

فيقول: رضينا بما حكمت به السيوف والرماح، من استباحة بلاد الروم، وسبي نسائهم، وقتل رجالهم، والدمستق لا يرضى بذلك الحكم؛ لما فيه من هتك ملكه، وإذلال عزه. فإنْ يُقْدِمْ فَقَدْ رُرْنَا سَمَنْدُو ... وإن يُحْجِمْ فَمَوْعِدُه الخَليجُ سمندو: حصن يتوسط بلاد الروم، والإحجام: التأخر، والخليج: ما انجر إلى القسطنطينية من البحر. ثم قال: فإن يقدم فيها نحن اؤلاء بسمندو، وهي من وسائط أرضه، فليقدم إن كانت به على ذلك قوة، وإن يحجم فنحن على أثره لا ننصرف عن الخليج حتى نرده، ولا نتأخر عنه حتى نبلغه.

شرح غزاة المصيبة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. ومر سيف الدولة في هذه الغزاة بسمندو، وعبر آلس، وهو نهر عظيم، ونزل على صارخة فأحرق ربضها وكنائسها، وربض خرشنة وما حولها، وأكثر القتل وأقام بمكانه أياماً، ثم رحل حتى عبر آلس راجعاً، فلما أمسى ترك السواد وأكثر الجيش، وسار حتى جاز خرشنة، وانتهى إلى بطن اللقان في غد ظهراً، فلقي الدمستق، وكان في ألوف من الخيل، فلما نظر إلى أوائل خيل المسلمين ظنها سرية، فثبت لها، وقاتل أوائل الناس حتى هزمهم، وأشرف عليه سيف الدولة فانهزم، وقتل من فرسانه خلق (كثير)، وأسر من بطارقته نيف على ثمانين، وأفلت الدمستق، ولذلك قال أبو الطيب:

ذَمَّ الدُّمُسْتُقُ عَيْنَسهِ وَقَدْ طَلَعَتْ ... سُودُ الغَمَامِ فَظَنُّوا أَنَّها قَزَعُ وعاد سيف الدولة إلى عسكره وسواده، وقفل غانماًن فلما وصل إلى عقبة تعرف بمقطعة الأَثفار، صافة العدو على رأسها، فأخذ سيف الدولة ساقة الناس يحميهم، فلما انحدر بعد عبور الناس، ركبه العدو، فجرح من الفرسان جماعة، وفي ذلك قال أبو الطيب: وَفَارِسُ الخَيْلِ مِنْ فَوَقَّرَهَا ... في الدَّربِ والدَّمُ في أعْطَافِها دُفَعُ ونزل سيف الدولة على بردان، وهو نهر، وضبط العدو عقبة السير، وهي عقبة صعبة طويلة، فلم يقدر على صعودها لضيقها، وكثرة العدو بها، فعدل مياسراً في طريق وصفه له يعض الأدلة، وأخذ ساقة الناس، وكانت الإبل كثيرة معيية، واعترضه العدو آخر النهار من

خلفه، فقاتله إلى العشاء، وأظلم الليل، وتسلل أصحاب سيف الدولة يطلبون سوادهم، فلما رأى ذلك، وبقي وحده مع نفر يسير، سار حتى لحق بالسواد تحت عقبة قريبة من بحيرة الحدث، فوقف وقد أخذ العدو الجبلين من الجانيين، وجعل سيف الدولة يستنفر الناس، فلا ينفر أحد، ومن تخلص من العقبة نهاراً لم يرجع، ومن بقي تحتها لم تكن فيه نصرة، وتخاذل الناس، وكانوا قد ملوا السفر، فأمر سيف الدولة بقتل البطارقة الزراورة وكل من كان في السلاسل وسار سيف الدولة واجتاز أبو الطيب العدو آخر الليل بجماعة من المسلمين، يعضهم نائم بين القتلى من التعب، وبعضهم يحركونها فيجهزون على من تحرك؛ فلذلك قال أبو الطيب: وَجَدْتُموهُمْ نِيامَاً في دِمَائِكُمُ ... كَأَنَّ قَتْلاَكُمُ إيَّاهُمُ فَجَعُوا

ورجع سيف الدولة إلى حلب، فقال أبو الطيب بعد القفول يصف الحال، أنشدها سيف الدولة في جمادى الأخيرة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة: غَيْري بأكثِر هذا النَّاس يَنْخَدِعُ ... إن قاتَلُوا جَبُنُوا في حَدَّثوا شَجُعُوا الناس، اسم من أسماء الجموع يخبر عنه بالإفراد على لفظه، وبالجمع على معناه. فيقول: غيري ممن يجهل الناس ولا يعرفهم، يغير بأكثرهم فيخدعونه بالدعاء، ويغرونه بالكذب، وشأنهم، وحيلتهم، وحالهم وحقيقتهم، أنهم يشجعون في حديثهم وما يعدون به من أنفسهم، ويجبنون في قتالهم، ويضعفون عند اختبارهم. وأشار إلى ما تظهر من عجز أصحاب سيف الدولة في هذه الغزاة التي سميت بغزاة المصيبة، التي تقدم ذكرها. أَهْلُ الحَفِيْظَةِ إِلاَّ أَنْ تُجَرّبَهُمْ ... وَفي التجِارِبِ بَعْدَ الغَيَّ ما يَزَعُ الحفيظة: الأنفة، والوزع: الكف.

ثم قال: يظهرون الحفيظة والصبر، والأقدام والجلد، ويتزينون بذلك ما لم تقع التجربة لهم، وفي تجربتهم ما يمنع من الاغترار بكذبهم، وينزع عن الغي في حسن الظن بهم. وما الحَيَاةُ وَنَفْسٍي بَعْدَمَا عِلَمَتْ ... أَنَّ الحَياةَ كما لا تَشْتَهي طَبَعُ الطبع: الدنس. ثم قال: ليس الجمال لوجه صح ظاهرة، وسلم مارنه فيقول: وما لنفسي والركون إلى الحياة، والحرص عليها، والاغتزار بها، وهي تعلم أن حياة الإنسان على حال يكرهها، وطريقة لا يستحسنها؛ دنس ودناءة، وسقوط وضعة. لَيْسَ الجَمَالُ لِوَجْهٍ صَحَّ مارِنُهُ ... أَنْفُ العَزِيْزِ بِقَطْعِ العِزَّ يُجْتَدَعُ المارن: مقدم الأنف وهو ما لان منه. ثم قال: ليس الجمال لوجه صح ظاهره، وسلم مارنه، واعتمد المارن من بين سائر الوجه؛ لأن العرب تفعل ذلك فتقول: أرغم الله أنف فلان، فتقصد الأنف من بين سائر الوجه. فيريد: أن جمال الوجه ليس بسلامة ظاهرة، فأنف العزيز يجتدع بالإذلال، وحسنه يستلب بالإخلال به.

أَأَطْرَحُ المَجْدَ عَنْ كِتْفِي وأطْلُبُهُ ... وأتْرُكُ الغَيْثَ في غِمْدي وأنْتَجِعُ الانتجاع: طلب الكلأ. فيقول: أأدع أن أحوز المجد بالسيف، وأكتسب المال من طريق الحرب، وأتناول ذلك بالطلب، وأتكلف فيه أشد الشعب، فأكون كمن طرح عن كتفه ما يطلبه، وترك في غمده ما ينتجعه. وَالمَشْرَفِيَّةُ لا زَالَتْ مُشَرَّفَةً ... دَوَاَء كُلِّ كَريمٍ أوْهِيَ الوَجَعُ ثم قال: والمشرفية لا زالت مشرفة، فأبدع في المجانسة، ودعا للسيوف بدوام الرفعة؛ لأنها دواء الكريم الذي يستشفي به إذا أسعدته، أو وجعه الذي يتشكاه إذا خذلته. وَفارِسُ الخَيلِ مَنْ خَفَّتْ فَوَقَّرَهَا ... في الدَّرْبِ والدَّمُ في أعْطَافِها دُفَعُ الدرب: المدخل إلى بلاد العدو، والعطف: الجانب. فيقول: وفارس الخيل من وقرها وقد استفزها الخوف، وثبتها

وقد استولى عليها الوجل، فاقتدت بصبره، وشجعت بموضعه، والدم دفع في جوانبها، عضتها الحرب، وأنهكها الطعن والضرب، وأشار إلى سيف الدولة وما ظهر من جلده في هذه الوقعة. وَأوْحَدَتْهُ وَمَا في قَلْبِهِ قَلَقُ ... وأغْضَبَتْهُ وَمَا في لَفْظِهِ قَذَعُ القذع: السب. ثم قال: وأوحدته، يريد: أن الخيل أفردته بتوليها عنه، فلم يحدث ذلك فلقاً في قلبه، وأغضبته بما ظهر عليها من قلة الصبر، فلم يوجب ذلك قذعاً في لفظه، بل ثبت عند اضطرابها ثبات الواثق بنفسه، وأقدم المعول على شجاعته وبأسه. بالجَيْشِ تَمْتَنِعُ السَّادَاتُ كُلُّهُمُ ... والجَيْشُ بابن أبي الهيجاء يَمْتَنِعُ يقول: إن السادات كلهم، إنما يعدون الجيوش ليمتنعوا بها، ويتعززوا بكثرتها، وسيف الدولة يمنع جيشه، ويعز جمعه، ويحميه ولا يحتمي به، ويشجعه ولا يشجع بموضعه. قَادَ المقَانِبَ أقَصَى شُرْبِها نَهَلُ ... على الشَّكيمِ وأدنى سَيْرَها سِرَعُ

المقنب: ثلاث مائة من الخيل أو نحو ذلك، والجمع مقانب، والنهل: الشرب الأول والشكيم: جمع شكيمة، وهي حديدة اللجام المعترضة في فم الدابة، والسرع: شدة الإسراع. ثم قال، مبيناً لما ذكره عنه: قاد مقانب الخيل إلى أرض العدو مجتهداً في سيره مقتحماً على تلك البلاد في غزوه، فسار وأقصى شرب خيله النهل على الشكيم، لا يوجدها السبيل إلى نزع لجمها، واستيفاء الري في شربها، وأدنى ما تتكلفه من السير والسرع الذي هو غاية الجري، وأقصى ما تحاول من العدو، يشير إلى ما كان عليه سيف الدولة في هذه الغزاة من الجد، وما احتمل عليه من قوة العزم. لا يَعْتَقِي بَلَدُ مَسْراهُ عن بَلدٍ ... كالموتِ لَيْسَ لَه رِيُّ ولا شَبَعُ يعتقي: بمعنى يحبس، وهو مقلوب من عاق يعوق، كان أصله يعتاق، فقلب إلى يعتقي. وخرشنة: اسم مدينة من مدائن الروم. فيقول: إن سيف الدولة سار مجداً في سيره، مقتحماً على الروم في غزوه، لا يعوقه بلد عماً بعده، ولا يقنعه حصن يفتتحه عن التماس ما خلفه، كالموت الذي لا يرويه ولا يشبعه كثرة من يفنيه ويهلكه.

حَتَّى أقَامَ عَلَى أَرْبَاضِ خَرْشَنَةٍ ... تَشْقَى به الرُّومُ والصُلْبَانُ والبِيَعُ ثم قال: حتى أقام على أرباض خرشنة، وهي من وسائط تلك البلاد، وقد شقيت الروم بكثرة من قتلة وسباه منها، وشقيت الصلبان والكنائس بكثرة ما أحدثه من التغيير والهدم فيها. لِلسَّبْي ما نَكَحوا، والقَتْل ما ولَدوا ... والنَّهْبِ ما جَمَعُوا، والنَّارِ ما زَرَعوا يقول: إن سيف الدولة أهلك تلك البلاد بسبي ما نكحه أهلها، وقتل من ربوه من أولادهم، ونهب ما جمعوه من أموالهم، وإحراق ما رجوه من زروعهم، ومثل هذا التصنيف باب من البديع يعرف بالتقسيم. مُخْلَّى لَهُ المَرْجُ مَنْصُوباً بَصارِخَةٍ ... لهُ المَنابِرُ مَشْهُوداً بها الجُمَعُ المرج: موضع متوسط في بلاد الروم، وصارخة: مدينة من مدائنهم طال اضطراب سيف الدولة حولها. ثم قال: مخلى له المرج مع توسطه في بلاد الروم، ولا يمكنهم الظهور فيه؛ لما يحذرونه من عسكر سيف الدولة، منصوباً له المنابر بصارخة،

قد اقتدر المسلمون على ملكها، وأطالوا الانتشار في أرضها، وصاروا لذلك في حالة الساكنين بها، فأقاموا الجمع فيها، وخطبوا لسيف الدولة في جهاتها. يُطَمِّعْ الطَّيْرَ فِيهم طُولُ أكْلِهِمِ ... حَتَّى تَكادُ عَلَى أحْيائِهمْ تَقَعُ يقول: إن سيف الدولة قد أدام قتل الروم، وقوت الطير بلحومهم في وقائعه، حتى نكاد لما اعتادته من ذلك، تقع على أحيائهم فتأكلهم، وتعرضهم في طرقهم فتخطفهم. وَلَوْ رَآهُ حَوَارِ يَّوهُمُ لَبَنَوا ... عَلَى مَحَّبتِهِ الشَّرْعَ الذي شَرَعُوا ثم قال: ولو رأى سيف الدولة حواريو الروم، وشهدوا مكارمه وفضله، وإنصافه وعدله، وإقدامه وبأسه، مع موضع الحواريون من الصدق، واحتمالهم على طرق الحق، لبنوا شريعة الروم على محبته، وألزموهم الاحتمال على طاعته. ذَمِّ الدُّمُسْتُقُ عَيْنَيْهِ وَقَدْ طَلَعَتْ ... سُددُ الغَمَامِ فَظَنُّوا أنَّها قَزَعُ القزع: قطع السحاب، والدمستق: قائد جيوش الروم.

فيقول إن موكب سيف الدولة طلعت متتابعة كأنها قطع السحاب، فأشكلت على الدمستق وأصحابه، ولم تنفصل لهم من الفرع، فذم عينيه لذلك، وهو الذي ينظر فلا له نظره ما يبصره. فيها الكُمَاةُ التي مَفُطُومُها رَجُلُ ... عَلَى الجِيَاد التي حَوْلِيُّهَا جَذَعُ ثم وصف تلك الكتائب، فقال: إن فرسانها لتمام خلقهم، وعظم أجسامهم، في حين الفطام على هيئات الرجال، فما ظنك بهم عند الكمال، وبلوغ الأسد؟! وكذلك خيولهم حوليها في هيئة الجذع؛ جسارة وقوة، فكيف تظنها قارحة متكاملة، مستوفية لسن القوة، متناهية؟! يُذْرِي اللقُّانُ غُبَاراً في مَنَاخِرِهَا ... وفي حَنَاجِرِهَا من آلِسٍ جُرَعُ اللقام: كوضع معروف في بلاد الروم، وآلس: نهر عظيم من أنهارهم. فيقول: إن هذه الخيل لسرعة سيرها، وشدة عدوها، وردت اللقان، وصار غبارة في مناخرها وحناجرها لم تجف من ماء آلس،

وهو النهر الذي غبر فيه من صارخة، وبين الموضعين مسافة طويلة، فأشار إلى ما كانت عليه هذه الخيل من قوة ركضها، وإسراعها في إغارتها. كَأنَّما تَتَلقَاهُمْ لِتَسْلُكَهُمْ ... فالطَّعْنُ يَفْتَحُ في الأجْوَفِ مَا تَسَعُ ثم قال، كأنما تتلقى هذه الخيل الروم لتسلك أجسادهم، وتتخذ طرقاً في جسومهم، فطعن فرسانها فيهم يفتح ما يسعهم، ويخرق ما لا يضيق بهم، وليس في الإفراط بأعجب من قول النابغة يصف سيوف بني جفنه. تَقُدُّ السَّلوُقيَّ المُضَاعَفَ نَسْجُهُ ... وَتُوِقِدُ بالصُّفَّاحِ نَارَ الحُباحبِ تَهْدِي نَوَاظُرَها والحَربْ مُظْلِمَةُ ... من الأَسِنِةِ نَارُ والقَنَا شَمَعُ يقول: إن خيل سيف الدولة تهدي نواظرها في وقائعه،

والحرب مظلمة، بما يثور فيها من العجاج، ويسطع من الغبار، اتقاد الأسنة التي تشبه المصابيح، بضيائها في رؤوس القنا، التي تشبه الشمع في إشراقها بها، وهذا مما شبه فيه شيئين بشيئين في بيت واحد، أصح تشبيه، وذلك غاية الأبداع. دُونَ السَّهامِ ودُونَ الفَر طافِحَةً ... عَلَى نفوسِهِم المُقَدَرَّةُ المُزُعُ المقورة: الضامرة، والطافحة: المستعلية، والمزع: المسرعة. ثم قال: يريد الروم، دون وقوع السهام فيهم، واتفاق ما حاولوه من الفرار لهم، اقتحمت عليهم المقورة المزع من خيل سيف الدولة فصرعتهم، وأعجلتهم عن الفر فقتلتهم، وطفحت فوقهم تطؤهم حوافرها، وتدوسهم سنابكها. وقصد السهام من بين سائر السلاح، مشيراً إلى غلبة هذه الخيل لهم في أول القتال؛ لأن الرمي في القتال أول الحرب، وقد بين ذلك زهير بقوله:

يَطْعَنُهُم ما ارتموا حَتَّى إذا اطَّعَنوا ... ضَارَبَ، حَتَّى إِذا ما ضَارَبوا اعَتَنَقا فأخبر بأن هذه الخيل صرعتهم في أول الحرب، ومنعتهم ما راموه من الفر. إذَا دَعَا العِلْجُ عِلْجاً حَالَ بَيْنَهُما ... أَظْمَى تُفَارقُ مِنْهُ أُخْتَها الضَّلعُ الأظمى: الأسمر الذابل، وكنى به عن الرمح. فيقول: إذا دعا العلج علجاً يستعينه، وينتصر به، حال بينهما أظمى من الرماح، تفارق به الضلع أختها، مع تآلفها بالخلقة، فكيف بتفريقه بين العلجين، وإنما تألفهما بالصحبة؟! أَجَلُّ مِنْ وَلَدِ الفَقَّاسِ مُنْكَتِفُ ... إِذْ فَاتَهُنَّ، وأَمْضَى منهُ مُنْصَرعُ ولد الفقاس: الدمستق. ثم قال: أجل من ولد الفقاس، وهو الدمستق، وهو رئيس جيش الروم، إذ فات الرماح بهربه، مأسور قد ملك فكتف، وأمضى منه

في انهزامه، مقتول قد أهلك وصرع؛ لأنه إنما هرب بعد أن قتل جيشه، وأفني جمعه، وأذلت الحرب عزه، فهو وإن كان حياً أعجز ممن قتل، وهو وإن كان أفلت أذل ممن أسر. وَمَا نَجَا مِنْ شِفَارِ البِيْضِ مُنْفَلِتُ ... نَجَا وَمِنْهُنَّ في أَحْشَائِهِ فَزَعُ يقول: وما نجا من شفار السيوف منفلت، أنجاه فراره، وعصمه من القتل هربه، فهو لا يأمن لشدة فزعه، ولا يسكن لاستحكام توقعه، ومن كانت هذه حاله، فحياته موت، ونجاته هلاك. يُبَاشِرُ الأَمْنَ دَهْرَاً وهو مُخْتَبَلُ ... وَيَشْرَبُ الخَمْرَ حَوْلاً وَهو مُمْتَقَعُ الخبل: الجنون، والامتقاع: تغير اللون. ثم أكد ما قدمه، فقال: يباشر الأمن دهراً، وهو لفزعه مختبل العقل، ويشرب الخمر حولاً، وهو لشدة مخافته ممتقع اللون. كَمْ مِنْ حُشَاشَةِ بِطْريقٍ تَضَمَّنَها ... للْبَاتِرات أَمينُ مَا لَهُ وَرَعُ الحشاشة: رمق النفس، والباترات: السيوف، والأمين: الذي يصدق في ما وليه، وأراد هاهنا به القيد.

فيقول: كم من بطريق لم يبق منه إلا رمقه، ضمن ذلك الرمق للسيوف أمين من القيد لا ورع له، وحافظ لا يحذر الخيانة عليه. يُقَاتِلُ الخَطْوَ مِنْهُ حِينَ يَطْلُبُهُ ... وَيَطْرُدُ النَّوْمَ عَنْهُ حِينَ يَضْطَجِعُ ثم بين القيد الذي كني عنه، فقال: إذا حاول ذلك البطريق الخطو، منعه القيد منه، وإذا رام المشي، قاتله بتضايقه دونه، وكذلك لا يكنه الاضطجاع به، فيطرد عنه نومه، ولا تتأتى له الحركة معه، فيتضاعف عليه همه. تَغُدو اَلمنَايَا فضلا تَنْفَكُّ وَاقِفَةً ... حَتَّى يَقُولَ لها عُودِي فَتَنْدَفِعُ ثم قال، يريد سيف الدولة: تغدو المنايا فلا تنفك واقفة ترتقب أمره، وتبادر فلا تزال ماثلة تستمطر رأيه، فإن كفها ولت مندفعة، وإن أرسل بها سيوفه سطت مستعجلة، وفي ظاهر لفظه ما يدل على هذه العبارة. قُلْ للدُّمُسْتُقِ إنَّ المُسْلِميْنُ لَكُمْ ... خَانُوا الإلَهِ فَجَازَاهُمْ بما صَنَعُوا قوله: (قل للدمستق إن المسلمين لكم)، قال: كان أبو الطيب قد اجتاز في الليل الموضع الذي قتل فيه سيف الدولة من قتله من أسرى

الروم، وكان هنالك فيها من المسلمين قوم؛ منهم من أضجعه النوم والتعب، ومنهم من كان يتتبع القتلى فيجهز على من كان فيه منهم رمق، وقد سيف الدولة، وأدرك العدو هذه الطائفة، فأوقع بهم، فقتل فيهم وأسر، فلذلك قال أبو الطيب: قل للدمستق: إن الذين أسلمهم لكم سيف الدولة خانوا الإله بعصيانهم لأميرهم، وانقطاعهم عن جماعتهم، فجازاهم بما صنعوه، وأعقلهم فظفرتم بهم، وضيعهم فظهرتم عليهم. وَجَدْتُمُوهُمْ نِيَاماً في دمائِكُمُ ... كَأنَّ قتلاكم إيَّاهُمُ فَجَعوا ثم قال: وجدتموهم نياماً بين قتلاكم، ومن أجهزوا عليه من جرحاكم حتى كأنهم لتقلبهم بينهم مفجوعون بهم، متوجعون لهم. ضَعْفَى تعِفَّ الأَعَادِي عَنْ مِثالِهِم ... مِن الأَعادي وإن هَمُّوابهم نَزَاعُوا

نزعت عن الشي: إذا أعرضت عنه. فيقول: للروم: أن أسرتموه من المسلمين إنها كانوا ضعفى لا يحفل بهم، ولا يعرج على من كان في مثل حالهم، بل الأعادي يترفعون عن الانحطاط إلى نظرائهم من أعاديهم، وإن هموا بهم نزعوا عن ذلك وتركوه، وأنفوا منه واجتنبوه. لا تَحْسَبُوا مَن أَسَرْتُمْ كَانَ ذَا رَمَقٍ ... فَلَيْسَ تَأْكُلُ إلا الميِّتَ الضَّبُعُ ثم قال: مؤكداً لما قدمه: لا تحسبوا أن من أسرتموه رمقاً يطمعكم به، ورقية تبعث لكم رجاء فيه، فلو كان ذلك لضعفتم عن أسره، وعجزتم عن قتله، فإنما أنتم كالضبع التي تهاب الحي وتحذره، وتتسلط على الميت فتأكله، وأنتم كذلك عجزتم عن مقارعة الأبطال، وتسلطتم على الضعفاء والأفسال. هَلاَّ على عَقَبِ الوادِي وقد صَعِدَتْ ... أسْدُ تَمُرُّ فُرَادَى ثُمَّ تَجْتَمِعُ

العقب: جمع عقبة. فيقول، مخاطباً للروم: هلا كان ما أظهرتموه من الإقدام على المتخلفين، من ضعفاء الجيش عند تجمعكم على عقب الوادي، وأخذكم بمضائقه، واعتراضكم لجيش سيف الدولة فيه، ثم وليتم ناكصين، وتركتم الطريق صاغرين، وقد صعدت نحوكم من ذلك الجيش أسد تمر فرادى، لا يمكنها الاجتماع لضيق الموضع، ولا يتهيأ لها الترافد لوعورة المسلك، فيمرون أفراداً ثم يجتمعون، ويخطرون آحاداً ثم يلتئمون. تَشُفُّكُم بِفَتاها كُلُّ سَلْهَبةٍ ... والضَّربُ يَأُخذْ مِنْكُمْ فَوْقَ مَا يَدَعُ السلهبة من الخيل: الطويلة. ثم قال تشقكم بفتاها؛ بفتيان جيشه، كل سلهبة من عتاق خيله، يريد: أن الجيش اخترقهم، وأقدمت فرسانه عليهم والجراح قد أثخنتهم، ومن ناله الضرب فيهم أكثر ممن فاته منهم.

وَإِنَّمَا عَرَضَ اللَّهُ الجُنُودَ بِكُمْ ... لِكَي يَكُونُوا بلا فَسْلٍ إذا رَجَعوا الفسل: الدنيء من الرجال. ثم قال: وإنما عرض الله الجيوش بكم، يريد: أن الله خلصها من الأدنياء، وطهرها من الضعفاء والجبناء، فقتلهم بكم، وكفى جيش سيف الدولة مئونتهم على أيديكم، ليكونوا عند رجوعهم صميماً لا حشو فيهم، وأبطالاً لا فسل بينهم. فَكُلُّ غَزوٍ إليكُمْ بَعْدَ ذَا فَلَهُ ... وَكُلُّ غَازٍ لِسَيْفِ الدّولة التَّبَعُ ثم يقول للروم: إن سيف الدولة قد نهج للناس سبيل غزوكم، وهون على من أرادكم أمركم، فمن غزاكم بعده فإنما يقفو أثره، ومن اقتحم أرضكم فإنما يمتثل سيره. تَمْشي الكِرَامُ عَلَى آثارِ غَيْرِهم ... وأَنْتَ تَخْلقُ ما تَأْتي وَتَبْتَدِعُ

الخلق: الصناعة ثم قال لسيف الدولة: تمشي الكرام على آثار من تقدمها، مقتدية بفعله، وتتلوه ممتثلة لسعيه، وأنت تبتدئ ما تأتيه في المجد وتبتدعه، وتسبق إلى ذلك وتخترعه. وَهَلْ يَشِيْنُكَ وَقْتُ كُنْتَ فَارِسَهُ ... وَكَانَ غَيْرَك فيهِ العاجِزُ الضَّرَعُ الشين: العيب، والضرع من الرجال: الضعيف. فيقول، مشيراً إلى خذلان أصحاب سيف الدولة له في بعض تلك العزاة: وهل يعيبك وقت أقدمت فيه وأحجم فرسانك، وكررت وقد عجز أصحابك، فبان فضلك وبان نقصهم، وجل قدرك وضاق عذرهم. مَنْ كَانَ فَوْقَ مَحَلَّ الشَّمْسَ مَوْضِعُهُ ... فَلَيسَ يَرْفَعُهُ شَيْءُ ولا يَضَعُ ثم قال: ومن حل في الفضائل محلك، واشتهر بالشجاعة اشتهارك، فتواضعت الشمس عن موضعه، وقصر محتدها عن محتده، فلم يبق له في الشرف غاية يبلغها فترفعه، ولا للعيب إليه سبيل فيضعه.

لم يُسْلِمِ الكَرُّ في الأَعْقَابِ مُهْجَتَهُ ... إنْ كَانَ أَسْلَمَها الأصحابُ والشَّيَعُ الشيع: الأتباع. فيقول لم يسلم مهجة سيف الدولة بأسه وإقدامه، وكره في أعقاب خيله واستلجامه، إن كان أسلمها أتباعه وحشمه، وفارقه فرسانه وخوله، بل كان من شجاعته في جيش يمنعه، ومن إقدامه في جمع يتبعه. لَيْتَ الملوكَ على الأَقْدارِ مُعْطِيةُ ... فَلَمْ يَكُنِ لِدَنَّي عِنْدَها طَمَعُ ثم قال، ليت أن الملوك في عطاياها جارية على قدر من تعطيه، وحقيقة من تؤثره وتدنيه، فلم يكن للأدنياء طمع في فضلهم، ولا لأهل الجبن والخور نصيب في بذلهم، وأشار بهذا إلى من فر عن سيف الدولة من فرسانه، الذين كان يؤثرهم بالإحسان، ويخصهم بالتوسع والإنعام. رَضِيتَ مِنْهُم بأَنْ زُرْتَ الوَغَى فرأوا ... وإن قَرَعْتَ حَبْيَكَ البْيَضِ فاسْتَمعُوا الحبيك: طرائق في الماء، واستعار ذلك في البيض، والواحد حبيكة.

فيقول لسيف الدولة: رضيت من فرسانك بأن صليت الحرب، فرأوك وشهدوك، وقرعت حبيك بيض الروم بجلادك، فاستمعوا، يشير إلى أنه أقدم وأحجموا، وكر في أعقابهم وانهزموا. لَقَدْ أَبَاحَكَ غِشَّاً في مُعَامَلةٍ ... مَنْ كُنْتَ مِنْه بِغَيرِ الصَّدقِ تَنْتفِعُ ثم قال يخاطبه: لقد أباحك الغش في معاملته من كذبك عن نفسه، ولبس عليك في أمره، فأراك الشجاعة، والجبن خليقته، وأظهر لك الجلد، والضعف حقيقته، فموه بما لا يبلغه، وتعاطى عندك ما لا يفعله. الدَّهرُ مُعْتَذِرُ والسَّيفُ مُنْتَظِرُ ... وَأَرْضُهُمْ لَكَ مُصْطَافُ وَمُرْتَبَعُ المصطاف: موضع الإقامة في الصيف، والمرتبع: موضع الإقامة في الربيع. فيقول لسيف الدولة: الدهر معتذر مما سمح به للروم في نيلهم من أطراف جيشك، والسيف منتظر لإدراك الثأر فيهم، واستعجال الانتقام منهم، وأرضهم مصطاف لجيوشك، ومرتبع لخيولك، لا تغبهم وقائعك، ولا تنام عنهم عزائمك. وما الجِبَالُ لِنَصْرانٍ بِحَامِيةٍ ... وَلَوْ تَنَصَّر فيها الأَعْصَمُ الصَّدَعُ

الأعصم: الوعل الذي في بدنه بياض، والصدع: الوعل بين الوعلين، لا بالمسن ولا بالصغير. والنصران: واحد النصارى، نحو ندمان وندامى، قال الشاعر: فِكِلْتَاهُما خرَّتْ وأَسْجَدَ رَأْسُها ... كما سَجَدتْ نَصْرانَةُ لم تَحنَّفِ ثم قال: وما تعصم الجبال متنصراً منك، ولا تحجبهم بامتناعها عنك، ولو أن الأعصم الصدع يتنصر فيها لما امتنع عليك ولأسلمته الأٌقدار إليك، وضرب المثل بالوعل لقدرته على الصعود في الجبال، والتقحم للأوعار، واشترط الصدع؛ لأنه أثبت قوة، وأشد سرعة، وهذا الاشتراط باب من البديع يعرف بالتتميم. وما حَمِدْتُكَ في هَوْلٍ ثَبتَّ لَهُ ... حَتَّى بَلَوْتُكَ والأَبْطَالُ تَمْتِصعُ المصاع: التجالد بالسيوف. فيقول: وما بلغت حقيقة وصفك، وما يجب في حمدك، مع ما

شهدته من ثباتك في الأهوال التي جمعتني بك، حتى بلوتك والأبطال تتماصع سيوفها، وتجتهد في جلادها، ورأيت غناءك وشدة بأسك، ومقاومتك للروم بنفسك، فهناك علمت مقدار صبرك، واستوفيت حقيقة حمدك. فَقَدْ يُظَنُّ يُظَنُّ شُجَاعَاً مَنْ بهِ خَرَقُ ... وَقَدْ يُظَنُّ جَبَاناً مَنْ به زَمَعُ الخرق: البهت والدهش، والزمع: خفة تعتري الشجاع عند الحرب نحو اشتداد الحمى، وكان البراء بن مالك الأنصاري قد شهر بها. ثم قال مؤكداً لما ذكر؛ أنه خفي عليه من أمره، وأن المقاتل لا يقضي عليه دون الاختبار لظاهره: فرب من يثبت في الحرب، ويسكن

ولا ينصرف، فيظن به الشجاعة، وإنما ثبت عن دهش وخرق، ورب من يخف فيها ويضطرب فيظن به الجبن، وإنما اضطرب عن إقدام وشره. إنَّ السَّلاحَ جَميعُ النَّاس يَحْمِلُهُ ... وَلَيْس كُلُّ ذَواتِ المِخْلَبِ السَّبُعُ ثم ضرب في ذلك مثلاً، فقال: إن السلاح يشترك الناس في حمله، ويتماثلون في الاشتمال به، وقليل منهم من يستعمله في الجلاد والطعان، ويصرفه في منازلة الأقران يشير إلى سيف الدولة، كما أن السباع كلها ذوات مخالب، ولكن الأسد يفضلها بقوته، ويزيد عليها بشدته وبأسه، وكذلك، أصحاب سيف الدولة يتزيون بشكله، ويشاركونه في لبس السلاح وحمله، ولكنهم يقصرون عن تصريفه له، ويعجزون عما يبلغه من البطش به. ورفع كل ذوات المخلب والسبع على الابتداء والخبر، وأضمر اسم (ليس)، كأنه قال: وليس الشأن أن كل ذوات المخلب السبع، وصار الابتداء وخبره في موضع خبر ليس، والعرب تفعل ذلك، فتقول: (ليس

خلق الله مثله)، فتضمر الشأن والقصة، ولولا ذلك، لما ولي ليس (خلق)؛ لأن الأفعال لا يلي بعضها بعضاً، روى هذا سيبويه عن العرب، وأفرد لهذا النحو باباً في كتابه، وكثر عليه بالشواهد، وشهرة ذلك تغني عن تطويل القول فيه.

وتوقف سيف الدولة في غزاة ثانية على إحراق القرى ببقعة عربسوس ثم أصبح صافاً، يريد سمندو، وقد اتصل به أن العدو بها معد، جامع في أربعين ألفاً، فتهيب جيش سيف الدولة الإقدام عليها، وأحب سيف الدولة المسير إليها، فاعترضه أبو الطيب، وأنشده: نَزُورُ دِيَاراً ما نُحبُّ لها مَغْنى ... وَنَسأَلُ عنها غَيْرَ سُكَّانها الإذْنَا المغنى: الموضع الذي يحل فيه ويسكن. فيقول: نزور من بلاد الروم دياراً ما نحبها، ونقصد مواضع لا نألفها، فنزورها على سبيل الإفساد لها، ولسنا نزورها على سبيل الأنس بها، ونستأذن في دخولها أمراء جيوشنا، والمدبرين لأمورنا، فنزورها غير موجبين لحقها، وندخلها غير مستأذنين لأهلها. واستعمل في هذا الإشارة دون التصريح، وذلك من أبواب البديع.

نَقودُ إِلَيْها الآخذاتِ لنا المَدَى ... عَلَيْها الكُماةُ المُحْسِنونَ بِهَا ظَنَّا المدى: الغاية. ثم قال: نقود إليها من الخيل ما نستصفيه لعتقه، ويحرز لنا الغايات بسبقه، وعلى تلك الخيل منا كماة الفرسان، الذين جربوها فصدقتهم، واختبروها فأرضتهم. وَنُصْفي الذي يُكْنَى أبا الحَسَن الهَوَى ... ونُرْضِي الذي يُسْمَى الإلهَ ولا يُكْنَى الكماة: الشجعان، واحدهم كمي. ثم قال: ونصفي المدعو بكنيته، يشير إلى سيف الدولة، صادق ودنا، ونمحض له خالص نصحنا، ونرضي الإله الذي سمي نفسه، وارتفع عن الكنية قدره، بإعزازنا لدينه، وجهادنا لعدوه، وجرى في جميع ذلك على الإشارة التي قدمنا، وهي من أبواب البديع. وَقَدْ عَلَمِ الرُّومُ الشَّقِيُّونَ أَنَّناَ ... إذا مَا تَرَكْناَ أَرْضَهُمْ خَلفَنَا عُدْنَا يقول: وقد علم الروم الشقيون بوقائعنا فيهم، وما نحدثه من القتل عليهم، أنا إذا ما تركنا أرضهم بالخروج عنها، عاودناها باستئناف الغزو إليها.

وإنَّا إذَا ما الموتُ صَرَّحَ في الوَغَى ... لَبِسْنَا إلى حَاجَاتِنَا الضَّرْبَ والطَّعْنَا التصريح: الكشف والإعلان. ثم قال: وإنا إذا ما الموت في الحرب كشف عن وجهه، وصرح عن نفسه، لبسنا إلى ما تبتغيه الضرب والطعن، وادرعنا إليه الاعتزام والصبر. قَصَدْنا له قَصْدَ الحَبْيبِ لِقَاؤُهُ ... إلينا وقُلْنا لِلسُّيوفِ هَلُمَّنَّا ذكر سيبويه أن من العرب من يقول (هلم) وللاثنين والجميع ويجمعه، فيقول للواحد: هلم، وللاثنين: هلما، وللجميع هلموا. فاستعمل أبو الطيب هذه اللغة، وأدخل النون الثقيلة مؤكدا على هلموا، وهو فعل الجماعة، فاجتمع له في واو الجماعة والنون الثقيلة من النون الأولى ساكنان، فأسقط أحدهما وهو الواو، فبقي هلمن، ثم أشبع الفتحة للقافية، فقال: هلمنا. ثم قال، مؤكداً لما قدمه: نقصد إليه، يريد: الموت، قصد من لقاؤه حبيب إلينا، فنقدم عليه إقدام من لا يكرهه، ونسرع إليه إسراع من لا يتوقعه، ونقول للسيوف هلمنا. قول المستقربين لها، المستعينين على ما نبتغيه بها. وخَيْلٍ حَشَوْنَاهَا الأَسنَّةَ بَعْدَما ... تَكَدَّسْنَ من هَنَّا علينا ومِنْ هَنَّا

تقول العرب: حشوته بالسنان إذا أودعته حشاه، وتكدس الخيل: أن تركب بعضها بعضاً، وهنا: كلمة يشار بها إلى موضع قريب. فيقول: وخيل حشوناها أسنتنا، وتمكنت في فرسانها رماحنا، فكرهتنا بعد تكدسها حولنا، وفرت منا بعد إسراعها نحونا. ضُرِبْنَ إِلينا بالسياطِ جَهَالةً ... فَلَمَّا تَعارَفْنَا ضُرِبْنَ بِها عَنَّا ثم قال، مبيناً لذلك: ضربت تلك الخيل بالسياط مقدمة عليناً، واستعجلت مسرعة إلينا، فلما تعارفنا نكص عنا فرسانها مولين، وضربوها بتلك السياط منهزمين. تَعَدَّ القُرَى والْنُسْ بِنَا الجَيْشَ لَمْسَةً ... نُبارِ إلى ما تشتهيَ يَدُكَ اليُمْنَا اللمس: معروف، والمباراة: المسابقة. فيقول لسيف الدولة، مؤكداً لبصيرته فيما اعتقده من منازلته جمع الروم: تعد مدن الروم وهدمها، ورعاياهم وسبيها، والمس بنا جيشهم لمسة، واطراق بنا جمعهم طرقة، نبار إلى ما تريده من الإقدام عليهم، وما ترغبه من الإيقاع بهم يمنى يديك، طاعة لك، وامتثالاً لأمرك. واشترط يمنى اليدين، لأنها أسرع في الفعل، وهذا من التتميم، وقد تقدم.

فَقَدْ بَرَدَتْ فَوْقَ اللُّقَانِ دِمَاؤُهْم ... ونحنُ أناسُ نُتَبُع البَارِدَ السُّخْنَا اللقان: موضع معروف من أرض الروم، كانت فيه وقعه غزاة المصيبة. ثم قال: فقد بردت دماؤهم التي سفكتها فوق اللقان سيوفك، وأجرتها بالأمس فيما هنالك جيوشك، ونحن أناس نتبع بارد الدم سخنة، وجارية جامده. يشير إلى أن وقائعهم مترادفة، وأيامهم على الروم متوالية. وإنْ كُنْتَ سَيْفَ الدَّولةِ العَضْبَ فِيْهُمُ ... فَدَعْنَا نَكُنْ قَبْلَ الضَّرابِ القَنَا اللَّدْنَا العضب: القاطع، واللدن: اللين. ثم قال: وأن كنت سيف الدولة العضب، إقداماً على ما تقصده، ونفاذاً فيما تعتقده، فاستفتح بنا حرب هذا الجيش، وضعنا منم موضع الطعن من الضرب، والرمح من السيف، نبدأ الحرب ونحتمها، ونستفتحتها ونتممها. فَنَحنُ الأُلَى لا نَأْتَلي لَك نُصْرَةً ... وَأَنْتَ الَّذي لَوْ أَنَّه وَحْدَهُ أَغْنَى الائتلاء: التقصير والتأخر. فيقول: فنحن الذين لا نقصر في نصرك، ولا نتأخر دون ما يلزمنا من

امتثال أمرك، وأنت الذي لو انفرد دون جيشه لاستغنى عنهم، ولو قصد الروم وحده لأغنى فيهم. يَقِيكَ الرَّدَى مَنْ يَبْتَغِي عِنْدكَ العُلا ... وَمَنْ قَالَ لا أَرْضَى مِن العَيْشِ بالأَدْنَى ثم قال، داعياً لسيف الدولة: يقيك من الردى، وما تحذره من بأس الأعداء وما تتوقعه، من أعلاه سلطانك، وشمله إحسانك، ومن يبتغي رفيع العيش بك، ويدرك معالي الأمور عندك، فكلهم خليق بصيانتك، جدير بالاستهلاك دون إرادتك. فَلَوْلاَكَ لم تَجْرِ الدَّمَاءُ ولا اللُّهَى ... ولم يَكُ للدُّنيا ولا أهلِها مَعْنى ثم يقول لسيف الدولة: فلولاك لم تسفك دماء الأعداء، ولا اكتسبت رغائب الأموال، ولا كان للدنيا وأهلها معنى يرغب فيه طالبه، وينافس عليه محاوله. وَمَا الخوفُ إلا ما تَخوَّفَه الفَتَى ... وَمَا الأَمْنُ إِلاَّ ما رآه الفَتَى أَمْنَا ثم قال: وما الخوف والأمن إلا بمقدار ما يسبق من ذلك إلى الإنسان فيما يطلبه، وإنما ذلك بحسب ما تنعقد عليه نيته فيما يقصده، فمن

استسهل الشديد فيما يريده، استعفه وأمنه، ومن استصعب اليسير فيما يحاوله، استثقله وحذره، وضرب هذا مثلاً لسيف الدولة؛ لأنه يقدم على الأهوال إقدام من لا يحذرها، ويقتحم فيها اقتحام من يأمنها ولا يتوقعها.

وقال يمدحه، ويذكر هذه الغزاة، وأنه لم يتم قصد خرشنة، بسبب الثلج وهجوم الشتاء: عَواذِلُ ذاتِ الخَال فيَّ حَوَاسِدُ ... وإِنَّ ضَجِيعَ الخَوْدِ مِنّي لَمَاجِدُ الخود: الفتاة الشابة، والخال معروف. فيقول: عواذل محبوبتي ذات الخال، على ما تظهره من الإعجاب بي، وتلتزمه من الموافقة لي، حواسد غير نواصح، وكواذب غير صوادق؛ لأن ضجيع الخود مني ماجد سيد، وفاضل أوحد. يَرُّدُّ يَدَاً عَنْ ثَوْبِها وَهو قَادِرُ ... وَيَعصِي الهَوَى في طَيْفِها وَهَو رَاقِدْ ثم قال، مؤكداً لما قدمه: يعف عن ملامسة ثوبها في يقظته، مع القدرة على ذلك، صيانة لها، ويمتثلها في نومه، فيعصي هواه في طيفها ضنانة بها. مَتَى يَشْتَفي مِنْ لاَعِجِ الشَّوءٌِ في الحَشَى ... مُحِبُّ لها في قُرْبِهِ مُتَبَاعِدُ لاعج الشوق: حره. فيقول: متى يشتفي من الشوق ولاعجه، ومن الوجد وألمه، محب يدينه الوصل، فتبعده العفة، ويقربه الإسعاد، فتملكه المروءة.

إذَا كُنْتَ تَخْشَى العَارَ في كُلَّ خَلْوةٍ ... فَلْم تَتصَبَّاكَ الحِسَانُ الخَرائِدُ ثم قال، معنفاً لنفسه، إذا كنت تملك أربك في خلوتك، ولا تسمح لنفسك عند قدرتك، فما لك وللحسان تصبو بهن؟! وما الذي يدعوك إلى التعرض لهن؟! أَلحَّ عَليَّ السُّقمُ حتَّى ألفْتُهُ ... وَمَلَّ طَبِيبي جانبِي والعَوائِدُ ثم وصف حاله، فقال: ألفت السقم بطول إلحاحه وملازمته، وسكنت إليه بشدة تكرره ومداومته، أومللت الطبيب، فأعرض عن معالجتي، وأيأست العوائد فاحتملن على مجانبتي. مررت على دار الحبيب فحمحمت ... جوادي وهل تشجو الجياد المعاهد المعاهد: المنازل، وحمحمة الفرس: تكرر صوته. فيقول: إنه مر بدار محبوبته، وهي خالية منت ساكنها، وموخشة من أهلها، فحمحمت جواده، فعل عارفة بها، وحنت إليها حنين متذكرة لها، فعجب من أن تشجوا لخيل ديار الأحبة، وتشوقها منازلهم، وتعطفها معاهدهم.

وما تُنْكِرُ الدَّهماءُ مِنْ رَسْمِ مَنْزِلٍ ... سَقَتْها ضَريبَ الشَّوْلِ فيه الولائِدُ الضريب: اللبن الذي يخلط رقيقه بثخيينه، وذلك إنما يفعل عند قلته، والشول: جمع شائلة، وهي التي مضى بحملها سبعة أشهر ولبنها يقل عند ذلك، والولائد: الخدم. ثم قال: وما للدهماء أن تنكر منزلاً كانت تعتاده وتألفه، وتزوره وتقصده، وكان أهل ذلك المنزل لكرامتها عليهم، ونفاستها عندهم، يأمرون الولائد فيسقينها ضريب الشول مع قلته، ويؤثرنها باللبن عند انصرام مدته. أَهُمٌّ ُ بشيءٍ والليالي كَأَنَّها ... تُطَارِدُني عن كَوْنِهِ وأُطَارِدُ المطاردة: المحاولة في الحرب. فيقول: أهم بأمل آمله، ومراد أرتقبه، والليالي تدافعني عنه، مدافعة المقاتل المطارد، وتعترضني دونه، اعتراض المنازل المجاول. وَحِيْداً من الخُلاَّنِ في كُلَّ بَلْدَةٍ ... إِذا عَظُمَ المَطْلوبُ قَلَّ المُسَاعِدُ ثم قال: وحيداً من خلان الصفاء، وأهل المشاركة والوفاء حيث كنت، وفي كل بلد احتللت، وإذا عظم المطلوب قل المساعد عليه، وإذا جل عدم المؤيد فيه.

وَتُسْعِدُني في غَمْرَةٍ بَعْدَ غَمْرةٍ ... سَبُوحُ لها مِنها عَلَيْها شَوَاهَدُ غمرة الحرب: شدتها، والسبوح: الفرس التي تمد يديها في الجري. فيقول: وتسعدني في غمرات الحرب، فرس كريمة، سبوح سريعة، لها من حسن خلقها شواهد، تخبر عن كرمها وعتقها. تَثَنَّى عَلَى قَدْرِ الطَّعانِ كَأنَّما ... مَفَاصِلُهَا تَحْتَ الرَّماحِ مَرَاودُ المراود: معروفة. ثم وصف هذه الفرس بحسن أدبها، وكرم طبعها، وأنها تطيع فارسها، وتساعد راكبها، فقال: تثنى للطعان وتعطف، وتحيد عن الرماح وتنحرف، حتى كأن مفاصلها مراود تتداخل عند انقباضها وتحرزها، ثم تعود متصلة عند انبساطها وتدفعها. وأُوْرِدُ نَفْسي والمُهَنَّدُ في يَدِي ... مَوَارِدَ لا يُصْدِرْنَ مَنْ لا يُجَالِدُ يقول: إنه يورد نفسه، والسيف في يده، موارد لا يصدر عنها من لا يصدق في مجالدته، ولا يتخلص منها إلا من تقدم في صبره ومدافعته. وَلَكنْ إِذَا لَمْ يَحْمِلِ القَلْبُ كَفَّهُ ... عَلَى حَالَةٍ لَمْ الكَفَّ سَاعِدُ

ثم قال: ولكن القلب إذا لم يحمل الكف بشجاعته وقوته، وصرامته وشدته، على حالة يفعلها، وطريقة يمتثلها، لم يحمل الكف ساعدها، ولم يبطش بها صاحبها. خَلِيلَيَّ إِني لا أَرَى غَيْرَ شاعِرٍ ... فلِمْ مِنْهُمُ الدَّعْوَى ومِنَّي القصائِدُ يقول: خليلي إني لا أرى إلا من يدعي الشعر، ويتعاطى قوله، ويتسمى به ويحاول نظمه، فما بالهم لا يحصلون من ذلك إلا على دعاوى كاذبة، وأقوال متخرصة، وأنفرد دونهم بالقصائد فأبدعها، وبالنوادر فأخترعها. فَلاَ تَعْجَبا إنَّ السُّيوفَ كَثيرَةُ ... وَلَكِنَّ سَيْفَ الدَّوْلَةِ اليومَ وَاحِدُ ثم قال لصاحبيه: فلا تعجبا لذلك، فالسيوف كثيرة في ظاهرها، موجودة عند الطلب لها، ولكن سيف الدولة المحامي عن حوزتها، المدافع عن بيضتها، واحد لا يشاكل، ومفرد لا يماثل، فلا تنكرا أن تكثر الأشعار في ظاهرها، وأنفرد في الحقيقة بقولها، كما أن السيوف كثيرة في عدتها، وسيف الدولة منفرد بفعلها. وهذا الخروج باب من البديع يعرف بالاستطراد.

لَهُ مِنْ كَرِيمِ الطَّبعِ في الحَرْبِ مُنتَضٍ ... وَمِنْ عَادةَ الإحسانِ والصَّفْحِ غَامِدُ يقول: أن سيف الدولة يجرده في الحرب كرم طبعه، ويسله على أعدائه اشتهار مجده، فإذا عاذوا بفضله، واعتصموا بتجاوزه وصفحه، نالهم من ذلك ما يكف سطوته، وأحاط بهم منه ما يغمد بأسه وحدته، وأبدع بالمطابقة بين منتض وغامد، والمطابقة أن يقترن الشيء بضده على انتظام من الكلام. وَلَمَّا رَأَيْتُ النَّاسَ دونَ مَحَلَّهِ ... تَيَقَّنْتُ أَنَّ الدَّهرَ للنَّاسِ نَاقِدُ ثم قال: ولما رأيت الناس دون محله ورتبته، وشهدتهم يتأخرون عن منزلته ورفعته، تبين لي أن الدهر انتقد أهله وتخيرهم، وامتحن جميعهم وتدبرهم، فقدم سيف الدولة عليهم، لشرف خلاله، ورأسه فيهم، لاشتهار خصاله. أَحِقُّهُمْ بالسَّيْفِ مَنْ ضَرَبَ الطُّلىَ ... وبالأَمر مَنْ هَانَتْ عَليه الشَّدَائدُ يقول: أحقهم بأن يملك السيف، من ضرب به الأعناق في الحرب،

وتقدم به في مواقف البأس، وأحقهم بتدبير الأمور من هانت الشدائد عليه بجلده، واستسهل الاقتحام فيها بصبره، وأحسن التصريف لها بتدبيره. يشير بذلك إلى سيف الدولة. وَأَشْقَى بِلادِ اللهِ ما الرُّومُ أَهْلُها ... بِهَذَا وَمَا فيها لَمِجْدكَ جاحدُ ثم قال: وأشقى بلاد الله، برئاسة سيف الدولة وإمارته، وما اشتهر من فضله وسيادته، البلاد التي أهلها الروم، وما فيها مع ذلك، وأقبل على مخاطبة سيف الدولة، فقال: وما فيها جاحد لفضلك، ولا منكر لمجدك، بل جميعهم يقول بفضلك، وإن لا يودك، ويعظمك وإن كان لا يحبك. شَنَنْتَ بِها الغَاراتِ حَتَّى تَرَكْتَها ... وَجَفْنُ الَّذي الفَرَنْجةِ سَاهِدُ الساهد: الذي لا ينام. فيقول: شننت الغارات في بلاد الروم، حتى تركتها وجفن الذي خلف الفرنجة منهم ساهد لخوفك، متوقع لأمرك، فما ظنك بمن دنا منك وجاوزك، واتصل بأعمالك وقاربك. مُخَضَّبةً والقومُ صَرْعَى كَأَنَّها ... وإنْ لَمْ يَكُونُوا سَاجِدينَ مَسَاجدُ

ثم قال: مخضبة تلك بدماء أهلها، وهم صرعى في عراصها، مكبون على وجوههم بين منازلها، كأنها مساجد، وإن لم يكونوا فيها ساجدين، ومواضع عبادة، وإن كانوا إلى العبادة غير قاصدين. تُنَكَّسُهُمْ والسَّابِقاتُ جِبَالُهم ... وَتَطْعُنُ فيهم والرَّماحُ المكَايدُ السابقات: الخيل. ثم وصف حال أولئك، فقال: تنكسهم والخيول جبالهم، يريد: أنهم لا يتعاطون مقاتلتك بالخيل، وإنما يعتصمون منك بالجبال، فهي خيلهم، واستنزالهم منها تنكيسهم، ونقل الكلام على سبيل الاستعارة، ثم قال: وتطعن فيهم بغير الرماح؛ لأنهم يعجزون عن مبارزتك، فتستعمل فيهم من مكائدك ما تفتح معه حصونهم، وتوجه إليهم من تدبيرك ما تصدع به قلوبهم، فتنزلهم مما ارتفعوا إليه بعزمك، وتطعن فيهم حيث تحرزوا منك برأيك. وتَضْرِبُهُم هَبْراً وَقَدْ سَكَنَوا الكُدَى ... كَمَا سَكَنَتْ بَطْنَ التُّرَابَ الأَسَاوِدُ الهبر: القطع.

فيقول لسيف الدولة: وتضربهم ضرباً يفصل ما وقع عليه، وقد فروا منك إلى الكدى، فسكنوها معتصمين بها. وحلوها مستترين فيها، كما سكنت الأساود بطن التراب، فلم يسكنوها اعتزازاً وقوة، وإنما سكنوها استتاراً وذلة، فسبيلهم فيها مع علوها، سبيل الأساود في بطن الأرض مع تسافلها. وتُضْحِي الحُصُونُ، المُشْمَخِرَّاتُ في الذُّرَى ... وَخَيْلُكَ في أَعْنَاقِهِنَّ قَلاَئِدُ المشمخر: الطويل، وذروة كل شيء أعلاه، والجمع ذرى. ثم قال: وتضحي الحصون المشمخرات، الرفيعة المكان، المتقنة البنيان، المتحدة في ذرى الأوعار، وقنن الجبال، وخيلك متسابقة إليها، متغلبة عليها، قد أحاطت بها، إحاطة الأطواق بالأعناق، والقلائد بالأجياد. عَصَفْنَ بِهِمْ يَوْمَ اللُّقَانِ وَسُقْنَهُمْ ... بِهَنْزيطَ حَتَّى ابْيَضَّ بالسَّبْي آمدُ

اللقان وهنزيط: موضعان من بلاد الروم، وآمد: بلد يكثر الثلج في جباله. فيقول: إن هذه الخيل عصفت بالروم يوم اللقان فأهلكتهم، وألحت عليهم بنهزيط فهزمتهم، واجتلبت سبيهم إلى حين سقوط الثلج، ومنع الشتاء من الغزو، وجعل ما ذكره من ابيضاض آمد بالسبي المجتلب عليه، إشارة إلى زمان سقوط الثلج. وألحقنَ بالصَّفْصافِ شَابُورَ فانهَوَى ... وذاق الرَّدَى أَهلاهُما والجلامِدُ الصفصاف وشابور: حصنان من حصون الروم فتحهما سيف الدولة، والانهواء: لحاق الأعلى بالأسفل، وعصفت الريح بالشيء: إذا اقتلعته واشتد ذهابها به، فاستعار ذلك أبو الطيب لهذه الخيل. ثم قال: وألحقن بالصفصاف شابور فانهوى؛ يريد: أن سيف الدولة خرب شابور كتخريبه للصفصاف، فانهوى كلاهما، وذاق الردى أهلهما، وعم القتل والسبي سكانهما، ونال جلاميد هذين الحصنين من الردى بتخريبهما، ونقض بنيانهما، كالذي نال من سكنهما، وأصاب من اعتصم بهما.

وغَلَّسَ في الوَادي بِهِنَّ مُشَيَّعُ ... مُبَارَكُ ما تَحْتَ اللَّثَامَيْنِ عَابِدُ التغليس: الخروج في آخر الليل، والمشيع: الشجاع، واللثامان: لثام المغفر ولثام العمامة. فيقول: وغلس بهذه الخيل من سيف الدولة رئيس مشيع القلب، شديد البأس، مبارك الوجه، عابد لله بما يحتمل عليه من الجهاد في إعزاز دينه، وإذلال عدوه. فَتىً يَشْتَهي طُولَ البِلادِ وَوَقْتهِ ... تَضِيقُ بِهِ أَوْقَاتُهُ والمَقاصِدُ قم قال، يريد سيف الدولة: فتى يشتهي طول البلاد ليبعد فيها أثره، وطول الزمان ليتمكن فيه تصرفه؛ لأن مقاصده تضيق في الغزو عما تبلغه همته وأوقاته تضيق في المجد عما تنعقد عليه نيته. أَخو غَزَوَاتٍ ما تُغِبُّ سُيُوفُهُ ... رِقَابُهُمُ إلا وَسَيْحانَ جَامِدُ سيحان: مهر عظيم.

ثم قال: أخو غزوات لا يملها، ووقائع في الروم لا يغبها، حتى يعترضه الشتاء، ويمنعه الثلج، فحينئذ ترتفع عن الروم سيوفه، وتتوقف عن بلادهم جيوشه. وأشار بجمود سيحان إلى ما قصده من كثرة الثلج وإكباب الشتاء. فَلَمْ يَبْقَ إلاّ مَنْ حَمَاها من الظُّبا ... لَمَى شَفَتْيها والثَّدِيُّ النَّواهدُ اللمى: حمرة الشفتين يغلب عليها السواد. فيقول: فلم تبق سيوف الدولة من الروم غير النساء اللواتي حماهن من ظبا السيوف حسنهن، وما رغبه أهل الجيش من التمتع بهن. تُبَكَّي عليهَّن البَطَاريقُ في الدُّجى ... وَهُنَّ لَدَيْنَا مُلْقَيَاتُ كَوَاسِدُ البطاريق: أكابر الروم، والكواسد: اللواتي لا يرغب فيهن. ثم قال: تبكي عليهن البطاريق من أوليائهن، لتقصيرهم عن المنع، وهن بأيدينا كواسد، لا نرغب فيهن لكثرتهن، ولا يعجب بهن لتمكنهن.

بِذَا قَضَتِ الأيَّامُ مَا بَيْنَ أَهْلَها ... مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ ثم قال، مخبراً عما وصفه من إعوال الروم على ما يستبشر به أهل هذا الجيش: بذا حكمت الأيام بين أهلها، وقضت على من صحبها بتصرفها، أن يكون سرور الغالبين في أسف المغلوبين، ومصائب المنكوبين فوائد عهد قوم آخرين. وهذا مثل سائر، والمثل من أرفع أبواب البديع، قد تقدم تنبيها عليه. وَمِنْ شَرَفِ الإِقْدامِ أَنَّكَ فِيهُمُ ... عَلَى القَتْلِ مَوْمُوقُ كأَنَّكَ شَاكِدُ الموموق: المحبوب، والشكد: العطية، والشاكد: المعطي. فيقول لسيف الدولة: ومن شرف الإقدام أنك على ما تحدثه من القتل في الروم محبوب منهم، وعلى ما تغشاهم به من المكروه مفضل فيهم، فأنت تقتلهم وكأنك تعطيهم، وتسبيهم وكأنك تحبوهم. وَأَنَّ دَمَا أَجْرَيَتَهُ بِكَ فَاخِرُ ... وأَنَّ فُؤَادَاً رُعْتَهُ لَكَ حَامِدُ ثم أكد ذلك، فقال: وإن من قتلته وأجريت دمه، فقد أبقيت له فخراً، لمقاتلته لك، ومن أجليته وروعته، فقد جعلت له عذراً في فراره عنك؛ لأن من قاتلك يستغرب فعله، ومن فر عنك لا يدفع عذره، فهذا

يترفع بما أبقيت له من الفخر، وهذا يحمدك بما تضمنت له من العذر. وكُلَّ يَرَى طُرْقَ الشَّجَاعةِ والنَّدى ... وَلَكنَّ طَبْعَ النَّفْسِ للِنَّفْسِ قَائِدُ ثم قال: وكل يرى أن الشجاعة والكرم أشرف الخلال، وأجل الخصال، ولكن الطبائع غالبة، والعادات مستولية، وأشار إلى أن الروم يعرفون لسيف الدولة فضل إقدامه، ويعجزون عن مماثلته في جليل أفعاله. نَهَبْتَ مِن الأَعْمَارِ ما لَوْ حَوْيَتهُ ... لَهُنَّئَتِ الدُّنْيَا بأَنَّكَ خَالدُ يقول: نهبت من أعمار الروم بقتلك لهم، وأفنيت منهم بوقائعك فيهم، ما لو حويته لنفسك، ووصلته بعمرك، لهنئت الدنيا بخلودك، ومتعت آخر الأبد ببقائك. فَأَنْتَ حُسَامُ المُلْكَ واللَّهُ ضَارِبُ ... وَأَنْتَ لواءُ الدَّينِ واللَّهُ عَاقِدُ يقول: فأنت حسام الملك والله ضارب بك، وأنت لواء الدين والله عاقد لك، وما ضرب الله به لا ينبو حده، وما عقده لا ينحل عقده.

وَأَنْتَ أَبُو الهيجا بنُ حَمْدانَ يابْنَهُ ... تَشَابَهَ مَوْلُودُ كريمُ وَوَالدُ أبو الهيجاء: والد سيف الدولة، والذين ذكرهم بعده، أجداده على نسق، فيقول لسيف الدولة: أنت أبو الهيجاء أبوك، في كرمه وبأسه، وجلالته وفضله، تشابه منكما مولود ووالده، وابن ومنسله. وَحَمدَانُ حَمْدُونُ، وَحَمْدونُ حَارِثُ ... وحارِثُ لُقْمَانُ، ولُقْمَانُ راشِدُ ثم قال: وكذلك حمدان جدك، حمدون أبوه، وحارث لقمان أبوه، ولقمان راشد أبوه، كل آبائك يتشابهون في مجدهم، ويتماثلون في فضلهم، ويتلو في الكرم آخرهم أولهم، ويحكي في البأس والفضل خلفهم سلفهم. أَولِئكَ أَنْيَابُ الخِلاَفةِ كُلَّها ... وَسَائِرُ أَمْلاَكِ البِلاَدِ الزَّوَائَدُ ناب القوم: سيدهم، والجمع أنياب. ثم قال: أولئك كلهم أنياب الخلافة، وأركان المملكة، وزعماء الدولة، وسائر أملاك البلاد، الزائد بالإضافة إليهم، المتأخرون إذا قرنوا بهم. أُحبُّكَ يا شمسَ الزَّمَانِ وبَدْرَهُ ... وإن لاَمَني فيك السُّها والفَرَاقِدُ السها: نجم صغير يقترن بالوسطى من بنات نعش الكبر.

والفرقدان في بنات نعش الصغر، وهما النجمان النيران من النعش، وجمعهما وهما اثنان؛ لأن التثنية ضرب من الجمع، وقد يخبر عنهما كما يخبر عن الجميع، قال الله عز وجل: (وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب، إذ دخلوا على داود ففزع منهم، قالوا لا تخف، خصمان بغي بعضنا) فأخبر عن الاثنين كما أخبر عن الجميع، وذلك كثير في كلام العرب. فيقول لسيف الدولة: أحبك يأيها الرئيس الذي هو في الملوك كالشمس والقمر بين النجوم، يصغرون وتعظم، ويقلون وتكثر، وإن لامني فيك ممن يتسمى بالرئاسة، من يحسدك على مدحي لك، وينافسك في اعتلاقي بك، ومحل أولئك منك محل الوشل من البحر، وصغار الكواكب من الشمس والبدر. وهذا إن لم يلفظ بجميعه، ففي فحوى خطابه ما يدل عليه. وَذَاكَ لأَنَّ الفَضْلَ عِنْدَكَ باهِرُ ... وَلَيْسَ لأَنَّ العَيْشَ عِنْدَك بَارِدُ

ثم قال وليس حبي لك لدعة العيش عندك، ورفاهيته فيما قبلك، ولكنه لبيان فضلك، وكرم نفسك، وارتفاع مجدك، وإنصافك لمن اعتلق بحبلك. فَإِنَّ قَليلَ الحُبَّ بالعَقْلِ صَالِحُ ... وإِنَّ كَثِيرَ الحُبَّ بالجهلِ فَاسِدُ ثم ضرب مثلاً، أكد به ما قدمه، فقال: فإن قليل المودة صالح إذا بعث عليه العقل، وكثيرها فاسد إذا دعا إليه الجهل. يشير إلى أن القليل من حسن رأي سيف الدولة مع تمامه وفضله، أغبط من كثير ما يبذله غيره، ممن لا تؤمن بوادر جهله.

الجزء الثاني

الجزء الثاني وقال يعزيه بعبده يماك، وقد توفي في سحر يوم الأربعاء، لعشر بقين من شهر رمضان سنة أربعين وثلاثمائة. لا يَحْزُنِ اللهُ الأميرَ فإنَّني ... لآخِذُ مِنْ حالاتِه بِنَصيبِ يَقُولُ، دَاعياً لَسيْفِ الدَّولة: لا يَحْزُنِ اللهُ الأَميرَ فيماَ فَرَّحهُ، ولا ساءه فيما سره، فإني كما ألبسني من أفضاله، يوجب أن آخذ بنصيب من أحواله، فأساء بمساءته، وأسر بمسرته. وَمْن سَرَّ أَهْلَ الأَرضِ ثُمَّ بَكى أَسىً ... بَكَى بِعيُونٍ سَرَّها وقُلُوبِ ثم قال: ومن سر أهل الأرض بما شملهم من إحسانه، وفرحهم بما أفاض فيهم من إنعامه، لزمهم أن يبكي، فتبكي عيونهم عند مصيبته، ويألم فتألم قوبهم عند رزيته، مقارضة لما سلف منه، وحرصا على صرف المكروه عنه. وَإني وإن كَانَ الدَّفينُ حَبْيبَهُ ... حَبْيِبُ إلى قلبي حَبيبُ حَبيْبِي ثم قال: وإني وإن كان الدفين مخصوصاً بمحبة سيف الدولة، وكان أقعد مني بالتوجع لفقده، والارتماض بأمره، فإن من أحبه حبيب إلى قلبي، شديد لصوقه بنفسي. وَقَدْ فَارّقَ النَّاسُ الأَحِبَّةَ قَبْلنا ... وأَعيَا دَوَاءُ الموتِ كُلَّ طَبِيبِ

ثم يقول: إن مما يعزي عن هذا الهالك، أن السالفين قبلنا قد فارقوا أحبتهم، واختر مت المنية أنفسهم، ثم أعيا دواء الموت الذي أصابهم، كل طبيب رام طبه، وكل عزيز حاول دفعه. سُبِقْنَا إلى الدُّنيا فَلَوْ عَاشَ أهْلُها ... مُنْعَنا بها من جَيْئَة وُذُهوب الجيئة: المرة الواحدة من المجيء، والذهوب والذهاب: مصدران بمعنى واحد، ويشير بالجيئة، والذهوب إلى الموت والحياة. ثم قال: سبقنا إلى الدنيا، فلو عاش من سبقنا إليها، لغبنا بتقدمه عليها، لأمتنع ما نحن فيه من الذهوب والجيئة، ومن الفناء والنشأة. تَمَلَّكَها الآتي تَمَلُّكَ سَالبٍ ... وَفَارقها الماضي فِراقَ سَليبِ ثم قال، مؤكداً لما قدمه من صفة الدنيا: تملكها الناشئ فيها تملك وارث سالب، وفارقها الخارج عنها فراق مسلوب ظاعن، فهذه حقيقة جبلتها، وجبلة خبرتها، وليس يجب أن يحزن منها على فائت لا يرجع، ولا أن يجزع منها لمحتوم لا يدفع. ولا فَضْلَ فِيها للشَّجَاعَة والنَّدى ... وَصَبْر الفتى لولا لِقَاءُ شَعُوبِ شعوب: اسم من أسماء الموت.

فيقول: ولا فضل في الدنيا للشجاعة والكرم والصبر والجلد، لولا تباين الناس في التوطين على لقاء الموت، وإنما فضل الشجاع الجبان بإقدامه على الموت، وفضل الكريم البخيل بقلة رغبته في المال، الذي هو متاع الحياة، وفضل الصابر الجازع بتجلده للمكاره التي تقود إلى التلف، فبالإقدام على الموت يستبين الفضل، وبالجزع منه يستحق الذم. وأَوْفَى حَيَاةِ الغَابِرين لصاحب ... حَيَاةُ امرئٍ خَانْتَهُ بَعْدَ مَشِيبِ ثم قال، مزهداً في الحياة: وأوفى حياة الباقين الذين طالت أعمارهم، حياة من لحق سن المشيب، وأدرك زمان الكبير، ثم غايته بعد ذلك لقاء الحتف الذي كرهه، وحلول الموت الذي حذره، هذه سبيل من متع بحياته، وأسعد بتراخي مدته، والتفاضل في ذلك عند تأمله، قليل لا يجزع لفوته، وقريب لا يفرح بمثله. لأَبْقَى يَمَاكُ في حَشَايَ صَبَابَةً ... إلى كُلَّ تُرْكيَّ النَّجارِ جَلِبيبُ النجار: الأصل، والجليب: المجلوب من أرض إلى أخرى. فيقول: (لأبقى يماك)؛ هذا التركي الهالك في حشاي، لشدة إعجابي به، وقوة أسفي عليه، صبابة إلى كل تركي يشاركه في أصله، ويماثله في جلبه.

وما كلُّ وَجْهٍ أَبْيضٍ بِمُباركٍ ... وَلاَ كُلَّ جَفْنٍ ضَيَّقٍ بِنَجِيب ثم قال، مشيراً إلى فضل يماك على غيره من الأتراك: وما كل تركي أبيض الوجه، مباركة طلعته، ولا كل من كان منهم ضيق الجفن، مشهورة نجابته، وبياض الوجوه، وصغر العيون، من صفات الأتراك، فيقول، منبها على فضل يماك في أبناء جنسه: إنه ليس كل من أشبهه في خلقه، وشاركه في جنسه، يشاركه في نجابته، ويشبهه في شجاعته وطاعته. لَئِنْ ظَهرَتْ فِيناَ عَلَيْهِ كَآبَةُ ... لَقَدْ ظَهَرتْ فيِ حَدَّ كُلَّ قَضيبِ القضيب: السيف القاطع. فيقول: لئن ظهرت فينا الكآبة لموته، واستبان علينا الأسف لفقده، لقد ظهر ذلك في قواطع السيوف، لما سلف من جلاده بها، وتقدم من استعماله في الوقائع لها. وَفي كُلَّ قَوْسٍ كُلَّ يَوْمٍ تَنَاضُلُ ... وَفي كُلَّ طِرْفٍ كُلَّ يَوْمٍ رُكُوبُ الطرف: الفرس الكريم. ثم قال: وكذلك اكتأبت عليه القسي عند التناضل، وعتاق الخيل عند التجاول، لقيامه بشروط الرمي، ومعرفته بركوب الخيل، وأنه جمع مع الإقدام والشجاعة؛ الحذق بصناعات الحرابة. يَعِزُّ عَلَيْهِ أَنْ يُخِلَّ بِعَادةٍ ... وَتَدْعُو لأَمِرٍ وهو غَيْرُ مُجيبِ

ثم يقول لسيف الدولة: يعز على هذا الهالك لو أجاب سائله، وأخبر مستخبره، أن يخل بعادته في خدمتك، ويغلب على تصرفه في خدمتك، ويغلب على تصرفه في حضرتك، وتدعوه وهو غير مجيب لدعوتك، ولا قادر على الإسراعِ إلى إنفاذ رغبتك. وَكُنتُ إذا أَبْصَرُتهُ لَكَ قَائماً ... نَظَرتُ إلى ذي لِبْدَتَيْنِ أَديبِ اللبدتان: شعر يكون على زبرة الأسد من ناحيتي الزبرة، واحدتها لبدة. ثم قال: وكنت إذا أبصرته قائماً لك، وشهدته متصرفاً في مجلسك، رأيت منه أسداً باسلاً، وسبعا قاتلاً، أدبيا في لفظه، كريما في معتقده وفعله. فَإِنْ يَكُنْ العِلْقِ النَّفِيسَ فَقَدْتَهُ ... فَمِنْ كَفَّ مِتْلاَفٍ أَغرَّ وَهُوبِ ثم يقول لسيف الدولة: فإن كان هذا المفقود علقاً نفيساً فقدته، وعبداً مشفقاً عدمته، فإنما صدر منك عن كف متلف للأعلاق النفيسة، وهاب للأموال العظيمة، وحسبك أن يكون كغيره مما قدم كرم عليك، فوهبته، وما سواه مما كنت تعتد به، فبذلته. كأَنَّ الرَّدَى عَادٍ عَلَى كُلَّ مَاجدٍ ... إذَا لم يُعَوَّذْ مَجْدَه بِعيُوبِ ثم قال: كأن الردى لا يعتصم ماجد من عاديته، ولا يستدفع كريم سوء عاقبته، إلا بعيوب متقلدة، وآفات متحملة، وكأن العيوب لأهلها معاذات تحفظهم، وأسباب من أسباب السلامة تعصمهم.

وَلَولاَ أَيَادي الدَّهْرِ في الجَمْعِ بَيْنَنَا ... غَفَلْنَا فَلْم نَشْعُرْ لَهُ بِذُنُوبِ ثم يقول: ولولا أيادي الدهر في الجمع بين الأحبة، والتأليف بين أهل الصفاء والمودة، وتغييره لذلك بتفريق ما جمع، وتشتيت ما ألف، غفلنا عنه، ولم نشعر بذنوبه، وأعرضنا عما تقلبنا فيه من صروفه. وَلَلَتَّرْكُ للإِحْسَانِ خَيرُ لُمِحْسنٍ ... إذا جَعَلَ الإحسانَ غَيْرَ رَبِيبِ الربيب: الموصول، يقال رببت الشيء إذا وصلته. ثم قال، مؤكدا لما قدمه: وترك الإحسان من المنعم به، والإمساك عنه من المعتقد له، أفضل من أن يبتديه ولا يصله، ويعتقده ولا يشفعه، يشير إلى أن إحسان الدهر في الجمع بين المتآلفين من أهله، لا يقوم بإساءته فيما يعقب ذلك من تفريق جمعهم، وتشتيته لشملهم. وإنَّ الذي أَمْسَتْ نِزارُ عَبِيدهُ ... غَنَّيُّ عن اسْتِعْبَادِهِ لِغِريبِ ثم يقول، مشيراً إلى سيف الدولة: وإن الذي أمست نزار، ومنها مضر وربيعة، وهما سادات العرب، عبيد طاعته، وأنصار دعوته،

وخدام دولته، غني عن غريب من العجم يصطنعه، وجليب منهم يستعبده. يشير إلى أن سيف الدولة، وهو رئيس جماهير العرب، غني عن أن يتكثر بيماك، وهو جليب من أبناء العجم. كَفَى بِصَفاءٍ الوُدَّ رِقَّاً لِمثلهِ ... وبالْقرْبِ مِنْهُ مَفْخَراً لِلَبيبِ ثم قال: يكفيه من تملك رق العرب، ما أصفوه من ودهم، وبذلوه من نصحهم، ويكفيهم من التشرف به، اختصاصه لهم، واستخدامه بهم، ففي القرب منه للبيب مفخر يرفعه، وشرف يرضيه ويقنعه. فَعُوَّضَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ الأَجْرَ إنَّهُ ... أَجَلُّ مَثَابٍ من أَجَلَّ مُثِيبِ ثم يقول: فعوض الله سيف الدولة من مصابه بجزيل الأجر، وأثابه فيه بكريم الذخر، فإن ذلك أجل ثواب يعلم، والمثيب به أجل مثيب يسأل. فَتَى الخَيْلِ قَدْ بَلَّ النَّجِيعُ نُحُورَها ... تَطَاعنُ في ضَنْكِ المَقَامِ عَصِيبِ العصيب: الشديد، والضنك: الضيق. ثم وصف حال سيف الدولة، فقال: هو فتى الخيل الذي يمتثل

فعله، وفارسها الذي لا ينكر فضله، إذا أشتد البأس، وضاق مجال الحرب، وبل الدم نحور الخيل. يَعَافُ خِيامَ الرَّيطِ في غَزَاوَتِهِ ... فما خَيْمُهُ إلاّ غُبَارُ حُروبِ والريط: جمع ريطة، وهي الملاءة. ثم قال: يعاف القباب في غزواته ويكرهها، ويجتنب خيام الريط ويهجرها، ويأنس بعجاج الحرب فيقتحمنه، ويسكن إلى قتامها فيدرعه، ويؤثر شدائد الحرب على خيامه، وغمراتها على قبائه. عَلَيْنا لَكَ الاسْتَعَادُ إنْ كَانَ نَافِعاً ... بِشَقَّ قُلُوبٍ لا بِشَقَّ جُيوبِ ثم يقول: علينا أن نسعدك بوجد قلوبنا، وشدة حزننا، وأن نشاركك بما نعتقده ونضمره، لا بما نبديه ونظهره. وجعل ذكر القلوب والجيوب إشارة إلى هذا التعبير. فَرُبَّ كَئيبٍ لَسْسَ تَنْدى جُفُوًنهُ ... وَرُبَّ كَثيرِ الدَّمْعِ غَيْرُ كَئِيب ثم قال: فرب مكتئب موجع لا تجري دموعه، ولا تندى جفونه، ورب خلي غير مكتئب، يكثر دمعه، ويبدو بتصنعه حزنه.

تَسَلَّ بِفِكْرٍ في أَبَيْكَ فَإنَّما ... بَكْيتَ فَكانَ الضَّحْكُ بَعْدَ قَريبِ وقوله: في أبيك، يريد: في أبويك، فثنى الأب على لفظه، ولم يرده إلى أصله، وقد روى الفراء ذلك، وذكر أن من العرب من يقول، إذا ثنى الأب والأخ في الرفع أبان وأخان، وفي النصب والخفض أبين وأخين، ويقول في الجمع في الرفع، أبون وأخون، وفي النصب والخفض أبين وأخين، وأنشد سيبويه في جمع أب جمع السلامة على لفظة لفصيح العرب: فَلَمَّا تَبَيَّنَّ أصواتَنَا ... بَكَيْنَ وَفَدَّيْنَنا بالأَبِيْنَا وليس تثنية أب على لفظه بأعجب من جمعه جمع السلامة على ذلك.

فيقول لسيف الدولة: تسل عن هذا المفقود بالفكر في أبيك، فقد كان حزنك عليهما أشد، وأسفك أبين وأوكد، وقد عاقب بعد قريب بكاءك عليهما ضحكك، وعفى على حزنك بهما سلوك، وإذا كان السلو لا بد منه، فليس في الحق أن تعرض عنه. إذَا اسْتَقْبَلَتْ نَفْسُ الكَريمِ مُصَابَها ... بِخُبْثٍ ثَنَتْ فاسْتَدْبَرَتْهُ بِطيبِ ثم أكد ما قدمه، فقال: إذا استقبل الكريم مصابه بالاستكراه له، وإظهار الجزع فيه، عاد عن قريب، فطابت عليه نفسه، وأخرجه إلى السلوان طبعه، وعلم أن الحزن لا ينفعه، فكان الصبر غاية جزعه، والسلو آخر تفجعه. وللواجد المكروبِ مِنْ زَفَرَاتِهِ ... سُكُونُ عَزَاءٍ أو سُكونُ لُغُوبِ اللغوب: الإعياء. ثم قال: ولا بد لذي الوجد المكروب، والشديد الزفرات المحزون، أن يسكن سكون من يعي ويغلب، أو يسكن سكون من يسلو ويصبر. وكَمْ لَكَ جَداً لَمْ تَرَ الْعَيْنُ وَجْهَهُ ... فَلَمْ تَجْرِ في آثارِهِ بِغُروبِ يقول لسيف الدولة: وكم لك جداً اخترمه الموت، وأفناه الدهر،

فلم تبك عليه عينك، ولم تألم له نفسك، وسلاك عن الشغل به علمك؛ بأن الموت غاية الإنسان لا بد منه، ولا محيص لأحد عنه، ومثل هذا يجب أن يسليك عن مصابك، ويسقط عنك مؤونة حزنك. فَدَتْكَ نفوسُ الحَاسِدْينَ فإنَّها ... مُعَذَّبَةُ في حَضْرةٍ وَمَغِيْبِ ثم قال لسيف الدولة: فدتك نفوس حاسديك، فإنها معذبة بالخضوع لك في حضرتك، وبالوقوع تحت أمرك في غيبتك. وَفي تَعَبٍ مَنْ يَحْسُدُ الشَّمْسَ نُوَرَها ... وَيَجْهَدُ أَنْ يَأتي لها بِضَريبِ الضريب: الشبيه. ثم قال: وفي تعب من يحسد الشمس على النور الذي لا تعدمه، ويجتهد في أن يجد لها شبيهاً، وذلك لا يمكنه، وكذلك من حسد سيف الدولة على الرئاسة، فإنما يحسده على ما هو في طبعه، ومن طلب ومن طلب له نظيراً فهو يحاول ما ليس في وسعه.

وقال يمدحه، ويذكر بناءه مرعش، في سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة). فديناك من ربع وإن زدتنا كربا ... فإنك كنت الشرق للشمس والغربا يقول: فديناك بأنفسنا من ربع موحش، ومنزل مقفر، وإن زدتنا كرباً، بدروس رسومك، وتغير طلولك، فإنك كنت للشمس، من حبائبا التي كنا نهتدي بنورها، ونستضيء بوجهها، مشرقاً تطلع لنا منك، ومغرباً تستتر عنا فيك. وكيف عرفنا رسم من لم يدع لنا ... فؤاداً لعرفان الرسوم ولا لبا ثم قال: وكيف عرفنا رسم من أذهلنا بعده، وأطاش عقولنا نأيه، فلم يدع لنا فؤاداً نهتدي به في سؤال رسومه، ولا لباً نستعمله في معرفة طلوله. نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن بأن عنه أن نلم به ركبا الأكوار وأحدها كور، والإلمام: الزيارة.

فيقول: نزلنا عند إلمامنا بهذا الربع عن أكوار ركائبنا، إعظاماً لقدر من بان فضله عنه، وإيجاباً له، وأكبرناه عن أن نلم به ركابنا، لا نمشي نحوه وزوراً لا نخضع عنده. نَذُمَّ السحابَ الغُرَّ في فِعْلها بِهِ ... ونُعْرِضُ عَنْها كُلَّما طَلَعَتْ عَتْبَا الغر من السحاب: الغزار، والعتب: الموجدة. ثم قال: نذم غزار السحاب فيما تفعله بهذا الربع، من تغيير معالمه، وتعفية رسومه، ونعرض عنها، عند طلوعها، لذلك عاتبين، ونكثر ملامتها متسخطين. وَمَنْ صَحِبَ الدُّنَيا طَوِيلاً تَقَلَّبَتْ ... عَلَى عَيْنهِ حَتَّى يَرَى صِدْقَها كِذْبَا الكذب والكذب والكذاب والكذاب: كل ذلك بمعنى. ثم قال: ومن صحب الدنيا فأطال صحبتها، وعرفها وتحقق خبرتها، تصرفت به أحوالها، واختلفت عليه أمورها، حتى يصير صدقها عنده كذباً لا يثق به، وحقها باطلاً لا يسكن إليه، وضرب هذا مثلا في اختلاف الحال به وبأحبته في القرب والبعد، والقطيعة والوصل.

وَكَيْفَ التِذَاذِي بالأَصَائِل والضُّحى ... إذا لم تُعِدْ ذاكَ النَّسيمُ الذي هَبَّا النسيم: هبوب الريح. فيقول: وكيف ألتذ بالأصائل وبردها، وبالغدوات وحسنها، وهذه الأوقات أكرم أوقات الزمان، وسائر الأوقات تابعة لها، وجارية على حكمها، إذا لم تعد لي هذه الأوقات النسيم الذي هب بوصل الأحبة، ولذ بقربهم، وطاب بتداني محلهم. ذَكَرتُ بهِ وَصْلاً كَأنْ لم أَفُز بِهِ ... وَعَيْشَاً كَأَنَّي كُنْتُ أَقْطَعُهُ وَثْباً ثم قال: ذكرت بذكر ذلك النسيم وصلا انصرم، فكأني لم أفز بنيله، وعيشاً ذهب، فكأني وثباً سرت في قطعة؛ يريد: أنه لم ينتفع بما سلف له من الوصل، وأنه يستقصر ما تقدم له من هني العمر. وَفَتانَةَ العَيْنيْنِ قَتَّالَةَ الهَوَى ... إذا نَفَحتْ شَيْخاً رَوَائِحُها شَبَّاً نفح الطيب: سطوع ريحه.

فيقول: وذكرت فتانة العينين، بفتورهما وسحرهما، قتالة الهوى، بتمكينه من النفوس، واستيلائه عليها، إذا نفحت روائح طيبها شيخاً، جددت شبيبته، وصرفت إلى التصابي نيته. لها بَشَرُ الدُّرَّ الذي قُلَّدَتْ بِهِ ... وَلْم أَرَ بَدْرَاً قَبْلَهَا قُلَّدَ الشُّهْباَ البشر: جمع بشرة، وهي ظاهر جلد الإنسان، واستعار ذلك في الدر، والشهب: النجوم. ثم قال: إنها تقلدت من الدر ما يشبه النجوم بحسنه، ويماثلها بارتفاعه في جنسه، وإن بشرها بشر ذلك الدر حسناً وبهجة، وصفاء ورقة، ولم ير قبلها بدراً ضمنت الكواكب عقوده، واشتملت عليها قلائده. فأشار بهذه العبارة إلى أن محبوبته هي البدر في حقيقتها، والقمر الطالع عند أهل التأمل لها. فَيَا شَوْقِ ما أَبْقَى وَيَاليِ مِنَ الهَوَى ... ويا دَمْعِ ما أَجْرَى ويا قَلْبِ ما أصْبَا

قوله: (فيا شوق ما أبقى ويالي من الهوى) ذكر سيبويه أن المنادي إذا أضاف منادى إلى نفسه أسقط ياء الإضافة، وترك الكسرة دالة عليها، في لغات أكثر العرب، ومنهم من يثبتها، فأستعمل أبو الطيب ما عليه الأكثر من إسقاطها فقال: يا شوق، ويا دمع، ويا قلب، وحذف المنادي وهو ينويه من قوله: (ويالي من الهوى)، والعرب تفعل ذلك مع اللام المكسورة، فيقول قائلهم: يا للعجب، يريد: يا قوم أدعوكم للعجب، روى ذلك سيبويه وغيره، وحذف العائد على ما التي للتعجب، فقال: ما أبقى، وهو يريد: ما أبقاه ثقة بفهم المخاطب، وبدلالة الكلام على ما قصده، والعرب تفعل ذلك في الكلام، وتستعمله كثيراً في الشعر. فيقول، معجباً بشدة حاله: فيا شوق ما أبقاه، وأشد مداومته، ويا قوم اعجبوا لي من الهوى الذي لا أعدمه، ويا دمع ما أجراه وأسرعه، ويا قلب ما أصباه وأجزعه. لَعقدْ لَعِبَ البَيْنُ المُشِتُّ بها وبي ... وَزَوَّدّني في السَّيْرِ ما زَوَّدَ الضَّبَّا تقول العرب: إن الضب يستنشق الريح فيغنيه عن الماء، وإنه

لهذا أصبر الحيوان على العطش، وبحسب حاجته إلى الريح، يرتقبها، وبضرورته إليها يعتني بطلبها. فيقول: لقد لعب البين بها وبي، يريد: محبوبته، فشتت ما التأم من شملنا، وأبعد ما اتصل من قربنا، وزودني بعد رحلتها وانتزاح دارها، ما يتزود الضب من تنسم الريح، فأنا أستشرف إلى هبوبها، فما هب منها من نحو بلادها أنست به، وسكنت إليه، وارتحت له، وحرصت عليه. وعشاق العرب يفعلون ذلك ويذكرونه كثيراً في أشعارهم، فأشار أبو الطيب بذكره الضب، إلى هذا المعنى أحسن إشارة، ودل عليه أبين دلالة. وَمَنْ تَكُنِ الأُّسْدُ الضَّواري جُدُودَهُ ... يَكُنْ لَيْلُه صُبْحاً وَمَطْعَمُهُ غَصْبَا ولما ذكر انقطاع الأسباب بينه وبين محبوته، وتقلب الأحوال به وبها، وتصريف الزمان له ولها، أخذ في ذكر بعض ما تصرف فيه، فقال: ومن تكن أنجبته الأسود الضارية، وولدته السباع العادية، كان ليله صبحاً لكثرة سراه فيه، ومطعمه غصباً لخفة الاغتصاب عليه. وأَشار بهذه الحال إلى نفسه، فأبان عن صرامته وشدتهن ودل على اعتزامه وقوته.

ولست أبالي بعد إدراكي العلا ... أكان تراثاً تناولت أَم كسبا ثم قال: ولست أبالي إذا أدركت معالي الأمور وحزتها، واشتهرت بها ونلتها، أكان ذلك بميراث احتزته، أم بكسب استفدته، فالمرء إنما يشرف بفعله، ويرتفع بنفسه. فَرُبَّ غُلاَمٍ عَلَّمَ المجدَ نَفْسَهُ ... كَتَعْليمِ سَيْفِ الدَّولةِ الدَّوْلَةَ الضَّرْبَا ثم قال: فرب غلام اكتسب المجد بنفسه، وتعلم الكرم بطبعه، كسيف الدولة الذي علم الدولة الضرب، ونهج لها الجلاد والطعن، فدبرها، والسيوف مدبرة، وصرفها والسيوف مصرفه. وهذا الخروج باب من البديع يعرف بالاستطراد، وقد تقدم ذكره. إذا الدَّوْلَةُ اسْتَكْفَتْ بِهِ في مُلِمَّةٍ ... مَفَاها فَكانَ السَّيفَ والكَفَّ والقَلْبا يقول: إذا طرقت الدولة ملمة، واعترضتها من الحوادث مهمة، كفاها ذلك واستقل به، وجلاه وتجرد له، ففعل السيف، وبطش بطش الكف، ودبر تدبير القلب، واكتفى في جميع ذلك بنفسه، ولم يفتقر فيه إلى غيره، وهذا التصنيف باب من أبواب البديع يعرف بالتقسيم. تُهَابُ سيوفُ الهِنْدِ وهيَ حَدائِدُ ... فكيفَ إذا كانَتْ نِزَارَّيةً عُرْبا ثم قال: تهاب سيوف الهند وهي حدائد لا تعقل، ومصرفات يفعل بها

ولا تفعل، فكيف ظنك بها إذا كانت عربا نزارية، وصريحة في الشرف تغالبية؟ يشير إلى سيف الدولة، لأنه من بني تغلب، وتغلب من ربيعة، وربيعة بن نزار. ويُرْهَبُ ناب اللَّيثِ واللَّيْثُ وَحْدَهُ ... فكيف إذا كان الليوثُ له صَحْبا ثم قال: ويرهب ناب الليث، والليث وحده، وليس له جيش يعضده، ولا جمع يؤيده، فكيف بأسد تصحبه الأسود، وتمثيل أمره، وتطيعه ولا تخالف رأيه؟ يشير إلى سيف الدولة، وأنه الأسد في بأسه، ويفضله بسلطانه وجيشه. ويُخْشَى عُبَابُ البَحْرِ وهو مَكَانَهُ ... فَكَيْفَ بِمْنَ يَغْشَى البلادَ إذا عَبَّا عباب السيل: مقدمة، وعبه: تدفعه. فيقول: ويخشى عباب البحر، ويرتقب بأسه، وهو مقصور على مكان لا يتعداه، ومستقر لا يتخطاه، فكيف ببحر إذا عب غشى البلاد فأدرك بعيدها، واستباح منيعها؟ يشير إلى سيف الدولة، وأنه البحر الذي لا تمتنع منه مطالبه، ولا تتعذر عليه مقاصده.

عَليمُ بأَسْرَارِ الدَّيانَاتِ واللُّغَى ... لَهُ خَطَرَاتُ تَفْضَحُ النَّاسَ والكُتْبَا ثم قال: إنه عليم بأسرار الديانات، وما يعتقده أهلها، عالم بوجوه اختلافها، وما يقول به المحتجون لها، له خطرات وبدائع تفضح الناس بدقتها، وتدل على ما قصرت الكتب فيه بصحتها. فَبُوركتَ مِنْ غَيْثٍ كَأَنَّ جُلوَدنا ... به تُنْبتُ الدَّيبَاجَ والْوَشْيَ والْعَصْبا بوركت: أي اعتمدت بالبركة، والعصب،: ضرب من البرد. فيقول لسيف الدولة: فبوركت من ملك جواد يشبه الغيث بجوده، ويفعل ما يفعله بكرمه، فإذا أنبتت الأرض على الغيث ضروب النبات، وأصناف الزهرات، فإن جلودنا تنبت على عطاياه ضروب الوشي، وأنواع الديباج والعصب. وَمنْ وَاهبٍ جَزْلاً وَمْن زَاجرٍ هَلاً ... ومن هَتِكٍ دْرِعاً ومِنْ نَاثرٍ قُصْبَا

هلا: كلمة يزجر بها الخيل إذا استدعت القرار والثبات، والقصب: المعي. ثم قال: وبوركت من واهب يهب جزلاً، ويزجر الخيل عند شدائد الحرب بهلا، ويهتك بطعانه دروع الفرسان، وينثر برماحه قصب الأقران. هَنِيْئَاً لأَهْلِ الثَّغْرِ رَأيكَ فِيهمُ ... وَأنَّك حِزْبَ اللهِ صِرتَ لُهمْ حِزْبا ثم يقول: هنيئاً لأهل ثغر الشام حسن رأيك فيهم، وما أظهرته من تهممك بهم، وأنك يا حزب الله ويا ناصر دينه، ومعلي كلمته، صرت لهم حزباً، تحميهم وتمنعهم، وتحوطهم وتعضدهم. وَأَنَّك رُعْتَ الدَّهْرَ فِيْها وَرَيْبَهُ ... فأن شاَء فَلْيُحْدِثْ بِسَاحَتِها خَطْبَا ثم قال: (وأنك رعت الدهر فيها)، فأنث، وقد قدم ذكر الثغر، والثغر مذكر، وهذا تفعله العرب إذا تركت اللفظ وحملت على المعنى، قال الله عز وجل (أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفْرَدوسَ هُم فيها خَالدون) والفردوس مذكر، يقولون: الفردوس الأعلى، ولكنه أنث لما أراد

الجنة، وهو أعلم. وقال الشاعر: وإن كلاباً هذه عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر فأنث البطن، وهو مذكر، لما أراد القبيلة، وكذلك أنث أبو الطيب الثغر لما أراد الأرض والمدن، فيقول: هنيئاً لمدن الثغر، رعت فيها الدهر وأفزعته، وزجرت عنها ريبة وذعرته، فإن أحب أن يعلم مبلغ جهده، فليحدث بساحتها منكراً من فعله، فسيعلم كيف دفعك لخطوبة، وكيف ردك لحوادثه وصروفه. فَيَوْماً بِخَيلِ تَطرُدُ الرَّوم عنهم ... وَيَودٍ الفَقْرَ والْخَدّْبا ثم قال: فيوفاً تحوط أهل الثغر تطرد الروم عنهم، وتمنعهم منهم ويوماً تحوطهم بجود تبسطه فيهم، وكرم تمطره عليهم، وتكف لذلك الفقر عن جميعهم، وتبعد به الجدب عن بلادهم وتعوضهم الخصب من اليسار من العدم.

سَرَايَاكَ تَتْرَى والدُّمستق هارب ... وأصحابه قتلى وأمواله نهبى نهبى: على وزن فعلى، أسم لما نهب. فيقول: سراياك في بلاد الروم متتابعة، وغزواتك إليهم متصلة، والدمستق هارب عنك، متوقع لك، وأصحابه قتلى وقائعك، وأمواله أنهاب عساكرك. أتي مَرْعَشاً يَستَقْرِبُ البُعْدِ مُقْبِلاً ... وأَدْبَرَ إذ أَقْبَلْتَ يَسْتَبْعِدُ القُرْبَا مرعش: حصن بناه سيف الدولة في بلاد الروم. ثم قال، يريد الدمستق: أتي مرعشاً مبادراً لك، مغتنماً فيها لمغيبك، ويستقرب البعد لشدة سيرى، ويستدنيه بسرعة عدوه، فلما علم بتوجهك نحوه، واعتقادك قصده، أدبر منهزماً، والقريب يبعد لفرقه منك، والداني ينتزح عنه لمخالفته لك. كذا يترك الأعداء من يكره القنا ... ويقفل من كانت غنيمته رعبا ثم يقول، من قصد مرعش: كذا يترك الأعداء، ويفر عنهم، من كره

الطعان، ولم يصبر على مضضها، وأشفق منها ولم يوطن على ألها. وهكذا يفقل مغلوباً من كان الرعب غنيمته، والفرار من الأعداء غايته. َوَهلْ َردَّ عَنهُ بالُّلقَانِ وقُوفه ... صُدُور الَعَوالي وُالمطَهَمةَ الُقَّبا المطهمة: الحسنة الخلق، والقب: الضامرة البطون، يريد: الخيل. ثم قال، زارياً عليه، وباسطة لعذره في هزيمته: وهل أغنى عنه وقوفه باللقان وتجلده؟ وهل منع ذلك منه صدور الرماح المسددة، وحملات الخيول القب المطهمة؟ فلا لوم عليه في فراره إذا كان الوقوف لا ينفعه، ولا حظ له في التجلد، إذا كان التجلد لا يعصمه. مَضَى بَعْدَما التفَّ الرَّمَاحَانِ ساعة ... كما يتلقى الهدب في الرقدة الهدبا قوله: (بعدها التف الرماحان ساعة)، الرماحان يريد: رماح أصحاب سيف الدولة ورماح الروم، وثنى الجمعين، لأنه جعلهما حيزين، فثناهما، كان كل واحد منهما اسم على حياله، والعرب تفعل

ذلك قال الشاعر: فَتَنَازَلاً فَتَوَافَقَتْ خَيْلاَهُما ... وكِلاَهُما بَطَلُ اللَّقَّاءِ مُخَدَّعُ فثنى الخيل وهي جمع، لما جعلها حيزاً بنفسه. فيقول: وهو يريد: الدمستق، مضى بعد أن حميت الحرب، واشتد الطعن، وتشاجرت الرماح، واختلفت بها أيدي الفرسان فتلاقت كما تتلاقى أهداب العين في الرقدة، واختلطت على تناه من الالتفاف والكثرة. وَلكنَّهُ وَلَّى وَللطَّعْن سَوْرَةُ ... إذَا ذَكَرَتْها نَفْسُهُ لَمَس الجَنْبا السورة: البطش والعجلة.

ثم قال: ولكنه مع هذه الموافقة، وشدة هذه المقاومة، انهزم وذل، وولى وفر، وللطعن سورة واستعلاء وشدة، إذا تذكرت نفسه ذلك لمس جنبه متفقداً له، وشاكا في أن لا يحل الطعن به. وَخَلَّى العَذَاري والْبَطاريِقِ والْقُرى ... وشُعْثُ النَّصَارى والقَرابينَ والصُّلْبَا شعث النصارى: عبادهم. ثم قال: وخلى العذارى من أهل ملته، والبطاريق من أنصار دعوته، والمدن الجامعة لأهل عمله، والمتبتلين من نضاراه، والصلبان التي يعبدها، والقرابين التي يتوسل إلى آلهته بها، يتحكم المسلمون في جميع ذلك؛ بالسبي والقتل، والتخريب والنهب، والتغير والنسف. أرى كلنا يبغي الحياة بسعيه ... حريصاً عليها، مستهاماً بها صبا ثم، يقول مشيراً إلى أن الدمستق فر بنفسه، وأقدم عليه سيف الدولة بجنده: أرى كلنا يبغي الحياة بما يفعله، ويسعى لها فيما يقدره، حرصاً عليها، وإيثاراً لها، وصبابة بحبها.

فَحُبُّ الجَبانِ النفَّسْ أَوْردهُ التُّقَى وَحُبُّ الشُّجَاعَ النَّفْسَ أَوْرَدَهُ الحَرْبا ثم بين ذلك، فقال: فحب الجبان لنفسه زين له التقية والإحجام، وحب الشجاع لنفسه زين له التجلد والإقدام، وكلاهما مع اختلاف تناولهما، رأى أنه مصيب في فعله، محتاط على الحياة بسعيه. وَيَخْتلفُ الرَّزْقَانَ والْفِعْلُ وَاحِدُ ... إلى أنْ تَرَى إحْسانَ هَذَا لذا ذَنْبا ثم قال: وقد يختلف الرزقان، وتتباين الفائدتان، والفعل واحد، والتناول متفق، حتى يذنب الرجل فيما يحسن غيره به، ويخطئ فيما يصيب سواه في مثله، كركاب البحر الذين يتفق فعلهم، ويختلف في التجارة والهلاك أمرهم، هذه أحوال الزمان، والسبيل في مقاصد الإنسان. فَأَضْحَتْ كَأَنَّ السُّورَ مِنْ فَوْقُ بَدْؤُهُ ... إلى الأَرْضِ قَدْ شَقَّ الكَواكب والتُّرْبا وقوله: (كأن السور من فوق) ضم آخر فوق لما وضعه موضع المعرفة، وقطعه عن الإضافة التي هي أصله، وهي العلة في بناء قبل

وبعد على الضم، قال الشاعر في مثل ذلك: لَعَنَ الإَلهُ بنَ مُسافرِ ... لَعْنَاً يُشَنُّ عَلَيْهِ من قُدَّامُ فبنى قدام على الضم لما قطعها عما تستحقه من الإضافة في الأصل، واختاروا لهذه الظروف البناء على الضم، وعدلوا عن الفتح والكسر؛ لأن الفتح والكسر يدخلان عليها في حين إضافتها، فاختاروا لها في حين البناء حركة لم تكن لها في حين التمكن. فيقول، وقد استوفى وصف الحال في هزيمة سيف الدولة للدمستق على مرعش: فأضحت، يريد: هذه المدينة، وكأن سورها ابتدئ من أعلاه، لارتفاع بنيته، وشدة منعته، وعجز الروم عما حاولوه في جهته، فكأنه لما هو عليه من بعد الغاية، وتمكن القوة، قد شق الكواكب وزاحمها، واخترق الأرض وداخلها، فلا سبيل إليه، ولا طمع للعدو فيه. تَصُدُّ الرَّياحُ الهوَّجُ عنها مَخَافةً ... وتَفْزَعُ فيها الطيرُ أن تَلْقُطَ الحَّبا الهوج من الرياح: الشداد.

ثم قال، مؤكداً لما تقدم: تصد الرياح الهوج عن هذه المدينة، مخافة لمعارضة سورها لها، وتيقنا أنه يقطع دون غايتها بها، وتفزع الطير من أن تلقط الحب في ذراه، وتتصرف آمنة في أعلاه، وأخبر عن المدينة، وهو يريد السور؛ لأن السور بعضها. وَتَرْدي الجِيَادُ الجُرْدُ فَوْقَ جِبَالها ... وَقَدْ نَدَف الصَّنْبرُ في طُرْقِها العُطْبا الصنبر: ريح باردة، في غيم، والعطب: القطن، والرديان: ضرب من الجري. ثم قال: وهذه المدينة، مع ما هي عليه من ارتفاع الشأن، وقوة البنيان، لا تبغها خيول سيف الدولة، بل هي تردي في أوعارها، وعلى قنن جبالها، والصنبر يندف القطن في طرقها، ويجتلب الثلج إلى أرضها، يريد: أنها ممتنعة بقوة البنية، وكثرة الشحنة، وأن الخيل تلازمها في زمان الثلج، وحين امتناع الغزو، وهي فيها قاطنة غير راحلة، ومقيمة ظاعنة. كَفَى عَجَباً أَنْ يَعْجبَ النَّاسُ أَنَّهُ ... بَنَى مَرْعَشَاً تَبَّا لآرائِهم تَبَّاً

التب: الخسارة. فيقول: كفى عجباً أن يعجب الناس، منى أن يكون سيف الدولة بنى مرعشاً، ويسكنها، ويحميها ويحصنها، ثم دعا على هذا الرأي منهم بالخيبة والخسران، وشهد عليهم فيه بالجهالة والنقصان. وما الفرق ما بين الأنام وبينه ... إذا حذر المحذور واستصعب الصعبا ثم قال وما الفرق ما وبين سيف الدولة، وبين من شهدوه من أمره جيوشهم، وما باشروه من المدبرين لأمورهم، وإذا كان يحذر ما حذروه، ويفعل ما فعلوه، ولا يستقرب ما بعد عندهم، وينكشف ما استتر دونهم. لأَمْرٍ أَعَدَّتهُ الخِلافَةُ للْعِدى ... وَسَمَّتْهُ دونَ العَالمِ الصَّارمِ العَضْبَا يقول: لأمر خص به من الفضل، وقدر فيه من النفاذ والعزم، اختارته الخلافة لحماية حوزتها، وأعدته للمدافعة دون بيضتها، وسمته دون العالم بالسيف الذي لا ينبو حده، والصارم الذي لا يذم فعله.

وَلَمْ تَفْتَرِقْ عَنْهُ الأسِنْةُ ... رَحْمَةً وَلْم تَتْرُكِ الشَّامَ الأَعَادي لَهُ حُبَّا ثم قال: ولم تفترق عنه أسنة المقاتلين، رحمة له، ولا تجافوا عن معارضته، عناية به، ولا ترك أعداؤه الشام له، مع جلالتها، إسعاداً ومحبة، ل آثروه بتملكها، إيجابا ومودة، ولكنهم حذروا بأسه وشدته، وتوقعوا إقدامه وسطوته. وَلطِنْ نَفَاها عَنْهُ غَيْرَ كَريمَةٍ ... كَرِيمُ النَّثاَ ما سُبَّ قَطُّ ولا سَبَّا النثا: الخبر، خيراً كان أو غيره. فيقول: ولكن نفي الأعداء عن أرض الشام، غير كريمة في نفيها، ولا متخيرة في فعلها، كريم النشر، طيب الذكر، لا يسب لعلو قدره، ولا يسب لسعة حمله. وَجَيْشُ يُثَنَّي كُلَّ طَودٍ كأَنَّهُ ... خَريقُ رياحٍ وَاجَهْت غُصْناً رَطْبا الطود: الجبل الطويل، والخريق: الريح الشديدة. ثم قال: ونفاها له جيش مخوف بأسه، جليل شأنه، يثني الجبال بكثرته، ويخفضها بجموعه وقوته، ويفعل بها في حط ما ارتفع، وتفريق ما

اجتمع، ما يفعله خريق الريح. بالأغصان الرطبة، وشديد العصوف بالحشائش الرخوة. كَأنَّ نُجُومَ اللَّيْلِ خَافَتْ مُغَارَةُ ... فَمَّدتْ عَلَيْها مِنْ عَجَاجَتهِ حُجْبَا ثم يقول: كأن هذا الجيش أخاف نجوم الليل وأفزعها، وهالها بكثرته وذعرها، فاستترت عنه بتكاثر قتامه، واحتجبت عنه يتكاثف عجاجه. فَمَنْ كَانَ يُرْضي اللُّؤْمَ والكُفرَ مُلْكُهُ ... فَهذا الذي يُرْضِي المكارمِ والرَّباَّ ثم قال: فمن كان يرضي ملكه اللؤم والكفر من أدنياء المتغلبين، وكفار المنتصرين، فهذا الذي يرضي الله بإقامة شرائعه، ويرضي الكرم بإحيائه لمعالمه.

وأهدى إليه سيف الدولة ثياب ديباج رومي، وقناة وفرساً معها مهر لها، فأعجبه المهر، ولم تعجبه الفرس، فقال: ثَيِابُ كَريمٍ ما يَصُونُ حِسَانَها ... إذَا نُشِرْتْ كان الهِباتُ صِوَانَها صوان الشيء: ما اتخذ لصيانته. فيقول: خلع سيف الدولة ثياب كريم، لا يصون حسنها، ولا يذخر رفيعها، إذا نشرها فصوانها عنده أن يهبها، وحفظه لها أن يكسوها ويخلعها. تُرينا صَنَاعُ الرُّومِ فيها مُلُوكَها ... وَتَجْلو عَلَيْنَا نَفْسَها وَقَيِانَها الصناع: المرأة الحاذقة بالعمل. ثم قال: ترينا الروم، الحاذقة بعملها، العالمة بإقامة صورها، في تلك الثياب، أمثلة ملوكها، وتجلو علينا فيها أنفسها وقيانها، اقتداراً على ما تصنعه، وتقدما في إصابة ما تصوره. ولم يَكْفِهَا تَصْويُرها الخَيْل وَحْدها ... فَصَوَّرتِ الأشْياَء إلاّ زَمَانها يقول: ولم يكف تلك الصناع أن صورت الخيل مع ما صورته،

وصنعتها مع ما صنعته، حتى تصرفت في الأشياء فمثلتها، وكثرت منها وأظهرتها، فلم يعدم المتأمل لتلك الصنائع، والمشاهد لتلك البدائع، إلا الزمان بصورته، ومشاهدته بمثاله، والزمان لا صورة له فدل بقوله؛ أنها لم يفتها إلا ما لا صورة له، على أنها استوفت الصور بجملتها، ومثلتها بعامتها، وهذا من البديع يعرف بالاستثناء. وما ادَّخَرَتْها قُدْرَةً في مُصَوَّرٍ ... سِوَى أَنَّها ما أَنْطَقَتْ حَيَوانها ثم قال: وما ادخرت تلك الصناع قدرة فيما صورته، وحكمة فيما أظهرته، إلا أنها لم تنطق الحيوان من تلك الصور، ولا أظهرت الحياة فيما أبدته من تلك المثل، وما خلا ذلك، فقد استوفته وأكملته، وحسنته وتممته. وَسَمراءُ يسْتَغْوي الْفَوارسَ قَدُّها ... وَيُذْكِرُها كَرَّاتها وَطِعانها السمراء: القناة. فيقول، معدداً لما أهداه إليه: وسمراء يهيج الفوارس حسن قدها على الحرب، ويشوقها إلى المطاردة والطعن، ويذكرها بذلك، ويغريها بفعله، ويحركها إلى إستعمال مثله. رُدَينيةُ تَمَّتْ وَكَادَ نَباتُها ... يُرَكَّبُ فِيها زُجَّها وَسِنَانَها الردينية: منسوبة إلى ردينة، وكانت امرأة تتجر بالرماح في الجاهلية:

ثم قال: ردينية ثم خلقها، وكمل حسنها، وكادت في حين نباتها، تستدعي الزج والسنان، وتعلم المطاردة والطعان. وَأمُّ عَتيقٍ خَالُهُ دونَ عَمِّهِ ... رأى خَلْقَهَا مَنْ أَعْجَبَتْهُ فَعانها العتيق: الكريم من الخيل، وأراد الفرس التي أهدى إليه، والمهر الذي كان معها. فيقول: إن هذه الفرس تأخر خلقها عن خلق مهرها، فكرم وهجنت، وحسن وتأخرت، فيقول، منكراً لأمرها، ومعتذراً لهجنتها وحالها: إنها أم عتيق من الخيل، كرم فحله، وهجنت أمه، فخاله دون عمه، وكأن أمه رآها من أعجبته فلقعها بعينه، فتضاءل لذلك خلقها، ولم يتم على حقيقته حسنها. إذا سايَرَتْهُ بَايَنَتْهُ وَبَانها ... وَشَانَتْهُ في عَينِ الْبِصِيرِ وَزَانها ثم قال: إذا سايرت هذه الفرس مهرها، باينته وباينها، فرفعها ووضعته، وزينها ونقصته. فَأَيْنَ التي لا تَأْمَنُ الخَيْلُ شَرَّهَا ... وَشَرَّي وَلاَ تُعْطِي سِوَايَ أَمَانهاَ

يقول: فأين التي عهدتها من كرائم الخيل، التي كانت لا تأمن الفرسان سطوتي عليهم بها، وإقحامي في غمرات الحرب لها، والتي كانت لا تأنس بغيري فيأمنها، ولا تمكن سواي من نفسها فيركبها. وأيْنَ التي لا تَرْجِعُ الرُّمْحَ خَائِباً ... إذا خَفَضَتْ يُسْريَ يَدَيَّ عِنانها ثم قال: وأين التي كانت لا ترجع الرمح خائباً، من فارس تصيبه، ولا ترده مقصراً عن مطلوب في الحرب تناله، إذا خفضت يسري يدي عنانها، مستنهضاً لها، وأرخته طالباً للفرسان بها. وما ليِ ثَنَاءُ لاَ أَرَاكَ مَكانَهُ ... فَهَلْ لَكَ نُعْمَى لا تَراني مَكَانها ثم قال، مخاطباً، لسيف الدولة: ومالي أيها الرئيس ثناء أدخره عنك، ومدح لا أستعمله فيك، وأعتقدك مكاناً له، وأهلاً للاختصاص به، فهل لك نعمى لا تخصني بها، وتراني أهلاً وموضعاً لها؟

وكان ربما تأخر مدحه عن سيف الدولة، فيشق ذلك عليه، ويكثر أذاه، ويحضر في مجلسه من يعرض له بالقبيح، ففعل به ذلك مرات، فقال، وأنشدها في محفل من العرب والعجم: واحرَّ قلَباهُ مَمَّن قلْبُهُ شَبِمُ ... وَمَنْ بِجِسْمي وَحَالي عِنْدهُ سَقَمُ وا: حرف ينادي به كما ينادي بيا، وحر قلباه: اسم مضاف منادى، كان أصله واحر قلبي، فأبدل من الياء ألفاً، رغبة في الخفة، والعرب تفعل ذلك في النداء، واستجلب هاء السكت، وأثبتها في الوصل كما ثبتت في الوقف، والعرب تفعل ذلك في الشعر، وحرك الهاء، لسكونها وسكون الألف قبلها، وللعرب في ذلك فعلان؛ منهم من يحركها بالضم، تشبيها بهاء الضمير، فيقول: واحر قلباه، أنشد في ذلك يعقوب عن الفراء: يا مَرْحَباهُ بِحمارَ عَفْرَاءْ ... إذا أَتى قَرَّبْتُهُ لما شَاءْ من الشَّعير والحشيشِ والماءْ ومن العرب من يحرك بالكسر، على ما يوجد كثيراً في الكلام، عند التقاء الساكنين، أنشد على ذلك يعقوب: يا ربِّ يا رَّباهِ إيَّاكَ أَسَلْ ... عَفْراَء يَا رَبَّاهِ مِنْ قَبْلِ الأَجَلْ وهذه اللغة التزم أبو الطيب، والشبم: البارد.

فيقول: واحر قلبي واحتراقه، واستحكام تهممه، بمن قلبه عني بارد لا عناية له بي، ولا إقبال له علي، ومن بجسمي وحالي من إعراضه سقم يوجب ألمهما، وشكاة تعود باختلالهما. والعرب تكني بحرارة القلب عن الاعتناء والحب، وببرده عن الإعراض والترك. مَا لي أُكَتَّمُ حُبَّاً قَدْ بَرَى جَسَدي ... وَتَدعي حُبَّ سَيْفِ الدَّولةِ الأُممُ المكتم: المبالغ في الكتم، وبري الجسم: إضناؤه وإنحاله. ثم قال: ما لي أكتم من حب سيف الدولة ما يزيد مضمره على ظاهره، ومكتومه على شاهده، والأمم تشركني في ادعاء ذلك، والتصنع به بقلوب غير خالصة، ونيات غير صادقة، فيضني جسمي، وينحله تقدمي في صدق وده، وتأخري فيما يخصني من فضله. إنّ كَانَ يَجْمَعُنَا حُبَّ لغُرَّتِهِ ... فَلَيْتَ أَنَّا بِقَدْرِ الحُبَّ نَقْتَسِمُ ثم قال: إن كان يجمعنا حب غرته، والكلف بمودته، فليت أنا نقتسم المنازل عنده، بقدر ما نحن عليه من صحة الخالصة، وما نعتقده من المودة الصادقة، فلا يبخس المخلص حظه، ولا يبذل للمتصنع بره.

قَدْ زُرْتُهُ وَسُيوفُ الهِنْدِ مُغْمدهُ ... وَقَدْ نَظَرتُ إليهِ وَالسيوفُ دَمُ ثم يقول: قد زرته في الأمن والسلم، وقد شهدته في شدائد الحرب؛ يريد: أنه خبره في الضيق والسعة، وامتحنه في الأمن والمخافة، فأعجبه كيف تقلب، وحمده على أي حال تصرف. فَكَانَ أَحْسَنَ خَلْقِ اللهِ كُلَّهمِ ... وَكَانَ أَحسَنَ ما في الأَحْسَنِ الشَّيمُ ثم قال: فكان في جميع أحواله أحسن خلق الله شاهداً، وأكرمهم ظاهراً، وكان أحسن من ذلك شيمه المختبرة، وأخلاقه الممتحنة. فَوْتُ العَدُّو الَّذي يَمَّمْتَهُ ظَفَرُ ... في طَيَّيهِ أَسَفُ في طَيَّهِ نِعَمُ الأسف: الحزن. فيقول: فوت العدو الذي أعجزك بهربه، وفر عنك لاستحكام جزعه، ظفر ظاهر، واستعلاء بين، وإن كان ذلك الظفر في طية منك أسف على ما حرمته من إدراكه، والإثخان بالقتل فيه، وفي طي ذلك الأسف نعم بما صرف الله عنك من مؤونة الحرب، وشدة معاناة اللقاء.

قَدَ نَابَ عَنْكَ شَديداُ الخوفِ واصْطَنَعتْ ... لَكَ المَهَابةُ ما لا تَصْنَعُ الُبَهُم البهم: الذين تناهت شجاعتهم من الفرسان، واحدهم بهمة. ثم قال: قد ناب عنك خوف العدو لك، فغلبه وذعره، وهزمه وروعه، وصنعت لك فيه مهابتك، وبلغت لك منه مخافتك، ما لا تصنعه بهم الشجعان، ولا تبلغه أبطال الفرسان. أَلْزَمْتَ نفْسَكَ شَيْئاً لْيسَ يَلْزمُها ... أنْ لا تُوَاريُهم أَرْضُ ولا عَلَمُ العلم: الجبل الطويل. فيقول لسيف الدولة: ألزمت نفسك من نكاته العدو والمبالغة في قتلهم ما لا يلزمك، وكلفتها ما لا يحق عليك، وذهبت إلى ألا تواريهم منك أرض تشتمل عليهم، ولا يسترهم عنك جبل يحول بينك وبينهم. أَكُلَّما رُمْتَ جَيْشاً فانثنىَ هَرَباً ... تَصرَّفَتْ بِكَ في آثارهِ الهِمَمُ ثم قال: أكلما رمت جيشاً من جيوش الروم، فغر منك، وولى هارباً عنك، تصرفت بك هممك في آثاره، فلم يرضك انهزامهم دون أن ينالهم القتل، ولا فرارهم دون أن يتحكم فيهم السيف.

عَلَيْكَ هَزْمُهُم في كُلَّ مُعْتركٍ ... وَمَا عَلَيْكَ بِهِمْ عَارُ إذا انَهَزمُوا ثم يقول لسيف الدولة: عليك أن تهزم الروم في كل معترك يتعاطون فيه لقاءك، ولا عار عليك في أن يغلبهم خوفك، فينهزموا دون قتال، توقعا لك، ويفروا دون لقاء، إشفاقاً منك. أَماَ تَرَى ظَفَراً حُلْواً سِوَى ظَفَر ... تَصَافَحتْ فِيهِ بْيِضُ الهِنْدِ واللَّمَمِ ثم قال: أليس يحلو لك ظفر تناله، وأمل في عدوك تبلغه، ما لا يكون ذلك بعد قتل وقتال، ومجالدة ونزال، وبعد أن تصافح سيوفك رؤوسهم، وتباشر سلاحك جسومهم. وأشار بمصافحة السيوف للمم إلى هذا التعبير. يَا أَعْدلَ النَّاسِ إلاَّ في مُعَامَلتي ... فِيكَ الخِصَامُ وَأَنْتَ الخَصْمُ والحَكَمُ يقول لسيف الدولة: يا أعدل الناس في أحكامه، وأكرمهم في أفعاله، إلا في معاملتي، فإنه يخرجني عن عدله، ويضيق علي ما قد بسطه من فضله، فيك خصامي وتعبتي، وأنت خصمي وحكمي، فأنا أخاصمك إلى نفسك، واستعدي عليك حكمك. أُعيذُهَا نَظَراتٍ مِنْكَ صَادِقةً ... أَنْ تَحْسِبَ الشَّحْمَ في مَنْ شَحُمُه وَرَمُ ثم قال: أعيذ نظراتك الصادقة، وظنونك المصيبة، من أن تحسب ما

أشكوه من الضرورة سعة، وما أظهر من التجمل حقيقة، فتكون كمن يحسب السقم صحة، والورم سمناً وقوة. وما انتِفاعُ أخي الدُّنيا بناظِرِهِ ... إِذا استَوَتْ عندَهُ الأنوارُ والظُّلَمُ ثم ضرب في ذلك مثلاً، فقال: وما ينتفع أخو الدنيا بنظره، ولا تعود عليه فائدة بصره، إذا استوى عنده الصحة والسقم، والأنوار والظلم. أَنَا الذي نَظَر الأَعْمَى إلى أَدَبي ... وَأَسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بِهِ صَمَمُ يقول: أنا الذي استذاع أدبي، واستبان موضعي فيه، فثبت ذلك في العقول، وتمكن في القلوب، ورآه الأعمى وإن كان لا يبصر، وأسمعت كلماتي فيه ذا الصمم وإن كان لا يسمع. أَنَامُ مِلَء جُفُوني عن شَوارِدِها ... وَيَسْهَر الخلقُ جَرَّاها وَيَخْتَصمُ تقول العرب: فعلت هذا من جرى فلان، أي: من أجله. ثم قال: أنام ساكن النفس، متمكن النوم، لا أعجب بشوارد ما أبدع، ولا أحفل بنوادر ما أنظم، ويسهر الخلق في تحفظ ذلك وتعلمه، ويختصمون في تعرفه وتفهمه، فاستقل منه ما يستكثرونه، وأغفل عما يغتنمونه.

وَجَاهلٍ مَدَّهُ في جَهْلهِ ضَحكي ... حَتَّى أَتَتهُ يَدُ فَرَّاسَةُ وفم الفرس: دق العنق، فيقول: ورب جاهل اغتر بمجاملتي له، ومساحتي إياه، وضحكي على جهلة، حتى سطوت به ففرسته، وعضضت عليه فأهلكته. إذا رأيت نيوب الليث بارزة ... فلا يغرنك أَنَّ اللَّيْثَ مُبْتَسُم الناب: الضرس الذي بين الرباعية والطواحن، وجمعه نيوب. ثم قال، زارياً علي المغتر بضحكة: إذا رأيت الليث قد أبرز أنيابه، فلا يغرنك تبسمه، فإن ذلك أقرب لبطشه، وأدل على ما يحذر من فعله، وكذلك كان ضحكي للمخدوع به سبباً قاده إلى صرعته، وأداه إلى هلكته. وَمُهْجَةٍ مُهْجَتي مِنْ هَمَّ صَاحِبِها ... أَدْرَكْتُها بِجوادٍ ظَهْرُهُ حَرَمُ الحرم: الموضع الذي يؤمن فيه، ويمتنع بحرمته. فيقول: ورب مهجة مقاتل لي، كانت مهجتي من هم ذلك

المقاتل وبغيته، فأدركت منه ما كان يحاوله مني، يشير إلى قتله له، وظفره به، بفرس جواد، ظهره حرم لصاحبه، وجريه أمان لراكبه. رِجْلاَهُ في الرَّكضِ رِجْلُ والْيَدَانِ يَدُ ... وَفِعْلُهُ ما تُريدُ الكَفُ والقَدمُ ثم وصف ذلك الجواد فقال: رجلاه لسرعة ركضه، وخفة وقعه، وما هو عليه من تأتي أمره، كالرجل الواحدة، ويداه كاليد المفردة، لا تختلف في وقعها، ولا تتخاذل في نقلها، وفعله في السرعة ما تريده القدم التي بها تستعجل، وفي المواتاة والموافقة ما تريده الكف التي بها يستوقف. ومُرْهَفٍ سِرْتُ بَيْنَ المَوْجَتَيْنِ بِهِ ... حَتَّى ضَرَبْتُ وَمَوْجُ المْوتِ مُلْتَطُم الموج: ما ارتفع واضطرب من الماء، واستعار ذلك في كتائب الحرب. فيقول: ورب سيف مرهف، سرت به بين الفئتين المتقابلتين، والطائفتين المتزاحفتين، حتى ضربت وجالدت، واقتحمت وتقدمت، والموت يلتطم موجه، ويزخر بحره. فَالخْيَلُ واللَّيْلُ والبَيْدَاءُ تَعْرِفُني ... والحَرْبُ والضَّرْبُ والقِرَطاسُ والقَلمُ

ثم قال: فالخيل تعرفني لتقدمي في فروستها، وحذقي بركوبها، والليل يعرفني لسراي فيه، وطول ادراعي له، والبيداء تعرفني بمداومتي لقطعها، واستسهالي لأمرها، والحرب والضرب يشهدان بحذقي بهما، وتقدمي فيهما، والقراطيس شاهدة، لإحاطتي بمعرفة ما تتضمنه، والقلم (عالم) لإبداعي فيما يقيده. صَحِبْتُ في الفَلَواتِ الوَحشَ مُنْفَرَداً ... حَتَّى تَعَجَّبَ مِنّي القُوْرُ والأكمُ القور: صغار الجبال، والأكم: جمع أكمة، وهي التل المشرف. ثم قال: صحبت الوحش في الفلوات منفرداً بقطعها، مستأنساً بصحبة حيوانها، حتى تعجب مني سهلها وجبلها، وقورها وأكمها. يَا مَنْ يَعِزُّ عَلَينا أَنْ نُفَارقَهُمْ ... وِجْدَانُنَا كُلَّ شَيء بَعْدكمُ عَدمُ ثم يقول مشيراً إلى سيف الدولة: يا من يعز علينا أن نفارقه، لما أسلف إلينا من فضله، واستوفرناه من الحظ بقربه، وجداننا كل طائل بعدكم، عدم لا نسر به، ومحتقر لا نبتهج له.

مَا كَانَ أَخْلَقَنا مِنْكُمْ بِتَكْرِمَةٍ ... لو أَنَّ أَمْرَكُمُ مِنْ أَمْرِنا أَمَمُ الأمم: القريب. ثم قال: ما كان أخلقنا ببركم وتكرمتكم، وإيثاركم وتقدمتكم، لو أن أمركم في الاعتقاد لنا على نحو أمرنا في الاعتقاد لكم، وما نحن عليه من الثقة بكم. إنْ كَانَ سَرَّكُمُ مَا قَالَ حَاسِدُنَا ... فَما لُحرْحٍ إذا أَرْضَاكُمُ أَلَمُ ثم يقول، مشيراً إلى سيف الدولة: إن كان ما نقله الحاسد لنا، واختلقه الواشي بنا، مرضياً لكم، مستحسناً عندكم، فما نتشكى الجرح إذا أرضاكم مع شدة وجعه، ولا نتكرهه مع استحكام ألمه، حرصاً على موافقتكم، وإسراعاً إلى إرادتكم. وَبَيْنناَ لَوْ رَعَيتُمْ ذَاكَ مَعْرفةُ ... إنَّ المَعَارفَ في أَهْلِ النُّهى ذِمَمُ الذمم: العهود، واحدها ذمة، والمعارف: جمع معرفة، والنهى: جمع نهية، وهي العقل.

ثم قال: وبيننا وصائل المعرفة، ولنا إليكم شوافع الخالصة، إن أحسنتم المراعاة لذلك، والمحافظة عليه، والمعارف عند أمثالكم من ذوي العقول الراجحة، والأحلام الوافرة، ذمم لا يضيع حفظها، ووسائل لا يستجاز ردها. كَمْ تَطْلُبونَ لَنَا عَيْبَاً فَيُعْجِزُكُمْ ... وَيَكْرَهُ اللَّهُ ما تَأْتُونَ والكَرَمُ ثم يقول، مشيراً إلى سيف الدولة، ومعنفاً له في إصغائه إلى الطاعنين عليه: كم تطلبون لنا عيباً تغضون به منا، وتصغون إليه فيما ينقل إليكم، فيعجزكم ذلك وييئسكم، ويبعد عليكم ولا يمكنكم، ويكره الله من ذلك ما تأتونه، ويسخطه ما تحاولونه، ويكرهه الكرم الذي يلزمكم الإنصاف والعدل، ويوجب عليكم المحافظة والفضل. ما أَبْعَدَ والنُّقْصَانَ مِنْ شَرَفي ... أَنَا الثُّرَيَّا وّذَانِ الشَّيْبُ والهَرَمُ ثم قال، فاخرا بنفسه، ومشيراً إلى سلامة عرضه: ما أبعد العيب

والنقصان من شرفي ورفعته، وعرضي وسلامته، أنا في ذلك الثريا، والعيب والنقصان كالشيب والهرم، لا يعلقان بي، كما لا يعلق الشيب والهرم بها، ولا يعرضان لي كما لا يعرض الشيب والهرم لها. لَيْتَ الغَمَام الذي عندي صواعِقُهُ ... يُزيلُهنَّ إلى من عِندهُ الدَّيَمُ الغمام: السحاب، والصاعقة: قطعة من نار تسقط بأثر الرعد الشديد، والجمع صواعق، والديمة: مطر يدوم مع سكون، والجمع ديم. ثم قال، مشيراً إلى سيف الدولة: ليت هذا الملك الذي يشبه الغمام بجوده، ويخلفه بفضله، وعندي منه صواعقه، وتسرع إلى مكارهه، يزيل بيني وبين الحاسدين لي، فينقل تلك الصواعق إليهم، وينجي بتلك المكاره عليهم، فأشاركهم في بؤسه، كما شاركوني في فضله. أرى النَّوى تَقْتَضِيني كُلَّ مَرْحَلةٍ ... لا تَسْتَقلُّ بها الوَخَّادَةُ الرُّسْمُ النوى: البعد، والاقتضاء: معروف، والوخد والرسم: ضربان من سير الإبل، والوخادة من الإبل: التي تسير بالوخد، واحدتها واخدة، والرسم منها: التي تسير بالرسم، واحدتها رسوم. فيقول، معرضاً بما اعتقده من الرحيل عن سيف الدولة، لما تشكاه من

قلة إنصافه له: أرى النوى التي أريدها، والرحلة التي أعتقدها، تقتضيني تجشم كل مرحلة نائية، وشقة بعيدة، لا تستقل بها الوخادة الرسم من الإبل؛ لبعد منالها، ولا تطيقها لشدة مآلها. لَئِنْ تَرَكْنَ ضُمَيْراً عَنْ مَيَامِننا ... لَيحْدُثَنَّ لَمِنْ وَدَّعْتُهُمْ نَدَمُ ضمير: اسم جبل. ثم قال: لئن تركن ضميراً؛ هذا الجبل، يمنة منهن، يريد: رواحله، ليحدثن لمن ودعتهم ندم، على مفارقتي لهم، وأسف على رحيلي عنهم، يشير بذلك إلى سيف الدولة. إذا تَرَحَّلْتَ عَنْ قَوْمٍ وقَدْ قَدَروا ... ألاَّ تُفَارِقَهُمْ فالرَّاحِلُونَ هُمْ رحل الرجل: إذا تحول عن منزله، ورحلته أنت، إذا فعلت ذلك به. ثم قال، موجباً على سيف الدولة الملامة في رحلته، وقائماً في ذلك عن نفسه بحجته: إذا رحل الراحل عن قوم وهم قادرون على إزاحة

علته، واستقرا به بإسعاف رغبته، وأغفلوه حتى يرحل عنهم، وينقطع بالزوال منهم، فهم الذين رحلوه وأزعجوه، وحركوه وأخرجوه. شَرُّ البِلادِ مكانُ لا صَديقَ بِهِ ... وَشَرُّ ما يَكْسِبُ الإنْسانُ ما يَصِمُ الشيء يصم الشيء: إذا عابه، والوصم: الصدع، وشبه العيب في الحسب بذلك. فيقول: شر البلاد بلاد لا يوجد فيها من يؤنس بوده، ويسكن إلى كرم فعله، وشر ما كسبه الإنسان ما عابه ووصمة، وأذله وانتقصه. يريد: أن هبات سيف الدولة مع كثرتها، وجلالتها، وسعتها، لا تعادل تقصيره به، وإيثاره لحساده عليه. وَشَرُّ ما قَنَصتْهُ رَاحَتي قَنَصُ ... شُهْبُ البُزَاةِ سَوَاءُ فِيهِ والرَّخَمُ الاقتناص: التصيد، والشيء المصيد قنص. ثم قال: وشر ما ظفر به القانص، قنص يشترك فيه البزاة الشهب مع رفعتها، والرخم الساقطة مع دناءتها وضعتها، يشير إلى أن ما أولاه سيف الدولة من بره، وأظهره عليه من إحسانه وفضله، شاركه فيه من حساده أهل الغباوة، ونازعه إياه أهل العجز والجهالة.

بِأيَّ لَفْظٍ تَقُولُ الشَّعْرَ زِعْنِفَةُ ... تَجُوزُ عِنْدكَ لا عُرْبُ ولا عَجمُ الزعنفة: السقاط من الناس، وهذا الاسم مأخوذ من زعانف الجلد، وهي أطرافه وسواقطه. فيقول لسيف الدولة: بأي لفظ تقول الشعر زعنفة، أرذال يجوزون عندك، ليسوا عرباً فصحاء فتحمدهم، ولا عجماً لكنا فتعذرهم، يترفعون عن العجم ولا يفوتونهم، ويتشبهون بالعرب ولا يلحقونهم. وهذه العبارة وإن لم تكن في لفظه، فهي مفهومة من حقيقة قصده. هَذا عِتابُكَ إلاَّ أَنَّهُ مِقَةُ ... قَدْ ضُمَّنَ الدُّرَّ إلاَّ أَنَّه كَلِمُ المقة: المحبة، والكلم: جمع كلمة. ثم قال لسيف الدولة: هذا عتابك، وهو وإن أمضك، مقه خالصة، ومودة صادقة، فباطنة غير ظاهره، كما أنه قد ضمن الدر بحسنه، وإن كان كلما معهوداً في ظاهر لفظه.

ولما أنشد هذه القصيدة وانصرف، كان في المجلس رجل يعاديه، فكتب إلى أبي العشائر على لسان سيف الدولة كتاباً إلى إنطاكية، يشرح له فيه ذكر القصيدة وأغراه به، فوجه أبو العشائر عشرة من غلمانه، فتوقفوا قريباً من باب سيف الدولة في الليل، وأنفدوا إليه رسولا على لسان سيف الدولة، وسار إليه، فلما قرب منهم، ضرب راجل بين أيديهم بيده إلى عنان فرسه، فسل أبو الطيب السيف، فوثب الراجل عنه، وتقدمت فرسه به الخيل فعبر قنطرة كانت بين يديه، فأصاب أحدهم نحرة فرسه بسهم فانتزعه، واستقلت الفرس به، وتباعد بهم ليقطعهم من مدد أن كان لهم، ورجع عليهم بعد أن فني النشاب، فضرب أحدهم بالسيف فقطع الوتر وبعض القوس، وأسرع السيف في ذراعه، فوقفوا عليه، وسار وتركهم، فلما يئسوا منه قال له أحدهم: نحن غلمان أبي العشائر، فلذلك قال: ومُنْتَسِبٍ عِنْدي إلى مَنْ أُحِبُّهُ ... وَلِلَّنْبلِ حَوْلي من يَديْهِ حَفيفُ

هي خمسة أبيات قد تقدمت، وألحقت بمدح أبي العشائر، وقد كنا شرطنا على رأسها أن نشرحها هاهنا. وعاد أبو الطيب إلى المدينة في الليلة الثانية مستخفياً وأقام عند صديق له، والمراسلة بينه وبين سيف الدولة، وسيف الدولة ينكر أن يكون فعل ذلك، أو أمر به، فعند ذلك قال أبو الطيب هذه الأبيات، وكتب بها إليه. أَلاَ ما لِسَيْفِ الدَّوْلةِ اليَوْمَ عَاتباً ... فَدَاهُ الوَرَى أَمْضى السُّيوفِ مَضَارِبا مضارب السيف: ما تشتمل عليه حداه. فيقول: ألا ما لسيف الدولة اليوم عاتباً على، مع تأميلي له، معرضاً عني، مع استحكام ثقتي به، فداه الورى مما يكرهه، ووقاه جميعهم ما يحذره، فإنه أمضى السيوف وأنفذها، وأقطعها وأصرمها.

وَمَالي إذا مَا اشْتَقْتُ أَبْصَرتُ دُونَهُ ... تَنائفَ لا أَشْتَاقُها وسَبَاسِبا التنائف: القفار، والسباسب: نحو ذلك. ثم قال: ومالي إذا ما اشتقت إليه، ألفيت دونه من حجب المخافة، وعوائق المهابة، تنائف لا أشتاق مثلها، وسباسب لا أريد قطعها، وسمي تلك العوائق تنائف وسباسب، على سبيل الاستعارة، وحذف إليه من الكلام وهو ينوي ذكره، لما في الكلام من قوة الدلالة عليه. وَقَدْ كَانَ يُدْني مَجْلسي مِنْ سَمَائهِ ... أُحَدَّثُ فِيهِ بَدْرِها وَالكَوَاكِبا ثم قال: وقد كان قبل موجدته علي، يدني مجلسي من حضرته، التي هي السماء في رفعتها، فأحدث منه البدر بهاء وجلالة، وأحدث من جلسائه الكواكب علوا ورئاسة، وجرى على نحو ما قدمناه من الاستعارة. حَنَانَيْكَ مَسْئُولاً وَلَبَّيْكَ دَلعياً ... وحَسْبي مَوْهوباً وحَسْبُك وَاهَبا

الحنان: الرحمة، وحنانيك مصدر بمعنى التحنن، ثني على سبيل المبالغة، كأن المتكلم يقول للمخاطب: تحننا بعد تحنن منك، ولبيك مصدر ثني بمعنى المبالغة أيضاً، وتأويله: مداومة على طاعتك، وهو مأخوذ من قولهم: ألب بالمكان: إذا أقام به. فيقول لسيف الدولة: حنانيك مسئولاً صفحك، ولبيك مرجواً عفوك، وحسبي موهوباً ذلك منك، وحسبك واهباً له، ومتطولاً به. أَهَذا جَزَاءُ الصَّدقِ إنْ كُنْتُ صَادقاً ... أَهَذا جَزَاءُ الكِذْبِ إنْ كُنتُ كاذباً الكذب: الكذب. ثم قال لسيف الدولة: أهذا الإعراض منك جزاء الصدق إن كنت صادقاً فيما أدلى به من المعذرة، أو جزاء الكذب مع ما أظهره من استدعاء العفو والرحمة. وإنْ كَانَ ذَنْبي كُلَّ ذَنْبٍ فَإنَّهُ ... مَحَا الذَّنْبَ كُلَّ المَحْو مَنْ جَاَء تَائبِا ثم قال: وإن كنت غير صادق في العذر، ومتقلداً حقيقة الذنب.

ففي ما التزمته من التوبة، واستدعيته من المغفرة، ما يمحو الذنب ويذهبه، وينسيه ويسقطه، فالذنوب ممحوة بالتوبة، مغفورة بالإنابة والرجعة. وهذا الكلام وإن كان فيه زيادة على لفظه، فهو مفهوم من حقيقة قصده.

ودخل على سيف الدولة بعد تسع عشرة ليلة، فتلقاه الغلمان، وأدخلوه إلى خزانة الكسوة، فخلع عليه وطيب، ثم دخل على سيف الدولة، فسأله عن حاله وهو مستحيي، فقال له أبو الطيب: رأيت الموت عندك خير من الحياة بعدك، فقال له سيف الدولة: بل يطيل الله بقاءك، ودعا له، ثم ركب أبو الطيب، فأتبعه سيف الدولة خلعاً وطيباً كثيراً وهدية، فقال أبو الطيب يمدحه، ويعتذر إليه: وأنشدها في شعبان سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة. أَجَابَ دَمْعي وَمَا الدَّاعي سِوَى طَلَلَ ... دَعَا فَلبَّاهُ قَبْلَ الرَّكْبِ والإبْل الطلل: ما أشرف من آثار الديار، والتلبية: الإقامة على الإجابة. فيقول: إنه وقف بدار محبوبته، فأشجاه ما شاهده من دروس

رسومها، وتغير طلولها، واستثار ذلك حزنه، واستدعى بكاءه، فأجاب دمعه تلك الدعوة، وأسعد على تلك النية، قبل أن يجيب ذلك بعض الركب بالتأسف. وأشار إلى نفسه وبعض الإبل بالحنين، وأشار إلى ناقته، والشعراء يصفون مطاياهم بالحنين إلى ديار الأحبة، كما يصفون بذلك أنفسهم. وقد كشف أبو الطيب هذا المعنى حيث يقول: أثْلثْ فإنّا أَيُّها الطَّلَلُ ... نَبْكي وتُرْزَمُ تَحْتَنَا الإبلُ ظَلِلْتُ بَيْنَ أُصَيْحابي أَكَفْكِفُهُ ... وَظَلَّ يَسْفَحُ بَيْنَ العُذْرِ وَالْعَذَلِ ظللت أفعل الشيء ظلولاً: إذا أخذت فيه وأقبلت عليه. وكفكفت الدمع وغيره: إذا حاولت إمساك ذلك وصرفه، وسفح الدمع يسفح سفحاً وسفوحاً: إذا سال. ثم قال: يصف انسكاب دمعه، واستكفافه له متستراً بوجده: ظللت أكف الدمع بين أصحابي، وصغرهم مظهراً للإعجاب بهم، والعرب تفعل ذلك، ثم قال: وظل الدمع يسفح بين ما أبسطه عندهم من العذر، وما يهدونه إلي من العذل.

أَشْكُو النَّوَى وَلَهُمْ مِنْ عَبْرَتي عَجَبُ ... كَذاكَ كَانتْ وما أشكو سوى الكلل النوى: البعد، والعبرة: الدمع. فيقول: إنه يشكو نوى محبوبته وانتزاح دارها، وما يبعث ذلك من وجده بها، وأصحابه يعجبون من عبرته، ومن بكائه وكثرته، فاستغرب عجبهم، فقال: قد كانت عبرتي على هذا الحال، ولست أشكو مانعاً دون من أحبه، إلا الكلل التي تتضمنه، والستور التي تحجبه، والدار واحد، والمنازل متجاورة، فكيف ظنكم بي، وأنا أشكو النوى التي تمنع منه، والبعد الذي يؤيس عنه؟ وَمَا صَبَابَهُّ مُشْتَاقٍ عَلَى أَمِلٍ ... منَ اللَّقاءِ كَمُشْتَاقِ بلا أَمِل ثم قال: وما صبابة مشتاق على أمل من لقاء من يحبه، بقرب الدار، ودنو المحل، كصبابة مشتاق لا أمل له في ذلك، لتباعد محبوبته، و، نأي داره، وانتزاح محله. مَتَى تَزُرْ قَوْمَ مَنْ تَهْوى زِيَارَتها ... لا يُتْحِفُوكَ بِغَير البِيْضِ والأَسَل البيض هاهنا: السيوف، والأسل: الرماح، والإتحاف: الإطراف بالهدية.

ثم يقول: متى تزر قوم محبوبتك التي استقرارها فيهم، لا يتحفوك إلا بالسيوف والرماح، منتهزين لغرتك، وطالبين لمهجتك، ومستريبين لزيارتك. فدل على تعذر زيارة محبوبته، مما هي بسبيله من المنعة، وموضعها من الاعتزاز والرفعة. والْهَجْرُ أَقْتَلُ لي مَّمِن أُرَاقُبهُ ... أناَ الغَريقُ فَمَا خَوْفي من البَللِ ثم قال: وهجر من أحبه أقتل لي من سلاح من أراقبه، وموقع ما أحذره من الرقيب، في جنب ما أشكوه من هجران الحبيب، كموقع البلل عند الغريق، الذي هو أقل ما يحذره، وأهون ما يخافه ويتوقعه. ما بَاُل كُلَّ فُؤَادٍ في عَشيرتِها ... بِهِ الّذي بي وَمَا بي غَيْرُ مُنْتَقلِ ثم يقول: إن محبوبته بارعة الحسن، معشوقة الدل، كل قلب في عشيرتها به الذي بأبي الطيب من حبها، فما بال ذلك لا يخفف عنه من الكلف بها؟ وما بال حبها في قلبه ثابت لا ينتقل، ومقيم لا يرتحل؟ مُطَاعةُ اللَّحْظِ في الألَحاظِ مَالكِةُ ... لُمِقْلَتْيها عظِيمُ المُلْكَ في المُقَلِ

ثم وصف موضع محبوبته من الحسن، فقال: إن ألحاظها مطاعة في الألحاظ المعشوقة، وأنها في الحسان مالكه لا تماثل، ومقدمة لا تشاكل، وأن لمقلتيها في المقل عظيم الملك، ورفيع المنزلة والقدر. تَشَبَّهُ الخَفراتُ الآنِساتُ بها ... في حُسْنِها فَيَنْلنَ الحُسْنَ بَالحِيَلِ الخفرات: الحييات، والواحدة خفرة، والآنسات: الحسان الحديث، الواحدة آنسة. ثم قال: إن الخفرات الآنسات يتشبهن بها في مشيها، ويرمن حكايتها في دلها، فيكسبهن ذلك نيل الحسن بالتحيل، والوصول إليه بالتعمل. قَدْ ذُقْتُ شِدَّةَ أَيَّامي وّلَذَّتها ... فمَا حَصَلْتُ عَلَى صَابٍ وَلاَ عَسَل الصاب: شجر مر فيقول: قد ذقت شدة أيامي وصعوبتها، ولذتها ورفاهيتها، فما حصلت على صاب من مرها، ولا عسل من حلوها؛ لأن لذات الأيام ومكارهها منتقلة فانية، ومستحيلة زائلة، تتعاقب ولا تدوم، وتنتقل ولا

تقيم، وما كان كذلك، فليس يقطع على استكراه مرة، ولا يحتم على استعذاب حلوه. وَقَدْ أَرَاني الشَّبابُ الرُّوح في بَدَني ... وَقَدْ أَراني المَشِيبُ الرُّوح في بَدَلي ثم قال: وقد صحبت الشباب مسروراً به، وأراني الروح في بدني مرتاحاً له، ثم صحبت المشيب مستكرها لصحبته، وأراني الروح في بدلي؛ بتغير أحوالي في مدته، فأشار إلى أن حقيقة أمور الإنسان أيام شبيبته وقوته، ثم يتبدل بالانتقال إلى مشيبه وكبرته. وقد طَرَقْتُ فَتَاة الحيَّ مُرْتديا ... بِصاحبٍ غَيْر عِزْهَاة ولا غَزلِ العزهاة: الذي لا يطرب للسماع، والغزل: الذي يحب اللهو والغزل. فيقول: وقد طرقت فتاة الحي مرتديا بالسيف، وأشار إليه بما وصفه، فقال: إنه صاحب غير عزهاة، لا يطرب للسماع، ولا غزل يحن إلى اللهو. فَبَاتَ بَيْنَ تَراقِينا نُدَفَّعُهُ ... وَلَيْسَ يَعْلَمُ بالشَّكوى وَلاَ القُبَلِ الترقوة: العظم الذي بين المنكب وبين ثغرة النحر، وجمعه تراق.

ثم قال: فبات بين تراقينا، يشير إلى ما كان عليه من الحذر والرقبة، والتوقع والمخافة، وأنه لم يخلع السيف عن نفسه حين معانقته لمحبوبته، وأنهما كانا يدفعانه، وهو لا يعلم بالشكوى المتواصفة بينهما، وما كان يتصل بذلك من الغزل والتجميش والقبل. ثُمَّ اغْتَدَى وَبِهِ مِنْ رَدْعِها أَثَرُ ... عَلَى ذُؤابَتِهِ والجْفنِ وَالخِلَلِ الردع: أثر الخلوق، وذؤابة السيف: رأس قائمه، وذؤابة كل شيء أعلاه، وجفن السيف: غمده، والخلل: جلود منقوشة على أغماد السيوف، واحدها خلة. ثم اغتدى، يريد: السيف، وبه آثار من طيبها ظاهرة على ذؤابته، وعلى جفنه وخلله، وهذه المواضع منه هي التي وليتها محبوبته في حين دفعها له، وإزاحتها إياه. لا أَكْسِبُ الذَّكْرَ إلاَّ مِنْ مَضَاربهِ ... أو منْ سِنان أَصَمَّ الكَعْبِ مُعْتَدلِ كعوب: الرمح: العقد الناشزة بين أنابيبه، والرمح الأصم الكعب: هو الذي تصلب تلك الكعوب منه وتكتنز، وتتداخل ولا تنتشر، وبذلك يعتدل خلقه، ويشتد أسره.

فيقول: لا أكسب جميل الذكر إلا من مضارب هذا السيف الذي وصفه، أو من سنان رمح أصم الكعب، معتدل المتن؛ يريد: أنه لا يكتسب الحمد إلا بجرأة نفسه، وشدة بطشه، ومشهور بأسه. جَادَ الأَمِيرُ بِهِ لي في مَوَاهبهِ ... فَزَاتها وَكَساني الدَّرْعَ في الحُللِ ثم خرج إلى مدح سيف الدولة، وذكر الهبة التي وهب له، فقال: جاد الأمير لي بالسيف في مواهبه فزانها بموضعه، وكساني الدرع في حلله، وحصني بها في خلعه فحسنها بشرفه، فأشار إلى أن ذلك لعلمه بحال أبي الطيب في الشجاعة، ومنزلته في الإقدام والصرامة. ومن علي بن عبد الله معرفتي ... بجمله من كعبد الله أو كعلي ثم يقول: ومن علي ومن علي بن عبد الله؛ يريد: سيف الدولة، معرفتي بحمل الرمح والطعن به، لأني لما صحبته، احتذيت حذوه في الحرب،

وامتثلت أفعاله في الطعن والضرب، ومن كعبد الله أو كعلي ابنه في شدة بأسهما، وشهرة مجدهما؟ مُعْطي الكَواعِبِ والجُرْدِ السَّلاَهب وَالْ ... بِيِضِ القَوَاضب والْعَسَّالةِ الذُّبلِ الكواعب من النساء: اللواتي نبتت ثديهن، والجرد من الخيل: التي يقصر شعر جلودها، وذلك من شواهد كرمها، والسلاهب منها الطوال، والقواضب من السيوف: القواطع الماضية، والعسالة من الرماح، المنعطفة عند هزها، والذبل: اليابسة منها. ثم قال، يريد: سيف الدولة، معطي الكواعب المصيبات بحسنهن، والجرد المعجبات بعتقهن، وقواضب السيوف، وطوال الرماح، وأشار بوصفه، بالإكثار من هبة هذه الأصناف، إلى أنه يستصحب كماة الفرسان، وأعلام الشجعان فيعتمدهم في هباته بما يوافقهم، ويقصدهم بما شاكلهم. ضَاقَ الزَّمَانُ وَوَجهُ الأَرْضِ عَنْ مَلِكٍ ... مِلءِ الزَّمانِ وملءِ السَّهْلِ والجَبلِ ثم يقول: إن سيف الدولة لغرابة أفعاله، وانفراده بالفضل في

جميع أحواله، وما يتابعه من كثرة وقائعه، ويخلده من جليل مكارمه، وظفره في جميع مقاصده؛ يحمل الزمان من ذلك ما لا يضبطه، ويكلفه ما لا يعهده، فيضيق عن فخامة قدره، ويقصر عن جلالة مجده، وكذلك تضيق الأرض عما يحملها من جيوشه، ويسير فيها من جموعه، فقد ملأ الزمان بمكارمه ومجده، وملأ السهل والجبل بكتائبه وجمعه. فَنَحْنَ في جَذلٍ والرُّومُ في وَجَلٍ ... والبَرُّ في شُغُلٍ وَالْبَحْرُ في خَجَلِ ثم قال: فنحن من الاعتزاز به في جذل دائم، والروم من التوقع له في وجل لازم، والبر في شغل لتضايقه بجيشه، والبحر في خجل لتقصيره عن جوده. مِنْ تَغْلبَ الغَالبينَ النَّاسَ مَنْصِبُهُ ... وَمِنْ عَديَّ أَعادي الجُبْنِ والبَخَلِ المنصب: الأصل ثم يقول: إن سيف الدولة أصله من تغلب، هذه القبيلة التي غلبت الناس بعزها، وانقادوا في الجاهلية والإسلام لأمرها، مع أنه منها،

(هو) من بني أطواد فخرها، ومعادن مجدها؛ أعادي الجبن والبخل، والمشهورين بالبأس والفضل، وجانس بين تغلب والغالبين، وبين عدي، وأعادي الجبن، والمجانسة اتفاق اللفظ مع اختلاف المعنى، وذلك من أبواب البديع، وقد بيناه فيما تقدم. والمَدْحُ لابِن أَبي الهَيْجاءِ تُنْجدهُ ... بالجَاهليةِ عَيْنُ العِيَّ والخَطلِ الخطل: عجلة تبعث على الخطأ، والإنجاد: التأييد والعون. ثم قال، يريد: سيف الدولة، ويخاطب نفسه: والمدح لأبن أبي الهيجاء تنجده بأخبار الجاهلية، وما سلف له من كرم الأولية؛ عي بين، وخطل ظاهر؛ لأنه غني عن التشرف بغيره ومحرز لغاية ما يبلغه المدح بنفسه، والكرماء بجملتهم يقصرون عن أقل مكارمه، ولا يبلغون أيسر فضائله. لَيْتَ المَدائَحَ تَسْتَوْفي مَنَاقِبَهُ ... فَما كُلَيْبُ وَأَهْلُ الأَعْصُر الأُوَل؟ كليب بن ربيعة: هو رئيس بني تغلب وسيدهم في الجاهلية، وضربت العرب المثل بعزه، فكانوا يقولون: أعز من كليب بن وائل.

فيقول: ليت المدائح تستوفي مناقيب سيف الدولة، وتأتي على ذكر مكارمه، فما كليب وسائر الملوك الأولين عند ما خلده من الفخر، وأبقاه من المكارم على وجه الدهر؟ خُذْ مَا تَراهُ وَدَعْ شَيْئاً سَمِعْتَ بَهَ ... في طَلْعَةَ ما يُغْنِيكَ عَنْ زُحِلِ ثم قال، يخاطب نفسه: خذ ما تراه من فضله، وصف ما تشاهده من مجده، ودع شيئاً سمعت له ولم تشهده، وأخبرت به عنه ولم تبصره، ففضل سيف الدولة على الملوك كفضل الشمس على سائر النجوم، وفيه ما يغني عنهم، وهو أكرم بدل منهم، كما أن الشمس تغني عن زحل، وفيها منه كرم بدل. وَقَدْ وَجَدْت مَكَانَ القَوْلِ ذَا سَعَةٍ ... فإنْ وَجَدتَ لِسَلناً قائلاً فَقُلِ ثم قال: وقد وجدت في سيف الدولة وما يبديه من مجده، ويتابعه من فضله، مكاناً للقول، ومجالاً واسعاً للوصف، فإن كنت ذا لسان قائل، فحسبك وصف فضائله، وذكر ما يخلده من مكارمه. إنَّ الهُمامَ الذي فَخْرُ الأَنَام بِهِ ... خَيْرُ السُّيوفِ بِكَفَّي خَيْرهِ الدُّولِ

خيرة: تأنيث خير، قال الله عز وجل (فيهن خيرات حسان). الواحد خيرة. فيقول مشيراً إلى سيف الدولة: إن الهمام الذي يفخر به الفاخرون، ويلهج بذكره الذاكرون، خير السيوف المسلولة بكفي خيرة الدول المعلومة. تُمْسيِ الأَمَانيُّ صَرْعَى دُونَ مَبْلغِهِ ... فَمَا يَقُولُ لِشيءٍ لَيتْ ذَلَك لي ثم قال: تقصر الأماني عن بلوغ قدره، وتصغر عند جلالة أمره، وتصبح صرعى دون إدراك مجده، فما يتمنى في الرفعة أكثر مما يبلغه، ولا يحاول في الفضل ما يزيد على ما يفعله. وهذه العبارة وإن لم يأت عليها لفظه، فهي مفهومة منه، وغير خارجة عنه. انْظُر إِذَا اجْتَمَعَ السَّيْفَانِ في رَهَجٍ ... إِلى اخِتلافهما في الفَضْلِ والعَمَلِ يقول: انظر إذا اجتمع سيف الدولة والسيف المعهود في رهج حرب، ومساجله جلاد وضرب، إلى تقصير السيف عن فعله، وتأخره عما يستبين من فضله، ومخالفته له في خلقه وعمله، وزيادته عليه في غنائه وأثره.

هَذا المُعَدُّ لِرَيْبِ الدَّهْرِ مُنْصَلِتاً ... أَعِدَّ هَذا لرأَسِ الفَارسِ البْطلِ ثم قال، مشيراً إلى سيف الدولة: هذا المعد لريب الدهر منصلتا على خطوبه، متجردا لكف صروفه، أعد ذلك، يريد: يريد: السيف المعهود، لرأس الفارس البطل، يضرب به ويصرفه، ويمضيه ويستعمله، ويتخذه آلة يدبرها، ويبطش على حسب إرادته بها، فأبان أن السيف وإن وافقه في الاسم، فهو مقصر عنه في حقيقة الحكم. فالعُرْبُ مٍنْهُ مَعَ الكُدْريَّ طَائرةُ ... والرُّومُ طَائرةُ مِنْهُ مَعَ الحَجَلِ الكدري: ضرب من القطا. فيقول: إن عصاة الأعراب لفرقهم من سيف الدولة، يعتصمون منه بما غمض من الرمال، وبعد من المهامه والقفار، وهناك تستقر القطا وتأمن، وتفرخ وتسكن، وكذلك الروم تعتصم منه بالأوعار وقنن الجبال، وتلك مواضع الحجل ومساكنها. وأشار بجمعه بين العرب والكدري، وبين الروم والحجل، إلى مستقر الطائفتين، وما إليه غاية فرار الصنفين، ودل على أن سيف الدولة لا تتعرض الأعداء لحربه، ولا يقاومون شدة بأسه، وإنما يفزعون إلى الاعتصام منه بالفوات النائية، ورؤوس الجبال الشامخة.

وما الفِرارُ إلى الأَجبالِ مِنْ أَسَدٍ ... تَمْشي النَّعَامُ بِهِ في مَعْقلِ الوَعلِ الوعول: شياهُ الجبال، واحدها وعل، ومعقلها: ما ارتفع من الأوعار. ثم قال، مشيراً إلى الروم: وكيف ينجي الفرار إلى الأجبال من أَسد، شديد بأسه، وملك نافذ أمره، تسهل سعادته للنعام التوقل في معاقل الأوعال، حتى كأنها رمال مبسوطة، وسهول موصولة. فدل على أن سيف الدولة في قوة سعده، وتمكن أمره، لا يفوته من طلبه، ولا يمتنع عليه من قصده. جَازَ الدُّرُوبَ إلى مَا خَلْفَ خَرْشَنَةٍ ... وَزَالَ عَنْهما وَذَاكَ الرَّوْعُ لم يَزُلِ الدروب: المسالك التي تكون في الجبال الحاجزة بين بلاد المسلمين وبلاد الروم، وخرشنة: مدينة من مدائن الروم. فيقول في سيف الدولة: إنه اقتحم بلاد الروم، وجاز إليها الدروب، وحصر خرشنة، ورحل عنها متوغلاً في بلاد الروم، فزال عنها والفزع مقيم بها، وفارقها والتوقع ملازم لها؛ لأن أهلها كانوا يحذرون سطوته، ولا يأمنون كرته.

فَكُلَّمَا حَلَمَتْ عَذْراءُ عِنْدهمُ ... فإنَّما حَلَمتْ بالسَّبي والجَملِ ثم قال: فكلما حلمت عذراء من خرائدهم، ومحجوبة من كرائمهم، فإنما تحلم بالسبي الذي تحذر وقوعه، وبالجمل الذي تتوقع ركوبه، والجمال إنما يحمل عليها العرب، ولا تعرفها الروم. فأشار إلى أن كثرة ما اجتلبه سيف الدولة على الجمال من سبيهم، ذعر محجبات نسائهم، فاشتغلت بذلك أنفسهن، ومثلته لهن أحلامهن. إنْ كُنْتَ تَرْضى بأَنْ يُعْطُو الجِزيَ بَذَلُوا ... مِنْها رِضَاكَ ومَنْ لِلْعُورِ بالَحَوَلِ ثم قال، مخاطباً لسيف الدولة: إن كنت ترضى من الروم بجزيتهم، وتتقبل ما يبذلونه لك من طاعتهم، بادروا في ذلك إلى أمرك، واحتملوا على رأيك، وأني لهم بهذه الحظة، والبلوغ إلى تلك الرتبة، مع أحاط بهم من القتل، واتصل فيهم من السبي؟ والجزية عند ذلك، كالحول. عند العور، والآفة المحتملة عند ذهاب البصر.

نَاديْتُ مَجْدَكَ في شعْري وَقَدْ صَدَرَا ... يا غَيْرَ مُنْتَحل في غَيْر مُنْتَحلِ الانتحال: الادعاء، والمنتحل من الشعر والمجد: ما ادعي فيه على غير حقيقته. فيقول لسيف الدولة: ناديت ما خلدته من مجدك، وقيدت ذكره من مدحك، وقد تيقنت أنهما يسيران مسير الشمس، ويبقيان بقاء الدهر، يا خالصاً غير منتحل، في صادق غير منتحل. بالشَّرقِ والغَرْبِ أَقْوامُ نُحِبُهمُ ... فَطَالِعاهُمْ وَكْونَا أَبْلغَ الرُّسُلِ ثم قال: بالشرق والغرب من أحبتنا وخلصائنا وأعزتنا، من نسر بمشاركته في حالنا، ومطالعته بجملة أمرنا، فطالعاهم، وكونا في ذلك أكرم المرسلين، وأعدل الشاهدين. وَعَرَّفاهُم بأَنَّي في مَكَارمهِ ... أُقَلَّبُ الطَّرفَ بَيْنَ الخَيلِ والخَوَلِ الخول: العبيد والحاشية. ثم قال: وعرفاهم بأني مغمور في مكارم سيف الدولة، متصرف في فواضله، أقلب الطرف بين الخيل الرائعة، والحاشية الحافلة.

يأَيُّها المُحِسنُ المشكورُ مِنْ جِهَتي ... والشُّكْرُ مِنْ قبلِ الإحسانِ لا قِبَلي ثم يقول لسيف الدولة: يأيها المحسن بطبعه، المشكور من جهتي بما حملني من فضله، والشكر من قبل إحسانه ورفده، لا من قبلي فيما أهديه من مدحه. مَاكانَ نَوْمي إلاَّ فوقَ مَعْرفَتي ... بأَنَّ رأَيكَ لا يُؤْتَي من الزّللِ يقول: ما كان نومي في حين موجدتك، وطمأنينتي في مدة عتبك وتسخطك، إلا فوق ما كنت أتيقنه من معرفتي، بأن رأيك لا يستزله الساعون ببغيهم، ولا يحيلونه بكذبهم، وكنى بالنوم عن سكون نفسه، وتمهده لمعرفته بسيف الدولة عن حسن ظنه. فأشار إلى ما قصده ألطف إشارة، وعبر عنه أحسن عبارة. أقِلْ أَنِلْ أَطِعْ أحِمْلْ عَلَّ سَلَّ أَعِدْ ... زِدْ هَشَّ بَشَّ تَفَضلْ أَدْنِ سُرَّ صِلِ

ثم يقول لسيف الدولة: أقل من استنهضك من عثرته، وأنل من استعان بفضلك على قلته، وأقطع المنازل والضياع من أملك، واحمل على سوابق الخيل من استحملك، وعل وارفع قدر من اعتلق بك، وسل عن كل مفقود بما تجدده من برك، وتسبغه من فضلك، وتابع ذلك وأعده، وأدمه وجددهن وزد في غدك على ما تسلفه في يومك، وهش ورحب بمن قصدك، وأظهر البشاشة لمن اعتمدك، ودم على ما عهد من تفضيلك، وأدن الوافد عليك، وسره بمتابعة إحسانك، وصل الجميع بتطولك وإنعامك. لعلَّ عَتْبكَ مَحْمودُ عَواقِبُهُ ... فَرُبَّما صَحَّتِ الأَجْسامُ بِالْعِللِ ثم قال: لعل ما أوجبه الواشون من عتبك، وأحدثوه من موجدتك، محمود العاقبة، مشكور الخاتمة، يفضي إلي السعادة بحسن رأيك، ويعقب الحظوة بكريم اختصاصك، فرب علة انقادت بعد شدة، وكانت سبباً لسلامة وصحة. وَمَا سَمِعْتُ ولا غَيْري بِمُقْتدرٍ ... أَذَبَّ مِنْكَ لِزُورِ القَوْلِ عَنْ رَجُل

الزور: الكذب. فيقول لسيف الدولة: وما سمعت، ولا سمع غيري، بملك مثلك، ومقتدر قبلك، يبلغ مبلغك في دفع الزور عن رجل يمتحن به، ورد الكذب عن مطالب يختلق عليه. لأَنَّ حِلْمَكَ حِلْمُ لا تَكَلَّفُهُ ... ليس التَّكَحُّلُ في الْعَيْنينِ كالكَحَلِ ثم قال: وذلك لأن حلمك حلم قد طبعت عليه فما تتكلفه، وخصصت به، فما تتكسبه، وحسن التكحل غير حسن الكحل، وحلم التكلف غير حلم الطبع. وما ثَنَاكَ كَلاَمُ النَّاسِ عَنْ كَرَمٍ ... ومَنْ يَسُدُّ طَرْيقَ العَارضِ الهَطِلِ العارض: السحاب، والهطل منه: الكثير المطر. فيقول لسيف الدولة: وما ثناك عذل الناس لك، على كثرة العطاء، عن كرمك، ولا أخرجوك، بتكثيرهم عليك عن خلقك، وكيف لهم بذلك وجودك كالسحاب الهطل، الذي لا يرد وبله، ولا تسد طرقه؟

أَنْتَ الجَوَادُ بلا مَنَّ ولا كَدَرٍ ... ولا مِطَالٍ وَلا وَعدٍ ولا مَذلِ المذل: الفترة. ثم قال له: أنت الجواد بلا من ينقص جودك، ولا كدر يعارض فضلك، ولا مطال ينازع ذلك، ولا عدة ولا تأخير ولا فترة. أَنْتَ الشُّجَاعُ إذا ما لم يَطَأْ فَرَسُ ... غَيْرَ السَّنوَّرِ والأَشْلاَءِ والقُللِ السنور: السلاح، والأشلاء: بقية أجساد القتلى، واحدها شلو. والقلل: الرؤوس، واحدها قلة. فيقول لسيف الدولة: أنت الشجاع عند اشتداد القتال، وتجالد الأبطال، وسقوط القتلى عن خيولهم، وانفصالهم عن سلاحهم، والخيل لا تطأ غير أشلائهم ورؤوسهم، وسلاحهم وجسومهم. وَرَدَّ بَعْضُ القَنَا بَعْضَنا مُقَارَعَةً ... كَأَنَّهُ مِنْ نُفُوسِ القَوْمِ في جَدَلِ

ثم قال: والقنا يرد بعضه بعضاً بتخالف الطعان، وتقارع الأقران، حتى كأنه لشدة تلك المعارضة، واتصال تلك المقاومة، في جدل لا يقلع، وخصام لا ينقطع. لاَزِلْتَ تَضْرِبُ مَنْ عَادَاكَ عن عُرُضٍ ... بِعَاجلِ النَّصرِ في مُسْتَأْخِرِ الأَجَلِ العرض: الاعتراض من جانب. ثم دعا لسيف الدولة، فقال: لا زلت تضرب أعداءك معترضا لهم، وتعتمدهم مقدماً عليهم، مكنوفاً بنصر يقدمك، معصوماً بأجلِ يستأخر بك.

وأنشد أبو الطيب هذه القصيدة سيف الدولة بحضرة جماعة، فلما بلغ إلى قول أقل أنل. . . البيت، رأى من حضر يعد حروفه ويستكثرها، فأنشده: أَقِلْ، أَنْل، أُنْ، صُنِ، آحمِلْ، عَلَّ، سَلَّ، أَعِدْ ... زِدْ هَشَّ، بَشَّ، هب، اغفر، ْ أَدْنَ، سُرَّ، صِلِ أن: بمعنى ارفق، فيقول: ارفق فيما تبدر إليه من فضلك، وصن بكرمك من يقصدك عن قصد غيرك، وتفسير سائر البيت على ما تقدم. فرآهم يستكثرون الحروف، ويستعظمون سرعة خاطره، فقال: عِشِ، آبْقَ، آسْمُ، سُدْ، قُدْ، جُدْ ... مُرِ، آنْهَ، رِهْ، فِهْ، آسْرِ، نَلْ غظ، ارم، صبِ، آحْمِ، آغْزُ، آسْبِ، ... رُعْ، زُع، دِ، لِ، آثْنِ، بِلْ. وريت الرجل: إذا أصبت رئته، وصب: بمعنى أصب، يقال: صاب

وأصاب بمعنى، ورع: بمعنى أخف، يقال: راع يروع، بمعنى أفزع وأخاف، وزع: بمعنى كف، وبل: بمعنى أمطر. فيقول لسيف الدولة: عش منسياً عمرك، وآبق قريرة عينك، واسم بمكارمك، وسد بفضائلك، وقد الجيوش إلى أعدائك، وجد بعطائك على أوليائك، ومر مسموعاً أمرك، وأنه غير مخالف نهيك، وره أعداءك بظهورك عليهم؛ أي أصب رئاتهم بإيجاعك لهم، وفه لأوليائك بإحسانك إليهم، واسر إلى أعدائك بجيشك، ونل ما تبغيه بسعدك، وغظ بظهورك من يحسدك، وارم ببأسك من يخالفك، وصب من تعتمده برميك، واحم ذمارك بهيبتك، واغز الروم بجموعك، واسب بجيوشك ذراريهم، ورع بمخافتك آمنهم، وزع بوقائعك متسلطهم، وأحمل الديات متفضلا بذلك، ول الأمصار مشكوراً في ولايتك، وآثن الأعداء عنها بحمايتك، ونل عفاتك بجودك، وأمطر عليهم سحائب فضلك. وهذا دُعَاءُ لو سَكَتُّ كُفِيتُهُ ... لأَني سَأَلْتُ اللَّهَ فيكَ وقد فَعَلْ

يريد: أن جميع ما دعا به لسيف الدولة معهود منه، مضمون له، معلوم فيه، فلو أمسك عما دعا به لكان قد كفى ذلك؛ لأنه إنما سأل الله ما قد فعله، وأعمل الرغبة إليه فيما قد مكنه.

فقال له سيف الدولة: أيمكن أكثر من هذا، فقال: نعم، ولكنه يغمض، فاستحسن سيف الدولة ومن حضر القصيدة وما جرى، وأطنبوا في ذكره ووصفه، فقال: إنَّ هذَا الشَّعْرَ في الشَّعْرِ مَلِكْ ... سَارَ فَهْوَ الشَّمسُ والدُّنيا فَلَكْ الفلك: مدار الشمس والنجوم. فيقول: إن شعره في سائر الأشعار كالملك في الرعية؛ يعلو عليها وتتواضع له، ويكبر عنها وتصغر عنه، وإنه لحسنه وبراعة وصفه، يسير مسير الشمس، ويبقى بقاء الدهر، والدنيا له كالفلك للشمس، تشتمل على سيره، وتستنير ببراعته وحسنه. عَدَلَ الرَّحْمنُ فيه بَيْنَنا ... فَقَضَى باللَّفظِ لي والمَدْحِ لَكْ ثم قال لسيف الدولة: عدل الرحمن فيه بيني وبينك، فقضي لي بالإبداع في نظمه، وقضى لك بما تخلد من المجد في لفظه.

فإذا مَرَّ بِأْذْنَيْ حَاسِدٍ ... صَارَ ممن كَانَ حَيَّاً فَهَلَكْ ثم قال: فإذا مر بأذني شاعر يحسدني، أو ملك يحسدك، صار ذلك الحاسد ممن كان حياً فأهلكه الحسد؛ لأنه لا يقوم للملك أمل في أن يدرك ما خلده لك مدحه، ولا يقوم للشاعر أمل في أن يدرك ما خلده لي نظمه.

وحضر مجلس سيف الدولة في شوال سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، وبين يديه نارنج وطلع، وهو يمتحن الفرسان، فقال سيف الدولة لابن جش، رئيس المصيصة الكاتب: لا تتوهم هذا للشرب، فقال أبو الطيب ارتجالاً: شَديدُ البُعْدِ من شُرْب الشَّمُولِ ... تُرُنْجُ الهِنْدِ أو طَلْعُ النَّخِيلِ الشمول: الخمر، سميت بذلك لأنها تشمل القوم بريحها، وترنج الهند: النارنج، وطلع النخيل: أول ما ينعقد فيه من ثمرته، وتنشق عنه أغشيته، فيسمى ذلك العقد حينئذ طلعاً، وتسمى الأغشية المنشقة كافوراً. فيقول لسيف الدولة: ترنج الهند، وهو النارنج، أو طلع النخيل، شديد بعدهما في مجلسك عن شرب الشمول، وإن كان غيرك يتخذهما لذلك؛ لأن هذه الحال غير مظنونة بك، وإنما استحضارك لهما ولما يشاكلهما من الرياحين استمتاعاً بحسن ذلك، لا مخالفة فيه إلى ما يكره، واستجازة لما لا يحسن.

وَلِكنْ كُلُّ شَيءٍ فيه طِيْبُ ... لَدَيْك مِن الدَّقيقِ إلى الجَليلِ ثم قال، مؤيداً لما قدمه: ولكن استحضارك للنارنج والطلع، لأنهما طيبان، وكل طيب في حضرتك، وغير معدوم فيما تقع عليه مشاهدتك، مما دق من ذلك إلى ما جل، وما قل من ذلك إلى ما كثر. وَمَيْدَانُ الفَصَاحَةِ والقَوافي ... وَمُمْتَحَنُ الفَوارِسِ وَالخُيُول الميدان: حيث تتسابق الخيول. ثم قال: وكذلك لديك ميدان السباق في النظم والنثر، والتباري في الفصاحة والشعر، وممتحن الفوارس والخيل بالتسابق والتجاول، والتطارد والتساجل، هذا الذي تعمر به حضرتك، وتنزع إليه همتك.

وكان بالحضرة قوم، زعم بعض الرواة أن ابن خالويه اللغوي كان متملكهم، فزعموا أنهم لم يفهموا مقصد أبي الطيب، وأن تعبيره قصر عن بيان ما أراده، وأنكر عليه ابن خالويه ترنج، وزعم أن المعروف أترنج، فاستشهد أبو الطيب بما رواه يعقوب من أن ترنجا وأترنجاً مقولان، ثم قال: أَتْيتُ بِمَنْطِقِ العَربِ الأَصيلِ ... وكانَ بقَدْرِ ما عانَيْتُ قِيْلي الأصل من كل شيء: الثابت، والقول والقيل: بمعنى واحد، وهذا مما جاء منه فعل وفعل بمعنى، وقلبت الواو ياء في قيل؛ للكسرة التي قبلها. فيقول: أتيت بمنطق العرب الذي لا ينكر صوابه، ولا تدفع صحته،

بل هو الأصيل الثابت، والمشهور البين، وكان قولي بقدر ما عانيت، وعلى حسب ما شاهدت. فَعَارَضَهُ كَلاَمُ كَانَ مِنْهُ ... بِمَنْزِلةِ النَّساءِ مِنَ البُعُولِ ثم قال: فعارضه كلام ساقط، وإنكار ضعيف؛ موقع ذلك الضعف من قوته، وذلك السقوط من رفعته، موقع النساء من البعول، والرعية من الملك الجليل. وَهَذا الدُّرُّ مَأَمونُ التَّشَظّي ... وأَنْتَ السَّيْفُ مأمونُ الفُلولِ التشظي: زوال شظايا الشيء؛ وهي شقفه، واحدتها شظية. فيقول، مشيراً إلى شعره: وهذا الدر الذي لا يخاف تشظيه، ولا يمكن الاعتراض فيه، وأنت تخاطب سيف الدولة؛ السيف الذي يؤمن انفلاله، ولا يخاف نبوه ولا انثناؤه. وَلَيسَ يَصِحُّ في الأَفْهَامِ شَيْءُ ... إذا احتاجَ النَّهارُ إلى دَليلِ ثم قال: وليس يصح في الأفهام شيء، إذا لم يصح ما أنظمه، ويفهم ما أورده؛ لأن ذلك كالنهار الذي لا تطلب الأدلة عليه، ولا تمكن أحداً المخالفة فيه.

الفاترة، وألحاظك الفتانة الساحرة، من أبصرها تمكن العشق به، ومن شاهدها تزين الحب له. وَبَينَ الرَّضا والسُّخطِ والقُربِ والنَّوى ... مَجَالُ لِدَمْعِ المُقْلَةِ المُتَرَقْرِقِ النوى: البعد، والدمع المترقرق: الذي يجول في العين ولا ينحدر. فيقول: وبين ما أرجوه من رضا من أحبه، وأحذره من سخطه، وما أتمناه من اقترابه، وأخافه من بعده، مجال للدموع التي تستكف حذراً للرقيب، وتترقرق في المقل كلفاً بالحبيب. وَأَحْلَى الهَوَى مَا شَكَّ في الوصل رَبُّهُ ... وَفي الهَجْرِ فَهْوَ الدَّهْرَ يَرْجُو وَيتَّقي رب الشيء: مالكه والمدبر له. ثم قال، منبهاً على استبصاره في حبه، واغتباطه بحاله: وأحلى الهوى وأعذبه، وألذه وأطيبه، ما كان صاحبه فيه بين يأس وطمع، ومخافة وأمل، فهو يحذر الهجر ويتقيه، ويؤمل الوصل ويرتجيه. وَغَضْبَي مِن الإدْلاَلِ سَكْري مِن الصَّبَا ... شَفَعْتُ إليها مِنْ شَبابيِ بِرَّيقِ

الإدلال والصبا: معروفان، والريق: المعجب، وهو فيعل من راق يروق. فيقول: ورب غضبي، غضب إدلال وعجب، لا غضب استكراه وسخط، في سكر من حداثة السن، وتناه في الغنج والحسن، شفع لي إليها من شبابي شافع مطلب، وقابلها منه رائق معجب. وَأَشْنَبَ مَعَسُولِ الثَّنِيَّاتِ وَاضِحٍ ... سَتَرْتُ فَمي عَنْهُ فَقَبَّلَ مَفْرِقي الأشنب: البراق الثغر، والواضح: الأبيض. ثم قال: ورب أشنب، عذب مقبله، معسول ثنياته، واضح شخصه، باهر حسنه، سترت فمي عنه ورعاً وعفة، فقبل مفرقي كلفاً وغبطة. وأَجْيَادِ غِزْلانٍ كَجِيْدِكِ زُرْنَني ... فَلَمْ أَتَبَيَّنْ عَاطِلاً مِنْ مُطَوَّقِ العاطل: الذي لا حلي عليه، والمطوق: الذي يتطوق بالحلي. ثم قال: ورب أجياد غزلان كجيدك في الحسن والبهجة، والتلع.

ودخل على سيف الدولة في ذي القعدة سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة، وقد جلس لرسول ملك الروم، لما ورد يلتمس الفداء، وركب الغلمان بالتجافيف، وأحضروا لبوءة مقتولة، ومعها ثلاثة أشبال بالحياة، وألقوها بين يديه، فقال أبو الطيب: لَقيتَ العُفَاةَ بآمالِها ... وَزُرْتَ العُداةَ بآجالِها وأَقْبَلْتِ الرُّومُ تَمْشي إِلي ... كَ بَيْنَ اللُّيُوثِ وأَشْبَالِهاَ إذا رأَتِ الأُسْدَ مَسْبِيَّةً ... فأَيْنَ تَفِرُّ بأَطْفَالها العفاة: طلاب المعروف، والليوث: الأسد، وأشبالها: أولادها، واحدها شبل. فيقول لسيف الدولة: لقيت عفاتك بما أملوه، من جودك، وزرت عداتك بما حذروه من بأسك، فأنصرت في يديك أعمارهم وقربت بزيارتك لهم آجالهم، ثم قال: وأقبلت رسل ملك الروم تمشي إليك بين الأسد المقتولة وبين أشبالها المغنومة، فإذا رأت الأسد لا تمتنع منك، وسبيها عليك لا يتعذر عليك، فأين تفر بأنفسها، وأين تهرب بأطفالها وذريتها.

وقال أيضاً، يذكر الفداء الذي التمسه الرسول، وكتاب ملك الروم الوارد معه، سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة. لِعْينيكِ مَا يَلْقَى الفُؤَادُ وما لَقِي ... وَللْحُبَّ مَا لَمْ يَبْقَ مِنَّي وَمَا بَقي يقول لمحبوبته: لعينيك وما تضمنتا من السحر، وأثارتاه من كوامن الحب، ما يلقاه قلبي من الوجد فيما يستأنفه، وما لقيه من قبل ذلك فيما أسلفه، وللحب الذي أسلمتني إليه، واقتصرت بي عليه، ما لم يبقه السقم من جسمي مما أفنيته، وما بقي منه مما أنحلته وأَضنيته. وما كُنْتُ مِمَّن يَدْخُلُ العِشْقُ قَلْبَهُ ... وَلَكِنْ مَنْ يُبْصرْ جُفُونَكِ يَعْشَقِ ثم قال: وما كنت من الكلف بالغزل، والإقبال على اللهو واللعب، في حال من يدخل العشق قلبه، ويتملك الحب أمره، ولكن جفونك

والنضرة، زرنني واصلات لي، واعتمدنني معجبات بي، فأعرضت عنهن غير متبين، وغضضت طرفي دونهن غير متتبع، فلم أتبين المطوق الحالي، ولا تحققت المتبذل العاطل. وَمَا كُلُّ مَنْ يَهْوى يَعِفُّ إِذَا خَلا ... عَفَافي وَيُرْضِي الحِبَّ والخَيْلُ تَلتَقي العفاف: الكف عما لا يحل. فيقول: وما كل من يهوى يعف عفافي في خلوته، ويبلغ مبلغي في طاعة مروءته، ويرضي الحب متبارية، بظهور بأسه وشجاعة نفسه. سَقَى اللَّهُ أَيَّامَ الصَّبا ما يَسُرُّها ... وَيَفعلُ فِعْل البابِليَّ المُعَتَّقُ البابلي: شراب نسبه إلى بابل، وهو بلد، والمعتق: القديم الاعتصار. ثم قال، متذكراً لأيام شبيبته، وداعياً بالسقيا لمدة فتوته: سقى الله أيام الصبا ما يسرها به، ولقاها ما يغبطها فيه، ويفعل بها فعل

الشراب المصفق، ويطربها إطراب البابلي المعتق. إذا ما لبستُ الدَّهْرَ مُسْتَمْتِعاً بِهِ ... تَخرَّقْتُ والَمْلُبوسُ لم يَتَخَرَّق ثم قال: إذا ما لبست الدهر بطول صحبتي له، واشتملت بكثرة تصرفي فيه، بليت قبل أن أبلي ما ألبسه، وفنيت قبل أن أفني من أصحبه، وهكذا الدهر يبلي من لبسه، ويخلق من صحبه، وذكر اللبس والتخريق على سبيل الاستعارة، وهي من أبواب البديع. وَلَمْ أَرَ كالأَلْحَاظِ يَوْمَ رَحِيلهمْ ... بَعَثْنِ بِكُلَّ القَتْلِ مِنْ كُلَّ مُشْفِقِ يقول: ولم أر كالألحاظ يوم مفارقتي الذين ألفتهم، ولا كفعلها عند رحيل الذين أحببتهم، بعثت لنا القتل مع إشفاق المديرين لها، وهاجت لنا البث مع إخلاص الملاحظين بها، فأوجعت بتفتيرها غير

قاصدة، وقتلت بأسحارها غير عامدة. أَدَرْنَا عُيُونَاً حَائِرَاتٍ كَأَنَّها ... مُرَكَّبةُ أَحْدَاقُهَا فَوْقَ زِئْبَقِ ثم قال: أدرنا عيوناً حائرات بمتابعة لحظها، متعبات بترادف دمعها، كأنما وضعت أحداقها على الزئبق، فهي حائرة لا تسكن، ومتعبة لا تفتر. عَشِيَّةَ يَعْدُونا عَن النَّظرِ البُكا ... وَعَنْ لّذَّةِ التَّوْدِيعِ خَوْفُ التَّفَرُّقِ ثم قال: عشية يعدونا عن النظر إلى من نحبه بكاؤنا لرحلته، ويمنعنا من الالتذاذ بالقرب منه عند توديعه مخافتنا لفرقته. نُوَدَّعُهُمْ وَالبَيْنُ فِينا كَأَنَّهُ ... قَنَا ابْنِ أَبي الهَيْجاءِ في قَلْبِ فَيْلقِ القنا: الرماح: واحدتها قناة، وابن أبي الهيجاء: سيف الدولة، والفيلق: الكتيبة الشديدة. فيقول: نودع من نحبه والبين يفعل بنا فيما يثيره من وجدنا، ويبعثه من حزننا، كفعل رماح سيف الدولة في كتيبة تعترضه، وجماعة تقابله. قَوَاضٍ مَوَاضٍ نَسْجُ داودَ عِنْدها ... إذا وَقَعتْ فيه كَنَسْجِ الخَدَرْنَقِ القواضي: الصادقة، والمواضي: النافذة، ونسج داود: إشارة إلى

الدروع، والخدرنق: ذكر العناكب. ثم وصف تلك الرماح، فقال: إنها قاضية على من تقصده، ماضية على من تعتمده، نسج داود من الدروع، على أنها أحكمها صنعة، وأثبتها قوة، عند تلك الرماح، كنسج العنكبوت في سرعة خرقها لها، ونفاذها فيها. هَوادٍ لأَمْلاَكِ الجيوشِ كأَنَّها ... تَخَيَّرُ أَرْوَاحَ الكُماةَ وتَنْتَقي الهوادي: المهتدية، والانتقاء: القصد إلى ما لا عيب فيه، والكماة: الشجعان. ثم قال: هواد لأملاك الجيوش؛ يريد: أنها عالمة بهم، ميسرة لهم، كأنها تتخير أرواح الكماة على قصد، وتنتقي ملوك الجيوش على عمد. تَفُكُّ عَلَيْهم كُلَّ دِرْعٍ وَجَوْشَنٍ ... وَتَفْرِي إلَيْهِم كُلَّ سُورٍ وَخَنْدَقِ تفك: تحل، وتفري: تقطع. فيقول: إن رماح سيف الدولة تفك على أعدائه كل درع وكل جوشن، بشدة طعن فرسانه، وشجاعة أنفس أصحابه، وأنها لا يعتصم

منها بسور مدينة يعترضها، وخندق حصن يعن لها. يُغِيْرُ بها بَيْنَ اللُّقَانِ وَوَاسِطٍ ... وَيَرْكُزُهَا بَيْنَ الفُراتِ وَجِلَّقِ اللقان: واد في بلاد الروم، وواسط: مدينة من مدائن العراق، والفرات: واد بين العراق والشام، وجلق: واد في بلاد الروم. ثم وصف بعد مغار سيف الدولة بها، وما هو عليه من كثرة الأعمال لها، فقال: يغير بها على عصاة العرب وكفار العجم، ويركزها بين الأرضين، ويأمن به بأس الطائفتين. وَيُرْجِعُها حُمْراً كَأَنَّ صَحِيحها ... يُبَكَّي دَمَاً مِنْ رَحْمَةِ المُتَدَقَّقِ المتدقق: المتكسر. ثم قال: ويرجعها حمراً من دمائهم، معملة في قتلهم، كأن ما صح منها وسلم، يبكي على ما اندق منها وانكسر، وكأنَّ الدمع في ذلك البكاء ما يقطر عن تلك الرماح من الدماء. فَلاَ تُبْلِغَاهُ ما أَقُولُ فإنَّهُ ... شُجَاعُ مَتَى يُذْكَرْ لَهُ الطَّعْنُ يَشْتقِ ثم يقول لصاحبيه: فلا تبلغاه ما أقول من وصف أفعاله، وطعان فرسانه، فإنكما تبعثانه على ذلك؛ لأنه شجاع إذا ذكرت له الطعان اشتاق

إليها، وإذا وصفت له الحرب حرص عليها. ضَرُوبُ بأَطْرَافِ السُّيوفِ بَنَانُهُ ... لَعُوبُ بأَطْرَافِ الكَلاَمِ المُشَقَّقِ البنان: أطراف الأصابع، والمشقق من الكلام: العويص الغامض. ثم وصفه بالنفاذ في الحرابة، والعلم بوجوه الخطابة، فقال: إن يده على عادة من إعمال السيوف؛ فبنانه ضروبة بظباتها، ولسانه على عادة من تصريف غوامض الكلام، وهو مدرك لغاياتها. كَسَائِلِهِ مَنْ يَسْألُ الغيث قَطْرَةً ... كَعَاذِلِهِ مَنْ قَالَ لِلْفَلَكِ آرْفُقِ الفلك: مدار النجوم. ثم قال: كسائله، مع استغنائه عن سؤاله، بما يسبق إليه من نواله، من يسأل الغيث قطرة يسيرة، وهو يمطر عليه سحائب غزيرة، وكعاذله، فيما طبع عليه من بأسه، ويسر له من جوده، من يسألا الفلك الرفق في سيره، والخروج عما طبعه الله عليه في خلقه. لَقَدْ جُدْتَ حَتَّى جُدْتَ في كُلَّ مِلَّةٍ ... وَحَتَّى أَتَاكَ الحَمْدُ مِنْ كُلَّ مَنْطقِ

ثم يقول لسيف الدولة: لقد جدت حتى فاض جودك في كل أمة، وعممت به أهل كل ملة، وأتاك الحمد من جميع ملوك الفرق على حسب نطقهم، وأهدوا إليك الشكر بمبلغ وسعهم. رَأَى مَلِكُ الرُّومِ ارْتِيَاحَكَ للنَّدَى ... فَقَامَ مَقَام المُجْتَدي المُتَمَلَّقِ الارتياح: الطرب، والمجتدي: السائل، والمتملق: المتصنع بإظهار المحبة. ثم قال: رأى ملك الروم ارتياحك للبذل، وبدارك إلى الإنعام والفضل، فقام يسلك مقام المجتدي لك، ويتوددك بالملق فعل المستجير بك. وَخَلَّى الرَّمَاحَ السَّمْهَريَّةَ صَاغِراً ... لأَدْرَبَ مِنْهُ بالطَّعَان وأَحْذَقِ السمهرية: الرماح الصلاب. فيقول، مخبراً عن ملك الروم: أنه عاد بمسألة سيف الدولة، وخضع لطاعته، وخلى الرماح السمهرية له، عالماً بأنه أَحذق منه بالطعن بها، وأدرب في التصريف لها. وَكَاتَبَ مِنْ أَرْضٍ بَعْيدٍ مَرَامُها ... قَرِيبٍ عَلَى خَيْلٍ حَوَالْيكَ سُبَّقِ

وكاتب من أرض ممتنعة عزيزة، متنائية بعيدة، إلا أن مرامها يقرب على خليك السابقة، واستباحتها لا تمتنع على كتائبك الغالبة. وَقَدْ سَارَ في مَسْرَاكَ مِنْها رَسُولهُ ... فما سَارَ إلاّ فَوْقَ هَامٍ مُفَلَّقِ المسرى: الموضع الذي يسار فيه بالليل. ثم قال: وقد سار رسول ملك الروم، عند قصده لك في مواضع سراك من تلك الأرض، فما سار إلا على هام للروم مفلقة، وأشلاء منهم مقطعة. يشير إلى قرب عهد سيف الدولة بالإيقاع بهم، ومبالغته بالقتل فيهم، وأن ذلك أوجب خضوعهم وذلتهم، واستكانتهم ورغبتهم. فَلَمَّا دَنَا أَخْفَي عَلَيْهِ مَكَانَهُ ... شُعَاعُ الحَدِيدِ البارِقِ المُتَأَلَّقِ التألق: اللمعان. فيقول إن رسول ملك الروم لما دنا من سيف الدولة، قابله من شعاع سلاح المتزينين بحضرته، ولمعان الحديد على المتصرفين في خدمته، ما أغشاه فلم يتبين مكانه، وأدهشه فلم يتحقق موضعه. وأَقْبلَ يَمْشي في البِساطِ فما دَرَى ... إلى البَحْر يَمْشي أو إلى البَدْرِ يَرْتَقي

ثم قال: وأقبل يمشي في بساط سيف الدولة، وقد غشيه من هيبته، وملك قلبه من جلالته، ما لا يعرض مثله إلا لمن قصد مصمماً إلى البحر، أو ارتفع مرتقياً إلى البدر. وَلَمْ يَثْنِكَ الأَعْدَاءُ عن مُهَجَاتِهم ... بِمْثلِ خُضُوعٍ في كَلامٍ مُنَمَّقِ التنميق: التحسين. ثم قال لسيف الدولة: ولم تثنك الأعداء عن إتلاف مهجاتهم، وتسليط القتل على جماعاتهم، بمثل الخضوع لأمرك، وتنميق الكلام في الاستجارة بفضلك، وهذه حال الروم معك، ومبلغ طاقاتهم في الاستدفاع لك. وَكُنْتَ إذا كَاتَبْتَهُ قَبْلَ هذه ... كَتَبْتَ إليهِ في قَذَالِ الدُّمُسْتُقِ القذال: مؤخر الرأس، والدمستق: صاحب جيوش الروم. ثم قال لسيف الدولة، زارياً على ملك الروم: وكنت قبل استخذائه لك، واستجارته بك، إذا أردت مكاتبته، كتبت إليه بما تؤثره سيوفك في قذال دمستقه. وكان الدمستق قد جرح في بعض وقائع سيف الدولة على الروم (على الروم)، فأشار أبو الطيب إلى ذلك، ودل به على ضرورة ملك

الروم، إلى ما أظهره من الخضوع. فإنْ تُعْطِهِ بَعْضَ الأَمَانِ فَسَائِلُ ... وإنْ تُعْطِهِ حَدَّ الحُسَامِ فَأَخِلقِ ثم قال لسيف الدولة: فإن تعطه بعض ما سأله من الأمان، فإنما تعطيه خاضعاً قد أذعن بطاعتك، وضارعاً قد صرح بمسئلتك، وإن تعطه حد الحسام غير قابل لمسئلته، ولا مسعف لرغبته، فما أخلقك بذلك. وَهَلْ تَرَك البْيضُ الصَّوَارمُ مِنْهُمُ ... حَبِيْسَاً لفادٍ أو رَقْيقاً لُمِعْتِقِ يقول لسيف الدولة: وهل تركت سيوفك من الروم حبيساً يفدي من إساره، أو رقيقاً يعتق من رقه، يريد: أن القتل أفنى جملتهم، واستأصل عامتهم، وأن ما رغبوه من السلم لا يتلافون به من أفاته القتل، وأفناه الموت. لَقَدْ وَرَدُوا وِرْدَ القَطَا شَفَراتها ... وَمَرُّوا عَلَيْها رَزْدَقاً بُعْدَ رَزْدَقِ شفرات السيوف: حروفها، والرزدق: الصف. ثم قال: لقد وردوا على شفرات السيوف في وقائعك عليهم، كما ترد القطا مواضع شربها، ومجامع وردها، ومروا على السيوف صفاً

بعد صف، وفوجاً بعد فوج، مرور الطير على تلك الموارد، وتكاثرها في تلك المشارب. بَلَغْتُ بِسَيْفِ الدَّولَة النُّورِ رُتْبَةً ... أَنَرْتُ بِهَا مَا بَيْنَ غَرْبٍ وَمَشْرِقِ ثم يقول: بلغت بسيف الدولة الذي هو نور في دهره، وضياء مشرق في عصره، رتبة من المدح، ومنزلة من جليل الوصف، أضاءت في جميع الأرض، وأنرت بها ما بين الشرق والغرب. ويقال: أنار الرجل المكان: إذا أظهر الضياء فيه. إذَا شَاَء أَنْ يَلْهُو بِلِحْيَةِ أَحْمَقٍ ... أَرَاهُ غُبَاري ثُمَّ قالَ لَهُ الحَقِ ثم قال، مشيراً إلى سيف الدولة، ومعرضاً بمن حوله من الشعراء: إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق يتجاوز قدره، ويفحم عليه شعره، أراه طرفاً مما قيدته في مدحه، وغير كثير مما نظمته في مجده، وكنى عن ذلك بقوله: (أراه غباري) على سبيل الاستعارة، ثم قال له الحق هذه الغاية من الشعر، واسلك هذه الطريقة من النظم، فيبين عند ذلك من عجزه ما يضحكه، ومن تقصيره ما يلهيه ويطربه.

وَمَا كمَدُ الحُسَّادِ شَيْئَاً قَصَدْتُهُ ... وَلِكنَّهُ مَنْ يَزْحَمِ البَحْر يَغْرَقِ ثم قال: وما الإزراءُ على أهل الحسد منهم قصدت بما أبدعته، ولا التعجيز لهم أردت فيما خلدته، ولكني في ذلك كالبحر الذي يغرق من زاحمة غير قاصد، ويهلك من اعترضه غير عامد. وَيَمْتِحِنُ الأَميرُ بِرأْيِهِ ... وَيُغْضِي عَلَى بِكُلَّ مُمَخْرِقِ الرأي: رأي القلب، وما يعتقده الضمير، والممخرق الذي يكذب فيما يظهره. فيقول: ويمتحن الأمير الناس برأيه فيهم، واختياره لأمورهم، وعلمه الثابت في أحوالهم، ويغضي للممخرق إغضاء تجاوز وحلم، لا إغضاء غلط وسهو. وإطْرَاقُ طَرْفَ العَيْنِ لَيْسَ بِنَافع ... إذَا كَانَ طَرْفُ القلبِ لَيْسَ بِمُطْرقِ الإطراق: السكون والإمساك عن الكلام، وطرف العين: نظرها. ثم قال: وغض العين لطرفها، وكفها للحظها، لا ينفع المموه

المغالط، والمقصر الممخرق، إذا كان طرف القلب يلحظه بقيمته، وينظر إليه بحقيقته. فيأَيُّها المَطْلوبُ جَاوِرْه تَمْتنعْ ... ويأَيَّها المحرومُ يَمَّمْهُ تُرْزَقِ ثم يقول: فيأيها الخائف المطلوب، والمروع المحروب، جاور سيف الدولة تمتنع بعزه، وتأمن من المخاوف بما يمده عليك من ظله، ويأيها المحروم في قصده، والمضيق عليه في رزقه، يممه تسعد بقصده، وتتقدم المكثرين بما يشملك من فضله. وَيَا أَجْبَنَ الفُرْسانِ صَاحِبُهُ تَجْتَريءْ ... ويا أَشْجَعَ الشُّجْعَانِ فَارِقْهُ تَفْرَقِ ثم قال: ويا أجبن الفرسان وأضعفهم، صاحب هذا الملك تشجع نفسك، ويعظم بأسك، وينهضك سعده، ويظفرك بالأعداء جده، ويا أشجع الشجعان وأباسهم، وأشدهم وأصرمهم، فارقه يلزم الفرق طبعك، وتتداخل المخافة قلبك. إذا سَعَتِ الأَعْدَاءُ في كَيْدِ مَجْدِه ... سَعَى مَجْدُهُ في جَدَّه سَعْيَ مُحْنقِ

الجد: البخت، والحنق: الغيظ. فيقول: إذا اجتهد أعداء سيف الدولة في كيد مجده، واعتراض فضله، اكتنف مجده من سعده، وأحاط به من إقبال جده، ما ينهضه به إنهاض الحنق في إبطال ما راموه، وتكذيب ما ظنوه. وما يَنْصُرُ الفَضْلُ المُبِينُ عَلَى العِدى ... إذَا لم يَكُن فَضْلُ السَّعِيد المُوَفَّقِ ثم قال، مؤكداً لما قدمه: وما ينصر الفضل المبين، والتقدم الظاهر على الحساد والمعترضين، والأعداء المتربصين، إذا لم يقترن بذلك الفضل سعد ينهضه، ويحيط به توفيق يؤيده.

ودخل عليه، وقد رفع سلاح كان بين يديه، قد عرض عليه، وهو في ذكره ووصفه، فقال له ارتجالاً: وَصَفْتَ لَنَا وَلَمْ نَرَهُ سِلاَحاً ... كَأَنَّكَ وَاصِفُ وَقْتَ النَّزَالِ يقول لسيف الدولة: وصفت لنا سلاحاً غائباً لم نره، ومحجوباً لم نشهده، فكأنك وصفت النزال بوصفه، وأخبرت عنه بذكره؛ لأن مثل ذلك الموصوف لا يعد إلا للنزال، ولا يختبر إلا في القتال. وأنَّ البَيْضَ صُفَّ على دُرُعٍ ... فَشَوَّقٍ مَنْ رَآه إلى القِتَالِ ثم قال: وذكرت أن البيض صف على الدروع، فشوق ذلك من سمعه إلى الحرب، وهيجه على الطعن والضرب. فلو أَطْفَأْتَ نَارَكَ تَا لَدَيْهِ ... قَرَأْتَ الخَطَّ في سُوِدِ اللَّيَالي قوله: (نارك تا لديه) تا: كلمة يشار بها إلى المؤنث الحاضر كما يشار بذا إلى المذكر، فيقول لسيف الدولة: فلو أطفأت سرجك التي تستضيء بها في ليلك بحضرة هذا السلاح؛ لأغناك عنها لمعانة، ولأضاء لك بريقه، حتى

تقرأ ما يخط في الصحائف في الدياجي المظلمة، والليالي السود الحالكة. وَلَوْ لَحَظ الدُّمُسْتُقُ حَافَتَيْهِ ... لَقَلَّبِ رَأْيَهُ حالاً لحِالِ الدمستق: صاحب جيش الروم. ثم قال: ولو أبصر الدمستق ذلك السلاح، ولاحظ حافيته، وأشرف بمشاهدته عليه، لأفزعه إفزاعاً يقلب الرأي في التخلص منه، ويعمل الحيل في الفرار عنه. إنِ اسْتَحْسَنْتَ وهو على بِسَاطٍ ... فَأَحْسَنُ ما يَكُونُ على الرَّجَالِ وقوله: (إن استحسنت وهو على بساط)، أراد: إن استحسنته، فحذف الهاء لقوة دلالة الكلام عليها. والعرب تفعل ذلك، أنشد سيبويه في مثل ذلك: فأَقْبَلْتُ زَحْفاً على الرُّكْبَتَيْنِ ... فَثَوْبُ نَسِيتُ وَثَوْبُ أَجُرُّ

يريد: نسيته وأجره، وحذف الهاء لدلالة الكلام عليها، فيقول: إن استحسنت هذا السلاح وهو على بساط، فأحسن ما يكون إذا لبسته الرجال، وأظهر فضله القتال. وإنَّ بها وإنَّ بِهِ لَنَقْصَاً ... وأَنْتَ لَهَا النَّهايةُ في الكَمَالِ ثم قال: وإن بالرجال إذا خلت منك، وبهذا السلاح إذا انفصل عنك، لنقصاً ظاهراً وخللاً بينا، وأنت للرجال والسلاح النهاية التي بها تكمل، والفخر الذي به تتجمل.

وعرضت عليه سيوف فوجد فيها واحداً غير مذهب، فأمر بلإذهابه، فقال له أبو الطيب ارتجالاً: أَحْسَنُ ما يُخْضَبُ الحديدُ بِهِ ... وَخَاضِبِيهْ النَّجِيعُ والغَضَبُ النجيع: الدم. فيقول: أحسن ما يخضب به الحديد، وأحسن خاضبيه النجيع والغضب؛ يريد: أحسن ما يخضب به الحديد النجيع، وأحسن خاضبيه الغضب، فجمع بين الخبرين والمخبر عنهما، ثقة بفهم السامع. والعرب تفعل ذلك، قال الله عز وجل: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله) يريد: لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في

النهار. وأشار أبو الطيب إلى الحرب؛ لأن فيها يخضب الحديد بالدم، ويكون خاضبه الغضب. فلا تَشِينَنْهُ بالنُّضَارِ فَمَا ... يَجْتَمِعُ الماءُ فيهِ والذَّهبُ ثم قال: فلا تشيننه، يريد: الحديد بالذهب، فيطمس بريقه، ويذهب فرنده، وذلك شين فيه، ونقص داخل عليه؛ لأن الإذهاب يستر ماءه، ويذهب بهاءه.

وأنفذ رجل من أهل بغداد إلى سيف الدولة أبياتاً من الرحبة، ذكر أنه رآها في المنام، يشكو فيها الفقر، فأجابه أبو الطيب: قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْتَ في الأَحْلاَمِ ... وأَنَلْنَاكَ بَدْرَةً في المنَامِ يقول: قد فهمنا قولك، وسمعنا حلمك، وأنلناك بدرة في النوم، وأجزلنا لك الصلة في الحلم. وانْتَبَهْنَا كَما انْتَبَهْتَ بِلا شَيءٍ ... فَكَانَ النَّوالُ قَدْرَ الكَلاَمِ ثم قال: وانتبهنا كانتباهك عن حلم طارق، ووهم عارض، دون شيء تملكه، وأمر تتحققه، فكان نوالنا على نحو مدحك، وجودنا على سبيل قولك. يشير إلى تسفيه رأيه، وتخطئه فعله، إذ لم يجعل مدحه لسيف الدولة فرضاً يقصده، وأمراً واجباً يعتمده. كُنْتَ فِيماَ كَتَبْتَهُ نَائمَ العَيْ ... نِ فَهَلْ كُنْتَ نَائمَ الأَقلاَمِ

ثم يقول، زاريا عليه: كنت نائماً فيما حلمته، فهل كنت نائماً فيما كتبته. يريد: أن كتابه مستجديا، حقيقة لا حلم، وذكر الحلم فيما قصده، يوهن رغبته، ويقبح مسئلته. أَيُّها المُشْتَكي إذا رَقَدَ الإعْ ... دَامَ لا رَقْدَةُ مَعَ الإعْدَامِ ثم قال: أيها المشتكي الإعدام في حلمه، والمتوجع للإقلال في نومه، الإقلال يطرد النوم، والإعدام يبطل الحلم. افَتحِ الجَفْنَ واتُركِ القولَ في النَّوْ ... م وَمَيَّزْ خِطابَ سَيْفِ الإمامِ ثم قال: افتح جفنك، وصحح قولك، ولا تخدع بالأحلام نفسك، وميز ما تخاطب به سيف الإمام، وبقية الكرام. الذي لَيْسَ عَنْهُ مُغَنٍ ولا مِنْ ... هُ بَديلُ، ولا لِما رَامَ حَامي يقول: إن سيف الدولة الذي لا أحد يغني عنه، لعموم فضله، ولا يكون بدلا منه، لجلالة قدره، ولا يحتمي عنه ما رامه؛ لسعة مقدرته عليه،

ولا يمتنع دونه؛ لنفاذ أمره فيه. كُلُّ آخائِهِ كِرَامُ بني الدُّنْ ... يا وَلَكِنَّهُ كَرِيُم الكِرَامِ الآخاء: جمع أخ. ثم قال: إن كرام بني الدنيا آخاء له؛ بموافقتهم إياه في رأيه، ومشابهتهم له في فعله، ولكنه المبرز فيهم، والمقدم عليهم؛ لأنه كريم كرامهم، والمحتوي على جميع خصالهم.

وأنفذ سيف الدولة أبياتاً إلى أبي الطيب في رد مقالة العذال، وسأله إجازتها، فقال: عَذْلُ العَوَاذِلِ حَوْلَ قَلْب التَّائِهِ ... وَهَوى الأَحِبَّةِ مِنْهُ في سَوْدَائِهِ العذل: اللوم، والتائه: الحائر الذي لا يهتدي لأمره، وسوداء القلب وسويداؤه: قطعة دم تكون في داخله، كأنها قطعة كبد. فيقول: إن عذل العاذل مقصور على قلبه، ملازم لمعارضته في حبه،

وقلبه مع ذلك معرض عن ذلك العذل، مشتغل عنه بأوكد الشغل، لأن هوى أحبته منه في سويدائه، التي هي أخفى مواضعه، وهو فيه على أثبت بصائره. يَشْكُو الملامُ إلى اللَّوَائِم حَرَّهُ ... وَيَصدُّ حِيْنَ يَلُمْنَ عَنْ بُرَحَائِهِ البرحاء: شدة وهج الحر. ثم قال: إن الملام الذي يعترض به، يشكو إلى اللوائم ما يفجؤه من حر صدره، ويصد عنه لما يتبينه من برحاء قلبه. وَبِمُهْجَتي يا عَاذِلي المَلِكُ الَّذي ... أَسْخَطْتُ أَعذَلَ مِنْكَ في إرْضَائِهِ ثم خرج إلى مدح سيف الدولة، فقال: وأفدي بمهجتي، يا أيها العاذل المكثر، واللائم المسرف، الملك الذي أسخطت في الاعتلاق بحبله، والانقطاع إلى فضله، من الملوك المتشبهين به، والراغبين في مآثره،

من القصد له، من كان أبصر منك بالعذل، وأهدى إلى طرق اللوم. إنْ كَانَ قَدْ مَلَكَ القُلُوبَ فإنَّه ... مَلَكَ الزَّمَانَ بأَرْضِهِ وَسَمائِهِ ثم قال: إن كان ذلك الملك، قد ملك القلوب بإحسانه، واستعبدها بإنعامه، فإنه قد ملك الزمان بأعلاه وأسفله. وكنى بأرضه وسمائه عن ذلك، يريد: أنه قد ملك جملته؛ لأنه رفع من أحمله، وأغنى من أفقره، وعم الناس بإحسانه، وشملهم بإنعامه. وهذا على سبيل التجوز، وما يتزيد الشعراء فيه من القول. الشَّمْسُ مِنْ حُسَّاده، والنَّصْرُ من ... قُرَنَائِهِ، والسَّيْفُ من أسْمَائِهِ ثم يقول: إن الشمس من حساد سيف الدولة، لزيادته عليها في حسنه، والنصر من قرنائه؛ لأنه بعض ما يؤيده الله به في قصده، والسيف من أسمائه الدالة على رفعته، وشيء من صفاته المعربة عن علو رتبته. أيْنَ الثَّلاَثةُ مِنْ ثَلاثِ خِلاَلهِ ... مِنْ حُسْنِهِ وإبَائِهِ وَمَضائِهِ؟ الإباء: عزة النفس وشدة الأنفة. ثم قال: أين هذه الثلاثة مع جلالة أمرها، ورفعة قدرها، من

جلال خلاله الثلاث، التي هي على نحوها لخلاله الفضل؛ لأن الشمس تطلع وتغرب، والنصر يقل ويكثر، والسيف ينبو ويقطع، وحسنه ثابت لا يعدم، وعزه زائد لا ينقص، ومضاؤه نافذ لا يدفع. وهذه طريقة من المجاز يحسنها للشعراء ما يحاولونه من بلوغ غايات المدح، وما يتعارف من مثلها في اللغة. مَضَتِ الدُّهُورُ وَمَا أَتَيْنَ بِمِثْلهِ ... وَلَقَدْ أَتَى فَعَجَزْنَ عَنْ نُظَرائِهِ ثم قال: مضت الدهور السالفة، والمدد الخالية، وما أتين بمثل سيف الدولة في ظهور فضله، وإحرازه غايات الكمال في جملة أمره، ثم أتى الزمان به، فعجزت المدة المشتملة عليه عن أن تأتي له بنظير يشبهه، أو تعترضه بقرين يعدله.

واستزاده سيف الدولة، فقال: القَلبُ أعلَمُ يا عَذُولُ بِدَائِهِ ... وأَحَقُّ مِنْكَ بِجَفْنِهِ وبِمَائِهِ يقول: القلب أيها العاذل المسرف، واللائم المكثر، أعلم منك بمقدار دائه، وأقعد بحقيقة أمره، وأولى بالبكاء الذي تنكره عليه، وتعذله فيه؛ لأنه يسكن وجده، ويبرد حره. وجعل ذكر الجفن والماء إشارة إلى البكاء. فَوَمَنْ أُحِبُّ لأَعْصِيَنَّكَ في الهَوَى ... قَسَماً به، وبِحُسِنهِ، وَبَهائِهِ ثم قال، مخاطباً لعاذله: فوحق من أحبه لأعصينك في الهوى، والتمسك به، وفي الحب والإقبال عليه، قسماً بما أعظمه من حقه، وأخضع له من بهائه وحسنه. أَأُحِبُّهُ وأُحِبُّ فيهِ مَلاَمَةً؟ ... إنَّ الملاَمَةَ فيه مِنْ أَعْدائِهِ ثم قال، أَأُحبه، وأحب اللوم فيه، وآلفه وآلف العذل عليه؛ إن الملامة من أعدائه المخالفين، وأضداده المعترضين، وإني إذا أصغيت إليها لضعيف الرأي، مضطرب الأمر.

عَجِبَ الوُشَاةُ من اللُّحَاةِ وَقَوْلِهِمْ: ... دَعْ ما نَراكَ ضَعُفْتَ عَنْ إخْفَائِهِ اللحاة: جمع لاح، وهو اللائم. فيقول: إن الوشاة مع شدة قسوتهم، وما هم عليه من قلة رأفتهم، عجبوا من اللحاة وقولهم لمن غلبه الوجد، وملكه الحب، دع ما نراه قد غلبك فما تدفعه، وضعفت عنه فما تستره، وهذا تكليف ما لا يبلغ مثله، ولا يستطاع حمله. ما الخِلُّ إلاَّ مَنْ أَوَدُّ بِقَلْبِهِ ... وأَرَى بِطَرفٍ لا يَرَى بِسَوَائِهِ ثم قال: ما النصيح المشفق، والخليل المخلص، إلا من يقل خلافه، ويحسن إنصافه، فقلب خليله كقلبه فيما يوده، وطرفه كطرفه فيما يستحسنه ويحبه، موافقة له على رأيه، ومساعدة له في جملة أمره. إنَّ المُعِينَ عَلَى الصَّبَابةِ والأَسَى ... أَوْلَى بِرَحْمَةِ رَبَّها وإِخائِهِ الأسى: الحزن، وسواء: اسم ممدود بمنزلة غير، معناه معنى سوى المقصورة. ثم قال: إن المعين على الصبابة بالرثاية لصاحبها، والتحزن لمن

امتحن بها، أولى بالترحم لربها ومؤاخاته، وأحق بمساعدته ومصافاته. مَهْلاً فإنَّ العَذْلَ من أَسْقَامِهِ ... وَتَرَفُّقَاً فالسَّمْعُ مِنْ أَعْضَائِهِ ثم يقول، مستدفعاً لعاذله، ومستكفاً للائمه: كهلاً، فإن العذل من أسقام المحب، يوجع قلبه، ويضاعف حزنه، ورفقاً به، فسمعه عضو من أعضائه، يوجعه ما أوجعه، ويؤلمه ما آلمه. وَهَبِ المَلاَمَةَ في اللَّذَاذة كالكَرَى ... مَطْرُودَةً بِسُهادِهِ وَبُكَائِهِ هب: بمعنى ظن واحسب، أنشد الأصمعي: فَكُن لي مجيراً أبا خالدٍ ... وإلاّ فَهَبْني امرَءاً هالكاً ثم قال: وهب الملامة مستلذة لا تستكره، ومستحسنة لا تستثقل. واحسبها تبلغ في ذلك مبلغ النوم، وتحل محله، يطردها السهاد الذي طرده، ويبعدها البكاء الذي أبعده.

لا تَعْذِرِ المُشْتَاقَ في أَشْوَاقِهِ ... حَتَّى يَكونَ حَشَاكَ في أَحْشَائِهِ ثم قال: لا يعذر الخلي العاشق، ولا يساوي المشتاق السالي، حتى تكون أحشاؤه كأحشائه، وأحواله كأحواله، فيقاسي ما قاساه، ويشكيه ما أشكاه. إنَّ القَتيلَ مُضَرَّجَاً بِدُمُوعِهِ ... مِثْلُ القَتيِلِ مضَرَّجاً بِدِمَائِهِ التضريح: التلطيخ. فيقول: إن القتيل الذي يقتله الحب، ويملكه الحزن، ويتضرج بدموعه فيما يستحقه من الترحم، ويستوجبه من التحنن، كالقتيل الذي تقتله السلاح، ويتضرج بالدم، لا فرق بين الأمرين، ولا خلاف بين الحالين. وَالعِشْقُ كَالمعشُوقِ يَعْذُبُ قُرْبُهُ ... للِمُبْتَلَى وَيَنَالُ مِنْ حَوْبَائِهِ الحوباء: النفس. ثم قال، مبيناً لموضع العشق من النفس، واستيلائه على الرأي والعشق كالمعشوق في حرص العاشق عليه، وحنينه إليه، وأنه يعذب قربه للمبتلى به، وهو ينال من نفسه، ويحسن عنده، وهو يبعث على سقمه.

لَوْ قُلْتَ للدَّنِفِ الحَزينِ فَدَيْتُهُ ... مِمَّا بِهِ لأَغْرْتَهُ بِفِدَائِهِ الدنف: المرض اللازم. ثم قال، مؤكداً لما قدمه: لو قلت للدنف الذي قد بالغه حزنه، وأنحله سقمه، فديته مما به؛ لأغرته بقولك، وأسخطته بتمنيك، اغتباطاً منه بحاله، واستصواباً لرأيه. وُقِيَ الأَمِيرُ هَوَى العُيُونِ فإنَّه ... مَا لاَ يَزُولُ بِبَأْسِهِ وسَخَائِهِ ثم دعا لسيف الدولة، خروجاً إلى المدح، ومؤكداً لما قدمه من استعظام الحب، فقال: وقي الأمير هوى العيون الفاترة، فإن ذلك ما لا يعصم منه؛ بأسه وشدته، وسخاؤه وكثرته. يَسْتَأسِرُ البَطَلَ الكَميَّ بنَظْرَةٍ ... وَيَحُولُ بَيْنَ فُؤادِهِ وَعَزائِهِ البطل: الشجاع، والكمي: الشجاع المتغيب في سلاحه، والعزاء: الصبر. ثم قال، واصفاً لسلطان هوى العيون: يستأسر البطل الكمي بأول نظرة، ويحول بين قلبه وصبره بأقل لحظة. إنَّي دَعَوْتُكَ للنَّوائِبِ دَعْوةً ... لم يُدْعَ سَامِعُها إلى أَكْفَائِهِ

ثم يقول لسيف الدولة: إني دعوتك للنوائب وصروفها، وللحوادث وخطوبها، دعوة لم أدع سامعها إلى كفؤه، ولا استصرخت المخاطب بها على مثله، وإنما دعوت منك، يريد: سيف الدولة، الكبير للصغير، والجليل لليسير. فأَتَيْتَ مِنْ فَوْقِ الزَّمانِ ... وَتَحْتهِ، مُتَصَلْصِلاً وأَمَامِهِ وَوَرَائِهِ الصلصلة: امتداد الصوت. ثم قال، مخاطباً له: فأتيت من فوق الزمان وتحته، ومن أمامه وورائه، يشير بهذا القول إلى إحاطة مقدرته بالزمن، وقسره له، واقتداره عليه، وأنه لا يخيف من منعه، لا يجير من طلبه. مَنْ للِسُّيُوفِ بأَنْ يَكونَ سَمِيَّها ... في أَصْلِهِ وَفِرْنِدِه وَوَفَائِهِ فرند: السيف: رونقه. فيقول: من للسيوف، وهي حدائد لا تعقل، بأن يكون سيف الدولة سميها مع كرم أصله، وبهاء فرنده، وتكامل وفائه، وتقصير السيوف

عنه في جميع ذلك، فمن لها بموافقته في لقبه، مع تواضعها عنه في شرفه. طُبِعِ الحَديدُ فَكانَ مِنْ أَجْناسهِ ... وَعَليُّ المَطْبُوعُ مِنْ آبائهِ طبع الحديد: صناعته وتصييره على الهيئة المقصودة فيه. ثم قال، مؤكداً لما قدمه من تقصير السيوف عنه: طبع الحديد وصنع، وكانت السيوف صنفاً من أصنافه، وجنساً من أجناسه وطبع سيف الدولة من آبائه بالشرف القديم، والنسب الكريم، والنحر الصميم، فمن للسيوف بمشاكلته، وكيف لها بمساواته ومماثلته.

وجاءه رسول سيف الدولة مستعجلاً، ومعه رقعة فيها بيتان في كتمان السر، وهما: أَمِنَّي تَخَافُ انْتِشَارَ الحَديثِ ... وَحَظَّيَ في سَتْرِهِ أَوْفَرُ؟ وَلَو لَمْ أَصُنْهُ لِبُقْيَا عَليْكَ ... نَظَرتُ لِنَفْسي كما تَنْظُرُ معناهما: يقول هذا الشاعر لمن خشيه على كشف سره، وإظهار ما كتمه من أمره: أمني تخاف انكشاف سرك، وانتشار حديثك، ووفور الحظ لي في طيه وكتمه، ثم قال: ولو لم أصن سرك إبقاء عليك، أو إنصافاً لك، لصنته نظراً لنفسي، وإبقاء على ما فيه حظي، لأن ما يلحقني من الوصمة بإذاعة السر أشد مما أتوقعه في ذلك من الضر. وسأله سيف الدولة إجازتهما، فقال: رِضَاكَ رِضَايَ الَّذي أُوثِرُ ... وَسِرُّكَ سِرّي فَمَا أُظْهِرُ

يقول، لمن يخاطبه: رضاك رضاي الذي أوثره، وأبدر إليه وألزمه، وأحرص عليه، وسرك سري، فكيف أظهره؟! وأمرك أمري، فكيف أضيعه؟ ّ! كَفَتْكَ المُرُوءةُ ما تَتَّقي ... وآمَنَكَ الوُدُّ ما تَحْذَرُ ثم قال: كفتك مروءتي ما تتقيه من تضييعي لحقك، وآمنك ودي ما تحذره من إفشائي لسرك. وَسِرُّكُمُ في الحَشَا مَيَّتُ ... إذَا أُنْشِرَ السَّرُّ لا يُنْشَرُ أنشر الشيء: إذا أحيي. ثم قال: وسركم ميت في الحشا بكتمه، دفين فيه بحفظه، لا يحيا إذا أحييت الأسرار ولا يظهر، ولا يفشو بينها ولا يذكر. كَأَنَّي عَصَتْ مُقْلَتي فِيكُمُ ... وكَاتَمت القَلْبِ ما تُبْصِرُ ثم يقول، واصفاً لما هو عليه من كتم السر، وحفظ الغيب: كأني قد عصت مقلتي فيكم القلب، فكاتمته ما تبصر، وساترته ما تشهد، فإذا كان بعضي يكتم عن بعضي السر، شحاً به ويستره عنه، حفظاً له،

فكيف تظن بي مع غيري ممن يلتمس مني علمه، ويحاول من قبلي إدراكه؟ وإفْشَاءُ مَا أَنَا مُسْتَوْدَعُ ... من الغَدْرِ، والحُرُّ لاَ يَغْدِرُ ثم قال: وإفشاء ما أودعه من السر غدر بصاحبه، وظلم لمستودعه، والحر يفي ولا يغدر، وينصف ولا يظلم. إذا مَا قَدَرْتُ عَلَى نَطْقَةٍ ... فإني عَلَى تَرْكِهاَ أَقْدَرُ ثم يقول: إذا ما قدرت على النطق فإني أقدر على تركه، وكما أتمكن من إذاعة السر، فكذلك أتمكن من حفظه. أُصَرَّفُ نَفْسي كما أَشْتَهي ... وأَمْلِكُها والقَنَا أَحْمَرُ ثم قال: أصرف نفسي على ما أوثره، ولأحملها على ما أرغبه، وأملكها والقنا أحمر من طعان الفرسان، متخضب من دماء الأقران، ولا أراع في تلك الوقائع، ولا أحول عند تلك الشدائد. دَوَاليكَ يا سَيْفها دَوْلَةً ... وأَمْرَكَ يَا خَيْرَ مَنْ يَأْمُرُ دواليك: اسم يثنى على سبيل المبالغة، معناه: مداولة بعد مداولة.

فيقول لسيف الدولة: أدل الدول ناهضاً بثقلها، منفرداً بتدبير أمرها، ومر أمرك نبدر إليه، ونحتمل عليه، يا خير آمر يأمر، وأفضل ملك يذكر. أَتاني رسُولكَ مُسْتعجلاً ... فَلَبَّاهُ شِعْري الذي أَذْخَرُ ذخرت الشيء: إذا أعددته لمهمك. ثم قال: أتاني رسولك مستعجلاً في إجازة البيتين اللذين وجهت بهما، فلباه شعري الذي أذخره، وإجابه قولي الذي أتخيره. وَلَوْ كَانَ يَوْمَ وَغىً قَاتماً ... لَلَبَّاهُ سَيْفِيَ والأَشْقَرُ الوغى: الحرب، سميت بذلك لكثرة الأصوات فيها، والقاتم: المظلم لكثرة الرهج، والقتام: الغبار. فيقول، وهو يخاطب سيف الدولة: ولو كان إتيان كتابك إلي يوم

وغى قاتماً، للباه سيفي أضرب به، وفرسي أحمل عليه، يشير إلى مسارعته في نصرته، وما هو عليه من مستحكم طاعته. فَلا غَفَلَ الدَّهْرُ عَنْ أَهْلِهِ ... فإنَّكَ عَيْنُ بِهَا يَنْظُرُ ثم قال داعياً له: فلا غفل الزمان عن أهله بعدمهم لك، يشير إلى الموت، فإنك عينه التي بها ينظر، وضياؤه الذي به يبصر.

واستبطأ سيف الدولة مدحه، وعاتبه مدة، ثم لقيه في الميدان، فأنكر أبو الطيب تقصيره عما كان عودة من الإقبال إليه، والسلام عليه، فعاد إلى منزله، وكتب إليه بهذه الأبيات من وقته: أَرَى ذَلَكَ القُرْبَ صَارَ ازْوِرَارا ... وَصَارَ طَويلُ السَّلامِ اختِصَارا الازورار: الميل والانحراف. فيقول لسيف الدولة: أرى ما عهدته من استقرابك لي قد صار بعداً عنك، وطول سلامك وإقبالك علي قد صار اختصاراً منك. تَرَكْتَني اليومَ في خَجْلَةٍ ... أَمُوتُ مِرَاراً وأَحْيَا مِرَاراً ثم قال: تركتني اليوم في خجلة بإعراضك، وما حرمته من كريم إقبالك، تارة أموت لإشفاقي من صدك، وتارة أحيا باختلاسي النظر إلى وجهك. أُسَارِقُكَ اللَّحْظَ مُسْتَحيِياً ... وأَزْجُرُ في الخَيْلِ مُهْري سِرَارا

ثم يقول: أسارقك اللحظ في الجماعة مستحيياً لما حرمته من برك، وأزجر مهري مستسراً لما أنكرته من أمرك. وأَعْلَمُ إذا مَا اعتَذَرْتُ ... إليكَ أَرَادَ اعتِذَاري اعتِذَارا ثم قال: وأعلم أني إذا تعرضت للعذر، وبسطت فيه شيئاً من القول، قابلت ذلك بالإنكار والرد، فأواصل العذر بما لا تقبله، وأكثر القول بما لا تسمعه. كَفَرْتُ أَيَادِيَكِ الباهِرا ... تِ إنْ كَانَ ذَلَك مِنَّي اختيارا الباهر: الغالب. فيقول لسيف الدولة: كفرت أياديك التي تبهر الشكر، وتستغرق النشر، إن كان ما أنكرته من تأخر مدحي عنك شيئاً أردته، واختياراً قصدته.

وَلَكِنْ حَمَى الشَّعْرَ إلا القلي ... لَ همُّ حَمَى النَّومَ إلا غِرَارا حميت الشيء: إذا منعت منه، والغرار: النوم القليل. ثم قال: ولكن حمى الشعر ومنعه، إلا قليلاً لا أحفل به، ومستكرها لا أنشط له، هم حمى النوم وطرده، وأبعده وشرده، فما أطعم منه إلا غراراً لا ينفع، ويسيراً لا يقنع. وما أنا أَسْقَمْتُ جِسْمِي بِهِ ... ولا أَنا أَضْرَمْتُ في القَلْبِ نارا ثم قال: وما أنا أسقمت نفسي بذلك الهم مختاراً للسقم، ولا ألمت نفسي به مؤثراً للألم، ولا أنا أضرمت في قلبي تلك الجمرة، ولا ألزمت نفسي تلك اللوعة، ولكني دفعت إلى ذلك على غير قصد، وامتحنت به على غير عمد. فَلاَ تُلْزِمَنَّي ذُنُوبَ الزَّمانِ ... إليَّ أَسَاَء وإيَّايَّ ضَارَا ضرت الرجل وأضررت به: بمعنى واحد. فيقول لسيف الدولة: فلا تلزمني بالتأخر عن الشعر ذنوباً أحدثها الزمان، بتعاقب خطوبه، وتكرر صروفه، فإلي أساء بكثرتها، وإياي ضار بشدتها.

وَعِنْدي لَكَ الشُّرْدُ السَّائِرا ... تُ لا يَخْتصِصْنَ من الأَرْضِ دَارَ الشرد هاهنا: القصائد، واحدتها شرود، وهي التي لا تستقر في مكان. ثم قال له: وعندي لك بعد ذلك الأشعار الشاردة بحسنها، السائرة في البلاد ببراعة نظمها، لا تختص من الأرض داراً تألفها، ولا جهة تسكنها، ولكنها تسير في الأرض منتقلة، وتظعن فيها على الألسن مرتحلة. فإنيّ إذا سِرْنَ في مِقْوَلي ... وَثَبْنَ الجبالَ وَخُضْنَ البِحَارا المقول: اللسان. ثم قال: فإني إذا سيرتها ناطقاً بها، وأظهرتها مروياً لها، وثبت الجبال غير متوقعة، وخاضت البحار غير متهيبة. ولي فِيْكَ ما لَمْ يَقُلْ قَائِلُ ... وَمَا لمْ يَسِرْ قَمَرُ حَيْثُ سَاراَ

ثم يقول لسيف الدولة: ولي فيك من بدائع الشعر، وغرائب النظم، ما لم يقل مثله قائل، ولا تعاطى نظيره شلعر، وما زاد في السير على القمر، وقصر عنه جميع البشر. فَلَوْ خُلِقَ النَّاسُ مِنْ دَهْرِهمْ ... لَكَانوا الظَّلامَ وَكُنْتَ النَّهارا ثم قال: فلو أن الناس خلقوا من دهرهم، وركبوا من زمانهم، لكنت كالنهار في بيان فضلك، وكانوا كالظلام في تواضعهم عن قدرك. أَشَدُّهم في نَدىً هِزَّةً ... وأَبعَدُهم في عَدُوٍّ مُغَارا هزة الندى: السرور به، والحرص عليه. ثم قال له: أنت أشدهم في الكرم هزة، لحرصك عليه، وأبعدهم في العدو غارة، بتسرعك إليه. سَمَا بكَ هَمَّيَ فوقَ الهُمومِ ... فَلَسْتُ أَعُدُّ يَسَارَاً يَسَارا الهم والهمة بمعنى واحد، واليسار: كثرة المال.

فيقول: سمت بك همتي على الهمم، وأحرزت عندك أوفر النعم، فلست أستكثر الكثير لقدرتي عليه، ولا أحفل به لتمكني فيه. وَمَنْ كُنْتَ بَحْرَاً لَهُ يا ... عَليُّ لم يَقْبِلِ الدُّرَّ إلاَّ كِبارا ثم قال له: ومن كنت يا علي بحره الذي يغترف منه، ومورده الذي يصدر عنه، لم يقبل الدر إلا كباراً غريبة، ولم تقنعه إلا نفيسة جليلة.

رحل سيف الدولة من حلب إلى ديار مضر، لاضطراب البادية بها، فنزل حران، فأخذ رهائن بني نمير وقشير والعجلان، وحدث له رأي في الغزو، فعبر الفرات إلى دلوك، إلى قنطرة صنجة، إلى درب القلة، فشن الغارة على أرض عرقة وملطية. وعاد ليعبر من درب موزار، فوجد العدو قد ضبطه عليه فرجع، وتبعه العدو فعطف عليه، فقتل خلقاً من

الأرمن، ورجع إلى ملطية، وعبر قباقب، وهو نهر، حتى ورد المخاض على الفرات تحت حصن يعرف بالمنشار، فعبر إلى بطن هنزيط وسمنين، ونزل حصن الران، ورحل إلى سميساط، فورد عليه بها من خبره أن العدو في بلد المسلمين، فأسرع إلى دلوك فعبرها، فأدركه راجعاً على جيحان فهزمه وأسر قسطنطين بن الدمستق، وجرح الدمستق في وجهه، فقال أبو الطيب يصف الحال. أنشدها في جمادى الآخرة سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة. لَيَاليَّ بَعْدَ الظَّاعِنينَ شُكُولُ ... طِوَالُ وَلَيْلُ العَاشِقِينَ طَويلُ الشكول: جمع شكل، وهو الميل.

فيقول: ليالي بعد الظاعنين من أحبتي متشاكلة في طولها، متشابهة في تعذبي بها، وليل العاشقين طويل عليهم، بما يقاسونه من السهر، وما يتجدد لهم فيه من الفكر. يُبِنَّ ليَ البَدْرَ الَّذي لا أريدهُ ... وَيُخْفِينَ بَدْراً ما إليهِ سَبِيلُ ثم قال: يبن لي بدر السماء الذي لا أريده، ويظهرنه ويبدينه ولا يسترنه، ويخفين من أحبتي البدر الذي أحرص عليه، ولا أجد سبيلاً إليه. وَمَا عِشْتُ مِنْ بَعْدِ الأَحِبَّةِ سَلْوَةً ... وَلَكنيَّ للَّنائبَاتِ حَمُولُ ثم يقول: وما عشت من بعد الأحبة سالياً عن ذكرهم، ولا خالياً من حبهم، ولكني حمول للنائبات، صبور على الخطوب الموجعات. وإِنَّ رحيلاً وَاحِداً حَالَ بَيْنَنَا ... وفي الموتِ مِنْ بَعْد الرَّحِيل رَحِيلُ ثم قال: وإن رحيلا واحداً غير مضاعف، ومفرداً غير مردد، حال بيني وبينهم، وأياسني من قربهم، وفي الموت الذي أباشره بفقدهم، وأشرف عليه من بعدهم، رحيل يشفع رحيلهم، وبعاد يضاعف بعادهم، ولا دار أبعد من القبر، ولا سبب أقطع من الموت. إذا كانَ شَمُّ الرَّوْحِ أَدْنَى إليكمُ ... فَلاَ بَرَحَتْني رَوْضَةُ وَقَبُولُ الروح: نسيم الريح الشرقية. ثم يقول، مقبلاً بالخطاب على أحبته: إذا كان شم الروح أقرب الأشياء

منكم، وأقعدها بالدنو إليكم، وتيقنت أن الرياض في تبديكم ومنازلكم، والمياه التي تقاربها مواردكم، لما يوجب لكم علو الحال من الحلول في كرائم الأرض، فلا برحتني روضة تذكرني منزلكم، وقبول أتنسم منها ريح أفقكم. وأشار بذكر القبول إلى أن رحلة أحبته كانت إلى جهة المشرق. وَمَا شَرقِي بالماءِ إلا تَذَكُّرَاً ... لماءٍ بِهِ أَهْلُ الحَبِيبِ نُزولُ الشرق: الاختناق. ثم قال: وما أشرق بالماء إلا لعلمي أن أهل الحبيب الراحلين به، وقومه الحافظين له، يعتمدون ماء ينزلونه، ويستقرون بمنهل يحلونه، فيهيج لي الماء تذكر حلوله، وأغص به أسفاً على رحيله. يُحَرَّمُهُ لْمَعُ الأَسِنَةِ فَوْقَهُ ... فَلَيْسَ لِظَمْآنٍ إِليهِ وُصُولُ ثم قال، واصفا لموضع من يحبه من الرفعة، وما هو بسبيله من العز والمنعة: يحرم هذا الماء الذي يرده لمع أسنة قومه المحتلين به، وامتناع

جهتهم، واحتداد شوكتهم، فليس لظمان وصول إليه، ولا لوارد طمع فيه، وأشار بهذا إلى أن من يحبه ممنوع منه، محجوب على القرب والبعد عنه. أَمَا في النُّجُومِ السَّارياتِ وغَيْرِها ... لِعَيْني عَلَى ضَوْءِ الصَّبَاحِ دَليلُ السرى: مشى الليل، فاستعار ذلك للنجوم، فيقول، مشتكياً لسهره، وما هو عليه من شدة كمدة: أما في النجوم السارية وغيرها مما يعرف به أوقات الليل، دليل لعيني على ضوء الصباح وتدانيه، وانصراف الليل وتقضيه. أَلم يَرَ هذا الليلُ عَيْنيكِ رُؤيتي ... فَتَظْهَرَ فِيهِ رِقّةُ ونُحولُ ثم قال: مخاطباً لمحبوبته: ألم ير هذا الليل الجليل خطبه، المتصل طوله، عينيك رؤيتي لهما، ويشهد ما شهدته من سحرهما، فيقل منه ما كثر، ويقصر ما اتصل، ويرق لمن سحرتاه، ولاقي من الضعف والسقم ما ألقاه. لَقْيِتُ بِدَرْبِ القُلَّةِ الفَجْرَ لَقْيَةً ... شَفَتْ كَمَدِي واللَّيْلُ فِيهِ قَتِيلُ درب القلة: موضع في بلاد الروم.

فيقول: لقيت بهذا الموضع الفجر لقية على حال من البهجة، وسبيل من الغبطة، شفت كمدي بتطاول الليل، وأظهرتني عليه بالخروج عنه، وهو كالقتيل الذي قد انقضت مدته، وسقطت عمن يحذره مئونته. وَيَوْمَاً كأَنَّ الحُسْنَ فيه عَلاَمَةُ ... بَعَثْتِ بِهَا والشَّمْسُ مِنْكِ رَسُولُ ثم قال لمحبوبته مخاطباً: ولقيت بهذا الموضع يوماً تلا هذه الليلة تناهت بهجته، وراق منظره، حتى كأن حسنه حسن علامة توجهينها، وكأن الشمس فيه رسول يقدم عنك بها، فجعل صفة هذا اليوم سبباً للترفع لمحبوبته، وإبانة عن جلالة قدرها، وعلو محلها. وخرج إلى المدح بألطف سبيل، ووصل إليه أحسن وصول. وما قَبْلَ سَيْفِ الدَّولَةِ اتَّارَ عاشقُ ... ولا طُلِبَتْ عِنْدَ الظَّلامِ ذُحُولُ اتأر الرجل: إذا أدرك ثأره، وهو افتعل من الثأر، فأبدل من الثاء تاء لتقارب مخرجهما من الفم، ثم أدغم إحدى التائين في الأخرى، فقال اتأر. فيقول: وما قبل سيف الدولة، وقبل ما أبداه من الفضل، وأظهره من

غرائب الفعل، أدرك عاشق في الحب ثأره، ولا طلب عند الليل الطويل ذحله. وَلكِنَّهُ يَأْتي بِكُلَّ غرِيْبَةٍ ... تَرُوقُ على اسْتِغرَابِها وَتَهُولُ الهول: المخافة. ثم قال: ولكن سيف الدولة يأتي بكل غريبة في مجده، وبكل نادرة في كرمه، فيروق ذلك ويعجب، ويهول ويفزع، ويسلي من شهده عما سواه، وينسيه ما لقيه وقاساه. رَمَى الدَّرْبَ بالجُرْدِ الجيادِ إلى العِدَى ... وما عَلِموا أَنَّ السَّهامَ خُيولُ الدرب: المدخل إلى أرض العدو، والجرد: الخيل القصيرة شعر الجلود، وذلك فيها من شواهد الكرم. فيقول: إن سيف الدولة رمى الدرب، درب الروم، مقدماً عليهم، وغازياً إليهم، بكتائب خيله، ومواكب جيشه، فسارت كالسهام مسرعة، ونفذت نفاذها مصممة، ولم تعلم الروم قبل ذلك

أن من الخيل ما يفعل مثل هذا الفعل، ولا أن منها من يسير مثل هذا السير. شَوَائِلَ تَشْوَالَ العَقَاربِ بالقَنَا ... لَهَا مَرَحُ من تَحْتِهِ وَصَهِيلُ الشوائل: التي ترفع أذنابها عند الجري، وذلك فيها من دلائل القوة، والمرح: لعب يبعثه النشاط، والصهيل: معروف. ثم قال: شوائل بالرماح عند دفع الفرسان لها، وتسديدهم للرماح عليها، تشوال العقارب؛ يشير إلى سرعة سيرها، وكثرة جريها، ورفعها لأذنابها في ذلك الجري، وذلك في الخيل من دلائل قوة ظهورها؛ لأن ذلك التشوال أكثر ما يكون من الخيل في حين الجري، ثم دل على نشاطها بمرحها، وعلى عزة أنفسها بصهيلها. وَمَا هي إلاَّ خَطْرَةُ عَرَضَتْ لَهُ ... بِحَرَّانَ لَبَّتْها قَناً وَنُصُولُ حران: مدينة من مدائن الموصل، والتلبية: الإجابة، والقنا والنصول: معروف. ثم قال: وما كانت هذه الغزوة إلا خطرة عرضت لسيف الدولة

بحران، يشير إلى أنها كانت مع جلالتها عن بديهة، وأنه أنفذها مع احتفالها عن غير روية، فلبتها القنا والنصول، واقترن بها الصنع الجميل. هُمَامُ إِذا مَا هَمَّ أَمْضَى هُمُومَهُ ... بِأَرْعَنَ وَطْءُ الموتِ فيه ثَقِيلُ الهمام: الملك، وهم: بمعنى أراد، والهموم: الإرادات، والأرعن: الجيش الكثير الفضول، له رعون كرعون الجبال، والرعن: أنف الجبل. فيقول لسيف الدولة: أيها الملك الذي ما هم به فعله، وما أراده أنفذه، بجيش حافل، وجمع غالب، تقدمه إلى الأعداء حتوفهم، ويقصدهم فيه هلاكهم، ويطؤهم الموت به أثقل وطأة، ويصرعهم أشد صرعة. وَخَيْلٍ بَرَاها الرَّكْضُ في كُلَّ بَلْدَةٍ ... إذا عَرَّسَتْ فِيها فَلَيْسَ تَقِيلُ براها: أهزلها، والتعريس: النزول في آخر الليل، والقائلة: معروفة. ثم قال: وخيل يتضمنها ذلك الجيش، براها ما يحملها سيف الدولة من الركض، وما يكلفها من السير في بلاد يقتحمها إلى العدو، ويعرس

فيها ولا يقيل، ويسير ولا يريح. فَلَمَّا تَجَلَّى مِنْ دَلُوكَ وَصَنْجَةٍ ... عَلَتْ كُلَّ طَوْدٍ رَايَةُ وَرَعيلُ تجلى: ظهر، ودلوك وصنجة: بلدان من بلاد الروم، والطود: الجبل، والرعيل: الجماعة من الناس. ثم قال: فلما طلع سيف الدولة من دلوك وصنجة، انتشرت جيوشه، وبدت له في كل جبل راية ماثلة تتلوها جماعة ناهضة. عَلَى طُرُقٍ فيها على الطُّرْقِ رِفْعَةُ ... وَفي ذِكْها عِنْدَ الأَنِيس خُمُولُ ثم يقول: إن هذا الجيش سلك إلى الروم على طرق كانت ممتنعة لا تسلك، ومجهولة لا تعرف، فكانت مرتفعة على الطرق، متشرفة على سائر السبل، وفي ذكرها عند الناس خمول، لجهلهم بها، وقلة سلوكهم لها. فَمَا شَعَروا حَتَّى رَأَوْها مُغِيرةً ... قِبَاحَاً وَأَمَّا خَلْقُها فَجَمِيلُ ثم قال: فما شعرت الروم حتى رأوا هذه الخيل قاصدة إليهم، ومغيرة عليهم، قباحاً في أعينهم، لصنيعها فيهم، وهي مع ذلك مطهمة في خلقها، متناهية في تمام حسنها.

سَحَائِبُ يُمْطِرْنَ الحديدَ عَلْيهِمُ ... فَكُلُّ مَكانِ بالسيوفِ غَسِيلُ ثم وصفها بالكثرة، فقال: سحائب تمطر الحديد عليهم، وتعمل السلاح فيهم، فكل مكان تغسله السيوف؛ بما تسفكه من الدم، وتغشاه بما تحدثه من القتل. وأَمْسَى السَّبَايَا يَنْتحبْنَ بِعَرْقَةٍ ... كَأنَّ جُيوبَ الثَّاكِلاتِ ذُيولُ الانتحاب: البكاء، وعرقة: موضع في بلاد الروم. فيقول: وأمسى سبايا الروم بعرقة؛ هذا الموضع، ينتحبن باكيات، ويعولن متفجعات، قد شققن جيوبهن، ومزقن ثيابهن، فعادت جيوبهن ذيولاً تسحب، وكانت مصونة تحفظ. وَعَادَتْ فَظَنُّوها بمَوْزَارَ قُفَّلاً ... وَلَيسَ لَهاَ إلاَّ الدُّخُول قُفُولُ موزار: موضع في بلاد الروم. ثم قال: وعادت خيول سيف الدولة، فظنها الروم قفلاً منصرفة بموزار، هذا الموضع، وليس لها قفول إلا الدخول إليهم، والاقتحام عليهم، فكانت عودتها إلى موزار لخلاف ما ظنوه، ولغير ما احتسبوه.

فَخَاضَتْ نَجِيعَ الجَمْعِ خَوْضَاً كَأَنَّهُ ... بِكُلَّ نَجْيعٍ لم تَخُضْهُ كَفِيلُ النجع: الدم، والكفيل: الضامن. فيقول: فخاضت هذه الخيل بموزار دم الجمع، الذي أوقعت به من الروم، خوضاً كأنه تكفل بظاهر الغلبة فيه، واقتران النصر به، بما خاضته بعد ذلك من دمائهم، وهزمته من جيوشهم. تُسَايِرُهَا النَّيرانُ في كُلَّ مَسْلَكٍ ... به القَوْمُ صَرْعى والدَّيارُ طُلُولُ المسلك: الطريق، والطلول: ما بقي من آثار الديار وأشرف منها. ثم قال: تساير هذه الخيل هذه النيران التي تضرمها في ديار الروم في كل مسلك أهله صرعى بالقتل، ومنازله طلول بالخراب. يشير إلى ما أحدثته هذه الخيل في بلاد الروم من إحراق نعمهم، وهدم ديارهم، وكثرة القتل فيهم. وَكَرَّتْ فَمَرَّتْ في دِمَاءِ مَلَطْيَةٍ ... مَلَطْيَةُ أُمُّ للبنينَ ثَكُولُ

ملطية: مدينة من مدائن الروم. فيقول: وكرت هذه الخيل، فمرت في دماء أهل ملطية، وأخبر عن البلد كما يخبر عن أهله، والعرب تفعل ذلك. قال الله عز وجل: (وسئل القرية) يريد أهل القرية. فيقول إنها خاضت تلك الدماء سافكة لها، مستبلغة بالقتل في أهلها، ثم قال: ملطية، هذه المدينة، ثكول لأهلها، مفجعة بالقتل على من سكنها، وأشار بالأم والبنين إلى ذلك على سبيل الاستعارة. وَأَضْعَفْنَ ما كُلَّفْنَهُ من قُبَاقِبٍ ... فَأَضْحَى كَأَنَّ المَاَء فيهِ عَليلُ قباقب: واد في بلادهم، والثكول: التي تفقد بنيها. ثم قال: وأضعفت هذه الخيل قباقب، هذا النهر، عند عبوره؛ بشدة تزاحمها فيه، وكثرة ترادفها عليه، فأضحى ماؤه كالعليل الساقط القوة، والمغلوب الضعيف المنة. وَرُعْنَ بِنَا قَلْبَ الفُراتِ كَأَنما ... تَخِرُّ عَلَيْهِ بالرَّجَالِ سُيولُ الفرات: نهر عظيم معروف.

فيقول: وراعت بنا هذه الخيل قلب الفرات وذعرته، وأخافته وأفزعته، حتى كأنما تخر عليه من جماعات الرجال، ومواكب الخيول، سيول طارقة، وأمواج بحر متلاطمة، وجعل للفرات قلباً على سبيل الاستعارة. يُطارِدُ فيهِ مَوْجَهُ كُلُّ سَابحٍ ... سَواءُ عَلَيْهِ غَمْرةُ وَمَسِيلُ السابح: الفرس الذي يمد يديه في الجري، وغمرة الماء: مجتمعة، والمسيل: مجرى ماء المطر. ثم قال: يطارد موج هذا النهر كل سابح من الخيل، سواء عنده منه الغمرة والمسيل، والكثير والقليل. يشير إلى ما هذه الخيل عليه من شدة الأسر، وما بلغته من قوة الخلق. تَرَاهُ كَأَنَّ الماَء مَرَّ بِجِسْمِهِ ... وَأَقْبَلَ رَأْسُ وَحْدَهُ وَتَلِيلُ التليل: العنق. ثم قال: ترى ذلك السابح في الفرات، بكثرة مائه، وتعذر خوضه، وقد استتر جسمه، وخفي أكثره، حتى كأن الماء مر به، فلم يبق منه إلا القليل، ولا ظهر إلا الرأس والتليل. وفي بَطْنِ هِنْزيطٍ وسَمْنِينَ للِظُّبَا ... وصُمَّ القَنَا ممن أَبِدْنَ بَديِلُ

هنزيط وسمنين: موضعان في بلاد الروم، والبطن: ما انخفض من الأرض. فيقول: وفي بطن هنزيط وسمنين، هذين (الموضعين)، للسيوف والرماح بديل ممن قتلنه، وعوض ممن أتلفنه، يريد: أن وقائع هذه الخيل، من هذين الموضعين، متصلة على الروم، فكلما عمرتها منهم طائفة أفنتها هذه الخيل بوقائعها، وإغارتها عليهم. طَلَعْنَ عَلَيْهم طَلَعْةً يَعْرِفُونَها ... لها غُررُ ما تَنْقَضِي وَحُجُولُ الغرر: معروفة، والحجول: بياض في قوائم الخيل. ثم قال: طلعت هذه الخيل على من ألفته في هذين الموضعين من الروم طلعة قد عرفوا مثلها، وعهدوا ما يشبهها لها، بجلالتها وعظمها، وشهرتها غرر لا تخفي بها، وحجول لا تستتير معها. تَمَلُّ الحُصونُ الشُّمُّ طولَ نِزَالنا ... فَتُلْقِي إلَيْنَا أَهْلَها وتَزُولُ

الحصون الشم: المستعلية. فيقول: تمل الحصون الممتنعة مداومتنا لقتالها، وملازمتنا لحصارها، فتسهل لنا الظفر بأهلها، ولا تمتنع عما نحاوله من هدمها، وتصبح كالزائلة بتغير بنيتها، واستحالة هيئتها. وَبِتْنَ بِحِصْنِ الرَّان رَزْحَي مِنَ الوَجَى ... وَكُلُّ عَزِيزٍ للأَميرِ ذَليلُ حصن الرام: من حصون الروم، والرزحي: القائمة عن أعياء وكلال، والوجى: الحفي. ثم قال: وباتت خيل سيف الدولة بحصن الران رزحي متوجئة، بما لاقته من سفرها، وما عاينته من شدة تعبها، وقد خضع ملك الروم لسيف الدولة، فذل عزيزهم، ودان منيعهم، واعترف بعبوديته صغيرهم وكبيرهم. وَفي كُلَّ نَفْسٍ مَا خَلاهُ مَلاَلَةُ ... وفي كُلَّ سَيْفٍ ما خَلاَهُ فُلُولُ ثم قال: وفي كل نفس من نفوس الجيش ملالة، لطول هذه الغزوة وكثرة وقائع هذه السفرة، ما خلا سيف الدولة، فإنه لا يهن ولا

يفتر، ولا يمل ولا يكسل، وكذلك سيف في ذلك الجيش، فله الضراب، وأوهنه الجلاد، وهو السيف الذي لا ينبو عن ضريبة، ولا يضيق بحمل عظيمة. وَدُونَ سُمَيْسَاطَ المَطَاميُر والمَلا ... وَأَوْدِيةُ مَجْهُولَةُ وهُجُولُ سميساط: بلد من بلاد الروم، والمطامير: حفر غائرة في الأرض، واحدتها مطمورة، والملا: الفلاة، والهجول: جمع هجل، وهو ما أطمأن من الأرض واتسع. فيقول: ودون سميساط التي حل جيش سيف الدولة فيها؛ ما اعترضهم من المطامير التي سلكوا بينها، والفلاة التي قطعوا بعدها، وما سلكوا بعد ذلك من الأودية المجهولة، والهجول المتصلة. لَبِسْنَ الدُّجَى فيها إلى أَرضِ مِرَعشٍ ... وللرُّومِ خَطْبُ في البِلادِ جَليِلُ مرعش: حصن من حصون الروم، ورد فيه الخبر على سيف الدولة بخروج الروم إلى بلاد الإسلام، فأبعتهم وأوقع بهم.

ثم قال: إن خيل ذلك الجيش لبست الدجى في هذه المواضع، وهي تسري إلى العدو وتسرع، وتخب نحوهم وتوضع، حتى أتت أرض مرعش، وخطب الروم في البلاد جليل مستشنع، ومخوف متوقع. فَلَمَّا رَأَوْهُ وَحْدَهُ قَبْلَ جَيْشِهِ ... دَرَوْا أَنَّ كُلَّ العالمِينَ فُضُولُ الفضول: الزوائد. فيقول: إن الروم لما رأوا سيف الدولة يقدم جيشه، ويقود جمعه، دروا أن العالمين بعده فضول زائدة، ونوافل ساقطة، وأنه يستغني بنفسه، ولا يفتقر إلى جيشه. وَأَنَّ رِمِاحَ الخَطَّ عَنْهُ قَصِيْرَهُ ... وَأَنَّ حَديدَ الهِنْدِ عَنْهُ كَليلُ الكليل: الذي لا يقطع. ثم أكد ذلك، فقال: ودروا أن رماح الخط تقصر عنه، لإحجام حاملها عن موافقته، وحديد الهند ينبو عنه، لجزع الضاربين به عن مجالدته. يشير إلى إحجام الفرسان عنه، واعتصامهم بالفرار منه. فَأَوْرَدَهُمْ صَدْرَ الحِصَانِ وَسَيْفَهُ ... فَتَىً بأْسُهُ مِثلُ العَطَاءِ جَزيلُ

الحصان: الفحل من الخيل. فيقول، مشيراً إلى لحاق سيف الدولة بالروم، وإيقاعه بهم: فصيرهم مورداً لصدر حصانه، ونهبة لحد سيفه، فتى بأسه شديد بالغ، كما أن عطاءه كثير شامل، فبأسه يماثل جوده، وإقدامه يشاكل فضله. جَوَادُ على العِلاَّتِ بالمالِ كُلَّهِ ... وَلِكنَّهُ بالدَّارِعينَ بَخِيلُ الغلات: العوائق، والجزيل: الكثير. ثم قال، مشيراً إليه: جواد على العلات المانعة، والعوائق المعترضة بضروب ماله كله، لا يستأثر بشيء من ذلك ولا يدخره، ولا يمسكه ولا يستكثره، ولكنه ضنين بفرسانه، بخيل أشد البخل بأصحابه. فَوَدَّعَ قَتْلاَهُمْ وَشَيَّعَ فَلَّهُمْ حُزُونُ البَيْضِ فيهِ سُهُولُ الحزون: جمع حزن، وهو ما غلظ من الأرض، والفل: المنهزم، والبيض: معروفة. فيقول، مخبراً عن سَيف الدولة: فودع قتلى الروم عند تركهم،

وشيع فلهم عند طلبهم، بضرب شديد، وجلاد وكيد، يكسر البيض في رؤوس الفرسان ويسحقها، ويحطها ويبسطها، ويجعل ما نتأ منها وارتفع، كما انخفض واتضع. وطابق بين التوديع والتشييع، والحزون والسهول، واستعار الحزون والسهول من البيض، مبدعاً بجميع ذلك. عَلَى قَلْبِ قُسْطَنْطينَ مِنْهُ تَعَجُّبُ ... وإنْ كانَ في ساقَيهِ منه كُبُولُ ثم قال: على قلب قسطنطين بن الدمستق، أمير جيش الروم، من ذلك الضرب تعجب شاغل، وتروع غالب، وإن كان لا يستنكر ذلك منه، وهو الذي أصاره إلى الأسر، وأودع حلق الكبل. لَعَلَّكَ يوماً يا دُمُسْتُقُ عَائِدُ ... فَكَمْ هَاربُ مما إليه يَؤولُ ثم يقول للدمستق؛ صاحب جيش الروم: لعلك عائد إلى مواقفة سيف الدولة، فيوردك القتل الذي فته بهربك، ويحيق بك الهلاك الذي استدفعته بفرارك، فرب هارب مما يؤول إليه، ومتخلص مما يورطه الحين فيه.

نَجَوْتَ بإِحْدَى مُهْجَتْيكَ جَريحَةً ... وَخَلَّفْتَ إِحدى مُهْجَتْيكَ تَسْيلُ ثم قال، مخاطباً للدمستق: أنت وابنك كالشيء الواحد، ومهجتاكما كالمهجة المفردة، فإن كنت نجوت بمهجتك بعد الجرح الذي نالك، وخزي الفرار الذي لحقك، فقد تركت مهجتك الثانية في قبض الأسر سائله، ولحقيقة الهلاك مباشرة، فما أدرك ابنك فقد أدركك، وما لحقه فقد لحقك. . أَتُسْلِمُ لِلْخَطَّيةِ ابْنَكَ هَارباً ... وَيَسْكُنُ في الدُّنْيا إليكَ خَليلُ ثم يقول للدمستق: أتسلم ابنك للرماح هارباً عنه، وتتركه في قبضة الأسر متبرئاً منه، ويسكن بعد ذلك إليك خليل تألفه، وتسر بعيش تستأنفه؟ بِوَجْهِكَ ما أنْسَاكَهُ من مُرِشَّةٍ ... نَصِيُركِ مِنْهاَ رَنَّة وَعَويلُ المرشة: (الجراحة) التي يندفع منها الدم، والرنة: رفع الصوت بالبكاء، والعويل: البكاء. ثم قال، زارياً عليه: بوجهك من الجراحة المرشة التي لحقتك، والالآم الموجعة التي لازمتك ما أنساك فقده، وسهل عليك أمره، ونصيرك من ذلك الإعلان بالرنين، والملازمة للعويل.

أَغَرَّكُمُ طُولُ الجيوشِ وَعَرْضُها! ... عَليَّ شَروبُ للجيوشِ أَكُولُ يقول، مخاطباً للروم: أغركم احتفال جيوشكم، وكثرة عددكم، والجيوش لعلي سيف الدولة، كالغذاء الذي يتقوت به، ويتحكم في استعماله له، فهو يشرب الجيوش ويأكلها، ويتلفها ويهلكها. وذكر الشرب والأكل على سبيل الاستعارة. إذا لم تَكُنْ لِلَّبثِ إلاَّ فَريسةً ... غَذاهُ ولم يَنْفَعْكَ أَنَّكَ فِيلُ الفريسة: ما اختلسه الأسد من الحيوان، فدق عنقه، والفرس: دق العنق، والليث والفيل: معروفان. ثم قال: إذا كنت فريسة لليث يأكلك، ويتقوتبك، وكنت فيلاً من عظمك، غذاة أنك فيل وأشبعه، وسره ضخمك ووافقه، ولم ينفعك أنت عظم خلقك، ولا عصمك من الأكل ضخامة جسمك، وإنما ضرب هذا مثلاً للروم، وما كانوا عليه من الكثرة، وغلبه سيف الدولة لهم مع القلة. إذا الطَّعْنُ لم تُدْخِلْكَ فيه شَجَاعةُ ... هي الطَّعنُ لم يُدْخِلْكَ فيه عَذُولُ

ثم قال: إذا الطعن لم يحملك عليه، ولا يدخلك فيه، شجاعة هي الطعن، وبها يكون البطش والفعل، لم يدخلك فيه عاذل يعذلك على الجبن، ويستقصرك في قبيح الفعل؛ لأن الخلق غالبة، والطبائع للإنسان لازمة. فإنْ تَكُن الأَيَّامُ أَبْصَرْنَ صَوْلَهُ ... فَقَدْ عَلَّم الأَيَّامَ كَيْفَ تَصُولُ الصولة: حملة الباطش. فيقول: فإن تكن الأيام أبصرت بطش سيف الدولة وصوله، ووقائعه وفعله، فقد علمها من ذلك ما لم تعلمه، وكشف لها ما تعرفه، ونهج لها سبيل الصول والقدرة، ونبهها على حقائق الغلبة، مع أن هذه الأحوال إلى الأيام تنسب، وآثارها فيها تمثل. فَدَتْكَ مُلوكُ لم تُسَمَّ مَواضِياً ... فإنَّكَ ماضي الشَّفْرَتيْنِ صَقيلُ المواضي: السُّيوف. ثم قال لسيف الدولة: فدتك ملوك تروم مشابهتك، ولم تسم سيوفاً مواضي، فتماثلك في اسمك، وتعادلك في قدرك، فإنك السيف اسماً

وحقيقة، وتلقباً وخبرة، ماضي الشفرتين، صقيل الصفحتين. إذا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ سَيْفَاً لِدَوْلَةٍ ... ففي النَّاسِ بُوقَاتُ لها وَطُبولُ البوُقَاتُ والطُّبولُ: معروفة. ثم قال: إذا كانت صفات الناس معربة عنهم، وأسماؤهم مبينة لهم، ونسبوا إلى الدولة بحسب مواضعهم منها، وأقدارهم فيها، فسيفها في أرفع منازلها، وأجل مراتبها، ومنهم لا محالة من يحل فيها محل البوقات والطبول التي تتخذ للتهويل والشنعة، ولاحظ لها في العلو والرفعة. يشير إلى محل المتصرفين في الدولة من علي بن حمدان، محل البوقات والطبول من السيف الصارم الصقيل، واسمه على ذلك دليل قاطع، وشاهد صادق. أنا السَّابقُ الهادِي إلى ما أَقُولُهُ ... إذ القَوْلُ قَبْلَ القَائِلينَ مَقُولُ ثم يقول: أنا السابق إلى ما أبدعه في القول، الهادي إلى ما أغرب به من الشعر، لا اهتدي في ذلك بمن سبقني بعمره، وفاتني بتقدم عصره، إذ كان غيري من القائلين لا يخرج عما قيل قبله، ولا يورد إلا ما قد قاله غيره.

وما لِكَلاَمِ النَّاس فيما يَرْيْبُني ... أُصُولُ ولا لِلْقائليهِ أُصُولُ ثم قال: وما لكلام حاسدي من الناس فيما أستريبه منهم، ويتصل بي عنهم، أصول ثابتة في الصدق، كما أن ما للقائلين بذلك أصول ثابتة في الفضل، فسقوطهم في أقوالهم كسقوطهم في أحوالهم. وهذه العبارة وإن زادت على لفظه، فهي مفهومة من حقيقة قصده. أُعَادَي عَلَى مَا يُوجِبُ الحُبَّ لِلْفَتَى ... وأَهْدَأُ والأَفْكَارُ فيَّ تَجُولُ ثم يقول، مخبراً عن نفسه، ومتشكياً للمغترين بحسده: أعادي على ما أنفرد به من الفضل، وأبدعه في صناعة الشعر، مع الإنصاف (الذي) يوجب الحب، ويكسب المصافاة والود، وأهدأ منطوياً على سلامة الصدر، ومجانبة الحسد والضغن، وأفكار حاسدي في جائله، وأنفسهم متشاغلة. سِوَى وَجَعِ الحُسَّادِ داوِ فإنَّهُ ... إذا حَلَّ في قَلْبٍ فَلَيْسَ يَحُولُ ثم قال على سبيل المثل: غير ما يصطنعه الحاسد، فداوه بلطفك،

وتعلقه بحلمك، وأما وجع الحسد فلا طمع فيه، ولا سبيل للعلاج عليه؛ لأنه إذا حل في قلب المتخلق به، ثابت لا يحول، ودائم لا يزول. ولا تَطْمَعَنْ من حَاسدٍ في مَوَدَّةٍ ... وإنْ كُنْتَ تُبْدِيها له وَتُنِيلُ ثم قال: ولا تطمعن، ممن تتيقن حسده، في صدق مودة، وخلوص محبة، وإن أظهرت ذلك والتزمته، وأبديته واعتقدته، وبذلت له مع ذلك النيل والمشاركة، والبر والمكارمة، فالحسد داء لا يبرأ منه، وخلق لا ينفصل صاحبه عنه. وإنا لَنَلْقَى الحادِثَاتِ بأَنْفُسٍ ... كَثِيُر الرَّزَايا عِنْدَهُنَّ قَليلُ يقول، مخبراً عما هو عليه من الصبر وقلة الجزع لحوادث الدهر: وأنا لنلقي الحادثات بأنفس صابرة، وعزائم ثابتة، تستقل الرزايا الكثيرة، وتحتقر الخطوب الجليلة. يَهونُ عَلَيْنا أَنْ تُصَابَ جُسُومنا ... وَتَسْلَمُ أَعْرَاضُ لنا وعُقُولُ ثم قال: يهون علينا أن تصاب جسومنا في الحرب، وأن تتعرض

للجراح والقتل، إذا كانت أعراضنا وافرة، عقولنا من الخطأ سالمة. فَتِيْهَاً وَفَخراً تَغْلبَ ابنَةَ وائِلِ ... فأَنْتِ لخيرِ الفَاخِرينَ قَبِيلُ تغلب وبكر ابنا وائل بن قاسط، ومن ولديهما الجمهور الأعظم من ربيعة بن نزار، وأنث تغلب؛ لأنها قبيلة؛ ومنهم رهط سيف الدولة. فيقول لتغلب؛ هذه القبيلة: فتيهي تهياً، وافخري فخراً، فأنت لسيف الدولة قبيل، وهو خير الفاخرين، وأكرم من يرفع به من الأكرمين. وحذف الفعلين في قوله: (فتيهاً وفخراً)؛ لدلالة المصدرين عليهما. يَغُمُّ عَلَّياً أَنْ يَمُوتَ عَدُوُّهُ ... إذا لَمْ تَغُلْهُ بالأَسِنَّةِ غُولُ الغول: الإهلاك، والغول: المنية. ثم قال: يغم عليا، يريد: سيف الدولة، أن يموت عدوه حتف أنفه، مع ما في ذلك له من الكفاية، وبلوغ الرغبة، وسقوط المؤونة، إذا لم تغله أسنته، وتحيط به مقدرته، وتهلكه وقائعه؛ لأنه على يقين من الظفر به، فإذا أفاته الموت ساءه ذلك. وظنه شيئاً سبق إليه، ومنع من بلوغ المراد فيه.

شَرِيْكُ المَنَايَا والنُّفوسُ غَنْيمةُ ... فَكُلُّ مماتٍ لم يُمِيتْهُ غُلُولُ الغلول: ما أخذ على سبيل الخيانة من الفيء. ثم قال: هو شريك المنايا بكثرة ما يحدثه من القتل، ويتلفه من النفوس في الحرب، والنفوس له كالغنائم المحتازة، والأنهاب المتملكة، فكل ممات لا يشرك المنايا فيه، فهو كالغلول المأخوذة على غير وجوهها، والأمور المقصودة على غير سبيلها. يشير إلى كثرة وقائعه، واتصال ملاحمه. فإن تكُن الدَّوْلاَتُ قِسْماً فإنَّها ... لِمَنْ وَرَدَ الموتَ الزُّؤَامَ تَدُولُ الدولة: مدة الظفر، ودولة السلطان من ذلك، وهي بمعنى المصدر، ويقال دالت لفلان دولة فهي تدول. والموت الزؤام: العاجل. فيقول: فإن تكن الدولات أقساماً تستحق، وحظوظاً تستوجب، فإن أحق من كانت له فتملكها، وأسعدته فانفرد بها، من ورد الموت الزؤام غير متهيب، وأقدم عليه غير متوقع.

لِمَنْ هَوَّنَ الدُّنيا على النَّفْسِ سَاعَةً ... وَلِلْبيضِ في هَامِ الكُماةِ صَلِيبلُ الكماة: الشجعان، والبيض: السيوف، والصليل: امتداد الصوت. ثم أكد ذلك، فقال: لمن هون الدنيا على نفسه ساعة، والأبطال تتجالد، وكؤوس الموت تتنازع، وأحكام السيوف بين الفرسان نافذة، وأصواتها في رؤوس الشجعان عالية.

ودخل عليه يوماً يعوده من علة وجدها، وقد كان عاتباً عليه لتأخر مدحه عنه، فقال له. بِأَدْنَى ابْتِسَامٍ مِنْكَ تَحْيا القَرَائِحُ ... وَتَقْوَى مِنَ الجِسْمِ الضَّعيفِ الجَوارِحُ القريحة: العقل. فيقول لسيف الدولة: بأدنى ابتسام منك تحيى العقول الطائشة، وتسكن النفوس الخائفة، ةبأيسر شواهد رضاك تقوى جوارح الجسم الضعيف، ويؤمن من مكاره الأمر المخوف. وَمَنْ ذَا الَّذي يَقْضي حُقُوقَك كُلَّها ... وَمَنْ ذَا الذي يُرْضي سِوَى مَنْ تُسَامحُ ثم قال: ومن ذا الذي يقوم بقضاء حقوقك، ويستقل بشكر نعمك، ويبلغ ما يرضي في ذلك، سوى من تسمح له في ما أغفل، وتتجاوز عنه فيما قصر.

وَقَدْ تَقْبلُ العُذْرَ الخَفِيَّ تَكَرُّماً ... فما بَالُ عُذْريَ وَاقِفَاً وَهْو واضِح ثم يقول لسيف الدولة: وقد تقبل بسعة فضلك، ومشهور كرمك، العذر الذي يخفي فيه الصدق، ولا يستتر عليه الحق، فما بال عذري واقفاً لديك لا يسمع، وهو من ذلك واضح لا يدفع؟ وإنَّ مُحالاً إذ بكَ العَيْشُ أَن أُرى ... وَجِسْمُكَ مُعْتَلُّ وَجِسْمِيَ صَالِحُ ثم قال: وإن من المحال إذ كان عيشي بك، ونفسي خالصة لك، أن يصلح جسمي ويعتل جسمك، وتسلم حالي وتختل حالك، بل آلم لألمك، وأشكو أضعاف ما تشكوه من وجعك. وَمَا كَانَ تَرْكُ الشَّعْرِ إلاَّ لأَنَّه ... تُقَصَّرُ عَنْ وَصفِ الأَميرِ المدائِحُ ثم قال: وما تركت الشعر مغفلاً لمدحك، ولا تأخرت به مفرطاً في شكرك، ولكن الشعر يقصر عن حقيقة وصلك، ويتواضع دون رفعة قدرك، ويبعد فيه ما يليق بك، ويتعذر منه ما ارتضيه لك.

وقال أيضاً في علته: أَيَدْري مَا أَرَابَكَ مَنْ يُرِيبُ ... وَهَلْ تَرقَى إلى الفَلَكِ الخُطُوبُ راب الشيء وأراب: بمعنى واحد، إذا أوجب الريبة. فيقول لسيف الدولة: أيدري هذا الألم المطيف بك، وهذا الوجع العارض لك، من يريبه منك فيؤلمه، ويشكيه ويمرضه، ولو تبين ذلك لأعظمه، ولو دراه لتهيبه، فالفلك لا ترقي إليه الخطوب لرفعته، وقدرك من العلو في أبعد غايته. وَجِسْمُكَ فَوْقَ هِمَّةِ كُلَّ دَاءٍ ... فَقُربُ أَقَلَّها مِنْهُ عَجِيبُ ثم قال: وهمم الأدواء تتقاصر عن جسمك، وتتواضع عن قدرك، فقرب أقلها منك غريب مستنكر، وعجيب مستعظم. يَجَمَّشُكَ الزَّمَانُ هَوىً وَحُبَّاً ... وَقَدْ يُؤْذَي مِنَ المِقَةِ الحَبْيبُ

التجميش: المغازلة والملاعبة، والمقة: المحبة. ثم قال: ويجمشك الزمان فعل المعجب بك، ويغازلك فعل المتحبب إليك، وقد يؤذي المحب حبيبه غير عامد، ويصيبه بالألم غير قاصد. وَكَيْفَ تُعِلُّكَ الدُّنْيا بِشَيْءٍ ... وَاَنْتَ بِعِلَّةِ الدُّنيَا طَبيبُ ثم يقول: وكيف تعلك الدنيا بطائف يمرضك، وشكية توجعك، وأنت طبيب الدنيا من عللها، والمجير من مخوف ألمها؟ فبالإخصاب في فضلك يستدفع محلها، وبالتصرف في فضلك يستكف ضرها. وَكَيفَ تَنُوبُكَ الشَّكْوىَ بِدَاءٍ ... وَأَنْتَ المُسْتَغَاثُ لَمِا يَنُوبُ ثم قال: وكيف تنوبك الشكوى بدائها، وتعتمدك بألمها، وأنت المستغاث في الحوادث الطارقة، والمنتصر به في النوائب العارضة؟ مَلِلْتَ مُقَامَ يَوْمٍ لَيْسَ فيه ... طِعانُ صَادِقُ ودَمُ صَبِيبُ ثم قال: مللت إقامتك على حال دعة، وتأخرك عن شن غارة، وانصرام يوم من أيامك دون وقعة على أعدائك، تعمل فيها الطعان الصادقة، وتكثر فيها الدماء الجارية.

وأَنْتَ الملكُ تُمْرِضُهُ الحَشَايَا ... لهِمَّتِه وَتَشْفِيهِ الحروبُ الحشايا: الفرش. ثم قال: وأنت الملك الجلد الصارم؛ القوي النافذ، الذي يمرضه تمهد الفرش الوثيرة، فيوحشه لزوم القصور المشيدة، لبعد همته، وكرم نيته، وسروره في الحروب بالإقدام على شدائدها، وتشفيه بتقدمه في وقائعها. وما بِكَ غيرُ حُبَّكَ أَنْ تَرَاها ... وَعَثِيرُها لأَرْجُلها جَنِيبُ العثير: الغبار، وجنيب: فعيل، من جنبت الدابة: إذا قدتها. فيقول لسيف الدولة: وما يشكيك إلا تأخرك عن الغزو، وبعد عهدك بطراد الخيل، وأن ترى ما تثيره من الرهج في الغارات، جنيباً لأرجلها، يقفوها ويتبعها، ويتلوها ويصحبها. مُجَلَّحَةً لها أرضُ الأَعَادي ... وللسُّمْرِ المَناخِرُ والجُنُوبُ

المجلحة: المصممة. ثم قال، يريد الخيل: مجلحة فيما تقصده، مصممة فيما تعتمده، لها أرض الأعادي تطؤها، وديارهم تتملكها، ولرماحك مناخر فرسانهم تطعنها، وجنوب شجعانهم تخترقها. فَقَرَّطْها الأَعِنَّةَ رَاجِعَاتٍ ... فإنَّ بَعيدَ مَا طَلَبْتَ قَرِيبُ تقريط الفرس عنانة: إمكانه في الجري، حتى يحل منه محل القرط من العنق. ثم قال: فداو شكيتك بتقريط هذه الخيل أعنتها، فإن ذلك مقرون ببرئك، وبعيد ما تطلبه قريب مع سعدك. إذا دَاءُ هفَا بقُرَاطُ عَنْهُ ... فَلَمْ يُعْرفْ لِصَاحِبِهِ ضَرِيبُ هفا: بمعنى زل، والضريب: النظير. فيقول: إذا عرض داء معضل، يعجز بقراط علاجه، وأمر مشكل،

لا يستبين لأهل المعرفة صوابه، ولم يعرف لصاحب ذلك الداء نظير، ولا عهد لذلك الأمر شبيه. بِسَيْفِ الدَّولةِ الوَضَّاءِ تُمْسِي ... جُفُوني تَحْتَ شَمْسٍ ما تَغِيبُ فإني أقتدر على علاج ذلك وكشفه، بإقبال سيف الدولة وسعده، وتمسي جفوني يوجهه الوضاء، وشخصه الميمون، تحت شمس منيرة ما تغرب، وفي أنوار قريبة لا تحجب. فَأَغْزو مَنْ غَزَا وبه اقْتِدَاري ... وأَرْمِي مَنْ رَمَى وبِهِ أُصِيبُ ثم قال: فأغزو من غزاه مقتدراً بقدرته، وأرمي من رماه مصيباً له بسعادته. وَلِلْحُسَّادِ عُذْرُ أَنْ يَشُحُّوا ... عَلَى نَظَري إليه وأن يَذُوبوا ثم يقول: وللحاسدين لي فيه عذر بين، وحجاج بالغ، في أن

يشحوا بالنظر إليه، ويذوبوا غيرة منهم عليه. فإني قَدْ وَصَلتُ إلى مَكانٍ ... عليْه تَحْسُدُ الحَدَقَ القُلوبُ فإني قد وصلت، بحسن رأيه، وكريم إقباله، إلى مكان من استقرابه، تنافس القلوب الحدق فيه، وتحسد النفوس الأبصار عليه.

وقال أيضاً: إذَا اعْتَلَّ سَيْفُ الدَّوْلَةِ اعْتَلَّتِ الأَرْضُ ... وَمَنْ فَوْقَها والبَأْسُ والكَرَمُ المَحْضُ المحْضُ: الخَالِصُ. فيقول: إذا اعتل سيف الدولة اعتلت الأرض بعلته، واختلت لاختلال حالته، وكذلك من فوقها من الناس، وخالص الكرم والبأس، كل ذلك بألمه، ويشكو ما يشتكيه من وجعه؛ لأنه ولي النعم، والمتفرد بالبأس والكرم. وكَيْفَ انْتِفَاعي بالرُّقَادِ وإنَّمَا ... بِعِلَّتِهِ يَعْتَلُّ في الأَعْيُنِ الغُمْضُ ثم قال: وكيف انتفع بالرقاد مع ما شكاه، وآلفه مع ما عراه، وعلته تطرد النوم بالسهر، وتبعث في القلب شواغل الفكر. شَفَاكَ الَّذي يَشْفِي بِجُودِكَ خَلْقَهُ ... فَإنَّكَ بَحْرُ كُلُّ بَحْرٍ لَه بَعْضُ ثم قال، داعياً لسيف الدولة، ومخاطباً له: شفاك الذي جعل جودك شفاء للخلق، ومادة من مواد الرزق، فإنك بحر من الكرم، كل بحر جزء منه، وكل مجد محمول عنه.

وعوفي سيف الدولة، فقال: المجدُ عُوفَي إذْ عُوفْيِتَ وَالكَرَمُ ... وَزَالَ عَنْكَ إلى أَعْدَائِكَ الأَلُم يقول لسيف الدولة: المجد عوفي بعافيتك، والكرم صح بصحتك، وزال ألمك إلى أعدائك الذين كان تأخر عنهم غزوك، وأغمد دونهم سيفك. صَحَّتْ بِصِحَّتكَ الغَارَاتُ وابْتَهَجَتْ ... بِها المَكَارمُ وانهلَّتْ بِهَا الدَّيَمُ الانهلال: الانسكاب، والديم: السحاب. ثم قال: صحت الغارات بتمام صحتك، وانتظمت الجيوش بانتظام قوتك، وابتهجت بذلك المكارم، وأشرق حسنها، وانهلت الديم، واتصل صوبها. وَرَاجَعَ الشَّمْسَ نُورُ كَانَ فَارَقَها ... كَأَنَّما فَقْدُهُ في جِسْمها سَقَمُ

ثم قال: وراجع الشمس بصحتك، وعاودها بزوال علتك نور، كان فقده كالسقم في جسمها، وعدمه كالنقصان المقصر بحسنها. وَلاَحَ بَرْقُكَ لي مِنْ عَارِضَيْ مَلِكٍ ... ما يَسْقُطُ الغَيْثُ إلاَّ حِينَ يَبْتَسِمُ العارضان: شقا الفَم. فيقول لسيف الدولة: ولاح لي ببشرك، وبدا لي بتبسمك، برق لامع، ونور ساطع، لا يسقط الغيث إلا في أثره، ولا يوجد إلا في موضعه. يشير بذلك إلى العطاء الذي يتلو بشره، والنوال الذي يقفو تبسمه. يُسْمَى الحُسَامَ وَلَيْسَتْ مِنْ مُشَابَهَةٍ ... وَكَيْفَ يَشْتَبِهُ المخدُومُ والخَدَمُ يقال: سميته وأسميته بمعنى، وتسمى: يفعل، من أسميت. ثم قال: يسمى الحسام، والحسام لا يشبهه، ويوصف به، وهو لا يعدله، وكيف يشتبه المخدوم بخادمه، ويعدل الملك ببعض آلته؟ تَفَرَّدَ العُرْبُ في الدُّنيا بِمَحْتِدِه ... وَشَاركَ العُرْبَ في إحسانهِ العَجَمُ

المحتد: الأصل. فيقول: إن سيف الدولة تفردت العرب بنسبه وأصله، وشاركتها العجم في عطائه وبذله. وأَخْلَصَ اللَّهُ للإسلامِ نُصْرَتَهُ ... وإن تَقَلبَ في آلائِهِ الأُمَمُ الآلاء: النعم. ثم قال: وجعل الله نصرته خالصة للإسلام، وإن كان قد شمل الأمم بالتفضل والإحسان. وما أَخُصُّكَ في بُرْءٍ بِتَهْنِئةٍ ... إذا سَلِمْتَ فَكُلُّ النَّاسِ قَدْ سَلِموا ثم قال، مخاطباً الدولة: وما أغبطك مفرداً بصحتك، ولا أخصك في التهنئة ببرئك، (بل) سلامة الناس موصولة بسلامتك، وكفاية الله لهم متمكنة بكفايتك.

وقال في انسلاخ شهر رمضان، يهنئه بالفطر. الصَّوْمُ والفطْرُ والأَعْيَادُ والعُصُرُ ... مُنِيرَةُ بِكَ حَتَّى الشَّمْسُ والقَمَرُ العصر: الدهور، واحدها عصر، كما يقال سقف، واحدها سقف. فيقول لسيف الدولة: الصوم وحينه، والفطر وقدومه، والأعياد المنتظرة، والعصر المتصرفة، منيرة بسعدك، متلألئة بإقبال جدك، حتى الشمس والقمر؛ فإن ضياءهما يتزايد بحسن أيامك، ويتمكن بيمن سلطانك. تُري الأَهِلَّةَ وَجْهاً عَمَّ نَائِلُهُ ... فما يُخَصُّ بِهِ مِنْ دُونها البَشَرُ

ثم قال: ترى الأهلة منك وجهاً ينير حسنه، ويشمل العالمين فضله، فتنال الأهلة من التأيد في الضياء بحسنه، كالذي ينال الناس من الارتفاق بفضله. ما الدَّهْرُ عِنْدَكَ إلاَّ رَوْضةُ أُنْفُ ... يَا مَنْ شَمَائِلهُ في دَهرِهِ زَهَرُ الأنف من الرياض: التي لم ترع، والزهر: النوار. ثم قال مخاطباً له: ما الدهر عندك إلا كالروضة الأنف؛ حسناً وبهجة، وإشراقاً ونضرة، يا من خلائقه في دهره كالزهرات المونقة، وأنوار الرياض المعجبة! ما يَنْتَهي لَكَ في أَيامِهِ كَرَمُ ... فلا تنْتَهَى لَكَ في أَعْوَامهِ عُمُرُ فإن حظَّك من تَكْرارِها شَرَفُ ... وَحَظُّ غَيْرِكَ مِنْهُ الشَّيْبُ والكِبَرُ ثم يقول: ما يتناهى كرمك في أيامه، ولا ينحسر قدرك في مقداره؛ فلا انتهى عمرك ولا انقطع، ولا انقضت أعوامه ولا انصرم، فإن

حظك من تكرار الأعوام عليك، شرف تستجده وتبينه، وكرم تشمل به وتوليه، إذا كان حظ غيرك من تراخي عمره، وتكرار أعوامه، شيب يلحقه، وكبر يهرمه.

ومد قويق؛ وهو نهر بحلب، فأحاط بدار سيف الدولة، فخرج أبو الطيب من عنده، فبلغ الماء إلى صدر فرسه، فقال: حَجَّبَ ذا البحرَ بِحَارُ دُونَهُ ... يَذُمُّها قَوْمُ وَيَحْمَدُونَهُ حجب: إذا ثقل، تكثير حجب إذا خفف. فيقول، مشيراً إلى سيف الدولة: حجب ذا البحر من النهر الذي فاض حول قصره بحار تمنع منه، وتصد قاصديه عنه، فهي تذم لأنها تعوق عن قصده، وهو يحمد لما يبذله من فضله. يَا مَاءُ هَلْ حَسَدْتَنَا مَعِينَهُ ... أم اشْتَهَيْتَ أَنْ تُرَىَ قَرِينَهُ المعين: الماء الجاري. ثم قال: يا ماء هل حسدتنا في بذله، أم ارتجيت أن تقارنه في جلالة

قدره؟؟ وكنى بالمعين عن البذل، على سبيل الاستعارة. أَمِ انتَجَعْتَ لِلْغِنَي يَمِيْنَهُ ... أضمْ زُرْتَهُ مُكْثِراً قَطِيْنَهُ الانتجاع: الارتحال في طلب المرعى، والقطين: أهل الرجل وماشيته المقيمون معه. فيقول: أم انتجعت أيها الفيض يمين هذا الملك، لتفيد الغنى بجوده، أم جئته مكثراً لحاشيته وعديده. أَمْ جِئْتَهُ مُخَنْدِقاً حُصُونهُ ... إنَّ الجِيادَ والقَنا يَكْفِينهُ ثم قال: أم جئته مخندقاً لحصينه، وحارساً لقصره، فإن كنت أردت ذلك، فجياده ورماحه يكفينه ما تقصده، وتغنيه عما تفعله. يا رُبَّ لُجَّ جُعِلتْ سَفِيْنَهُ ... وَعَازِبِ الرَّوضِ تَوَفَّتْ عُوْنَهُ اللج: البحر، والعازب من الروض: البعيد، والعون: جمع عانة، وهو القطيع من حمر الوحش، وتوفت: أماتت، وهو تفعلت: من الوفاة. فيقول: يا رب قفر ما للج في إشفاق عابره، وشدة مخافة سالكه،

جعلت هذه الخيل سفينه التي تقرب عبوره، وتسهل على المقتحم له ركوبه؛ ثم قال: ورب روض عازب، ومكان من أرض العدو ممتنع، قد نزلت هذه الخيل فيه مستبيحة له، وحلته مطمئنة به، فصادت وحشه، وعقرت عونه. وَذِي جُنُونٍ أَذْهَبَتْ جُنُونَهُ ... وَشَربِ كَأسٍ أَكْثَرَتْ رَنينَهُ الشرب: اسم للجماعة الذين يشربون، وأخبر عنه تفرداً على لفظه؛ لأن لفظه الإفراد، وإن كان معناه معنى الجمع، والرنين: امتداد الصوت بالبكاء. ورب ذي جنون من الأعداء، مدل بنفسه، مغتر بحاله، قد أوقعت هذه الخيل به فوعظته، وصيرته تحت المخافة فقومته، ورب شرب من الأعداء وطئتهم هذه الخيل فنقلتهم من الفرح والأمن إلى الرنين والحزن، وأبدلتهم بالغناء أنينا، وبالحركات سكوناً، يشير إلى القتل الذي نالهم، والجراح التي عمتهم. وَأَبْدَلَتْ غِنَائَهُ أَنِينَهُ ... وَضَيْغَمٍ أَوْلَجَها عَرِيْنَهُ

وَمَلِكٍ أَوْطأَهَا جَبِينَهُ ... يَقُودُها مُسَهَّداً جُفُونَهُ الضيغم: الأسد، والعرين: الغابة التي يستتر فيها. والسهاد: ذهاب النوم، والشؤون: جمع شأن، وهو المذهب. ثم قال: ورب عدو لسيف الدولة، أوطأ هذه الخيل أرضه، وأولجها داره، وهو كالأسد في شدته، وموضعه كالعرين في منعته، ورب ملك من أعدائه قتله فأوطأ هذه الخيل وجهه، وفرق بها جمعه. وأشار بجبينه إلى ذلك، ثم قال: يقودها قوياً لا يكسل، ويقظان لا يغفل، مسهد الجفون، لا يسكن ولا يتأيد بظهير، ولا يتكل على غيره في مهم الأمور. مُباشِراً بِنَفْسِهِ شُؤُونهُ ... مُشَرَّفَاً بِطَعْنِهِ طَعِيْنَهُ ثم يقول: إن سيف الدولة يشرف من طعنه، ويرفع شأن من قتله؛ لأن الطعن إنما يكون في أغلب الأحوال بعد مجاولة، والقتل بعد مواقفة، وقليل في الفرسان من يجاوله، ومعدوم فيهم من يوافقه.

عَفِيفَ مَا في ثَوْبِهِ مَأمونَهُ ... أَبْيضَ ما في تَاجِهِ مَيْمُونَهُ ثم وصفه بأنه عفيف فرجه، مأمون أمره، وأشار بما في الثوب إلى ذلك، وأنه أبيض الوجه، ميمون الشخص، وأشار بما في التاج إلى ذلك، وسمى ما كان على رأسه تاجاً، على سبيل الاستعارة والترفيع. بَحْرُ يكونُ كُلُّ بَحْرٍ نُونَهُ ... شَمْسُ تَمَنَّى الشَّمْسُ أن تَكُوْنَهُ النون: الحوت. ثم قال: إنه البحر الذي يغمر البحار بجوده، ويقيس عليها ببذله، فتغيب البحار في فضله، وتصغر وتقل في كرمه، وتحتقر كما يغيب النون في البحر، ويستتر في الماء الغمر، وهو الشمس الذي أضاءت مكارمه، وزينت الأيام محاسنه، حتى تمنت الشمس قدره، ونفست عليه فضله، وودت أن تكون شخصه. إن تَدْعُ يا سَيْفُ لِتَسْتَعِينهُ ... يُجِبْكَ قَبْلَ أَنْ تُتِمَّ سِسْنَهُ

يقول: إن من دعا سيف الدولة مستعيناً به، وناداه مستغيثاً له، أجابه قبل استكمال ذكره، وأغاثه قبل أن يلفظ بالسين من اسمه. أَدَامَ مِنْ أَعْدَائِهِ تَمْكِينَهُ ... مَنْ صَانَ مِنْهُمْ نَفْسَهُ وَدِيْنهُ ثم دعا له، فقال: أدام الله تمكينه من أعدائه، ونصرته عليهم، ومواصلة ما فعل له فيهم، من صان منهم نفسه بحفظه، أمد دينه بتأييده ونصره.

وقال يمدحه، ويهنئه بالعيد، أنشدها إياه في ذي الحجة سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة. لِكُلَّ امرِئٍ مِنْ دَهْرِهِ مَا تَعَوَّدَا ... وَعَاداتُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ الطَّعْنُ في العِدَا يقول: لكل امرئ أن يحاول في دهره، ما عهده، وأن يطالب ما تعوده، وعادات سيف الدولة الطعن في أعاديه، والظهور على من يعارضه ويناوئه. وأن يُكْذِبَ الإرْجَافَ عَنْهُ بِضِدَّهِ ... وَيُمْسِي بِمَا تَنْوي أَعَدِيهِ أَسْعَدَا وأن يكذب ما يرجف به حاسده، من التربص بضده، من صنع الله له، ويمسي أسعد منهم بالظهور الذي ينوونه، والظفر الذي يتمنونه. ورُبَّ مُرِيدٍ ضَرَّهُ ضَرَّ نَفْسَهُ ... وَهَادٍ إلْيهِ الجَيْشَ أَهْدَي وَمَا هَدَى ثم يقول: ورب من رام ضره، فضر نفسه، وخالف أمره، فذم رأيه، ورب من هدى إليه جيشاً فأظفره الله به، وقاده نحوه فأظهره الله عليه، فصار مهدياً إليه غنيمة بهدايته، ومقرباً له أملاً بدلالته.

وَمُسْتَكْبِرٍ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ سَاعةً ... رَأَى سَيْفَهُ في كَفَّهِ فَتَشَهَّدا ثم قال: ورب مستكبر في نفسه، مستبصر في كفره، لم يعرف الله ولا وحده، ولا أقر به ولا عظمة، رأى سيف سيف الدولة في كفه فأسلم ووحد، وأشرف على القتل فعظم الله وتشهد. هُوَ البَحْرُ غُصْ فيه إذا كَانَ سَاكِناً ... على الدُّرَّ وأحْذَرْهُ إذا كَانَ مُزْبِدا ثم يقول: إن سيف الدولة هو البحر في جلالة قدره، وفي كرمه وفضله، فإذا أطعته وياسرته، أصبت منه غاية الفضل، كما أن الذي يغوص في البحر عند سكونه، قد يظفر منه بأنفس الدر، وأحذره عند سورة غضبهِ، كما يحذر البحر عند تهيجه ورميه بزبده. فإنّي رَأَيْتُ البحرَ يَعْثُرُ بالفَتَى ... وَهَذا الّذي يَأْتي الفَتَى مُتَعَمَّدَا ثم أَبان أن سيف الدولة أحق من البحر بالهيبة، فقال: فإني رأيت البحر إنما يردي راكبه عاثراً به، ويسوءه غير متعمد له، وسيف الدولة يردي من عاقبه على قصد، ويناله بالمكروه على معرفة وعمد. تَظَلُّ مُلُوكُ الأَرْضِ خَاشِعَةً لَهُ ... تُفَارِقُهُ هَلْكَى وَتَلْقَاهُ سُجَّداَ الخاشع: الذي تغض الهيبة بصره، وهلكى: جمع هالك على غير قياس من لفظه، ولكنه لما كان الهالك محمولاً على الهلاك، صار بمعنى مفعول فجمع جمع قتيل وجريح، لأن كل واحد منهما بمعنى مفعول، فقيل هالك

وهلكى، كما قيل: جريح وجرحى، وقتيل وقتلى. فيقول: تظل ملوك الأرض خاشعة لسيف الدولة، تفارقه هلكى من مخافته، وتلقاه بالسجود خاضعة لمهابته. وَتُحْي لَهُ المَالَ الصَّوارِمُ والقَنَا ... وَيَقْتُلُ مَا يُحْيى التَبُّسمُ وَالجَدّا الجدا: الإعطاء. ثم قال: وتحيى له المال سيوفه ورماحه بالبلاد التي يفتحها، والطوائف التي يتملكها، فتجمع له السيوف والرماح من المال ما تحييه بكثرته، وتظهره بتتابع فائدته، ويقتل ما تحييه من ذلك بشر سيف الدولة بالقاصدين، وجزيل عطائه للزائرين. ذَكيُّ تَظَنَّيهِ طَلِيْعَةُ عَيْنِهِ ... يَرَى قَلُبُهُ في يَوْمِهِ ما تَرَى غَداً الذكي: الفطن، والتظني: إعمال الظن، وطليعة القوم: الذي يرقب لهم أمر العدو. فيقول: إن سيف الدولة ذكي النفس، صادق الحدس، ظنه كالطليعة لعيينه، تبدي له الشيء قبل رؤيته، وتمثله قبل مشاهدته على

حقيقته، فيرى قلبه بصادق الظن في يومه، كالذي تراه عينه بحقيقة النظر في غده. وَصُولُ إلى المُسْتَصْعَبَاتِ بِخيلهِ ... فَلَوْ كَانَ قَرْنُ الشَّمْسِ مَاءً لأوْرَدَا قرن الشمس: أعلى قرصها. ثم قال: إنه وصول بخيله إلى المستصعبات، مقدم بها على الممتنعات، فلو كان قرن الشمس ماء لأورده خيله، ولو كان منهلاً لأوطأه جيشه. لِذَلِكَ سَمَّى ابنُ الدُّمُسْتُقِ يَوْمَهُ ... مماتَاً وسَمَّاهُ الدُّمُسْتُقُ مَوْلِدا ثم قال: بمثل ذلك من أفعاله أسر قسطنطين بن الدمستق، فسمى يوم أسره مماتاً، وسماه الدمستق أبوه لخلاصه فيه من القتل مولداً، فأوسعه الدمستق بما أمكنه فيه من الفرار غاية الحمد، وأوسعه قسطنطين بما ناله فيه من الأسر غاية الذم. سَرَيْتَ إلى جَيْحَانَ من أَرْض آمدٍ ... ثَلاثَاً لَقَدْ أَدْنَاك رَكْضُ وأَبْعَدا جيحان: نهر في بلاد الروم، وآمد: مدينة من مدائن الموصل. فيقول لسيف الدولة، مشيراً إلى إسراعه نحو الروم: سريت من

أرض آمد إلى جيحان في ثلاث ليال، لشد ما أدناك ركضك من مطلبك، ولشد ما أبعدك عن مستقرك. فَوَلَّى وأَعْطَاكَ ابْنَهُ وجُيُوشهُ ... جَميعاً ولمُ يعْطِ الجميعَ لِتَحْمَدا ثم أشار إلى الدمستق، ووقيعه سيف الدولة عليه، فقال، مخاطباً لسيف الدولة: فولى الدمستق عنك فاراً بنفسه، مبقياً على حياته، وترك أبنه في أسرك، وجيشه تتصرف فيه على حكمك، ولم يفعل ذلك مختاراً له لتحمده، ولكنه فعله مضطراً مخافة أن تهلكه. عَرَضْتَ لَهُ دُونَ الحياةِ وَطَرْفِه ... وأَبْصِرَ سَيْفُ اللهِ مِنْكَ مُجَرَّدا ثم يقول: عرضت للدمستق ما بين بصره وحياته، وأشرفت به على هلكته، وأبصر منك سيف الله مجرداً صارماً، مسلولاً على أعدائه ماضياً. وَمَا طَلَبَتْ زُرْقُ الأَسِنةِ غَيْرهُ ... وَاَكِنَّ قُسْطَنْطِين كان لهُ الفِداَ ثم قال: وما طلبت زرق الأسنة غير الدمستق، ولكنه فدى نفسه بقسطنطين ابنه، واستدفع الهلاك بما أصابه من أسره. فَأَصْبَحَ يَجْتَابُ المُسوحَ مَخَافَةً ... وَقَدْ كَانَ يَجْتابُ الدَّلاَصَ المُسَرَّدَا الاجتناب: التصرف، والمسوح: ثياب سود من شعر يلبسها الرهبان،

واحدها: مسح، والدلاص: الدرع الملساء، والمسرد: المداخل المنسوج. فيقول عن الدمستق: إنه لحزنه على أسر قسطنطين ابنه، وعجزه عن مقاومة سيف الدولة وحربه، عدل إلى المسوح فترهب ولبسها، ورغب عن الدروع فاطرحها ونبذها، وعلم أن صحبة الرهبان أسلم له من مطاعنه الأقران. وَيَمْشي بِهِ العُكَّازُ في الدَّيْرِ تَائباً ... وَمَا كَانَ يَرْضَى مَشْي أَشْقَرِ أَجْرَدَا العكاز: عصا في أسفلها زج، والدير: معروف، والأجرد من الخيل: القصير الشعر، وذلك من شواهد العتق والكرم. ثم قال: ويمشي به العكاز تائباً في ديره، مطرحاً لآلات مُلْكه، وقد كان يحتقر عتاق الخيل لقدره، ويستقل منها الشقر الجرد مع كرمها لنفسه. وَمَا تَابَ حَتَّى غَادرَ الكَرُّ وَجْهَهُ ... جَرِيحَاً وَخَلَّى جَفْنَهُ النَّقْعُ أَرْمَدَا النقع: الغبار، والرمد: معروف. ثم قال: وما تاب حتى أعذر في المدافعة، وكر بعد انهزام الروم، فغادر الكر وجهه جريحاً، وابنه أسيراً، وباشر الموت وشافهه، وأيقن به وقاربه، وأرمد أجفانه رهج خيل المنهزمين من أصحابه، والمعتصمين بالفرار

من فرسانه، ولم يغنه الكر في آثارهم، والمدافعة عن أعقابهم. فإن كَانَ يُنْجِي مِنْ عَليَّ تَرَهُّبُ ... تَرَهَّبَتِ الأَمْلاَكُ مَثْنَى وَمَوْحَدا مثنى وموحد، كأنه قال: اثنين اثنين وواحداً واحداً. فيقول: فإن كان ينجي من علي؛ سيف الدولة، إظهار الترهب، واستعمال التنسك، فستترهب الأملاك مستجيرين بذلك منه، مثنى وآحاداً، وجماعة وأفراداً. وَكُلُّ امرِئ في الشَّرْقِ والغَرْب بَعْدها ... يُعِدُّ له ثَوْباً من الشَّعْرِ أَسْوَدَا ثم قال: وكل امرئ منهم في الشرق والغرب يستجير بمسح يلبسه، وضرب من الترهب يظهره، يشير بذلك إلى الدمستق وفعله، وما أظهره من استخذائه وذله. هَنِئاً لَكَ العِيْدُ الذي أَنْتَ عِيدهُ ... وَعيدُ لِمنْ سَمَّى وضَحى وَعيَّدا هنيئاً لك: دعاء له بالتهنئة والتسويغ، وهي صفة جرت مجرى المصدر، وجعلت بدلاً من اللفظ بالفعل، كأنك قلت: هنالك الله، فنصبت

هذه الصفة على هذا المعنى. فيقول لسيف الدولة: هنيئاً لك العيد الذي أنت عيده ورفعته، وزينته وبهجته، كما أنك عيد من سمى الله فيه بالتعظيم آخذا بسنته، وضحى محتملاً على شريعته، وعيد متمسكاً بملته. فأشار بهذا إلى عامة المسلمين، وأراد: أن سيف الدولة لهم كالعيد الذي يجدد مسرتهم، ويشمل بالفضل جماعتهم. وَلاَ زَالتِ الأَعَيْادُ لُبْسَكَ بَعْدهُ ... تُسَلَّمُ مَخْرُوقَاً وَتُعْطِي مُجَدَّدا ثم قال، داعياً له: ولا زالت الأعياد لك كاللبس بعد هذا العيد، تفد إليك، وتتعاقب عليك، فتسلم متصرمها مخلقاً لبهجته، وتلقى مجددها مستبشراً بسعادته. فَذَا اليوم في الأَيَّامِ مِثْلُكَ في الوَرَى ... كما كُنْتَ فِيْهمْ أوحداً كَان أَوْحَدا يقول مشيراً إلى العيد، ومخاطباً لسيف الدولة: فهذا اليوم في أيام العام، وما خص به من شرف الإسلام، مثلك في أبناء عصرك، وجملة أهل دهرك، الذين عممتهم بسعة فضلك، وتقدمتهم بمشكور سعيك، فكما أن العيد أوحد في أيام العام، فكذلك أنت أوحد في جميع الكرام.

هُوَ الجَدُّ حَتَّى تَفْضُلَ العَيْنُ أُخْتَها ... وحَتَّى يَكونَ اليومُ لليَوْمِ سَيَّدا ثم قال: هو الجد الذي يرفع من يسر له، والسعد الذي يقدم من اقترن به، حتى تفضل العين العين وهما متجاورتان، ويفضل اليوم اليوم وهما متواليان. فَوَاعَجَباً مِنْ دَائلٍ أَنْتَ سَيْفُهُ ... أَما يَتَوَقَّى شَفْرَتَيْ مَا تَقَلَّدَا قوله (فواعجبا من دائل): وا: كلمة تستعمل في النداء عند الاستغاثة والتعجب، فواعجبا: كلمة أدخل عليها حرف النداء، وأبدلت فيها الألف من ياء الإضافة، لما ذهب إليه المتكلم من مد الصوت بلفظ التعجب، والدائل: الذي يصرف الدولة. فيقول لسيف الدولة: فواعجباً من ذي دولة أنت سيفه، والسيف محمول مستقرب، ومصحوب مستعمل، أما يتوقى حاملك شفرتي ما حمله، ويتوقع مستعملك سطوة ما يستعمله، يريد: أنه يرتفع عن هذا الاسم مع جلالته، ويكبر عنه مع فخامته.

ومَنْ يَجْعَل الضَّرْغَامَ في الصَّيْدِ بازَهُ ... تَصَيَّدَهُ الضّرْغَامُ فِيما تَصَيَّدا الضرغام: الأسد. ثم قال: ومن يتخذ الأسد بازاً يصيد به، كان الأسد غير مأمون على أكله، وأن يجعله من الصيد الذي يقصد لختله. رَأَيْتُكَ مَحْضَ الحِلْمِ في مَحْضِ قُدْرَةٍ ... وَلَوْ شئتَ كَانَ الحِلْمُ مِنْكَ المُهَنَّدَا ثم يقول لسيف الدولة: رأيتك محض الحلم مع تمكن قدرتك، واسع العفو عند توقع عقوبتك، ولو شئت كان السيف عوضاً من حلمك، والعقاب بدلاً من عفوك، ولكنك تأخذ بأرفع الأمرين، وتحتمل على أكرم الحالين. وما قَتَلَ الأَحْرَارَ كالعَفْو عَنْهُم ... وَمَنْ لَكَ بالحُرَّ الذي يَحْفَظُ اليَدَا ثم قال: وما قتلت الحر بمثل عفوك عن ذنبه، ولا استعبدته بمثل تجاوزك عن جرمه، ولكن الأحرار قليل، وأهل الشكر من الناس يسير، ومن لك بالحر الذي يشكر على الفعلة الصالحة، ويعترف بالنعمة السالفة؟

إذَا أَنْتَ أَكْرَمت الكرِيمَ مَلَكْتَهُ ... وإن أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئيمَ تَمَرُّدا التمرد: الإقدام على الشر. فيقول لسيف الدولة، بعدما قدم من شكره على الحلم، وسعة العفو: إذا أنت أكرمت الكريم ارتهنت شكره، واستوجبت ملكه؛ لأنه يعترف بفضلك، ولا يدفع وجوب حقك، وإذا أنت أكرمت اللئيم زاد إكرامك له في تمرده، وأطغاه ما تحاوله من تألفه. وَوَضْعُ النَّدَى في مَوْضع السَّيْفِ بالعُلاَ ... مُضِرُّ كَوَضْعِ السَّيْفِ في مَوْضعِ النَّدَى ثم أكد ذلك، فقال: ووضع العفو في موضع العقوبة، والندى في موضع السيف، مخل بالسيادة، ومضر بالرئاسة؛ كما يخل بذلك وضع العقوبة في موضع العفو، ووضع الكرم في موضع السيف، وإنما الصواب في وضع الأشياء مواضعها، وحملها على حقيقة مقاصدها، لتحل الصنائع في محلها، وتوضع النعم عند أهلها، ويعدل بها، عمن لا يقوم بشكرها. وَلِكنْ تَفُوقُ النَّاسَ رَأْيَاً وحِكْمَةً ... كَمَا فُقْتَهُمْ حَالاً وَنَفْسَاً وَمَحْتِدا المحتد: الأصل. فيقول لسيف الدولة: وليس ما تظهره من صواب الرأي، ومشكور

الفعل، بغريب منك، ولا مستنكر لك؛ لأنك تفوق الناس بصواب رأيك، وحكمة فعلك، كما تفوقهم بشرف نفسك، وكرم أصلك، فخلقك يماثل نسبك، وأفعالك تنصر شرفك. يَدِقُّ عَلَى الأَفْكَارِ ما أَنْتَ فَاعِلُ ... فَيُتْرَكُ مَا يَخْفَي وَيُؤْخَذُ مَا بَدَا ثم قال: تدق على الأفكار حقائق سياستك، وتقصر عن سعة إحاطتك، فيأخذ الناس ظاهر ذلك مرتضين بك، ويعرضون عما خفي عنهم منه مسلمين لك. فقد تيقن الجميع أن الله يمدك بمواد توفيقه، ولا يخليك من إرشاده وتأييده. أَزِلْ حَسَدَ الحُسَّادِ عَنَّي بِكَبْتِهمْ ... فَأَنْتَ الّذي صَيَّرْتُهمْ لي حُسَّداً الكبت: الخيبة والخسار. فيقول لسيف الدولة: أزل حسد الحساد عني، بكتبهم فيما ظنوه، ودفعهم، عما راموه، فإحسانك أوجب حسدهم لي، وإكرامك حملهم على

الاغترار بي، وأنت جدير بحفظ ما أسديت، وتتميم ما أوليت. إذَا شَدَّ زَنَدي حُسْنُ رَأُيِكَ في يَدي ... ضَرَبْتُ بِنَصْل يَقْطَعُ الهامَ مًغْمَدا الزند: أحد عظمي الذراع. ثم قال: إذا شد زندي في يدي حسن رأيك، وأنهض قوتي كريم اعتنائك، ضربت بسيف من إكرامك، تقطع الهام هيبة ذكره، وتنقد له الرؤوس في غمده، يشير إلى ما هو عليه من الاعتزاز به، والاستغناء بتقبله له، واستعار ما نظمه من لفظه، ليدل بذلك على ما فسرناه من قصده. وَمَا أَنَا إلاَّ سَمْهريُّ حَمَلْتَهُ ... فَزَيَّنَ مَعْرُوضاً وَرَاع مُسَدَّدا السمهري من الرماح: الصلب، أخذ ذلك من قوله: اسمهر العود، إذا صلب، وتعريض الرمح: حمله على عنق الفرس، وتسديده: تهيئته للطعن. ثم قال: وما أنا إلا رمح اخترته لنفسك، واصطحبته في حربك، فزينك معرضاً بصحبته، وراع عدوك مسدداً بمحمود خبرته. وما الدَّهْرُ إلاَّ مِنْ رُواةِ قَلائدي ... إذَا قُلْتُ شِعْرَاً أَصْبَح الدَّهْرُ مُنْشدَا

القلائد: العقود وما أشبهها مما يحمل على الأَعْنَاقِ. فيقول: وما الدهر إلا من رواة أشعاري التي هي كالعقود والأطواق، والقلائد في الأعناق، فإذا قلت شعراً، فالدهر ينشده معرفاً به، ويرويه مقيداً له، ويبقيه ما بقيت الأيام، ويخلده، ما أعلمت الأقلام. فَسارَ بِهِ من لا يَسيرُ مُشَمَّراً ... وغَنَّى به من لا يُغَنَّي مُغَرَّدا التشمير: النفاذ والاعتزام، والتغريد: الصوت المطرب. ثم قال مؤكداً لما قدمه: فيسير به من لا يستطيع السير نشاطاً مشمراً، ويغني من لا يحسن الغناء كالنشوان مغرداً، يشير إلى ما يفيده شعره من الطرب بكثرة بدائعه، وما يوجبه من السرور ببراعة مقاصده. أَجِزْني إِذَا أُنْشِدْتَ شِعْرَاً فإنَّما ... بِشِعْرِي أَتَاكَ المادِحُونَ مُرَدَّدَا الجائزة: الصلة. فيقول لسيف الدولة: أجزني عما تنشده من الأشعار، فإنها من أشعاري مسترقة، ومما أبدعه فيك مقتطعة؛ لأني قد سبقت فيك إلى بدائع

النظم، وقصرت عليك محاسن الشعر، فالمادح، إنما يأتيك بطرف مما قلته، ومسترق مما خلدته. وَدَعْ كُلَّ صَوْتٍ بَعْدَ فإنَّني ... أَنا الطَّائرُ المَحكِيُّ والآخَرُ الصَّدَى الصدى: الصوت من الجبل ونحوه. ثم قال: ودع أصوات الناس بعد إنشادي إياك. فإني فيهم السابق المتبع، وشعري المحكي به الممتثل، وحالي فيهم حال الطائر الغرد، وهم كالصدى الذي يمتثله ويتلوه، ويتبعه ويقفوه. تَرَكْتُ السُّرَى خَلْفي لَمْنِ قَلَّ مَالُهُ ... وأَنْعَلْتُ أَفْراسِي بِنُعْمَاكَ عَسْجَدا السرى: سير الليل، والعسجد: الذهب. فيقول لسيف الدولة: تركت السرى خلفي لمن قل ماله، أي: للمقلين، وسلمته للمنتجعين، واستغنيت بك عن تكلفه، ولم تبق لي معك حاجة في تمونه، وأحاط بي من فضلك وكرمك، ونعماك وكرمك، ونعماك وتوسعك ما أنعلت خيلي فيه بالذهب، واستغنيت بأقله عن كد الطلب. وَقَيَّدْتُ نَفْسِي في ذُرَاكَ مَحَبَّةً ... وَمَنْ وَجَدَ الإحسان قَيْدَاً تَقَيَّدَاً

ثم قال: وقيدت نفسي في ذراك وأرضك، وقصرتها على إحسانك وفضلك، ومن وجد الإحسان قيداً تقيد به، وألزم نفسه إياه، ولم يختر لها مقصوداً سواه. إذَا سَأَلَ الإنْسَانُ أَيَّامَهُ الغِنَى ... وَكُنْتَ على بُعْدٍ جَعَلْنَاكَ مَوْعِدا ثم قال، مخاطباً، له: إذا سأل الإنسان أيامه الغنى والسعة، والخفض والدعة، كنت أنت الموعد الذي تعد الأيام به، والأمل الذي يمثله له، يريد: أن سيف الدولة غرض القاصدين، والمقدم في جميع المحسنين.

أنشد أبو الطيب هذه القصيدة سيف الدولة في الميدان، وعاد إلى الدار فاستعادها إياه فأنشدها، وكثر الناس، فقال قائل منهم: إن أكثر الناس ما يسمع، فلو أنشدها قائماً لأسمع؛ يريد بذلك كيد أبي الطيب، فقال أبو الطيب: أما سمعت أولها: لكلَّ امرِئٍ مِنْ دَهْرِهِ ما تَعَّودَا فأفحم الرجل ن وضحك سيف الدولة، وجرى ذكر ما بين العرب والأكراد من الفضل، فقال له سيف الدولة: ما تقول في هذا، وتحكم به؟ فقال له: إن كُنْتَ عن خَيْرِ الأَنامِ سَائلاً ... فَخَيرُهُمْ أَكْثَرُهُم فَضَائِلا مَنْ أَنْتَ مِنْهُمْ يا هُمَامَ وائِلاِ ... الطَّاعِنينَ في الوَغَى أَوائِلا والعاذِلينَ في النَّدى العَواذِلا ... قد فَضَلوا لِفَضْلِكَ القبائِلا

وائل بن قاسط؛ أبو بكر بن وائل، وتغلب وبنو تغلب: رهط سيف الدولة، ولم يصرف وائل؛ لأنه اسم قبيلة معرفة. فيقول، مخاطباً لسيف الدولة: إن كنت تسأل عن خير الأنام، فخيرهم أشهرهم في الفضائل، وأقعدهم بالمكارم، ثم قال: من كنت أنت منهم يا همام وائل؛ هذه القبيلة، فلهم الفضل والرفعة، وفيهم العدد والمنعة، الطاعنين أوائل في الحرب، والمتسابقين إلى الطعن والضرب، والذين يعذلون من عذلهم على الكرم، ويتفضلون بأوفر النعم، ثم قال قد فضلوا يأيها الملك القبائل بفضلك، وانفردوا بالمكارم بما أكسبتهم من مجدك.

وجلس سيف الدولة لرسول ملك الروم والروذس، في صفر من سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، وحضر أبو الطيب، فوجد دونه زحمة شديدة، فثقل عليه الدخول، واستبطأه سيف الدولة، فقال ارتجالاً: ظُلْمُ لذا اليَوْمِ وَصْفُ قَبْلَ رُؤْيَته ... لا يَصْدُقُ الوَصْفُ حَتَّى يَصْدقُ النَّظَرُ يقول: وصفي لهذا اليوم قبل رؤيته، وإخباري عنه قبل مشاهدته، ظلم له، وتقصير به؛ لأن الوصف إنما يصدق بالمشاهدة، ويتصحح بصحة المعاينة. تَزَاحَمَ الجيشُ حَتَّى لَمْ يَجِدْ سَبَبَاً ... إلى بِسَاطِك لي سَمْعُ ولا بَصَرُ ثم قال، مخاطباً لسيف الدولة: تزاحم الجيش وتكاثر، وتبادر وتضاغط، حتى لم أجد إلى بساطك سبباً موصلاً بسمع ولا بصر، ولا إخبار ولا نظر. فَكُنْتُ أَشْهَدَ مُخْتَصَّ وأَغْيَبَهُ ... مُعَايِنَاً، وَعِياني كُلُّهُ خَبُرُ يقول: فكنت لشدة اهتبالي بالحال، أقرب المختصين منك، وبما

منعني من مشاهدتها، أثبتهم مغيباً عنك، وصار عياني كله أمرك؛ ما أحدث به من جلالة حفلك، وما ينقل إلي من فخامة قدرك. اليَومَ يَرْفَعُ مَلْكُ الرُّومِ نَاظِرَهُ ... لأَنَّ عَفْوَكَ عَنْهُ عِنْدهُ ظَفرُ ثم يقول: اليوم يرفع ملك الروم ناظره، بما بذلت له من السلم، وتسكن مخافته، بما شملته به من العفو، فعفوك عنه ظفر يناله، وإمساكك عن حربه أمل يبلغه. وإِنْ أَجَبْتَ بِشَيْءٍ عَنْ رِسَالتِهِ ... فَمَا يَزَالُ عَلَى الأَمْلاكِ يَفْتَخرُ ثم قال: وإن أجبته بأيسر جواب عن رسالته، فما يزال مفتخراً على الأملاك بمكاتبتك ومتشرفاً بما ربيته من مراسلتك. قَد استَراحَتْ إلى وَقْتٍ رِقَابُهُمُ ... من السُّيوفِ وَبَاقي النَّاسِ يَنْتَظُرِ

ثم يقول لسيف الدولة: قد استراحت رقاب الروم من سيوفك بصلحك لهم، وأمنوا معرة جيوشك بعفوك عنهم، وغيرهم من الأعداء ينتظرون ما صرفت عنهم من سطوتك، ويحذرون ما أمنتهم من عقوبتك. وقد تُبَدَّلُها بالقومِ غَيْرِهِمُ ... لكي تَجِمَّ رؤوسُ القَوْمِ والقَصَرُ القصر: أصول الأعناق. ثم قال: وقد تبدل سيوفك في الروم بغيرهم، وتعوضها منهم

بسواهم، لكي تجم رؤوسهم وقصرهم، ويكثر للسبي أهلهم وولدهم. تَشْبيهُ جُودِكَ بالأَمْطَارِ غَادِيةً ... جُودُ لكفَّكَ ثَانٍ نَالهُ المَطَرُ ثم يقول لسيف الدولة: تشبيه جودك بالأمطار الغادية، وتمثيله بالغيوم الساجمة، جون ثان من كفك على المطر، بمماثلته إياها، وفضل ظاهر عليه، بمقاربته معناها. تَكَسَّبُ الشَّمْسُ مِنْكَ النُّورَ طَالعِةً ... كَمَا تَكَسَّبُ مِنْها نُورَهُ القَمَرُ ثم قال: تكسب الشمس النور في طلوعها من ضياء وجهك، كما يكتسب القمر من الشمس نوره، ويستعيره منها ضياءه وحسنه.

وقال أيضاً، يصف دخول الرسول: دُرُوعُ لَمِلْكِ الرُّومِ هَذي الرَّسَائِلُ ... يَرُدُّ بها عَنْ نَفْسِهِ وَيُشَاغِلُ يقول لسيف الدولة: رسائل ملك الروم إليك دروع تمنعه، وحصون تكتنفه، لأنه يرد بها جيوشك عن أرضه، ويشغل بها عزائمك عن نفسه. هِيَ الزَّرَدُ الضَّافي عَلَيْهِ وَلَفْظُها ... عَلَيْكَ ثَنَاءُ سَابغُ وَفضائلُ ثم قال: هي عليه كالزرد الذي يشمله، والسلاح الذي يعصمه، ولكن ألفاظ تلك الرسائل فضائل لك، وثناء يتخلد عليك، لأنها خضوع منه يرتفع به قدرك، واستسلام إليك يجل معه أمرك. وَأَنَّي اهْتَدَي هَذا الرَّسُولُ بأَرْضِهِ ... وما سَكَنَتْ مُذْ سِرْتَ فيها القَسَاطِلُ ثم يقول: وأني لهذا الرسول بالهداية في أرضه، والتحقيق لطريق يسلكه في قصده، وما سكنت في تلك البلاد عجاجات خيلك، ولا فترت فيها قساطل جيشك؟

وَمِنْ أَيَّ مَاءٍ كَانَ يَسْقِي جِيَادَهُ ... ولم تَصْفُ من مَزْجِ الدَّمَاءٍ المَناهِلُ ثم قال: وعلى أي مياه البلاد كان ينزل؟ ومن أيها كان يسقي؟ وهي بما سفكت عليها من الدماء ممتزجة، وبما عممتها به من ذلك آجنة متغيرة. يشير بجميع هذا إلى قرب عهد سيف الدولة بغزو الروم، وتدويخه لأرضهم، وسفكه لدمائهم. أَتَاكَ يَكَادُ الرَّأْسُ يَجْحَدُ عُنْقَهُ ... وَتَنْقَدُّ تَحْتَ الذُّعْرِ مِنْهُ المَفَاصلُ ثم يقول لسيف الدولة: أتاك ملك الروم متخاضعاً لهيبتك، متضائلاً لجلالتك، قد صير رأسه بين منكبيه، وهي فعلة المتخوف للقتل، كأن عنقه لامتثاله وقوع السيف عليه يكاد يجحد رأسه، ويغيبه بالجملة خوفه، وتكاد مفاصله يقدها ذعره، ويقطعها فرقه. يُقَوَّمُ تَقْويمُ السَّمَاطَينِ مَشْيَهُ ... إليك إذا ما عَوَّجَتْهُ الأَفَاكِلُ

ثم قال: إن ذلك الرسول لهيبته لسيف الدولة، كان لا يستقيم مشيه، ولا تستقر نفسه، فكانت الأفاكل إذا عدلت به قومته الصفوف الماثلة، وإذا عوجت مشيته صرفته الجماعات القائمة. فَقَاسَمَكَ العَيْنَيْنِ مِنْهُ وَلَحْظَهُ ... سَمُّيكَ والخِلُّ الَّذي لاَ يُزَايلُ ثم يقول له: فقاسمك عيني رسول الروم ولحظه، سيفك الذي تدعى باسمه، وخلك الذي تأنس بقربه، الذي تأنس بقربه، الذي تألفه فما يزايلك، وتصحبه فما يفارقك. أراد: أن رسول الروم ملكه من هيبة سيف الدولة، ما ملكه من هيبة سيفه، واستعظم من أمر الملك كالذي استعظم من أمر السيف، فأجال لحظه متهيباً للحالين، وقسم نظره متعجباً بين الأمرين. وَأَبْصَرَ مِنْكَ الرَّزْقُ والرَّزْقُ مُطمِعُ ... وأَبْصَرَ مِنْهُ المَوْتَ والموتُ هَائِلُ ثم قال: وأبصر منك بعموم جودك الرزق المحيي فأطعمه، وأبصر من سيفك الموت الهائل فأفزعه، فلاحظك بين اليأس والطمع، وقسم عينيه بين التأمل والفزع. وَقَبَّلَ كُمَّا قَبَّلَ التُّرْبَ قَبْلَهُ ... وَكُلُّ كَمِيَّ وَاقِفُ مُتَضائلُ ثم قال: وقبل الترب قبل تقبيله لكمك، وخضع فيه قبل وصوله إلى

قربك، والكماة من أبطال رجالك وقوف متضائلون، والرؤساء، من خدامك مثول متهيبون. وَأَسْعَدُ مُشْتَاقٍ وأَظْفَرُ طالِبٍ ... هُمَامُ إلى تَقْبِيل كُمَّكَ وَاصِلُ ثم يقول: إن أسعد مشتاق بنيل ما أمله، وأظفر طالب ببلوغ ما حاوله، ملك رفيع الهمة، وصل إلى تقبيل كمك، وملك جليل الرتبة، خضع فتشرف بقربك. مَكَانُ تَمَنَّاهُ الشَّفَاهُ وَدُونَهُ ... صُدورُ المَذاكي والرَّماحُ الذَّوابِلُ ثم قال، مرفعاً بتقبيل كمه: (كمك) مكان تمناه الشفاه، وتتنافس فيه الأفواه، ودون الوصول إليه، والتشرف بالإكباب عليه، خيول جيوشه الغالبة، وأطراف رماحه الذابلة. فما بَلَّغَتْهُ ما أَرَادَ كَرامةُ ... عَلَيْكَ وَلَكَنْ لم يَخِبْ لَكَ سَائِلُ يقول: فما بلغت رسول الروم إلى ما بذلت له من سلمك، وما شرفته

به من تقبيل كمك، كرامته عليك، ولا منزلته الرفيعة عندك، ولكنه سألك وأنت لا تخيب سائلك، وأملك وأنت لا تضيع من أملك. وأَكْبَرُ مِنْهُ هَّمِةً بَعَثَتْ به ... إِليكَ العِدَى واسْتَنْظَرَتْهُ الجَحافِلُ ثم قال: وأكبر من هذا الرسول همة، وأرفع منزلة ورتبة، بعثت به إليك طوائف الأعداء الذين يطلبون سلمك، ويتوقعون سطوتك وحربك، واستنظرته جيوشهم، القدوم بجوابك، واستعلام حقيقة رأيك. فَأَقْبَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهو مُرْسَلُ ... وَعَادَ إلى أَصْحَابِهِ وَهو عَاذِلُ ثم قال: فأقبل من أصحابه، وهو رسول معظم لهم، وعاد إليهم وهو عاذل يزري بهم، لما يتبينه من جلالتك، وعظم شأنك، ويتيقنه من ضعف المراسلين لك على مقاومتك، ولما لهم من الحظ في الخضوع لطاعتك. تَحَيَّرَ في سَيْفٍ رَبيْعَةُ أَصْلُهُ ... وَطَابِعُهُ الرَّحْمنُ والمَجْدُ صَاقِلُ ثم يقول: تحير ذلك الرسول في سيف من سيوف الله، ربيعة؛ هذه القبيلة، أصله، والله تعالى طابعه وصانعه،، والمجد صاقله ومظهر حسنه،

وحافظه ورافع قدره. وما لَوْنُهُ مِمَّا تُحَصَّلُ مُقْلَةُ ... ولا حَدُّهُ مما تَحُبسُّ الأَنَامِلُ ثم أكد ما قدمه، من تفضيله على السيف، فقال: وما لونه مما تحصله المقل؛ لأنها مغضوضة عنه لهيبته، ولا حده مما تجسه الأنامل، ولكنه سيف عند سطوته. إذا عَايَنَتْكَ الرُّسْلُ هَانَتْ نُفُوسُها ... عَلَيْها وما جَاَءتْ به والمُرَاسِلُ ثم قال، مخاطباً لسيف الدولة: إذا عاينتك الرسل، وعاينت جلالتك، وأبصرت وشاهدت مهابتك، تصاغرت أنفسها، وهانت عليها رسائلها، واستقلت الملوك المرسلين لها، والرؤساء الموجهين بها، وعلمت أن السعادة في التسليم لأمرك، وحقيقة التوفيق في التمسك بحبلك. رَجَا الرُّومُ مَنْ تُرْجَى النَّوافِلُ كُلُّها ... لَدَيْهِ وَلا تُرْجَى لَدَيْهِ الطَّوائِلُ ثم يقول: رجا الروم من سيف الدولة، في إجابتهم إلى الصلح الذي رغبوه، من ترجى لمسئلته نوافل الخير، وترتهن بطاعته ضروب الفضل، ولا يرجو من عصاه أن يدال عليه؛ فيأخذ بطائلته، ويظفر

بإدراك ترته، لأن سعادته تمنع منه، وإقباله ييئس الأعداء منه. فَإنْ كَانَ خَوْفُ الأَسْرِ والقَتْلِ سَاقَهُمْ ... فَقَدْ فَعَلوا ما الأَسرُ والقَتْلُ فاعِلُ ثم قال، مخاطباً له: فإن كان خوف القتل ساق الروم إليك، مستجيرين بما رغبوه من السلم، فقد فعلوا بأنفسهم بما أظهروه من الذلة، وأبدوه من الخضوع والاستكانة، ما هو كالقتل في شدته، ولا يفعل القتل أكثر منه في حقيقته. فَخَافُوكَ حَتَّى ما لِقَتْلٍ زَيادَةُ ... وَجَاءوُك حتى ما تُزَادُ السَّلاسِلُ ثم قال: فأبدوا من مخافتك ما لا يزيد عليه القتل، وفعلوا بالاستسلام لك ما لا يفعل مثله الأسر، وأشار إلى الأسر بذكر السلاسل. أَرَى كُلَّ ذي مُلْكٍ إلَيْكَ مَصِيرهُ ... كَأَنَّكَ بَحْرُ والمُلُوكُ جَدَاوِلُ ثم يقول: أرى كل ذي ملك مصيره إلى الخضوع لك، وغاية أمله أن يعتلق بك، فلا ملك إلا وهو واقع تحت ملكك، ولا رئيس إلا وهو

متصرف على حسب أمرك، كأنك في مصير الممالك إليك، وتزاحم أربابها عليك، البحر الذي إليه مآل الجداول الجارية، وفيه مستقر جميع الأنهار السائلة. إذا مَطَرَتْ مِنْهُم ومِنْكَ سَحَائِبُ ... فَوَابِلُهُمْ طَلُّ وَطَلُّكَ وَابلُ ثم قال: فأنت والمتشبهون بك من الملوك، إذا ساجلوك في جودك، وتشبهوا بك في فعلم، فأمطروا وأمطرت، وفعلوا وفعلت، عفوك يعجز جهدهم، وطل عطائك يستغرق وبلهم. وذكر السحائب والطل والوابل على سبيل الاستعارة، وما أبدع به من لطيف الإشارة. كَرِيمُ مَتَى اسْتُوْهِبْتَ ما أَنْتَ رَاكِبُ ... وَقَدْ لَقِحَتْ حَرْبُ فإنَّكَ نَازِلُ ثم يقول: إن سيف الدولة كريم، لا يمنع من سأله، وجوادُ لا يبخل على من استوهبه، فلو سئل في حرب لاقحٍ مقتبلة، شديدة مشتعلة، ما يركبه، لسمح به لسائله، وما يحمله لما بعد فيه على طالبه، وأشار بهذا إلى أنه لا يمنع شيئاً لحاجته إليه، ولا يبخل به وإن حلت عائدته عليه. إَذَا الجودِ! أَعْطِ النَّاسَ ما أنتَ مَالِكُ ... ولا تُعْطِيَّنَّ النَّاسَ ما أَناَ قَائِلُ

ثم قال: مخاطباً له: إذا الجود! سامح الناس فيما تبذل لهم من مالك، ولا تسمح لهم بما أخلده من مدحك، يشير بهذا القول إلى تأكيد بصيرته في تشفيع نعمه عنده، ومواصلة إحسانه قبله. أَفي كُلَّ يَوْمٍ تَحْتَ ضِبْني شُوَيْعرُ ... ضَعِيفُ يُقاويني قَصيرُ يُطَاوِلُ ثم يقول: أفي كل يوم يمرس في شويعر ضعيف في صناعته، قصير في معرفته، يقاويني وهو ضعيف لا قوة به، يطاولني وهو قصير لا بسطة له؟ لِسَاني بِنُطْقِي صَامِتُ عنه عَادلُ ... وَقَلْبي بِصَمْتي ضَاحكُ مِنْهُ هَازلُ ثم قال: لساني إذا نطقت معرض عنه، عادل عن مخاطبته، وقلبي إذا صمت ضاحك منه، هازل بجهالته. وأشار بهذا إلى الذين كانوا ينازعونه الشعر عند سيف الدولة، وما كان من تقصيرهم عنه، وبعدهم في الحقيقة منه.

وأَتْعبُ من نَادَاكَ مَنْ لاَ تُجِيْبُهُ ... وأَغْيَظُ مَن عَادَاكَ مَنْ لاَ تُشَاكِلُ ثم يقول، على سبيل المثل: وأتعب حاسديك بندائه لك، من كنت مرتفعاً عن مجاوبته، وأشدهم تعذباً بك، من كنت متنزها عن مخاطبته، وأغيظ أعدائك عليك من لا تشاكله، وأكرمهم لك من لا تماثله. وَمَا التَّيهُ طِبَّي فيهِمُ غَيْرَ أَنَّني ... بَغِيضُ إِليَّ الجاهِلُ المُتَعاقِلُ ثم قال: وما أعرض عنهم مداوياً بالتيه لحسدهم، ولا مقارضاً بالكبر لسفههم، ولكني أبغض تعاقلهم مع جهلهم، وما يتعاطون من التمام مع نفسهم، ومن كانت هذه حالته فأنا أبغضه، ومن كان على هذا السبيل فأنا أكرهه. وأَكْثَرُ تِيْهِي أَنَّني بِكَ وَاثِقُ ... وأَكْثَرُ مَالي أَنَّني لَكَ آمِلُ ثم قال، مخاطباً لسيف الدولة: وأكثر ما ارتفع به ما أظهره من الثقة بك، وأنفس مال ادخره ما اعتقده من التأمل لك، فإنما أتيه بجميل رأيك، واستغني بجزيل عطائك.

لَعَلّ لِسيْفِ الدَّوْلَة القَرْمِ هَبَّةً ... يَعِيْشُ بها حَقُّ ويَهْلِكُ بَاطِلُ ثم يقول: لعل لسيف الدولة انتباها يتأمل به مغالطة هؤلاء المقصرين في شعرهم، المتأخرين في مدحهم، فيحيا بذلك التأمل ما أهدي إليه من الحق، ويهلك معه ما يتزينون به من الباطل والإفك. رَمَيْتُ عِدَاهُ بالقوافي وَفَضْلِهِ ... وَهُنَّ الغَوازي السَّالماتُ القَواتِلُ ثم قال: رميت عداه بما قيدته أشعاري من مدحه، وما خلدته من مكارمه وفضله، وهن الغوازي السالمات في غزوهن، القاتلات للأعداء بعفوهن؛ لأنهن يسرعن في السير دون تكلف، ويقتلن من اعتمدنه بغير تخوف. وَقَدْ زَعَموا أن النُّجومَ خَوَالدُ ... ولَوْ حَارَبْتهُ نَاحَ فيها الثَّواكِلُ ثم يقول: وقد زعموا أن النجوم لا تحيا وتهلك، وتعدم وتوجد، وأنها خوالد إلى أن تفنى جملتها، وتنتقص باقتراب الساعة بنيتها، ولو حاربت سيف الدولة لانقلبت أحوالها بسعده، ولنالها القتل بإقبال جده، وأشار بنوح الثواكل إلى ذلك.

وَمَا كَانَ أَدْنَاهَا لَهُ لَو أَرادَهَا ... وأَلْطَفَها لَوْ أَنَّهُ المُتَنَاوِلُ ثم قال: وما كان أدناها له لو قصدها، وألطفها لو حاول تناولها، يريد: أن سعده يقرب له ما لا يقرب مثله، ويبلغه إلى ما (لم) يبلغه أحد قبله، وهذا من تزيد الشعراء الذين يستجيزون فيه الكذب، لما يحاولونه من بلوغ غايات المدح، ويرمونه من استيفاء أرفع منازل الوصف. قَرِيبُ عَلَيهِ كُلُّ نَاءٍ عن الوَرَى ... إذا لَثَّمَتْهُ بالغُبَارِ القَنَابِلُ ثم يقول: إن سيف الدولة إذا قاد جيشه، وتقلد نحو العدو خيله، ولثمته كتائبه، بما تثيره من الغبار، وما تبعثه من الرهج، فكل ما يبعد على غيره، قريب عليه مراده، وغير بعيد منه مكانه. يُدَبَّرُ شَرْقَ الأَرْض والْغَرْبِ كَفُّهُ ... وَلَيْسِ لَهاَ وَقْتاً عن الجُودِ شَاغِلُ ثم قال: يدبر كفه المشارق والمغارب، والدواني من الأرض والقواصي، وليس يشغله مع ذلك وقتاً من الدهر شاغل عما يحاوله من أمره، ولا يعوقه

عائق عما يبذله من فضله. يُتَبَّعُ هُرَّابَ الرَّجالِ مُرَادُهُ ... فَمَنْ فَرَّ حَرْباً عَارَضَتُهُ الغوائِلُ يقول: إنه من إسعاده جده، وما يمكنه الله من أمره، يتبع من هرب عنه من الرجال ما يريده به، ويعترضه ما يعتقده له، فمن فرعنه في حربه أدركته في مأمنه غوائل حتفه. وَمَنْ فَرَّ مِنْ إِحْسَانِهِ حَسَداً لَهُ ... تَلَقَّاهُ مِنْهُ حَيْثُمَا سَارَ نائِلُ ثم قال: ومن فر عن إحسانه، فأظهر مشاركته، وأبعده عنه الحسد، فاعتقد مجانبته، تلقاه من سيف الدولة حيثما سار، نائل يشمله، وأدركه منه إحسان يغمره، يشير إلى أن فضله يشمل الحاسد والولي، ويعم المحسن والمسيء. فَتَىً لا يَرَى إِحْسَانَهُ وهو كامِلُ ... لَهُ كامِلاً حَتَّى يُرَى وَهوَ شَامِلُ ثم يقول مخبراً عنه: إنه فتى لا يرى جليل إحسانه، وكثير إفضاله، وإن بلغ فيه أبلغ غاياته، مستكملاً متمماً، حتى يكون شاملاً في ذاته، عاماً في حقيقته.

إذَا العَرَبُ العَرْبَاء رَازَتْ نُفُوسَها ... فأَنْتَ فَتَاها والمليكُ الحُلاحِلُ ثم قال: إذا العرب العرباء الصرحاء، والجلة منهم الكرماء، رازوا أنفسهم، وحصلوا (أمرهم)؛ علموا أنك فتاهم جوداً ونجدة، ومليكهم الحلاحل إقداماً ورفعة. أَطَاعَتْكَ في أَرْواحِها وَتَصَرَّفَتْ ... بأَمْرِكَ والتَفَّتْ عَلَيْها القَبائل ثم قال: أطاعوك في أرواحهم وأنفسهم، وتصرفوا على أمرك في إيرادهم وإصدارهم، والتفت قبائلهم على نصرتك، ودانوا أجمعين بالخضوع لطاعتك. وَكُلُّ أَنَابِيبِ القَنَا مَدَدُ لَهُ ... وَمَا تَنْكُتُ الفُرْسَانَ إلاَّ العَوامِلُ ثم يقول له، مؤكداً لما ذكره من التفاف العرب عليه، وانقيادها له: وكل أنابيب الرمح مما يمده ويعضده، ويعينه ويؤيده، ولكن العوامل منها، بها ينكت الفرسان، وبها يكون الطعان. فجعل موضع سيف الدولة

من العرب، وإن كانت مدداً له، ومثبتة به، موضع الرمح الذي به يكون الطعن، وإليه من بين سائر الأنابيب الفعل. رَأَيْتُكَ لَوْ لَمْ يَقْتَضِ الطَّعْنُ في الوَغَى ... إِليكَ انْقِياداً لاْقَتضَتْهُ الشَّمَائِلُ ثم قال، مخاطباً له: رأيتك لو لم يقتض الطعان في الحرب انقياد أعدائك لك، وخضوعهم لأمرك، وحاولوا مدافعتك بمبلغ جهدهم، وراموا ذلك بظاهر فعلهم، لاقتضت انقيادهم لك شمائلهم، ولقصرتهم على ذلك طبائعهم؛ لأن جبلتهم توجب خضوعهم لطاعتك، وأنفسهم تلزمهم الاعتراف برئاستك. وَمَنْ لم تُعَلَّمْهُ لكَ الذُّلَّ نَفْسُهُ ... من النَّاسِ طُرَّاً عَلَّمَتْهُ المَنَاصِلُ ثم قال: ومن لم تعلمه نفسه الذل لك، وترشده إلى الاعتلاق بك، علمته ذلك مناصلك، وأجبرته عليه جيوشك وكتائبك، فمن لم يطعك بالاعتراف والرغبة، أطاعك بالاقتدار والغلبة.

وورد عليه رسول سيف الدولة برقعة فيها هذا البيت: رَأَى خَلَّتي من حيثُ يَخْفَي مكانُها ... فكانتْ قَذَى عَيْنَيهِ حتى تَجَلَّتِ وسأله إجازته، فأثبت تحته في الرقعة: لَنَا مَلِكُ ما يَطْعَمُ النَّومَ هَمُّهُ ... مماتُ لَحِيَّ أو حَياةُ لَمِيَّتِ وَيَكْبُرُ أَنْ تَقْذَى بِشَيءٍ جُفُونُهُ ... إذا مَا رَأَتْهُ خَلَّةُ بِكَ فرَّتِ جَزَى اللَّهُ عَنَّي سَيْفَ دَوْلَةِ هَاشمٍ ... فإنَّ نَدَاهُ الغَمْرَ سَيْفِي ودَوْلَتي

ولما وافى رسول ملك الروم، رأى سيف الدولة يتشكى، فقال: أتراه يفرح بعلتنا، فقال أبو الطيب: فُديتَ بِماذا يبشَّر الرَّسول ... وأَنْتَ الصَّحيحُ بذا لا العَلْيلُ عَوَاقِبُ هذا تَسوءُ العَدوَّ ... وتَثْبُ فيك وهذا يَزولُ

أحدثت بنو كلاب حدثاً بنواحي بالس، وسار سيف الدولة خلفهم وأبو الطيب معه، فأدركهم بعد ليال بين مائين يعرفان بالغبارات والخرارات من جبل البشر، فأوقع بهم فقتل، وملك الحريم فأبقى عليه، وأحسن إليه، فقال أبو الطيب في ذلك بعد رجوعه من هذه الغزاة، فقال أبو الطيب في ذلك بعد رجوعه من هذه الغزاة، أنشدها إياه في جمادي الآخرة سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة. بِغَيْرِكَ رَاعِيَاً عَبِثَ الذّئَابُ ... وَغَيْرَكَ صَارِمَا ثَلَمَ الضَّرَابُ يقول، مخاطباً لسيف الدولة: بغيرك من الأمراء، وقادة الناس الرؤساء، عبثت ذئاب المخالفين، وعلى غير رعاياك أقدم شرار العصاة المتمردين، وغيرك من السيوف ثلمه الضرب، وأكله الحرب.

وَتَمْلِكُ أَنْفُسَ الثَّقلينِ طُراً ... فَكيفَ تُحوزُ أَنْفُسَها كِلاَبُ ثم قال، مخاطباً له: وتملك أنفس الثقلين بجلالة سلطانك، وشمول إحسانك، فكيف تختار كلاب، هذه القبيلة، أنفسها عنك من بين سائر الثقلين، فتخالف أمرك، وتنكر فضلك، هذا أمر لا يمكن، ومحال لا يحسن. وَمَا تَرَكُوكَ مَعْصِيَةً وَلَكِنْ ... يُعَافُ الوِردُ والموتُ الشَّرابُ ثم قال: وما تركوك في فرارهم معصية لك، ولا رحلوا من بين يديك جهالة، بك، ولكنهم حذروا مطوعتك، وملكتهم هيبتك، فعادوا بالزوال، واعتصموا بالفرار، ويكره الورد إذا كان الموت شرابه، ويحذر إذا كان الحتف ماله. طَلَبْتَهُمْ على الأَمْواهِ حَتَّى ... تخوَّفَ أن تُفَتَّشَهُ السَّحَابُ ثم يقول له: طلبت بني كلاب على الأمواه التي هي مظان الأعراب في ارتحالها، ومنازلها عند انتقالها، فبلغت غايات تلك الفلوات النائية، ودوخت أقاصي تلك الرمال الشاسعة، وقرب عليك منها ما يقرب مثله، وفعلت في التوصل إليها ما لا يمكن غيرك فعله، ونلت من ذلك ما ليس السحاب بأبعد منالاً منه، ولا يخرج بشدة الامتناع عنه. ودل بقوله:

(تخوف أن تفتشه السحاب) على هذه العبارة. فَبِتَّ لَيالِباً لا نَوْمَ فيها ... تخُبُّ بكَ المُسَوَّمَةُ العِرَابُ ثم قال: فبت ليالياً في طلبك لهم، وأنت ساهر لا ترقد، وراحل لا تسكن، تخب بك وبمن معك الخيل المسومة، والعراب الفره المطهمة. يَهُزُّ الجَيْشُ حَوْلَكَ جَانَبِيْهِ ... كَمَا نَفَضَتْ جَنَاحَيْها العُقَابُ ثم يقول، مخاطباً له، ومشيراً إلى قوة طلبه لبني كلاب: يهز الجيش مجنبته حولك، امتثالاً لسيرك، واقتداء بفعلك، كما هزت العقاب جناحيها طائرة، ونهضت بهما إلى ما تعتمده قاصدة. وَتَسْأَلُ عَنْهُمُ الفَلَواتِ حَتَّى ... أَجَابَكَ بَعْضُها وَهُمُ الجَوَابُ

ثم قال: وتسأل الفلوات عنهم بطلبك لهم، ويكشفها فيهم تهممك بهم، حتى أجابك بعض تلك الفلوات بالإظهار عليهم، وأسعدك بالإرشاد إليهم، وهو الجواب الذي أقنعك سماعه، والمطلوب الذي أرضاك بلوغه. فَقَاتَلَ عَنْ حَرِيمهم وَفَرُّوا ... نَدَى كَفَيْكَ والنَّسبُ القُرَابُ ثم يقول: فقاتل عن حريم بني كعب لما فروا عنك، ولم يكن لهم قبل بك، ندى كفيك الذي حسن لك الإعراض عن أموالهم، وخفف عليك تعويض الجند من أنهابهم، ونسبهم القريب الذي راعيت حرمته، وحفظت ذمته. وَحِفْظُكَ فِيهم سَلَفَيْ مَعَدٍّ ... وأَنَّهُمُ العَشَائِرُ والصَّحَابُ ثم قال، مؤكداً لما قدمه: وقاتل عنهم حفظك فيهم للسلفين من معد؛ وهما ربيعة ومضر، ربيعة جد سيف الدولة، ومضر أخوه، وبنو كلاب أعقابه. فيقول لسيف الدولة: إنه حفظ فيهم هذه القرابة القريبة، وإنهم عشائره وأهله وأنصاره وحزبه، وأصحابه في وقائعه، وأجناده في ملاحمه.

تُكَفْكِفُ عَنْهُمُ صُمَّ العَوَالي ... وَقَدْ شَرِقَتْ بِظُعْنِهمُ الشَّعَابُ ثم يقول له: تدفع عن بني كلاب صم الرماح، إبقاء عليهم، وتحرجا من الإيقاع بهم، قد شرقت الشعاب بنسائهم، وعجزوا عن حماية حريمهم. وَأُسْقِطَتِ الأَجِنَّةُ في الوَلاَيا ... وأُجْهِضَتِ الحَوَائِلُ والسَّقَابُ ثم قال، مؤكداً لما ذكره من شدة حالهم: وأسقطت نسائهم الأجنة في ولايا الرحال، مهملات لا يحفظن، ومعجلات عن أن ينزلن، وأجهضت النوق ما في بطونها من الإناث الحوائل، والذكور السقاب. يشير بهذه الحال في النساء والنوق إلى ما صار إليه بنو كلاب من الفرار الشديد، ومطالبة الشأو البعيد، وأن ذلك مع إسرافهم فيه لم يعصمهم، وأن فرارهم مع شدته لم ينفعهم. وَعَمْروُ وفي مَيَامِنِهمْ عُمُورُ ... وَكَعْبُ في مَيَاسِرِهِمْ كِعَابُ

ثم يقول: إن سيف الدولة لحق بني كلاب، وهم على ما ذكروه من الرعب، والاجتهاد في الفرار، والتناهي في سوء الحال، وإن بني عمرو كانوا متيامنين منهم في حين هربهم، وهم عمور. يشير إلى افتراقهم وتقطعهم، وأن البطن منهم صار بطوناً، بما لحقهم من الخوف، ونالهم من الذعر، وكذلك كانت بنو كعب متياسرين منهم، لحقهم من الافتراق والخوف كالذي لحقهم، فصاروا كعوباً. يشير إلى انصداع جمعهم، وافتراق شملهم. وأن القبيلة منهم صارت قبائل؛ بتحزبهم في هربهم، وتقطعهم في سيرهم. وَقَدْ خَذَلَتْ أَبُو بَكْرٍ بَنْيِها ... وَخَاذَلَها قُرْيطُ والضَّبابُ ثم أكد ذلك، فقال: إن أبا بكر، هذا البطن، تخاذل فضيع الآباء منهم أبناءهم، والرؤوس المرتفعة فضائلهم، وكذلك خذلتهم ضباب وقريط، وهم اخوتهم وعشائرهم. إذا ما سِرْتَ في آثارِ قَوْمٍ ... تَخَاذَلتِ الجَمَاجِمُ والرَّقَابُ ثم أكد ما قدمه، فيما أحاط بهذه القبائل من مخافة سيف الدولة، فقال مخاطباً له: إذا ما سرت في طلب قوم يهربون عنك، تخاذلت أعضاؤهم

المتصلة، فكيف تظن بعشائرهم المقتربة؟ وأشار بما ذكره من تخاذل الجماجم والرقاب إلى هذه الحال، ودل على أن سيف الدولة قادر على من يطلبه، مؤيد في جميع ما يقصده. فَعُدْنَ كَمَا أُخِذْنَ مُكَرَّمَاتٍ ... عَليهِنَّ القَلاَئِدُ والمَلاَبُ ثم يقول: إن نساء بن كلاب عدن إليهم بعد ظهور سيف الدولة عليهم، مكرمات بما أحاط ببني كلابٍ من عفوه، لم تنلهن معرة الجيش، ولا لحقهن امتهان السبي، بل عدن إليهم، لم ينهب حليهن، ولا تغير طيبهن. وأشار إلى هذا بذكره القلائد والملاب، ودل على ما كان عليه هؤلاء النساء من الصيانة وظاهر الكرامة. يُثِبْنَكَ بالَّذي أَوْلَيْتَ شُكْراً ... وَأَيْنَ مِنَ الَّذي تُولي الثَّوَابُ ثم قال، يخاطب سيف الدولة، ويخبر عن هؤلاء النسوة: يثبنك في رجوعهن شكراً عن عفوك، وثناء جميلاً عن فضلك، وأين ثواب شكرهن من جليل إنعامك، وما أحاط بهن من تطولك وإحسانك؟ وَلَيْسَ مَصِيرُهُنَّ إِلَيْكَ سَبْياً ... ولا في صَوْنِهِنَّ لَدَيْكَ عابُ

ثم يقول: وليس مصير هؤلاء النسوة إليك سبياً نالهن، ولا مكروهاً حل بهن، لأنك سيد العرب، والمنفرد عليهم بالنعم، ومثلك لا يخاف على تضييع حرمهم، ولا يظن به تناهي ذممهم، وليس في صونك لنسائهم، وتغلبك على حريمهم ما يعابون به، ولا يألمون له، لأنك سيد عشائرهم، ومشيد فضائلهم. ولا في فَقْدِهِنَّ بني كِلاَبٍ ... إذا أَبْصَرْنَ غُرَّتَكَ اغْتِرابُ ثم قال: ولا في فقد هؤلاء النسوة لبني كلاب، الذين هم حرمهم، اغتراب يلحقهن، إذا أبصرن غرتك، وتبوأن محلك؛ لأنهن مشمولات بكرامتك، محفوظات بصيانتك. وَكَيْفَ يَتِمُّ بَأْسُكَ في أُنَاسٍ ... تُصِيُبُهمُ فَيُؤْلُمِكَ المُصَابُ ثم قال: وكيف يتم بأسك في بني كلاب، ومصابهم يؤلمك، وما تنالهم به من العقاب يوجعك؛ لأن لهم إليك ماتةُ القرابة، ويتوسلون بحرمة الصنيعة، فإن أغضبوك بمعصيتهم لك، فسيعطفك عليهم استحكام ثقتهم بك. تَرَفَّقْ أَيُّها المَوْلَى عَلَيْهم ... فإن الرَّفْقَ بالجاني عِتَابُ ثم يقول له: ترفق أيها المولى ببني كلاب صنائعك، فإن الرفق يكشف للجاني من سوء فعله، كالذي يكشف له العتاب الذي يربخ فيه بذنبه. وإِنَّهْم عَبِيْدُكَ حَيْثُ كَانوا ... إذا تَدْعُو لِحَادِثَةٍ أجَابوا ثم قال: وهم حيث كانوا عبيد نعمتك، وأنصار دعوتك، إذا دعوتهم أسرعوا نحوك، وإذا أمرتهم امتثلوا أمرك.

وَعَيْنُ المُخْطِئينَ هُمُ وَلَيْسُوا ... بأَوَّلِ مَعْشَرٍ خَطِئُوا فَتَابُوا ثم يقول له: وبنو كلاب عين المخطئين في الإقدام على معصيتك، مع الإقرار بسالف نعمتك، وليسوا بأول من أثم فتاب عن إثمه، وغوى فاستبصر ورجع عن غيه. وأَنْتَ حَيَاتُهُمْ غَضِبَتْ عَلَيْهمْ ... وَهَجْرُ حَيَاتِهم لَهُمُ عِقَابُ ثم قال له: وأنت لهم كالحياة التي لها يسعون، وبها يعيشون، وهجر حياتهم لهم عقاب عما جنوه، وجزاء بالغ فيما أتوه. وما جَهِلَتْ أَيَادِيكَ البوَادي ... وَلكِنْ رُبَّما خَفِي الصَّوَابُ ثم قال له: وما جهل أهل البادية من الأعراب فضلك عليهم، وآثارك المشكورة فيهم، ولكن حرموا الصواب في فعلهم، والسداد في أمرهم، وقد يخفي الصواب على قاصده، ويبعد السداد على طالبه. وَكَمْ ذَنْبٍ مُوَلَّدُهُ دَلاَلُ ... وكَمْ بُعْدٍ مُوَلَّدُهُ اقتِرَابُ ثم قال، مشيراً إلى ثقة بني كلاب بتجاوز سيف الدولة عنهم، أخرجهم إلى ما أنكره منهم: ورب ذنب قاد الدلال إليه، وقرب ضر صاحبه فأحدث البعد عليه. وَجُرْمٍ جَرَّهُ سُفَهَاءُ قَوْمٍ ... وَحَلَّ بِغَيْرِ جَارِمِهِ العَذَابُ

ثم قال: ورب جرم أحدثه سفهاء قوم على ساداتهم، وخالفوا فيه رأي جماعتهم، فطولب رؤساؤهم بما جناه سفهاؤهم، فنالهم العذاب مع البراءة، وحل بهم العذاب مع السلامة، وأشار إلى أن القوم الذين أوقع بهم سيف الدولة من رؤساء بني كلاب لم يشركوا السفهاء منهم في خروجهم من طاعته، وإظهارهم الإقدام على معصيته. فإنْ هَابُوا بِجُرْمِهِم عَلَّياً ... فَقَدْ يَرْجُو عَلَّياً مَنْ يَهَابُ ثم يقول: فإن هاب بنو كلاب علياً؛ سيف الدولة، بذنبهم الذي أتوه، وجرمهم الذي جنوه، فليس ذلك مما يقطع رجاءهم فيه، ويرد وسائلهم إليه، فسائر رعاياه يرجونه ويهابونه، ويؤملونه ويخافونه. وإِنْ يَكُ سَيْفَ دَوْلَةِ غَيْرِ قَيْسٍ ... فَمِنْهُ جُلُودَ قَيْسٍ والثَّيَابُ ثم قال: وإن كان سيف الدولة منسوباً إلى بني العباس بالخدمة، ومآلهم إلى خندف، وإلى بني تغلب بالنسبة، ومالهم إلى ربيعة، وقيس بين القبيلتين فقد قربت منه قيس بإحيانه إليهم، واتصلوا به بما أسلفه من صنائعه الجميلة فيهم، فجلودهم من نعمه، وثيابهم من هباته وخلعه. وَتَحْتَ رَبَابِهِ نَبَتُوا وأَثُوا ... وفي أَيَّامهِ كَثُروا وَطَابوا

ثم يقول: أن بني كلاب صنائع سيف الدولة، أنبتتهم سحائب نعمه، (وعمتهم) سوالف سننه، فكثر عددهم في أيامه، وطاب خبرهم بما شملهم من إنعامه. وتَحتَ لِوائِهِ ضَرَبوا الأَعَادي ... وَذَلَّ لَهُمْ من العَرَبِ الصَّعابُ ثم قال، مؤكداً لما قدمه، من ذكر اتصالهم به: وتحت لوائه ضربوا من أعاديه من خالفه وعصاه، وأذل بهم من العرب من استصعب عليه ونواه. وَلَوْ غَيْرُ الأَمِيرِ غَزَا كِلاَبا ... ثَنَاهُ عَن شُمُوسِهمُ ضَبَابُ ثم يقول: ولو غير سيف الدولة غزا كلابا؛ هذه القبيلة، لأَعياه أمرهم، ولأفزعه بأسهم، ولثناه عن الاستضاءة بشموس بلادهم عجاج كتائبهم، وساطع رهج مواكبهم، وجمع الشمس على التجوز، كأنه جمع شمس كل يوم شمساً على حيالها، وأشار بالضباب إلى الرهج. وَلاَقى دُونَ ثَأيِهمُ طِعَاناً ... يُلاَقي عِنْدهُ الذَّئْبَ الغُرَابُ ثم قال: ولاقى دون بيوتهم، وأشار إليها بالثأي؛ لأنها إنما تكون

بقربها، قتالاً صادقاً، وطعاناً نافذاً، يكثر القتل به، وتعظم الوقائع فيه، ويلتقي عنده الذئاب والغربان، يشير إلى ما كان يعتمد القتلى من سباع البر وطيور الجو. وَخَيْلاً تَغْتَدي ريحَ المَوامِيِ ... وَيَكْفِيها مِنَ الماءِ السَّرَابُ ثم قال: ويلاقي من خيولهم خيلاً، لا تماثل في سرعتها، ولا تقاوم في شدتها، تغتدي في الفلوات برياحها، وترتوي في الهواجر بسرابها. يشير إلى أنها تجتزي بألبان الإبل عن العلف والماء، وكذلك تكون خيل الأعراب. وَلَكِنْ رَبُّهُمْ أَسْرَى إِليهم ... فَمَا نَفَعَ الوُقُوفُ ولا الذَّهابُ ثم يقول، مشيراً إلى سيف الدولة؛ ولكن بنو كلاب مع منعتهم، لما أسرى إليهم مالكهم، خضعوا لأمره، وعجزوا عن حربه، فلم ينفع الواقف وقوفه؛ للغلبة المحيطة به، ولا نفع الذاهب ذهابه؛ للطلب المدرك له. ولا لَيْلُ أَجَنَّ ولا نَهَارُ ... وَلاَ خَيْلُ حَمَلْنَ وَلا رِكَابُ ثم يقول، مؤكداً لما قدمه: ولا الليل أجن من حاول الاستتار به، ولا النهار نفع من رام الفرار فيه، ولا الخيل حملت من ركبها لسرعتها، ولا الركاب أقلته لقوتها، يريد: أن جيش سيف الدولة أدرك جميعهم، وملك حريمهم.

رَمَيْتَهُمْ بِبَحْرٍ مِنْ حَديدٍ ... لَهُ في البرَّ خَلْفَهُمُ عُبَابُ ثم يقول لسيف الدولة: رميتهم من جيشك ببحر من حديد؛ لكثرة السلاح فيه، أحاط بهم أوله، وزخر خلفهم معظمه. فَمَسَّاهُمْ وَبُسْطُهُمُ حَريرُ ... وَصَبَّحَهُمْ وَبُسْطُهُمُ تُرابُ ثم قال: فأتاهم أول الجيش مساء، والحرير بسطهم، والرفاهية حالهم، ووافتهم جملته نهاراً؛ وهم أسارى منهوبون؛ التراب بسطهم، والخضوع شأنهم. وَمَنْ في كَفَّهِ مِنْهُمْ قَنَاةُ ... كَمَنْ في كَفَّهِ مِنْهُمْ خِضابُ ثم أكد ذلك، فقال: ومن يحمل قناة للقتال من رجالهم، كمن يستعمل خضاباً للزينة من نسائهم، قد تساووا بالتحكيم في أنفسهم، وتماثلوا في الإلقاء بأيديهم، وصار رجالهم كنسائهم وأشداؤهم كضعفائهم. بَنُو قَتْلَى أَبِيْكَ بأرضِ نَجْدٍ ... وَمَنْ أَبْقَى وَأَبْقَتْهُ الحِرابُ ثم يقول لسيف الدولة: إن بني كلاب الذين أوسعتهم عفوك، قد أوقع أبوك بأرض نجد بآبائهم، وعفا بالقدرة عن أسلافهم، ففعل فيهم

كفعلك، وبذل لهم كالذي بذلته من فضلك. عَفَا عَنْهُمُ وَأَعْتَقَهُمْ صِغاراً ... وفي أَعْنَاق أَكْثَرِهِمْ سِخَابُ ثم قال: شملهم عفوك، ونال جميعهم عتقه، وهم صغار في أسنانهم، أطفال في أحوالهم، تتخذ لهم السخاب والتمائم، وتعلق عليهم المعاذات والقلائد. وَكُلُّكُمُ أَتَى مَأْتَى أَبِيهِ ... فَكُلُّ فِعَالِ كُلَّكُمُ عُجَابُ ثم يقول لسيف الدولة: وكلكم حكى أباه في فعله، وتلاه فيما أسلفه من فضله، فكل أفعال كلكم عجيب عند سامعه، جليل عند ذاكره. كَذَا فَلْيَسْرِ مَنْ طَلَبَ الأَعادي ... وَمِثْلَ سُرَاكَ فَلْيَكُنِ الطَّلابُ ثم قال، مخاطباً له: (كذا) فليسر من طلب أعاديه، وحاول عقاب مخالفيه، ومثل سراك على بني كلاب، فليكن الطلب والعزم، ومثل نفاذك فيهم فليكن النفاذ والحزم.

وسار سيف الدولة نحو ثغر الحدث لبنائها، وكان أهلها أسلموها بالأمان إلى الدمستق سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، فنزلها سيف الدولة يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة من سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، فبدأ في يومه فخط الأساس، وحفر أوله بيده ابتغاء ما عند الله، فلما كان يوم الجمعة نازله ابن الفقاس؛ دمستق النصرانية، في خمسين ألف فارس وراجل، من جموع الروم والأرمن والروس والبلغر والصقلب والجزرية. ووقعت المصافة يوم الاثنين، انسلاخ جمادى الآخرة، من أول النهار إلى وقت العصر، وأن سيف الدولة حمل عليه بنفسه في نحو خمس مائة من غلمانه، وأصناف رجاله، فقصد موكبه وهزمه، وأظفره الله

به، وقتل نحو ثلاثة آلاف رجل من مقاتلته، وأسر خلقاً من اسخلاريته وأراخنته فقتل أكثرهم، واستبقى البعض، وأقام (على الحدث) حتى بناها، ووضع بيده آخر شرافة منها، يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب فقال أبو الطيب، أنشدها سيف الدولة بعد الوقعة بالحدث: عَلَى قَدْرِ أَهْلِ العَزْمِ تَأْتيِ العَزَائِمُ ... وَتَأْتي عَلَى قَدْرِ الكِرَامِ المكَارِمُ يقول: على قدر العزم من الملوك، وما يكونون عليه من نفاذ القدرة، وتظاهر العلو والرفعة، تكون عزائمهم في نفاذها، وبصائرهم في قوتها وثباتها، وعلى قدر الكرام في منازلهم، واستبانة فضائلهم، تكون مكارمهم في جلالتها، وأفعالهم في قوتها وفخامتها. وَتَعْظُمُ في عَيْنِ الصَّغِيرِ صِغَارُها ... وَتَصْغُرُ في عَيْنِ العَظِيمِ العَظَائِمُ

ثم قال: وبحسب ذلك، يعظم في عين الصغير صغير ما يفعله، ويكبر عنده قليل ما يدركه، وتصغر في عين العظيم الأمور العظيمة، والأفعال الجليلة. يشير إلى سيف الدولة، وما أبانته الوقعة التي ذكرها من نفاذ عزمه، وجلالة قدره. يُكَلَّفُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ الجيشَ هَمَّهُ ... وَقَدْ عَجَزتْ عَنْهُ الجُيوشُ الخَضَارمُ ثم يقول: يكلف سيف الدولة جيشه استيفاء ما تبلغه همته، وتنعقد عليه نيته، والجيوش الخضارم تعجز عن ذلك ولا تدركه، وتقصر عنه ولا تلحقه. وَيَطْلُبُ عِنْدَ النَّاسِ مَا عِنْدَ نَفْسِهِ ... وَذَلِكَ مَا لاَ تَدَّعِيهِ الضَّرَاغِمُ ثم قال: ويطلب أصحابه وأتباعه ما عنده من البأس والنجدة، والإقدام والشدة، وذلك ما لا تبلغه الأسود العادية، ولا تدعيه الضراغم الباسلة. تُفَدَّي أَتَمُّ الطَّيْرِ عُمْراً سِلاحَهُ ... نُسُورُ المَلاَ أَحْدَاثُها والقَشَاعِمُ

ثم يقول: يفدي سلاح سيف الدولة أطول الطير مدة، وأكثرها للدهر خبرة، وبين هذا الصنف، فقال: أصاغر النسور وأكابرها، وأحداثها وقشاعمها، لما هي عليه من الخصب في وقائعه، والاستبشار في كثرة ملاحمه. وَمَا ضَرَّهَا خَلْقُ بِغَيْرِ مَخَالِبِ ... وَقَدْ خُلِقَتْ أَسْيَافُهُ والقَوَائِمُ ثم يقول: وما كان يضرها أن تخلق بغير مخالب، تستعملها فيما تأكله، وتصرفها فيما تنشبه؛ لأن سيوفه تبلغها في ذلك ما ترغبه، وتفعل لها منه ما تريده وتطلبه. وأشار إلى مداومة سيف الدولة للقتال والقتل، ومواصلتهم للوقائع والحرب. هَلْ الحَدَثُ الحمراءُ تَعْرِفُ لَوْنَها ... وَتَعْلَمُ أَيُّ السَّاقِيِيْنِ الغَمَائمُ ثم يقول: هل الحدث الحمراء، بما سفك سيف الدولة فيها من الدم، تعرف لونها، وتتيقن حالها؟ جعل صفتها الحمرة، إشارة إلى ما أحدث فيها سيف الدولة من هذه الوقعة، وهل تعرف هذه المدينة أي ساقييها الغمام؟ وهل تنقصل عندها؟ فرق ما بين المطر الساقي، لها، والدماء المسفوكة بها،

يشير إلى كثرة ما أجري فيها سيف الدولة من دماء الروم، وأنها ساجلت بكثرتها الأمطار الوابلة، وشاكلت الغيوث الساجمة. سَقَتْهَا الغَمَامُ الغُرُّ قَبْلَ نُزولُهِ ... فَلَمَّا دَنَا مِنْها سَقْتَها الجَمَاجُم ثم قال: سقتها الغمام الغر قبل نزول سيف الدولة بها، وجادتها قبل حلوله فيها، فلما احتلها أوقع فيها بالروم الذين حاولوا منعه من بنيانها، ودفعه عن تسكينها، فقتلهم جيوشه، وفلقت هامهم سيوفه، فسفك فيها من دمائهم، ما ماثل المطر الذي جادها به السحاب في كثرته، وقاومه في جملته. بَنَاهَا فَأَعْلَى وَالْقَنَا يَقْرَعُ القَنَا ... وَمَوْجُ المَنَايا حَوْلَهَا مُتَلاَطِمُ ثم يقول: بني سيف الدولة مدينة الحدث على الروم، وقد أذلهم بالإيقاع بهم، وقهرهم بالاستيلاء عليهم، بعد أن تقارع القنا من حربهم، وتلاطم موج الموت في حين منازلته لهم. يشير إلى أنه بنى هذه المدينة بعد الوقعة التي أثخنت الروم بالقتل، وألبستهم ثياب الذل. وَكَانَ بِهَا مِثْلَ الجُنُونِ فأَصْبَحَتْ ... وَمِنْ جُثَثِ القَتْلَى عَلَيْها تَمَائِمُ ثم قال: وكان بهذه المدينة، في حين خلاء أهلها، وامتناع المسلمين من البنيان لها، كالجنون لمخافة الروم، وتهيب أمرهم، وكراهتهم، والفرق من ملكهم، فسكن سيف الدولة تلك المخافة، وأذهب تلك المهابة، وترك

حول هذه المدينة من جثث قتلى الروم ما قام لها مقام التمائم، وأمنها جميع المحاذير. طَرِيدةُ دَهْرٍ سَاقَها فَرَدَدْتَها ... على الدَّين بالخَطَّي والدَّهْرُ رَاغِمُ ثم قال، مخاطباً لسيف الدولة: وكانت هذه المدينة طريدة دهر، أخرجها عن مدن الإسلام، وأزعجها من بينها بعدم العمران، فرددتها على الاسم بتسكينكَ لها، واغتصبتها من الروم بدفعهم عنها، وغالبت الدهر الذي أسعدهم عليها فغلبته، وقارعته دونها فأرغمته. تُفِيتُ اللَّيِالي كُلَّ شَيءٍ أَخَذْنَهُ ... وَهُنَّ لَمِا يَأْخُذْنَ مِنْكَ غَوارِمُ ثم يقول له: أنت لسعادة جدك، وتأييد الله لك على أمرك، لا تنقض الليالي عليك ما تفعله، ولا تسترد منك ما تأخذه، وهن يصرفن ما أخذنه منك، ويغرمن ما فوتنه عنك. إذَا كَانَ ما تَنْوِيه فِعْلاً مُضَارِعاً ... مَضَى قَبْلَ أن تُلْقى عَلَيْهِ الجَوازِمُ

ثم أكد ما ذكره من سعده، وإظهار الله له على قصده، فقال، مخاطباً له: إذا كان ما تنويه فعلاً مستقبلاً، ولفظ المستقبل يشترك ما بين الدائم الذي لم ينقطع، والمتأخر الذي لم يقع، صار ذلك الفعل ماضياً بوقوعه منك، ومتصرفاً بتمكنه لك، قبل أن تلحقه الجوازم، فتثبته فيما لم يجب، وتدخل عليه فتخلصه لما لم يقع. وأشار بهذا إلى أن ما ينويه فالله ييسره له، وما يريده فالأيام لا تمطله به. وَكَيْفَ تُرَجَّي الرُّومُ والرُّوسُ هَدْمَها ... وَذَا الطَّعنُ أَسَاسُ لَها وَدَعَائُم ثم يقول له: وكيف ترجي الروم والروس هدم هذه المدينة، وقد أسستها على الطعن الذي أعلمته فيهم، ودعمتها بالقتل الذي سلطته عليهم، فكيف يرومون هدمها، وهذه صورة بنيتها، وكيف يحاولون إخلاءها، وهذه حقيقة منعتها. وَقَدْ حَاكَمُوها وَالمَنايا حَوَاكِمُ ... فَمَا مَاتَ مَظْلُومُ ولا عَاشَ ظَالمُ ثم قال: وقد حاكموها ظالمين، بما تعرضوا له من الحرب، وحاولوها متعدين، بما تكلفوه من الجمع، فما عاشوا مع ما حاولوه من الظلم لها، ولا مات ذكر هذه المدينة مع ما أرادوه من الخراب بها، بل نصر الله فيها سيف الدولة، فهزم جيوشهم، وأظهره عليهم، ففرق جموعهم.

أَتَوْكَ يَجُرُّونَ الحَدِيدَ كأَنَّهُمْ ... سَرَوْا بِجِيادٍ مَا لُهنَّ قَوَائِمُ ثم يقول لسيف الدولة، وهو يخبر عن الروم: أتوك قد لبسوا الدروع، ولبست خيلهم التجافيف، فصاروا يجرون الحديد، وقد سترت التجافيف قوائم خيلهم، وشملت السلاح جميعهم جيشهم، حتى كأنهم سروا بجياد لا قوائم لها، لكثرة ما تكلفوه من تشبث التجافيف بها. إذَا بَرَقُوا لَمْ تُعْرفِ البِيْضُ مِنْهُمُ ... ثِيَابُهُمُ من مِثْلِها والعَمَائِمُ ثم أكد ذلك، فقال: إذا زحفت كتائب جميعهم، وبرقت أسلحة جيشهم، لم تعرف السيوف المصلتة بينهم؛ لأن عمائمهم البيض، والمغافير ثيابهم، وما يشمل خيلهم الدروع والتجافيف، وكل ذلك يماثل السيوف، ولا يبعد عنها، ويشاكلها ولا ينفصل منها. وأشار بما وصف من كثرة سلاح هذا الجيش إلى قوته، وبما ذكره من هذه الهيبة إلى شدته. خَمِيسُ بِشَرقِ الأَرْضِ والغَربِ زَحْفُهُ ... وفي أُذُنِ الجَوْزَاءِ مٍنْهُ زَمَامُ ثم يقول: إن هذا الخميس لعظم أمره، وكثرة أهله، يملأ ما بين الشرق والغرب، ويعمهما زحفه، ويكون فيهما سيره. وفي أذن الجوزاء من أصوات أهله زمازم لا تتفسر، وأخلاط لا تتبين. وقال: أذن الجوزاء؛

على سبيل الاستعارة، وأشار بذكرها إلى أن هذه الأصوات تبلغ السماء بكثرتها، وتقطع أبعد المسافات بشدتها. تَجَمَّعَ فِيهِ كُلُّ لِسْنٍ وأُمَّةٍ ... فما تُفْهِمُ الحُدَّاثَ إلاَّ التَّرَاجِمُ ثم قال: تجمع في هذا الجيش كل لسن من الأمم المختلفة، والطوائف المفترقة، فما تتفاهم الحداث منهم إلا بتراجم تتكلف لهم، وتفاسير تستعمل بينهم، وأشار بهذا إلى عظم الجيش وحفله، وكثرة ما تضمن من حشده. فَللهِ وَقْتُ ذَوَّبَ الغِشَّ نَارُهُ ... فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ صَارِمُ أو ضُبَارِمُ ثم يقول: فلله وقت تلك الوقعة التي أذهبت شدة الحرب فيها تمويه الفرسان، وذوبت نارة غشهم، وتبينت أمرهم، فلم يبق من السيوف إلا الصارم، ومن الرجال إلا الضبارم يريد: أن السيوف الكليلة تقطعت، وجماعة الرجال الجبناء تفرقت، فلم يبق من السيوف إلا ما كرم، ومن الرجال إلا من قوي وشجع. تَقَطَّعَ ما لا يَقْطَعُ الدَّرْعَ والفَتَى ... وَفَرَّ مِن الفُرْسَانِ مَنْ لاَيُصَادِمُ ثم أكد ذلك، فقال: أكرهت السيوف بشدة الضرب، فتقطع منها

ما لا يقطع الدرع والفتى اللابس له، ويفري الحديد والشجاع المستتر به، وفر من الفرسان من لا يصادم لشدته، ويعانق الأبطال مدلاً بقوته. وَقَفَتَ وَمَا في المَوْتِ شَكُّ لِوَاقِفٍ ... كَأَنَّكَ في جَفْنِ الرَّدَىَ وَهو نَائِمُ ثم يقول لسيف الدولة: وقفت غير متهيب، وأقدمت غير متوقع، والموت لا شك فيه عند من وقف موقفك، وتقدم تقدمك، كأنك من الردى في أمكن مواضعه، وهو معرض عنك فيما يتكلف من شدائده. وأشار بجفن الردى إلى عظيم ما اقتحم سيف الدولة، وبنومه إلى إعراضه مع ذلك عنه، فألطف الإشارة، وأحسن الاستعارة. تَمُرُّ بِكَ الأبْطَالُ كَلْمى هَزِيْمَةً ... وَوَجْهُكَ وَضَّاحُ وَثَغْركَ بَاسِمُ ثم قال مؤكداً لما قدمه: تمر بك الأبطال جرحى منهزمين، وكلمي مستسلمين، وذلك لا يثني عزمك، ولا يضعف نفسك، بل كنت حينئذ ضحاكاً غير متوقع، وبساماً غير متضجر، قد وثقت من الله بعاجل نصره، وتيقنت ما وصله منك بجميل صنعه. تَجَوَزْتَ مِقْدَارَ الشَّجاعةِ والنُّهىَ ... إلى قَوْل قَوْمٍ أَنْتَ بالغَيْبِ عالمُ ثم يقول لسيف الدولة: تجاوزت في شجاعتك مقدار الشجاعة، وفي

عقلك ومعرفتك مقدار الفعل والمعرفة، وأظهرت من إقدامك وجرأتك، وسماحتك بمهجتك ما سبق معه إلى (قول) قوم فيك؛ إنك علمت غيب مال أمرك في الظفر، فلم تحفل بشدة الحرب، وتيقنت ما ختم الله به لك من التأييد، فأمنت مخاوف القتل. ضَمَمْتَ جَنَاحَيْهِمْ على القَلْبِ ضَمَّةً ... تَمُوتُ الخَوافِي تَحْتَها وَالْقَوَادِمُ ثم قال: ضممت جناحي جيش الروم، على القلب منه ضمة منكرة، وشددت في الجيش شدة صادقة، مات بها من الروم من كانت منزلته في إنهاض تلك الجهتين، والاستقلال بتلك الناحيتين، بمنزلة الخَوافي والقوادم من الجناحين، والأوائل والأواخر من هذين العضوين. ولما استعار الجناحين لمجنبتي الجيش، وصل الاستعارة في الخوافي والقوادم، فأشار بها إلى فرسان المجنبتين الذين باتوا يقلون الجهتين، وينهضون الناحيتين. بِضَرْبٍ أَتى الهاماتِ والنَّصْرُ غَائِبُ ... وَصَارَ إلى اللَّبَّاتِ والنَّصرُ قَادِمُ ثم قال، مؤكداً لما قدمه، من شدة حملات سيف الدولة: بضرب

قرع رؤوس الروم، والحرب متكافئة، والكتائب متزاحفة، والنصر متأخر عن الفئتين، والصبر قد أفرغ على الطائفتين، وقد ذلك الضرب أرؤس الروم، وبلغ لباتهم، وتمكنت سيوف أصحاب سيف الدولة فيهم، وجيشهم مهزوم، وجمعهم مغلوب، والنصر الغائب قد قدم، والظهور المنتظر قد التأم. وأشار بما ذكره إلى أن هزيمة الروم لم تكن إلا بعد مجالدة، وغلبة سيف الدولة لهم لم تكن إلا بعد مقاومة. حَقَرْتَ الرُّدَيْنَّيِاتِ حَتىَّ طَرَحْتَها ... وَحَتىَّ كَأَنَّ السَّيْفَ للرُّمحِ شَاتِمُ ثم يقول لسيف الدولة: حقرت الرماح، واستقللت فعلها، فطرحتها مستصغراً لها، ونبذتها غير حافل بها، وعدلت إلى السيوف عالماً بفضلها، واعتمدتها لخبرتك بأمرها، فكأنها شتمت الرماح بتصغيرها لشأنها، وأهانتها لسخطها بفعلها. وَمَنْ طَلَبَ الفَتْحَ الجَلِيلَ فَإنَّما ... مَفَاتِيحُهُ البْيِضُ الخِفَافُ الصَّوَارِمُ ثم قال: ومن طلب الفتح الجليل وحاوله، وارتقب النصر البين وطالبه، فإنما مفاتيح ذلك السيوف الصارمة، وأسبابه البيض الخفاف الماضية. نَثَرْتَهُمُ فَوْقَ الأُحَيْدِبِ كُلَّهِ ... كما نُثِرَتْ فَوْقَ العَرُوسِ الدَّرِاهِمُ

ثم يقول لسيف الدولة: نثرت الروم على الأحيدب؛ هذا الجبل، بهزيمتك لهم، ووقيعتك التي أوقعتها بهم، كما تنثر الدراهم على العروس لتنتهب، وتفرق عليها لتؤخذ وتسلب. فأشار إلى أن سيف الدولة يحكم في الروم بالقتل والأسر، ونثرهم فوق الأحيدب أبلغ النثر. تَدُوسُ بِكَ الخيلُ الوُكُورَ على الذُّرَى ... وَقَدْ كَثُرَتْ حَوْلَ الوُكُورِ المَطَاعِمُ ثم قال مخاطباً له: تدوس بك الخيل في آثار الروم وكور الطير على رؤوس الجبال، وقنن الأوعار، وقد كثرت المطاعم حول تلك الوكور؛ بكثرة من قتلته هنالك خيلك، ومن أدركه من الروم جيشك. وأشار بما ذكره إلى كثرة الجثث حول وكور الطير مع انتزاح مواضعها، وامتناع أماكنها، إلى ما كان عليه الروم من شدة الهرب، وما كان أصحاب سيف الدولة عليه من شدة الطلب، وأنهم أدركوهم على رؤوس الجبال، وقتلوهم في أبعد غايات الأوعار. تَظُنُّ فِراخُ الفُتْخِ أَنَّكَ زُرْتَها ... بأُمَّاتِهَا وَهِي العِتَاقُ الصَّلادِمُ ثم يقول لسيف الدولة: تظن فراخ الفتخ، لكثرة ما صيرت

حولها من جثث قتلى الروم، وأنك زرتها بأماتها، وأمددتها بمطاعمها وأقواتها، وإنما فعل ذلك صلادم خيلك، وكثر القتلى كتائب جيشك. إذَا زَلِقَتْ مَشَّيْتَها بِبُطُونها ... كما تَتَمَشَّى في الصَّعِيدِ الأَرَاقُمِ ثم قال، مؤكدا لما من اقتحام الخيل على الروم في تلك الأوعار، وتسرعها إليهم في قنن الجبال: إذا زلقت لصعوبة ما تحاوله، وكبتت لتعذر ما تقتحمه، مشيتها على بطونها مكرهة، وأنهضتها على تلك الحال متسرعة، كما تتمشى الأراقم في الصعيد على بطونها، وتسير في متمكنة في مسيرها. أفي كل يوم ذا الدمشق مقدم ... قفاه على الإقدام للوجه لائم ثم يقول، زارياً على الدمشق، وموبخاً له، بتعرضه لسيف الدولة: أفي كل يوم يقدم هذا الدمشق على الحرب مواجهاً لها، ويقتحمها متمرساً بها، وقفاه فيها لائم لوجهه، وأصحابه غير مستشكرين من فعله؛ لأن

عادته أن يفر فيصير قفاه وقاية لوجهه، ويلك أصحابه بما ينالهم من مكروه فعله. أيْنكُر ريحَ الليث حَتَّى يذوَقهُ ... وْقد َعَرفَتْ ويحُ اللُيوث الَبَهائُم ثم قال، مشيراً إلى سيف الدولة: أينكر ويح الأسد حتى يذوقه، ويباشر بأسه حتى يناله، والباهم تعرف ريح الليث فتحذره، وتشعر به فتتوقعه. وَقَدْ فَجَعَتْهُ بابْنهِ وابنِ صهْره ... وبالصَّهْر حَمْلاَتُ الأَميرِ الغَواشِمُ ثم قال: وقد فجمعت الدمشق بابنه وبصهره حملات سيف الدولة الغواشم للأقران، الغاصبة لأنفس الفرسان، فما للدمشق لا يكفه عن التعرض له بما سلف لسيف الدولة من الإيقاع به؟ مَضى يَشْكُرُ الأَصحابَ في فَوْته الظَّبا ... لما شغلتها هامهم والمعاصم ثم يقول: مضى الدمستق فاراً بنفسه، على وجهه، يشكر أصحابه الذين شغلوا عنه السيوف بجماجمهم، واتقوها دونه

بمعاصمهم، وأمكنه مع ذلك ما حاوله من الهرب، استعمل فيه من الطلب ويفهم صوت المشرفية فيهم ... على أن أصوات السيوف أعاجم ثم قال: ومضى وهو يفهم أصوات السيوف في أصحابه، ويتبين استعمالها في أشياعه، ويعلم أن تلك الأصوات تخبر عن إتلاف أنفسهم، واستنفاد أكثرهم، فأفادته أصوات السيوف هذه المعرفة، مع أن تلك الأصوات عجم لا تفهم، والسيوف خرس لا تتكلم. يسر بما أعطاك لا عن جهالة ... ولكن مغنوماً نجا منك غانم قال: يسر بما أعطاك من نفسه، وبما أهلكته من جيشه غير جاهل بما عليه في ذلك من عظم المصيبة، وجليل الرزية، ولكن من غنمته ففاتك بنفسه، وطلبته ولم تنله بحتفه، مستغرب في دهره، غانم في حقيقه أمره. ولست مليكاً هازماً لنظيره ... ولكنك التوحيد للشرك هازم ثم يقول مخاطباً له: ولست مليكاً يهزم ملكاً مثله فيناله عز تلك الغلبة في خاصته، ويعتد بها في رفعته، ولكنك سيف الإمام، ومقيم أود الإيمان وملك الروم الذي واجهك عماد أهل الكفر، وعليه فيهم مدار الأمر، فهزيمتك له هزيمة التوحيد للشرك، عليه ظهور أهل الحق على أهل الإفك.

وورد على سيف الدولة فرسان طرسوس وآذنه والمصيصة ومعهم رسول ملك الروم في طلب الهدنة، يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة بقيت منى المحرم سنة أربع وأربعين وثلاثمائة فقال أبو الطيب، أنشده إياها بحضرتهم وقت دخولهم: أراع كذا كل النام همام ... وسح له رسل المليك غمام يقول: أراع، كمثل ما نحن فيه، كل الأنام، ملك قبل سيف الدولة؟ فخضعوا له واستجاروا به، وتتابعت رسلهم عليه، حتى كان غماماً أمطرهم بحضرته، وسحابا سح بهم في بلدته. ودانت له الدنيا فأصبح جالساً ... أيامها يريد قيام ثم قال: ودانت الدنيا لأمره، وبلغ أبعد غاياتها بعفوه، والأيام قائمة فيها يبغه، مجتهدة فيها يحاوله وينويه. إذا زار سيف الدولة الروم غازياً ... كفاها لمام لو كفاه لمام

يقول: إذا زار سيف الدولة الروم غازياً لأرضهم، ومزمعاً على حربهم، تمنوا أن تكون ملازمته لهم لماما، وإقامته في أرضهم إغباباً، وليس يكفيه من ذلك ما يكفيهم، ولا يقنعه ما يقنعهم ويرضيهم. فَتَىً يَتْبَعُ الأَزْمَانُ في النَّاسِ خَطَوةُ ... لِكُلَّ زَمانٍ في يَدَيْهِ زِمَامُ ثم قال: فتى يتبع الأزمان في الناس خطوة، ولا يخالف فيهم رأيه وحكمه، حتى كأن لكل زمان في يديه زماماً يملكه به، وخطاماً يذلله له. يشير إلى قوة سعده، وإقبال جده، وما يصله الله له من جميل صنعه. تَنَامُ لَدَيْكَ الرُّسْلُ أَمْنَاً وغِبْطةً ... وأَجْفَانُ رَبَّ الرُّسْلِ لَيْسَ تَنَامُ ثم يقول لسيف الدولة: تنام الرسل لديك أَمناً، بتفيؤ ظلك، مستبشرة بمشاهدة فضلك، وأجفان الملوك الموجهين لهم ساهرة، لما يتوقعونه من خيبة رسلهم، وأن تتمادى بصيرتك في حربهم. حِذَاراً لُمعْروْريِ الجِيادِ فُجَاَءةً ... إلى الطَّعْنِ قَبْلاً ما لَهُنَّ لَحامُ

تَشَرَّفُ عَدْنَانُ بِهِ لا رَبِيْعَةُ ... وَتَفْتَخِرُ الدُّنيا بِهِ لا العَوَاصِمُ ثم قال: تشرف بك عدنان، فضلاً عن ربيعة، وآل عدنان مآل قريش، وسائر قبائل أكثر العرب، فأشار إلى أن جميع العرب يتشرفون بسيف الدولة، وإن بعد كثير منهم عن نسبه، كما أن الدنيا تفتخر به بلادها، وإن بعد أكثرها عن بلده. لك الحمد في الدار الذي لي لفظه ... فإنك معطيه وإني ناظم ثم يقول له: لك الحمد في شعري الذي هو حسنه، وبراعة وصفه، فإنما لي لفظه وأنت معطيه، وأنا أنظمه وأنت تنشئه؛ لأني إنما أصف في مكارمك، وأقيد به فضائلك، فأن كنت ناظم لفظه، فمآثر جوامع حسنه. وإني لتغدوني عطايات في الوغى ... فلا أَنَا مَذْمُومُ ولا أَنْتَ نَادِمُ ثم قال: وإني لأَرْكَبُ ما تَهب لي من الخيل في الحرب، فتغدو بي سائرة، وأقحمها في تلك الغمرات ناهضة، فما أنا مذموم بما أفعله من التقدم، ولا أنت حينئذ نادم على ما تخصني به من التفضل. عَلىَ كُلَّ طَيَّارٍ إليها بِرِجْلهِ ... إذَا وَقَعتْ في مَسْمَعَيْهِ الغَمَاغِمُ ثم قال: على كل طيار إلى الحرب، وجناحه رجله، وطيرانه عدوه، إذا وقعت في مسمعيه غماغم الأبطال، وكثر فيها تصاول الأقران. فدل

بإسراعه إلى الحرب على ما له فيها من النهضة، وببداره نحوها على ما به عليها من القوة. أَلاَ أَيُها السَّيْفُ الذي لَسْتَ مُغْمَداً ... وَلاَ فِيْكَ مُرْتَابُ ولا منكَ عاصمُ ثم يقول له: ألا أيها السيف الذي لا ينبو له حد، ولا يتضمنه غمد، ولا فيه لمبصره ريبة، ولا يعصم من اعتمده جنة؛ لأن مقاصده موصولة بالنصر، ومساعيه مكنونة بجميل الصنع. هَنيئَاً لِضَرْبِ الهامِ والمَجْدِ والعُلاَ ... وَرَاجِيْكَ والإسْلاَمِ إِنَّكَ سَالِمُ ثم قال: هنيئاً لضرب الهام الذي أنت أحذق الناس به، وللمجد الذي أنت أكسب الناس له، وللعلا الذي أنت جامع شملها، ولراجي مكارمك التي لا تمطل بفضلها، وللإسلام الذي أعززت دعوته، وأملحت على الأشرار حجته. إنك سالم منسأ عمرك، مملك متبوع أمرك. وَلْمِ لاَ يَقِي الرَّحْمَنُ حَدَّيكَ مَا وَقَى ... وَتَفْلِيقُهُ هَام العِدى بِكَ دائِمُ ثم قال: ولم لا يقي الرحمن حديك ما وقاهما من النبو عن ضرائبهما، والتأخر عن النفاذ في مقاصدهما، وتفليق هام أعدائه دائم بهما، وإعزاز حزب شريعته خالص لهما.

ثم قال مخاطباً له: (لا ينامون) حذاراً منك لملك شديد بأسه، قوي جيشه، تتسابق فرسانه إلى الحرب عند مفاجأتها لهم على أعراء الخيل، فيستقبلون بها الطعان غير ملجمة، ويجالدون عليها الأقران غير مسرجة. يشير إلى أن لهم في الحرب أعظم دربة، وهم بكرم خيلهم على أتم ثقة. تُعَطَّفُ فيه والأَعِنَّةُ شَعْرُهَا ... وَتُضْرَبُ فيه والسَّيَاطُ كَلامُ ثم قال، مؤكداً لما قدمه: تعطف تلك الخيل عند ذلك الطعن بشعرها، فتطيع مثانية، وتضرب في ذلك المجال بسياط الكلام، فتسابق متبارية. وأشار بسياط الكلام إلى الزجر على طريق الاستعارة. وما تَنْفَعُ الخَيْلُ الكِرَامُ ولا القَنَا ... إذَا لم يَكُنْ فَوْقَ الكِرَامِ كِرَامُ ثم قال: وما تنفع كرام الخيل، وصم الرماح، إذا لم يصرفها كرام لا ينكلون، وأبطال لا يجنبون. إلى كَمْ تَرُدُّ الرُّسْلَ عَمَّا أَتوا لَهُ ... كَأَنَّهُمْ فيما وَهَبْتَ مَلاَمُ ثم قال لسيف الدولة: إلى كم ترد الرسل عما يأتونك؛ من استعفاء المرسلين بهم لحربك، وضراعتهم فيما يؤملونه من سلمك، حتى كأنهم في إعراضك عنهم ملام في نوالك، وعذل على ما تبذله من إنعامك.

فإنْ كُنْتَ لاَ تُعْطِي الذَّمَامَ طَوَاعَةً ... فَعَوْذُ الَعَادي بالكَريمِ ذِمَامُ ثم قال: فإن كنت لا تمنح لهم ما أملوه من جوارك، تقبلاً لطاعتهم، وإسعافاً لرغبتهم، فتعوذ الأعادي بالملك الكريم، جوار يمشون بحرمته، وشفيع يلوذون بذمته، وقد استعاذوا بك فتقبلتهم، ورجوا كريم عائذتك فأسعفتهم وأجرتهم. وإن نُفُوساً أمَّمَتْكَ مَنِيْعَةُ ... وإنَّ دِمَاءً أَمَّلَتْكَ حَرَامُ ثم يقول: وإن نفوساً قصدتك مستجيرة بك، واعتمدتك راجية لك، لممنوعة مما تحذره، آمنة لما تكرهه، وإن دماء استسلمت إليك، واقتصرت بآمالها عليك، لواجب حفظها، حرام سفكها. إذا خَافَ مَلْكُ مِنْ مَلِيكٍ أَجَرْتَهُ ... وَسَيْفَكَ خافُوا والجِوارَ تُسَامُ ثم قال: إذا خاف ملك من ملك، أجرت الخائف بفضلك، وزجرت المخيف بعزك، وسيفك خاف الروم، فخضعوا لك، والجوار يسومونك ليعتصموا بك.

لَهُمُ عَنْكَ بالبيِضْ الخِفَافِ تَفَرُّقُ ... وَحَوْلَكَ بالكُتْبِ اللَّطَافِ زِحَامُ ثم قال، مؤكداً لما قدمه: لهم عنك بالسيوف تفرق في وقائعك، ولهم حولك بالكتب اللطيفة ازدحام في مجالسك. يشير إلى عجزهم عن مقاومته في الحرب، وازدحامهم عليه راغبين في السلم. تَغُرُّ حَلاَوَاتُ النُّفُوسِ قُلوبَهَا ... فَتَخْتَار بَعْضَ الْعَيْشِ وَهْوَ حِمَامُ ثم يقول: تغر القلوب حلاوة النفوس، والحرص على استدامة الحياة، فتختار من العيش ما هو الموت في حقيقته. يشير إلى أن إيثار العزيز للذل هو الموت إذا تؤمل، والحتف العاجل إذا تبين. وَشَرُّ الحِمَامَيْنِ الزُّؤامَيْنِ عِيْشَةُ ... يَذِلُّ الّذي بَخْتَارُها وَيُضامُ ثم قال: وشر الموتين المعجلين؛ يشير إلى ميتة الذل، وميتة الحتف، عيشة يذل متخيرها، ويستضام مؤثرها. يريد: أن عيشة الذل هي شر الميتتين، وأصعب الحالتين. وَلَوْ كَانَ صُلْحَاً لم يَكُنْ بِشَفَاعةٍ ... ولكِنَّهُ ذُلُّ لَهُمْ وَغَرَامُ ثم يقول لسيف الدولة: فلو كان ما ابتغاه الروم منك على سبيل المصالحة، وما يتداعى إليه المتكافئون من المهادنة، لما تشفعوا إليك بفرسان طرسوس، الذين شفعتهم فيهم، وجعلت لهم المنة عليهم، ولكنه منهم

خضوع ذلة، وعجز وهلكة. وَمَنْ لِفُرْسَانِ الثُّغُورِ عَلَيْهمُ ... بِتَبْلِيْغهم مَا لاَ يَكَادُ يُرَامُ ثم قال: فيما أجبت الروم إليه من لفرسان الثغور عليهم، ويد كريمة قدموها فيهم؛ لأنهم بلغوهم من إمساكك عن غزوهم، إلى ما كانوا لا يرومونه لتعذره، ولا يرتجونه لتمنعه. كَتَائبُ جَاءُوا خَاضِعيْنَ فَأَقْدَمُوا ... وَلَوْ لم يَكُونُوا خَاضِعِينَ لَخَاموا ثم يقول، مشيراً إلى الروم، والقادمين على سيف الدولة: كتائب جاءوك خاضعين، فأقدموا على مقاربتك، وقصدوك مستسلمين، فشجعوا على مشاهدتك، ولو لم يكونوا كذلك لخاموا عنك ناكصين. ولتباعدوا منك هاربين. وَعَزَّتْ قَدِيماً في ذُرَاكَ خُيُوُلُهمْ ... وَعَزُّوا وَعَامتْ في نَداكَ وعاموا ثم قال: وقديماً اعتزت خيولهم بالاستجارة لكنفك، وأمنت بالخضوع لأمرك، وعامت بفرسانها في جودك، وفاضت عليهم بحور فضلك. عَلَى وَجْهِكَ المَيْمونِ في كُلَّ غَارَةٍ ... صَلاَةُ تَوَالي مِنْهُمُ وَسَلاَمُ

ثم يقول لسيف الدولة: على وجهك الميمون على الإسلام وأهله، المبارك على الإيمان وحزبه، في كل غارة يشهدها، وكل غزاة يتكلفها، صلاة وسلام من الله المتكفل بنصرك، المعلي لكلمة حزبك. وَكُلُّ أُنَاسٍ يَتْبَعُونَ إِمَامَهُمْ ... وأَنْتَ لأَهْلِ المَكْرُمَاتِ إِمَامُ ثم قال: وكل أناس لهم إمام يتبعونه، وإمام يؤمونه، وأنت إمام أهل المكرمات وسيدهم، وقدوتهم ومعتمدهم. وَرُبَّ جَوابٍ عَنْ كتَابٍ بَعَثْتَهُ ... وَعُنْوَانُهُ للنَّاظِرينَ قَتَامُ ثم يقول: ورب جيش بعثته جواباً عن كتاب ورد عليك، فكان عنوانه للناظرين إليه قتام يسبقه، ورهج يتقدمه. يشير إلى تعظيم ما حصل عليه الروم في إسعاف سيف الدولة لكتابهم، وإجابته إياهم إلى مسالمتهم. تَضِيْقُ بِهِ البَيْدَاءُ مِنْ قَبْلِ نَشْرِهِ ... وَمَا فُضَّ بالبيَداءِ عَنْهُ خِتَامُ ثم قال، يصف جيش سيف الدولة الذي يواعد الروم به: تضيق البيداء بذلك الجيش قبل أن تنتشر كتائبه، وتغص بجمعه قبل أن تغير مواكبه، ويملأ الفضاء وهو مجتمع لم يفض ختامه، ولا انتشر بالغارة على

الأعداء نظامه، وأجرى الاستعارة في الفض والخاتم، على نحو ما تقدم له من ذكر الجواب والعنوان. حُرُوفُ هِجَاءِ النَّاسِ فيه ثَلاَثَةُ ... جَوَادُ وَرُمْحُ ذَابِلُ وَحُسَامُ ثم وصل الاستعارة على ذلك، فقال: حروف هجاء الناس في ذلك الجواب الذي هو هذا الجيش الموصوف؛ جواد ينهض فارسه، ورمح يتقدم حامله، وحسام يصول صاحبه. إذَا الحربُ قَدْ أَتْعَبْتَها فَالْهُ سَاعَةً ... لِيُغْمَدَ نَصْلُ أَو يُحَلَّ حِزَامُ ثم يقول لسيف الدولة إذا الحرب قد أتعبتها بطول استعمالك، وأجهدتها بكثرة اعتنائك بها، فأعرض عنها ساعة، لتغمد النصول التي قد سلها فرسانك، وتحل الحزم التي قد شدها أتباعك. وإنْ طَالَ أَعْمَارُ الرَّماحِ بِهُدْنَةٍ ... فإنَّ الَّذي يَعْمرْنَ عِنْدَكَ عَامُ ثم قال: وإن طال أعمار الرماح عند غيرك، بطول دعة، واتصال هدنة، فإن غاية أعمارها عندك عام لا تتجاوزه؛ لأن التكسر يسرع إليها،

بمداومتك للحرب، وما تحمل عليه جيشك من المجالدة والطعن، وأمد مهادنتك للروم عام ثم تعود إلى حربهم على عادتك، وتكسر الرماح فيها على سجيتك. وَمَا زِلْتَ تُفْني السُّمْرَ وَهيَ كَثيرةُ ... وَتُفْنيِ بِهِنَّ الجَيْشَ وَهْوَ لُهَامُ ثم قال، مؤكداً لما قدمه، ومخاطباً لسيف الدولة: وما زلت تفني الرماح في وقائعك مع كثرتها، وتقدمها مع تمكنها، وتفني بفنائها الجيش اللهام، وتذهب بإذهابك لها الجموع العظام. مَتَى عَاوَدَ الجالُون عَاوَدْتَ أَرْضَهُم ... وَفيها رِقَابُ للسُّيُوفِ وَهَامُ ثم يقول له: متى عاود الروم الذين أجليتهم (عن) تلك البلاد بهذا السلم الذي أجبتهم إليه، عاودت أنت تلك الأرض بالغزو، فألفيت فيها منهم جماعات تعمل سيوفك في رقابهم، وتصرفها في هامهم. وَرَبَّوا لَكَ الأَوْلاَدَ حَتَّى تُصِيبهَا ... وَقَدْ كَعَبَتْ بِنْتُ وشَبَّ غُلاَمُ ثم قال: وتوافقهم هنالك، وقد ربوا لك الأولاد، لتتملكهم بسبيك، وتظهر عليهم بجيشك، والغلام منهم شاب، والجارية كاعب.

فأشار إلى أن في مسالمة سيف الدولة للروم ضربا من التدبير عليهم؛ لأنهم يعاودون ما أجلوه من مساكنهم، وينزلون عما صاروا فيه من معاقلهم، فيكون ذلك أمكن لقتلهم، وأقرب سبيلاً إلى سبيهم. جَرَى مَعَك الجَارُونَ حَتَّى إذَا انْتَهَوا ... إلى الغايِة القُصْوَى جَرَيْتَ وقَامُوا ثم قال لسيف الدولة: جاراك الملوك فيما نهجته من مكارمك، واقتدوا بك فيما عرضت إليه من مقاصدك، فلما أوفيت بهم من ذلك على الغاية القصوى فيما يمكن فعله، والمنزلة العليا مما يدرك مثله، غير ثان لعنانك، وتقدمت مقبلاً على شأنك، ووقفوا عاجزين عن بلوغ شأوك، مقرين بالتقصير عن إدراك سعيك. فَلَيْسَ لِشَمْسٍ مَا أَنَرْتَ إنارَةُ ... وَلَيسَ بِبَدْرٍ مُذْ تَمَمتَ تَمامُ ثم قال: فليس لشمس منهم إنارة مع ما تنير من نورك، ولا لبدرٍ

منهم تمام مع أتمه (الله لك من) فضلك، يريد: أن الملوك صغر كل كبير منهم عند قدر سيف الدولة، ونقص كل من كان يتم منهم بالإضافة إلى فضله، والتقصير عن مشكور سعيه.

تجمعت عامر بن صعصعة، وعقيل وقشير والعجلان (وكلاب) بن ربيعة بن عامر ومن ضامها، بماء يقال له الزرقاء بين خناصرة وسورية ونمير بن عامر بن دينار من ديار مضر. وتشاكوا ما يلحقهم من سيف الدولة، وتوافقوا على التزام فيما بينهم، وشغله من كل ناحية، والتضافر، إن قصد طائفة منهم. وبلغه ما علموا عليه، وتراسلوا به، فأقل الفكر فيه، فأطغاهم كثرة عددهم وعددهم، وسولت لهم أنفسهم الأباطيل، واستولى على تدبير كعب؛ عقيليها وقشريها وعجلانيها، إلى المهنا، وتفرد بذلك محمد بن بزيغ، وندي بن جعفر، وحسن لهم ذلك قواد كانوا في عسكر سيف الدولة، متدونين من كعب في عدة وسدة وركضوا على أعماله،

فقتلوا صاحبه بناحية زعرايا؛ يعرف بالمربوع من بني تغلب، وقتلوا الصباح بن عمارة والي قنسرين، واشتغل سيف الدولة عن النهوض إليهم، بوفود أتوه من طرسوس، معهم رسول ملك الروم، في طلب الهدنة والفداء، فتمادت أيام مسيرة، وزاد ذلك في طمع البوادي، ثم قدم سيف الدولة مقدمة إلى قنسرين في يوم السبت لليلة خلت من صفر سنة أربع وأربعين وثلاثمائة، فأقامت أحد عشر يوماً، تأنياً واستظهاراً في أمر البادية، وتقديراً أن يستقيموا فلا يكشفوا لهم عورة. وبرز سيف الدولة إلى ضيعة له يقال لها الراموسة، على ميلين من حلب، في يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر، وسار عنها في يوم الأربعاء، فنزل ماء تل ماسح، وراح منه فاجتاز مياه الحيار وطواها، وتلقته مشيخة بني كلاب؛ مطر بن البلدي العوفي، من بني أبي بكر، وعبد الله بن مرزوع، وسرار بن محرز الأشهبيان من الضباب

وغيرهم. فطرحوا نفوسهم بين يديه، وسألوه قبول تسليمهم إليه، وسارت خيلهم معه، ومد إلى ماء يقال له البدية، فصيحة يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر، ونزل به، وراح منه إلى ظاهر سلمية، فوجد الأعراب قد أجفلوا في غداة يومه، فنزل بها، فلما كان في السحر من يوم الجمعة، تجمعت كعب ومن ضامها من اليمن في عدتها وعدتها، وحبسوا ظعنهم بماء يقال له حيران، على نحو رحلة من سلمية، وبعضهم بماء يقال له الفرقلس وراءه، ووافت خيولهم مشرفة على عسكر سيف الدولة من كل ناحية، فركب لهم، ووقع الطراد، ولم تمض إلا ساعات حتى منحه الله أكتافهم، وولوا واستحر القتل والأسر بال المهنأ، ووجوه عقيل وقوادها. ورحل سيف الدولة ضحوة نهار يوم الجمعة متبعاً لهم، ونفروا طائرين، فرحلوا بيوتهم، وأجفلوا فوافوا الماء الذي يقال له حيران بعد

الظهر، وتبعهم فوجد آثار جفلتهم، وسار إلى ماء الفرقلس، وأمر بالنزول عليه، ثم عن له رأي في اتباعهم، فرحل لوقته إلى ماء يقال له الغنثر، وقدم خيلاً فلحقت ما لهم وحازته، ونزل على الغنثر قبل نصف النهار، وقد امتلأت الأرض من الأغنام والجمال والهوادج والرحال، وأتاه خبر اجتماعهم بتدمر، فسار في السحر يوم الأحد، فنزل ماء يقال له الجباة، وتفرقت خليه في طلب الفلول، فردت مالاً، وقتلت عدة، وراح منه قاطعاً الصحصحان والمعاطيس. واجتاز بركايا العوير ونهيا والبييضة وغدر والجفار فوجد جميعها قد نزحته البادية المفلولة، وصبحت أوائل خيله تدمر يوم الاثنين، لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر.

ووجدوا جموعهم قد كانت بظاهرها للتشاور والتدبير، وهم لا يظنون أن سيف الدولة يتبعهم، فنذروا به فرحلوا في نصف الليل، وتعلقت بهم خيله، ووافى سيف الدولة تدمر على نصف ساعة من النهار، وعرف الخبر فسار لطيته في طلب أكثر الجماعات، والشق الذي سار فيه آل المهنأ وجؤته وعامر بن عقيل، وقد كانوا قصدوا طريق السماوة قبلة ويميناً، وجد في الطلب، فلحق بالقوم وقتل وأسر، وكان في من قتل علوان بن ندي بن جعفر، وفيمن أسر وأطلق محمد بن ندي بن جعفر، وحوى المال وصفح عما ملكه من الحريم. ورجع من طف السماوة مشفقاً من الإمضاء عليهم، لما وجدهم يموت حريمهم وذراريهم عطشاً، وتفرقوا أيدي سبأ، فقصدت طائفة منهم كبد السماوة فضاع أكثرها، وطائفة موضعاً من السماوة يعرف بالماءتين؛ سعادة ولؤلؤة، لا يروي ماؤهما إلا اليسير، فهلك كثير منهم، وطائفة منهم قصدت القلمون مما يلي غوطة دمشق. وعاد سيف الدولة آخر النهار إلى معسكره ظافراً غانماً، ومن على جماعة منهم عجزوا عن الهرب، وبرهم وزودهم. ووجد من كان أنفذه شمالاً قد

حوى المال وقتل وأسر، وعف عن الحريم، وأقام بتدمر يومي الثلاثاء والأربعاء، ورحل نحو أركة، ونزلها، ثم رحل نحو السخنة فنزلها، ورحل فنزل عرض، ورحل فنزل الرصافة، ورحل فنزل الرقة في يوم الاثنين، فتلقاه أهلها، وسأل عن خبر نمير، فعرف أنهم قد اجفلوا فلم تستقر بهم دار دون عين الخابور. ثم وردت وفودهم يوم الثلاثاء مستعيذين بعفوه، فعفا عنهم وقبلهم، وسار نحو حلب فكان وصوله إليها يوم الجمعة لست خلون من شهر ربيع الأول. فقال أبو الطيب يمدحه، ويصف الحال: تَذَكَّرتُ مَا بَيْنَ العُذَيبِ وَبَارقِ ... مَجَرَّ عَوَاليِنا وَمَجْرَى السَّوَابقِ يقول: إنه اهتاج لتذكره بلاد العراق التي فيها كانت نشأته، وإنه

تذكرها ما بين هذين المآءين؛ العذيب وبارقٍ، وهناك كان مضطربه ومضطرب أصحابه، ومجر عواليهم عند تطاردهم، ومجرى خيولهم عند تسابقهم. وَصُحْبَةَ قَوْمٍ يَذبَحُونَ قَنْيِصَهُمْ ... بِفَضْلاتِ ما قَدْ كَسَّروا في المَفَارقِ ثم قال: وتذكرت صحبة قوم فيما هنالك، كانت حالهم في الفتوة، ومنزلتهم في الشجاعة، أنهم كانوا لا يستعملون في ذبح صيدهم إلا ما تكسر بأيديهم من السلاح في حربهم، وأنهم كانوا لا يكسرون سيوفهم إلا في جماجم الأبطال، ولا ينقطع (ما) بأيديهم إلا في مفارق الأقران. وَلَيْلاً تَوَسَّدْنَا الثَّوَّيةَ تَحْتَهُ ... كَأَنَّ ثَراهَا عَنْبَرُ في المَرَافِقِ ثم قال: وتذكرنا ليلاً، توسدنا الثوية في طلبه، واضطجعنا في طيب ذلك الترب، وتمتعنا بتكامل ذلك الحسن، فقام ثرى ذلك الموضع في

مواقعنا مقام العنبر، نستطيب ريحه، ونستلذ حسنه. وأشار إلى محل تلك البلاد من نفسه، وتمثلها في تذكره وفكره. بلاَدُ إذَا زَارَ الحِسَانَ بِغَيْرِها ... حَصَى تُرْبِها ثَقَّبْنَهُ لِلْمَخَانِقِ ثم قال: إن تلك البلاد التي تذكرها، إذا زار حسان غيرها من البلاد حصى تربها، تحلين به لحسنه، وخلطنه بالدر في نظمه، وثقبنه لمخانقهن، وصيرنه في عقودهن، فأخبر أن تراب تلك البلاد ينوب عن العنبر والمسك لطيبه، وحصاها مقام الياقوت والدر في حسنه. سَقَتْنيِ بها القُطْرُ بُّلِيَّ مَلِيحَةُ ... عَلَى كَاذِبٍ مِنْ وَعْدِهَا ضَوْءُ صَادِقِ ثم قال: سقتني في تلك البلاد شراب قطربل، وهو غاية في جودته، موصوف بكرم خبرته، مليحة فتانة، ساحرة خداعة، على كاذب وعدها، ضوء من الصدق، وعلى مخلفه ظاهر من الحق. سُهَادُ لأَجْفَانٍ، وَشَمْسُ لِنَاظِرٍ ... وَسُقْمُ لأَبْدَانٍ، ومِسْكُ لِنَاشِقِ ثم قال، واصفاً لتلك المليحة: هي سهاد لأجفان مبصرها؛ بما تبعث

عليه من الشغل، وشمس في عين الناظر إليها؛ بما يشاهد فيها من الحسن، وسقم لأبدان؛ بما توجبه من عشقها، ومسك يتوضع في أنف مستنشقها، وهذا التصنيف في الوصف باب من البديع يعرف بالتقسيم. وَأَغَيَدُ يَهْوَى نَفْسَهُ كُلُّ عَاقِلِ ... عَفيفٍ وَيَهْوَى جِسْمَه كُلُّ فَاسِقِ ثم يقول: إنه سقاه مع المليحة التي قدم وصفها، غلام أغيد، يهوى نفسه كل عاقل عفيف يطرقه، ويهوى جسمه كل فاسق خبيث لحسنه. أَدِيبُ إذا مَا جَسَّ أَوْتَارَ مِزْهَرٍ ... بَلا كُلَّ سَمْعٍ عَنْ هَوَاها بِعَائِقِ ثم قال: إنه مع ذلك أديب في خلقه، صادق في تصرفه، إذا ما جس أوتار مزهر وأعملها، وزينها، لغنائه وحركها، عاق الأسماع عما سواها، بشدة إصغائها إليه، وشغلها عن غيره لكثرة إقبالها عليه. يُحَدَّثُ عَمَّا بَيْنَ عَادٍ وَيَبْنَهُ ... وَصُدْغَاهُ في خَدَّيْ غُلامٍ مُراهِقِ ثم قال: يحدث فيما يغني به من أشعاره، وما يردده من ألحانه، عما بين عاد وبينه، يشير إلى سعة روايته لأشعار المتقدمين والمتأخرين، وصدغاه مع ذلك في خدي غلام مراهق في سنه، لم يبلغ الحلم فيما انصرم عليه من عمره. وَمَا الحُسْنُ في وَجْهِ الفَتَى شَرَفاً له ... إذا لَمْ يَكُنْ في فِعْلِهِ وَالخَلاَئِقِ

ثم قال: وما حسن الوجه شرفاً لصاحبه، ورفعة للمتزين به، إذا لم يكن في الأفعال والخلائق، والمذاهب والشمائل. وضرب هذا المثل لما قدمه من اقتران حسن الأغيد الذي وصفه بإحسانه في صناعته، وتقدمه في درايته. وَمَا بَلَدُ الإنْسَانِ غَيْرُ المُوافقِ ... ولا أهْلُهُ الأَدْنَوْنَ غَيْرُ الأَصَادِقِ ثم قال، مبيناً لعذره في التخلف عن البلاد التي ذكرها: وما بلد الإنسان إلا البلد الذي يوافقه بكثرة مرافقه، ويسعده على الظفر بجملة مقاصده، ولا الأدنون من أهله، واللاصقون به من قرابته، إلا الأصادق الذين يصفونه ودهم، والأحبة الذين لا يؤخرون عنه فضلهم. يريد: أن بلد سيف الدولة الذي استوطنه، هو بلده، لموافقته له، وأهله أقاربه، لما أظهره سيف الدولة من شدة الاعتناء به. وَجَائِزةُ دَعْوَى المحَبَّةِ وَالْهَوى ... وإنْ كَانَ لاَ يَخْفَي كَلاَمُ المُنَافِقِ ثم قال: وجائز أن تدعى المحبة بالقول، وأن تنتحل بالذكر، ولكن المنافق لا يخفي اضطراب لفظه، والمخلص لا يستتر صحة أمره، يشير إلى أن

شكره لسيف الدولة، ليس كشكر من يتصنع له بقوله، ولا يمحضه حقيقة وده. بِرَأْي مَنِ انقَادَتْ عُقْيلُ إلى الرَّدَى ... وإِشْمَاتِ مَخْلوقٍ وإسْخَاطِ خَالِق؟ ثم يقول: برأي من انقادت هذه القبيلة إلى ما تعرضت له من المكروه، بخلاف سيف الدولة الذي أشتمت فيه المخلوقين بأنفسها، وأسخطت الله عز وجل بسوء فعلها. أَرَادُوا عَلَّياً بالَّذي يعجزُ الوَرَى ... وَيُوسِعُ قَتْلَ الجْحَفلِ المُتَضَايقِ ثم قال: أرادوا سيف الدولة فيما تمثل لهم من الظهور عليه، والإيقاع بجيشه، بما أعجز الورى نيله، وبعد عليهم فعله، وما مثله يوسع الجحفل المتضايق لكثرته، بما يشمل أهله من القتل، وما يوردهم أشد موارد الحتف. فَمَا بَسَطو كفاً إلى غير قاطعٍ ... وَلاَ حَمَلوا رَأسا غير فالِق ثم قال: فما بسطوا في حين تغرضهم لسيف الدولة يداً من أيديهم، إلا إلى سيف قطعها، ولا حملوا في تلك الحرب هاماتهم، إلا إلى فاق من أصحاب سيف فلقها. يشير إلى أن بني عقيل كانوا في

تلك جزر السيوف، وأغراض الحتوف. لَقَدْ أَقْدَمُوا لَوْ صَادَفوا غَيْرَ آخذٍ ... وَقَدْ هَرَبوا لَوْ صَادَفوا غَيْرَ لاَحِقِ ثم يقول: لقد أقدموا وشجعوا في تلك الحرب؛ لو صادفوا غير آخذ لهم، مقتدر على الإيقاع بهم، وقد هربوا جاهدين؛ لو صادفوا من لا يلحقهم جيوشه، ويقحم في آثارهم جموعه. يريد: أنهم لم يؤتوا من ضعف في حربهم، ولا من تقصير في هربهم، ولكنهم ناصبوا من سيف الدولة من لا يواقف في حرب، ولا يمتنع منه بهرب. وَلَّمَا كَسَا كَعْبَاً ثِيَاباً طَغَوْا بِهَا ... رَمَى كُلَّ ثَوْبٍ مِن سِنَانٍ بِخَارقِ ثم قال، يريد سيف الدولة: ولما كسا كعباً، هذه القبيلة الجامعة لهذه البطون المذكورة، حللاً، أطغاهم حسنها، وألحفهم من رضاه ثياباً، أبطرهم أمنها، (رمى كل ثوب) بخارق خرقها من أسنته، وهاتك هتكها من عقوبته. وَلَّما سَقَى الغَيْثَ الّذي كَفَرُوا بِهِ ... سَقَى غَيْرَهُ في غَيْرِ البَوَارقِ

ثم قال: ولما سقاهم من جوده الغيث الذي أخصبت به منازلهم، وتروضت بسقياه مواضعهم، فقابلوا ذلك بالكفر، وتلقوه بقلة الشكر، أرسل عليهم من جيوشه غير ذلك الغيث، قبرقت لهم السيوف، وهطلت عليهم الحتوف، وعادت البوارق التي كانت تقدم إليهم نعمة، بوارق سلاح أفرغت عليهم نقمة. وَمَا يُوْجِعْ الحِرْمَانُ من كفَّ حَارِمٍ ... كَمَا يُوْجِعُ الحِرْمَانُ مِنْ كَفَّ رَازِقِ ثم يقول، موبخاً لقبائل كعب بن ربيعة، بما حرمت أنفسها من فضل سيف الدولة: وما يوجع الحرمان من كف من شهر بخله، ولا يؤمل فضله، كما يوجع من كف جواد لا يبخل، وفاتح لأسباب الرزق لا يغفل. يشير إلى أن ما منعوه أنفسهم من فضل سيف الدولة، إنما كان عادة دائمة، ونعمة سابغة. أَتَاهُم بِهَا حَشْوَ العَجَاجَةِ والْقَنَا ... سَنَابِكُها تَحْشُو بُطُونَ الحَمَالقِ ثم قال مشيراً إلى سيف الدولة: أتاهم من الخيل والقنا بكثرة حشت العجاج الذي أثارته، وملأت الرهج الذي أقامته، وسنابكها تبعث من الغبار

ما تحتشي به أعين الفرسان، يريد: أن سيف الدولة أتاهم بخيله، وهي طالبة لهم تتسابق، ومسرعة تتبادر، لم تتوقف عنهم محجمة، ولم تتأخر عن الاقتحام عليهم متهيبة. عَوَابِسَ حَلْيٍ يَابِسُ الماءِ حُزْمَها ... فَهُنَّ عَلَى أَوْسَاطِها كاَلَمناطِقِ ثم قال، يصف تلك الخيل: عوابس لما لحقها من الركض، متغيرة الوجوه لما نالها من شدة الطلب، قد يبس ماء عرقها على الحزم في أوساطها، فصار كأنه حلي قصد، وتفضيض اعتمد، وبدت تلك الحزم في أوساط تلك الخيل، كالمناطق التي يشملها التزيين، ويحاول فيها التحلية والتحسين. فَلَيْتَ أَبَا الهَيْجاَ يَرَى خَلْفَ تَدْمُرٍ ... طِوالَ العَوَالي في طِوَالِ السَّمَالقِ ثم يقول: فليت أبا الهيجاء أنسيء عمره، وتأخر يومه، حتى يرى خيل سيف الدولة؛ علي ابنه، وقد أجفلت العرب من مخافتها، وتجاوزت في

آثارها تدمر، مع تعذر الوصول إليها، ويرى طول عواليه في تلك السمالق الطويلة، على أهل تلك الفلوات البعيدة. وَسَوْقَ عَلَّي من مَعَدَّ وَغَيْرِها ... قَبَائِلَ لاَ تُعْطِي القُفِيَّ لِسَائق ثم قال: وليته يرى سوق علي ابنه الأعزة من قبائل معد وغيرها من قبائل اليمانية، وتلك القبائل الخاضعة لأمره، الهاربة عن جيشه، لا تعطي أقفاءها مولية عن لاحقها، ولا تصد أوجهها محجمة عن معارضها، ولكنها لما قصدها سيف الدولة ضعفت عن حربه، ولما اعتمدها ولت هاربة من مخافة جمعه. قُشَيْرُ وَبَلْعَجْلاَنِ فيها خَفَّيِةُ ... كَرَاَءين في أَلْفَاظِ أَلْثَغَ نَاطِقِ ثم وصف هذه القبائل، بما كنت عليه من الكثرة، وأخذ في ذكر ما كانت تعرف به من المنعة، ثم قال: قشير وبلعجلان، هاتان القبيلتان، مع كثرة عددهما، وشدة شوكتهما، خفيتان في هذه القبائل، كخفاء رائين في

ألفاظ ألثغ، لا يفصح بهما، ولا يمكنه النفاذ في ذكرهما. فأشار بهذا إلى كثرة الجموع التي ظهر عليها سيف الدولة من العرب، وأنهم مع ذلك إنما اعتصموا منه بالهرب. تُخَلَّيِهمُ النَّسْوانُ غَيْرَ فَوارِكٍ ... وَهُمْ خَلُّوا النَّسْوَانَ غَيْرَ طَوالِقِ ثم يقول: إن فرسان تلك العشائر غلبوا على نسائهم، ففارقنهم غير فوارك لهم، يشير إلى السبي، ويخلهن بعولتهن غير طوالق، يشير إلى الفرار، وأن خيل سيف الدولة غلبتهم على حريمهم، وحالت بينهم وبين أبنائهم، وبين نسائهم. يُفَرَّقُ مَا بَيْنَ الكُمَاةِ وَبَيْنَها ... بِطَعْنٍ يُسَلَّي حَرُّهُ كُلَّ عَاشِقِ ثم وصف الحال، فقال: يفرق سيف الدولة بين فرسان تلك القبائل، وبين نسائهم، بطعن يسلي حره العاشق عمن عشق، وينسي المشغوف الدنف من أحبه وومقه. يشير إلى أن شدة ذلك الطعن، وإسرافه بهم على القتل، أنساهم حياطة أحبتهم، وحملهم على إسلام (نسائهم) وذريتهم.

أتى الظُّعْنَ حَتَّى ما تَطِيُر رَشَاشَةُ ... من الخيلِ إلا في نُحورِ العَواتِقِ ثم قال: أتى ذلك الطعن الظعن، وبلغ بالرجال إليهن، وقتلوا بحضرتهن حتى ما تطير رشاشة من جراح تلك الخيل إلا في نحر عاتق خريدة، وكريمة منهن محجوبة، فأشار إلى أن خيل سيف الدولة قتلتهم بين نسائهم، وغلبتهم على حريمهم. بِكُلَّ فَلاةٍ تُنْكِرُ الإنْسَ أَرْضُهاَ ... ظَعائِنُ حُمْرُ الحُليْ حُمْرُ الأَيانِقِ ثم قال: بكل فلاة لا تعرف أرضها الإنس لعدمهم بها، وتعذر إدراكهم لها، ظعائن نساء هؤلاء الأعراب، الذين هربوا بين يدي سيف الدولة، حمر الحلي، يريد: أنهن حاليات بالذهب، وهو أرفع الحلي، متجملات على حمر الإبل، وهي أكرم النوق، يشير بهذه الصفة إلى رفعة هؤلاء النساء في قومهن، ورفعة من تحمل بهن (من) بعولتهن. وَمَلْمُومَةُ سَيْفِيَّةُ ... تُصِيحُ الحَصَا فيهَا صِيَاحَ اللَّقَالِقِ

ثم قال: وفي تلك الفلوات التي قد وصفها، كتيبة ملمومة بكثرة فرسانها، سيفية ربيعة، تصيح الحصا باصطكاكها بين أرجل خيلها، كما تصيح اللقالق، وهي طير معروفة. بَعِيْدَةُ أَطْرَافِ القَنَا مِنْ أُصُولِهِ ... قَرِيْبَةُ بَيْنَ البَيْضِ غَبْرُ اليَلاَمِقِ ثم قال واصفاً لتلك الكتيبة: بعيدة أطراف القنا من أصوله، يريد: أن فرسانها طوال الرماح، شداد الأجسام، قريبة البيض، يريد: أنهم متلاصقون قد ملئوا الفضاء لكثرتهم، وتقاربوا لتكاتف جماعتهم، وهم غبر اليلامق، لما علاهم من الرهج، وأحاط بهم من العجاج. فأشار إلى أن تلك الفلوات النائية التي ظن ظعائن الأعراب أنها تعصمهم، اقتحمها جيش سيف الدولة عليهم، ولم يتهيب اختراقها منهم. نَهَاهَا وَأَغْنَاهَا عَن النَّهْبِ جُودُهُ ... فما تَبْتَغي إلاَّ حُمَاةَ الحَقائِقِ ثم يقول: إن جود سيف الدولة نهى هذه الكتيبة عن الأنهاب، وأغناها

عن (التسريح) على الأسلاب، فما تبتغي غير حماة الحقائق لتوقع بهم وأهل البصائر الصادقة في الحرب لتكون سطوتها عليهم. تَوَهَّمَها الأعْرابُ سَوْرَةَ مُتْرفٍ ... تُذَكَّرُهُ البَيْدَاءُ ظِلَّ السُّرَادِقِ ثم قال: توهم الأعراب ما أظهر سيف الدولة في قصدهم من العزيمة، سورة ملك شأنه الإتراف والدعة، وعادته السكون والراحة، يعوقه عن البيداء ومباشرة هجيرها، واقتحامها ومواجهة سمومها، تذكره لظل السرادق وأبنيته، وإيثاره لخفض ذلك ودعته. فَذَكَّرْتَهُمْ بالماءِ سَاعَة غَبَّرَتْ ... سَمَاوَةُ كَلْبٍ في أُنُوفِ الخَرَائِقِ ثم قال، مخاطباً لسيف الدولة: فذكرتهم بالماء الذي أجليتهم عنه، بالري الذي منعتهم منه، حين أحاطت بعم غبرات سماوة كلب، وحزائقهم تقتحمها هاربة، وتتسابق فيها متهالكة، يشير إلى إمعان سيف الدولة في طلبهم، واجتهادهم في شدة هربهم. وَكَانُوا يَرُوعُونَ المُلُوكَ بأَنْ بَدَوْا ... وأَنْ نَبَتتْ في الماءِ نَبْتَ الغَلاَفِقِ

ثم يقول لسيف الدولة: وكانت كعب ومن استضاف إليها من القبائل التي أوقعت بها من الأعراب، يروعون الملوك قبلك، بسكناهم في الفلوات، وانتزاحهم في تلك المهامه التائهات النائيات، وصبرهم عن البعد على الماء، والانقطاع عن مواضع الري، وأن الملوك الذين أنت منهم، كانوا يتهيبونهم لعدم الماء في المواضع التي تسلك إليهم، وأن الملوك في إيثارهم للماء، والقرب منه، كالطحلب الذي يلازمه ولا يفارقه، ويباشره ولا يتاركه. فَهَاجُوكَ أَهْدى في الفَلاَ مِنْ نُجُومِهِ ... وَأَبْدَى بُيُوتاً من أَدَاحي النَّقَانِقِ فهاجوك، يخاطب سيف الدولة، أهدى في الفلا من النجوم التي بها تستفاد الهداية، وبمعرفتها تكون الدلالة، وأنبت بيوتاً في البدو، وآنس بالبلد القفر من النقانق التي هنالك موضع نشأتها، وإليه تحن بخلقتها. وَأَصْبَرَ عَنْ أَمْوَاهِهِ من ضِبَابِه ... وآلفَ منها مُقْلَةً لِلْوَدَائق ثم قال: وألفوك أصبر عن أمواه القفر من ضبابه التي تتارك الماء بالجملة، وتستغني عنه بالحبلة، كما أنهم ألفوك آلف منها للهواجر، وأشد عليها إقداماً وجرأة. فأشار إلى أن الأعراب قصرت عن معرفته باختراق القفر، وعجزت عما أظهر في ذلك من الجلد والصبر.

وَكَانَ هَدِيراً من فُحُولٍ تَرَكْتها ... مُهاَّبَةً الأَذْنابِ خُرْسَ الشَّقائِقِ ثم قال له: وكان ما أظهرته العرب من معصيتك هديراً أسكته، وإسعالاً أذهبته، وتركت قروم تلك القبائل، وفحول تلك العشائر، كفحول الإبل التي تستذل بهلب أذنابها، وتسكتها الغلبة فتنقطع أصوات شقاشقها. يشير إلى أن سيف الدولة أذل عز أولئك الأعراب بغلبته لهم، وأذهب تطاولهم بإيقاعه بهم. فَمَا حَرَموا بالرَّكْضِ خَيْلَكَ رَاحةً ... وَلَكِنْ كَفَاها البّرُّ قَطْعَ الشَّوَاهِقِ ثم قال مخاطباً له: وما عاقوك بما تكلفته من اقتحام الفلوات عليهم عن لذة، ولا منعوا بذلك خيلك من راحة، ولا أخرجوك عن عادتك، ولا عدلوا بك عن طريقتك، ولكن فلواتهم التي اقتحمتها كفت خيلك شواهق الجبال؛ جبال الروم التي تركتها. وَلاَ شَغلوا صُمَّ القَنَا بُقُلُوبِهْم ... عن الرَّكْزِ لَكِنْ عَنْ قُلوبِ الدَّمَاسِقِ

ثم قال: ولا كانت رماحك قبل قتالهم مركوزة غير معلمة، ومترروكة غير متصرفة، ولكن شغلوها بقلوبهم عن قلوب دماسق الروم التي هتكتها بطعنها، وخرقتها بأسنتها. فأشار إلى أن سيف الدولة وجيشه لم يتكلف في طلب الأعراب مؤونة، ولا تجشم مشقة، وإنما خرج من الحرب إلى الحرب، وصحبه ما عهد من النصر والصنع. أَلْم يَحْذَرُوا مَسْخَ الَّذي يَمْسَخُ العِدَى ... وَيَجْعَل أَيْدي الأُسْدِ أَيْدِي الخَرَانِقِ ثم يقول: ألم يحذر الأعراب سطوة سيف الدولة التي هي على أعاديه، كالمسخ يقلب الخلق، ويقبح الصور؛ لأنه يعيد بها عزيزهم ذليلاً، وكبيرهم بالقتل قليلاً، ويجعل أيدي الأسد من أياديه، وقد تناهت في القوة، كأيدي الخرانق، مما يكسبهم إياه من الذلة. وَقَدْ عايَنُوهاَ في سِواهُمْ وَرُبَّما رَأَى ... مَارِقُ في الحَربِ مَصْرَعَ مَارِقِ ثم قال: وعاينت الأعراب وقائعه في غيرهم، فما وعظتهم تلك

المصارع، ولا بصرتهم تلك الزواجر، وكثيراً ما يعظ سيف الدولة المارق بمصرع مارق مثله، ويكشف له بذلك عواقب فعله. تَعَوَّدَ أَنْ لا تَقْضَمَ الحَبَّ خَيْلُهُ ... إذا الهامُ لم تَرْفَعْ جُيُوبَ العَلائِقِ ثم يقول: تعود سيف الدولة لكثرة وقائعه، واتصال ملاحمه، ألا تقضم خيوله الحب، إذا لم ترفع أكداس الرؤوس إليها علائقها، فتعطف عليها جوانبها، فإذا عدمت ذلك، لكثرة انتهابه، واعتيادها له، امتنعت قضيمها، واضطربت أمورها. وَلاَ تَرِدُ الغُدْرَانَ إلاَّ وماؤُها ... من الدمَِّ كالرَّيحانِ تَحْتَ الشَّقَائِقِ ثم قال: وكذلك تعودت خيله ألا تباشر الغدران واردة، ولا تقتحم مياهها شاربة، إلا وتلك المياه تحت ما تسفكه من دماء أعاديه، كالريحان إذا استبانت تحت الشقائق خضرته، بحمرتها جملته. وأشار بخضرة الماء إلى صفائه وكثرته، ونبه بذلك على جمومه ومنعته، وأن هذه الخيل إنما تأنس من الماء بما هذه صفته، وترد منه ما هذه حقيقته.

لَوَفْدُ نُمَيْرٍ كَانَ أَرْشَدَ مِنْهُمُ ... وَقَدْ طَرَدُوا الأَظْعانَ طَرْدَ الوَسَائِقِ ثم يقول: لوفد نمير كان أرشد من هذه القبائل، التي انجفلت بين يدي سيف الدولة. أَعَدُّوا رِمَاحَاً من خُضُوعٍ فَطَاعَنُوا ... بِهَا الجَيْشَ حَتَّى رَدَّ غَرْبَ الفَيَالِقِ ثم قال، يريد بني نمير: أعدوا من خضوعهم لسيف الدولة رماحاً نافذة، وأسلحة ماضية، فطاعنوا بذلك الخضوع جيشه، وكفوا بذلك الاعتراف خيله، حتى رد الخضوع غرب فيالقه، وكف حسن الإعراب بأس كتائبه، ونال ما استدفعته بنو نمير سائر بني عقيل؛ بسوء نظرهم، وقلة تدبرهم. فَلَمْ أَرَ أَرْمَي مِنْهُ غَيْرِ مُخَاتِلٍ ... وَأَسْرَى إلى الأَعْداءِ غَيْرَ مُسارِقِ ثم يقول: فلم أر أرمي من سيف الدولة، غير مخادع في رميه، ولا

أسرى إلى الأعداء منه، غير مسارق من قصده. تُصِيبُ المَجَانِيقُ العِظَامُ بكَفَّهِ ... دَقَائقَ قد أَعْيَتْ قِسيَّ البَنَادِقِ ثم قال، منبها على قوة سعده، وما يمكنه الله في الأمور من أمره: يصيب بالمجانيق العظام، مع اختلاف رميها، وتعذر ضبطها، دقائق يقصر قسي البنادق عن مثلها، ويعجز عما تحاول من أمرها. يشير إلى أنه معان مؤيد، ومنصور مسدد.

قال أبو الطيب هذه القصيدة في هذه السرية، إلا أنه لم يذكر المنازل، ولا وصف الوقعة؛ لأنه لم يشهدها، فشرحها له سيف الدولة، وسأله أن يصفها، فقال: طِوالُ قَناً تُطَاعِنُها قِصَارُ ... وَقَطْرُكَ في نَدىً ووغىً بِحَارُ يقول لسيف الدولة: أبطال الفرسان ومشاهير الشجعان، تقصر رماحهم عند تعرضهم لمطاعنتك، ويحذر لهم بأسهم إذا أقدموا على مخالفتك، والقليل منك في الجود والحرب بحار تزخر، وكثرات لا تحصر، وكنى بالقطر عن القلة، وبالبحار عن الكثرة. وَفِيْكَ إذَا جَنَى الجَاني أَنَاةُ ... تُظَنُّ كَرَامَةً وَهي احِتِقارُ ثم قال: وفيك إذا (جنى) الجاني عليك أناة يوجبها حلمك، وتغافل ينبعث عليه فضلك، فيعد الجاهل ذلك إكراماً تقصده، وإنما هو احتقار للجاني يعتقده. وَأَخْذُ لِلْحَوَاضِرِ وَالْبَوَادِي ... بِضَبْطٍ لم تُعَوَّدْهُ نِزَارُ قوله: (وأخذ للحواضر والبوادي) أخبر عن الحواضر والبوادي، وهو

يريد أهلها، والعرب تفعل ذلك، قال تعالى: (وسئل القرية التي كنا فيها)؛ يريد: أهل القرية، وتقول العرب: اجتمعت اليمامة، وهم يريدون: أهل اليمامة، ونزار أبو مضر وربيعة؛ الجمهور الأعظم من العرب. فيقول لسيف الدولة: وفيك أخذ لأهل الحواضر والبوادي من العرب، بضبط يحصرهم، وسلطان يقهرهم، ولم تعتد نزار ذلك؛ لأنهم لقاح لم يملكوا قبلك، ومماليك لك يضبطهم غيرك. تَشَمَّمُهُ شَمِيمَ الوَحْشِ إنْسَاً ... وَتُنْكِرهُ فَيَعْرُوهَا نِفَارُ ثم قال: يتشممون ذلك الضبط كما تتشمم الوحش الإنس، فينكرونه إذ لم يعتادوه، ويأنفون منه إذ لم يعهدوه، ويعروهم من النفار ما يعرو الوحش عند مقاربة الإنس لها، ومحاولتهم للاتصال بها. وَمَا انْقَادَتْ لِغَيْرِكَ في زَمَانٍ ... فَتَدْرِي ما المَقَادَةُ والصَّغارُ ثم يقول لسيف الدولة: وما انقادت نزار لغيرك في زمان من الأزمان الخالية، ومدة من المدد الماضية، فتنكر عليها النفار مما أخذتها به من الانقياد

لأمرك، والإصغار بملكك. فأَقْرَحَتِ المقَاوِدُ ذِفْرَيَيْهَا ... وَصَعَّر خَدَّها هَذا العِذَارُ ثم قال: ولكنها ملكتها الغلبة، وسكن شماسها المقدرة، وصارت كالإبل المذللة التي قد أقرحت المقاود ذفاريها، وكالخيل المرتاضة التي تصعر اللجم خدودها. وأجرى هذا على سبيل الاستعارة. مشيراً إلى ما أحاط بنزار من سلطان سيف الدولة، الذي ضبط نافرها، وقمع مخالفها. وَأَطْمَعَ عامِرَ البُقْيَا عَلَيْها ... وَنَزَّقَها احتِمَالُكَ وَالْوَقَارُ ثم يقول: وأطمع بني عامر في السلامة من عقوبتك، طول ابقائك عليهم، وكثرة تحلمك عنهم، وأوجب تنزقهم في الفتنة، احتمالك وتوقرك، وأناتك وتثبتك. وَغَيَّرَهَا التَّرَاسُلُ والتَّشَاكي ... وَأَعْجَبَها التَّلَبُّبُ والمُغَارُ ثم قال مخاطباً له: وغير بني عامر، هذه القبيلة، عما كانت عليه من طاعتك، تراسلهم بما حاولوه من إظهار معصيتك ومعذلتك، وأعجبهم

التلبب في الإغارة، والاقتدار على ذلك بالكثرة. جِيَادُ تَعْجِزُ الَرْسَانُ عنها ... وفُرْسَانُ تَضِيقُ بها الدَّيَارُ ثم وصف مقدار عدتهم، ومبلغ جموعهم وكثرتهم، فقال: إن خيولهم تعجز الأرسان عن الاستيفاء لها، وفرسانهم تضيق الديار عن الإحاطة بها. وَكَانتْ بالتَّوَقُّفِ عَنْ رَدَاها ... نُفُوساً في رَدَاهَا تُسْتَشَارُ ثم يقول: وكانت نفوس بني عامر بتوقف سيف الدولة عن الإيقاع بهم، وتثبطه عن التطلب لهم، نفوساً تستشار في الردى الواقع بها، فإن تابت قبل سيف الدولة توبتها، وإن أبت استظهر بالحجة في عقوبتها. وَكُنُتَ السيفَ قَائِمُهُ إِليها ... وَفي الأَعْدَاءِ حَدُّكَ والغِرَارُ ثم قال مخاطباً له: وكنت السيف قائمه إلى بني عامر، بحياطتك لهم، وكفك عنهم، وكان حدك وغرارك في أعدائهم، وهم آمنون لسطوتك، غير نتوقعين لعقوبتك.

فَأَمْسَتْ بالْبَدِيَّةِ شَفْرَتَاهُ ... وَأَمْسَى قَائِمِهِ الحِيْارُ ثم قال: فصيرت معصيتهم ذلك الأمر بخلاف ذلك، فصار حدك في البدية، التي هي من منازلهم، يشير بذلك إليهم، وخلف قائمك الحيار، التي هي بمعزل عن مواضعهم، فأشار بالقائم والحد إلى العقوبة والعفو، على سبيل الاستعار. وَكَانَ بَنُو كِلاَبٍ حَيْثُ كَعْبُ ... فَخَافُوا أَن يَصِيرُوا حَيْثُ صَارُوا ثم قال: وكان بنو كلاب حيث بنو كعب، من التجاور في الدار في الدار، والتشارك في الرأي، فخافوا أن يصيروا بمعصية الدولة إلى مثل صار إليه بنو كعب، وأن ينالهم ما نال به أولئك من شدة الوطأة، ومؤلم السطوة. تَلَقّوا عِزَّ مَوْلاًهم بِذُلَّ ... وَسَارَ إلى بَني كَعْبٍ وساروا ثم قال، يريد بني كلاب: تلقوا عز مولاهم؛ سيف الدولة، بالتذلل له، واستجاروا منه بالتعوذ به، وسار إلى بني كعب بسائرهم، فساروا معه مكثرين لجمعه، وبادروا ممتثلين لأمره.

فَأَقْبَلَهَا المُرُوجَ مَسُوَّمَاتٍ ... ضَوَامِرَ لا هِزَالَ وَلاَ شِيَارُ ثم قال، مشيراً إلى سيف الدولة: فأقبلها المروج مغيرة في آثار بني كعب، ضوامر بما اتصل لها من الركض، لا هزال فيقعدها الضعف، ولا شيار فيثقلها اللحم. تُثِيُر عَلى سَلَمْيَةَ مُسْبَطرَّا ... تَنَاكَرُ تَحْتَهُ لَوْلاَ الشَّعَارُ ثم قال: تثير هذه الخيل على سلمية؛ هذا الموضع، من ساطع عجاجها، ومتكاثف رهجها، مسبطراً ممتداً، يتناكر الفرسان فيه فلا يتعارفون إلا بالشعار في ظلامه، ولا يتميزون إلا بالكلام تحت قتامه. عَجَاجَا تَعْثُرُ العِقْبَانُ فِيهِ ... كَأَنَّ الجَوَّ وَعْثُ أَو خَبَارُ ثم أكد وصف ذلك القتام، فقال، مشيراً إلى تكاثفه، ومنبهاً على التحامه وتراكمه: عجاج تصير العقبان منه في الجو إلى المشي بعد طيرانها، فتعثر فيه سائرة، ولا تتخلص منه ناهضة، حتى كأنه وعث متصل، وخبار

مرتكم، هذا مع ارتفاع مواضع العقبان، وقوتها على الاستعارة في الطيران. وَظَلَّ الطَّعْنُ في الخَيْلَيْنِ خَلْسَاً ... كَأَنَّ الموتَ بَيْنَهُما اختِصَارُ ثم يقول: وظل الطعن بين خيل الأعراب وخيل سيف الدولة خلساً، لا مهلة فيه، حتى كأنه الموت بينهما اختصار، قد سقطت فيه الكلفة، وقصد قد ذهبت عنهم معه المؤونة. فَلَزَّهُمُ الطَّرَادُ إلى قِتَالٍ ... أَحَدُّ سِلاحِهمْ فيهِ الفِرَارُ ثم قال: فلز بني كعب الطراد إلى شدة من القتال، وحقيقة من الحرب، كان أحد سلاحهم في ذلك الموقف الاعتصام بالفرار، والتعويل على تولية الأدبار. مَضَوْا مُتَسَابِقي الأَعْضَاءِ فيهِ ... لأَرؤُُسِهِمْ بأرْجُلِهمْ عِثَارُ ثم يقول: مضى بنو كعب في ذلك القتال فراراً، تتسابق أعضاؤهم، وتفصل السيوف أجسامهم، بما يتطاير من رؤوسهم عثار في أرجُلِهم؛ لأن هوي الرؤوس ساقطة، تسبق الأرجل في المشي، وتغلبها على شدة العدو،

فالرؤوس تعلقها، والأرجل تتعثر بها. يَشُلُّهُمْ بِكُلَّ أَقَبَّ نَهْد ... لِفَارِسِهِ عَلَى الخيلِ الخِيارُ ثم قال: يشلهم سيف الدولة، بكل فرس نهد في خلقه، ضامر بشدة عدوه، لفارسه الخيار على الخيل، لتحكمه في فروسيته، وتقدمه في شجاعته. وَكُلُّ أَصَمَّ يَغْسِلُ جَانِبَاهُ ... عَلَى الكَعْبَيْنِ مِنْهُ دَمُ مُمَارُ ثم يقول؛ ويطردهم سيف الدولة بكل رمح أصم، يهتز طرفاه على أعلى كعوبه، وفي أسفلها دم مرسل، فأشار بهذين الكعبين إلى أن الرمح قد غشي جميعه الدم. يُغَادرُ كُلَّ مُلْتَفِتٍ إليهِ ... وَلَبَّتُهُ لِثَعْلَبِهِ وَجَارُ ثم قال: يغادر ذلك الرمح كل من التفت إليه، وحاول الكر على ممسكه، ولبة ذلك الملتفت وجار لثعلب ذلك الرمح. يشير إلى أنه يطعن

به طعنة تغيب السنان في لبته إلى آخر الجبة، فتصير حينئذ لبته وجاراً لثعلب الرمح، تستره وتغيبه، وتشمله وتتضمنه. وجعل اللبة وجاراً على سبيل الاستعارة، وأشار إلى ذلك بالثعلب. إذَا صَرَفَ النَّهَارُ الضُّوَء عَنْهُمْ ... دَجَا لَيْلاَنِ: لَيْلُ والغُبَارُ ثم يقول: إذا صرف النهار ضوءه عنهم بمغيبه، دجا عليهم ليلان: ليل من ظلام، وليل من قتام. وَإِنْ جُنْحُ الظَّلامِ انجَابَ عَنْهُمْ ... أَضَاَء المَشْرَفِيَّةِ والنَّهارُ يقول: وإن انكشف عنهم ظلام الليل بذهابه، أشرق لهم ضوءان: لمعان السيوف، وضياء الشمس، فأشار إلى شدة محنتهم، لتعذر الهروب عليهم بالليل، وما هم بسبيله من تمكن الطلب عليهم بالنهار. يَبْكي خَلْفَهُمْ دَثْرُ بُكاهُ ... رُغاءُ أو ثُؤَاجُ أو يُعَارُ ثم قال: يبكي خلف بني كعب ما تخلفوه من أموالهم، وذلك دثر كثير، بكاء إبله الرغاء، وبكاء ضأنه الثؤاج، وبكاء معزه اليعار يشير إلى

اختلاف أصواتها، واختلاف أصنافها، وفرار أربابها، وإسلامهم لها، وعجزهم عن المنع منها. غطا بالغُنْثُر البَيْدَاَء حَتّى ... تُخُيَّرَتِ المَتَالي وَالعِشَارُ يقول غشي هذا الدثر من المال، هذا الموضع من البيداء، حتى تخيرت المتالي والعشار من إبله، واعتمدت من جملة سائر الإبل؛ لأن ألبانها أكثر، ونفعها لمن أخذها أقرب. وَمَرّوا بالجِباه يَضُمُّ فيها ... كِلاَ الجَيشينِ من نَقْعٍ إزَارُ ثم يقول: ومر بنو كعب في هربهم بين يدي سيف الدولة، وجيشه يتلو جمعهم، ويقفو أثرهم، والجيشان؛ يريد: الجيش الهارب، والجيش الطالب، يضنهما من النقع المثار والرهج، ما هو كالإزار الذي يحيط

بالمستعمل له، ويكنف المستتر به. وَجَاءوا الصَّحْصَحَانَ بِلاَ سُروجٍ ... وَقَدْ سَقَطَ العِمَامَةُ والخِمَارُ ثم قال، يريد: بني كعب: وجاءوا الصحصحان؛ يريد: هذا الموضع، وقد رموا سروجهم، ليكون ذلك أخف للخيل، وأمكن فيما تتكلفه من الجري، وقد سقطت عمائم الرجال، وخمر النساء. يشير إلى شدة الهرب، وقوة الطلب، وأن الحال ضاقت برجالهم عن صرف عمائمهم المنتشرة، وبنسائهم عن تلاقي خمرهن المتكشفة. وَأُرهِقَتِ العَذَارّي مُرْدَفَاتٍ ... وأُوطِئَتِ الأُصَيْبِيَةُ الصَّغَارُ ثم قال: وأرهقت العذاري من نساء بني كعب، فاحتملهن فرسان سيف الدولة، وأسلموهن للسبي، ولم يمنعوهن من الأخذ، ووطئت الخيل صغار صبيتهم، وأهلكت أطفال ذريتهم. وَقَدْ نُزِحَ العَوِيْرُ فَلا عَوِيْرُ ... وَنِهْيَا والبُيَيْضَةُ والجِفَارُ

ثم يقول: وقد نزحت بنو كعب العوير، ونزحت المياه التي ذكرها المتصلة به، فلم يبق فيها ما يرتفق بشربه، ولا محل يعرج على مثله. وَلَيْسَ بِغَيْرِ تَدْمُرَ مُسْتَغَاثُ ... وتَدْمُرُ كَاسْمِهَا لَهُمْ دَمَارُ ثم قال: وليس لهم مستغاث إلا بتدمر، هذه المدينة، وفيها كان الإيقاع بهم، فصارت كالفال الذي بين حالهم، وأخبر عما نالهم، وكانت لهم كاسمها، دماراً عم جميعهم، وهلاكاً أذل عزهم. أَرَادُوا أَنْ يُدِيُروا الرَّأْيَ فيها ... فَصَبَّحَهُمْ بِرَأْيٍ لا يُدَارُ ثم يقول: أراد بنو كعب أن يديروا في تدمرن هذه المدينة، رأيا يمتنعون به من سيف الدولة، فصبحهم من الإيقاع بهم برأي يغني نفاذه عن إدارته، وتمامه عن محاولته. وَجَيِشٍ كُلَّما حَاروا بأَرْضٍ ... وَأَقْبَلَ أَقْبَلَتْ فيه تَحَارُ ثم قال: وصبحهم بجيش كثير جمعه، جليل أمره كلما حاروا

بأرض عن قصد سبيلهم، وعجزوا عن توجيه أمرهم، وأقبل ذلك الجيش يطلبهم في تلك الأرض، أقبلت الأرض تحار في قوته، وتضيق عن كثرته. يَحُفُّ أَغَرَّ لا قَوَدُ عَلَيْهِ ... ولا دِيَةُ تُسَاقُ ولا اعتِذَارُ ثم يقول: يحف ذلك الجيش من سيف الدولة، ملكاً أغر، بهي المنظر، جليل القدر، لا وقود ولا دية عليه فيمن قتله، ولا اعتذار ولا توقع فيما فعله. تُرِيقُ سُيُوفُهُ مُهَجَ الأَعَادي ... كُلُّ دَمٍ أَرَاقَتْهُ جُبَارُ ثم قال: تريق سيوفه دماء أعاديه، وتبتر أعمار مخالفيه، وكلما يريقه من ذلك الدم جبار لا ينتصر له، وهدر لا يستقاد به. فَكانوا الأُسْدَ لَيْسَ لَهَا مَصَالُ ... عَلَى طَيْرٍ وَلَيْسَ لَها مَطَارُ ثم قال، وهو يريد بني كعب: فكانوا الأسد في بأسهم وشدتهم، إلا أن غلبة سيف الدولة لهم، غادرتهم أسداً غير صائلة، وكانت خيلهم التي كانوا عليها طيراً، في كرمها وسرعتها، إلا أن إدراك جيش سيف الدولة لها، صيرها طيراً غير ناهضة. إِذَا فَاتُوا الرَّمَاحَ تَنَاوَلَتْهُمْ ... بأَرْمَاحٍ مِنَ العَطَشِ القِفَارُ

ثم قال: إذا فات بنو كعب رماح جيش سيف الدولة، بفرارهم عنه، واقتحامهم الفلاة فرقاً منه، تناولتهم القفار من العطش بأرماح نافذة، واعتورتهم بحتوف صادقة. يَرَوْنَ الموتَ قُدَّاماً وَخَلْفَاً ... فَيَخْتَارُونَ والموتُ اضْطِرارُ ثم قال: يرون الموت خلفهم في جيش سيف الدولة الذي يطلبهم، وقدامهم بعطش الفلاة التي تعترضهم، فيختارون والموت يضطرهم، ويفرون وإلى الحتف مآلهم. إذَا سَلَكَ السَّمَاوةَ غَيْرُ هَادٍ ... فَقَتْلاَهُمْ لِعَيْنَيْهِ مَنَارُ ثم قال: إذا سلك السماوة غير هاد في أرضها، ولا خبير بحقيقة طرقها، فقتلى بني كعب له منار يستنير بهدايته، ومرشد يعتمد على دلالته. وَلَوْ لم يُبق لم تَعَشِ البَقَايا ... وفي الماضي لَمِنْ بَقِيَ اعتبارُ ثم يقول: ولو لم يبق سيف الدولة على بني كعب، لم تعش البقايا منهم، وفي ماضيهم لمن بقي زاجر عن معصية سيف الدولة، ومعتبر يكف عن مخالفة أمره، والتعرض لحربه. إذا لم يُرْعِ سَيَّدُهُم عَلَيْهِم ... فَمَنْ يُرْعِي عَلَيْهم أَوْ يَغَارُ

ثم قال: مشيراً إلى ما كان من صفح سيف الدولة عنهم، وإبقائه عليهم: إذا لم يرع سيدهم سيف الدولة عليهم، فيوسعهم عفوه، ويجدد عندهم فضله، فمن المرجو للإبقاء عليهم، والغيرة على حريمهم، وكف المكروه المحيط بهم؟ تُفَرّقُهُمْ وإيَّاه السِّجَايا ... وَيَجْمَعُهمْ وإيَّاهُ النَّجارُ ثم قال: تفرقهم وإياه؛ تصاغرهم عن شرف خلائقه، وعجزهم عن بلوغ مكارمه، وتجمعهم وإياه؛ الاشتراك في النسب، وما يعتقده من صلة أرحام العرب. وَمَالَ بِهَا عَلَى أَرَكٍ وعُرْضٍ ... وَأَهْلُ الرَّقَّتَيْن لها مَزَارُ ثم يقول: ومال سيف الدولة بكتائبه، ودل عليها بما تقدم من ذكر السيوف، على أرك وعرض؛ هذين الموضعين، قافلاً من غزوه، منصوراً في قصده، والرقتان مزار لكتائبه، ومعتمد لعساكره؛ لأنهما على

طريق حلب؛ قاعدة سلطانه، وموضع استقراره. وَاَجْفَلَ بالفُراتِ بَنُو نُمَيْرٍ ... وَزَأْرُهُمُ الَّذي زَأَروا خُوَارُ ثم قال: وأجفل بنو نمير مجتهدين في الهرب من جيش سيف الدولة، وبأسهم الذي كانوا يظهرونه قد عاد جزعاً وضراعة، واستخذاء واستكانة وانقلبوا من أحوال الأسد الضارية، إلى أحوال الأنعام السائمة، وأشار بالزأر والخوار إلى هذه العبارة. فهُمْ حِزَقُ عَلَى الخَابُورِ صَرْعَى ... بِهِمْ مِنْ شُرْبِ غَيْرِهمُ خُمَارُ ثم يقول: إن بني نمير، هذه القبيلة، التي أجفلت بين يدي سيف الدولة، حزق على الخابور، وقد صرعهم كلالهم، وأجهدهم هربهم، وكأنهم في خمار من فرقهم، وفي سكر من مخافتهم وجزعهم، وكان ما نال بني كعب من إيقاع سيف الدولة بهم، أطاش عقولهم، وأسكن الخوف قوبهم، فسكروا مما بنو كعب الشاربون له، وأشفقوا من أن ينالهم مثل الذين امتحنوا به. فَلَمْ يَسْرَحْ لَهُم بالصُّبْحِ مَالُ ... ولم تُوقَدْ لَهُم باللَّيْلِ نَارُ ثم قال، مؤكداً لما قدمه من شدة خوفهم: فلم تسرح لهم بالنهار

ماشية؛ لشدة وجلهم، ولم توقد لهم بالليل نار؛ لاستحكام مخافتهم وحذرهم. حِذَارَ فَتىً إذا لَمْ يَرْضَ عَنْهُمْ ... فلَيْسَ بِنَافعٍ لَهُمُ الحِذَارُ ثم قال: حذاراً من سيف الدولة، وهو الفتى الذي إذا لم ترضه طاعتهم عنهم، فليس يمنعه حذرهم منهم، يريد: أن من خالفه لا يعصمهم إلا الخضوع لأمره، ولا يدفعه عنهم إلا التسليم لحكمه. تَبِيْتُ وُفودُهُم تَسْري إلَيْه ... وَجَذْوَاهُ الَّذي سَأَلوا اغْتِفَارُ ثم يقول: تبيت وفود بني نمير تسري إلى سيف الدولة، بما يبذلونه من طاعتهم، وما يظهرونه من خضوعهم واستكانتهم، والعطاء الذي يسأله وفودهم أن يتغمد سيف الدولة زللهم، ويغفر ما تقدم لهم. فَخَلَّفَهُمْ بِرَدَّ البِيضِ عَنْهُمْ ... وَهَامُهُمُ لَهُ مَعَهُمْ مُعَارُ ثم قال: فخلفهم سيف الدولة بكفه السيوف عنهم، وعفوه الذي بذله لهم، وهامهم الذي معهم كالعارية، يشير إلى أنه قد كان أشرف على قتلهم، واحتياز رؤوسهم، فأعرض عن ذلك إعراض المغتفر، وتركه ترك المقتدر، فصارت هامهم عنده بعارية بذلها، وعطية منه تفضل بها. هُمُ مِمَّن أَذَمَّ لَهُمْ عَلَيْهِ ... كَريمُ العِرْقِ والحَسَبُ النُّضَارُ ثم قال، يريد بني نمير: هم من قبائل من بني عامر بن صعصعة الذين

أذم لهم على سيف الدولة كريم نسبه في العرب الذي يجمعه بهم، وخالص حسبه الذي يعطفه عليهم. فأشار إلى أن حفظ سيف الدولة لقرابتهم أوجب لهم صفحة، ومراعاته فيهم لذلك ضمن لهم عفوه. فَأَضْحَى بالْعَواصمِ مُسْتَقرَّاً ... وَلَيْسَ لِبَحْرِ نَائِلِهِ قَرَارُ ثم يقول: وأضحى سيف الدولة مستقراً في العواصم بنفسه، ولا قرار لبحر نائله وفضله؛ لأن جوده يعم ويشمل، وعطاياه تسير وتظعن. وَأَضْحَى ذِكْرُهُ في كُلَّ أَرْضٍ ... تُدَارُ عَلَى الغِنَاءِ بِهِ العُقَارُ ثم قال: وأضحى ذكره في كل أرض، لطيب خبره، وكرم موقعه، وأثره تدار الخمر على الغناء به، فيسر ويطرب، ويروق ويعجب. يشير إلى أن ألحان الغناء تستعمل كثيراً في مدائحه، وتزين بما يتضمنه الشعر من مناقبه. تَخِرُّ لهُ القَبَائِلُ سَاجِداتٍ ... وَتَحْمَدُهُ الَسِنَّةُ والشَّفَارُ

ثم يقول تخر لذكر سيف الدولة قبائل العرب ساجدات، إعظاماً لقدره، وإجلالاً لأمره، وتحمده أسنة الرماح، وشفار السيوف، لما يتضمنه من الأعمال لها، ويواصله من السطوة على الأعداء بها. كَأَنَّ شُعَاعَ عَيْنِ الشَّمْسِ فِيهِ ... فَفِي أَبْصَارِنَا عَنْهُ انْكِسارُ ثم قال: كأن شعاع عين الشمس في ذلك الذكر، لضيائه وبهجته، وتلألئه ورفعته، فالأبصار منكسرة عندما يعن منه، لما ألبسه الله من الجلالة، وألقى عليه من الإعظام والمهابة، كما ينكسر عن شعاع الشمس، الذي لا يعارضه متثبته، ولا يقاربه متأمله. فَمَنْ طَلَبَ الطَّعَانَ فَذَا عليُّ ... وَخَيلُ اللهِ والأَسَلُ الحرَارُ ثم يقول: من طلب الطعان، وتعرض للحرب، فهذا علي وخيله، التي هي خيل الله المشمولة بالنصر، المؤيدة بجميل الصنع، ورماحه العطاش إلى الدماء، الحراص على مواقعه الأعداء، فمن شاء فليتعرض له، ومن أقدم فليتمرس به. يَرَاهُ النَّاسُ حَيْثُ رَأَتْهُ كَعْبُ ... بأَرْضٍ مَا لِنَازِلِها استْتِتَارُ ثم قال، يريد سيف الدولة: يراه الناس حيث رأته كعب، هذه

القبيلة، قد أضحى للقتال، واستجاش بالأبطال، في أرض لا يستتر نازلها، ولا تظن المخافة بسالكها. يشير إلى الفلاة التي أوقع فيها ببني كعب، وإلى أنه بارز إلى أعدائه في مثلها، لا يعتصم بحصن غير سيوفه، ولا يعول على موئل غير خيوله. يُوَسَّطُهُ المفاوِزَ كُلَّ يَوْمٍ ... طِلاَبُ الطَّالِبينَ لا الانتظارُ ثم يقول: إن سيف الدولة يوسطه كل يوم المفاوز، طلبه للطالبين من أعدائه، الذين هم أهل القوة، والمشهورون بالبأس والنجدة، فيطلبهم مستخفاً بهم، ولا ينتظرهم متهيئاً لهم. تَصَاهَلُ خَيْلُهُ مُتَجَاوباتٍ ... وَمَا مِنْ عَادَةِ الخيل السَّرَارُ ثم قال: وتتصاهل خيله في آثارهم، في أقطار تلك البلاد متجاوبة، وتتسابق إليهم متتابعة، وليس السرار من عادة الخيل؛ إن صهيلها يؤذن بها، وأصواتها تدل عليها. وأشار إلى أنه اقتحم الفلاة في طلب بني كعب غير متهيب، وأمعن في آثارهم غير متوقع. بَنُو كَعْبٍ وَمَا أَثَّرْتَ فِيْهِم ... يَدُ يُدْمِها إلاَّ السَّوَارُ يقول لسيف الدولة: إن بني كعب مع ما نالهم من سطوتك، وما أصابهم من غلبتك، متشرفون بعلو قدرك، متزينون بنفاذ أمرك، فهم كيد

المها السوار مع أنه يزينها، ويجرحها مع أنه يحسنها. يشير إلى العدوبية التي توجب لهم قرابته، وإلى الصحبة القديمة التي تضمن لهم كرامته. بِهَا مِنْ قَطْعِهِ أَلُم وَنَقْصُ ... وَفِيْهَا من جَلاَلَتِهِ افْتِخَارُ ثم أكد ذلك فقال: بتلك اليد من قطع السوار لها ألم تجده، واختلال لا تنكره، وفيها من جلالة السوار الجاني عليها، افتخار يشرفها بقدره، واختيال يزهيها بحسنه، وكذلك سيف الدولة، وإن كان أوقع ببني كعب، فقد شرف نسبهم، وإن كان أسخطهم فقد وفر حسبهم. لَهُمْ حَقُّ بِشِرْكِكَ في نِزارٍ ... وأَدْنَى الشَّرْكِ في أَصْلٍ جِوَارُ ثم يقول لسيف الدولة: إن بني كعب بن ربيعة يجمعهم وإياك نزار بن معد، وهذا النسب وإن بعد، فحرمته لا تدفع، ورحمة لا يقطع، وأدنى الاشتراك في النسب، جوار لا يحقر، وشافع لا يحتقر. لعل بَنِيْهِمُ لِبَنْيكَ جُنْدُ ... فَأَوَّلُ قُرَّحِ الخَيْلِ المِهَارُ ثم قال له: لعل أولاد بني كعب الذين بعثهم فضلك، وأبقاهم تجاوزك وعفوك، جند لبنيك يخدمونهم كما خدمك آباؤهم، ويغنون عنهم كما أغنى عنك فرسانهم، فأول الخيل القارحة مهارها، كما أن أول أبطال الفرسان صبيانها وصغارها.

وَأَنْتَ أَبَرُّ مَنْ لَوْعَقَّ أَفْنَى ... وَأَعْفَى مَنْ عُقُوَبَتُهُ البَوَارُ ثم يقول له: وأنت أبر ملك، لو قطع وعق لأفنى بقطيعته، وأعفى مقتدر لو عاقب لأهلك بعقوبته. وَأَقْدَرُ مَنْ يُهَيَّجُهُ انْتِصَارُ ... وَأَحْلَمُ مَنْ يُحَلَّمُهُ اقْتِدَارُ ثم قال، على نحو ما قدمه، يريد: سيف الدولة: وأنت أقدر ملك يهيج غضبه تيقنه بالتمكن من الانتصار، وأحلم ظافر يحلمه ما هو بسبيله من الاقتدار، فإذا أغضبته عزة الملك جنح به كريم المقدرة إلى العفة. وَمَا في سَطْوَةِ الأَرْبَابِ عَيْبُ ... وَلاَ في ذٍلَّةِ العُبْدانِ عَارُ ثم قال: وما في سطوة الأرباب على عبيدهم ما يعيبهم، ولا في ذلة العبيد لهم ما يشينهم. يشير إلى أن إيقاع سيف الدولة ببني كعب لا ينقصهم؛ لأنه سيدهم، وسطوته عليهم لا تعيبهم؛ لأنه مالكهم.

وودعه سيف الدولة إلى إقطاع أقطعه إياه، فقال: أَيَا رَامِياً يُصْمِي فُؤَادَ مَرَامهِ ... تُرَبَّي عِداهُ رِيشَهَا لِسِهَامِهِ يقول لسيف الدولة: يا أيها الملك الذي يصيب عين ما يقصده، وتمكن له السعادة حقيقة ما يعتمده، وتعينه عداه على أنفسها بما تكيده به، وتريش سهامه بما تدخره من العدة له. يشير إلى أن سعده ينهض سهامه بعدد أعدائه، ويؤكد مقدرته بما يستعمله مناوئه. أَسِيُر إِلى إقْطَاعِهِ في ثِيابِهِ ... عَلَى طِرْفِهِ مِنْ دَارِهِ بِحُسَامِهِ ثم قال، مخبراً عن نفسه: أسير إلى ما أقطعني إياه من الأرض، فيما خلعه علي من الثياب، ممتطياً لما حملني عليه من الخيل، خارجاً مما أَسكننيه من المنازل، ممتنعاً بما قلدنيه من السلاح. وأشار بهذا التصنيف إلى كثرة ما أحاط به من إحسان سيف الدولة، وإلى أنه رفع قدره، وانفرد بالفضل عنده. وما أَمْطَرَتْنِيهِ مِنَ البِيْضِ والقَنَا ... وَرُومِ العِبَّدي هَاطِلاتُ غَمَامِهِ

ثم قال، على نحو ما قدمه: وأسير فيما أمطرتني إياه سحائب جوده، وعوائد فضله؛ من بيض السيوف، وسمر الرماح، يحمل ذلك روم العبيد، والجميع مما أفادته مواهبه، وسهلت السبيل إليه مكارمه. فَتىً يَهَبُ الإقْليمَ بالمالِ والقُرىَ ... وَمَنْ فِيهِ مِنْ فُرْسَانهِ وَكِرَامِهِ ثم يقول، مشيراً إلى سيف الدولة: فتى يهب الإقليم بما فيه من المال، وما يشتمل عليه من الأهل، ويجعل أبطال فرسانه، وكرام عماره، خولاً للموهوب له. وأشار بالفرسان والكرام إلى جلالة الجهة، وارتفاع مقدار الهبة. وَيَجْعَلُ مَا خُوَّلْتُهُ من نَوالِهِ ... جَزَاءٍ لما خُوَّلْتُهُ من كَلاَمِهِ ثم قال، مشيراً إليه: ويجعل عظيم ما يخولني من ماله جزاء لعظيم ما يخولني من علمه. وأشار بالكلام إلى الشعر، وأشار إلى أن سيف الدولة أرشده بما أراه من فضله إلى بديع ما قيد فيه من شعره. فَلاَ زَالتَ الشَّمْسُ التي في سَمَائِهِ ... مُطَالِعَةَ الشَّمْسِ الذي في لِثَامِهِ

تطالع من وجهه المستنير باللثام، شمساً لا يقاوم حسنها، ولا يماثل نورها، فهي تطالعها متهيبة لحسنها، وتلاحظها مستعظمة لأمرها. ولا زَالَ تَجْتَازُ البُدُورُ بِوَجْهِهِ ... تَعَجَّبُ من نُقْصَانِها وَتَمَامِهِ ثم قال: ولا زالت بدور الشهور مجتازة بوجهه، تتعجب من نقصانها عن بلوغ رتبته، وتصاغرها عن مماثله بهجته، فدعا له بطول البقاء ودل على منزلته من الرفعة والبهاء.

وقال يرثي أخته الصغرى، ويسليه ببقاء الأخت الكبرى. أنشدها إياه يوم الأربعاء للنصف من شهر رمضان سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. إنْ يَكُنْ صَبْرُ ذي الرَّزَّية فَضْلا ... تَكُنِ الأفْضَلَ الأَعَزَّ الأَجَلاَّ يقول لسيف الدولة: إن يكن صبر من طرقه الدهر لمصيبة، وعرضته الأيام لرزية، فضلاً فيه، وتماماً منه، تكن في ذلك أفضل الأفضلين وأعزهم، وأكرم الأكرمين وأجلهم. أَنْتَ يا فَوْقَ أَنْ تُعَزَّي عن الأحْ ... بابِ فَوْقَ الَّذي يُعَزَّيك عَقلاً ثم قال، مخاطباً له: أنت يا أيها الرئيس المرتفع عن أن يعزي بمن فقده من الأحباب، وأصيب به من الإلاَّفِ، فوق الذي يعزيك عقلاً ومعرفة،

ورأيا وتجربة، فكيف يحضك على الصبر من لا يماثلك في درايتك، ويندبك إلى التجلد من لا يقارنك في إحاطتك؟ وبأَلفَاظِكَ اهْتَدى فإذَا عَزْ ... زَاكَ قالَ الذي لَهُ قُلْتَ قَبْلاً ثم قال: وذلك المعزي إنما يهتدي بألفاظك، ويستنير بأنوارك، فإذا عزاك فإنما يعزيك بما استفاده من لفظك، ويخاطبك بما تعلمه من قولك، فقدرك يرتفع عن التعزية؛ لأن حقائق الأمور مستفادة منك، وجواهر الكلام مأثورة عنك، فمعزيك إنما يقابلك بما أنت أعلم به، ويذكرك بما أنت أحفظ له. قَدْ بَلَوْتَ الخُطُوبَ مُرَّاً وَحُلْوَاً ... وَسَلَكْتَ الأَيَّام حَزْنَاً وَسَهْلاً ثم يقول له: قد بلوت طوارق الخطوب بمعرفتك، وخبرت مرها وحلوها بتجربتك، وسرت في الأيام تسلك منها ما صعب وسهل، وتعاني ما بعد وقرب، مستظهراً بنفسك، مستكفيا بعلمك.

وَقَتَلْتَ الزَّمَانَ عِلْماً فما يُغْ ... رِبُ قَوْلاً ولا يُجَدَّدُ فِعْلا ثم قال له: وقد قتلت الزمان علما بأمره، وإحاطة بوجوده تصرفه، فما يسمعك قولاً تستغربه، ولا يحدد لك فعلا تتهيبه، ولا يطرفك إلا بما قد أنت عليه معرفتك، وأحاطت بأمثاله تجربتك. وأجرى جملة لفظه في البيتين على سبيل الاستعارة والإيماء والإشارة، وكل ذلك من بديع الكلام. أَجِدُ الحُزْنَ فِيْكَ حِفْظَاً وَعَقْلا ... وأَرَاهُ في الخَلْقِ ذُعْرَاً وَجَهلاً ثم يقول له: أجد الحزن فيك على من تصاب به من أحبتك، حفظاً لذمتهم، ورعاية لحرمتهم، وإنصافاً وعقلاً، ووفاء وكرماً، وأراه في عامة الخلق خوفاً وذعراً وجزعاً وجهلاً. لَكَ إلْفُ يَجُرُّه وإذا ما ... كرُمَ الأصْلُ كان للإلْفِ أَصْلاً ثم قال، مخاطباً له: لك إلف بكرم صحبتك، يجر الحزن إليك بمن تفقده من أحبتك، ويوجب الإشفاق منك على من تصاب به

من خاصتك، وكذلك الأصل إذا كان كريماً كأصلك، متمكناً في مثل نصاب شرفك، كان أصلاً لكريم المؤالفة، وباعثاً على مشكور المعاملة، فمنزلتك من الشرف تضمن الفضل عنك، ومحلك من الكرم يوجب حسن المؤالفة منك. وَوَفَاءُ ثَبَتَّ فِيهِ وَلَكِنْ ... لَمْ يَزَلْ لِلْوَفَاء أَهْلُكَ أَهْلا ثم قال: ويجر عليك بالمفقودة وفاء باشرته من أبيك وعشيرتك، كانت فيه نشأتك، وثبت عليه في سالف مدتك، ولم يزل أهلك أهل الوفاء والكرم، وأرباب الفواضل والنعم، فأنت من الإنصاف، على وراثة سالفة، ومن الوفاء والكرم، على أولية متقادمة. إنَّ خَيْرَ الدُّمُوعِ عَيْنَاً لَدَمْعُ ... بَعَثَتْهُ رعايةُ فَاسْتَهَلاً ثم يقول لسيف الدولة: إن خير العيون البالية، وأرفع الدموع

الجارية، دمع بعثت الرعاية عليه، وقاد الوفاء والكرم إليه، فاستهل وانسكب وتصبب. أَيْنَ ذي الرَّقَّةِ التي لَكَ في الحَرْ ... ب إذَا اسْتُكْرِهَ الحَديدُ وَصَلاّ ثم قال: أين ذي الرقة التي نشهدها لك، وهذه الشفقة التي نبصرها منك عند تقدمك في الحرب، واقتحامك في شدائدها، ونهوضك بها، ونفاذك في مضائقها، حين يستكره الحديد في رؤوس الرجال، ويكثر صليله بتجالد الأبطال. أَيْنَ خَلَّفْتَها غَدَاةَ لَقْيِتَ الرُّ ... ومَ والهامُ بالصَّوارِمِ تُفْلَى ثم قال، مؤكداً لما قدمه: أين خلفت هذه الرقة عند لقائك الروم، وإيقاعك بهم، وإقدامك عليهم، والهام تفلى بالسيوف، والنفوس تخترم بالحتوف. قَاسَمَتْكَ المَنُونُ شَخْصَيْن جَوْراً ... جَعَلَ القَسْمُ نَفْسَهُ فيه عدْلاً

ثم يقول، معزياً له ببقاء أكبر أختيه عن موت أصغرهما: قاسمك الموت شخصين من أهلك، ونفسين من أحبتك جوراً من الدهر في فعله، وتخطياً إليك في صرفه، إلا أن القسم جعل نفسه عدلاً عند تبينه، وإنصافاً عند تأمله، لأن الموت لا بد منه، ولا محيص لأحد عنه، وقد متعك بالأكرم عليك، وأبقى لك أحب الشخصين إليك. فإذا قِسْتَ ما أخذن بِمَا أغْ ... دَرْنَ سَرَّى عَنِ الفُؤَادِ وَسَلَّى ثم قال، مؤكداً لما قدمه: فإذا قست ما أخذته المنون بما أبقته، سلاك ذاك وصبرك، وعزاك وسكنك؛ لأنها أصابتك في الأخف عليك، ومتعتك بالأحب إليك. وَتَيَقَّنْتَ أن حَظَّك أَوْفَى ... وَتَبَيَّنْتَ أَنَّ جَدَّك أعلا ثم قال، على نحو ما قدمه مخاطباً له: فإذا تأملت، تبينت أن حظك في هذه القسمة أوفى وأكمل، وجدك أعلى وأفضل؛ لأن المنون التي قاسمتك

لا مدفع لها، ولا يدان لأحد بها، وقد آثرتك بالحظ الأوفر، واقتصرت على المفقود الأصغر، وهذا الكلام على تجوز الشعراء وتزيدهم، وما تبينه اللغة من مفهوم قصدهم. وَلَعَمْري لَقدْ شَغَلْتَ المَنَايا ... بالأَعَادي فَكَيْفَ يَطْلُبْنَ شُغْلاً ثم يقول له: لعمري لقد شغلت المنايا بما تواصله في أعاديك من القتل، وما توجب عليهم من الهلاك في الحرب، فكيف تطلب المنايا شغلاً بغيرهم، أو تستعمل أنفسها إلا فيهم. يشير إلى أن الموت من أعوان سيف الدولة على أعاديه، فكيف تخطى إلى ذوي قرابته، وخالف مراده في أهل عنايته؟ وكم انْتَشْتَ بالسُّيوفِ من الدَّه ... رِ أَسِيْراً وبالنَّوَالِ مُقِلاً ثم قال، مخاطباً لسيف الدولة: وكم استنقذت سيوفك من أسير، قد أسره الدهر، وأحاط به النكوب والعسر، وكم أغنيت بجودك من مقل فقير، وجبرت من ضعيف كبير، فخالفت الدهر فيما قصده، وأظهرت عجزه فيما اعتمده. عَدَّهَا نُصْرَةً عَلَيْهِ فَلَمَّا ... صَالَ خُتْلاً رآه أَدْرَك تَبْلا

ثم قال: فعد الدهر فعلك في جبر الفقير، واستنقاذ الأسير، نصرة عليه، وتسرعاً بالخلاف إليه، فاضطغن ذلك من فعلك، واستكرهه من أمرك، فلما صال على هذه المتوفاة، مخاتلا غير مجاهر، ومخادعاً غير مكاثر، رأى نفسه مدركاً منك لثأر طلبه، ومجازياً بضغن اعتقده. كَذَبَتْهُ ظُنُونُهُ أَنْتَ تُبْلِي ... هـ وَتَبْقَى في نِعْمَةٍ لَيْسَ تَبْلَى ثم يقول: كذبت الدهر ظنونه، فيما رامك به من الثكل، وعرك له من الحزن، أنت تبليه بطول سلامتك، وتغلبه باتصال سعادتك، ويبقيك الله في نعمة لا تبلي سابغة، ورفعة لا تنتقص نامية. ولقد رَامَكَ العُدَاةُ كما رَا ... مَ فَلَمْ يَجْرَحوا لِشَخْصِكَ ظِلاً ثم قال، يخاطبه: ولقد رامك أعداؤك بمثل ما رامك به الدهر؛ من التعرض لمساءتك، والإقدام على معارضتك، فعجزوا عن التأثير في ظلك، فضلاً على أن ينالوك بذلك في خاصة نفسك. وَلَقَدْ رُمْتَ بالسَّعَادةِ بَعْضَاً ... مِنْ نُفُوسِ العِدَا فَأَدْرَكْتَ كُلاَّ ثم قال، مخاطباً له: ولقد رمت بسعدك، وما تكفل الله لك به من إعلاء أمرك، بعض نفوس أعدائك، فأدركت كلها، وحاولت خصوصاً منها،

فمكن لك الإقبال جميعها. فالأقدار تيسر لك افضل ما ترغبه، وتقرب لك أكثر مما تطلبه. قَارَعَتْ رُمْحَكَ الرَّمَاحُ وَلَكِنْ ... تَرَك الرَّامِحِينَ رُمْحُكَ عُزْلا ثم يقول لسيف الدولة: قارعت رمحك الرماح؛ بمنازلتك للأقران، ومطاعنتك للفرسان، ولكن شدة قرعك، وزيادة قوتك، أطارتا رماح المطاعنين لك، وأسقطتاها من أيدي المتمرسين بك، فصاروا عزلاً بين يديك، عاجزين عن الإقدام عليك. يشير إلى ما هو عليه من الحذق بالطعن، والاقتدار على التصرف في الحرب. لو يكونُ الذي وَرَدْتَ مِنَ الفَجْ ... عَةٍ طَعْناً أَوْرَدْتَه الخيلَ قُبْلا ثم قال: لو يكون الذي وردك من زريتك، وطرقك من فجيعتك طعاناً ومنازلة، وقتالاً ومبارزة، لأوردت ذلك الموطن الخيل قبلاً

مقدمة، ولأقحمتها على الموت أشد إلاقحام مكرهة، وأشار بقوله قبلاً (إلى) هذه العبارة أو نحوها. وَلَكَشَّفْتَ ذَا الحَنِيْنَ بِضَرْبٍ ... طَالَما كَشَّفَ الكُروبَ وَجَلاَّ ثم قال، على نحو ما قدمه: ولو كان هذا الحنين المتصل على رزيتك، مما يستدفع بمغالبة، ويستكف بمكاثرة، لكشفته بضرب بالغ، وإقدام على الموت صادق، وطالما كشف الكروب الموجعة، وجلى المخافات المفزعة، ولكن الموت لا يستدفع بشدة، ولا يعتصم منه بقوة. خِطْبَةُ لِلْحِمامِ لَيْسَ لَهَا رَدْ ... دُ إنْ كَانَتْ المُسَمَّاةَ ثُكْلاَ ثم يقول؛ مشيراً إلى وفاة أخت سيف الدولة: كانت هذه الوفاة خطبة من الموت، لا ترد ولا تمنع، ورغبة لا تكف ولا تدفع، وإن كان اسمها ثكلاً وفجيعة، ورزءاً ومصيبة، فهي للموت فائدة وحظوة، ومنزلة ورفعة، لحلالة من ظفر بها، وعلو منزلة التي عرض لها. وإذَا لم تَجِدْ مِنَ النَّاسِ كُفْواً ... ذاتُ خِدْرٍ أَرَادتِ المَوْتَ بَعْلا

ثم قال: وإذا كانت ذات الخدر لا تجد من الناس كفؤاً لنفسها، ولا عديلاً لقدرها، أرادت الموت بعلا يتكفل بصيانتها، ويذهب بها، موفياً بحق جلالتها، دون أن تتملك بالنكاح تملك سائر النساء، وذوات النظراء والأكفاء. وَلَذِيذُ الحَيَاةِ أَنْفَسُ في النَّفْ ... سِ وَأَشْهَى من أَنْ يُمَلَّ وَأَحلاَ ثم يقول: ما تستلذه أنفس الناس من الحياة، أنفس فيها، وأشهى إليها، من أن يمل ذلك ويستطال، ويكره ولا يستدام. وإذَا الشَّيْخُ قال أُفٍّ فَمَا ... ملَّ حَيَاةً وإنَّما الضَّعْفَ مَلاَّ ثم قال، على نحو ما قدمه: وإذا الشيخ قال أف لنفسه، وأظهر الاستطالة لمدة عمره، فليس ذلك بأنه مل الحياة وسئمها، واستثقلها وكرها، وإنما مل الضعف والهرم، واستكره الكبر والألم، يشير إلى أن الحياة تألفها طباع البشر، وتستحب في التشبيه والكبر. آلةُ العَيْشِ صِحَّةُ وَشَبَابُ ... فإذا وَلَّياَ عَنِ المَرْءِ وَلَّى ثم قال: آلة العيش وبهجته، وحقيقته وغبطته: الشباب والصحة،

والاقتبال والقوة، فإذا ولى ذلك عن الإنسان، ولى عيشه، وأدبر، وتنغص عليه وتكدر. أبَداً تَسْتَرِدُّ ما تَهَبُ الدَّن ... يا فَيَا لَيْتَ جُودَها كَانَ بُخْلاَ ثم يقول: إن الدنيا مستحيلة متنقلة، متغيرة متبدلة، تسترد هبتها، وتكدر مسرتها، وتعقب البقاء بالفناء، والسراء بالضراء، فليت الحياة التي جادت بكونها، واخترعت الأنفس بحبها، لم تكن واقعة، ولم توجد النفوس إليها ساكنة، وليتها بخلت بما جادت ببذله، ومنعت ما تسرعت إلى فعله. فَكَفَتْ كَوْنَ فَرْحَةٍ تُورِثُ الغمْ ... مَ وَخِلَّ يُغَادِرُ الحُزْنَ خِلاَّ ثم قال: فكانت تكفي أهلها بذلك، كون فرحة تؤدي إلى غم، ومسرة تئول إلى حزن، وكون خل يؤنس بقربه، وتتأكد البصيرة في حبه، ثم تخترمه المنية، فتغادر الهم خلا للمحزون عليه، وإلفا لذي الوجد المشتاق إليه.

وَهيَ مَعْشُوقَةُ عَلَى الغَدْرِ لا تَحْ ... فَظُ عَهْدَاً ولا تُتَمَّمُ وَصْلاَ ثم قال، وهو يريد الدنيا: وهي معشوقة من أهلها، على كثرة غدرها بهم، محبوبة فيهم، على قلة وفائها بالعهد لهم، لا تتمم وصلها، ولا يتشكر من صحبها فعلها. كُلُّ دَمْعٍ يَسيلُ مِنْهَا عَلَيْهَا ... وَبِفَكَّ اليَدْينِ منها تُخَلَّى ثم قال: وكل دمع تسيله، فإنما هو أسف على مفارقتها، وكل حزن تبعثه فإنما ذلك إشفاق على مباعدتها، وبحل اليدين المتمسكين بها تترك وتزايل، وبفكها عنها تخلى وتباين، يشير بهذا إلى الموت الذي يغلب أهل الدنيا على قوتها، ويخرجهم عنها مع كلفهم بحبها. شِيَمُ الغَانِيَاتِ فِيْهَا فلا أَدْ ... ري لِذَا أَنَّثَ اسْمَها النَّاسُ أَم لا ثم قال، وهو يريد الدنيا: شيم الغانيات فيها، يشير إلى ما هن عليه من الضنانة بالود، وقلة الإقامة على العهد، وتخلق الدنيا بهذه الخليقة، واحتمالها على هذه الطريقة، فلا أدري أأنث الناس اسمها لهذه المماثلة، وبعدوا بها عن التذكير لهذه المشاكلة، أم لغير ذلك مما قصدوا نحوه، وسواه مما أدركوا علمه. يَا مَلِيكَ الوَرَى المُفَرَّقَ مَحْياً ... وَمَماتاً فيهمْ وَعِزَّاً وذُلاَّ ثم يقول لسيف الدولة: يا مليك الورى، الجليل قدره، المشهور

فضله، الذي تستدام الحياة بموالاته، ويتعرض للموت والقتل بمعاداته، ويكتسب العز بطاعته، والذل بمعصيته، وتفرق هذه الأحوال فيمن والاه ووافقه، ونابذه وخالفه. قَلَّدَ الله دولةً سَيْفُها أَنْ ... ت حُسَاماً بالمكرُمَاتِ مُحَلَّى ثم قال: قلد الله دولة جعلك سيفها المحامي عن حوزتها، وحائطها المدافع عن بيضتها، حساماً حلاه بالمناقب والفضائل، وزينه بالمحاسن والمكارم، فهو يحمي تلك الدولة ويزينها، ويعز تلك المملكة ويمكنها. فَبهِ أَغْنَتِ المَوالي بَذْلاً ... وَبِهِ أَفْنتِ الأَعَادي قَتْلاَ ثم قال: فبذلك السيف أغنت هذه الدولة أولياءها، بذلاً ومكارمه، وبه أفنت أعاديها قتلاً ومراغمة. وإِذا اهتَزَّ للنَّدَى كَانَ بَحْراً ... وإِذَا اهتزَّ لِلوغَى كَانَ نَصْلاً ثم قال، وهو يريد سيف الدولة: وإذا اهتز للندى كان كالبحر في كثرة مواهبه، وعموم مكارمه، وإذا اهتز للوغى كان كالسيف في نفاذ عزمه، وقوته على ما يحاول من أمره. وإذا الأَرْضُ أَظْلَمَتْ كَانَ شَمْساً ... وإذَا الأَرْضُ أَمْحَلَتْ كَانَ وَبْلاَ

ثم قال، مشيراً إلى سيف الدولة: وإذا الأرض أظلمت خطوبها، كان كالشمس المشرقة، وإذا اتصلت محولها كان جوده كالسحاب المغدقة، فينير إذا استبهم الأمر، ويجود إذا كلب الدهر. وَهُوَ الضَّارِبُ الكَتِيبةَ والطَّعْ ... نَةُ تَغْلُو والضَّرْبُ أَغلى وأَغْلىَ ثم قال، مخبراً عنه: وهو الضارب الجماعة من الخيل، والكتيبة المتوقعة من الجيش، والحرب متوقدة، ونيرانها مضطرمة، والطعن بين الفرسان يغلو ويشرف، ويشتد ويفرط، والضرب أغلى وأفرط، وأشد وأبلغ. فدل على أن سيف الدولة عند اشتداد الحرب، يقتحم على الكتائب بنفسه، ويستخف ذلك بشدة بأسه. أَيُّها البَاهِرُ العُقَولَ فَما يُدْ ... رَكُ وَصْفَاً أَتْعَبْتَ فِكْري فَمَهْلاَ ثم قال، مخاطباً سيف الدولة: أيها الملك الذي بهر العقول بكثرة فضائله، وأعجز الأوصاف بتتابع مكارمه، مهلاً على فكري فقد أتعبته، ورفقاً بما أنظم فيك فقد أعجزته.

مَنْ تَعَاطَى تَشَبُّهاً بِكَ أَعْيَا ... هُ وَمَنْ دَلَّ في طَرِقِكَ ضَلاّ ثم قال: وكيف لا يكون ذلك، ومن تعاطى تشبهاً بك فقد أعيته مكارمك، ومن رام الدلالة في طرقك فقد ضللته فضائلك؛ لأنك تسبق ولا تسبق، وتتقدم فلا تلحق. فَإِذَا ما اشْتَهَى خُلُودَكَ داعٍ ... قَالَ لا زِلْتَ أَو تَرَى لَكَ مِثْلا ثم قال: إذا ما اشتهى أحد أن يدعو لك بطول العمر، واتصال البقاء على مر الدهر، فليقل بقيت حتى ترى شبيهاً بنفسك، وملكاً يعادلك في مجدك. فأشار إلى أنه لا يظفر الزمان بمثله، ولا يبلغ أحد إلى غاية فضله. تم القصيد بحمد الله، يتلوه ذي المعالي فَلْيَعْلُونْ مَن تَعَالى ... هَكذا هكذا وإلا فلا لا انتهى السفر الأول من شرح أبي القاسم الأفليلي على شعر أبي الطيب المتنبي في مدح الأمير سيف الدولة أبي الحسن علي ابن عبد الله. فرغ منه على يد كاتبه عبيد الله واقل عمر بن موسى بن عبد الله وفي تاريخ أوائل ذي القعدة الحرام عام خمسة وسبعين وتسعمائة.

§1/1