شرح مختصر الطحاوي للجصاص

الجصاص

بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه محمد وآله أجمعين. سألني بعض إخواني -ممن أجله وأعظمه- عمل شرح لمختصر أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الأزدي رحمه الله، فرأيت إجابته إلى ذلك، ورجوت فيه القربة إلى الله تعالى. إذ كان هذا الكتاب يشتمل على عامة مسائل الخلاف، وكثير من الفروع، التي إذا فهم القارئ معانيها وعللها، وكيفية بنائها على أصولها: انفتح له به من طريق القياس والاجتهاد ما يعظم نفعه، ويسهل به فهم عامة مسائل كتب الأصول لمحمد بن الحسن رحمة الله عليه.

لأني لا أذكر مسألة تتشعب منها مسائلُ من الفروع إلا نبهت على طرقها ووجوهها، مع ذكر شيء من نظائرها، ليكون الكتاب جامعا لعلم الأصول والفروع معا، وليعم نفعه وتكثر فائدته. وأتحرى في جميع ذلك الاختصار والإيجاز، وأستمد من الله المعونة والتوفيق، إنه أقوى معين.

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة باب ما تكون به الطهارة [مسألة: لا تكون الطهارة إلا بالماء أو بالصعيد إذا عدم الماء]. قال أبو جعفر: (قال أبو حنيفة رحمه الله: لا طهارة للصحيح إلا بالماء، أو بالصعيد في غير الأمصار وغير القرى إذا عدم الماء). قال أبو بكر: الأصل فيه: قول الله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبًا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا}. فلو اقتصر على قوله: {فاغسلوا} لاقتضى عمومه جواز غسل هذه

الأعضاء بسائر المائعات، لشمول اللفظ لها، لكنه لما قال في سياق الآية {فلم تجدوا ماء فتيمموا}: دل على أن حكم الغسل المأمور به مقصور على ما جعل التيمم بدلا منه، وأبيح استعماله عند عدمه. فإن قال قائل: لو لم يكن في شرط إباحة التيمم ذكر عدم الماء، لكان في قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورًا}. وقوله: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به}. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه، والحل ميتته": ما يوجب أن تكون الطهارة بالماء دون ما سواه من المائعات. قيل له: إنما حكم دلالة الآية والخبر الذي ذكرت مقصور على جواز استعمال الماء للطهارة، فأما أن يدل على نفي الطهارة بغيره، فلا، إذ

الحكم الذي تضمنته إنما هو إثبات الطهارة، لا نفيها، فالمستدل به على نفيها: مغفل لحكم الدلالة. [مسألة: حكم الوضوء بالنبيذ]. قال أبو جعفر: (ويجوز عند أبي حنيفة الوضوء بنبيذ التمر خاصة، دون ما سواه من الأنبذة في غير الأمصار، وفي غير القرى عند عدم الماء، وقال أبو يوسف: لا يتوضأ به، وقال محمد: يتوضأ به، ثم يتيمم). قال أبو بكر: القياس يمنع عند أبي حنيفة جواز الوضوء بالنبيذ لاتفاق فقهاء الأمصار على امتناع جوازه بالخل والمرق وسائر المائعات التي لا يتناولها اسم الماء على الإطلاق، إلا أنه ترك القياس فيه لدلالة لفظ الآية والأثر. وذلك لأن من أصله: أن الأثر مقدم على النظر، وإن كان وروده من طريق الآحاد، وأنه لا يعترض بالقياس على خبر الواحد بعد أن يكون

وروده من الجهة التي تقبل فيها أخبار الآحاد لو لم يعارضه القياس. فإذا لم يبق للحادثة طريق يوصل إلى معرفة حكمها إلا النظر والأثر، وتعارضا، كان الحكم للأثر، وسقط معه اعتبار النظر. هذا مع تعاضد الأثر الوارد في إباحة الوضوء بالنبيذ من دلالة فحوى خطاب الآية. وقد روى جواز الوضوء بالنبيذ عند عدم الماء عن ابن عباس وعكرمة وأبي العالية رضي الله عنهم.

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: ركبت مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم البحر ففني ماؤهم، فتوضؤوا بالنبيذ، وكرهوا ماء البحر. وما نعلم أحدًا من الصحابة روي عنه خلاف ذلك. فأما الأثر الذي ذهل إليه أبو حنيفة رحمه الله في جواز الوضوء بالنبيذ: فهو حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ليلة الجن: "أمعك ماء؟ قال: لا فقال: أمعك نبيذ؟ قال: نعم، فتوضأ به، وصلى الفجر". روي هذا الخبر عن عبد الله من أربع طرق:

رواه ابن عباس، وأبو رافع، وأبو وائل، وأبو زيد مولى عمرو بن حريث - فأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فأخبرناه عبد الباقي بن قانع في الإجازة قال: حدثنا الحسين بن إسحاق قال: حدثنا محمد مصفى قال: حدثنا عمر بن سعيد عن ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن حنش، عن ابن عباس عن ابن مسعود رضي الله عنهم أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمعك ماء يابن مسعود؟ قال: معي نبيذ في إداوة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صب علي منه"، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "هو شراب، وطهور". وحدثنا سليمان بن أحمد الطبراني قال: حدثنا أحمد بن رشدين المصري

قال: حدثنا يحيى بن بكير قال: حدثنا ابن لهيعة بإسناده، مثله. - وأما حديث أبي رافع فأخبرنا عبد الباقي بن قانع إجازة قال: حدثنا الحسين بن أحمد بن أبي بشر السراج ومحمد بن عبدوس قالا: حدثنا محمد بن عباد المكي قال: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم قال: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ليلة الجن: أمعك ماء؟ قال: لا قال: أمعك نبيذ؟ قال: نعم، "فتوضأ به". وحدثنا أبو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي رحمه الله قال: حدثنا علي بن عبيد قال: حدثنا العمري قال: حدثنا محمد بن عباد المكي قال: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، بإسناده مثله. - وأما حديث أبي وائل: فحدثنا أبو بكر الجعابي قال: ثنا أبو العباس الفضل بن صالح الهاشمي، حدثنا الحسين بن عبيد الله العجلي قال: حدثنا أبو معاوية محمد بن حازم، عن الأعمش عن أبي وائل قال: سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فأتاهم فقرأ عليهم القرآن، وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الليل: أمعك ماء يا ابن أم عبد؟ قلت: لا والله يا رسول

الله، إلا إداوة فيها نبيذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تمرة طيبة وماء طهور"، فتوضأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم. - وأما حديث أبي زيد: فحدثنا محمد بن بكر البصري قال: حدثنا أبو داود السجستاني قال: حدثنا سليمان بن داود العتكي قال: حدثنا شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد عن عبد الله بن مسعود ري الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلة الجن: ما في إداوتك؟ قال: نبيذ: قال "تمرة طيبة، وماء طهور". وقد روى هذا الحديث عن أبي فزارة الثوري وشعبة إسرائيل والجراح وأبو وكيع بن الجراح وأبو العميس عتبة بن عبد الله

وفي بعضها أنه قال: "تمرة طيبة، وماء طهور، فتوضأ منها وصلى". حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم قال: حدثنا أسد بن عاصم قال: حدثنا الحسين بن حفص عن سفيان الثوري عن أبي فزارة العبسي قال: حدثن أبو زيد مولى عمرو بن حريث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كنت مع النبي صلى الله عله وسلم ليلة الجن فحضرت صلاة الفجر، فسألني فقال: أمعك وضوء؟ فقلت يا رسول الله! مع إداوة فيها شيء من النبيذ، فقال: "تمرة طيبة، فتوضأ منها وصلى الفجر". قال أبو بكر: والمخالف لنا يعترض على هذه الآثار من وجوه أربعة:

أحدها: دعواهم مخالفتها للأصول من الكتاب، والاتفاق. لأن قول الله عز وجل: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، يقتضي عندهم أن يكون الماء المفروض به الطهارة، هو ما يتناوله اسم الماء على الإطلاق، وذلك معدوم في نبيذ التمر. ولاتفاق الفقهاء على امتناع جواز الوضوء بكثير من المائعات التي لا يتناولها اسم الماء على الإطلاق. والوجه الثاني: الطعن في سند هذه الآثار، من جهة أن أبا فزارة غير مشهور بالرواية، وأن أبا زيد لا يدري من هو، وكذلك رجال حديث ابن عباس وأبي رافع. والثالث: من جهة ما عارضها من حديث علقمة أنه قال: قلت لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هل كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ فقال: "ما كان معه منا أحد". والرابع: تسليم الرواية وتأويلها على الوجوه الموافقة للأصول. - فأما الجواب عن الوجه الأول، وهو دعواهم بمخالفتها لظاهر الآية والاتفاق، فدعوى عارية من البرهان؛ لأن ظاهر الآية معنا، وذلك لأن قوله: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}: إنما يقتضي ظاهرة إباحة التيمم عند

عدم كل جزء من الماء، ولا يقتضي إباحته عند وجود شيء منه. لأن قوله: {فلم تجدوا ماء {: اقتضى ماء منكورا، وذلك بتناول كل جزء من الماء على حياله، سواء كان منفردًا بنفسه أو مخالطًا لغيره. وقد يصح أن يقال: إن في نبيذ التمر، وإن كان أجزاء التمر هي الغالبة عليه. كما أن ماء لو وقعت فيه نجاسة يسيرة: جاز أن يقال: إن في هذا الماء نجاسة، وكما أن لبنًا لو صب فيه ماء يسير، جاز أن يقال: إن فيه ماء، وإذا كان غير ممتنع أن يقال: في نبيذ التمر ماء، كان من مقتضى الآية حظر التيمم معه. وعلى أن المائية التي في النبيذ إنما هي من الماء دون التمر، لأن التمر ليس بمائع، وهذه المائية غير موجودة فيه. فالمعترض على الآية، وعلى الخبر المروي في جواز الوضوء بالنبيذ، مؤكد لصحة قولنا، ومن هذه الجهة قلنا: إن دلالة فحوى الآية تقتضي جواز الوضوء بالنبيذ، لما ذكرنا من أن الماء الذي أبيح التيمم عند عدمه: ماء منكور، وأن وجود جزء منه يمنع التيمم، فلو اكتفينا بدلالة الآية على صحة ما قلنا، لكان فيه غنى. فإن قيل: فيلزمك على هذا جواز الوضوء بسائر الأنبذة، بل بسائر المائعات التي فيها شيء من أجزاء الماء. قيل له: إنما يلزمنا ذلك لو لم نقم الدلالة عليه؛ لأن كلامنا في ذلك

لم يخرج مخرج الاعتلال، فيلزمنا عليه المناقضة، لأجل وجوده مع عدم الحكم على ما يعتقده من لا يرى القول بتخصيص العلة. وإنما استدللنا به من جهة دلالة اللفظ، ولا يمتنع أحد من تخصيص ما كان هذا وصفه من دلائل الأسماء. وبهذا المعنى وقع الفصل بيننا وبين من قبل خبر الشاهد واليمين، في اعتراضه على قول الله تعالى:} واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان {. وذلك لأن في هذه الآية حظر قبول شهادة شاهد واحد، لأنه قال:} فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان {، فمنع أن نقبل عند عدم الرجلين إلا رجل وامرأتين، فمتى عدمنا الرجلين، وقبلنا شاهدًا واحدًا مع يمين الطالب، فقد خالفنا حكم الآية؛ لأن الله تعالى أوجب قبول شهادة الرجل والمرأتين عند عدم الرجلين.

والشاهد واليمين لا يتناولها اسم الرجل والمرأتين، فلذلك لم نجز قبول الشاهد واليمين على معنى يخالف الآية. وأما قوله:} فلم تجدوا ماء فتيمموا {: فإن ظاهرة يقتضي جواز التيمم عند عدم كل جزء من الماء، ولا يصح التيمم عند وجود نبيذ التمر، إذ كان فيه جزء من الماء، وهو الذي اقتضت الآية بطلان التيمم معه. * واحتجوا أيضًا في رد الخبر: بأن ليلة الجن كانت بمكة، وآية التيمم نزلت بالمدينة، فكانت ناسخة له. فقلنا لهم: إن الآية نفسها تمنع جواز التيمم مع وجود النبيذ الذي فيه جزء من الماء، على ما تقدم من بيانه. وعلى أنه ليس فيما ذكروا ما يمنع الوضوء به، بل يدل ذلك على جواز الوضوء به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد توضأ به في حال لم يكن قد نقل فيه عن الوضوء بالماء إلى بدل، فدل أنه توضأ به على معنى أنه بقى فيه حكم الماء، لا على جهة البدل عنه، والتيمم إنما ورد حكمه

على وجه البدل عن الماء، فلا حكم له مع وجود النبيذ الذي هو مبقى على حكم الأصل، الذي هو الماء. فإن قيل: فجوز الوضوء به مع وجود الماء إن كان الوضوء به مفعولاً على حكم الماء، الذي هو الأصل. قيل له: لولا قيام الدلالة على امتناع جواز الوضوء به مع وجود الماء، لأجزنا الوضوء به، لكن الدلالة منعتنا. ومما يدل على أن فرض الوضوء بالماء كان قائمًا في ذلك الوقت. غير منقول إلى البدل، أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من الماء للطهارة به، فلما أخبره بكون النبيذ معه، قال: "تمرة طيبة وماء طهور". فأخبر أنه توضأ به على أنه الماء المفروض به الطهارة، لا على جهة البدل عنه. * وأما دعواهم مخالفته للأصول من جهة اتفاق الفقهاء على امتناع جواز الوضوء بسائر المائعات التي لا يتناولها اسم الماء على الإطلاق. فإن ذلك على خلاف ما ظنوا؛ لأن خبر الوضوء بالنبيذ إنما يعترض على قياس الأصول التي ذكروها، ولم يعترض على الأصول نفسها، وقد بينا فيما سلف أن أخبار الآحاد إذا وردت من الجهات التي تقتضي قبولها والعمل بها - لو لم يعارضها القياس-، فهي إذا وردت معارضة للقياس كانت مقدمة عليه، وكان القياس متروكًا لها.

وهذا نظير ما نقوله في أكل الناسي، أنه لا يوجب الإفطار، للأثر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه، والقياس يوجب الإفطار فتركنا القياس للأثر. وكما قلنا في إيجاب الوضوء من القهقهة في الصلاة، للأثر والقياس يمنع منه، فتركنا القياس للأثر، وكان عندنا أولى منه. ونظائر ذلك كثيرة، فلسنا ندفع أخبار الآحاد بقياس الأصول، لكن لا نقبلها في مخالفة الأصول نفسها. * والخبر المخالف للأصول مثل قول مخالفنا في عبيد ستة، أعتقهم المريض ثم مات، ولا مال له غيرهم، فقال مخالفنا: إنه يقرع بينهم، فنعتق اثنين بأعيانهما، ونرد الباقين إلى الرق، وتأول فيه ما روى عمران بن حصين رضي الله عنه في رجل أعتق ستة أعبد له عند موته، لا مال له

غيرهم، فأقرع النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فاعتق اثنين، وأرق أربعة. وهذا الخبر مقبول عندنا، محمول على معنى لا يخالف الأصول، وقد بيناه في مسألة القرعة من هذا الكتاب. وحملة مخالفنا على وجه مخالف للأصول. وإنما صار المعنى الذي ذهب إليه مخالفنا: مخالفنا للأصول أنفسها، لا على المعنى الذي قلناه في قبول خبر نبيذ التمر، والوضوء من القهقهة ونحوهما، من قبل أن الناس متفقون على امتناع رفع الحرية عمن وقعت عليه القرعة. وهذا لأن المريض كان مالكًا لا محالة لثلث كل واحد منهم، جائز التصرف فيه من غير حق لأحد، فنفذ عتقه فيه، فكانت القرعة رافعة لما استحقه من العتق، وهذا معنى متفق على بطلانه، فمن أجله صار مخالفًا للأصول أنفسها. ومن جهة أخرى إنه استعمل القرعة على وجه يخفق بها بعضهم، وينجح البعض، فصار في معنى الميسر والقمار اللذين حرمهما الله بنص كتابه؛ لأن رجلًا لو قال لرجل: "أقارعك على أرضك وأرضي، أو

"أقارعه على رق من خرجت عليه القرعة منهما": لم يصح ذلك، والقرعة المستعملة في العبيد هي هذا بعينه، فسقطت، لمخالفتها للأصول. * ومما ترده الأصول من الأخبار: خبر المصراة إذا استعمل على ما ذهب إليه المخالف؛ لأنه يوجب أن من اشترى شاة بصاع تمر، ثم حلبها، ثم وقف على التصرية، أنه يردها ويرد معها صاع تمر، وحصة اللبن أقل من صاع تمر، وهذا رد للأصول من وجهين: أحدهما: إلزام لمشتري أكثر مما لزمه من الغرم. والثاني: أنه يأخذ صاعًا عن أقل منه. * وأما طعنهم في خبر الوضوء بالنبيذ من جهة أن أبا فزارة غير مشهور بالرواية، وأن أبا زيد من مجهول، فإنه جهل من قائله، وذلك لأن أب فزارة مشهور، واسمه راشد بن كيسان العبسي، وله أحاديث مروية قد نقلها عنه الأئمة، وكان أحد الزهاد، فيما حدثنا ابن قانع في كتاب "الطبقات". وإنما الوصول إلى معرفة عدالة من لم نشاهده من الرواة: من جهة

نقل الفقهاء وأهل العلم عنه، من غير طعن منهم عليه في روايته، ولا تهمته بالكذب، وأبو فزارة ممن نقل عنه الأئمة، ولم يطعن أحد منهم في نقله، ولا اتهمه برواية حديث يوجب تهمته. وأما أبو زيد: فمشهور من عاملة التابعين قال يعقوب بن شيبة "سمع أبو زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقد أدرك جماع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من الطبقة الأولى من الكوفيين بعد الصحابة". * وأما حديث ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن حنش عن ابن عباس رضي الله عنهما: فمستقيم السند، لا نعلم أحدًا منهم طعن عليه في روايته، أو اتهم بالكذب في نقله. وكذلك حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن ابن مسعود رضي الله عنه.

ولو وجب أن ترد أخبار الآحاد التي تفرد بها الرواة: لوجب أن يبدأ فيرد خبر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في الرطب بالتمر؛ لأنه لا يرويه إلا زيد أبو عياش، ولا يدري من هو؟ ويثنى خبر من يروي: "إن الله عز وجل كتب عليكم السعي، فاسعوا"؛ لأنه لا يرويه إلا امرأة. ويرد خبر شعبة عن أبي جعفر مؤذن مسجد العريان عن أبي المثنى في إفراد الإقامة؛ لأنه:} ظلمت بعضها فوق بعض {، لا يدرى من أبو جعفر، ولا من أبو المثنى.

*وعلى أي وجه وقع إسناد حديث الوضوء بنبيذ التمر، فليس بدون حديث الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر بن البزير عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، وبعضهم يقول: عبيد الله بن عبد الله بن عمر في القلتين. ولا دون حديث الشاهد واليمين، مع مخالفته للكتاب. ولا هو أضعف من حديث: "لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل"، ونظائرها من الأخبار الواهية السند، المضطربة المتون والمعاني، التي قبلها مخالفنا، كرهنا ذكرها خوف الإطالة. * وأما اعتراضهم عليه بما عارضه من حديث علقمة أنه سأل عبد الله رضي الله عنه: هل كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ فقال: "ما كان منا معه أحد". وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا إذا لم نجد الماء".

وقوله صلى الله عليه وسلم: "التيمم طهور المسلم إذا لم يجد الماء"، وأن هذا العموم ينافي جواز الوضوء بالنبيذ وترك التيمم. فإنه يقال لهم: أما كون عبد الله رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فصحيح قد ورد نقله من جهات آخر صحيحة غير الطرق التي وصفنا. فمنها: ما روي عن أبي عثمان النهدي بالإسناد الصحيح أن عبد الله رأى بالكوفة قومًا من الزط، فقال: "ما أشبههم بالجن ليلة الجن". وروى ابن المبارك عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عبد الله رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم ناداه ليلة الجن". وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة: "أن عبد الله رضي الله عنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن". وحدثنا سليمان بن أحمد الطبراني قال: حدثنا عثمان بن عمر الضبي قال: حدثنا عبد الله بن رجاء قال: أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي

عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فقال لي: "التمس ثلاثة أحجار فوجدت له حجرين وروثة، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: هذا ركس". وحدثنا سليمان بن أحمد قال: حدثنا [إسحاق الدبري] عن عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق عن علقمة بن قيس عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب لحاجته، فأمر ابن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار، فجاءه بحجرين وروثة، فألقى الروثة وقال: "هذا ركس، ايتني بحجر". وذكر علقمة نحوًا مما في حديث أبي عبيدة من القصة، فوجب أن يكونا حديثًا واحدًا في حال واحدة، وأن لا يكونا حديثين في حالين مختلفين؛ لأن في كلا الحديثين أنه ألقى الروثة، وقال: "إنها ركس". ويمتنع أن يكون عبد الله قد أخبره النبي صلى الله عليه وسلم مرة أن الروثة ركس لا يجوز الاستنجاء بها، ثم يأتيه بها ثانية. وأيضًا يمتنع في العادة أن يكون كلما سأله أحجار الاستنجاء، لا يجد إلا حجرين وروثة، فثبت أن القصة واحدة، وإذا ثبت ذلك، وأخبر أبو عبيدة أنها كانت في ليلة الجن: ثبتت زيادته.

* وحديث علقمة في نفيه كون عبد الله رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، إن كان ثابتًا على ما ادعاه المخالف، فواجب أن يعارض هذه الأخبار كلها، ويوجب الطعن فيها، وأن لا يكون مخصوصا بإفساد حديث نبيذ التمر، دونها. وقد اتفق الفقهاء على قبول حديث أبي عبيدة؛ لأن منهم من يحتج به في إيجاب ثلاثة أحجار للاستنجاء، ومنهم من يجيز بما دونه، لأنه اكتفى بالحجرين، وألقى الروثة. وعلى أنا نقول: إن حديث علقمة ليس بمخالف لحديث الوضوء بالنبيذ، وذلك لأن في حديث علقمة أنه سأل ابن مسعود قال: فقلت: هل شهد أحد منكم ليلة الجن؟ فقال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ففقدناه، فالتمسناه، فبتنا شر ليلة بات بها قوم. فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، فقال: أتاني داعي الجن، فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم،

وسألوه الزاد. فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما سأله الماء في هذه الحال، وفيها توضأ بالنبيذ. وذكر إسماعيل بن إسحاق في كتابه في "أحكام لقرآن": حدثنا محمد بن عبيد بن حسان قال: حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن عمرو بن غيلان أنه قال لابن مسعود: حدثت أنك حضرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد الجن. قال: فكيف كان؟ فذكر الحديث كله، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خط عليه خطًا، وقال له: "لا تبرح"، حتى إذا كان قريبًا من الصبح، أتاني النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال لي: هل رأيت شيئًا؟ قلت: نعم، رأيت رجالًا سودًا مستشعرين بثياب بيض. وفي حديث أبي فزارة نحو ذلك من القصة، فاحتمل أن يكون حديث علقمة موافقًا له، وأنه إنما عنى بقوله: "ما كان معه منا أحد": في حال

خطابه للجن، وتعليمه إياهم القرآن والإيمان، وكان معه في حال أخرى، وهي الحال التي رجع فيها النبي صلى الله عليه وسلم من عندهم، ثم سأله الماء، فإذا ليس في حديث علقمة ما ينفي حديث أبي فزارة، وغيره. * وأما قول صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا إذا لم نجد الماء"، وقوله: "التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء". فإنا نجمع بينه وبين حديث الوضوء بالنبيذ، فنستعملها ولا نسقط أحدهما بالآخر؛ لأنهما جميعًا وردًا من طريق الآحاد، لا مزية لأحدهما

على صاحبه، فنقول: إذا لم يجد الماء، ولم يجد نبيذ التمر، فلا نسقط أحدهما بالآخر مع إمكان استعمالهما. * وأما من سلم الخبر، وتكلم فيه على جهة حمله على ما يوافق الأصول، فإنه زعم أن الذي توضأ به، يحتمل أن يكون ماء ألقى فيه تمر، ولم يستحل فيه، ولم يزل عنه اسم الماء المطلق. ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "تمرة طيبة، وماء طهور"، وقول عبد الله رضي الله عنه: "معي تميرات ألقيتها في الماء"، وأنه إنما سماه نبيذًا مجازا على ما سيؤول إليه حالة في الثاني، كقوله عز وجل:} إني أراني أعصر خمرًا {، وهو في حال العصر ليس بخمر، وإنما سماه بها لما يؤول إليه الحال في الثاني. فيقال له: هذا تأويل ساقط لا يلاءم لفظ الخبر بحال، ولا يمكن حمله عليه، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "هل معك ماء؟ قال: لا، معي نبيذ التمر"، فنفى عنه اسم الماء المطلق، ولو كان التمر غير مستحيل فيه، حتى يسلبه اسم الماء المطلق، لما جاز أن ينفيه عنه نفيًا مطلقًا؛ لأن أسماء الحقائق لا تنتفي عن مسمياتها بحال، فهذا يدل على سقوط تأويلك. ثم سماه نبيذًا على الإطلاق أيضا، وحكم اللفظ المطلق أن يكون محمولًا على حقيقته حتى تقوم دلالة المجاز، ولا دلالة لنا على وجوب

صرف هذا اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز. * وأما قوله: "تميرات ألقيتها في الماء": فإن النبيذ كذا يعمل، يطرح التمر في الماء، ويترك حتى يستعجل فيه، ويصير إلى حال الشدة، فيسمى حينئذ نبيذًا. فليس في قوله: "تميرات ألقيتها في الماء": ما ينفي أن يكون قد صار نبيذًا. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "تمرة طيبة، وماء طهور": إخبار عما كانت عليه بديًا، ولم ينف عنه اسم النبيذ في الحال. فإن قيل: لفظ النبي صلى الله عليه وسلم محمول على حقيقته، وهو أصدق من عبد الله حين سماه نبيذًا. قيل له: معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد تكذيب عبد الله رضي الله عنه في خبره أن معه نبيذًا؛ لأنه لم يكن يعلم الذي مع عبد الله، ولذلك سأله فقال: "هل معك ماء؟ وقد كان عبد الله رضي الله عنه علم ما معه فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم منبهًا له على جواز الوضوء به: "تمرة طيبة، وماء طهور": أي أن استحالته إلى النبيذ لم توجب تنجسه، ولا منع الطهارة به. * وأما قوله:} إني أراني أعصر خمرًا {: فلا دلالة معنا على أنه كان يعصر غير الخمر، إذ لا يمتنع أن يعصر من العنب الخمر نفسها، بأن

يطرح العنب في الخابية، ويترك حتى ينش ويغلي، ثم يعصره فيكون ما يعصره خمرًا على الحقيقة. وعلى أنه لو أراد العصير الذي ليس بخمر، لم يمتنع؛ لقيام الدلالة على أنه أطلق اللفظ به مجازًا، وليس يجب إذا صرفنا لفظًا عن حقيقته إلى المجاز بدلالة: أن نفعل ذلك في سائر ألفاظ الحقائق بلا دلالة. فإن قيل: قول عبد الله رضي الله عنه: "تميرات ألقيتها في الماء": يدل على أنه كان نيئًا غير مطبوخ، فلو كان قد صار إلى حال الاستحالة إلى النبيذ لكان محرمًا؛ لأن نقيع التمر عندكم محرم لا يجوز شربه، ولا الوضوء به، فإذا لم يجز الوضوء بنفس ما ورد فيه الأثر: فغيره أبعد من ذلك. قيل له: لما قال: "معي نبيذ التمر"، وهذا الاسم يتناول النيء والمطبوخ منه، ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك: أفادنا ذلك جواز الوضوء بالجميع، فإذا قامت الدلالة على تحريم النيء منه، كانت دلالة الخبر باقية في إباحة الوضوء بالمطبوخ. وقوله: "تميرات ألقيتها في الماء": لا يدل على أنه كان غير مطبوخ

لأنه يجوز أن يلقي فيه تمرات ويطبخها. وأيضًا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ به بمكة، وتحريم الخمر كان بالمدينة، وإنما توضأ به في حال الإباحة، وقد أفادنا ذلك جوازه بالمطبوخ؛ لأن أحدًا لم يفرق بين نيئه حيث كان حلالًا، وبين مطبوخه الحلال. فإن قيل: فهلا قست عليه نبيذ الزبيب، وسائر الأنبذة. قيل له: لأن من أصلنا: أن المخصوص لا يقاس عليه إلا أن تكون علته مذكورة في خبر التخصيص، كقوله صلى الله عليه وسلم في الهرة: "إنها ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم والطوافات".

فإن قيل: فعلته مذكورة؛ لأنه قال: "تمرة طيبة، وماء طهور". قيل له: فهذه العلة لا توجد في غير نبيذ التمر، فكيف نقيس عليها وقد تكلمنا في هذه المسألة بأكثر من هذا في "مسائل الخلاف"، التي عملناها في الطهارة. * وأما أبو يوسف، فإنه لم يجز الوضوء به؛ لأن القياس يمنع منه والخبر لم يثبت عنده. * وأما محمد، فجمع بينه وبين التيمم؛ لأن الأثر قد ورد به. والقياس يمنعه ويوجب التيمم، فاحتاط له في الجمع بينهما. مسألة: [الوضوء بما اعتصر من الشجر]. قال أبو جعفر: (وليس لما اعتصر من الشجر والثمر حكم الماء). وذلك لأن اسم الماء لا يتناوله على الإطلاق. قال الله تعالى:} وأنزلنا من السماء ماء طهورًا {، وقال:} ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينبيع في الأرض {. فحكم الطهارة من الأحداث متعلق بما كان هذا وصفه من المياه، ولا نعلم بين الفقهاء في ذلك خلافًا.

مسألة: [الوضوء بالماء الذي خالطه شيء من الطاهرات]. قال أبو جعفر: (وما خالط الماء شيء سواه، فغلب عليه: صار الحكم له، لا للماء، وإن لم يغلب عليه: كان الحكم للماء، لا له). قال أبو بكر: الأصل فيه: أن الماء الذي خالطه شيء من الطين: لا خلاف في جواز الوضوء به، والمعنى فيه أن الماء هو الغالب. ولا خلاف أيضًا أن المرق والخل لا يجوز الوضوء بهما، والمعنى فيه أن ما غلب عليه من أجزاء الثمر: يسلبه اسم الماء المطلق. وكل ما كان بهذه المنزلة: فحكمه حكم الخل، وما كان الماء فيه هو الغالب: فهو مردود إلى موضع الاتفاق في أجزاء الطين إذا خالطت الماء. فإن قيل: قال الله تعالى:} وأنزلنا من السماء ماء طهورًا {، فالمنزل من السماء هو الطهور، دون الماء المتغير بمخالطة غيره. قيل له: اختلاط غيره به لم يخرج بالماء من أن يكون منزلًا من السماء، فلا معنى لاعتباره في بقاء حكم التطهير به. وكما لم يمنع اختلاط أجزاء الطين به من بقائه على حكم التطهير، ولم يسلبه معناه الذي كان له في حال نزوله من السماء، كذلك اختلاط غيره به، ما لم يغلب عليه. فإن قيل: فهو إنما يحصل له الطهارة بالماء وبغيره مما خالطه من لبن

أو نحوه، ولا يجوز الطهارة باللبن. وكما كان يسير النجاسة إذا حصل في الماء: منع استعماله للطهارة كذلك يجب أن يكون حكمه في اختلاط اللبن، أو سائر المائعات به. قيل له: هذا غلط؛ لأن اختلاط اللبن بالماء إذا لم يكن هو الغالب عليه، لا يمنع وصول أجزاء الماء إلى بشرته، كما لا يمنع اختلاط أجزاء الطين به. والفرق بينه وبين النجاسة، أن النجاسة محظور علينا استعمالها، لقول الله عز وجل:} ويحرم عليهم الخبائث {، فمتى لم نصل إلى استعمال الماء إلا باستعمال جزء من النجاسة: لم يجز لنا استعمال الماء. وأما اللبن، وسائر ما يخالط الماء من الأشياء الطاهرة: فغير محظور علينا استعماله، ولذلك لم يمنع استعمال لماء لذي خالطه ما لم يغلب عليه، ألا ترى أن يسير الطين إذا خالط الماء - وإن ظهر أثره فيه - لا يمنع استعماله. ويدل على ذلك أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح الوضوء بسؤر السنور مع ما خالطه من لعابها. ولا خلاف في جواز الوضوء بسؤر الإنسان وإن خالطه لعابه. * فصار ذلك أصلا: في أن ما خالط الماء من الأشياء الطاهرة: لا

يمنع الطهارة به ما لم يغلب عليه. ومما يبين ذلك الفرق بين مخالطة النجاسة الماء، وبين سائر الأشياء الطاهرة: أن الماء يلحقه حكم النجاسة عندنا، وعند مخالفنا بمجاورة النجاسة، دون المخالطة، ألا ترى أن فأرة لو وقعت في أقل من قلتين ماء: نجسته عند مخالفنا، ولا يفسده مجاورة الأشياء الطاهرة. مسألة: [الماء المستعمل والوضوء به]. قال أبو جعفر: (وما توضئ به من المياه، أو اغتسل به منها، أو تبرد به فقد صار مستعملًا، لا يجوز التوضؤ به، ولا الاغتسال به). قال أبو بكر: قوله في التبرد بالماء أنه يوجب للماء حكم الاستعمال، لا أعلمه مذهب أصحابنا، وقد قال أبو الحسن الكرخي رحمه الله إنه إذا كان المستعمل له طاهرًا لم يرد به التطهر: لم يكن مستعملًا. والأصل فيما يوجب استعمال الماء شيئان في قول أبي يوسف: أن يسقط به فرض، أو يستعمل قاصدًا به الطهارة على وجه القربة.

ومن أجل ما قيدنا به شرط الاستعمال، قال أبو يوسف في الجنب إن دخل بئرًا يطلب دلوًا، ولا نجاسة عليه، إنه لا يطهر، ولا يفسد الماء، لأنه لو طهر: سقط به فرض الطهارة، وذلك عنده يكسبه حكم الاستعمال، ولو اغتسل فيه ينوي الطهارة: صار مستعملًا. وقال محمد: يطهر الرجل إذا لم يرد به الاغتسال، ولا يصير الماء مستعملا، من قبل أن شرط الاستعمال عنده: أن يستعمله على وجه التطهر به، متقربًا به إلى الله عز وجل، وسقوط الفرض عنده: لا يكسبه حكم الاستعمال ما لم يحصل متقربًا به. * والدليل على امتناع جواز الوضوء بالماء المستعمل: ما روى حميد بن عبد الرحمن قال: لقيت رجلًا صحب النبي صلى الله عليه وسلم كما صحبه أبو هريرة رضي الله عنه أربع سنين قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، ويغتسل الرجل بفضل المرأة".

وفضل الغسل يطلق على شيئين: أحدهما: ما يسيل من أعضاء المغتسل. والآخر: ما يبقى في الإناء بعد الغسل. وظاهر اللفظ يقتضيهما جميعًا، إلا أنه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان يغتسل هو وبعض نسائه من إناء واحد من الجنابة، تختلف أيديهما فيه": علمنا أن ذلك لم يرد، وبقى حكم اللفظ فيما يسيل من أعضاء المغتسل. * دليل آخر: وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن شاذان الجوهري قال: حدثنا معلى بن منصور قال: حدثنا ابن لهيعة عن بكير بن الأشج أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب". فلما نهاه عن الاغتسال فيه، دل على أن يفسده، ويمنع من استعماله وفي أخبار آخر شائعة عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من جنابة".

وهذا يقتضي النهي عن الاغتسال فيه على الانفراد، كما اقتضى النهي عن البول فيه، فدل على أن الاغتسال فيه يمنع التطهر به، كما يمنعه البول. فإن قيل: إنما هذا في النهي عن الاغتسال فيه بعد البول؛ لأنه قد روي: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل فيه من جنابة". قيل له: "تستعملها جميعًا، فنقول: لا يغتسل فيه بعد البول، ولا يغتسل فيه قبله بالخبر الآخر. فإن قيل: أنما نهى عن الاغتسال فيه من جنابة، لما عسى أن يكون على بدن الجنب من النجاسة، فلأجل النجاسة منع منه، لا لما ذكرت قيل له: هذا غلط من وجوه. أحدهما: أن الجنابة ليست عبارة عن النجاسة، إذ ليس يمنع أن يكون جنبًا لا نجاسة على بدنه، وقد يكون على بدنه نجاسة وليس بجنب، فليست الجنابة إذاً عبارة عن كون النجاسة على بدنه، فلا يجوز أن يتعلق حكم النجاسة بذكر الجنابة. والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قد أفادنا بدءًا بقوله: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم": المنع من إيراد النجاسة على الماء بلفظ صريح فيفسد أن يكون المراد بالجنابة: النجاسة أيضًا من وجهين:

أحدهما: أنه يصير تكرارا لما أفادنا بدءًا، ولا يجوز أن نحمل اللفظ على التكرار إلا بدلالة. والثاني: أن ما أفادنا بالتصريح: يصير مكنيًا عنه بذكر الجنابة، وذلك لغو من الكلام، ولا يجوز حمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم عليه. * ودليل آخر: وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا بني عبد المطلب! إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس". فشبه الصداقة حين حرمها عليهم بغسالة أيدي الناس، فدل على أنه محرم استعمال غسالة أيدي الناس للطهارة، كما حرمت الصدقة على بني هاشم. ويدل عليه قول عمر لأسلم رضي الله عنهما حين أكل من تمر الصدقة: "أرأيت لو توضأ إنسان بماء أكنت شاربه"، وما لا يجوز شربه لا يجوز الوضوء به.

وهذا يدل على شهرة الأمر بما كان في ذلك عندهم، إذ ضرب المثل به، وجعله أصلًا رد إليه أكل الصدقة. فإن قيل: لا يخلو الماء المستعمل من أن يكون طاهرًا أو نجسًا، ولا جائز أن يكون نجسًا؛ لأن الماء لا ينجس إلا بمخالطة النجاسة، أو مجاورته إياها، والماء المستعمل بخلاف هذه الصفة. وإن كان طاهرًا: فهو باق على ما كان عليه من حاله قبل الاستعمال. قيل له: الماء المستعمل طاهر، وليس كل طاهر يجوز الوضوء به، لأن ماء الورد، وماء الباقلا، والمرق، جميع ذلك طاهر، ولا يجوز الوضوء به. فإن قال: إنما لم يجز الوضوء بما ذكرت، لغلبة غيره علي، وسلبه اسم الماء على الإطلاق، وذلك معدوم في الماء المستعمل. قيل له: كيف ما جرت الحال، فقد بطل أن يكون كونه طاهرًا علة في جواز الطهارة به، لوجود أشياء طاهرة، لا يجوز الوضوء بها، فهذا يسقط سؤالك من هذا الوجه. وعلى أنه إذا غلبة غيره عليه يمنع الطهارة به، لأنه يسلبه اسم الماء على الإطلاق: فتعلق الحكم به من سقوط فرض أو حصول قربة به يسلبه اسم الإطلاق؛ لأنه يقال: ماء مستعمل، كما يقال: ماء الورد، وماء الباقلًا. فإن قيل: هذا كإضافته إلى النهر أو إلى البئر؛ لأنه لم يحصل شيء

غلب عليه. قيل له: إضافته إلى البئر والنهر لا تأثير لها في الماء، ولا يتعلق بها حكم، وإضافته إلى الاستعمال تفيد حكمًا قد تعلق به ما وصفنا، فيجوز أن يؤثر فيه كتأثير ما يغلب عليه من غيره. فإن قيل: قوله:} وأنزلنا من السماء ماء طهورًا {: يقتضي جواز الطهارة به مرة بعد أخرى، كما يقال: رجل أكول، وشروب: يراد به الإكثار من الأكل والشرب. قيل له: قوله:} طهورًا {: معناه مطهرًا، على وجه المبالغة في وصفه بوقوع الطهارة به، ولا دلالة فيه على التكرار، ألا ترى أنه يقال: طهر ثوبه وبدنه، ويصح إطلاقه وإن لم يكرر غسله بماء واحد. وهذا كما يقال: سيف قطوع: يراد به الوصف بالمبالغة في القطع، ولا يراد به تكرار القطع؛ لأن ذلك قد يحصل بالسيف الكليل، ولا يسمى قطوعًا. فإن قيل: قوله تعالى:} فلم تجدوا ماء فتيمموا {: يعم جميع المياه قيل له: نخصه بما ذكرنا من الدلائل. فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بقيت عليه لمعة،

فدلكها بجمته. قيل له: ذلك في غسل الجنابة، والبدن كله في غسل الجنابة كعضو واحد في الوضوء. فإن قيل: لو كان ممنوعًا من استعماله، ما جاز نقله من أول العضو إلى آخره؛ لأنه قد صار مستعملًا بحصوله في أول العضو. قيل له: للمستعمل عندنا شرط، وهو مفارقته للعضو، وما دام في العضو، فليس له حكم الاستعمال بالاتفاق، فلذلك جاز نقله من أول العضو إلى آخره. وعلى أن الاستعمال إنما يمنع الطهارة به من طريق لحكم، فحكمه موقوف على قيام الدلالة عليه، والدلالة إنما قامت لنا في منع استعمال ما قد استعمل لعضو في عضو غيره. فإن قيل: روي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتبادلون على وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسلون به وجوههم وأيديهم.

قيل له: لم يستعملوه للطهارة، وإنما فعلوه تبركًا، ولم نقل إنه نجس، فيمنع التمسح به. * ومن وجهة النظر: إن المحدث في معنى من على بدنه نجاسة في باب المنع من الصلاة، ثم وجدنا الماء المغسول به النجاسة، يحل في حكم النجاسة؛ لأنها به زالت، كذلك الماء المزال به الحدث، ينبغي أن ينتقل حكم الحدث إليه، لأنه به زال، فوجب أن يمنع ذلك استعماله للطهارة، لقيام حكم الحدث فيه، كما لا يجوز استعمال الماء المغسول به النجاسة. فإن قيل: فيجب على هذا أن لا يكون مستعملًا إذا توضأ به وهو طاهر، إذا لم يزل به حدث. قيل له: إنما ألحقناه حكم الاستعمال بمعنى آخر غير ما قلنا في الحدث، وهو القربة به، قياسًا على المحدث. فإن قيل: العلة في المحدث سقوط الفرض به، وذلك معدوم في المتقرب به لغير حدث. قيل له: لا يمتنع القياس عليه بوصف آخر، وهو ما تعلق به من الحكم، فكل ما تعلق به حكم صار مستعملًا، والحكم تارة يكون زوال الحدث، وتارة حصول القربة. * قال أبو بكر: قال محمد بن الحسن: الماء المستعمل طاهر، ولا يفسد الثوب حصوله فيه وإن كان كثيرًا فاحشًا، وروى محمد ذلك عن أبي حنيفة وأبي يوسف.

وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة وأبي يوسف: أن الماء المستعمل نجس. وروى هشام عن أبي يوسف: أنه لا يفسد الثوب حتى يكون كثيرًا فاحشًا. والصحيح من قولهم أنه طاهر، وكذا كان يقول شيخنا أبو الحسن الكرخي. مسألة: [أثر وقوع النجاسة في الماء القليل والكثير]. قال أبو جعفر: (وإذا وقعت نجاسة في ماء، فظهر فيه لونها أو طعمها أو ريحها، أو لم يظهر ذلك فيه: فقد نجسته، قليلًا كان الماء أو كثيرًا، إلا أن يكون بحرًا أو ماءً حكمه حكم البحر، وهو: ما لا يتحرك أحد أطرافه

بتحريك ما سواه من أطرافه). قال أبو بكر: تحصيل المذهب فيه: أن كل ما تيقنا فيه جزءًا من النجاسة، أو غلب ذلك في رأينا: فهو نجس لا يجوز استعماله. ولا يختلف على هذا الحد، الماء الراكد والجاري والبحر وغيره. وإنما اعتبارهم في الغدير العظيم، ويتحرك أحد الطرفين بتحريك الآخر: كلام في جهة غلبة الرأي في وصول النجاسة الحاصلة في أحد الطرفين إلى الطرف الآخر، وليس هو كلامًا في أن من الماء ما ينجس بحصول النجاسة فيه، ومنه ما لا ينجس، وعلة التنجيس هو ما ذكرنا من حصول النجاسة فيه. * والدليل على تحريم استعمال الماء الذي فيه جزء من النجاسة وإن لم يتغير طعمه أو لونه أو رائحته، قول الله تعالى:} ويحرم عليهم الخبائث {، والنجاسات من الخبائث؛ لأنها محرمة. وقل:} حرمت عليكم الميتة والدم {، وقال في الخمر:} رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه {. ولم يفرق بين حال انفرادها واختلاطها بالماء، فعموم هذه الآيات يوجب تحريم استعمال الماء الذي فيه جزء من النجاسة، إذ كان في

استعماله استعمال الخبائث التي حرمها الله والماء وإن كان مباحًا استعماله في حال انفراده عن النجاسة، فإن وجود النجاسة فيه يرفع حكم الإباحة؛ لأن استعمال المباح ليس بواجب والامتناع من المحظور واجب. فإن قال قائل: قال الله تعالى:} وإذا ما اتقوا وءامنوا وعملوا {، ومعناه مطهرًا، فهو من حيث كان طهورًا وجب أن يزيل حكم النجاسة، وينقلها إلى حكم نفسه بتطهيره إياها. قيل له: قد اتفق الجميع على أنه لا يطهرها، ولا ينقلها إلى حكم نفسه إذا كانت مرئية فيه، أو ظهرت فيه رائحتها أو طعمها أو لونها. فكذلك يجب أن يكون حكمها إذا كانت معلومة فيه، لأن النجاسات يحرم علينا استعمالها من حيث كان معلومًا وجودها فيه، دون أن تكون مرئية. ألا ترى أنها إذا كانت في ثوب: منعت الصلاة فيه، سواء كانت مرئية أو غير مرئية إذا كانت معلومة فيه. فثبت أن قوله تعالى:} وأنزلنا من السماء ماء طهورًا {، لا يعترض على

حكم ما تلونا من الآي. فإن قال قائل: فهي إذا كانت قليلة: صارت ماء، ولم تكن نجاسة قيل له: هذا خطأ، لأنها لو أمدت بأمثالها لظهرت، ولو كانت الأجزاء اليسيرة من النجاسة إذا كانت خفية استحالت ماء، لكانت الزيادة فيها من أمثالها لا يوجب ظهورها في الماء، وظهور طعمها ولونها؛ لأن كل جزء حصل فيه من تلك الأجزاء يستحيل ماء، فلا يظهر عين النجاسة فيه. * ودليلنا من جهة السنة على الأصل الذي قدمناه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعًا" وتطهير الأواني لا يجب إلا من النجاسات، فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بنجاسة ولوغ الكلب، ومعلوم أن الولوغ لا يغير طعمه ولا لونه ولا رائحته. * وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يديه ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده". فأمره بغسل اليد احتياطًا مما عسى أن يكون قد أصاب يده من موضع الاستنجاء في حال النوم، وهو لا يشعر به، وقد كانوا يستنجون بالأحجار، فكان الواحد منهم إذا نام لا يأمن وقوع يده على موضع الاستنجاء، وهناك بلة فيصيبها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاحتياط

منها، ومعلوم أن حصولها في الماء لو كانت موجودة لم تكن تغير طعم الماء ولا لونه ولا رائحته. * ويدل عليه أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من جنابة". ومعلوم أن البول اليسير في الماء الكثير لا يغير طعم الماء، ولا لونه، ولا رائحته. * وقال صلى الله عليه وسلم في فأرة ماتت في سمن: "وإن كان جامدًا: فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا: فأهريقوه". ومجاورة الفأرة للسمن لا يغير طعمه ولا لونه، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بنجاسته. فإن قال قائل: إنما منع البول فيه، لئلا يكثر البول فيه، فيغير طعمه،

ويظهر فيه، فيمنع الطهارة به. قيل له: هو تخصيص بلا دلالة، وحمل للكلام على غير ما يقتضيه ظاهره. ويدل على بطلان هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل فيه"، فمنع البائل من الاغتسال فيه بعد بوله وحده قبل ظهور النجاسة فيه. فإن قيل: روى أبو سعيد الخدري رضي الله عن أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بئر بضاعة، وهي بئر كان يطرح فيها عذرة الناس، ومحايض الناس، ولحوم الكلاب، فقال: "الماء طهور لا ينجسه شيء". وروى أبو نضرة عن جابر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانتهينا إلى غدير فيه جيفة، فكففنا، وكف الناس، حتى أتانا النبي صلى الله علي وسلم فقال: ما لكم لا تستقون! فقلنا: يا رسول الله! هذه الجيفة. فقال: استقوا، فإن الماء لا ينجسه شيء"، فاستقينا وارتوينا.

فهذه الأخبار تنفي الحكم بنجاسة الماء بحلول النجاسة فيه. قيل له: أما حديث بئر بضاعة، فإن الطحاوي ذكر عن أبي جعفر أحمد بن أبي عمران عن محمد ابن شجاع عن الواقدي، أن بئر بضاعة كانت طريقًا للماء إلى البساتين. والماء الجاري يحمل على ما يحل فيه من النجاسة، وينقله عن موضعه، فيجوز استعمال ما يجيء من الماء بعده. وقد ذكر أبو داود السجستاني أنه رأى بئر بضاعة، وأن عرضها نحو ست أذرع. وذكر عن قتيبة بن سعيد أن قيم بئر بضاعة أخبره أن أكثر ما يكون

فيها من الماء إلى العانة. ومعلوم أن ما كان هذا سبيله من الآبار إن لم يكن جاريًا، فلا محالة يظهر فيها ما يطرح فيها من لحوم الكلاب والمحايض وسائر النجاسات، ولا خلاف بين المسلمين أن الماء الذي قد ظهرت فيه النجاسة: لا يجوز استعماله للطهارة، فلا تخلو حينئذ بئر بضاعة من أن يكون ماؤها كان جاريًا ناقلًا لما يقع فيها إلى غيرها، فلا يمنع ذلك استعمال الماء الحادث بعد انتقاله النجاسة. وإن لم يكن جاريًا، فإن سؤال السائل كان عنها بعد ما نظفت، وأخرج ما فيها من النجاسات، فأشكل عليهم حكمها بعد إخراج ما فيها، فأخبرهم أن ما كان يطرح فيها لا يمنع طهارة الماء الحادث بعده، وتكون فائدته أن البئر لا يجب طمها بوقوع النجاسة فيها، ولا حفر جوانبها، ولا غسلها، وأنها مفارقة للأواني في ذلك. * وأما حديث الغدير، فيحتمل أن يكون أمرهم بالاستقاء من الجانب الذي لم تبلغه النجاسة؛ لأن موضع الجيفة لا يجوز استعماله بالاتفاق وهذا موافق بقول أصحابنا في الغدير العظيم، وأن كون النجاسة في جانب

منه: لا يمنع استعمال الماء الذي في الجانب الذي لم تبلغه النجاسة. وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: لقيت النبي صلى الله علي وسلم وأنا جنب، فمد يده إلي، فقبضت يدي عنه، وقلت: إني جنب فقال: "سبحان الله! إن المسلم لا ينجس"، ولم يمنع بذلك أن يلحقه حكم النجاسة إذا أصابت بدنه. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في وفد ثقيف حين أنزلهم المسجد: يا رسول الله! قوم أنجاس؟ فقال: "إنه ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء، إنما أنجاس الناس على أنفسهم"، ومعلوم أنه لم يرد بذلك نفي النجاسة عن الأرض، وإن أصابتها. فإن قال قائل: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصب الماء على بول الأعرابي، دل على أنه إنما أراد ن يصير الماء غالبًا للبول، فيزيل حكمه مع بقاء أجزائه فيه. قيل له: قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمكان البول أن يحفر. حدثنا محمد بن الحسن بن شيرويه الأستراباذي قال: حدثنا عمار بن رجاء قال: حدثنا يحيى الحماني، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش عن

سمعان بن مالك الأسدي عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه قال: "بال أعرابي في المسجد، فصب عليه دلوًا من ماء، ثم أمر به فحفر مكانه، فقال الأعرابي: يا رسول الله! أرأيت الرجل يحب القوم، ولما يعمل مثل عملهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب". وحدثنا محمد قال: حدثنا عمار قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا أبو بكر عن منصور عن سالم عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. وحدثنا علي بن محمد الأنطاكي قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن سابور وعبد الوهاب بن أبي حية قالا: حدثنا أبو هشام الرفاعي قال: حدثنا أبو بكر بن عياش قال: حدثنا سمعان بن مالك بإسناده مثله. قال أبو هشام: وحدثنا أبو بكر بن عياش عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وذكر الطحاوي قال: حدثنا أبو بكرة قال: حدثنا إبراهيم بن بشار قال:

حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاووس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمكانه أن يحفر. فثبت بذلك أنه لم يقتصر على غلبة الماء عليه دون حفر الأرض لإزالة النجاسة. وفيه دليل على أن غلبة الماء على البول لا يزيل حكمه؛ لأنه لو أزاله، لما احتيج إلى حفر الموضع بعد صب الماء. * ومن جهة النظر: إن استعمال النجاسة على الانفراد محظور، فإذا اختلطت بالماء، وعلم كونها فيه، فاجتمع في الماء جهة الحظر من أجل النجاسة، وجهة الإباحة من أجل الماء: وجب تغليب جهة الحظر على جهة الإباحة. والدليل عليه أن جارية بين رجلين لا يجوز لواحد منهما وطؤها، وكان تغليب جهة الحظر من أجل ملك الغير، أولى من جهة الإباحة من أجل ملكه. فإن قيل: فقد أبحت استعمال التحري في ثلاثة أواني أحدها نجس.

فاعتبرت غلبة الطاهر، وأبحت الاجتهاد فيه، فيلزمك اعتبار الغالب عند اختلاط النجاسة بالماء. قيل له: ليس هذا مما نحن فيه في شيء؛ لأني إنما استعملت التحري في طلب الطاهر، لا في استعمال جزء من النجاسة، والماء وإن غلب على النجاسة، فإنه لا يصل إلى استعماله إلا باستعمال جزء من النجاسة، فأشبه الجارية بين الرجلين في حظر وطئها. وقد يستعمل الاجتهاد أيضًا في طلب الطاهر من الماء إذا خالطته النجاسة، وهو ما نقوله في الغدير العظيم إذا دخلته نجاسة: أن ما غلب في رأينا أن النجاسة لم تبلغه: يجوز استعماله، وما غلب في الظن أن النجاسة وصلت إليه: لا يجوز استعماله. ثم جعلوا تحرك أحد الطرفين بتحرك الطرف الآخر: جهة تغلب الرأي في بلوغ النجاسة إليه. فإن قال قائل: لو خالط الماء لبن يسير، لم يمنع استعماله للطهارة، وإن لم يجز استعمال اللبن للطهارة، ثم لما كان الماء هو الغالب عليه سقط حكمه، كذلك النجاسة. قيل له: ليس بمحظور علينا استعمال اللبن، إلا أن الطهارة به لا تصح، ويسيره لا حكم له؛ لأنه لم يمنع وقوع الطهارة بالماء، ألا ترى أن يسير الزعفران إذا وقع في ماء، فظهر لونه فيه، فظهر لونه في: لم يمنع ذلك استعماله للطهارة، وإن ظهر لون النجاسة أو طعمها أو ريحها في الماء: منع ذلك

استعماله للطهارة بالاتفاق، وإن كان الماء هو الغالب، فهذا فرق بينهما فإن قيل: فقد حصل الاغتسال بجزء من اللبن، فينبغي أن لا يجزئه قيل له: ليس هو بأكثر منه لو توضأ، ثم مسح وجهه باللبن، فلا يفسد ذلك طهارته. فإن قال قائل: لو وجب الامتناع من استعمال الماء بحلول اليسير من النجاسة فيه، لوجب الحكم بنجاسة ماء البحر، لعلمنا بكون الجيف والنجاسات فيه، وإن كان جزء منه لاقى جزءًا قد نجس بمجاورته لجزء نجس، إلى أن تسوفي النجاسة أجزاء ماء البحر كله. قيل له: هذا غريب واجب، من قبل أن ما لاقى عين النجاسة من الماء قد نجس بمجاورته إياه، ولم يصر هذا الماء المجاور لغير النجاسة نجسًا في الحقيقة، وإنما لحقه حكم النجاسة من طريق الحكم، لا أنه نجس في نفسه، وما كان هذا وصفه من ماء البحر والآبار ونحوها: لا ينجس ما جاوره، وتبين ذلك في مسألة البئر إذا ماتت فيها فأرة. فاختلفت عندنا حكم ما كان نجسًا في نفسه، وما نجس بالمجاورة فلذلك لم يفسد ماء البحر بحلول النجاسة في ناحية منه. * ودليل آخر: وهو أنا وجدنا النجاسات في الثياب والأبدان أخف منها في الماء، ثم كانت النجاسة في البدن والثوب تمنع جواز الصلاة فيه إذا كثرت وإن لم تكن مرئية، فدل ذلك على سقوط اعتبار ظهور النجاسة في الماء، وأن الحكم متعلق بوجودها فيه، كما تعلق في الثوب.

فإن قيل: لما كان القليل من النجاسة لا يمنع الصلاة في الثوب، كذلك الماء الذي تحله. قيل له: إن الصلاة جائزة في الثوب مع وجود أثر النجاسة فيه، ولا يجوز استعمال الماء مع ظهور أثر النجاسة فيه، فعلمنا أن حكم النجاسة في الماء أغلظ منها في الثوب. فإن قال قائل: قد نقلت الأمة خلفا عن سلف إزالة الأنجاس من الأبدان والثياب باليسير من الماء، فلو كان حلول يسير النجاسة في الماء ينجس الماء، لما طهر بدن ولا ثوب أبدًا؛ لأن كل ما خالطه فهو ينجس أولًا، ثم يزول وهو نجس، فدل ذلك على أن المراعاة في باب التنجيس ظهور النجاسة، وأن الماء متى كان غامرًا لها يسقط حكمها. قيل له: إن تطهير الثوب من النجاسة إنما يكون بإزالة عين النجاسة متى كان هناك عين قائمة، فالماء غير مطهر له، فإذا زالت العين لم يبق هنا إلا ما قد جاور ما كان نجسًا بملاقاته النجاسة، وقد بينا أن ما نجس من جهة المجاورة: لا ينجس ما جاوره، فلا يلزم على ذلك الحكم بتنجيس المياه على ما ألزمنا السائل. وقد روي عن جماعة من الصدر الأول الحكم بتنجيس الماء بحلول النجاسة فيه وإن لم تظهر فيه. من ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما حين أمر بنزح زمزم لموت الزنجي فيه، وعن ابن الزبير مثله.

وذكر حماد عن إبراهيم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إنما ينجس الحوض أن تقع فيه، فتغتسل وأنت جنب". وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الفأرة إذا ماتت في البئر قال: "انزحها حتى تغلبك". فصل: [عدم اعتبار القلتين كحد فاصل بين القليل والكثير] قال أبو بكر: وجميع ما استدللنا به من ظواهر الآي والسنن، ودليل القياس والنظر، يوجب الحكم بنجاسة القلتين إذا حلتهما نجاسة، وأنه لا

فرق بينهما وبين ما هو أقل منهما وأكثر. وعلى أن اعتبار القلتين في إيجاب الحد الفاصل بين ما ينجس بحلول النجاسة فيه، وبين ما لا ينجس: قول متناقض فاسد من وجوه أخر نذكرها بعد هذا الفصل. فإن قيل: روى الوليد بن كثير المخزومي عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبد الله بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء وما ينوبه من السباع، فقال: "إذا بلغ الماء قلتين، فليس يحمل الخبث". وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الحياض التي بالبادية تصيب منها السباع، فقال: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل نجسًا". وروى موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن عاصم بن المنذر عن عبيد بن عبد الله عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا

كان الماء قلتين لم ينجس". ورواه يحيى بن حسان موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما. فلما ثبت بالدلائل المتقدمة أن قليل الماء ينجس بحلول النجاسة فيه، واتفق الجميع على أن البحر والغدير العظيم لا ينجس بحلول النجسة فيه، جعلنا الحد الفاصل بين القليل والكثير، وبين ما ينجس وما لا ينجس قبل ظهور النجاسة: القلتين اللتين ورد بهما الأثر. قيل له: إن هذا حديث لا يجوز إثبات أصل من أصول الشريعة بمثله. لضعف سنده، واضطراب متنه، واختلاف الرواة في رفعه، ولأن مثله لا يجوز أن يكون وروده مورد البيان في إيجاب الحد الفاصل بين القليل والكثير. * فأما ضعف سنده، فلأنه مختلف فيه. يقول بعضهم: محمد بن عباد بن جعفر، وبعضهم يقول: محمد بن جعفر.

ثم يقول بعضهم: عبيد الله بن عبد الله، وآخرون يقولون: عبد الله بن عبد الله. وهذا يدل على أن الحديث غير مضبوط الإسناد. ثم يقفه بعضهم على ابن عمر رضي الله عنهما، وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. * ثم الذي يدل على اضطراب متنه: ما حدثنا محمد بن الحسن بن شيرويه قال: حدثنا عمار بن رجاء قال: حدثنا حبان بن هلال قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن المنذر عن عبيد الله بن عبد الله عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان الماء أكثر من قلتين أو ثلاث، فإنه لا ينجس". وحدثنا دعلج بن أحمد قال: حدثنا موسى بن هارون قال: أخبرنا كامل بن طلحة قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن المنذر عن عبيد الله عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان الماء قلتين أو

ثلاثة فإنه لا ينجس". وهذه الألفاظ متضادة مختلفة المعاني؛ لأن القلتين إن كانتا حدًا، فما فوقهما ليس كذلك، وإن كان الحد أكثر من قلتين: فهما ليستا بحد. * ثم قوله: "قلتين أو ثلاثًا": يبطل أيضًاً معنى التحديد، وما كان هذا سبيله من الأخبار: فإنه لا يصح الاحتجاج به، ولا يجوز الاعتراض به على ما قدمنا من دلائل الكتاب والآثار الصحاح. * ويدل على سقوطه، ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من جنابة". ومعلوم أن الماء الدائم في الغدران والمصانع أكثر من قلتين بأضعاف، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم الاغتسال فيه بعد البول،

فدل على أن حلول النجاسة في مثله يفسده. * وعلى أنه قد روى القاسم بن عبد الله العمري عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان الماء أربعين قلة لم يحمل الخبث". وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما مثله، وبه قال إبراهيم النخعي. * وأيضًا: فلما كان اسم القلة يقع على مقادير مختلفة: لم يجز أن يكون إطلاق لفظ القلتين واردًا مورد البيان، وذلك لأن البيان لا يقع به والقلة اسم للجرة، والكوز الصغير، ولرأس الجبل، ولقامة الرجل، وما كان هذا وصفه، فغير جائز إثبات التحديد به.

فإن قيل: فالمراد قلال هجر. قيل له: وما الدليل على ذلك؟ فإن قال: لأن ابن جريج قال: بقلال هجر. قيل له: ومن جعل قول ابن جريج أصلًا في إثبات شريعة؟ ثم المخالف لا يصح له ذلك، لأنه يزعم أن ابن جريج لو روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه، فكيف إذا لم يرفعه إليه، ولم يروه عنه؟ فإن قيل: فما وجه الحديث عندكم؟ قيل له: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذا القدر من الماء، فقال: مثله لا يحتمل الخبث، أي يضعف عنه، فلا يزيل حكمه، كما يقال: فلان لا يحمل ألف رطل، ومعناه: أنه يضعف عنه،

فنقل الراوي كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وترك نقل سؤال السائل، والسبب الذي عليه خرج الكلام. كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ربا إلا في النسيئة"، وقوله: "ولد الزنى شر الثلاثة". وذلك كله كلام خرج على سبب مفهوم، وهو محمول عليه دون استعمال إطلاقه، كذلك ما روي في القلتين.

فإن قيل: فقد روي: "إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء". قيل له: أصل الحديث قوله: "لم يحمل خبثًا"، ثم حمله بعض الرواة على المعنى عنده، فنقله دون اللفظ؛ لأن كثيرًا من الرواة يرى نقل المعنى دون اللفظ. ويحتمل أن يكون المراد بالقلتين: قامتين، ويكون أراد: إذا بلغ الغدير، أو المصنع قامتين: لم يحمل نجسًا، كما نقول: الغدير العظيم إذا وقعت النجاسة في أحد جانبيه أنها لا تنجس الجانب الآخر. فإن قيل: القلال كانت معروفة بالمدينة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "دخلت الجنة فرأيت نبقها مثل قلال هجر". قيل له: ومن دفع أن تكون قلال هجر كانت معروفة؟ بل نقول: كانت معروفة، وسائر ما ذكرنا من القلال المختلفة المقادير كانت معروفة أيضًا؛ ولأجل أن الجميع كانت معروفة مع اختلاف مقاديرها وتفاوتها: امتنع ورود البيان بذكرها في إثبات المقدار. * ومما يبين تناقض قول القائل بالقلتين: أنا نقول له: خبرنا عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثًا": أراد به قلتين طاهرتين أو نجستين.

فإن قال: طاهرتين كانتا أو نجستين: قال قولًا مستحيلًا؛ لأنه يقتضي أن يكون قد قال: "إذا كان الماء قلتين نجستين لم يحمل خبثًا". وهذا متناقض، لما فيه من نفي النجاسة عما أثبته نجسًا. وإن قال: أراد إذا كان قلتين طاهرتين لم يحمل خبثًا. قيل له: فأخبرنا عن قربة طاهرة صبت على أربع قرب نجسة؟ فقلت: إن القرابة الطاهرة لا تنجس، أليس قد نقضت ما أعطيته بدءًا من معنى مراد النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر؛ لأن هذه قرابة أقل من قلتين، قد خالطها أضعافها نجاسة، فلم تنجس، فلم يثبت التحديد الذي اقتضاه الخبر عندك. فإن قال: لأن الماء صار قلتين، فانتفت النجاسة عنه. قيل له: أليس قد أعطتنا أن معنى قوله: "إذا كان الماء قلتين طاهرتين لم يحمل خبثًا"، فهل وجدت قلتين طاهرتين؟ وإنما وجدت قلة طاهرة، فلم يحمل خبثًا، وفي هذا إسقاط التحديد الذي رمت إثباته بالخبر. ثم زعم أن الماء إذا كان أقل من قلتين، وكان نجسًا فصب عليه ما يتم به خمس قرب: صار طاهرًا، فإن فرق بعد ذلك لم ينجس. فيقال له: لم لا أعدت حكم النجاسة فيها بالتفريق، وقد علمنا أنه أقل من قلتين، وفيه أجزاء من النجاسة. فإن قال: لأنا قد حكمنا بطهارته عند الاجتماع وبلوغ الحد؛ فلا

ينجس بعد ذلك بالتفريق. قيل له: إذا حكمت بنجاسته وهو مفترق، فهلا بقيت هذا الحكم وإن اجتمعا، ولم لم تخرجه من حكم الطهارة بالافتراق؛ لأن النجاسة حصلت في أقل من قلتين. فإن قال: لم نعد حكم النجاسة بالتفريق؛ لأن في تنجيسها بعد الافتراق إبطالًا لحكمنا له بالطهارة، وإسقاطًا لفائدته؛ لأنه متى اغتراف منه شيئًا كان نجسًا؛ لأنه أقل من قلتين، وفي ذلك منع من استعماله، ورفع حكمنا به من طهارته، وهذا غير جائز؛ لأنه قد ثبتت طهارته بالخبر. قيل له: فأصلك يوجب عليك ترك استعمال الخبر، فدل على فساد أصلك. على أنه قد قال في القلتين إذا وقعت فيهما فأرة: إنهما طاهرتان. ثم قال: إن أخذ بعض الماء وفيه الفأرة: إنه ينجس، فلم يفرق بين حال التفريق بعد الاجتماع، وبينه قبل الاجتماع, * ثم مما يدل على تناقض قله: إن قلة ماء نجس، وقلة أخرى نجسة إذا اجتمعتا صارتا طاهرتين. وهذا يضاهي قوله في فرقه بين ورود الماء على النجاسة، وبين ورود النجاسة على الماء في أقل من قلتين، فحكم بنجاسته إذا وردت النجاسة على الماء، ولم يحكم له بذلك عند ورود الماء على النجاسة، والماء قليل

في الحالين جميعًا، والنجاسة موجودة، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكم بنجاسة الماء لوجود النجاسة فيه، ولا فرق –إذا كان المعنى ما وصفنا –بين ورود الماء على النجاسة، وبين ورود النجاسة على الماء, وهذا يشبه قول بعض المتجاهلة في فرقة بين البائل وغير البائل، فقال: إن البائل في الماء ممنوع من الوضوء به، وغير البائل مباح له مع وجود البول فيه، والمتغوط فيه غير ممنوع من الوضوء به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى البائل دون غيره". وهذا قول لو قصد به الإنسان إلى هتك ستر نفسه وفضيحتها، وإظهار تجاهله للناس؛ ما زاد على ما قال. فإن قال صاحب القول الأول: إنما فرقنا بين ورود النجاسة على الماء، وبين ورود الماء على النجاسة فيما دون القلتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصب الماء على بول الأعرابي في المسجد، فلولا أنه طهره به لزاد في تنجيسه. قيل له: قد روي أنه أمر بمكانه أن يحفر، وقد تقدم ذكر سنده.

فإن قيل: جميع ما ألزمته مخالفيك، يلزمك مثله في الغدران الكثيرة إذا نجست بحصول النجاسة فيها، ثم أجري بعضها إلى بعض، فصارت غديرًا واحدًا، حتى لو حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر: لن تحكم طهارته؛ لأجل الاجتماع على حسب اعتبارك في الغدير العظيم إذا وقعت فيه نجاسة، وإن لم تحكم بطهارته بعد الاجتماع، فقل في الابتداء: إنه إذا وقعت فيه نجاسة: نجس. قيل له: هذه الغدران النجسة إذا جمعت، فصارت غديرًا واحدًا: فجميعها نجس عندنا، واجتماعها لا يكسبها حكم الطهارة، ولذلك تقول في الغدير العظيم إذا حصلت النجاسة في جميعه: لم يجز استعمال شيء منه. وإنما الذي نقوله في الغدير العظيم: إنه إذا دخلت النجاسة طرفًا منه، وغلب في ظننا أنها لم تبلغ الطرف الآخر، لم نحكم بنجاسة الموضع الذي لم تبلغه النجاسة، فليس المعنى عندنا في حكم التنجيس: زوال كثرته ولا قلته، وإنما المعنى في نجاسته وجود النجاسة فيه. فإن قيل: لما احتجنا إلى الحد الفاصل بين القليل الذي يلحقه حكم النجاسة، وبين الكثير، ولم يكن لنا مفزع إلا إلى الاجتهاد أو الأثر، كان الأثر –وإن كان ضعيفًا –مقدمًا عليه. ومن جهة أخرى إن أحدًا لم يقدره بأكثر من ذلك. قيل له: الحد الفاصل بينهما هو ما علمنا، أو غلب في ظننا وجود النجاسة فيه، فهذا الذي نحكم له بالنجاسة، وما عداه: فليس بنجس، فلا حاجة بنا إلى الاجتهاد في إثبات المقدار، ولا إلى قبول خبر ضعيف لا

تثبت بمثله شريعة. * وأما قولك إن أحدًا لم يقدره بغير القلتين: فليس كذلك؛ لأن إبراهيم النخعي يعتبر أربعين قلة، وعلقمة وابن سيرين والحسن بن صالح بن حي يعتبرون كرًا، وهو ثلاثة آلاف ومائتا رطل. مسألة: [ما ينزح من البئر لطهارتها بموت عصفور فيها، ونحوه] قال أبو جعفر: (وكل بئر وقعت فيها فأرة أو عصفورة ولم تنتفخ،

ولم تتفسخ: أخرجت منها، واستقي منها عشرون دلوا، وفي النور والدجاجة أربعون دلوًا). قال أبو بكر أحمد بن علي: قد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في فأرة تموت في البئر: "أنه تنزح منها دلاء". وروي عنه أيضًا أنه قال: "تنزح حتى يغلبك الماء". والروايتان جميعًا صحيحتان، فالأولى ما لم تنتفخ، والثانية إذا انتفخت. وعن عطاء، وطاوس: "ينزح منها دلاء".

وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "في الدجاجة أربعون أو خمسون"، ونحوه عن إبراهيم، والحسن. وقال الشعبي: "في الدجاجة سبعون دلوًا". فقد حصل من اتفاق هؤلاء السلف أن نزح بعض مائها: يطهرها في موت الفأرة والسنور.

وإنما اختلفوا في مقدار ما ينزح، فصار ذلك أصلًا في وجوب تطهيرها ينزح بعضها، لأنا لا نعلم لهم مخالفًا من السلف. * ووجه آخر: وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن فأرة ماتت في سمن، فقال: "إن كان جامدًا: فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا: فأهريقوه"، فاستفدنا من أمره بإلقاء الجامد وما حوله معنيين. أحدهما: أن ما كان نجسًا في نفسه: فإنه ينجس ما جاوره. والثني: أن ما نجس بالمجاورة: لا ينجس ما جاوره فيما لا يوجب غسل ما حصل فيه؛ وذلك لأن الفأرة لما كانت نجسة في نفسها: حكم صلى الله عليه وسلم بنجاسة ما جاورها من السمن، ولم يحكم بنجاسة السمن المجاور لهذا السمن النجس. فإذا لم يكن السمن نجسًا في نفسه، وإنما كانت نجاسته من جهة الحكم لمجاورته الفأرة: فقلنا على هذا: إن ما جاور الفأرة من ماء البئر: نجس، وما جاور هذا الماء الذي لحقه حكم النجاسة بالمجاورة: ليس بنجس، كما لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بنجاسة السمن المجاور للسمن الذي نجس بالمجاورة. * وإنما جعلنا ماء البئر في معنى السمن الجامد، دون المائع الذي حكم النبي صلى الله عليه وسلم بنجاسة الكل، من قبل أن البئر إذا حلتها نجاسة، فأخرجت، ونزح ماؤها: لم يجب طمها، ولا حفر جوانبها، ولا غسلها، فأشبه من هذا الوجه السمن الجامد؛ لأن موت الفأرة فيه لم

يوجب غسل الإناء، وفارق السمن المائع: إذا كانت إراقته توجب غسل الإناء. * ومن جهة أخرى: إن البئر يشبه الماء الجاري، من قبل أن نزحه يوجب حدوث ماء غيره فيها، وليس كذلك الإناء، فكانت البئر أخف حكمًا من الأواني، فلذلك جعلناها بمنزلة السمن الجامد الذي تموت فيه الفأرة، إذا كان حكمه أخف من حكم المائع. * وإذا ثبت أن بعض الماء طاهر، وبعضه نجس، وجب أن يطهرها إخراج بعض مائها، لأنا لو قلنا إنها لا تطهر إلا بإخراج الجميع، لكان فيه نقض ما أصلنا وأقمنا الدلالة عليه، من وجوب الحكم بطهارة بعض مائها، ونجاسة البعض. ثم الكلام في مقدار ما يطهرها إخراجه: طريقة الاجتهاد، وما كان طريقه الاجتهاد من هذه المقادير، لا يتوجه علينا فيه سؤال، كتقويم المستهلكات، ونفقات الزوجات، ونحوها. وأيضاً: ما روي عن علي وأبي سعيد وعطاء رضي الله عنهم في المقدار: يوجب تقليدهم فيه، إذ لم يثبت عن أحد من السلف خلافه. [مسألة: وجوب نزح جميع البئر بموت شاة فيها] قال أبو جعفر: (فإن ماتت فيها شاة: نزحت كلها حتى يغلبهم الماء). قال أحمد: وذلك لأن الشاة تنزل إلى قعر البئر، ويجاورها أكثر مائها، وعسى أن لا يبقى مما لم يجاور إلا اليسير الذي لا حكم له،

فلذلك نجس جميع الماء. قال أبو جعفر: (وإن تفسخت الفأرة أو انتفخت: نزح ماء البئر كله، وكذلك الدجاجة والسنور). قال أبو بكر أحمد: وذلك لأنه لا تصير إلى هذه الحالة إلا ويتحلل شيء من أجزائها في الماء، ويخالطه، فيصير بمنزلة البول والدم إذا وقعا في البئر، فلا يطهرها إلا نزح الجميع، من قبل أن تلك الأجزاء بالماء لا يتيقن خروجها إلا بنزح ما فيها، وإلا فنحن متى استعملناه: فقد استعملنا جزءًا من النجاسة مع الماء، وقد بينا امتناع جواز ذلك فيما تقدم. قال أحمد: روي عن أبي يوسف في معنى قولهم: "تنزح حتى يغلبهم الماء": أنه ينزح من البئر مقدار ما كان فيها، ولا يضرهم بعد ذلك ما ينبع من الماء. وقال محمد: إذا نزح مائتا دلو، أو مائتان وخمسون دلوًا، فقد طهر الماء، هذا إذا وجب نزح البئر كلها. [مسألة:] قال أحمد: وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في الفأرة إذا خرجت حية من البئر: أنه ينزح منها دلاء، وإن لم يفعلوا أجزائهم. وقال في الشاة والبقرة إذا أخرجت حية: ينزح عشرون دلوًا

مسألة: [موت ما ليس له نفس سائلة لا يفسد الماء] قال أبو جعفر: (وما مات في الماء القليل مما ليست له نفس سائلة، كالزنابير ونحوها: لم يفسد ذلك الماء بموته). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم: فامقلوه فيه", وقد يقع الذباب حيًا وميتًا، وقد أمر بمقلهما جميعًا، ومعلوم أنه لم يأمن بتنحيس الماء بمقلة فيه، فصار ذلك أصلًا في أن كل ما لا دم له: لم يفسد الماء موته فيه. فإن قيل: إنما أراد به الذباب الحي؛ لأنه قال: "في إحدى جناحيه داء، وفي الآخر دواء، وإنه يقدم الذي فيه الداء". قيل له: لا يمتنع أن يكون اللف الأول عامًا في الجميع، وأن المعطوف عليه بعض ما دخل في عموم اللفظ، وله نظائر كثيرة قد بيناها في مواضع. وعلى أنه لو كان المراد الحي، كانت دلالة الخبر قائمة فيما وصفناه؛ لأنه قد يكون في الإناء مرق حار، وماء حار، ومقله فيه يقتله، ولم يفرق بين المقل الموجب لموته، وبين ما لا يوجبه، فهو على الأمرين. فإن قيل: إنما أمره بمقل لا يوجب الموت، كما قال الله تعالى:

} وَاضْرِبُوهُنَّ {، وهو ضرب غير مبرح. قيل له: لأن الإباحة ضربهن على وجه التأديب، فصار ضريًا غير مبرح، والمقل لأجل ما ذكر أنه يقدم الجناح الذي فيه الداء، وغمس الجميع يوجب الموت، ولا سيما في الطعام الحار. وأيضًا: فعموم اللفظين يقتضي دخول الوجهين فيه، وخصصنا الضرب بدلالة. وأيضًا: فمعلوم أن الناس من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، لم يكونوا يخلون من بق، وبعوض يموت في أوانهم وحبايهم، ولم يقل أحد بإفساده الماء، مع عموم بلواهم به، فدل على أنه لا يفسد، وشهرة ذلك بينهم، كشهرة حكمهم ببقاء طهارة الماء مع وقوع الطير فيه، ومن قال بخلاف ذلك فقد خالف الإجماع. وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن النصر بن بحر قال: حدثنا محمد بن مصفى قال: حدثنا بقية عن أبي زكريا عن سعيد مولى حمير عن بشر بن منصور عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"إن كل طعام أو شراب وقعت فيه دابة فماتت، ليس لها دم: فهو الحلال أكله وشربه ووضوءه". وأيضًا: الباقلاء المطبوخ لا يخلو من ذباب يكون فيه، وقد ظهر في الأمة أكلة وبيعه من لدن السلف إلى يومنا، من غير نكير من أحد من العلماء على أكله، فصار ذلك إجماعاً منهم على طهارته. وكذلك الخل لا يعرى عن دودة تموت فيه، ولم يمتنع أحد من أجل ذلك من أكله. فإن قيل: قال الله تعالى:} حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ {، وهو عام في الذباب وغيره. قيل له: إنما تناول ذلك عين الميتة، فأما ما جاورها فليس بميتة، فلم يتناوله اللفظ. مسألة: [موت السمك والجراد لا يفسد الماء]. قال أبو جعفر: (وما وقع فيه من حوت لم يطف قبل ذلك في بحر،

أو من جردة ميتة لم يفسده). قال أبو بكر أحمد: قوله: "من حوت لم يطف قبل ذلك": لا يعتبره أصحابنا، لن الطافي عندهم لو وقع في إناء لم يفسده، وكونه غير مأكول عندنا: لا يوجب تنحسيه؛ لأنه مما يعيش في الماء، كالسرطان والضفدع ونحوهما. * وأما الجرادة فهي مأكولة، وهي مما لا دم لها: فلا يفسد الماء والأصل في أن ما يعيش في الماء لا يفسده موته فيه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه، والحل ميتة"، اقتضى ظاهره معنيين. أحدهما: إباحة أكله. والثاني: أنه لا ينجس ما مات فيه. وقد قامت الدلالة على حظر أكل ما عدا السمك مما يعيش في الماء وبقيت دلالة اللفظ في طهارة ما مات فيه. وأيضًا: الناس في حيوان الماء على قولين: منهم من يبيح أكله وإن مات فيه، ومنهم من يقول: لا يؤكل، ولا يفسد الماء، فقد حصل من اتفاق الجميع أن موته فيه لا

ينجسه. مسألة: [طهارة أسآر مأكول اللحم]. قال أبو جعفر: (وسؤر كل طائر مأكول لحمه طاهر غير مكروه، غير سؤر الدجاجة المخلاة، فإنه مكروه). قال أحمد: لا خلاف في أن ما أكل لحمه: فسؤره طاهر. * وكرهوا سؤر الدجاجة المخلاة، لأنها تخلط وتأكل الأنجاس، فلا يؤمن كون النجاسة على منقارها، وتلك النجاسة وإن لم تكن متيقنة، فالاحتياط فيها بترك سؤرها أولى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المستيقظ من نومه يغسل يديه ثلاثًا"، احتياطًا مما عسى أن يكون قد أصاب يده من موضع الاستنجاء. مسألة: [كراهة أسآر ما لا يؤكل لجمه]. قال أبو جعفر: (وسؤر كل طائر لا يؤكل لحمه: مكروه، كالبازي ونحوه). وذلك لأنه غير مأكول اللحم، لا لحرمته، إلا أنه لا يستطاع الامتناع عن سؤره، فصار كالهرة ونحوها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل

العلة الموجبة لطهارة سؤرها: أنها لا يستطاع الامتناع من سؤرها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات"، وقال: "إنها من ساكني البيوت". فمن حيث كانت هذه العلة موجودة فيه: لم ينجس سؤرها، ومن حيث كان محرم الكل، لا لحرمته: كره سؤره، كما كره سؤر الهرة. مسألة: [طهارة سؤر الدواب المأكول لحمها]. قال: (وسؤر الدواب المأكول لحمها: طاهر، كالشاة والبقر). وهذا ما لا يعلم فيه خلاف. [مسألة: حرمة سؤر الدواب المحرم أكلها] قال أبو جعفر: (وسؤر الدواب المحرم أكلها، وهي الخنازير والكلاب: حرام). قال أبو بكر أحمد: الأصل في نجاسة سؤر الكلب ما روى محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعًا"، وتطهير الأواني- في

الأصول- لا يجب إلا من النجاسات؛ لأنها لا عبادة عليها. فإن قيل: قد روى قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طهور إناء أحدكم إذا ولغت فيه الهرة أن يغسل مرة أو مرتين"، الشك من قرة بن خالد. قيل له: لو ثبت هذا الخبر من غير معارض: لزم ما قلت، إلا أنه قد وردت أخبار صحيحة في طهارة سؤر الهرة، لا يوازيها حديث قرة بن خالد، فكانت أولى منه. وعلى أنهما لو تساويا: سقطا، ووجب طلب الدلالة على حكم سؤر الهر من غيرهما، وأما خبر لزوم تطهير الإناء من سؤر الكلب، فلم يرد له معارض: فثبت حكمه.

فإن قيل: قد يلحق الواني حكم النجاسة من وجه العبادة، وإن لم تلاقها أجزاء النجاسة، بدلالة أن الفأرة إذا وقعت في إناء فيه شيء من المائعات: نجس من جهة الحكم بعد إخراج الفأرة، وإن لم تكن هناك عين قائمة من النجاسة، فما أنكرت: مثله في ولوغ الكلب. قيل له: إن المائع الذي في الإناء قد صار نجسًا من جهة الحكم، وقد لاقاه الإناء، فوجب تطهيره منه. فإن قيل: قد روى عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحياض بين مكة والمدينة تردها الكلاب والسباع؟ فقال: "لها ما أخذت، وما بقي فلنا طهور"، فهذا يعارض خبر ولوغ الكلب. قيل له: هذا في الحياض الكبيرة، ولا ينجس الكل عندنا، ويتوضأ من الجانب الآخر. وأيضًا: فلو تعارضا، كان خبر النهي أولى، لأن الأصل الإباحة، والحظر طارئ عليها لا محالة. * ومما يدل على نجاسة ولوغ الكلب: قوله صلى الله عليه وسلم:

"فأهرقه"، وهذا ينافي شربه، والوضوء به، فدل على نجاسته. ويدل على أن الذي لاقاه الكلب هو الماء دون الإناء، ثم أمر بغسل الإناء، فدل على نجاسة الماء الذي لاقاه الكلب بولوغه، لولا ذلك كان الإناء باقيًا على حالة الأولى. فصل: [يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثًا]. قال: فإن قيل: فهلا أوجبت غسل الإناء منه سبعًا، كما ورد به الخبر. قيل له: لما ثبت عندنا وعند من خالفنا في عدد الغسل، أن وجوب غسله من طريق النجاسة: كان الواجب أن يطهره ما يطهر سائر الأنجاس، ولو جاز أن يقال: إن العدد من جهة العبادة، لجاز مثله في الأصل، فيقال: إن الغسل عبادة، لا لنجاسة. ولما ثبت أن غسله من جهة لنجاسة التي حلته، ووجدنا النبي صلى الله عليه وسلم حد في غسل النجاسة التي ليست بمرئية ثلاثًا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم من منامه، فليغسل يديه ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده"، صار ذلك حدًا في كل نجاسة غير مرئية، وولوغ الكلب بهذه المنزلة، فاعتبرناه به، وجعلناه ما زاد على الثلاث: ندبًا، لا إيجابًا.

فإن قيل: كيف يجوز أن يكون بعض العدد ندبًا، وبعضه إيجابًا؟ قيل له: لا يمتنع ذلك؛ لقيام الدلالة عليه. وقد روي في حديث عبد الله بن المغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اغسلوه سبعًا، والثامنة بالتراب". ويدل على ذلك ما روى ابن المبارك وغيره عن عبد الله بن أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سئل عن ولوغ الكلب فأمر بغسله ثلاثًا، فلم يخل ذلك من أحد وجهين: إما أن يكون علم نسخ ما زاد على الثلاث، أو عقل من دلالة لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أنه على الندب، وهذا لمخالفنا ألزم، لأنه يزعم أن حمل الخبر على ما أفتى به الراوي واجب؛ لأنه أعلم بتأويله، لذا قال في حديث ابن عمر في خيار المتبايعين بالخيار: أن ابن عمر لما حمله على فرقة الأبدان، كما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم محمولًا عليه. فإن قيل: فاجعلوا أنتم تأويل ابن عمر قاضيًا على المعنى المراد بالفرقة المذكورة في الخبر.

قيل له: لا يجب ذلك في خبر ابن عمر رضي الله عنهما، ويجب في خبر أبي هريرة رضي الله عنه؛ لأن الفرقة المذكورة في خبر المتبايعين تحتمل وجهين، فلا يكون قول ابن عمر من طريق التأويل قاضيًا على المعنى المراد بها. والسبع المذكورة في خبر أبي هريرة لا تحتمل الثلاث، والثلاث تحتمل السبع، فعلمنا أنه لم يقل بالثلاث مع روايته السبع من طريق التأويل، إذ لا مدخل للتأويل فيه. وأيضًا: فقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الحسين بن إسحاق قال: حدثنا عبد الوهاب بن الضحاك قال: حدثنا إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكلب يلغ في الإناء أنه قل: "يغسل ثلاثًا، أو خمسًا، أو سبعًا". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الحسين بن إسحاق قال: حدثنا عبد الوهاب بن الضحاك قال: حدثنا ابن عياش عن هشام بن عروة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك.

فخيره في هذا الخبر بين الثلاث، وبين السبع، فدل على أن ما زاد من الثلاث ندب؛ لأنه لو كان واجبًا: لما خير في تركه. * ومما يدل على تناقض قول مخالفنا في العدد: أن إناءين لو كان في كل واحد منهما أقل من قلتين، فولغ فيهما كلب: أنهما نجسان، يجب غسلهما سبعًا، تعبدًا على مذهبه، فإن جمع بينهما: طهرا جميعًا، وسقط غسل الإناء الذي جمعا فيه: فلو كان اعتبار العدد عبادة لإزالة النجاسة، لما سقط ببلوغه قلتين. مسألة: [حكم أسآر الدواب: حكم لحومها] قال أبو جعفر: (وسؤر الدواب التي يكره أكلها: في حكم لحومها، وسؤر ما يؤكل لحمه منها: في حكم لحمه). قال أبو بكر: الأسآر عندهم على أربعة أنحاء: 1 - منها: طاهر لا يكره، كسؤر الإنسان وما يؤكل لحمه من الدواب. 2 - ومنها: طاهر يكره الوضوء به، كسور السنور والفأرة والحية وسباع الطير ونحوها، والدجاجة المخلاة، ونحوها. 3 - ومنها: نجس مقطوع بنجاسته، وهو سؤر الكلب والخنزير،

وسائر السباع التي يستطاع الامتناع من سؤرها في العادة. 4 - ومنها: سؤر مشكور فيه، لم يقطعوا فيه بطهارة ولا نجاسة، وهو سؤر الحمار والبغل. * فأما القسم الأول: وهو سؤر الإنسان وما يؤكل لمه من الدواب: فلا خلاف بين فقهاء الأمصار في طهارته. * وأما سؤر السنور ونحوها، فالأصل فيه: ما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: "إنها ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم والطوافات"، قالت: وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بفضلها. وحديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم والطوافات". وفي بعض الأخبار: "إنها من ساكني البيوت"، فصار ذلك أصلًا في طهارته.

* وأما وجه الكراهة: فحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يغسل الإناء من سؤر الهر مرة". فاستعملوا الخبرين، أحدهما في إثبات حكم الطهارة، والآخر في الكراهة. فإن قيل: لو كان الوضوء به مكروهًا، لما توضأ به النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يختار من الأعمال إلا أفضلها، وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بفضل سؤر الهرة. قيل له: هذا لو لم يعارضه حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الأمر بغسل الإناء منه: كان كما قلت، فأما مع ذلك: فلا. وعلى أنه يحتمل أن يكون فعله ذلك كان على وجه التعليم، فلم يكن مكروهًا على هذا الوجه، بل هو أفضل. كما روى أنه أخر المغرب حتى كان قبل غيبوبة الشفق، فلم يكن ذلك مكروهًا لوقوعه على وجه التعليم.

قال أبو بكر أحمد: وقال أبو يوسف: لا أكره الوضوء بسؤر الهرة. قال أحمد: وحديث أبي قتادة وعائشة أفادانا معنيين: أحدهما: طهارة سؤر الهرة. والثاني: بيان المعنى الذي هو من أجله كان طاهرًا، وهو أنه لا يستطاع الامتناع من سؤرها في العادة؛ لأن قوله: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات": يفيد ذلك. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها من ساكني البيوت"، فاعتبرنا ذلك في نظائرها من الفأرة والحية، وسائر ما لا يستطاع في العادة الامتناع من سؤره مما يسكن البيوت. فصل: [سؤر الكلب والخنزير وسائر السباع] * فأما سؤر الكلب: فقد تقدم منا القول في نجاسته. * وأما سؤر الخنزير وسائر السباع: فالوجه في نجاسة سؤرها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الماء يكون بفلاة من الأرض، وما ينوبه من الدواب والسباع فقال: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا". فلو لم يكن سؤر السباع نجسًا، لأخبرهم بطهارته، ولقال: وما عليكم

منه، وهو طاهر؛ لأن السائل كان جاهلًا بالحكم، فلما أجابه عن السبع، وما ذكره معها بما قال، دل على نجاسة سؤرها. فإن قيل: فأنتم لا تعتبرون القلتين، فكيف ساغ لكم الاحتجاج به. قيل له: قد بينا فيما تقدم وجه ذلك، وأن ذكره القلتين إخبار منه وإن كان قلتين فإنه يضعف عن حمل الخبث. وانه جائز أن يكون خرج على سؤال سائل سأل عن هذا القدر. وعلى أن أكثر أحواله أنه يفيد نجاسة سؤر السباع، واعتبار القلتين، وقد قامت الدلالة على سقوط اعتبارهما، فبقيت دلالة الخبر في نجاسة سؤر السباع، إذ لم تقم الدلالة على نسخه. فإن قيل: روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة، تردها السباع والكلاب، فقال "لها ما أخذت، وما بقي فهو لنا طهور". قيل له: فينبغي أن تدل على طهارة سؤر الكلب؛ لأنه قد جمعه إلى السباع. وعلى أنه يحتمل أن يكون من قبل تحريم أكلها، فكان سؤرها مباحًا، ثم حرم سؤرها بتحريم لحومها، كالكلاب. وأيضًا: فإن خبرنا حاظر، وهذا مبيح، والحظر والإباحة إذا اجتمعًا فالحظر أولى.

فإن قيل: روى عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: "أنتوضأ بما أفضلت الحمر، فقال: وبما أفضلت السباع". قيل له: يرويه داود بن الحصين عن جابر رضي الله عنه، وداود هذا ضعيف، وهو مرسل أيضًا؛ لن داود بن الحصين لم يلق جابرًا، ولا أدركه. فإن قيل: رواه إبراهيم بن أبي يحيى عن داود بن الحصين عن أبيه عن جابر رضي الله عنه. قيل له: أخطأ فيه من وصله عند أهل النقل، وينكرون روايته على راويه. ولو ثبت: كان وجهه ما بينا في كونه قبل تحريم لحومها.

فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم: "الماء طهور لا ينجسه شيء" يقتضي عمومه ما قلنا. قيل له: فينبغي أن لا ينجسه الكلب والخنزير. وعلى أنه خرج على سبب، وهو انه سئل عن فضل الوضوء، فأجاب بذلك، يعني أن الاغتراف منه لا ينجسه. وأيضًا: تحريم السباع يوجب تحريم لبنها، وإذا كان محرمًا، كان كلبن الكلب والخنزير، فوجب أن يكون لعابهما كلعابهما، لا تفاقهما في تحريم اللبن. * ووجه آخر: وهو أن لبنها إذا كان نجسًا، وهو رطوبة متولدة منها، كان لعابها كذلك؛ لأنه رطوبة متولدة منها. وأيضًا: لما كان الكلب محرم الأكل لا لحرمته، ويستطاع الامتناع من سؤره، وكان هذا المعنى موجودًا في سائر السباع، وجب أن تكون مثله، لمشاركتها إياه في العلة الموجبة لنجاسة سؤره. والدليل على صحة هذه العلة: اتفاقنا جميعًا على نجاسة سؤر الخنزير، وطهارة سؤر الإنسان والسنور، إذ كان تحريم لحم الإنسان، لحرمته، وكان الهر مما لا يستطاع الامتناع من سؤره. [السؤر المشكوك فيه] * وأما الحمار: فهو مشكوك فيه عندهم، لم يقطعوا فيه بطهارة ولا

نجاسة، وذلك أنه يشبه الهر، إذ هو من ساكني البيوت، ويشبه الكلب من حيث هو محرم الأكل، ويستطاع الامتناع من سؤره، فلما أخذ الشبه منهما جميعًا، احتاطوا فيه، فجمعوا له بين التيمم والوضوء في حال عدم الماء، وذلك أن فرض الطهارة لا يسقط بالشك، ولا يحصل اليقين بحصول الطهارة إلا بالجمع بينهما عند عدم الماء الطاهر. فإن قال قائل: يستحيل أن يكونا جميعًا من فرضه، إذ كل واحد منهما لا يثبت حكمه مع الآخر. قيل له: فرضه أحدهما، إلا أنه اشتبه علينا، أمرنا بالاحتياط، لا على أنهما جميعًا فرض في حال واحد، إنما الفرض أحدهما، إلا أنه لما أشكل علينا أمره: لم يسقط فرضه بالشك. وقد يجوز أن يلزم الإنسان في حال اشتباه الحكم من الفرض ما لا يلزمه لو كان الحكم معلومًا، مثل الشاك في الصلاة، قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد البناء على اليقين، وقال: "إن كانت قد تمت صلاته: فالركعة والسجدتان له نافلة". فأمره بفعل الركعة ليؤدي فرضه بيقين، ولولا الاشتباه لم يؤمر بها. وأمر قاذف الزوجة باللعان، ولو علمنا الصادق منهما لم يجب. ولو أن رجلًا طلق واحدة من نسائه بعينها، ثم نسيها: حيل بينه وبين نسائه حتى يتيقن، ولولا إشكال الأمر لم يحل بينه وبينهن. وكذلك إذا علم أن إحدى هؤلاء النسوة أخته من الرضاعة: لم يجز أن

ينكح منهن واحدة، فالتحريم إنما هو فرض لواحدة دون غيرها، فقد لزمه عند الإشكال فرض اجتنابهن جميعًا. وإذا كان عنده ثلاثة أوان، أحدهن نجس لا يعرفه بعينه: لم يجز له الإقدام على استعمال شيء منها إلا بعد التحري. ونظائر ذلك في الأصول أكثر من أن يحصى، وفيما ذكرنا كفاية وتنبيه على غيرها. مسألة: [لا يستعمل التحري في الأواني إلا في ثلاثة]. قال أب جعفر: (ومن كان معه في سفره إناءان أحدهما نجس يخلطهما ويتيمم، ولا يستعمل التحري إلا في ثلاثة أوان). قال أبو بكر: كان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه التحري في الإناءين أيضًا. والأصل في ذلك: أن الماء النجس لما لم تصح الطهارة به في حال. ثم استوى الطاهر والنجس، فلم يكن لأحدهما حكم الغلبة، لم يكن أحدهما بأولى من الآخر، فصار كالماء الذي خالطته النجاسة، فلم نصل إلى استعماله إلا باستعمال جزء من النجاسة، كذلك الإناءان. * وليس كذلك الثوبان إذا كان أحدهما نجسًا، فيتحرى ويصلى، وذلك لأن الثوب النجس قد تجوز فيه الصلاة بحال، وقد تجوز الصلاة أيضًا مع النجاسة اليسيرة في الثوب والبدن، ولا يجوز الوضوء بما فيه نجاسة يسيرة أو كبيرة.

فجاز التحري في الثوبين إذا لم يجد غيرهما؛ لأنه لو علم النجاسة خفيفة، ولم يكن معه غيره: صلى فيه، ولو علم نجاسة الماء: لم يجز استعماله بحال. فلما كان ذلك من حكم الماء النجس، ثم استوى هو والطاهر، لم يكن أحدهما بأولى بثبوت حكمه من الآخر، بل حكم النجس أولى؛ لأن اليسير من النجاسة يفسد الكثير من الماء. * والمسلوختان يجوز التحري فيهما إذا كانت إحداهما ميتة كالثوبين، وذلك إذا لم يجد غيرهما، فأما إذا وجد غيرهما: فلا، وكذا كان يقول أبو الحسن الكرخي رحمه الله. * وأما إذا كانت ثلاثة أوان، أحدها نجس: فإنه يجوز له التحري؛ لأن الطاهر قد حصل له الغلبة، وقد تعلق الحكم بالغالب في كثير من الأصول. ألا ترى أن من دخل دار الحرب يسعه استعراضهم بالقتل، وأن جميع من في دار الإسلام محظور الدم، وإن لم يخل من أن يكون فيهم مرتد أو ملحد يحل قتله، إلا أن الحكم كان للغالب، كذلك الأواني إذا صار للطاهر حكم الغلبة: جاز التحري فيها. فإن قيل: قال الله تعالى:} فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا {، وهذا واجد. قيل له: لو كان واجدًا لجاز له استعماله والإقدام عليه بغير تحر، فلما

لم يجز له قبل التحري الإقدام عليه، علمنا أنه غير واجد قبل التحري، فينبغي أن يثبت أولًا جواز التحري حتى يحصل الوجود للماء. وأيضًا: فإنا نأمره بالتيمم بعد خلطهما أو إراقتهما. فإن قيل: قد جاز التحري في القبلة مع غلبة جهات غير القبلة؛ لأن القبلة لها جهة واحدة، وسائر الجهات ليست لها. قيل له: لأن هذا مما تبيحه الضرورة. وأيضًا: يلزمه قياسًا عليه: جواز التحري في الثوب الواحد إذا أصاب طرفًا منه نجاسة، فيغسله دون سائره، وقد اتفق الجميع على سقوط التحري في ذلك. فإن قيل: لما كان أصل الماء الطهارة، وجب أن لا يزول حكمه بالاشتباه، كما أن الشاك في الحدث يعمل على أصل اليقين في طهارته. قيل له: فينبغي أن يقدم على استعمال أي الماءين شاء بغير تحر، كما يلغي الشك في الحدث، ويبني على يقين الطهارة، وهذا لا يقوله أحد. ويلزمه مثله أيضًا في الثوب الواحد إذا أصاب طرفًا منه نجاسة، واشتبه عليه موضعها. وأيضًا: فكما أن طهارة الماء تتعين في الأصل، كذلك وجود النجاسة تعين، وهي محظورة الاستعمال. وقد تكلمنا في هذه المسألة بأكثر من ذلك في "مسائل الخلاف". *****

باب الآنية وجلود الميتة سوى الخنازير

باب الآنية وجلود الميتة سوى الخنازير مسألة: [طهارة جلود الميتة بالدباغ] قال أبو جعفر: (وإذا دبغ الإهاب مما ذكرنا: فقد صار حلالاً، وجاز بيعه، والتوضؤ فيه، والصلاة عليه). قال أحمد: روى طهارة جلود الميتة بالدباغ ابن عباس، وعائشة، وأم سلمة، وميمونة، وسلمة بن المحبق رضي الله

عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ كلها تقتضي جميعًا طهارتها بالدباغ، وهي مشهورة، فلذلك تركنا ذكر أسانيدها. وفي حديث ميمونة رضي الله عنها: "إنما حرم أكلها"، وفي بعض ألفاظه: "إنما حرم لحمها". فإن قيل: في حديث عبد الله بن عكيم قال: كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب"، وذلك قبل موته بشهر. وروى محمد بن بكار عن عدي بن الفضل عن محمد بن عبد العزيز عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنتفعوا من الميتة بشيء".

قيل له: أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فغير معروف، ورواته مجهولون، فلا يعارض به أخبار من قدمنا ذكره. وأما حديث ابن عكيم رضي الله عنه، فلا يعترض به على ما روينا، فإن فيه: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب"، والمدبوغ لا يسمى إهابًا، إنما يسمى أديمًا، والإهاب قبل الدباغ، فلم يتناول المدبوغ، فلا دلالة على موضع الخلاف. وعلى أنا نجمع بينهما، فنستعملهما، فنقول: لا ينتفع من الميتة بإهاب، ولا عصب قبل الدباغ؛ لحديث ابن عكيم، وينتفع به بعد الدباغ؛ لأخبار الآخرين. فإن قيل: قال الله تعالى:} حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ {، وهو عام في الجلد وغيره.

قيل له: خصصنا منه الجلد المدبوغ بالسنة. وعلى أنه بعد الدباغ عندنا ليس بميتة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دباغها ذكاتها"، والمذكى ليس بميتة. وقد وافقنا الخصم على جواز الانتفاع بعد الدباغ، إلا أنه زعم لا يجعل فيه شيء مائع، ولا يصلي عليه، وفرق بينه وبين حاله قبل الدباغ. فقد ثبت أن الدباغ قد أخرجه من حكم الميتة، لولا ذلك لما جاز الانتفاع به بحال. * ومن جهة النظر: أنه لما خرج عن حد الأكل بالدباغ، صار كالخشبة والثوب ونحوه مما لا يحله حكم الموت. ويدل على اعتبار هذا المعنى: قول الله عز وجل: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ}، فحرم منها المأكول. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في شاة ميمونة رضي الله عنها:

"إنما حرم أكلها". * وليس جلد الخنزير، وجلد الإنسان كجلود سائر الحيوان؛ لأن هذين لا يلحقهما الذكاة بالذبح، وسائر الحيوان يلحقه الذكاة، والدباغ قائم مقام الذكاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "دباغها ذكاتها". فإن قيل: فينبغي أن لا يطهر جلد الكلب بالدباغ؛ لأن الذكاة لا تلحقه. قيل له: تلحقه الذكاة عندنا، لو ذبح: جاز الانتفاع بجلده، وكذلك إذا دبغ جلده بعد موته. مسألة: [لا يكره شيء من الآنية غير الذهب والفضة] قال أبو جعفر: (وكل إناءٍ غير الذهب والفضة فغير مكروه في شيء من ذلك). قال أبو بكر أحمد: أما الذهب والفضة فيكره استعمالهما للوضوء والأكل، والشرب. والأصل فيه: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن

الشرب في آنية الذهب والفضة"، وقال: "إن الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" والوضوء، والادهان فيه مكروه أيضًا، قياسًا على الشرب، لأن ذلك قد يفعل لإصلاح الجسم كالشرب. وكذا كان الأكل مكروهًا –وإن لم يذكر –قياسًا على الشرب. مسألة: [طهارة أجزاء الميتة التي لا دم فيها]. قال أبو جعفر: (وصوف الميتة، وعظامها، وشعرها، وعصبها كجلدها فيما ذكرنا). قال أبو بكر أحمد: الصوف والشعر والعظم طاهر لا يحتاج إلى دباغ. والعصب يحتاج إلى ذلك، فعسى أن يكون أراد بقوله: "كجلدها": في العصب، أو أن يكون أراد كجلدها بعد الدباغ. والأصل في ذلك أن الشعر والصوف والعظم ونحوها لا يلحقها حكم الموت؛ لأنها لا حياة فيها، والدليل عليه أن الحيوان لا يألم بأخذها منه. وأيضًا قال صلى الله عليه وسلم: "ما بان من البهيمة وهي حية، فهو ميتة"، وهذه الأشياء تبين منها وليست بميتة، فعلمنا أنها لا يلحقها

حكم الموت؛ لأنها لو لحقها لما كانت مذكاة إلا بذكاة الأصل، كسائر أعضائها. وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إسماعيل بن الفضل قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي قال: حدثنا يوسف بن الصقر قال: حدثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة قال: سمعت أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ، ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء". فإن قيل: لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في شاة ميمونة رضي الله عنها: "هلا انتفعتم بإهابها"، ولم يذكر فيه الشعر والصوف، دل على أنه لا يجوز الانتفاع بالشعر؛ لأنه لو جاز لنبههم عليه، كما علمهم التوصل إلى الانتفاع بالجلد بالدباغ.

قيل له: أمره إياهم بالانتفاع بالإهاب بعد الدباغ: أمر بالانتفاع به على جثته إذا كان عليها شعر أو وصوف؛ لأنه لو لم يجز ذلك لقال لهم: احلقوا شعرها، ثم انتفعوا بها. وقد بينا هذه المسألة في مواضع، فأغنى عن إعادته. *****

باب السواك وسنة الوضوء

باب السواك وسنة الوضوء [مسألة: السواك سنة يؤمر به تأديباَ لا حتمًا] قال أبو جعفر: (والسواك سنة). قال أبو بكر: وذلك لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل طهور". وروى رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"السواك واجب على كل مسلم"، وهذا معناه وجوب تأديب، لا

حتم، كما قال:"غسل الجمعة واجب علي كل محتلم، وأن يمس من طيب أهله". والدليل عليه: قوله صلى الله عليه وسلم:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك"، وفي بعض الألفاظ:"لفرضت عليهم السواك". فدل أنه غير واجب، ولا مأمور به َمر حتم. مسألة: [عدم اشتراط النية للطهارة بالماء، بخلاف التيمم] قال أبو جعفر: (والطهارة بالماء من الأحداث كلها بلا نية جائزة). قال أبو بكر: والحجة في ذلك قول الله عز وجل: {إِذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيدَيكم إلى المَرافق}، واسم الغسل لا ينطوي علي النية، وهو فرض مستغن عن البيان، وفي إيجاب النية فيه:

زيادة في النص، والزيادة في حكم النص يوجب النسخ؛ لأن الآية تقتضي أن يكون غسل هذه الأعضاء طهارة صحيحة تامة يصح أداء الصلاة بها، ومتى شرطنا فيها النية: منعنا ما أباحته الآية، وهذا هو النسخ. فإن قيل: قال الله تعالى: {وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة}، واتفق المسلمون على أن من شرط صحتهما: النية، ولم يوجب ذلك نسخها، وإن كان فيه زيادة في حكمها. قيل له: إن لفظ الصلاة والزكاة مجمل مفتقر إلى البيان، فمهما ورد فيهما من حكم: فهو مراد باللفظ، إذ كان حكمهما غير لازم بنفس ورود اللفظ بهما إلا بعد ورود البيان. وأما فرض الوضوء فهو مفسر غير مفتقر إلى البيان، فما ورد فيه من زيادة: فهو نسخ لما أوجبه اللفظ. فإن قيل: قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم

إلى المرافق}: يقتضي أن يكون الاغتسال لها: إذا أرادها، كما تقول: إذا أردت الحج: فأحرم، وإذا أردت الصوم: فانو: يعني له، وإذا كان هذا مقتضى اللفظ، فقد تضمن إيجاب النية. قيل له: ليس شرط وقوع الوضوء للصلاة أن ينويه لها، ألا ترى أنه يصح أن يقال: إذا أردت أن تصلي فطهر بدنك وثوبك من النجاسة واستر عورتك، ولم يقتض اللفظ إيجاب النية للصلاة، كذلك الوضوء وكما يقال: إذا أردت الخروج فالبس ثيابك، و: إذا سافرت فاركب الدابة، ولا يقتضي شيء من ذلك إيجاب النية. وعلى أنه لا خلاف أنه لا يحتاج أن ينويه للصلاة أو القيام إليها، وإنما قال مخالفنا: ينوي به إزالة الحدث. فإن قيل: هذا كقولك: إذا سرق فاقطعه، و: إذا زنى فاجلده: يريد إيقاعه له. قيل له: لم يقتض وقوعه له من جهة اللفظ، لكن من جهة أنه لما خرج مخرج المجازاة، علم أن شرطه أن يقع له، وليس الوضوء جزءًا للصلاة فيقع لها، ألا ترى أن الوضوء يصح ولا صلاة واجبة، ولا يصح القطع للسرقة والجلد للزنى ولما يوجد الزنى ولا السرقة. *دليل آخر: وهو قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}.

ومعناه مطهراَ، فاقتضى ذلك كونه مطهرًا مع عدم النية ووجودها، ولو لم نجعلة مطهرًا إلا بانضمام النية إليه، كنا قد سلبنا الحكم الذي جعله الله له، ووصفه به، وهذا خلاف ظاهر الكتاب. وكذلك قوله: {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به}، ومخالفنا يزعم أنه يوجد ولا يطهر به، وإنما يطهر به وبالنية. فإن قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم:"جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، ولم يوجب ذلك جواز التيمم بغير نية. قيل له: إنما قاله على جهه التشبيه والمجاز، لا على جهه الحقيقة؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث على الحقيقة، ومتى وجد المتيمم الماء لزمته الطهارة للحدث المتقدم، ولا يزول حكم النجاسة بالتراب، فعلمنا أن التراب إنما أطلق عليه اسم الطهور مجازًا لا حقيقة. *ودليل آخر: وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أما أنا فأفيض الماء على رأسي وسائر بدني ثلاثًا، فإذا أنا قد تطهرت".

وقوله لأم سلمة رضي الله عنها:"إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، فإذا أنت قد طهرت". وعلم الأعرابي الوضوء، ولم يذكر فيه نية، وظاهره يقتضي جوازه بغير نية. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة ثم قال:"هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به"، فأشار إلى الفعل، وحكم بجواز الصلاة به بغير نية له. فإن قيل: الأفعال إنما تصير طاعات بالنية، وعدم النية في الوضوء يخرجه من أن يكون طاعة، وما ليس بطاعة، فهو من أن يكون فرضًا أبعد، والوضوء لا محالة فرض، فإذًا شرطه وجود النية فيه. قيل له: هذا الذي ذكرت إنما هو شرط الطاعات المقصودة بأنفسها، فأما ما لم يؤمر به لعينه، فليس كذلك حكمه، والوضوء من هذا القسم، وذلك لأنه إنما قيل لنا: لا تصلوا إلا بعد غسل هذه الأعضاء، كما قيل لنا: لا تصلوا إلا بعد غسل النجاسة من أبدانكم وثيابكم، ولا تصلوا إلا

بعد ستر العورة، فليس يقتضي شيء من ذلك كون النية شرطًاَ فيه. ويقال لهذا القائل: خبرنا عن نية الفرض، هي فرض أم ليست بفرض؟. فإن قال: ليست بفرض. قيل له: فيحتاج في صحة وقوعها إلى نية أخرى. فإن قال: نعم، ألزم لكل نية نية، إلى ما لا نهاية. وهذا خلف من القول. فإن قال: لا تحتاج النية في صحة وقوعها إلى نية أخرى. قيل له: فقد بطلت قاعدتك في أن شرط الفرض أو الطاعة وجود النية معها. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الأعمال بالنيات"، فإذا لم تكن له نية، فلا عمل. قيل له: لا يصح الاحتجاج به؛ لأنه معلوم أنه لم يرد به حقيقة اللفظ؛ لأن صحة وجود العمل غير موقوفة على النية، فإذا المراد معنى غير العمل، جعل العمل عبارة عنه، وما كان هذا سلبيه، فهو مجاز، والمجاز لا يستعمل إلا في موضع يقوم الدليل عليه. وأيضاَ: فإنه لما كان هناك ضمير احتمل أن يكون المراد به جواز العمل، واحتمل أن يراد به فضيلة العمل: بطل أن يكون عمومًا أو

خصوصًا، إذ ليس بملفوظ به، والعموم والخصوص إنما يتبعان في الألفاظ. وأيضا: فيه إثبات الأعمال بالنيات، وليس فيه نفي العمل مع عدم النية، كما يقال: الرجل بعقله، والرجل بعلمه، ليس فيه أنه لا رجل إلا بالعقل، ولا رجل إلا بالعلم، وإنما معناه: أن فضيلتهما بالعقل والعلم. ويدل على أن المراد ذلك: قوله في سياق اللفظ:"فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوج بها، فهجرته على ما هاجر إليه". وقد قال مخالفنا: إنه إذا نواه للتطوع: أجزأه أن يؤدي به الفرض، فلم يعتبر بنيته للتطوع، وقال في الحج: إذا نوى تطوعًا: أجزأه عن الفرض أيضًا. فإن قيل: قد اتفقنا على إيجاب النية في التيمم، مع عدمها في اللفظ، فكذلك في الوضوء؛ لأنهما طهارتان. وهو يعترض أيضًا على احتجاجكم بالآية، وامتناع جواز الزيادة فيها إلا على وجه النسخ. قيل له: لا يعترض على ما ذكرنا، لأن التيمم هو القصد في اللغة،

قال الله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون}، يعني لا تقصدوا. وقال الشاعر: وإن تك خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدا على عين تيممت مالكا يعني قصدته. وإنما أوجبنا فيه النية؛ لأن اللفظ يقتضيها. فإن قيل: إنما أمر بالقصد إلى التراب، وليس في قصده إلى التراب ما يوجب نية التيمم للطهارة. قيل له: قد اقتضت الآية إيجاب نية، وقد اتفق الجميع على أن قصده إلى التراب من غير نية التيمم غير واجب، فوجب أن تكون النية المذكورة في الآية هي نية الطهارة. وأيضا: فمعلوم أنه لم يرد القصد إلى الفعل فحسب من غير أن يراد به الطهارة؛ لأن فعل الذاكر لا يقع إلا بقصد، فعلم أنه لم يرد القصد الذي تتعلق به صحة وقوع الفعل على وجوده؛ لأنه لو أريد ذلك صار كأنه قال: لا يتيمم ناسيًا أو ساهيًا أو نائمًا، أو ما جرى مجرى الأفعال الواقعة من غير قصد، فلما بطل ذلك، علم أنه أراد النية للطهارة. فهذا سؤال ساقط عنا على ما قدمنا من دلائل الآي والسنن.

*وأما قوله: إنه يجب أن يكون في حكمه، لأنهما طهارتان: فمنتقض، لأن غسل النجاسة من الأبدان والثياب طهارة، وليس شرطه وجود النية، ومن الفصل بينهما أن النية تدخل لتمييز الأفعال المتفقة، أو لاختلاف أحكام الأفعال، فلما كان الوضوء من جميع الأحداث وضوء واحدًا، لا يختلف فعله في نفسه، ولا حكمه فيما وقع له، لم يفتقر في صحته إلى نية، كغسل النجاسة. *ولما كان التيمم قد يتفق فعله ويختلف حكمه، بأن يقع تارة عن الجنابة، وتراة عن الحدث، وهو في الحالين بصورة واحدة، احتيج فيه إلى نية للتمييز بينهما، لاختلاف حكمه. وأيضًا: الماء طهور بنفسه، فلا يحتاج إلى انضمام النية إليه في تطهيره، والتراب في نفسه ليس بطهور، فاحتاج إلى انضمام النية إليه في كونه طهورًا. وأيضًا: لما اتفقنا على سقوط النية في غسل النجاسة، وستر العورة، وجب أن يكون الوضوء مثلهما، والعلة الجامعة بينهما: أن كل واحد منهما سبب من أسباب الصلاة لا على وجه البدل، ولا يلزم عليه التيمم؛ لأنه بدل. فإن قيل: لما جاز وقوع الطهارة تارة تطوعًا، وتارة فرضًا، احتيج فيه إلى نية التمييز. قيل له: وقد يقع غسل النجاسة تارة نفلًا، وتارة فرضًا، ولا يحتاج إلى نية، فهذا منتقض.

وأيضا: فإنه لا يصح عندنا وقوعه تطوعا في حال الحدث، ولا يقع إلا فرضا. وعلى أن هذه النية التي ذكرت إنما هي نية التمييز، فليست نية الطهارة في الأصل. فإن قيل: قال الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}. قيل له: هو مخلص من حيث اعتقد الإيمان، لأن ضد الإخلاص الإشراك، ومن اعتقد الإيمان فهو مخلص في سائر شرائعه، وليس الإخلاص من النية في شيء؛ لأنه لو كان كذلك، للزم أن يكون كل من لم ينو، فهو مشرك. وأيضا: قال الله عز وجل: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}. فأخبر أن الذي أمر بالإخلاص فيه هو ما ذكره، والوضوء ليس بمفروض في نفسه، فغير ممتنع أن لا يطلق عليه اسم الدين. مسألة: [يصلي المتطهر بطهوره ما شاء] قال أبو جعفر: (وللمتطهر أن يصلي بطهوره ما لم يحدث ما شاء من الفرائض والنوافل).

وذلك لما روى علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد". ولأن الله تعالى قال: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم}، فإذا فعله فقد أدى موجب اللفظ، والتكرار غير مذكور في اللفظ: فلم نوجبه، لأن قوله: {إذا}: لا يقتضي التكرار، ألا ترى أنه لو قال لامرأته: إذا دخلت الدار فأنت طالق، فدخلتها مرة: طلقت، فإن دخلتها مرة أخرى: لم تطلق. فإن قيل: فكل أحد لم يتوضأ بالآية إلا مرة واحدة، والمرة الثانية توضأ بغير الآية. قيل له: المرة الثانية إنما دخلت في الحكم من جهة المعنى، لا من جهة اللفظ؛ لأن اللفظ لم يتناوله إلا مرة. [مسألة: الأفضل غسل أعضاء الوضوء ثلاث إلا الرأس فواحدة] قال أبو جعفر: (والوضوء ثلاثا أفضل، والمرتين دون ذلك في الفضل، والمرة الواحدة دون ذلك في الفضل، وكله جائز). قال أبو بكر أحمد: ولم يبين مسح الرأس، وهو عند أصحابنا مرة واحدة، إلا شيء يرويه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: يمسح

الرأس ثلاثا، وهو شيء غير مشهور. *فأما وجه قوله: "إن الثلاث أفضل"؛ فلما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرة مرة، وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به"، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: "من توضأ مرتين ضاعف الله له الأجر مرتين"، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي". فاخبر أن الثلاث أفضل، وأن المرتين دونها، وأن الواحدة دونهما. * وأما مسح الرأس فإنه مرة واحدة عندنا، وذلك لما روي عن علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وابن عباس والربيع بنت

معوذ رضي الله عنهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا، ومسح برأسه مرة واحدة". وقال ابن عباس: "مسحة واحدة". فإن قيل: قد روي عن علي وعثمان رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه ثلاثا". قيل له: ليس فيه بيان موضع الخلاف بيننا وبينكم؛ لأنا نقول: إنه مسح ثلاثا، كما روت الربيع بنت معوذ "أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه مرتين بماء واحد، أقبل بهما وأدبر"، وإنما الخلاف في

تجديد الماء لكل مسحة. وليس في قوله: "مسح ثلاثا": إيجاب لتجديد الماء لكل مرة؛ لأن لفظ المسح لا يقتضي ماء ممسوحا به؛ لأنه يقال: مسح برأس اليتيم، و: مسح وجهه: وإن لم يكن فيه ماء. فإن قيل: لو جاز أن يقال ذلك في المسح، جاز أن يقال مثله في الغسل. قيل له: ليس كذلك، لأن الغسل لا يكون بغير ماء؛ لأنه لو مسح يده على الموضع، ودلكه: لم يكن غاسلا حتى يجري عليه الماء، فلفظ الغسل لكل مرة: يقتضي تجديد الماء لها، ولفظ المسح: لا يقتضيه، فإذا قد حصلت أخبارنا ثابتة لا معارض لها. وأيضا: لو كان عدد الثلاث مسنونا في المسح، لورد النقل به متواترا كوروده في الغسل؛ لأن الحاجة إلى معرفة مسنون المسح كهي إلى معرفة مسنون الغسل

فإن قيل: ولو كان المسنون مرة لورد النقل به متواترا. قيل له: قد ورد نقل الواحدة من طريق التواتر، لأنهم لا يختلفون فيه * وأيضا من جهة النظر: إن سائر الممسوحات في الأصول مرة واحدة، منها المسح على الخفين، والمسح في التيمم، فلما كان ذلك مسحا: وجب أن يكون معطوفا على نظائره في الأصول، بعلة أنه مسح. وأيضا: لو كان المسح ثلاثا، لصار في معنى الغسل، وقد فرق الله بين المسح والغسل، فلا يجوز أن يلحق به؛ لأنه يؤدي إلى إبطال فائدته. وأيضا: لما كان المسح في نفسه أخف من الغسل في الفعل؛ لأنه لا يستوعب الجميع، ولا يبلغ أصول الشعر: وجب أن يكون أخف منه في العدد، إذ كان موضوعه التخفيف. [مسألة: القدر المفروض مسحه من الرأس] قال أبو جعفر: (ومسح مقدار الناصية من الرأس جائز). قال أبو بكر أحمد: قد روي عن أبي حنيفة أنه قدر فيه ربع الرأس وقال في "الأصل": مقدار ثلاث أصابع، فالكلام في هذه المسألة من وجهين:

أحدهما: جواز مسح بعض الرأس، والآخر في المقدار المفروض منه. * فالدليل على جواز مسح بعضه: قول الله تعالى: {وامسحوا برءوسكم}، والباء للتبعيض، إلا أن تقوم الدلالة على أنها دخلت صلة للكلام؛ وذلك لأن هذه الأدوات تدخل في الكلام للفوائد، ولا يجوز أن نجعلها للإلغاء إلا بدلالة. وأيضا: روي عن ابن عباس والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته"، وفي بعض الألفاظ: "مسح على ناصيته". وقال أنس رضي الله عنه: "مسح النبي صلى الله عليه وسلم مقدم رأسه"، فدل أن المفروض منه هذا القدر. * ويدل على ذلك: أن المسح موضوع على التخفيف، بدلالة أنه لا يبلغ بالماء أصول الشعر، فدل على أنه لا يوجب الاستيعاب؛ لأنه لو كان

كذلك، كان كالغسل في لزوم إبلاغ الماء أصول الشعر. وأيضا: لما كان المسح على الخفين على البعض، كان كذلك مسح الرأس، والمعنى فيه أنه مسح بالماء. فإن قالوا: التيمم يستوعب الكل، وهو مسح. قيل لهم: لا يلزمنا؛ لأنا قلنا: مسح بالماء. وأيضا: هو بالمسح على الخفين أشبه منه بالتيمم؛ لأنه يسقط عن عدم الماء، كما يسقط المسح على الخفين. * وما ذكرنا من حديث ابن عباس والمغيرة وأنس رضي الله عنهم يوجب أن يكون المفروض في المسح قدر الناصية. والدليل عليه أن قوله: {وامسحوا برءوسكم}، لما أوجب التبعيض على ما قدمنا، وكان ذلك البعض غير معلوم الحكم من الآية، افتقر اللفظ إلى البيان، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد على وجه البيان، فهو على الإيجاب عندنا، فوجب أن يكون مسح النبي صلى الله عليه وسلم لمقدار الناصية بيانا للمفروض بيانا للمفروض من مقدار المسح. فإن قيل: فينبغي أن يكون موضع الفرض هو الناصية دون غيرها لورود البيان فيها. قيل له: كذلك يقتضي ظاهر فعله، إلا أن الدلالة قد قامت على أن

الفرض غير متعين فيها، دون غيرها، ولم تقم الدلالة على سقوط اعتبار المقدار، فبقي حكمه على حسب ما اقتضاه فعله. وأيضا: لما وجب تقدير المفروض من الوضوء، وجب الرجوع فيه إلى مقدار يثبت حكمه في الأصول، أو في العادة، فلما لم نجد للربع حكما في أصول متفق عليه، ووجدنا له حكما في العادة، فيقام مقام الكل في رؤية الشخص؛ لأن قول القائل: رأيت شخصا: يقتضي أن يكون الذي رأى منه الربع، وصح مع ذلك إطلاقه لرؤية الشخص: ثبت للربع حكم في العادة. ولم نجد لتقدير ثلاث شعرات الذي يعتبره مخالفنا أصلا في الشرع، ولا في العادة، فسقط. مسألة [حد الوجه في الوضوء] قال أبو جعفر: (والبياض الذي بين العذار وبين الأذن من الوجه). قال أبو بكر أحمد: وذلك لأنه قد كان من الوجه قبل نبات الشعر، فلا يسقط حكمه بنبات الشعر في غيره، وكان شيخنا أبو الحسن الكرجي يحكي عن أبي سعيد البردعي رحمه الله في حد الوجه: أنه من القصاص

الشعر إلى أصل الذقن, إلى شحمة الأذن. * قال: (والأذنان من الرأس). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح برأسه وأذنيه. وقال: "الأذنان من الرأس". رواه ابن عباس, وغيره رضي الله عنهم. وروى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الأذنان من الرأس ما أقبل منهما وما أدبر". وهو قول عبد الله بن مسعود, وابن عمر, وأنس, وفي آخرين من

الصحابة رضي الله عنهم. وليس يخلو قوله عليه الصلاة والسلام ذلك من أن يكون المراد به تعريف موضع الأذنين, أو تعريف حكمهما في المسح مع الرأس, فلما انتفى الوجه الأول, لخلوه من الفائدة: صح الثاني. فإن قيل: معناه أنهما يمسحان كما يمسح الرأس, ولا دلالة فيه على أنهما يمسحان معه. قيل له: لا يصح أن يقال: هما من الرأس من أجل أنهما يمسحان كالرأس, لأنه لو كان كذلك كان أن يقال: الرجلان من الوجه, لأنهما يغسلان كما يغسل الوجه, فلما بطل هذا: علمنا أنه أراد أنهما تابعتان للرأس في المسح, فلذلك قال: هما "من الرأس", لأن "من": للتبعيض, فكأنه جعلهما بعض الرأس في الحكم. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في سجوده: سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره", فدل أن السمع من الوجه. قيل له: إنما أراد بالوجه نفسه وذاته, لا العضو, كقوله تعالى: {كل

شيء هالك إلا وجهه}: يعني ذاته, ولأن السجود ليس للعضو, وإنما هو لجملة الإنسان, فكذلك سمعه وبصره. وأيضًا: فقد قال الشاعر: إلى هامة قد وقر الضرب سمعها ... وليست كأخرى سمعها لم يوقر فأضاف السمع إلى الهامة, فهذا يوجب أن يكونا من الرأس. فإن قيل: فجوز المسح عليهما دون الرأس إذ كانا من الرأس. قيل له: لأنهما دخلا في حكم الرأس على وجه التبع, ولا يجوز أن يقوم الأتباع مقام الأصل. فإن قيل: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ لهما ماء جديدًا. قيل له: لو صح: لورد به النقل متواترًا كوروده في سائر الأعضاء

وأيضًا: لو كانتا من الوجه: لوجب غسلهما معه, ولما جاز تركه, لأن الغسل يوجب استيعاب العضو, وفي جواز مسحهما أو تركهما دلالة على أنهما ليستا من الوجه, وأنهما من الرأس؛ لأن مسح الرأس موضوعه التخفيف, فلذلك جاز تركهما ومسحهما جميعًا. مسألة [فرضية غسل المرفقين والكعبين في الوضوء] قال أبو جعفر: (وعلى المتوضئ غسل مرفقيه وكعبيه في الوضوء). قال أبو بكر: وذلك لأن قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم}: اقتضى ظاهر لفظه غسلهما إلى المنكب لولا ذكر الغاية, لأن اليد اسم للعضو إلى المنكب. وكذلك الرجل اسم للعضو إلى الفخذ, فلما ذكر الغاية: كانت لإسقاط ما عداها, وبقى حكم اللفظ في المرفق والكعبين, فدخلا فيه. وأيضًا: فلما كانت الغاية مشكوكًا فيها؛ لأنها قد تدخل في الحكم

تارة, ولا تدخل أخرى. قال الله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} , وهو غير داخل فيه. ولو قال رجل لآخر: والله لا كلمتك إلى أن تدخل الدار: كان الدخول داخلًا في اليمين, والكلام بعده, وذلك متعارف في العادة. ولأن: "إلى" في هذا الموضع غاية, وبمنزلة: "حتى", فيقتضي ظاهره دخول فيه, كقوله تعالى: {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}: عقل به إباحة الصلاة بعد الغسل. فلما كان كذلك, ولم يكن في ظاهر اللفظ دلالة على دخولها, ولا على خروجها, ثم كان الحديث يقينًا: لم يرفعه بالشك, ولا يحصل اليقين إلا بغسل المرفقين والكعبين. وأيضًا: لما كان حكم الغاية على ما وصفنا, كانت بمنزلة اللفظ المجمل المفتقر إلى البيان. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الحسن بن العباس الرازي قال: حدثنا سهل بن عثمان قال: حدثنا العقيلي عن ابن عقيل عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلنا: أرنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتوضأ ثلاثًا ثلاثًا, ومسح رأسه مرة, فرأيت الماء في أصول الشعر, وكان إذا بلغ المرفقين أدار الماء عليهما.

فكان فعله صلى الله عليه وسلم واردًا مورد البيان, وفعله صلى الله عليه وسلم إذا ورد على وجه البيان: فهو عندنا على وجوب. [مسألة: فرضية غسل الرجلين في الوضوء] وأما فرض الرجلين: فهو الغسل في حال ظهورهما, وذلك لأن قوله عز وجل: {وأرجلكم}: لما قرئ على وجهين: بالنصب, والخفض, وكل واحد من الوجهين يحتمل أن يكون راجعًا إلى الممسوح, وإلى المغسول, صار كاللفظ المجمل المفتقر إلى البيان, وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد على وجه البيان: فهو على الوجوب. ولم يثبت عنه البيان إلا بالغسل, فكان على الوجوب, فدل على أنه هو المراد بالآية. *ومن جهة أخرى: هي أنه إذا احتمل الوجهين على بينا, صار كالآيتين, في إحداهما مسح, وفي الأخرى غسل، فالواجب علينا استعمالهما باستيعاب حكمهما, وذلك لا يكون إلا بالغسل, لأن المسح يدخل فيه، والغسل لا يدخل في المسح. فإن قيل: هلا جعلته على التخيير؟ قيل له: لا يجوز إثبات التخيير إلا مع وجود لفظ التخيير, وأما ظاهر هذا اللفظ فيقتضي الإيجاب

وأيضا: لما كان قوله: {وأرجلكم إلى الكعبين} محتملا للوجهين، وكان الحديث يقينا: لم يزل إلا بيقين، وهو الغسل. وأيضا: لما قال: {وأرجلكم إلى الكعبين}: دل التحديد على معنيين: أحدهما: الاستيعاب. والآخر: الغسل، كقول: {وأيديكم إلى المرافق}: أوجب الاستيعاب والغسل جميعا. وأيضا: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى قوما تلوح أعقابهم لم يصبها الماء، فقال: "ويل للعراقيب من النار". وأمر رجلا قد بقي من رجله موضع ظفر لم يصبه الماء، فقال: "ارجع فأحسن وضوءك". وأيضا: الحاجة إلى معرفة فرض طهارة الرجلين عامة، فلو كان المسح ثابتا، لورد النقل به متواترا، فلما لم يرد: علمنا أنه غير ثابت.

فإن قيل: روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه وقدميه". قيل له: هو على ما بينه علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين توضأ، ومسح على نعليه وقدميه، وقال: "هذا وضوء من لم يحدث". * ولاستعمال القراءتين وجه آخر: وهو أنه لما احتمل المسح والغسل، استعملناهما في حالتين: المسح في حال لبس الخفين، إذ جائز أن يقال لمن مسح على خفيه: أنه مسح على قدميه، كما يقال: ضرب رأسه وإن كان عليه عمامة. والغسل في حال ظهور الرجلين، حتى نكون مستعملين للقراءتين جميعا. وقد استقصينا هذه المسألة في "مسائل الخلاف". مسألة: [عدم وجوب الموالاة ولا الترتيب في الوضوء] قال أبو جعفر: (ومن والى وضوءه، أو فرقه، أو قدم شيئا على شيء: لم يضره). قال أبو بكر: أما جواز التفريق؛ فلأنه مطابق للفظ الآية، إذ ليس فيها إيجاب المتابعة.

وأيضا: روي عن عمر وأنس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا، وقد توضأ وترك على قدميه مثل موضع الظفر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجع فأحسن وضوءك". وروي أنه رأى قوما تلوح أعقابهم لم يصبها الماء، فقال: "ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء". وهذا يدل على جواز التفريق، لأنه أمر بإتمامه، ولم يأمر باستئنافه. فصل: وأما وجه جواز ترك الترتيب فيه؛ فلقوله عز وجل: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} الآية، والذي في الآية: الغسل دون الترتيب؛ لأن الواو لا توجب الترتيب في اللغة. قاله ثعلب,

والمبرد جميعا. قالا: لأنك إذا قلت: رأيت زيدا وعمرا: فجائز أن تكون رأيتهما معا، أو عمرا قبل زيد، فليس في الواو زيادة في النص، والزيادة في النص توجب نسخه؛ لأنك تحظر بها ما أباحته الآية. فإن قيل: لو كانت الزيادة في النص توجب النسخ، لوجب أن يكون زيادة فروض أخر غير الأول توجب النسخ؛ لأن الفرض المتقرر علينا نعتقد فيه أن لا فرض غيره، فإذا ورد فرض آخر زال الاعتقاد الأول؛ لأنا نحتاج أن نعتقد أن الفرض هو وغيره. قيل له: لا يجب ذلك؛ لأن العلة الموجبة لكون الزيادة في المنصوص نسخا، ليست ما ذكرت، وإنما هي أن ورود الفرض المفسر يوجب علينا الحكم بجوازه وكماله، فإذا وردت زيادة: لم يقع الأول موقع الجواز، وكان وجوده وعدمه سواء حتى تفعل الزيادة معه، فمن أجل ذلك صارت الزيادة نسخا. وأما ورود فرض آخر غير متعلق بالأول، فليس فيه ما يغير حكم الأول، ويبين ذلك أن الزيادة مع الأصل لو وردا: كان الإخلال بالزيادة

يسلب الأول حكمه، حتى يصير وجوده وعدمه بمنزلة سواء حتى تفعل الزيادة. وأما الفرضان فلو وردا معا، لم يكن الإخلال بأحدهما مؤثرا في الآخر، ألا ترى أن ترك الصلاة لا يؤثر في فعل الصوم، وكذلك ترك الصوم لا يؤثر في صحة فعل الزكاة. وترك الترتيب في الوضوء عند مخالفنا يؤثر في حكم الغسل، حتى يجعله كلا غسل، وكذلك ترك النية فيه، وكذلك عتق الرقبة الكافرة في الظهار لو شرطنا فيها الإيمان، كان عدمه مانعا من ثبوت حكمها كفارة. فهذا هو حد الزيادة الموجبة للنسخ إذا وردت بعد الفرض، وليس هذا موضع الكلام في هذه المسألة، إلا أنه لما عرض منها ما وصفنا أحببنا أن لا نخليها من جملة تدل عليها. فإن قيل: ما ينكر على من سلم لكم أن الواو لا يقتضي الترتيب إلا أن الآية توجبه من حيث كانت الفاء للتعقيب، ولا خلاف بين أهل اللغة فيه، فلما قال الله تعالى:} إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم {لزم أن يكون الذي على حال القيام: غسل الوجه؛ لأنه معطوف عليه بالفاء، فلزم تقديم غسله على سائر الأعضاء، وإذا لزم الترتيب في غسل

الوجه: لزم في سائر الأعضاء؛ لأن أحدا لم يفرق بينهما. قيل له: الجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن قوله:} إذا قمتم إلى الصلاة {متفق على أنه ليس المراد به حقيقة اللفظ؛ لأن الحقيقة تقتضي إيجاب الوضوء بعد القيام إلى الصلاة؛ لأنه جعله شرطا فيه، ومعلوم أن شرط صحة القيام إلى الصلاة تقديم الطهارة عليه، فثبت أنه ذكر القيام، والمراد به غيره، وأن فيه ضميرا غير مذكور في اللفظ؛ والحكم متعلق به، وما كان هذا سبيله من الألفاظ: لم يصح استعماله إلا بقيام الدليل عليه؛ لأنه مجاز، والمجاز لا يجوز اعتباره إلا بانضمام الدلالة إليه. فإذا لا يصح اعتبار غسل الوجه مرتبا على المذكور في الآية، لأجل إدخال الفاء عليها، إذ كان المعنى الذي ترتب عليه الغسل، فيحتاج إلى دلالة في إثباته، فهذا وجه يسقط به سؤال السائل. الثاني: وإن سلمنا لهم جواز اعتبار اللفظ فيما يقتضيه من الترتيب، فقلنا لهم: إذا ثبت أن الواو لا توجب الترتيب، صار تقدير الآية: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا هذه الأعضاء، فيصير الجميع مرتبا على القيام، لا غسل الوجه دون سائرها إذا كانت الواو للجمع، فكأنه عطف الأعضاء كلها مجموعة بالفاء على حال القيام، فلا دلالة فيه على الترتيب، بل يقتضي إسقاط الترتيب.

* ودليل آخر: وهو أنا وجميع فقهاء الأمصار متفقون على أن قوله} وأرجلكم {: معطوف على المغسول في المعنى، وأنه غير معطوف على الرأس في المعنى، وإن كان يليه، لأنه لو كان كذلك، لكانت ممسوحة كالرأس، فثبت بما وصفنا أن الرجل معطوفة على الوجه واليدين، مقدمة على الرأس في المعنى وإن كانت مؤخرة عنه في اللفظ. *ودليل آخر: وهو قول الله تعالى:} وأنزلنا من السماء ماء طهورا {. وقال:} ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم {. وقال:} وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به {. فاقتضت هذه الآيات وقوع الطهارة بوجود الغسل، وفي ظاهرها يقتضي ببطلان الترتيب من وجوه: أحدهما: أنه تعالى جعله مطهرا، وخصمنا يأبى ذلك إلا مع وجود الترتيب، وفي ذلك زيادة في النص، وذلك لا يجوز. والثاني: أن الله أخبر أن قصده تطهيرنا بالماء، والتطهير واقع مع عده الترتيب، فموجب الترتيب مزيل لما أخبر الله تعالى به عن مقصده من

وقوع الطهارة به. والثالث: نفيه الحرج فيما تعبدنا به من حكم الطهارة، والحرج: الضيق، كما قال تعالى:} وما جعل عليكم في الدين من حرج {، وفي إيجاب الترتيب إثبات الحرج، لأن فيه ضربا من التضييق. وأيضا: روي عن علي وعبد الله وأبي هريرة رضي الله عنهم: "ما أبالي إذا أتممت وضوئي، بأي أعضائي بدأت". ولا نعلم عن أحد من السلف خلافه، فصار إجماعا. وأيضا: اتفقنا جميعا على أنه لو بدأ من المرفق إلى الزند في الغسل:

جاز، وقال الله تعالى:} وأيديكم إلى المرافق {، فلما لم يجب الترتيب فيه، مع أن اللفظ يقتضيه، فما لا يقتضي اللفظ ترتيبه من الأعضاء، أحرى أن لا يجب فيه الترتيب. فإن قيل: ما العلة الجامعة بينهما؟ قيل له: هي أنهما جميعا من أعضاء الطهارة، فلما سقط الترتيب في أحدهما، سقط في الآخر، إذ كان من أعضاء الطهارة. وأيضا: لما لم يلزم الترتيب بين الصلاة والزكاة، إذ كل واحدة منهما يجوز سقوطها مع ثبوت فرض الأخرى، كان كذلك الترتيب في الوضوء. إذ جائز سقوط فرض غسل الرجلين لعلة بهما، مع لزوم غسل فرض الوجه. وأيضا: لما لم يستحل جمعها: سقط فيها الترتيب، كما أنه لما لم يستحل جمع فعل الصلاة والزكاة في حال واحدة: سقط فيهما الترتيب. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ فغسل وجهه، ثم يديه، وسائر أعضاء الوضوء على الترتيب، ثم قال: "هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به"، وذلك يقتضي وجوب الترتيب، لأنه أشار إلى وضوء مرتب. قيل له: هذا غلط، لأن الحديث الذي ذكر فيه هذا اللفظ: لم يذكر فيه الترتيب، وإنما هو حديث زيد العمي عن معاوية بن قرة عن ابن عمر أن

النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ثم قال: "هذا وضوء من لا يقبل الله صلاة إلا به، ثم توضأ مرتين مرتين" إلى آخر الحديث، ولم يذكر فيه كيفية فعله في الترتيب. وليس يمتنع أن يكون قد بدأ باليدين قبل الوجه، أو بمسح الرأس قبله، ومن ادعى أنه فعله مرتبا، لم يمكنه إثبات ذلك إلا برواية، ولا سبيل إلى إيجاد ذلك. وأيضا: لو ثبت أنه فعله مرتبا، ثم قال ذلك، لكان ذلك إشارة منه إلى الوضوء، والوضوء هو الغسل، دون الترتيب. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حين صعد الصفا: "نبدأ بما بدأ الله به"، فدل أن ترتيب الفعل وجب لأجل ترتيب اللفظ. قيل له: هذا يدل على أن اللفظ لم يوجب الترتيب، لأنه لو أوجبه لم يحتج عليه الصلاة والسلام أن يقول لهم ذلك، وهم أهل اللسان قد عقلوا حكم اللفظ. وأيضا: فإنما وجب ذلك في الصفا والمروة، ولا يدخل غيره فيه إلا بدلالة.

فإن قيل: روي أنه قال: "ابدؤوا بما بدأ الله به"، ولم يذكر فيه الصفا والمروة، وهو على العموم. قيل له: الحديث حديث واحد، روي في قصة واحدة، وعسى أن يكون بعض الرواة أسقط ذكر السبب، واقتصر على حكاية قول النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضا: فإذا لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله في حالين، لم يجز لنا أن نجعله حديثين، لأنه غير جائز إثبات الأخبار بالشك. فإن قيل: ما ينكر أن يكون الوضوء قياسا على الصفا والمروة في إيجاب الترتيب، والمعنى الجامع بينهما أنهما قد دخلا تحت فرض واحد، لا يصح بعضه دون البعض. قيل له: قد تصح طهارة بعض الأعضاء دون بعض، لأنه لو كان برأسه أو بذراعه علة تمنع الغسل، صحت له طهارة باقي الأعضاء، فقولك: إنه لا يصح بعضه دون بعض، خطأ. وأيضا: حكى محمد بن شجاع، عن أبي حنيفة أنه إن بدأ بالمروة ثم

بالصفا، أمرته بإعادة ذلك الشوط، فإن لم يعده أجزأه، فلم يوجب الترتيب في الصفا والمروة. وأيضا: فالمعنى في الصفا والمروة أنه لا يصح جمعهما، فلزم الترتيب، وقد يصح جمع الأعضاء في الغسل. فإن قاسوه على ترتيب السجود على الركوع، فإنه فرض واحد يضمن بعضه ببعض: كان الجواب فيه ما قدمناه من الوجهين: أحدهما: أن جمعهما مستحيل، ولا يستحيل جمع الغسل. والثاني: أنه قد يصح ثبوت فرض بعض الأعضاء وسقوط البعض، ولا يصح سقوط فرض الركوع دون السجود، ولا ثبوت أحدهما دون الآخر. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من توضأ فغسل وجهه كما أمره الله، ثم غسل يديه ... "، وذلك يقتضي الترتيب. قيل له: هذا حكاية عن فعل العبد، لا عن أمر الله، لأن أمر الله مذكور في غسل الوجه، لا في اليدين. وأيضا: ذكر فيه المضمضة والاستنشاق، وليسا بواجبين.

مسألة: [وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوضوء]. قال أبو جعفر: (فإذا ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء: كره له، ولم يعد الصلاة، وإن تركهما في الجنابة أعاد الصلاة). قال أبو بكر: إنما لم يكونا فرضا في الوضوء؛ لأن فرض الوضوء ورد مفسرا غير مفتقر إلى البيان، فلو جعلنا المضمضة والاستنشاق فرضا فيه: كان زيادة في النص، ولا يجوز ذلك عندنا، لما بيناه. فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما"، وما روي من أنه "توضأ مرة مرة، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به". قيل لهم: لا يجوز عندنا الزيادة في حكم النص بأخبار الآحاد فحملناه على الندب. وأما الخبر الذي فيه: أنه توضأ مرة مرة، وقال: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به". فإنه لم يذكر فيه المضمضة والاستنشاق. وأيضا: قد اتفق الجميع على أنه ليس عليه غسل الباطن؛ لأنه لا

يبلغ بالماء أصول الشعر، وداخل الأنف والفم باطن كأصول الشعر، فلا يلزمه تطهيرها. فصل: وإنما قلنا إنهما فرضان في الجنابة؛ لقوله تعالى: {وإن كنتم جنبا فاطهروا {، وهذا يمكن أن نحتج به من وجهين: أحدهما: أن يكون عموما في كل ما يلحقه حكم التطهير، وداخل الفم والأنف يلحقهما ذلك. فإن قيل: هو على أقل ما يتناوله الاسم. قيل له: بل هو على جميع ما يتناوله الاسم، كقوله:} فاقتلوا المشركين {: اقتضى جميع ما دخل تحته، ولا يجوز أن يقال: إنه على ثلاثة، أقل ما يتناوله الاسم. والوجه الآخر: أن يكون مجملا، مفتقرا إلى البيان، ثم لما تمضمض النبي صلى الله عليه وسلم، واستنشق في الجنابة، كان فعله ذلك على وجه البيان، فهو على الوجوب، كفعله لأعداد ركعات الصلاة ونحوها، إذ كان لفظا مجملا مفتقرا إلى البيان.

ولا يلزم على ذلك الوضوء؛ لأنه فرض مفسر ظاهر المعنى، بين المراد، غير مفتقر إلى البيان، فلم يكن فعله للمضمضة والاستنشاق على جهة البيان، فلم يكن على الوجوب. وأيضا في الفرق بينهما: أن المفروض في الجنابة غسل الظاهر والباطن الذي يلحقه حكم التطهير، بدلالة أن عليه إبلاغ الماء أصول الشعر، ولا يجب ذلك عليه في الوضوء. فإن قيل: فأوجب طهارة داخل العين، لعموم الآية في الجنابة. قيل له: خصصناه بالإجماع. فإن قيل: ليس فيه إجماع، لأن ابن عمر رضي الله عنه كان يدخل الماء عينه في الجنابة. قيل له: لم يرو عنه أنه كان يراه واجبا، وعسى كان يستحبه. على أنه لو رآه واجبا، كان اتفاق من بعده على خلافه قاضيا عليه؛ لأن إجماع أهل الأمصار عندنا حجة. * وأيضا من جهة السنة: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا

أحمد بن النضر بن بحر، والمعمري، وأحمد بن عبد الله بن سابور الدقاق قالوا: حدثنا بركة بن محمد الحلبي قال: حدثنا يوسف بن أسباط عن سفيان الثوري عن خالد عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثا فريضة. وحدثنا محمد بن أبي حفص قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن سابور، قال: حدثنا بركة بن محمد بإسناده مثله. قال محمد: وحدثني محمد بن أحمد بن المؤمل قال: حدثنا أبي قال: حدثنا بشر بن محمد أبو أحمد السكري قال: حدثنا بحر السقا عن خالد الحذاء بإسناده نحوه. وقال لي محمد بن أبي حفص: ورواه وكيع عن سفيان عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله مرسلا. فإن قيل: كيف تحتج بهذا الحديث، وأنت تخالفه؛ لأنك لا تجعل الثلاث فرضا، وإنما تجعل الفرض مرة واحدة.

قيل له: ظاهر الخبر يقتضي أن يكون الثلاث فرضا، إلا أن الاتفاق قد حصل على أن ما عدا الواحدة ليس بفرض، فخصصناه بالاتفاق، وبقي حكم الإيجاب في الواحدة، إذ لم تقم الدلالة على نسخها. وأيضا: حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا: أبو يحيى الناقد قال حدثنا الصلت بن مسعود قال: حدثنا الحارث بن وجبة قال: حدثنا مالك بن دينار عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحت كل شعرة جنابة، فأنقوا الشعر، وأنقوا البشرة". وهذا الحديث وإن كان أصحابنا من أهل الحديث يتكلمون فيه من جهة أنهم يضعفون الحارث بن وجبة، ومن جهة أن أيوب رواه عن ابن سيرين من كلامه غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن طريق

الفقهاء في قبول الأخبار غير طريق هؤلاء. ولا يُفسده أن يكون غيره قد رواه من كلام ابن سيرين، إذ لا يمتنع أن يرويه مرفوعاً، ثم يفتي به ويعتقده مذهباً، بل يؤكده ذلك عندنا. وأما الحارث بن وجبة فغير متهم في الرواية، فخبره مقبول كأخبار غيره. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا علي بن محمد بن عبد الملك قال: حدثنا أبو سلمة قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن زاذان عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من ترك شعرة من جنابة لم يغسلها: فعل بها كذا وكذا من النار". قال علي رضي الله عنه: "فمن ثم عاديت شعري". وفي حديث عمرو بن بجدان عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "التراب كافيك ولو إلى عشر حجج، فإذا وجدت الماء فامسسه جلدك".

وفي بعض الألفاظ "بشرتك". فهذه الآثار تقتضي إيجاب المضمضة والاستنشاق في الجنابة؛ لأن في الفم والأنف جلدا، وفي الأنف شعرة. وكان أبو الحسن الكرخي يحكي عن أبي سعيد البردعي عن ثعلب أنه كان يقول: البشرة هي: الجلدة التي تقي اللحم من الأذى، يريد أن الخل ونحوه إذا أخذه الإنسان في يده أو في فمه لم يتأذ به، فإن بقر الجلد من الموضع تأذى بما يصير فيه من خل أو نحوه، فتلك الجلدة هي البشرة. فإن قيل: فيلزمك على هذا تطهير داخل العين، لأنها قد يكون فيها شعر. قيل له: كذلك يقتضي ظاهر الخبر، إلا أنا خصصناه بدلالة. مسألة: [عدم جواز قراءة القرآن، ولا مسه للجنب والحائض]. قال أبو جعفر: (ولا يقرأ الجنب ولا الحائض الآية التامة، ولا يمس المصحف إلا بغلافه).

قال أبو بكر: وذلك لما روي عن شعبة وغيره عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي رضي الله عنه قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يحجبه عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة". وروى إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن". * ولا يمس المصحف لقول الله تعالى:} لا يمسه إلا المطهرون {. وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: "وأن لا يمس القرآن إلا طاهر".

فإن قيل: قوله:} لا يمسه إلا المطهرون {: ليس بأمر، وإنما هو خبر عن كونه في كتاب مكنون، وأنه لا يمسه هناك إلا المطهرون، يعنى بهم الملائكة. قيل له: لا يمتنع أن يكون أمرا في صورة الخبر، كقوله:} يتربصن بأنفسهن {. وليس في اللفظ دلالة اختصاص الملائكة بذلك، فهو في جميع المطهرين، فوجب أن يكون قوله:} لا يمسه {: أمرا، ليصح عموم لفظ المطهرين. وأيضا: فإذا وجدنا من النبي صلى الله عليه وسلم حكما مطابقا لما في القرآن، وجب أن يقضى بأن حكمه صلى الله عليه وسلم بذلك صدر عن القرآن، وأنه ليس بمبتدأ. * وأما أخذه بالعلاقة أو بغلافه: فلا بأس به وإن كان جنبا؛ لأنه غير ماس للقرآن، كما لو حمل حملا وفيه مصحف، جاز وإن كان جنبا. *****

باب الاستطابة والحدث

باب الاستطابة والحدث [وجوب الاستنجاء من البول والغائط [ قال أبو جعفر: (وليس على من نام أو أحدث حدثا سوى الغائط والبول استنجاء). قال أبو بكر: وذلك لقول الله عز وجل:} إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ... {الآية، فأباح الصلاة بغسل هذه الأعضاء المذكورة في الآية، فلو أوجبنا الاستنجاء فرضا، كان فيه زيادة في حكم النص، ولا يجوز ذلك عندنا، إلا بمثل ما يجوز به النسخ. وأيضا: فقد نقلت الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم جواز الاستنجاء بالأحجار، والاقتصار عليها دون الماء، ولو كان ذلك فرضا، لما أجزأ فيه دون استعمال الماء. وأيضا: لو كان الاستنجاء واجبا من غير بول أو غائط، لورد النقل به

متواترا، كوروده في غسل الأعضاء الأربعة، فلما لم يرد، ولم يرو أن النبي صلى الله عليه وسلم استنجى من غيرهما، دل على انه غير واجب. [مسألة]: قال أبو جعفر: (والاستنجاء من البول والغائط سواء). * وكذلك يستنجي من الودي، والمذي، وهما نجسان، ومن خرج منه واحد منهما: فعليه الوضوء بعد غسل فرجه وما أصاب ثيابه منه. قال أبو يكر: وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه أمر بغسل الفرج من المذي، وأن يتوضأ منه وضوءه للصلاة". فدل على أمرين: على النجاسة والحدث؛ لأنه قال: "فليغسل ذكره وأنثييه، ويتوضأ وضوء للصلاة": في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين أمر المقداد فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه. وأيضا: فهو خارج من مخرج البول، فأقل أحواله أن ينجس بملاقاته لموضع النجاسة. ويستنجي من ذلك كله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر بالاستنجاء بالأحجار، لم يفرق بين شيء من ذلك.

وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بها، فإنها تجزي عنه". والغائط هو الموضع المطمئن من الأرض، يستتر به عند قضاء الحاجة، وقد يؤتى لكل خارج من الفرج، للاستتار. مسألة: [يجزئ الاستنجاء بكل ما أنقى، ولا عدد في ذلك] قال أبو جعفر: (ومن استنجى بأحجار أو بما سواها من الأشياء الطاهرة، فأنقى: أجزأه، ولا عدد في ذلك لا يجزي أقل منه) قال أبو بكر: أما الاستنجاء بغير الحجر، فهو من جهة ما روى يوسف بن النضر قال: حدثنا الأوزاعي عن أبي النجاشي عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أنه كان يستنجي بالحرض، ويذكر انه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنجي بالحرض".

وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن الحسن المضني قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهراء عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قضى أحدكم حاجته، فليستنج بثلاثة أعواد، أو ثلاثة أحجار، أو ثلاث حثيات من التراب". قال زمعة: فحدثت به جابر بن طاووس، فقال: أخبرني أبي عن ابن عباس رضي الله عنهما بهذا، سواء. * وأما وجه جوازه بدون ثلاثة أحجار إذا أنقى؛ فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من استجمر فليوتر"، وأقل ما يتناوله الاسم واحدة، وعمومه يقتضي جوازها. وأيضا: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستنجاء بثلاثة أحجار للبول والغائط جميعا، فيحصل لأحدهما أقل من ثلاثة أحجار، لأنه قال: "إذا

أتى أحدكم الغائط، فليستنج بثلاثة أحجار"، والغائط يؤتى للأمرين، فاقتصر له النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة للموضعين. وأيضا: حدثنا دعلج بن أحمد قال: حدثنا يوسف بن يعقوب القاضي قال: حدثنا محمد بن أبي بكر عن عيسى بن يونس قال: حدثنا ثور بن يزيد عن الحصين الحبراني عن أبي سعيد البقال –وهو سعيد بن المرزبان- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اكتحل فليوتر، ومن فعل فقد أحسن، ومن لا، فلا حرج، ومن استجمر فليوتر، ومن فعل: فقد أحسن، ومن لا: فلا حرج". فأجاز عليه الصلاة والسلام بظاهر ذلك الاستجمار بحجرين. فإن قيل: أمره بالاستنجاء بثلاثة أحجار على الوجوب. قيل له: الثلاثة للموضعين على ما بينا. وعلى أنا نجمع بينه وبين الأخبار التي روينا، ولا يسقط بعضها ببعض، فنقول: الثلاثة إذا لم ينق بما دونها، وإذا أنقى بما دونها: جاز بالأخبار الأخر، أو نجعل الثلاث على الندب، وما دونها مجزيًا بما ذكرنا. وأيضًا: قال: "ثلاثة أحجار": واتفقنا على أنه– للأخبار التي روينا- لو

استنجى بحجر واحد له ثلاثة أحرف: أجزأ، فإن جاز أن لا يكون عدد الأحجار شرطًا، وإن كان مذكورًا: جاز أن لا يكون عدد المسحات شرطًا فيه. فإن قيل: لأن الفرض عدد المسحات. قيل له: بل الفرض الإنقاء. فإن قيل: فما الفائدة في ذكر الثلاث؟ قيل له: لأنها تنقي في الغالب، كما قال عليه الصلاة والسلام: "إذ استيقظ أحدُكم من منامه فليغسل يديه ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده". *ومن جهة النظر: اتفاق الجميع على أنه لو استنجى ثلاثًا، ولم ينق: لم يجزه، فدل أن المراد الإنقاء، لا عدد المسحات. ويدل عليه: أنه لو كان الاستنجاء عبادة، لا لإزالة النجاسة، لما جاز أن ينوب عن الأحجار غيرها، كالماء في أعضاء المحدث لما كان عبادة. لم يجز أن يتعدى إلى غيره. وأيضًا: الاستنجاء بالماء ليس فيه اعتبار العدد، فكذلك بالأحجار، ولو كان العدد عبادة لوجب في الماء مثله، كما قال مخالفنا في ولوغ الكلب.

فإن قيل: لأن الماء يزيل العين والأثر جميعًا، والحجر إنما يزيل العين دون الأثر، فالماء أبلغ. قيل له: فهذا يدل على أن المعتبر الإنقاء، لا العدد. فإن قال قائل: الإنقاء هو المراد، والعدد عبادة، كما أن موضوع العدة: الاستبراء، وهو يقع بحيضة واحدة، واستيفاء العدد فيها عبادة. قيل له: ليس الاستبراء بمقصور على الحيضة الأولى دون الأخريين؛ لأنه جائز أن يكون بعد الحيضة الأولى وطء، فيحتاج إلى الاستبراء، وكذلك في الثانية، وليس كذلك الاستنجاء، لأنا قد علمنا أنه لم يكن بعد الأولى والثانية نجاسة حادثة، فيحتاج إلى تطهيرها. ألا ترى أنه لو ظهر بها حمل الحيضة الأولى، لزم الولد الزوج، وكانت عدتها بالحمل، وكذلك بعد الثانية، فعلم أن كل واحدة من الحيض في نفسها استبراء. وأيضًا: فإن استيفاء العدد في العدة إذ كانت عبادة، لم ينب عن الحيض غيرها مع إمكان استيفائها، وقد اتفقنا على جواز الاستنجاء بغير المنصوص عليه مع إمكان الأحجار، وما نص عليه منها، فدل أن المقصد فيه الإنقاء، دون عدد المسح. وأيضًا: فإن العدة قد تلزم عبادة مجردة من الاستبراء، وهي عدة اليائسة والصغيرة، ولا يجب الاستنجاء بوجه إلا لإزالة النجاسة.

وأيضًا: لما لم يدل لزوم استيفاء العدد في العدة على اعتبار العدد في غسل النجاسات، كذلك لا يدل على حكم الاستنجاء، بل رد الاستنجاء إلى غسل النجاسات أولى من رده إلى العدة؛ لأنه من باب إزالة الأنجاس. وعلى أنا إنما أجبنا عن سؤال العدة على جهة المسامحة، وثقة منا بتناقض قول الخصم وفساده، فأما إن أخذناه بما توجبه حقيقة النظر، وطالبناه برده إلى العدة بعلة صحيحة توجب رده إليها: تعذر عليه إيجاد ذلك. فإن قال: إنما رددته إليها في باب الجواز، ورأينا أنه لا يمتنع أن يكون العدد معتبرا على جهة العبادة وغيرها في شيء واحد. قيل له: ولم– إذا جاز في الأصول ما قلت- وجب أن يكون كما ذكرت، وإنما كلامنا معك في الوجوب، لا في الجواز. * وكذلك إن سألوا على ذلك رمي الجمار، وقالوا هو عبادة، قد لزم فيها استيفاء العدد. قيل لهم: فبأي معنى رددتم الاستنجاء إليه، ويطالبون بتصحيح ذلك بإظهار المعنى، وإقامة الدليل على أنه هو العلة لإيجاب الحكم، فإنهم متى طولبوا بمثل ذلك: لم يحصلوا منه على شيء، واضمحل قولهم وحصلوا على كلام فارغ لا معنى تحته. وهكذا سبيلهم في عامة المسائل القياسية، متى حقق عليهم فيها تحصيل الدلالة: لم يرجعوا منها إلى شيء يصح. ثم يقال لهم: قد علمنا أن رمي الجمار عبادة، لا لإزالة معنى، فوجب استيفاء العدد فيه، كالطواف وركعات الصلاة، وقد بينا أن الاستنجاء للإنقاء، فإذا لم يقع به إنقاء، فلا معنى له.

وأيضًا: قد جاز العدول عن الحجر في الاستنجاء إلى غيره، ولم يجز ذلك في الرمي، فهلا ذلك على أن الرمي عبادة، والاستنجاء للإنقاء خاصة، إذ لو كان عبادة لا للإنقاء، لما جاز العدول عن المذكور إلى غيره. وأيضًا: قد أجزت الاستنجاء بحجر واحد له ثلاثة أحرف، فهل تجعل رمي هذا الحجر بمنزلة رمي ثلاثة أحجار؟ وأيضًا: الاستنجاء لإزالة النجو، فإذا لم يكن نجوا: لم يقع المسح استنجاء. وأما الاستنجاء بالروث والرمة، فإن أصحابنا يكرهونه، فإن فعل: أجزأه، وذلك لما ثبت أن القصد فيه الإنقاء، وهما ينقيان كالحجر، فأجزأه. وأما ما روي من النهي فيه، فهو كالنهي عن الاستنجاء بثوب غيره، والوضوء بماء غيره بغير أمره، فإن فعل أجزأه، وذلك لأن النهي لم يتعلق لمعني فيهما، بل لأجل غيرهما، وهو ما بين في الخبر: "أن العظم طعام إخوانكم من الجن، والروث علف لدوابهم"، فإنما منع منه، لأن لا

يفسده على غيره، كما لو استنجى بماء لغيره، وشراب لغيره، وطعام لغيره: أجزأه مع النهي. فإن قيل: فقد روي النهي عن الاستنجاء بالرجيع، وليس بطعام ولا علف. قيل له: لأنه نجس، لا يجوز الانتفاع به، وذلك ضرب من الانتفاع، وأما الروث وإن كان نجسا، فقد يجوز الانتفاع به للأرضين، وتسجر به التنانير. وأيضًا: نهي عن الاستنجاء باليمين، ولو استنجى بها أجزأه، لوجود إزالة النجاسة، كذلك ما ذكرناه، وإن كان منهيا عنه. مسألة:] قدر النجاسة المعفو عنها، وجواز إزالة النجاسات بغير الماء [ قال أبو جعفر: (وما عدا من البول والغائط مخرجه، فكان أكثر من

قدر الدرهم: لم يطهر إلا بالماء، أو بما يغسله كغسل الماء). قال أبو بكر: هي ثلاث مسائل: إحداهن: في أن النجاسة اليسيرة معفو عنها. والثانية: في أن اليسير منها: مقدار الدرهم. والثالثة: في إزالة الأنجاس بغير الماء. *فأما الأصل في أن النجاسة اليسيرة معفو عنها: فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الصلاة مع الاستنجاء بالأحجار، واتفق عليه السلف والخلف بعدهم. ومعلوم أن الحجر لا يزيل النجاسة، بدلالة أنه لو أصاب سائر بدنه نجاسة، فمسحها بالحجر: لم يكن لذلك حكم في إزالتها، فدل على أن الحجر لا يزيل النجس، فثبت بذلك أن هذا القدر من النجاسة معفو عنه، إذ ليس به ضرورة إلى الانصراف عن الماء إلى الأحجار. فإن قيل: هذا كما تبيح الصلاة بفرك المني من الثوب، ولا يدل عندك جواز فركه على أن المني معفو عنه في جواز الصلاة معه إذا لم يفرك. قيل له: المني لا يختلف حكمه بالأماكن في باب جواز فركه، والنجاسات مختلفة المنازل، فبعضها أغلظ حكما من بعض، وبعضها أخف حكما، والمني قد قامت الدلالة فيه– مع كونه نجسا- على أنه أخف حكما من غيره في باب جواز فركه، وأما الغائط فإنه مما يجب

غسله بالاتفاق إذا كثر، ولا يجزئ فيه الحجر في غير موضع الاستنجاء. وإنما افترق حكمه عند خصمنا لأجل الموضع، ومواضع بدن الإنسان لا تأثير لها في تخفيف حكم النجاسة، ألا ترى أن الغائط والبول أي موضع أصاب من بدن الإنسان: لم تجز الصلاة فيه إذا صار في حد الكثرة، كذلك موضع الاستنجاء. فإن قيل: فقد فرقت بين النجاسات لأجل اختلاف الأماكن؛ لأنك تجيز حكمها من الخف والنعل إذا كان لها جرم قائم بعد الجفاف، ولا تجيزه في الثوب. قيل له: إنما اختلفا لاختلاف الأماكن في قبول النجاسة، ومخالطتها إياها، وجرم الخف لا ينشف النجاسة، وجرم النجاسة ينشف الرطوبة الحاصلة في الخف إلى نفسه، فيزول بالحك، والثوب ينشف النجاسة إلى نفسه، ولا يزول ما ينشفه منها بالحك، وإنما اختلفا من أجل اختلاف المواضيع. وأما بدن الإنسان فليس بمختلف في باب قبول النجاسة أو حصولها فيه، فإذا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز الصلاة مع بقاء أجزاء النجاسة في موضع الاستنجاء من غير ضرورة، دل ذلك على أن هذا القدر

من النجاسة معفو عنه. *ويدل على جواز الصلاة مع يسير النجاسة أيضًا: حديث يزيد بن أبي حبيب عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن خولة بنت يسار أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إنه ليس لي إلا ثوب واحد، وأنا أحيض فيه، فكيف أصنع؟ فقال: "إذا طهرت فاغسليه، ثم صلي فيه". قالت: فإن لم يخرج الدم؟ قال: "يكفيك الماء، ولا يضرك أثره". والنجاسة تشمل على عين وأثر، فأجاز عليه الصلاة والسلام الصلاة مع وجود الأثر عند زوال عينها، لأن الأثر إنما يكون هو من بقية أجزائها، فدل ذلك على جواز الصلاة مع يسير النجاسة. *وأما مقدار الدرهم: فإنه تقدير لموضع الاستنجاء، لأنهم كانوا يستنجون ويستبرؤن، فقدرا الموضعين جميعًا بالدرهم، وهذا اجتهاد. قال إبراهيم النخعي: "أرادوا أن يقولوا: مقدار المقعد، فاستفحشوا، فقالوا: مقدار الدرهم". وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في مقدار الدرهم حديث

رواه غطيف عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. *وأما إزالة الأنجاس بغير الماء من سائر المائعات، فإنه قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال زفر ومحمد بن الحسن: لا يجزئ إلا بالماء الحجة لأبي حنيفة قول الله تعالى: {وثيابك فطهر}، وتطهير الثوب من النجاسة إزالتها عنه، وقد يمكن ذلك بالخل، وماء الورد، وما أشبه ذلك. ويدل عليه أيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعا"، وعمومه يقتضي جوازه بسائر المائعات. وكذلك قوله: "إذا استيقظ أحدكم من منامه، فليغسل يديه ثلاثا"، إذ لم يخص الماء من غيره. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال

لخولة بنت يسار حين سألته عن دم الحيض: "إذا طهرت فاغسليه، ثم صلي فيه"، ولم يقل: بالماء، فهو على الماء وغيره. وقوله عليه الصلاة والسلام في المذي: "اغسل ذكرك، وتوضأ": يدل على ذلك أيضًا. فإن قال قائل: هذه الأخبار التي ذكرتها عموم، وقد بين في غيرها ما أراد بها، وهو ما روي في حديث أسماء بنت أبي بكر أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب، فقال: "حتيه، ثم اقرصيه بالماء". وأمر امرأة أخرى أن تغسل دم الحيض بإناء قد طرح فيه ملح. قيل له: ليس في ذلك بيان موضع الخلاف بيننا، لأن هذا الخبر اقتضى وجوب غسل الدم، فإذا غسله بخل، أو بماء ورد أو نحوه، لم يبق هناك دم يغسل، فلم يتناوله الخبر، إذ كان الذي في الخبر الأمر بغسل الدم، وليس ههنا دم فيغسل، وإنما موضع الخلاف بيننا هو هذا الموضع، وهذه الحال ليس لها ذكر في الحديث.

فإن قيل: قال الله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل بول الأعرابي بالماء. قيل له: أما قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}، فلم ينف به أن يكون غيره طهورا. وأما قصة الأعرابي فليس فيها أيضًا أن غيره لا يجزئ، وما ذكرناه في الجواب عن دم الحيض هو جواب عن هذا أيضًا. وأيضا: لو قطع موضع النجاسة من الثوب، جاز أن يصلي فيه، ولا فرق بين إزالتها بالقطع أو بغير الماء. وأيضًا: في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أصاب نعل أحدكم أذى"، وفي بعض الألفاظ قذر –ذكره أبو داود في "السنن"-: "فليمسحها بالأرض، وليصل فيها". فإن قيل: الطهارة لا تكون إلا بالماء بدلالة الطهارة من الأحداث. قيل له: طهارة الحدث عبادة لا لإزالة النجاسة، وطهاة النجاسة إنما هي إزالتها، وقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم تطهير النعل من النجاسة

بمسحها على الأرض، والحدث لا يزول بذلك. *ويدل عليه ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يكون لإحدانا الدرع فيه تحيض، وفيه تصيبها الجنابة، فيرى فيه الجنابة"، وفي بعض الأخبار: "فترى فيه الدم: فتقصعه بريقها". وأيضًا فإن النجاسة تسقط حكمها بالقطع، والحدث لا يرتفع إلا بالغسل. فإن قيل: الجنب يجب عليه غسل شعره، وإن قطع شعره سقط عنه غسله، ولم يدل على جواز الغسل بغير الماء. قيل له: الشعر لم يلزم غسله بنفسه، ولا لمعنى حله، وإنما وجب غسله لأنه تبع البدن مادام متصلا به، فإذا زال عنه: سقط حكمه، وموضع النجاسة لزم غسله لوجودها فيه، فزوالها يطهره، فلا فرق بين إزالتها بالقطع أو سائر المائعات. مسألة:] خروج النجاسة من البدن مطلقا ناقض الوضوء غير البلغم [. قال أبو جعفر: (وما خرج من قبل أو دبر أو فم بعد أن ملأه، أو مما سوى ذلك من البدن: نقض الوضوء، غير البلغم). قال أبو بكر أحمد: تحصيل المذهب في ذلك: أن كل نجاسة خرجت

بنفسها إلى موضع يلحقه حكم التطهير: فإنها تنقض الطهارة. والأصل في وجوب الطهارة بخروج النجاسة: ما روى إسماعيل بن عياش عن ابن جريج قال: حدثنا عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رعف الرجل في صلاته، فلينصرف، وليتوضأ، ولا يتكلم، ثم ليبن على ما مضى من صلاته". وروى أيضًا إسماعيل عن ابن جريج عن أبيه، وعن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قاء أحدكم أو قلس، فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته ما لم يتكلم". وروى يحيى بن الوليد عن أبيه عن معدان بن طلحة أن أبا الدرداء رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر. قال: فلقيت ثوبان رضي الله عنه، فحدثته فقال: "أنا صببت له وضوءه".

وروى ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رعف في صلاته: توضأ، وبنى". وروى أبو هاشم عن زاذان عن سلمان رضي الله عنه قال: رآني النبي صلى الله عليه وسلم وقد سال من أنفي دم، فقال: "أحدث لما حدث وضوءا". وحدثنا محمد بن يعقوب بن الأصم قال: حدثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج قال: حدثنا بقية بن الوليد قال: حدثنا يزيد بن خالد عن يزيد بن محمد قال: قال عمر بن عبد العزيز قال: تميم الداري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوضوء من كل دم سائل". وروى سوار بن معصب عن زيد بن علي عن بعض آبائه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القلس حدث".

وروي وجوب الوضوء من الدم عن علي وابن عمر رضي الله عنهم، وإبراهيم، والحسن، ومجاهد، وعطاء، والضحاك، في آخرين من التابعين. فإن قيل: يحتمل الوضوء المذكور في هذه الأخبار غسل الدم والقيء.

قيل له: قد روي في بعض أخبار ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصابه قيء أو قلس أو مذي أو رعاف، وهو في صلاته فليتوضأ"، ومعلوم أن الوضوء من المذي هو وضوء الصلاة، وقد جمع بينه وبين الرعاف، وذكر لهما وضوءا واحدا. فإن قيل: يعارضه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا وضوء إلا من صوت أو ريح". قيل له: إنما ذكر ذلك في الشاك في الحدث، فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا"، وقد اتفقوا أنه ينصرف من القيء والرعاف. *ويدل على ذلك عموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام، إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم".

فاقتضى عمومه إيجاب نقض الطهارة بخروج البول والغائط من أي موضع كان، من مخرج أو غيره. *ودليل آخر: وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها حين سألته عن حكمها في دوام سيلان دمها، فقال: "إنما ذاك دم عرق، وليس بحيضة، فتوضئي". فعلل دم الاستحاضة في إيجابه الوضوء به، لكونه دم عرق، فاقتضى إيجاب الوضوء بكل دم عرق خارج إلى موضع يلحقه حكم التطهير. فإن قيل: خروجه من السبيل شرط فيه؛ لأن السؤال عنه وقع بهذه الصفة. قيل له: أجل، إلا أن التعليل وقع بكونه دم عرق، لا بخروجه من السبيل، فلا يجوز أن يجعل السبيل شرطا فيه. وليس خروج كلام جوابا لها عن دم الاستحاضة بأكثر منه لو ابتدأ الخطاب به، فقال: إن دم الاستحاضة فيه وضوء، لأنه دم عرق: كان معلوما أن العلة الموجبة للحكم هي كونه دم عرق، لا أنه دم استحاضة، ألا ترى أنه لو قال: "البر بالبر مثلا بمثل، لأنه مكيل"، كانت العلة الموجبة لاستيفاء المماثلة كونه مكيلًا، لا كونه برا. فإن قيل: لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في اعتلاله دما خارجا، وقد اعتبرتموه، فكذلك السبيل، وإن لم يكن السبيل مذكورا في لفظ الاعتلال.

قيل له: لا خلاف أن خروجه شرط في الاعتلال، فألحقناه به، ولم يتفقوا أن السبيل شرط فيه، فسقط اعتباره. فإن قيل: فقد اتفقنا على أن يسير القيء لا ينقض الطهارة، والمعنى فيه أنه غير خارج من السبيل، فكل ما خرج من غير السبيل: لم تنتقض به الطهارة، لنقضه هذه العلة. قيل له: هذا اعتلال عار من البرهان، وما كان هذا سبيله من الاعتلال فهو ساقط، لأن دعواك بكون المعنى علة، كدعواك لنفس المذهب. على أنا نسامحك فنقبل سؤالك، ونقول: إن اعتلالنا أولى؛ لأنه منصوص عليه، والعلة المنصوص عليها أولى من علة مستنبطة. *دليل آخر: وهو أنا لما اتفقنا على وجوب الطهارة من البول والدم، كانت العلة الموجبة لها خروج النجاسة بنفسها إلى موضع يلحقه حكم التطهير، والدليل على صحة هذه العلة: أنا وجدنا الأشياء الخارجة من البدن على ضربين:

ضرب نجس بالاتفاق، تنتقض الطهارة بخروجه، وهو البول والغائط. والآخر ضرب طاهر بالاتفاق، لا تنتقض الطهارة به، وهو اللبن والعرق والدمع، وسائر الأشياء الطاهرة، فكان الحكم متعلقا بخروج النجاسة دون غيرها، فوجب أن تكون العلة الموجبة لنقض الطهارة خروج النجاسة بنفسها إلى موضع يلحقه حكم التطهير، فوجب انتقاض الطهارة بخروج سائر النجاسات على ما بينا. فإن قيل: العلة في البول أنه خارج من السبيل. قيل له: لو صح هذا الاعتلال لم يناف صحة اعتلالنا، فنحن نسلم لك صحته، ولا نطالبك بإقامة الدلالة عليه، فنقول: هما صحيحان، فاعتلالكم يوجب الحكم في الخارج من السبيل، واعتلالنا يوجبه في الخارج من السبيل ومن غيره، ولا يتنافيان. وأيضًا: فإن العلل إنما نعتبر صحتها بتعلق الأحكام بها، وتأثيرها في الأصول، وقد وجدنا الحكم يتعلق بالخارج، ويختلف لاختلاف الخارج، ألا ترى أن الخارج إذا كان منيا أوجب الغسل، وإذا كان بولا أوجب الوضوء، والمخرج واحد، فوجب أن يكون اعتبار الخارج أولى من اعتبار السبيل.

وكذلك خروج دم الحيض يوجب الغسل، وخروج دم الاستحاضة يوجب الوضوء، والمخرج واحد. فإن قيل: فقد وجدنا الحكم يتعلق بالسبيل، بدلالة وجوب الغسل بالتقاء الختانين من غير خروج شيء، فينبغي أن يجعل السبيل شرطا مع الخارج في إيجاب نقض الطهارة. قيل له: هذا الحكم إنما تعلق بالسبيل من غير خروج شيء، فكيف يجوز اعتباره فيما لا تنتقض الطهارة فيه إلا بخروج النجاسة، والذي اعتبرنا نحن في تصحيح العلة اختلاف الحكم باختلاف الخارج نفسه. فإن قيل: لما وجدنا الريح الخارجة من السبيل حدثا، ولم يكن من غيره حدثا، دل على أن له تأثيرا فيه، ويتعلق الحكم به. قيل له: لا نافي أن يكون للسبيل تأثير في إيجاب الطهارة بخروج ما يخرج منه، إلا أن ذلك لا يمنع قيام الدلالة على اعتبار معنى غيره يوجب الحكم فيه وفي غيره، على حسب ما ذكرنا. فهذا الاعتلال الذي قدمنا لا يعترض عليه اختلاف حكم البول إذا ظهر على رأس الإحليل، والدم عند ظهوره على رأس الجرح، وذلك لأن علتنا خروج النجاسة بنفسها إلى موضع يلحقه حكم التطهير، وداخل الجرح لا يلحقه حكم التطهير، وإنما يلحق حكم التطهير موضع الفتحة، لا داخل الجرح، ورأس الإحليل يلحقه حكم التطهير، فلم يختلفا على حكم الاعتلال، بل الحكم فيهما جار على العلة. ولا يلزم عليه أيضًا: القيء اليسير، لأن القيء غير خارج بنفسه، وإنما المخرج له معنى عارض في الجوف أوجب إخراجه، كنحو إخراج الدم من المجروح من غير سيلان، فلا تنتقض به الطهارة، لأن من شأن الأشياء

السائلة أنها تسيل إلى أسفل، ولا تسيل إلى فوق، فإذا وجدناه سائلا إلى فوق: علمنا أن معنى عارضًا أخرجه. فإن قيل: فلا تنقض الطهارة بكثير من القيء؛ لأنه غير خارج بنفسه. قيل له: لم نقل إن كل ما لا يخرج بنفسه لا تنتقض به الطهارة، وإنما قلنا إن ما يخرج بنفسه على الحد الذي وصفنا تنتقض به الطهارة. ثم ليس يمتنع اتفاق الأحكام مع اختلاف العلل، والموجب لنقض الطهارة بكثير القيء ما روينا من الآثار. فصل:] القيء ينقض الوضوء إذا ملأ الفم [ إنما اعتبرنا في القيء ملء الفم، من قبل أنه قد ثبت أن يسير ما يخرج من هناك لا تنتقض به الطهارة هو الجشاء، ولا يخلو من أن تتحلل معه أجزاء من النجاسة التي في المعدة، وهي التي إذا كثرت صارت قيئًا، وقد صح إيجاب الوضوء بكثيره، فجعلنا الحد الفاصل بين القليل والكثير ملء الفم؛ لأن أحدا ممن أوجب الفصل بين القليل والكثير لم يحده بغير ذلك. وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن القيء إذا كان ملء الفم نقض الوضوء، وإن كان أقل من ملء الفم لم ينقض.

وكان أبو الحسن رحمه الله تعالى يقول: الحد في ملء الفم عندي: أن لا يمكنه إمساكه في الفم. وقال زفر: تنتقض الطهارة بيسير القيء. وأما البلغم فإن أبا حنيفة ومحمدًا لم يوجبا به نقض الطهارة، وإن ملء الفم. وقال أبو يوسف: تنتقض. *والحجة لأبي حنيفة: أن المعنى الموجب لتجنيس الأشياء المستحيلة وجودها على ضرب من الاستحالة، بدلالة قول النبي صلى الله عليه وسلم في الروث: "إنه ركس"، فنبه على المعنى الموجب للتنجيس، وهو وجوده على هذا الضرب من الاستحالة. وبهذا المعنى وجب الحكم بنجاسة البول والغائط والدم والمرة ونحوها. ثم لم نجد استحالة البلغم موجبة لتنجيسه، بدلالة اتفاقهم جميعا على أن البلغم الذي ينزل من الرأس، وما يخرج من الحلق ليس بنجس.

واستحالة البلغم الذي يخرج من الجوف كاستحالة ما ينزل منه من الرأس، ويخرج من الحلق، فلما كانا سواء في باب الاستحالة، واتفقنا على طهارة أحدهما: كان الآخر مثله. فإن قيل: ما أنكرت أنه وإن كان كذلك في نفسه، فإن حصوله في المعدة –وهو موضع النجاسة- يوجب تنجيسه، كما أن الماء طاهر في نفسه، وحصوله في الجوف يوجب تنجيسه، حتى لو تقيأ من ساعته انتقضت به طهارته. قيل له: الفصل بينهما: أن الماء إذا حصل في الجوف يخالطه أجزاء من النجاسة حتى لا تتميز منه، فيصير حكمه حكم النجاسة، والبلغم متميز من النجاسة التي لاقته، وتلك النجاسة الخارجة معه لا تملأ الفم بنفسها، فكذلك لم تنتقض الطهارة بخروجها. مسألة:] الإغماء ينقض الوضوء [ قال أبو جعفر: (ومن غلب على عقله بغير النوم، ثم أفاق: فعليه الوضوء). وذلك لأن قليل الإغماء أكثر من كثير النوم، ألا ترى أنه لا يفيق بالتنبيه، والنائم يتنبه إذا نبه.

] مسألة: نوم القائم والجالس [ قال: (ومن نام قائما أو جالسا: فلا وضوء عليه). قال أبو بكر أحمد: المذهب فيه: أنه متى نام على حال من أحوال الصلاة: لم تنتقض طهارته، وهو حال القيام والركوع والسجود والقعود؛ لأن هذه كلها من أحوال الصلاة في غير عذر. والدليل على صحة هذا الأصل: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن الفضل بن سلمة قال: حدثنا الحسن بن الربيع قال: حدثنا حماد بن واقد عن بحر السقاء عن ميمون الخياط عن ضبة عن أبي عياض عن حذيفة رضي الله عنه قال: "نمت في المسجد، وأنا جالس، فمر النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده على منكبي، فقال: "ماهذا؟ "، فرفعت رأسي، فقلت: يا رسول الله أفي هذا وضوء؟ قال: "لا، حتى تضع جنبك". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود السجستاني قال: حدثنا يحيى بن معين عن عبد السلام بن حرب –وهذا لفظ حديث يحيى عن أبي خالد الدالاني– عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسجد وينام وينفخ، ثم يقوم فيصلى، ولا يتوضأ، فقلت له: صليت ولم تتوضأ، وقد نمت؟ فقال: "إنما الوضوء على من نام مضطجعا".

وقال غيره: "فإنه إذا نام مضطجعا استرخت مفاصله". فإن قيل: قال شعبة: "لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا أربعة أحاديث"، ولم يذكر هذا فيها. قيل له: عسى أن يكون أراد أنه لم يسمع قتادة بقول: "سمعت" إلا في هذه الأربعة، ومن روى عن ثقة، فأمره محمول على السماع. وعلى أنه لو كان مرسلا: لم يضر إرساله عندنا. فإن قيل: في حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم". وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"من استحق نوما: وجب عليه الوضوء". قيل له: هو مبني على مابين فيما ذكرنا من حديث حذيفة وابن عباس رضي الله عنهم؛ لأنه أخص منه، ولا يسقط أحدهما بالآخر، وهما لخصمنا ألزم؛ لأنه يبني العام على الخاص. وكما اتفقنا جميعا على أن نوم الجالس مستثنى منه، لما روى "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يخفقون برؤوسهم ينتظرون العشاء الآخرة، ثم يصلون ولا يتوضؤون". كذلك نوم القائم والراكع بالأخبار التي ذكرنا. فإن قيل: خصصناه بالإجماع. قيل له: وخصصناه ما وصفنا بالسنة. وعلى أنه ليس فيه إجماع؛ لأنه روي عن الحسن وسعيد بن المسيب أنه متى خالط النوم قبله -قليله وكثيره- وهو نائم أو جالس أو قائم توضأ.

وروي نحوه عن الشعبي. *ويدل على ما ذكرنا اتفاق فقهاء الأمصار على أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء، والجلوس حال من أحوال الصلاة، فقسنا عليه سائر أحوال الصلاة من غير عذر. وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا نامت العين استطلق الوكاء": فهو محمول على ما ذكرنا من حال الاضطجاع، لما في حديث ابن عباس: "فإنه إذا نام مضطجعا استرخت مفاصله". وقد تكلمنا في هذه المسألة في "مسائل الخلاف"، واستقصيناه، وكرهنا الإعادة.

فصل:] نوم المستند [ قال أبو جعفر: (ومن نام مستندا إلى شيء لو أزيل سقط: كان عليه الوضوء). وذلك لأنه إذا كانت هذه حاله: استثقل في النوم، بمنزلة المضطجع، وليس بمنزلة غير المستند، لأنه إذا أمكنه أن يحفظ نفسه حتى لا يقع، فلم يستثقل. ] مسألة: [ قال أبو جعفر: (ومن نام على ما سوى الحالين الأوليين اللتين ذكرنا أن لا وضوء عليه فيهما: فعليهما: فعليه الوضوء). قال أبو بكر: يعني القائم والجالس. وليس كذلك مذهب أصحابنا، لأنهم يقولون إن الراكع والساجد إذا ناما في ركوعهما وسجودهما: فلا وضوء عليهما، وهذا مروي عنهم، إلا أن يكون أبو جعفر أدخل الراكع والساجد في قسم القائم والقاعد. مسألة:] مس المرأة والذكر لا ينقض الوضوء [ قال أبو جعفر: (ولا وضوء على من مس شيئا من بدنه، ولا من بدن غيره من فرجٍ، ولا ما سواه). قال أبو بكر: هذا الفصل يشتمل على مسألتين:

إحداهما: أن مس المرأة لا ينقض الطهارة. والأخرى: مس الذكر. *فأما وجه القول في مس المرأة، فما رواه حبيب بن أبي ثابت عن عروة عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل، ثم يخرج فيصلي ولا يتوضأ". وروى منصور بن زاذان عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وعمرو بن شعيب عن زينب السهمية عن عائشة رضي الله عنها عن

النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وعبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وهدبة بن خالد عن همام بن يحيى عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. تركت ذكر أسانيدها خوف الإطالة، ولأنها أخبار مشهورة. وروى يزيد بن سنان عن الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ولا يفطر، ولا يحدث وضوءا.

وروى أبو عاصم عن سفيان الثوري عن أبي روق عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ثم يخرج فيصلي، ولا يتوضأ". فإن قيل: حديث حبيب بن أبي ثابت إنما هو في أنه كان يقبل في الصوم. قيل له: الأمران جميعاً قد ذكرا في حديث واحد رواه عبد الحميد الحماني عن الاعمش عن حبيب بن أبي ثابت بإسناده، وذكر فيه: "أنه كان يصبح صائما ثم يتوضأ للصلاة، فتلقاه المرأة من نسائه فيقبلها ثم يصلي" *وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "طلبت النبي صلى الله عليه وسلم ليلا، قالت: فوقعت يدي على قدميه، وهو ساجد".

فلو كان اللمس ينقض الطهارة لبطل سجوده. وفي الخبر: أنه كان يدعو في السجود دعاء طويلا، ثم رفع رأسه فسجد ثانيا. فإن تعسف متعسف فقال: يحتمل أن يكون قبلها فوق الخمار. قيل له: فإذا لا فائدة له في تقبيله. وعلى أنه: لا يكون قبلها، إنما قبل خمارها. وهو مذهب علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم. فإن قيل: قال الله تعالى:} أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا {، وحقيقته تقتضي اللمس باليد. قيل له: لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل، ولم يتوضأ، علمنا أن المراد الجماع؛ لأن اللفظ يتناولهما، وبيان النبي صلى الله عليه

وسلم قاضٍ على المعني المراد. فإن قيل: هو كناية عن الجماع، وصريح في اللمس باليد، وحَمْلُه على الحقيقة أولى. قيل له: إنما يجب ذلك ما لم تقم الدلالة على صرفه عنها إلى المجاز والكناية، فأما مع قيام الدلالة فلا. وكذلك إن قالوا: هو عموم فيهما، أجبناهم بمثل ذلك. ثم نقول لهم: هذا كلام ساقط من وجوه: أحدها: أن السلف اختلفوا في المراد بالآية، فقال علي وابن عباس وأبو موسى رضي الله عنهم: هو الجماع، وكانوا يجيزون للجنب أن يتيمم بالآية، ولا يوجبون الوضوء من اللمس للمرأة باليد. وقال عمر، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: هو على اللمس باليد، ويوجبون منه الوضوء، ولا يرون للجنب التيمم؛ لأن الجماع

عندهما غير مراد بالآية. فمن قال: إنه عليهما، فقوله خارج من اتفاق السلف. وجهة أخرى: هي أن اللمس إذا كان حقيقة في اللمس باليد، مجازا في الجماع: لم يجز أن يرادا جميعا بلفظ واحد؛ لأن ذلك يقتضي كون اللفظ الواحد مجازا حقيقة في حال واحدة؛ لأن الحقيقة هي اللفظ المستعمل في موضعه، والمجاز هو العدول به عن جهته، ولا جائز أن تجتمع الصفتان جميعاً للفظ واحد، لأنه يتناقض. وأيضًا: فإنه يوجب أن يكون لفظ واحد كتابة وصريحاً في حال واحدة، وهذا خلف من القول. *ودليل آخر: وهو أنه لما ثبت أن المراد أحدهما، ثم ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر الجنب بالتيمم، وجب أن يكون حكمه بذلك مأخوذاً عن الآية. وكذلك نقول في كل حكم حَكم به النبي صلى الله عليه وسلم، وفى كتاب الله ما يشتمل عليه وينتظمه: فالواجب أن يقضى بأن حكمه هذا صدر عن القرآن، وأنه غير مبتدأ. وإذا كان كذلك، فقد دل أمر النبي صلى الله عليه وسلم الجنب بالتيمم، على أن مراد الله في اللمس المذكور في الآية هو الجماع، وإذا ثبت أن الجماع مراد بها، انتفى اللمس باليد على ما بينا.

فإن قيل: روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "قبلة الرجل امرأته، ومسها بيده من الملامسة". قيل له: صدقت هو قوله، وقول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما إلا أنه لا دلالة فيه على أنه كان يرى الجماع مع ذلك مراداً بالآية. *ويدل على ما قلنا أيضًا: أن الله تعالى لما علمنا حكم الحدث والجنابة جميعاً عند وجود الماء، ثم أعاد ذكر الحدث لبيان حكمه عند عدم الماء: وجب أن يكون اللمس المذكور هو الجماع، ليقع به بيانٌ لحكمه عند عدم الماء، فتكون الآية شاملة لبيان حكم الحدث والجنابة جميعاً عند وجود الماء، وعند عدمه. وأيضًا: فلو حمل على اللمس باليد، لكان ذلك حدثاً بمنزلة سائر الأحداث، وقد أفادنا بدءًا حكم الحدث في حال عدم الماء وحال وجوده، ففي حمله على ما ذكرنا إثبات فائدة مجددة، وهى بيان حكم الجنابة في حال عدم الماء، وفيما ذكرتم إسقاط فائدته. فإن قيل: فأنت قد أوجبت نقض الطهارة باللمس دون الجماع؛ لأن أبا حنيفة يقول: إذا باشرها وانتشر لها، وليس بينهما ثوب: إن عليه الوضوء. قيل له: لم يوجبه بالمباشرة واللمس، وإنما المسألة على أنه جامعها فيما دون الفرج، ولم ينزل، فأوجب به نقض الطهارة، من جهة أن

الإنسان ليس يكاد يبلغ ذلك من المرأة: فيخلو من بلة تخرج منه وإن لم يشعر بها، فعلق الحكم فيه بالغالب من الحال، كما أن النوم لما كان غالب حاله الحدث، حكم له إذا استثقل فيه بحكم الحدث، وليس ذلك من إيجاب الوضوء باللمس في شيء. وأيضًا: فلو كان وجوب الوضوء بمس المرأة ثابتاً من شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لعمهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتوقيف عليه، لعموم الحاجة إليه، ولو كان كذلك لورد النقل به عن النبي صلي الله عليه وسلم مستفيضاً متواترًا، ولما اختلف السلف فيه، فلما وجدنا الأمر فيه ضد ذلك، علمنا أن ذلك ليس بثابت. *وأيضًا: فإن خصمنا لا يمكنه أن يدعي على أحد من السلف بأن المس من غير شهوة يوجب الوضوء، مع مس الناس لبناتهم الصغار، وذوات محارمهم من الصبايا، وإنما الخلاف في المس لشهوة، وأما لغير شهوة: فلا نعلم أحدًا من السلف قال بإيجاب الوضوء منه. فإن قيل: ولو كان ترك الوضوء منه ثابتاً، لورد النقل به متواترا.

قيل له: ليس كذلك، لأن ترك الوضوء منه ليس بشريعة يلزم النبي صلى الله عليه وسلم توقيفهم عليها، وإنما هو شيء مباح يجوز فعله وتركه، وإيجاب الوضوء شريعة لا يسع تركها، ولا يجوز أن يقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليها، مع علمه بتركهم إياها. وأيضا: لما اتفقنا جميعا على أن مس شعرها لا يوجب الوضوء، كان كذلك مس جميع أعضائها، لأنه مما يلحقه حكم التطهير. وأيضا: لو كان مسها حدثا، لما اختلف الرجل والمرأة فيه، فلما اتفقنا على أن مس المرأة لا يوجب نقض طهارتها، كان كذلك حكم الرجل في مسها، لأن ما كان حدثا: لا يختلف في حكمه الرجال والنساء، كالبول والغائط وسائر الأحداث. فصل: [عدم نقض الوضوء بمس الذكر] وأما الوضوء من مس الذكر، فإن الأصل فيه عندنا أن ما كان بالناس إليه حاجة عامة، فسبيله أن يرد النقل بحكمه مستفيضا متواترا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا محالة يوقفهم عليه، وهم مأمورون بالنقل والإبلاغ، فلا جائز فيما كان هذا سبيله أن يرد نقله من طريق الآحاد. وهذه حال إيجاب الوضوء من مس الذكر، لعموم البلوى به، فلو كان من النبي صلى الله عليه وسلم حكم في إيجابه لنقله الكافة، كما نقلوا

الوضوء من البول والغائط، وغسل الجنابة ونحوها. فلما روي عن علي، وابن مسعود، وعمر، وسعد بن أبي وقاص، وحذيفة، وعمار، وعمران بن حصين، وابن

عباس رضي الله عنهم، وعن إبراهيم، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، والشعبي، وعامة السلف نفي إيجاب الوضوء منه

علمنا أنه لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم فيه توقيف، إذ لو كان منه ذلك، لما خفي أمره على هؤلاء، وهم علية السلف، وعلماء الصدر الأول. وهذا مع ما عاضده من رواية طلق بن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأله عن مس الذكر هل فيه وضوء؟ فقال: "لا، إنما هو بضعة منك". *وأما ما روي من الأخبار في الوضوء من مس الذكر، فإنها كلها واهية ضعيفة لا يثبت بمثلها حكم لو وردت في الشيء الخاص الذي لا تعم البلوى به، فكيف فيما سبيله أن يكون إثبات حكمه من جهة التواتر؟

قال يحيى بن معين في التاريخ: لا يصح في الوضوء من مس الذكر حديث، وكان لا يرى إيجاب الوضوء منه. قال أبو بكر أحمد: فأحد ما يروى في الوضوء من مس الذكر حديث يذكرونه عن عمر بن شريح عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مس فرجه فليتوضأ".

وعمر بن شريح هذا ضعيف جدا عندهم، ليس ممن يقبل بروايته. وحديث يروى عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن عروة عن زيد بن خالد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مس فرجه فليتوضأ". وأهل النقل لا يشكون في أن هذا الحديث مما أخطأ فيه عبد الأعلى بالبصرة في أحاديث غيره مما يذكرونها. وحديث يروى عن هشام بن زياد عن هشام بن عروة عن أبيه عن أروى بنت أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهشام بن زياد هذا: ساقط. وحديث الزهري عن عبد الله بن أبي بكر عن عروة عن بسرة رضي الله

عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا أثله عن شرطي عن بسرة؛ لأن مروان رواه لعروة، فلم يرفع عروة بحديثه رأسا، فبعثوا شرطيا إلى بسرة، فأخبر عنها لشرطي بذلك، كذلك روي في الحديث. وحديث يزيد بن عبد الملك النوفلي عن أبي موسى الخياط عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ويزيد بن عبد الملك ضعيف عندهم، وأبو موسى الخياط مجهول. وحديث العلاء بن الحارث عن مكحول عن عنسبة بن أبي سفيان عن أم حبيبة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال يحيى بن معين: مكحول لم ير عنسبة. وحديث العلاء بن سليمان عن الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي

الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم. والعلاء بن سليمان هذا شيخ من أهل الرقة ضعيف. ويرونه عن صدقة بن عبد الله عن هشام بن زيد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وصدقة عندهم غير مقبول الرواية. ويروونه عن حفص بن عمر الصنعاني المعروف بالفرج عن املك بن أنس عن نافع عن ابن عمر عن بسرة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وحفص هذا عندهم ضعيف. ومما زاد في سقوطه: روايته لهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن أصحاب مالك الثقات كلهم يروونه موقوفا على ابن عمر رضي الله عنهما من قوله، غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ويروونه عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن الزهري عن عبد الله بن عبد القاري عن أبي أيوب رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ضعيف، لا يشك في ضعفه. ويروى عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن زيد بن خالد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا إنما رواه ابن جريج عن الزهري عن عروة عن بسرة أو عن زيد

بن خالد رضي الله عنهما، فشك فيه. ويدل على سقوطه أن عروة لما أخبره مروان قال: لم أعلم بذلك، ولم يرفع بحديثه رأسا، ولو كان عنده زيد بن خالد رضي الله عنه لما أنكره، وما رد عليه قوله. وحكى محمد بن شجاع عن على بن المديني قال: "حديث عبد الله بن بدر عن قيس بن طلق عن أبيه أحب إلي في الإسناد من أحاديث الوضوء من مس الذكر". وقال إبراهيم الحربي: حديث بسرة إنما هو عن شرطي. فإن قيل: إن في هذه الأخبار ما] لا [يصح سنده عندك، وإنما رده

أصحاب الحديث من جهة الإرسال، والمرسل والموصول عندك سواء، فكيف تحتج في إبطاله بأصل غيرك، وهو مما يلزمك على أصلك. قيل له: قد بينا أن شرطنا في قبول الأخبار من طريق الآحاد، أن لا يكون بالناس إليه حاجة عامة، وأن ما عمت البلوى به لا يكل النبي صلى الله عليه وسلم علمه إلى الخاصة، وإلى الأخبار الشاذة. وإنما نقبل روايات الآحاد في الشيء الخاص الذي يبتلى به خواص من الناس، فيجيب النبي صلى الله عليه وسلم فيه على حسب ورود الحادثة. وإنما ذكرنا وجه فساد هذه الأخبار على مذهب القائلين بإيجاب الوضوء منه، لأنهم لا يقبلون المراسيل، وما ليس منه بمرسل: فمن رواية قوم مجهولين أو مغموز عليهم في الرواية. فإن قيل: إذا جاز أن يخفى على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نسخ التطبيق، مع عموم الحاجة إليه، ومع قرب محله من النبي صلى الله عليه وسلم، لم ينكر خفاء إيجاب الوضوء من مس الذكر على من ذكرت من الصحابة. قيل له: إن عبد الله رضي الله عنه لم يخف ذلك عليه من قول النبي

صلى الله عليه وسلم، ولكن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ورد محتملا لهذا المعنى، ومحتملا الترخيص دون النسخ؛ لأنهم لما شكوا إليه التطبيق، قال: "استعينوا بالركب"، فحمله عبد الله رضي الله عنه على الرخصة؛ لأن ظاهره يدل على ذلك، واختار هو لنفسه البقاء على التطبيق، إذ كان أشق عليه، فكان عنده أنه أعظم الأجر. ولم يثبت عن أحد من علماء السلف، وعلية الصدر الأول إيجاب الوضوء من مس الذكر. فإن قيل: قد كان ابن عمر رضي الله عنه يرى ذلك. قيل له: قد كان ابن عمر مصعبا على نفسه في أمر الطهارة، وكان يتوضأ لكل صلاة، ومما غيرت النار، ويدخل الماء في عينيه في

الوضوء، فجائز أن يكون فعل ذلك على عادته المعروفة في التشديد في أمر الطهارة، وعلى جهة الاحتياط. وابن عمر رضي الله عنه إنما أخذ ذلك عن بسرة رضي الله عنهما، وقد علم ابن عباس برواية بسرة، فلم يلتفت إليها، وكذلك عامة من حكى عنه من الصحابة نفي الوضوء من مس الذكر، قد سمعوا حديث بسرة، فلم يلتفتوا إليه، ولم يعلموا به غير ابن عمر رضي الله عنهم. فإن قيل: قد روي الوضوء من مس الذكر عن ابن عمر، وسعد، وعائشة، وأنس رضي الله عنهم.

قيل له: قد روي عن هؤلاء كلهم نفي الوضوء منه، فأقل أحوالهم

أن تتعارض الروايات فيه عنهم، فيصيرون كأنهم لم يحفظ عنهم فيه شيء وحصل لنا في نفيه قول من رويناه منهم من غير معارض. * وأيضًا: لوثبت الوضوء من مس الذكر كان معناه: غسل اليد على معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يديه ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده"، فأمر عليه الصلاة والسلام بغسل اليد من مس الذكر احتياطيًا من أن يكون أصابته بلة من موضع الاستنجاء، كما روي في الوضوء مما غيرت النار، والمعنى فيه عند عامة الفقهاء غسل اليد. وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في "مسائل الخلاف". مسألة: [يقين الطهارة لا يزول يشك في الحدث، ولا العكس] قال أبو جعفر: (ومن أيقن بالطهارة: فلا يزول عنها بشك في حدث، ومن أيقن بحدث: فلا يزول عنه بشك في طهارة). وذلك لما روى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذ كان أحدكم في الصلاة، فوجد حركة في دبر: أحدث أو لم يحدث؟ فأشكل عليه، فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا.

وروى عباد بن تميم عن عم عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. فصار ذلك أصلًا في أن الطهارة إذا كانت يقينًا في الأصل: لم يرتفع حكما بالشك، وكذلك الحدث إذا كان يقينًا: لم يزل بالشك. مسألة: [وجوب الغسل بالإنزال من شهوة] قال أبو جعفر: (ومن أنزل من شهوة بغير جماع، من رجل أو امرأة، فعليه الغسل). وذلك لما روي أن أم سليم رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها مثل ما يرى الرجل من الحلم، فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا كان منها مثل ما يكون من الرجل: فلتغتسل". ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الماء من الماء"، ومعناه: الاغتسال من الإنزال.

مسألة: [وجوب الغسل بالتقاء الختانين] قال أبو جعفر: (ومن غابت حشفته في فرج: فعليه الغسل، أنزل أو لم ينزل، والفاعل المفعول به في سواء). وذلك لما روت عائشة وأبو هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا التقى الختانان وجب الغسل". وفي حديث أبي هريرة عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "إنما كان قول الأنصار: "الماء من الماء" رخصة في أول الإسلام، ثم أمرنا بالغسل". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما قال: "الماء من الماء": في الاحتلام، فإذا رأى الماء اغتسل. وأجمع السلف عليه بعد اختلاف كان بينهم فيه، فسقط باتفاقهم بعده.

وكانت الأنصار ترى أن لا غسل إلا من الإنزال، ويروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الماء من الماء" يعني الاغتسال من الإنزال، فلما صح عندهم الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب الغسل من الإيلاج: رجعوا إليه. والأصول تشهد له أيضًا؛ لأن سائر الأحكام المتعلقة بالجماع إنما تتعلق بالإيلاج دون الإنزال. منها: وجوب البلد، وثبوت الإحصان، وإباحتها لزوجها الأول، وإيجاب الكفارة في الصوم، فوجب أن يتعلق به وجوب الغسل.

[مسألة: خروج المني من غير شهوة] قال أبو بكر: وأما المني إذا خرج من غير شهوة: فقياس قولهم أنه يوجب الوضوء، ولا يوجب الغسل؛ لأنهم يقولون: من ضرب على إليتيه، فخرج المني من ذكره: أنه يتوضأ، ولا غسل عليه. قال أبو بكر أحمد: الأصل في ذلك أن خروج المذي لا يوجب الغسل، ويوجب الوضوء، والمذي هو من أجزاء المني، إلا أنه لما لم يكن خروجه على وجه الدفق والشهوة: لم يوجب الغسل، فكذلك المني إذا لم يكن خروجه على وجه الدفق والشهوة. مسألة: [وجوب الغسل على الحائض والنفساء عند انقطاع الدم] قال أبو جعفر: (وإذا انقطع دم الحائض عنها فعليها الغسل، وكذلك النفساء). قال: (ولا غسل من جهة الفرض غير ما ذكرنا).

قال أبو يكر أحمد: يعني من الإنزال والإيلاج في الفرج أو الحيض أو النفاس. والأصل في وجوب الغسل من الحيض: قول الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها: "إذا أدبرت الحيضة فاغتسلي وصلي". وأما النفاس فهو مثل الحيض في وجوب الغسل منه، ولا خلاف بين المة فيه. مسألة: [صفة الغسل] قال أبو جعفر: (والغسل من الجنابة والحيض والنفاس أن يبدأ فيغسل ما به من الأذى، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض الماء على رأسه وسائر جسده إفاضة يصل بها الماء إلى شعره وبشره، ولابد في ذلك من المضمضة والاستنشاق). قال أبو بكر أحمد: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ

وضوءه للصلاة في غسل الجنابة، ثم أفاض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثًا غير رجليه، ثم تنحى فغسل رجليه. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أما أنا فأفيض على رأسي الماء ثلاثًا، فإذا أنا قد طهرت". وقال لأم سلمة رضي الله عنها: "إنما يكفيك أن تصبي الماء على رأسك ثلاثًا، ثم تغسلي سائر جسدك، فإذا أنت قد طهرت". وقال لأم سلمة رضي الله عنها: "إنما يكفيك أن تصبي الماء على رأسك ثلاثًا، ثم تغسلي سائر جسدك، فإذا أنت قد طهرت". وقال صلى الله عليه وسلم: "إن تحت كل شعرة جنابة، فبلوا الشعر، وأنقوا البشرة. وقال لأبي ذر رضي الله عنه: "التراب كافيك، ولو إلى عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك". وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك شعرة من جسده في الجنابة لم يغسلها: فعل بها كذا وكذا من النار".

فهذه الأخبار توجب غسل جميع البدن مما يلحقه حكم التطهير في الجنابة. وتدل على أن الوضوء ليس بواجب في الجنابة، وقد بينا الحجاج لوجوب المضمضة والاستنشاق في الجنابة فيما تقدم. مسألة: [أدنى ما يكفيه من الماء في الوضوء والغسل] قال أبو جعفر: (ولا نحب له أن يغتسل بدون الصاع، ولا يتوضأ منه بأقل من مد، وإن أسبغ بدونهما أجزأه). وذلك لما روى انس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع"، والمد رطلان. [مسألة: مقدار الصاع] قال: (والصاع في قول أبي حنيفة ومحمد: ثمانية أرطال بالبغدادي، وفي قول أبي يوسف: خمسة أرطال وثلث). والكلام في مقدار الصاع موضعه في باب صدقة الفطر.

مسألة: [طهارة سؤر الإنسان] قال أبو جعفر: (ولا بأس بأسآر بني آدم: مسلميهم ومشركيهم، وذكورهم وإناثهم، وطاهريهم وحيضهم، ومن سوى ذلك منهم). * أما سؤر المسلم فلا خلاف فيه. وأما سؤر المشرك فإن ظاهر قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}: يوجب إباحة سؤرهم؛ لأنه لم يفرق بين طعامهم في أوانيهم التي شربوا فيها، وبين غيرها، وعمومه يقتضي إباحة الجميع. وأيضًا: فلا خاف بين فقهاء الأمصار أن سؤر المشرك ليس بنجس، وأنه لو أصاب منه الثوب وإن كثر: لم يمنع الصلاة". فإن قال قائل: قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}

قيل له: المراد به نجاسة الكفر، لا نجاسة العين؛ لأن عينه واحدة في حال الإسلام والكفر. وأيضًا: لو كان الكافر نجس العين، لما تركه النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أنزل وفد ثقيف في المسجد، وهم كفار. ودخل أبو سيفان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر، فلم ينكره. فدل ذلك على أنه ليس بنجس العين، ألا ترى أن الكلب والخنزير لما كانا نجسين: لم يجز تركهما في المسجد. * وأما سؤر الحائض، فطاهر بمنزلة سؤر الطاهر، والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها:

"ناوليني الخمرة"، فقالت: أنا حائض، فقال: "ليس حيضتك في بدك"، فدل على أنها في سائر الأعضاء كالطاهرة. * * * * *

باب التيمم

باب التيمم [مسألة: الأمكنة التي يجوز فيها التيمم] قال أبو جعفر: (ويتيمم في غير الأمصار والقرى إذا أعوز الماء). قال أبو بكر: وذلك لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}. [مسألة: كيفية التيمم] قال أبو جعفر: (والتيمم أن يقصد إلى صعيد طيب، فيضرب بيديه عليه، ثم ينفضهما فيسمح بهما وجهه، ثم يضرب بهما ضربة أخرى، ثم ينفضهما فيسمح بهما ذراعيه إلى المرفقين ...) إلى آخر ما ذكر. قال أبو بكر: قد روي عن عمار بن ياسر رضي الله عنه حديث التيمم على وجوه مختلفة. فروي عنه أنه قال: "تيممنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المناكب".

وهذا اللفظ ليس فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ولا على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك من فاعله، فلم ينكره عليه، إذ جائز أن يكون مراده: أنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، ففعلنا ذلك. ومثل ذلك لا تقوم به حجة من فعل الصحابي حتى يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم، فيترك النكير عليه، وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع، وهذا أحد ما روي عن عمار رضي الله عنه في التيمم. وروي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التيمم حين أجنب، فتمعك في التراب، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما كان يكفيك الوجه والذراعين إلى المرفقين". وروي: "الوجه والكفين:، روي: "الوجه والكفين إلى نصف

الذراع". ثم روي فيه أيضًا: "أنه فعل ذلك بضربتين"، وروي "بضربة واحدة". فهذه أحاديث عمار رضي الله عنه قد رويت على هذه الوجوه. * فأما التيمم إلى المناكب، فقد بينا وجهه، وأنه لا تثبت بمثله حجة. * وبقي الكلام في جهة الأخبار الأخر، فنقول: إن الواجب الأحد بالزيادة، وهو إثباته: "إلى المرفقين"، و"بضربتين إحداهما للوجه، والأخرى لليدين"، إذ كان ذلك أكثر ما روي فيه. ومن اقتصر على ما دون المرفقين، وعلى ضربة واحدة، فقد ترك زيادة قد ذكرت فيه، لم يستعملها، وسبيل الأخبار أن تستعمل على أكثرها فائدة، وأعمها حكماً. * وقد روي في صفة التيمم غير حديث عمار رضي الله عنه: فمنها: حديث محمد بن ثابت العبدي عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن رجلا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بعض سكك

المدينة، فلم يرد عليه حتى ضرب بيديه على الحائط، ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى، فمسح ذراعيه، ثم رد على الرجل السلام، وقال: "إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر" فذكر فيه ضربتين للتيمم، ومسح الذراعين. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي قال: حدثنا عمر بن محمد الأنماطي قال: حدثنا جرير عن عزرة عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في التيمم: "ضربة للوجه، وضربة للذراعين إلى المرفقين". قال إبراهيم: وحدثنا أبو نعيم قال: وحدثنا عزرة عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه مثله من قوله. قال أبو بكر: وهذا لا يفسده عندنا، بل يؤكده؛ لأنه يجوز أن يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم في وقت، ثم يفتي في وقت آخر، فذكر فيه أيضًا ضربتين، ومسح اليدين إلى المرفقين. وروى الأسلع رضي الله عنه أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه

علمه التيمم، فضرب ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين". وهذه أخبار مشهورة تركت ذكر أسانيدها كراهة الإطالة. * وأما قوله: "ينفضهما"، فلأن في حديث الأسلع رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نفضهما". حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي قال: حدثنا سعيد بن سليمان قال: حدثنا الربيع بن بدر عن أبيه عن جده عن الأسلع رضي الله عنه قال: لأراني كيف علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم التيمم، فضرب بكفيه على الأرض، ثم نفضهما، ثم مسح بهما وجهه، ثم أمر على لحيته، ثم أعادهما إلى الأرض، فمسح بهما الأرض، ثم دلك إحداهما بالأخرى، ثم مسح ذراعيه ظاهرهما وباطنهما". وفي حديث عمار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نفضهما"، وفي بعضهما: "أنه نفخ فيهما"، وفي بعضها: "أنه ضرب

بإحداهما على الأخرى". وحديث الأسلع رضي الله عنه يدل على أنه يحتاج أن يعم العضو بالمسح؛ لأنه قال: "مسح ظاهرهما، وباطنهما"، وهو موافق لما ذكره أبو جعفر في صفة التيمم. مسألة: [وجوب طهارة موضع الأرض الذي يتيمم منه] قال أبو جعفر: (ومن تيمم من موضع من الأرض غير طاهر: لم يجزئه). قال أبو بكر: وذلك لقوله عز وجل: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}، والمعنى –والله أعلم –طاهرًا، لأن النجس لا يسمى طيبًا، ولأن الله تعالى

قال: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَآئِثَ}، والنجاسات من الخبائث، فلا يجوز استعمالها للطهارة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، والنجس لا يكون طهورًا، كما أن الماء النجس لا يكون طهورًا. مسألة: [ما يتيمم به] قال أبو جعفر: (وكل شيء يتيمم به من تراب أو طين أو جص أو نورة أو زرنيخ أو ما يكون من الأرض سوى ذلك من حجارة أو غبار ثوب، فإنه يجزيه في قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يجزئ إلا بالتراب). قال أبو بكر: وجه قول أبي حنيفة: قول الله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}، وقال لنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال:

"الصعيد: الأرض، والصعيد: التراب، والصعيد: الطريق، والصعيد: القبر، فكل ما كان من الأرض فقد انتظمته الآية". فإن قيل: روي في حديث آخر: "جعلت لي الأرض مسجدًا، وترابها لنا طهورًا". قيل له: نستعملهما، فنقول: "ترابها طهور بهذا الخبر، وجميع أجزائها طهور أيضًا بقوله: "جعلت لي الأرض طهورًا". * ويدل على انه غير مقصور على التراب: حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي قدمنا، أن النبي ضرب بيديه على الحائط في بعض سكك المدينة، وتيمم، ثم رد عليه السلام، وقال: "ما منعني من الرد عليك إلا أني كنت على غير طهر". فإن قيل: ذلك التيمم لا اعتبار به؛ لأنه كان في المصر، وفي حال

وجود الماء من غير عذر، ولأن رد السلام لا تتعلق صحته بالطهارة. قيل له: ليس كذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن عده الطهارة كان منعه من رد السلام، وليس يمتنع من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد كان متعبدًا بأن لا يرد السلام إلا وهو على طهارة، ولا يدري هل نسخ عنه هذا الحكم أم كان باقيًا إلى أن توفي. وأما جوازه في المصر فلخوف الفوات، لأن رد السلام إنما يكون على الفور، وهذا نظير ما يقوله في جواز التيمم في صلاة الجنازة في المصر؛ لخوف الفوات. فإن قيل: جوزه بالذهب والفضة، لأنهما من الأرض. قيل له: لا يجب ذلك؛ لأنهما ليسا من أجزاء الأرض، وإنما هي جواهر مودعة في الأرض، ألا ترى أن طبعهما مخالف لطبع الأرض. * وذهب أبو يوسف إلى ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: "التراب كافيك، ولو إلى عشر حجج"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وترابها لنا طهور". مسألة: [لا يجمع الجريح بين التيمم والغسل] قال أبو جعفر: (ومن كان به جرح يضره الماء في أي مكان كان من

جسده، ووجب عليه الغسل: غسل سائر جسده سواه، وليس عليه التيمم). وذلك لأن عليه غسل سائر مواضع الصحة؛ لإمكان غسلها إذا كان الأكثر من بدنه صحيحاً. * ولم يجب عليه التيمم؛ لأنه لا يجوز الجمع بين البدل والمبدل عنه، فإذا لزمه فرض الغسل: سقط حكم التيمم. ولأن التيمم لا يجب إلا مع عدم الماء، أو تعذر استعماله، فلما لزمه فرض الغسل في بعض الأعضاء، لم يجز لزوم التيمم فيها، لما وصفنا. * ويدل عليه أيضًا: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليًا رضي الله عنه بالمسح على الجبائر، ولم يأمره بالتيمم مع الوضوء. [مسألة:] قال: (فإن كان الأكثر من بدنه مجروحًا: جاز له التيمم، ولم يكن عليه غسل شيء من بدنه).

وذلك لأن الحكم متعلق في مثل ذلك بالأكثر، ألا ترى أنه لا يجب عليه إذا كان مجدورَا غسل ما بين الجدريين. * ولعموم قوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}، فسوى بين المرض وبين عدم الماء في جواز التيمم، وترك استعمال الماء. مسألة: [بقاء التيمم حتى يوجد ما ينقصه] قال أبو جعفر: (ومن وجب عليه أن يتيمم لعوز الماء، أو لعلة ببدنه، فتيمم، كان على تيممه ما لم يحدث، أو يجد الماء). قال أبو بكر: وذلك لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}. فأباح التيمم لعدم الماء، وهذا المعنى قائم بعد فعل الصلاة كهو قبله، فلا فرق بين الحالين إذا كانت العلة التي لها جازت صلاته بالتيمم قبل الفراغ منه، موجودة بعد الفراغ منها. وأيضًا: قال النبي صلى الله علي وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: "التراب كافيك، ولو إلى عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك".

وقال في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "التراب وضوء المسلم ما لم يجد الماء". فإن قيل: قوله: "التراب كافيك ولو إلى عشر حجج": ليس بتوقيت، لحصول اليقين بأن ذلك لا يبقى. قيل له: أجل، إلا أنه قد دل به على بقاء حكم التيمم ما لم يجد الماء، وأكده بذكر السنين العشر. وهذا نظير قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، لم يرد به العدد، وإنما أراد به تأكيد نفي الغفران. فإن قيل: قوله عز وجل: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}، يقتضي إيجاب التيمم لكل صلاة. قيل له: هذا غلط من وجوه: أحدها: أن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}: لم يرد به حقيقة اللفظ؛ لأنه لو أريد به ذلك، كانت الطهارة بعد الدخول فيها، وهذا لا يقوله أحد، فثبت أن اللفظ مجاز، والمجاز لا يستعمل إلا بدلالة تقوم عليه غير اللفظ.

وأيضًا: فإن: "إذا": لا يقتضي التكرار، وإنما يتناول مرة واحدة، وما بعدا إنما دخل في الحكم من جهة المعنى، لا ن جهة اللفظ. وأيضًا: لو جاز أن يقال ذلك في التيمم، لجاز أن يقال مثله في الوضوء؛ لأنه مذكور معه، فلما لم يكن إرادة القيام إلى الصلاة شرطًا في إيجاب الضوء: كذلك في التيمم؛ لأنهما جميعًا دخلا في حكم الآية بلفظ واحد. فإن قيل: اللفظ يقتضي التكرار فيهما جميعًا، إلا أنا خصصنا الوضوء بدلالة، ولم تقم الدلالة في التيمم. قيل له: ليس هناك لفظان: أحدهما للوضوء، والآخر للتيمم، وإنما هو لفظ واحد لهما، وقد صح نفي التكرار في أحدهما، فالآخر مثله. وأيضًا: فقد وافقنا بعض مخالفينا على جواز نفل وفرض بتيمم واحد، فلا يخلو هذا المتيمم بعد فراغه من الفرض، من أن يكون حكم تيممه باقيًا أو زائلًا، فإن كان باقيًا: جاز له أن يصلي به فرضًا آخر، وإن كان زائلًا: فالواجب أن لا يجزيه النفل؛ لأن النفل والفرض لا يختلفان في باب الطهارة. فإن قيل: قد يختلفان في باب جواز النفل قاعدًا من غير عذر، وعلى الراحلة حيثما توجهت به من غير خوف، ولا يجوز مثله في الفرض. قيل له: لا يجوز النفل على شيء من هذه الأحوال إلا ومثله يجوز في

الفرض في حال العذر، فلا فرق بين النفل والفرض في الأصول في باب الطهارة. فإن قيل: فقد جعلتم وضوء الاستحاضة مقدرًا بالوقت؛ لأنه لا يرفع الحدث، فهلًا كان التيمم مثله، لوجود هذه العلة. قيل له: الفصل بينهما: أنه لم يوجد بعد التيمم حدث، فيعتبر فيه الوقت، وقد وجد من المستحاضة سيلان الدم بعد الطهارة، وهو حدث، فرخص لها الصلاة بالحدث مادامت في الوقت، فإذا خرج الوقت ألزمناها الطهارة لحدث قد وجد منا بعد الطهارة، فلذلك اختلفنا. مسألة: [إبقاء الماء خشية العطش، وجواز التيمم] قال أبو جعفر: (إذا خاف العطش على نفسه، فله أن يتيمم، ويحبس الماء لنفسه). لأن الله تعالى قد أباح التيمم للمريض، لما يخشى على نفسه من ضرر استعمال الماء، فكذلك الخائف على نفسه العطش، يلحقه ضرر باستعمال الماء للطهارة: فجاز له العدول عنه إلى التيمم. وأيضًا: قال الله تعال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}: يعني من ضيق.

[مسألة] قال: (ولا ينبغي لعادم الماء أن يعجل بالتيمم، ولكن يؤخره إلى آخر الوقت). وذلك لأنه عسى أن يجد الماء، فيصلي بطهارة الماء، ويخرج بها من الخلاف في إعادة الصلاة لو وجده في الوقت بعد الفراغ منها بالتيمم. [مسألة] قال: (فإن تيمم في أول الوقت، وصلى أجزأه). وذلك لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}، ثم قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}، فتضمنت الآية إباحة فعل الصلاة بالتيمم في أول الوقت، ولا يكون ذلك إلا وقد تقدم فعل التيمم على الوقت. وأيضًا: عموم قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}، يوجب جواز التيمم عند عدم الماء في أول الوقت، وهذا أيضًا يوجب جواز التيمم قبل دخول الوقت؛ لأنه لم يخصص في جوازه وقتًا من وقت، وإنما

علقه بعدم الماء فإن قيل: قال الله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}، ولا يصح القيام إليها قبل دخول الوقت. قيل له: هذا يدل على صحة قولنا؛ لأن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}: لا يخلو من أن يكون المراد به وجود القيام إلى الصلاة، أو إرادة القيام إليها، ومعلوم أنه لم يرد وجود القيام إليها، لن ذلك لا يكون إلا بعد وجود جزء منها، وشرط ذلك الجزء أيضًا تقديم الطهارة عليه، فانتفى بذلك أن يكون المراد وجود القيام، فإذا معناه: إذا أردتم القيام إليها. وهو قد يريد القيام إليها قبل دخول وقتها إذا دخل الوقت، كما يريد أن يصلي غدًا، وفي مستقبل عمره، فواجب أن يصح تيممه بحكم الآية قبل دخول الوقت. وكما جاز الوضوء قبل دخول الوقت: كان كذلك حكم التيمم الذي هو مشروط عند عدمه. * ويدل على جواز تقديمه على القوت: قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ

لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}، فأباح فعلها عقيب الزوال في أول وقتها. وقال:} فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فأباح الصلاة في أول وقتها بطهارة يقدمها عليها من وضوء أو تيمم، فصح جواز تقديمه على الوقت. وأيضًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: "التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء"، وقال صلى الله عليه وسلم: "التراب كافيك ولو على عشر حجج"، ولم يخصص به حالًا من حال، ولا وقتًا من غيره. مسألة: [بطلان التيمم بوجود الماء قبل القعدة الأخيرة قدر التشهد] قال أبو جعفر: (ومن تيمم، ثم وجد الماء قبل دخوله في الصلاة، أو بعد دخوله فيها قبل أن يقعد في آخرها مقدار التشهد: انتقضت طهارته، وتوضأ، واستأنف الصلاة).

قال أبو بكر: قال الله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}، وظاهره يقتضي وجوب الغسل بعد القيام إلى الصلاة والدخول فيها، ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}، فأوجب الغسل بعد القيام إلى الصلاة، وأسقطه عند عدم الماء بالتيمم، فمتى وجد الماء: لزمه الغسل بالظاهر. وأيضًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء، فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك". وقوله لأبي ذر رضي الله عنه: "التراب كافيك ولو إلى عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك"، ولم يفرق بين حاله بعد الدخول في الصلاة، وقبل دخوله. فإن قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم في المصلي: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا". قيل له: قاله في الشاك في الصلاة.

وكذلك قوله: "لا وضوء إلا من صوت، أو من ريح". وأيضًا: حال الصلاة لا يمنع لزوم الطهارة، بدلالة أنه لو أحدث فيها لزمته الطهارة، وكذلك لا يمنع لزوم سائر الفروض التي هي من شرائط صحة الصلاة، مثل وجود الثوب للعريان، ولزوم الأمة تغطية الرأس بالعتق، ولزوم الطهارة بوجود الحدث. فلما كان رؤية الماء قبل الدخول في الصلاة ينقض التيمم، وجب أن لا يمنع كونه في الصلاة ينقض التيمم، وجب أن لا يمنع كونه في الصلاة من انتفاضة، ولزوم الطهارة به. فإن قيل: الفرق بين حال الصلاة وبين غيرها، أن فرض الطلب قائم عليه ما لم يدخل في الصلاة، فإذا صار فيها: سقط عنه فرض الطلب؛ لأنه ينافي فعل الصلاة، فسقط عنه من أجل ذلك فرض استعمال

الماء. قيل له: قولك بإيجاب فرض قبل الدخول في الصلاة، دعوى لا دلالة عليها، إلا أنا نقول لك مع تسليمه: خبرنا عنه: إذا طلب الماء، فلم يجده، فتيمم، هل سقط عنه فرض الطلب؟ فإن قال: نعم. قيل له: فإن وجد الماء قبل دخوله في الصلاة، أليس ينتقض تيممه مع سقوطه فرض الطلب عنه على قولك؟ فقد نقضت بذلك ما أصلت من أن سقوط فرض الطلب يمنع لزوم استعماله الماء. وإن قلت: إن فرض الطلب قائم عليه مع التيمم قبل دخوله في الصلاة. قلنا لك: فينبغي أن لا يصح تيممه؛ لن بقاء فرض الطلب يمنع صحة التيمم عندك. وإن جاز أن يقول: إن فرض الطلب قائم عليه مع صحة تيممه، وجواز دخوله في الصلاة، فهلًا قلت: إن فرض الطلب قائم عليه بعد دخوله في الصلاة. فإن قال: لأن كونه في الصلاة ينافي فرض الطلب عليه. قيل له: وجواز دخوله في الصلاة ينافي بقاء فرض الطلب، فواجب أن يسقط عنه فرض الطلب قبل دخوله فيها؛ لأنك قد أجزت له الدخول، وهو ينافي فرض الطلب.

* ودليل آخر: وهو أن وجود الماء لما كان مانعًا من صحة الابتداء. وجب أن يمنع البقاء، كالحدث لما منع الابتداء: منع البقاء. فإن قيل: العدة تمنع ابتداء عقد النكاح، ولا تمنع البقاء. قيل له: لا يخلو من أن تريد إلزامنا الفرق بين الابتداء والبقاء على علة أوجبت علينا ذلك، أو بسومنا القياس على النكاح. فإن أردت إلزامنا: فعلى أية علة وما اعتللنا به في الصلاة غير موجود في النكاح. وإن سمتنا قياسها على النكاح، فالواجب إظهار العلة التي من اجلها اختلف حكم الابتداء والبقاء في النكاح، وتدل على صحتها. ثم تسومنا قياس رؤية الماء عليها إن كانت موجودة فيها. فإما أن تقول: اختلف حكم الابتداء والبقاء في مسألة وجب أن يختلف في سائر المسائل، فإن هذا قول ساقط لا يستحق الجواب. وعلى أنا نسامحك فنقول: إن شرط صحة الصلاة وجود الطهارة فيها

في الابتداء والبقاء، فلما كان وجود الماء قبل الدخول فيها مانعًا من صحة الابتداء، ووقوعها بطهارة التيمم: وجب أن يكون البقاء مثله إذا كان شرط الجميع وجود الطهارة معه، وليس شرط بقاء النكاح خلوها من العدة، وإنما ذلك شرط في نفس العقد. فإن قيل: فقد فرقت أنت بين الابتداء والبقاء في نفس الطهارة، فقلت: لو ابتدأ الصلاة مع الحدث: لم يصح افتتاحه، ولو سبقه الحدث بعد الدخول: لم يبطل الافتتاح. قيل له: لا فرق بينهما على ما ذكرنا، لأنا قلنا: كل حال لا يصح الابتداء عليها: لا يصح البقاء معها، والمحدث لا يصح له البناء مع الحدث، لأنا نقول: لو فعل جزءًا من الصلاة بعد الحدث: بطلت صلاته، كما لو ابتدأها مع الحدث لم تصح. * ودليل آخر: وهو اتفاق الجميع على أن الصغيرة إذا اعتدت شهرًا، ثم حاضت: انتقلت عدتها إلى الحيض، فلم تختلف حال وجود الحيض في الابتداء وبعد وجوب العدة، ومحل الشهور من الحيض محل التيمم من الماء، وكونها معتمدة مثل كون المصلي في

الصلاة مع التيمم. وأيضًا: لو خرج وقت مسحه، وهو في الصلاة: لزمه فرض غسل الرجلين، فدل ذلك على معنيين: أحدهما: ان كونه في الصلاة: لا تأثير له في منع لزوم الطهارة. والثاني: أن خروج وقت المسح: يبطل حكم البدل، ويوجب الرجوع إلى حكم الأصل من غسل الرجلين، كما يبطل وجود الماء في حكم التيمم، فلما لم تختلف حاله قبل الصلاة وبعد الدخول فيها في لزوم غسل الرجلين، فخروج الوقت وجب أن لا يمنع لزوم التيمم، والعلة الجامعة بينهما: أن كل واحد منهما لا يثبت حكمه مع لزوم الآخر. وكذلك لو كان عريانًا، فوجد ثوبًا وهو في الصلاة: لزمه فرض الستر، ولم يمنع كونه في الصلاة من لزوم ذلك. وكذلك المستحاضة إذا انقطع دمها، وبرأت وهي في الصلاة، لم يختلف حكمها في ذلك قبل الدخول أو بعده. * ومن جهة أخرى: إن التيمم لما كان بدلًا عن الماء: لم يجز بقاء حكمه مع وجود المبدل عنه، إذ ليس في الأصول بقاء حكم البدل مع

الأصل. فإن قيل: فلو صام المتمتع ثلاثة أيام في الحج، وحل بالحلق، ثم وجد الهدي قتل السبعة الأيام: لم ينتقض صومه الأول، مع كونه بدلًا عنه. قيل له: الثلاثة بدل الهدي، لا السبعة، والدليل عليه أن الهدي هو الذي يقع به الإحلال، فوجب أن يكون بدله ما يقع الإحلال بعده، فلما وقع الإحلال بالثلاث: صار وقوع الإحلال به بمنزلة الفراغ من الصلاة، فلا يؤثر وجود الماء بعد ذلك في حكمها، ألا ترى أنا نقول إنه لو وجد الهدي في الثلاث، أو في أيام النحر قبل أن يحل: أنه ينتقل إلى الهدي، كما نقول في المصلي إذا وجد الماء قبل فراغه من الصلاة. مسألة: [وجود الماء بعد القعدة قدر التشهد، وتسمى المسائل الاثنا عشرية] قال أبو جعفر: (وإن وجده بعد ما قعد في صلاته مقدار التشهد: فإن أبا حنيفة قال: تفسد صلاته، وقال أبو يوسف ومحمد: لا تفسد). قال أبو بكر: لهذه المسألة نظائر أجراها أبو حنيفة رحمه الله على أصل واحد، مثل العريان إذا وجد ثوبًا، وخروج وقت

المسح، والأمي إذا برأ فقدر على الركوع والسجود، وإذا خرج وقت الجمعة، وإذا ذكر صلاة فاتته في اليوم والليلة، وخروج وقت المستحاضة، والأمي إذا علم سورة، وإذا برأت الجراحة في موضع الطهارة، وطلوع الشمس. وكان شيوخنا يحتجون في جميع المسائل لمذهب أبي حنيفة، لأن الخروج من الصلاة عنده بفعله فرض. والدليل على ذلك أنه منهي عن البقاء في الصلاة إلى دخول وقت

صلاة أخرى. قالوا: فكل ما طرأ على المصلي مما يخرجه من الصلاة بغير فعله: فإنه يفسد عليه صلاته، نحو المسائل التي ذكرنا. وأما أبو الحسن الكرخي فكان يحتج لذلك، بأن كل ما يغير الفرض، فوجوده في آخر الصلاة كوجوده في أولها. والدليل على ذلك أن مسافرًا لو نوى الإقامة في آخر الصلاة قبل التسليم، كانت نيته تلك موجبة عليه الإتمام، فكان وجودها في آخرها، كهو في أولها، فقسمنا على ذلك ما كان في حكمه وبمثابة، ووجود الماء يغير فرض التيمم، وكذلك وجود الثوب للعريان، وخروج وقت المسح، ونظائره من المسائل. فوجب أن يكون وجود ذلك في آخر الصلاة، كهو في أولها، فلما كان حدوث هذه الأشياء في أول الصلاة مفسدًا لها: وجب أن يكون ذلك حكمها إذا حدثت في آخرها. وهذا المعنى موجود في جميع هذه المسائل، إلا في طلوع الشمس؛ لأن طلوع الشمس لا يغير الفرض، إلا أنه صار في حكم ما ذكرنا بمعنى آخر، وهو انه ليس من فعله، كخروج وقت المسح، وخروج وقت المستحاضة، وخروج وقت الجمعة، فكذلك استوى حكمه وحكمها. فإن قيل: فالمأموم يخرج من الصلاة بتسليمة الإمام إذا كان قد أدرك أول صلاته، ولم يوجب ذلك فساد صلاته وإن خرج منها بغير فعله، فهذا يوجب فساد اعتلالك. قيل له: لا يوجب ذلك، لأنه لم يخرج من صلاة إمامة بسلامه إلا من حيث عقد صلاته بصلاته، فإنما خرج منها بفعله، لأنه عقد على نفسه

الصلاة الموجبة لخروجه منها بتسليم الإمام. قال أبو يكر أحمد: وليس كذلك ما يطرأ على المصلي من الأسبب المغيرة للفرض عند أصحابنا جميعًا، بمنزلة الأمة إذا أعتقت وهي في الصلاة مكشوفة الرأس، فتأخذ قناعها وتبني. وكذلك المجتهد في القبلة إذا أداه اجتهاده إلى جهة، فصلى إليها. لم أداه اجتهاده وهو في الصلاة إلى أن الجهة غيرها، فيتوجه إليها، ويبني. وذلك لأن الأمة لم يكن عليها فرض الستر قبل دخولها في الصلاة. وإنما هو فرض لزمها في الحال، فأشبهت أهل قباء حين كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فأتاهم آت، فاخبرهم أن القبلة قد حولت، فاستداروا إليها، وبنوا، فصار ذلك أصلًا في حدوث الفرض. وما ذكرناه من المتيمم إذا وجد الثوب. ونظائرهما من المسائل، فإن الفرض كان متقدمًا عليهم في استعمال الماء، والستر، وغسل الرجلين، وما أشبه ذلك. وإنما أجيز لهم ترك الفرض للعذر، وحكمه باق عليهم، فإذا زال العذر: عاد إلى أصل فرضه، فصار كأنه جزءًا من الصلاة مع بقاء الحدث، ومع العري، ونحوه مع زوال العذر، فلذلك فسدت صلاتهم. وأما المجتهد إلى القبلة، فإنه لم يرجع من اجتهاده إلى يقين، وإنما صار من اجتهاده إلى اجتهاد مثله، والاجتهاد لا ينقص بالاجتهاد، وينقض باليقين، وغنما نظيره مما ذكرنا أن يجتهد بمكة إلى جهة الكعبة في ليمة مظلمة، ثم يصير إلى اليقين في خلاف الجهة التي ابتدأ الصلاة إليها، بأن

عاين الكعبة، فهذا يجوز أن يقال إنه يستقبل، كما قلنا في المتيمم إذا وجد الماء، ونظائره من المسائل. مسألة: [جواز المسح على الجبائر] قال أبو جعفر: (ولا بأس بالمسح على الجبائر). وذلك لما روى زيد بن علي عن آبائه عن علي رضي الله عنهم أنه كسرت زنده يوم أحد، فقال: يا رسول الله! ما أصنع بالجبائر؟ قال: "امسح عليها". [مسألة] قال: (والمسح عليها كالغسل لما تحتها، وساء شدها وهو على طهارة، أو هو محدث، ولا يشبه ذلك المسح على الخفين). قال أبو بكر: كان أبو الحسن رحمه الله يذكر أن من مذهب أبي حنيفة أن ترك المسح على الجبائر: لا يمنع صحة صلاته؛ لأن فرض الغسل ساقط عن موضع الجراحة، وليس كالمسح على الخفين، لن فرض غسل الرجل قائم عليه مع لبس الخفين، فالمسح بدل منه، فلم يجز تركه. * وأما وجه مسألة أبي جعفر التي ذكرها في الكتاب، في جواز المسح عليها، سواء شدها على طهارة أو على غير طهارة: فهو أن فرض

الطهارة ساقط عنه في موضع الجراحة، فلا فرق بين تقديم الطهارة على شدها أو تأخيرها عنه، وهو قولهم جميعًا، وليس كالمسح على الخفين لأن فرض الطهارة قائم في الرجل، فلا يجوز المسح إلا أن يكون قد لبسه على طهارة. [مسألة: سقوط الجبيرة] قال أبو جعفر: (وإن سقطت جبائره عن غير برء: كانت طهارته على حالها). وذلك لأن سقوطها لم يلزمه طهارة الموضع، ألا ترى أنه لو أبتما الصلاة بعد سقوط الجبائر: جاز، وليس كالمسح على الخفين؛ لأن نزع الخف يلزمه غسل الرجلين. قال أبو جعفر: (وإن كان سقوطها عن برء: غسل مكانها، ولم يجزه إلا ذلك). وذلك لأنه عاد إلى أصل فرضه قبل خروجه من الصلاة، فصار كأنه فعل جزءًا من الصلاة بالتيمم بعد البرء، وهو على ما بينا من وجود الماء للمتيمم، ونظائره من المسائل.

مسألة: [يصلي المريض بتيممه ما بقي العذر أو يحدث] قال أبو جعفر: (وقولهم جميعًا في المريض الذي يخاف ضرر الماء أنه يتيمم ويصلي بتيممه ما بقي العذر أو يحدث). وذلك لقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}. الآية، فأباح التيمم مع المرض، وكان حكم العموم إجازة التيمم لكل مريض، إلا أن المسلمين متفقون على أن المريض الذي لا يخاف ضرر استعمال الماء: لا يجوز له التيمم، فخصصناه بالاتفاق، وبقي حكم العموم فيما عداه. وقد حدثنا محمد بن بكر البصري قال: حدثنا أبو داود السجستاني قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي قال: حدثنا محمد بن سلمة عن الزبير بن خريق عن عطاء عن جابر رضي الله عنه قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلًا منا حجر، فشجه في رأسه، فاحتلم، فقال لصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة في التيمم، وأنت تقدر على الماء، فاغتسل، فمات. فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك، فقال: "قتلوه! قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل

سائر جسده". قال أبو بكر: هذا الحديث قد دل على معان من الفقه: أحدهما: جواز التيمم للمجروح إذا خاف ضرر الماء. ويدل أيضًا على جواز المسح على الجبائر. ويدل أيضًا على أن الغسل والتيمم لا يكونان جميعًا من فرضه، ولا يجتمعان في الوجوب؛ لن النبي صلى الله عليه وسلم حين أجاز له المسح على الجبائر، لم يوجب عليه التيمم معه، ولم يأمره بالجمع بين التيمم والغسل، كما أمره بالجمع بين الغسل والمسح. * وقوله صلى الله عليه وسلم: "يكفيه أن يتيمم": معناه إن ضره غسل باقي بدنه. * وقوله: "أو يمسح على الخرقة، ويغسل سائر جسده": يعني إن لم يضره غسل سائر البدن، وضره موضع الجراحة، لا على أنه مخير بين المسح وبين التيمم؛ لأنه إذا لم يضره غسل سائر جسده: فلا خلاف أنه يغسله. * وهذا الحديث يدل أيضًا على صحة قول أبي حنيفة في جواز التيمم

للصحيح في المصر إذا خشي ضرر الماء لأجل البرد، لأن المعنى الذي من أجله أجاز النبي صلى الله عليه وسلم التيمم للمشجوج في السفر مع وجود الماء، كان خوف الضرر. ويدل على ذلك أيضًا: حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه حين تيمم في السفر، وهو جنب، وصلى وترك الغسل لأجل البرد، فلما ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال له: "صليت بهم، وأنت جنب؟ " قال: سمعت الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ}، وإني خشيت أن يقتلني البرد إن اغتسلت، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئًا. فهذا نظير الحديث الأول في الدلالة على ما ذكرنا. * وهو يدل أيضًا على أن التيمم لا يرفع الحدث، لن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صليت بهم، وأنت جنب"، وكانوا أخبروه أنه صلى بتيمم.

حدثنا بهذا الحديث محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدث ابن المثنى قال: حدثنا وهب بن جرير قال: حدثنا أبي قال: سمعت يحي بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جبير المصري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه بذلك. * وأبو يوسف يقول في الذي يخاف ضرر الماء في المصر لأجل البرد: أنه لا يتيمم. قال: لأنه يجد الإدفاء. قال أبو بكر أحمد: وهذا ليس يمانعه التيمم؛ لأنه إلى أن يستدفئ فقد حصل ضرر الماء. * * * * *

باب المسح على الخفين

باب المسح على الخفين مسألة: [مدة المسح على الخفين] قال أبو جعفر: (يمسح على الخفين يومًا وليلة إن كان مقيمًا، وثلاثة أيام ولياليها إن كان مسافرًا). قال أبو بكر أحمد: روى المسح على الخفين عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم غير مؤقت: سعد بن أبي وقاص، وجرير بن عبد الله، وحذيفة بن اليمان، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك،

وثوبان، وأبو عمرو بن أمية عن أبيه، وبريدة الأسلمي، رضي الله عنهم اجمعين. ورواه مؤقتا بيوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليها للمسافر علي، وعمر، وصفوان بن عسال، وخزيمة بن ثابت، وابن

عباس، وعوف بن مالك، وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، وهو قول أصحابنا. فإن قال قائل: روى أبي بن عمارة رضي الله عنه أنه

قال: يا رسول الله! أمسح على الخفين؟ قال: "نعم"، قال يومًا؟ قال: "ويومين"، قال: وثلاثة؟ قال: "نعم وما شئت". وروي أنه بلغ سبعًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم وما به لك". قيل له: الحديث ضعيف في نفسه. قال أبو داود: قد اختلف في إسناده، وليس بالقوي، ولو صح كان معناه: وما شئت في الثلاث المذكورة. وأما السبع فلم تثبت من جهة يوثق بها، وعلى أن خبر التوقيت قاض عليه. وأيضًا: لولا تواتر الخبر بالمسح، لما جاز إثباته في مخالفة حكم القرآن؛ لأن المذكور فيه عندنا هو الغسل، إلا أنا تركناه إلى المسح لتواتر الخبر به، وذلك إنما ثبت في الثلاث، وما عداها محمول على الغسل الذي ورد فيه القرآن. فإن قيل: قد روى توقيت المسح خزيمة بن ثابت عن النبي صلى الله

عليه وسلم، قال فيه: للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يوم وليلة، ولو استزدناه لزادنا. قيل له: هذا ظن منه لا يجوز الحكم به، والحكم إنما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم دون ما يؤدي إليه الظن. [مسألة:] قال أبو جعفر: (وإذا أدخل رجليه في الخفين على طهارة من رجليه، وقد كمل وضوءه قبل ذلك، أو لم يكمله، ثم أكمله بعد إدخالهما في خفيه قبل أن يحدث، فإنه إن أحدث بعد ذلك، مسح عليهما يومًا وليلة إن كان مقيمًا، وثلاثة أيام ولياليها إن كان مسافرًا، من الحدث إلى الحدث). قال أحمد أبو بكر: يعني من الحدث إلى مثله من الوقت، ثم يخلع خفيه، ويغسل قدميه. *وإنما جاز له ذلك إذا ادخل رجليه، وهما طاهرتان، وإن لم يكمل وضوءه بعد، إذا أكمله قبل الحدث بعد اللبس: من قبل ما روى صفوان بن عسال، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين قال: "إذا أدخلت رجليك، وهما

طاهرتان" ولم يفرق بين حال إكمال الطهارة وقبلها. ومخالفنا في ذلك إنما يوجب عليه نزع الخفين، ولبسهما، لا شيئًا غيره في باب جواز مسحه بعد ذلك، فمن حيث جاز المسح إذا ابتًدا اللبس على هذه الحال: جاز البقاء، لأن نزع الخفين لا يتعلق به جواز المسح، فلا معنى لاعتباره. فإن قيل: لأنه إذا أحدث قبل إكمال الطهارة، لم يجز له المسح، كذلك بعده. قيل له: لأنه إذا أحدث قبل إكمال الطهارة، انتقضت طهارة رجليه، كأنها لم تكن، وإذا أكملها فقد تمت طهارة الرجلين قبل لزوم المسح. * وإنما اعتبروا التوقيت من الحدث، لأن الرخصة قد ثبتت من ذلك الوقت. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص للمقيم يومًا وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها، فوجب اعتبار التوقيت من وقت ثبوت حكم المسح له على وجه الترخيص؛ لأنا لو اعتبرنا وقت اللبس:

كانت الرخصة أقل من الوقت الذي وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه قبل الحدث لم تكن طهارته رخصة، لأنه يصلي بالطهارة التي قبل اللبس، فبطل ذلك. ولا يجوز اعتبار وقت المسح؛ لأنه يؤدي إلى إثباتها أكثر من الوقت المذكور؛ لأن الرخصة تثبت له من وقت الحدث. مسألة: [إذا بدأ المسح وهو مقيم ثم سافر] قال أبو جعفر: (ولو دخل في المسح وهو مقيم، ثم سافر قبل أن يكمل وقت مسح المقيم: عاد إلى حكم وقت المسافر، ولو دخل في المسح وهو مسافر، ثم أقام: فإن كان قد بقي عليه من وقت مسح المقيم أتم مسح المقيم، وإن كان قد انقضى وقت مسح المقيم: خلع خفيه، وغسل رجليه). قال أبو بكر أحمد: هذا مثل الذي يدخل عليه وقت الصلاة وهو مقيم، ثم سافر قبل خروج الوقت: فينتقل حكمه إلى فرض المسافر. ولو كان مسافرًا في أول الوقت، ثم أقام قبل خروج الوقت: انتقل إلى فرض المقيم. ولو كان ذلك بعد خروج وقت الصلاة: لم ينتقل فرضه عما جعل

عليه بمضي الوقت، كذلك المسح. *وإنما وجب عليه غسل الرجلين بمضي الوقت، لأن الأصل هو الغسل، وإنما رخص في تركه إلى المسح مقدار ما ورد به التوقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمتى خرج الوقت عاد إلى أصل فرضه. ومن الناس من لا يوجب عليه غسل الرجلين، ويشبهه بمن يمسح على رأسه، ثم يجز شعره. وكذلك يقول هذا القائل، إنه لو خلع خفيه، لم يجب عليه غسل الرجلين؛ كما لا يجب على من حلق رأسه مسح الرأس. ومن الناس من يقول: يعيد مسح الرأس بعد حلق الشعر، كما يغسل رجليه بعد نزع الخفين. وهما عندنا مختلفان، من قبل أن فرض طهارة الرجل كان قائمًا عليه وقت المسح، فمتى ارتفعت الرخصة: عاد إلى أصل فرضه. والمساح على رأسه لم يكن عليه إمساس الماء بشرة رأسه، ولم يكن

فرضه غير السمح، لا على جهة البدل عن غيره، فزوال الشعر بعد ذلك، لا يلزمه فرضًا لم يكن لزمه قبل؛ لأن زوال الشعر ليس بحدث. [مسألة:] قال أبو جعفر: (ومن خلع خفيه أو احدهما، أو أخرج عقبه من موضعه من خفه إلى ساقه: كان عليه أن يغسل رجليه جميعًا، ولا ينقض ذلك بقية وضوئه). وذلك لأنه إذا خلع أحد خفيه، لزمه غسل الرجل المنزوع منها الخف، فإذا انتقض المسح في احدهما: انتقض في الآخر. وأيضًا: فإنه لو ابتدأ المسح على هذه الحال: لم يصح، كذلك لا يبقى حكمه. وأيضًا: لو جاز المسح كذلك، كان فيه الجمع بين البدل والمبدل عنه، وهذا لا يجوز؛ لخروجه عن أن يكون له نظير في الأصول، وإذا خرجت الرجل إلى الساق: وجب الغسل؛ لخروجه إلى موضع لا يجوز المسح عليه. مسألة: [المسح على الجوريين] قال أبو جعفر: (والمسح على الجوربين إذا كانا مجلدين، كالمسح على الخفين). لأنهما بمنزلة الخفين، لأنه يمشي فيهما، كما يمشي في الخفين.

[مسألة:] قال: (وإن كانا غير مجلدين، وهما صفيقان لا يشفان: فإن أبا حنيفة قال: لا يمسح عليهما، وقال أبو يوسف ومحمد: يمسح عليهما). لأبي حنيفة أن الأصل الغسل، وهو المراد عندنا بالآية، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن عنبسة رضي الله عنه: "توضأ فغسل رجليه كما أمره الله"، وإذا كان هو المراد: لم يجز نقله إلى البدل إلا بالخبر المتواتر، وقد ورد ذلك في الخفين، ولم يرد في الجوريين، فحكم الغسل باق معهما. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على الجوريين. قيل له: هذا من أخبار الآحاد، وهو ضعيف يرويه أبو قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل عن المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث؛ لأن المعروف عن المغيرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين. وأيضًا يحتمل أن يكونا قد كانا مجلدين يمشي فيهما. مسألة: [حكم الخرق في الخف] قال أبو جعفر: (وإن كان في أحد الخفين خرق في موضع واحد، أو في مواضع مختلفة منه، فإن كان مقدار ما يخرج من ذلك ثلاثة أصابع: لم يمسح، وإن كان دون ذلك: مسح). قال أبو يكر أحمد: قد ثبت أن يسير الخرق لا يمنع المسح؛ لأن مواضع الخرق الذي يدخله الغبار والماء: لا يمنع جواز المسح، والكبير الذي تظهر منه عامة الرجل: يمنع، فاحتجنا إلى حد فاصل، وطريقه الاجتهاد، فجعلوه مقدار ثلاثة أصابع من أصابع الرجل؛ لأن الحكم قد

تعلق بثلاث أصابع في الأصول، وهو مسح الرأس، ومسح الرجلين، فكان أولى باعتباره من غيره. قال أبو بكر أحمد: ويجمع الخرق في رجل واحدة، ولا يجمع في إحداهما إلى الأخرى، لأن الحكم يتعلق بكل واحدة منهما على حيالها في اعتبار المقدار، وليس ذلك بمنزلة النجاسة في الثوب والبدن؛ لأن حكم العضو الواحد والأعضاء الكثيرة لا يختلف، وفي مسح الرجلين قد اختلف حكمهما، حتى اعتبر لكل واحدة مقدار في جواز المسح، فلذلك لم يضم خرق إحداهما إلى الأخرى. مسألة [كيفية المسح على القدمين] قال أبو جعفر: (والمسح على الخفين خطوط بالأصابع، يبتدئ من مقدم القدم حتى يبلغ آخر الكعب). وذلك لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مسح على ظاهر خفيه خطوطًا، وعن قيس بن سعد رضي الله عنه مثله.

وقال عبد خير: رأيت عليًا رضي الله عنه يمسح على ظهور قدميه، وقال: "قد علمت أن باطنهما أحق لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظهور قدميه". * * * * *

باب الحيض

باب الحيض مسألة: [ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض] قال أبو جعفر: (ويستمتع من الحائض بما عدا مئزرها، ويجتنب مل تحته في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: يجتنب منها شعر الدم، ولا بأس عليه فيما سواه مما هو حلال له منها في غير الحيض). وجه قول أبي حنيفة ظاهر قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}، ودلالته على صحة ما ذكرنا من وجهين: أحدهما: قوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}. والثاني: قوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ}. وعمومهما يمنع قرب الحائض من كل جهة، إلا أنه لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يباشر نساءه فوق الإزار في حال الحيض.

واتفقت الأمة عليه: سلمناه للدلالة، وبقي حكم اللفظ فيما عداه. و {الْمَحِيضِ}: يجوز أن يكون مصدرًا، كقولك: سار مسيرًا، وقال مقبلًا، وصار مصيرًا. ويحتمل أن يراد به موضع الحيض، كما قال: مقبل ومنيت. وعموم اللفظ ينتظم الأمرين، فلا نخص منه شيئًا إلا بدلالة؛ لأن المحيض إذا أريد به المصدر، صار تقدير اللفظ: فاعتزلوا النساء في حال الحيض، أو في وقت الحيض. ومن جهة السنة ما حدثنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس قال: حدثنا أبو الحسن هارون بن سليمان قال: حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا مالك بن مغول عن عاصم بن عمرو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقال: "ما فوق الإزار". وروى زيد بن أبي أنية عن أبي إسحاق عن عمير مولى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: "لك منها ما فوق الإزار، وليس لك ما تحته".

وحدثنا عبد الله بن جعفر قال: حدثنا هارون بن سليمان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا هشام بن سعد عن صالح بن جبير قال: حدثني رجل من كندة قال: سألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما يحل لي من امرأتي إذا كانت حائضًا؟ قال: "ما فوق الإزار". وحدثنا عبد الله قال: حدثنا هارون قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حضت يأمرني فاتزر، ثم يباشرني". قال عبد الرحمن بن مهدي: وحدثنا هشام بن سعد عن صالح بن جبير قال: حدثني رجل من كندة قال: سألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما يحل لي من امرأتي إذا كانت حائضًا؟ قال: "ما فوق إزارها". وروى عن ميمونة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يباشرها وهي حائض فوق الإزار". فإن قيل: روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم

"كان يباشر نساءه وهن حيض في إزار واحد". وروي عن عائشة رضي الله عنها من قولها: "إن كل شيء له منها حلال إلا الجماع". وروى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اصنعوا كل شيء ما خلا الجماع في الحائض". قيل له: إن خبر عمر رضي الله عنه يقتضي حظر ما دون الإزار على ما بينا، أن السؤال وقع عما يحل له منها، فلا محالة قد أجابه عن الجميع، وأخبر بأنه ما فوق الإزار، فإذا لا يحل له منها غير ما ذكر، واقتضى حظر ما دون الإزار. وأما حديث عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشر نساءه وهن حيض في إزار واحد"، فلا دلالة فيه على إباحة ما دون المئزر، لأن ظاهره أنهما يجتمعان في إزار واحد، وهو الملحفة التي تلبسها النشاء، على نحو ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوشحني وأنا حائض، وبيني وبينه ثوب"، وقد يجوز عندنا ان يجتمعا في إزار واحد بعد أن تتزر.

وقول عائشة رضي الله عنها: "إن كل شيء له منها حلال إلا الجماع" محمول على الجماع في الفرج، وفيما دونه تحت الإزار، ليوافق الخبر الآخر. وأما حديث أنس رضي الله عنه، فإنه متقدم لحديث عمر رضي الله عنه، وذلك لأن فيه أن المرأة من اليهود كانت إذا حاضت لم يواكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها في البيت، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} إلى آخر القصة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يواكلوهن، وأن يشاربوهن، وأن يجامعوهن في البيوت، ويفعلوا ما يشاءوا إلا الجماع، فقالت اليهود: وما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. حدثنا بذلك عبد الله بن جعفر بن فارس الأصبهاني قال: حدثنا يونس بن حبيب قال: حدثنا أبو داود الطيالسي قال: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه، فذكر هذه القصة. فبين انس رضي الله عنه في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في حال ما نسخ ما كانت اليهود تفعله، ونزل به القرآن، وهو قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}، فلم يكن بين هذه الآية وبين قوله

صلى الله عليه وسلم: "افعلوا كل شيء إلا الجماع" واسطة. ثم حديث عمر رضي الله عنه لا محالة كان بعد ذلك، لأنه لا يجوز أن يكون قبله، إذ كان جميع ذلك مباحًا قبل نزول الآية. ولا يجوز أن يكون عقيب الآية، لأن أنسا قد أخبر أن الذي حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم عقيب الآية حظر الجماع، فلا محالة أنه واجب أن يكون حديث عمر رضي الله عنه بعده. وأيضًا: يمكن أن يكون حديث أنس موافقًا لخبر عمر، بأن يكون قوله: "افعلوا كل شيء إلا الجماع": يعني به الجماع فيما دون الفرج، والجماع في الفرج جميعًا. وأيضًا: في حديث عمر رضي الله عنه حظر ما تحت الإزار، وفي حديث أنس رضي الله عنه إباحته: وإذا ورد الحظر والإباحة، ولم يعلم التاريخ: فخبر الحظر أولى. فإن قيل: لما لم يحرم من الحائض اللمس والقبلة، وجب أن يكون كذلك الجماع فيما دون الفرج. قيل له: هذا الاعتلال ساقط؛ لأن اللمس والقبلة مباحان للصائم، ولم يبح له الجماع فيما دون الفرج. * وروي نحو قول أبي حنيفة عن عمر بن الخطاب،

وميونة، وعائشة في إحدى الروايتين، وشريح رضي الله عنهم أجمعين. * وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما والشعبي في آخرين

مثل قول محمد. مسألة: [لا يصيب الرجل زوجته الحائض حتى تغتسل] قال أب جعفر: (وإذا انقطع دم الحائض لم يصبها حتى تغتسل). قال أبو بكر: هذا على ثلاثة أوجه: أما أن تكون أيامها عشرًا، أو ما دونها، فإن كانت أيامها عشرًا: جاز له عندنا أن يطأها بعد انقضاء العشرة: اغتسلت أو لم تغتسل. وإن كانت أيامها دون العشرة، لم يطأها بعد انقطاع الدم إلا بوجود احد حالين: أما أن تغتسل، أو يمضي وقت صلاة أدنى الصلوات إليها: فيجوز له حينئذ وطؤها. وقل أبي جعفر: (إنه إذا انقطع دمها لم يصبها حتى تغتسل): على هذا الإطلاق: ليس هو مذهب أصحابنا، وعى أن يكون مراده فيمن انقطع دمها دون العشر، ولم يمض عليها وقت صلاة. * والأصل في ذلك قوله الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ}، فقرئ: {يَطْهُرْنَ}: بالتخفيف والتثقيل: فأما قراءة التخفيف: فإنها على انقطاع الدم، والخروج من المحيض، لا يحتمل غيره؛ لأن الاغتسال لا يطهرها مع بقاء الحيض.

وأما قراءة التثقيل: فيحتمل الخروج من الحيض؛ لأن جائز أن يقال طهرت المرأة، و: تطهرت، ويكون المراد خروجها من الحيض من غير فعل من جهتها، كما يقال: تكسر الكوز، و: تقطعت، و: تقطع الحبل، و: تخلصت المرأة إذا ولدت، وما جرى مجرى ذلك، مما لا يقتضي فعلًا من جهة من أضيف ذلك إليه. ويحتمل الاغتسال أيضًا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان قوله: {حَتَّى}: غاية: يقتضي أن يكون نهاية لما دخلت عليه، وأن ما عداها فحكمه بخلافها، كقوله تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، وكقوله: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ}، و: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}. فوجب بظاهر ذلك: إباحة وطئها بانقطاع الدم، وخروجها من الحيض: اغتسلت أو لم تغتسل. وقضى ذلك بإباحة وطئها إذا كانت أيامها عشرًا. وكذلك يقضي ظاهر اللفظ إذا كانت أيامها دوت العشر، إلا أنه لما كان قراءة التثقيل تحتمل الاغتسال، وكذلك قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}، استعملنا اللفظين جميعًا على فائدتهما، فقلنا: إذا كانت أيامها عشرًا: جاز وطؤها قبل الغسل، وإذا كانت دون العشر: لم يطأها حتى تغتسل مادامت

في وقت الصلاة، لأنا متى أمكننا استعمال اللفظين على فائدتين، لم يسقط حكم إحداهما بالأخرى. فإن قيل: وفي الآية شرط انقطاع الدم والغسل جميعًا في إباحة الوطء؛ لأنه قال: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}، وهذا على انقطاع الدم، ثم قال: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}: يعني اغتسلن: {فَأْتُوهُنَّ}، فصار الغسل شرطًا مع الانقطاع. وهو نظير قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ}، فصار شرط إباحة تزويجها وجود الأمرين جميعًا: من نكاح الزوج الثاني، وطلاقها. قيل له: نستعمل اللفظين جميعًا، فنقول: قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}: يقتضي إباحة وطئها بانقطاع الدم، ولا يجوز أن يكون قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}:: قاضيًا عليه، لأنه ناف لمقتضاه. وما تضمنته الغاية من إباحة الوطء، فنقول فيمن كانت أيامها عشرًا، أو خرج وقت الصلاة فيما دون العشر، أنها مرادة بقراءة التخفيف، ومن كان حيضها دون العشر، ولم يمض عليها وقت صلاة أنها مرادة بقراءة التثقيل، إذا أريد به الاغتسال، كأنه قال: "ولا تقربوهن حتى يغتسلن فإذا اغتسلن فأتوهن".

وأما قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}: فإن المقصد فيه بعد الطلاق الثلاث، حتى تنكح زوجًا غيره، فالتحريم المذكور فيه مؤقت بالغاية، وبوجودها يرتفع. وقوله:} فَإِنْ طَلَّقَهَا {: ليس بشرط في رفع التحريم الموجب بالطلاق الثلاث، وإنما هو شرط في جواز نكاحها، ولا يختلف في ذلك الزوج الأول وسائر الناس. فأما ما تعلق من التحريم بالغاية، فقد ارتفع بوجودها، فلا فرق في هذا الوجه بينه وبين ما ذكرنا من قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}، إذا قرئ بالتخفيف، في أن انقطاع الدم يبيح الوطء وإنما قلنا فيمن كان أيامها دون العشر: إن لزوجها وطأها بعد مضي وقت صلاة، من قبل أن من أصلنا: أن فرض الصلاة يتعلق لزومه بآخر الوقت، فإذا لزمها فرض الصلاة: استحال بقاء حكم الحيض معه، إذ كان بقاء حكم الحيض ينافي لزوم الصلاة، وفي لزومها الصلاة: ما ينافي بقاء حكم الحيض، فصارت حينئذ بمنزلة امرأة جنب، فلا يكون وجوب الاغتسال عليها مانعًا زوجها من الوطء. فإن قال قائل: ليس في لزومها فرض الصلاة ما يبيح وطأها، وإن لم يلزم ذلك إلا منافيًا لحكم الحيض، وذلك لأن لزوم الغسل ينافي بقاء حكم الحيض قبل خروج وقت الصلاة، ولم يوجب ذلك إباحة وطئها لزوجها.

قيل له: الفصل بينهما: أن لزوم الغسل من موجب الحيض، فلا يكون مانعًا من بقاء حكم الحيض فيما دون العشر، وهو نظير الحلق الذي يتعلق لزومه بالإحرام، فلا يكون وجوبه مخرجًا له من الإحرام، ومثل التسليم من موجب التحريمة، وليس لزومه مانعًا من بقاء التحريمة، وأما الصلاة فليست من موجب الحيض، ولا تلزم الحائض بحال، فكأن في لزومها حكم ينفي الحيض، وبقاء حكمه. مسألة: [أحكام المستحاضة] قال أبو جعفر: (وإذا استحيضت المرأة: تركت الصلاة في أيام حيضها، ولم ينظر في ذلك إلى غيرها من نسائها، ولا إلى لون الدم، فإذا مضت أيامها: اغتسلت، وتوضأت لوقت كل صلاة إلى أن يجيء وقت حيضها). قال أبو بكر أحمد: هذا الفصل يشتمل على مسائل: منها: أنه لا يعتبر حيضها بنسائها إذا استحيضت. ومنها: أنه لا اعتبار بلون الدم. والثالث: أن المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة. * والأصل في اعتبار أيامها إذا استحضيت دون لون الدم، ودون عادة نسائها: قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حييش رضي

الله عنها: "دعي الصلاة أيام أقرائك". وفي حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها". وهو عام في سائر النساء، فثبت بذلك أن الاعتبار بالوقت دون لون الدم، ودون عادة نسائها. فإن قيل: قد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها: "دم الحيض أسود يعرف، فإذا كان ذلك فدعي الصلاة". قيل له: وقد قال لها: "فلتنظر الأيام والليالي التي كانت تجلس فيها"، فعلمنا أنها ممن كانت لها أيام.

وقد اتفق الجميع فيمن لها أيام معروفة أن الاعتبار بأيامها، دون لون الدم. وأيضًا: فإن فاطمة لم تكن مبتدأة؛ لأنها قالت: "إني أستحاض الشهر والشهرين، فلا أطهر". وأيضًا: فليس يجوز أن يكون لون الدم علمًا للحيض؛ لوجوده في غير أيام الحيض، وفي التي لها أيام معروفة. * ويدل عليه أيضًا: أن النفاس في حكم الحيض في باب إسقاط فرض الصلاة، ومنع الوطء، ووجوب الغسل عند انقطاعه، ثم اتفق الجميع على سقوط اعتباره بلونه، فكذلك الحيض. * ويدل عليه قول تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}. روي في التفسير: من الحيض، والحبل، ولو كان لون الدم علمًا يعرف به، لعرفته النساء، ولما رجع فيه إلى قولها، كما يرجع إلى قولها في الولادة، وسائر ما تطلع عليه النساء.

فصل: [المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة] وأما قولهم: إن المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة، فقد روي هم النبي صلى الله عليه وسلم في قصة حمنة بنت جحش رضي الله عنها "أنه أمرها أن تغتسل لكل صلاة"، وقال به قوم. وروي في حديث فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بأن تغتسل، وتصلي"، ولم

يذكر فيه الوضوء. وبه قال مالك بن أنس رضي الله عنه. وروى الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها أن تتوضأ لكل صلاة". وكذلك روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المستحاضة تقعد أيام أقرائها، وتغتسل وتتوضأ لكل صلاة". وروي عن سليمان بن يسار عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنها تغتسل وتتوضأ لكل صلاة".

ويروى هذا القول عن علي، وعبد الله، وعائشة، وبن عباس، رضي الله عنهم، وعن جماعة من التابعين. فإن قال قائل: لما جاز لها أن تصلي مع سيلان الدم، دل على أن دم الاستحاضة ليس بحدث. قيل له: هذا فاسد من قبل أن المساح على الخفين يصلي مع بقاء الحدث، لأن التيمم لا يرفع الحدث. فليس إذا في جواز الصلاة مع وجود دم الاستحاضة دليل على أنه ليس بحدث، بل هو حدث مرخص لها في فعل الصلاة معه إلى خروج وقت الصلاة، فمتى ارتفعت الرخصة بخروج الوقت وجب عليها الوضوء للحدث الذي كان في أول الوقت، كما يجب على الماسح غسل الرجلين

إذا نزع خفيه، أو مضى وقت المسح للحدث الموجود قبله، وقد فعل معه صلوات كثيرة. فإن قيل: فقد روي في حديث حمنة رضي الله عنها الاغتسال لكل صلاة، ولم تقولوا به. قيل له: نقول به لمن كان حالها مثل حال حمنة، وهي إنما استحضيت سبع سنين، ولم تعرف أيامها، وكذلك نقول في المستحاضة إذا نسيت أيامها: تغتسل لكل صلاة.

فصل: وقدر أصحابنا رخصة المستحاضة بالوقت دون فعل الصلاة؛ لاحتمال لفظ الخبر: للصلاة والوقت جميعًا، ولا يجوز أن يكونا جميعًا مرادين؛ لتنافيهما، واتفاق الجميع على خلافه، فإذا المراد أحدهما، لا هما جميعًا. ثم وجدنا الأصول شاهدة لاعتبار الوقت، دون فعل الصلاة؛ لأن وجدنا فيها رخصة مقدرة بالوقت، وهو المسح على الخفين، ولم نجد رخصة مقدرة بفعل الصلاة. والدليل على احتمال اللفظ للوقت، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فحيثما أدركتني الصلاة صليت". والمعنى: حيث أدركني وقت الصلاة، ويقول القائل: آتيك الظهر، ولقيته العصر، وهو يريد الوقت. وعلى أن مخالفنا لم يقدرها بفعل الصلاة؛ لأنه يجوز لها فعل النافلة بعد الفرض بتلك الطهارة، فدل على بقاء حكم طهارتها مع فعل الصلاة، وأنه جائز لها أن تصلي بها فرضًا آخر ما دامت في الوقت؛ لأن الفرض والنفل لا يختلفان في حكم الطهارة".

مسألة: [المرأة المبتدأة مستحاضة] قال أبو جعفر: (ولو ابتدئت مستحاضة: أمسكت عن الصلاة عشرة أيام، ثم اغتسلت، وتوضأت لكل صلاة عشرين يومًا). قال أبو بكر أحمد: والدليل على أنها تستوفي لها في كل شهر حيضة وطهرًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش رضي الله عنها: "تحيضي في علم الله ستًا أو سبعًا، كما تحيض النساء في كل شهر". فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الغالب من عادة النساء في كل شهر حيضة، وطهر، ولم يفرق بين المبتدأة وغيرها، فهو على الجميع حتى تقوم الدلالة على غيره. فإن قيل: فهلا اعتبرت ستًا وسبعًا، كما قال عليه الصلاة والسلام لحمنة رضي الله عنها!؟ قيل له: يحتمل أن تكون حمنة رضي الله عنها قد كانت علمت أن أيامها ستة أو سبعة، فعرفت العدد، ولم تعرف الوقت، واستحيضت، فأمرت بذلك، ولا دلالة فيه إذا كان كذلك؛ إذ حكم جميع النساء كذلك، وإنما موضع الدلالة من الخبر استيفاء حيضة وطهر في كل شهر؛

لقوله صلى الله عليه وسلم: "كما تحيض النساء في كل شهر". * وأيضًا: لما أقام الله تعالى الشهور مقام الحيض، جعل بدل كل حيضة وطهر شهرًا كاملًا، فوجب أن يستوفى لها ذلك في كل شهر، ما لم يظهر لها غيره. وإذا ثبت وجوب استيفاء حيضة وطهر في كل شهر بما قدمنا، جعلنا الحيض عشرة أيام؛ لأنا قد علمنا كونها حائضًا حين رأت الدم ثلاثًا. ولم نعلم زوال حكم الحيض بالزيادة، بل قد حكمنا لها بحكم الأصل بالاتفاق حين أمرناها بترك الصلاة إلى تمام العشر، فلا يتغير حكمها بزيادة الدم على العشر، إذ لا دلالة فيه على أن أيامها أقل منها. مسألة: [أقل مدة الحيض وأكثره] قال أبو جعفر: (أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام). والأصل فيه: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لفاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها:. "دعي الصلاة أيام محيضك"، وفي بعض الألفاظ: "أيام أقراتك من كل شهر". وقال: "المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها"، في أخبار أخر.

وأقل ما يتناوله اسم الأيام إذا أطلقت مع ذكر العدد: ثلاثة أيام، وأكثر عشرة. فقد أفادنا هذا الخبر مقدار الأقل والأكثر؛ لأن ما دون الثلاثة لا يسمى أيامًا، لأنك تقول: ثلاثة أيام إلى عشرة أيام، ثم تقول: أحد عشر يومًا. فإن قيل: قال الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، وقال: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}، يريد به الشهر كله. قيل له: هذا غنما يجوز إطلاقه في حال دون حال، وهو إذا حذف منه ذكر العدد المقرون الموصوف بالأيام، ألا ترى أنك إذا ذكرت العدد معها، لم يصح إطلاقها عليه، لأنك تقول: ثلاثون يومًا، وتقول: أيام السنة، فإذا ذكرت العدد معها قلت: ثلاث مائة وستون يومًا). فلما لم يخل ما بين الثلاثة إلى العشرة من إطلاق اسم الأيام عليه: علمنا أن اللفظ حقيقة له، ولما جاز ذلك فيما جاوز العشرة في حال، وامتنع في حال: علمنا أن إطلاقها ليس بحقيقة، وأنه إنما أريد به الوقت، دون الأعداد المحصورة التي يتناولها إطلاق اللفظ. كما يطلق اسم اليوم، ويتناول الليل أيضًا، كقوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ

دُبُرَهُ}، وقد دخل فيه الليل. وكقول القائل: يوم أكلمك فعبدي حر، فكلمه ليلًا: حنث؛ لأن المقصد في مثله الوقت المطلق، وإن كانت حقيقة اليوم لبياض النهار. فكذلك اسم الأيام إنما يتناول في الحقيقة ما بين الثلاثة إلى العشرة؛ لأن الاسم لا يزول عنه بحال، ويتناول سائر ما يطلق فيه على معنى الوقت، كقولك: أيام بني أمية، و: أيام السنة، ونحو ذلك. فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم: "المستحاضة تدع الصلاة أيه أقرائها": يدل على أن القرء يكون يومًا واحدًا؛ لأن الأقراء جمع، وأقله ثلاثة، والأيام جمع، وأقله ثلاثة، فجعل لكل قرء يوم. قيل له: قد قال: "أيام محيضك"، وقال: "أيام أقرائك من كل شهر"، فقوله: "أيام محيضك": يقتضي دلالته ما وصفنا، وقوله: "أيام أقرائك من كل شهر": يوجب أن يكون الحيض من كل شهر، ومعلوم أن شهرًا واحدًا لا يكون فيه ثلاث حيض، فثبت أن المراد بالأقراء المحصورة بعدد الأيام هي حيضة واحدة، وإنما أطلق عليها اسم الأقراء، وإن كانت حيضة واحدة؛ لأن الأقراء اسم لأجزاء الدم، فجاز إطلاق لفظ الجمع عليه. * وأيضًا: قال: "دعي الصلاة أيام أقرائك، ثم اغتسلي"، فأمره بالغسل بعد الأيام المذكورة، فعلمنا أن الأيام حيضة واحدة.

* دليل آخر: وهو ما روي عن عثمان بن أبي العاص، وأنس بن مالك رضي الله عنهما في الحيض أن أقله ثلاثة أيام، وأكثره عشرة، وما بعد ذلك فهو استحاضة. والمقادير التي هي حقوق الله لا سبيل إلى معرفتها إلا من طريق التوقيف، لأنها لا تؤخذ من طريق المقاييس، ولا هي موكولة إلى اجتهادنا، كأعداد ركعات الصلاة والحدود ونحوها، فعلمنا أنهم لهم يقطعوا بها إلا من جهة التوقيف، وهذا الأصل قد اعتبره أصحابنا في نظائر هذه المسألة. نحو ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أن لا مهر أقل من عشرة دراهم، وتقدير فرض القعدة في آخر الصلاة بمقدار التشهد. * وعلى أنا لا نعلم عن أحد من الصحابة خلاف ذلك.

* ودليل آخر: وهو أن ما كان هذا سبيله من المقادير: لا سبيل إلى إثباته من طريق المقاييس والاجتهاد، وإنما طريق إثباته التوقيف والاتفاق، فلما حصل الاتفاق في كون الحيض ثلاثة أيام، وعشرة أيام، أثبتناهما، ولما اختلفوا فيما دون الثلاثة وكثر من العشرة: لم تثبته؛ لعدم التوقيف والاتفاق فيه. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن"، قيل: وما نقصان عقلهن؟ قال: "شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد، ونقصان دينهم: إحداهن تمكث نصف عمرها لا تصلي". فهذا يقتضي أن من النساء من يكون حائضًا نصف عمرها، وذلك يوجب أن يكون الحيض خمسة عشر يومًا؛ لأن أقل الطهر خمسة عشر. قيل له: أما قولك إنه قال: "نصف عمرها": فلم يروه أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكر في بعض الألفاظ: "شطر عمرها"، وفي بعض الألفاظ: "تمكث إحداهن الأيام والليالي"، فأما: "نصف عمرها": فما قاله أحد. وقوله: "شطر عمرها" لا دلالة فيه على النصف؛ لأن الشطر إنما يراد

به طائفة أو ناحية ونحو ذلك. قال الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}: يعني ناحيته وجهته. وقوله: "الأيام والليالي": يدل على ما قلنا. على أنه ليس في الدنيا امرأة يكون حيضها نصف عمرها؛ لأنها إلى وقت البلوغ لا تكون حائضًا بحال، وما بعد البلوغ مع ما تقدم من عمرها، لا يجوز أن يحصل منه نصف عمرها طهرًا، ونصفه حيضًا. مسألة: [الدم في أيام الحيض حيض وإن اختلف لونه] قال أبو جعفر: (والصفرة والكدرة في أيام الحيض: حيض في قول أبي حنيفة، ولا تكون الكدرة في قول أبي يوسف ومحمد حيضًا إلا بعد الدم). قال أبو بكر أحمد: محمد مع أبي حنيفة في هذا المسألة، وأبو يوسف حده، قد ذكره محمد في الأصول، وفي غيرها. وجه قول أبي حنيفة: اتفاق الجميع على أن الكدرة حيض بعد الدم، ودل تقدم الدم عليها على أن الكدرة من بقايا أجزاء الدم، وكذلك وجودها في أيام الحيض، ينبغي أن يكون الأيام دلالة لها على أنها من

أجزاء الدم. والدليل على ذلك أنا وجدنا دمين بصفة واحدة، احدهما حيض، والآخر ليس بحيض، وكان الوقت المعتاد فيه الحيض دلالة على كونه حيضًا، كذلك يجب أن تكون الأيام دلالة على أن الكدرة من اختلاط أجزاء الدم به. وقد روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لا تصلي حتى ترى القصة البيضاء". مسألة: [حكم صاحب العذر الدائم] قال أبو جعفر: (والذي به سلس البول، أو جرح لا يرقأ، بمنزلة المستحاضة). وذلك لدوام العذر. قال: (والمستحاضة تصلي وتصوم، ويأتيها زوجها، وتقرأ القرآن. وتطوف بالبيت). وذلك لأنها في حكم الطاهرات في باب لزوم الصلاة، فكذلك في

حكم الجماع وسائر ما ذكر. * وأيضًا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: "أن دم الاستحاضة دم عرق انقطع، أو داء عرض"، ولو كان بها جراحة يسيل دمها لم يمنع ذلك وطء زوجها إياها، كذلك دم الاستحاضة. مسألة: [أقل مدة النفاس وأكثره] قال أبو جعفر: (وأكثر النفاس أربعون يومًا، ولا مقدار لأقله، إنما هو ما كان الدم). قال أبو بكر أحمد: حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن عبدوس بن فضالة قال: حدثنا أبو معمر عن إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا حبان بن علي عن أشعث عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: "وقت النبي صلى الله عليه وسلم للنفساء أربعين يومًا، فإذا مضت: اغتسلت، وصلت". وروى عطاء بن عجلان عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم للنفساء أربعين يومًا فإذا مضت: اغتسلت وصلت.

وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا موسى بن زكريا قال: حدثنا عمرو بن حصين قال: حدثنا ابن علاثة عن عبدة بن أبي لبابة عن عبد الله بن باباه عن عبد الله بن عمرو رضي عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تنتظر النفساء أربعين يومًا، فإن رأت الطهر قبل ذلك: فهي طاهر، وإن جاوزت الأربعين: فهي بمنزلة المستحاضة، تغتسل وتصلي، فإن غلبها الدم: توضأت لكل صلاة". وقالت أم سلمة رضي الله عنها: "كانت النفساء تقعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يومًا". وروي مدة النفاس على ما قلنا عن عمر، وابن عباس، وعثمان بن أبي العاص رضي الله عنهم، ولا يروى عن غيرهم من السلف

خلافه، فثبت حجته. * وأيضًا: فلا سبيل إلى إثبات المقادير التي هذه سبيلها من طريق المقاييس والاجتهاد، وإنما طريقها التوقيف والاتفاق، وقد حصل الاتفاق في الأربعين يومًا، وما فوقها لم يرد به توقيف، ولا ثبت فيه اتفاق: فلم يثبت. *وأما أقل النفاس، فليس له مقدار مؤقت؛ لأن النفاس هو الدم الموجود عقب الولادة، فمهما وجد منه فهو نفاس. مسألة: [أقل الطهر] وقال أبو جعفر: (وأقل الطهر منه خمسة عشر يومًا). قال أحمد: وهذا لا نعلم فيه بين الفقهاء خلافًا. * * * * *

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة باب المواقيت [مسألة: وقت الفجر] قال أبو جعفر: (وإذا طلع الفجر: فقد دخل وقت صلاة الفجر، ويخرج وقتها بطلوع الشمس). قال أبو بكر: وذلك لما روي في حديث جابر وأبي موسى وغيرهما رضي الله عنهم ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر حين طلع الفجر في اليوم الأول، وصلاها في اليوم الثاني حين كادت الشمس تطلع، ثم قال للسائل: "الوقت فيما بين هذين"

وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وقت الفجر ما لم تطلع الشمس". وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمني جبريل عليه السلام عند باب البيت، فصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، وصلاها في اليوم الثاني، فأسفر ثم قال: الوقت فيما بين هذين الوقتين". قال أبو بكر أحمد: ولا خلاف بين أهل العلم في أول وقتها، وآخره. مسألة: [وقت الظهر] قال أبو جعفر: (وإذا زالت الشمس: فقد دخل وقت الظهر). قال أبو بكر: وذلك لقول الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}.وروي أن الدلوك الزوال، وروي الغروب، وهو عليهما جميعًا،

لأن الدلوك هو الميل، وقد تميل للزوال والغروب جميعًا، فانتظم ظاهر اللفظ الوقتين جميعًا، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر حين زالت الشمس في اليوم الأول عند سؤال السائل عن مواقيت الصلاة، وفي سائر الأخبار المروية في المواقيت. قال: (وآخر وقتها إذا صار ظل كل شيء مثليه) وهذه رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة. قال: (وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أن الظل إذا صار مثله: فقد خرج وقتها). قال أبو بكر: والدليل على صحة القول الأول، وهو المشهور من قول أبي حنيفة: أنه قد ثبت أنه ليس بين وقت الظهر والعصر فاصلة وقت، وأن بخروج أحدهما يوجد الآخر.

وظاهر قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ}: ينفي أن يكون أول وقت العصر بعد المثل؛ لأن ذلك إلى الوسط أقرب منه إلى الطرف، فإذا أول وقت العصر بعد المثل؛ لأن ذلك إلى الوسط أقرب منه إلى الطرف، فإذا لم يكن بعد المثل: فهو بعد المثلين. وإذا صح أن أول وقت العصر بعد المثلين، ثبت أن آخر وقت الظهر إلى المثلين، لما قدمنا من أنه ليس بينهما فاصلة وقت. * ودليل آخر: وهو ما حدثنا دعلج قال: حدثنا ابن شيرويه قال: حدثنا إسحاق بن راهويه قال: حدثنا بشر بن عمر الزهراني قال: حدثنا سليمان بن بلال قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: أخبرني أبو بكر بن عمرو بن حزم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "قم فصل"، وذلك لدلوك الشمس حين مالت الشمس، فقام فصلى الظهر أربعًا. قال: ثم أتاه حين كان ظله مثله، فقال: "قم فصل"، فقام فصلى العصر أربعًا، وذكر الصلوات. وقال: ثم أتاه من الغد حين كان ظله مثله، فقال له: "قم فصل"، فقام فصلى الظهر أربعًا، ثم أتاه حين صار ظله مثليه، فقال له: "قم فصل العصر أربعًا".

فأخبر في هذا الحديث أن جبريل عليه السلام أتاه في اليوم الثاني حين صار الظل مثله، فقال له: قم فصل الظهر بعد ما صار الظل مثله؛ لأنه جاءه من الغد حين صار الظل مثله، فأمره بالصلاة، فحصلت صلاته لا محالة بعد ذلك، فثبت أن ما بعد المثل من وقت الظهر، إذ ليس بجائز أن يكون وقتًا للظهر، إذ ليس بجائز أن يكون وقتًا للظهر والعصر جميعًا، لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وآخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر". فإن قيل: في هذا الحديث أن فعله للظهر في اليوم الثاني كان في وقت فعله للعصر في اليوم الأول، وهذا يوجب أن يكون وقتًا للصلاتين، وذلك خلاف ما حصل عليه الاتفاق منك ومن مخالفك، فواجب أن يكون معناه: أن فراغه من الظهر صادف الوقت الذي ابتدأ العصر فيه بالأمس. قيل له: لفظ الحديث ينفي هذا التأويل؛ لأنه قد قال: جاءه جبريل حين صار الظل مثله، فقال له: "قم فصل"، فحصلت صلاته لا محالة بعد المثل، وهذا لا يصح معه تأويل المخالف، لأنه لا يجعل ما بعد المثل وقتًا للظهر. فإن قيل: فقد صلى العصر في اليوم الأول قبل المثلين، وهذا يوجب ان يكون وقت العصر قبل الممثلين. قيل له: وقد صلى العصر في اليوم الثاني بعد المثلين، فالآخر من

أمره أولى أن يؤخذ به. وقد روي في حديث ابن عباس: أنه صلى في اليوم الثاني الظهر في الوقت الذي صلى فيه العصر بالأمس، فهذا يدل على أن الأول منسوخ بالثاني. * دليل آخر: وهو حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم، كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل أهل الكتابين قبلكم، كمثل رجل استعمل عمالًا، فقال: من يعمل إلى صلاة العصر على قيراط قيراط، فعلمت النصارى على ذلك، ثم أنتم الذين تعملون ن صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين، فغضبت اليهود والنصارى، فقالوا: نحن أكثر عملًا وأقل عطاء! قال: هل ظلمتكم من حقكم؟ قالوا: لا، قال: فإنه فضلي أوتيه من أشاء". وهذا الحديث يدل من وجهين على صحة قول أبي حنيفة: أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس"، وإنما قصد به

الإخبار عن قصر المدة. وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "بعثت أنا والساعة كهاتين"، وأشار بالسبابة والوسطى. فأخبر أن قدر ما بقي من مدة الدنيا إلى ما مضى، كما بين السبابة والوسطى من النقصان، وقدر ذلك بالتقريب نصف سبع، فلو كان وقت العصر من حيث يصير الظل مثله، لكان أطول مما دل عليه هذا الخبر بشيء كثير، ولبطلت فائدة قصده به إلى تقليل الوقت، وقصر المدة، فثبت أن وقت العصر بعد المثلين، ليصح معنى التشبيه. * والوجه الآخر من دلالة الخبر على ما قلنا: قوله صلى الله عليه وسلم: فغضبت اليهود والنصارى، قولوا: كنا أكثر عملًا، واقل عطاء"، ومعلوم أن كثرة عملهم كانت لأجل امتداد وقتهم، وقصر وقت أمتنا. فلو كان وقت العصر من حين المثل، لصار وقت العصر أطول من وقت الظهر، وهذا يبطل معنى التشبيه؛ لأن النصارى حينئذ لا يكونون أكثر عملًا، فدل ذلك على أن وقت الظهر أوسع من وقت العصر، وهذا لا يصح، إلا أن يكون وقت الظهر إلى المثلين، ووقت العصر بعده. فإن قيل: إنما قالت اليهود والنصارى جميعًا: نحن كنا أكثر عملًا، وأقل عطاء، ولم يقل ذلك كل واحد من الفريقين على حياله، فلا دلالة فيه إذا على أن وقت الظهر أوسع من وقت العصر، وإنما يدل على أن وقت الفريقين جميعًا مجموعًا أوسع منه. قيل له: هذا غلط؛ لأنهم قالوا: نحن كنا أكثر عملًا، وأقل عطاء،

وليس عطاء الفريقين مجموعًا بأقل من عطاء المسلمين، بل هو مثله، فدل على أن هذا الخطاب من كل واحد من الفريقين على حياله. مسألة: [وقت العصر] قال أبو جعفر: (وإذا خرج وقت الظهر تلاه وقت العصر). وذلك لما روى محمد بن فضيل عن العمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للصلاة أولًا وآخرًا، وإن أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وإن آخر وقتها حين يدخل وقت العصر". فدل ذلك على انه ليس بين الوقتين فصل، وأن الذي يتلو وقت الظهر هو أول وقت العصر. قال: (وآخر وقت العصر غروب الشمس). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من فاته العصر حتى غربت الشمس: كأنما وتر أهله وماله"، فجعلها فائتة بغروب الشمس، فدل على أن آخر وقتها الغروب. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يلج النار أحدً صلى قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها".

* ويدل عليه قول الله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}. فإن قيل: في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وآخر وقت العصر حين تصفر الشمس". وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ووقت العصر ما لم تصفر الشمس". قيل له: المراد به الوقت المستحب؛ لأنه يكره تأخيرها إلى اصفرار الشمس، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس: فقد أدرك"، فلولا أنه وقت العصر: ما لزمه الفرض بإدراكه. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى الصلاة عند

طلوع الشمس، وعند غروبها في أخبار متواترة. قيل له: هو صحيح، والنهي تناول عندنا غير عصر يومه، فأما عصر يومه: فيكره تأخيرها إليه، فإن فعل: أجزأه بالأخبار الأخر؛ لئلا يسقط بعضها ببعض. مسألة: [وقت المغرب] قال أبو جعفر: (وإذا خرج وقتها: تلاه وقت المغرب). قال أحمد: وذلك لحديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ول وقت المغرب حين تسقط الشمس". وفي عامة أخبار المواقيت "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب حين غابت الشمس". فإن قيل: روى أبو تميم الجيشاني عن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر، وقال: "إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها منكم: أوتي أجره مرتين، ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد". قال:

"والشاهد النجم". قيل له: قوله: "والشاهد النجم": من قول الراوي، لا من قول النبي صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون أراد بالشاهد: الليل، ويدل عليه قول الله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس}، وروي أنه غروبها، فينبغي أن يحمل- يعني خبر أبي بصرة- على موافقة الآي، وسائر الأخبار الأخر. مسألة: [آخر وقت المغرب] قال أبو جعفر: (وآخر وقتها في قول أبي حنيفة: البياض الذي بعد الحمرة، وفي قول أبي يوسف ومحمد: الحمرة) قال أبو بكر أحمد: يدل على قول أبي حنيفة قول الله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}. وقيل في {الدلوك}: إنه الزوال، وقيل: الغروب، ويجوز أن يكون

الاسم لهما، ويدخلا جميعًا في المراد. وقيل: في {غسق الليل}. إنه اجتماع الظلمة، فجعل الله تعالى وقت المغرب إلى اجتماع الظلمة، ومعلوم أن بقاء البياض يمنع اجتماعها، بل تكون متفرقة، فاقتضى ظاهر ذلك أن يكون وقت المغرب إلى غيبوبة البياض. وهذا يدل على فساد قول من يقول: إن لها وقتا واحدا. * ويدل على أن الشفق: البياض، وذلك لأن الخلاف في وقت المغرب حصل على وجوه أربعة: أحدهما: قول من قال: أول وقتها طلوع الشاهد، وهو النجم، وقد بيننا فساده. وقول من قال: إن للمغرب وقتا واحدا، وهو بمقدار ما يصلي فيه ثلاث ركعات. وقول من قال: وقتها إلى غيبوبة الحمرة. وقال أبي حنيفة: وهو أن آخر وقتها غيبوبة البياض. فظاهر هذه الآية يقضي بفساد هذه الأقوال كلها، إلا قول أبي حنيفة، فإنه يشهد لصحته. * ويدل على فساد قول من قال: إن لها وقتا واحدا: حديث محمد بن فضيل عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أول وقت المغرب حين تسقط الشمس، وإن آخر وقتها حين

يغيب الأفق". فجعل لها أولا وآخرا، وهذا ينفي قول من قدره بفعل الصلاة. * ويدل عليه أيضًا: حديث أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه أن سائلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الصلاة إلى أن قال: فصلى المغرب حين غابت الشمس، وصلاها في اليوم الثاني قبل أن يغيب الشفق. وحدثنا محمد بن بكر قال: أبو داود قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا عبد الله بن داود عن بدر بن عثمان قال: حدثنا أبو بكر بن أبي موسى، وذكر الحديث، وقال في آخره: "أين السائل؟ الوقت فيما بين هذين". قال أبو داود: ورواه سليمان بن موسى عن عطاء عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب بنحو هذا. قال: وكذا روى ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو داود: وحدثنا عبيد الله بن معاذ قال: حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة عن قتادة سمع أبا أيوب عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وقت الظهر ما لم تحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يسقط نور

الشفق". فهذه الأخبار تقضي ببطلان قول من قال: إن للمغرب وقتا واحدا، وأنه مقدر بفعل الصلاة. * ويدل على فساد قوله: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا حضر العشاء، وأقيمت الصلاة: فابدؤوا بالعشاء" فلو كان لها وقت واحد، لما جاز تأخيرها عنه، وتقديم العشاء عليها * وقد روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة المغرب ب {المص}. وروى جبير بن مطعم رضي الله عنه "أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور". وروي عن معاذ رضي الله عنه: " أنه قرأ فيها بالبقرة وآل عمران".

فلو كان لها وقت واحد مقدار فعل الصلاة، لما جاز إطالة القراءة فيها، وتأخيرها عن وقتها. فإن قال قائل: في خبر ابن عباس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب في اليومين جميعا في وقت واحد" قيل له: هذه الأخبار التي ذكرناها متأخرة عن خبر ابن عباس؛ لأن خبر ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو فيما أمه فيه جبريل عليهما السلام عند باب البيت، وخبر هؤلاء بالمدينة. وأيضا: فنستعملهما جميعا على فائدتين، ونقول: إن أول الوقت هو المستحب، ولا يفوت إلا بغيبوبة الشفق بالأخبار الأخر. فإن قيل: فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يترك الأفضل إلى الأدون. قيل له: الأفضل ما فعله صلى الله عليه وسلم من التأخير؛ لأنه فعله على وجه التعليم، فكان التأخير في هذه الحال أفضل من التعجيل. وأيضا: ليس في فعله الصلاة في اليومين في وقت واحد، دليل على أنه لا وقت لها غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر في اليومين قبل اصفرار الشمس، وصلى العشاء الآخرة قبل نصف الليل، ولم يدل على أن لا وقت لهما غيره. وأيضا: لم نجد في الأصول عندنا وقتا لفرض مقدرا بالفعل، وكل فرع خرج من أن يكون له نظير في الأصول: فهو ساقط.

وأيضًا: لما وجدنا لسائر الفروض أوقاتًا ممتدة لها أول وآخر. وأختلفا في وقت المغرب، وجب أن يكون معطوفًا على نظائره من الأصول، فالمعنى الجامع بينهما: أن أوله مؤقت، فوجب أن يكون أخره مؤقتا لا بفعل الصلاة، بل بمضي الوقت. فإن قيل: في حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم". قيل له: إنما يدل هذا على منع التأخير، ولا دلالة فيه على نفي الوقت؛ لأنه منهي عن تأخير العصر إلى وقت اصفرار الشمس، وعن تأخير العشاء الآخر إلى السحر، ولا يدل ذلك على أنه ليس بوقت لهما. فصل: [مفهوم الشفق] وأما الكلام في الشفق، فإن ما ذكرناه من الآية، وهو قوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}: يدل على أن الشفق: البياض، وقد بينا وجه الدلالة منه. ويد عليه من جهة السنة: حديث بشير بن أبى مسعود عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العشاء اليوم الأول حين اسود الأفق.

وربما أخرها حتى يجتمع الناس". فدل هذا على أن أول وقتها بعد غيبوبة البياض؛ لأن بقاء البياض يمنع اسوداد الأفق؛ لأنه حينئذ يكون بعضه أبيض وبعضه أسود. وفي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: "أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر الليلة الثالثة"، ومعلوم أن البياض لا يبقى إلى هذا الوقت. فإن قيل: روى ثور بن يزيد عن سليمان بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سأل رجل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة فقال: " صل معي"، فصلى في اليوم الأول العشاء الآخر قبل غيبوبة الشفق. قيل له: في حديث ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبى موسى، وبريدة الأسلمي رضي الله عنهم "أنه صلى العشاء في اليوم الأول بعد ما غاب الشفق".

ويجوز أن يكون خبر جابر على ما كان ابتدئ عليه أمر المواقيت قبل تفصيلها؛ لأنه قد ثبت عندنا نسخ حكم بعض المواقيت، على نحو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في الظهر والعصر "أنه فعل الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر بالأمس"، وهذا منسوخ، فكذلك حديث جابر إن ثبت، فهو منسوخ الحكم بالأخبار الأخر. وقد حكي لنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب أنه سئل عن الشفق ما هو؟ فقال: هو البياض، فقال السائل: الشواهد على الحمرة أكثر، فقال ثعلب: إنما يحتاج إلى الشاهد ما خفي، فأما البياض فهو أشهر في لغة العرب من أن يحتاج إلى شاهد. قال أبو بكر أحمد: ويدل عليه من جهة اللغة أيضا، أن الشفق: الرقة، ومنه الشفقة، وهي رقة القلب، و: ثوب شفق: إذا كان رقيقا. والبياض أولى بهذا المعنى؛ لأنه عبارة عن الأجزاء الرقيقة الباقية من آثار الشمس، وهو في حال البياض أرق، وفي حال الحمرة أكف. وروي أن الشفق البياض عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.

* ويدل عليه من جهة النظر: أن البياض والحمرة في الفجر من وقت صلاة واحدة، فوجب أن يكونا في المغرب أيضا من وقت صلاة واحدة. * قال أبو بكر أحمد: وأوقات الصلاة الخمس تنتظمها آيات في كتاب الله: قال الله عز وجل: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} وذلك ينتظم صلاتين الظهر، والمغرب. وقال تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار}، وهما العصر، والفجر. وقال: {وزلفا من الليل}: يعني العتمة. قال: {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب}، وهما

الفجر، والعصر أيضا. مسألة: [وقت العشاء] قال أبو جعفر: (وإذا خرج وقتها: تلاه وقت العشاء الآخرة). لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه صلاها في اليوم الأول بعد ما غاب الشفق". قال: (وآخر وقتها طلوع الفجر). وذلك لأنه قد روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بعد نصف الليل"، وروي "بعد ثلث الليل"، وهما صحيحان جميعا، يحتمل أن يكون صلاها في وقت بعد نصف الليل ليعلم الوقت، وصلاها في وقت آخر بعد ثلث الليل؛ لأنه الوقت المستحب. وإذا ثبت أن ما بعد نصف الليل وقت للعشاء، ثبت أن وقته إلى طلوع الفجر؛ لأن أحدا لا يقول بذلك إلا وهو يقول إنها لا تفوت إلا بطلوع الفجر.

ولأنه لا خلاف بين الفقهاء أن من أسلم بعد نصف الليل قبل طلوع الفجر: لزمته صلاة العتمة، وكذلك لو بلغ صبي قبل طلوع الفجر. قال: (وطلوع الفجر هو البياض المستطيل الذي ينتشر في الأفق). والبياض المستطيل هو من الليل، وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الفجر. مسألة: [الوقت المستحب للظهر] قال أبو جعفر: (والاختيار في صلاة الظهر أن يعجل بها في الشتاء، ويبرد بها في الصيف). وذلك لما في حديث بشير بن أبي مسعود عن أبيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر حين تزيغ الشمس، وربما أخرها في شدة الحر". وقال أنس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان

الشتاء بكر بالظهر، وإذا كان الصيف أبرد بها". وروى أبو سعيد، وأبو هريرة، وأبو موسى، وأبو ذر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبردوا بالظهر، فإن شدة الحر من قيح جهنم". وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان يصلى بالهجير". وقول خباب رضي الله عنه: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء، فلم يشكنا". وقول عائشة رضي الله عنها: "ما رأيت أحدا أشد تعجيلا لصلاة الظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم".

فإن ذلك كان في أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم نسخ بما ذكرنا. * الدليل عليه ما ذكره أبو جعفر الطحاوي قال: حدثنا إبراهيم بن أبى داود قال: حدثنا يحيى بن معين وتميم بن المنتصر قالا: حدثنا إسحاق بن يوسف قال: حدثنا شريك عن بيان عن قيس بن أبي حازم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر بالهجير، ثم قال: إن شدة الحر من قيح جهنم، فأبردوا بالصلاة". فبين المغيرة تاريخ الفعلين، وأن آخرهما كان الإبراد. فإن قيل: روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى حين زالت الشمس، فقال: "هذا والله الذي لا إله إلا هو وقت هذه الصلاة". قيل له: كذلك نقول هو وقتها، إلا أنه ليس فيه بيان موضع الخلاف؛ لأن الخلاف إنما هو في الوقت المستحب، وليس في خبر عبد الله دلالة على أنه هو المستحب دون غيره. وأيضا: ليس فيه أنه كان في الصيف، ويحتمل أن يكون في الشتاء، كما روى الزهري عن أنس رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر حين زالت الشمس". ثم روى أبو خلدة عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه

وسلم كان يعجلها في الشتاء، ويؤخرها في الصيف". مسألة: [الوقت المستحب للعصر] قال أبو جعفر: (والاختيار في صلاة العصر التأخير في الزمان كله، إلا أنه يصليها والشمس بيضاء، لم تدخلها صفرة). وذلك لقول الله تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار}، فكلما قرب من آخره: فهو أولى بموافقة الآية، إلا ما قام دليله، وقد قامت الدلالة على النهي عن تأخيرها إلى اصفرار الشمس، فخصصناه من اللفظ، وبقي حكمه فيما عداه. ومن جهة السنه ما حدثنا به محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن العنبري قال: حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير قال: حدثنا محمد بن يزيد اليماني قال: حدثني يزيد بن عبد الرحمن بن على بن شيبان عن أبيه عن جده علي بن شيبان رضي الله عنه قال: "قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فكان يؤخر العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو الحسين علي بن مهران بن

يحيى القاساني قال: حدثنا أبو هاني عبد الحميد بن عبد الله بن محمد بن هاني قال: حدثنا حرمي بن عمارة بن أبي حفصة، قال عبد الواحد بن نفيع الكلابي: سمعت عبد الله بن رافع بن خديج رضي الله عنه يقول: حدثني أبي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بتأخير العصر". ويدل عليه حديث أبي مسعود رضي الله عنه "أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس بيضاء مرتفعة". وعن أنس رضي الله عنه "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس بيضاء محلقة". فإن قيل: روي عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس مرتفعة حية، فيذهب الذاهب إلى العوالي، والشمس مرتفعة".

وفي بعض ألفاظه: "ثم يذهب الذاهب إلى قباء وهم يصلون". وقال أنس: "ما كان أحد أشد تعجيلا لصلاة العصر من رسول الله". وفي حديث أبي واقد الليثي عن أبي أروى رضي الله عنه قال: "كنت أصلي العصر مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمشي إلى ذي الحليفة، فآتيهم قبل أن تغيب الشمس". وهي على فرسخين من المدينة. قيل له: ليس في شيء من ذلك دليل على أنه كان يصليها في أول الوقت؛ لأن الوقت لا يتقدر بالسير والمشي، إذ قد يجوز فيه الإسراع والإبطاء، فليس يمتنع حينئذ أن يقول: عسى كان الرجل يسرع المشي، وقد صلى في وسط الوقت، فيبلغ ذا الحليفة قبل الغروب، وكذلك العوالي.

وعلى أن دلالة التأخير ظاهرة في هذه الأخبار, لأنه لا يقول: والشمس مرتفعة حية", إلا وقد أخرها، إذ لا يصح أن يقال: صلى في أول الوقت, والشمس حية؛ لأن قوله: "والشمس حية": يدل على مقاربة التأخير إلى حين الاصفرار. وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول في قوله: "والشمس حية": إنه يعني القرص نفسه, لا الضياء المنفصل منها, قال: وهو حقيقة اللفظ. قال: ومادام شيء من الضوء فيها باقيًا: فهي حية, وإنما تخرج من أن تكون حية إذا ذهب ضوءها على حسب ما نرى في الصحاري عند الغروب. وعلى أن دلالة أخبارهم لو كانت ظاهرة على حسب ما ادعوه, لكان خبرنا أولى, لأن فيه أمرًا بالتأخير, وفي خبرهم حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم, لا أمر فيه, والأمر يقضى على فعل. وأيضًا: فليس في مجرد الفعل دلالة على الأفضل. إذ قد يفعل الأفضل تارة, ويفعل المباح تارة تعليمًا, ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء الآخرة إلى ثلث الليل", فأخبر بفضيلة التأخير، ولم يفعله في كل حال. فإن قالوا: في حديث عائشة رضي الله عنها" أن النبي صلى الله عليه

وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر". قيل لهم: لا دلالة فيه على منع التأخير, لأنا نحتاج أن نرجع إلى اعتبار طول حائط الحجرة, وليس عندنا علم بمقداره, وجائز أن يكون قصيرًا, فتبقى الشمس في حجرتها إلى آخر الوقت المستحب, فليس إذ فيه بيان موضع الخلاف. فإن قيل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أول الوقت رضوان الله, وآخره عفو الله": يدل على أن فعلها في أول الوقت أفضل, لأن العفو لا يكون إلا تقصير. قيل له: هذا غلط فاحش في التأويل, لأن العفو معناه: التسهيل والتوسعة, كقوله صلى الله عليه وسلم: " عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق: , وقال الله تعالى: {فتاب عليكم وعفا عنكم}: معناه سها عليكم. وليس هذا من العفو عن الذنب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد

صلى الصلوات في أواخر أوقاتها, وصلى به جبريل صلى الله عليهما كذلك, ولا يجوز لأحد أن يقول: إنه كان مقصرًا في التأخير, ومتأوله على ذلك جاهل بما يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وما لا يجوز عليه. وأما قوله: " أول الوقت رضوان الله": فلا دلالة فيه على أن آخر الوقت ليس برضوان الله، بل هما جميعا رضوان الله، وآخر الوقت تسهيل الله وتوسعته ورحمته ورضوانه؛ لأنه لو منعنا التأخير عن أول الوقت, لكان فيه التضييق والتشديد علينا، فأخبر عليه الصلاة والسلام نعمة الله علينا في أن جعل الصلاة في أول الوقت وآخره, ولم يقصرها على وقت واحد. مسألة: [الوقت المختار للمغرب] قال أبو جعفر: (والاختيار في صلاة المغرب التعجيل في الزمان كله). وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في اليومين جميعًا في أول الوقت حين سأله السائل عن مواقيت الصلاة. وكذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنه في إمامة جبريل بالنبي

عليهما السلام. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم". مسألة: [الوقت المستحب للعشاء] قال أبو جعفر: (والاختيار في صلاة العشاء التعجيل فيها قبل مضى ثلث الليل, فإن فات: فقبل مضى نصف الليل, فإن فات: فتاركها بلا عذر مسيء). قال أبو بكر: المستحب عندهم في العشاء تأخيرهم إلى ثلث الليل, لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخيرها إلى ثلث الليل". فدل أنه أفضل؛ لأنه لا يقول: لولا المشقة لأخرتها إلى وقت مثله في الفضل أو دونه, وهو كقوله: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل طهور". فإن قيل: روي عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه

وسلم أنه قال: " أفضل الأعمال: الصلاة لأول ميقاتها". في رواية مالك بن مغول عن الوليد بن العيزار عن أبي عمرو الشبياني عن ابن مسعود رضي الله عنه. قيل: له: قد روى أبو أسامة عن مالك بن مغول هذا الحديث بإسناده, وقال فيه: "الصلاة في ميقاتها". ورواه جماعة عن الوليد بن عيزار بإسناده, وقالوا: " الصلاة لوقتها". * ولا يكره تأخيرها إلى نصف الليل, لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخر العشاء ذات ليلة إلى ثلث الليل, أو شطره, ثم قال: "إنكم في صلاة ما انتظرتموها, ولولا ضعف الضعيف لجعلت هذا وقتها". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخيرها إلى ثلث الليل, أو إلى نصفه".

وفي حديث أنس رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر العتمة إلى قريب من شطر الليل". وفي حديث أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهز جيشًا, حتى إذا انتصف الليل أو بلغ ذاك: خرج إلينا". وفي حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وقت العشاء إلى نصف الليل". فدلت هذه الأخبار على أن من أخرها إلى نصف الليل: لم تلحقه إساءة. وأما إذا أخرها عن نصف الليل: فهو مسيء, لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تأخيرها عن ذلك بغير عذر. ولأنه قال صلى الله عليه وسلم: "آخر وقتها نصف الليل", ومعلوم أن مراده إباحة فعلها, وجواز تأخيرها إليه, لأن الدلالة قد قامت على أنها لا تفوت إلا بطلوع الفجر, وهي ما قدمنا فيما سلف.

مسألة: [الوقت المستحب في صلاة الفجر] قال أبو جعفر: (والاختيار في الصبح: جمع التغليس والإسفار جميعًا, فإن فات ذلك: فالإسفار أفضل من التغليس). فأما وجه جمعهما, فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الآثار في التغليس. وروي عنه آثار أخر مثلها في الإسفار، فإذا جمع بينهما: فغلس بابتدائها, وانصرف عنها مسفرا: كان مستعملًا للأخبار كلها. * وأما إذا لم يجمعهما: فالأفضل الإسفار. وذلك لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا إسحاق بن إسماعيل قال: حدثنا سفيان عن ابن عجلان عن عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج رضي الله عنه

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصبحوا بالصبح, فإنه أعظم لأجوركم". وقد روي: " أسفروا بالصبح, فإنه كلما أسفرتم كان أعظم للأجر". وذكر الطحاوي قال: حدثنا على بن معبد قال: حدثنا شبابة بن سوار قال: حدثنا أيوب بن سيار عن محمد بن المنكدر عن جابر عن بلال رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وهذا عندنا أولى من الأخبار التي روي فيها التغليس’ لأنه ليس فيها بيان موضع الفضل, إذ قد يفعل النبي صلى الله عليه وسلم المباح تارة على وجه التعليم, ويفعل الأفضل أيضًا اختيارًا له على غيره’ فإذا ليس في ظاهر فعله صلى الله عليه وسلم دلالة على موضع الخلاف, وفي خبرنا بيان الأفضل’ لأنه أمر, وأخبر أنه أعظم للأجر. ولأن الأمر والفعل إذا اجتمعا: كان الأمر أولى. وعلى أنه قد روي في الأخبار التغليس والإسفار, فتتعارض الأخبار في الفعل, ويبقى لنا الأمر بالإسفار من غير معارض.

وروي إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر بالمزدلفة يوم النحر حين سطع الفجر, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هاتين الصلاتين تحولان عن وقتهما في هذا المكان: المغرب, وصلاة الفجر هذه الساعة". وذكر الطحاوي قال: حدثنا حسين بن نصر قال: حدثنا الفريابي قال: حدثنا إسرائيل بهذا. فاقتضى هذا اللفظ من النبي صلى الله عليه وسلم أن الوقت المستحب لها هو الإسفار, لقوله: "تحولان عن وقتهما". وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة إلا لميقاتها إلا الفجر بالمزدلفة, فإنه صلاها يومئذ قبل ميقاتها". هذا مع لزوم عبد الله رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وحضره. وقال جابر رضي الله عنه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخر الفجر كاسمها".

فإن قيل: قوله: "أسفروا بالفجر ", و"أصبحوا بها" معناه: صلوها بعد طلوع الفجر. قيل له: فهذا يوجب أن يكون الإسفار هو التغليس, وذلك قلب اللغة وعكس ما يقتضيه لفظ الخبر, فإذا لا معنى لقولهم في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في اليومين أنه غلس بها في اليوم الأول, وأسفر في اليوم الثاني. وعلى أنه تأويل يحيل معنى الخبر ويبطله؛ لأنه يصير بمنزلة من قال: "صلوا الفرض بعد دخول الوقت, فإنه أعظم لأجوركم من أن تصلوها قبل الوقت", وهذا كلام ساقط لا يجوز مثله على النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: في حديث بشير بن أبي مسعود عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الغداة فغلس بها, ثم صلاها فأسفر, ثم لم يعد إلى الأسفار حتى قبضه الله. قيل له: يعارضه حديث ابن مسعود رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحولها عن وقتها إلا بالمزدلفة".

وأيضًا: قد بينا أنه ليس في ظاهر الفعل دلالة على الأفضل, وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه وحكايته عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنهما حولتا عن وقتهما", وحديث رافع بن خديج رضي الله عنه أمر بالتأخير , فهو أولى. وعلى أن كل ما روي في التغليس, فمحتمل أن يريد أنه ابتدأها بغلس, ثم انصرف عنها مسفرًا. مسألة: [الأوقات المنهي عن الصلاة فيها] قال أبو جعفر: (ولا يصلي أحد عند طلوع الشمس, وعند الزوال, وعند الغروب). قال أحمد: ثلاثة أوقات لا يصلى فيها نقل ولا فرض: عند طلوع الشمس, وعند الزوال, وعند الغروب, إلا عصر يومه عند الغروب. ووقتان لا يصلى فيهما نفل, ويصلى فيهما الفرض, بعد العصر حتى تغرب الشمس, وبعد الفجر حتى تطلع الشمس. * فأما الصلاة في الأوقات الثلاثة, فالأصل: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآثار المتواترة أنه نهى عن الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة. منها حديث ابن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا

يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها، فإنها تطلع بين قرني شيطان". وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي في ثلاث ساعات، وأن نقبر فيهن موتانا: عند طلوع الشمس، وعند الزوال، وعند الغروب". وحديث ابن مسعود أن عمرو بن عنبسة رضي الله عنهما قال: يا رسول الله! هل من الليل والنهار ساعة ينهى فيها عن الصلاة؟ فقال: "أما الليل: فالصلاة مقبولة مشهودة، حتى تصلي صلاة الفجر فاجتنب الصلاة حتى ترتفع الشمس وتبيض، فإن الشمس تطلع بين قرني الشيطان، فإذا ابيضت فالصلاة مقبولة مشهودة، حتى ينتصف النهار، فإذا مالت الشمس فالصلاة مقبولة مشهودة، حتى تصفر الشمس فأنها تغرب بين قرني شيطان". وعموما هذا الخبر ينفي جواز الصلاة في هذه الأوقات، وهو ينتظم الفرض والنفل جميعا في النهي؛ لأنه قال: "فاجتنب الصلاة". وفيه دلالة على ما قلنا من وجه آخر، وهو قوله: "الصلاة مقبولة حتى ينتصف النهار"، و: "حتى تصفر الشمس".

و: "حتى" غاية تقتضي أن يكون حكم ما بعدها بخلافها, وإلا لم تكن غاية, فتضمن نفي قبول الصلاة عند انتصاف النهار, وعند الغروب, كقوله: لا يقبل الله صلاة بغير طهور", وهذا آكد ما يكون من اللفظ الموجب لإفساد الصلاة. وروى عمران بن حصين وأبو قتادة وأبو هريرة وجبير بن مطعم رضي الله عنهم " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام هو وأصحابه عن صلاة الفجر في الوادي, فاستيقظ وقد طلعت الشمس, أمر بالرحيل حتى لما ارتفعت الشمس نزل, فأمر بلالا فأذن, وصلى ركعتي الفجر, ثم أمره فأقام وصلى بهم الفجر". وقال عمران بن حصين رضي الله عنه في حديثه: "لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الوادي: انتظر حتى استقلت الشمس". وقال جبير بن مطعم رضي الله عنه: " قعدوا هنيهة, ثم صلوا ركعتي

الفجر، ثم صلوا الفجر". فدل ذلك على امتناع جواز الصلاة في هذا الوقت: الفوائت وغيرها. فإن قيل: إنما أخرها لأجل أنه قال: "في الوادي شيطان". قيل له: وقد قيل إن الشيطان يقارن طلوع الشمس وغروبها، فعله كون الشيطان هناك، موجودة في غير الوادي. والدليل على أنه لم يؤخرها لأجل كونه في الوادي: أن في خبر جبير بن مطعم وعمران بن حصين: "أنه لما خرج من الوادي قعد وقعد أصحابه حوله، فلما استقلت الشمس: صلى"، فدل على أنه انتظر ارتفاع الشمس. فإن قيل: روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها، ولا كفارة لها إلا ذلك"، وتلا قوله:} وأقم الصلاة لذكرى {، وهذا يوجب فعل الفوائت في هذه الأوقات. قيل له: الجواب عن هذا من وجوه:

أحدهما: أن أحد الخبرين ورد في بيان لزوم الفائت، لا في تفصيل أوقاته، والآخر وارد في بيان الوقت وتفصيله، فكل واحد منهما مستعمل في باب لا يعترض به على صاحبه، فكأنه قال: فليصلها إذا ذكرها، إلا في هذه الأوقات. وفائدته: أن فوات الوقت لا يسقطها، ألا ترى أن قوله تعالى:} فعدة من أيام أخر {: لم يقض على نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم النحر ويوم الفطر، وأيام التشريق؛ لأن قوله:} فعدة من أيام أخر {: وارد في حكم وجوب القضاء، ونهيه عليه الصلاة والسلام عن صوم هذه الأيام وارد في بيان الوقت، فقضى على قوله تعالى:} فعدة من أيام أخر {. وأيضا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين فاتته صلاة الفجر، لم يقضها وقت الطلوع، وأخرها عنه، فدل على أن خبر النهي قاض على خبر الأمر بقضاء الفائت. وقد ذكر سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا يومئذ:

} وأقم الصلاة لذكرى {، فأمر بقضاء الفائت، ولم يفعله في وقت الطلوع، فدل على صحة ما ذكرناه. وأيضا: قوله: "فليصلها إذا ذكرها": معناه بشرائطها وحدودها، ألا ترى أنه لم يقض على وجوب الطهارة، وستر العورة. وعلى هذا الاعتبار لمخالفنا ألزم في ترتيب الأخبار؛ لأنه يرتب العام على الخاص، وأمره لقضاء الفائت عام في سائر الأوقات، وخبرنا خاص في بيان الوقت، فواجب أن يكون ما اقتضاه خبر قضاء الفوائت من عموم الأوقات، مبنيا على خبر تخصيص بعض الأوقات بجوازها فيه دون غيره. وأيضا: فإن خبرنا يقتضي الحظر، وخبرهم الإباحة؛ لاتفاق الجميع على جواز تقديم النافلة على وقت ذكر الفائتة والمنسية، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر على الفرض في حال الفوات، فدل على أن خبرهم اقتضى إباحة فعل الفائتة في حكم الوقت، وإن كان قد أفاد لزوم الفرض في ذمته، وخبرنا حاظر لفعلها في الوقت، ومتى اجتمع خبران، في أحدهما حظر، وفي الآخر إباحة: كان الحظر قاضيا على الإباحة.

فإن احتجوا بخبر أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدك ركعة من صلاة الغداة قبل طلوع الشمس، فقد أدرك". وروي في بعض الأخبار: "فليصل إليها أخرى"، وهذا يوجب جواز فعلها في هذا الوقت. قيل له: يحتمل أن يكون قبل النهي، ويدل عليه ما روى إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: خرجنا مع أبي هريرة رضي الله عنه حين طلعت الشمس في جنازة، فقال: ضعوها، فلما ارتفعت صلينا عليها، ثم قال: "إن الشمس إذا طلعت تطلع بين قرني الشيطان". فدل فعله على أنه قد علم أن قوله صلى الله عليه وسلم: " فليصل إليها أخرى": كان قبل النهي. وأيضا: أصل الحديث: قوله: "فقد أدركها"، وهذا لا دلالة فيه على جواز فعلها فيه، وإنما يدل على إدراك وقت الوجوب، كالصبي يبلغ، والكافر يسلم. والدليل عليه أنه معلوم أنه لم يرد بقوله: "فقد أدرك": فعل جميعها في الوقت، فعلم أن المراد إدراك وقت وجوبها؛ لأن جميعها يجب

بإدراك الجزء من الوقت. * وأما ما روي من قوله: "فليصل إليها أخرى"، فيشبه أن يكون نقل الراوي المعنى عنده، حين ظن أن قوله: "فقد أدركها": يفيد ذلك. ولو ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان معناه: فليصل ركعتين، فأفاد أن إدراكه لهذا الجزء من الوقت: يلزمه ركعتين، فيفعلهما في الوقت الذي تجوز فيه الصلاة. وقد روي: "فقد تمت صلاته"، ومعناه: فقد تم لزومها؛ لاتفاق الجميع أن فعلها لم يتم. فإن قيل: فما الفرق بينهما وبين عصر يومه، والنهي شامل لجميع الصلوات؟ قيل له: لاتفاق الجميع على جوازها، فخصصناها من جملة الأخبار بالاتفاق، وبقينا حكم العموم فيما عداها، لعدم دلالة التخصيص. وأيضا: فإن وقت الغروب لوجوب العصر، بدلالة أن مدركه بالإسلام والبلوغ يلزمه، ويمتنع أن يكون وقت لزومها، ولا يصح فيه أداؤها، وليس وقت الطلوع وقتا لوجوب صلاة الفجر؛ لأن مدركها

لإسلام، ولبلوغ لا يلزمه فرضها. وأيضا: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من فاتته العصر حتى غابت الشمس، فكأنما وتر أهله وماله". وقال عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق: "ما صليت العصر حتى كادت الشمس تغرب"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " وأنا والله ما صليت بعد"، فلم ينكر على عمر فعلها في ذلك الوقت، فمن أجل ذلك جوزنا فعلها، دون غيرها من الصلوات. فإن قيل: فقد روي النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولم يدخل فيه الفوائت بالاتفاق، كذلك النهي عنها في الأوقات الثلاثة. قيل له: الفصل بينهما: أن النهي تناول الوقت نفسه في هذه الأوقات الثلاثة، واعتبار الوقت من فروض الصلاة وشرائطها، فاستوى فيها من أجل ذلك حكم النفل والفرض، كسائر فروض الصلاة إذا تركها، نحو الطهارة، والستر، واستقبال القبلة، وأما بعد الفجر والعصر: فلم يتناول الوقت، وإنما تعلق بفعل الصلاة. ألا ترى أن رجلا آخر قد يتنفل في هذا الوقت ممن لم يصل الفرض،

ومن قد صلى الفرض لا يصليها، فدل على أن النهي لم يتعلق بالوقت، وإنما تعلق بفعل الصلاة. ولم نجد في الأصول فعل فرض يمنع فرضا آخر غيره، فانصرف النهي من أجل ذلك إلى النوافل. وأيضا: فعموم النهي يتناول الجميع، فإذا قامت الدلالة على تخصيصه من وجه: لم يوجب ذلك تخصيصه من سائر الوجوه. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا بني عبد مناف! لا تمنعوا طائفا يطوف بهذا البيت، ويصلي في أي ساعة شاء من ليل أو نهار"، وعمومه يقتضي جواز فعلها في سائر الأوقات. قيل له: يخصه ما وصفنا. وأيضا: فإن هذا وارد في نهيهم عن منع الناس من الصلاة في الكعبة، وخبرنا وارد في بيان حكم الأوقات، فلا يعترض أحدهما على الآخر بحسب ما بينا في قوله: "فليصلها إذا ذكرها"، ألا ترى أنه لم يبح بذلك فعل النفل في هذه الأوقات. * فصل: [وقتان يصلى فيهما الفرض دون النفل] وأما بعد العصر، وبعد الفجر: فإنما ينهى فيهما عن النوافل والنذور وصلاة الطواف، ويجوز فيهما فعل الفرض.

وذلك لما روى أبو سعيد الخدري، ومعاذ بن عفراء، وابن عمر، وأبو هريرة رضي الله عنهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صلاتين بعد الصبح، وبعد العصر". وفي حديث ابن مسعود في سؤال عمرو بن عنبسة رضي الله عنهما النبي صلى الله عليه وسلم عن الأوقات: "أن الصلاة بالليل مقبولة مشهودة حتى تصلي الفجر، ثم اجتنب الصلاة حتى ترتفع الشمس". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: حدثني رجال مرضيون، وأرضاهم عمر رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب". ثم روي عن عمر وأبي سعيد ومعاذ بن عفراء رضي الله عنهم

من قولهم النهي عن صلاة الطواف في هذين الوقتين، فدل على أنهم علموا من مراد النبي صلى الله عليه وسلم شمول النهي لجميع النوافل في هذين الوقتين، سواء كان نفلا مبتدأ، أو نفلا له سبب. * واحتج مخالفنا بما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي قط بعد العصر إلا صلى ركعتين". وبحديث يزيد بن الأسود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح في مسجد الخيف، فرأى رجلين في آخر القوم لم يصليا معه، فقال: "علي بهما"، فجيء بهما ترعد فرائصهما"، فقال: "ألستما مسلمين؟ " قالا: بلى. قال: "فما منعكما أن تصليا معنا؟ " قالا: يا رسول الله كنا قد صلينا في رحالنا. قال: "فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة".

وبأن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة الفجر، فرأى قيسا رضي الله عنه يصلي، فلما فرغ قال له: "ما هذه الصلاة؟ " قال: ركعتا الفجر، فلم ينكر عليه. قيل له: أما حديث عائشة رضي الله عنها فمختلف في متنه، وذلك أنه قد روي على ما قال، وهذا اللفظ منكر عند جميع الأمة؛ لأن أحدا لايبيح النفل المبتدأ بعد العصر. ثم قد روى محمد بن شجاع عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق قال: أخبرني محمد بن عمرو بن عطاء عن عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حويطب حدثه أن عبد الله بن الحارث بن نوفل حدثه "أن معاوية رأى ناسا يصلون بعد العصر، فقال لابن عباس رضي الله عنهما: ما هذه الصلاة التي أرى الناس يصلون؟ فقال: ما يفتي ابن الزبير عن عائشة رضي الله عنهم. فبعث معاوية إلى عائشة رضي الله عنها، فسألها عن ذلك. قال: فذهبت مع رسوله، فسألها، فقالت:

حدثتني أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاهما في بيتها. فبعثه معاوية إلى أم سلمة رضي الله عنها، وأنا معه، فسألها أيضاً فقالت أم سلمة رضي الله عنها: يغفر الله لعائشة، والله ما هكذا حدثتها، إنما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين تركهما بعد الظهر، فصلاهما بعد العصر، فسألتُه فقال: "شغلت عنهما، فكرهت أن تراني الناس أصليهما بعد العصر، فصليتهما في بيتك. فأحالت عائشة على أم سلمة، وأنكرت أم سلمة رواية عائشة رضي الله عنهما بفعل صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر على الإطلاق، وذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كرهت أن تراني الناس أصليهما بعد العصر". وهذا يقتضي النهي عنهما بعد العصر؛ لأنه منع الاقتداء به فيهما. وذكر الطحاوي قال: حدثنا علي بن شيبة قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس بن ذكوان عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، ثم دخل بيتي، فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله! صليت صلاة لم تكن تصليها؟ قال: "قدم علي مال، فشغلني عن ركعتين كنت أركعهما بعد الظهر، فصليتهما الآن". قلت: يا رسول الله! أفنقضيهما

إذا فاتتا؟ قال: "لا". فقد دل هذا الحديث على معنيين: أحدهما: النهي عن النوافل بعد العصر: كانت مبتدأة أو لها سبب. والثاني: أن النوافل لا يجب قضاؤها بعد فوات وقتها. لا ويدل أيضا على أن خبر عائشة رضي الله عنها غير مستعمل على ما ورد من الإطلاق: ما ورى محمد بن فضيل عن عبد الملك عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إذا أردتم الطواف بعد العصر والفجر، فأخروا الصلاة حتى تغيب الشمس أو تطلع". وأما حديث يزيد بن الأسود عن أبيه في قصة الرجلين: فجائز أن يكون قبل النهي عن الصلاة في هذين الوقتين. ولأن الحظر والإباحة متى اجتمعا: فالحظر أولى. وأيضا: يحتمل أن يكون ذلك في وقت ما كان يجوز إعادة الفرض، فكان تصير الثانية فرضا، والأولى نافلة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك عن إعادة الفرض مرتين. وأيضا: يجمع بينه وبين أخبار النهي، فكأنه قال: إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم في غير هذا الأوقات.

وكذلك حديث قيس رضي الله عنه: يحتمل أن يكون قبل النهي. ولأن النهي أولى على ما بينا. وأيضا: فإن من أصل أبي حنيفة رحمه الله في الخبرين المتضادين، أن الناس متى اتفقوا على استعمال أحدهما، واختلفوا في استعمال الآخر صار ما اتفقوا عليه قاضيا على ما اختلفوا فيه، عاما كان أو خاصا. فلما اتفق السلف على استعمال خبر النهي في النفل المبتدأ، واختلفوا في استعمال إباحة النفل الذي هو سبب: كان ما اتفقوا عليه من النهي قاضيا على أخبار الإباحة إن كان مختلفا في استعمالها. فإن قيل: فما وجه حديث أم سلمة رضي الله عنها؟ قيل له: يحتمل أن تكون الركعتان قد كانتا واجبتين على النبي صلى الله عليه وسلم من طريق الشرع، فكان هو مخصوصا بوجوبهما عليه، فكانتا مثل الفوائت، ويدل على ذلك أنه كره عليه الصلاة والسلام أن يراه الناس يصليهما، فيقتدوا به فيهما. فإن قيل: لما جاز فعل الفوائت، وكان المعنى أيضا فيها أنها صلاة لها سبب، كان كذلك النوافل التي لها أسباب، مثل صلاة الطواف، وما أمر به من إتباع الإمام إذا لحقه في الصلاة. قيل له: فالنفل المبتدأ له سبب، وهو أنه مندوب إليه مئاب على فعله. وأيضا: فلو دخل مسجدا بعد العصر، يلزم على علتك أن تبيح له فعل الركعتين تحية المسجد، على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم

في أمره بهما. وأيضا: فقد اتفقنا على أن النوافل المبتدأة لا تفعل في هذين الوقتين، والمعنى فيها أنها ليست بواجبة، فلما شاركتها النوافل التي لها أسباب في العلة، فوجب أن تشاركها في الحكم. * فصل: [ما يصلى بعد الفجر، والعصر] قال أبو جعفر: (ويسجد للتلاوة في هذين الوقتين، ويصلي فيهما على الجنائز، ولا يصلي لطواف، ولا نذر). قال أبو بكر أحمد: لا خلاف في جواز فعل الصلاة على الجنازة في هذين الوقتين، وكذلك الفوائت. * وأما سجود التلاوة، فهو واجب عندنا، فصار بمنزلة الصلاة الفائتة، وفرقوا بينه وبين النذر وصلاة الطواف، وذلك لأن سجود التلاوة ليست صحة لزومه متعلقة بفعله، لأنه لو سمعها من غيره: لزمته، فصارت كالفوائت وصلاة الجنازة، والسجدة وإن كان لو تلاها لزمته، فإن لزومها لم يثبت في هذه الحال من حيث تلا؛ لما وصفنا. * وأما صلاة الطواف، فهي كالنذر؛ لأن لزومها متعلق بفعله، والنذر وأن كان واجبا فإن لزومه بمنزلة الدخول فيها، ولو دخل فيها في هذين

الوقتين: لم يجز له المضي فيها وإن كان لزمته، كذلك لزومها بالقول. مسألة: [لا قضاء على المغمى عليه في أكثر من خمس صلوات]. قال أبو جعفر: (ومن أغمي عليه خمس صلوات أو أقل منها، ثم أفاق: قضاها، ومن أغمي عليه أكثر من ذلك، ثم أفاق: لم يقض). قال أبو بكر أحمد: كان القياس عندهم أن لا يلزمه القضاء إذا أغمى عليه وقت الصلاة؛ لاتفاق الفقهاء على أن للإغماء تأثيرا في إسقاط فرض الصلاة، فكان القياس أن لا يلزمه القضاء إذا مر عليه وقت الوجوب، وهو آخر الوقت مع الإغماء، إلا أنهم تركوا القياس في اليوم والليلة، لما روي عن عمار رضي الله عنه "أنه أغمي عليه يوما وليلة، فقضى صلاته"، ولو يرو عن أحد من السلف خلافه. وما زاد على اليوم والليلة حملوه على القياس. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أغمي عليه أكثر من يوم وليلة، فلم يقض.

مسألة: [لا قضاء إلا على من أدرك وقت وجوب الصلاة عليه] قال أبو جعفر: (ومن طهرت من الحيض، أو بلغ من الصبيان، أو أسلم من الكفار: لم يكن عليه أن يصلي شيئا مما فات وقته، وإنما يصلي ما أدرك وقته، ويقضيه إن فاته). * أما الحيض فلما روت معاذة العدوية أن امرأة سألت عائشة رضي الله عنها: أتقضي الحائض الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ لقد كنا نحيض على عهد رسول صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة. * وأما الصغير، فلأنه ليس من أهل التكليف قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: أحدهم: الصبي حتى يحتلم".

وأمرنا إياه بالصلاة قبل البلوغ: تأديب وتعليم، لا على جهة التكليف. * وأما الكافر، فلقول الله تعالى:} قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف {. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام يجب ما قبله". وهو مع ذلك اتفاق من الفقهاء. [مسألة:] قال: (ومن أدرك من هؤلاء من الوقت مقدار ما يمكنه فيه افتتاح الصلاة: لزمته). لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الفجر قبل أن

تطلع الشمس: فقد أدرك". فألزمه حكم الفرض بإدراك بعضه، والمعنى فيه، أن الجزء الذي لزمه بإدراك الوقت لا يصح ولا يثبت حكمه إلا بفعل باقي أجزائها. فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص ركعة بالإدراك، فلم جعلت ما دونها بمنزلتها؟ قيل له: ذكر مدرك الركعة، وسكت عن حكم ما دونها، فكان حكمه حكمها في المعنى من الوجه الذي ذكرنا. مسألة: [الجمع الصوري بين الصلاتين في يوم الغيم]. قال أبو جعفر: (ويصلي في يوم الغيم بأن يؤخر الفجر، ويؤخر الظهر ويعجل العصر، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء). قال أبو بكر أحمد: أما الفجر، فإنه يسفر بها في الأوقات كلها؛ لما بينا فيما تقدم، وأما باقي الصلوات، فإنه يفعلها على حسب ما فعل من الجمع في السفر والمرض؛ لأن الغيم عذر في اشتباه الوقت، فصار كالعذر بالسفر والمرض في الجمع. * * * * *

باب الأذان والإقامة

باب الأذان والإقامة مسألة: [صفة الآذان] قال أبو جعفر: (والآذان: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ... إلى آخره). قال أبو بكر أحمد: الكلام في ذلك من وجهين: أحدهما: عدد التكبيرات، فإن من الناس من يقول يكبر في أوله مرتين، وحكى الطحاوي أن هذا القول قد روي عن أبي يوسف. والثاني: في الترجيع. فروى عثمان بن السائب عن أبيه، وأم عبد الملك بن أبي محذورة عن أبي محذورة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه الآذان، فذكر في أوله: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله.

وروى عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة عن عبد الله بن محيريز عن أبي محذورة رضي الله عنه مثله. فذكر في هذين الحديثين التكبير في أوله مرتين. وروى مكحول عن ابن محيريز عن أبي محذورة رضي الله عنه: الله أكبر أربع مرات. وكذلك الآذان هو في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه، الذي أري في المنام، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يلقنه بلالا، فأذن به. فكان هذا أولى؛ لما فيه من الزيادة، ولأن التكبير مرتين شاذ في الأمة غير مشهور، وقد استفاض نقل الأربع قولا وعملا.

* وأما الترجيع، فليس هو عندنا من صلب الآذان، وذلك لأنه ليس في آذان عبد الله بن زيد رضي الله عنه، الذي يرويه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الآذان ترجيع. ورأى عمر بن الخطاب مثل ذلك إلا أن عبد الله بن زيد سبقه. وكذلك في رواية محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه عن أبيه بغير ترجيع. وأما ما روي في آذان أبي محذورة رضي الله عنه من الترجيع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه إياه: فإنه قد ذكر فيه السبب الذي من أجله أمر بالترجيع. وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مر في صبيان من المشركين، يتحاكون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الآذان، كالمستهترين، قال: فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم آذاننا فقال: "إن فيهم رجلا حسن الصوت"، فأرسل إلينا فآذنا، وكنت في آخرهم، فحبسني ولا شيء أكره مما يأمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فعلمني الآذان,

ثم قال لي بعد الشهادتين: "ارجع فمد بها صوتك". فهذا له وجهان: أحدهما: أنه لما لم يمد بها صوته بدءًا على ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم – لكراهيته بذلك، على حسب ما روي في الخبر – أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع، فيمد بها صوته، فلا دلالة في ذلك على أنه من صلب الأذان. والثاني: أنه لما رأى كراهيته لذلك؛ لأن المشركين كانوا ينكرون الشهادتين، أمره بالإعادة ليمرن عليها ويعتادها. وإذا احتمل الترجيع ما وصفنا: لم يجز لنا إتيانه من صلب الأذان إلا بدلالة. ولأن الأخبار الأخر قد عارضته، فاستدللنا بها على أن أمره إياه بالترجيع كان على الوجه الذي قلنا. وأيضًا: اختلاف الأخبار يوجب الاستشهاد بالأصول، فما شهد له الأصول منها: فهو أولى، وقد اتفقوا على أن سائر ألفاظ الأذان لا ترجيع فيها، فكذلك الشهادتان. وأيضًا: الإقامة لا ترجيع فيها، كذلك الأذان؛ لأن كل واحد منهما دعاء إلى الصلاة.

مسألة: [صفة الإقامة] قال أبو جعفر: (والإقامة كالأذان سواء، إلا أنه يزيد في آخرها بعد الفلاح: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة). وذلك لما في حديث عبد الله بن زيد الذر أرى الأذان، وحديث سويد بن غفلة، قال: "سمعت بلالًا يؤذن حتى مثنى مثنى، ويقيم مثنى". وروى حماد عن إبراهيم عن الأسود عن بلال أنه كان يثني الأذان، ويثني الإقامة. وحدثنا دعلج قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه قال: حدثنا إسحاق بن راهويه قال: حدثنا محمد بن بكر قال: أخبرنا بن جريج قال: أخبرني عثمان بن السائب عن أم عبد الملك بن أبي محذورة عن أبي محذورة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه الإقامة فقال:

"الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله". وحكى لنا دعلج عن بعض شيوخ الحديث من كبارهم أنه قال: "أصح ما روي في ذلك حديث أبي محذورة رضي الله عنه". وكذلك رواه مكحول عن ابن محيريز عن أبي محذورة رضي الله عنه بهذا اللفظ. فإن قيل: فإن ثبت حديث أبي محذورة رضي الله عنه: ثبت الترجيع؛ لأنه كما ذكر التثنية في الإقامة، ذكر الترجيع في الأذان. قيل له: ويلزمك مثله؛ لأنا نقول لك: إن ثبت الترجيع عندك في الأذان، فينبغي أن تثبت التثنية في الإقامة، لأن الحديث الذي فيه الترجيع، هو الذي فيه تثنية الإقامة. ثم ننفصل نحن منك، بأن في الترجيع احتمالًا على الوجه الذي قدمنا، وليس في تثنية الإقامة احتمال مثله، فتثبت الزيادة. فإن قيل: يحتمل حديث بلال رضي الله عنه أنه أقام مثنى مثنى، يعني به قوله: "قد قامت الصلاة".

قيل له: فهذا بعض الإقامة، وقد أخبر أنه يقيم مثنى، وقوله:"الإقامة": تقتضي حملها كالأذان. فإن قيل: قد روى شعبة وسفيان وحماد بن زيد وهشيم وإسماعيل عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال: "أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة". قيل له: هذا ليس فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره، إذ جائز أن يكون غيره أمره؛ لأن قد أذن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالشام، فجائز أن يكون من أمر بعض الأمراء. ورواه عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالًا أن يشفع الأذان،

ويوتر الإقامة. قل يحيى بن معين: "لم يرفعه غير عبد الوهاب". قال: "وكان عبد الوهاب اختلط بآخره". وقد رواه جماعة عن أيوب فلم يرفعوه. وقد عارضه أيضًا ما رواه سويد بن غفلة والأسود عن بلال رضي الله عنه من تثنية الإقامة. فإن ذكروا ما حدثنا ابن قانع قال: حدثنا أحمد بن حماد بن سفيان قال: حدثنا الحسن بن كسيب الحضرمي قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشفع الأذان، ونوتر الإقامة". قيل له: قد رواه جماعة عن إسماعيل ولم يرفعوه، والحسن بن

كسيب الحضرمي: مجهول لا يدري من هو؟! وقد روى شعبه عن أبي جعفر مؤذن مسجد العريان عن أبي المثنى عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة، غير أنه كان يقول: "قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة"، فإذا سمعنا الإقامة توضينا، ثم خرجنا إلى الصلاة". قيل له: أبو جعفر وأبو المثنى جميعًا مجهولان، لا يعارض بهما ما تقدم ذكره من الأخبار. وعلى أنه لو ثبت، كان معناه، أنه يؤذن مرتين مرتين، كما روي في

أذان الفجر، والإقامة مرة. ويدل عليه ما روي فيه: "فإذا قال: "قد قامت الصلاة": قالها مرتين، فعرفنا أنها الإقامة، فيتوضأ أحدنا، ثم يخرج". وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول: "الأذان مثنى، والإقامة مثنى". وأتى علي على مؤذن يقيم مرة مرة، فقال: "ألا جعلتها مثنى، لا أم لك". وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه كان يثني الإقامة. وقال أبو إسحاق: "كان أصحاب علي وعبد الله رضي الله عنهم يشفعون الأذان والإقامة". وقال مجاهد في الإقامة واحدة: "إنه شيء استخفه الأمراء".

وروى أبو معشر عن إبراهيم قال: "كان أذان بلال رضي الله عنه وإقامته مثنى مثنى". فلما كان هؤلاء: جعلوا الإقامة واحدة من أجل السرعة. * ومن وجهة النظر: جعلوا الإقامة واحدة من أجل السرعة. * ومن وجهة النظر: أن الأذان لما كان شفعًا، وهو دعاء إلى الصلاة كانت الإقامة مثله؛ قياسًا عليه بما ذكرنا من المعنى. [مسألة:] قال أبو جعفر: (ويترسل في الأذان، ويحدر الإقامة). مسألة: [لا يؤذن قبل دخول الوقت]. قال أبو جعفر: (ولا يؤذن لشيء من الصلوات إلا بعد دخول وقتها في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا بأس أن يؤذن لصلاة الصبح بالليل قبل دخول وقتها). الحجة لأبي حنيفة: ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا موسى بن إسماعيل وداود بن شبيب قالا: حدثنا حماد بن سلمة عن أيوب بن نافع عن ابن عمر أن بلالًا رضي الله عنهم أذن قبل طلوع

الفجر، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام". زاد موسى في حديثه: فرجع فنادى: "ألا إن العبد نام". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا جعفر بن برقان عن شدد مولى عياض بن عامر عن بلال رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا، ومد يديه عرضًا". فإن قيل: قد روي أن بلالًا رضي الله عنه كان يؤذن بليل. قيل له: كان يؤذن حين لم يقتصر عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بلالًا يؤذن بليل، ليرجع قائمكم، ويوقظ نائمكم، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم". قال: "وكان ابن أم مكتوم رضي الله عنه أعمى، لا يؤذن حتى يقال له: "أصبحت أصبحت". فدل أن الأذان لم يعتد به للصلاة، ولو اعتد به للصلاة، لم يأمر بإعادته. فإن قيل: وجه ما روي في الأخبار الأخر، أنه أمره بالإعادة، وأنه

قال: "لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر". قيل له: المعنى فيه: أن كان يقتصر حينئذ على أذان بلال وحده، فلما أقام صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم رضي الله عنه مؤذنًا، وأمره بأن يؤذن بعد طلوع الفجر للصلاة، أمر بلالًا رضي الله عنه بالأذان قبل طلوع الفجر، للعلة التي ذكرها، وهي أن يرجع قائمهم، ويوقظ نائمهم. وقد روى محمد بن بشر عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغرنكم أذان بلال، فإن في بصره شيئًا". وروى أشعت بن سوار عن يحيى بن عباد عن جده شيبان رضي الله عنه أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتغدى، فقال له: "هلم إلى الغداء"، فقال يا رسول الله! إني أريد الصوم، فقال: "وأنا أريد الصوم، إن مؤذننا في بصره سوء، أذن قبل طلوع الفجر". وروي عن عمر رضي الله عنه أن مؤذنًا له – يقال له: مسروح – أذن

قبل طلوع الفجر، فغضب عمر رضي الله عنه، وأمره "أن ينادي: ألا إن مسروحًا وهم". * ومن جهة النظر: إن الأذان دعاء إلى الصلاة، فلا يصح قبل الوقت، كما لا يجوز في سائر الصلوات بالاتفاق. * وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يحكي أن أبا يوسف كان يقول في ذلك بقول أبي حنيفة، حتى دخل المدينة، فرآهم يؤذنون قبل الفجر، فاستدل بذلك على أنه نقل من لدن النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع في قوله. ورجع أيضًا: عن مقدار الصاع إلى قول أهل المدينة، لم شاهد من مقدار صاعهم

مسألة: [الأذان والإقامة للمنفرد]. قال أبو جعفر: (ومن صلى في بيته أذن وأقام، وإن لم يؤذن وأقام أجزأه، وإن لم يؤذن ولم يقم: أجزأه). وذلك لأن من سنة صلاة الفرض الأذان، فلا يختلف فيه المنفرد والجماعة. [الأذان والإقامة للمقيم والمسافر]. إلا أنه لا يجوز للمقيم تركه؛ لأن أذان المساجد دعاء له إلى الصلاة فيجوز له الاقتصاد عليه. وأما المسافر فلم يقع لصلاته أذان: فينبغي أن يؤذن ويقيم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث، ولابن عم له رضي الله عنهما: "إذا سافرتما فأذنا، وأقيما". فإن اقتصر المسافر على الإقامة: أجزأه؛ لأن حال السفر حال التخفيف. مسألة: [إجابة المؤذن]. قال: (من سمع المؤذن، وليس في صلاة قال كما قال المؤذن إلا

قوله: حي على الصلاة، حي على الفلاح: فإنه يقول مكان ذلك: لا حول ولا قوة إلا بالله). روى حفص عن عاصم بن عمر عن أبيه عن جده عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر: قال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، وذكر نحو ما قال أبو جعفر في حي على الصلاة، والفلاح. مسألة: [الاستدارة في الأذان]. قال: (ولا بأس أن يستدير في أذانه). وذلك لما روى عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرج بلال فأذن، فكنت أتتبع فمه ها هنا وها هنا، ولما بلغ حي على الصلاة، حي على الفلاح، لوى عنقه يمينًا وشمالًا". وروى الحجاج بن أرطاة عن عون عن أبيه قال: "كان بلال رضي الله عنه إذا أذن وضع يديه في أذنيه، واستدار في أذانه". مسألة: [كراهة أذان المرأة]. ويكره أذان المرأة؛ لما "أمرهن النبي صلى الله عليه وسلم

بالتصفيق، وأمر الرجال بالتسبيح"، فدل على أنها منهية عن رفع الصوت. * * * * *

باب استقبال القبلة

باب استقبال القبلة مسألة: [استقبال القبلة في حق الخائف]. قال أبو جعفر: (وإذا اشتد الخوف صلى الخائف حيث توجعه). وذلك لقول الله تعالى:} ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله { وظاهرة يقتضي جواز التوجه إلى حيث شاء المصلي، إلا أن لما قال:} وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره {: علمنا أن ذلك في حال الإمكان، وأما في حال تعذر التوجه إليه: فهو غير مكلف لما لا سبيل له إليه من ذلك، فجاز أن يتوجه إلى الجهة التي هو سائر فيها؛ لقوله تعالى:} فأينما تولوا فثم وجه الله {: يعني - والله أعلم - هو الوجه الذي أمركم بالتوجه إليه.

مسألة: [التنفل على الدابة في غير المصر] قال أبو جعفر: (ومن كان في غير مصر: فلا بأس بأن يصلي النافلة على دابته حيثما توجهت به، ولا يضره أن يكون افتتاحه إلى غير القبلة). وذلك لما روى ابن عمر وجابر وعامر بن ربيعة وأنس رضي الله عنهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به دابته". قال أنس رضي الله عنه: في التطوع، ورواه من قول النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: روى عمرو بن أبي الحجاج عن الجارود بم أبي سبرة عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى لله عليه وسلم كان إذا سافر فأراد أن يتطوع بالصلاة، استقبل بناقته القبلة، فكبر وصلى حيث توجهت الناقة". فهلا جعلت التحريمة إلى القبلة، كما روي في هذا الحديث. قيل له: عمرو بن أبي الحجاج: ضعيف، كذا سمعت بعض أهل

الإتقان والمعرفة بالرجال يقوله. وقد رواه جماعة – وأنس رضي الله عنه معهم – من غير رواية عمرو بن أبي الحجاج، فلم يذكروا فيه هذه الزيادة. وقد رواه أنس رضي الله عنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر ذلك فيه. * ولو ثبتت الزيادة: لم يقتض الوجوب؛ لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندنا ليس على الوجوب، فنحن بخير الأمرين على ما ورد به الخبران جميعًا، ولا يجوز لأحد أن يقتصر به على أحد ما روي فيه، دون الآخر. وأيضًا: فمن حيث جاز البناء إلى غير القبلة، جاز الابتداء؛ لأن الافتتاح إلى القبلة لو كان شرطًا في صحة الصلاة: لكان كذلك حكم البناء؛ لأن حكم الابتداء والبناء لا يختلف في شرائط صحة الصلاة. مسألة: [التنفل على الدابة في المصر]. قال أبو جعفر: (ولا يصلي في المصر على دابة، وروي أصحاب الإملاء عن أبي يوسف: أنه يصليها في المصر، كما يصلي خارج المصر).

ولأبي حنيفة: أن القياس يمنع جواز التطوع على هذا الوجه، إذ لا ضرورة به إلى ذلك، أنه جائز له ترك النفل رأسًا، إلا أنه لما تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فعل النفل على الراحمة حيثما توجهت به: تركنا القياس لها، ولم يرد في المصر ما يترك له القياس: فيقي على الأصل. ولقول الله تعالى:} وحيث ما كنت فولوا وجوهكم شطره {. ولأنه لا خلاف بينهم أن النافلة غير جائزة للماشي، والجالس بالإيماء، فكذلك حكمها في الراكب، إلا أن يرد من الأثر ما يجب التسليم له. مسألة: [قبلة من يشاهد الكعبة عينها]. قال أبو جعفر: (ومن كان معاينًا للكعبة، أو مجتهدًا في طلبها: فلا يجوز له أن يصلي إلا إليها بالمعاينة، أو الجهة التي يؤديه إليها اجتهاده). وذلك لقول الله تعالى:} فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره {، والغائب عن الكعبة لا سبيل له إلى التوجه

إليها إلا من طريق الاجتهاد، فعلمنا أنه مأمور به على حسب الإمكان، وعلى ما عنده أنه هو الجهة. مسألة: [حكم من صلى إلى غير الكعبة اجتهادًا]. قال: (ومن صلى بالاجتهاد إلى جهة يرى أنها جهة الكعبة، ثم علم أنه صلى إلى غير الكعبة: لم يعد). وذلك لقول الله تعالى:} فأينما تولوا فثم وجه الله { فإن قيل: قال الله تعالى:} فول وجهك شطر المسجد الحرام {، وقد تبين أنه صلى إلى غيره. قيل له: نستعمل اللفظين، فنقول: إنه مأمور بالتوجه إلى الكعبة في حال المعاينة، والإمكان، ولا يجزئه غيره، وفي حال الاشتباه مأمور بالتوجه إلى الجهة التي أداه اجتهاده إليها، فيجزئه، لقوله:} فأينما تولوا فثم وجه الله {. وأيضًا: لا يخلو قوله تعالى:} فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره {، من أن يكون المراد به شطره عندنا إذا غبنا عن عين الكعبة، أو شطره عند الله، ومحال أن يكون المراد شطره

عند الله؛ لأنه لا سبيل لنا إلى علم ذلك، ولا إدراكه. فصح أن المراد شطره عندنا، فإذا صليناها على الوجه المأمور به فقد أدينا الفرض، ومن ادعى وجوب الإعادة، فإنما يلزمه فرضًا مبتدأ لم يقم لدلالة على لزومه. * ومن جهة السنة ما روى وكيع عن أشعب السمان عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، ثم أصبحنا فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى:} فأينما تولوا فثم وجه الله { فدل هذا الحديث على جوازها من وجهين: أحدهما: أنهم لم يؤمروا بالإعادة مع اختلاف جهاتهم. والثاني: أن الآية فيه نزلت. وحدثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ قال: حدثنا محمد بن سليمان الحارث الواسطي قال: حدثني أحمد بن عبيد الله بن الحسن العنبري قال: وجدت في كتاب أبي عبيد الله بن الحسن قال: حدثنا عبد الله

بن أبي سليمان العرزمي عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة، فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة قد عرفنا القبلة هاهنا قبل الشمال، وخطوا خطوطا، وقال بعضهم: القبلة هاهنا قبل الجنوب وخطوا، فلما أصبحنا، وطلعت الشمس، أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم بما فعلنا، فأنزل الله تعالى:} فأينما تولوا فثم وجه الله {. فإن قيل: لم يذكر أنهم كانوا استدبروا القبلة، وجائز أن يكونوا انحرفوا عنها يمنة أو يسرة، والمخالف يخير مثل ذلك. قيل له: لو اختلف حكمه، لسألهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما لم يسألهم عن الجهة دل على أن الحكم لا يختلف باختلاف الجهات التي تقع الصلاة إليها. وأيضًا: فمن حيث ثبت جوازها إذا انحرف عنها مشرقًا أو مغربًا، جازت أيضًا إذا استدبرها، إذ الأحوال كلها متساوية في أنه غير متوجه إلى القبلة فيها. وأيضًا: فإنه لما جازت صلاة الخائف إلى غير جهة القبلة مع العلم بها، لتعذر التوجه إليها: كان كذلك حكمها في حال الاجتهاد، لوجود

المعنى الذي من أجله جازت صلاة الخائف إلى غيرها، وهو تعذر التوجه إليها، إذ لا سبيل إلى التوجه إلى الكعبة لمن غاب عن عينها إلا من جهة الاجتهاد. وليس هذا بمنزلة من اجتهد في أحد ثوبيه، وأحدهما نجس، فصلى فيه، ثم تبين أنه صلى بالنجس منهما: فيعيد صلاته. ومع ذلك في حال عدم ثوب غيره، تجزيه صلاته مع العلم بنجاسته والفرق بينهما أن نجاسة الثوب قد تعلم ويوصل إليها من جهة اليقين، ولا سبيل إلى الوصول إلى عين القبلة لمن غاب عنها إلا من جهة الاجتهاد، فلذلك اختلفا. ألا ترى أن أحدًا لا يمكنه أن يقول: إني محاذ للكعبة، غير زائل عن جهتها بحال بعد غيبته عنها، وكذلك حكم سائر الجهات التي يتوجه إليها أهل البلدان، فإنما هي اجتهاد. والنجاسات قد يعلم وجودها في الثوب من جهة اليقين، فلما كان كذلك، فالمجتهد إلى الكعبة إنما رجع من اجتهاد إلى اجتهاد، والمجتهد في الثوب رجع من اجتهاد إلى يقين، فأشبه المجتهد في القبلة بالمجتهد في حكم الحادثة إذا صار من اجتهاده إلى اجتهاد مثله: فلا ينقض الأول، ولو قد صار إلى نص أو إجماع: نقض اجتهاده الأول.

مسألة: [حكم من صلى بتحر، ولم يسأل عن جهة القبلة] قال أبو جعفر: (ومن صلى في ظلمة على تحر، ولم يسأل من بحضرته، ثم علم أنه صلى إلى غير الكعبة: أعاد). وذلك لأن الجهة التي اتفق الناس إلى التوجه إليها وإن كان أصلها اجتهادًا، فإن اجتهاد الواحد والاثنين ساقط معها، ألا ترى أنه ليس له أن يجتهد في مخالفة تلك الجهة مع العلم بها، وإذا كان كذلك، ثم قد كان، يمكنه الوصول إليها بالمسألة عنها لحضور من يعلم بها: لم يصح له الاجتهاد، كما لا يصح الاجتهاد مع النص والاتفاق، فصار كمن صلى بغير اجتهاد: فيعيد صلاته إذا تبين خلافها. * * * * *

باب صفة الصلاة

باب صفة الصلاة مسألة: [تكبيرة الافتتاح] قال أبو جعفر: (وإذا قام الرجل إلى الصلاة المكتوبة كبر لها تكبيرًا مخالطًا لنيته إياها). قال أبو بكر أحمد: ليست مخالطة النية للتكبير شرطًا في صحة الدخول عند أصحابنا؛ لأنه إن نواها قبل التكبير، ثم لم تعرض حال قاطعة له عند الافتتاح: صح دخوله فيها وإن لم يكن بنية مخالطة للتكبير؛ لأنه إذا نواها فحكم نيته باق ما لم يقاطعه عنها قاطع قبل الافتتاح، فيصير به تاركًا للنية، معرضًا عنها. [مسألة:] قال أبو جعفر: (ويرفع يديه حذو أذنيه، ناشرًا لأصابعه). قال أبو بكر أحمد: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار مختلفة في صفة الرفع عند الافتتاح. فروى أبو هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا

قام إلى الصلاة رفع يديه مدًا". وروى عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبر، ورفع يديه حذو منكبيه". وكذلك رواه ابن عمر وجابر وأبو حميد الساعدي رضي الله عنهم حين وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، أحدهم أبو قتادة رضي الله عنه، فصدقوه. وروى وائل بن حجر ومالك بن الحويرث رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم، رفعهما حذاء أذنيه. وفي بعض أخبار مالك بن الحويرث رضي الله عنه "أنه حاذى بهما

فوق أذنيه". وفي بعض ألفاظ حديث أبي حميد رضي الله عنه: "رفع يديه حذاء وجهه". فأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فليس فيه بيان صفة الرفع في حال التحريمة؛ لاحتمال أن يكون مراده أنه رفعهما مدًا للدعاء قبل الدخول في الصلاة. وأيضًا: فلو صح أن المعنى رفعهما عند الافتتاح، لم يدل على خلاف ما روي في سائر الأخبار التي ذكرناها، لأن رفعهم حذاء الأذنين، وحذاء المنكبين ضرب من المد، فيحتمل أن يكون خبر أبي هريرة موافقًا لبعض ما ذكرنا. وبقي الكلام في الوجهين الآخرين، فاختار أصحابنا رفعهما حذاء الأذنين، وذلك لأن فيه زيادة أفعال هي طاعة، إذ لم يرد بإزائه نهي، ولأن الأخبار إذا اختلفت كان خبر الزائد أولى. وأيضًا: فيحتمل أن يكون الأصل في رفعهما حذاء الأذنين، وأن رفعهما حذاء المنكبين كان لعذر. ويدل عليه ما بين في حديث وائل بن حجر رضي الله عنه، وهو أنه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيته يرفع يديه حذاء أذنيه إذا كبر". قال: "ثم أتيته من العام المقبل، وعليهم الأكسية والبرانس، فكانوا

يرفعون أيديهم فيها". فجائز أن تكون رواية من روى رفعهما إلى المنكبين على هذا الوجه للعذر المذكور فيه. فإن قيل: يلزمك على الفصل الأول رفع اليدين في الركوع للزيادة التي أثبتها راويها. قيل له: إنما قلنا إن الزيادة التي في خبرنا هي طاعة؛ لأنه لم يرد بإزائها نهي، وليس كذلك رفعها عند الركوع، لما عارضها من النهي لقوله صلى الله عليه وسلم: "كفوا أيديكم في الصلاة، واسكنوا في الصلاة". وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن": لم يذكر فيها حال الركوع.

مسألة: [وضع اليمنى على اليسرى تحت السرة] قال أبو جعفر: (ثم يأخذ يده اليسرى بيده اليمنى، ويجعلهما تحت السرة). قال أبو بكر أحمد: وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وضع اليمين على الشمال في الصلاة عشرة من الصحابة، منهم عبد الله بن مسعود وابن عباس وأبو هريرة وجابر بن عبد الله وشداد بن شرحبيل ووائل بن حجر والحارث بن غضيف ووابصة بن معبد وهلب الطائي رضي

الله عنهم أجمعين، وغيرهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نعجل الإفطار، ونؤخر السحور، ونمسك أيماننا على شمائلنا في الصلاة" وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخذ الكف على الكف تحت السرة". وروى عقبة عن ظهير عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى:} فصل لربك وانحر {: قال: "وضع اليمين على الشمال في الصلاة".

وروى أبو جحيفة أن عليًا رضي الله عنه قال: "السنة وضع اليد في الصلاة تحت السرة". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "من أخلاق النبيين: وضع اليد على اليد في الصلاة". وقال: سهل بن سعد رضي الله عنه: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة". تركت ذكر أسانيد هذه الآثار كراهة الإطالة؛ ولأنها أخبار مشهورة عند أهل العلم. مسألة: [دعاء الثناء في الافتتاح] قال أبو جعفر: (ثم يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعلى جدك ولا إله غيرك"). قال أبو بكر أحمد: روى أبو سعيد وعائشة رضي الله عنهما عن

النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا كبر للصلاة يقول "سبحانك اللهم وبحمدك ... " إلى آخره. وروى عبيد الله بن أبي رافع عن علي رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر، ثم قال:} وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا {إلى آخر الآية، وذكر معه دعاءا طويلًا. * وكان أبو يوسف يقول: إذا كبر يقول: وجهت وجهي للذي ... إلى آخر الآية، يقدمها إن شاء على: "سبحانك اللهم وبحمدك"، وإن شاء أخرها، ويقولها قبل التعوذ. والأول عند أبي حنيفة ومحمد أولى؛ لقول الله تعالى:} وسبح بحمد

ربك حين تقوم {. فأمر بالتسبيح عند القيام، و:} حين {: للوقت، فكأنه قال: وقت القيام، فمنع تقديم غيره عليه، فكان التسبيح في تلك الحال أولى، لموافقة الآية. * ويدل عليه أيضًا: ما روي في حديث تعليم الأعرابي الصلاة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "كبر، ثم احمد الله، ومجده". وأيضًا: في حديث علي رضي الله عنه دعاء كثير بعد الافتتاح، قد اتفق الجميع على تركه، فدل على أن ما في حديث علي رضي الله عنه متقدم، وأنه منسوخ بالتسبيح. * ويدل عليه أيضًا: أن في حديث علي رضي الله عنه أنه كان إذا ركع قال: "اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت"، وقال في السجود: "اللهم لك سجدت"، ثم كان ذلك منسوخًا بالتسبيح، فدل أن هذا

الحديث متقدم لخبر التسبيح، وأن التسبيح متأخر عنه. وروي أنهم كانوا يقولون ذلك في الركوع والسجود، ثم نزل قوله تعالى:} فسبح باسم ربك العظيم {، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم"، ولما نزل قوله:} سبح اسم ربك الأعلى {، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في سجودكم". فكان أمر التسبيح متأخرًا عما في الأخبار الأخر من الذكر الذي فيه إخبار عن الحال التي هو فيها، فدل على أن قوله:} وجهت وجهي {: لما كان إخبارًا عن الحال، كان منسوخًا بالتسبيح. وأيضًا: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجهر بذكر الاستفتاح، تعليمًا للقوم، كذا ذكر الأسود، وعلقمة، وهذا يدل على ظهوره واستفاضته بينهم من غير نكير من أحد منهم. وجاز أن يكون علي رضي الله عنه إنما أخبر عما كان فعله النبي صلى الله عليه وسلم بدءًا، لا أنه اعتقد بقاء حكمه.

مسألة: [التعوذ والإسرار به] قال أبو جعفر: (ويتعوذ بعد الاستفتاح ويسره، فإن كان إمامًا وكان في صلاة الجهر: أسر ذلك كله، ثم جهر بالقراءة). قال أبو بكر: فأما وجه تقديم الاستعاذة على القراءة: فقول الله تعالى} فإذا قرأت فاستعذ بالله {، والمراد إذا أردت القراءة. ويسر ذلك كله، وذلك لأنه ذكر مسنون في سائر الصلوات، ليس بقرآن، كتسبيح الركوع والسجود والتشهد ونحوه من الأذكار. وأما وجه جهر عمر رضي الله عنه بها؛ فلأنه فعله على جهة التعليم. مسألة: [لا يتعوذ المأموم، ولا يبسمل] قال أبو جعفر: (ويقول الإمام ما ذكرنا، إلا أنه لا يتعوذ، ولا يقول: بسم الله الرحمن الرحيم). وذلك لأنهما مسنونان للقراءة، ولا قراءة على المأموم، وأما ذكر الاستفتاح فليس مختصًا بالقراءة، بل بالصلاة.

[الدليل على عدم الجهر بالبسملة:] * وأما وجه قوله: يسر بسم الله الرحمن الرحيم: فالأصل فيه ما حدثنا دعلج بن أحمد قال: حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا جعفر بن هاشم البزار قال: حدثنا عمران القصير عن الحسن عن أنس رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسر بسم الله الرحمن الرحيم، وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما". وفي حديث شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: "صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فكانوا لا يجهرون بسم الله الرحمن الرحيم". وروى قيس بن عبابة قال: حدثني ابن عبد الله بن المغفل أن أباه سمعه يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، فقال: "إياك والحدث في الإسلام، فإني صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلم أسمع أحدًا منهم يقولها".

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "ما جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاة مكتوبة، ولا أبو بكر ولا عمر". وروى بديل بن ميسرة عن أبي الجوزاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين". وروى أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نهض في الثانية: استفتح الحمد لله رب العالمين". فإن قيل: قد روي عن أم سلمة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في بيتها، فيقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين ... إلى آخرها".

قيل له: لم تقل: إنه جهر في الصلاة، ويحتمل أن يكون قرأها في غير الصلاة، إذ ليس في قولها: إنه كان يصلي في بيتها، دلالة على أنه قرأها في الصلاة. وقد روي عن أم سلمة رضي الله عنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنعتت له قراءة مفسرة حرفًا حرفًا، ولم تذكر أنه قرأها كذلك في الصلاة، وهو معنى الحديث الأول. فإن قيل: روى نعيم المجمر: "أنه صلى وراء أبي هريرة رضي الله عنه، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم لما سلم قال: "أما والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم". قيل له: ليس فيه ذكر بالجهر، ولا يمتنع أن يكون قرأها وأخفاها. وعلى أنه لو اختلفت الأخبار فيه، كان ما ظهر فيه عمل السلف الأول، أولى بالاستعمال، وقد وجدنا عمل السلف ظاهرًا بالإخفاء دون الجهر. منه: ما ذكرنا في حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، وجعله عبد الله بن المغفل حدثًا في الإسلام.

وقال أبو وائل:"كان علي وعبد الله رضي الله عنهما لا يجهران ببسم الله الرحمن الرحيم، ولا بالتعوذ، ولا بآمين". وروى عاصم وعبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم فعل الأعراب، فعل الأعراب". وقال إبراهيم النخعي: "ما أدركت أحدًا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وإن الجهر بها لبدعة". وقال بسر بن سعيد: "ما أدركت أحدًا يفتتح إلا بالحمد بالله رب العالمين". فلما ظهر عمل السلف بالإخفاء دون الجهر، كان عندنا أولى.

فإن قيل: قد روي عن علي، وعمر، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير رضي الله عنهم الجهر بها. قيل له: أخبار الإخفاء أصح وأثبت، فهو أولى. وعلى أنه لو ثبت: جاز أن يكونوا فعلوه تعليمًا للناس؛ لئلا يظنوا تركها، كما جهر عمر بن الخطاب بسبحانك اللهم وبحمدك تعليمًا للجاهل. [التسمية آية من القرآن، وليست من الفاتحة]. قال أبو بكر أحمد: ولا نعرف عن أصحابنا رواية نصًا في أن:} بسم الله الرحمن الرحيم {: من فاتحة الكتاب، أو ليست منها.

وكان أبو الحسن الكرخي يقول: مذهبهم في إخفائها: يدل على أنها عندهم ليست منها. واختلفت قراءة الكوفة والبصرة في عدها من فاتحة الكتاب، فعدها قراء الكوفة آية منها، ولم يعدها أهل البصرة. ولم يختلف قراء الأمصار وفقهاؤها في أنها ليست من سائر السور في أوائلها. ومن قال: إنها من أوائل سائر السور: فمخالف لإجماعهم، خارج عن أقاويل السلف والخلف جميعًا. ولم تختلف الأمة أنها من القرآن في قوله تعالى:} إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم {. * والذي يدل على أنها ليست من أوائل السور: ما قدمنا عن النبي صلى الله عليه وسلم والسلف من الآثار في إخفائها في الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة، ولو كانت منها لجهر بها، كما جهر بسائرها. ويدل عليه ما روي أن أول ما أنزل من القرآن: أن جبريل قال للنبي عليهما السلام: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال:} اقرأ باسم ربك الذي خلق {،

ولم يذكر فيه بسم الله الرحمن الرحيم. وروي أنهم كانوا يكتبون أوائل الكتب: باسمك اللهم، حتى نزل} بسم الله مجراها {، فكتب: بسم الله، فلما نزل:} أو ادعوا الرحمن {: زيد فيه ذلك، فلما نزلت قصة سليمان: كتب في أوائل الكتب. ومعلوم أن سورًا كثيرة قد كانت نزلت قبل ذكر الرحمن الرحيم فثبت أنها ليست من أوائل السور، وأنها إنما كتبت في أوائلها على جهة الفصل بينهما، وعلى جهة الندب إلى التبرك بالافتتاح بها. * ويدل عليه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الله تعالى يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"، فإذا قال العبد: "الحمد لله رب العالمين"، يقول الله تعالى: "حمدني عبدي". فلو كانت من فاتحة الكتاب، لذكرت في القسمة. * ويدل عليه: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اشتبه

عليهم أمر الأنفال، هل من سورة براءة، أو براءة منها؟ تركوا كتب:} بسم الله الرحمن الرحيم {بينهما. فدل أنها جعلت لابتداء السور؛ لأنه لما اشتبه عليهم أنه أول السورة: لم يكتبوها، إذ ليس من سنتها أن تكتب في أضعاف السور. *ويدل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه آية قال: "ضعوها في سورة كذا"، ولو كان: بسم الله الرحمن الرحيم: من أوائلها، لورد النقل به متوترًا، كوروده في سائر مواضع الآي، فإذا لم يجز لنا إثباتها من السور إلا بالنقل المتواتر، وقد عدمناه فيها: علمنا أنها ليست منها. فإن قيل: ولو لم يكن منها، لورد النقل. قيل له: وليس سبيل الإثبات في هذا الباب سبيل النفي؛ لأنه ليس على النبي صلى الله عليه وسلم توقيف الأمة على كل ما ليس من القرآن

أنه ليس منه؛ لأن ذلك لا يحيط به الإحصاء، وعليه التوقيف على ما هو من القرآن أنه منه. فإن قيل: قد نقلت الأمة أن جميع ما في المصحف قرآن. قيل له: هو كذلك، وهو قرآن، وإنما الخلاف في أنها من أول السور أم لا؟ وهذا لم نجد فيه نقل الأمة. فإن قيل: جميع ما أثبت في المصحف على ترتيبه ونظامه قرآن، وذلك نقل من الأمة لموضعها من السور. قيل له: لما كان إثباتها في أوائل السور وجهان: أحدهما: كونها منها، والآخر للفصل بين السورتين، وليتبرك بالابتداء بها، كابتدائهم بها في أوائل سائر الكتب: لم يكن ظاهر وجودها في المصحف موجبًا لكونها منها، ولا نقلًا في أنها بعضها. ألا ترى أن الناس قد نقلوا ابتداء القراءة بتقديم الاستعاذة والتسمية من أي موضع قرؤوا القرآن، ولم يدل على أنها من كل موضع منه. وأيضًا: قد اتفق السلف من قراء الأمصار الذين عدوا أي القرآن، أن بسم الله الرحمن الرحيم: ليس من أوائل السور، وإنما اختلفوا في فاتحة الكتاب، فدل اتفاقهم في غيرها على أنها ليست منها.

مسألة: [عدم الجهر بـ: "آمين" آخر الفاتحة]. قال أبو جعفر: (وإذا قال الإمام: ولا الضالين: قال: آمين، وقالها من خلفه، ويخفونها). قال أبو بكر: وذلك لما ذكره أبو الحسن الكرخي قال: حدثنا يوسف بن يعقوب قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا شعبة عن سلمة بن كهيل عن حجر عن علقمة بن وائل عن وائل رضي الله عنه قال: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قرأ:} غير المغضوب عليهم ولا الضالين {: قال: "آمين" أخفى بها صوته. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال الإمام:} ولا الضالين {: فقولوا: "آمين". وفي لفظ آخر: "وإذا أمن الإمام فأمنوا". فإن قيل: قد روي عن وائل بن حجر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله

عليه وسلم رفع صوته بـ: آمين". وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "آمين"، حتى يسمع من يليه من الصف الأول". قيل له: ليس في سماعهم لتأمينه: ما يوجب أن يكون جهر بها؛ لأنه ليس يمتنع أن يخفيها، ويسمعها من يليه، ولا يكون جهرًا. وقد روى أبو وائل عن علي وعبد الله رضي الله عنهم أنهما كانا لا يجهران بـ: آمين. وأيضًا: فإن: "آمين": دعاء؛ لما روي في تأويل قوله تعالى:} قد أجيبت دعوتكما {: فروي في التفسير "أن موسى كان يدعو، وهارون يؤمن"، وسماهما الله داعيين. فثبت أن: "آمين":دعاء، فوجب إخفاؤها بظاهر قوله تعالى:} ادعوا

ربكم تضرعًا وخفية {. ومدح نبيه زكريا عليه السلام بإخفاء الدعاء فقال:} إذ نادى ربه نداء خفيًا { وروى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قومًا في سفر قد رفعوا أصواتهم بالدعاء، فقال: "إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إن الذي تدعوه بينكم وبين أعناق مطيكم". وفي لفظ آخر: "أقرب إليكم من حبل الوريد". مسألة: قال أبو جعفر: (ثم يقرأ الإمام والمصلي وحده سورة). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وسورة، بالنقل المتواتر. وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب، وما تيسر".

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه للأعرابي: "ثم اقرأ بفاتحة الكتاب، وما تيسر". وروى أبو حنيفة وأبو معاوية ومحمد بن فضيل عن أبي سفيان عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تجزيء صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ومعها غيرها". وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، فما زاد". وفي حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة لكتاب، فصاعدًا". مسألة: [عدم رفع اليدين عند الركوع] قال أبو جعفر: (فإذا فرغ منها: خر راكعًا وهو يكبر، ولا يرفع يديه). قال أبو بكر أحمد: الكلام فيها من وجهين:

أحدهما: في التكبير عند الانحطاط للركوع. والثاني: في رفع اليدين عند الركوع. فأما التكبير للركوع، فقد وردت به آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه علي وعبد الله، وأبو موسى، وأنس، وأبو هريرة، والبراء بن عازب، وأبو حميد الساعدي رضي الله عنهم في عشرة من الصحابة، ومالك بن الحويرث، ووائل بن حجر، في آخرين الصحابة رضي الله عنهم.

وروى شعبة عن الحسن بن عمران عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه "أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يتم التكبير". قال أبو بكر أحمد: وكان ذلك مذهب بني أمية، لا يكبرون إلا عند الافتتاح، وصلى معاوية بالمدينة، فترك تكبير الركوع والسجود، فناداه المهاجرون والأنصار من جوانب المسجد: يا معاوية! أسرقت الصلاة أم نسيت؟ فلما صلى بعد ذلك كبر". حدثنا بذلك أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم قال: حدثنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا أبو عبد الحميد عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم أن أبا بكر بن حفص أخبره عن أنس بن مالك رضي الله عنه بذلك. فصل: وأما رفع اليدين في حال التكبير، فإن الأصل فيه حديث سفيان عن

عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان يرفع يديه في أول تكبيره، ثم لا يعود". ورواه حماد عن إبراهيم عن علقمة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. قال سفيان الثوري عن المغيرة: قلت لإبراهيم: حديث وائل بن حجر رضي الله عنه، أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع؟ فقال: إن كان وائل بن حجر رضي الله عنه رآه مرة يفعل ذلك، فقد رآه عبد الله رضي الله عنه خمسين مرة لا يفعل ذلك. وحديث يزيد بن أبي زياد عن أبي ليلى عن البراء رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر لافتتاح الصلاة رفع يديه،

ثم لا يعود". ورواه ابن أبي ليلى عن أخيه عيسى، وعن الحكم عن ابن أبي ليلى عن البراء رضي الله عنه مثله. فهذا آخر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الترك الرفع. * وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم- بلفظ عام- ما يمنع الرفع. وهو ما رواه أبو معاوية عن الأعمش عن المسيب بن رافع عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على أصحابه فقال: "ما لي أراكم رافعي أيديكم، كأنها أذناب خيل شمس، اسكنوا في الصلاة". وفي لفظ حديث آخر: "كفوا أيديكم في الصلاة". فهذا لفظ عام في حظر الرفع. فإن قيل: هذا كلام خرج على سبب هو مقصور عليه، وذلك أنهم

كانوا يشيرون بأيديهم في حال التشهد يمنة ويسرة، فنهاهم عن ذلك قيل له: نحن لا نعتبر السبب، وإنما نعتبر عموم اللفظ، إلا أن تقوم الدلالة على أنه مقصور به على السبب، دون غيره. فإن قيل: فعمومه يمنع الرفع في حال التحريمة. قيل له: الجواب عنه وجهين: أحدهما: أن تكبير الافتتاح غير مفعول في الصلاة، وهو إنما قال صلى الله عليه وسلم: "كفوا أيديكم في الصلاة". والثاني: لو تناوله العموم، جاز تخصيصه بدليل، وقد قامت الدلالة عليه، فخصصناه. وحديث آخر: وهو ما حدث به أبو الحسن الكرخي- وأكثر ظني أنه مما سمعته منه- قال: حدثنا الحضرمي قال: حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال: حدثنا المحاربي عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وعن نافع ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن: افتتاح الصلاة، واستقبال البيت، وعلى الصفا والمروة، والجمرتين، والموقفين". قال أبو بكر أحمد: فهذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ترك الرفع، وقد رويت عنه أخبار مختلفة في الرفع. فروى عبيد الله بن أبي رافع عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان يرفع يديه إذا راكع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا قام من السجدتين". وفي حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من الصحابة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفعهما إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا قام من الركعتين". وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم

كان يرفعهما حين يركع، وحين يسجد". فذكر في هذه الأخبار رفعهما في غير حال الركوع، أو الرفع منه. وفي حديث ابن عمر، ووائل بن حجر، ومالك بن الحويرث رضي الله عنهم أنه كان يرفعهما إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع. فأما حديث علي رضي الله عنه، فالاحتجاج به لمخالفنا ساقط من وجهين: أحدهما: أن أبا بكر النهشلي روى عن عاصم بن كليب عن أبيه- وكان من أصحاب علي رضي الله عنه- "أن عليا رضي الله عنه كان يرفع يديه في أول تكبيرة من الصلاة، ثم لا يرفع بعد". فليس يخلو ما روي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحد وجهين:

إما أن يكون غير ثابت في الأصل، أو إن كان ثابتا، فقد علم نسخه، فلذلك تركه إلى غيره؛ لأنه غير جائز أن نتوهم عليه مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه، إلا على جهة علمه بالنسخ. والوجه الآخر: أن في حديث علي رضي الله عنه: "رفعهما إذا قام من السجدتين"، وقد اتفق الجميع على تركه، فدل أنه منسوخ. وكذلك حديث أبي هريرة وأبي حميد رضي الله عنهما. وأما حديث أبن عمر، ومن وافقه على مثل روايته، فإن أحمد بن يونس قد روى عن أبي بكر بن عياش عن حصين عن مجاهد قال: "صليت خلف ابن عمر رضي الله عنهما، فلم يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة". فهذا يدل على أنه علم نسخ ما رواه. وفي بعض روايات وائل بن حجر رضي الله عنه: "رفع اليدين عند السجود". فيدل ذلك على أن خبره متقدم لخبر من روى ترك الرفع، لاتفاق الجميع على ترك بعضه.

وفي بعض روايات مالك بن الحويرث: "رفع اليدين إذا رفع رأسه من السجود". * وعلى أن هذه الأخبار لو تساوت من طريق النقل والاستعمال، لكان خبر الترك أولى من وجهين: أحدهما: ما في خبر جابر بن سمرة رضي الله عنه من النهي، وهو قوله: "كفوا أيديكم في الصلاة، واسكنوا في الصلاة"، فهذا نهي يقضي على الفعل من وجهين: أحدهما: أنه نهي، وخبر الرفع ليس فيه أمر يضاد النهي. والثاني: أن الفعل لا يقتضي الوجوب، والنهي على الإيجاب. والوجه الآخر: أن هذا مما به للناس إلى معرفته حاجة عامة، لو كان مسنونا، لورد النقل به متواترا، كوروده في نفس التكبير، فلما لم يرد النقل فيه بهذا الوصف، لم يثبت. ولو كان ثابتا ما خفي عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، مع لزومهما للنبي صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر.

فإن قيل: قد خفي على عبد الله نسخ التطبيق، مع عموم الحاجة إليه. قيل له: لم يخف عليه، وإنما تأول اللفظ الورد فيه على الترخيص، لا على النسخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استعينوا بالركب"، فظاهره الترخيص. * ومن جهة النظر: اتفاق الجميع على ترك الرفع في السجود، والمعنى فيه أنه تكبير مفعول في غير حال الاستقرار، فكل ما كان هذا وصفه، فحكمه حكمه.

مسألة:] صفة الركوع [ قال أبو جعفر: (ثم يضع يديه على ركبتيه، ويفرج بين أصابعه، ويمد ظهره، ولا يصوب رأسه، ولا يرفعه). قال أبو بكر أحمد: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سن لهم التطبيق في أول الأمر، ثم نسخه، وأمر بوضع اليدين على الركبتين. قال مصعب بن سعد: "صليت إلى جنب أبي، فوضعت يدي بين ركبتي، فنهاني عن ذلك، وقال: "لا تصنع هذا، فإنا كنا نصنعه، فنهينا عن ذلك، وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب". وروى وضع اليدين على الركبتين أبو حميد الساعدي في عشرة من الصحابة صدقوه، ورواه أنس، ووائل بن حجر رضي الله عنهم. حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن صالح العكبري قال: حدثنا أبو إبراهيم الترجماني قال: حدثنا كثير بن عبد الله قال: سمعت أنسا رضي الله عنه يقول: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قمت إلى

الصلاة، فتوجه إلى القبلة، وارفع يدك، وكبر، واقرأ ما بدا لك، فإذا ركعت فضع كفيك على ركبتيك، وفرق بين أصابعك، فإذا رفعت رأسك، فأقم صلبك حتى يقع كل عضو مكانه ما تيسر، وإذا سجدت فأمكن كفيك من الأرض، فإذا رفعت رأسك، فأقم صلبك، فإذا جلست فاجعل عقبك تحت أليتيك، فإنها من سنتي، فمن تبع سنتي، فقد تبعني، ومن تبعني، فهو مني، وهو معي في الجنة". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد الحماني قال: حدثنا عبد الملك بن مروان قال: حدثنا يزيد بن ذريع عن حسين المعلم قال: حدثنا بديل بن ميسرة قال: حدثنا أبو الجوزاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوبه، ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائما، وكان إذا رفع رأسه من السجود لم يسجد حتى يستوي جالسا، وكان يقول في كل ركعتين: "التحيات لله، وكان ينهى عن عقبة الشيطان، وكان يفترش رجله اليسرى، وكان ينهانا أن يفترش أحدنا ذراعيه افتراش السبع، وكان يختتم الصلاة بالتسليم".

ففي حديث أنس ابتداء تعليم من النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أكد في ثبوت الحكم، وفي حديث عائشة ووائل بن حجر وأبي حميد رضي الله عنهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي على الوصف الذي ذكروه. وفي حديث وائل وأبي حميد رضي الله عنهما: "وفرق بين أصابعه حين وضعها على ركبتيه". وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوبه". وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تدبحوا". وهو أن يطأطئ رأسه في الركوع. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا مكبر قال: حدثنا مصعب بن محمد الواسطي قال: حدثنا سالم بن سلام أبو المسيب قال: حدثنا سنان بن هارون البرجمي عن بيان بن بشر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم

إذا ركع مما يعدل ظهره: لو نصب عليه قدح من ماء ما اهراق". مسألة:] التسبيح في الركوع [ قال أبو جعفر: (ثم يقول: سبحان ربي العظيم ثلاثا). قال أبو بكر: وذلك لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لما نزل: {فسبح باسم ربك العظيم}: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم"، فلما نزلت: {سبح اسم ربك الأعلى}: قال رول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في سجودكم". وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ركع أحدكم فليقل في ركوعه: سبحان ربي العظيم" ثلاثا، فإذا فعل ذلك: فقد تم ركوعه، وذلك أدناه، فإذا سجد فليقل في سجوده: "سبحان ربي الأعلى" ثلاثا، فإذا فعل ذلك: فقد تم

سجوده، وذلك أدناه". وحدثنا دعلج بن أحمد قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن المستورد بن الأحنف عن صلة بن زفر عن حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول وهو راكع: سبحان ربي العظيم، ثم رفع رأسه، ثم سجد، فيجعل يقول وهو ساجد: سبحان ربي الأعلى. مسألة:] رفع الرأس من الركوع، وما يقال [ قال أبو جعفر: (ثم يقول: سمع الله لمن حمده، رافعا معها رأسه). قال أبو بكر: وذلك لما في حديث عبيد الله بن أبي رافع عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رفع رأسه من الركوع قال: "سمع الله لمن حمده". ورواه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم رفاعة بن رافع، وابن

عباس، وأبو سعيد، وغيرهم رضي الله عنهم. فروى مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد". حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا القعنبي عن مالك. فصل:] التحميد عند الاعتدال من الركوع في حق المنفرد [

قال أبو جعفر: (فإذا اعتدل قائما، وكان مصليا وحده قال، ربنا ولك الحمد) قال أبو بكر أحمد: الصحيح من قوله أبي حنيفة أنه لا يقول: ربنا لك الحمد: إذا كان منفردا، وقد ذكر محمد هذه المسألة في الأصل، فقال: في قول أبي يوسف ومحمد. وذكر محمد بن شجاع أن من قول أبي حنيفة أن المنفرد يقولها. والصحيح عندنا من قول أبي حنيفة: أن المنفرد لا يقولها؛ لأنه يقول: سمع الله لمن حمده في حال الرفع، فيحصل قوله: ربنا لك الحمد: في حال القيام، وهذا الذكر مسنون في حال الرفع، فإذا فعل في حال القيام كان مفعولا في غير موضعه. وأما في قول أبي يوسف ومحمد: فإن المنفرد والإمام يجمعان بينهما جميعا. فصل:] التحميد في حق الإمام [: قال أبو جعفر: (وإن كان إماما: لم يقلها في قول أبي حنيفة، ويقولها في قول أبي يوسف ومحمد). قال أبو بكر: وجه قول أبي حنيفة ان قوله: ربنا لك الحمد: جعله

النبي صلى الله عليه وسلم أمارة للرفع أبدًا، ألا ترى أن المأموم يقولها في حال الرفع، ومعلوم أن قوله: سمع الله لمن حمده: يستغرق حال الرفع، فيحصل قوله: ربنا لك الحمد: في حال القيام، وذلك في غير موضعه، كما لا يسبح بعد رفع الرأس من الركوع، ولا يفعل تكبير الركوع بعد الركوع، ولا بعد رفع رأسه منه؛ لأن هذه كلها إذا كانت مسنونة في موضع، متى فاتت عن مواضعها: لم تقض. وأيضا: قد اتفقوا على أن المأموم لا يقول: سمع الله لمن حمده؛ لأنه مسنون لرفع الإمام من الركوع، كذلك الإمام لا يقول: ربنا لك الحمد؛ لأنه مسنون لرفع المأموم. فإن قيل: فهلا أمرت المأموم بالجمع بينهما. قيل له: لأنه يكون خلاف السنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد". وعلى قولك يقول خلافه، وهو كقوله: "وإذا كبر الإمام فكبروا، وإذا

قرأ فأنصتوا، وإذا ركع فاركعوا"، فلم يجز أن يفعل خلافه. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: "سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد". قيل له: يحتمل أن يكون قاله في حال ما كان يقنت بعد الركوع، وذلك عندنا منسوخ، ويدل عليه أنه قد ذكر معه دعاء طويلا، قد اتفق الجميع على أنه لا يقوله. مسألة:] الانحطاط للسجود [ قال أبو جعفر: (ثم يخر ساجدا، وهو يكبر من غير رفع ليديه). وقد بينا ذلك فيما سلف قال أبو جعفر: (ويكون أول ما يقع منه إلى الأرض ركبتاه، ثم يداه ثم وجهه). قال أبو بكر: وذلك لما في حديث وائل بن حجر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض

رفع يديه قبل ركبتيه". فإن قيل: روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه". قيل له: قد روى هذا الحديث عبد الله بن نافع عن محمد بن عبد الله بن حسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعمد أحدكم في صلاته، فيبرك كما يبرك الجمل"، فذكره بغير لفظ الحديث الأول، ولم يذكر فيه النهي الأول، ولا قوله: "وليضع يديه قبل ركبتيه". ويحتمل أن يكون هذا هو أصل الحديث، وأن الزيادة من قول الراوي؛ لأنه لما كان معني اللفظ عنده ذلك، ذكره وأدرجه في لفظ الحديث، فإن كان كذلك فقوله: "لا يبرك كما يبرك البعير"، يدل على أنه لا ينبغي أن يبدأ بيديه قبل ركبتيه؛ لأن البعير يبدأ بيديه قبل ركبتيه. ويدل على ذلك: ما روى عبد الله بن سعيد عن أبي سعيد عن جده عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد

بدأ بركبتيه قبل يديه". * ويدل عليه من جهة النظر: أن ذلك أشق على المصلي، وكل ما كان من أفعال الصلاة أشق على المصلي، فهو أفضل، قياسا على طول القيام، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصلاة؟ فقال "طول القنوت": يعني طول القيام. وقد روي نحو قولنا عن عمر وعبد الله رضي الله عنهما. وقال مغيرة: سألت إبراهيم عن الرجل يبدأ بيديه قبل ركبتيه إذا سجد، فقال: "أو يصنع ذلك إلا أحمق أو مجنون". مسألة: [هيئة السجود] قال أبو جعفر: (ويكون في سجوده معتدلا مجافيا لمرفقيه عن جنبيه، رافعا بطنه عن فخذيه، مستقبلا بأصابع رجليه القبلة).

قال أبو بكر أحمد: في حديث قتادة عن أنس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعتدلوا في السجود، ولا يفترش أحدكم ذراعيه افتراش الكلب". وقال يزيد بن الأصم عن ميمونة رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى مرفقيه عن جنبيه، حتى لو أن بهمة أرادت أن تمر بين يديه لمرت". وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم من خلفه، فرأيت بياض إبطيه، وهو مجخ قد فرج يديه" وحدثنا أبو بكر محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا عباد بن راشد قال: حدثنا الحسن قال: حدثنا أحمر بن جزء رضي الله عنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم "أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافي عضديه عن جنبيه، حتى نأوي له". وفي حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سجد وضع كفيه على الأرض، ثم جافى بمرفقيه". وفي حديث عباس بن سهل الساعدي عن أبي حميد رضي الله عنهما في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: "فإذا سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه". وروى عباس بن سعد عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه". * وهذا يدل على أن أصابع رجليه ينبغي أن تكون مستقبلة القبلة.

مسألة: [موضع اليدين في السجود، وتسبيح السجود] قال: (وضع يديه بحذاء أذنيه). لما روى البراء ووائل بن حجر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع وجهه في السجود بين كفيه". قال أبو جعفر: (ثم يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى: ثلاثا) قال أبو بكر: وقد بينا ذلك فيما تقدم. [الجلوس بين السجدتين] قال: "ثم يرفع بتكبير، فإذا جلس كبر، وخر ساجدا مكبرا". وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه رفع رأسه من السجود حتى اطمأن جالسا، ثم سجد، وأنه كبر في كل

خفض ورفع". قال: (ثم يرفع رأسه مكبرا، ناهضا حتى يستتم قائما). وذلك لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من السجود، رفع يديه قبل ركبتيه، ونهض قائما ولا يجلس". فإن قيل: قد روى عنه صلى الله عليه وسلم مالك بن الحويرث رضي الله عنه أنه جلس، ثم قام. قيل له: يحتمل أن يكون فعله لعذر، كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال، "إني امرؤ قد بدنت، فلا تبادروني بالركوع، ولا بالسجود"، فجاز أن يكون فعل ذلك في حال التبدن.

* وهو أولى من طريق النظر؛ لأنه أشق على المصلي، لما قدمنا من قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة طول القنوت"، إذا كان أشق عليه من غيره. مسألة: [ما يفعله في الركعة الثانية] قال أبو جعفر: (ويفعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى). لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. [القعود الأول:] قال: (فإذا قعد للتشهد، قعد على رجله اليسرى مفترشا لها، ونصب رجله اليمنى، واستقبل بأصابعه القبلة). قال أبو بكر أحمد: ولا فرق عندهم بين القعدة الأولى والثانية، وذلك لما في حديث وائل بن حجر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قعد للتشهد، فرش رجله اليسرى، قم قعد عليها، وعقد أصابعه، وجعل حلقة بالإبهام والوسطى، ثم جعل يدعو بأخرى".

فهذا يدل على أن هذه القعدة كانت في آخر الصلاة؛ لأنه لا دعاء في القعدة الأولى. وروت عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في الصلاة يفترش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى، يكره أن يسقط على شقة الأيسر". ولم يفرق فيه بين القعدة الأولى والثانيه. وفي حديث أنس الذي قدمنا ذكر سنده: "فإذا جلست، فاجعل عقبك بين أليتيك، فإنها من سنتي". ومعلوم أنه لم يرد به القعود على عقبيه؛ لأن هذا هو الإقعاء، وهو منهي عنه، فثبت أن المراد القعود على عقبه اليسرى، وهي مفترشة. ثم لم يفرق بين القعدة الأولى والأخيرة.

فإن قيل: قد روى أبو حميد الساعدي رضي الله عنه في صفة صلاة رسول اله صلى الله عليه وسلم "أنه قعد في الجلسة الأولى على رجله اليسرى، ونصب اليمني نصبا، وفي القعدة الأخيرة أخر رجله اليسرى، وقعد متوركا على شقه الأيسر". وروى ذلك بحضرة عشرة من الصحابة، فصدقوه. قيل له: حديث أبي حميد غير صحيح على مذهب اهل النقل؛ لأن عطاف بن خالد حدث به عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: حدثني رجل أنه وجد عشرة من الصحابة جلوسا، وذكر حديث أبي حميد. فحصل حديث أبي حميد عن رجل مجهول. فإن قيل: فقد روى أبو عاصم عن عبد الحميد بن جعفر قال: حدثنا محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهم أبو قتادة، وذكر الحديث.

فقد ذكر عبد الحميد سماع محمد بن عمرو بن عطاء هذا الحديث من أبي حميد. قيل له: ليس يجعل أحد هذا الحديث سماعا لمحمد بن عمرو عن أبي حميد إلا عبد الحميد، وهو عندهم ضعيف. وعلى أن سن محمد بن عمرو بن عطاء- فيما فيل- لا يحتمل أن يكون سمع ذلك من أبي حميد، على ما ذكر، وذلك لأنه ذكر فيه حضور أبي قتادة في العشرة الذين صدقوه في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو قتادة قد مات قبل ذلك بدهر طويل؛ لأنه قد قيل: إنه قتل مع علي رضي الله عنه، وصلى عليه علي ومحمد بن عمرو، ولم يدرك هذا الوقت. فإن قيل: فقد روي مثل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما، وسئل عنه فقال: "سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمني، وتثني اليسرى، فتقعد عليها".

قيل له: فهذا موافق لقولنا؛ لأنه يثني اليسرى يقعد عليها، فلا دلالة فيه على أن قعدوه كان على الأرض. فإن قيل: فقد روي عن القاسم بن محمد أنه جلس على وركه اليسرى، ولم يجلس على قدميه، ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر، وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك. فأخبر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يفعل ذلك. وروي عنه في الحديث الآخر أن ابن عمر قال: "هو السنة". قيل له: لا دلالة فيه للمخالف؛ لأنه قوله: "لم يجلس على قدميه": لا ينفي أن يكون قعد على اليسرى. وعلى أنه لو ثبت ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما على ما ادعوه: لم تثبت به حجه؛ لأن قوله: "سنة الصلاة كيت وكيت": لا دلالة فيه على انه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن السنة قد تضاف إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".

وقال سعيد بن المسيب لما سأله ربيعة عن أروش أصابع المرأة "إنها السنة يا ابن أخي"، ولم يكن مخرجه إلا من زيد بن ثابت، فسمى سعيد قول زيد بن ثابت رضي الله عنه: سنة. فإذا ليس في قول القائل: إن السنة كيت وكيت: دلالة على أنها عن النبي صلى الله عليه وسلم. * ومن جهة النظر: اتفاق الجميع على القعدة الأولى، فوجب أن تكون الثانية مثلها، كما تساويا في مسنون التشهد ومقدار القعدة. فصل: [كيفية الجلوس للشتهد] قال أبو جعفر: (ويستقبل بأصبع رجله اليمنى القبلة، كما يفعل في السجود، ثم يبسط كفيه على ركبتيه، وينشر أصابعه، ولا يشير

بشيء منها). وذلك لما في حديث وائل بن حجر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس افترش رجله اليسرى، ووضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ويده اليمنى على فخذه اليمني". * وينشر أصابعه كما ينشرها في السجود والركوع، ولا يشير بشيء منها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كفوا أيديكم في الصلاة، واسكنوا في الصلاة". مسألة: [صيغة التشهد] قال أبو جعفر: (ثم يتشهد، والتشهد: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله). قال أبو بكر أحمد: اختلفت الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم

في صفة التشهد، فروى ابن مسعود رضي الله عنه ما اختاره أصحابنا، ووافقه على روايته وسياقه ألفاظه عبد الله بن عمر، وأبو سعيد الخدري، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم، إلا ان ابن عمر وأبا موسى أسقطا الواو من قوله: "والصلوات والطيبات". ووافقه أيضا جابر، إلا أنه زاد في أوله: "باسم الله، وبالله"، وفي آخره: "وأسأل الله الجنة، وأعوذ بالله من النار". وأما تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان يعلمه الناس على المنبر: "التحيات لله، الزاكيات لله، الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله ... " إلى آخره.

وأما تشهد ابن عباس، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووافقه عليه ابن الزبير رضي الله عنهم في إحدى الروايتين، فهو: "التحيات لله المباركات، الصلوات الطبيات لله، السلام عليك أيها النبي ... " إلى أخره. وروى ابن الزبير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم التشهد على نحو آخر فقال: "بسم الله، وبالله خير الأسماء، التحيات الطيبات الصلوات لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا". في ألفاظ غيرها. فلما رويت ألفاظ التشهد على هذه الوجوه المختلفة، واتفق الفقهاء على أنه غير مخير في القراءة بأيها شاء، وأن المأمور به واحد منها: كان تشهد ابن مسعود رضي الله عنه عندنا أولى لوجوه: أحدها: أن ألفاظ عبد الله رضي الله عنه متفق عليها في التشهد،

وسائر الألفاظ من زيادة: "المباركات"، و: "الزاكيات"، وغيرها مختلف فيها، فثبت منها ما حصل الاتفاق عليه، وبطل ما سواه، إذ كان من أمور العامة التي تحتاج في إثباتها إلى نقل الاستفاضة. والثاني: أن عبد الله رضي الله عنه كان يأخذ عليهم الواوات في التشهد، وأنكر الأسود بن يزيد على أبي الأحوص قوله: "المباركات": في التشهد. وقال عبد الله رضي الله عنه: "كان النبي عليه الصلاة والسلام يعلمنا التشهد، كما يعلمنا السورة من القرآن". وكذلك روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه في تشهد عبد الله رضي الله عنه. وأيضا: فإن النبي عليه الصلاة والسلام علق إتمام الصلاة بتشهد عبد الله رضي الله عنه، فقال: "إذا قلت هذا، أو فعلت هذا، فقد تمت صلاتك"، ولم نجد جعل هذه المزية لشيء من التشهد.

فإن قيل: لا يمنع ذلك جواز الزيادة فيه كقوله عليه الصلاة والسلام: "من أدرك عرفة، فقد تم حجه". قيل له: إنما جازت الزيادة فيه بالاتفاق، فإن أوجدنا مثله: زدناها في التشهد، وإلا فما علق به الإتمام أولى. وأيضا: فإن الحج ذكر فيه الإتمام، والزيادة موجودة، ولم تكن عند قوله لعبد الله رضي الله عنه ما قال زيادة موجودة. وأيضا: فإن الواوات التي في تشهد عبد الله رضي الله عنه، توجب أن يكون كل لفظ منه ثناء على حياله، وإسقاط الواو يجعل الجميع ثناء واحدا، فكان تشهد ابن مسعود رضي الله عنه أولى لزيادة الثناء. فإن قيل: الواجب عند اختلاف الأخبار: الأخذ بالزيادة، وفي تشهد ابن عباس رضي الله عنهما: "المباركات". قيل له: فينبغي أن تثبت فيه "الزاكيات"؛ لأنها في تشهد عمر رضي الله عنه، وبه يقول مالك بن أنس، وتثبت: "باسم الله، وبالله"، لأنه في تشهد جابر رضي الله عنه، وفي آخره: "أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار"، وينبغي أن تثبت أيضا تشهد ابن الزبير رضي الله عنهما الذي ذكرنا؛ لأن فيه زيادات ليس في غيرها، فلما اتفق فقهاء الأمصار على سقوط هذه

الزيادات، كانت زيادتك مثلها. ويقال له أيضا: وأثبت الواوات أيضا؛ لأنها زيادة، وليست في تشهد ابن عباس رضي الله عنهما. فإن قيل: فقد اعتبرت الزيادات في إثبات الواوات. قيل له: لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق إتمام الصلاة به، ولأن في إثباتها يصير كل لفظ ثناء على حياله، من غير إسقاط شيء منها. مسألة:] كيفية النهوض من القعود الأول [ قال أبو جعفر: (ثم ينهض مبكرا معتمدا على الأرض بيده). وذلك لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كبر حين نهض من الثنتين". فصل:] ما يقوله في التشهد الأخير [ قال أبو جعفر: (فإذا جلس في الرابعة، وتشهد، صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا لنفسه ولوالديه إن كانا مؤمنين، وللمؤمنين

والمؤمنات سواهما). قال أبو بكر: وذلك لما روى أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه، وغيره أنه قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: "قولوا: اللهم صل على محمد ... " إلى آخره. وفي حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله، لو يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجل هذا"، ثم دعاه، فقاله له أو لغيره: "إذا صلى أحدكم، فليبدأ بتحميد الله، والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بما شاء". وقال لعبد الله رضي الله عنه حين علمه التشهد: "فإن فعلت هذا، فقد تمت صلاتك، فاختر من أطيب الكلام ماشئت".

* قال أبو جعفر: (ويكون دعاؤه بما في القرآن، وبما يشبه الدعاء، لا بما يشبه الحديث). وذلك لما روى معاوية بن الحكم السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح، والتهليل، وقراءة القرآن". * قال: (وكذلك يفعل في كل تشهد يتلوه السلام من الصلاة). قال أبو بكر: وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير، فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال". حدثناه محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي قال: حدثنا حسان بن عطية قال: حدثني محمد بن أبي عائشة أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه.

مسألة:] التشهد ليس بفرض [ قال أحمد: وقراءة التشهد ليست بفرض عند أصحابنا. وذلك لما في حديث أبي هريرة، ورفاعة بن رافع رضي الله عنهما في تعليم النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي الصلاة فقال: "ثم اجلس حتى تطمئن جالسا، فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك". ودلالة هذا الخبر على صحة قولنا من وجهين: أحدهما: أن التشهد لو كان فرضا، لما ترك تعليمه الأعرابي، مع علم النبي صلى الله عليه وسلم بجهله بأحكام الصلاة. والثاني: قوله: "وإذا فعلت هذا، فقد تمت صلاتك". فإن قيل: في حديث إسماعيل بن عياش عن محمد بن إسحاق عن على بن يحيى بن خلاد بن رافع عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الأعرابي، وقال فيه: "إذا جلست في وسط صلاتك فاطمئن، وافترش فخذك اليسرى، ثم تشهد، ثم

إذا قمت فمثل ذلك، حتى تفرغ من صلاتك". سمعناه في سنن أبي داود، فأمره بالتشهد، وهو على الوجوب. قيل له: لا يصح لخصمنا الاحتجاج به من وجوه: أحدهما: أنه مرسل؛ لأن على بن يحيى رواه عن أبيه عن عمه رفاعة رضي الله عنه، وبينهما رجل لم يذكره محمد بن إسحاق. والثاني: أن إسماعيل بن جعفر رواه عن يحيى عن علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن جده عن رفاعة رضي الله عنه، فقال فيه: "فتوضأ كما أمرك الله، ثم تشهد، فأقم، ثم كبر، فإن كان معك قرآن فأقرأ به". فذكر تشهدا قبل الصلاة، وهو لا محالة التشهد الذي في الأذان والإقامة، لأنه ذكر الصلاة بعدها، فكان هذا أولى من رواية إسماعيل بن عياش؛ إذ كان موصولا. وأيضا: فإنما ذكر في حديث محمد بن إسحاق التشهد الأول، وليس هذا بواجب عند الجميع، فكيف يدل على وجوبه في آخرها؟ * ودليل آخر: وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا القاسم بن محمد بن حماد قال: حدثنا عبد الحميد بن صالح قال: حدثنا زهير عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي عن عبد الرحمن بن رافع، وبكر بن سوادة عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

"إذا قعد الإمام في الصلاة، فأحدث قبل أن يسلم: فقد تمت صلاته، ومن كان معه ممن أتم معه الصلاة". يعني مقدار التشهد، فحكم بتمام صلاته من غير تشهد. فإن قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله رضي الله عنه: "قل: التحيات لله"، والأمر على الوجوب. قيل له: إنما هو أمر تعليم. وعلى أنك قد خالفتك؛ لأنك لا تقول بتشهد عبد الله رضي الله عنه. فإن قيل: روى "أنه كان يعلمهم التشهد، كما يعلمهم السورة من القرآن"، روى ذلك في تشهد عبد الله، وتشهد ابن عباس رضي الله عنهم. قيل له: وقراءة السورة من القرآن ليست بفرض عندنا، وإنما المفروض منه مقدار ما تصح به الصلاة، ويجزئ دون السورة. وقد روى أنه كان يعلمهم خطبة الحاجة، وتسبيح الركوع

والسجود، كما يعلمهم السورة من القرآن، لو يدل على وجوبها. فإن قيل: روى أبو وائل عن عبد الله قال: كنا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام على جبريل عليه السلام، السلام على ميكائيل عليه السلام، قبل أن تفرض التشهد، ثم ذكره. قيل له: فينبغي أن يكون تشهد عبد الله رضي الله عنه فرضا؛ لأنه فيه ذكر الفرض، وأنت لا تقول به. وأيضا: فإن المراد بالفرض هاهنا: التقدير؛ لأنهم قد كانوا يقولون ما شاؤوا، فقدر لهم ذلك، وقصروا عليه. ومنه فرائض الإبل، وفرائض المواريث، وفرض القاضي النفقة: يعني قدرها، ألا ترى أنه لا يقال: فرض الدين: إذا حكم به عليه، وألزمه؛ لأنه لم يكن من القاضي تقدير.

وقال الله تعالى:} قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم {: يعني- والله أعلم- الكفارة المذكور تقديرها. * ومن طريق النظر: أن التشهد ذكر مفعول في الصلاة، وليس بقرآن، فأشبه التشهد في الثنتين من الظهر، وثناء الافتتاح، وتسبيح الركوع والسجود. فإن ألزمونا عليه ذكر الافتتاح: لم يلزمنا؛ لأنه غير مفعول في الصلاة. مسألة:] ليست الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فرضا، وتاركها مسيء] قال أبو بكر: وليست الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله فرضا في الصلاة عند أصحابنا وفقهاء الأمصار، وهو مسيء بتركها. وقال الشافعي: هي فرض فيها، وهذا قول لم يسبقه إليه أحد، فهو

خلاف إجماع السلف والخلف. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إذا فعلت هذا، أو قلت هذا: فقد تمت صلاتك، فإن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد". ولو كانت فرضا ما أبيح له القيام مع تركها، ولا كانت صلاته تامة مع عدمها. وجميع ما استدللنا به على أن التشهد ليس بفرض، فهو يدل أيضا على أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست بفرض في الصلاة. فإن قيل: قال الله تعالى:} يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما { قيل له: مقتضى اللفظ فعلها مرة، ونحن نقول إنها فرض على الإنسان أن يفعلها في عمره مرة واحدة، مثل كلمة التوحيد، وهكذا كان يقول شيخنا أبو الحسن الكرخي رحمه الله، فأما أن تكون واجبة في الصلاة، فلا دلالة في لفظ الآية عليه، ومن ادعى ذلك لم تثبت دعواه إلا ببرهان.

فإن قيل: لما قال:} وسلموا تسليما {: دل على أن المراد في الصلاة. قيل له: ولا دلالة في الآية أيضا أن هذا سلام الصلاة؛ لأنه يجوز أن يريد التسليم لأمر الله، كما قال:} ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما {. وأيضا: لا دلالة في اللفظ على أن هذا السلام بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الواو لا توجب الترتيب. فإن قيل: في حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله، والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بما شاء". فأمره بالصلاة عليه في الصلاة، وأمره على الوجوب. قيل له: يدل على أنه ندب حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن شئت أن تقوم فقم"، وذلك بعد التشهد. وقد روي عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أنه قيل: يا

رسول الله! أمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال: "قولوا: اللهم صل على محمد". إلا أن هذا لا دلالة فيه أنها في الصلاة. وروى فيه لفظ آخر، وهو أنه قال: "إذا صليتم فقولوا: اللهم صل على محمد". إلا أن هذا لا دلالة فيه على وجوبها في الصلاة؛ لأنه يجوز أن يريد: إذا صليتم علي. وروى فيه لفظ آخر، وهو "أنهم قالوا: كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا؟ قال: " إذا صليتم علي، فقولوا: اللهم صل على محمد النبي الأمي ... " إلى آخره، وذكره. وهذا أيضا: يحتمل: إذا نحن صلينا في صلاتنا عليك.

وروى فيه لفظ آخر، هو "أنهم قالوا: كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا عليك". فإذا لا دلالة فيه على وجوبها في الصلاة. * وهذه الألفاظ على اختلافها كلها في حديث أبي مسعود رضي الله عنه، ومعلوم أنه حديث واحد، والأصل فيه هو الأول، ويعتبر الألفاظ فيه من جهة الرواة، وهذا يدل على أنه غير مضبوط على كنهه. * وعلى أن أكبر ما في هذه الأخبار الأمر بها في الصلاة، وقد قامت الدلالة من جهة الأثر والنظر معا على أنها ندب، غير فرض في الصلاة. مسألة:] ثم يسلم عن يمينه وعن يساره [ قال أبو جعفر: (ثم يسلم عن يمينه فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره كذلك). قال أبو بكر: وذلك لما رواه عبد الله بن مسعود ووائل بن حجر

رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم في آخر صلاته كذلك". وروى جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إنما يكفي أحدكم أن يقول هكذا"، وأشار بأصبعه، يسلم على أخيه، من عن يمينه، ومن عن شماله". مسألة: [ينوي بالتسليم الرجال والنساء والحفظة] قال أبو جعفر: (وينوي في كل واحدة من التسليمتين من في الجهة التي يسلم إليها من الرجال، والنساء، والحفظة، وينوي المأموم كذلك). قال أبو بكر: وإنما قلنا إنه ينوي بالسلام من معه في الصلاة؛ لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا يحيى بن زكريا ووكيع عن مسعر عن عبيد الله بن القبطية عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم أحدنا: أشار بيده من عن يمينه، ومن عن يسار، فلما صلى قال: "ما بال أحدكم يومئ بيديه كأنهما أذناب خيل شمس؟! إنما يكفي

-أو لا يكفي أحدكم- أن يقول هكذا، وأشار بأصبعه، يسلم على أخيه من عن يمنيه، ومن عن شماله. فأخبر عليه الصلاة والسلام أن ذلك سلام على الحاضرين، فينبغي أن يكون ينويهم حتى يقع موقعه، ولا يصر لغوا. وأيضا: فإن قوله: "السلام عليكم": خطاب يقتضي مخاطبا حاضرا، وهم الذين معه في الصلاة، فوجب أن ينويهم حتى يكون سلاما عليهم، وإلا كان لغوا؛ لأن خطاب الغائب لا يصح. * وينوي الحفظة أيضا؛ لأنهم حضور معه، وهو خطاب لهم أيضا، والدليل عليه أن المنفرد يقولها، ومعلوم أنه ليس هنا من يصح خطابه بذلك إلا الحفظة، فدل أن الحفظة داخلون في هذا الخطاب، فوجب أن يقصدهم به. * قال: (والمأموم ينوي الإمام في التسليمة الأولى إن كان في الجانب الأيمن، وفي الثانية إن كان في الجانب الأيسر، وإن كان تلقاء وجهه: نواه في التسليمة الأولى). وذلك لأنه قد استحق قصده بالسلام الأول لا محالة؛ لأنه ليس بالسلام الثاني أولى منه بالأول؛ لأن أقل أحواله أن يكون بين اليمين واليسار، فيكون لليمين حظ في قصده بالسلام الأول: صار في حيز اليمين، وبطل أن ينوي بالثاني.

مسألة: [مكان نظر المصلي في صلاته] قال أبو جعفر: (والأفضل للمصلي أن يكون نظره في قيامه إلى موضع سجوده، وفي ركوعه إلى قدمه، وفي سجوده إلى أنفه، وفي قعوده إلى حجره). قال أبو بكر: الأصل فيه أن الله عز وجل:} الذين هم في صلاتهم خاشعون {: قيل في معني الخشوع: أنه السكون. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: "اسكنوا في الصلاة". وظاهر الآية والخبر يقتضي منع تكلف النظر إلى غير الموضع الذي يقع بصره عليه في هذه الأحوال من غير كلفة. ومعلوم أن القائم متى لم يتكلف النظر إلى غير الموضع الذي يقع بصره عليه، كان منتهى بصره إلى موضع سجوده، وفي ركوعه يقع بصره إلى قدميه، وفي سجوده إلى أنفه، وفي قعوده إلى حجره. هذا إذا خلى بنفسه سوم طبيعته، ولا يقع بصره في هذه الأحوال

إلى غير هذه المواضع إلا بالتكلف، فلا ينبغي أن يفعل ذلك؛ لأنه ينافي الخشوع والسكون. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يجاوز بصره موضع سجوده، تخشعا لله تعالى". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن واقد قال: حدثنا أي قال: حدثنا الربيع بن بدر قال: حدثنا عنطوانة السعدي عن الحسن عن أنس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليكن بصرك موضع سجودك". قال أبو بكر: وهذا ينبغي أن يكون محمولا على حال القيام لما بينا. قال أبو بكر أحمد: وما ذكره أبو جعفر من اختلاف نظره، لاختلاف أحوال الصلاة: لو أقرأ لأصحابنا، وإنما الذي أعرفه عنهم أن يكون منتهى بصره إلى موضع سجوده، والذي ذكره أبو جعفر حسن يشبه أن يكون مذهبهم. مسألة: [لا يقرأ المأموم خلف الأمام] قال أبو جعفر: (ولا يقرأ المأموم خلف إمامه، جهر إمامه أو أسر). قال أبو بكر أحمد: الأصل فيه قول الله تعالى:} وإذا قرئ القرآن

فاستمعوا له وأنصتوا {. روي عن أبي هريرة، وسعيد بن المسيب، والحسن، وإبراهيم، والزهري، ومحمد بن كعب القرظي رضي الله عنهم، وغيرهم أنه في شأن الصلاة. وقال زيد بن أسلم، وأبو العالية: "كانوا يقرؤون خلف الأمام،

فنزلت:} وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا {. وكان زيد بن أسلم ينهى عن القراءة خلف الإمام فيما يسر ويجهر؛ لهذه الآية. وروى إبراهيم بن أبي حرة عن مجاهد أنه قال: "في الصلاة، والخطبة". فاتفق هؤلاء كلهم على أنه قد عنى به الصلاة، وزاد مجاهد الخطبة، والأولى أن يكون المراد هي الصلاة من وجهين: أحدهما: أن قراءة القرآن ليست بفرض في الخطبة. والثاني: أن الإنصات والاستماع واجبان للخطبة فيما كان منها قرآنا وغيره، والعموم يقضي بوجوب الإنصات والاستماع لكل من قرأ قرآنا في صلاة أو خطبة أو غيرها، فلا يخص منه شيء إلا بدليل. والإنصات والسكوت بمعنى واحد، يقال: فلان يسكت، وأنصت، والمفعول باللفظين شيء واحد، فإذا من حيث أمرنا بالإنصات والسكوت، فقد أمرنا بترك القراءة، إذ لا يجوز السكوت الكلام، فيكون متكلما ساكتا في حال. * وأما وجهه من طريق الأثر، فقد روى جماعة من أصحاب النبي

صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن القراءة خلف الإمام بألفاظ مختلفة: منهم عبد الله بن مسعود، وعمران بن حصين، وجابر بن عبد الله، وأبو موسى، وأبو الدرداء، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس رضي الله عنهم أجمعين. فأما حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، فروى في بعض ألفاظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين قرئ خلفه: "علمت أن بعضكم خالجنيها"، ولم يزد على ذلك. وقد حدثنا أبو عبد الله أحمد بن خالد بن الحروري الرازي- شيخ ثقة- قال: حدثنا محمد بن مقاتل الرازي قال: حدثنا سلمة بن الفضل عن الحجاج بن أرطاة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن حصين رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القراءة خلف الإمام". وأما حديث جابر رضي الله عنه، فإن في بعض ألفاظه: "من كان له إمام، فقراءته له قراءة"، وبعضها على غير ذلك.

وحدثنا أبو بكر محمد بن العباس بن مهرويه الرازي قال: حدثنا محمد بن أيوب الرازي قال: أخبرنا حفص بن عمر قال: حدثنا شعبة عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد بن الهاد رضي الله عنه أن رجلا كان يقرأ خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ورجل ينهاه، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنك إذا كنت خلف الإمام، فإن قراءة الإمام لك قراءة". وحدثنا أبو بكر محمد بن مهرويه قال: حدثنا إبراهيم بن محمود بن حمزة النيسابوري قال حدثنا بحر بن نصر قال: حدثنا يحيى بن سلام قال: حدثنا مالك عن أبي نعيم يعني وهب بن كيسان قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، إلا خلف إمام". وهذا لفظ واضح في إسقاط فرض القراءة عن المأموم؛ لأنه جعلها ناقصة للمنفرد، وتامة للمأموم، مع ترك قراءة فاتحة الكتاب. وأما حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين علم أنهم يقرؤون خلفه: "خلطتم علي القراءة". رواه

يونس عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه. وأما حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، ففيه أن رجلا قال: يا رسول الله! أفي كل صلاة قراءة؟ قال: "نعم". قال رجل من القوم: وجب هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أرى إذا قرأ إلا كان كافيا". وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فحدثنا محمد بن مهرويه قال: حدثنا موسى بن إسحاق الأنصاري قال: حدثنا أبي قال: حدثنا عاصم يعني ابن عبد العزيز قال: أخبرنها أبو سهيل عن عون عن ابن عباس رصي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تكفيك قراءة الإمام، خافت أو جهر". وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فيروى على وجهين:

أحدهما: حديث الزهري عن ابن أكيمة الليثي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها القراءة، فقال: "هل قرأ منكم معي أحد آنفا؟ قال رجل: نعم يا رسول الله! فقال رسول الله: "إني أقول: ما لي أنازع القرآن". قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله بالقراءة من الصلوات حين سمعوا ذلك منه. وأما حديثه الآخر: فيما رواه أبو خالد سليمان بن حبان قال: حدثنا ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا قرأ فأنصتوا". وروي حديث أبي موسى رضي الله عنه بهذا اللفظ، رواه جرير بن عبد الحميد والمعتمر بن سليمان عن سليمان التيمي عن قتادة عن أبي غلاب عن حطان بن عبد الله بن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما حديث أنس رضي الله عنه، فذكره الطحاوي قال: حدثنا أحمد

بن داود قال: حدثنا يوسف بن عدي قال: حدثنا عبيد الله بن عمرو عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل بوجهه فقال: "أتقرؤون والإمام يقرأ؟ فسكتوا، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا، فقالوا: إنا لنفعل. قال: "لا تفعلوا". فهذا لفظ عام في النهي عن جميعها في سائر الصلوات. * وقد قال بالنهي عن القراءة خلف الإمام جماعة من الصحابة منهم: علي بن أبي طالب، وسعد، وابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وجابر، رضي الله عنهم أجمعين. قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: "من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له".

وقال سعد رصي الله عنه: "وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه جمرة". وقال علي رضي الله عنه: "من قرأ خلف الإمام فقد الخف السنة". قال إبراهيم النخعي: "أول ما قرأ الناس خلف الإمام قرؤوا خلف المختار الكذاب، كانوا يرون أنه أمي لا يقرأ القرآن". فإن قيل: روي عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاة الفجر، فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: "لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم. قال: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها".

وروت عائشة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، فهي خداج". وكذا روى أبو هريرة رصي الله عنه. قيل له: أما حديث عبادة، فمضطرب السند والمتن جميعا، وقد بينا ذلك في: "مسائل الخلاف". ولو صح سنده، واستقامت طريقه: لم يلزمنا على أصلنا استعماله، وذلك لأنه إذا ورد خبران متضادان، واتفق الناس على استعمال العام، واختلفوا في استعمال الخاص: قضينا بالعام على الخاص، وجعلنا الخاص منسوخا به. وهذه صفة خبر عبادة رضي الله عنه مع سائر الأخبار التي قدمنا؛ لأن الناس متفقون على استعمال النهي في حال قراءة الإمام فيما يجهر فيه، وفيما عدا فاتحة الكتاب، واختلفوا في استعمال خبر عبادة رضي الله عنه، فكان خبر النهي قاضيا عليه. وأيضا: فهو معارض بحديث وهب بن كيسان عن جابر رضي الله عنه

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خداج، إلا خلف الإمام". فأثبتها صلاة خلف الإمام تامة بغير فاتحة الكتاب، فعارض حديث عبادة في نفس الوقت ما ورد فيه، فأقل أحوالهما أن يسقطا، وبقي لنا الأخبار الأخر بلا معارض. * وأما خبر أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما، فلا دلالة فيه على موضع الخلاف؛ لأنا نقول: هذه صلاة للمأموم بأم القرآن؛ إذ قد جعل النبي صلى الله عليه وسلم قراءة الإمام قراءة له. * ويدل على صحة قولنا، أنا قد علمنا أن الصحابة قد كانوا عالمين بلزوم فرض القراءة في الصلوات، إلا الفرد منهم ممن قال: إنها على الاستحباب دون الإيجاب، فلو كانت القراءة خلف الإمام فرضا أو مندوبا إليها، لوجب ورود النقل به متواترا يعرفه عامتهم، كما عرفوا وجوب القراءة في الصلاة للمنفرد والإمام. فلما وجدنا معظم الصحابة منكرين لها، منهم علي، وعثمان، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، زيد بن ثابت رضي الله عنهم، ومن قدمنا منهم، مع عموم الحاجة إليها: علمنا أنهم قد عرفوا من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وأمره، أنها متروكة خلف الإمام، وأن قراءة إمامهم قراءة لهم.

وقد روي عن عمر رضي الله عنه أيضا ترك القراءة خلف الإمام، وروي عنه القراءة، فتسقط الروايتان جميعا، ويصير كأنه لم يثبت عنه فيها شيء، ومحصل قول المنكرين لها. فثبت دلالته على صحة قولنا من وجهين: أحدهما: أنها لو كانت ثابتة، لما خصت مع عموم الحاجة إليها. والثاني: أن مثلهم ينعقد بهم الإجماع، حتى لا يسع خلافهم، فلا يكون عبادة بن الصامت وأبو هريرة رضي الله عنهما خلافا عليهم. * ويدل عليه من طريق النظر: اتفاق الجميع على سقوط فرض القراءة عن مدرك الإمام في الركوع، فلو كانت من فرضه: لما سقطت في هذه الحالة عنه، كما لم تسقط سائر الفروض. وأما قول من قال منهم: بأنه حال ضرورة، فلا يستدل به على حال الإمكان: فإنه كلام فارغ، لا معنى تحته؛ لأنه لا ضرورة به في قضاء

الركعة لو كانت القراءة من فرضه. ألا ترى أنه لو خاف فوت الركعة، فكبر في حال الانحطاط، وترك القيام: لم يجزه، إذ كان القيام من فرضه، ولم يختلف فيه حال خوف فوات الركعة وغيرها، وكذلك حكم الركوع والسجود إذا خاف فوتهما، لم يكن ذلك عذرا في سقوط فرضهما. * ودليل آخر: وهو اتفاق الجميع على أن الإمام يتحمل عنه ما عدا فاتحة الكتاب، فوجب أن يتحمل عنه قراءة فاتحة الكتاب؛ لأن النفل والفرض لا يختلفان فيما يتحمله الإمام، ألا ترى أنه لا يتحمل عنه سائر الأذكار المسنونة. وأيضا: إذا لم يلزمه الجهر في الصلوات المجهور فيها بالقرآن: دل ذلك على أنها ليست من فرضه على أصلنا. وأيضا: جواز الاقتصار له على فاتحة الكتاب، دون السورة: يدل

على ذلك أيضا. مسألة: [الإسرار والجهر في الصلوات] قال أبو جعفر: (ويسر القراءة في الظهر والعصر، ويجهر في الأوليين من المغرب والعشاء، وفي الصبح كلها). قال أبو بكر أحمد: قد ورد النقل بذلك متواترا عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا، وعملا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة النهار عجماء": يعنى لا يفصح فيها بالقراءة.

مسألة: [ما يقرأه الإمام والمنفرد] قال أبو جعفر: (وأفضل للإمام، والذي يصلي وحده أن يقرأ في الأخريين من الظهر والعصر والعشاء، وفي الثالثة من المغرب بفاتحة الكتاب، وإن شاء سبح، وإن شاء سكت). قال أبو بكر أحمد: يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب، وسورة في كل واحدة منهما، وذلك لما رواه أبو قتادة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب". ورواه جابر رضي الله عنه كذلك، ونقله الناس كافة على هذا، ولو كان من سننها أن يقرأ في الأخريين بسورة، لورد النقل به متواترا، كوروده في الأوليين. [ما يفترض قراءته:] * قال أبو بكر أحمد: فرض القراءة عندنا في ركعتين من الصلاة.

ومن الناس من يوجبها في ركعة واحدة، ويروى ذلك عن الحسن. ومنهم من يوجبها في جميع الركعات. ويحكى عن الأصم، وابن علية أنها ليست بفرض، ويروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا. وكذلك يقول الأصم وابن علية في سائر أركان الصلاة. * فأما الدليل على وجوب القراءة في الصلاة، فقول الله تعالى:} فاقرءوا ما تيسر من القرءان {، وظاهره الإيجاب.

وقال الله تعالى:} أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرءان الفجر {، ومعناه: أقم قرآن الفجر، وظاهره الوجوب. وإذا وجبت في صلاة الفجر: وجبت في سائر الصلوات؛ لأن أحدا لم يفرق بينهما. فإن قيل: المراد به صلاة الفجر. قيل له: هذا غلط من جوه: أحدها: أنه لا يجوز لنا صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدلالة، وجعل القرآن عبارة عن الصلاة. وأيضا: لو كانت كذلك، كانت دلالته قائمة على ما ذكرنا؛ لأنه لا يعبر بالقرآن عن الصلاة إلا وقراءته من أركانها، حتى صارت عبارة عنها. وأيضا: في سياق الآية ما يسقط هذا التأويل، وهو قوله:} ومن الليل فتهجد به نافلة لك {، والهاء في قوله:} به {: كناية عن القرآن المبدوء بذكره، ومعلوم أن صلاة الفجر لا يتهجد بها بالليل، فثبت أن المراد حقيقة القراءة التي يصح التهجد بها بالليل. * ودليل آخر: وهو قوله:} لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما

تقولون {، فنهى عن الصلاة لأجل عدم إقامة القراءة فيها، فلولا أنها من أركانها، لما منع الصلاة لأجل عدمها. * ويدل عليه من جهة السنة: أمر النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي بقراءة ما تيسر، في حديث رفاعة بن رافع وأبي هريرة رضي الله عنهما. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل صلاة لا قراءة فيها فهي خداج"، فأثبتها ناقصة مع ترك القراءة. قيل له: معناه ما بين في خبر آخر، وهو قوله: "كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج"، بالدلائل الموجبة لفرض القراءة. * وأيضا: فإنما قلنا إن فرض القراءة في ركعتين من الصلاة، من قبل أن قوله:} فاقرءوا ما تسر من القرءان {، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "فاقرأ ما تيسر": يقتضي جواز الصلاة بوجود القراءة في ركعة منها. ثم لما حصل اتفاق فقهاء الأمصار على أنها إذا وجبت في الأولى

كانت الثانية مثلها، أثبتناها في الثانية، ولم ثبتها فيما عداها، كما اقتضاه ظاهر الآية من جواز الصلاة بها. وأيضا: لو كانت القراءة واجبة في الأخريين، كوجوبها في الأوليين، لما اختلف موضوعها في الجهر والإخفاء في الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة، ألا ترى أن صلاة الفجر لما وجبت القراءة فيها كلها، جهر بها في الركعتين جميعا، وكذلك الأوليان من المغرب والعشاء. وأيضا: لما أخفيت القراءة فيها مع كون الصلاة مجهورا فيها بالقراءة، أشبهت القراءة فيها التشهد، وثناء الافتتاح، وسائر الأذكار المسنونة التي ليست بفرض. وأيضا: قد اختلف موضوع القراءة في الأوليين والأخريين في قراءة فاتحة الكتاب وسورة، أو وحدها، ولو كانت واجبة في الجميع، لما اختلف موضوعها من هذا الوجه. ألا ترى أن القراءة لما كانت واجبة في جميع ركعات التطوع، والوتر، وصلاة الفجر، لم يختلف موضوعها في قراءتها بفاتحة الكتاب وسورة. فإن قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين علمه الصلاة، وذكر فيه الصلاة ثم قال: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". قيل له: معلوم أنه لم يرد فعل القراءة في كل أفعال الصلاة، وإنما أراد في بعضها، وذلك البعض ما بينه بقوله بدءا: "اقرأ ما تيسر".

فإن قيل: أراد في كل ركعة من صلاتك. قيل له: هذه دعوى لا دلالة عليها، ولا فرق بين مدعيها وبين من قال: بل المراد في جميع صلواتك، كأنه قال: فاقرأ ما تيسر في جميع صلواتك، وكذلك نقول، فأما فعلها في كل ركعة، فلا دلالة عليه من الخبر. وأيضا: قال للأعرابي في هذا الخبر: "ما نقصته من ذلك، فإنما تنقصه من صلاتك"، وهذا يقتضي جواز الصلاة مع ترك القراءة في بعض صلاته؛ لأنه قد أتت صلاته ناقصة بنقصان ما ذكر منها، إذ لو كانت باطله، لما أطلق عليها اسم النقصان؛ لأن النقصان لا يكون إلا مع بقاء الأصل. فإن قيل: لما كانت فرضا في ركعتين منها، دل على وجوبها في سائرها، كما أن الركوع والسجود لما كانا فرضا في ركعة، كانا فرضا في سائرها. قيل له: هذا اعتبار ساقط؛ لاتفاقنا جميعا على وجوب القعدة في آخر الصلاة، وليست فرضا في كل ركعة، ويزعم مخالفنا أن قراءة التشهد فرض في آخر الصلاة، وكذلك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وليست فرضا في جميع ركعات الصلاة. وأيضا: فحكم القراءة مخالف لحكم سائر الفرض؛ لاتفاق الجميع

على سقوط فرض القراءة عن المأموم عند إدراك الإمام في الركوع، فلا يسقط عنه شيء من أفعالها. فصل: وإنما قال: إنه يسبح إن شاء، من قبل أنه لما لم يكن فيه فرض القراءة لما بينا، جاز له أن يقيم التسبيح مقام القراءة. والدليل عليه ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع بن الجراح قال: حدثنا سفيان الثوري عن أبي خالد الدالاني عن إبراهيم السكسكي عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إني لا استطيع أن آخذ من القرآن شيئا، فعلمني ما يجزيني منه. قال: "قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله". مسألة: [لا يقنت في غير الوتر] قال أبو جعفر: (ولا قنوت في شيء من الصلوات غير الوتر). قال أبو بكر أحمد: روي في أخبار مستفيضة أن النبي صلى الله عليه سلم قنت في صلاة الفجر والمغرب والعشاء، ثم روى عبد الله بن مسعود، وأبو

هريرة، وعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم أنه تركه بعد فعله. واختلفت الرواية عن أنس، فروى عمرو بن عبيد عن الحسن عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم مازال يقنت في صلاة الغداة إلى أن فارق الدنيا". وكذلك روى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس رضي الله عنهما. وروى حميد عن أنس رضي الله عنه قال: "قنت رسول الله صلي الله عليه وسلم عشرين يوما". وروى أيوب عن ابن سيرين عن أنس رضي الله عنه قال: "قنت رسول الله صلي الله عليه وسلم في صلاة الفجر يسيرا".

وروى أبو نعيم عن هشام الدستوائي عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: "قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع يدعو على حي من أحياء العرب، ثم تركه، وكان يدعو على رعل، وذكوان". فتضادت أخبار أنس رضي الله عنه، في ترك القنوت أو فعله إلى أن فارق الدنيا، فسقطت كأنها لم ترد، وبقيت لنا أخبار الآخرين في تركه القنوت بعد فعله، فوجب أن تكون أولي، إذ كان آخر فعله صلى الله عليه وسلم. ولما اتفق الفقهاء جميعا على ترك ما روى في القنوت في المغرب والعشاء، كان كذلك القنوت في الفجر؛ لأن القنوت فيها كلها كان في وقت واحد، ثم كان ما عدا صلاة الفجر منسوخا بالترك: وجب أن يكون كذلك حكمه في الفجر. فإن قيل: هلا كان الترك على وجه التخيير، دون النسخ. قيل له: لأنه لما كان القنوت من سنه الصلاة في حال ما كان يفعل، دل تركه إياه على أنه قد خرج من أن يكون من سننها؛ لأنا وجدنا سائر سنن الصلاة لا يكون المصلي مخيرا فيها بين فعلها وتركها، كسجدتي

السهو، والتشهد، وتسبيح الركوع والسجود، وثناء الافتتاح، فلو كانت سنه القنوت باقية، لما كان تركه مباحا، ألا ترى أن ترك القنوت في المغرب والعشاء ليس عند الجميع علي جهة التخيير، بل علي وجه النسخ، فكذلك القنوت في الفجر. وأيضا: لو كان فعل القنوت مسنونا في صلاة الفجر، لوجب أن يرد النقل به متواترا، وأن يعرفه جل الصحابة، لعموم الحاجة إليه، كفعل التشهد، وتكبير الركوع، والسجود، فلما وجدنا عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وعمر في رواية، وابن عمر رضي الله عنهم كانوا لا يرون القنوت فيها: علمنا أنه منسوخ يترك النبي صلى الله عليه وسلم إياه. ولأن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم قد رويا خبر القنوت، قم روى قتادة عن أبي مجلز قال: "صليت خلف ابن عمر رضي الله عنهما،

فلم يقنت، قفلت الكبر يمنعك؟ قال: ما أحفظه عن أحد من أصحابي". وذكر أبو الشعثاء عنه نحو ذلك في صلاة الفجر. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا على بن محمد قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا زائدة عن أشعث عن أبي الشعثاء عن أبيه قال: "سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن القنوت في الغداة؟ فقال: ما كنت أرى أن أحدا يقنت في الغداة". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا الحسن بن المثنى قال: حدثنا عفان قال: حدثنا حماد بن زيد قال: حدثنا بشر بن حرب قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "أرأيتم قيامكم بعد فراغ الإمام من القراءة، هذه البدعة، والله إنه لبدعة، ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شهرا، ثم تركه". وقال الأسود وعمرو بن ميمون: "صلينا خلف عمر رضي الله عنه الفجر، فلم يقنت". وقال الأسود: "وكان عمر رضي الله عنه إذا حارب قنت" وإذا لم

يحارب لم يقنت". وقال علقمة: "لقيت أبا الدرداء رضي الله عنه بالشام، فسألته عن القنوت، لم يعرفه". وقال إبراهيم النخعي: "أول من قنت هاهنا في الفجر على رضي الله عنه، وكانوا يرون أنه إنما فعل ذلك لأنه كان محاربا، فكان يدعو على أعدائه في القنوت في الفجر والمغرب". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال: حدثنا إبراهيم بن بشار قال: حدثنا محمد بن يعلى عن عنبسة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن نافع عن أبيه عن أم سلمه رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القنوت في صلاة الصبح". وهذا الحديث يقضى على ما روي في القنوت؛ لأن فيه نهيا يمنع تأويل التخيير في ترك القنوت وفعله.

فصل: [القنوت في الوتر قبل الركوع] (وأما القنوت في الوتر، فإنه في سائر السنة، وهو قبل الركوع). وذلك لما روى أبي بن كعب، وجماعة رضي الله عنهم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث، لا يسلم إلا في آخرهن، وكان يقنت في الثالثة قبل الركوع". فإن قيل: روي أن أبيا رضي الله عنه أمهم في شهر رمضان، وكان يقنت في النصف الأخير من شهر رمضان. قيل له: ليس فيه أنه كان يقنت في غيره. ويجوز أن يكون لم يكن يصلي بهم الوتر إلا في النصف الأخير، ويصلي قبل ذلك لنفسه في بيته، ويقنت لنفسه، فلا دلالة في هذا الخبر على خلاف ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقنت. وأيضا: فلما ثبت أن القنوت من سنة الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان، دل أن من سنته فعله في سائر السنة، كسائر الأذكار المفعولة في الصلوات المسنونة، لا يختلف حكمها في شهر رمضان وغيره.

* وأما فعله قبل الركوع فلما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا مطين قال: حدثنا عقبة بن مكرم قال: حدثنا يونس بن بكير قال: حدثنا يونس بن عمرو عن أبيه أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله تعالى عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الوتر قبل الركوع". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن داود بن جابر التمار قال: حدثنا عمرو الناقد قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: حدثنا أبان بن أبي عياش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: "بت مع النبي صلى الله عليه وسلم لأنظر كيف يقنت، فقنت قبل الركوع". حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن أحمد بن سعيد الواسطى قال: حدثنا أبو نعيم الحلبى قال: حدثنا عطاء بن مسلم عن العلاء بن المسيب عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت في الوتر قبل الركوع". * قال أبو بكر: وإنما قلنا إنه ثلاث ركعات، لا يسلم إلا في آخرهن؛ لما رواه مسعر عن زبيد عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان

يوتر بثلاث لا يسلم حتى ينصرف". وروى قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلام لا يسلم في ركعتي الوتر". وروى سعيد المقبري عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل أربعا، ثم أربعا، ثم ثلاثا". وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أوتر رسول الله صلي الله عليه وسلم بثلاث، فقنت قبل الركوع". وأبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث ركعات". وروى محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البتيراء: أن يوتر الرجل بركعة واحدة".

وبلغ ابن مسعود أن سعدا رضي الله عنهما يوتر بركعة فقال: "ما هذه البتيراء؟! الوتر ثلاث ركعات، لا يسلم إلا في آخرهن". وهو قول علي، وعمر، وعبد الله، وابن عباس، وأبي بن كعب رضي الله عنهم. وقال ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم: "الوتر مثل صلاة المغرب".

وقال الحسن البصري: "أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاث، لا يسلم إلا في آخرهن". فإن قيل: روى عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشر ركعة، يسلم بين كل ركعتين، يوتر منهما بواحدة". قيل له: يحتمل أن يكون المراد به التشهد في كل اثنتين، كما روى عن النبي صلي الله عليه وسلم: "في كل ركعتين، فسلم، يعنى فتشهد". فإن قيل: في حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: "الوتر حق،

فمن شاء أوتر بخمس، ومن شاء أوتر بثلاث، ومن شاء أوتر بواحدة". قيل له: يجوز أن يكون أراد الوتر الذي كانوا يتنفلون به، فلما زيد الوجوب كثر على شيء بعينه، فصارت الركعة الواحدة منسوخة. والدليل على أنهم قد كانوا يتنفلون بالوتر، أن ابن عمر رضي الله عنهما أوتر في ليلة واحدة مرارا. وقال سعد لعبد الله رضي الله عنهما حين قال له: ما هذا البتيراء؟ فقال: "وتر أنام عليه". وذلك عندنا منسوخ بحديث فيس بن طلق عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا وتران في ليلة". فإن قيل: فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح، فأوتر بركعة". قيل له: لا دلالة فيه على أنها واحدة منفصلة عن الأوليين قبلها، بل يجوز أن تكون متصلة بصلاة قبلها. ولو ثبت أنها منفردة، احتمل أن تكون في وقت جواز النفل بها.

وقد روى عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن الوتر ثلاث كصلاة المغرب". فإن قيل: روى عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يوتر بإحدى عشرة، وتسع، وسبع، وخمس". قيل له: معناه: فيهن الوتر، كما روي في حديث ابن عمر رضي الله عنهما::فأوتر بواحدة توتر لك ما صليت"، يعنى أن جملة صلاتك تصير وترا. وقد روت عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يسلم في ركعتي الوتر". * ومن جهة النظر أن الوتر لا يخلو من أن يكون نفلا أو واجبا، فإن كان نفلا، فالنوافل إنما يحتذب بها الفروض، فتفعل حسب ما تفعل الفروض، وإن كان واجبا، فليس له أصل غير صلاة المغرب،

فوجب أن يكون مثلها. مسألة: [كيفية القنوت في الوتر] قال أبو جعفر: (وإذا أراد المصلي أن يقنت في وتره: كبر، ورفع يديه، ثم أرسلهما، وقنت، وقال أبو يوسف بأخرة: يرفع يديه في الدعاء في الوتر). لأبي حنيفة ومحمد قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كفوا أيديكم في الصلاة"، و"اسكنوا في الصلاة". فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترع الأيدي إلا في سبعة مواطن"، وذكر فيها القنوت في الوتر. قيل له: هذا رفع التكبير، لا في حال الدعاء.

* ويدل عليه من جهة النظر: أنه لا يرفعهما في آخر الصلاة إذا دعا، ولا في قراءة فاتحة الكتاب وفيها دعاء، وكذلك دعاء القنوت. مسألة: [مقدار القراءة في صلاة السفر والحضر] قال أبو جعفر: (والقراءة في الصلوات في السفر سواء، اقرأ بفاتحة الكتاب وأي سورة شئت). قال أبو بكر: وذلك لأن حال السفر حال التخفيف، ألا ترى أنه تقصر فيه الصلاة، ويفطر. وأيضا: لم ينقل عن النبي صلي الله عليه وسلم تطويل القراءة في السفر، مع كثرة أسفاره في مغازيه، فدل على أنه مخير في أن يقرأ فيه بما شاء. * قال أبو جعفر: (وأما القراء في الحضر، فإن الفجر والأوليين من الظهر: يقرأ في كل اثنتين منها بأربعين، خمسين، ستين آية، سوى فاتحة الكتاب). قال أبو بكر: وذلك لما روى سليمان التيمي عن أبي مجلز عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في صلاة الظهر. قال: فرأى أصحابه أنه قد قرأ بتنزيل السجدة". وروى المسعودي عن زيد العمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخضري رضي الله عنه قال: "اجتمع ثلاثون من أصحاب النبي صلى الله

عليه وسلم، فقاسوا قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعتين الأوليين من الظهر بقدر قراءة ثلاثين آية، وفي الركعتين الأوليين من العصر على قدر النصف من ذلك". وروي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ: ألم تنزيل السجدة، و: هل أتى على الإنسان". وذكر زياد بن علاقة عن عمه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في إحدى الركعتين من الصبح بـ: ق. وروى سماك بن حرب عن جابر بن سمرة رضي الله عنه مثله في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الفجر. * وأما العصر، فقد ذكرنا في العصر حديث أبي سعيد رضي الله عنه، أنه على النصف من قراءة الظهر. * وأما العشاء فقد روى أن معاذا رضي الله عنه قرأ بالبقرة في العشاء،

فشكي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفتان أنت يا معاذ اقرأ بسورة:} والليل إذا يغشي {،} والشمس وضحاها {. وفي بعض الأخبار: "لو قرأت:} سبح اسم ربك الأعلى {،} والشمس وضحاها {، يصلى خلفك ذو الحاجة والضعيف". فقد دل ذلك على مقدار القراءة في العشاء، ودل أيضا على التسوية بين الركعتين فيها. * وأما المغرب، فيقرأ فيها بدون ذلك، لما روى سليمان بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بقصار المفصل". فإن قيل: روى عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت رضي الله عنهم أنه قال لمروان: "ما يحملك أن تقرأ في صلاه المغرب بـ:} قل هو الله احد {، وبسورة أخرى صغيره فوالله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب بأطول السور وهى: ألمص". وقال جبير بن مطعن رضي الله عنه:"سمعت رسول الله صلى الله عليه

وسلم يقرأ في المغرب بـ: الطور". قيل له: يحتمل أن يريد به القراءة لأن وقت المغرب لا يتسع لذلك مع ترتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم القراءة. وقد روى أنهم "كانوا يصلون المغرب، ثم ينتضلون، وكان أحدهم يرى موقع نبله". فهذا لا يكون إلا مع تعجيل الفراغ منها، وبقاء الضياء قبل اختلاط الظلام، ولا يجوز أن يقرأ في مثل هذه المدة: (المص) بترتيل القراءة. وفي حديث جبير بن معطم رضي الله عنه: "انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بأصحابه صلاة المغرب، فسمعته يقول:} إن عذاب ربك لواقع {، فكأنما صدع قلبي". فأخبر أنه إنما سمع ذلك منه، ولا دلالة فيه على أنه قرأ تمام السورة. مسألة: [تطويل أولى الفجر، وتسوية، أوليي الظهر] قال أبو جعفر: (ويطيل الركعة الأولى من صلاة الفجر على الثانية).

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. * قال: (وركعتا الظهر سواء) |. وذلك لما دل عليه حديث أبي سعيد رضي الله عنه الذي ذكرناه في قراءة الظهر. وأيضا: فإن للفجر مزية ليست لغيرها، وذلك لأن العادة فيها أنهم يكونون نياما قبلها، فيكون تطويل القراءة سببا لإدراكهم الركعتين، وليس كذلك الظهر وسائر الصلوات. وقال محمد: يطيل الركعة الأولى على الثانية في الصلوات كلها أحب إلي كالفجر. مسألة: [إجزاء الصلاة بفاتحة الكتاب، وشيء] قال أبو جعفر: (ومن قرأ في صلاة بدون ما ذكرنا مع فاتحة الكتاب: أجزأه). وذلك لما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، فصاعدا".

وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "أمرني رسول الله أن أنادي في المدينة: أن لا صلاة إلا بقرآن، ولو بفاتحة الكتاب، فما زاد". وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، وشيء معها". فهذه الأخبار كلها تبيح الصلاة بفاتحة الكتاب، وما شاء من الزيادة عليها. مسألة: [إجزاء الصلاة بغير الفاتحة] قال أبو جعفر: (ومن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وقرأ آية غيرها: أجزأته في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجزئه إلا ثلاث آيات، أآية طويلة مثل آية الدين). والحجة لأبى حنيفة لجواز الصلاة بغير فاتحة الكتاب: قول الله تعالى:

} فاقرءوا ما تيسر من القرءان {، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لم اقرأ ما تيسر من القرآن". وحقيقة هذا اللفظ التخيير، كما أن رجلا لو قال لأخر: "بع عبدي هذا ما تيسر"، كان قد فوض إليه الأمر في بيعه بما شاء. ومن قصر فرض القراءة على شيء بعينه، فقد اسقط حكم الآية والخبر. فإن قال قائل: قد بين النبي صلى الله عليه وسلم مراد الله تعالى بقوله:} فاقرءوا ما تيسر من القرءان {، بقوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب". قيل له: لا يجوز أن يكون هذا القول بيانا لمراد الآية على حسب ما ذهبت إليه، لأن فيه إسقاط التخيير، وهو نسخ، ولا يجوز نسخ القرآن بخبر الواحد. فالواجب-إذا كان هذا هكذا- حمله على وجه لا يضاد حكم القرآن، وهو أن يكون لنفي الفضل، لا لنفي الأصل، كقول الله تعالى:} إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون {، ثم قال:} ألا تقاتلون قوما

نكثوا أيمانهم {، فنفاها بدءا، وأثبتها ثانيا، فعلمنا أنه أراد به معنى الكمال، لا معنى الأصل. وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"، و: "من سمع النداء فلم يجب، فلا صلاة له". فإن قيل: قال الله تعالى:} فما استيسر من الهدى {، فهو يتناول جميع ما يهدى من ثوب وغيره، ثم جعل النبي عليه الصلاة والسلام الهدى من إبل أو بقر أو غنم، ولم يكن فيه نسخ الآية، فكذلك تعيين فرض القراءة

في فاتحة الكتاب لا يوجب نسخ الآية. قيل له: الفصل بينهما، أن ما اقتضاه اللفظ من إيجاب التخيير، قائم في آية الهدي، غير باق في تفسير فاتحة الكتاب، فمتى ضممنا الخبر إلى آية الهدي: كان تخصيصا، وإذا ضممنا خبر فاتحة الكتاب إلى قوله:} فاقرءوا ما تيسر من القرءان {: كان نسخا. يدلك على ذلك، أنه لا يصح الجمع بين آية القرآن والخبر في لفظ واحد؛ لأنه لا يجوز أن يقول: اقرأ ما تيسر، وهو فاتحة الكتاب، كمان لا يجوز أن يقول: اقرأ ما شئت، وهو فاتحة الكتاب، ولا: أنت مخير في أن تقرأ ما شئت، وهو فاتحة الكتاب. ويصح أن يقول: هما استيسر من الهدي، وهو ما شئت من هذه الأصناف الثلاثة. وكذلك اقتصار أبي حنيفة على آية واحدة في فرض القراءة، لا يقتضي نسخ حكم الآية؛ لأن التخيير قائم في أيها شاء. فإن قيل: ما ينكر أن يكون قوله:} فاقرءوا ما تيسر من القرءان {: على ما عدا فاتحة الكتاب، وقوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب": مستعملا في

تعيين فرض القراءة، فلا يكون فيه مخالفة الآية. قيل له: لا يجوز ذلك؛ لأن قوله:} فاقرءوا ما تيسر من القرءان {: يقتضي الوجوب، وما عدا فاتحة الكتاب: فليس بواجب، فلا يجوز أن يكون هو المراد به. * ويدل على أن قوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب": لم يرد به نفي الأصيل، وإنما أريد به نفي الكمال، ما روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، وشيء معها". ومعلوم أنه لم يرد فيما عدا فاتحة الكتاب نفي الأصل، فكذلك فيها؛ لأنه لفظة واحدة، فلا يجوز أن يراد بها نفي الكمال، ونفي الأصل في حال واحدة؛ لأنها إذا أريد بها نفي الكمال، فقد أفادت إثبات شيء منها، وإذا حملت على نفي الأصل، لم يثبت منها شيء ولا يجوز استعمال لفظة واحدة للإثبات والنفي في حال واحدة لشيء واحد، متى حملت على أحد الوجهين انتفى الأخير. فإن قال قائل: روي في حديث تعليم النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الصلاة أنه قال: "ثم اقرأ بفاتحة الكتاب"، وهو أمر يقتضي

الإيجاب، كما يقتضيه لفظ الآية، فنستعملهما، ونجعل الآية فيما عدا فاتحة الكتاب. قيل له: قد روى في خبر الأعرابي: "لم اقرأ ما تيسر"، وذلك يقتضي التخيير، فإن عارضه قوله: "ثم اقرأ بفاتحة الكتاب": فأقل أحوالهما أن يسقطا، ويبقى لنا حكم الآية في إثبات التخيير، عاربا مما يعارضه. وعلى أن أخبار الآحاد لا يعترض بها على ما كان هذا سبيله من الآية، في صرفها عن الإيجاب إلى الندب. وأيضا: يجوز هذا عندنا عند تساوي النقل في الخبرين، فأما إذا ورد أحدهما عن طريق الآحاد، والآخر مذكور في القرآن: فإن ذلك لا يكون تعارضا، ولا يصرف لفظ القرآن من الإيجاب إلى الندب بمثله. وأيضا: في خبر الأعرابي ما يدل على ما ذكرنا؛ لأن فيه: "فإذا فعلت ذلك: فقد تمت صلاتك، وإن أنقصت منها شيئا: أسقطت من صلاتك". ومعلوم أن النقصان لا يكون إلا مع بقاء الأصل، فقد دل لفظ الخبر على أن ترك فاتحة الكتاب، بوجب نقصا فيها، ولا منع صحة الأصل. * ويدل على ما قلنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل صلاة لا

يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج"، فالخداج: النقصان. يقال: أخدجت الناقة: إذا ولدها ناقصا. ومنه ما روي عن علي رضي الله عنه في صفة الخوارج الذين قتلهم: "أن فيهم رجلا مخدج اليد": أي ناقصا. فقد أثبتها ناقصة مع ترك فاتحة الكتاب، ولو كانت القراءة من فرضها: لم تكن ناقصة بتركها، بل كانت باطلة، لا يثبت منها شيء. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليصلى الصلاة يكتب له نصفها، ربعها، عشرها"، فأثبتها ناقصة على الوجه الذي ذكرنا، ولو كانت غير جائزة: لما كنت له منها شيء. فإن قيل: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل صلاة لا قراءة فيها فهي خداج"، فينبغي أن يدل ذلك على أن ترك القراءة لا يفسدها، وليس هذا من قولك. قيل له: كذلك يقتضي ظاهر لفظه لولا قيام الدلالة على أن القراءة المذكورة في هذا الحديث هي ما ذكر في الخبر الآخر، وهي فاتحة الكتاب.

* وإنما اعتبر أبو حنيفة قراءة آية، قصيرة كانت أو طويلة بقوله تعالى:} فاقرءوا ما تيسر من القرءان {،وذلك من القرآن. فإن قيل: يجوز قراءة ما دون الآية بظاهر اللفظ. قيل له: لم يختلف موجبو فرض القراءة في الصلاة، أن قراءة ما دون الآية لا تجزيء به الصلاة، فخصصناه بالإجماع، واختلفوا في جوازها بالآية الواحدة، فقضى لفظ الآية بجوازها، إذ لم تقم الدلالة على غيرها. مسألة: [عورة الرجل في الصلاة] قال أبو جعفر: (ومن صلى من الرجال فستر ما دون سرته إلى ركبته، ووارى ركبتيه في ذلك: أجزأه). وذلك لأن هذا من الرجل عورة، لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو ميسرة محمد بن الحسن [...] قال: حدثنا محمد بن ثعلبة قال: حدثنا ابن سواء عن سعيد بن أبي عروبة عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن جرهد عن أبيه أن الرسول صلى الله عليه

وسلم مر به وهو كاشف عن فخذه، فقال: "غطها، فإن الفخذ من العورة. ورواه أيضا معمر بن عبد الله بن نضله عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفخذ عورة، والفرج عورة فاحشة". وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فخذ الرجل من عورته". وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله

عليه وسلم: "كل شيء أسفل من سرته إلى ركبته عورة". حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا موسى المروذي الطهماني قال: حدثنا يعقوب بن الجراح قال: حدثنا المغيرة بن موسى عن سوار بن داود عن محمد بن جحادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بذلك. [السرة ليست عورة، والركبة عورة:] * فدل هذا الحديث على معنيين: أحدهما: أن السرة ليست بعورة؛ لأنه قال: "كل شيء أسفل من سرته ... ". والثاني: أن الركبة عورة، ودلالته على ذلك من وجهين: أحدهما: أنه لو اقتصر على قوله: " كل شيء أسفل من سرته عورة": لدخل فيه سائر بدنه، مما هو أسفل السرة، فلما قال: "إلى ركبته"، كان ذكر الركبة فيه لإسقاط ما عداها، كقوله تعالى:} وأيديكم إلى المرافق {. والثاني: أن: "إلى": لما كانت غاية، واحتمل دخول الركبة فيها، واحتمل غيره، كان اعتبار جهة الحظر أولى في إيجاب ستر الركبة.

وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا عبدان بن محمد المروذي قال: حدثنا محمد بن غالب الأنطاكي قال: حدثنا أبان بن سفيان قال: حدثنا أبو هلال عن ابن عقيل عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مابين السرة إلى الركبة عورة". ولما ثبت أن ما بين السرة إلى الركبة عورة: لم تجز الصلاة مع كشفه. * والدليل على أن ستر العورة من شرائط صحة الصلاة، قول الله تعالى:} خذوا زينتكم عند كل مسجد {، وهذا يدل على وجوب ستر العورة في الصلاة من وجهين: أحدهما: عموم اللفظ المقتضي لحال الصلاة وغيرها. والثاني: تخصيصه إيجاب الستر بالمسجد. ومعلوم أن المسجد للصلاة، فدل على أن المراد ستر العورة في الصلاة، ولو كان المراد ستر العورة من الناس فحسب، دون الصلاة لما كان لتخصيصه إياه بالمسجد معنى.

ويدل عليه حد أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصلي أحد منكم في ثوب واحد، ليس على فرجه منه شيء". فمنع الصلاة في حال كشف العورة. وروى قتادة عن محمد بن سيرين عن صفية بنت الحارث عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار". قال أبو بكر أحمد: والمعنى: من بلغت الحيض من النساء؛ لأن الحائض لا صلاة عليها، وقد دل هذا الخبر على معنيين: أحدهما: أن من شرائط الصلاة ستر العورة. والثاني: أن رأس المرأة عورة، ويجب ستره في الصلاة.

مسألة: [عورة المرأة في الصلاة] قال أبو جعفر: (أما المرأة فتواري في صلاتها كل شيء منها، إلا وجهها وكفيها وقدميها). قال أبو بكر: وذلك لأن جميع بدنها عورة، لا يحل للأجنبي النظر إلية منها إلا هذه الأعضاء. ويدل عليه قول الله تعالى}:يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها {: روى أنها الكحل والخاتم، فدل أن يديها ووجهها ليسا بعورة.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا

بخمار"، فدل أن رأسها عورة، وما كان عورة: وجب ستره في الصلاة، واليد والوجه والقدم ليست بعورة: فلا يلزمها سترها في الصلاة. مسألة: [عورة الأمة في الصلاة] قال أبو جعفر: (ولا يجب على الأمة وأم الولد والمدبرة والمكاتبة تغطية رؤوسهن في الصلاة). قال أبو بكر: وذلك لأن شعر الأمة ليس بعورة؛ لأنه يجوز للأجنبي النظر إليه، فصار كشعر الرجل. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول للإماء: "اكشفن رؤوسكن، ولا تشبهن بالحرائر". لأن الناس متفقون على أن لها أن تسافر بغير محرم، فصار حكمها معهم، كحكم ذوي المحارم، ولذي المحرم أن ينظر من ذات محرمه إلى رأسها. مسألة: [الترتيب في قضاء الفوائت] قال أبو جعفر: (ومن ذكر صلاة فائتة، وهو في أخرى من الصلوات

الخمس، فإن كان بينهما أكر من خمس صلوات: مضى فيها، ثم قضى التي عليه، وإن كان أقل من ذلك: قطع ما هو فيه، وصلى الفائتة، إلا أن يكون في آخر وقت التي دخل فيها، يخاف فوتها، فيتمها، ثم يقضي الفائتة). قال أبو بكر أحمد: كان أبو حنيفة يوجب الترتيب في الفوائت ما لم تكن الفوائت ستا، فإذا صارت ستا: سقط الترتيب. وروي عن محمد في غير الأصول: أن الفوائت إذا كن خمسا، ولم يبقي من وقتهن شيء، أنها بمنزلة الست. * والحجة في وجوب الترتيب: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاتته أربع صلوات يوم الخندق، حتى كان بهوي من الليل قضاهن على الترتيب".

فدل ذلك على وجوب الترتيب في الفوائت من وجهين: أحدهما: أن فعله ذلك وارد مورد البيان؛ لأن فرض الصلاة مجمل في الكتاب، فمهما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل في أوصاف الصلاة وأفعالها: فهو وارد مورد البيان، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد على وجه البيان: فهو على الوجوب، إلا أن تقوم الدلالة على الندب. والجهة الأخرى: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وقد صلى الفوائت على الترتيب، فلزم بمضمون الخبرين إيجاب الترتيب. * دليل آخر: وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها". وروي: "لا كفارة لها إلا ذلك". وروي: "لا وقت لها إلا ذلك". فجعل وقت الذكر أخص بالفائتة منه بصلاة الوقت، ولما كان كذلك: صارتا كالفجر والظهر، لما اختص كل واحد منهما بوقت، لزم فيهما الترتيب. وأيضا: لما صار الوقت أخص بالفائتة منه بصلاة الوقت، أشبهتا

الظهر والعصر بعرفات، وأن وقت الظهر لما كان أخص منه بالعصر، لزم فيهما الترتيب. فإن قيل: فهذه العلة موجودة في آخر الوقت. قيل له: ليس كذلك؛ لأن آخر الوقت أخص بصلاة الوقت منه بالفائتة، لقيام الدلالة عندنا على أنه منهي عن فعل الفائتة، وترك صلاة الوقت، فلم يكن عليه وجوب الترتيب في أول الوقت، كوجوبه في آخره. * ودليل آخر: وهو اتفاق الجميع على وجوب الترتيب بين صلاتي عرفة، والمعنى فيه اجتماع صلاتين واجبتين غير مفعولتين على وجه التكرار في وقت واحد يتسع للصلاتين جميعا، وذلك موجود في الفائتة مع صلاة الوقت. فإن ألزمونا على ذلك إيجاب الترتيب فيما زاد على اليوم والليلة. قيل لهم: أما ما تقدم من دلائل السنة، فلا يدخل ذلك عليه؛ لأن فعله صلى الله عليه وسلم إنما ورد فيما كان أقل من يوم وليلة. أما علتنا هذه، فلا يلزم عليها ما ذكرت أيضا؛ لأنا جعلنا العلة اجتماع وجوب صلاتين غير مفعولتين على وجه التكرار، فإذا زادت على اليوم والليلة: وقع فيها تكرار. * وهذا معنى صحيح قد اعتبره أصحابنا في كثير من مسائلهم، ألا ترى أنهم يجوزون تقديم بعض ركعات الصلاة على بعض، وترك الترتيب

فيها، وذلك كالذي ينام خلف الإمام حتى يصلي الإمام ركعة، ثم يحدث الإمام، فيقدمه أنه مأموم، وأنه يبدأ بالركعة التي نام فيها خلفه، ثم يبني على صلاة الإمام، فإن لم يفعل، وبنى على صلاة الإمام، ثم قضى الركعة أجزأته. وأصل هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا إذا أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الصلاة، فقضوا الفائت، ثم تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جاء معاذ رضي الله عنه، وقد فاته بعض الصلاة، فترك قضاء الفائت، وتابع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على ما صنعت؟ فقال: ما كنت لأجدك على حال إلا أتابعك عليها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سن لكم معاذ، فكذلك فافعلوا". فقدم معاذ رضي الله عنه ما كان حكمه أن يؤخره، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادتها، فصار ذلك أصلا في جواز الصلاة مع ترك الترتيب في الركعات. ولهذا المعنى قالوا فيمن ترك سجدة من الركعة الأولى، أنه جائز له قضاؤها في الثانية؛ لأنها مفعولة على وجه التكرار. ومن أجله أجازوا ترك الترتيب في قضاء صوم شهر رمضان إذا كان

مفعولا على وجه التكرار. وأوجبوا الترتيب بين السجود والركوع؛ لأن كل واحد منهما غير مفعول على وجه التكرار، وفعل السجدة الثانية إنما يقع على جهة تكرار فعل قد وقع مثله، فثبت حكمها مع ترك الترتيب. وأيضا: في الفرق بين انضمام الست في الفوات وما دونها: أنه قد ثبت وجوب الترتيب في القليل منها، وثبت أيضا سقوطه في الكثير؛ لأنا لو أجبناه لوجب أن يكون: لو فاتته صلاة، فصلى عشرين سنة، وهو ذاكر لها، أن لا يجزيه شيء منها، وهذا قول فاحش الخطأ، خارج عن أقاويل الفقهاء، فثبت أن حكم الترتيب ساقط في الكثير. واحتجنا إلى حد فاصل بين القليل والكثير، وقد ثبت عندهم أيضا أن انضمام ست صلوات يسقط الفرض في حال الإغماء، وأن ما دونها لا يسقطه، فوجب أن يكون هذا هو الحد الفاصل بين القليل والكثير في إيجاب الترتيب، لتعلق حكم سقوط الفرض بانضمام الست دون ما عداها. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا التي أقيمت، وإن كان عليه صلاة فائتة.

قيل له: المراد به إذا لم يكن عليه صلاة فائتة، بدلالة اتفاق الجميع على جواز فعل الفائتة في هذا الحال. وأيضا: فما ذكر من الدلالة تخصه. فإن قيل: لو كان الترتيب فرضا، لما أسقطه النسيان، كما لم يسقط ترتيب السجود على الركوع بالنسيان، إذ كان فرضا. قيل له: معلوم أن الترتيب إنما يجب بين صلاتين واجبتين، والصلاة المنسية ليست واجبة في حال النسيان، فاستحال إيجاب الترتيب. وأما ترتيب السجود على الركوع، فمخالف للصلاتين، وذلك لأن منزلة السجود من الركوع، كمنزلة الصلاة من الوقت، فلما لم يسقط فرض الوقت بالنسيان، كذلك لم يسقط ترتيب السجود على الركوع. ومما يبين ذلك أنه لا يجوز سقوط فرض السجود، إلا مع سقوط فرض الركوع، وأن كل واحد منهما متعلق بالآخر، فإما أن يسقطا معا، أو يثبتا معا، فلما كان كذلك، لم يكن للنسيان تأثير في إسقاطه. وأما الصلاتان فقد يجوز سقوط فرض إحداهما، مع ثبوت فرض الأخرى، فلما لم يكن عليه فعل الصلاة المنسية في حال النسيان، صح له فعل صلاة الوقت. * وإنما قلنا إنه يبدأ بصلاة الوقت، إذا خاف فوتها إن بدأ بالصلاة

الفائتة: من قبل أن فعل الصلاة في الوقت فرض، والترتيب فرض، ولا يمكنه فعلهما جميعا، فقد دفع إلى ترك إحداهما، إما الوقت وإما الترتيب، وفرض الوقت آكد من فرض الترتيب؛ لأن لآخر الوقت تأثيرا في إسقاط الفرض وإيجابه، بدلالة أن المرأة إذا حاضت في آخر الوقت: سقط عنها فرض الصلاة، ولو طهرت في آخر الوقت: لزمها فرض الصلاة، وليس للترتيب هذه المزية، فصار الوقت آكد من الترتيب، فلذلك ترك الترتيب من أجله. ويدل على تأكد حكم الوقت على الترتيب: أن الترتيب يسقطه النسيان، وفرض الوقت لا يسقطه النسيان. مسألة: [الترتيب بين الوتر الفائت وصلاة الفجر] قال: (ومن ذكر الوتر من ليلته، وهو في صلاة الفجر، فسدت عليه، وصلى الوتر، ثم الفجر، إلا أن يكون في آخر وقتها، ويخاف أن يفوته الفجر إن صلى الوتر، وقال أبو يوسف ومحمد: الوتر لا يفسد الفجر). [بحث مطول في وجوب الوتر:] قال أبو بكر أحمد: المشهور من مذهب أبي حنيفة وجوب الوتر، فقد حكي أن أبا حنيفة سئل عن الصلوات المكتوبات كم هي؟ فقال: خمس، فقال السائل: فما تقول في الوتر؟ قال: واجب. قال السائل: هذا غلط في الحساب.

فجهل السائل، ولم يفرق بين المكتوبة والواجب، وظن أنه إذا قال: هو واجب، فقد قال: إنه من المكتوبة. وقد يكون واجب ليس بمكتوبة، كصلاة العيدين هي واجبة، ولا يقال: إنها مكتوبة، ولا وجوبها كوجوب صلاة الجمعة، وكغسل الميت واجب، وليس كغسل الجنابة، وصدقة الفطر واجبة، وليست كالزكاة في الوجوب، وسجدتا السهو واجبتان، لا يرخص في تركهما، وليستا كسجود الصلاة. [الوجوب على مراتب في الشرع:] فليس في إطلاق لفظ الوجوب في الوتر، ما يقتضي إلحاقه بالمكتوبة، إذ كان الوجوب على مراتب الشرع، وطرق الواجبات مختلفة، فمنها ما ثبت بنص القرآن، ومنها ما ثبت بالسنة من طريق التواتر والاستفاضة، ومنها ما طريقه أخبار الآحاد، ويسوغ الاجتهاد فيه، وطريق إثبات وجوب الوتر: أخبار الآحاد، فلم يكن كالمكتوبة. * ولأبي حنيفة في قوله هذا، من السلف ما لو اكتفي بهم في تصحيح المقالة، لكان فيهم غنى وكفاية، وأنا ذاكر قول من قال من السلف بمثل مقالته في الوتر، ثم نشرع في الحجاج لها، بما يوضح عن صحتها إن شاء الله. فمن ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "ليس الوتر بحتم

كصلاة المغرب، ولكن أوتروا يا أهل القرآن". فهذا القول يدل على أنه كان يراه واجبا، وأن وجوبه عنده، ليس كوجوب المكتوبة، وذلك لأنه أمر به بقوله: "أوتروا"، وأخبر أن حتمه ليس كحتم المغرب. ولو لم يكن يراه حتما واجبا لقال: ليس بحتم، فيعقل منه نفي الوجوب، وأنه ليس كالمغرب، فلما قال: "ليس بحتم المغرب": علم أنه أراد أنه ليس وجوبه كوجوب المغرب، وأنه دونه في الوجوب. وقد روى أبو معشر عن إبراهيم عن الأسود بن يزيد عن عبد الله رضي الله عنه قال: "الوتر واجب على كل مسلم، والتكبير قبل القنوت". وروى عبد الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله رضي الله عنه: "الوتر يجب كصلاة المغرب وتر النهار"، فأطلق عبد الله رضي الله عنه لفظ الوجوب على الوتر.

وروى أبو قيس عن علقمة قال: "الوتر واجب". وقال إبراهيم بن ميسرة عن مجاهد قال: "الوتر واجب، ولم يكتب". وقال أبو محمد الأنصاري للمخدجي رضي الله عنهما: "الوتر واجب". وخالفه عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فهذا ما حضرنا من قول السلف. * ومما يدل على وجوبه: ما ورد من الآثار المختلفة الألفاظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي على اختلاف ألفاظها دالة على وجوبه. فمن ذلك: ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك قال: حدثني قريش بن حيان العجلي قال: حدثنا بكر بن وائل عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب

الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوتر حق على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فعل"، وذكر الحديث. وروى أبو الحسن الكرخي قال: حدثنا إبراهيم بن موسى الجوز .... قال: حدثنا يعقوب الدورقي، ومحمد بن ميمون الخياط- وهذا لفظ- قال: حدثنا سفيان عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أب أيوب الأنصاري قال: "الوتر حق واجب، فمن شاء أوتر بسبع، ومن شاء أوتر بخمس، ومن شاء أوتر بثلاث، ومن شاء أوتر بسبع، ومن شاء أوتر بخمس، ومن شاء أوتر بثلاث، ومن شاء أوتر بواحدة، ومن غلب إلا أن يومئ: فليومئ". فقد نص في هذا الخبر على الوجوب من وجوه: أحدهما: قوله: "حق عليه": وليس في ألفاظ الوجوب شيء آكد من قول القائل: حق عليه، ألا ترى أن الشهادات لا تقبل فيها الألفاظ المحتملة للمعاني، ولو قال الشاهد: "أشهد أن لفلان على هذا ألف درهم حق عليه": كانت الشهادة صحيحة، فدل أن قوله: "حق عليه": يقتضي الوجوب، ولا يحتمل غير ذلك. وآخر: وهو أنه قال في حديث سفيان: "حق واجب"، فنص عليه.

وقوله: "من غلب إلا أن يومئ: فليومئ": يدل عليه أيضا من وجهين: أحدهما: أن أمره بالفعل يقتضي الوجوب. والثاني: أمره بفعله إيماء، وليس ذا صورة من النوافل. * وحديث آخر: وهو حديث أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أهل القرآن أوتروا، فإن الله وتر يحب الوتر". والأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. فقال أعرابي: ما تقول؟ قال: "ليس لك، ولا لأصحابك": فهذا لفظ الإيجاب؛ لأنه أمر، والأمر عندنا للوجوب. فإن قيل: لما خص أهل القرآن، دل على أنه غير واجب؛ لأن ما كان واجبا، لا يختلف في حكمه أهل القرآن وغيرهم. قيل له: لم ينفه عن غير أهل القرآن، وإنما فيه إيجابه على أهل القرآن، وإذا وجب على أهل القرآن، وجب على غيرهم، كما قال الله

تعالى:} وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون {، فخص المؤمنين، والكفار بمثابتهم في الأمر بالتوبة. وأيضا: فإنما أراد من آمن بالقرآن، واعتقد صحته، كما قال الله عز وجل:} يا أهل الكتاب {، والمراد من اعتقد الإيمان بالكتاب، لا من حفظه وقرأه. فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "ليس لك، ولا لأصحابك": يدل على أنه ليس بواجب؛ لأن الأعراب وغيرهم لا يختلفون في الوجوب. قيل له: يجوز أن يكون الأعرابي كان كافرا. وإن كان مسلما، يحتمل أن يريد: ليس لك، لا لأصحابك خاصة، بل للناس عامة، وإنما قال ذلك؛ لأنه علم أن ظن الأعرابي سيسبق إلى أنه لأهل القرآن خاصة، فأخبره أنه للناس عامة. * حديث آخر: وهو حديث خارجة بن حذافة العدوي رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، هي الوتر، فجعلها لكم مابين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر".

وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم على أمتي الخمر، والميسر، والمزامير، والكوبة، وزادني صلاة الوتر". وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زادكم صلاة، فاحفظوها، وهي الوتر". فكانت الدلالة من هذه الأخبار على وجوبها من وجهين: أحدهما: قوله: "فاحفظوها"؛ لأنه أمر يقتضي الوجوب. والثاني: قوله: "زادكم": والزيادة إنما تقع على الواجبات، لا على النوافل؛ لأن النوافل لا غاية لها، فتقع عليها الزيادة، والواجبات ذوات عدد معلوم، فيصح الزيادة عليها. فإن قيل: إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "زادكم"، ولم يقل: زاد عليكم.

قيل له: إذا صح أنه أراد الزيادة على الواجبات، لم يختلف حكم قوله: "زادكم"، و: "زاد عليكم"؛ لأن الزيادة على الواجب، لا تكون إلا واجبا. وعلى أنك إذا حملته على الإباحة، فقد جعلته كمن قال: "زاد لكم"، وليس ذلك في اللفظ. وعلى أنه لا فرق بين قوله: "زادكم"، و: "زاد عليكم" قال الله:} زدناهم عذابا فوق العذاب {، وقال:} فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا {، هو عليهم، لا لهم. * حديث آخر: وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عوف قال: حدثنا عثمان بن سعيد عن أبي غسان عن محمد بن مطرف المدني عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: "من نام عن وتره، أو نسيه، فليصله إذا ذكره". وهذا الحديث يدل من وجهين على وجوب الوتر: أحدهما: الأمر بفعله. والثاني: إثباته في الذمة بالفوات بإيجابه قضاءه عليه، وهو كقوله عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: "من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها".

* وحديث آخر: وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمود بن محمد قال: حدثنا يحيى بن داود قال: حدثنا وكيع عن الخليل بن مرة عن معاوية بن قرة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يوتر، فليس منا". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أو داود قال: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا أبو إسحاق الطالقاني قال: حدثنا الفضل بن موسى عن عبيد الله بن عبد الله العتكي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الوتر حق، فمن لم يوتر، فليس منا". ومثل هذا القول لا يطلق إلا في ترك الواجبات، وهو كقوله: "من غشنا، فليس منا"، و: "من حمل علينا السلاح، فليس منا". * ودليل آخر: هو حديث أبي الدرداء، وأبي هريرة رضي الله عنهما: "أوصاني خليلي ألا أنام إلا على وتر"، وهو مشهور.

فإن قيل: ذكر فيه صلاة الضحى، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وليسا واجبين، فكذلك الوتر. قيل له: ظاهره يقتضي وجوب الجميع، وخصصنا صلاة الضحى، والصوم بالإجماع. * ويدل على وجوبه من وجهة النظر: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له وقتا يختص به كسائر الواجبات، فدل على وجوبه؛ لأن النوافل لا تختص بأوقات، وإنما تتبع الفروض، فلما كان وقت الوتر المستحب ما بين العشاء الآخر إلى طلوع الفجر، ويكره تأخير العشاء الآخرة إلى ما بعد نصف الليل، ثبت أن له وقتا يستحب فعله فيه، دون سائر الصلوات. * واحتج من خالف في وجوب الوتر من الآثار: بحديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات كتبهن الله على عباده"، ووجوب الوتر يقتضي أن يكون ستا. وبحديث مالك عن أبي سهيل بن مالك عن أبيه عن طلحة رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فذكر الحديث إلى قوله: "خمس صلوات في اليوم والليلة"، قال: هل علي غير ذلك؟ قال: "لا، إلا أن تطوع بخير". وبما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم

قال: "ثلاث هن علي فريضة، ولكم تطوع: الأضحى، والوتر، والضحى". واحتجوا من ظاهر القرآن بقوله تعالى:} حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى {، والست لا واسطة لها. * قيل له: أما قوله: "خمس صلوات كتبهن الله على عباده": فالمراد به المكتوبات، وليس الوتر مكتوبة. وأيضا: فإن وجوب الوتر متأخر لقوله: "زادكم صلاة"، وهو "كنهيه عن كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير"، فلا يعترض عليه بقوله تعالى:} قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما {؛ لأنه لم يكن المحرم في ذلك الوقت غير ما في الآية، ثم حرم بعد. وكما لم ينف هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم وجوب صلاة العيدين، والصلاة على الجنازة، كذلك لا ينفي وجوب الوتر. وأما حديث طلحة رضي الله عنه، فمحمول على ذكرنا أيضا؛ لأن

وجوب الوتر متأخر بقوله: "زادكم صلاة" وأيضا: روى إسماعيل بن جعفر هذا الحديث عن أبي سهيل بإسناده، وذكر فيه أن الأعرابي قال: ما فرض الله علي من الصلاة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس". فإنما سأل عن الفرض، وأبو حنيفة لا يقول إن الوتر فرض. وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فمن طريق أبان بن أبي عياش عن عكرمة عن ابن عباس، وأبان ممن يضعف. ولو ثبت، كان خبر الزيادة أولى؛ لاقتضائه وجوب ما لم يكن واجبا قبله. وأيضا: فإذا روي خبران في أحدهما الإيجاب، وفي الآخر نفيه، كان خبر الوجوب أولى. وأما قوله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطي}: فإنه قد قيل في الوسطى: إنها صلاة الظهر؛ لأنها وسطى صلاة النهار. وعلى أنه جائز أن يكون قبل الزيادة.

ويجوز أن يكون وسطى المكتوبات، دون الواجبات التي ليست بمكتوبات. * واحتجوا من جهة النظر: بأنه لا يؤذن له، ولا يقام إذا صلي جماعة في شهر رمضان. وبأنه لو كان واجبا، لصلي جماعة في سائر السنة. وبأن وقته وقت العشاء الآخرة، فهو تابع للفرض كالنوافل. وبأنه لو كان واجبا، لورد النقل به متواترا، لعموم الحاجة إليه. * فالجواب: أن صلاة العيدين والجنازة واجبة، ولا يؤذن لها ولا يقام. وأيضا: هو كصلاتي المزدلفة يكتفى فيهما بأذان وإقامة. وأما فعله في جماعة، فإنه يصلى جماعة في شهر رمضان، فينبغي أن يدل على الوجوب، وإذا ثبت وجوبه في شهر رمضان، ثبت في سائر السنة. وأيضا: الظهر يوم الجمعة لا تصلى جماعة في المصر، وكذلك النذر، ولم ينف ذلك وجوبهما. وأما فعله مع العشاء في وقت واحد، فإن الجمعة تفعل في وقت الظهر، وتصلى العصر بعرفة في وقت الظهر، ولم ينف الوجوب. وأما وروده من طريق التواتر، فلم تختلف الأمة في نقله قولا وفعلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذهب مخالفنا عن جهة الإيجاب

إلى الندب بالتأويل. مسألة: [تأديب الرجل ولده المميز على الطهارة والصلاة] قال أبو جعفر: (يؤدب الرجل ولده على الطهارة، والصلاة إذا عقلها، ولا تجب عليه الفرائض منهما، ولا من غيرهما حتى يبلغ). وذلك لما روى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يؤمر الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، فإذا بلع عشرا فاضربوهم عليها". ولا يجب ذلك عليه؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال، "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتي يحتلم". ولا خلاف بين الأمة أنه لا صوم عليه، ولا حج قبل البلوغ، فعلمنا أن أمره بالصلوات قبل البلوغ على وجه التعليم، وليمرن عليها ويعتادها.

وقال الله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا}: روي في التفسير: أن أدبوهم، وعلموهم. مسألة: [سجود القرآن أربع عشرة سجدة] قال أبو جعفر: (وسجود القرآن أربع عشرة سجدة: في الأعراف، والرعد، والنحل، وبني إسرائيل، ومريم، والحج سجدة، وهي الأولى، والفرقان، والنمل، وألم تنزيل، وص، وحم تنزيل: عند قوله، {يسأمون}، والنجم، وإذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك) قال أبو بكر: روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أن في القرآن إحدى عشرة سجدة، ليس في المفصل منها شيء، ولم يعدا الثانية من الحج سجدوا.

وروي عن علي وعبد الله رضي الله عنهما أنهما قالا: "عزائم السجود أربع: ألم تنزيل، وحم السجدة، واقرأ باسم ربك، والنجم". وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم، وسجد فيها". وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في: إذا السماء انشقت، و: اقرأ بأسم ربك الذي خلق". وروى ابن عباس وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة".

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "قرأ على رسول الله على الله عليه وسلم النجم، لم يسجد فيها". * فأما خبر ابن عباس رضي الله عنهما، فيحتمل أن يريد أنه لم يره يسجد في المفصل، وقد رآه غيره سجد في: {إذا السماء انشقت}، و: {اقرأ باسم ربك}. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "سجدت في: {إذا السماء انشقت}، و: {اقرأ باسم ربك} خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم". فثبت بما وصفنا السجود في المفصل. وقد عد ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم إحدى عشر سجدة سوى ما في المفصل، ولم يعدا الثانية من الحج. * وأما حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، فلا دلالة فيه على أن المفصل لا سجود فيه؛ لأنه جائز أن يكون تلاها في وقت لا يجوز السجود فيه: نصف النهار، أو عند الطلوع، والغروب، أو كان على غير طهارة وقد روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عمن أخره عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة منهن: والنجم.

وروى عن معمر عن ابن طاوس عن عكرمة بن خالد عن المطلب بن أبي وداعة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في المنجم بمكة". وروى عمرو بن العاص رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في: إذا السماء انشقت، وفي: اقرأ باسم ربك. فثبت بهذه الآثار السجود في المفصل. * وقد اختلف السلف في موضع السجود من حم السجدة. فروي عن ابن مسعود وابن عمر أن موضعه الآية الأولى عند قوله: {تعبدون}.

وقال ابن عباس وأبو وائل ومجاهد رضي الله عنهم: عند قوله: {لا يسئمون}، وهو قول أصحابنا؛ لأنه تمام القصة في ذكر الخشوع، والإخبار عن حال الساجدين. * واختلفوا في الثانية من الحج، فروي عن عمر وأبي موسى وأبي الدرداء رضي الله عنهم أنهم سجدوا فيها سجدتين. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن فيها سجدة واحدة، وهي الأولى.

وكذلك روي عن ابن عمر رضي الله عنهما في رواية، وروي عنه أنه سجد فيها سجدتين. والذي دل على أن الثانية ليست بسجدة: أنها ذكرت مع الركوع، والسجود الذي مع الركوع هو الصلاة، والأمر بالصلاة لا يقتضي سجودا، لاتفاق المسلمين على أن قوله: {وأقيموا الصلاة}: وليس بموضع سجود. ومثل قوله تعالى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين}، لما ذكر معه الركوع، لم يكن موضع سجدة بالاتفاق. وليس يجب من حيث كان ذكر السجود موجودا فيه، أن يجعله موضع سجود، لان الله تعالى قد ذكر السجود في موضع لا يقتضي تلاوتها سجودا من التالي لها، نحو قوله: {فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين}. * والأغلب في مواضع السجود أن يكون خبرا عن مدح قوم لفعلهم،

أو ذمهم لتركه، وقد جاء موضع السجود بلفظ الأمر نحو قوله: {واسجد واقترب}، ونحو قوله تعالى: {فاسجدوا لله واعبدوا}، إلا أن العام الأكثر هو ما وصفنا، ولم نجد ذكر سجود مع ركوع موضع سجدة، فثبت أن الثانية من الحج ليست موضع سجود. فإن احتجوا بما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد عبد الرحيم البرقي: قال حدثنا ابن أبي مريم قال: أخبرنا نافع بن يزيد عن الحارث بن سعيد العتقي عن عبد الله بن منين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل، وفي سورة حج سجدتان". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح قال: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني ابن لهيعة أن مشرح بن عاهان أبا المصعب حدثه ان عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أفي سورة الحج سجدتان؟ قال: "نعم، ومن لم يسجدهما، فلا يقرأهما". قيل لهم: أما حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، فليس فيه بيان موضع الخلاف، وذلك لانه ليس فيه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال له:

"هذه مواضع السجود"، وجائز أن يكون قرأها على النبي صلى الله عليه وسلم، وظن أنها مواضع سجود، فأخبر عما عنده، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال صلى الله عليه وسلم: هذه مواضع السجود. هذا مع ما في سنده من الضعف. وأما حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، فإن راويه ابن لهيعة، وهو ممن يضعف. وعلى أنه إن كان ثابتا، فينبغي أن يدل على وجوب السجدة؛ لأنه قال: "فمن لم يسجدهما، فلا يقرأهما"، وهذا يقتضي النهي عن تركهما بعد تلاوتهما، وليس هذا قول المخالف. مسألة: [كيفية سجود التلاوة] قال أبو جعفر: (ويكبر لسجود التلاوة مستقبل القبلة). قال أبو بكر: وذلك لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود

قال: حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات الرازي قال: اخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة كبر وسجد، وسجدنا. قال عبد الرزاق: وكان الثوري يعجبه هذا الحديث. قال أبو داود: يعجبه لأنه كبر. وقال أبو بكر أحمد: هذا الحديث يدل على أنه مفعول على سنة سجود الصلاة؛ لان التكبير من سنته في الصلاة، فدل على أنه يحتذي به سجود الصلاة في استقبال القبلة، ورفع الرأس منه بالتكبير. * ولا يجب فيه تشهد، ولا تسليم. وذلك لأنه لا تحريمة له، والتسليم بموضوع التحليل. وليس كصلاة الجنازة؛ لأنه يدخل فيها بتحريمة، وليس التكبير المفعول للسجود: تكبير التحريمة، إنما هو تكبير الانحطاط للسجود، كما يفعله في سجود الصلاة، لا للتحريمة. ولا تشهد فيه؛ لأن التشهد لا يجب إلا في صلاه فيها ركوع وسجود، إلا ترى أن صلاة الجنازة ليس فيها تشهد. * ويدل على انه يفعله بتكبير، ويفعله على شبه سجود الصلاة؛ لأنه

لا يخلو من أن يكون نفلا أو واجبا، فإن كان نفلا، فإن النوافل محمولة على أصولها في الواجبات، وإن كان واجبا، فهو معطوف على الواجبات من السجود. * ويدل عليه انه لا يفعله إلا طاهرا كسجود الصلاة. [جواز الركوع بدل السجود عن قراءة السجدة]: قال أبو بكر أحمد: وأجاز أصحابنا أن يركع عن سجود التلاوة، وروى مثلا الأسود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ويدل عليه ما روي في تأويل قول الله تعالى: {وخر راكعا وأناب}، أنه خر ساجدا، فجعل الركوع عبارة عن السجود. * وأجازوا أيضا إذا كان في آخر السورة أن يركع للصلاة، فيجزئه،

وذلك لقول الله تعالى: {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون}، فذمهم على ترك السجود عند التلاوة، وقد حصل ها هنا سجود عقبيها، فقد أتى بموافقة الآية. وهذا كما يقول، فمن أراد دخول مكة، أنه لا يدخلها إلا بإحرام، وإن أحرم بحجة الإسلام، لم يلزمه للدخول شيء آخر. وكما يقول في الاعتكاف: إن من شرطه الصوم، فإن صام شهر رمضان، واعتكف فيه: جاز وقد روي نحو ذلك عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "ما كان في آخر سورة، فإن الرجل يركع بها، ويسجد". مسألة: [ايماء الراكب يجزئ عن سجود التلاوة]: وقال: (إن الراكب يومئ بها). وذلك لما حدثنا بن بكر قال: حدثنا أبو داود حدثنا محمد بن عثمان الدمشقي أبو الجماهير قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير عن نافع عن عمر رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ عام الفتح سجدة، فسجد الناس كلهم:

منهم الراكب والساجد في الأرض، حتى إن الراكب يسجد على يديه". مسألة: [ليس على المرتد قضاء الصلوات] قال أبو جعفر: (ولا يقضي المرتد شيئا من الصلوات، ولا بما تعبد به سواها). قال أبو بكر: والدليل عليه: قول الله عز وجل: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}، وذلك عام في كل كافر. وقوله تعالى: {ومن يكفر بالإيمن فقد حبط عمله}، وقال: {لئن أشركت ليحبطن عملك}، فأخبر أن الكفر يحبط العمل، فصار بمنزلة من لم يزل كافرا، فإذا أسلم: لم يلزمه قضاء الصلوات، كذلك المرتد؛ لأن إيمانه قد بطل. ولما لم يجب قضاء الصلوات المفعولة في حال الإسلام مع بطلانها بالردة، كذلك لا يجب عليه قضاء المتروكة. فإن قيل: إنما يحبط عمله إذا مات على الردة، لقوله: {ومن يرتد منكم

عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة}. قيل له: المعني: مات ذلك، حبط عمله، لهذه الآية. ولم ينف بطلان العمل بغيره، وسائر ما تلونا من الآي يوجب بطلان العمل بالردة نفسها، فنستعمل الآيات كلها. وهذا كقوله تعالى: {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله}، والأجر واجب لمن لم يمت قبل بلوغ موضع الهجرة. * ويدل على ذلك من جهة السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام يجب ما قبله"، وظاهر ذلك يوجب أن لا قضاء على المرتد بعد الإسلام. * دليل آخر: وهو اتفاق الجميع على سقوط الفضاء على الكافر الذي ليس بمرتد، ووجوبه على المسلم إذا تركها.

فعلمنا أن المعنى الموجب لقضاء الصلاة عند الترك: هو وجود الإسلام، وأن المسقط لقضائها: وجود الكفر. فإن قيل: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "لو منعوني عقالا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم عليه". وهذا يدل على وجوب الزكاة في حال الردة؛ لأن المسلمين قد سموهم مرتدين. قيل له: لأنهم قالوا: لا نؤديها في المستقبل. ونحن أيضا نقاتلهم على الإسلام، وعلى أن يؤدوها في المستقبل بعد الإيمان، فأما ما كان من ذلك قبل الإسلام، لم يجر له ذكر في الخبر. وقد غنم المسلمون أموال أهل الردة، فلم يقل أحد منهم: ينبغي أن نبدأ بالصدقات التي منعوها في حال الردة، بل أجروها مجرى سائر الغنائم، فدل على أنهم رأوا سقوطها بالردة، وأنهم إنما قاتلوهم على قبولها في المستقبل، وأدائها بعد الإسلام. * دليل آخر: وهو أنه لا يصح خطابه بفعل الصلاة إلا على شرط وجود الإيمان في حال فعلها، فما تركه قبل وجود شرط تكليفه: لم يجب قضاؤه، كمن لم يزل كافرا.

فإن قيل: ترك الإيمان كترك الطهارة. قيل له: ينبغي أن يلزم الكفار إذا أسلموا قضاء الصلوات المتروكة وإن لم يكونوا مرتدين. وأيضا: قد يصح ورود العبادة بأداء الصلاة بلا طهارة، ولا يصح ورود العبادة بإقامة الصلاة دون الإيمان. فإن قيل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها": يوجب القضاء؛ لان النسيان الترك، قال الله تعالى: {نسوا الله فنسيهم}. قيل له: اسم النسيان إنما يتناول تركا على وصف، وهو فقد الذكر معه، آلا ترى أنه لا يصح أن يقال: نسي صلاته عامدا، كما يقال: تركها عامدا: ويقول: تكلم في صلاته ناسيا، ولا يقول: تكلم فيها تاركا، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "فليصلها إذا ذكرها". وأما قوله عز وجل: {نسوا الله فنسيهم}: فإنه مجاز ليس بحقيقة؛ لأنهم لما صاروا في الإعراض عن أمر الله كالناسي، أجرى عليهم لفظ

النسيان، ثم أجرى لفظ النسيان على الله عز وجل على وجه المقابلة، كقوله: {وجزاؤا سيئة سيئة مثلها}، والجزاء ليس بسيئة. فإن قيل: ذم الله المشركين بترك الصلاة والزكاة بقوله: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة}، وقال: {قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين}، وهذا يدل على وجوب قضائها إذا تركها. قيل له: هذا في جميع المشركين، وقد اتفقنا على أن المشرك غير المرتد لا قضاء عليه إذا أسلم، فالمرتد مثله. وأيضا: فإنا نقول: إنهم يستحقون العقاب بترك الصلاة والزكاة، مع ما يستحقونه منه بترك الإيمان، ولا دلالة في استحقاق العقاب بالترك، على لزوم القضاء. فإن قيل: الفصل بين المرتد وغيره من الكفار، أن المرتد قد كان التزم فعل الصلاة والزكاة وسائر شرائع الإسلام، فلا سبيل له إلى إسقاطها عن نفسه بالردة. قيل له: هذه دعوى عارية من البرهان، ونحن نخالفك فنقول: قد أسقطها عن نفسه بفعله. [ثم يقال له- وقد التزم تصحيح ما يلزمه من ذلك-: فأقم الدلالة على

صحة دعواك، فلم نحصل إلا على تكرار وصف المذهب]. ثم يقال له: وقد التزم تصحيح ما يلزمه من ذلك. ثم الردة قد أبطلت جميع ما فعله من الشرائع، ولم يجب عليه القضاء بعد الإسلام، فكذلك ما تركه في الردة. وأيضا: فإن سائر المشركين، قد ألزمهم الله الإيمان وشرائعه، ثم قد أسقطوها عن أنفسهم بتركهم الإيمان، حتى إذا أسلموا لم يجب عليهم القضاء. * * * * *

باب أقل ما يجزئ من أعمال الصلاة

باب أقل ما يجزئ من أعمال الصلاة مسألة: [فرائض الصلاة ست] قال أبو جعفر: (ولا فريضة في الصلاة إلا ست: التكبيرة الأولى) قال أبو بكر أحمد: المفروض عند أبي حنيفة ومحمد للافتتاح ذكر على وجه التعظيم، ولفظ التكبير يشتمل على جميعه؛ لأن قوله: "تحريمها التكبير": ينتظم كل ذكر على وجه التعظيم، إذ قد سمى القائل: (الله أعظم": ينتظم كل ذكر على وجه التعظيم، إذ قد سمي القائل: (الله أعظم)، و: (الله أجل): مكبرًا لله، وسمى من قال: (الله أكبر): معظمًا لله. ومن الدليل على ذلك قوله تعالى: {قد أفلح من تذكى * وذكر اسم ربه فصلى} والفاء للتعقيب في اللغة، وليس ذكر يكون عقيبه الصلاة بلا

فصل، إلا ذكر الافتتاح، فقد تضمنت الآية جواز الافتتاح بجميع ما كان ذكرًا لله تعالى. فإن قيل: لما قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ورأيناه افتتح الصلاة بلفظ التكبير، وجب أن يكون ذلك حتمًا. قيل له: ليس تكبير الافتتاح عندنا من الصلاة؛ لأن الدخول في الصلاة ليس منها، فلم يتناوله لفظ الخبر. وأيضًا: قد أجاز مخالفنا بـ: "الله الأكبر"، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما افتتحها بـ: "الله أكبر"، فدل أن المراد المعنى، لا اللفظ. فإن قيل: لما لم يجز أن يقوم: "الله أعظم" مقام: "الله أكبر" في الأذان، كذلك في الافتتاح. قيل له: قد كان أبو الحسن الكرخي يحكي عنهم أنه يجوز. وإن فرقنا بينهما، فالفرق ظاهر؛ لأن الأذان للإعلام، وتغيير اللفظ يسقط معنى الإعلام، وتكبير الافتتاح للتعظيم، وقد وجد. فإن احتجوا بما حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني قال: حدثنا علي بن عبد العزيز قال: حدثنا حجاج بن منهال قال: حدثنا حماد بن سلمة قال: حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن علي بن يحيي بن خلاد عن

عمه أن رجلاً دخل المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فصلى، فأمره رسول الله فأعاد مرتين أو ثلاثًان فقالك يا رسول الله! ما آلوت أن أتم صلاتي، فقال رسول الله صلى الله علي وسلم: "إنه لا تتم صلاة أحد من الناس حتى يتوضأ، فيضع الطهور مواضعه، ثم يقول: الله أكبر، ثم يحمد الله ويثني عليه، ويقرأ ما تيسر من القرآن، ثم يكبر فيركع حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: سمع الله لمن حمده؛ حتى يستوي قائمًا، ثم يكبر ويسجد حتى تطمئن مفاصله، فإذا لم يفعل ذلك لم تتم صلاته". قيل له: قال لي بعض من يتقن الحديث، إن هذا الحديث على هذا السياق لم يرو إلا بهذا الإسناد، وهو مرسل؛ لأن بين على بن يحيي بن خلاد، وبين عمه رفاعة بن رافع، رجل قد ذكر في سائر الأخبار عن أبيه عن عمه، إلا أنه لم يذكر فيها: "ثم يقول: "الله أكبر"، إنما يقول "ثم يكبر". وعلى أنه إنما نفي التمام، ولم ينف الأصل. وعلى أنه قد ذكر معه سائر السنن التي تركها لا يفسد الصلاة، فالتكبير مثلها. [تتمة فرائض الصلاة:] قال أبو جعفر: (والقيام، والقراءة في ركعتين، والركوع، والسجود، والقعود مقدار التشهد الذي يتلوه السلام، فمن ترك شيئًا من هذه الست أعاد الصلاة).

قال أبو بكر أحمد: أما فرض القيام، فإن الأصل فيه قوله تعالى: {وقوموا الله قانتين}، وقوله تعالى: {فأذكر الله قيمًا وقعودًا وعلى جنوبكم}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين رضي الله عنه: "صل قائمًا، فإن لم تستطع: فقاعدًا، فإن لم تستطع: فعلى جنب توميء إيماء". * وقد بينا جهة وجوب القراءة في ركعتين من الصلاة. * وأما القعود في آخر الصلاة: فالأصل فيه ما روي في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله علي وسلم أنه قال: "إذا رفع الرجل رأسه من آخر سجدة، وقعد، ثم أحدث: فقد تمت صلاته"، فجعل القعدة شرطًا في الإتمام. ولأن فرض الصلاة متعلق بالفعل، فكل فعل ورد عن النبي صلى الله

عليه وسلم في الصلاة، فهو واجب، إلا ما قام دليله. ولأن فرض الصلاة مجمل، وفعله صلى الله عليه وسلم فيها وارد علة وجه البيا، فهو على الوجوب حتى يقوم دليل الندب. * وأما اعتبار مقدار التشهد: فيما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال: حدثنا أوب عاصم قال: حدثنا أبو عوانة عن الحكم عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال: "إذا جلس مقدار التشهد، ثم أحدث: فقد تمت صلاته". وما كان من هذا الباب من المقادير، فلا سبيل إلى إثباته إلا من طريق التوقيف، كأعداد الركعات، ومقادير الحدود ونحوها، فمهما ورد فيه عن الصحابي من تقدير، حكمنا بأنه قال من جهة التوقيف. وكذلك ما روي عن علي رضي الله عنه في: "أن لا مهر أقل من عشرة دراهم". وما روي عن أنس وابن عباس وعثمان بن أبي العاص رضي الله عنهم في مقدار الحيض والنفاس.

[مسألة:] قال أبو جعفر: (ومن ترك ما سوى الست: لم يعد الصلاة، وكان مسيئًا في تركه متعمدًا). قال أبو بكر: وذلك لما بينا فيماس لف. ويكون مسيئًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "وما نقصته من ذلك، فإنما نقصته من صلاتك". *****

باب سجود السهو

باب سجود السهو مسألة: [وجوب سجود السهو، وسببه] قال أبو جعفر: (إذا سها الرجل في صلاته، فترك القعدة الأولى، أو قعد في غير موضع القعود ....) إلى أخر ما ذكر. قال أبو بكر أحمد: سجود السهو يجب لمعان: أما ترك فعل في موضعه مسنون فيه الذكر، أو إدخال فعل في الصلاة ليس منها، أو ترك ذكر كثير مسنون في موضع واحد، وهو أربعة أركان: التشهد، والقنوت في الوتر، وتكبيرات العيدين، والقراءة، ولا يقضي من هذه الأركان شيء إلا القراءة، وتكبير العيد ما لمي فرغ من الركوع، فأما التشهد والقنوت: فلا يقضيان. والأصل فيه: أن الفعل اليسير في الصلاة، مثل الالتفاتة ونحوها، لا يوجب سجود السهو بالاتفاق.

"وقام النبي صلى الله عليه وسلم في الثنتين من الظهر، فسبح به، فلم يرجع، وسجد للسهو"، فصار ذلك أصلاً في أن اليسير من ترك الفعل، أو الزيادة، لا يوجب السهو، وأن الكثير يوجبه. وأما الأذكار، فما كان منها ذكرًا كثيرًا مسنونًا في موضع واحد، فهو كالفعل الكثير: فيوجب تركه سجود السهو، وما كان يسيرًا، نحو تكبير الركوع والسجود، أو متفرقًا في مواضع: فلا يوجب السهو، كما لا يوجبه الالتفات مرة بعد أخرى. مسألة: [محل سجود السهود] قال: (وسجدتا السهو بعد السلام في جميع الأحوال، ويتشهد بعدهما، ويسلم منهما عن يمينه وعن يساره). قال أبو بكر أحمد: والقول بسجود السهو بعد السلام مذهب ابن مسعود، وابن عمر، وأنس، في آخرين من الصحابة رضوان الله

عليهم أجمعين. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار متظاهرة في سجود السهو بعد السلام، فمنها ما روي عنه فعلاً، ومنها ما روي عنه قولاً وأمرًا. فأما الفعل: فبرواية سعد بن أبي وقاص، والمغيرة بن شعبة، وعمران بن حصين، وأبي هريرة رضي الله عنهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو بعد السلام". فهؤلاء نقلوا حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم لسجود السهو، تركنا ذكر أسانيدها لشهرتها.

وروي الأمر بتأخير سجود السهو عن السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظًا عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن جعفر، وثوبان رضي الله عنهم. فأما حديث عبد الله، فحدثناه دعلج بن أحمد قال: حدثنا محمد بن نعيم وعبد الله بن محد بن شيرويه قالا: حدثنا إسحاق بن راهوية قال: حدثنا عبيد بن سعيد الأموي قال: حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شك أحدكم في الصلاة، فليتحر الصواب، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين". وقد سمعناه أيضًا في سنن أبي داود من طرق. وحدثنا دعلج قال: حدثنا محمد بن علي أو عبد الله المكي الصائع قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد الشافعي قال: سمعت فضيلاً - يعني ابن عياض - يقول: حدثني منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله. مثل هذه .... وحدثنا دعلج قال: حدثنا عبد الله بن ... قال: حدثنا عبد الله بن هاشم الطوسي قال: قال وكيع: "أيما أحب إليكم: الأعمش عن أبي وائل

عن عبد الله؟ أو: سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عب الله؟ فقال بعض القوم: الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله أقرب. فقال: "الأعمش شيخ، وأبو وائل شيخ، وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة، هم فقهاء". وروي عن وكيع أنه كان يقول: "إسناد الحجاز: هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، وإسناد الكوفة: سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه. وأما حديث عبد الله بن جعفر، فحدثناه محمد بن بكر قال نا أبو داود قال: نا أحمد بن إبراهيم قال: نا حجاج عن ابن جريج قالك أخبرني عبد الله بن مسافع أن مصعب بن شيبة أخبره عن عتبة بن محمد بن الحارث عن عبدالله بن جعفر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من شك في صلاته، فليسجد سجدتين بعد ما يسلم". وأما حديث ثوبان، فحدثناه عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا إسماعيل بن عياش عن

عبيد الله بن عبيد الكلاعي عن زهي بن سالم العنسي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في كل سهو سجدتان بعدما يسلم". فحكى هؤلاء لفظ النبي صلى الله عليه وسلم على تأخير سجود السهو عن السلام. فإن قيل: يحتمل أني ريد بن سلام التشهد. قيل له: قد روي في أخبار من نقل حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما يسقط هذا التأويل. وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن علي الخزاز قال: حدثنا سعيد بن سليمان قال: حدثنا حفص بن غياث عن أشعث عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشاء، فسلم في ركعتين، فخرج سرعان الناس، فقالوا: قصرت الصلاة؟! فجاء ذو اليدين رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال للقوم: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق يا رسول الله، صليت ركعتين، فصلى بهم ركعتين، ثم تشهد، ثم سلم ثم كبر فسجد، ثم كبر فرفع، ثم كبر فسجد، ثم كبر فرفع رأسه، ثم تشهد".

فأخبر في هذا الحديث بسلام بعد التشهد، وهو الذ يتحلل به من الصلاة، وذكر السجود بعده، فزال معه التأويل الذي ذكرته. وقد روي في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه نحو ذلك. وذكر في عامة الأخبار: "فلما فرغ من صلاته وسلم". وفي بعضها: "فلما تمت صلاته، وسلم"ز فعلمنا أن السلام الذي عقيبه سجود السهو، هو السلام الذي يتحلل به من الصلاة. وعلى أن إطلاق لفظ التسليم، يتناول السلام الموضوع للتحليل، وإنما ينصرف إلى غيره بدلالة، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "تحليلها التسليم"، أنه معقول به بالسلام الذي يلي التشهد. وقد روي أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه

وسلم في حديث الشاك في صلاته: "فليصل ركعة، وليسجد سجدتين من قبل أن يسلم". ورواه مالك وغيره عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يذكروا أبا سعيد. ورواه هشام بن سعد، فذكر فيه أبا سعيد. وروي ابن أخبي الزهري ومحمد بن إسحاق جميعًا عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا لم يدر أحدكم كم صلى، فليسجد سجدتين، قبل أن يسلم". زاد ابن إسحاق: "ثم ليسلم". وروي مالك والليث ومعمر بن عيينة هذا الحديث عن الزهرين فقالوا فيه: "فليسجد سجدتين، وهو جالس"، ولم يذكروا قبل السلام.

وهذا يفسد حديث ابن إسحاق، وابن أخبي الزهري في السجود قبل السلام. وروي مالك عن ابن شهاب عن الأعرج عن ابن بحينة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو قبل التسليم، ثم سلم". وليس ف يهذه الأخبار بيان موضع الخلاف؛ لأنا نقول: إن سجدتي السهو قبل السلام الثاني، وليس في هذه الأخبار أنه سجد قبل السلام الثاني أو الأول، ومن ادعى أنه سجد قبل السلام الأول، لم تثبت دعواه إلا بدلالة. بل الواجب عند اختلاف الأخبار، حمل جميعها على الوفاق، دون الخلاف والتضاد. وعلى أنه قد روي ابن بحينة رضي الله عنه ما ينفي تأويلهم الخبر على السلام الأول، وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا عبد الله بن صالح العجلي قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون عن الزهري عن الأعرج عن ابن بحينة رضي الله عنه قال:

"قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الركعتين، ولم يشهد، فسبح به الناس من خلفه كيما يجلسوه، فثبت قائمًا، فلما فرغ من الصلاة: سجد سجدتي السهو بعد التشهد، وبعد التسليم". فهذا لفظ يبطل ما ادعوه من تأويل خبر ابن بحينة رضي الله عنه على ما ذكروه، لأنه ذكر أنه سجد بعد الفراغ من الصلاة، وإنما يكون الفراغ من الصلاة بالتحلل منها، وذكره أيضًا: بعد التشهد وبعد التسليم. فإن قيل: فما فائدة ذكره قبل التسليم الثاني؟ قيل له: لأنه أوجب سلامًا آخر، وأبطل به قول من قال إنه لا يسلم بعد سجدتي السهو. وأيضًا: لما ذكر ابن بحينة رضي الله عنه سلامًا واحدًا، وذكر الباقون سلامين، كان خب الزائد أولى. فإن قيل: هلا استعملت الخبرين في حالين فجعلت حديث ابن بحينة رضي الله عنه في النقصان؛ لأنه كر فيه أنه قام من الثنتين، وخبر الآخرين في الزيادة، كما قال مالك بن أنس رضي الله عنه. ولأن النظر أيضًا يوجب الفصل بينهما؛ لأنه إذا نقص كان سجود السهو جبرًا للنقصان، وجبران الصلاة لا يفعل خارجًا عنها.

وأما الزيادة فليس يقع السجود من أجلها على وجه الجبر، وإنما يفعل ترغيمًا للشيطان، فيفعل خارجًا عنها. قيل له: في خبر عبد الله بن جعفر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شك في صلاته، فليسجد سجدتين بعد ما يسلم"، والشاك قد يزيد وينقص، ولم يفرق بينهما. وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى الخامسة، ثم سجد بعد السلام، وقال فيه: "إذا نسي أحدكم، فليسجد سجدتي السهو بعد السلام"، ولم يفرق بين الزيادة والنقصان. وقال المغيرة وأبو هريرة رضي الله عنهما: "قام النبي صلى الله عليه وسلم في الثنتين من الظهر، فسبح به، فلم يرجع، ثم سجد بعد السلام". فبطل اعتبار الفرق بين الزيادة والنقصان. وأما ما ذكروا من جهة النظر، فلا معنى له؛ لأن الزيادة في الصلاة نقصان فيها في الحكم، فلا يجب سجود السهو في حالة إلا للنقص، ويكون النقص تارة بترك بعض مسنونها، وتارة بترك بعض أفعال الصلاة وأذكارها في موضعه. وأيضًا فإنه يفعل سجود السهو ي الصلاة، وإن سلم؛ لأنه وإن تحلل منها بالسلام، فإنه يعود في حكمها، بعوده في السجود.

وأيضًا: فقد يقع جبران الشيء خارجًا عنه، كالنقص الواقع في الإحرام، يجبر بشاة يذبحها بعد الإحلال. ومالك بن أنس يقول: "لو زاد أو نقص: سجد لهما جميعًا قبل السلام، فصار موضع الزيادة والنقصان واحدًا". وإذا صح في الزيادة بعد السلام، كان النقصان مثله. * ومن جهة النظر: اتفاق الجميع على ان سجود السهو غير مفعول عقب السهو، ولو كان مسنونًا قبل السلام، لكان أولى المواضع به عقب السهو، كسجود التلاوة. فإن قيل: إنما أمر بتأخيره إلى آخر الصلاة؛ لأنه ينوب عن كل سهو يقع فيها، ولو فعل عقيب السهو، لاحتاج إلى إعادته لوقوع سهو آخر. قيل له: هذه العلة بعينها يوجب تأخيرها إلى بعد السلام؛ لأنه متى سها قبل التحلل من الصلاة، وجبت عليه إعادته، ولا خلاف أن سجود السهو لا يجب مرتين في صلاة واحدة، فأمر بفعله بعد التحلل منها بالسلام، لكي إن وقع سهو آخر يجب عليه إعادته. وأيضًا: فإن السلام من موجب التحريمة، إذ لا تحريمة إلا وهي موجبة للتحلل، وليس سجود السهو من موجباته، فوجب أن يكون ما أوجبه التحريم مقدمًا على ما لم يوجبه، كما كان سائر أفعال الصلاة من

الركوع والسجود والقعدة في آخرها، مقدمًا على سائر سجود السهو، إذ كانت من موجبات تحر يمها، وليس سجود السهو من موجباته. ولا يلزم عليه سجد التلاوة؛ لأنه متى تلاها في الصلاة، صارت من موجباته؛ لأن التحريم يوجب القراءة، والسجدة موجبة بالتلاوة. فإن قيل: لو كان سجود السهو موضعه بعد السلام، لكان غير معتد به لفاعله قبل السلام، كما أنه لما كان مسنونًا في آخر الصلاة، لم يصح فعله قبل ذلك. قيل له: لأن الساجد قبل السلام سجد وقد انتهى إلى آخر صلاته، وإنما ترك مسنونًا يتحلل به من الصلاة، وقدم السجود عليه، فلا يخرج ذلك السلام من أن يكون مفعولاً في آخر الصلاة، ولمي جب عليه إعادة السلام؛ لأن ترك المسنون في موضعه، لا يوجب عليه إعادته. ألا ترى أن تارك القعدة في الثنتين من الظهر، لا يلزمه إعادتها، ولا يجب عليه الرجوع من القيام إليها، ولم يدل ذلك على أن القيام إلى الركعة الثالثة مقدم على القعدة الأولى. وأما فاعل السجود قبل بلوغه آخر صلاته، فإنه فعله قبل حال وجوبه، فهي بمنزلة فاعل القعدة المسنونة في الثانية في الركعة الأولى، فلا ينوب ذلك عما هو مسنون في الثانية. * وإنما قلنا إنه يتشهد ويسلم بعد سجود السهو، لما في حديث عمران بن حصين، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله

عليه وسلم تشهد بعد سجدتي السهو. وقال عمران بن حصين وأبو هريرة رضي الله عنهما، جميعًا: "إن النبي صلى الله عليه وسلم سلم بعدهما". مسألة: [الشاك في صلاته] قال أبو جعفر: (ومن لم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا؟ فإن كان ذلك أولما أصابه: أستأنف الصلاة، وإن كان قد أصابه قبل ذلك: تحرى، وعمل على ما يؤديه إليه تحريه، ويسجد للسهو، وإن كان لا تحري معه في ذلك: بني على اليقين، وكان عليه سجود السهو). قال أبو بكر أحمد: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أخبار مختلفة، فروي أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى أحدكم، فلم يدر ثلاثًا صلى أو اربعًا، فليسجد

سجدتين، وهو جالس". وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه من قوله: "أنه يتحرى". وروي عبد الرحمن بن عوف وأبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: "البناء على اليقين". وروى شعبة عن عمرو بن دينار عن سليمان البشكري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: "في الوهم يتحرى" قال: فقلت: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى علقمة عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "التحري عند الشك". وقال في بعضها: "فليتحر". وفي بعضها: "فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب، فليتمه، ثم يسجد

سجدتي السهو". وروى ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا: "التحري عند الشك". * واستعمل أصحابنا هذه الأخبار كلها في احوال مختلفة. * فأما البناء على اليقين: فيفعله إذا لم يكن له رأي عند التحري. وخبر التحري مستعمل أيضًا إذا كثر ذلك منه. ويسجد سجدتين، وهو جالس في هاتين الحالتين، لما في خبر أبي هريرة رضي الله عنه. * وأما إذا كان ذلك أول مرة، فإنا أمرنا بالاستقبال، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". ولما حدثنا محمد بن بكر البصري قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا عبد الر 0 حمن بن مهدي عن سفيان عن أبي مالك الأشجعي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا غرار في صلاة ولا تسليم". قال أحمدك "يعني - فيما رأى - أن لا تسلم، ولا يسلم عليك،

ويغرر الرجل بصلاته، فينصرف وهو فيها شاك". ولأنه إذا كثر ذلك منه، وصار ذلك دأبه وعادته، لم يمكنه أداء الفرض بيقين من غير زيادة ولا نقصان، فلذلك استعمل التحري، فإذا استقر رأيه، وغالب ظنه على شيء: عمل عليه، ولا بناء على اليقين. فإن قيل: فالباني على اليقين في أول شكه، مؤد لفرضه بيقين، فهلا أمرته به؟! قيل له: لأنه لا يأمن مع ذلك أن يكون قد زاد ي صلاته ما ليس منها، ولا يجوز له أن يزيد في صلاته ما ليس منها، [أو ينقص شيئًا]، وهو منها ما أمكنه أن يأتي بها في العادة، من غير زيادة ولا نقصان. * ومما يدل على صحة ما ذكرنا من اعتبار اليقين في صحة أداء الفرض: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة".

فأمر باستيفاء صوم شهر رمضان عند الشك باليقين، فاستعملنا خبر البناء على اليقين في حال، وخبر التحري في حال أخرى هو ما يغلب في ظنه أنه هو الصواب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خبر عبد الله: "فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب". * ويدل على صحة قولنا من طريق النظر: أنه متى كان معتادًا منه وقوع السهو، فهو لا يصل إلى أدائها إلا من جهة الاجتهاد، ومتى أمرنا، بالاستئناف كان مصيره إلى الاجتهاد في صحة أداء الفرض، فأشبه النائي عن القبلة، أنه لما لم يصل إلى علم جهتها إلا من طريق الاجتهاد، كان سبيله التحري، وطلب غالب الظن. وأما إذا شك في أول مرة، فقد يتوصل إلى صحة أداء الفرض من جهة اليقين، فلا مدخل للاجتهاد والتحري فيه، كمن قدر على إصابة عين القبلة، فلا يجوز له الاجتهاد، وكمن بحضرته من يساله عن جهتها، فلا يسوغ له الاجتهاد فيها. وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يحمل قول أصحابنا: "فإن شك غير مرة تحري": على أن الغالب من أمره الشك، وأنه دأبه وعادته، وأنه إن لم يكن كذلك، وأمكنه فيما جرت عاداته أداء صلاته بيقين: فعليه أن يستقبل. فإن قال قائل: قد لزمه الفرض بيقين، كشهر رمضان إذا غم عليهم، وكمن شك في الطهارة بعد الحدث، أو في الحدث بعد الطهارة، وكالشاك في نفس الصلاة، هل فعلها أم لا؟

قيل له: أما صوم شهر رمضان فيمكنه أداؤه بيقين بإكمال العدة. وأما الشاك في هل صلى أم لا؟ فإنه إن كان ممن يعرض له ذلك كثير ًا، فلا فرق بينه وبين الشاك في ركعات الصلاة، يجوز له التحري، وإن كان أول مرة صلاها، كما يستقبل الشاك أول مرة. وقد جاز التحري عند الجميع في يوم غيم في وقت الصلاة على غالب الظن، لوجود السبب الذي لا يتوصل معه إلى علم اليقين إلا بغالب الظن. وقد اتفق الفقهاء على جواز التحري في الأواني إذا كان بعضها نجسًا وأكثرها طاهرًا. مسألة: [تذكر أنه ترك سجدة]. قال أبو جعفر: (وإذا ذكر في التشهد الأخير أنه ترك سجدة من ركعة: سجدها وتشهد، وسلم، وسجد للسهو). قال أبو بكر أحمد: وذلك لأن الركعة إذا انعقدت بسجدة، لم يمنع ترك السجدة الثانية من صحة بناء ما بعدها، وذلك لوجهين: أحدهما: أنه قد أتى بأكثر أفعال الركعة، والحكم يتعلق بالأكثر في

صحة البناء والاعتداد به. والدليل عليه أن مدرك الإمام في الركوع، يعتد بركعته، وإن لم يدرك معه القيام؛ لأنه مدرك لأكثر أفعالها، فصح له البناء مع ترك السجدة. والوجه الثاني: أن السجدة الثانية مفعول على وجه التكرار، فلا يثبت بينها وبين ما بعدها حكم الترتيب، كصوم يومين من شهر رمضان، وركعات الصلاة أنفسها، وقد بينا هذا المعنى في مسألة الترتيب، ولخصناه بما يغني عن الإعادة. * قال أبو جعفر: (وكذلك لو ذكر أنه ترك من كل ركعة سجدة، وهو في الظهر أو العصر: سجد أربع سجدات، وتشهد، وسلم، ثم سجد سجدتي السهو). * قال: (ولو ذكر أنه ترك سجدتي ركعة من صلاته، فإن كانت الركعة الآخرة: سجدهما، وتشهد؛ لأن ركوعها قد صح، وإن كان غير الركعة الآخرة: قام فأتى بها بركوعها وسجودها). قال أبو بكر: وذلك لما بينا من أن الحكم إنما يتعلق بانعقاد بسجدة؛ لأنه فاعل به لأكثر أفعالها، وإذا لم يعقدها بسجدة، فلم يأت بأكثر أفعالها، فلا يصح له بناء الركعة الثانية حتى يسجد.

مسألة: [سهو الإمام يلزم المأموم، والعكس]. قال أبو جعفر: (وسهو الإمام يوجب على من خلفه اتباعه في السجود له، وسهو المأموم لا يوجب عيه سجودًا). قال أبو بكر: وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فأركعوا، وإذا سجد فاسجدوا". وقال معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم حين تابعه فيما أدرك من الصلاة: "ما كنت لأجدك على حال إلا أتابعك عليها"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سن لكم معاذ، فكلك فافعلوا". * وإذا سها المأموم لم يسجد للسهو؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه". وقال: "سن لكم معاذ، فكذلك فافعلوا": يعني متابعة الإمام، ألا ترى أن الإمام لو قام في الثنتين من الظهر، ولم يقعد، لم يكن لمن خلفه أن يقعدوا، بل عليهم أن يتبعوه. *****

باب الصلاة بالنجاسة

باب الصلاة بالنجاسة مسألة: [القدر المعفو عنه من النجاسة في الثوب]. قال أبو جعفر: (وإذا كان في ثوب المصلي من الدم أو القيح أو الصديد أو الغائط أو البول، أو ما يجري مجراهن من النجاسة أكثر من قدر الدرهم: لم تجزه صلاته - والدرهم أكبر ما يكون من الدراهم - وإن كان أقل من ذلك: لم يفسد). قال أبو بكر أحمد: قد بينا وجه اعتبار مقدار الدرهم فيماس لف. وإنما قولوا: "أكبر ما يكون من الدراهم"؛ لأنه قدر به موضع الاستنجاء والاستبراء جميعًا. * فأما الدليل على فساد الصلاة مع النجاسة الكثيرة، فقول الله تعالى: {وثيابك فطهر}، فأوجب تطهير الثياب من النجاسات، ولا يجب ذلك إلا لأجل الصلاة؛ لأنه لا خلاف بين الأمة أن من ليس عليه صلاة، لا يلزمه

تطهير ثيابه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في دم الحيض: "حتيه، ثم اقرصيه بالماء". وقال لعمار بن يسار رضي الله عنهما: "إنما يغسل الثوب من الدم والبول والمني". وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، إن أحدهما كان لا يستتر من البول". وسائر الأخبار الواردة في الأمر بغسل النجاسات، كلها تدل على امتناع جواز الصلاة مع النجاسة الكثيرة؛ لأنها توجب غسلها، ولا خلاف أن غسلها لا يجب إلا للصلاة، فدل على امتناع جواز الصلاة مع النجاسة الكثيرة. فإن قيل: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلع نعليه في

الصلاة، فخلع الناس نعالهم، فلما فرغ من صلاته قال لهم: "ما لكم خلعتم نعالكم؟ "، فقالوا: خلعت فخلعنا، فقال: "إن جبريل أخبرني أن فيها قذرًا". ولم يستقبل الصلاة، فدل على جوازها مع النجاسة. قيل له: يجوز أن يكون يسيرًا لا يمنع مثله الصلاة. مسألة: [من قام على نجاسة فسدت صلاته]. قال أبو جعفر: (ومن صلى وكان قيامه على نجاسة يابسة: أفسد ذلك صلاته). قال أبو بكر أحمد: وهذا إذا كان أكثر من قدر الدرهم، وذلك لأن الموضع الذي يلزم فيه فرض القيام أكثر من قدر الدرهم، فصار كمن صلى وفي ثوبه أكثر من قدر الدرهم من النجاسة، فلا تجزئه صلاته. * قال: (وإن كانت في موضع ركبتيه أو في موضع يديه: لم يفسد ذلك صلاته). قال أبو بكر: وذلك لأنه بمنزلة من ترك وضع الركيتين واليدين على الأرض. والدليل على أن وضع اليدين على الأرض ليس من فروض الصلاة، حديث ابن عباس رضي الله عنهما حين جاء إلى عبد الله بن الحارث رضي

الله عنه، فخل عقاصه، وهو في الصلاة، فلما فرغ قاله: "مالك ورأسي؟ قال: سمعت النبي صلى اهل عليه وسلم يقول: "مثل الذي يصلي، وهو عاقص شعره، كمثل الذي يصلي وهو مكتوب". ومعلوم أن عقص الشعر لا يفسد الصلاة، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم المكتوف بمنزلته، فدل أن وضع اليد على الأرض في السجود ليس من فروض الصلاة، وإذا ثبت ذلك في اليدين، كانت الركبتان بمنزلتهما؛ لأن أحدًا لم يفرق بينهما. مسألة: [حكم النجاسة في موضع السجود] قال أبو جعفر: (وإن كانت النجاسة في موضع سجوده: أفسد ذلك صلاته، وهو قول أبي حنيفة الذي رواه محمد).

وذلك لأن سجوده على النجاسة: كلا سجود، فكأنه ترك السجود في صلاته حتى خرج منها. قال: (وروي أصحاب الإملاء عن أبي يوسف عنه: أن ذلك لا يفسد عليه صلاته). ووجه هذه الرواية: أن موضع المفروض من السجود لا يكون أكثر من قدر الدرهم؛ لأنه لو وضع من جبهته على الأرض مقدار الدرهم: أجزأته صلاته، ومقدار الدرهم من النجاسة لا يمنع صحة الصلاة، فكانت الزيادة على مقدار الدرهم غير معقول، فلا يمنع صحة الصلاة. مسألة: قال أبو جعفر: (وإذا خفي موضع النجاسة من الثوب: غسل كله). قال أبو بكر: وذلك لأن حصول النجاسة فيه يقين، فلا يزول إلا يقين، كما أن الحدث إذا كان يقينًا، لم يرتفع إلا بيقين الطهارة. مسألة: [الخلاف في نجاسة بوس ما يؤكل لحمه] قال أبو جعفر: (وبول ما يؤكل لحمه نجس في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، يفصد الصلاة إذا كان كثيرًا فاحشًا، وعند محمد: بول ما يؤكل لحمه طاهر). قال أبو بكر أحمد: الدليل على نجاسة الأبوال كلها، ما روي عن

النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، إن أحدهما كان لا يستنزه من البول، والآخر يمشي بالنميمة". وهذا عموم في تنجيس الأبوال؛ لأن البول اسم للجنس، لدخول الألف واللام عليه، فسبيل بول ما يؤكل لحمه، وغيره واحد. ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن حبان المازني بالبصرة قال: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي قال: حدثنا ثابت بن حماد الخراز قالك حدثنا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أغسل ثوبي من نخامة فقال: "إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني" والقيء والدم". وهذا اللفظ شامل للأبوال كلها، ويدل على نجاسة جميعها. وأيضًا: فلم يختلفوا أن روث ما يؤكل لحمه، وما لا يؤكل لحمه سواء في باب النجاسة، لانفاقهما في الاستحالة، فوجب أن يكون بول ما يؤكل لحمه، وما لا يؤكل لحمه سواء في باب النجاسة، لتساويهما في الاستحالة، إذ كان المعنى الموجب لتنجيس هذه الأشياء المستحيلة: وجودها على ضرب من الاستحالة، بدلالة قوله صلى الله عليه وسلم في الروية: (إنها ركس".

فإن احتجوا بحديث العرنيين، وإباحة النبي صلى الله عليه وسلم لهم شرب أبوال الإبل، وألبانها، وأنها لو كان نجسة ما أباح لهم شربها، ولا كان لهم فيها شفاء؛ لأن الله تعالى لم يجعل شفاءنا فيما حرم علينا. وكذلك يروي عن ابن مسعود رضي الله عنه. قيل: إنهم لما قدموا المدينة اجتووها، وانتفخت بطونهم، فجائز أن يكون أباحها لهم لضرورة علمها منهم، ولا نقف نحن على مثلها من سائر المرضى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز أن يعرف حالهم في الضرورة بالوحي. وإذا كان جاز أن يكون لضرورة، لم يجز لنا إباحتها، حتى نعلم مثل ذلك بالضرورة، وإباحتها حال الضرورة، لا يدل على طهارتها؛ لأن الميتة والدم مباحان في حالة الضرورة، وهما نجسان.

[ضابط فقهي في النجاسات] والأصل عند أبي حنيفة في اعتبار الكثير الفاحش، وفيما يعتبر فيه مقدار الدرهم: أن كل ما كان فيه نص متأول في طهارته، واختلف الناس في طهارته ونجاسته، فإنه يعتبر فيه الكثير الفاحش، وإن كان نجسًا عنده، ويصير وقوع الاختلاف فيه مع ما فيه من النص المتأول في طهارته مخففًا لحكمه. وأما ما اختلف فيه، وليس هناك نص متأول في طهارته، بل هناك نص متأول في نجاسته: فإنه يعتبر فيه مقدار الدرهم، ولا يلتفت إلى اختلافهم فيه. وذلك مثل الروث، لما كان فيه نص متأول في نجاسته، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها رجس": لم يعتبر الاختلاف. [مسألة: حد الكثير من النجاسة] قال أبو جعفر: (والكثير الفاحش عند أبي حنيفة: ربع الثوب الذي

يكون ذلك فيه، وفي قول أبي يوسف ذراع في ذراع). قال أبو بكر أحمد: هذا الذي حكاه عن أبي حنيفة في تقدير الكثير الفاحش، غير مشهور عنه، بل قد حكي أبو يوسف فيما رواه معلى أنه سأل أبا حنيفة عن الكثير الفاحش، فلم يحدد فيه شيئًا. والذي ذكره أبو جعفر من اعتبار ربع الثوب هو قول محمد خاصة، وما حكاه عن أبي يوسف من اعتبار ذراع في ذراع، فليس بمعروف عنه، بل حكي عنه معلي شبرًا في شبر. وحكي هشام عنه في الماء المستعمل: حتى يكون أكثر من شبر في شبر، فأما ذراع في ذراع، فما سمعنا به، ولا عرفنا لهم في كتاب، وعسى أن يكون وقع ذلك لأبي جعفر من رواية شاذة. والأصل في هذا النوع من المقادير التوقف أو الاجتهاد، إذ لا سبيل إلى إثباتها من طريق المقاييس، وما كان هذا سبيله، لم يتوجه على القائل به سواء في إقامة الدلالة على إثبات هذا المقدار بعينه دون غيره. وهذا كتقويم المستهلكات، وتقدير مهر المثل، وما جرى مجراه، لا يتوجه على القاتل بشيء منه سؤال في تصحيحه من جهة إقامة الدلالة

عليه؛ لأنه على ما يغلب في الظن، إلا أنه مع ذلك لابد من أن يكون هناك جهة بها يغلب في الظن هذا المقدار دون غيره. فنقول: إن جهة تغليب الرأي في اعتبار أبي يوسف شبرًا في شبر، هي أن الشبر أقل المقادير التي درت للمساحة؛ لأن ما دون الشبر ليس له مقدار معلوم في العادات إلا بالنسبة إلى البشر، فلما حصلت النجاسة في هذا القدر، دخلت في حد الكثير الفاحش، إذ ليس ما فوقه من المقادير بأولى بالاعتبار من مقدار آخر فوقه. * ولمحمد في اعتبار الربع: أن الربع قد ثبت له حكم الأصول عندهم، وهو ربع شعر المرأة إذا انكشفت، أو ربع ساقها في باب منع الصلاة، فلما تعلق الحكم بالربع فيما وصفنا، جعل ذلك حد الكثير الفاحش. وكذلك لو حلق المحرم ربع رأسه: وجب عليه دم، ويحل بحلق الربع من إحرامه. وأيضًا: فإن الرائي لربع الشخص، يطلق اللفظ برؤية الشخص؛ لأنه يقول: رأيت فلانًا، والذي يلاقيه من جهاته الأربع جهة واحدة، وهي رعه، فلما أطلق عليه اسم الرؤية، برؤية ربع الشخص، دل على أن الربع هو حد الكثير، إذ قد أقيم مقام الكل. [مسألة: نجاسة الروث] * وقال أبو حنيفة في الروث: إذا كان أكثر من قدر الدرهم: يعيد الصلاة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يعيد حتى يكون كثيرًا فاحشًا. قال أبو بكر أحمد: والدليل على نجاسة الروث: قول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين ناوله الروثة: "إنها

رجس"، وفي بعض الألفاظ: "إنها ركس". ولكل واحد من اللفظين فائدة ليست للآخر. فأما قوله: "إنها رجس"، فإنه يدل على النجاسة؛ لأن الرجس هو ما يلزم اجتنابه، ولا يلزم اجتناب الروث إلا للنجاسة. فإن قيل: قد قال تعالى في الأنصاب والأزلام إنها: {رجس من عمل الشيطان}، ولم يدل على نجاستها. قيل له: قد دل على لزوم اجتنابها، إلا أنا خصصنا جهة النجاسة بدلالة، ولولا الدلالة جعلناها نجسة، ولا تجوز الصلاة فيها. والمعنى في الأزلام والأنصاب، أنهم كانوا يستعملونها في الجاهلية على وجوه حرمها الله في الإسلام، فانصرف الأمر باجتنابها إلى تلك الجهة، وأما الروث فلا وجه للأمر باجتنابه إلا للنجاسة. فإن قيل: لأنه قال في الروث: "إنه علف لدواب الجنس"، كما قال

في العظم: "إنه طعام إخوانكم من الجن". قيل: ليس كونه علفًا لدوابهم، مانعًا من نجاسته، إذ لا يمتنع أن يكون محرمًا علينا، نجسًا في حكمنا، مباحًا لهم. * وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ركس"، فإنه يفيد اعتبار النجاسة لوجود هذا الضرب من الاستحالة؛ لأن منى قوله: "إنها ركس"، أنه مستحيل متلف، ومعلوم أنه لم يكن مصد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، تعريف عبد الله رضي الله عنه أنه مستحيل، لأن ذلك كان معلومًا عنده بالمشاهدة، فإذا المعنى فيه تنبيه على العلة الموجبة للتنجيس. * ويدل على نجاسته ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا علي بن جعفر بن نجيح قال: حدثنا أبي قال حدثنا عبد الله بن موسى قال: حدثنا حفص أبو الوفاء قال: حدثنا أبي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخلع نعليه، فخلعنا، فقال "إ، جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن فيها سرجينًا". * واعتبر أبو حنيفة فيه مقدار الدرهم، لما قدمنا، من أن فيه نصًا.

متاؤلاً في تنجيسه. * وأعتبر أبو يوسف ومحمد فيه الكثير الفاحش، لأنه أخف عند الناس من سائر النجاسات، ألا ترى أنهم يدوسونه في طرقهم ويسخرون به، فدل على تخفيف حكمه. * وأما خرء الدجاج، فالاعتبار فيه قدر الدرهم عندهم جميعًا؟ لأن استحالته كاستحالة الغائط ونحوه، وقد يجتنبه الناس كاجتنابهم سائر الأنجاس. [بول ما لا يؤكل لحمه نجس:] قال أبو جعفر: (وأما ما لا يؤكل لحمه، فبوله نجس في قولهم جميعًا). وذلك لما قدمنا. وفرق محمد بينه وبين بول ما يؤكل لحمه، بحديث العرنيين. مسألة: [نجاسة بول الصغار والكبار من الذكور والإناث] قال أبو جعفر (أبوال الصبيان الذكران والإناث ممن لا يأكل الطعام، كأبوال من سواهم). قال أبو بكر: وذلك لأن الآثار الموجبة لتنجيس الأبوال، لم تفرق بين أبوال الكبار والصغار، فهي موجبة لتنجيس الجميع.

وأيضًا: فلما كاد المعنى الموجب لتنجيس بول الكبير وجوده على ضرب من الاستحالة، وكان ذلك موجودًا في بول الصغير، وجب أن يكون مثله، وفي حكمه. فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل بول الجارية، وبنضح بول الغلام. قيل له: النضح هو صب الماء عليه، وذلك يقتضي الغسل؛ لأنه إن كان المراد صب الماء عليه من غير إزالته، فهذا يوجب زيادة في تنجيسه، لاتساعه في الثوب بالنصح. ويدل على أن النضح هو الصب: قولهم: "بعير ناضح": إذا كان يستقي الماء ويصبه، فهو ناضح. فإن قيل: فما وجه الفرق بينهما في اللفظ؟ قيل له: لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما في خطاب واحد، ولا يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال في وقتين، فجمعه الراوي في لفظه.

وأيضًا: فليس يمتنع أن يكون المعنى واحدًا، مع اختلاف اللفظ، كقول الله تعالى: {وغرابيب سود}، والغرابيب هو السود. قال الشاعر: (وألفى قولها كذبًا ومينًا)، والمين هو الكذب. مسألة: [نجاسة الخمر] قال: (والخمر نجسة كالبول). قال أبو بكر: وذلك لقول الله عز وجل: {يا أيها الذين أمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلم رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه}، فدلت الآية على نجاستها من وجهين: أحدهما: أن قوله: {رجس}: يقتضي اجتنابها للنجاسة. والثاني: قوله: {فاجتنبوه}: وهو على سائر الأحوال، في الصلاة وغيرها. فإن قيل: قال في الأنصاب والأزلام مثله، ولم يدل على النجاسة.

قيل له: ظاهر اللفظ يقتضيه، وإنما خرج بدليل. مسألة: [إزالة النجاسة م الخف والثوب] قال أبو جعفر: (في الخف يصيبه الروث والقذر، أو المني فيبيس، فيحكه: يجزئه، وإن كان رطبًا: لم يجزه حتى يغسله. والثوب لا يجزئه حتى يغسله إلا في المني). قال أبو بكر أحمد: وقال محمد في الخف: لا يجزئه أيضًا حتى يغسله، إلا في المني خاصة. فأما في الخف، فالأصل فيه ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدثني محمد بن كثير يعني الصنعاني عن الاوزاعي عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وطي أحدكم الذى بخفية، فطهورهما التراب". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمود بن خالد قال: حدثنا يعني ابن عائذ قال: حدثنا يحيي بن حمزة عن الأوزاعي عن محمد بن الوليد قال: أخبرني أيضًا سعيد بن أبي سعيد عن القعقاع بن حكيم عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه

وسلم بمعناه. وظاهر هذا الخبر يقتضي جواز تطهيره بالمسح، سواء كان رطبًا أو يابسًا، إلا أن الدلالة قد قامت على أنه لا يجزئ في الرطب إلا الغسل، لأن النداوة القائمة لو لم يكن غيرها، لمنعت الصلاة، والمسح لا يزيلها، فدل ذلك على أن المراد بعد الجفاف. فإن قيل: إنه ذكر الأذى، وقد يجوز أن يريد به الطين ونحوه. قيل له: لما قال: "طهورهما التراب": علمنا أنه أراد النجاسة؛ لأن تطهير الخف لا يكون إلا من جهة النجاسة، إذ ليس يلحقه حكم العبادة. وأيضًا: فالأذى يعم النجاسة وغيرها، فهو على الكل، حتى تقوم دلالة التخصيص. وأيضًا: فإن جرم النجاسة سخيف متخلخل، فينشف الرطوبة الحاصلة في الخف إلى نفسه عند الجفاف، وجرم الخف مستخصف.

كثيف، لا ينشف الرطوبة إلى نفسه، فإذا أزيلت عين النجاسة منه بعد الجفاف، فقد زالت النجاسة؛ وما كان يلحقه من نداوة النجاسة، ولم يبق هناك إلا أجزاء بسيرة، لا حكم لها، فلا تمتنع الصلاة فيه. وليس هذا بمنزلة البول؛ لأنه ليس له جرم قائم يزول بالحك، فأجزاه النجاسة التي حلته باقية فيه. وأما الثوب، فإنه متخلخل ينشف أجزاء النجاسة إلى نفسه، ولا يزول بالحك ما داخله من أجزائها، فلذلك لم يجز فيه غير الغسل. وقال محمد: الخف مثل الثوب؛ لأنه لو لم يصبه إلا البلة التي في النجاسة، لم يطهرها إلا الغسل، كذلك إذا كان معها جرم النجاسة. مسالة: [تطهير الأرض من البول] قال أبو جعفر: (ومن بال على الأرض، فطهارة ذلك المكان إن كان مما إذا صب عليه الماء نزل إلى ما هو أسفل منه من الأرض: صب عليه الماء حتى يغسل وجه الأرض، وينخفض إلى ما تحتها. وإن كانت حجرًا: فحتى يغسل غسلاً يطهره. وإن كانت أرضًا صلبة: فأن يحفر مكان البول منها حتى تعود طاهرة منه، ولا توقيت في الماء الذي يصب عليه). قال أبو بكر أحمد: إذا كانت الأرض رخوة ينزل الماء فيها، فذلك

بمنزلة جريان الماء عليها، فيطهرها كما يطهر الثوب والبدن، بجريان الماء عليهما. وإذا كانت حجرًا: فحتى يجري الماء كالبدن والثوب؛ لأن الماء لا ينزل فيه. وإن كانت صلبة: فحتى يحفر مكانها، لما قدمناه من حديث عبد الله بن مسعود وغيره في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفر مكان بول الأعرابي. وقد حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا جرير بن حازم قال: سمعت عبد الملك بن عمير يحدث عن عبد الله بن معقل بن مقرن رضي الله عنه قال: صلى أعرابي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بال في ناحية المسجد، وذكر الحديث. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا ما بال عليه من التراب، فألقوه، وأهريقوا على مكانه ماء". * ومن جهة النظر: إنه معلوم أن الماء إذا لم يحمل النجاسة، وخالطته أجزاؤها، صار جميعها نجسًا، فإنما يزيد الموضع تنجيسًا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بغسل الموضع تطهيرًا له. * ولا مقدار لذلك الماء الذي تغسل به النجاسة من الأرض، كما لا

مقدار لغسل سائر النجاسات. فإن قيل: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل بول الأعرابي بذنوب من ماء، وهي الدلو الكبيرة. قيل له: هذا يختلف في المواضع، فإن احتيج إلى مثل ذلك: غسل به، وأن احتيج إلى أكثر: استعمل فيه، وأن اكتفى بأقل منه، جاز الاقتصار عليه؛ لأنه معلوم أن القصد فيه تطهير الموضع بإزالة نجاسته. والعجب ممن يقدر في غسل البول من الأرض سبعة أمثاله من الماء، اعتبارًا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بصب الذنوب على بول الأعرابي. فتراه لو كان وزن بول الأعرابي، أكان يجوز له أن يجعل الذنوب الذي لم يزنهن ولم يعرف مقداره سبعة أمثال البول، فكيف وهو لا يعرف قدر البول، ولا يعرف قدر الذنوب، ولم يرجع فيه أيضًا إلى عادة، فيجتهد فيها؛ لأنه معلوم ان الدلو الكبير هو أكثر من سبعة أمثال بول الرجل في العادة بشيء كثير. مسألة: [تعلق صلاة المأموم بصلاة الإمام صحة وفسادًا] قال أبو جعفر: (ومن صلى بالناس جنبًا: أعاد وأعادوا) قال أبو بكر أحمد: الأصل في ذلك: تعلق صلاة المأموم بصلاة

الإمام، وأنها تفسد بفسادها. والدليل عليه: ما روي الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن". فقوله: "الإمام": يقتضي أن يكون قد تضمن صحة صلاة المأموم، بصحة صلاته، وإن أخليناه من هذه الفائدة: سقط معناه. * ويدل عليه أيضًا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به". والجنب ليس بمصل، فلا يصح الائتمام به، وإذا نوى صلاة الإمام، ثم لم يفعل الائتمام به: فسدت صلاته؛ لأنه لم يفعل الصلاة التي نواها. كمن افتتح الصلاة، ثم قطعها، ولم يمض فيها، وكما لو أنه اقتدى به مع العلم بكونه جنبًا. * ويدل على تعلق صلاة المأموم بصلاة الإمام قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ركع فأركعوا، وإذا قرأ فأنصتوا". وقوله: "من كان له إمام، فقراءته له قراءة".

وقوله: "يكفيك قراءة الإمام". وسائر الأخبار الواردة في النهي عن القراءة خلف الإمام، مع اتفاق الجميع على أن قراءة الإمام تجزي لمدركه في الركوع، ولو كان مصليًا لنفسه، لما تغير حكمه بإمامه. * ويدل عليه ما روي من الآثار في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، فلو لم تكن صلاة المأموم معقودة بصلاة إمامه، لكان اجتماعهم وانفرادهم سواء؛ لأنهم لو حضروا فصلوا منفردين، لما استحقوا فضيلة الجماعة. * ويدل عليه ان من شرط صحة الجمعة: الجماعة، ولو حضرت الجماعة، وصلى كل واحد منفردًا لنفسه، لما حصت لهم الجمعة، وفيه دليل على أن صلاتهم معقودة بصلاة إمامهم، من أجله صحت لهم الجمعة عند اشتراكهم فيها. * ويدل عليه تحمل الإمام سهو المأموم، ولزوم المأموم سهو الإمام. * ويدل عليه أنه لو صلى خلفه مع علمه بالجنابة، أو كان إمامه كافرًا، أو أميًا: لم تصح صلاته، فدل على أن صحة صلاة الإمام، شرط

في صحة صلاة المأموم؛ لأن ما كان شرطًا في صحة الصلاة، لا يختلف فيه حكم العلم والجهل. ألا ترى أن المصلى لو كان جنبًا: لم يكن جهله بجنايته موجبًا لجواز صلاته، فكذلك الإمام إذا كان جنبًا، وجب أن يمنع ذلك صحة صلاة المأموم، كما لو علم بكونه جنبًا، لم تصح لهم صلاتهم. فإن قيل: روى الحسن عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل في صلاة الفجر، فكبرن ثم أومأ بيده أن مكانكم، ثم جاء ورأسه يقطر ماء، فصلى بهم، فلما فرغ قال: "إنما أنا بشر، وإني كنت جنبًا". وروي في بعض الألفاظ أنه قال لهم: "على رسلكم". واحتجوا أيضًا بما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عياش بن الأزرق عن ابن وهب عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة ري الله عنه قال: أقيمت الصلاة، وصف الناس صفوفهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا قام في مقامه، ذكر أنه لم يغتسل، فقال للناس: مكانكم، فلم نزل قيامًا ننتظره حتى خرج علينا، وقد اغتسل".

وروي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى بهم جنبًا، ثم أعاد، ولم يعيدوا. قالوا: فلما لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم القوم باستئنافها، دل على جواز صلاتهم. ولما قال لهم: "مكانكم" وبقوا على حال القيام: دل أنهم كانوا في الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قالك "إذا أقيمت الصلاة، فلا تقوموا حتى تروني". قيل له: ليس في الخبر أن القوم قد كانوا كبرواز وليس في وله صلى الله عليه وسلم للقوم: "مكانكم"، دلالة على أنهم كانوا في الصلاة، وإنما فيه أمرهم بأن لا يتفرقوا حتى يرجع. وقيامهم لانتظاره لا يد لعلى أنهم كانوا في الصلاة. وأيضًا: قد ذكر أبو داود هذا الحديث، فرواه عن ابن عون وأيوب وهشام عن محمد بن سيرين وقال فيه: "فكبر، ثم أومأ إلى القوم أن اجلسوا، فذهب فاغتسل، ثم عاد". فقد صح بأمره إياهم بالجلوس، أنهم لم يكونوا في الصلاة. وما ذكر في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أنهم لم يزالوا قيامًا

ينتظرونه": لا يعارض ما ذكر؛ لأن فعل القوم لا يعارض به أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وقد يجوز أن يكون من سمع منهم قوله صلى الله عليه وسلم "اجلسوا": جلس، ومن لم يسمع ذلك، بقي قائمًا. وأيضًا: لو صح أنهم كبروا مع النبي صلى الله عليه وسلم بدءًا، كانت دلالة هذا الخبر على موضع الخلاف معدومة، إذ ليس فيه أنهم لم يستقبلوها بعد مجيء النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: لما لم يفصل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم باستئناف الصلاة، ولا أنهم كبروا بعد مجيئه، علمنا أنهم لم يستقبلوها؛ لأنهم لو استقبلوها، لنقل. قيل له: ولو كانوا كبروا بدءًا، لنقل، فلما لم ينقل أنهم كبروا، علمنا أنهم لم يكونوا كبروا حتى انصرف النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضًا: لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كبر الإمام، فكبروا"، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد كبر لافتتاح الصلاة، علمنا أنهم كبروا معه حين عاد. وأيضًا: لو صح لهم جميع ما ادعوه ي هذا الخبر، أو سلمناه لهم، لم يكن فيه دلالة على موضع الخلاف، لجوازم أن تكون هذه الحادثة.

كانت ي حال ما لم تكن صلاة المأموم معقودة بصلاة الإمام؛ لأنهم قد كانوا في أول الإسلام يبدؤون بقضاء الفائت قبل متابعة الإمام، ومعلوم أن فاعل ذلك غير متبع للإمام. فلما نسخ ذلك بحديث معاذ رضي الله عنه، حين تابع النبي صلى الله عليه وسلم وترك قضاء الفائت، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سنن لكم معاذ، فكذلك فافعلوا"، وقال أيضًا: "إنما الإمام ليؤتم به"، ونظائر ذلك من الأخبار التي فيها الأمر باتباع الإمام: صارت صلاة المأموم مضمنة بصلاة الإمام، تصح بصحتها، وتفسد بفسادها. * ويدل على ذلك أن في خبرهم لو ثبت افتتاح المأموم قبل الإمام، فليس ذلك من سنة الاقتداء، ولا تصح لمن فعل ذلك صلاة مع الإمام، فدل على أنه كان قبل تضمين صلاة المأموم بصلاة الإمام. * وأما حديث عمر رضي الله عنه، فليس فيه دلالة على موافقة قولهم؛ لأن عمر رضي الله عنه إنما أعاد الصلاة، لأنه رأى في ثوبه أثر الاحتلام، ولو لم يكن متيقنًا بفعل الصلاة جنبًا، فأخذ لنفسه بالاحتياط، ولو يوجب على القوم الإعادة بالشك. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه نسي القراءة في صلاة المغرب،

فأعاد بهم الصلاة، فدل ذلك على ما وصفنا من قولنا. مسألة: [المني نجس يطهره الغسل رطبًا، والفرك يابسًا] قال أبو جعفر: (والمني نجس إن وقع في ماء نجسه، وإن أصاب ثوبًا لم يطهره ما كان رطبًا إلا غسله، ويجزئه إذا كان يابسًا فركه). قال أبو بكر أحمد: الدليل على نجاسته ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قالك حدثنا الحميدي قال: حدثنا بشر بن بكر عن الأوزاعي عن ييحيي بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيت المني يابسًا فحتيه، وإن كان رطبًا فاغسليه".

فأمرها بغسله، والأمر على الوجوب، وإذا وجب غسله: لم يجب إلا لنجاسته؛ لأن كل م قال هو طاهر: لا يرى غسله واجبًا، ومن رأى وجوب غسله، فإنما يغسله لنجاسته. وأيضًا: حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى وعبد الله بن أحمد بن حنبل قالا: حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي قال: حدثنا ثابت بن حماد أبو زيد الخراز قال: حدثنا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسقي راحلتي، وتنخمت، فأصابتني نخامتي، فجعلت أغسل ثوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما نخامتك ودموع عينيك إلا بمنزلة، إنما تغسل ثوبك من البول والغائط، والمني من الماء الغليظ، والدم، والقيء". وقد روي عن سريع الخادم عن إسحاق الأزرق عن شريك عن محمد بن عبد الرحمن من عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب؟ فقال: "إنما هو بمنزلة

البصاق والمخاط يصيبه". قال لنا عبد الباقي: "هذا حديث منكر"، وسريع ليس بشيء، وإنما يروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله، وقد روي عنه خلاف ذلك. فإن قيل: لو كان نجسًا، لما أجزأ فيه الفرك إذا كان يابسًا. قيل له: هذا كلام فيما به تزال النجاسة، لا في النجاسة والطهارة. وعلى أن جواز الفرك فيه لا يدل على الطهارة، كما أن جواز الصلاة مع الاستنجاء بالأحجار لا يدل على طهارة ما هناك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أصاب نعل أحدكم أذى، فليمسحها بالأرض، وليصل فيها"، ولم يدل على طهارة ما أصابه. ودليل آخر: وهو أن خروجه يوجب نقض الطهارة، فدل على نجاسته، كدم الحيض.

وأيضًا: يتعلق بخروجه من الأحكام، مثل ما يتعلق بدم الحيض، من منع قراءة القرآن، ودخول المسجد، ومس المصحف. وأيضًا: فإن المذي والمني شيء واحد، ومخرجهما واحدن إلا أنهما اختلفا في الحكم؛ لاختلاف حال خروجهما، فوجب في المني الغسل، لخروجه على وجه التدقيق والشهوة والانتشار، ولم يجب في المذي، لعدم هذه الأوصاف، فلما اتفقنا على نجاسة المذي، وجب أن يكون المني مثله في باب النجاسة. وأيضًا: لوكان المني طاهرًا في نفسه، لنجس بجريانه في مجرى البول؛ لأن الشيء الطاهر إذا ماسه النجس: نجس، لمجاورته له. فإن قيل: ليس هناك بول في حال جريان المني فيه، وإنما هناك بلة الموضع، وبلة الموضع ليست بنجسة. قيل له: هناك نجاسة قد جرت في الموضع غير بلة، للخلقة، فنجست الموضع. فإن قيل: لو نجس لمجاورته لأجزاء البول، ومخالطتها إياه، لما أجزأ فيه الفرك. قيل له لا يمتنع جواز الفرك فيه، وإن كانت أجزاء البول لو حصلت فيه منفردة لم يجز فيه الفرك، ألا ترى أن من أصلنا أن الروث إذا أصاب الخف، فيبس عليه، جاز حكة، والصلاة فيه بعده من غير غسل، وإن كانت البلة التي في الروث، لو أصابته منفردة لم يطهرها غير الماء، فهذا السؤال ساقط عنا على أصلنا. وأيضًا: فإن هذا الكلام في كيفية الإزالة، لا في النجاسة. *****

باب الإمامة

باب الإمامة مسألة: [بيان الأحق بالإمامة] قال أبو جعفر: (أحق القوم بالإمامة: أقرؤهم لكتاب الله عز وجل، وأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في ذلك سواء: فأورعهم، فإن كانوا في ذلك سواء: فأكبرهم سنًا). قال أبو بكر: وذلك لما روى أوس بن ضمعج عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله عز وجل، فإن كانوا في القراءة سواء: فأعملهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءك فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء: فأقدمهم سنًا". وإنما لم يشترط أصحابنا الهجرة؛ لأن المهاجرين انقرضوا قبل

عصرهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح". وهذا الحديث يدل على أن السن لا حظ لها في التقديم، إلا عند المساواة في سائر خصال الفضل، وأن كل خصلة من هذه الخصال أولى باستحقاق التقديم من السن. * ويدل على أن الواجب تقديم أقرئهم للإمامة، وأعلمهم: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الإمام ليؤتم به". وقال: "لا تختلفوا على إمامكم"، وقال: "الإمام ضامن". فالذي يتضمن صلاتهم، ويستحق أن يقتدي به، ينغي أن يكون أعملهم، لئلا يقع في صلاتهم خلل من جهة الإمام في نقصان أو سننها. وروي ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليؤذن لكم خياركم، وليؤمكم قراؤكم".

[مسألة:] قال أبو جعفر: (ومن أم قومًا بغير استحقاق للإمام كما ذكرنا، فأقام الصلاة: أجزأ مت ائتم به). وذلك لأنه من أهل إمامة الرجال، ألا ترى أنه لو أم مثله في القراءة والعلم جاز، فجاز الاقتداء به، وإن كان المأموم أعلم منه، والأفضل تقديم الأعلم، ولا خلاف في ذلك. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: "إنما الإمام ليؤتم به"، وهذا يصح له الائتمام به؛ لأن صلاته كصلاة إمامه. مسألة: [لا تجزئ صلاة مأموم بقرأ خلف أمي لا يقرأ] قال أبو جعفر: (ومن ائتم بأمي، وهو يقرأ: لم تجز صلاة المأموم). قال أبو بكر أحمد: من قول أبي حنيفة أن واحدًا منهما لا تجزئه صلاته، وقال أبو يوسف ومحمد: تجزئ للإمام والأميين معه. وإنما لم يجز اقتداء القارئ بالأمي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:

"من كان له إمام، فقراءته له قراءة". وقد صح عندنا بالدلائل التي قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب، أن المأموم لا قراءة عليه، فصار بمنزلة القارئ إذا ترك القراءة في صلاته، فتفسد، وقراءته غير معتد بها؛ لأنه لو كان خلف قارئ، فقرأ هو، ولم يقرأ إمامه، لم تغن عنه قراءته. وأيضًا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الإمام ليؤتم به"، وهذا لا يمكنه الائتمام به، إذ كان من فرضه القراءة، وليست من فروض الإمام. * وأما وجه قول أبي حنيفة في إفساد صلاة الإمام، لأجل القارئ المأموم، فإنه يحكي عن أبي خازم رحمه الله: أنه إنما تفسد صلاته؛ لأنه لا يمكنه الاقتداء بالقارئ، فتكون صلاته بقراءة، ومتى أمكن المصلي أن يفعل صلاته بقراءة، فلم يفعل: فسدت صلاته.

قال: وكذا يجيئ على هذا: أنه لو صلى منفردًا، وهو يجد قارئًا يقتدي به: لم تجز صلاته. وأما أبو الحسن الكرخي رحمه الله، فإنه كان يحتج له: بأن القارئ يصح دخوله في صلاة الإمام الأمي؛ لأنهما متساويان في حال التحريمة، إذ ليس يحتاج فيهما إلى القراءة، فإذا صح دخوله في صلاته، لزمه في الحكم تحمل القراءة عنه؛ لأن قراءة الإمام للمأموم، ولما لزمه ذلك من جهة الحكم، ثم لم يقم به: فسدت صلاته؛ بمنزلة القارئ إذا ترك القراءة في صلاته. فإن قال القائل: كيف يجوز أن تصير القراءة من فرضه، وهو غير عالم بها، ولا يصح في هذه الحال تكليفها؟ قيل له: قد يجوز أن يتعلق عليه حكمها في باب إفساد لاته بتركها، وإن لم يكن مكلفًا لها، ألا ترى أن الناسي للقراءة لا يصح تكليفه إياها في حال النسيان، وحكم فرضها قائم عليه في باب إفساد صلاته بتركها، وكذلك الناسي للطهارة، ولسائر فروض شرائط الصلاة، وكذلك النائم عن الصلاة، غير مكلف بها في حال النوم، وحكم الوجوب قائم عليه في باب لزوك قضائها بعد الانتباه. فإن قال القائل: فينبغي على هذا الأصل أن يلزمه القضاء إذا دخل في صلاته ينوي تطوعًا، لأنها فسدت بعد صحة الدخول فيها، كمن دخل في صلاة صحيحة، ثم أفسدها: يلزمه القضاء. قيل له: ليست شريطة وجوب القضاء عند الإفساد صحة الدخول، إذ

يصح عندنا الدخول في التطوع لمن لا يلزمه القضاء بالإفساد، وهو الداخل في الظهر على أنها عليه، ثم تبين أنها ليست عليه، فلا يلزمه القضاء بالإفساد. وكذلك مصلي الخامسة على أنها رابعة الظهر، إذا عقدها بسجدة، قد صحت له الخامسة تطوعًا، ولا يلزمه القضاء لو أفسدها، فقد بان أنه ليس كل من صح له في نافلة، ثم أفسدها لزمه قضاؤها، وإنما لم يلزمه القضاء إذا دخل في صلاة أمي، ينويها تطوعًا، من قبل أن شرط الدخول في صلاة الإمام وجود شيئين: أحدهما: نية الصلاة، والأخرى نية الدخول والائتمام بالإمام، فلما صح له الدخول في مسألتنا، لاستغناء حال التحريمة عن القراءة، ولم يصح له الائتمام به على الوجه الذي عقدها على نفسه: لم يلزمه القضاء بالإفساد. كمن دخل في الظهر على أنها عليه، فاحتاج في صحة الدخول فيها إلى شيئين: نية الصلاة، ونية الظهر، فلما لم يصح له المضي فيها على الوجه الذي عقدها على نفسه بالدخول، حين تبين له انه قد صلاها: لم يلزمه القضاء عند الإفساد، كذلك ما وصفنا. مسألة: [لا تجزئ صلاة رجل ائتم بامرأة أو خنثى]. قال أبو جعفر: (ومن ائتم من الرجال بامرأة، أو بخنثى مشكلك لم تجزئه صلاته).

قال أبو بكر: أما المرأة، فلا خلاف في امتناع جواز اقتداء الرجل بها. وأما الخنثى المشكل، فإنه لا يؤمن أن يكون امرأة، فلا يصح الاقتداء بها، فإذا كانت صلاته عند لاقتداء به مشكوكًا فيها، لم يصح؛ لأن الفرض لا يسقط بالشك. مسألة: [صلاة النساء فرادي أفضل لهن] قال أبو جعفر: (وصلاة النساء فرادى أفضل من صلاة بعضهن ببعض). وذلك لأن جماعتهن لو كانت مسنونة، كن كالرجال في عموم الحاجة إلى علمها، وكان يرد النقل حينئذ متواترًا، فلما عدمنا ذلك فيهن، ثبت أن الجماعة غير مسنونة لهن إذا انفردن عن الرجال. يدل على ذلك أنه لم يسن لهن الأذان والإقامة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء"، فمنعن التسبيح، لئلا تسمع أصواتهن. ويدل عليه أيضًا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة المرأة في دارها خير من صلاتها في مسجدها، وصلاتها في بيتها خير من

صلاتها في دارها، وصلاتها في مخدعها خير من صلاتها في بيتها". وهذا الخبر يدل من وجهين على ما قلنا: أحدهما: أن الجماعة لو كانت مسنونة لهن، لكانت صلاتها في المسجد أفضل منها في البيت؛ لأن فع الجماعة في المسجد أفضل منها في البيت. والثاني: أنه جعل صلاتها في مخدعها أفضل منها في البيت والدار، والمخدع: بيت صغير في جوف بيت يتعذر في العادة إقامة الجماعة في مثله. * قال: (فإن أم بعضهن بعضًا، قامت التي تؤم منهن في الصف وسطًا). وقد روي عن عائشة رضي الله عنها ذلك. مسألة: [صاحب البيت أحق بالإمام في بيته] قال: (وصاحب البيت أولى بالإمامة في بيته ممن سواه، إلا أن يكون من معه ذا سلطان، فيكون أحق بالإمامة منه).

وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: "ولا يؤمن رجل رجلاً في سلطانه، ولا يجلس على تركمته إلا بإذنه". ويدل على ذلك أيضًا حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا زار الرجل قومًا، فلا يصل بهم، وليصل بهم رجل منهم". ويشبه أن يكون المعنى فيه، ما ذكره في حديث أبي مسعود رضي الله عنه؛ لأنه موضع سلطانهم وولايتهم في الصلاة. مسألة: {لا يقف الإمام في مكان أرفع من المأمومين} قال أبو جعفر: (ولا بأس أن يصلي المأموم في مكان أرفع من مكان الإمام، ولا ينبغي للإمام أن يكون أرفع من المأمومين بما يجاوز القامة، ولا بأس أن يكون أرفع منهم بما دونها). قال أبو بكر أحمد: المشهور عن أصحابنا كراهة ذلك في الوجهين جميعًان سواء كان المأموم أرفع من الإمام، أو الإمام أرفع منه. وما ذكره من مقدار القامة في الارتفاع، لا أعرفه عنهم، فيجوز أن يكون ما حكاه من ذلك من رواية لم تبلغنا.

والأصل في ذلك: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قالك حدثنا زكريا بن يحيي قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي قال: حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن همام قال: صلى حذيفة رضي الله عنه بالناس بالمدائن، فتقدم فوق دكان، فأخذ أبو مسعود رضي الله عنه بجميع ثيابه، فرده، فرجع، فلما قضي الصلاة، قال له أبو مسعود رضي الله عنه: "ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقوم الإمام فوق شيء، والناس خلفه؟ ". قال: "افلم ترني أجبتك حين مددتني". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: أخبرني أبو خالد عن عدي بن ثابت الأنصاري قال: حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر رضي الله عنه بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار، وقام على دكان يصلي، والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة رضي الله عنه، وأخذ على يديه، فاتبعه عمار رضي الله عنه، حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار رضي الله عنه من صلاته، قال له حذيفة رضي الله عنه: "ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أم الرجل

القوم، فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم، أو نحو ذلك". فقال عمار: "لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي". فدل هذان الخبران على معنيين: أحدهما: كراهة ذلك، والثاني: أنه لا تفسد الصلاة، لأنه لم يستأنف الصلاة. مسألة: [اتحاد مكان صلاة الإمام والمأموم باتصال الصفوف] قال أبو جعفر: (والصلاة خارج المسجد بصلاة الإمام في المسجد جائزة إذا كانت الصفوف متصلة). وذلك لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا زهير بن حرب قال حدثنا هشام قال: أخبرني يحيي بن سعيد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرته، والناس يأتمون به من وراء الحجرة". وأيضًا: فإن الصفوف إذا كانت متصلة، ولم يكن هناك حاجز بينهم وبين الإمام من الطريق، فكأنهم معه في المسجد. وإذا لم تكن الصفوف متصلة، لم تجز صلاة من كان بينه وبين الإمام

طريق، وذلك لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا حسين بن إسحاق التستري قال حدثنا هربز بن معاذ الحمصي قال: حدثنا محمد بن سليمان بن أبي داود عن أبي جفر الرازي عن قتادة عن زرارة قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا جمعة لمن صلى في الرحبة". وقد روي هذا الحديث موقوفًا على أبي هريرة رضي الله عنه، إلا أن ذلك لا يفسده عندنا. ومعنى الخبر: أن يكون بينه وبين الإمام طريق، ليوفق بينه وبين حديث عائشة رضي الله عنها، في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الحجرة، وائتمام الناس به من وراء الحجرة. مسألة: قال أحمد: وإذا كان مع الإمام رجل واحد أقامه عن يمينه، وذلك لما روى ابن عباس رضي الله عنهما "أنه قام عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأسه، فأداره من

ورائه إلى يمينه". وهذا الخبر ينتظم عدة أحكام: أحدهما: أن مقام المأموم الواحد أن يكون عن يمين الإمام. والثاني: أن قيامه عن يساره، لا يمنع صحة صلاته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره باستئنافها حين افتتحها عن يساره. والثالث: أن صلاة المنفرد خلف الصف جائزة؛ لأنه حصل منفردًا خلف النبي صلى الله عليه وسلم حين أداره إلى أن صار عن يمينه. والرابع: أن تفعل اليسير في الصلاة لا يفسدها. والخامس: أن مثل ذلك مباح في الصلاة وإن كان فعلاً ليس منها، لإصابة سنة الصلاة وتعليمها. والسادس: أن مقام الصغير الذي لم يبلغ في الصف، كمقام الكبير؛ لأن ابن عباس رضي الله عنه كان صغيرًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي، ولم يبلغ مبلغ الرجال. * وإذا كان مع الإمام رجلان: أقامهما خلفه. وذلك لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سليم رضي الل عنها، فأقامني واليتيم من ورائه، وأقام أم سليم

رضي الله عنها خلفنا. وقد كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقيم أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، حتى يكونوا ثلاثة سوى الإمام، فيقومون خلفة. ويروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. والأول عندنا أولى من قبل ورود النقل به متوترًا قولاً وفعلاً. *****

باب الحدث في الصلاة

باب الحدث في الصلاة مسألة: [من سبقة أو غلبه حدث في الصلاة] قال أبو جعفرك (ومن رعف في صلاة، او غلبه قيء أو بول أو غائط: خرج فتوضأ، وغسل ما أصابه من ذلك، ثم رجع، يبني على ما مضي من صلاته ما لم يكن تكلم). قال أبو بكر أحمد: القياس عندهم يمنع جواز البناء بعد الحدث؛ لأن هذه الأفعال تحصل في الصلاة، وهي تنافيها، وكان يجب أن لا يختلف فيه حكم المعذور، وغير المعذور، كما لا يختلف في الأكل والشرب والكلام إذا وقع على وجه السهو أو العمد، وكما لو رأى رجلاً يغرق، وأمكنه تخليصه، كان عليه أن يفعل، وتبطل صلاته، إلا أنهم تركوا القياس فيه للأثر، وقد بينا فيما سلف أن الأثر عندهم مقدم على النظر. والأثر الذي روي فيه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا مطين قال: حدثنا محمد بن معاوية قال: حدثنا عمر بن رياح البصري قال: حدثنا

ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رعف في الصلاة: توضًا، وبنى على ما مضي من صلاته". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل قال: حدثنا داود بن رشيد قال: حدثنا إسماعيل بن عياش قال: حدثنا عبد الملك بن جريج عن أبيه عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قاء أحدكم في صلاته: فلينصرف، فليتوضأ، وليبن على ما مضى من صلاته ما لم يتكلم". قال ابن جريج: "إن تكلم: استأنف". [مسألة:] قال أبو جعفر: (وإن تكلم استأنف الصلاة، ولو استأنف الصلاة كان أحب إليهم). وذلك لئلا يحصل الاختلاف والمشي في الصلاة. [مسألة:] قال أبو جعفر: (ولو نام وهو في الصلاة فاحتلم، كان القياس عندهم أن يخرج فيغتسل، ثم يرجع فيبني على ما مضي من صلاته، ولكنهم استحسنوا في ذلك أن يبتدئ الصلاة).

قال أحمد: القياس على الحدث أن يبني، كما يبني في الحدث، وكان القياس في الحدث أن لا يبني، إلا أنه لما ورد به الأثر، تركوا القياس له، فكانت الجنابة مثل الحدث في قياس جواز البناء، إلا أنهم تركوا هذا القياس؛ لأن القياس في الأصل يمنع البناء مع الحدث، والأثر ورد في الحدث خاصة، فسلموا له، وبقي ما عداه على أصل ما يوجه القياس. فإن قيل: فقد صار الحدث أصلاً في نفسه، لورود الأثر به، فهلاً قست عليه الجنابة؟! قيل له: لأن من أصلهم: أن المخصوص لا يقاس عليه، إلا أن تكون علته مذكورة في الخبر، كقوله صلى الله عليه وسلم في الهرة حين أباح سؤرها من جملة السباع، وما لا يؤكل لحمه منها: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات، وإنها من ساكني البيوت". فقاسوا بها ما لا يستطاع الامتناع من سؤره من سكاني البيوت، وهي الفأرة والحية ونحوها. مسألة: [الاستخلاف عند الحدث] قال أبو جعفر: (ومن أحدث وهو إمام حدثًا يجوز أن يبني بعده: انفتل وقدم غيره، فصلى بالناس ما بقي من صلاته، ومضي هو، فتطهر، ثم رجع، فكان كأحد المأمومين). قال أبو بكر: وإنما جاز تقديم غيره، من قبل أنه لو لم يقدم غيره.

لصاروا منفردين، ولا يجوز ان يبني عليها منفردًا فيما تضمن دخوله فيه الاقتداء بالإمام، لأن صلاة المنفرد عندنا مخالفة لصلاة المقتدي بغيره، إذ كانت صلاة المقتدي مضمنة بصلاة غيره، فتفسد بفسادها، وصلاة المنفرد غير معقودة بصلاة غيره، ألا ترى أنهم لا يجيزون لمن يحرم بالصلاة منفردًا أن يقتدي فيها بغيره، ولو فعل: فسدت صلاته. وإذا كان كذلك، فقد تضمنت صلاتهم الاستخلاف عند حدث الإمام، لتصحيح صلاتهم، فلذلك استحق تقديم غره ليبني على صلاته. * ويدل على جواز الصلاة بإمامين: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليصلي بالناس، ثم وجد خفة، فخرج، قام أبو بكر عن يمينه، وابتداء النبي صلى الله عليه وسلم القراءة من الموضع الذي أنهى إليه أبو بكر، وبني على صلاته. فلما كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت عذرًا في تأخير أبي بكر، جازت الصلاة بإمامين، كذلك الحدث، لما كان عذرًا في تأخر الإمام، جازت بإمامين، ثم يصير الإمام الأول مأمومًا للثانين كما صار أبو بكر رضي الله عنه مأمومًا للنبي صلى الله عليه وسلم. * قال أبو جعفر: (وينبغي له إن كان الذي استخلفه قد سبقه بشيء من الصلاة في حال تشاغله: أن يبتدئ بالذي سبقه به، فيصليه بلا قراءة، يتوخى فيه مقدار قيام الإمام كان فيه، ومقدار سجوده، وإن زاد شيء من ذلك لم يضره).

وذلك لأن الأول مأموم للثانين كأنه نام خلفه، فيقضي بلا قراءة كما لو كان خلفه، وإن زاد على ما فعله الإمام من مقدار الركوع والسجود، لم يضره، كما كان يلي معه. مسألة: [إن لم يستخلف الإمام أحدًا] قال أبو جعفر: (ولو أنه لما أحدث، خرج من المسجد قبل أن يستخلف أحدًا: فإن كان المأمومون قبل خروجه من المسجد قد قدموا مكانه رجلاً: كانت الصلاة جائزة، وإن لم يقدموا رجلاً مكانه، حتى خرج الإمام من المسجد: بطلت صلاتهم، وصلاة المحدث). قال أبو بكر أحمد: أما قوله في بطلان صلاة الإمام المحدث: فهو غلط؛ لأن مذهبهم أن صلاة الإمام المحدث لا تبطل؛ لأن صلاته غير متضمنة بصلاة القوم. وإنما تفسد صلاة القوم من قبل أن صلاتهم كانت متضمنة بصلاة الإمام، فلما خرج من المسجد قبل أن يقوم غيره مقامه، حصلوا منفردين في صلاة تضمن تحريمها الاقتداء فيها بالإمام، وصلاة المنفرد مخالفة لصلاة المقتدي على ما بينا، فلا محالة قد خرجوا من الصلاة الأولى، فبطلت، والثانية تحتاج إلى استئناف تحريمه. وأما الإمام المحدث، فليست صلاته مضمنة بصلاة القوم، ألا ترى

أن القوم لو أفسدوا صلاتهم: لم تفسد عليه صلاته من أجلهم، وأن الإمام لو فسدت صلاته: فسدت صلاة القوم. ولا يخرج الإمام بنفس الحدث من الغمامة؛ لأنه لو خرج من حكم الإمامة، لصار القوم منفردين، تبطل صلاتهم بنفس حدث الإمام، وقد قامت الدلالة على جواز الاستخلاف، وأن الثاني يقوم مقام الأول. * وإن قدم القوم رجلاً، أو تقدم رجل منهم قبل خروج الإمام من المسجد: جازت صلاتهم؛ لأن الاستخلاف لما كان مستحقًا عليهم، إذ به تصح صلاتهم، جاز لكل واحد منهم أن يتقدم، أو يقدم غيره، فيقوم مقام الأول. ولهذه العلة قالوا: إذا كان معه رجل واحدن فأحدث الإمام، صار المأموم إمامًا للأول، نوى أو لم ينو؛ لأنه حصل في صلاة تتضمن الاستخلاف عند الحدث، ولم يبق من يستحق الخلافة عليه، فتعينت فيه. فإن قيل: فقد قالوا: إن الإمام لو أغمى عليه: فسدت صلاته، وصلاة القوم، ولم يجعلوا الواحدٍ منهم أن يخلفه. قيل له: من قبل أن صلاة الإمام قد بطلت الإغماء، ولما بطلت صلاته قبل الاستخلاف، بطلت صلاة القوم، ألا ترى أنه لم خرج من المسجد قبل أن يقدم القوم غيره: بطلت صلاتهم. فإن قيل: فما الفرق بين الإغماء وسائر الأحداث، والإغماء لا يوجب من الطهارة إلا ما يوجبه الرعاف والقيء اللذان ورد فيهما الأثر؟

قيل له: لم تفسد صلاته بالحدث فحسب، وإنما فسدت من قبل أن الإغماء لما كان حدثًا، ثم بقي الإغماء على كل حال الصلاة، فسدت صلاته. ألا ترى أن سائر المحدثين في الصلاة، إذا بقوا على حال الصلاة ساعة بعد الحدث: بطلت صلاتهم، فكذلك المغمى عليه، لما لم يكن منه الانصراف عن الصلاة عقب الحدث، بطلت صلاته. مسألة: [القهقهة في الصلاة حدث ينقض الوضوء] والقهقهة في الصلاة حدث، وكان القياس عندهم أن لا يكون حدثًا. إلا أنهم تركوا القياس فيه للأثر، وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا موسى بن زكريا بالبصرة قال: حدثنا إبراهيم بن هانئ قال: حدثنا محمد بن زيدي بن سنان قال: حدثنا أبي عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ضحك منك من صلاته، فليتوضأ، ثم ليعد الصلاة". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا مطين قال: حدثنا محمد بن الحارث الحراني قال: حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن الحسن بن

دينار عن قتادة عن أبي المليح عن أبيه قال: "كنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة، فجاء رجل ضرير، فتردى في حفرة في المسجد، فضحك ناس من خلفنا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة". وروى عبد الكريم أبو أمية عن الحسن عن أبي هرير ة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قهقه أعاد الوضوء والصلاة". وروى عبد الوهاب بن الضحاك قال: حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمر بن قيس عن عمرو بن عبيد عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ضحك في الصلاة قرقرة، فليعد الوضوء والصلاة". وروى محمد بن حميد قال: حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن

إسحاق عن الحسن عن دينار عن قتادة عن أبي المليح ابن أسامة عن أبيه قال كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل رجل ضرير، فوقع في حفرة قريبًا منا، فضحكنا، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم: "أن نعيد الوضوء كاملاً، والصلاة كاملة". وقد رواه مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم الحسن، وأبو العالية، وإبراهيم، والزهري، في آخرين منهم. فإن قيل: روي عن جابر رضي الله عنه أنه كان لا يرى على الذي ضحك في الصلاة وضوءًا.

قيل له: يحتمل أن يريد به التبسم من غير قهقهة. وقد روى عنه ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أنه كان يرى أن يعيد الوضوء والصلاة من ضحك في الصلاة إذا قرقر. فإن قيل: روى أبو شيبة عن أبي خالد عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الضحك في الصلاة ينقض الصلاة، ولا ينقض الوضوء". قيل له: إذا روى خبران في أحدهما إيجاب الوضوء، وفي الآخر اسقاطه، فخبر الإيجاب أولى؛ لأن الإسقاط ورد على الأصل، والإيجاب طارئ عليه لا محالة. وأيضًا في خبر الإيجاب حظر الصلاة إلا بعد الطهارة، وفي خبر الإسقاط إباحتها قبل الطهارة، فخبر الحظر أولى. فإن قيل: لم نجد شيئًا يوجب الطهارة إذا وقع في الصلاة إلا وهو يوجبها في غيرها، فلما اتفقنا على أن القهقهة لا توجب الطهارة في غير الصلاة، كان كذلك حكمها في الصلاة.

قيل له: قد بينا أنه لا يجوز الاعتراض على الآثار بالنظر. وعلى أن مخالفنا يجعل رؤية الماء في غير الصلاة ناقضة للطهارة، ولا يجعلها كذلك في الصلاة، فخالف بين حال الصلاة وغيرها، على عكس ما يجب اعتباره. وذلك لأن حال الصلاة يجوز أن يتعلق بها من الحرمة، وتغليظ الحكم، ما لا يتعلق بغيرها كحرمة الصلاة. كما تجب كفارة حلق الرأس واللبس في الإحرام، ولا يجب مثله في غير الإحرام، ولا يجب في غيره، فكان لما ذكرنا نظير في الأصول. فأما أن تكون رؤية الماء في غير الصلاة، توجب الطهارة، وفي حال الصلاة لا توجبها بلا أثر ولا نظر؛ فهذا تحكم في دين الله عز جل بما لم ينزل به سلطانًا. فإن قيل: لا يجوز أن نتوهم على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ضحكوا خلفه في الصلاة. قيل له: يحتمل أن يكون الضحك كان من بعض المنافقين، فبين النبي صلى الله عليه وسلم الحكم للجماعة. وأيضًا: فقد ترد على الإنسان حال لا يضبط فيها نفسه من الضحك، فلا يذم على تلك الحال.

وقد أخبر الله تعالى عن قو أنهم {وإذا رأوا نجرة أولهوا انقضوا إليها وتركزم فإيما}، ومعلوم أنهم لم يكونوا فضلاء الصحابة. *****

باب صلاة المسافر

باب صلاة المسافر مسالة: [بيان مسافة القصر] قال أبو جعفر: (ومن سافر يريد ميرة ثلاثة أيام فصاعدًا: قصر الصلاة إذا جاوز بيوت مصره، ون سافر يريد دون ذلك: لم يقصر). قال أبو بكر: وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليها، والمقيم يومًا وليلة". وهذا القول خارج مخرج البيان، وحكم البيان أن يكون شاملاً جميع ما اقتضى البيان من جهته، فقد بين بذلك حكم جميع المسافرين، فكل مسافر هو الذي كون سفره ثلاثًا، حتى يكون بيانه مستوعبًا لحكم جميعهم. ولو كان السفر الذي يتعلق به الحكم أقل من ثلاث، لكان قد بقي من المسافرين من لم يبين حكمه في الخبر، وقد قلنا إن ما ورد على وجه البيان، فحكمه أن يكون شاملاً لجميع ما اقتضى البيان في بابه. وأيضًا: قوله: "يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليها": اسم للجنس،

لدخول الألف واللام عليه، فلا أحد م المسافرين يثبت لهم هذا الاسم في الشرع، وإلا هو داخل في اللفظ. ويدل عليه أيضًا: قول النبي صلى الله عليه وسلمك "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرًا فوق ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم". فعلق الحكم بالثلاثة، كقول الله تعالى في عدة المطلقة: {ثلاثة قروء}، وفي اليائسة: {ثلاثة أشهر}، وسائر الأعداد التي علق بها الأحكام، فكان الحكم مقصورًا عليها، دون ما هو أقل منها، كذلك ما وصفنا. فإن قيل: روي: "لا تسافر يومًا"، و: "لا تسافر يومين". قيل له: كله صحيح، ومتى قصدت سفر ثلاثة أيامن لمي خرج يوم وليلة، ولا يومان عنه. ومن استعمل خبر اليوم واليومين على الانفراد في حظر السفر، فقد أسقط الثلاثة، وسلبها فائدتها، ومن استعمل الثلاثة، لم يسقط حكم

اليوم واليومين على الوجه الذي وصفنا. فإن قيل: وما في تعلق حكم إباحة سفر المرأة بما دون الثلاثة، وحظره في الثلاثة، مما يوجب أن يكون القصر في الثلاثة؟ قيل له: لاتفاق الجميع على أن حكمهما واحد، وأن حكم الحظ في سفر المرأة إذا كان متعلقًا بالثلاثة، فالقصر والإفطار مثله. فإن قيل: قوله تعالى: {ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من ايام أخر}، وعمومه يتناول القليل والكثير، فما اتفق الجميع على خروجه من حكم الآية، أخرجناه منه، وما عداه فمحمول على الظاهر. قيل له: لا يصح اعتبار عمومه؛ لأنه مجمل، لا يتناول مقدارًا معلومًا في اللغة.

فإن قيل: يتناول اليوم واليومين، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يومًا". قيل له: يتناوله الإطلاق، وإنما يسمى سفرًا بتقييد، وما دخل تحت الآية، فهو ما يسمى سفرًا بالإطلاق. وكذلك إن احتجوا بقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض}، كان الجواب فيه ما ذكرنا من إجمال الفظ: وعلى أن لفظ الضرب في الأرض والسفر، لما كان مجملاً على ما اتفق عليه الجميع أنه مراد: أثبتانه، وما اختلفوا فيه: لم يصح إثباته إلا بدليل. وأيضًا: فإن طريق هذا الضرب من المقادير التوقيف والاتفاق، وقد حصل الاتفاق ف الثلاثة، ولم يرد فيما دونها توقيف ولا اتفاق، فلم يثبت. مسألة: [وجوب القصر على المسافر] قال: (وصلاة السفر ركعتان إلا المغرب والوتر فإنهما ثلاث ثلاث،

إلا أن يصلي خلف مقيم، فيتم، فإن صلى المسافر ما يقصر من الصلاة أربعًا، ولم يقعد في الثنتين: بطلت صلاته). قال أبو بكر أحمد: الحجة لأصحابنا في هذه المسألة من طريق الآثار، واتفاق الصدر الأول رضي الله عنهم، والنظر. فأما الآثار: فحديث عائشة رضي الله عنها: "فرضت الصلاة في السفر والحضر ركعتان، فزيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر على ما كانت". وقال ابن عباس رضي الله عنه: "فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "صلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفجر ركعتان، وصلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم". وقال عمر رضي الله عنه حي سأله يعلي بن منية: كيف نقصر وقد

أمنا؟ فقال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عما سألتني عنه فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فأقبلوا صدقته". وقال عمران بن حصين رضي الله عنه: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في السفر إلا ركعتين، وصلى بمكة ركعتين، وقال: "أتموا فإنا قوم سفر". فلو كان القصر موقوفًا على اختيار المصلي، لقال: "أتموا" فإنا نريد الإتمام". وأيضًا: وردت الآثار متظاهرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في السفر ركعتين، لا يزي عليهما، رواه عمر، وابن مسعود، وأبو هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وعمران بن حصين،

وأنس، في آخرين من الصحابة رضي الله عنهم. فثبتت دلالته من وجهين على صحة قولنا: أحدهما: أن فرض الصلاة مجمل في الكتاب، وفعل النبي ص وارد فيها على جهة البيان، فهو على الوجوب، كفعله الأعداد في ركعات الظهر، وسائر الصلوات في الحضر. ومدعي التخيير فيه، كمدعي التخيير في الظهر والعصر في الحضر بين الأربع وبين الست. والثاني: أنه لو كان المسافر مخيرًا بين الإتمام والقصر، وكان مراد الله في أمره بالصلاة، لما جاز أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم التوقيف عليه إما قولاً وإما فعلاً، لأن الحاجة إلى معرفة بيان التحديد في السفر، كالحاجة إلى معرفة عدد ركعات الصلاة في الحضر، فلما عدمنا منه البيان في الزيادة على الركعتين من جهة القول والفعل، علمنا أنها غير ثابتة على الركعتين. * ومن جهة الإجماع، اتفاق الصدر الأول على النكير على عثمان رضي الله عنه في إتمامه الصلاة بمنى، وموافقة عثمان إياهم على ذلك،

واعتذاره بأنه إنما أتم؛ لأنه تأهل بمكة، وقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من تأهل ببلد، فهو من أهله"، ولو كان مخالفًا لهم، لما احتاج إلى الاعتذار. وقال الزهري: "إنما أتم عثمان؛ لأنه أزمه الإقامة". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "من صلى في السفر أربعًا، كمن صلى في الحضر ركعتين". وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "صلاة السفر ركعتان، من مخالف السنة كفر". وأنكره عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في عامة الصحابة. فإن قيل: روي عن عائشة رضي الله عنهما أنها قالت: "قصر رسول الله

صلى الله عليه وسلم في السفر، وأتم". قيل له: هو صحيح، وهو معنى قول عمر رضي الله عنه: "تمام غير قصر"، ومعناه: قصر في الفعل، وأتم في الحكم. فإن قيل: فقد كانت عائشة رضي الله عنها تتم في السفر. وروي عنها أن المسافر بالخيار: إن شاء أتم، وإن شاء قصر. قيل له: إنها سئلت عن ذلك، فقالت: "أنا أم المؤمنين، فحيث

حللت فهو داري". وأما قولها: "المسافر بالخيار". فمعناه في أن يدخل في صلاة مقيم فيتم. فإن قيل: لما لزمه الإتمام، لدخوله في صلاة المقيم، دل على أنه مخير بين الإتمام والقصر قبل الدخول. قيل له: لأن حكم الصلاة يتغير بالإمام، ألا ترى أن المرأة والعبد والمريض إذا دخلوا مع الإمام في الجمعة صلوا ركعتين، ويدل ذلك على أنهم مخبرون قبل الدخول بين أن يصلوا أربعًا أو ركعتين. وأيضًا: فالمقيم مخير بين أن يسافر فيصلي ركعتين، وبين أن يقيم فيصلي أربعًا، ولا يدل ذلك على أنه مخير قبل السفر بين الإتمام والقصر. * ومن جهة النظر: إنه لما كان مخيرًا بين فعل الزيادة على وجه الابتداء، وتركها لا إلى بدل، دل ذلك على أن الزيادة نقل؛ لأن هذه صورة النفل في الأصول، وصورة الفرض أنه لا خيار له فيه، أو يكون مخيرًا بين فعله وتركه إلى بدل. فإن قيل: قوله عز وجل: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة}: يقتضي التخيير.

قيل له: ليس هذا القصر الذي اختلفنا فيه؛ لأن هذا القصر معقود بشرط الخوف، واتفق الجميع على أن قصر السفر غير معقود بشرط الخوف، وأن الخائف وغيره يقصر. وعلى أن غير الخائف لم يدخل في حكم الآية، فلا يصح الاحتجاج به في المسافر الذي ليس بخائف. وعلى أن قوله: {فليس عليكم جناح} لا يقتضي التخيير، وإنما فيه جواز القصر، وفيما قدمنا من الأدلة: الوجوب، ولا يتنافيان. ألا ترى أن قوله: {فلا جناح عليه أن يطوف بهما}: لمي نف وجوب السعي بينهما. وأيضًا: فإن هذا القصر ليس هو قصرًا في أعداد الركعات عندنا، وإنما هو على أحد وجهين: إما إباحة الصلاة بالإيماء في حال الخوف، فيكون قصرًا في أوصاف الصلاة، أو إباحة الاختلاف والمشي في صلاة الخوف؛ لأن مثله في غيرها يفسد الصلاة، قسماه قصرًا أباح الصلاة معه.

مسألة: [الاعتبار في القصر وعدمه بآخر الوقت] قال: (ومن سافر في آخر الوقت قبل أن يصلي: صلى صلاة مسافر، ولو قدم مسافر في آخر الوقت قبل أن يصلي: صلى صلا مقيم). قال أبو بكر أحمد: جواب هاتين المسألتين لا خلاف بين أصحابنا فيه. وكذلك قولهم في الحائض إذا ظهرت في آخر الوقت: أنه يلزمها فرض الصلاة، ولو حضات في آخر الوقت: سقط عنها فرض الصلاة. واختلف شيوخنا المتأخرين في الوقت الذي يتعلق به فرض الصلاة، فقال بعضهم، إنما يتعلق حكم الوجوب بآخر الوقت، وقال آخرون: بأول وقت، إلا أنه موسع له في التأخير. وكذا قال من قال بهذه المقالة في الزكاة: إن فرض الزكاة يتعلق بوجود النصاب، إلا أنها تجب وجوبًا موسعًا إلى الحول. وكان شيخنا أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: إن الفرض يتعين بالفعل من أول الوقت إلى آخره، فإذا جاء أخر الوقت تعين الفرض بالوقت، ويحل عليه الوجوب، فعل الفرض أو لم يفعل، وما قبل ذلك

فهو مخير فيه، فإن فعله تعين الفرض بالفعل، وصار ذلك الوقت كأنه وقت الوجوب بعينه. ونظير ذلك ما خير الله عز وجل الحانث في يمينه، بين التكفير بالعتق، أو الكسوة، أو الإطعام، ولا يجوز لنا تعيين شيء من ذلك عليه بنفس الحنث، فإن فعل أحدهما، تعين حكم الفرض منه بالفعل، إذا كان مخيرًا في فعل أيها شاء. كذلك الذي يدخل عليه وقت صلاة، لما كان مخيرًا في أن يفعلها في أي وقت شاء، إلى ان ينتهي إلى الوقت الذي لا يسعه فيه التأخير: لمي عين عليه فرض الصلاة بدخول الوقت، إذ كان له تأخيرها إلى آخر الوقت، لا إلى بدل ولا قضاء؛ لأن المفعول في آخر الوقت غير مفعول على وجه القضاء عما لزمه بأول الوقت. فلما كان كذلك: علمنا أن الفرض لم يتعين عليه بالوقت، حتى إذا فعله: تعين عليه حكم الفرض بالفعل، فإذا صار إلى آخر الوقت تعين عليه الفرض بوجود الوقت؛ لأنه يستحق اللوم بالتأخير، ولأنه لو تركه، تركه إلى قضاء فرض فائت عن وقته. فإذا ثبت ذلك، ثم لم يصل المقيم حتى سافر قبل خروج الوقت، فقد أتى عليه وقت الوجوب، وهو مسافر، فلزمته صلاة المسافر، وكذلك

المسافر إذا قدم قبل خروج الوت، فقد أتى عيه وقت الوجوب وهو مقيم، فلزمه الإتمام. ثم لا يتغير بعد ذلك حكمه بالفوات، كالفجر والظهر إذا فاتنا لم يتغير حكمهما عما لزمتا بالوقت. وقد وافقنا المخالف على أن المسافر إذا قدم في آخر الوقت: لزمه الإتمام، وكذلك الحائض إذا طهرت في آخر الوقت: لزمها فرض الصلاة، وموافقته إيانا في ذلك، يقضي عليه في الظاهر إذا حاضت في آخر الوقت في سقوط فرض الصلاة، والمقيم إذا سافر في آخر الوقت وجوب القصر. مسألة: [لا يجوز الجمع بين الصلاتين في غير عرفة والمزدلفة إلا جمعًا صوريًا]. قال أبو جعفر: (والجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر للمريض أن يصلي الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها، وكذلك المغرب والعشاء، ولا تجمعان في وقت إحداهما إلا بعرفة وجمع). قال أبو بكر أحمد: الأصل في ذلك قول الله تعالى: {وإن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا}: يعني فرضًا مؤقتًا.

وقال عز وجل: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}، وقال: {وأقم الصلاة طرفي النهار}. فلا يجوز لأحد ترك الوقت المفروض فيه الصلاة إلا بدلالة، وقد اتفق الجميع على بعض هذه الصولات، أنه لا يجوز ترك الوقت فيها، كذلك سائرها، لوجود التوقيت فيها. وأيضًا: صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس عند سؤال السائل عن المواقيت في أول مواقيتها وآخرها: ثم قال: "الوقت فيما بين هذين". ونقل الناس هذه المواقيت نقلاً عامًا، قولاً وفعلاً، بحيث يوجب العلم والعمل، فلا يجوز لأحد تركها إلا بمثل مات ورد به نقل الأصل، ولا يجوز إسقاطها بأخبار الآحاد، وبما يحتمل التأويل، ولا بالنظر والمقاييس. وأيضًا: روى عبد الله بن رباح عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلمك "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في

اليقظة؛ بأن يؤخر الصلاة إلى وقت أخرى". فإن احتجوا بما روي عبد الله بن مسعود، ومعاذ، وابن عباس رضي الله عنهم" أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء". قيل له: لم يبين في أخبار هؤلاء كيفية الجمع، فلا تعلق فيها للمخالف، إذ ليس هو عموم لفظ، فينتظم سائر وجوه الجمع، وإنما هو حكاية فعل كان من النبي صلى الله عليه وسلم، فليس مخالفنا بأولى بحمله على مذهبه منا، بحمله على ما نقوله. ويدل أن هذا الجمع كان على ما قلنا، أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة من غير خوف، ولا سفر"، وفي بعضها: "من غير سفر، ولا مطر".

ولا خلاف بين الفقهاء أن الجمع لا يجوز في الإقامة من غير عذر. وروى علي بن موسى القمي قال: حدثنا العباس بن يزيد الحراني قال: حدثنا ابن عينية عن الأعمش عن عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله رضي الله عنه قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة قبل وقتها، إلا بعرفة والمزدلفة". وقد روى عبد الله رضي الله عنه خير الجمع، فعلمنا أن معناه كان على الوجه الذي نقوله. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان ينزل في السفر للمغرب حين يكاد يظلم، فيصلي المغرب، ثم يدعو بعشائه فيتعشى، ثم يصلى العشاء، ثم يركب ويقول: "كذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع".

وروى عطاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول اله صلى الله عليه وسلم في السفر يؤخر الظهر ويعجل العصر، ويؤخر المغرب ويقدم العشاء". وروى أبو سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر صلاة إلى آخر الوقت حتى قبضه الله تعالى". فإن احتجوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما حين استصرخ على صفية بنت أبي عبيدة. قال نافع: فسار حتى غاب الشفق، ثم نزل حتى جمع بينهما، ثم قال: "هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل". وفي بعض ألفاظ الحديث: سار حتى ذهبت فحمة العشاء، ورأينا بياض الأفق.

قيل لهم: أما قوله: "سار حتى غاب الشفق": فإنه لفظ لم يذكره إلا أيوب عن نافع، لم يذكره مالكن ولا الليث، ولا أحد ممن روي ذلك عنه. وقد روى أسامة بن زيد عن نافع هذا الحديث فقال فيه: "فلما كان عند غيبوبة الشفق، نزل فجمع بينهما". فالواجب أن يجعل ما رواه أيوب من قوله: "حتى غاب الشفق": وعلى معنى: مقاربة غيبوبة الشفق، كما قال الله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن}. والمعنى مقاربة البلوغ. وأيضًا: فإنما أراد بالشفق: الحمرة دون الباض، لأن إسماعيل بن أبي ذويب قد روى هذا الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقال فيه: فلما ذهبت فحمة العشاء، ورأينا بياض الأفق، نزل فصلى المغرب، ثم العشاء.

فأخبر أن الباض كان باقيًا حين صلى المغرب، فجائز أن يكون العشاء بعد غيبوبة البياض، ويكون معنى رواية أيوب: أنه صلى حين غاب الشفق يعني الحمرة، وهذا صحيح على أصل أبي حنيفة؛ لأنه يقول ما دام الباض باقيًا، فهو من وقت المغرب. وروى العطاف بن خالد هذه القصة عن نافع، وقال فيهاك "حتى إذا كاد الشفق يغيب"، وهذا محمول على البياض ليصح معنى ما روي "فلما غاب الشفق". ورواه الليث عن نفع وقال فيه: "فسار حتى هم الشفق أن يغيب"، وهذا موافق لمعنى عطاف بن خالد. ويدل على صحة تأويلنا لحديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا: ما روى حصيف عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا حد به السير أخر من الظهر، وعجل من العصر، وأخر من المغرب، وعجل من العشاء". فبين فيه كيفية جمع النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا لم يثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنهما الجمع بين

الصلاتين، إلا ما رواه نافع في قصة صفية حين استصرخ عليها، وكان فيه من اختلاف الألفاظ المحتملة للمعاني ما وصفنا: لم يجز لنا ترك الوقت المتفق على نقله قولاً وعملاً بمثله. ويدل على أن ابن عمر رضي الله عنهما لم يجمع إلا في هذه القصة: ما روي معمر عن إسماعيل بن أمية عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يصلي في السفر كل صلاة لوقتها، إلا صلاتين حين أخبر بوجع امرأته. فبين أنه لم يجمع إلا هاتين الصلاتين، ومعنى هذا الجمع عندنا: تأخير إحداهما إلى آخر الوقت، وتعجيل الأخرى في أول الوقت. وقد روي عن أنس رضي الله عنه في جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين أخبار مختلفة الألفاظ. فروى ليث عن عقيل عن الزهري عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين، وهو مسافر، أخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر، ثم نزل فصلاهما". وروى مفل بن فضالة عن عقيل عن الزهري عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يجمع بين صلاتين في سفر، أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء".

فخالف لفظ الحديث الأول. ولو ثبت اللفظ الأول، وهو قوله: "أخر وقت الظهر حتى يدخل أول وقت العصر": لمي دل على قولهم، بل جائز أن يكون موافقًا لقولنا؛ لأنه لم يحك فيه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وإنما حكى قول أنس رضي الله عنه في ذلك. وجائز أن يكون عند أنس رضي الله عنه أن ما بعد المثل: من وقت العصر، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم قد أخر الظهر إلى بعد المثل، حتى قارب المثلين فصلى الظهر، ثم صلى العصر بعد المثلين، فقال أنس رضي الله عنه: "صلى الظهر في أول وقت العصر": على ما كان عنده. ويروى عن ابن عباس رضي الله عنه حديث مثل حديث أنس رضي الله عنه، وهو محمول على المعنى الذي حملنا عليه حديث أنس رضي الله عنه. * ومما يدل على ان جمع النبي صلى الله عليه وسلم كان على الوجه الذي قلنا: أنه لم يرو عنه الجمع إلا بين صلاتين متجاورتي الوقت، وأنه لم يجمع بين الظهر والفجر، ولا بين الفجر والعشاء. فإن قيل: لما جاز الجمع بعرفة والمزدلفة، لأجل العذر، قسنا عليهما سائر الأعذار في جواز الجمع. قيل له: قد بينا فيما سلف أن ما ثبت نقله من طريق التواتر، وصح من جهة توجب العلم، لا يعترض عليه بالقياس، ولا بأخبار الآحاد، وهذه

صفة ما اختلفنا فيه. وعلى أن اعتبار الجمع بين الصلاتين، لجوازه بعرفة والمزدلفة. ساقط، لاتفاق الجميع على أنه غير جائز له هناك تأخير الظهر إلى وقت العصر، ولا تعجيل العشاء في وقت المغرب، وإنما جوز الجمع هناك على غير هذا الوجه، فكيف يكون الجمع في غيرهما فرعًا عليهما، مع اتفاق الجميع على امتناع الجمع بعرفة والمزدلفة على الوجه الذي جوزه مخالفنا في غيره؟ * ومن جهة النظر: اتفاق الجميع على امتناع جواز الجمع بين الفجر والعشاء، وبين المغرب والعصر؛ لأن لكل واحد منهما وقتًا مع عدم الإحرام، فوجب أن تكون سائر الصلوات بمثابتها. مسألة: [يتم المقيمون بعد فراغ أمامهم المسافر] قال أبو جعفر: (ومن صلى وهو مسافر بمقيمين، صلوا بعد فراغه تما صلاتهم وحدانًا، وينبغي للإمام أن يقول لهم: أتموا، فأنا قوم سفر). قال أبو بكر: وذلك لأنهم لا يتعين فرضهم إلى القصر بدخولهم في صلاة المسافر؛ لأنهم مقيمو، ولو نووا السفر وعزموا عليه، كانت إقامتهم هناك مانعة لهم من الانتقال إلى حكم المسافرين، كذلك دخولهم

في صلاة المسافر. وليسوا كالمسافر يقتدي بالمقيم فيتم؛ لأن المسافر لو نوى الإقامة، صار مقيمًا بنية من غير فعل، فدخوله في صلاة المقيم أحرى أن يصير في حكم المقيمين. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تختلفوا على إمامكم". وقال: "ما أدركتم الوضوء فضلوا، وما فاتكم فاقضوا". فاقتضى ظاهر هذه الألفاظ لزوم الإتمام بالدخول في صلاة المقيم. * وينبغي للإمام إذا فرغ أن يقول لهم: "أتموا، فإنا قوم سفر"، لما روى عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بمكة ركعتين ثم قال: "أتموا يا أهل مكة، فإنا قوم سفر". * وحكم أن أبا يوسف حج مع الرشيد، فصلى الرشيد بمكة ركعتين، فلما سلم أقام أبا يوسف فقال: أتموا يا أهل مكة، فإنا قوم سفر. فقال له رجل من أهل مكة: نحن أفقه وأعلم بهذا منك.

فقال أبو يوسف: لو كنت فقيهًا ما تكلمت في الصلاة". فقال الرشيد: ما سرني بها خمر النعم": يعني بجواب أبي يوسف للمكي. مسألة: [الصلاة في السفينة، وكيفيتها]. قال أبو جعفر: (ومن صلى فريضة في سفينة قاعدًا، وهو يطيق القيام: فإن ذلك يجزئه في قول أبي حنيفة، وقال أبو يسف ومحمد: لا يجزئه إلا من عذر". قال أبو بكر: لأبي حنيفة ما روى أنس بن سيرين قال: "خرجت مع أنس بن مالك رضي الله عنه بأرض بثق شيرين، حتى إذا كنا بدحلة حضرت الصلاة، فأمنا قاعدًا على بساط السفينة، وإن السفينة لتجر جرًا.

ولا يروي عن أحد من الصحابة خلاف ذلك. قال أبو بكر أحمد: هذا إنما يجيزه أبو حنيفة إذا كانت السفينة سائرة، فأما إن كانت موثقة في الشط: لم تجزه الصلاة إلا قائمًا، كما رواه معلى عن أبي حنيفة. وقال الحسن عن أبي حنيفة: هو مسيء في الصلاة في السفينة قاعدًا، وتجزئة، قال: وقال أبو حنيفة: إن كانت السفينة على قرار الأرض: لم يجزئه أن يصلي جالسًا. * ومن جهة النظر: أن فرض القيام لم يثبت في الصلاة إلا في موضع استقرار، بدلالة أن الراكب في الحال التي تجوز له فيها الصلاة راكبًا، ليس عليه فيها فرض القيام، لأجل عدم الاستقرار، فلما جازت الصلاة في السفينة بالاتفاق، وهي سائرة، دل ذلك على أنه ليس عليه فرض القيام. ولأبي يوسف ومحمد: أن القيام من فرض الصلاة، فلا يجوز تركه مع القدرة عليه، كما لا يجوز ترك الركوع والسجود إلى الإيماء مع الإمكان. *****

باب صلاة الجمعة

باب صلاة الجمعة مسألة: [أذان الجمعة وما يحظر عنده ووجوب الخطبة] قال أبو جعفر: (وإذا زالت الشمس يوم الجمعة، جلس الإمام على المنبر، وأذن المؤذنون بين يديه، وامتنع الناس من الشراء والبيع، وأخذوا في السعر إلى الجمعية، فإذا فرغ المؤذنون من الأذان، قام الإمام فخطب خطبتين، يفصل بينهما بجلسة خفيفة). قال ابو بكر أحمد: وذلك لقول الله عز وجل: {يا أيها الذين أمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فأسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}، فانتظمت الآية معاني: منها: الأذان للجمعة، ولزوم السعي إليها، وترك الاشتغال بالبيع، والخطبة: لقوله: {فاسعوا إلى ذكر الله}. والنهي عن البيع، وإن كان مخصوصًا بالذكر، فليس المقصد فيه

البيع، دون غيره من الأمور الشاغلة عن الجمعة، وإنما ذكر البيع؛ لأن أكثر من كان يتخلف عنها لأجل البيع، وكان البيع من عظيم منافعهم ومقاصدهم. ونص على البيع، وعقل به أن ما دونه مما يشغل عنها: أولى بأن يكون منهيًا عنه، كما قال الله عز وجل: {فلا تقل لهما أف}، فأعلم أن هذا القدر إذا كان محظورًا، فما فوقه أولى بذلك. وكما قال: {ولحم الخنزير}، وجميع أجزائه محرم. وهو كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة"، ومعلوم أن جميع ما يشغل عن صلاة الإمام داخل في النهي، لكنه نص على الصلاة، ليعلم أن ما سواها أولى بالنهي. وروى أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة إذا مالت الشمس"، وكان الأذان والإقامة- كما ذكر أبو جعفر- في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان خلافه عثمان رضي الله عنه، وكثر الناس، أمر عثمان يوم الجمعة

بالأذان الثالث، كذلك رواه الزهري عن السائب بن يزيد رضي الله عنه. * وقوله: (فاسعوا إلى ذكر الله) يدل على وجوب الخطبة: لأنه لا ذكر هناك يجب السعي إليه بعد الأذان إلا الخطبة، ولما أوجب السعي إليها، دل على وجوبها، إذ لا جائز أن يكون السعي واجبًا، إلا وهي واجبة؛ لأنها لو كانت نفلاً، جاز تركها، وترك السعي إليها. وروى ابن عمر، وجابر بن سمرة رضي الله عنهم "أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين يجلس بينهما". * وقوله تعالى: {فأسعوا إلى ذكر الله}: يدل أيضًا على أن الخطبة جائزة بكل ما كان ذكر الله، قليلاً كان أو كثيرا، فحصلت فوائد الآية على خمسة أوجه منها: الأذان للجمعة، ووجوب الخطبة، وجوازها بكل ذكر، ولزوم السعي، ولزوم ترك البيع.

مسألة: [الجمعة ركعتان] قال أبو جعفر: (إذا فرغ الإمام من خطبته، أقام المؤذنون الصلاة، وصلى بهم الجمعة ركعتين). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصليها كذلك. * قال: (ويقرأ في الأولى منهما بفاتحة الكتاب وسورة الجمعة، وفي الثانية بفاتحة الكتاب وسورة المنافقين، وإن قرأ غيرهما أجزأه). قال أبو بكر أحمد: كره أصحابنا أن يقصد سورة بعينها، يقرأها لا يقرأ غيرها؛ لأنه لا ينبغي أن يتخذ شيئًا من القرآن مهجورًا. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم "قرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة، وإذا جاءك المنافقون".

وروي "أنه قرأ فيها بـ: سبح اسم ربك الأعلى، و: هل أتاك حديث الغاشية". وروي "أنه قرأ فيها سورة الجمعة، و: هل أتاك حديث الغاشية". وهذا يدل على أنه لمي كن يدوم على قراءة شيء واحد، لا يقرأ بغيره مسألة: [من أدرك إمام الجمعة في التشهد] (ومن أدرك الإمام في يوم الجمعة في التشهد، أو فيما سواه، صلى ما أدرك معه، وقضى ما افته في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وفي قول محمد: يصلي أربعًا إن لم يدرك معه ركعة، ويقعد في الركعة الثانية مقدار التشهد، فإن لم يفعل صلى الظهر أربعًا). * الحجة للقول الأول: قو النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا"، ومعلوم أن المراد فما فاتكم من صلاة الإمام؛ لأن قوله: "ما أدركتم": يعني من صلاة الإمام، والذي فاته مع الإمام: ركعتان، فيقضيهما، ولو أمر بفعل الأربع: كان قاضيًا لما لم يفته. * ومن جهة النظر: أنه أدركه في حال بقاء التحريمة، فصار كمدركه في أولها، والدليل عليه: أن مسافرًا لو دخل في صلاة مقيم في هذه

الحال، لغير فرضه إلى فرض إمامه، وكان إدراكه له في آخرها، كهو في أولها. * ويدل عليه أيضًا: اتفاق الجميع أنه لو أدرك معه ركعة بني على الجمعة، والمعنى فيه إدراكه مع بقاء التحريمة. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك من الجمعة ركعة أضاف إليها أخرى، وإن أدركهم جلوسًا صلى أربعًا". وروي في بعض الألفاظ: "من أردك دونها: صلى أربعًا". قيل له: هذا حديث واه ضعيف، لا يثبته أهل النقل على هذا الوجه، وإنما أصله ما رواه معمر والأوزاعي ومالك عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك من صلاة ركعة، فقد أدركها".

قال معمر عن الزهري: "فنرى أن الجمعة من الصلاة". فهذا هو أصل الحديث، وفيه بيان أن ذكر الجمعة ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو كان من النبي صلى الله عليه وسلم، لما أخبر به عن رأيه. وقد رواه عبد الرازق بن عمر الدمشقي والحجاج بن أرطاة، فذكرا فيه الجمعة. ويجب أن يكون ذكر الجمعة فيه م كلام الزهري مدرجًا في الحديث. وأيضًا: فلو ثبت أن قوله: "من أدرك من الجمعة ركعة، أضاف إليها أخرى": من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لم يدل على أن ما دوها، فحكمه بخلافه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك ركعة من العصر، فقد أدرك"، وحكم ما دونها بمثابتها في لزوم الفرض لإدراكه.

وأما قوله: "ومن أدركهم جلوسًا صلى أربعًا": فإنه رواه ابن المبارك عن أشعث بن سواء عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "من أدرك من الجمعة ركعة أضاف إليها أخرى، وإن أدركهم جلوسًا صلى أربعًا". فجعل ذلك من قول ابن عمر رضي الله عنهما، وهو الصحيح. فإن قيل: قد روي بهذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم. قيل له: ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قالك "فإن أدركهم جلوسًا صلى أربعًا". ولو ثبت أن الكلام الأول من قول النبي صلى الله عليه وسلم، لما دل على أن الأخير من قوله، لاحتمال ان يكون من قول الراوي، أدرجه في الحديث. كما روى قتادة عن الحسن عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عهده الرقيق ثلاثة أيامن فإن وجد داء في الثلاث: رد بغير بنية، وإن وجد داء بعد الثلاث: كلف البينة أنه اشتراه وبه هذا الداء". والكلام الآخر من قول قتادة من عند قوله: "إن وجد" إلى: "الداء"، وقد بين ذلك في أخبار أخر، فلا يمتنع أن يقول الراوي: قال النبي

صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الجمعة، فقد أدرك"، ويقول موصولاً بذلك من قبل نفسه: "وإن أدركهم جلوسًا صلى أربعًا، فيكون ذلك من فتيا الرواي. ولوث بت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من قوله، كان معناه: إن أدركهم جلوسًا بعد السلام، قبل الانصراف؛ لأنه لم يقل: "أدركهم جلوسًا في الصلاة". فإن قيل: روى بشر بن معاذ عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك من الجمعة ركعة أضاف إليها أخرى، ومن أدرك دونها صلى أربعًا". قيل لهك هذا غلط لم يروه أحد من المشهورين عن الزهري. ولو ثبت كان إخبارًا عن المعنى عنده، لا لفظًا من النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضًا قوله: "ومن أدرك دونها": من قول الراوي على ما بينا. مسألة: [وقت الجمعة] قال: (ولا تجزئ الجمعة إلا في وقت الظهر).

وذلك لأن فرض الجمعة لما كان مجملاً في الكتاب، مفتقرًا إلى البيان، ثم لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها إلا في وقت الظهر، صار فعله لها على هذا الوجه على الوجوب. ويدل عليه أيضًا قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، والنبي صلى الله عليه وسلم صلاها في وقت الظهر. وأيضًا: لو جازت في وقت العصر، لجازت في وقت المغرب؛ لأنها كانت تفعل في الوجهين جميعًا، إن فعلت على وجه القضاء. مسألة: [من شروط صلاة الجمعة: المصر الجامع]. قال: (ولا تكون إلا في مصر جامع). وذلك لما روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع". وهو قول علي رضي الله عنه. وأيضًا: فإن فرض الجمعة لازم للكافة، ولو وجبت في غير مصر.

جامع، لورد النقل بها متوترًا في القرى، ومياه الأعراب، والرساتيق. كورودها في الأمصار، لعموم الحاجة إليه. فإن فيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا، فمن تركها استخفافًا بها، وجحودًا لها، فلا جمع الله له شمله". قيل له: لو كان هذا عمومًا في سائر المواضع، خصصناه بما ذكرنا. ولأن أخبار الآحاد لا تقبل فيما عمت الحاجة إليه. فإن قيل: روى كعب بن مالك رضي الله عنه أن أسعد بن زرارة رضي الله عنه أول من جمع في حرة بني بياضة. قيل له: ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بها، ولا أنه علم، فأقره عليها، وما لم يكن من فعل الصحابي على أحد هذين الوجهين: فلا حجة فيه. وأيضًا: فلا خلاف أنها لا تفعل البادية، ولا في مياه الأعراب،

وخبرك يوجب جوازها في هذه المواضع، وهذا لا خلاف فيه. فإن قيل: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أول جمعة جمعت في الإسلام بجواثًا، قرية من قرى البحرين. قيل له: العرب تسمى المصر قرية، قال الله تعالى: {وكأن من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك}، وقال تعالى: {ولتنذر أم القرى}. مسألة: [اشتراك السلطان لإقامة الجمعة] قال: (ولا يقوم بها إلا ذو سلطان). وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلمك "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وكان فعله لها بإمام، فهو سلطان. وقد روى نحو قولنا عن الزهري، وسليمان بن يسار، ورواه

الحسن عن رجل من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضًا: لما لم يجز لكل واحد من الناس فعلها منفردًا دون الاجتماع. أشبهت الحدود التي لا لزم الكافة إقامتها، لم يجز لكل واحد إقامتها منفردًا قيام الإمام بها. وليست كسائر الصلوات؛ لأن لكل أحد فعلها منفردًا. وأيضًا: لما كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم للجمعة على وجه البيان، كان الإمام شرطًا فيها، لأنه يقتضي الوجوب، وكذلك فعلها. ولم ينقل أيضًا فعلها من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا إلا بسلطان، فدل أنه من شرطها. وأيضًا: لو جازت بغير سلطان، لتنازعها الناس، ولجاز لكل أحد أن يفعلها في مسجد، فاحتيج لذلك فيها إلى سلطان يقيم رجلاً بعينه، ليقطع التنازع، ويحسم الخلاف. مسألة: [العدد الذي تنعقد به الجمعة] قال أبو جعفر: (ولا تقوم الجمعة إلا بثلاثة سوى الإمام، وقال أبو يوسف بأخرة: اثنان سوى الإمام). قال أبو بكر: الحجة قول الله عز وجل: {وإذا نوى للصلاة من يوم

الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} واقتضى ظاهرة جوازها بقليل العدد وكثيرة، فبطل به قول من شرط أربعين رجلاً. فإن قيل: نثبت أنها جمعة أولاً، ثم نعتبر العموم. قيل له: ليس كذلك؛ لأنه أمرنا بالسعي إلى الذكر إذا نودي للصلاة؛ فاقتضى الظاهر وجوبها بحصول النداء. ويدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا"، ولم يشترط عددًا، فظاهره يقتضي جوازها بسائر الأعداد. وأيضًا: روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه في قول الله عز وجل: {وتركوك قائمًا}: قال: قدمت عير فانفضوا إليهان ولم يبق إلا أثنا عشر رجلاً. ولم تختلف الرواية أن ذلك كان في شأن الجمعة، ولم يذكر رجوعهم بعد ما انفضوا، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الجمعة منذ قدم المدينة، فدل على أنه صلاها بهذا العدد؛ لأنهم لو كانوا رجعوا

لنقل، فلما لم ينقل: لم يجز إثبات رجوعهم، فدل على بطلان اعتبار الأربعين. وروى الواقدي بأسانيد ذكرها أن أول من جمع في الإسلام مصعب بن عمير رضي الله عنه حين قدم المدينة، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، كتب إليه أن يصلي الجمعة بعد زوار الشمس ركعتين. وأن يخطب، فجمع مصعب بن عمير رضي الله عنه في دار سعد بن خيثمة رضي الله عنه، وهم اثنا عشر رجلاً. قال الواقدي: وقد روى قوم من الأنصار أن أول من جمع بهم أبو أمامة أسعد بن زرارة رضي الله عنه.

وأيضًا: فقد اتفق الجميع على أن من شرائطها: جمعًا تنعقد بهم الجمعة سوى الإمام، وقد وجدنا الجمع الصحيح ثلاثة، وما دونها من الجمع مختلف فيه، ألا ترى أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان إذا كان معه رجلان، أقام أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، فوجب أن لا يختلف حكم الثلاثة وما فوقها إذا لم يختلفا من حيث هو جمع صحيح، يصلح أن يكونوا أئمة في الجمعة. وكما اتفقوا في الأربعين، كان الثلاثة مثلهم، لاتفاقها في باب الجمع الصحيح. فإن قيل: في حديث كعب بن مالك: أن أول جمعة جمعت بالمدينة، بأربعين رجلاً. قيل له: ليس فيها: لا يجوز بأقل منها، وهو كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قطع رجلاً في جمل سرقه"، فلا يكون تقديرًا

لم يقطع فيه السارق. * وأما ما حكاه عن أبي يوسف، فإنه غير مشهور عنه، ولم أجد أحد حكى عنه. مسألة: [إذا دخل المسجد والإمام يخطب لا يصلي] قال أبو جعفرك (ومن دخل المسجد يوم الجمعة، والإمام يخطب جلس ولم يركع). وذلك لقوله تعالى: {وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}، فورى أنها نزلت في شأن الخطبة. ومن جهة السنة: من حدثنا أبو بكر بن أحمد بن إبراهيم العطار قال: حدثنا أبو شعيب عبد الله بن الحسن الحراني قال: حدثنا يحيي بن عبد الله بن الحسن الحراني قال: حدثنا يحيي بن عبد الله بن الضحاك البابلي قابل: حدثنا ايوب بن نهيك قال: سمعت عامرًا الشعبي قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا دخل

أحدكم المسجد، والإمام على المنبر، فلا صلاة له، ولا كلام، حتى يفرغ الإمام". وأيضًا: اتفقوا على أن من كان قاعدًا في المسجد حتى ابتداء الخطبة: لم يركع، كذلك الداخل. كما لا يختلف الداخل والجالس في منع الكلام، والعلة الجامعة بينهما، كونه مأمورًا باستماع الخطبة في الحالين. فإن قيل: روي أنس لكًا الغطافي رضي الله عنه دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فأمره أن يصلي ركعتين. وعن أبي سعيد أنه صلى ركعتين، ومروان يخطب، فقال: "ما كنت لأدعها بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم". قيل له: يعارضه حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وأيضًا: روى قتيبة بن سعيد عن ليث بن أبي الزبير عن جابر رضي الله

عنه قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقعد سليك قبل أن يصلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أركعت ركعتين؟ " قال: لا. قال: "قم فاركعهما". فثبت أنه أمره بالصلاة وهو قاعد لغير خطبة الجمعة؛ لأنه لا يخطب للجمعة قاعدًا. فإن قيل: روي في آخر، أنه دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب. قيل له: نصحح الخبرين، فنقول: كان قاعدًا يخطب لغير الجمعة. ويدل على أنه لم يأمره بها في حال خطبة الجمعة، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أخبار مستفيضة من النهي عن الكلام والإمام يخطب، والتشديد فيه. فإن صح أنه أمره بالصلاة في حال الخطبة، فجائز أن يكون في حال كان الكلام مباحًا فيها ف يحال الخطبة، ثم ورد النهي، فقضى على الإباحة.

وحديث أبي سعيد رضي الله عنه محمول على المعنى. فإن قيل: روى شعبة عن عمرو بن دينار عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يوم الجمعة: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، والإمام يخطب، أو قد خرج الإمام، فليصل ركعتين". قيل: يحتمل أن يكون قبل النهي عن الكلام في حال الخطبة. وعلى أن الراوي قد شك في انه في حل الخطبة، أو خروج الإمام. ولو ثبت: عارضة فيه حديث ابن عمر رضي الله عنه. مسألة: [تعدد الجمعة في المصر] قال: (ولا بأس بأن يجمع الناس في المصر في مسجدين، ولا يجمع فيما هو أكثر من ذلك، هكذا روى محمد. وقال أبو يوسف: لا يجوز لا في مصر يكون جانبين، بينهما نهر، فيكون كمصرين، وإن لم يكن بين المسجدين نهر: فالجمعة لمن سبق

منهما، وعلى الآخرين أن يعيدوا ظهرًا). قال أبو بكر أمد: لا يحفظ عن أبي حنيفة في ذلك شيء، والأول هو قول محمد، شبهة بصلاة العيدين في المسجد، والجبانة. وقو روى أن عليًا رضي الله عنه كان يخلف رجلاً يصلي العيد بضعفه الناس في المسجد، ويخرج هو، فيصلي بهم في الجبانة. والجبانة في حكم المصر، لولا ذلك لما أجزأ فيها صلاة العيد؛ لأن من شرطها أن تفعل في المصر، فلما جاز ذلك في العيد بالاتفاق، جاز في الجمعة، إذ كان من شرطهما جميعًا المصر. ولأبي يوسف: أنه لو جاز في مسجدين: جاز في ثلاثة وأربعة، حتى يصلى في كل مسجد، وهذا ساقط بإجماع، فكذلك في مسجدين. فأما إذا كان بين المسجدين نهر عظيم، مثل دجلة، فإن الجانبين يكونان كالمصرين، فيجوز.

[مسألة:] قال: (فإن صلى أهل المسجدين معًا: فسدت صلاتهم جميعًا في قول أبي يوسف). يعني في المصر الذي ليس فيه نهر؛ لأن أحدهما ليس بأولى لجواز الصلاة فيه من الآخر. قال أبو بكر أحمد: وقد حكى أبو الحسن الكرخي رحمه الله عن خلف بن أيوب عن أبي يوسف أنه قال: تجزئ الجمعة في موضعين من المصر، ولا تجزئ في ثلاثة. قال: وقال محمد: تجزئ. مسألة: [النقل المستحب بعد الجمعة] قال أبو جعفر: (ومن صلى الجمعة، فينبغي له أن ينتقل بعدها بأربع ركعات، لا يسلم إلا في آخرهن، وأما أبو يوسف فقالك ينبغي له أن يتطوع بعدها بست ركعات: أربعًا، ثم ثنتين). وجه قول أبي حنيفة: ما روى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا صليتم الجمعة فصلوا بعدها أر بعًا". وفي لفظ آخر: "من كان مصليًا بعد الجمعة، فليصل أربعًا".

وروى ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة في بيته ركعتين". وروى عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من شاء صلى قبل الجمعة أربعًا، وبعدها أربعًا، لا يفصل بينهن". مسألة: [غسل يوم الجمعة] قال: (ومن اغتسل يوم الجمعة فقد أحسن، ومن ترك فلا حرج عليه). لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من توضأ يوم الجمعة فيها ونعمت، من اغتسل فالغسل أفضل". رواه أبو سعيد، وجابر، وأنس، وأبو هريرة رضي الله عنهم أجمعين.

مسألة: [صلاة التطوع بالنهار] قال: (والتطوع بالنهار من شاء أن يجعله أربعًا لا يسلم إلا في أخرهن: فعل، ومن شاء سلم في كل ثنتين). وذلك لما روى علي رصي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر أربعًا". وقال عمر رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أربع ركعات بعد الزوال قبل الظهور يعدلن صلاة السحر". وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدمن أربع ركعات بعد الزوال قبل الظهر". قال أبو أيوب: قلت: [يا رسول الله] أفي كلهن قراءة؟ قال: نعم. قلت: فهل فيهن تسليم فاصل؟ قال: لا". وقد روى "أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الظهر

ركعتين"، في أخبار أخر، فدل على جواز الأربع والاثنتين: مسألة: [صلاة التطوع بالليل]. قال: (وأما التطوع بالليل، من شاء صلى بتكبيره ركعتين، ومن شاء أربعًا، ومن شاء سنًا، ومن شاء ثمانيًا في قول أبي حنيفة". وقال أبو يوسف ومحمد: (صلاة الليل مثنى مثنى). لأبي حنيفة ما روي عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العشاء الآخرة أربعًا، لا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا لا تسأل عن حسنهن وطولهن". وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "من صلى أربع ركعات بعد العشاء الآخرة، كن كمثلهن من ليلة القدر". ومقادير ثواب الأعمال لا تعلم إلا من طريق التوقيف، فدل على أنه قال توقيفًا. وروى قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام عن عائشة رضي

الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي في الليل ثمان ركعات، لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيجلس، فيذكر الله، ثم يدعو، ثم يسلم تسليمًا يسمعنا، ثم يصلي ركعتين، وهو جالس بعد ما يسلم. حدثنا بذلك محمد بن بكر قال:" حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا يحيي بن سعيد عن سعيد عن قتادة". ومعلوم أنه لم يرد به ترك الجلوس رأسًا في كل ركعتين، فإذا معناه: أنه لم يسلم إلا في آخرهن، فثبت جواز ثمان ركعات بتسليمه. * ومن جهة النظر: أن متابعة القرب أفضل من تفريقها، ألا ترى أن المتابعة قد صارت شرطًا في صوم الظهار، وكفارة القتل، فكذلك متابعة الظهر أربع ركعات. وقد روى عن أبي يوسف: في رجل نذر أن يصلي أربع ركعات بتسليمة، أنه لا يكون له أن يفعلها بتسليمتين، ولو نذر أن يفعلها بتسليمتين: جاز له فعلها بتسليمة، كرجل قال: لله على صوم شهر متتابع، أنه لا يكون له التفريق. فلو قال: على صوم شهر متفرق: جاز له أن يتابع، فدل على أن المتابعة بين ركعات الصلاة قربة، فله فعلها ما لم تقم الدلالة على تركها. وأيضًا: فإنه إذا لم يسلم في الثنتين: كان قيامه إلى الثالثة من أعمال

الصلاة، فهو أفضل من أن يكون قيامه من غير أفعال الصلاة، إلا أن تقوم الدلالة على أن تركه أولى. وأما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة الليل مثنى مثنى": فمعناه القعدة في كل ثنتين، كما قال في خبر آخر: "وفي كل ثنتين، فسلم": يعني فتشهد. والدليل عليه ما حدثنا دعلج قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ قال: حدثنا أبي قال: حدثنا شعبة عن يعلى بن عطاء عن علي البارقي الأزدي، عن ابن عمر رضي الله عنهما، سمعت يحدث عن رسول الله ص أنه قال: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى". ولا خلاف في جواز فعل الأربع الركعات من صلاة النهار بتسليمة، فدل على أن المراد ما وصفنا. * وذهب أبو يوسف ومحمد إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى".

مسألة: [من لا تجب عليهم الجمعة] قال: (ولا تجب الجمعة على مسافر، ولا عبد، ولا امرأة، ولا صبي، وإن صلوا: أجزأهم). وذلك لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: ثناء الحسين بن إسحاق التستري قال: حدثنا القاسم بن دينار قال: حدثنا إسحاق بن منصور عن هريم، عن إبراهيم بن محمد المنتشر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجمعة واجبة على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد، أو أمة، أو مريض، أو صبي". وروى أبو حنيفة عن أيوب بن عائد عن محمد بن كعب عن لنبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة لا جمعة عليهم: المرأة، والعبد، والمريض، والمسافر". وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: "نهى رسول الله ص أن نأتي الجمعة".

وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على مسافر جمعة". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن الوليد الكرابيسي قال: حدثنا إبراهيم بن الحسن قالك حدثنا محمد بن بدر، عن يحيي بن حمزة عن الحكم ن القاسم عن أسماء رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على النساء أذان، ولا إقامة، ولا جمعة، ولا جماعة". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة المرأة في دارها خير من صلاتها في مسجد حيها". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله عن مساجد الله، وبيوتهن خير لهن". ويدل على أن المسافر لا جمعة عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم

يجمع في شيء من أسفاره، ولو جمع، لنقل كما نقل في غيره. مسألة: [فرض الوقت هو الظهر، والجمعة بدل عنها] قال: (ومن صلى في بيته يوم الجمعة الظهر: أجزأه، ما لم يخرج بعد ذلك يريد الجمعة). وذلك لأن فرض الوقت عند أبي حنيفة وأبي يوسف هو الظهر، والجمعة بدل منها. والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وأول وقت الظهر حتن نزول الشمس"، ولم يفرق بين الجمعة وغيره. وأيضًا: قد اتفقوا على أنه لو لم يصل الإمام الجمعة، حتى خرج الوقت: صلى الظهر فائتة، فدل على أنها لزمت في الوقت قبل فوات الجمعة، إلا أن فرض الوقت - وإن كان هو الظهر - فإن عليه إسقاطه بفعل الجمعة. ويدل على أن فرضه هو الظهر، أن فرض الجمعة غير متعلق بفعله، بل بشرائط من غير فعله، نحو الإمام، والخطبة، والجماعة، فدل على أن فرض الوقت هو الظهر الذي يجب فعله، ثم عليه إسقاطها بفعل الجمعة إذا وجدت شرائطها.

* وقال محمد: فرض الوقت هو الجمعة؛ لأن عليه إتيانها. وترك الظهر لها، ولو كان فرض الوقت هو الظهر، ما كان عاصيًا بفعلها وتخلفه عن الجمعة. ونبين لك موضع الخلاف بينهم، بقولهم فيمن صلى الجمعة، وهو ذاكر للفجر يخاف ان تفوته إن صلى الفجر. قال فيه أبو حنيفة وأبو يوسف: لا تجزئه الجمعة؛ لأنه متى ترك الجمعة، أمكنه فعل الظهر الذي هو فرضه من غير فوات. وقال محمد: يصلي الجمعة إذا خاف فوتها، كالذي يذكر الفجر في آخر وقت الظهر، فيخاف قوتها إن اشتغل بالفجر، فيصلي صلاة الوقت، لئلا تفوته. إلا أن محمدًا يلزمه على أصله: أن لا يجيز الظهر قبل فعل الإمام الجمعة؛ لأن الجمعة هي الأصل، والظهر بدل منها عند القوات، فلا يجوز فعلها مع إمكان فعل الأصل، كصوم الكفارة مع وجود الرقبة، ونظائره. ويفرق محمد بينهما، بأن الظهر وإن كان بدلاً من الجمعة، فليس فعل الجمعة موقوفًا على فعله، إلا باستكمال شرائطها، وتلك الشرائط ليست من فعله، فتكون مراعاة، فإن أدرك الجمعة بطلت، وإن لم يدركها صحت. * وقول زفر مثل قول محمد في أن فرض الوقت هو الجمعة، وهو

على القياس في منعه جواز الظهر قبل أن يصلي الإمام الجمعة. * قال أبو جعفر: (فإن خرج بعد ذلك يريد الجمعة، قبل فراغ الإمام منها: انتقض الظهر، وقال ابو يوسف ومحمد: لا ينتفض حتى يدخل في الجمعة). لأبي حنيفة: أنهم متفقون على أن دخوله في الجمعة ينقض الظهر، والدخول فرض من فروضها، كذلك السعي، لما كان من فروضها، لقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله}: وجب أن ينتفض به الظهر، كما انتفض بالدخول. فإن قيل: والطهارة من فروضها، ولو توضأ يريد الجمعة: لم ينتفض الظهر. قيل له: لأن الطهارة لا تختص بالجمعة دون غيرها، وفرض السعي مختص بالجمعة، دون غيرها من الصلوات؛ لقول الله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله}. وفي القارن إذا خرج إلى عرفات قبل طواف العمرة روايتان: إحداهما: لا يصير ناقضًا لعمرته حتى يقف لها، وهي الرواية المشهورة.

والأخرى: أنه يصير رافضًا بالخروج إليها قبل الوقوف، وهو نظير السعي إلى الجمعة بعد فعل الظهر. والفرق بينهما على الرواية المشهورة: أن الإحرام أكد في حال البقاء من الصلوات؛ لأن ترك بعض فروض الصلاة: يخرجه منها، وترك بعض قروض الإحرام: لا يخرجه منه، فلذلك اختلفا. مسألة: [أقل ما يجزئ في الخطبة] قال: (ومن خطب يوم الجمعة بتسبيحة واحدة: أجزأه في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجزئه حتى يكون كلامًا يسمى خطبة). لأبي حنيفة ظاهر قوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}، فالذكر الذي يلي الأذان هو الخطبة، فدل على جوازها بكل ذكر. وروي أن رجلاً قال: يا رسول الله! علمين عملاً يدخلني الجنة، فقال: "لئن أقصرت الخطبة، لقد أعرضت المسألة".

فسمى هذا القول منه خطبة: وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "صلاة الجمعة ركعتان، وإنما قصرت لأجل الخطبة". وخطب عمار رضي الله عنه، فأوجز، فقيل له: لقد أوجزت، فلو كنت تنفست، فقال: "أمرنا الله صلى الله عليه وسلم بإقصار الخطبة، وإطالة الصلاة". وروي عدي بن حاتم رضي الله عنه أن رجلاً خطب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال: "قم. بئس الخطيب أنت". وأيضًا: فإن المقصد من الخطبة ذكر الله تعالى؛ لأن القربة في تلك، فلا اعتبار بتطويل الكلام معه.

* وقال أبو يوسف ومحم: الكلمة الواحدة لا تسمى خطبة، والجمعة إنما فعلت بخطبة، فلا يجزي إلا أن يأتي بما يسمى خطبة على الإطلاق. *****

باب صلاة العيدين

باب صلاة العيدين [مسألة: ما يستحب فعله يوم العيد] قال أبو جعفر: (ويستحب للرجل يوم الفطر أن يغتسل، وأن يستاك، وأن يتطيب، وأن يطعم، ويخرج صدقة الفطر، ويلبس من أحسن ثيابه، فيغدو إلى مصلاه). قال أبو بكر: أما استحباب الغسل والسواك والتطيب، فكما يستحب يوم الجمعة؛ لأن العلة التي لها أمر بذلك في الجمعة موجودة في صلاة العيدين، وهو ما روي أن النسا كانوا عمالاً لأنفسهم، فيعرفون، ثم يحضرون الجمعة، فقيل لهم: لو اغتسلتم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستاك ويمس من طيب أهله". وذلك كله تأديب لئلا يتأذى بعضهم ببعض. * وأما قوله: يطعم قبل الخروج، فلما حدثنا دعلج قال: حدثنا أبو

مسلم قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا ثواب بن عتبة المهري قال: حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم، ولا يأكل يوم الأضحى حتى يرجع، فيأكل من أضحيته". * وأمات إخراج صدقة الفطر؛ فلما روى أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة". وكان ابن عمر يؤديها قبل ذلك. [الجهر بالتكبير في الرواح لمصلى العيد] قال أبو جعفر: (ويغدو إلى مصلاه كذلك جاهرًا بالتكبير حتى يأتي مصلاة). وذلك لقول الله تعالى: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم}.

[مسألة: ما يفعله يوم النحر] قال: "ويفعل يوم النحر كذلك، إلا أنه إن شاء طعم، وإن شاء لم يطعم". قال أبو بكر أحمد: أما التبكير؛ فلقول الله تعالى: {ويذكروا اسم الله في أيام معلوماتْ: قيل: إنها أيام العشر، ويوم النحر منها. وأيضًا: لما ثبت ذلك من سنة يوم العيد، وجب أن لا يختلف فيه الفطر والأضحى. ويحكى عن أبي حنيفة أنه يكبر في الأضحى؛ دون الفطر. * وأما قوله: إن شاء طعم، وإن شاء لم يطعم: فإن المستحب عندهم أن لا يطعم حتى يرجع م المصلى، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه. مسألة: [صفة صلاة العيد] قال: (وينبغي للإمام أني صلي بالناس صلاة العيد إذا حلت الصلاة، وهي ركعتان، يكبر تكبيرة الافتتاح، ثم يستفتح ويتعوذ، ثم يكبر ثلاث تكبيرات، يرفع يديه في كل تكبيرة، ثم يقرأ فاتحة الكتاب سورة، ثم

يكبر ولا يرفع يديه، ثم يرجع ويسجد. فإذا قام في القانية قرأ الفاتحة الكتاب وسورة، ثم يكبر ثلاث تكبيرات يرفع يديه في كل تكبيرة، ثم يكبر أخرى فيركع بها، ولا يرفع يديه فيها، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: مثل ذلك إلا أنه يؤخر التعوذ إلى موضع القراءة". قال أبو بكر أحمد: مذهب أبي يوسف: أنه لا يرفع يديه في شيء من تكبيرات العيد بعد تكبيرة افتتاح الصلاة، وهو قول ابن أبي ليلى. * وقد اختلف السلف في تكبيرات العيد: فروى الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه "أنه كان يكبر يوم الفطر إحدى عشرة تكبيرة، يفتتح بتكبيرة واحدة، ثم يقرأ، ثم يكبر خمسًا يركع بإحداهن، ثم يقوم فيقرأ، ثم يكبر خمسًا يركع بإحداهن. فروى الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه "أنه كان يكبر يوم الفطر إحدى عشرة تكبيرة، يفتتح بتكبيرة واحدة، ثم يقرأ، ثم يكبر خمسًا يركع بإحداهن، ثم يقوم فيقرأ: ثم يكبر خمسًا يركع بإحداهن. وكان يكبر في الأضحى خمس تكبيرات، ثلاثًا في الأولى، وثنتين في الثانية، يبدأ بالقراءة فيهما، ويعد تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع من تكبيرات العيد". وروى قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "من شاء

كبر سبعًا، ومن شاء تسعًا، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة". وعن ابن عباس رضي الله عنهما من وجه آخر: أنه كان يكبر في الأولى سبعًا، وفي الثانية خمسًا. فمنهم من قال عنه: يعتد بتكبيره الركوع منها، ومنهم من حكى عنه: سوى تكبيرة الركوع. وكان لا يفصل بين الفطر والأضحى، ويبدأ فيهما جميعًا بالتكبير. وروى عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وحذيفة، وابن الزبير، رضي الله عنهم خمسًا في الأولى، وأربعًا في الثانية، يوالي بني القراءتين، ويعتد بتكبير الركوع والافتتاح من تكبيرات العيد.

فكانت تكبيرات الزوائد عندهم ستًا: ثلاثًا في الأولى، وثلاثًا في الأخيرة. وروي عن جابر، ومسروق، والحسن وسعيد بن المسيب، وقتادة عشر تكبيرات، مع تكبيرة الافتتاح. * فذهب أصحابنا في ذلك إلى ما روي عن عمر وعبد الله رضي الله عنهما، ومن تابعهما، لما عاضده من الأثر والنظر. فأما الأثر: فما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن العلاء وابن أبي زيادة قالا: حدثنا زيد بن حباب عن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبيه عن مكحول قال: أخبرني أبو عائشة - جليس لأبي هريرة - أن سعيد بن العاص سأل أبا موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الأضحى والفطر؟

فقال أبو موسى: كان كبير أربعًا، تكبيره على الجنائز. فقال حذيفة: صدق. فقال أبو موسى: كذلك كنت أكبر في البصرة حيث كنت عليهم. وقال أبو عائشة: وأنا حاضر سعيد بن العاص رضي الله عنه. وحدث الطحاوي عن علي بن عبد الرحمن ويحي بن عثمان قالا: حدثنا عبد الله بن يوسف عن يحيي بن حمزة قال: حدثني الوضين بن عطاء أن القاسم أبا عبد الرحمن أخبره قال: حدثني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عيد، وكبر أربعًا، وأربعًا، ثم أقبل علينا بوجهه حين انصرف قال: "لا تنسوا، كتكبير الجنائز"، وأشار بأصابعه، وقبض إبهامه. فإن قيل: روى عبد الله بن عبد الرحمن الثقفي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر في العيد اثنتين عشر تكبيرة، سبعًا في الأولى، وخمسًا في الأخيرة سوى تكبيرة الصلاة. وروى ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن أبي واقد الليثي وعائشة

رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالناس يوم الفطر والأضحى، فكبر في الأولى سبعًا، وفي الثانية خمسًا". وروى الفرج بن فضالة عن عبد الله بن عامر بن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. قيل له: عبد الله بن عبد الرحمن ساقط الحديث عن أهل النقل. وحديث ابن لهيعة مضطرب السند، يرويه مرة عن أبي الأسود عن عروة، ومرة عن خالد بنم يزيد عن ابن شهاب، ومرة عن خالد بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب. وهذا يدل على أنه غير مضبوط في الأصل. وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فقد ذكر أن أصله موقف عليه غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال أهل المعرفة بالحديث: إن حديث الوضين بن عطاء، أولى من طريق السند من هذه الأحاديث كلها. ولو تعارضت الروايات فيه، كان الذي تشهد له الأصول من ذلك أولى، والأصول شاهدة بصحة قولنا؛ لأن تكبيرات العيد ابتداؤها مفعول في حال القيام في الصلاة، فأشبهت تكبيرات الجنازة. وهي أربعة متوالية، لما روى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال في تكبيرات الجنازة: "كل ذلك قد كان - يعني سبعًا، وخمسًا، وأربعًا - ورأيتهم قد أجمعوا على أربع تكبيرات"، فأخبر باتفاق الصحابة عليها. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كبر على النجاشي وعلى غيره أربعًا".

فوجب أن تكون تكبيرات العيد كذلك، لاتفاقهما في أن كل واحد منهما مفعول في حال القيام. ولا فرق بين الفطر الأضحى فيهما، كما لا يختلفان في سائر أركانهما ومسنونهما. * وإنما قلنا إن تكبير الافتتاح معتد به من تكبير العيد: من قبل أنه لما صح عندنا أنها كتكبيرات الجنازة أربعًا متوالية، وجب أن يعتد بتكبر الركوع، إذ لو لم يعتد به في الركعة الثانية، حصلت ثلاث تكبيرات متوالية وإذا كان تكبير الركوع معتدًا به من تكبير العيد في الثانية، كان كذلك حكمها في الأولى، لأن أحدًا لم يفرق بينهما. فإن قيل: فعلى هذا تحصل التكبيرات في الأولى خمسًا. قيل له: هذا كذلك، إلا أن المتواليات منها أربع؛ لأن القراءة فاصلة بينهما. * وإنما قلنا إنه يوالي بني القراءتين؛ لأن الذكر المسنون في حال القيام مقدم في الركعة الأولى على القراءة، ومؤخر عنها في الركعة الأخيرة، ألا ترى أن ذكر الاستفتاح مقدم على القراءة، والقنوت في الوتر مسنون في الكرعة الأخيرة بعد القراءة، فكذلك تكبير العيد لمشاركة الذكر المسنون فيما وصفنا. * وأما رفع اليدين في حال التكبيرات، فإن وجه قول أبي حنيفة ومحمد أنها مفعولة في حال الاستقرار في القيام، ليس لها حكم الركعة بأسرها، فأشبهت تكبير الافتتاح، لما كان وصفه ما ذكرنا، ترفع فيه اليدان.

فلا يلزم عليه تكبيرات الجنازة؛ لأن كل واحدة من الثلاث بعد الافتتاح قائمة مقام ركعة، فأشبهت التكبيرة المفعولة ي حال النهوض إلى القيام، فلا ترفع اليدان فيها. * وجعلها أبو يوسف بمنزلة سائر التكبيرات المفعولة بعد تكبيرة الافتتاح، نحو تكبير الركوع والسجود وتكبيرة الجنازة. * وأما التعوذ فإن أبا يوسف رأى تقديمه عل تكبيرات العيد؛ لأنه ذكر ليس بقرآن، كذكر الاستفتاح، فالواجب تقديمه عل تكبيرات العيد. ومحمد جعله بعد التبكير، ليلى القراءة بلا فصل؛ لقول الله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}. مسألة: [لا صلاة قبل العيد] قال أبو جعفر: (ولا يصلي قبل صلاة العيد، وإن شاء صلى بعدها أربعًا، وإن شاء لم يصل). قال أبو بكر: وذلك لما روى ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم العيد، فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها".

وروى أن عبدالله بن مسعد وحذيفة رضي الله عنهما قاما فنهيا الناس عن الصلاة قبل صلاة الإمام يوم الفطر. وعن ثعلبة بن زهدم أن عليًا استخلف أبا سمعود رضي الله عنهما على الكوفة، فخرج يوم العيد، فرأى أناسًا يصلون فقال: يا أيها الناس ليس من السنة أن يصلي قبل العيد. مسألة: [جواز التيمم لصلاة العيد عند عدم الماء] (وإذا أحدث رجل بعد دخوله في صلاة العيد، أو قيل وليس بحضرته ماء: تيمم وصلي. وفي قول أبي يوسف ومحمد: إذا أحدث بعد الدخول في صلاة الإمام: لا يتيمم، أما قبل الدخول: فإنه يتيمم). لأنا لو أمرنا بالوضوء توضأ ليصلي؛ والطهارة إنما تجب للصلاة، ألا ترى أن الحائض لا طهارة عليها؛ لأنه لا صلاة عليها، وكذلك من ليس عليه صلاة، لا طهارة عليه، فإذا تكليفه استعمال الماء لا ليصلي به ساقط، فجاز له التيمم. وأما إذا دخل مع الإمام، ثم أحدث، فهو كذلك؛ لأن كل حال يجوز عليها الابتداء، جائز عليها البناء، فلما جاز له الابتداء بالتيمم، جاز له البناء.

وفي قولهما: يتوضأ؛ لأن لا يخاف الفوت؛ لأنه يبني على صلاة الإمام وإن جاء وقد فرغ من صلاته، ألا ترى أنه يصح له الدخول في التشهد، ويقوم ويلي منفردًا صلاة العيد؛ لأنه يبنيها على صلاة الإمام. مسألة: [لا قضاء لصلاة العيد] قال أبو جعفر: (ومن فاتته صلاة العيد لم يفضها) ولك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع". واسم التشريق يتناول صلاة العيد؛ لما روي عن السلف في تأويله، ولما ثبت أنها متعلقة بالمصر - كما وصفنا - تعلقت بالجماعة والإمام، كصلاة الجمعة. وأيضًا: لم تنقل إلا بإمام وجماعة، فلا تجوز إلا على الوجه الذي نفلت عليه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وكذلك صلاها النبي صلى الله عليه وسلم.

مسألة: [وقت تكبيرات التشريق] قال: (وتكبير التشريق في قول أبي حنيفة من صلاة يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر، ثماني صلوات. وفي قول أبي يوسف ومحمد: من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق". قال أبو بكر أحمد: اختلف السلف فيه، فاتفق علي وعمر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم في الابتداء على أنه من صلاة الفجر يوم عرفة. واختلفوا في القطع، فقال علي، وعمر رضي الله عنهما في أحد قوليه: يقطع بعد العصر من آخر أيام التشريق. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه يقطع بعد الظهر. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إلى صلاة العصر من يوم النحر، يكبر.

في العصر ثم يقطع. ثم اتفق عبد الله بن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم في الابتداء على أنه من صلاة الظهر يوم النحر، واختلفوا في القطع: فقال ابن عباس رضي الله عنهما: إلى صلاة الظهر من أخر أيام التشريق، يكبر في الظهر ثم يقطع. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق، يكبر في الفجر، ثم يقطع. وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه: إلى صلا ة العصر من آخر التشريق. * لأبي حنيفة ما روي عن جماعة من السلف في معنى قوله تعالى: {في أيام معلومات}: أنها أيام العشر، ومنهم من جعلها يوم النحر

ويومين بعده، وقيل في المعدودات: إنها أيان منى. وقد حصل من اتفاق الجميع ان يوم النحر من المعلومات، فثبت أن المعلومات مرادة بالتكبير؛ لاتفاق الجميع على أنه يكبر يوم النحر، فلو خلينا وظاهر قوله: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات} لأوجبنا التبكير في سائر أيام العشر، فلما اتفق الجميع على سقوطه فيما قبل يوم عرفة، أخرجناه من الظاهر بالاتفاق، وأوجبنا فيما عداه من الأيام العشر، وهو يوم عرفة ويوم النحر، إذ هما من المعلومات، ولم تقم الدلالة على أن ما بعد ذلك مراد بالتكبير، فلم نوجيه فيه. وأيضًا: فإن إثبات هذا الضرب من المقادير طريقة من التوقيف بالاتفاق، وذلك معدوم فيه، فلم نثبته. فإن قيل: إنما قال الله تعالى: {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على رزقهم من بهيمة الأنعام}، وليست هذه صفة تكبير التشريق؛

لأنه مفعول عقيب الصلاة، لا على الأضاحي والهدايا. قيل له: المراد - والله أعلم - لما رزقهم الله، كقوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم}: معناه: لما هداكم. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وأذكروا الله في أيام معدودات}، وقيل: إنها أيام منى، فهلا أوجبت التكبير فيها بالظاهر؟ قيل له: ليس لمراد به الذكر المفعول عقيب الصلوات؛ لأنه قد علق به من غير الحكم، ما لا يجوز ان يكون راجعًا إليه، وهو قوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه}، وهذا الحكم مختص برمي الجمار، والنفر من منى، فدل على أن المارد به الذكر المفعول عند الرمي. * ولأبي يوسف ومحمد: أنهم لما اختلفوا، ولم يكن معنى دلالة من الأصول تشهد لأحد من أقوال دون الآخر، أخذنا بالاحتياط في فعل الأكثر. فإن قيل: فيلزمهم في تكبيرات العيد مثله. قيل له: هناك شواهد من الأصول دالة على صحة قولنا، دون قول المخالف، فلذلك لم يجب الأخذ بالأكثر.

مسألة: [من تجب عليه تكبيرات التشريق] قال: (وقال أبو حنيفة: هذا التكبير على المقيمين في جماعات المكتوبات في الأمصار، وليس على منفرد، ولا في السواد، ولا على المسافرين، ولا عل النساء إذا صلين وحدهن. وقال أبو يوسف ومحمد: على كل مصلي فرض، كائنًا من كان). قال أبو بكر: لأبي حنيفة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن علي رضي الله عنه: "لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع". واسم التشريق يتناول صلاة العيد وتكبير التشريق والأضحية، وعموم اللفظ ينفي ذلك كله في غير مصر. ويدل على أن التكبير مراد به، ما ذكر في خبر آخر: "لا جمعة، ولا تشريق، ولا [صلاة فطر]، ولا أضحى إلا في مصر جامع". وإذا ثبت أنه مخصوص بالمصر، وجب أن يكون مخصوصًا بالجماعة، وبمن تجب عليه الجماعة كالجمعة. وأيضًا: لما كان التكبير مخصوصًا بوقت، يسقط بفوات وقته: أشبه الجمعة وصلاة العيد، فلم يلزم إلا أهل الأمصار.

* وأما يوسف ومحمد: فإنهما أوجباه على كل مصلي فرض، لأنه قد ثبت أن ذلك من سنة الفرض في هذه الأوقات، فلا يختلف حكمه بالمصر ولا بغيره. *****

باب صلاة الخوف

باب صلاة الخوف [مسألة: مشروعية صلاة الخوف، وصفتها] قال: (إذا كانت صلاتهم في الخوف ركعتين، جعلهم طائفتين: إحداهما مع الإمام، والأخرى بإزاء العدو، فصلى بالأولى منهم ركعة وسجدتين، ثم تذهب هذه الطائفة، وتجيء الطائفة التي بإزاء العدو. فتدخل مع الإمام، فيصلي بها ركعة وسجدتين، ثم يتشهد، ويسلم، ثم يقومون فينصرفون إلى مقامهم بإزاء العدو، وتجيء الطائفة الأولى، فتقضي ركعة وسجدتين بغير قراءة، وتنصرف إلى وجاه العد، وتجيء الطائفة الثانية، فتقضي ركعة وسجدتين بقراءة وتشهد وتسليم). قال ابو بكر أحمد: اختلف الصدر الاول، وسائر فقهاء الأمصار في صلاة الخوف، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها أخبار مختلفة، وفي ذكر جميع ذلك ضرب من الإطالة، فنقتصر منه على ما يليق بالحال؛ لأنا قد بيناه في "مسائل الخلاف"، فنقول: إن قول أبي حنيفة ومحمد في صلاة الخوف ما ذكرناه. ولأبي يوسف في صلاة الخوف ثلاثة أقوال: أحدها مثل قول أبي حنيفة.

والثاني: ما حكاه عنه أبي سليمان الجوزجاني: أنه لا يصلي بعد النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإمام واحد، ويصلي بإمامين، لئلا يكون مشيهم واختلافهم في الصلاة؛ لأن ذلك كان مخصوصًا به النبي صلى الله عليه وسلم، ليدرك الجميع فضيلة الصلاة خلفه، وليست هذه الفضيلة في الصلاة خلف أحد غيره". والثالث: أنها تصلي بإمام واحد، إلا أنه إذا كان العدو في القبلة، فهي على ما روي في حديث أبي عياش الزرقي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإحدى روايتي جابر بن عبد الله رضي الله عنه". وهو أن يقوم الصفان جميعًا خلف الإمام، فيفتتح بهم الصلاة جميعًا، ويركع بهم، ثم يسجد بالصف الذي يليه سجدتين، والصف المؤخر قيام يحرسون، ثم يرفع هؤلاء رؤوسهم ويسجد الصف المتأخر بسجدتين، ثم يتقدم الصف المؤخر، ويتأخر الصف المقدم، فيركع بهم جميعًا، ثم يرفعون رؤوسهم، ويسجد بالصف المقدم سجدتين، والصف المؤخر يحرسونهم، ثم يسجد الصف المؤخر سجدتين لأنفسهم، ويتشهد، ويسلم بهم جميعًا. وإذا لم يكن العدو في القبلة، فكما روي ابن عمر رضي الله عنهما

عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ذكرناه من قول أبي حنيفة. * فأما الحجة في جواز صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم: فهو قول الله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة}، وقال {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}، وقال: {فاتبعوه}، فعلينا الاقتداء به فيما فعله، ما لم تقم الدلالة على أنه مخصوص به دوننا. وأيضًا: قد روي عن عظم الصحابة رضي الله عنهم صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم بإمام واحد، ولم يحك عن أحد منهم خلاف ذلك، فصار إجماعًا من الصدر الأول. وقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم}. وإن كان خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فليس يوجب أن يكون هو مخصوصًا به؛ لأنا مأمورون

باتباعه، والتأسي به، وهو كقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم}، ولو يوجب تخصيصها بالنبي صلى الله عليه وسلم، والأئمة بعده بمثابته في أخذ الصدقة. وأما ما احتج به أبو يوسف، من أن المشي والاختلاف أبيحا في صلاة الخوف خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ليدركوا فضيلة الصلاة خلفه، فليس بموجب ما ذكر، من قبل أن فعل الصلاة خلفه صلى الله عليه وسلم لم يكن فرضًا، وإنما كان فضيلة، ويمتنع أن يكونوا أمروا بترك الفرض لأجل الفضل. وأما حديث أبي عياش الزرقي رضي الله عنه، فرده ظاهر الكتاب؛ لأن الله تعالى قال: {فلتقم طائفة منهم معك}، وفي حديث أبي عياش قيام الطائفتين معه، ثم قال: {ولتأت طائفة أخرى لو يصلوا فليصلوا معك}، وفي حديث أبي عياش رضي الله عنه تصلي الطائفتان معًا خلفه، ولا تأتيه، فهذه وجوه يردها ظاهر الكتاب. وقد روى ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم عن النبي

صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف كقول أبي حنيفة. ويشهد لذلك ظاهر الكتاب، وهو قوله: {وإذا كنت فيه فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك}. فقد عقلنا بقوله: {فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم}: أن الطائفة التي مع الإمام سبيلها أن تنصرف بعد الركعة الأولى. وقوله: {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا}: يقتضي أن تكون الطائفة الثانية لم تحرم بالصلاة مع الإمام، وأنها إنما تدخل معه في الصلاة بعد انصراف الطائفة الأولى. * وقد روي يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف، فصف معه طائفة، وطائفة وجاه العدو، ولى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا، وقاموا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم".

وإليه ذهب مالك والشافعي، وهذا القول مخالف لظاهر الكتاب والأصول معًا من ثلاثة أوجه: أحدها: قوله تعالى: {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك}: فأخبر أن الطائفة الأولى لم تصل شيئًا من صلاتها عند مجيئها، ومن مذهب مخالفنا أنه يفتتح الصلاة بهم جميعًا. والوجه الثاني: قوله تعالى: {فإذا سجدوا فيكونوا من ورائكم}: فأمرهم أن يصيروا بعد السجود من وراء القوم، وتأتي الطائفة الأخرى في تلك الحال، فقال هؤلاء: لا يكونون من ورائهم، ولكن يتمون لأنفسهم. والثالث: قوله تعالى: {ولتأت طائفة أخرى}: وعندهم أن الطائفة لا تأتي حتى يتم هؤلاء لأنفسهم. وأما من جهة مخالفة الأصول؛ فلأن فيه قضاء المأموم الصلاة قبل الإمام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به"، وقال: "لا تبادروني بالركوع ولا بالسجود"، وقال: "لا تختلفوا

على إمامكم". واستعملت الأمة هذه الآثار في منع المأموم القضاء قبل فراغ الإمام، فصار ذلك أصلاً متفقًا عليه ثابتًا بالسنة، وقولهم في صلاة الخوف ضد ذلك. ويخالف الأصول من وجه آخر، وهو أنه قد حصل من اتفاق الجميع أن سهو الإمام يلزم المأموم، وجائز أن يكون متى قضوها قبل الإمام، أن يلحق الإمام سهو، فلا تلحقه الطائفة الأولى، فيكون فيه إسقاطه عن المأمومين، وقد لزمهم. وقولنا موافق للأصول والظاهر جميعًا من الوجوه التي ذكرنا. فإن قيل: قولكم يؤدي إلى استدبار القبلة والمشي والاختلاف، وذلك منهي عنه في الصلاة، وإجازته في الصلاة مخالفة للأصول. قيل له: لا خلاف أن استدبار القبلة والمشي جائزان في الصلاة في حال الخوف، ومخالفنا يجيز المسايفة والمطاعنة، فلم نخالف الأصول. مسألة: [صلاة المغرب حال الخوف]. قال أبو جعفر: (وإن كان ذلك في صلاة المغرب، صلى بالطائفة

الأولى ركعتين، وبالثانية ركعة). وذلك لأن حكم الصلاة إن انقسم بينهم، فتستحق كل طائفة نصفها، والركعة لا تتبعض، فتستحق جميعها كسائر الأشياء التي لا تتبعض، إذا ثبت بعضها جميعها، مثل دم العمد، إذا عفا عنه أحد وليين، وإيقاع نصف تطليقة، وجعلت عدة الأمة حيضتين؛ لأنها قد استحفت حيضة ونصفًا، فلما ثبت النصف ثبت الجميع؛ لأنها لا تتبعض. [مسألة:] ولو كان مقيمًا فصلى الظهر، صلى بكل طائفة ركعتين؛ لما ثبت من وجوب قسمة الصلاة بينهم بالسواء. * وتقضي الطائفة الأولى في هذه المسائل بغير قراءة؛ لأنهم أدركوا أول الصلاة، فهم بمنزلة من نام خلف الإمام أو أحدث. وتقضي الطائفة الثانية بقراءة؛ لأنها مسبوقة بالأولى، لم تدرك الإمام فيها. مسألة: [صلاة الخوف ركبانًا بالإيماء]. قال أبو جعفر: (وإذا لم يتهيأ لهم النزول عن دوابهم: صلوا عليها، يومئون إيماء حيث كانت وجوههم، ويجعلون السجود أخفض من الركوع). وذلك لقول الله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن

خفتم}، ,هذا القصر هو الإيماء؛ لأنه متعلق بالخوف، وقصر أعداد الركعات غير متعلق بالخوف. ولقول الله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركبانًا}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين رضي الله عنه: "صل قائمًا، فإن لم تستطع: فقاعدًا، فإن لم تستطع: فعلى جنبن نوعي إيماء". وقال تعالى: {فأينما تولوا فثم وجه الله}، فيجوز له في حال العذر ترك القبلة بالظاهر. [مسألة: لا صلاة أثناء القتال] قال أبو بكر أحمد: قال أصحابنا: لا يصلي في حال القتال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك يوم الخندق أربع صلوات حتى كان هوى من الليل، ثم صلاهن، وقال: "ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا كما شغلونا عن صلاة الوسطى". فأخبر أنهم شغلوه بالقتال عن الصلاة، ولو كانت صلاة الخوف جائزة في حال القتال، لما تركها في وقتها.

وقد ذكر محمد بن إسحاق والواقدي جميعًا أن غزوة ذات الرقاع كانت قبل غزوة الخندق، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، فثبت أن صلاة الخوف قد كانت نزلت قبل الخندق، فلما ترك النبي صلى الله عليه وسلم فيها صلاة الخوف لأجل القتال، دل على أن القتال يمنع الصلاة. *****

باب صلاة الكسوف

باب صلاة الكسوف [مسألة: صفة صلاة الكسوف] قال: (وصلاة كسوف الشمس ركعتان كسائر التطوع، ولا بأس بأن يصليها الإمام بالناس جماعة). قال أبو بكر: وذلك لما روي على بن أبي طالب، والنعمان بن بشير، وعبد الله بن عمرو، وسمرة بن جندب، وأبو بكرة، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف الشمس ركعتين، كهيئة صلاتنا".

وروى قبيصة البجلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما هذه الآيات يخوف الله بها، فإذا رأيتموها، فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة". فإن قيل: روي عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم ركع ركوعين في كل ركعة". قيل له: روى النعمان بن بشير رضي الله عنه وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين، ويسلم حتى انجلت". فجائز أن يكون قد كان سجد بين الركوعين ولم يعلم به من روى أنه لم يكن بينهما سجود، فكانت رواية من روى أن بين كل ركوعين سجدتين أولى؛ لأنه زائد على الأول. على أنه قد روي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم "ثلاث ركعات في كل ركعة"، بمثل إسناد الركوعين، فغن صح الركوعان: صح الثلاثة، وفيه زيادة على الركوعين، فيكون أولى.

وأيضًا: لما اختلفت الرواية فيها: كان ما وافق الأصول منها أولى. فإن قيل: وجدنا كل صلاة سن فيها الاجتماع تختص بزيادة معنى كصلاة العيدين اختصت بزيادة التكبيرات، فوجب أن يكون ي صلاة الكسوف زيادة معنى ليست في غيرها، ولم يشترط أحد غير الركوع، فوجب أن يزاد فيها. قيل له: فصلاة الجمعة، وصلاتا عرفة، وسائر الصلوات المكتوبات قد سن فيها الاجتماع، ولم تختص بزيادة معنى فيها. فإن قيل: خصت الجمعة بالخطبة. قيل له: الخطبة ليست من الصلاة، فتكون زيادة فيها، وإنما يجمع بينها بحكم واحد، وأما إذا كان أحد الحكمين زيادة تكبيرات، والآخر زيادة ركوع، فكيف يصح رد أحدهما إلى الآخر. ولا يصلي للكسوف إلا في وقت يجوز فيه التطوع؛ لأنها تطوع. [مسألة:] (وقال أبو حنيفة: لا يجهر فيها بالقراءة. وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة النهار عجماء"، يعني لا يفصح فيها بالقراءة.

وقد روي ابن عباس وسمرة رضي الله عنهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع له صوت في صلاة الكسوف". فإن قيل: قد روي أنه جهر فيها بالقراءة. قيل لهك إذا اختلفت الأخبار، كان ما وافق الأصول منها اولى بالاستعمال، وقولنا موافق للأصول؛ لأن صلاة النهار عجماء في سائر الفروض. * ولأبي يوسف ومحمد: أنها بمنزلة العيدين والجمعة، لما سن فيها من اجتماع الكافة والإمام. مسألة: [صلاة الكسوف فرادى] قال أبو جعفر: (ويصلي الناس في كسوف القمر كذلك؛ إلا أنهم يصلون فرادى، ولا يجمعون). وذلك لأنه قد كان لا محالة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كسوف القمر، كما كان يكون كسوف الشمس، فلو كان فيها جماعة مسنونة، انتقلت كما نقل في كسوف الشمس. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات

الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئًا، فافزعوا إلى الصلاة"، ولم يذكر فيه جماعة ولا غيرها. *****

باب صلاة الاستقساء

باب صلاة الاستقساء [ليس للاستقساء صلاة، وإنما دعاء] قال أبو جعفر: (قال أبو حنيفة: ليس في الاستقساء صلاة، ولكن يخرج الإمام بالناس فيدعو). قال ابو بكر أحمد: قد ذكر محمد عن أبي حنيفة في الأصل، ومعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه ليس فيه صلاة جماعة، ولكن الدعاء والاستغفار. ويشبه أن يكون مراده: أن الصلاة فيه ليست بواجبة ولا مسنونة، كصلاة العيدين والكسوف، وأن الإمام مخير بين فعلها وتركها. وذلك لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاء في الاستقساء"، ولم يذكر صلاة. وروى شرحبيل بن السمط عن كعب بن مرة، أو مرة بن كعب رضى

الله عنه وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في الاستقساء"، ولم يذكر صلاة. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه خرج يستسقي، فما زاد ى الاستغفار. فقيل له في ذلك؟ فقال: لقد استسقيت بجاديح السماء التي يستنزل بها الغيب، قال الله تعالى: {استغفروا ربكم إنه كان غفارًا * يرسل السماء عليكم مدرارًا}. ولو كانت الصلاة مسنونة فيه، لما خفي أمره على عمر رضي الله عنه، ولو خفى عليه لم يخف على من حضره من الصحابة رضي الله عنهم. وروى عباد بن تميم عن عمه عبد الله بن زيد رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستقساء، وخطب ودعا"

وكذا روى ابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين، ثم خطب". والنظر يدل على أنه ليس فيه صلاة مسنونة، لاتفاق الجميع على ان الزلازل، وكثرة الأمطار، والرياح العواصف الهائلة، لي فيها صلاة مسنونة، وإنما فيها الدعاء، فكذلك الاستقساء قياسًا عليها، والمعنى في جميعها: أن الدعاء فيها من أجل خوف الحادث من هذه الأشياء. فإن قيل: يلزمه مثل في الكسوف، لوجود الخوف. قيل له: ليس يخاف من الكسوف شيء، وإنما هو آية وأعجوبة، يفزع فيها إلى اله على جهة التعظيم والإجلال، وما ذكرنا، من القحط وتأخر المطر والزلازل إنما هو لرفع ضرر ما قد وجد من هذه الأشياء. * (وقال أبو يوسف: يصلي ركعتين، ثم يخطب، ويدعو، وهو منتكب قوسًا، مقلب رداءه: بأن يجعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، وإن

كان طيلسانًا أو خميصة يثقل قلبها: حول يمينه على شماله، وشماله على يمينه، وقال محمد: يصلي ركعتين، ثم يخطب كخطبة العيد، ويجهر بالقراءة). قال أبو بكر أحمد: وقد روى الزهري عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه في صفة صلاة الاستقساء نحو قول أبي يوسف، وذكر فيه قلب الرداء نحوًا من ذلك. *****

باب صلاة الجنائز

باب صلاة الجنائز [مسألة: غسل الميت] قال أبو جعفر: (يجرد الميت إذا أريد غسله، ويوضع على تخت ....) إلى آخر ما ذكر. قال أبو بكر أحمد: يوضأ وضوءه للصلاة أولاً، لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو كامل قال: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا خالد عن حفصه بنت سيرين عن أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهن في غسل ابنته: "ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها". ولأن من سنة الغسل أن يبدأ فيها بالميامن، وذلك لحديث أم عطية رضي الله عنها. * (ولا يمضمض، ولا ينشق) وذلك لأنه لا يتهيأ ذلك فيه؛ لأن المضمضة والاستنشاق ليس هو حصول الماء في الفم والأنف فحسب؛ لأنه لو شرب الماء لم يكن

متمضمضًا، ولا مؤدبًا لسنة الطهارة، والمضمضة أن يأخذ الماء في فيه، فيديره فيه بالمضمضة، ثم يمجه، والاستنشاق أن يجذب الماء بنفسه إلى أنفه، وذلك غير ممكن في الميت، فلذلك سقط في غسله. * قال: (ثم يغسل رأسه ولحيته بالخطمي). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن آدم غسلته الملائكة بالماء والسدر، وكفنوه في وتر، ثم لحدوا له ودفنوه، ثم قالوا: هذه سنة ولد آدم من بعده". وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله. وفي حديث أم عطية رضي الله عنها من رواية محمد بن سيرين ان رسول الله ص حين توفيت ابنته قال: "اغسلنها ثلاثًا، أو خمسًا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخر كافورًا". * قال أبو جعفر: (ولا يسرح). وذلك لأنه لا يؤمن تناثر شعره وسقوطه، وسبيل الشعر أن يدفن معه.

* قال: (ثم يوضع على شقه الأيسر، فيغسل بالماء الفراح حتى ينفي، ويرى أن الماء قد خلص إلى ما يلي التخت، وقد أمر غاسله قبل ذلك بالماء فأغلى بالسدر، فغن لم يكن سدر: فحرض). وذلك لأنه ينغي أن يبدأ بالميامن في الغسل، على ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويكون في الماء السدر، على ما روي في الخبر. وقدر روي أن عليًا رضي الله عه قال حين غسل النبي صلى الله عليه وسلم: "ما تناولت عضوًا من النبي صلى الله عليه وسلم إلا كأنما يقلبه معي ثلاثون رجلاً". وهذا يدل على أن حكمة أن يقلب على جنبه في حال الغسل، فيغسل أولاً، وهو على جنبه الأيسر، ثم يغسل وهو على جنبه الأيمن، ثم يغسل الثالثة وهو على جنبه الأيسر، ليحصل الغسل ثلاثًا، ويكون قد بدأ بالميامن، ويمسح بطنه في الثانية مسحًا رقيقًا، لكي إن خرج منه شيء غسله في الثالثة. قال أحمد: وقد قال محمد: إنه يغسل رجليه في الوضوء، وقالوا:

في غسل الجنابة بأنه لا يغسل رجليه حتى يفرغ من الغسل، لأن موضع قيامه فيه ماء مستعمل، وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في غسل الجنابة، وأما في غسل الميت فرجلاه وسائر أعضاء وضوئه بمنزلة، إذ ليست رجلاه على الأرض، فيكون ما تحتهما من الماء مستعملاً. * قال: (ثم ينشف بثوب). وذلك لئلا تبتل أكفانه، وليتمكن من وضع الحنوط في مواضعه. * قال: (ثم تبسط اللفافة بسطًا - وهو الرداء - طولاً). وذلك لأن حكمها أن تكون فوق الثياب. * (ثم يبسط الإزار عليها، وهو المئزر طولاً)، لأنه يلي اللفافة. * (فإن كان له قميص ألبسه إياه، وإن لم يكن له قميص لم يضره). وذلك لأن التكفين يحتذي به اللبس في حل الحياة، فلذلك كان الرداء فوق القميص. * (وتجمر أكفانه، كما يوضع الكافور على مساجده، وكما يجعل في الماء الثالث). وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية.

وقد روي ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "البسوا هذه الثياب البيض؛ فإنها خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم". وروى عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: "إذا أنا مت فاغسلوني، واجعلوا في آخر غسله كافورًا، وكفنوني في ثوبين: إزار وقميص، فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل به كذلك". * قال: (ثم يوضع الحنوط على لحيته ورأسه، والكافور على مساجده). وهو استحباب، كما أمر بأن يجعل في الماء كافورًا. * قال: (فإن خفت ان تنتشر أكفانه: عقدته عليه، لتحمله على سريره، فإذا وضع في قبره حلت عنه). وذلك لأن التكفين بمنزلة اللبس في الحياة، فكما لا يعقد ثوبه في حال حياته، كذلك بعد الموت، إلا أن يخاف أن ينتشر عنه، فيعقد، ثم يحل في القبر.

مسألة: [ما يجزئ في الكفن] قال أبو جعفر: (وأدنى ما تكفن فيه المرأة ثوبان وخمار) وذلك لما وصفنا من كسوتها في حال الحياة. * (والرجل في ثوبين). لهذه العلة، ولما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: "اغسلوا ثوبي هذين، وكفنوني فيهما؛ فإنهما للمهل والتراب؛ فإن الحي أحق بالجديد من الميت". وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي وقصته ناقته: "وكفنوه في ثوبيه". * قال: (والسنة في المرأة أن تكفن في خمسة أثواب: درع، وخمار، وإزار، ولفافة، وخرقة تجعل الخرقة فوق ثدييها والبطن). وذلك كما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا أبي عن ابن إسحاق.

قال حدثنا نوح بن حكيم الثقفي، وكان قارئًا للقرآن عن رجل من بني عروة بن مسعود يقال لهك داود، وقد ولدته أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها زوج انبي صلى الله عليه وسلم أن ليلى بنت قانف الثقفية رضي الله عنها قالت: "كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقا، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر". قالت: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند الباب مع كفنها، فيناولناها ثوبًا ثوبًا". * قال: (والسنة في الرجل ثلاثة أثواب إزار وقميص ولفافة). وذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الملائكة كفنت آدم عليه السلام في ثلاثة أثواب، وقالت: هذه سنة موتاكم يا بني آدم". مسألة: [لا فرق في الكفن بين المحرم والحلال] قال أبو جعفر: (والمحرم في ذلك كالحلال)

قال أبو بكر: وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به بعده، وولد صالح يدعو له". ومعلوم أن المراد إذا انقطع حكم عمله، وجب أن ينقطع حكم إحرامه، فوجب أن ينقطع إحرامه؛ لأنه من أحكام عمله، وإذا انقطع إحرامه، صار كسائر الموتى. وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "غطوا رؤوس موتاكم، ولا تشبهوا باليهود". فإن قيل: كما لا يبطل حكم إيمانه، كذلك حكم إحرامه. قيل له: الإحرام حكم يلزمه في نفسه لا يعدوه، والإيمان حكم يلزمه في نفسه، وتلزمنا له أحكام من أجله، كالموالاة، والميراث، والتزكية، وقبول الشهادة، فما كان منها متعلق بها، فهو باق بعد الموت، ولذلك يصلى عليه، ولما كانت أحكام الإحرام تتعلق به خاصة دوننا، ثم مات، انقطعت الأحكام التي هي لازمة له في نفسه، من اللبس والطيب وغيرهما، فلم يلزمنا له ما سقط حكمه عنه.

وقد اتفقنا على "أنه لو مات في الصلاة: انقطع حكم صلاته، وكذلك لو مات طاهرًا أو صائمًا؛ لأن هذه الأحكام تلزمه في نفسه، فكذلك الإحرام. ويدل على انقطاع إحرامه: أنه لا يوقف به بعرفة، ولا يطاف به، ولا يرمي عنه الجمار، ولو كان إحرامه باقيًا: فعل ذلك كله به. فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي وقصته ناقته، فمات، قالك "لا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا". قيل له: وروي أنه قال: "لا تخمروا وجهة ولا رأسه"، وقد اتفقنا على تخمير الوجه، فدل على أنه كان مخصوصًا به. وأيضًا: بين العلة فيه، بأنه يبعث يوم القيامة ملبيًا، فيحتاج أن يعلم ذلك من سائر المحرمين، حتى يحكم لهم بحكمه، وهذا كما قال في جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: "إن له جناحين يطير بهما في الجنة"، لأنه قاتل حتى قطعت يداه.

وقال في حنظلة رضي الله عنه: "إن الملائكة غسلته"، لأنه قتل جنبًا، ولا يجوز الحكم لسائر من قتل على مثل هذه الأحوال بمثل هذا الحكم. فإن قيل: قال صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد: "زملوهم بدمائهم وثيابهم، فإنهم يبعثون بدمائهم، وكلومهم"، ثم لم يكن ذلك مقصورًا عليهم دون غيرهم، وإن لم يعلم حقيقة أغيرهم يبعثون كذلك. قيل له: لأنه قد روي عنه صلى الله عليه وسلم بلفظ عام: "أن الشهيد يبعث يوم القيامة، وجرحه يثعب دمًا، اللون لون الدم، ولاريح ريح المسك"، فأطلق ذلك في سار الشهداء، ولم يختلف الفقهاء في اعتباره في سائرهم، فلذلك أثبتناه. فإن قيل: فسائر المحرمين قياسًا على من ورد فيه الخبر، والمعنى الجامع بينهما أنه مات محرمًا. قيل له: إنما يجب اعتبار بقاء الإحرام، لا وجوده منه بدءًا، لأن من حل من إحرامه: لم يكن إحرامه المتقدم مانعًا تخمير رأسه، وإنما يمنع

تخمير رأسه إحرام موجود، فإذا دللنا على انقطاع إحرامه بالمت، فاعتبارك إحرامًا كان، لا معنى له. وأيضًا: فيجب على هذا أن من مات مصليًا لا يغسل؛ لأنه مات مصليًا، والمصلي لا يغسل. ويدل على انقطاع إحرامه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كسر أو عرج فقد حل"، والموت أكثر منه. مسألة: [يغسل الجنين، ولا يصلي عليه إلا إذا استهل] قال أبو جعفر: (ويكفن الجنين، ثم يغسلن ويدفن ولا يصلي عليه، إلا أن تعلم حياته). قال أبو بكر أحمد: ما ذكر من الغسل والتكفين، لا نعرفه عن أصحابنا في الجنين، بل قد روي عنهم أنه لا يغسل ولا يكفن، وإنما يلف في خرقة ويدفن، وذلك لأنه بمنزلة عضو من أعضائها لو باينها، ألا ترى أنه لا يصلي عليه، كما لا يصلي على العضو، فإن علمت حياته: كفن في خرقتين: إزار ورداء، حسب ما كان يلبس في الحياة. مسألة: [لا يغسل الشهيد، ويصلى عليه] قال أبو جعفر: (ومن قتل في المعركة لم يغسل، وصلي عليه،

ودفن في ثيابه، إلا أنه ينزع الحشو من الجلد والفرو والسلاح، ويزيدون ما شاؤوا، وينقصون ما شاؤوا). قال أبو بكر: وذلك لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا زياد بن أيوب وعيسى بن يونس قالاً: حدثنا علي بن عاصم عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد الجلود، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم". وروى جابر وأنس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عيه وسلم أمر بأن يدفن قتلى أحد بدمائهم في ثيابهم، ولم يغسلوا". * ومن جهة النظر: إن الجلد والسلاح مما لا يكفن فيه الموتى، فينزع عنهم، ويترك عليهم ما يكفن فيه الموتى من الثياب. * ولهم أن يزيدوا ما شاؤوا، لما روى الأعمش عن أبي وائل عن خباب رضي الله عنه قال: "قتل مصعب بن عمير يوم أحد، ولم يكن له إلا نمرة، كما إذا غطينا بها رأسه، خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه خرج

رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه شيئًا من الإذخر". * وإنما قلنا: إنه يصلي عليه؛ لما روي يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوضع بين يديه يوم أحد عشرة، فيصلي عليهم وعلى حمزة، ثم ترفع العشرة وحمزة موضوع، ثم توضع عشرة فيصلي عليهم وعلى حمزة، ثم ترفع". وروى يحيي بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما نحو ذلك في قتلى أحد. وروى شعبة عن حصين بن عبد الرحمن عن أبي مالك الغفاري رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم "أنه صلى على قتلى أحد وعلى حمزة، يؤتي بتسعة وعاشرهم حمزة، يؤتى بتسعة وعاشرهم حمزة، فيصلي عليهم صلى الله عليه وسلم، ثم يحملون، ثم يؤتى بتسعة، فيصلي عليهم وحمزة مكانه، حتى صلى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم". وروي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم

صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين من مقتلهم صلاته على الميت". وراه الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر رضي الله عنه". روي شداد بن الهاد رضي الله عنه "أن أعرابيًا بايع النبي صلى الله عليه وسلم، فقتل بين يديه، فكفنه صلى الله عليه وسلم في جبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدمه، فصلى عليه". * واختلفت الرواية عن أنس رضي الله عنه، فروي عنه "أن النبي صلى الل عليه وسلم لم يصل يوم أحد على أحد من الشهداء، إلا على حمزة". وروي عنه "أنه لم يصل على أحد منهم". وعن جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد".

وخبر المثبت أولى. وأيضًا: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليهم، وأمر غيره، فصلى عليهم، لما كان اصابه يومئذ من الشجة في وجهه، وكسر رباعيته صلى الله عليه وسلم". وأيضًا: لو تضادت الأخبار، كان ما يشبه الأصول منها أولى بالإثبات، وخبرنا تشهد له الأصول، فإن في الاصول أن سقوط الصلاة على الميت بانقطاع الموالاة، ووجوب البراءة منه كالكفار وأهل البغي، والقتل على وجه الشهادة يؤكد الموالاة، فكيف يسقط الصلاة؟ فإن قيل لما سقط الغسل، وجب أن تسقط الصلاة. قيل له: لم يسقط الغسل، وإنما قام مقامه غيره، وهو قتله شهيدًا غير جنب. فإن قيل: يلزمك عليه أن لا يغسل الشهيد إذا كان جنبًا، لأن القتل على وجه الشهادة قام مقام الغسل. قيل له: إنما يقوم قتل الشهيد مقام الغسل، الذي يوجبه الموت، فأما غسل وجب قبل الموت، فغن الشهادة لا تسقطه.

مسألة: [يغسل الشهيد عند الارتثاث] قال أبو جعفر: (ولو حمل قبل موته، أو أكل من مكانه الذي جرح فيه، أو شرب، أو باع، أو ابتاع، أو بات: غسل). وذلك لأن الشهيد الذي لا يغسل، هو الذي يموت على الحال التي جرح فيهان فإذا مرض، فصار إلى حال أخرى، يغسل؛ لأن علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما قتلا شهيدين وغسلا؛ لأنهما لم يموتا في الحال التي وقعت الجراحة فيها، حتى صار إلى حال التمريض. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي موت تحت الهدم، والمبطون، والمرأة تموت نفساء، أنهم شهداء، ولا خلاف أنهم يغسلون، فكذلك من مرض وخرج عن حال الجراحة إلى حال التمريض غسل.

والأكل والشرب والشراء والبيع ونحوها أشياء من أمور الدنيا، يخرج بها المجروح عن الحال التي كان عليها، فلذلك غسل. ويدل على ذلك أيضًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم حين أسرع، لما أخبر بموت سعد بن معاذ رضي الله عنه، وقال: "خشيت أن تسبقني الملائكة إلى غسله، كما سبقتنا إلى حنظلة"، فقد كان سعد بن معاذ شهيدًا؛ لأنه جرج يوم الخندق. [حكم تغسيل الشهيد إن نطق بالوصية] قال أبو جعفر: (وإن أوصى، ولم يفعل شيئًا مما ذكرنا: لم يغسل). قال أبو بكر أحمد: روى خلف بن أيوب عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لم يحمل حتى أوصى، فهو بمنزلة المحمول، يعني يغسل. وقال محمد في "الزيادات": إن أوصى مثل وصية سعد بن الربيع رضي الله عنه، أو نحوها، ثم مات: لم يغسل. وكانت وصية أن قام للرجل الذي لقيه: "اقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، وقل له: إن بي كذا وكذا طعنة، كلها قد أصابت المقتل، وأقرئ الأنصار مني السلام وقل لهم: لا عذر لكم إن قتل

رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيكم، وفيكم عين تطرف". قال محمد: فإن أوصى بمثل ذلك: لم يغسل، فإن كثر ذلك من كلامه في الوصية غسل، وذلك لأن الوصية شيء من أمر الموت، إذا طالت أشبهت أمور الدنيا، فغسل. مسألة: [القتيل مظلومًا لا يغسل] قال أبو جعفر: (ومن قتله الخوارج، أو قتل بحديدة مظلومًا لم يغسل). قال أبو بكر أحمد: الأصل فيه: كل مقتول ظلمًا، لم يجب عن نفسه بدل هو مال: فإنه لا يغسل، ومن وجب عن نفسه يدل هو مال، مثل قتل الخطأ، وشبه العمد، فإنه يغسل، كما يغسل لو قتل بحق. مسألة: [غسل المرأة زوجها، والعكس] قال أبو جعفر: (وتغسل المرأة زوجها إذا مات، ولا يغسل الرجل زوجته). أما غسل المرأة لزوجها، فهو اتفاق من الفقهاء. وقالت عائشة رضي الله عنها: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما

غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه". وإنما يجوز لها غسله إذا كانت عدتها واجبه بالموت، ولم يحدث هناك تحريم قبل ذلك. * وإنما لم يجز للرجل غسلها، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ينظر الله عز جل إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها". فلما اتفق الجميع، على أنه جائز له أن يتزوج ابنتها قبل غسلها، إذا لم يكن قد دخل بها، فينظر إلى فرجها، علمنا أنظره إليها محرم عليه، إلا كما ينظر الأجنبي. وأيضًا: قول الله تعالى {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف}، فلو جوزنا له النظر إلى فرجها، وفرج أختها بان يتزوجها، كان فيه جمع بين الأختين في بعض أحكام النكاح، وذلك محرم بظاهر الكتاب. * ومن وجه النظر: أن جواز نكاح أختها دليل على وقوع الفرقة،

وارتفاع الزوجية، لأن نكاحها لو كان باقيًا، لما جاز له نكاح أختها، ألا ترى أنه لو طلقها في الحياة طلاقًا رجعيًا لم يكن له أن يتزوج أختها ما كانت في عدتها، لبقاء نكاحها. وإنما إذا انقضت عدتها، جاز له أن يتزوج أختها، لارتفاع النكاح وأحكامه بينهما. والفرق بينهما وبين المرأة، أن حكم النكاح باق مع بقاء عدة الموت، والدليل عليه أنه لا يجوز لها أن تتزوج لبقاء حكم النكاح. فإن قيل: لو كانت هذه علة بقاء النكاح، لوجب أن يبقى مع وقوع البينونة قبل الموت مادامت في العدة. قيل له: لم نقل إن العدة على الإطلاق توجب بقاء النكاح مع ووقع الفرقة، وإنما قلنا إن الموت لا يوجب التحريم مع وجوب العدة، وغير ممتنع في الأصول بقاء النكاح لأجل العدة. ألا ترى أن من طلق امرأة واحدة قبل الدخول، أن النكاح يبطل فيما بينهما، لأجل عدم العدة، ولو كانت مدخولاً بها: كان النكاح باقيًا بينهما ما بقيت العدة، فكذلك الموت ليس يوجب التحريم مع بقاء العدة، ويوجبه مع عدمها بالدلالة التي قدمنا. فإن قيل: ما يوجب التحريم لا يختص به أحد الزوجين دون الآخر فيما يوجبه من تحريم النظر، فلما وجدنا فرقة الموت لا يمنعها النظر إليه، كذلك وجب أن لا يمنعه النظر إليها، لأنه سبب واحد في حكم الفرقة، فوجب ان يستويا جميعًا فيما يتعلق به من حكم التحريم. قيل له: هذا غلط؛ لأن الموت إنما يوجب الفرقة مع عدم العدة، ولا يوجبها مع وجودها، كالطلاق سواء، على حسب ما بينا.

فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل على عائشة رضي الله عنها، وهي تقول: وارأساه: فقال صلى الله عليه وسلم: "لا عليك، لو مت قبلي فغسلتك، وكفنتك، وحنطتك، ودفنتك". فأخبر بغسله لها بعد الموت. قيل له: أما الأخبار الصحيحة، فليس في شيء منها ذكر الغسل، وإنما ذكر فيها الدفن. ولو ثبت ذكر الغسل، لما دل على قولك، لأنه يحتمل أن يكون مراده الأمر بغسلها، كما روي أن العباس والفضل ورجلاً من الأنصار رضي الله عنهم غسلوا النبي صلى الله عليه وسلم مع علي رضي الله عنه، وإنما علي رضي الله عنه غسله وحده، وأعانه هؤلاء في الغسل، فأضيف الغسل إلى جماعتهم. وقال الله تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم}، ومعلوم أنه لم يكن يباشر

القتل، وإنما كان يأمر به، وذلك شائع في اللغة، غير مدفوع ولا مستنكر. وأيضًا: فقد قيل: إن نساء النبي ص حرمن على المؤمنين، وكن أمهاتهم؛ لأنهن نساءه في الجنة، فكان حكم الزوجية قائمًا بينهما بعد الموت، فلذلك جاز له غسلها. وأيضًا: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها في مرضه: "هون على وجهي أن جبريل عليه السلام أخبرني أنك زوجتي في الجنة". فإن قيل: قد روي أن عليًا غسل فاطمة رضي الله عنها. قيل له: لأنها كانت زوجته في الدنيا والآخرة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل نسب وسبب منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي".

فعلمنا أن السبب الذي كان بينهما لم يقطعه الموت. فإن قيل: ثبوت الميراث بينهما دلالة على جناز الغسل أيهما كان الميت. قيل له: إن الحال التي يستحق فيها الميراث، ليست مما لا يأتي فيها الغسل، ولا تزويج الأخت؛ لأن الميراث يجب بعد الموت بلا فصل، وذلك حال تنقصه الحال الثانية والثالثة وما بعدها من الأوقات التي لا يستحق بها ميراث، وهي الحال التي ينافيها الغسل، وتحريم نكاح الأخت، ولا اعتبار بالميراث في إباحة الغسل. يدل على هذا: أن الزوج لو مات بعد ذلك، لم يبطل ميراثه منها؛ لأن هذه الحال ليست حال ميراثه منها. مسألة: [يغسل المسلم قريبة الكافر] قام أبو جعفر: (ويغسل المسلم ذا قرابته من الكفار). وذلك لما روي "أن عليًا رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بأن أبا طالب مات، فأمره بغسله ودفنه". وأيضًا: فإن ما جاز أن يفعله به في حياته من الغسل والكسوة، جاز بعد موته مثله.

مسألة: [مؤونة التكفين من رأس المال] قال أبو جعفر: (والكفن والحنوط من رأس المال). وذلك لأنه بمنزلة نفقته في حال حياته، فلماك انت النفقة على نفسه متبدءًا بها في حياته على ديون الغرماء، وجب أن يكون كذلك بعد الموت، وإذا كان الكفن مقدمًا على الدين، فعلى الوصية والميراث أولى. مسألة: [المشي بالجنازة] قال أبو جعفر: (والمشي بالجنازة ما دون الخبب). وذلك لما روي عن الحسن بن صالح بن حي عن يحيي الجابر عن أبي ماجد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألنا نبينا عن السير بالجنازة، فقالك "دون الخبب، الجنازة متبوعة، وليست تابعة، ليس معها من تقدمها". مسألة: [أحق الناس بالصلاة على الميت] قال أبو جعفر: (وأحق الناس بالصلاة على الميت سلطان بلده).

لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: "ولا يؤم رجل رجلاً في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه". * قال: (وقد روي عن أبي يوسف: أن الولي أحق، فإن لم يكن: فإمام حيه). وذلك لأنه يصلي بالأحياء، فهو أولى بالصلاة على الموتى؛ لأنه قد استحق الولاية في الصلوات المكتوبات التي هي أوجب من صلاة الجنائز، ففي صلاة الجنازة أولى. * قال: "فإن لم يكن إمام الحي: فأبوه، فإن لم يكن: فابنه". قال أبو بكر أحمد: الولاية للابن، لأنه أقرب الأولياء، ولكنه يكره له أن يتقدم أباه أو جده، فاستحبوا له تقديمه، وهو رواية عن أصحابنا. * قال أبو جعفر: (فإن كان فيهم أخوان لأب وأم، أم ولدان أو عمان متساويان في القرابة، وأحدهما أكبر من الآخر سنًا: فهو أولى بالصلاة عليه). وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحق للأكبر في حال المساواة، وجعله اولى بالإمامة في الصلاة المكتوبة، فصلاة الجمازة بذلك أحرى.

مسألة: [مقام الإمام في الصلاة على الميت] قال أبو جعفر: (ويقوم المصلي على الرجل والمرأة حذاء الصدر منهما، وقال أبو يوسف: يقوم من الرجل عند رأسه، ومن المرأة عند وسطها). وجه القول الأول: ما روى سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه صلى على جنازة امرأة، فقام عليها وسطها". وجه القول الأول: ما روى سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه صلى على جنازة امرأة، فقام عليها وسطها". وذهب أبو يوسف إلى ما روى أبو غالب عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم عند رأس الرجل، وعجيزة المرأة". ويحتمل أن يكون تارة قريبًا من الرأس، وتارة من الوسط، فظن أنس رضي الله عنه أن ذلك لاختلاف حال الرجل والمرأة، فإذا لا دلالة فيما روي فيه على اختلاف المقام في الصلاة عليهما. والنظر يدل على ذلك أيضًا؛ لأنهما غير مختلفين في سائر سنن الصلاة عليهما.

مسألة: [الأوقات التي لا يصلى فيها على الجنازة] قال أبو جعفر: (ولا يصلي على جنازة عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها، ولا عند قيامها). وذلك لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه: "نهانا رسول الله ص أن نصلي في ثلاث ساعات، وأن نقبر فيهن موتانا"، وذكر هذه الساعات. ومعلوم أن الدفن غير مكروه في هذه الساعات، فعلمنا أن المراد به الصلاة على الجنازة. مسألة: [صفة الصلاة على الميت] قال أبو جعفر: (والصلاة على الجنازة أربع تكبيرات، لا يرفع يديه إلا في الأولى، ثم يسلم، يحمد الله بعد التكبيرة الأولى، ويثنى عليه، وفي الثانية يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الثالثة يدعو للميت، ويشفع له، ثم يسلم بعد الرابعة). قال أبو بكر: وذلك لما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه صلى على النجاشي، فكبر عليه أربعًا".

و "أنه صلى على عثمان بن مظعون، فكبر عليه أربعًا" وسئل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن تكبيرات الجنازة فقال: "كل ذلك فعل، ورأيت الناس قد أجمعوا على أربع". وروي "أن عليًا رضي الله عنه صلى على يزيد بن المكفف، فكبر عليه أربعًا". مسألة: [لا قراءة في صلاة الجنازة] قال أبو جعفر: (ولا قراءة في الصلاة على الجنازة، ولا استفتاح ولا تشهد). وذلك لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "لم يوقت لنا على الجنازة قول والقراءة، كبر ما كبر الإمام، واختر من أطيب الكلام".

وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه نحو ذلك. وروى حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما "أنه كان لا يقرأ على الميت". وعن كل بن شماخ قال: شهدت أبا هريرة رضي الله عنه، وسأله مروان: كنت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلي على الجنازة؟ فقال أبو هريرة رضي الله عنه: "اللهم أنت ربها، وأنت خلقتها"، وذكر دعاء، ولم يذكر قراءة. وروى يحيي بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة، فقال: "اللهم أغفر لحينا وميتنا"، وذكر الدعاء إلى آخره. وروى يونس بن ميسرة عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل من المسلمين، فسمعته

يقول: "اللهم إن فلانًا في ذمتك، فقه فتنة القبر"، وذكر دعاء. فهذان قد رويا عن النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء في الصلاة على الجنازة، ولو كان قرأ فيها بفاتحة الكتاب، لذكراها، كما ذكر الدعاء في الصلاة على الجنازة. فإن فيل: فقد روي عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: صليت مع ابن عباس رضي الله عنهما على جنازة، فقرأ فيها بفاتحة الكتاب، وقال: "إنها من السنة". وروي جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بأم القرآن في الصلاة على الجنازة". قيل له: أما حديث جابر رضي الله عنه: فلا أصل له، ما نعلم أدًا من أهل العلم رواه. وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فلا حجة فيه؛ لأنه لم يقل له: إنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تكون السنة لغير النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال: "من سن سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة".

ولو كان ذلك في سننها، لورد النقل به متواترًا، كوروده في سائر الصلوات. فإن قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب". قيل له: لا يتناولها اسم الصلاة على الإطلاق، وإنما تسمى صلاة بتقييد، كما يسمى منتظر الصلاة مصليًا. * ومن جهة النظر: إنها لو كانت مسنونة، لجازت قراءتها بعد كل تكبيرة، كما جازت في كل ركعة؛ لأن كل تكبيرة محلها محل ركعة، ألا ترى أن مدرك الإمام في التكبيرة الثالثة، يكبرها معه، ويقضي ما سبق به بعد فراغ الإمام، كمدرك بعض ركعات الصلاة، فدل على ان كل تكبيرة بمنزلة ركعة في حكم النقل، فلما اتفقوا على أنه لا يقرأ بعد كل تكبيرة فتحة الكتاب، دل على أن القراءة غير مسنونة في الصلاة على الجنازة. وأيضًا: فلو كانت مسنونة وحدها دون السورة، كانت بمنزلة الدعاء، كما يفعل في الأخيرتين من الظهر. ويدل على أنها دعاء: أن قارئها يعقبها بآمين، وإذا كانت دعاء، وهي مسنونة، وجب أن يقرأها في الثالثة؛ لأنها موضع الدعاء. ويدل على أنها ذكر من أذكار الصلاة المفروضة، وهو القيام، فأشبهت سجدة التلاوة، فوجب أن لا قراءة فيها.

مسألة: [لا يصلى على الجنازة مرتين] قال أبو جعفر: (ولا يصلى على جنازة مرتين، إلا أن يكون الذي صلى عليها غير وليها، فيعيد وليها الصلاة عليها إن كانت لم تدفن، فإن كانت قد دفنت: أعادها على القبر). وإنما لم يصلى عليها مرتين؛ لأن الصلاة الثانية تطوع؛ لأن المفروض هي الأولى، ولا يتطوع بالصلاة على الميت؛ لأنه لو جاز ذلك، لجازت الصلاة على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلما اتفق الجميع على امتناع جواز الصلاة على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، دل على أنه لا يجوز أن يتطوع بالصلاة على الميت. فإن قيلك فقد صلى على النبي صلى الله عليه وسلم جماعة بعد جماعة. قيل له: لأن المفروض كان على كل واحد من الحاضرين في نفسه الصلاة عليه، ألا ترى أنه صلى عليه بغير إمام تقدمهم، وكان كل واحد من الحاضرين مؤديًا لفرضه، ومن لمي حضر لم يلزمه ذلك، فلذلك لم يصل على قبره من حضر بعد دفنه صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد

بعد ثمان سنين"، و "على المرأة المسكينة بعد ما صلى عليها، ودفنت"، و "صلى على النجاشي، وهو بالمدينة". قيل له: أما صلاته على النجاشي، فلم تكن بعد الدفن، ولا بعد ما صلى عليه غيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبرهم بموته في الوقت الذي مات فيه. ولو كان صلى عليه بعد الدفن، لم يدل على ما ذكرت من وجوه: أحدهما: أنه مات في أرض الكفر، ولم يصل عليه أحد حتى دفن، وكذلك نقول فيمن دفن قبل أن يصلى عليه. ولأن لصلا ة النبي صلى الله عليه وسلم مزية ليست لصلاة غيره، وكان هو مخصوصًا بها؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن القبور مملوءة ظلمة حتى اصلى عليها". فلهذه المعاني صلى على قبر النجاشي. وأما صلاته على قتلى أحد، فكيف يحتجون بها، وهم لا يرون الصلاة على الشهيد رأسًا؟! فإن كان ذلك سنة ثابتة، فقد خالفوها؛ ولأن أحدًا لا يقول في موتانا أنه يصلى عليهم بعد ثمان سنين. وأما صلاته على قبر المسكينة بعد ما صلى عليها أصحابه قبل الدفن،

فوجهها عندنا: ما رواه حماد بن زيد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم على قبر بعد ما دفن، فقال: "إن القبور مملوءة ظلمة حتى اصلي عليها". وفي حديث أخر أنه قال: "لا يصلى على موتاكم - ما دمت بين طهرانيكم - غيري". فلم يكن فرض الصلاة على الميت يسقط بصلاة غيره حينئذ، فلذلك أعاد الصلاة عليها، وكذلك أعاد الذين صلوا على المسكينة الصلاة عليها مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روي "أن البي صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة رضي الله عنه صلاة بعد صلاة"، و "صلى على أم سعد رضي الله عنها بعد شهر كان متغيبًا"، وذلك خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم، لا يشاركه فيها غيره؛ لأنه لو جاز ذلك، لجاز بعد سنة، وعشرين سنة، وذلك يمتنع عند الجميع.

* وأما إذا صلى عليه غير الولي بغير إذن الولي، فللولي أن يعيدها؛ لأنه من حق الولي التقدم في الصلاة عليه، فليس لأحد أن يبطل حقه، فصار في حقه كما لم يصل عليه. مسألة: [المشي خلف الجنازة أفضل] قال أبو جعفر: (المشي خلف الجنازة أفضل من المشي أمامها، وكل ذلك مباح). قال أبو بكر: وذلك لما رواه عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: "قال أبو سعيد الخدري لعلي رضي الله عنهما: يا أبا الحسن! أخبرني عن المشي مع الجنازة، أي ذلك أفضل: المشي أمامها أم خلفها؟ فقال علي رضي الله عنه: إن فضل المشي خلفها على المشي أمامها، كفضل صلاة المكتوبة على التطوع. قال: يا أبا الحسن! أبرأيك تقول أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال أحمدك وقد روي هذا الحديث عن علي رضي الله عنه غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو موقوف عليه من قوله، ولا يضره

ذلك عندنا، ولو لم يكن مسندًا، لعلمنا أنه لم يقله إلا توقيفًا، لأن مقادير ثواب الأعمال، لا تعلم إلا ع طريق التوقيف، ولا تعلم من جهة الاجتهاد. وروي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الجنازة متبوعة، وليست بتابعة، ليس معها من تقدمها". وعن البراء رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع الجنازة"، والمتبع للشيء، وهو المتأخر عنه؛ لأن المتقدم أمامه. فإن قيل: روى الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يمشي أمام الجنازة، فقالك "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم". وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها".

وقال ربيعة بن عبد الله: "رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقدم الناس أمام جنازة زينب رضي الله عنها، وفعل ذلك بحضرة الصحابة"، فدل على موافقتهم إياه، إذ لم يعلم من أحد منهم خلافه. قيل له: أما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلا دلالة فيه على موضع الفضل، وإنما فيه الإباحة لا غير، ونحن لا ننكر إباحة المشي أمامها. وخبرنا أولى بالاستعمال في إثبات التفضيل؛ لأن فيه بيان موضع الفضل، فاستعملنا الخبرين على ما وردا، فثبت أحدهما في الإباحة، والآخر في الفضل. وقد روى يونس عن الزهري عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما، كانوا يمشون أمام الجنازة وخلفها". فذكر في هذا الخبر المشي في الموضعين، وغير جائز أن يكون المراد التفضيل، لاستحالة ذلك، وإنما المراد منه إباحة الأمرين، فكذلك الخبر الذي فيه المشي أمامها، إنما دل على الإباحة، ولا دلالة فيه على موضع الفضل. وأما خبر المغيرة رضي الله عنه، فيدل على صحة قولنا؛ لأنه أخبر أن "الراكب يمشي خلفها"، وهذا أمر يقتضي ظاهره الإيجاب.

"والماشي حيث شاء منها": فإنما أفاد الإباحة، ولا دلالة فيه على موضع الفضل، إلا أنه إذا صح هذا الخبر، أن الأفضل للراكب أن يكون خلفها، كان كذلك حكم الماشي من وجهين: أحدهما: أنا لا نعلم أحدًا فصل بينهما في موضع الفضل. والثاني: أن الراكب والماشي مستويان في كونهما متبعين للجنازة. وأما حديث عمر رضي الله عنه في جنازة زينب رضي الله عنها، فإنه جائز أن يكون فعل ذلك لعارض، وهو كثرة النساء مع الرجال خلف الجنازة، وكره الرجال مخالطتهن، كما روى إبراهيم عن الأسود "أنه كان إذا كان مع الجنازة نساء أخذ بيدي، فيقدمنا نمشي أمامها، وإذا لم يكن معها نساء، نمشي خلفها". مسألة: قال أبو جعفر: "يسجى قبر المرأة بثوب، ولا يسجى قبر الرجل). قال أبو بكر: "وذلك لما روي عن عمير بن سعد رضي الله عنه قال: "مدوا على قبر يزيد بن المكفف ثوبًا، فأخذه علي رضي الله عنه وقال: هو رجل". وأيضًا: كما تستر المرأة بنعش، ولا يستر الرجل، فكذلك في حال الدفن.

مسألة: قال أبو جعفر: "تسنم القبور، ويرش عليها الماء). قال أبو بكر: وذلك لما روى ابن الزبير عن جابر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجصصوا القبور، ولا تبنوا عليها"، والتربيع يشبه البناء، والتسنيم يخالفه. وقد روى أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما مسنم. مسألة: [التعزية، والإخبار بالجنازة] قال: (ولا بأس بتعزيه أهل الميت، والإذن للجنازة). وذلك لأن التعزية فيها وعظ وتذكير ودعاء، وذلك مستحب، وقد روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي امرأة تبكي على صبي لها، فقال لها: "اتقي الله، وأصبري"، فذلك تعزية منه لها. * وأما الإذن: فقد ال في أمر المرأة المبتلاة، التي كانت في ناحية

المدينة: "إذا ماتت فآذنوني". مسألة: [وإباحة البكاء على الميت، دون النياحة] قال: (ولا بأس بالبكاء على الميت، من غير أن يخلط ذلك يندب أو نياحة). وذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى حين مات ابنه إبراهيم، وقال: "القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزنون". وحدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن عاصم الأحوال قال: سمعت أبا عثمان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن ابنة النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه، وأنا معه وسعد: أن ابنتي أو ابني قد حضر، فاشهدنا، فأرسل يقرئ السلام، وقال: "قل: لله ما أخذ وما أعطى، وكل شيء عنده إلى أجل". فأرسلت تقسم عليه، فأتها، فوضع الصبي في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفسه تقعقع، ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له سعد: ما هذا؟ فقال له: "إنها رحمة يضعها الله في قلوب من شاء، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء".

* وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه". فإن العرب تسمى التعديد والنوح بكاء، وكانوا في الجاهلية يعددون على الموتى بأفعالهم في الشرك، فجائز أن يكون رأي قومًا يعددون على مشرك بأفعاله التي كان يفعلها، مما يعدونه مفاخر ومآثر، وهي معاصٍ وشرك، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يعذب في قبره بهذه الأفعال التي يذكرونها. وقالت عائشة رضي الله عنه في ذلك: "إنكم لتحدثون عن غير كذابين - لما ذكر لها هذا الحديث - ولكن السمع يخطئ، وإنما مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يبكون على يهودي فقال: "إنكم لتبكون عليه، وإنه ليعذب، قال الله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ". وأما النوح، فقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وأوعد عليه في أخبار كثيرة مشهورة. *****

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة باب صدقة الإبل [مسألة: نصاب زكاة الإبل] قال أبو جعفر: (وليس فيما دون خمس من الإبل صدقة، فإذا كانت خمسًا سائمة قد حال عليها الحول، وهي كذلك في ملك من هي له، من رجل أو امرأة، من البالغين الأحرار المسلمين: ففيها شاة، إلى تسع، فإذا كانت عشرًا: ففيها شاتان ...) إلى آخر ما ذكر.

قال أبو بكر أحمد: لا خلاف بين الفقهاء في ذلك إلى عشرين ومائة، وقد وردت به آثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متظاهرة مستفيضة. وقد روى أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه: "في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه". قال يحيي بن آدم: "سمعت سفيان الثوري يقولك كان علي رضي الله عنه أفقه من أن يقول هذا، وإنما هذا من قبل الرجال". قال أبو بكر أحمد: ويحتمل أن يكون علي رضي الله عنه أخذ من خمس وعشرين خمس شياه، على جهة القيمة عن بنت مخاض، فظن الراوي أنه رآها فرضًا. واختلف أهل العلم فيها إذا زادت عل عشرين ومائة: فقال أصحابنا: فيها باستئناف الفريضة، وهو قول علي بن أبي

طالب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. وقال بعض أهل المدينة: حتى تتزيد وتبلغ الزيادة عشرًا، فيكون فيها ابنتا لبون وحقه. وقال الشافعي رضي الله عنه: إذا زادت واحدة، ففيها ثلاث بنات لبون. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها أخبار مختلفة، ذهب كل فريق منهم إلى بعضها. * فأما ما روي فيها مما يدل على صحة قولنا، فما رواه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن جده عمرو بن حزم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا كانت الإبل مائة وعشرين: ففيها حقتان، فإذا كانت أكثر من ذلك: فاعدد في كل خمسين

حقة، وما كان أقل من خمس وعشرين، ففي كل خمس شاة". وليس يخلو ما ذكره في أقل من خمس وعشرين، من أن يكون المراد به الابتداء، أو الزيادة على المائة والعشرين، أو هما جميعًا، ولا يجوز أن يكون المراد الابتداء فحسب؛ لأنه قد تقدم ذكره مفسرًا، وحمله عليه يسقط فائدته. ولأن الحكم الكلام أن يرجع إلى ما يليه، ولا يرجع إلى ما تقدمه إلا بدلالة، والذي يليه ذكر المائة والعشرين، فقد سقط هذا الوجه، فلم يبق إلا أن يعود على ما يليه، أو عليهما، فكيفما تصرفت الحال فما بعد المائة والعشرين مراد. فإن قيل: قد روي في حديث عمرو بن حزم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وإذا زادت الإبل على عشرين ومائة، ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت ليون". قيل له: لم يبين فيه مقدار الزيادة، وهما مستعملان جميعًا عندنا؛ لأن الزيادة إلى تمام الخمسين والمائة يوجب في كل خمسين حقة، وفي تسعين ومائة ثلاث حقاق وبنت لبون. فإن قيل: ليس فيه إيجاب بنت لبون في الأر بعين بعد المائة والخمسين، لأنك توجبها في ست وثمانين ومائة.

قيل له: لا يخرجه ذلك مما قلنا، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: "وفي أربعين سائمة بنت لبون"، وإنما هي واجبة في ست وثلاثين. وكما قال: "في مائتي شاة شاتان"، والوجوب في مائة وإحدى وعشرين، ولكن لما كان فرضها واحدًا، جاز أن يقول: ذلك كذلك، لما وصفنا. وروى الخصيب بن ناصح عن حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن أبي بكر بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لجده عمرو بن حزم رضي الله عنه في ذكر فرائض الإبل، وكان في ذلك: "وأن الإبل إذا كانت أكثر من عشرين ومائة، ففي كل خمسين حقة، فما فضل فإنه ليعاد إلى أولى فريضة الإبل، فما كان أقل من خمس وعشرين، ففيه الغنم، في كل خمس ذود شاة". فبين أن استئناف الفريضة فيما فضل على عشرين ومائة، وهذا الحديث وإن كان مرسلاً، فإن إرساله لا يضره عندنا؛ لأن الموصول والمقطوع عندنا سواء. ومما يدل على صحة قولنا: ما روى شريك عن مخارق عن طارق

قال: خطبنا علي رضي الله عنه فقال: "والله ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة، قلنا: وما فيها؟ قال: أسنان الإبل، أخذتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم". وروى منذر الثوري عن محمد بن الحنفية أن عليًا رضي الله عنه قال له: خذ هذه الصحيفة، فإن فيهلا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك حين جاءه سعاة عثمان رضي الله عنه يشكونه. وروى عطية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بعث علي إلى عثمان رضي الله عنهما بصحيفة فيها كناب، فقال لهك "مر سعاتك أن يعملوا بما في هذه الصحيفة". فثبت بهذه الأخبار أن عليًا رضي الله عنه أخذ أسنان الإبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ثبت عن علي رضي الله عنه من مذهبه استئناف الفريضة، فدل على أه مما أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قيلك روي عن علي رضي الله عنه: إذا زادت الإبل على عشرين ومائة، ففي كل خمسين حقة.

قيل له: هو صحيح، ومعناه: أنه إذا كانت الزيادة إلى تمام الخمسين والمائة. * واحتج من قال بتغير الفرض بزيادة الواحدة، بحديث رواه سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة، فقرنه بسيفهن ولم يخرجه إلى عماله حتى قبض، فعلم به أبو بكر، ثم عمر رضي الله عنهما. فكان فيه: فإذا زادت الإبل على عشرين ومائة، ففي كل خمسين: حقة، وفي كل اربعين: بنت لبون". وهذا حديث فاسد السند، وقد قيل: إن سفيان بن حسين أوهم فيه، وقد رواه كبار أصحاب الزهرين فذكروه عن سالم "أنه كان في كتاب عند آل عمر"، وفي بعضه: "في كتاب الصدقة". فحصل هذا الحديث مرسلاً لا يصح للمخالف الاحتجاج به. ولو ثبت على ما ادعوه، لم يعارض به ما روينا من استئناف الفريضة، لأنه يبين فيه مقدار الزيادة، فنستعملها على حسب ما تقدم من بيان

جهة الاستعمال. وأيضًا: ليس فيه ما يوجب الحكم؛ لأنه ليس فيه أمر م النبي صلى الله عليه وسلم: "كتبه، ولم يخرجها إلى عماله"، ولو كان الحكم به ثابتًا، لأمر به، ولأخرجها إلى عماله. وأيضًا: قد روي عن عمر رضي الله عنه استئناف الفريضة نحو قولنا، ولو كان ذلك عنده ثابتًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، لمي كن يخالفه إلى غيره. * واحتجوا أيضًا بحديث محمد بن عبد الله الأنصاري عن أبيه عن ثمامة بن عبد الله بن أنس أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى البحرين وكتب: "هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، التي أمر بها رسوله، وقال فيه: "فإذا زادت الإبل على عشرين ومائة، ففي كل أربعين: بنت لبون، وفي كل خمسين: حقة". وهذا حديث أصله مرسل، رواه حماد بن سلمة فقال: "أخذت من ثمامة كتاب أنس بن عمر أن ابا بكر كتبه لأنس". ولو ثبت كان تأويله ما وصفنا.

* واحتجوا أيضًا بما روى سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم رضي الله عنه وفيه: "في الإبل إذا زادت على خمسين ومائة، ففي كل خمسين: حقة". وعلى هذا الوجه يرويه سليمان بن داود عن الزهرين وهو ضعيف عندهم جدًا، ويدل على ضعفه ووهاه، أن أصحاب الزهري الأثبات منهم، كيونس وغيره رووه عن الزهري عن الصحيفة التي عند آل عمر، ولو كان عند الزهري بهذا الإسناد، لما لجأ في روايته إلى صحيفة. ولو ثبت: كان مستعملاً مع خبر استئناف الفريضة على الوجه الذي بينا. وقد روى يونس عن الزهري قال: هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه في الصدقة، وهو عند آل عمر، وأقرأنيها

سالم، وفيه: "فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة، ففيها ثلاث بنات لبون". وهذا منقطع، لا يرويه غير يونس بهذا اللفظ. وجائز أن يكون الأصل ما روي في الأخبار الأخر، التي لم يبين فيها مقدار الزيادة، وحمله الراوي على المعنى عنده، ولم يراع اللفظ، ولما كان المعنى عنده أن أقل الزيادة واحد، عبر عنه: فإن في واحد وعشرين ومائة ثلاث بنات لبون. كما روى الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك من الصلاة ركعة، فقد أدركها". قال الزهري: "فنرى أن الجمعة من الصلاة"، ثم رواه بعضهم عن لزهري بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك من الجمعة ركعة صلى إليها أخرى"، فعبر عما اشتمل عليه اللفظ عنده، وعزاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أخبار أخر غيرها: "فإذا كثرت الإبل، ففي كل خمسين: حقة، وفي كل أربعين: بنت لبون".

وهذا يضاد ما في خبر يونس؛ لأن زيادة الواحد لا يكثر بها الإبل. وقد روى عمرو بن حزم عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري: أن في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب عمر رضي الله عنه في صدقة الإبل: "أن الإبل إذا زادت على عشرين ومائة، فليس فيما دون العشر شيء حتى تبلغ ثلاثين ومائة، فيكون فيها حقة وابنتا لبون". وهذا الحديث أيضًا ينفي تغير الفرض بزيادة الواحد، ويعارض جميع ما رواه مخالفنا فيه، وإذا تعارضت هذه الأخبار، كان أقل أحوالها أن تسقط، ويسلم لنا خبر استئناف الفرض. فإن قيل: هو يعارض أخبارك أيضًا في استئناف الفرض. قيل لهك لخبرنا مزية توجب له أن يكون أولى بالاستعمال من سائر الأخبار، وذلك لأنه لا يوجب تغيير الفرض المتقدم، ولا يعترض عليه، وأخبارهم يعترض عليها، ويغير، فلذلك كان خبرنا أولى. وأيضًا: فلو تعارضت الأخبار كلها وسقطت، كان مذهبنا أولى بالصواب؛ لأنا لا نغير الفرض المتقدم الذي قد أجمعوا على ثبوته وصحته باستئناف الفريضة، ومخالفونا قد غيروه، فكان الفرض الأول باقيًا، إذا لا جائز نقله إلى غيره إلا من جهة التوقيف أو الاتفاق. فلما عدمنا ذلك لم نغير الفرض الأول، وإذا ثبت الفرض الأول

وجب استئناف الفرض؛ لأن كل من بقي الفرض الأول على حاله قال باستئناف الفرض، فلما صح عندنا بقاء الفرض الأول على ما بينا، صح استئناف الفريضة عليه. ومما يدل على فساد مذهب من اعتبر زيادة الواحد: أن الواحد الزائد على العشرين والمائة لا يخلو من أن يكون الوجوب فيما قبله، وهو عفو في نفسه، أو يكون الوجوب فيه وفيما قبلهن فإن كان الوجوب فيه وفيما قبله، فإنما أوجب القائل به في كل أربعين وثلاث: بنت لبون، لهذا خلاف الخبر؛ لأن في الخبر: "في كل أربعين: بنت لبون". فإن قيل: إنه يخالف الخبر، لأنك تقول: في الأربعين من الإبل ابنة لبون، والوجوب في ستة وثلاثين. قيل له: ليس الأمر كما ظننت، من قبل أني إذا أوجبت ابنة لبون في الإبل، فالأكثر لا محالة ذلك واجب فيه. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إنما أوجب بنت لبون في الأربعين، ثم قلت: "لا يجب إلا في الأربعين والثلاث"، فقد منعت الوجوب في المقدار الذي ورد فيه الخبر. ثم رجعنا إلى القسم الاخر الذي اقتضاه كلامنا بدءًا، وهو أن يكون الوجوب في كل أربعين، والواحد عفو، وإن كان كذلك فينبغي أن يتغير به الفرض بما قبله؛ لأن في أصول الزكوات أن العفو لا يغير الفرض، ومن غير الفرض بالعفو، فقوله خارج من الأصول، فلم يخل قائل هذا القول من مخالفة نص الخبر أو الأصول التي بني عليها فروض الصدقات * ويدل من جهة النظر على ما قلنا: أن الزيادة لو كانت موجبة لبنات

اللبون، لأوجبتها حيثما وجدت، كالخمسين لما كانت موجبة للحقة، أوجبتها حيث وجدت، فلما اتفق الجمعي على أن المائة والعشرين لا يجب فيا ثلاث بنات لبون، علمنا أن الأربعين لا توجب بنات لبون، ولا يتعلق حكمها بها. فصل: وإذا لم توجد بنت مخاض، أخذ ابن لبون إذا كانت قيمته مثل قيمة بنت مخاض؛ لأن الأصل بنت المخاض، وابن لبون مأخوذ على أنه قائم مقام بنت مخاض في قيمته. وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:" فإن لم توجد بنت مخاض: فابن لبون ذكر": محمول على هذا المعنى، ولأن قيمته حينئذ كانت مثل قيمة ابنة المخاض. والدلي على ذلك: أنه لما اختلفت القيمة فيما بين بنت مخاض وبنت لبون، أمر بأخذ بنت البون، ورد ما بين القيمتين، وهي شاة، أو عشرون درهمًا. *****

باب صدقة البقر

باب صدقة البقر [مسألة: نصاب زكاة البقر] قال: (وليس فيما دون ثلاثين من البقر السائمة صدقة، فإذا كانت ثلاثين، وحال عليها الحول: ففيها تبيع أو تبيعة، فإذا كانت أربعين: ففيها مسنة. ثم اختلفت الرواية عن أبي حنيفة فيما زاد على الأربعين، فروى عنه أبو يوسف أن ما زاد عليها فبحساب ذلك، وروي أسد بن عمرو وغيره عنه أنه قال: لا شيء في الزيادة حتى يكون البقر ستين، فإذا كانت ستين: ففيها تبعيان، وهو قول أبي يوسف ومحمد). ثم لا خلاف أنه لا شيء في الزيادة حتى تبلغ سبعين. ثم قال: (في كل أربعين: مسنة، وفي كل ثلاثين: تبيع). قال أبو بكر أحمد: وقد روي عن أبي حنيفة أنه لا شيء في الزيادة على الأربعين حتى تبلغ خمسين: فيكون فيها مسنة وربع مسنة، ثم ليس في الزيادة شيء حتى تبلغ ستين: فيكون فيها تبيعان.

والأصل في ذلك ما روي معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في كل ثلاثين: تبيع، وفي كل أربعين: مسنة". وهذا متفق عليه، إلا فيما بين الأربعين إلى الستين، فإنهم مختلفون فيه على ما بينا. وأما وجه قول أبي حنيفة فيما زاد على الأربعين: فهو أن هذا مال قد ثبت الحق في جملته، فهو داخل في قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}، فأوجب عمومه أخذ الحق من جميعه، حتى تقوم الدلالة على تخصيص شيء منه. فإن قيل: قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}، كلام مجمل، لا يصح اعتبار العموم فيه. قيل له: هذا غلط من وجهين: أحدهما: أن لفظ المال غير مجمل، بل هو عموم يقتضي أخذ الحق من الجميع، وإنما الإجمال في قوله: "صدقة". ثم إذا وجب الحق في الزيادة بالعموم، كان مقدار الواجب بقسط المسنة من أربعين بالإجماع.

والآخر: أنه لو كان مجملاً، كان حصول الاتفاق على وجوب الأخذ من أربعين موجبًا لدخولها في المراد، وإذا حصل هذا المال مرادًا باللفظ جاز اعتبار العموم فيه. * ودليل أخر: وهو أنا لو أثبتنا فيما زاد على الأربعين وقصًا، لم يخل من أن يكون تسعة، أو تسعة عشر، ولم نجد في أوقاص البقر تسعة عشر؛ لأن أوقاصها تسعة تسعة بالاتفاق، وفي إثبات الوقص تسعة عشر، مخالفة لأصول أو قاص البقر، وإن جعلناه تسعة كان الذي انتقل إليه كسرًا، ولم نر في أصول الزكوات انتقال الفرض بالكسر، فلما خرج الوجهان جميعًا من موافقة الأصول، وكان ذلك جملة مال قد وجبت فيه الزكاة بالاتفاق، وجب الحق في قليل الزيادة وكثيرها. فإن قيل: وإيجابك الزكاة في الزيادة من غير وقص، مخالف للأصول، إذ ليس فيها إيجاب صدقة بعد الفرض إلا وبينهما وقص، وتخالفها أيضًا من جهة إيجاب الصدقة بالكسور. قيل له: إذا ثبت أن هذه الجملة مزكاة، لم يثبت الوقص إلا بتوقيف، والوجوب قد تقرر فيه قبل ذلك، وانتظمه عموم لفظ الآية، ولا يحتاج في إثباته إلى أكثر من ذلك. وقد أوجب مخالفنا فيما زاد على المائتين من الورق بحساب، ولم يثبت عفوًا، فلم يمتنع ثبوته فيما وصفنا.

وزعم الشافعي فيمن له ستة وعشرون من الإبل، استفاد في بعض الحول عشرًا، أن فيه عشر أجزاء من ستة وثلايين جزءًا من بنت لبون. فإن احتجوا بما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن محمد قال: حدثنا ابن يوسف بن شاهين قال: حدثنا عبيد الله بن عمر قال: حدثنا البخاري عن يحيي بن أبي أنسة عن الحكم عن يحيي بن الحراز عن الحكم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعًا"، وذكر الحديث. قال: فعرض على أهل اليمن أن يعطوني فيما بين الخمسين والستين، وما بين الستين والسبعين، فلم آخذ، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هي الأوقاص، لا صدقة فيها". قيل له: كذلك يقول أبو حنيفة في إحدى الروايات عنه، وهي التي يقول فيها: "إنه لا شيء في الزيادة حتى تبلغ خمسين، فيكون فيها مسنة وربع مسنة". وأيضًا: فإن الوقص ما بين الفريضتين، وهو الذي ينتقل من سن إلى

سن، أو إلى عدد، وليس ذلك حكم ما زاد على الأربعين؛ لأنه يوجب فيه الكسر، فلم يدخل في الخبر. وأيضًا: فإن هذا الخبر يعارضه ما روى عمرو بن دينار عن طاوس عن معاذ رضي الله عنه قال: طلم يقل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاوقاص شيئًا". فأخبر أنه لم يتفه، ولم يوجبه. *****

باب صدقة الغنم

باب صدقة الغنم [مسألة: نصاب زكاة الغنم] قال: (وليس فيما دون الأربعين من الغنم صدقة، فإذا كانت أربعين: ففيها شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة: ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت واحدة: ففيها ثلاث شياه، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ أربعمائة، فيكون فيها أربع شياه، ثم كذلك أبدًا في كل مائة شاة). قال أبو بكر أحمد: وهذه الجملة لا خلاف فيها بين أهل العلم، وقد وردت بها آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم. * قال: (والماعز والضأن سواء في الزكاة). وذلك لأن اسم: (الغنم): يجمع الصنفين جميعًا، وينتظمها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "في كل أربعين من الغنم شاة".

* قال: (ولا يؤخذ في ذلك إلا الثني فصاعدًا) وذلك لأن المأخوذ منها الوسط، وما دون الثني فهو في حد الصغار. وقال سفيان بن عبد الله رضي الله عنه - وكان عاملاً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه- إن أصحاب الأموال يقولون لنا: إنكم تظلموننا، تعدون علينا الصغار، ولا تأخذونها، فقال عمر: عد عليهم السخلة، وإن راح بها الراعي على كفه، وقل لهم: قد تركنا لكم المخاض، والربي، وفحل الغنم. * قال أبو جعفر: ولا يؤخذ في الزكاة الربى ولا الماخض، ولا فحل الغنم، ولا الأكولة". وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاذ رضي الله

عنه: "إياك وكرائم أموالهم". وقال ف حديث أنس رضي الله عنه: "ولا يؤخذ في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس الغنم". فمنع أخذ الفحل؛ لأنه من خيار المال. مسألة: [الدين يمنع وجوب الزكاة بمقداره] قال أبو جعفر: (ومن حال عليه أحوال في ماشيته، ولم يؤذ زكاتها: أدى زكاة الحول الأول منها، ثم نظر إلى ما بقي، فإن كانت فيها زكاة: زكاة للحول الثانين وإلا لم يزكه). قال أبو بكر أحمد رحمه الله تعالى: الأصل في ذلك أن الدين عندهم يمنع وجوب الزكاة في مقداره، ويكون المقدار المستحق بالدين كأنه غير مالكه فيما يمنع من تعلق وجوب الزكاة فيه، وجعلوا كل حق لله تعالى في المال مما له مطالب من الآدميين، بمنزلة دين الآدميين، وصدقات المواشي لها مطالب من الآدميين، وهو الإمام، فأشبه ديون الآدميين. وأما حقوق الله تعالى مما لا مطالب له من الآدميين، نحو النذور، والكفارات، والحج ونحوها، فإن وجوبها لا يمنع وجوب الزكاة، ولا نعلم في هذا الفصل خلافًا بين الفقهاء.

والدليل على أن الدين يمنع وجوب الزكاة بمقداره قول الله تعالى {وإنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين}، فأمر بإعطاء الغارمين من الصدقة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم، وأردها في فقرائكم". فحصل لنا بمجموع الآية والخبر، أن الغارم فقير، فصار المقدار المستحق بالدين، كأنه في غير ملكه في جاز إعطائه الصدقة، وكونه في حكم من لا يملك. ودليل آخر: وهو اتفاق الجميع على أن على الطالب زكاة ما يقبضه للحول الماضي، فحصل المقبوض بعينه في حكم الملك للطالب في ذلك الحول، واستحال إثبات حكم الملك فيه للمطلوب في باب وجوب الزكاة عليه، لاستحالة ثبوت الملك لهما جميعًا في حول واحد في جميع المال، فمن حيث وجبت زكاة على الطالب، وجب أن ينتفي وجوبها عن المطلوب. وأيضًا: هو أن الطالب أخذ المال بغير إذن المطلوب، كان أولى به منه، فلما كانت العين مستحقة للطالب من هذا الوجه، حتى إذا أخذها لم

يجبر على ردها، ثبت بذلك حقه فيها، وصار ملك الغريم كملك المكاتب في المقدار المستحق بالدين، فوج بأن ينتفي عنه وجوب الزكاة. وأيضًا: قال عثمان بن عفان رضي الله عنه على المنبر في شهر رمضان: "أيها الناس، هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه الدين فليؤده، ثم ليزك بقية ماله". فأخبر بوجوبها في بقية المال بعد الدين، وذلك بحضرة الصحابة من غير خلاف من غيره عليه. مسألة: [زكاة الخلطة والشركة] قال: (والخليطان في المواشي كغير الخليطين، يعتبر ملك كل واحد منهما على حياله، ولا يعتد بالشركة). وذلك لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد قال: أخذت من ثمامة بن عبد الله بن أنس كتابًا، زعم أن أبا بكر كتبه لأنس رضي الله عنهم، وعليه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: "فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، التي أمر الله بها نبه، فمن سئلها من المسلمين، على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعطه ... "، وذكر الحديث إلى أن قال: "وإن

لم تبلغ سائمة الرجل أربعين: فليس فيها شيء". وحدثنا دعلج بن أحمد قال: حدثنا أبو خالد بد العزيز بن معاوية القرشي قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال: حدثني أبي عن ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك. [مسألة:] وقال: (ومن لم تكن له إلا أربعة من الإبل: فليس فيها صدقة). وقال في صدقة الغنم: فإذا كانت سائمة الرجل تنقص من أربعين شاة واحدة: فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها. وحدثنا بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا سليمان بن داود المهري، قالك أخبرنا ابن وهب قال أخبرني جرير بن حازم- وسمى أخر- عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعوار عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول: ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء في الذهب حتى يكون ذلك عشرين دينارًا، وحال عليها الحول: ففيها نصف دينار".

وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد اله بن محمد النفيلي قال: حدثنا زهير قال حدثنا أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة وعن الحارث الأعور عن علي رضي الله عنه، قال زهير: أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في كل الغنم من كل أربعين شاة، فإن لم يكن إلا تسع وثلاثون: فليس عليك فيها شيء". وروى سعيد بن سليمان الواسطي قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد اله رضي الله عنه يقولك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على امرئ صدقة فيما دون خمس ذود". فنص في هذه الأخبار على حكم الواحد إذا نقص ماله من النصاب، ولم يفرض بين الخليط وغيره، واقتضى عمومه استعمال الحكم في الحالين. وأيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: "وليس فيما دون خمس ذود صدقة". وجائز إطلاق اللفظ في أحد الشريكين إذا كان بينهما خمس أن يقال: له دون خمس من الإبل: فانتفى وجوب الصدقة عنه بعموم اللفظ. فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "في خمس من الإبل

شاة"، وهو ينتظم حال الشركة والانفراد. قيل له: لا دلالة فيه على ما ذكرت؛ لأن ذلك إنما يقتضي وجوب الشاة في خمس ما، ولا يقتضي وجوبها في كل خمس، فسقط اعتبار عمومه في كل خمس، ومتى أوجبنا شاة في خمس ما، فقد قضينا عهد اللفظ. وأيضًا في تقسيم كل خمس نصف عارضة قوله: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة"؛ لأن عموم كل واحد من الخبرين يدفع عموم الآخر، وإذا تعارضا سقطا، وانفرد لنا قوله: "فإذا نقضت سائمة الرجل من أربعين شاة: واحدة، فليس فيها صدقة" بلا معارض؛ لأنه وارد في بيان حكم ملك كل واحد. وقوله: "في خمس من الإبل شاة": ليس فيه بيان حكم المالك، فوجب أن يكون قاضيًا عليه.

وأيضًا: لما اتفق الجميع على أن لا شيء في خمس من الإبل بين ذمي وسلم، أو مكاتب وحر، مع وجود الخمس، علمنا أن الاعتبار بوجود النصاب في ملك واحد، دون غيره. فإن قيل: لما قال: "لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية": دل بذلك على أن أول الخطاب جار على حال الخلطة وغيرها، وهو قوله: "في خمس من الإبل شاة". قيل له: أما قوله: "لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع": فليس يخلو من أن يكون المراد به الاجتماع والتفرق في المكان، أو في الملك، أو في المال والمكان، فلما اتفق الجميع على أن من له خمس من الإبل في مكانين، وجبت عليه الصدقة لاجتماعهما في ملكه، سقط بذلك اعتبار المكان رأسًا. فصار كأنه قال: لا يفرق بين مجتمع في الملك: فقلنا من أجل ذلك: إذا كان له مائة وعشرون شاة في أماكن متفرقة، فلو فرقها المصدق لأجل افتراقها في المكان: وجب ثلاث شياه، فمنع النبي صلى الله عليه

وسلم ذلك بقوله: "لا يفرق بين مجتمع". وأما قوله: "لا يجمع بين متفرق": فالرجلان يكون بينهما ثمانون شاة، لكل واحد أربعون، فيكون على كل واحد منهما شاة واحدة، فيجمعان ليكون عليهما شاة واحدة، فإذا فعل ذلك، فقد جمع بين متفرق في الملك، وقد اتفق الجميع على أن قوله: "لا يفرق بين مجتمع" قد أريد به الملك دون المكان، فوجب أن يكون قوله: "ولا يجمع بين متفرق" كذلك؛ لأنه خطاب واحد معطوف بعضه على بعض، وقد أضمر في أحدهما الملك، فوجب أن يكون ذلك مضمرًا في الآخر، إذ لا بد له من ضمير غير ما أضمر في الآخر. وعلى أن قوله: "لا يجمع بين متفرق": ينفي عمومه الجمع بينهما إذا كانا متفرقين في الملك، فمن حيث أراد مخالفنا الاحتجاج به علينا، لزمه في الملك مثل ما ألزمنا. وأيضًا: فإن قوله: "لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق": لما لم يرد حقيقة اللفظ، افتقر في إثبات حقيقة اللفظ، افتقر في إثبات حكمه إلى بيان من غيره؛ لأنه مجاز، والمجاز لا يستعمل إلا في موضع يقوم الدليل عليه، وقد ذكر في بعض الأخبار: "لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة".

وقد يجوز أن يكون هذا خطابًا للمصدق تارة، ولرب المال أخرى، فيعني كثرة الصدقة من رب المال، وفي قلتها من المصدق، فأما المصدق فهو أنه لا يفرق بين ثمانين مجتمعة في ملك واحد، فيأخذ من كل أربعين شاة، خشية قلة الصدقة، ولا يجمع بين متفرق أرعين لرجلين. وإذا أراد رب المال: فمائة وعشرون بين ثلاثة، لا يكتم، فيجعلها لواحد، خشية كثرة الصدقة. وأما قوله: "فما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية": ففيه دليل على صحة قولنا أيضًا؛ لأنه استأنف ذكر الخليطين وحكمهما، فدل على أن أول الخطاب لم يشتمل على الخليطين، ولولا ذلك لم يستأنف ذكرهما، ولم يجعلهما بعض من دخل في اللفظ. والتراجع عندنا يجب إذا كان بين رجلين مائة وعشرون شاة أثلاثًا، فأخذ المصدق شاتين من الجملة، فيرجع صاحب الثلثين على صاحب الثلث بثلث شاة، ويجوز له أن يأخذ الشاتين من الجملة إذا كان الشريكان قد تراضيا بذلك، وأذن صاحب الأكثر لصاحب الأقل بأن يؤدي بعض صدقته من نصيبه. وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله تعالى يقول: جائز أن يكون بقاؤهما على الشركة، مع العلم بوجوب الزكاة، إذنا لكل واحد منهما لصاحبه أن يؤدي الواجب من الجملة. دليل آخر: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أخذ الصدقة من أغنيائكم، ,أردها في فقرائكم".

فجعل الناس صنفين: غني مأخوذ منه الصدقة، وفقير ترد عليهن ولا يؤخذ منه؛ لأن ذكر الصدقة ههنا للجنس، فاستغرق جميعها، فإذا كان جميع الصدقة مأخوذًا من الأغنياء، فقد نفي وجوب أخذها من الفقراء، وإذا ثبت ذلك، وكان من لا يملك النصاب فقيرًا باتفاق الجميع على ذلك، على أنه لو كان منفردًا، لم يجب عليه، فانتفى وجوب الصدقة عليه بالشركة إذا لم تكسبه الشركة غنى. ودليل آخر: وهو اتفاق الجميع على أن لا صدقة على المفرد إذا نقص ماله عن النصاب، والمعنى عدم النصاب في ملكه، وذلك موجود في حال الخلطة. وأيضًا: لما لم يصر الرجل غنيًا بملك غيره في حال الخلطة والانفراد، وجب أن يستويا في سقوط الزكاة، ويدل عليه اتفاق الجميع في الخلطة بين المسلم والكافر، وبين الحر والمكاتب، والمعنى عدم النصاب لكل واحد بانفراد. فإن قيل: وجدنا الحكم يتغير بالشركة والاجتماع في كثير من الأصول، كصلاة الجمعة، لا تصح للمنفردين، وتصح للمجتمعين باشتراكهم فيها، وكالشفعة تجب للشريك دون الجار، وكالسخال لا تجب فيها صدقة على الانفراد عندك، ولو كان معها المسان وجبت فيها.

قيل له: هذا السؤال ساقط من وجوه: أحدها: أنه غير مقرون بعلة ولا دلالة. والثاني: أن الجمعة والشفعة وما ذكرت، لا يجوز أن يكون أصلاً لما ذكرنا؛ لأن العلة الواحدة لا توجب حكمين مختلفين، ولأن الفروع إنما ترد إلى الأصول قياسًا، للجمع بينهما في حكم واحد، فأما مع اختلاف الأحكام، فلا يصح القياس. وعلى أنا نبين الفصل بين ذلك، وإن لم يلزمنا، لحق النظر، فنقول: إن علة وجوب الصدقة في الأصل، إنما هي وجود الغني بالنصاب على الشرائط الموجبة لها، وعلة سقوطها: فقد النصاب، وذلك لا يتغير بوجود الخلطة ولا عدمها، ألا ترى أمن له نصاب وجبت عليه الزكاة مع عدم الخلطة. وأما الجمعة فإن من شرائطها صحتها الجماعة، ألا ترى أن المنفرد لا يفعلها بحال. وأما الشفعة فإنها تجب في حال الشركة والجوار جميعًا، إلا أن الشريك أولاهما، فلم يكن لعدم الشركة تأثير في إسقاطها، وإنما تأثيرها في كون الشريك أولى من الجار، وليست علة كون الشريك أولى من الجار هي علة أصحاب الزكاة بالخلطة، لأنهما حكمان مختلفان، لا يجوز أن تجمعهما علة واحدة. وأما السخال إذا انفردت أو كانت مع المسان، فلأن النصب لا تؤخذ

قياسًا، وإنما سبيل إثباتها التوقيف، أو الاتفاق، فلما عدمنا التوقيف والاتفاق في السخال منفردة، لم نوجبها فيهان وأوجبناها عند الاجتماع، لأن عموم قوله: "في أربعين شاة: شاة": ينتظمها جميعًا، ولا ينظم السخال منفردة، ولاتفاق الفقهاء على وجوبها. ودليل آخر: وهو أن الزكاة حق مضمن بالمال كالحج، فكما لم تؤثر الخلطة في إيجاب الحج، فكذلك في الزكاة. فإن قيل: لأن وجوب الحج متعلق بوجود الاستطاعة. قيل له: ووجوب الزكاة متعلق بوجود الغنى، والخلطة لا تفيده غنى، كما لا تفيده استطاعة. ودليل أخر: وهو أن ما يمضي من الحول على المال في ملك غيره، لا يضم إلى حول في ملكه، كذلك لا يكمل نصاب ماله بملك غيره، ألا ترى أن رجلاً لو ملك مائتين درهم ستة أشهر، ثم ملكها غيره، فمضت عليه ستة أشهر أخرى، أنا لا نكمل حول الثاني بما مضى من الوقت في ملك الأول، كذلك لا يكمل نصابه بملك غيره، والعلة الجامعة بينهما أن كل واحد من الحول والنصاب سبب في وجوب الزكاة؛ لا تجب إلا بوجودهما.

مسألة: [من لا تجب عليه زكاة] قال أبو جعفر: (ولا زكاة على طفل، ولا على مجنون في مواشيهما، ولا في ذهبهما وفضتهما، وكذلك المكاتب، والذمي). قال أبو بكر أحمد: يروى نحو قول أصحابنا في نفي زكاة مال اليتيم عن عبد الله بن مسعود، وابن عباس، في آخرين من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين. ويحكى عن ابن شبرمة أنه لا يزكي الذهب والفضة من مال اليتيم، ويزكي الإبل والبقر والغنم

ويروى عن علي، وعمر، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم أنه يزكي الجميع، وهو قول الشافعي. والحجة لنفيها عنهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم". فوجب بهذا الظاهر نفي الزكاة عن ماله؛ لأن إيجابها ينافي رفع القلم فإن قيل: إنما يدل ذلك على زوال التكليف عنه، فما الدليل على أنه ليس علي وليه إخراجها عنه؟ قيل له: قول الله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}، وقوله: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها}، فنفي وقوع الأداء عن الصبي إذا

لم يكن ذلك فعله، فلما انتفى الوجوب بالخبر، وانتفى الأداء بالآية، سقط قول من أوجبها: وعلى أنه يحتاج أن تثبت الزكاة أولاً، ثم يجب الأداء، لأنه لا يجب أداء زكاة لم تجب على مالك. وإن سئلنا على هذا زكاة الفطر؟ قلنا: العموم بنفيها، وخصصناها بدلالة. ودليل آخر: وهو قول أبي بكر الصديق بحضرة الصحابة رضي الله عنهم، من غير نكير من أحد منهم عليه: "لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة". وموج بالزكاة عليه دون الصلاة: مفرق بينهما. فإن قيل: المكاتب عليه الصلاة، ولا زكاة عليه. قيل له: فإذا كان من عليه الصلاة لا زكاة عليه، فمن لا صلاة عليه، أحرى بأن لا يكون عليه زكاة؛ إذ الصلاة أكد في باب اللزوم من الزكاة. دليل آخر: وهو أن الزكاة عبادة محضة، لا يلزم أحدًا عن غيره، فأشبهت الحجج والصلاة والصوم، فمن حيث لم تلزم الصبي هذه العبادات، لم تلزمه الزكاة، للعلة المانعة من وجوب الصلاة ونظائرها، وهي الصغر. فإن قيل: الزكاة مخالفة للصلاة؛ لأنها حق في المال، فيلزمه كالغصوب والنفقات.

قيل له: والحج حق قد يجب في المال ولا يلزمه، والذمي والمكاتب يلزمها الغصوب والنفقات، ولا يلزمهما الزكاة. فإن قيل: قد ألزمته صدقة الفطر، وعشر الأرضين. قيل له: أما عشر الأرضين، فليس موضوعه موضوع العبادات، لوجوبه في أرض الوقف على المساجد، وأرض المكاتب، والذمي على مذهب المخالف. ولا خلاف أن الزكاة متعلق وجوبها بالمالك، على جهة أنها عبادة محضة. وأما صدقة الفطر، فليست عبادة محضة، وهي تلزم الأب عن ابنه الصغير، وعن عبده، فأشبهت النفقات التي تلزم الإنسان لغيره، وزكاة المال لا تلزمه عن غيره، فأشبهت الحج والصلاة والصوم. ودليل آخر: وهو أن الصبي ليس له اعتقاد الإيمان، فأشبه الكفر. وأيضًا: فإن الصبي لا يتصرف فيه بالمعروف، من نحو القر ض والهبة، فأشبه المكاتب، فلما لم يكن في مال المكاتب زكاة، كان كذلك مال الصبي، لوجود هذا المعنى. فإن احتجوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ولى يتيمًا له مال، فليتجر فيه، ولا

يتركه فتأكله الصدقة". قيل له: معلوم أن الزكاة الواجبة لا تأتي على جميع المال، فثبت أن المراد: لا تأكل منه الصدقة، فحينئذ لا يكون خصمنا أولى بصرفة إلى الزكاة، منا إذا صرفناه إلى زكاة الفطر، والصدقات التي كانت واجبة عند القسمة، وعند الحصاد ونحوه. وإذا كان المعنى ما وصفنا، سقط الاحتجاج به، لأنا متى أوجبنا صدقة ما، فقد قضينا عهدة الخبر. وقد قيل: إن أصل الحديث إنما هو عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه موقوفًا عليه، وأن من رفعه، فهو غالط. وأيضًا: حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا محمد بن كثير قال: حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت عن عبد الله بن يزيد عن أبي مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ال: "إن المسلم إذا أنفق نفقة على أهله، كانت له صدقة".

وروى سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، فقال رجل: عندي دينار، فقال: "تصدق به على نفسك". فجعل نفقته على نفسه صدقة، فإن صح الخبر: كان مراده النفقة عليه، وعلى أهله إذا كانت هذه النفقة صدقة، فعبر عنها بها. * وأما الذمي والمكاتب، فلا خلاف بين أهل العلم في نفي الزكاة عن مالهما. وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الفضل بن العباس الصواف قال: حدثنا يحيي بن غيلان قال: حدثنا عبد الله بن بزيع عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق". مسألة: [تعجيل الزكاة] قال أبو جعفر: (ويجوز تقديم الزكاة بعد وجود النصاب قبل الحول).

وذلك لما روى حجية عن علي أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك". وفي خبر آخر عن العباس رضي الله عنهما: أنه استسلف منه صدقة عامين. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن العباس رضي الله عنه حين منع الصدقة فقال: "هي علي، ومثلها معها"، يعني لسنة مستقبلة. ويد لعليه قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}، ولم يخصها بوقت. وأيضًا: لما وجد السبب، وهو النصاب، وجب أن يجوز الأداء. وقد أجاز مالك بن أنس رضي الله عنه تعجيل الكفارة قل الحنث؛ لأن عنده أن اليمين سبب لها، والصدقة أولى بالجواز، لوجود النصاب. وعندنا أن اليمين ليست سببًا للكفارة، فلذلك لم نجزها.

مسألة: [مقارنة النية إخراج الزكاة] قال أبو جعفر: (ولا تجزئ الزكاة عمن أخرجها إلا بنية مخالطة لإخراجه إياها). قال أبو بكر أحمد رحمه الله: قد ذكر هشام عن محمد أنه إن صر مقدار الزكاة على حدة، ونوى أن يكون من زكاة ماله، ثم دفع، ولم تحضره النية عند الدفع: إني أرجو أن يجزئه إذا كان نوى أن ما أعطى من الصرة، فهو من الزكاة. وإنما لم تجز الزكاة إلا بنية؛ لأنها فرض مقصود بعينه، كالصلاة والصيام ولا نعلم مع ذلك فيه خلافًا بين الفقهاء. مسألة: [لو أخذ الإمام الزكاة كرهًا: أجزأت] قال أبو جعفر: (ومن امتنع من أدائها، فأخذ الإمام منه كرهًا، فوضعها في أهلها: أجزأت عنه). وذلك لأن للإمام ولاية في أخذ الصدقات، فقام أخذه مقام دفع المالك، كما أن الأب لما كانت له ولاية في دفع صدقة الفطر عن

الصغير، جازت مع عدم نية الصغير، لوجود نية من يستحق الولاية في الدفع. مسألة: [لا زكاة في الحملان والفصلان والعجاجيل منفردة] قال أبو جعفر: (ولا زكاة في الحملان، والفصلان، والعجاجيل في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف ر حمه الله: فيها وليدة منها). قال أبو بكر أحمد: وقال زفر فيها مسنة. قال أبو بكر أحمد: والمسألة في الحملان أن يكون له أربعون شاة في أول الحول، فتوالدت أو استفاد أربعين حملاً قبل الحول بشهر أو نحوه، ثم ماتت المسان، وبقيت الحملان، لا تصح مسألة الحملان إلا على هذا، لأنها لو بقيت في ملكه حولاً، كان مسان، تجب فيها الصدقة عند الجميع إذا حال عليها حول بعد ما صارت مسان. والحجة لأبي حنيفة ما حدثنا أبو الحسن الكرخي رحمه الله قال:

حدثنا إبراهيم بن موسى قال: حدثنا يعقوب يعني الدورقي ومحمد بن هشام قالا: حدثنا هشيم قال: أخبرنا هلال بن خباب عن ميسرة أبي صالح عن سويد بن غفلة رضي الله عنه قال: أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته، فجلست إليه فسمعته يقول: "في عهدي أن لا آخذ من راضع لبن". يدل هذا الحديث على معنيين: أحدهما: نفي الحق عن الصغار. والآخر: أنها لا تؤخذ في الصدقة، فانتفى به قول القائلين بأخذ واحدٍ منها، وقول من قاله بأخذ مسنة. وأيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس من الإبل، ولا فيما دون أربعين من الغنم شيء". والفصلان والحملان لا يتناولها اسم الإبل والغنم، بل هي دونها، فانتفى وجوب الحق فيها، لظاهر الخبر. وأيضًا: قول النبي ص في خبر أنس: "في أربعين شاة: شاة، وفي خمس من الإبل: شاة".

وقال: "فمن سئلها على وجهها: فلعيطها، ومن سئل فوقها: فلا يعطها". فنفي وجوب الصدقة على الوجه المذكور في الخبر. ومن أخذ حملاً، فقد سألها على غير وجهها، من أخذ شاة مسنة من الحملان، فقد سأل فوقها، فيقضي قول النبي صلى الله عليه وسلم ببطلانه؛ لأن اسم الإبل والغنم لا يتناول الفصلان والحملان منفردة عن المسان. وأيضًا: لا سبيل إلى إثبات النصاب إلا من طريق التوقيف أو الاتفاق، فلا جائز إثبات الحملان والفصلان نصابًا، مع عدم ذلك ووجود الخلاف. فإن قيل: فقد عددتها مع المسان. قيل له: لوجهين: أحدهما: الاتفاق، وجائز إثبات النصاب بالاتفاق. والثاني: أن الاسم يتناولها عند وجود المسان معها، كما يجري لفظ التذكير على الإناث والذكور عند الاجتماع، ولا يجري على الإناث منفردات. والثالث: ما روى أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله

عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقة فيه: "يعد صغيرها وكبيرها". وظاهرة يقتضي وجوب الحق من جميعها عند الاجتماع. ويدل على اختلاف حال انفرادها أو اجتماعها مع المسان: أن من أوجب واحدًا فيها في حال الانفراد، يوجب في حال الاجتماع مسنه، ولا يوجب في الصغار بقسطها من الحمل والفصيل، وفي الكبار بقسطها من المسنة، ولو كانت كلها صغارًا، لوجب عندهم فيها واحد منها. ويدل على بطلان قول من أوجب المسنة، ما روى هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالتك بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصدقًا في أول الإسلام فقال: "لا تأخذ من حزرات الناس". وهو خيار أموالهم. وقال لمعاد رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: "إياك وكرائم أموالهم".

ونهى عن أخذ الماخض والربى، وفحل الغنم. فمن أخذ من أربعين حملاً: مسنة، فقد أخذ من خيار أموالهم، وذلك خلاف السنة. وأيضًا: معلوم أن الصدقات موضوعة في حواشي أموالهم، وليس في الأصول صدقة تستغرق المال، وجائز أن لا يكون في خمس من الفصلان العجلان قيمة شاة وسط، فتأتي الصدقة على المال، وذلك خلاف الأصول. ودليل آخر: وهو أن الفرض يتغير تارة بزيادة السن، وتارة بزيادة العدد، فيجب في خمس وعشرين: ابنة مخاض، ثم في ستة وثلاثين: ابنة لبون، وكذلك الحقة والجذعة، ثم في ست وسبعين: ابنتا لبون، فيتغير الفرض بزيادة العدد، فجرت زيادة السنين مجرى زيادة العدد فيما تعلق بهما من حكم الصدقات، فوجب أن يكون زيادة العدد فيما تعلق بهما من حكم الصدقات، فوجب أن يكون نقصان السنن كنقصان العدد، فيكون أربعون حملاً بمنزلة سبع وثلاثين مسنة. فإن قال قائل: قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: "لو منعوني عناقًا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم عليه".

وذكر بحضرة الصحابة من غير نكير. قيل له: الصحيح: "لو منعوني عقالاً"، وهو صدقة عام، ويحتما عقاب البعير، ومعلوم أن عقال البعير ليس بواجب في الصدقة، كذلك العناق. وأيضًا: معناه: لو كان العناق مما يجب فيه، ثم منعوني لقاتلتهم، كقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}. وأيضًا: فإن السعاة كانوا يأخذون الصدقة، ويجمعونها، فتتوالد في أيديهم قبل أن يدفعوها إلى الإمام، وقد كان سعاة أهل الردة فرقوا ما في أيديهم في قومهم، منهم مالك بن نويرة، ونظراؤهن فقال أبو بكر رضي الله عنه: "لو منعوني عناقًا مما ولد في أيديهم لقاتلتهم".

فإن قيل: في حديث أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقة: "ويعد صغيرها وكبيرها"، وظاهره يقتضي وجوب الحق في الصغار منفردة. قيل له: الواو للجمع حتى تقوم دلالة الاستئناف، فكأنه قال: ويعد صغيرها مع كبيرها. مسألة: ولا تجب صدقات المواشي إلا في السائمة منها: وذلك لما روي أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة، وعن الحارث الأعور عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر صدقة البقر وقال: "ليس على العوالم شيء". رواه جماعة عن أبي إسحاق مرفوعًا، وقال زهير عنه: "أحسبه"، وهو عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أحسبه أحب إلى. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حسين بن إسحاق التستري قال: حدثنا رحموية قال: حدثنا سوار بن مصعب عن ليث عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس

في البقر العوامل صدقة" ويدل عليه حديث أنس في كتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنهما "هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، فمن سئلها من المؤمنين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعطها، صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين فيها شاة". فنفى بقوله: "ومن سئل فوقها فلا يعطه": وجوبها في غير السائمة. لأنه ذكر السائمة، ونفى الصدقة عما عداها. فإن قيل: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في خمس من الإبل شاة": وعمومه يوجب في السائمة وغيرها. قيل له: يخصه ما ذكرنا. وأيضًا: فالحاجة إلى معرفة وجوب صدقة العوامل عامة، فلو كان من النبي صلى الله عليه وسلم نص في إيجابها، لورد النقل به متوترًا كوروده في السائمة، فلما عدمنا ذلك، علمنا أن لا صدقة فيها. وأيضًا: ما عدا الذهب والفضة من الأموال معلق وجوب الزكاة فيه بطلب النماء منها، وحق المؤونة فيها، بدلالة وجوبها في عروض التجارة، وسقوطها عما كان منها لغير التجارة، وقد أسقط مالك بن أنس

زكاة الحلي، لأجل أنه مرصد في الاستعمال، فلزمه مثله في العوامل. ويدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس في النخة، ولا في الجبهة، ولا في الكسعة صدقة". وقال كثير من أهل اللغة: إن النخة: البقر العوامل. مسألة: [إذا بلغ ماشيته بماشية: استأنف بها حولاً] قال أبو جعفر: (ومن باع ماشية قبل الحول بماشية سواها: استقبل بها حوالاً". وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول".

ويفارق ذلك عروض التجارة إذا باعها بمثلها، فيبني على الحول الأول؛ لأن زكاة العروض متعلقة بقيمتها، والقيمة موجودة في الحالين، لأنها دراهم أدنانير، فصارت بمنزلة الدراهم إذا اشترى بها دنانير، فلا يسقط حكم الحول. مسألة: [بيع الماشية بعد وجوب الزكاة] قال: (ومن باع ماشية بعد وجوب الصدقة فيها، والمصدق قائم: كان المصدق بالخيار: إن شاء أخذ البائع حتى يؤدي صدقتها، وإن شاء أخذها مما في يدي المشتري). قال أبو بكر أحمد رحمه الله: ذكر محمد رحمه الله تعالى هذه المسألة في "الأصل"ن فقال فيها: "إن كانا قد افترقا أخذها من البائع، وإن كانا لم يفترقا، فإن شاء أخذها من المشتري، وإن شاء أخذها من البائع". وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يتأول الافتراق الذي ذكره محمد علي نقل السائمة عن موضعها، لا على افتراق المتابعين فحسب، ووجدت ابن سماعة قد ذكر ذلك عن محمد أيضًا فيما سأله عنه فأجابه فيه. واحتج أبو الحسن رحمه الله لوجه ذلكن بأن صحة ضمانها على

المشتري ما يتعلق بالنقل في حق العين، وإن حصلت في ضمانه للبائع بالنخلية، وما لم ينقلها لا تصير في ضمانة لغير البائع، ألا ترى أن من خلى بين المبيع المشتري، حصل بذلك في ضمان المشتري، ولو استحقه مستحق قبل نقله وقد هلك، لم يضمنه المشتري للمستحق. فإذا صح ذلك، قلنا في مسألة الزكاة، إنها لما حصلت في ضمان المشتري في حق العين، وكان البائع جائز التصرف فيها مع وجوب الزكاة، لم يكن للمصدق على المشتر ي سبيل. وما لم يحصل في ضمانة في ح العين أعني المشتري: صارت بمنزلة ما لم يقبض بعد من حقهم، وكان بمنزلة ما لم يتم فيه ملك، فكان للمصدق أخذها من العين، وكان القياس أن لا يأخذها من المشتري في الحالين، لأن تصرف البائع جائز فيها إلا أنه ترك القياس إذا لم يتعلق بها، لما وصفنا. *****

باب زكاة الخيل

باب زكاة الخيل [زكاة الخيل، ومقدار الواجب فيها] قال أبو جعفر: (وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يوجب الزكاة في الخيل السائمة إذا حال عليها الحول، وهي كذلكن إذا كانت ذكورًا وإناثًا، يلتمس نسلها مع ذلك، فيكون المصدق بالخيار: إن شاء أخذ منه لكل فرس دينارًا، وإن شاء قومها، ثم زكاها كما تزكى الدراهم. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس في الخيل صدقة على حال). قال أبو بكر أحمد: مذهب أبي حنيفة فيها: أنها إن كانت إناثًا وحدها أو إناثًا وذكرانًا وجبت الصدقة، وإن كانت ذكورًا وحدها: فلا صدقة فيها. الخيار فيما يعطي من الدينار عن كل فرس، أو في تقويمه، فيعطي عن كل مائتي درهم: خمسة دراهم إلى رب المال، وليس للمصدق فيها خيار.

والحجة لأبي حنيفة رضي الله عنه، قول الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}، وهو عام في الخيل وغيرها، ولا يخص إلا بدلالة. ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، وقوله تعالى: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم}. ومن جهة السنة: حديث مالك عن زيد بن أسلم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الخيل فقال: "هي ثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر: فأما الذي له ستر، فالرجل يتخذها تكرمًا وتجملاً، ولا ينسى حق الله في رقابها وظهورها. وأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله عز وجل، فما أصابت في طيلها، ذلك من المرج، كانت له حسنات. وأما الذي عليه وزر، فرجل ربطها فخرًا ونواء لأهل الإسلام، فهي على ذلك وزر.

قال: وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر، فقال: ما أنزل الله على فيها إلا الآية الجامعة الفاذة: {فمن يعمل مثقال ذرة خير يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره} ". وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي قال: له ستر: "ولا يحبس حق ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها". وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا ينسى حق الله في رقابها وظهورها". يقتضي أن يكون هناك حقًا لله تعالى واجبًا فيها، وقد اتفق الجميع على سقوط سائر الحقوق ما عدا صدقة السائمة، فوجب أن يكون ذلك الحق هو الصدقة. ويدل عليه أيضًا: أنه ذكر في أول الحديث صاحب الإبل والبقر والغنم فقال: "ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها"، وذكر البقر والغنم. فلما سئل عن الخيل قال: "الخيل ثلاثة"، فعلم: أنه أراد إثبات الصدقة؛ لأنه عنها سئل. فإن قيلك يحتمل أنه أراد النذور. قيل له: علق إيجابه بإمساكها تجملاً، والنذر يتعلق وجوبه بالقول.

وأيضًا: حكم النذر لا يختلف في الخيل والحمر وغيرهان فلما فرق بينها وبين الحمر، در على أنه أراد صدقة السوم. وهذا أيضًا يدل على أنه لمي رد به صدقة التجارة، إذ لا يختلف الخيل والحمر فيهان ويدل على أنه لم يرد به زكاة التجارة، إذ زكاة التجارة واجبة في القيمة، لا في الرقبة. فإن قيل: لو أراد صدقة السوائم، لذكر المقدار. قيل له: لأنه لم يقصد بيان المقدار، وإنما قصد الإبانة، عن وجوب الحق، كما ذكر فيه صدقة الإبل والبقر والغنم، ولم يذكر المقدار، وكقول الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}. فإن قيل: ويحتمل أن يكون المراد الحق الذي يلزم من حمل الناس عليها عند الضرورة إليها. قيل له: وهذا أيضًا حق لا يختلف فيه حكم الحمير والخيل. وعلى أنه قد أفادنا ذلك في الخيل الذي له فيها أجر؛ لأنه قالك "ويحمل عليها في سبيل الله"، وحمل المضطر من سبيل الله. فإن قيل: لو كان فيها حق، لما اختلف فيه حكم الذكور والإناث، ولأختلف حال العسر واليسر، ولما كان صاحبه مخيرًا بين أن يؤدي

دينارًا، أو زكاة التجارة بالقيمة. قيل له: هذا اعتراض على الخبر بالنظر، وهذا لا يجوز عندنا. وأيضًا: فإنما اختلف حكم الذكور والإناث؛ لأن حق الصدقة يتعلق في السائمة بمعنيين: أحدهما: ما يطلب من النماء بالسوم. والآخر: سقوط مؤونتها عن ربها بالسوم، ونماؤها يبتغي من وجهين: من جهة النسل واللحم، وذكور الخيل منفردة معدوم فيها جهة النماء، فلم تجب فيها صدقة. وإنما لم يختلف حكم عسرها ويسرها؛ لأنها لم يجعل لها نصاب من عدد مجموع، وإنما نصابه واحد منها. وأيضًا: فإن كل من أوجب فيها الصدقة، فإنه لم يوجبها إلا على الوجه الذي قلنا، فثبوت هذه الوجوه ينبي على صحة وجوب الصدقة فيها، فإذا صح وجوبها، كان القول فيها على ما وصفنا. وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق"، وقوله: "ليس على المسلم في فرسه، ولا في

عبده صدقة"، وقوله: "عفوت لكم صدقة الجبهة". فمحمول على فرس الركوب والاستعمال، دون السوائم، ليصح الجمع بين الأخبار، ألا ترى أنه لم ينف بذلك زكاة التجارة، ولا صدقة الفطر عن العبيد. وقد روى أبو يوسف عن غورك السعدي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في كل فرس سائمة: دينار، وليس في الرابطة شيء". فإن قيل: غورك: مجهول. قيل له: بل هو معروف، هو مولى جعفر بن محمد، يعرفه أهل

المعرفة بالرجال. ودليل آخر: وهو أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ صدقة الخيل بعد مشاورة الصحابة، ومتابعتهم إياه عليها. فإن قيل: كان تطوعًا. قيل لهك لوكان كذلك، لما احتاج إلى المشاورة. فإن قيل: لو كان فيها زكاة، لورد النقل به متواترًا، كوروده في صدقة المواشي. قيل له: ومتى كانت للعرب خيل سائمة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يرد فيها النقل، وإنما كثرت في زمان عمر رضي الله عنه، فأخذ منها، ولو كانوا علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب فيها، لما استشار عمر الصحابة رضي الله عنهم في أخذها، ولاستدلوا بترك النبي صلى الله عليه وسلم الأخذ منها، مع وجودها في زمانه، على أن ليس فيها صدقة. *****

باب زكاة الثمار والزروع

باب زكاة الثمار والزروع [مسألة: ما تجب فيه الزكاة من الزروع والثمار، وقدرها] قال أبو جعفر: (كان أبو حنيفة يقول: في قليل الثمار والزروع، وفي كثيرها الصدقة، فإن كانت مما سقته السماء أو سقي فتحًا: فالعشر، وإن سقي بدالية أو سانية: فنصف العشر، إلا الحطب والقصب والحشيش، فغنه لا شيء في ذلك. وقال أبو يوسف ومحمد: لا شيء في ذلك حتى يبلغ خمسة أوسق، وهذا في التمر والزبيب والحنطة والشعير والسمسم والأرز ونحوها. وأما الخضر كلها، والفواكه التي ليست لها ثمرة باقية كالبطيخ ونحوه: فإنه لا عشر فيه) قال أبو بكر أحمد رحمه الله تعالى: الكلام في هذا الفصل يقع من وجهين: أحدهما: في الموجب فيه، والآخر: في المقدار الواجب.

وروى نحو قول أبي حنيفة في الموجب فيه عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومجاهد، وإبراهيم النخعي. * والحجة لأبي حنيفة في إيجاب الحق في جميع الأصناف خلا من ذكرنا، قول الله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض}. وعمومه يوجب الحق في كل خارج إلا ما قام دليله. ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشبهًا وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وأتوا حقه يوم حصاده}، وذلك عام في كل ثمرة فلي جميع ما يقع فيه الحصاد. * والدليل على أن هذا الحق هو العشر: اتفاق الجميع من فقهاء

الأمصار على أنه لا حق يجب في الخارج من الأرض عند الحصاد إلا العشر. وقد روي عن ابن عباس وجابر بن زيد رضي الله عنهم أنه قال: "العشر أو نصف العشر". ويدل عليه أيضًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر"، وذلك عام في جميع الأصناف إلا ما قام دليله. فإن قيلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس في الخضراوات صدقة". قيل له: رواه موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، ولا يصح الاحتجاج به للمخالف. وروي من وجه ضعيف عن علي رضي الله عنه عن لنبي صلى الله

عليه وسلم، لا يلتفت إلى مثله أهل المعرفة بالحديث. وعلى أنه لو صح، كان معناه عندنا فيما مر به على العاشر من أموال التجارة، وكذا قول أبي حنيفة أن العاشر لا يأخذ من الخضروات صدقة. وما روي أن معاذًا رضي الله عنه أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من الحنطة والشعير والتمر والزبيب: فإنه مرسل أيضًا؛ لأن موسى بن طلحة حكاه عن كتاب معاذ رضي الله عنه. ولو ثبت، احتمل أن يكون اقتصر على ذكر ذلك؛ لأن ولايته كانت مقصورة عليه، ولم يول غير". ويحتمل أن تكون هذه الأربعة كانت مخصوصة بالزكاة في ذلك الوقت، ثم ألحق بها ما عداها. * ومن جهة النظر: إن سائر ما جرت به العادة بزراعته، يطلب به النماء من الأرضين، فأشبهت الحنطة ونحوها، وليس كذلك الحطب والقصب والحشيش؛ لأنه ليس في العادة طلب نماء الأرض بها.

فصل: وأما الدليل على وجوب الحق في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره، فعموم قول الله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض}، وقوله: {وأتوا حقه يوم حصاده}، وقوله: {خذ من أموالهم صدقة}. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر"، ولم يفرق في شيء من ذلك بين القليل والكثير. فإن قيل: يخصه: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"، كما خص

قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة": قوله صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر". قيل له: من أصل أبي حنيفة أن الخبرين إذا وردا، أحدهما عام والآخر خاص، أنه يقضي بالخبر المتفق على استعماله، على الخبر المختلف فيه، خاصًا كان أو عامًان فلما كان الخبر: "فيما سقت السماء

العشر، ونصف العشر": متفقا على استعماله في الخمسة الأوسق وما فوقها، وخبر الأوسق مختلف في استعماله: قضى خبر العشر على خبر الأوسق. وأما خبر إيجاب ربع العشر في الرقة، وخبر تقدير الخمس الأوافي. فإن الأمة متفقة على استعمالها جميعًا، فاستعملناهما، وجعلنا أحدهما مرتبًا على الآخر، ولذلك نظائر من أصولنا قد ذكرناها في مواضع. وجواب آخر: وهو أن قوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة": لا يجوز أن يكون بيانًا لقوله: "فيما سقت السماء العشر"؛ لأن قوله: "فيما سقت السماء العشر": يشمل الموسق وغيره، وقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة": مقصور على الموسق، وحكم البيان أن يكون شاملاً لجميع الجملة المقتضية للبيان، ولا يجوز ورود البيان فيه عن بعض الجملة؛ لأن ذلك يوجب اعتقاد المراد به، دون غيره. وعلى أن الفقهاء متفقون على أن ذكر الوسق، ليس ببيان المراد في قوله: "فيما سقت السماء العشر"؛ لأن مخالفينا لا يقصرون إيجاب العشر على الموسق دون غيره.

وكان أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يعتبران ماله ثمرة باقية. ومالك والشافعي رحمهما الله يعتبران المقتات، فبان بذلك أن ذكر الوسق ليس ببيان لقوله: "فيما سقت السماء العشر". ووجه آخر: وهو أنه كانت هناك حقوق واجبة في المال قبل وجوب الزكاة فنسخت، من ذلك قوله: {وإذا حضر القسمة أولوا القربي واليتامى والمساكين فأرزقوهم منه}، وحقوق غيرها قد رويت عن السلف، فجائز أن تكون الخمسة الأوسق تقديرًا لتلك الحقوق، فلما نسخت تلك الحقوق، سقط حكمه، وإذا احتمل ذلك: لم يجز لنا أن نخص به عموم الآي والسنة. * ومن جهة النظر: أن الحول والنصاب سببه وجوب الصدقات المتفق عليها، فإذا سقط اعتبار الحول في الخارج من الأرض باتفاق، وجب أن يسقط اعتبار النصاب، ومن حيث كان كل واحد منهما سببًا

لوجوب الزكاة، ولهذا المعنى أسقطنا اعتبار الحول في الفائدة بسقوط اعتبار النصاب عند الجميع. وأيضًا لما كان خمس الغنيمة حقًا لله عز وجل، كالعشر في الخارج من الأرض، ثم لم سقط فيه اعتبار الحول، سقط اعتبار النصاب: وجب مثله في الخارج من الأرض لعلة سقوط الحول. ووجه آخر: وهو أنا وجدنا كل ما له نصاب في الابتداء، فله عفو بعد النصاب، فلما اتفق الجميع على أن لا عفو بعد الخمسة الأوسق، دل أن لا نصاب له في الابتداء. * وذهب أبو يوسف ومحمد في ذلك إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة". * وقال أبو جعفر: (وهذا الذي ذكرناه بعد أن يخرص ذلك جافًا، وبعد أن يكون في أرض عشر). وذلك لما روي سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد رضي الله عنه أن رسول اله صلى الله عليه وسلم قال في زكاة الكرم: "يخرص، ثم

يؤدي زكاته زبيبًا، كما تؤدي زكاة النخل تمرًا". فصل: [لا يجتمع في أرض: عشر وخراج] قال أبو جعفر: (فإن كان في أرض خراج: فلا صدقة فيه. وذلك لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين وضع الخراج على أرض السواد بمشاورة الصحابة: لم يطالبهم مع ذلك بالعشر، فصار ذلك إجماعًا من السلف في أن لا عشر في أرض الخراج. وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم العشر من أرض العرب، ولم يوجب فيها خراجًا. فصار ذلك أصلاً في انتفاء اجتماعهما. وأيضًا: يتنافى وجود سببيهما، فلا يجوز اجتماعهما، وذلك لأن سبب أخذ الخراج: الكفر؛ لأنه فيء، وسبب أخذ العشر: الإسلام، لأنه صدقة، فلما استحال اجتماع سببيهما لشخص واحد، امتنع اجتماع وجوبهما.

فإن قيل: فقد يجوز أخذ الخراج من أرض المسلم. قيل له: لا يصح أن يبتدأ المسلم بالخراج، ويجوز أن يبتدأ به الكافر، يم لا يسقطه الإسلام، وليس حكم البقاء كالابتداء، ألا ترى أن المسلم لا يطرأ عليه الرق ابتداء، ولا يمنع الإسلام بقاء الرق. ودليل آخر: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب فيما سقت السماء العشر، ونصف العشر فيما سقي بدالية أو سانية، فأسقط نصف العشر لمؤونة الدالية والسانية، فينبغي أن يكون مؤونة الخراج مسقطة للنصف الباقي. فإن قيل: الخراج أجرة الأرض، فلا يسقطه العشر. قيل له: هذا جهل من قائله، لأن أرض الخراج ملك لأربابها، والمالك لا أجرة عليه في الانتفاع بملكه.

وأيضًا: لو كانت أجرة، لما جازت؛ لأنها مجهولة، ومدة الإجارة أيضًا مجهولة. وأيضًا: الأجرة لا تجب إلا على عاقد الإجارة، وصاحب الأرض لم يعقد على نفسه عقد الإجارة. ودليل آخر: وهو اتفاق الجميع على أن الأرض إذا كانت للتجارة، لم تجتمع فيها زكاة التجارة والعشر، وكذلك السائمة إذا كانت للتجارة، لا تجتمع فيها زكاة السوم وزكاة التجارة، والمعنى في جميع ذلك أنهما جميعًا حقان لله تعالى، لا يجتمعان في مال واحد في سنة واحدة، فوجب أن يكون كذلك حكم الخارج مع العشر. فصل: قال أبو جعفر: (وسواء كان على صاحبه دين أو لم يكن، أو كان صغيرًا أو مجنونًا أو مكاتبًا). قال أبو بكر أحمد رحمه الله: الحقوق الواجبة لله تعالى في هذه الوجوه على ثلاثة أوجه: حق ثبت في المال على المال - وهو زكاة المال - واجب في المال، لو هالك بعد وجوبها: سقطت، وهي على المالك لوجوب اعتبار المالك، فإن كان من أهل العبادات لزمته، وإلا لم تلزمه.

وحق ثان: يجب على المالك، لأجل الملك، لا في الملك، وهو صدقة الفطر، يجب على المولى؛ لأن له عبدًا، لا في العبد، ولذلك لا يسقطها هلاك العبد بعد وجوبها، وهذا كما يجب عليه لأجل ابنه، في رقبة الابن. وحق ثالث: وهو العشر يجب في المال، ولا يعتبر به المالك لوجوبه في أرض الوقف، والمكاتب والصبي، وإذا كان كذلك لم يمنع الدين وجوبه؛ لأن الدين إنما يمنع صحة لملك، وقد بينا أنه لا اعتبار فيه بالمالك، إذ قد يجب ولا مالك، وكذلك يجب في أرض الصبي لهذه العلة. مسألة: [نصاب ما لا يدخل ولا يكال] قال أبو جعفر: (قال محمد بن الحسن: في الزعفران والورس: حتى يبلغ خمسة أمناء من كل واحد، وفي القطن: حتى يكون خمسة أحمال، والحمل: ثلاث مائة من بالعراقي، وفي العسل: خمسة أفراق، والفرق ستة وثلاثون رطلاً بالعراقي). قالك (وأما العصفر: فإذا خرج من قرطمه خمسة أوسق، كان في القرطم وفي عصفره: العشر، والعصفر تبع القرطم). قال أبو بكر أحمد رحمه الله: وقد بين محمد رحمه الله ذلك فقال:

"فإذا كان القرطم أقل من خمسة أوسق: لم يجب في واحد منهما شيء": فجعل العصفر تبعًا للقرطم، واعتبر وجود النصاب بالقرطم دون العصفر. فأما أصل محمد في اعتبار مقدار ما لا يوسق: فهو أن ينظر إلى أعلى المقادير التي يقدر بها ذلك الشيء، فيجعل نصابه خمسة أمثاله، وذلك لأن الأوسق أعلى مقدار تقدر به المكيلات، كذلك كانت العادة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فجعل نصاب الموسق خمسة أوسق. وقال في الزعفران: إن أعلى ما يقدر به منا؛ لأنا نقدره بالأوقية، والرطل، والمن، ثم ما بعده تضعيف الأمناء، فجعل نصابه خمسة أمناء.

وأعلى ما يقدر به القطن: حمل، ثم ما بعده تضعيف الأحمال، فجعل نصابه خمسة أحمال. وأعلى مقادير العسل: الفرق، وما بعده تضعيف، فجعل نصابه خمسة أفراق، فهذا أصل محمد في ذلك. * وأما أبو يوسف فإنه اعتبر فيما لا يوسق: أن يخرج منه ما قيمته خمسة أوسق من أدنى ما تخرجه الأرض، فإذا بلغ ذلك وجبت الصدقة، ولا تجب فيما دونه.

وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جعل من أخرجت أرضه خمسة أوسق من أدنى الموسقات غنيًا بذلك، وجعل ذلك له نصابًا فيما يجب عليه من الزكاة: وجب اعتبار ما لا يوسق منه بقيمة الموسق. كما أنه لما جعل نصاب الذهب والفضة عشرين دينارًا، أو مائتي درهم، اعتبرنا عروض التجارة ببلوغ قيمتها هذا القدر، لحصول الغنى له في جنس ما يتعلق به الوجوب. وهذا أصل تجري عليه مسائله، إلا في العسل، فإنه ترك اعتبار هذا

الأصل، وقال: إذا بلغ عشرة أرطال: ففيه رطل، لحديثٍ رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه. * * *

باب زكاة الذهب والورق

باب زكاة الذهب والورق [مسألة: نصاب الذهب والفضة] قال أبو جعفر: (وليس في أقل من عشرين مثقالًا من الذهب، ولا في أقل من مائتي درهم من الورق، صدقة، فإذا بلغ الذهب عشرين مثقالًا، والورق مائتي درهم: ففيه ربع العشر بعد أن يحول عليه الحول، وصاحبه حر بالغ عاقل مسلم لا دين عليه). وذلك لقول الله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب مال لا يؤدي زكاته، إلا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع يطوقه، ويقول: أنا كنزك الذي بخلت به". * وأما المقدار: فروى عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "في الذهب حتى يبلغ عشرين مثقالًا".

ورواه أبي سعيد رضي الله عنه أيضًا. وأما الفضة: فالآثار فيها متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، في اعتبار مائتي درهم منها، ولا خلاف بين أهل العلم فيه. * وأما اعتبار الحول، فلما روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول". ولأنه لا خلاف في أن من استفاد نصابًا، فأدى زكاته، أنه لا زكاة عليه ثانية، حتى يحول عليه حول. وإنما قال بعض الناس: إنه يزكيه في أول ما يستفيده، ثم يعتبر الحول بعد ذلك، وعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم ينفيه، كما نفى وجوبها ثانية إلا بعد حول.

مسألة: [حكم ما زاد على نصاب الذهب والفضة] قال أبو جعفر: (وما زاد على خمس أواق من الورق: فلا شيء فيه حتى يكون أربعين درهمًا، فيكون فيها درهم، ثم يعتبر في كل زيادة أربعين درهمًا، وهو قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: ما زاد فبحسابه). قال أبو بكر أحمد: يروى نحو قول أبي حنيفة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والحسن، والشعبي. وروى نحو قولهما عن علي رضي الله عنه. والحجة للقول الأول: ما روى يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال: حدثني المنهال بن الجراع عن حبيب بن نجيح عن عبادة بن نسي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره حين وجهه إلى اليمن، أن لا يأخذ من الكسور شيئًا، إذا بلغ الورق مائتي درهم أخذ منها خمسة دراهم، ولا يأخذ مما زاد حتى تبلغ أربعين درهمًا، فيأخذ منها درهمًا".

وقد روى سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "في كل خمس أواق خمسة دراهم، وفي كل أربعين درهمًا درهم". وفي حديث أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهمًا، وليس فيما دون مائتي درهم شيء". فلما ذكر المائتين وما دونها على الانفراد، دل على أن قوله: "من كل أربعين درهمًا درهم": فيما زاد على المائتين، وإلا خلا من الفائدة. وهذا نظير قوله: "فإذا كثرت الغنم، ففي كل مائة شاة: شاة". * ومن جهة النظر: أن المواشي لما كان لها نصاب في الابتداء، كان بعده عفو، فلما كان للذهب والفضة نصاب في الابتداء، وجب أن يكون بعده عفو. وأيضًا: ليس في صدقة السوائم كسور بعد النصاب، فوجب أن تكون الدراهم مثلها، والعلة الجامعة بينهما، أن لكل واحد منهما عفوًا في الابتداء.

فإن قيل: في حديث أيوب بن جابر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهمًا درهم، وليس فيما دون المائتين شيء، فإذا كانت مائتين: ففيهما خمسة دراهم، فما زاد فبحساب ذلك". قيل له: معناه: فعلى حساب كل أربعين درهمًا درهم، بدلالة الأخبار التي قدمنا. مسألة: [ضم أحد النقدين إلى الآخر] قال: (ويضم الذهب إلى الفضة، ويكمل النصاب منهما بالقيمة في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمد: يضمان بالأجزاء). قال أبو بكر أحمد: إذا كان عنده مائة درهم، وخمسة دنانير، والدنانير تساوي مائة درهم، وجبت الزكاة عند أبي حنيفة؛ لأنه يضم الذهب إلى الفضة، ولا تقوم الدراهم هاهنا؛ لأنه لو ضمها بالقيمة إلى الذهب، لم يكمل نصاب، فما أمكنه إكمال النصاب فعل. ألا ترى أن عروض التجارة تقوم على هذا الاعتبار، فإن قومت بالدراهم: كمل النصاب، وإن قومت بالدنانير: لم يكمل، فقوموها بالدراهم لحظ المساكين، إن كان غنيًا بهذا القدر من المال. * وأما أبو يوسف ومحمد: فيعتبران كمال النصاب بأن تجتمع من أجزاء كل واحد منهما ما يكمل به النصاب إذا ضممناهما.

* أما الحجة في وجوب الضم، فهي قول لله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذابٍ أليم}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مال أديت زكاته: فليس بكنز". واقتضت الآية وجوب الزكاة فيهما عند الاجتماع؛ لأن الواو للجمع. فإن قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة"، وهو عام في حال الانفراد والاجتماع. قيل له: هذا فيمن لا يملك غيرها؛ لأن في حديث أنس في كتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الرقة ربع العشر، فإذا لم يكن مال الرجل إلا تسعين ومائة:

فليس فيها صدقة". ومن جهة النظر: اتفاقهما جميعًا في أنهما أثمان للأشياء، وبهما تقوم المستهلكات، فأشبها الدراهم المختلفة الأوصاف في باب وجوب ضم بعضها إلى بعض في إكمال النصاب. ودليل آخر: وهو أنهما لما اتفقا في أن زكاة كل واحد منهما ربع العشر، وتثبيت في الذمة بغير صفة، وجب ضم أحدهما إلى الآخر، كعروض التجارة، لما اتفقت في وجوب ربع العشر: وجب الضم مع اختلاف الأجناس. فإن قيل: إنما يضم العروض بعضهما إلى بعض، إذا كان ما اشتري به من الثمن جنسًا واحدًا. قيل له: ولو اشتري بعبدٍ للخدمة عروض للتجارة، وجب ضم بعضها إلى بعض، وإن لم يكن الأصل مما تجب فيه الزكاة. وعلى أن الثمن ليس في ملكه، فكيف يجوز اعتباره؟ وعلى أنه لا اعتبار بالثمن؛ لأنها إنما تزكى بالقيمة. فإن قيل: لأن زكاة العروض تجب في قيمتها، والقيم متفقة إما دراهم وإما دنانير. قيل له: هذا غلط؛ لأن القيمة ليست في ملكه، وإنما يعتبر نصابها بالقيمة، وكذلك يقول أبو حنيفة في الذهب والفضة، أنهما يضمان بالقيمة.

فإن قيل: يعتبر نصابهما بأنفسهما لا بقيمتها؛ لأن لكل واحد منهما نصابًا في نفسه، وهما مختلفان، فلا يضمان، والعروض تضم؛ لأن نصابها معتبر بقيمتها، والقيمة غير مختلفة. قيل له: قد اتفقنا على أن من له مائة درهم، وعروضًا للتجارة تساوي مائة درهم: أن عليه الزكاة، فقد ضم الجميع الدراهم إلى العروض، وإن كانت الدراهم نصابًا في نفسها، كذلك الذهب يضم إليها، كما ضمت إلى العروض. فإن قيل: كما لا تضم الغنم إلى الإبل، لاختلاف الجنسين، كذلك الدراهم إلى الدنانير. قيل له: هذه علة منتقضة بضم العروض إلى العروض، وإلى الدراهم. فصل: وإنما ضم أبو حنيفة رحمه الله بالقيمة دون الأجزاء، كما ضمت عروض التجارة بالقيمة. فإن قيل: ليس للعروض نصاب من أنفسها، وللذهب والفضة نصاب من أنفسهما، فينبغي أن يعتبر في الضم وجود أجزاء النصاب في ملكه، كما لو كان له إبريق من فضة وزنه مائة درهم، وهو يساوي عشرين دينارًا، لم تجب فيها الزكاة بالقيمة، كذلك لا يصح ضم بعضها إلى بعض بالقيمة. قيل له: كما جاز إكمال النصاب بضم أحد المالين إلى الآخر، وإن لم يكن عنده من واحد منهما نصاب كامل، ولم يسقط الضم اعتبارًا بالإبريق

الذي ذكرت إذا كان منفردًا، كذلك يجوز اعتبار الضم بالقيمة. وأما قوله: إن له نصابًا في نفسه: فإنه يوجب منع الضم رأسًا إذا لم يوجد نصاب نفسه، وهذا ساقط عند الجميع، فكذلك لا يعترض على اعتبار الضم بالقيمة، قياسًا على العروض. مسألة: [وجوب زكاة الحلي] قال: (والزكاة واجبة في الذهب والفضة كيفما وجدا، من حلي وغيره). قال أبو بكر أحمد: روي وجوب زكاة الحلي عن عمر وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وأبي أمامة وعبد الله بن شداد وجابر

بن زيد رضي الله عنهم. وقال عطاء ومكحول والزهري: مضت السنة أن في الحلي زكاة. وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها: لا بأس بلبس الحلي إذا أعطيت زكاته. وروي عنها: أنها كانت لا تزكي حلي بنات أخيها، وهن يتامى في حجرها". وهذا عندنا؛ لأنه مال اليتيم. وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "يزكى الحلي مرة واحدة".

* وروي عن جابر، وابن عمر، والحسن، والقاسم رضي الله عنهم: "أن لا زكاة فيه". وقال الشعبي: "زكاته عاريته". * والحجة لأصحابنا في وجوبها قول الله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذابٍ أليم}. فعلق الوجوب بالاسم، وذلك موجود في الحلي. والدليل على أن المراد به الزكاة: ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عيسى قال: حدثنا عتاب عن ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة رضي الله عنها قال: كنت ألبس أوضاحًا

من ذهب فقلت: يا رسول الله أكنزٌ هو؟ فقال: "ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي: فليس بكنز". فأخبر عليه الصلاة والسلام: "أن ما أدي زكاته: فليس بكنز"، فصار تقدير الآية على هذا المعنى: والذين لا يؤدون زكاة الذهب والفضة فبشرهم بعذاب أليم. وروي في خبر آخر: "كل مال أديت زكاته: فليس بكنز وإن كان مدفونًا، وما لم تؤد زكاته: فهو كنز وإن كان ظاهرًا على وجه الأرض". فصار الكنز في الشرع: اسمًا لما لا تؤدى زكاته. * ويدل عليه أيضًا قول الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}؛ لأنه عموم في أصناف الأموال. * ومن جهة السنة: حديث أم سلمة الذي قدمناه في الأوضاح التي كانت تلبسها. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب،

فقال لها: "أتعطين زكاة هذا؟ " قالت: لا. قال: "أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ ". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا ابن ناجية قال: حدثنا أحمد بن حاتم قال: حدثنا علي بن ثابت قال: حدثنا يحيى بن أبي أنيسة الجزري عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود "أن زينب الثقفية امرأة عبد الله رضي الله عنهما، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "إن لي طوقًا فيه عشرون مثقالًا، أفأؤدي زكاته؟ قال: "نعم. أدي نصف مثقال. قالت: فإن في حجري بني أخ لي أيتام، فأجعله، أو أفأضعه فيهم: قال: نعم". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن إدريس الرازي قال: حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق قال: حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن أبي جعفر أن محمد بن عمرو بن عطاء أخبره عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات

من ورق، فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله! قال: أتؤدين زكاتهن؟ قلت: لا، أو ما شاء الله. قال: هو حسبك من النار. قال أبو داود: قيل لسفيان الثوري: كيف تزكيه؟ قال تضمه إلى غيره. * ويدل عليه أيضًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر"، وهو عموم في الحلي وغيره. فإن قيل: الحلي لا تسمى رقة؛ لأن الرقة اسم للورق، وهو الدراهم المضروبة. قيل له: هذا خطأ؛ لأن في حديث عائشة رضي الله عنها: "فرأى في يدي فتخات من ورق": يعنى من فضة؛ لأن الفتخة لا تكون مضروبة، وإنما هي حلقة شبه الخاتم. فإن قيل: زكاة الحلي عاريته. قيل له: قد اتفق الجميع على أن العارية غير واجبة، وأنها لا تستحق الوعيد بتركها، ولو كان كذلك لوجب إذا كان الحلي لرجل، أن تكون زكاته عاريته. * ومن جهة النظر: اتفاق الجميع على وجوب الزكاة في الدراهم

والدنانير والنقرة والسبائك وإن لم يكن يرصده للنماء: فعلمنا أن وجوب الزكاة فيها متعلق بأعيانها، لا بانضمام معنى آخر إليها، فوجبت في الحلي بوجوب العين. وإن شئت قلت: لأنهما من جنس الأثمان التي عليها تدور البياعات. فإن قيل: الحلي بمنزلة العوامل من الإبل والبقر؛ لأنه غير مرصد للنماء. قيل له: هذا منتقضٌ بالسبائك وتبر الذهب والفضة وأواني الذهب والفضة، وينتقض أيضًا بالحلي إذا كان لرجل لا يريد به التجارة. وقد تكلمنا فيها في "مسائل الخلاف" بأكثر من هذا. مسألة: [حول المال المستفاد هو حول الأصل] قال: (وما استفاده في الحول من ذهب أو فضة، وعنده نصاب: زكاه لحول الأصل، وكذلك في المواشي). والحجة لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "في خمس وعشرين: بنت مخاض إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت واحدة: ففيها بنت لبون".

ولم يفرق بين وجود الزيادة في أول الحول أو في آخره. ويدل عليه حديث أيوب بن جابر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صدقة المواشي: "ويعد صغيرها وكبيرها". لم يفرق بين أن يكون منها، أو من غيرها. وكذلك قال عمر رضي الله عنه: "عد عليهم السخلة وإن راح بها الراعي على كفه". ويدل عليه حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعلموا من السنة شهرًا تؤدون فيه زكاة أموالكم، فما حدث من مال بعد: فلا زكاة فيه حتى يجيء رأس السنة". فأشار في الوجوب إلى رأس سنة معرفة، وهي حول الأصل،

وذلك نص في سقوط اعتبار حول مستقبل للفائدة. فإن قيل: كل هذا يخصه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول". قيل له: بل يؤكد ما قلنا؛ لأنه أشار إلى حول معرف بالألف واللام، وهو الحول الذي تعلق حكمه بالنصاب الذي عنده، وليس يمتنع أن يقال: إن ذلك الحول قد حال على جميع الأصل، والفائدة؛ لأن حلول الحول اسم لوجود آخر جزء منه، ألا ترى أنك تقول: حال الحول على مالي اليوم: ويكون ذلك عبارة صحيحة، ومعلوم أن الموجود منه في اليوم ليس جميع الحول، بل آخره. فقوله: حتى يحول عليه الحول: بمنزلة قوله: حتى يوجد آخر جزء من الحول المتعلق بنصاب الأصل. وأيضًا: فإنا نجعل قوله: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول": على النصاب المنفرد دون الفائدة، لتجري الأخبار الأخر على العموم، ولا نخصه بالاحتمال. كما أن قوله: "ليس فيما دون خمس من الإبل شيء"، وقوله: "ليس في أقل من خمس أواق صدقة": في المال المنفرد دون الفائدة. ودليل آخر: وهو اتفاق الجميع على ضم الأولاد الحادثة في الحول

إلى الأمهات مزكاة بحولها، والمعنى فيها: أنها زيادة ملك في الحول على نصاب من جنسه، وهذا المعنى موجود في الفائدة من غيرها. فإن قيل: العلة في الأولاد أنها من الأمهات، فوجب الحق فيها من طريق السراية. قيل له: هذه العلة فاسدة، لكونها مقصورة على موضع الاتفاق، غير متعدية إلى فرع. وعلى أن هذه لو كانت علة صحيحة، لم تعارض اعتلالنا؛ لأنهما يوجبان حكمًا واحدًا، إلا أن إحداهما أخص من الأخرى في إيجاب حكمها، كالخبرين إذا وردا في حكم واحد، وأحدهما أعم من الآخر، فلا يمنع الخاص استعمال العام. وأيضًا: فقد وجبت في الأمهات لأجل الأولاد، وليست هي من الأولاد، ألا ترى أن من كانت له مائة وعشرون شاة، فولدت واحدة منها قبل الحول: كان فيها شاتان، فصار حدوث الولد موجبًا للحق في أمه، في سائر الغنم التي ليس منها. وأيضًا: لو كان هذا الحق واجبًا في الأولاد من طريق السراية، لكان مقصورًا على اتصالها بالأمهات، فكان يجب إذا ولدت بعد الحول، أن يجب الحق فيه للحول الماضي، وكان حدوثه قبل الحول يمنع من وجوب الحق فيه بالحول؛ لأنه بائن منها، والحق الواجب في الأصل لا يسري في الأولاد البائنة، كالعتق وسائر الحقوق.

ودليل آخر: وهو أن الحول والنصاب جميعًا سببا وجوب الزكاة، فلما سقط اعتبار النصاب في الفائدة، سقط اعتبار الحول، والعلة الجامعة بينهما أن كل واحد منهما سبب للوجوب، فمن حيث سقط اعتبار أحدهما، سقط اعتبار الآخر. يدل عليه خمس الغنائم، وخمس المعادن، لما سقط فيها اعتبار الحول، سقط اعتبار النصاب. فإن قيل: فأبو حنيفة يعتبر المقدار فيما زاد على المائتين، ولا يعتبر الحول فيه. قيل له: ما زاد على المائتين لا يراعى فيه نصاب؛ لأن النصاب هو ما يتعلق به حكم الوجوب ابتداء، وليس كل مقدار اعتبر كان نصابًا. مسألة: [وجوب الخمس فيما يخرج من معدن الذهب والفضة] قال أبو جعفر: (وفيما يخرج من معدن الذهب والفضة الخمس، ولا زكاة فيه إلا بعد حولٍ على شرائط وجوب الزكاة). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أخبار مستفيضة أنه قال: "وفي الركاز الخمس"، والركاز: اسم يتناول المعدن والمدفون. والدليل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن شاذان قال: حدثنا معلى قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم عن عبد الله بن سعيد بن

أبي سعيد المقبري عن جده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الركاز الخمس". قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الركاز؟ قال: "الذهب والفضة اللذين خلقهما الله في الأرض يوم خلقت". ويدل عليه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يوجد في الخرب العادي؛ فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "فيه، وفي الركاز الخمس". فدل على أن الركاز هو المعدن؛ لأنه أخبر بدءًا عن المدفون، ثم عطف عليه الركاز. ويدل عليه ما حكاه محمد بن الحسن عن العرب أنها تقول: ركز المعدن: إذا كثر ما فيه من الذهب والفضة، فدل على أن أصل الركاز هو المعدن.

ويدل عليه أيضًا: أن الركاز اسم لما غيب في الأرض وأخفي فيها، ومنه قولهم: ركز رمحه في الأرض، ومنه: الركز، وهو الصوت الخفي. قال الله تعالى: {أو تسمع لهم ركزًا}. فلما كان ذهب المعدن مغيبًا في الأرض، كان ركازًا، كما كان المدفون ركازًا. فإن احتجوا بما رواه الدراوردي عن ربيعة عن الحارث بن بلال بن الحارث عن أبيه رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من معادن القبلية الصدقة، وأنه أقطع لبلال بن الحارث العقيق أجمع". قيل لهم: لا دلالة في هذا الخبر على منع وجوب الخمس؛ لأن الخمس عندنا صدقة.

وقد رواه محمد عن ربيعة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم". وهذا إسناده مقطوع، ولا دلالة في متنه على قول المخالف في أخذ الزكاة من المعدن في حال إخراجه؛ لأنه يحتمل أنه لا يؤخذ منها إلا الزكاة على شرائطها من حول أو ضم إلى نصاب قد تعلق به حكم الحول. وأيضًا: فإن بلالًا كان قد ملكها بالإقطاع، وكذلك يقول أبو حنيفة في المعادن المملوكة أنه لا شيء فيها. وأيضًا: فإن ذهب المعادن وفضتها مال مظهور عليه بالإسلام، فلا فرق بينها وبين المدفون، والعلة الجامعة بينهما أن موضع المعدن ليس بملك، وهو مظهور عليه كالمدفون سواء. مسألة: [حكم ما يستخرج من الأرض أو البحر] قال أبو جعفر: (ولا شيء فيما يوجد في الجبال، ولا في البحار في

قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: في العنبر واللؤلؤ وكل حلية تخرج من البحر: الخمس). قال أبو بكر أحمد: ما يستخرج من الأرض فعلى أربعة أوجه: أحدها: الذهب والفضة، نوما ينطبع من الحديد والرصاص ونحوها: ففيها الخمس، والأصل في هذه الجواهر ما قدمنا من وجوبه في الذهب والفضة، والمعنى في جميعها أنها تنطبع. والثاني: الماء، ولا خلاف في أنه لا شيء فيه، وقاسوا عليه القير، والنفظ ونحوهما. والثالث: الحجر: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا زكاة في حجر". ومعلوم أنه لم ينف به زكاة الحجارة؛ لأنها واجبة فيه كوجوبها في غيره، وكل ما كان من تربة الأرض، فحكمه حكمه، نحو الطين والتراب

والرمل واليواقيت والفصوص والفيروزج. والرابع: السمك، وهو من حيوان البحر، ولا شيء فيه بالاتفاق، وقياسه اللؤلؤ والعنبر؛ لأن اللؤلؤ من الصدف، وهو من حيوان البحر؛ والعنبر زعموا أنه روث دابة من دواب البحر، فكان في معنى سائر حيوان البحر، فلا شيء فيه. ووجه آخر فيما يخرج من البحر: وهو أن موضع البحر غير مظهور عليه؛ لأنه مما لا يصح ثبوت اليد فيه، فصار بمنزلة من أخذ معدنا من دار الحرب: فلا شيء فيه؛ لأن الموضع غير مظهور عليه بالإسلام. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في العنبر روايتان: إحداهما: أنه لا شيء فيه، وقال: "إنما هو شيء دسره البحر". والأخرى: أن فيه الخمس. * وأما أبو يوسف: فإنه يوجب الخمس في اللؤلؤ والعنبر، وكل حلية تخرج من البحر؛ لأن موضع البحر من دار الإسلام، فهو كالفلوات والمفاوز، ألا ترى أنه في حيز الإسلام.

مسألة: [مصارف خمس الركاز] قال أبو جعفر: (ويوضع خمس الركاز المدفون في موضع خمس الغنيمة). وذلك لما وصفنا من أن وجوبه تعلق بكون الموضع مظهورًا عليه غير مملوك، وكذلك المعدن منه. مسألة: [حكم الركاز إذا وجد في دار] قال أبو جعفر: (فإن وجد الركاز في دار قد اختطت، فإن أبا حنيفة ومحمدًا قالا: هو لصاحب الخطة، وفيه الخمس، وقال أبو يوسف: هو للذي وجده). لأبي حنيفة ومحمد أن صاحب الخطة هو الذي استحق اليد بدءًا في الموضع، والركاز يملك باليد والحيازة، كالغنائم، فلما حصلت الحيازة واليد بدءًا في الموضع لصاحب الخطة: ملك ما فيه من الركاز باليد. ثم لا ينتقل ملكه عنه بانتقال ملك الموضع؛ لأنه ليس من تربة الأرض، ولا هو بمنزلة متاع موضوع فيه، فإذا استخرج كان لصاحب الخطة. * وقال أبو يوسف: إنما يصير الركاز مغنومًا بالإظهار، فمن أظهره واستخرجه: فهو أولى به، كالغنائم هي لمن أحرزها.

ويجب الخمس فيه عندهم جميعًا، لكون الموضع مظهورًا عليه. مسألة: [زكاة المعادن المملوكة] قال أبو جعفر: (ومن وجد معدنًا في داره، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال: لا شيء عليه فيه، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: فيه الخمس). لأبي حنيفة حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه حين أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم المعادن القبلية، ولم يأخذ منها الخمس؛ لأنه كان قد ملك الموضع قبل إظهار المعدن، والمعدن من تربة الأرض. واختلف حكم المعدن والركاز المدفون عنده من وجهين: أحدهما: أنه أوجب الخمس في الركاز المدفون، وجعله لصاحب الخطة، ولم يوجب في المعدن في الدار شيئًا، وجعله للمالك الذي استخرجه، دون صاحب الخطة. فأما جهة الفرق بينهما في جعله الركاز لصاحب الخطة، والمعدن للواجد، فقد بيناها بما قلنا، إن الركاز قد ملكه صاحب الخطة بثبوت بدء عليه، ثم لم ينتقل ملكه عنه بانتقال ملك الأرض؛ لأنه كمتاع موضوع هناك، والمعدن من تربة الأرض، فانتقل الملك فيه بانتقال ملك الموضع، كسائر ترب الأرض. وأما افتراقهما في باب سقوط الخمس عن المعدن في الدار، وفي

وجوبه في الركاز، فهو: أن الركاز قد صار غنيمة بالخطة والظهور على الموضع، فوجب فيه الخمس، كوجوبه في سائر الغنائم إذا أحرزت؛ لأن الركاز المدفون للكفار، وقد صار لصاحب الخطة بظهور الإسلام وغلبته، فكان كالرجل يدخل دار الحرب مغيرًا بإذن الإمام، فيخمس ما يصيبه. وأما المعدن فلما كان من تربة الأرض، وملكه الإمام الأرض بتربتها، صار كالغنيمة إذا باعها من إنسان، سقط عنها حق سائر الناس؛ لأنه قد ملكها بذلك. فإن قيل: فإن كانت تربة المعدن مملوكة بالعقد على الأرض، فالواجب أن يكون لها حصة من الثمن. قال أبو بكر أحمد: كان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يروي عن أبي حنيفة اعتبار ما في التربة من الذهب، فإن كان مثل الثمن: فسد البيع إذا كان الثمن ذهبًا. قال أحمد: وفرق في الجامع الصغير بين الدار والأرض، فأوجب الخمس في المعدن إذا وجده في أرضه، ولم يوجبه إذا وجده في داره. وسوى بينهما في كتاب الزكاة من الأصل، ولم يوجب في واحد منهما شيئًا، وهذه الرواية أقيس وأشبه بما روي في حديث بلال بن

الحارث رضي الله عنه. وأما جهة الفرق على الرواية الأخرى، فهي: أن صحة الملك في الأرضين لا تقطع عنها حق المساكين؛ لأنها لا تخلو من وجوب عشر أو خراج، فجاز أن يبقى حقهم في المعدن مع حصول ملك الأرض. فإن قيل: إن المعدن إنما يصير على غنيمة بالإظهار؛ لأنه قبل ذلك ليس في ملك أحد ولا يده، كالصيد إذا تكنس في أرضه، أو في داره، ولا يصير هو أحق به من غيره. قيل له: لما كان المعدن من تربة الأرض، ملك بملك الأرض، وليس الصيد من الأرض، فيدخل في العقد عليها. ويدل على الفصل بينهما: أنه لا يصح الإمام تمليك الصيد الممتنع، ولا إقطاعه، ويصح منه إقطاع الأرضين الموات، فكذلك تربة الأرض من المعدن، قد ملكها المشتري كما ملك الأرض، ولا يملكه إلا من أخذه وصار في يده. مسألة: [حكم الركاز بجده في دار الحرب، وقد دخلها مستأمنا] قال أبو جعفر: (ومن وجد ركازا في دار الحرب، وقد دخلها بأمان، فإن كان وجده في دار بعض هم: رده عليهم، وإن وجده في صحراء: فهو له، ولا شيء فيه).

أما إذا وجده في دار بعضهم، فإنه قد أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم، كما أعطوه: فلا يجوز له أن يأخذ شيئا من أيديهم بغير إذنهم، وما في دار الرجل فهو في يده، فلا يأخذه؛ لأن فيه خفر الأمان. وإذا وجده في صحراء، فلم يأخذه من يد أحد: فليس عليه رده عليهم. فإن قيل: ينبغي أن يرده عليهم؛ لأن براريهم في أيديهم، كما أن برارينا في أيدينا، ومن أجله وجب الخمس. قيل له: ليست برارينا في يد أحد، وإنما يجب فيها الخمس بالظهور والغلبة، وإن لم تكن في أيدينا، ألا ترى أنها قد صارت في حيز الإسلام، فوجب فيها الخمس من حيث كانت غنيمة مغلوبا عليها بظهور الإمام والمسلمين. وبراري أرض الحرب كذلك هي ليست في يد أحد، فلذلك لم يجب رده عليهم، ولم يجب عليه فيه الخمس؛ لأنه لم يأخذه بظهور الإمام ولا بنصرته، كرجل دخل دار الحرب مغيرا بغير إذن الإمام، فلا يخمس ما يغنمه. والأصل فيه قول الله تعالى: {وما أفاه الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب}، فلم يوجب فيه الخمس؛ لأنه لم يوجفوا عليه،

ولم يجعل لهم فيه حقا. ويدل عليه قصة المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، حين قتل قوما كان معهم في الجاهلية، وأخذ أموالهم، ثم أسلم، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الإسلام فقد قبلناه، وأما المال فإنه مال غدر، ولا حاجة لنا فيه". فدل ذلك على معنيين: أحدهما: أن المستأمن يملك ما يأخذه من أهل الحرب، وإن كان غادرا فيه. والثاني: أنه لا خمس فيه، فصار ذلك أصلا فيمن دخل مغيرا دار الحرب، أنه لا خمس فيما يغنمه إذا دخل بغير إذن الإمام. قال أبو بكر أحد: وكان أبو الحسن الكرخي يحكي عن أبي يوسف أنه قال: إذا أخذه من دار بعضهم، فهو للواجد، ولا يرده عليهم، وهذا صحيح على أصله فيمن وجد في دار غيره ركازا في دار الإسلام، أنه للواجد. مسألة: [لا زكاة في الزئبق]. قال أبو جعفر: (قال أبو يوسف عن أبي حنيفة: لا شيء في الزئبق. قال: فلم أزل به حتى قال: فيه الخمس، ثم رأيت بعد ذلك أن لا شيء فيه).

قال أبو بكر أحمد: وهذا يوجب أن لا يكون بينهما خلاف في المعنى؛ لأن أبا حنيفة لم يوجب فيه بدءا الخمس؛ لأنه كان عنده أنه لا ينطبع، وأنه بمنزلة النفط والقي، فلما قيل له: إنه ينطبع كالرصاص: أوجب فيه، فحصل جواب المسألة موقوفا عنده على أنه ينطبع أو لا ينطبع عندهما جميعا.

باب زكاة التجارة

باب زكاة التجارة [مسألة:] قال أبو جعفر: (وفي عروض التجارة الزكاة). وذلك لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لحماس بن عمرو: "أين زكاة مالك. قال: إن مالي الحعاب، والأدم". قال: قومها، وأد زكاتها". وروي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أيضا زكاة

العروض، ولم يرو عن غيرهم من السلف خلافه، فصار إجماعا، وروى سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر أن تخرج الصدقة من الرقيق الذي يعد للبيع. ومن جهة النظر: أن مالك بن أنس، وهو الذي يخالفنا في زكاة العروض، قد وافقنا أنه إذا باعها بعين، اعتد بما مضى من الحول، وهو عرض، فلولا أنها مما تجب فيه الزكاة، لما اعتد بالوقت الذي مضى عليها، وهي عروض ليست بعين. [يعتبر كمال النصاب عند طرفي الحول فقط]. قال أبو جعفر: (وإذا كانت في أول الحول ناصبا، ثم نقص في وسط الحول، فحال الحول، وهو نصاب: وجبت فيه الزكاة، ولا اعتبار بالنقصان الحادث في الحول، وكذلك الدراهم والدنانير). وذلك لأنه لا خلاف بين الفقهاء في أن نقصان العروض التي هي

للتجارة عن النصاب في بعض الحول، لا يوجب استئناف حول، فكذلك الدراهم. والعلة الجامعة بينهما بقاء حكم النصاب الذي تعلق به حكم الحول، وكماله في آخره، وليس النقصان كهلاك الأصل، كما لم يكن نقصان قيمة العرض في الحول، كهلاك الأصل. ودليل آخر: وهو أنه قد صح عندنا ضم الفائدة إلى حول الأصل، والمعنى فيه وجود بعض السبب الذي تعلق به حكم الزكاة في الأصل، وهو الحول، فلما وجد جزء من النصاب الذي هو سبب الوجوب، وجب أن يضم باقي الحول إليه، ويجعله كأنه كان موجودا فيه، إذ كان الحول والنصاب جميعا سببي وجوب الزكاة، فمن حيث ضممنا بعض الحول إلى الجميع، كذلك يضم بعض النصاب إلى جميعه الموجود في آخر الحول. مسألة: [مبادلة سلعة التجارة بأخرى لا تبطل الحول] قال أبو جعفر: (وإذا باع سلعة للتجارة بسلعة غيرها، وليس له فيها نية التجارة ولا غيرها، فالثانية للتجارة). قال أبو بكر أحمد: لأنه بدل من مال كان للتجارة، فحكمه حكم المبدل عنه. ولأن التاجر بصرفه في مال التجارة: للتجارة، حتى ينقله عنها بالنية

إلى غيرها، كما أن تصرف المضارب في مال المضاربة: للمضاربة، دون غيرها، حتى ينوي غيرها. مسألة: [عروض التجارة تصير للقنية بمجرد النية] قال أبو جعفر: (ما كان للتجارة فإنه يصير للقنية بالنية، وما كان للقنية لم يصر للتجارة بالنية حتى يبيعه، فيكون بدله للتجارة) وذلك لأن التجارة تصرف، فلا تصير للتجارة إلا بالفعل، وأما القنية، فإنه ترك التصرف، وهو موجود، فيصير كذلك بالنية دون الفعل. وهذا يشبه السفر والإقامة، غي أن المسافر يصير مقيما بنية الإقامة؛ لأن الإقامة ليسن أكثر من ترك السفر، ولا يصير المقيم مسافرا إلا بالنية والعمل جميعا؛ لأن السفر عمل لا يوجد بوجود النية، والإقامة ترك السفر، وهو موجود عند انضمام النية إليه. مسألة: [ما يكون للتجارة بمجرد النية] قال أبو جعفر: (ولو ورث سلعة، فنواها للتجارة: لم تكن للتجارة). لأن التجارة تصرف، وهي لم تدخل في ملكه بتصرفه ولا قبوله. قال أبو جعفر: (ولو وهبت له، أو خلع عليها، أ, صالح من دم

عمد عليها، أو كانت امرأة فزوجت عليها، وهي تنوي بها التجارة: فإن أبا يوسف قال: تكون للتجارة كالذي يشتريه وهو ينوي به التجارة). وذلك لأنها دخلت في ملكه بتصرفه وقبوله، فإذا انضافت إليه النية، كانت للتجارة كالمشتراة. * قال: (وقال محمد: لا يكون شيء من ذلك للتجارة، وهو كالموروثة). وذلك لأن هذه العقود ليست من عقود التجارة، ألا ترى أن الإذن في التجارة لا يملك به التصرف في هذه العقود، ولا يملكها المضارب ولا العبد المأذون له في التجارة، وهما يملكان التصرف في عقود التجارات.

باب زكاة الدين

باب زكاة الدين [مسألة: زكاة الدين] قال أبو جعفر: (وإذا كان له مائتا درهم دينا على رجل مقر بها مليء، فحال عليها الحول: لم يكن عليه أن يزكيها حتى يقبضها، فإن قبض بعضها: لم يزك حتى يقبض أربعين، فيزكيها بدرهم. هذا قول أبي حنيفة). قال أحمد: الدين عن أبي حنيفة على ثلاثة أوجه: فمنه ما ملك بغير بدل، نحو الميراث، أو ببدل ليس بمال، نحو المهر والجعل في الخلع، ودية الخطأ، والعمد إذا صالح عنه، فإنه لا يزكي في هذه الوجوه حتى يقبض، ويحول عليه حول بعد القبض. والقسم الثاني: ما كان بدلا عن مال في يده إلا أنه لو بقي لم تجب فيه زكاة، نحو عبد الخدمة، وثياب الكسوة إذا باعها، ثم قبض ثمنها بعد حول، فهذا فيه روايتان: إحداهما: أنه لا زكاة عليه حتى يقبض، ويحول عليه الحول بعد

القبض، كما قلنا في الميراث، والمهر. ورواية أخرى: أنه إذا قبض منها مائتي درهم بعد حول: زكاها لما مضى، وهي دين، وإن قبض أقل منها لم يزك. والرواية الأولى أصح على أصله. والقسم الثالث: ما كان بدلا عن مال لو بقي في يده وجبت فيه الزكاة، وهو عبد التجارة، وبدل دراهم استهلكها غاصب، أو أقرضها غيره، ثم قبضها بعد حول، فإذا قبض أربعين درهما، زكى الأربعين للحول الماضي، فإن قبض أقل منها لم تكن عليه زكاة، حتى يقبض تمام الأربعين. * وأما أبو يوسف ومحمد، فيعتدان بالحول الماضي في وجوب الزكاة في الدين، إلا في الكتابة والدية إذا لم يقبضها، فإنه لا زكاة فيها عندهما أيضا حتى يقبض ذلك، ويحول عليها الحول بعد القبض. والأصل في ذلك عند أبي حنيفة: أن النصاب لا سبيل إلى إثباته إلا من طريق التوقيف، أو الاتفاق، ولا سبيل إليه من طريق القياس، والنصاب المتفق عليه هو اجتماع الملك واليد جميعا، فإذا انفرد الملك عن اليد، فهو نصاب مختلف في أنه نصاب، فلم نثبته إلا من الجهة التي بها يصح إثبات النصاب، كالميراث لم يملك إلا وهو دين، وكذلك المهر ونظائره، فلم يحصل إثباته إلا بالقبض، فحينئذ يعتد بالحول. وأما ما كان في يده من عبد للخدمة، ثم باعه، فهو بهذه المنزلة؛ لأنه لم يصر من جنس الأموال التي للزكاة إلا وهو دين، ولو بقي العبد في يده

زمانا لم يعلق به حكم الزكاة، فصار بدله كالمهر والديه ونحوهما في إحدى الروايتين، وهي أصحهما. وفي الرواية الأخرى: أن ذلك بدل عن مال كان في يده، وبتصرفه صار دينا، ومن جنس أموال الزكوات، فتعلق به حكم الوجوب، إلا أنه لم يجب الأداء إلا بعد قبض المائتين، كما يتعلق الوجوب في الابتداء بالمائتين. وأما بدل عبد التجارة، فتجب فيه الزكاة، وهو دين؛ لأن أصلة كان من أموال الزكوات، وبتصرفه صار دينا، فلم يسقط عنه حق المساكين، إلا أن الزكاة مع ذلك متعلقة بالعين؛ لأنها لو تويت: سقطت الزكاة، فلم يجب الأداء إلا بعد القبض، ثم اعتبر حكم الأداء بالوجوب فيما زاد على النصاب، وهو أربعون. * وأما أبو يوسف ومحمد، فاعتبرا وجود الملك في كل دين صحيح، ومال الكتابة والدية قبل القضاء بهما ليسا دينا صحيحا، فلم يكمل الملك فيهما إلا بعد القبض. مسألة: [زكاة الدين المجحود] قال أبو جعفر: (وإذا كانت على رجل جاحد لها، فلا زكاة عليه فيها لما مضى وإن قبضها بعد حول). وذلك لأنه مال تاو، هو لا يقدر على التصرف فيه، ولا على

أخذه، فكان بمنزلة مال ليس في ملكه، وبمنزلة ما لو ضاع منه، ثم وجده بعد زمان، فلا تجب عليه زكاة لما مضى. ألا ترى أما ليس بدين صحيح، مثل الكتابة والدية، لا تجب فيها الزكاة، والدين المجحود أضعف من ذلك، فهو أولى بأن لا تكون فيه زكاة. [مسألة: زكاة الدين إن كان على معدم] قال أبو جعفر: (وإن كانت له على مقر بها، غير أنه معدم، فحال عليها الحول، ثم قبضها: فإنه يزكيها لما مضى في قول أبي حنيفة وأبي يوسف). قال أبو بكر أحمد: وهو صحيح على أصل أبي حنيفة؛ لأنه لا يرى التفليس. وأبو يوسف جعله بمنزله المال المؤجل في باب سقوط المطالبة به. فلا تسقط الزكاة. وأما محمد فإنه جعله بمنزلة المال التاوي، والمجحود بمنزلة ما ضاع من ماله، بحيث لا يقدر عليه.

باب صدقة الفطر

باب صدقة الفطر [مسألة: مقدار زكاة الفطر] قال أبو جعفر: (زكاة الفطر نصف صاع من بر، أو دقيق بر، أو سويق بر، أو زبيب، أو صاع من تمر، أو شعير في رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة. وروى أسد بن عمرو والحسن عن أبي حنيفة أن الزبيب في ذلك كالشعير، وهو قول أبي يوسف ومحمد من رأيهما). قال أبو بكر أحمد: روي نصف صاع من بر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن

مسعود، وجابر، وعائشة، وابن الزبير، وأبي هريرة، وأسماء بنت أبي بكر، وقيس بن سعد رضي الله عنهم أجمعين وعلى التابعين، ولم يرو عن أحد من الصحابة بأنه لا يجزى نصف صاع من بر.

رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس، وأبو هريرة، وأوس بن الحدثان، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، والزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسفيان بن حسين عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: "كنا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحر والمملوك مدين من حنطة. أو

صاعا من تمر". ولا نعلم أحدا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من بر. وقد روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: "كنا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام، وكان طعاما يومئذ الشعير". وفي خبر آخر: "أو صاعا من تمر أو شعير". وهذا لا يعارض ما قدمنا؛ لأنه ليس فيه قول من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم عليه. وقول القائل: كنا نفعل كذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يثبت به شيء، وقد بينا ذلك في مواضع. وأيضا لو ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج صاعا، لما دل على تقدير الواجب؛ لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يقتضي

الوجوب، فكيف يجب بفعل الصحابي. وأيضا يحتمل أن يخرج الصاع عن اثنين، كما روي في بعض أخبار ثعلبة بن صعير رضي الله عنه: "أو صاعا من بر بين اثنين". وأما الزبيب، فإنما أوجبه نصف صاع عن قيمة نصف صاع بر، وكذلك كانت قيمته يومئذ، وهي الرواية المشهورة. وأما الرواية الأخرى: فصاع، لما روي في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "أو صاع من زبيب". وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم في فجاج مكة: "ألا إن زكاة الفطر واجبة على كل مسلم، صغير أو كبير، ذكر أو أنثي، حر أو عبد: نصف صاع من بر، وصاع مما سواه". وفي حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما" "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير أو زبيب".

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا: "صاع من أقط". مسألة: [الذين تجب عليهم زكاة الفطر] قال أبو جعفر: (ويجب على الرجل أن يؤدي زكاة الفطر إذا كان غنيا عن نفسه، وولده الصغار، ومماليكه الذين لغير التجارة، مسلمين كانوا أو كفارا). وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أدوا عن كل حر وعبد، صغير أو كبير، ذكر أو أنثى". ولا خلاف بأن عليه أن يؤدي عن ولده الصغير إذا لم يكن للصغير مال؛ وعن عبده للخدمة. والأصل فيمن يلزمه ذلك عندنا، أن كل من استحق بنفسه الولاية على الغير، فعليه أن يؤدي عنه إذا لم يكن للمولى عليه مال؛ بدلالة أن عليه أن يؤدي عن ولده الصغير؛ لأنه استحق الولاية عليه بنفسه، لا

من جهة غيره. وعن عبده للخدمة لوجود هذه العلة، وعن نفسه أيضا لهذا المعنى وليس على الجد أن يؤدي عن ابن ابنه؛ لأنه لا يستحق الولاية عليه بنفسه، وإنما استحقها من جهة غيره، وهو الأب، فأشبه الوصي. * وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أن على الجد أن يؤدي عن ابن ابنه إذا لم يكن للابن مال؛ لأنه كالأب. * وأما العبيد الكفار: فيؤدي عنهم لهذه العلة أيضا، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أدوا عن كل حر وعبد"، ولم يفرق فيه بين العبد الكافر والمسلم. فإن قيل: روى ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثي من المسلمين". قيل له: كذلك نقول، يؤدي عن المسلمين بهذا الخبر؛ وعن الكفار والمسلمين بالخبر المطلق الذي لم يخص فيه المسلم؛ لأنه لم ينف بقوله: "من المسلمين": وجوبها عن الكفار. وهذا كنهيه عن بيه الطعام قبل القبض، ونهيه عن بيع ما لم

يقبض، فنستعملها جميعا، إذ لم ينف أحدهما ما أوجبه الآخر، لأنهما وردا جميعا في حكم واحد، إلا أن أحدهما أعم من الآخر. ويدل عليه أن ابن عمر رضي الله عنهما –وهو راوي الخبر- كان يخرج عن عبيده الكفار صدقة الفطر. وأيضا: قوله: "من المسلمين": تخصيص لمن لزمه الأداء، لا للمؤدى عنه. * وأيضا من جهة النظر: أن المولى لما كان هو المخاطب بالأداء دون العبد؛ أو هو المستحق للثواب بالأداء، والمستحق للوم بتركه: وجب اعتباره دون اعتبار العبد، إذ ليس مخاطبا بالأداء، ألا ترى أن المولى لما كان هو المخاطب بأداء الزكاة، لم يختلف حكم العبيد الكفار والمسلمين إذا كانوا للتجارة في باب وجوب الأداء عنهم، وأما عبيد التجارة، فليس عليه أن يؤدي عنهم صدقة الفطر؛ لأنهما جميعا حقان الله تعالى، فلا يجوز اجتماعهما، كما لا تجتمع زكاة التجارة وصدقة السوم، وكما لا يجتمع العشر والخراج على ما بينا.

ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق، إلا أن في الرقيق صدقة الفطر". رواه عراك بن مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. فحين أوجب صدقة الفطر، نفى كل صدقة سواها، فدل على أنه لا تجب معها صدقة أخرى. * وليس عليه أن يؤدي عن امرأته، ولا عن ولده الكبار، وذلك لأنه لا ولاية له عليهم، فهم بمنزلة الأجنبيين. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أدوا صدقة الفطر عن كل حر وعبد"، وقال: "ممن تمونون". قيل له: إن صح كان معناه: ممن تمونونه بالولاية، بدلالة ما ذكرنا، ألا ترى أنه ليس عليه أن يؤدي عن أبيه، وإن كان يمونه، ولا عن أخيه وذوي قرابته والأجانب إذا مانهم، وأن العبد والمكاتب يلزمها نفقة نسائهما، ولا يلزمهما الصدقة عنهن، فدل أن المعنى ممن تمونونه بالولاية عليه.

مسألة: (ولا تجب صدقة الفطر على فقير). وذلك لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا علي بن محمد بن أبي الشوارب قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله! أصبت هذه من معدن، فخذها فهي صدقة، ما أملك غيرها، فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، ثم أتاه من قبل يمينه، فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم أتاه من خلفه، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو عقرته، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي أحدكم بما يملك يقول: هذه صدقة، ثم يقعد يتكفف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى". وفي بعض ألفاظه: "وإنما الصدقة عن ظهر غنى، خذها إليك، فأخذ الرجل ماله، وذهب". وحدثنا دعلج قال: حدثنا عبد الله بن شيرويه قال: حدثنا إسحاق قال: أخبرنا يعلى بن عبد الله قال: حدثنا محمد بن إسحاق عن عاصم عن

عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن جابر رضي الله عنه مثله. فقوله: "إنما الصدقة عن ظهر غنى": ينفي وجوب الصدقة على الفقير؛ لأن: الصدقة: معرفة بالألف واللام، تتناول الجنس، فلا صدقة إلا وهي داخلة في اللفظ، فانتفى بذلك وجوب الصدقة على الفقير. وأيضًا: بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر المعنى الذي من أجله لم تقبل صدقته، وهو أنه يحتاج بعدها إلى الناس، وهذه العلة موجودة في صدقة الفطر، فنفت وجوبها. وأيضًا: لما كانت صدقة الفطر فرضًا مبتدءًا، لا لسبب من جهة العبد، وجب أن لا يلزم إلا الغني، قياسًا على زكاة المال. وفارقت النذر من قبل أن وجوبه تعلق بقوله، ليس بمبتدأٍ من قبل الله تعالى. مسألة: [وقت وجوب زكاة الفطر] قال أبو جعفر: (ومن ولد له، أو ملك قبل طلوع الفجر من يوم الفطر: أدى عنه صدقة الفطر، ومن ولد له بعد طلوع الفجر: لم يؤد عنه). وذلك لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من شهر رمضان"، والفطر من شهر

رمضان بطلوع الفجر من يوم الفطر. والدليل عليه قول عمر رضي الله عنه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يومين: يوم فطركم من صيامكم، ويوم تأكلون فيه لحم نسككم": فأخبر أن الفطر من الصوم بطلوع الفجر من يوم الفطر، فدل أنه وقت الوجوب. فإن قيل: الفطر يقع بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان. قيل له: غروبها من هذا اليوم، ومن سائر الأيام سواء، إذ لا يصح فيه صوم بحال، وإنما الفطر من شهر رمضان في الوقت الذي كان يصام في مثله من شهر رمضان، فأمر بالإفطار فيه. وأيضًا: لما أضيف اليوم إلى الفطر، دل على أن الفطر من شهر رمضان فيه يقع، كما قيل: يوم النحر، ويوم الجمعة، ويوم العيد، ولا تقع هذه الأشياء قبله، بل تقع فيه. فإن قيل: ليلة الفطر من شوال ليست من شهر رمضان، فينبغي أن يكون الفطر فيها. قيل له: إنها وإن كانت من شوال، فإن الفطر من شهر رمضان لا يقع فيها، إذ لا يصح في مثله الصوم. مسألة: [زكاة فطر الصغير الغني] (وإذا كان للصغير مال، جاز للأب أن يؤدي عنه من ماله في قول أبي

حنيفة وأبي يوسف، وقال زفر ومحمد، يؤدي الأب عنه من مال نفسه، وإن أدى من مال الصغير: ضمن). الحجة لأبي حنيفة: أن هذه الصدقة تجري مجرى النفقة، بدلالة وجوبها على الأب عن الابن إذا لم يكن للصغير مال، فإذا كان للصغير مال: جاز أن يؤدي عنه من ماله، كما ينفق عليه من ماله، وإن كان فيها حق لله تعالى، كما أن الختان فيه حق لله تعالى، ويلزم الأب إذا لم يكن للصغير مال، فإن كان له مال: جاز له أن ينفق عليه في الختان من ماله. * وجعله زفر ومحمد بمنزلة سائر الصدقات، ولا يلزم الصغير. مسألة: [زكاة الفطر يسقطها الموت] قال أبو جعفر: (ومن مات وعليه زكاة الفطر، أو زكاة مال: لم يؤخذ ذلك من تركته إلا أن يشاء ورثته أن يتبرعوا بها عنه، وإن أوصى بها: كانت من الثلث). وذلك لأنها عبادة يسقطها الموت، والدليل عليه سائر العبادات؛ ولأن الميت لا يجوز أن يبقى عليه حكم العبادات في أحكام الدنيا.

والدليل على ذلك أيضًا: ما حدثنا دعلج بن أحمد قال: حدثنا [...] قال: حدثنا عمر بن أبي بكر قال: حدثنا عمرو بن علي بن أبي جناب الكلبي عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له مال يبلغ حج بيت الله، فلم يفعل، ومن كان له مال يبلغ الزكاة، فلم يزكه: سأل الرجعة عند الموت". فقال له رجل: اتق الله يا ابن عباس! إنما يسأل الكافر الرجعة. فقال: أنا أقرأ به عليك قرآنًا {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون (9) وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين}. فلولا فوات الأداء بالموت لما سأل الرجعة؛ لأنه حينئذ يتخول في المال، فلا يلحقه تفريط، وينتقل ما كان له إلى الورثة، وهذا يدل على سقوطها وحصول التفريط فيها. فإن احتجوا بما روي أن رجلًا قال: يا رسول الله! إن أبي مات وعليه حجة الإسلام أفأحج عنه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو كان

على أبيك دين فقضيته كان يجزئ عنه؟ " قال: نعم. قال: "فدين الله أحق". قالوا: فلما سماه دينًا، وجب أن يبدأ به على الميراث؛ لقول الله تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين}. قيل له: قوله: {من بعد وصية يوصي بها أو دين}: يتناول ما يسمى دينًا على الإطلاق، والحج إنما سماه النبي صلى الله عليه وسلم دينًا بالتقييد، فلا يدخل في الإطلاق. مسألة: [وزن الصاع الشرعي] قال أبو حنيفة وزفر ومحمد: الصاع الذي تقدر به الكفارات، وصدقة الفطر: ثمانية أرطال بالعراقي. وكان أبو يوسف يقول بذلك أيضًا، ثم رجع عنه فقال: هو خمسة أرطال وثلث.

قال أبو بكر أحمد: قد ثبت أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم صيعان مختلفة. قال ابن عمر رضي الله عنهما: "كنا نخرج صدقة الفطر بالصاع الأول". واختلفوا في الصاع الذي كان يغتسل به النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة رضي الله عنها: "كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نغتسل من إناء واحد، هو الفرق، وهو ثلث آصع". وقال أنس رضي الله عنه: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، والمد رطلان"، فإذا كان المد رطلين، فالصاع ثمانية أرطال؛ لأن المد ربع صاع بالاتفاق. وعن أنس رضي الله عنه أيضًا: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمكوك، ويغتسل بخمسة مكاكي".

وقال مجاهد: أخرجت إلينا عائشة رضي الله عنها عسًا فقالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بمثل هذا". قال مجاهد: "فحزرته ثمانية أرطال، تسعة أرطال، عشرة أرطال". فلم يشك في الثمانية، وشك في الزيادة، فلما كان للنبي صلى الله عليه وسلم صيعان مختلفة، ومعلوم أن كل صاع منها على حالة، لا يجوز أن تقدر به الكفارات والصدقات على الانفراد، وأن المقدر به من هذه الصيعان واحد منها. ثم رأينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدر الصاع لإخراج الكفارات ثمانية أرطال، بحضرة الصحابة من غير نكير من واحد منهم عليه: صح أن هذا هو الصاع المقدر به للكفارات، والصدقات، إذ كان في نقصانه وزيادته إبطال تقدير النبي صلى الله عليه وسلم للكفارات. قال موسى بن طلحة، وإبراهيم النخعي: "الحجاجي هو

صاع عمر" وقال عمر ليرفأ غلامه: "إذا حنثت في يميني، فأطعم عني عشرة مساكين، كل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من تمر". فأمره بإخراج الكفارة، وعلى صاعه الذي ثبت أنه ثمانية أرطال. فإن قيل: قد نقل أهل المدينة الصاع الذي في أيديهم، وهو خمسة أرطال وثلث، وعزوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نقلوا القبر والمنبر وذا الحليفة ونحوها، فصاع النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاعتبار من صاع عمر رضي الله عنه. قيل له: لو كان نقلهم للصاع كنقلهم للقبر والمنبر، لما جاز وقوع

الخلاف فيما بين الناس، كما لم يقع في هذه الأشياء، فإذا كان ذلك كذلك، علمنا أن ذلك دعوى منهم في هذا الوقت، وتقليد لبعض أسلافهم بغير علم. ويدل عليه أن يزيد بن أبي زياد ذكر عن ابن أبي ليلى أنه قال: "عيرنا صاع أهل المدينة، فوجدناه يزيد على الحجاجي مكيالًا". وذكر عبد الله بن داود أنه سأل مالك بن أنس عن صاعهم الذي في أيديهم ما أوله؟ قال: "هو تحري عبد الملك بن مروان على صاع عمر بن الخطاب"، والتحري يخطئ ويصيب. وصاع أهل العراق هو صاع عمر رضي الله عنه بغير تحري، على ما ذكره موسى بن طلحة وإبراهيم النخعي، فهو أولى. وعلى أنه لو ثبت أن ما في أيديهم صاع النبي صلى الله عليه وسلم، لما دل ذلك على موضع الخلاف؛ لأنه يحتاج أن يثبت أنه الصاع الذي كان لإخراج الكفارات والصدقات. وأيضًا: لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر: "صاعًا

من تمر": كان ذلك لفظًا يتناول أكثر ما يقع عليه الاسم، كقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين}، فلا يجوز الاقتصار على أقل الصيعان مقدارًا، كما لا يجوز أن يقال في قوله: {فاقتلوا المشركين}: أنه على أقل ما يقع عليه الاسم. مسألة: ويجوز إعطاء القيمة في صدقة الفطر والزكوات. والحجة فيه: حديث أبي بن كعب رضي الله عنه حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصدقًا، فأتى على رجل قد وجبت في إبله ابنة مخاض، فأعطاه ناقة فتية سمينة. قال: "فأبيت أن آخذها، فخرج معي، حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك عليك. فإن تطوعت خيرًا آجرك الله فيه، وقبلناه منك"، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها. فأخبر صلى الله عليه وسلم أن بعض الناقة تطوع، وبعضها فرض مكان ابنة مخاض، وليس في فروض الصدقات بعض الناقة، فثبت أن أخذه كان على وجه البدل.

وأيضًا: ما روى سفيان بن عيينة عن عمرو عن طاوس أن معاذًا رضي الله عنه قال لأهل اليمن: "إيتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الصدقة من الذرة والشعير، فإنه أهون عليكم، وخير للمهاجرين بالمدينة". ولا يؤخذ الثياب عن الذرة والشعير إلا على وجه البدل. ويدل عليه قول الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}، وقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، وقوله تعالى: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم}. ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر: "أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم"، والغنى يقع بالقيمة. وإن قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر: "صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير". قيل له: نجيز الجميع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينف بذلك غيرها.

دليل آخر: وهو ما في حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات: "ومن بلغت عنده صدقة بنت ليون، وليست عنده إلا حقة: فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين، ومن بلغت صدقة حقة، وليست عنده إلا بنت لبون: فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهمًا". وهذا يدل من وجوه على جواز أخذ البدل في الصدقات: أحدها: إجازته لأخذ بنت مخاض عن بنت لبون، وأخذ الشاتين عن البعض الآخر. والثاني: أنه خير بين شاتين، وبين عشرين درهمًا، فدل أن الحكم ليس بمقصور على المذكور دون القيمة؛ لأن ذكر الدراهم للتقويم في إقامتها مقام الشاتين. والثالث: قوله "إن استيسرتا": فدل أنه ذكر الغنم والدراهم؛ لأنه كان أيسر عندهم من غيرها. والرابع: أنه أجاز أخذ الحقة عن ابنة اللبون، وأمر المصدق برد شاتين أو عشرين درهمًا، ومعلوم أن بعض الحقة مشترى بالشاتين أو بالعشرين درهمًا؛ لنه جعلهما بدلًا عن ذلك، والبعض الباقي أقامه مقام بنت اللبون، فدل ذلك على جواز أخذ البدل من وجهين: أحدهما: أنه ليس في سائر فروض الصدقات بعض الحقة، فلا يصح أخذه عن بنت اللبون إلا على جهة البدل.

والثاني: أنه إذا جعل البعض الباقي مشترى بالشاتين أو عشرين درهمًا، وما كان شراء فمعلوم أنه لا يصح بينهما إلا بالتراضي، وأن لهما أن يعقدا إن شاءا، وإن شاءا لم يعقدا: دل على أن لهما أن يقتصرا على أخذ بعض الحقة عن بنت اللبون بالقيمة من غير أن يرد عليه شيئًا. والدليل على أن الشاتين أفضل قيمة مما بين بنت اللبون والحقة: أنه لو كانت عنده حقة عجفاء لا تساوي بنت اللبون: لم يجز للمصدق أخذه لما دون شاتين، فدل أن ذلك مأخوذ على جهة القيمة. فإن قيل: لما قال: فإن لم يوجد كذا وكذا دل على أن الثاني عند عدم الأول، كقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، وقوله: {فمن لم يجد فصيام شهرين}، ونحوها من الفروض المنقولة إلى الأبدال عند عدم الأصول. قيل له: لما كان عموم الآيات والسنن التي قدمنا في أصل المسألة يقتضي جواز الكل، استعملناه مع ما ورد من التوقيف، وجعلنا قوله: فإن لم يوجد كذا وكذا: على وجه التيسير على رب المال، وتسهيل الأمر عليه، كما قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: "خذ من كل حالم دينارًا، أو عدله مغافر".

ولم يمنع ذلك جواز أخذ القيمة في الجزية؛ لأن عموم قوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يدٍ}: انتظم الجميع. وكما قال تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}: فلم يمنع أخذ القيمة من الكسوة والطعام. وأما قوله: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}، وقوله: {فمن لم يجد فصيام شهرين}، ونحوهما من الآي، فلم يرد فيهما ما يقتضي جواز الأداء من كل شيء، وإنما حكمها مأخوذ من هذه الآي، فلم يتعد منها موضع النص. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه أمر أن لا نجتزئ في الاستنجاء بدون ثلاثة أحجار"، ثم اتفق الجميع أن الخزف والخشب ونحوهما يقوم مقام الأحجار في جواز الاستنجاء بها، لوقوع الإنقاء بها

حسب وقوعها بالأحجار. كذلك الصدقة لما كانت لسد الخلة، والقيمة تقوم مقامها في ذلك، وجب أن يجوز أداؤها. وإنما لم يجز إعطاء القيمة من الهدايا والضحايا والرقاب؛ لأن القربة التي هي في الهدي: في إراقة الدم، وليست معنى يتقوم، وكذلك العتق هو إتلاف الملك ونفي الرق، وليس هو معنى يتقوم، فلذلك سقط فيه اعتبار التقويم. ودليل آخر: وهو اتفاق الجميع على جواز أداء بعير عن خمس من الإبل، وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون في خمس من الإبل إلا شاة؛ لأنه قال: "في خمس من الإبل شاة، ثم لا شيء فيها حتى تبلغ عشرًا، فدل على أن البعير مأخوذ على وجه البدل. * * * * *

باب مواضع الصدقات

باب مواضع الصدقات [مسألة: مصرف الفقراء والمساكين] قال أبو جعفر: (الفقراء الذين ذكرهم الله تعالى في آية الصدقات هم في المسكنة أكثر من المساكين الذي ليسوا فقراء). قال أبو بكر أحمد: روى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن الفقير: الذي لا يسأل، والمسكين: الذي يسأل، وهذا يوجب أن يكون المسكين في الجملة أضعف حالًا من الفقير. وكان شيخنا أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: المسكين هو الذي لا شيء له، والفقير الذي له أدنى بلغة، ويحكي ذلك عن أبي العباس ثعلب. قال: وقال أبو العباس ثعلب: حكي عن بعضهم أنه قال: قلت لأعرابي: أفقيرٌ أنت؟ قال: لا، بل مسكين، وأنشد ابن الأعرابي:

أما الفقير الذي كانت حلوبته .... وفق العيال فلم يترك له سبد فسماه فقيرًا مع وجود الحلوبة. قال: وحكى محمد بن سلام الجمحي عن يونس النحوي قال: "الفقير الذي يكون له بعض ما يغنيه، والمسكين الذي لا شيء له". قال أبو الحسن: ويدل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المسكين ليس بالطواف الذي ترده التمرة والتمرتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد ما يغنيه". قال: فنفى المبالغة في المسكين عمن ترده التمرة والتمرتان، وأثبتها لمن لا يجد ذلك، وسماه مسكينًا.

قال: ويدل عليه قوله تعالى: {أو مسكينًا ذا متربة}، وروي في التفسير أنه الذي قد لزق بالتراب، وهو عار لا يواريه عن التراب شيء، فدل ذلك على أن المسكين في غاية الحاجة والعدم. فإن قال قائل: قال الله تعالى: {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر}، فأثبت لهم ملك السفينة، وسماهم مساكين. قيل له: روي أنهم كانوا أجراء يعملون فيها، وأنها لم تكن ملكًا لهم، وإنما أضافها إليهم بالتصرف، والكون فيها، كما قال الله تعالى: {لا تدخلوا بيوت النبي}، وقال في موضع آخر: {وقرن في بيوتكن}، فأضاف البيوت تارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة إلى أزواجه، ومعلوم أنها لم تكن ملكًا له ولهن جميعًا، لكل واحدٍ على حياله، لاستحالة ذلك؛ وأن الإضافة إنما صحت لأجل التصرف والسكنى.

وكما يقال: هذا منزل فلان: وإن كان ساكنًا فيه غير مالك، وهذا مسجد فلان، ولا يرد به الملك. مسألة: [مصرف العاملين والمؤلفة قلوبهم] قال أبو جعفر: (والعاملون على الصدقات هم السعاة، والمؤلفة قلوبهم قد ذهبوا). وذلك لأن الله تعالى قد أعز الدين وأهله، واستغنوا عن تأليف الكفار بالمال، وذلك لأنهم قد كانوا يتألفون بالمال لجهتين: إحداهما: لدفع معرتهم، وكف أيديهم عن المسلمين، والاستعانة بهم على غيرهم من الكفار. والثانية: لاستمالة قلوبهم وقلوب غيرهم من الكفار إلى الدخول في الإسلام. مسألة: [مصرف الرقاب]: قال: (والرقاب هم المكاتبون). قال أبو بكر: قال مالك: هم رقاب يبتاعون من الزكاة ويعتقون، ويكون ولاءهم لجماعة المسلمين، دون المعتقين.

والحجة للقول الأول ما روى عبد الرحمن بن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أعان مكاتبًا في رقبته، أو غارمًا في عسرته، أو مجاهدًا في سبيل الله: أظله الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله". فدل أن الصدقة على المكاتب معونة في رقبته حتى يعتق، وهذا موافق لقوله: {وفي الرقاب}. وروى البراء بن عازب رضي الله عنه، أن رجلًا قال: يا رسول الله! علمني عملًا يدخلني الجنة. قال: "لئن كنت أقصرت الخطبة، لقد عرضت المسألة. أعتق النسمة، وفك الرقبة". قال: أو ليسا سواء؟ قال: "لا عتق النسمة يكون تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها". فجعل صلى الله عليه وسلم عتق النسمة غير فك الرقبة، فوجب أن يكون قوله: {وفي الرقاب}: غير الموقع، بل هو المعونة في فك الرقبة

بأداء الكتابة. وأيضًا: لما ثبت أن الولاء لمن أعتق، وجب أن يكون ولاء المعتق من الصدقة المعتقة، وذلك ينفي جوازه عن الصدقة. وأيضًا: فليس في العتق تمليك، وإنما فيه إتلاف الملك، وشرط الزكاة التمليك. مسألة: [مصرف الغارمين] قال أبو جعفر: (والغارمون هم المدينون). وذلك لأن الغرم: الدين، وروي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من المأثم والمغرم، فقيل له في ذلك: فقال: إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف"، فأخبر أن الغرم الدين. وعموم اللفظ يوجب جواز إعطائها كل من عليه دين، إلا أن الدلالة قد قامت على أنه إذا فضل ماله عما عليه من الدين بمقدار ما يكون به غنيًا، لم يعط من الصدقة. مسألة: [مصرف سبيل الله] (وفي سبيل الله هم أهل الجهاد من الفقراء). قال أبو بكر: وقد روي عن محمد: أن من أوصى بثلث ماله في سبيل

الله، أنه يجوز أن يجعل في الحاج المنقطع به. وروي عن أبي يوسف: أنهم الغزاة. وروي عن ابن عمر رضي الله عنه مثل قول محمد. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحج والعمرة من سبيل الله". والأظهر مما يقتضيه إطلاق اللفظ: أن يكون الغزاة، وعلى ذلك أكثر ما جاء من ألفاظ القرآن في سبيل الله. منه قوله تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}. قال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: "نزلت فينا –معاشر الأنصار- حين استفلنا لعمارة الأرضين، فأنزل الله: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}: في ترك الجهاد". * وإنما كان لفقرائهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن

أخذ الصدقة من أغنيائكم، وأردها في فقرائكم". مسألة: [إعطاء العاملين على الصدقة منها] قال أبو جعفر: (وينبغي للإمام أن يجعل للعاملين على الصدقة من الصدقة ما يكفيهم ويكفي أعوانهم). وذلك لأن كل من قام بشيء من أمور المسلمين يستحق على قيامه رزقًا، كالقضاة والمقاتلة، وليس ذلك على وجه الإجارة؛ لأنها لا تجوز إلا على عمل معلوم، أو مدة معلومة، وأجر معلوم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده يبعثون عمالًا على الصدقات وغيرها، فلم يرد عن أحد منهم أنه استأجر العمال عليها. مسألة: [صرف الزكاة لصنف واحد] قال: (وإن أعطيت الصدقات صنفًا واحدًا: أجزأ). قال أبو بكر: روي عن عمر بن الخطاب وحذيفة وابن عباس رضي الله عنهم.

وروى الثوري عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن معاذ بن جبل رضي الله عنه "أنه كان يأخذ من أهل اليمن العروض في الزكاة، ويجعلها في صنف واحد من الناس". وعن سعيد بن جبير وإبراهيم وأبي العالية. ولا يروى عن أحد من الصحابة خلاف ذلك، فصار إجماعًا لا يسع خلافه. ويدل عليه قول الله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم}، وهذا عام في جميع الصدقات؛ لأنه اسم للجنس، لدخول الألف واللام عليه، وتضمنت الآية جواز إعطائها الفقراء، وهم صنف من الأصناف المذكورين في الآية الأخرى. ويدل عليه قوله تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم (24) للسائل

والمحروم}، واقتضى جواز إعطاء الصدقة هذين دون غيرهما، وذلك ينفي وجوب قسمها على ثمانية. ويدل عليه ما روي في حديث سلمة بن صخر رضي الله عنه حين "ظاهر من امرأته، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينطلق إلى صاحب صدقة بني زريق ليدفع إليه صدقاتهم". فأباح صلى الله عليه وسلم دفع صدقاتهم إلى سلمة بن صخر رضي الله عنه، وإنما هو من صنف واحد. وقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين سألاه من الصدقة: "إن شئتما أعطيتكما"، ولم يقل لهما من أي الأصناف أنتما، ليحسبهما من الصنف الذي هما منه. ويدل على أنه مستحقة بالفقر: قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم، وأردها في فقرائكم".

فأخبر أن المعنى الذي يستحق به جميع الأصناف هو الفقر؛ لأنه عم جميع الصدقة، وأخبر أنها مصروفة إلى الفقراء، وهذا اللفظ مع ما تضمن من الدلالة على أن المعنى المستحق به الصدقة، فإن عمومه يقتضي جواز دفع جميع الصدقة إلى الفقراء، حتى لا يعطي غيرهم، بل ظاهر اللفظ يقتضي وجوب ذلك بقوله: "أمرت". فإن قيل: فالعامل يستحقه لا بالفقر. قيل له: لأنه لا يستحقه ولا أحد صدقة، وإنما قلنا: إن من يستحق الصدقة لا يستحقها إلا بالفقر، وإنما تحصل للفقراء، ثم يأخذه العامل عوضًا عن عمله، كفقير أطعم صدقة، فأعطاها غيره عوضًا عن عمل عمله له. وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سألته عائشة عن بريرة رضي الله عنها، وأنه يتصدق عليها، فتهدي لنا فقال: "هي لها صدقة، ولنا هدية". وأما ذكر الأصناف في الآية فإنما جاء لبيان أسباب الفقر، والدليل عليه أن الغارم وابن السبيل والغازي لا يستحقونها إلا بالفقر والحاجة،

دون غيرهما، فدل على أن المعنى الذي يستحق به هو الفقر. فإن قيل: روي عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن زياد بن أنعم أنه سمع زياد بن الحارث الصدائي يقول: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومي فقلت: أعطني من صدقاتهم، ففعل وكتب لي بذلك كتابًا، فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره حتى يحكم فيها من السماء، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك". قيل له: هذا يدل على ما قلنا؛ لأنه قال: "إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك"، فبان أنها مستحقة لمن كان من هذه الأجزاء. وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب للصدائي بشيء من صدقة قومه، ولم يسأله من أي الأصناف هو؟ فدل ذلك على أن قوله: "فجزأها ثمانية أجزاء": معناه ليوضع في كل جزء منها جميعها إن رأى ذلك الإمام، ولا يخرجها عنهم. وأيضًا: فإن قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء ...} إلى آخر الآية: ينتظم جميع الصدقات، لا صدقة واحدة، ومعلوم أنه لم يرد به أن يكون كل جزء منها بين الأصناف، لاتفاق المسلمين على أنه جائز أن يعطي

فقيرًا واحدًا من الصدقة بعينه، ويقطع عنه حق سائر الفقراء، كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن صخر رضي الله عنه صدقات بني زريق. فإذا كان ذلك كذلك، فقد تضمنت الآية دفع صدقة عام واحد إلى صنف واحد؛ لأنه قد بقي من الصدقات في مستقبل الأوقات ما يغطي الأصناف الأخر، إذ لم تتضمن الآية قسمة الصدقة لسنة واحدة بين الأصناف، وإنما أوجبت قسمة الصدقات كلها على الأصناف. وأيضًا: فليس تخلو الصدقات من أن تكون مستحقة بالاسم أو بالحاجة أو بهما جميعًا، وفاسد أن يقال: أن يستحقه بمجرد الاسم لوجهين: أحدهما: أنه كان يجب أن يستحقها كل غارم وكل ابن سبيل، وإن كان غنيًا. والثاني: أنه كان يجب أن يكون لو كان فقيرًا وابن السبيل: أن يستحق سهمين، فلما بطل هذان الوجهان، صح أنها مستحقة بالحاجة. وأيضًا: لما اتفق الجميع على جواز إعطاء بعض الفقراء، وإن سمى الله تعالى في الآية الفقراء بلفظٍ يعم جميعهم، كذلك يجوز إعطاء بعض الأصناف؛ لأن المعنى فيه سد خلة الفقير، وذلك موجود في وضعها في صنف واحد، كوجوده في وضعها في بعض الفقراء.

فإن قيل: قوله: {إنما الصدقات للفقراء ...} الآية: تقتضي إيجاب الشركة، فلا يجوز إخراج صنف منها، كما لو أوصى بثلث ماله لزيد وعمرو وخالد، لم يخرج واحد منهم. قيل له: كذلك يقتضي اللفظ؛ إلا أنه في جميع الصدقات يقتضيه، وإنما الخلاف بيننا وبينكم في صدقة واحدة هل يستحقها الأصناف كلها؟ وليس في الآية بيان حكم صدقة واحدة، وإنما فيها حكم الصدقات كلها، وكذلك نقول فيه، فنعطي صدقة هذه السنة لصنف واحد، ثم يعطى كل صنف على حدة في صدقة عام آخر، فنكون قد وفينا حق الآية، وبهذا انفصلت الصدقات عن الوصية بالثلث لأعيان؛ لأن الثلث محصورًا لأبدان تستحقه بالشراكة. وأيضًا: فلا خلاف أن الصدقات غير مستحقة على وجه الشركة للمسلمين، لاتفاق الجميع على جواز إعطاء بعض الفقراء، ولا جائز إخراج بعض الموصى لهم. وأيضًا: لما جاز التفضيل في الصدقات من بعض الفقراء على بعض، ولم تجز الوصايا إذا كانت مطلقة، كذلك جاز الحرمان. وأيضًا: لما كانت الصدقة حقًا لله تعالى، لا لآدمي، بدلالة أنه لا مطالبة لآدمي بعينه يستحقها لنفسه، فأي صنف أعطى، فقد وضعها موضعها، والوصية لأعيان، حق لآدمي لا مطالبة لغيرهم بها، فاستحقوها كلهم.

ويدل على ذلك: أن الله سمى في الكفارة إطعام مساكين، ولو أعطى الفقراء جاز، ولو أوصى لزيدٍ: لم يعط عمرو. مسألة: (ولا يعطى من الزكوات إلا مسلم). قال أبو بكر: كل صدقة أخذها إلى الإمام: لم يعط منها غير مسلم، كصدقات المواشي وعشور الأرضين وزكوات الأموال. وقد كانت زكوات الأموال يأخذها الإمام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان زمن عثمان رضي الله عنه قال في رمضان: "هذا شهر زكواتكم، فمن كان عليه دين فليؤده، ثم ليزك بعده ماله". فجعل الأداء إلى الملاك، وحق الإمام عندنا لم يسقط في أخذها، إلا أن أرباب الأموال بمنزلة الوكلاء للإمام في أدائها. [مسألة: جواز إعطاء الصدقات من غير الزكاة لأهل الذمة] وأما سائر الصدقات، من نحو صدقة الفطر والكفارات، فيجوز إعطاؤها أهل الذمة.

وروي عن أبي يوسف: أن كل صدقة واجبة: لا يجوز أن يعطى أهل الذمة منها. الحجة لأبي حنيفة: قول الله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين}، وقوله: {فإطعام ستين مسكينًا}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر: "نصف صاع من بر، أو صاع من تمر": ولم يفرق بين المسلم والكافر. وأيضًا: لما روي أن المسلمين كرهوا الصدقة على غير أهل دينهم، فأنزل الله تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء}: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا على أهل الأديان". فعموم الآية، ولفظ النبي صلى الله عليه وسلم، كل واحد يجيز دفع الصدقات إلى أهل الذمة، فلما قامت الدلالة على تخصيص زكوات

الأموال: خصصناها، وبقي حكم العموم فيما عداها. ويدل عليه قول الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}. وروي أنها نزلت في شأن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وأمها جاءت وهي مشركة تستمنحها، وسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وعمومها يقتضي جواز دفع الصدقات التي وصفناها إلى الذمي؛ لأنها من البر والإقساط. وقال الله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا}، والأسير في دار الإسلام لا يكون إلا كافرًا، فدل على أن الصدقة عليهم قربة.

* ومن جهة النظر: أن الصدقة عليهم لما كانت قربة، ولم يكن أخذ الكفارات وصدقة الفطر إلى الإمام: جاز إعطاؤهم كما يعطون التطوع. مسألة: [عدم جواز صرف الزكاة إلى بني هاشم أو مواليهم] قال أبو جعفر: (ولا يعطى أحد منها من بني هاشم، ولا مواليهم). وذلك لما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات أنه قال: "إن الصدقة لا تحل لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما خصنا رسول الله دون الناس إلا بثلاث: إسباغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي الحمير على الخيل". فإن قيل: روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "قدمت عير المدينة، فاشترى منها النبي صلى الله عليه وسلم متاعًا، فباعه بربح أواقي فضة، فتصدق بها على أرامل بني عبد المطلب، ثم قال: لا أعود أن أشتري بعدها شيئًا، وليس ثمنه عندي".

قيل له: إنما تصدق عليهم بصدقة تطوع، وقد يجوز عندنا أن يعطى من التطوع. وأيضًا: يحتمل أن تكون أرامل غير هاشميات. فصل: قال أصحابنا: تحل الصدقات لبني عبد المطلب، وليسوا كبني هاشم، بل هم كسائر قريش؛ لأنه لا خلاف أن بني أمية تحل لهم الصدقة، وأنهم ليسوا من آل النبي صلى الله عليه وسلم، فكذلك بنو عبد المطلب؛ لأنهم جميعًا في القرب من النبي صلى الله عليه وسلم سواء، والصدقة إنما حرمت بالقرب من النبي صلى الله عليه وسلم في النسب. فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل بني عبد المطلب في سهم ذوي القربى، كما أدخل بني هاشم، ولم يدخل سواهم من بطون قريش. قيل له: لم يعطهم لقرب نسبهم منه فحسب؛ لأنه لو كان كذلك لأعطى بني أمية؛ لأنهم مساوون لهم في قربهم منه، ألا ترى "أن عثمان بن عفان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما لما قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: "هؤلاء بنو هاشم فضلهم الله تعالى بك، فما بالنا وبنو المطلب،

وإنما نحن وهم في النسب شيء واحد؟ ". فقال: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام". فأخبر أنه لم يخصهم به دونهم للقرب فحسب، دون النصرة. وموالي بني هاشم بمنزلتهم في تحريم الصدقة، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أرقم بن أبي الأرقم الزهري رضي الله عنه كان على الصدقات، فاستتبع أبا رافع رضي الله عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة حرام على محمد وآل محمد، وإن موالي القوم من أنفسهم". وروى عطاء بن السائب عن أم كلثوم بنت علي عن مولى لهم يقال له:

كيسان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إنا أهل بيت لا نأكل الصدقة، وإن موالي القوم من أنفسهم، فلا تأكل الصدقة". مسألة: [حد الغنى المحرم للصدقة] قال: (والغني الذي تحرم عليه الصدقة: هو الذي يملك المقدار الذي تجب عليه به صدقة الفطر، وهو من يملك فضلًا عن مسكنه وخادمه وكسوته، وما يتأثث به في منزله ما يساوي مائتي درهم). قال أبو بكر: روي في ذلك أخبار مختلفة. روى أبو كبشة السلولي عن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سأل الناس عن ظهر غنى، فإنما يستكثر من جمر جهنم". قلت: يا رسول الله! ما ظهر غنى؟ قال: "أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم ويعشيهم". وروى عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول لرجل: "من سأل الناس منكم وعنده أوقية أو عدلها، فقد سأل إلحافًا". والأوقية يومئذ أربعون درهمًا.

وروى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يسأل عبد مسألة وعنده ما يغنيه، إلا جاءت شيئًا، أو كدوحًا، أو خدوشًا في وجهه يوم القيامة". قيل: يا رسول الله! وما غناه؟ قال: "خمسون درهمًا أو حسابها من الذهب". وروى عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن رجل من مزينة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من سأل وله عدل خمس أواقي: سأل إلحافًا". وقد ذهب إلى كل مقدار روي في هذه الأخبار قوم، وليس في شيء منها دلالة على إثبات من يحل له أخذ الصدقة الواجبة؛ لأن أكثر ما فيها كراهية المسألة، ونحن نكرهها أيضًا، ولا نكره له أخذها بغير مسألة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمر رضي الله عنه: "من أتاه شيء من هذا المال من غير مسألة، ولا إشراف

نفس، فليقبله". * والدليل على صحة قول أصحابنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم، وأردها في فقرائكم". فجعل الناس صنفين: أحدهما أغنياء مأخوذ منهم، والآخر فقراء مردود عليهم، ومن ملك أقل من مائتي درهم، فلا زكاة عليه بالاتفاق، فدل أنه في حيز الفقراء. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعطوا السائل وإن جاء على فرس". وعمومه يقتضي جواز إعطائه سائر الصدقات، فهذا يدل على أن فرس الركوب لا يعتد به في حصول الغنى، فقلنا على هذا: كذلك المسكن والخادم؛ لأن الحاجة إليهما أمس منها إلى الفرس. ويجوز أن يعطى الفقير من الزكاة، مكتسبًا قويًا كان أو غير ذلك، وذلك لقول الله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين}، وقال:

{للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله}، ولم يفرق بين القوي في بدنه والضعيف منهم. وهذا يدل أيضًا على أن من له المسكن والخادم وثياب الكسوة يجوز أن يعطى من الصدقة؛ لأن الجاهل بحالهم لا يحسبهم أغنياء إلا ما ظهر من حالهم في الكسوة والأثاث مما يشبه حال الأغنياء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم، وأردها في فقرائكم". ولم يفرق بين الضعيف والقوي. وقد كانت الصدقات تحمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيعطيها أهل الصفة، وهم أقوياء يحضرون المغازي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقاتلون فيها. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم صاحب صدقة بني زريق بأن يعطي

صدقاتهم سلمة بن صخر رضي الله عنه، وكان صحيحًا قويًا. ومن لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يتصدق الناس على الفقراء الأصحاء، ويضعون فيهم زكوات أموالهم من غير نكير من أحد من السلف والخلف على فاعله، فصار إجماعًا. وروى عبد الله بن عدي بن الخيار عن رجلين من قومه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فسألاه من الصدقة، فرآهما جلدين، فصعد فيهما النظر وصوب، فقال: "إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب"، فدل على معنيين: أحدهما: جواز الصدقة على القوي الصحيح. والآخر: كراهة المسألة لمن كانت هذه صفته؛ لأنهما لو لم يجز أن يعطيا لما قال لهما: "إن شئتما أعطيتكما". ومعنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي": فإنه في ذي المرة السوي على وجه

الكراهة، لا على الحتم، للدلائل التي ذكرنا. مسألة: [عدم جواز إعطاء الزكاة للوالد أو الولد] قال أبو جعفر: (ولا يعطى الرجل من زكاة ماله والدًا وإن علا، ولا ولدًا وإن سفل). والأصل فيه أن كل من لا تجوز له شهادته: لا يجوز أن يعطيه الزكاة؛ لأنه لما جعل ما شهد به له، كأنه حصله لنفسه بشهادته، وكان عليه أن يخرج الزكاة عن ملكه إخراجًا صحيحًا، إذ جعلت شهادته به له، كشهادته فيما يحصله لنفسه. مسألة: [حكم إعطاء أحد الزوجين زكاة ماله للآخر] قال: (ولا تعطي المرأة زوجها من زكاة مالها في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: تعطيه). لأبي حنيفة: ما قدمنا من بطلان شهادتها له، وكما لم يعطها هو لهذه العلة، كذلك لا تعطيه لوجودها. فإن قيل: سألت زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن الصدقة عليه، وعلى أيتام لأختها في حجرها،

فقال: "لك أجران: أجر الصدقة، وأجر القرابة". قيل له: كانت صدقة تطوع، وألفاظ الحديث تدل عليه؛ لأن ذلك كان في حال ما حث النبي صلى الله عليه وسلم النساء على الصدقة، فقال: "تصدقن ولو من حليكن"، وهذا يدل على أنها كانت تطوعًا. فإن قيل: قد روي "أنها سألته عن طوق لها فيه عشرون مثقالًا ذهبًا: فأؤدي زكاته؟ قال: نعم. نصف مثقال. فقالت: فإن في حجري بني أخ لي أيتامًا، أفأجعله فيهم. قال: نعم"، فأخبر أنه كان من الزكاة. قيل له: ليس في هذا الحديث ذكر إعطاء الزوج، وإنما ذكر إعطاء بني أخيها، ونحن نجيز ذلك، والحديث الذي فيه ذكر الزوج ليس فيه ذكر الزكاة. مسألة: [دفع الزكاة خطأ لمن لا يستحقها] قال أبو جعفر: (ومن دفع زكاته إلى رجل على أنه فقير، ثم تبين بعد ذلك أنه غني، أو أنه ذمي، أو ابن المعطي: أجزأه في قوله أبي حنيفة ومحمد). قال: (وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه لا يجزيه في الكافر، والابن).

قال الشيخ: والصحيح من قوله هو الأول. * (وقال أبو يوسف: لا يجزيه في شيء من ذلك). لأبي حنيفة: حديث معن بن يزيد رضي الله عنهما "أن أباه أخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل، فأخذها، فقال: والله ما إياك أردت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معن لك ما أخذت، ويا يزيد لك ما نويت". فهذا يدل من وجهين على ما قلنا: أحدهما: أنه لم يسأله عن الصدقة من أي وجه هي؟ والثاني: قوله: "لك ما نويت": فدل على جوازها إذا نوى الزكاة. * ومن وجه النظر: أن الصدقة على هؤلاء قد تكون صدقة صحيحة بحال من غير ضرورة، وهي التطوع، فإذا أرادها باجتهاد: أجزأه، كالصلاة إلى غير الكعبة، لما كانت قد تكون صلاة صحيحة بحال، جازت إذا أداها باجتهاد وإن تبين له أنه صلاها إلى غير جهتها. فإن قيل: الصلاة في الثوب النجس صحيحة بحال وهي عدم الماء، ولو صلى في ثوب على أنه طاهر، ثم تبين له أنه نجس: لم تجزئه. قيل له: لا يلزم على اعتلالنا؛ لأنا قلنا: إنها تكون صدقة صحيحة من

غير ضرورة، والصلاة في الثوب النجس لا تجزئ إلا من ضرورة. وصدقة التطوع تجزئ على الأب والأم والذمي والغني من غير ضرورة، كما تجزئ صلاة الراكب إلى غير القبلة تطوعًا من غير ضرورة. * * * * * آخر كتاب الزكاة

كتاب الصيام

كتاب الصيام مسألة: [رؤية هلال رمضان] قال أبو جعفر: (وإذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يومًا طلب الهلال، فإن رئي: فقد وجب الصوم، وإن لم ير: أكمل شعبان ثلاثين يومًا، ثم استقبل الصيام). وذلك لما حدثنا دعلج قال: حدثنا إبراهيم بن طالب قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا معاوية بن صالح عن عبد الله بن أبي قيس قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه: عد ثلاثين يومًا، ثم صام".

وروى حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبين منظره سحاب أو قترة فعدوا ثلاثين". وروى منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة". وقد روي في بعض الأخبار: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم، فعدوا شعبان ثلاثين". وقد أفادت هذه الأخبار معاني: منها: أن الشهر حكمه أن يكون ثلاثين، إلا أن يرى الهلال قبل ذلك، فيكون تسعة وعشرين، وهذا يجب اعتباره في سائر الشهور. ومنها: أن يوم الشك محكومٌ له أنه من شعبان، لقوله صلى الله عليه

وسلم: "صوموا لرؤيته، فإن غم عليكم، فعدوا شعبان ثلاثين". ويدل عليه قوله: "لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال". مسألة: [النية للصوم] قال أبو جعفر: (ويحتاج من عليه الصيام أن ينويه من ليلة كل يوم، أو فيما بعدها من ذلك اليوم قبل الزوال). قال أبو بكر: الصوم على ثلاثة أضرب: صوم مستحق العين، وهو شهر رمضان، والرجل يقول: لله علي صوم غد، أو يوم بعينه: فهذا يجوز فيه ترك النية من الليل إذا نواه قبل الزوال. والثاني: صوم التطوع، وهو بمنزلة الصوم المستحق العين في جواز ترك النية فيه من الليل إذا نواه قبل الزوال. والثالث: ما كان منه في الذمة، فهذا لا يجزي إلا أن ينويه من الليل، مثل قضاء رمضان، وصوم الكفارات، والنذور، ونحوها. فلنبدأ بالكلام في وجوب النية لصوم شهر رمضان، إذ كان أهل العلم مختلفين فيه: فمنهم من لا يوجب النية فيه رأسًا، وهو قول زفر بن الهذيل. ومنهم من يوجبها في أول ليلة من الشهر دون سائر الأيام، وهو مالك

بن أنس، والدليل على أن من شرط الصيام النية، أنه فرض مقصود لعينه، كالصلاة والزكاة والحج وسائر الصيام الذي في الذمة. فإن قيل: الوضوء وغسل الجنابة فرضان ويجزيان بغير نية. قيل له: من قبل أنهما ليسا فرضين مقصودين لأعيانهما، وإنما يلزمان لأجل الصلاة، فلا تلزم على ما ذكرنا. ووجه آخر: وهو أن صوم شهر رمضان شرطه أن يكون قربه، ولا يصير قربة إلا بالنية. والدليل على ذلك أن من أمسك عما يمسك عنه الصائم في غير شهر رمضان، لم يكن صائمًا تطوعًا ما لم يكن منه نية للصوم، فدل على أن من شرط صحة الصوم: وجود النية. فإن قيل: لما كان صوم شهر رمضان مفروضًا في وقت بعينه، أشبه أعضاء الطهارة من حيث تعين الفرض فيها، فلم يحتج إلى وجود النية في صحة وقوعها. قيل له: قد بينا أن الطهارة ليست مقصودة لعينها، وإنما قيل لنا: لا تصلوا إلا وأنتم على طهارة، كما قيل لنا: لا تصلوا إلا مع ستر العورة، ولا تصلوا إلى على مكان طاهر، فلا يقتضي ذلك إيجاب النية في صحة وقوع هذه الأشياء، والصوم فرض مقصود لعينه لا يتميز مما ليس بفرض إلا بالنية. ألا ترى أن من أمسك عما يمسك عنه الصائم من غير نية الصوم، لم

يكن صائمًا تطوعًا، ومن تطهر يريد به التبرد أو تعليم غيره: كان متطهرًا يجوز به أداء الصلاة مع عدم نية الطهارة. وإنما قلنا إنه يحتاج لكل يوم إلى نية مجددة؛ لأنه يخرج من الصوم بدخول الليل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغابت الشمس، فقد أفطر الصائم". وإذا خرج من الصوم بالليل، احتاج إلى دخول فيه في اليوم الثاني، والدخول في الصوم لا يصح إلا بالنية، كما لا يصح في ابتداء الشهر إلى بوجود النية، ألا ترى أن من صام الشهرين المتتابعين، لما تخلل كل يومين منه ليل يخرج من الصوم، افتقر في صحته إلى تجديد النية لكل يوم. فإن قيل: لما لم يتخلل شهر رمضان صوم من غيره، أشبه أربع ركعات الظهر، لما لم تكن تتخللها صلاة غيرها، اكتفي فيها بإيجاد النية في أول الصلاة، ولم يحتج إلى تجديدها لكل ركعة، كذلك صوم شهر رمضان. قيل له: هذا منتقض بصوم الظهار؛ لأنه لا يتخلله صوم من غيره، ولم يستغن مع ذلك عن تجديد النية لكل يوم. وأيضًا: فإن ركعات صلاة الظهر مفعولة بتحريمة واحدة، فاكتفي فيها بنية واحدة، إذ لم يخرج منها بانقضاء كل ركعة، وأما صوم شهر رمضان فإنه يحصل مفطرًا منه بالليل حتمًا، فيحتاج إلى دخول مبتدأ لليوم الذي

يليه، فأشبهت الصلاة الصلاتين من هذا الوجه، وصوم الكفارة وسائر الفروض. فصل: وإنما قلنا إنه يجوز ترك النية من الليل في صوم شهر رمضان إذا نواه قبل الزوال، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث يوم عاشوراء إلى أهل العوالي فقال: "من أكل: فليمسك، ومن لم يأكل: فليصم بقية يومه". فأمر الآكلين بالإمساك، ومن لم يأكل بابتداء الصيام من بعض النهار، فصار ذلك أصلًا في جواز ترك النية من الليل في كل صوم مستحق العين، إذ كان صوم عاشوراء مستحق العين للفرض في ذلك الوقت، لما روى ابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بصيام يوم عاشوراء أول ما قدم المدينة، ثم نسخ بشهر رمضان". وفي بعض الألفاظ: "فلما نزل شهر رمضان: كان من شاء صام، ومن شاء أفطر"، ومعلوم أنه لم ينسخ إباحة فعل الصوم، ولا كونه قربة، وإنما نسخ الإيجاب. فإن قيل: قد روي في بعض ألفاظ هذا الحديث أنه قال: "من أكل

فليصم بقية يومه": فإن جاز أن يؤمر بالصيام مع الأكل، ولم يدل ذلك على أن ترك الأكل ليس من شرائطه، فكذلك يجوز أن يكون الذين لم يأكلوا مأمورين بالصوم، ولا يدل ذلك على أن وجود النية من الليل في الصوم المستحق العين ليس من شرائطه. قيل له: ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: "من أكل فليصم": معناه: فليمسك، على ما روي في الخبر الآخر؛ لأن الصوم هو الإمساك، ولم يكن ذلك صومًا شرعيًا على الحقيقة، وذلك لأنه قد روي في بعض الأخبار "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الآكلين بقضاء يوم". وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا شعبة عن قتادة عن عبد الرحمن بن سلمة عن عمه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يعني يوم عاشوراء، فقال: "صمتم يومكم هذا؟ قالوا: لا. قال: "فأتموا يومكم هذا، واقضوا". فثبت أن الآكلين منهم لم يكن لهم صوم، وأنهم إنما أمروا بالإمساك من غير صوم. فإن قيل: إنما جاز لهم ترك النية من الليل؛ لأنه كان صومًا مبتدءًا لزمهم فرضه في بعض النهار، ولم يكن وجوب الفرض متقدمًا، فيلزمهم تقديم النية من الليل، فلذلك جاز أن يؤمروا بابتداء صيام في بعض النهار.

قيل له: لو كان وجود النية من الليل من شرائط صحة الصوم، لكان عدمها مانعًا من الصوم، ولم يكن يختلف فيه الفرض المبتدأ والفرض الذي تقدم وجوبه، كما أن ترك الأكل لما كان من شرائط صحة الصوم، كان وجوده مانعًا من صوم عاشوراء، ولم يختلف فيه حكم الفرض المبتدأ والمتقدم الوجوب، فلما أجاز الصوم مع ترك النية من الليل، ولم يجزه مع وجود الأكل، دل على أن ما كان مستحق العين من الصوم لم يفتقر في صحته إلى وجود النية من الليل. فإن قيل: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذين لم يأكلوا بالصوم الذي هو الإمساك كما أمر الآكلين. قيل له: لا يجوز ذلك من وجهين: أحدهما: أن الأمر بالصوم يقتضي أن يكون صومًا شرعيًا صحيحًا، ولا يجوز حمله على إمساك ليس بصوم شرعي إلا بدلالة. والثاني: أنه أمر الآكلين بالقضاء دون غيرهم، ولو لم يكن صوم، لم يتقدم فيه الأكل منهم صومًا صحيحًا، لكانوا مأمورين بالقضاء، فهذا يدل على سقوط هذا السؤال. فإن قيل: كيف يستدل بصوم عاشوراء على صوم شهر رمضان، وهو منسوخ قد ارتفع حكمه؟ قيل له: جهة الدلالة على ما قلنا صحيحة، من قبل أن الأمر بصوم عاشوراء قد انتظم أحكامًا، منها: لزوم فرضه، ومنها: أن كل صوم مستحق العين يجوز ترك النية فيه من الليل، فإذا نسخ الوجوب، لم ينسخ

كل صوم مستحق العين ما انتظمه من الأحكام الأخر. ألا ترى أن الصلاة إلى بيت المقدس منسوخة، ولم يوجب نسخ التوجه إليه نسخ سائر أحكام الصلاة، وكذلك فرض صلاة الليل منسوخ، ولم يوجب ذلك نسخ أحكام الصلاة كلها. وليس يمتنع الاستدلال بقوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر من القرءان}: على وجوب قرض القراءة في سائر الصلوات، وإن كان فرض صلاة الليل قد نسخ، فكذلك ما وصفنا من أمر صوم يوم عاشوراء. فإن قيل: لما كانت النية شرطا في صحته، كان عدم النية في أوله كوجود الأكل منه، فلما كان وجود الأكل منه مانعا من صحة باقي آخر النهار صوما، فكذلك عدم النية. قيل له: ليس كذلك، من قبل أنه قد جاز صوم التطوع بنية مبتدأة في بعض النهار، ولم يكن عدم النية في أول النهار بمنزلة فيه، فدل على فساد اعتلالك، وصح أن عدم النية في أول النهار لا يمنع كون باقي آخر النهار صوما صحيحا فيما كان مستحق العين. * ومن جهة النظر: اتفاق الجميع على جواز صوم التطوع بنية مبتدأة في بعض النهار، والمعنى فيه أن الذي يحتاج إليه في صحة صوم التطوع إنما هي نية الصوم فحسب.

وكذلك عندنا في صوم شهر رمضان الذي يحتاج إليه منه وجود نية الصوم فحسب، فوجب أن تكون نية مبتدأة في بعض النهار قبل الزوال. وإن شئت نصبت المعنى في التطوع أنه متعلق بالعين ليس في الذمة، وكذلك صوم رمضان متعلق بالعين لا في الذمة، فكان بمنزلة التطوع في جواز ترك النية فيه من الليل. فإن احتجوا بما روت حفصة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل". قيل له: هذا محمول على ما كان في الذمة من الصوم، بالدلائل التي قدمنا؛ لأنه متى أمكننا الجمع بين دلائل الأخبار وإثبات فوائدها، لم يجز لنا إسقاط بعضها ببعض، والاقتصار على حكم واحد منها دون سائرها. وكما لم يمنع هذا الخبر من صحة صيام التطوع بنية يبتدئها في بعض النهار، كذلك لا يمنع صحة صيام شهر رمضان بنية يبتدئها من بعض النهار. وأيضا يحتمل أن يريد: لا صيام تام كامل إلا أن ينويه من الليل؛ لأنه يستحق عليه كمال ثواب الصوم إذا تقدمت له النية من الليل، وإذا نوى في بعض النهار: لم يستحق الثواب على ما تقدم من الإمساك في آخر النهار قبل نية الصوم. * وإنما شرط أصحابنا وجود النية قبل الزوال، ولم يعتبروا وجودها

بعد الزوال، من قبل أن موجبي النية لكل يوم من صيام شهر رمضان على قولين: منهم من شرطها في الليل، ومن أجاز تركها من الليل، وشرطها في بعض النهار، فإنما أجزها إذا نواه قبل الزوال، ولم يقل منهم أحد أنه يجزيه بعد الزوال، فسقط هذا القول، وثبت أنها مشروطة قبل الزوال من حيث كان ما عداها من شرطها بعد الزوال خلاف الإجماع. [النية لصوم التطوع:] * وأما صوم التطوع: فإن الأصل في جواز ترك النية فيه من الليل ما حدثنا ابن قانع قال: حدثنا إسماعيل بن الفضل بن موسى قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن السلمي البلخي قال: حدثنا عمر بن هارون عن يعقوب بن عطاء عن أبي رباح عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح ولم يجمع الصوم، فيبدو له، فيصوم". وروي عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما دخل عليها فيقول: هل عندكم شيء؟ فيقولون: لا، فيقول: فإني إذا صائم". [النية لصوم ما في الذمة:] * وأما ما كان في الذمة من الصيام، فإنما احتيج فيه إلى إيجاد النية

من الليل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل". وعمومه ينتظم سائر الصيام، إلا أنا خصصنا منه الصوم المستحق العين والتطوع بما ذكرنا، وفي حكم العموم ما كان في الذمة. مسألة: [إذا نوى الصوم ثم أغمي عليه قبل الفجر] قال أبو جعفر: (ومن نوى الصوم في الليل من شهر رمضان، فأغمي عليه قبل الفجر، وأصبح كذلك: أجزأه صوم ذلك اليوم). لأن النية قد صحت له من الليل، وليس شرط صحة الصوم أن تكون النية مقارنة لأوله؛ لأنه لو نوى، ثم نام وانتبه بعد ما أصبح: صح له الصوم، كذلك الإغماء في هذا بمنزلة النوم. مسألة: قال: (ومن سافر قبل الفجر: فله الإفطار). لقول الله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}.

* قال: (ومن سافر بعد الفجر: لم يفطر ذلك اليوم، فإن أفطر من عذر أو من غير عذر: كان عليه القضاء، وليس عليه الكفارة). وإنما لزمه صوم ذلك اليوم؛ لأنه قد دخل في الجزء الأول منه، فلزمه تصحيحه بصوم باقي آخر النهار، لقول الله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم}، وفي إفطاره إبطال للجزء المفعول من الصوم أن يكون صوما شرعيا، إذ لا يصح صوم أوله إلا بصوم باقي أجزائه. وإنما لم تجب عليه كفارة: من قبل أن كفارة شهر رمضان تسقط بالشبهة كالحدود؛ لأنها عقوبة. والدليل على ذلك: أنها لا تستحق إلا بضرب من المأثم، فلما كانت الحدود مما تسقط بالشبهة، كان كذلك كفارة شهر رمضان. وإذا ثبت ذلك: قلنا: إن حال السفر في الأصل لما كانت حالا تبيح الإفطار، صار وجودها شبهة في سقوط الكفارة؛ وإن لم تبح له الإفطار في هذا اليوم بعينه في السفر، كما أن الملك والنكاح لما كانا سببين لإباحة الوطء له، كان وجودهما مانعا من وجوب الحد، وأيضا: لم يبحا الوطء في حال الحيض والنفاس. مسألة: [من أكل أو شرب ناسيا لم يفطر] قال: (ومن أكل أو شرب أو أتى ما سوى ذلك مما يمنع منه الصائم

في شهر رمضان نهارا، ناسيا لصومه: فلا قضاء عليه، ومضى في صومه). وذلك لما حدثنا عن الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا هوزة بن خليفة قال: حدثنا عوف عن حلاس ومحمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صام أحدكم يوما فنسي فأكل وشرب: فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه". وحدثنا دعلج بن أحمد حدثنا ابن أحمد الحضرمي قال: حدثنا محمد بن مرزوق قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أكل ناسيا في شهر رمضان: فلا قضاء عليه ولا كفارة". وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نسيت فأكلت وشربت وأنا صائم، فهل علي قضاء؟ قال: "ذلك طعام أطعمك الله وسقاك".

فهذه الآثار تنفي وجوب القضاء على الناسي؛ لأن قوله: "فليتم صومه": يقتضي أن يكون صومه الأول باقيا حتى يصح إتمامه، ونص في الخبر الآخر على نفي القضاء. وأيضا: قد اتفق فقهاء الأمصار على أن أكل الناسي لا يفسد صوم التطوع، فوجب أن يكون الفرض مثله؛ إذ لا يختلفان في أن ترك الأكل من شرائط صحتها. والقياس عند أصحابنا يوجب القضاء على الأكل ناسيا، كما لو أكل في صلاته ناسيا، أو جامع فيها ناسيا؛ لأن أكثر أحوال النسيان أن يكون عذرا في إباحة الأكل، والعذر لا يسقط القضاء كالمريض والمسافر، وكما لو نسي الصوم رأسا، أو أفطر وهو يرى أن الشمس قد غابت، ثم علم أنها لم تغب، أو تسحر وعنده أن الفجر لم يطلع وقد طلع؛ إلا أنهم تركوا القياس للأثر، وقد بينا فيما سلف أن الأثر مقدم على النظر. فإن قيل: فهلا قست عليه المكره على الأكل، والذي يفطر وهو يرى أن الشمس قد غابت، بعلة أنه لم يقصد إلى إفساد الصوم بالأكل. قيل له: هذا السؤال ساقط عنا من وجهين:

أحدهما: أنا لا نقيس على المخصوص إلا أن تكون علته مذكورة في الخبر، وليس في خبر الأكل ناسيا علة توجب القياس. فإن قيل: قوله: "إن الله أطعمك وسقاك": تنبيه على العلة. قيل له: فهذه العلة غير موجودة في الأكل والشرب مكرها. والوجه الآخر: أن هذه العلة منتقضة لوجودها في الحيض، مع انتقاض الصوم به. فإن قيل: قد جعلت الجماع كالأكل والشرب في حال النسيان. قيل له: لم نلحقه به من جهة القياس، وإنما جعلناه مثله بالاتفاق؛ لأن الناس في ذلك على قولين: منهم من يقول يفطره الأكل ناسيا، وكذلك الجماع. ومنهم من يقول: لا يفطره واحد منهما. فاتفق الجميع على اتفاق حكم الأكل والجماع في صحة الصوم معهما أو فاسده. فلما صح عندنا أن الأكل ناسيا لا يفطره: كان الجماع مثله بالاتفاق. مسألة: [وجوب القضاء والكفارة في الجماع والأكل عامدا] قال أبو جعفر: (ولو فعل ذلك عامدا: كان عليه في الجماع في الفرج والأكل والشرب القضاء والكفارة، ولم يكن عليه فيما سوى ذلك إلا القضاء خاصة بلا كفارة).

وأما وجه إيجاب الكفارة على الآكل والشارب، فهو ما: حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثنا محمد بن الصباح قال: حدثنا إسماعيل بن زكريا عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن طلق بن حبيب عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أفطرت يوما في شهر رمضان. قال: "أعتق رقبة". قال: لا أجدها. قال: "فصم شهرين متتابعين". قال: لا أستطيع. قال: "أطعم ستين مسكينا". قال: لا أجده. فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بكيل نحو خمسة عشر صاعا، أو عشرين صاعا، فقال: "تصدق بها". فقال: يا رسول الله! ما بين لابتيها احد أحوج مني ومن أهلي. قل: "فأطعه أهلك، وصم يوما مكانه". فلما لم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهة التي بها وقع الإفطار، صار ذلك بمنزلة عموم لفظ من النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب الكفارة بكل ما يوجب الإفطار، إلا ما قام دليه. وقد روى في أخبار أخر من أخبار أبي هريرة رضي الله عنه "أن رجلا قال: جامعت أهلي، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة".

ولا يجب حمل الخبرين على معنى واحد، بل نحمل كل واحد منهما على فائدة مجددة غير فائدة الآخر، فيكون هذا أولى من الاقتصر بها كلها على فائدة واحدة، إذ لم يثبت أن راوي الخبرين واحد، وأنهما خبر واحد. ويدل على صحة قولنا: اتفاق الجميع من فقهاء الأمصار على أن وجوب الكفارة غير مقصور على الجماع الذي ورد به الأثر؛ لأن مالك بن أنس يوجبها على كل مفطر غير معذور، والشافعي يوجبها بالإيلاج في إحدى السبيلين من الرجل والمرأة، ومن البهيمة أيضا، وهذا لم يرد فيه أثر. وأصحابنا يوجبونها بحصول إفساد صوم شهر رمضان بضرب من المأثم، فحصل من اتفاق الجميع: أن هناك معنى به تعلق وجوب الكفارة، غير ما ورد به الأثر الذي ذكر فيه الجماع، فاحتجنا أن ننظر أي هذه المعاني أولى بالاعتبار في إيجاب الكفارة به، فقلنا: لما كانت هذه الكفارة مستحقة بالمأثم، اعتبرنا المأثم الذي استحقه بالجماع، فوجدنا مثله في الأكل والشرب، فوجب أن يكون عليه فيهما من الكفارة مثل ما في الجماع. والدليل على أن مأثم الأكل مثل مأثم الجماع: أنه ينتهك من حرمة

الصوم، ويحصل به من كفران النعمة مثل ما فعله بالجماع، وذلك أن نعمة الله على الآكل في تمكينه من الأكل، أعظم من نعمته عليه في تمكينه من الجماع؛ لأن في فقد الأكل تلف النفس، وليس في فقد الجماع أكثر من فقده لذته، فهو يستحق لا محالة بترك الأكل في الصوم من الثواب، أكثر مما يستحقه بترك الجماع، فكان بإفساده للصوم بالأكل مبطلا لما كان يستحقه من الثواب، فبان بذلك أن المفطر بالأكل أعظم مأثما من المفطر بالجماع. فلما كانت هذه الكفارة متعلقة بالمأثم، وكان مأثم الأكل مثل مأثم الجماع، وجب أن يكون عليه من الكفارة مثل ما على المجامع، فكان اعتبار ذلك أولى من اعتبار الإيلاج في أحد السبيلين، إذ لم يكن لذلك تأثير في جهة المأثم ليس لغيره. وهو أولى من اعتبار الإفطار لغير عذر أيضا، من قبل أن مأثم المجامع فيما دون الفرج، والمستقيء عمدا، أقل من مأثم المجامع في الفرج، فكان بمنزلة الجماع فيما دون الفرج في امتناع وجوب الحد به. وكفارة شهر رمضان مشبهة للحد في باب تعلقها جميعا بالمأثم، واستحقاقها على جهة العقوبة. وأيضا: فإن من يوجبها بالجماع فيما دون الفرج، فإنما يوجبها قياسا على الجماع في الفرج، ولا يجوز عندنا إثبات الكفارات بالقياس. فإن قيل: فأنتم توجبونها بالأكل والشرب قياسا. قيل له: ليس كذلك؛ لأنا إنما أثبتنا المعنى باتفاق الجميع على أن وجوبها غير مقصور على الجماع الذي ورد فيه الأثر، وأن هناك معنى مرادا بالخبر، به تعلق الحكم، غير ما ورد الأثر فيه.

ثم استدللنا على ذلك المعنى بالأصول، وقلنا: إنه أولى بالاعتبار من غيره، وليس في ذلك إثبات كفارة بقياس، وإنما فيه الاستدلال على أنه أول بالاعتبار من غيره، وليس في ذلك إثبات كفارة بقياس، وإنما فيه الاستدلال على المعنى بما وصف وصفنا. قال الشيخ أحمد: ومن الناس من لا يرى إيجاب الكفارة على المفطر في شهر رمضان رأسا، منهم ابن علية وغيره، وإنما نفوها لورودها من جهة أخبار الآحاد، وليس من أصلهم قبولها. ويدفعون وجوبها أيضا من جهة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمفطر حين أعطاه طعام الكفارة، فشكا الحاجة، فقال له: "كله أنت وعيالك"، ولو كانت كفارة واجبة ما جاز له أن يأكل منها. وهذا لا يدل على ما قالوا؛ لأنه لم يقل له: "كله أنت وعيالك، ولا شيء عليك". ويجوز أن يكون أباح له أكله، وتكون الكفارة في ذمته إلى أن يقضيها. * وأما وجوب القضاء؛ فلما رواه ابن أبي أويس عن أبيه عن الزهري

عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي وقع على امرأته في شهر رمضان: "صم يوما مكانه". وروى عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وروى هشام بن سعد عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. فصل: [كفارة الفطر عمدا في رمضان] قال أبو جعفر: (والكفارة في ذلك: عتق رقبة يجزئ فيها المؤمن وغير المؤمن، فإن لم يجد: فصياح شهرين متتابعين، فإن لم يستطع: أطعم ستين مسكينا). وذلك لما روى الأوزاعي وابن عيينة في آخرين عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للرجل الذي قال: جامعت أهلي في شهر رمضان: "أعتق رقبة". قال: لا أجد. قال: "صم شهرين متتابعين". قال: لا أستطيع. قال: "أطعم

ستين مسكينا". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن محمد بن داود الدقاق قال: حدثنا محمد بن خليد قال: حدثنا مالك عن الزهري بإسناده مثله. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا هشيم عن إسماعيل بن سالم عن مجاهد قال: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أفطر يوما من شهر رمضان بمثل كفارة الظهار". فإن قيل: روى القعنبي عن مالك عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رجلا أفطر في شهر رمضان، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين، أو يطعم ستين مسكينا". قيل له: لم يذكر فيه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قال: "أمره بكيت وكيت"، ويحتمل أن يكون مراده أن يعتق إن وجد، أو يصوم إن لم يجد، أو يطعم إن لم يقدر على الصوم، والأخبار التي قدمنا أولى بالاستعمال؛ لأنها مفسرة.

وقد ذكر مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بمثل كفارة الظهار. [مسألة: جواز عتق رقبة غير مؤمنة في الكفارة] وإنما جاز غير المؤمنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أعتق رقبة"، من غير شرط الإيمان، فهو عام في الجميع. فإن قيل: قال الله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون}، والكافر خبيث. قيل له: الذي أنفقه هو العتق، وعتقه ليس بخبيث، ولا رقبته، وإنما الخبيث منه كفره، ولا خلاف في أن عتق الكافر قربة، فكيف تكون القربة خبيثا. فإن قيل: فهلا قستها على كفارة القتل؟ قيل له: لا يجوز ذلك عندنا من وجهين: أحدهما: أنا لا نزيد في النص بالقياس.

والثاني: أنه لا يجوز إثبات الكفارات قياسا. فإن قيل: ما أنكرت أن يحوز الخاص صفة بالمنصوص قياسا، كما جعلت التيمم إلى المرفقين قياسا على الوضوء. قيل له: لم نوجبه كذلك قياسا، بل بالنص لما في حديث عمار، والأسلع رضي الله عنهما. مسألة: [مقدار الطعام في كفارة رمضان] قال أبو جعفر: (ويطعم كل مسكين نصف صاع من بر، أو صاعا من تمر). وذلك لما روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر البياضي. ذكر صخر رضي الله عنه قصة ظهاره من امرأته، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "انطلق إلى صاحب صدقات بني زريق، فانظر ما اجتمع عنده من صدقاتهم، فأطعم وسقا ستين مسكينا، واستعن بسائره عليك وعلى عيالك"، ففعلت ذلك. وروى يحيى بن زكريا عن محمد بن إسحاق عن معمر بن عبد الله

عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: حدثتني خولة بنت مالك بن ثعلبة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعان زوجها حين ظاهر منها بفرق من تمر، وأعانته هي بفرق آخر، وذلك ستون صاعا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدق به". فإن قيل: قد روى عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى سلمة بن صخر قريبا من خمسة عشر صاعا، فقال: "تصدق بهذا". قيل له: لم يقل له: يجزيك عن جميع الكفارة، فلا دلالة فيه على الخلاف. وأيضا فإنما كان على وجع المعونة ببعض الكفارة، كما روى إسحاق عن يزيد بن زيد أن زوج خولة رضي الله عنها ظاهر منها، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا. فإن احتجوا بما رواه عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن معمر عن عبد الله بن حنظلة عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن خولة رضي الله عنها "أن زوجها ظاهر منها، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بخمسة عشر صاعا على ستين مسكينا". قيل له: لم يقل: إنه يجزي من الكفارة، وإنما هي بعضها، بدلالة

الأخبار التي ذكرنا. وأيضا: ففي أخبارنا زيادة، فهي أولى. وإذا ثبت ذلك في الظهار، كانت كفارة شهر رمضان مثلها؛ لأن أحدا لك يفرق بينهما في مقدار الطعام. * ولما ثبت من التمر صاع، وجب أن يكون من البر نصف صاع، لأن كل من أوجب من التمر صاعا، أوجب من البر نصف صاع. وأيضا: هي بمنزلة صدقة الفطر، لما كان التمر صاعا: كان البر نصف صاع عندنا، وكذلك هذا قياسا عليها، والمعنى الجامع بينهما أنها صدقة مقدرة من الطعام. مسألة: [تداخل كفارات رمضان] قال: (ومن أفطر يوما من شهر رمضان، فلم يكفر حتى أفطر يوما آخر منه: لم يلزمه إلا كفارة واحدة). وذلك لأن السائل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "جامعت"، وقال: "أفطرت"، وذلك يتناول المرات الكثيرة، كما يتناول المرة الواحدة، ثم لم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد ما أفطر منه، ألزمه كفارة واحدة، فصار كعموم لفظ من النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب كفارة واحدة على كل من أفطر مرة، أو مرارا. وأيضا: لما كانت كفارة شهر رمضان واجبة لحرمة الشهر، لا لانتهاك حرمة الفرض، بدلالة أنها غير واجبة في قضاء شهر رمضان، ثم كانت

للشهر حرمة واحدة؛ لأنه لم يتخلله صوم من غيره، وحصلت تلك الحرمة منهكة، لم تبق هناك حرمة للشهر في الحكم يتعلق بها وجوب الكفارة. ألا ترى أن حرمة الشهرين المتتابعين في الظهار لما كانت حرمة واحدة في حكم التتابع، لأنهما لا يتخللهما صوم من غيرهما، كان متى انتهك بإفساده الصوم: أبطل ذلك حكم التتابع، حتى لم يبق له حكم، كذلك حرمة شهر رمضان التي يتعلق وجوب الكفارة بها، متي ما انتهكها، لم تبق للشهر حرمة تنتهك، كما لم تبق في صوم الشهرين حكم التتابع، فلم تجب به كفارة أخرى. وليس يلزمنا على هذا القضاء؛ لأن إيجاب القضاء غير متعلق بانتهاك الحرمة، وإنما هو متعلق بإفساد الفرض، بدلالة أن المعذور وغيره يستويان في لزوم القضاء، ويختلفان في لزوم الكفارة. وأما إذا كفر، فقد جبر ما انتهكه من حرمة الشهر، فصار بمنزلة من لم ينتهك، فوجب عليه كفارة أخرى بالجماع الثاني. ودليل آخر: وهو أن كفارة شهر رمضان لما كانت مستحقة للمأثم، وتسقطها الشبهة، أشبهت الحدود، فلما كان اجتماع الحدود من جنس واحد، مما له حرمة واحدة، يوجب الاقتصار على واحد منها، وإسقاط سائرها، كان كذلك حكم كفارة شهر رمضان. ألا ترى أن من زنى مرارا، لم يجب عليه إلا حد واحد. فإن قيل: فلو زنى بامرأتين، لم يجب إلا حد واحد، ولو أفطر في شهر رمضان لزمته كفارتان. قيل له: إنما اختلفتا في هذا الوجه من قبل أن حرمة الزنى لم تتعلق

بأعيان النساء، وإنما تعلقت بالفعل، وحرمة الكفارة تعلقت بأعيان الشهور، فصار في كل شهر كالحدود المختلفة، فلا يسقط بعضها بعض مسألة: [إباحة التقبيل للصائم إذا أمن على نفسه] قال أبو جعفر: (وللصائم أن يقبل زوجته إذا أمن على نفسه ما سوى ذلك). وذلك لما روى جابر بن عبد الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: هششت يوما، فقبلت وأن صائم، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إني صنعت اليوم أمرا عظيما، قبلت وأنا صائم. فقال: "أرأيت إن تمضمضت من الماء"؟ فقال: إذا لا يضر. قال: "فصم". وروى علي بن أبي طالب وعائشة وحفصة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم. قال عائشة رضي الله

عنها: وكان أملككم لإربه، فدل هذا علي معنيين: أحدهما: إباحة القبلة للصائم، وأن ذلك مقصور على الحال التي يملك فيها إربه. وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "رخص النبي صلى الله عليه وسلم في القبلة للصائم". ويدل على أن إباحة القبلة مقصورة على الحال التي لا يخاف فيها على نفسه من سواها: ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا إسرائيل عن أبي العنبس عن الأغر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشر للصائم. قال: "فرخص له"، وأتاه آخر فسأله، فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ، والذي نهاه شاب. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن شاذان الجوهري قال: حدثنا موسى بن داود الضبي قال: حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي

حبيب عن قيصر التجيبي عن عبد الله بن عمرو أن شابًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم، فنهاه، وسأله شيخ فرخص له، فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد علمت لم نظر بعضكم إلى بعض"، وقال: "إن الشيخ يملك نفسه". فدلت هذه الآثار على افتراق حال من يملك نفسه، ومن لا يملكها في حال إباحة القبلة وحظرها. فإن قيل: روي عن سالم عن أبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فرأيته لا ينظرني، فناديته يا رسول الله ما شأني؟ فالتفت إلي، فقال: "أو لست المقبل وأنت صائم؟ " فقلت: والذي نفسي بيده، لا قبلت امرأة وأنا صائم أبدًا. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال: حدثنا إسرائيل عن زيد بن جبير عن ميمونة بنت عتبة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم "أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل قبل امرأة وهما صائمان". قال: "هذا فطر". قيل له: أما حديث عمر هذا، فلا يجوز إثبات حكم به رأسًا؛ لأن الأحكام لا تثبت بالمنامات. وعلى أن ما رواه عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، أولى مما رواه عنه في حال النوم بعد موته؛ لأن الشريعة الثابتة في حال حياة النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز ورود النسخ عليها بعد موته. وأما حديث ميمونة بنت عتبة، فيحمل على أن يكون المقبل أنزل، فأوجب عليه القضاء من أجله، فيجمع بينه وبين الأخبار التي روينا. ولأنا لا نعلم خلافًا بين أهل العلم أن القبلة لا تفسد الصوم ما لم

يحدث عنها إنزال. فإن قيل: لما كان الصائم ممنوعًا من الجماع، وجب أن يمنع القبلة واللمس كالمحرم. قيل له: المحرم ممنوع من الجماع ودواعيه، بدلالة أن ممنوع من الطيب، والصائم غير ممنوع من دواعي الجماع، ألا ترى أنه غير ممنوع من الطيب. فصل: [إن قبل الصائم فأنزل] قال أبو جعفر: (فإن قبل فأنزل وهو ذاكر لصومه: فعليه القضاء، ولا كفارة عليه). وإنما لزمه القضاء؛ لما روي في حديث ميمونة بنت عتبة رضي الله عنها في إيجاب الإفطار بالقبلة، ومعلوم أنه كان لأجل الإنزال. وأيضًا: فإن الإنزال لما حصل عن مباشرة، وجب أن يفسد الصوم كالجماع فيما دون الفرج. * ولا تجب الكفارة؛ لأن مأثمه دون مأثم المجامع في الفرج، فلم تجب فيه كفارة. ألا ترى أن الجماع فيما دون الفرج لا يوجب الحد وإن كان من أجنبية، وكفارة شهر رمضان يشبه الحد؛ لأن كل واحد منهما واجب على وجه العقوبة، بدلالة أنهما يستحقان المأثم، وتسقطها الشبهة.

مسألة: [لا كفارة على من أكل وهو يرى أن عليه ليلًا] قال: (ومن أكل وهو يرى أن عليه ليلًا، ثم علم أنه أكل نهارًا: كان عليه القضاء، ولا كفارة عليه). والأصل في ذلك: أن كل مفطر معذور، فعليه القضاء ولا كفارة عليه، والدليل عليه المسافر والمريض لما عذرهما الله في الإفطار، أوجب عليهما القضاء، ولم يوجب الكفارة. * ويمسك بقيه يومه، وإن كان مفطرًا، والأصل فيه: أن كل مفطر طرأت عليه حال في بعض النهار، مما لو كان موجودًا في أوله: لزمه الصوم، كذلك إذا طرأت عليه في بعض النهار: لزمه الإمساك. وكل حال طرأت عليه في بعض النهار مما لو كان موجودًا في أوله: لم يلزمه معه صوم، كذلك إذا طرأ عليه وهو مفطر: لم يلزمه معه الإمساك عن الأكل والشرب. ومن أجل ذلك قلنا في المسافر إذا قدم مصره في بعض النهار وقد أفطر: أنه يمسك عما يمسك عنه الصائم؛ لأن حال الإقامة لو كانت موجودة في أول النهار: لزمه معها الصوم. * وكذلك الحائض إذا ظهرت في بعض النهار: لزمها الإمساك؛ لأن الطهر من الحيض لو كان موجودًا في أول النهار: لزم معه الصوم.

فأما الحائض إذا حاضت في آخر النهار: فليس عليها الإمساك؛ لأن الحيض لو كان موجودًا في أول النهار: لم يجب معه صوم. فإن قيل: المقيم إذا سافر لا يجوز له الإطار، ولو كانت حال السفر موجودة في أول النهار لجاز له الإفطار. قيل له: إنما جعلنا على ما ذكرناه علة للإمساك، وتركه للمفطر، فأما علة إباحة الإفطار أو حظره، فمعنى آخر غير ما وصفنا. والدليل على صحة الأصل الذي قدمنا ذكره: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث يوم عاشوراء إلى أهل العوالي، فقال: "من أكل منكم: فليمسك بقية يومه، ومن لم يأكل: فليصم". فأمر الآكلين بالإمساك مع كونهم مفطرين؛ لأنهم لو لم يكونوا أكلوا، كانوا مأمورين بالصيام، فصار ذلك أصلًا فيما وصفنا من نظائره من المسائل: مسألة: [عدم الإفطار بالحجامة] قال أبو جعفر: (ولا بأس بالحجامة للصائم) وذلك لما حدثنا دعلج قال: حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا إسحاق بن راهويه قال: حدثنا المعتمر بن سليمان عن حميد الطويل عن

أبي المتوكل عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: "رخص النبي صلى الله عليه وسلم في القبلة للصائم، والحجامة". وقد قيل: إنه لم يرفعه عن حميد إلا المعتمر بن سليمان، وهو في الثقات. وحدثنا دعلج قال: حدثنا علي بن إسحاق بن عيسى الطماع قال: حدثنا يعلى بن داود بن زكريا الواسطي قال: حدثنا إسحاق الأزرق قال: حدثنا سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم". وحدثنا دعلج قال: حدثنا محمد بن علي بن زيد قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا يفطرن الصائم: القيء، والحجامة، والاحتلام".

وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبيد بن شريك البزاز قال: حدثنا أبو المهاجر قال: حدثنا عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه، بإسناده مثله. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن حنيفة الفضي بواسط قال: حدثنا الحسن بن جبلة، قال: حدثنا سعد بن سالم عن الثوري عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يفطر الصائم القيء ولا الحجامة، ولا الاحتلام". وروى ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم". * وأما ما روى ثوبان وشداد بن أوس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفطر الحاجم والمحجوم".

فلا دلالة فيه على الإفطار بالحجامة؛ لأنه إنما أشار به إلى عين، كذا روي في الخبر أنه مر على رجل يحجمه آخر في شهر رمضان فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم". فكان ذكر الحجامة فيه لتعريف العين، لا أنه علق الحكم بها، وهو كقولك: أفطر القائم، وأفطر القاعد: إذا أشرت به إلى شخص بعينه، لم يعد إيجاب الإفطار لأجل القيام والقعود، ومثل قولك: أفطر زيد. وعلى أن خبر الإباحة متأخر عن الحظر، وذلك لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حسين بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن سهم قال: حدثنا عيسى بن يونس عن أيوب بن محمد اليمامي عن المثنى بن عبد الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة ثماني عشرة من شهر رمضان برجل وهو يحتجم، فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم"، ثم أتاه رجل بعد ذلك فسأله عن الحجامة في شهر رمضان فقال: "إذا تبيغ بأحدكم

الدم، فليحتجم". وروى أبان بن أبي عياش عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفطر الحاجم والمحجوم"، فشكا إليه الناس الدماء، فرخص للصائم أن يحتجم. فتبين في هذا الخبر تأخر الإباحة عن الحظر، فكان أولى. فإن قيل: قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم، ثم كرهها بعد للصائم". قيل له: ذكر مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم، فغشي عليه، فلذلك كرهه، والكراهية لا توجب الإفطار. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: "أفطر الحاجم والمحجوم": إبطال ثواب الصوم؛ لأنهما كانا يغتابان على ما روي في بعض الأخبار.

كما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبد الله بن الصفر بن هلال العسكري قال: حدثنا داود بن رشيد قال: حدثنا بقية عن محمد بن الحجاج عن جابان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس يفطرن الصائم: الكذب، والغيبة، والنميمة، والنظرة بالسوء، واليمين الكاذبة". وأيضًا: لو تعارضت الأخبار، كان ما تشهد له الأصول أولى بالاستعمال، والأصول شاهدة بنفي الإفطار بالحجامة، وذلك لأنه لا خلاف أن الفصد والجراحة وسائر ما يوجب إخراج الدم من البدن لا يوجب الإفطار، فوجب أن تكون الحجامة مثله. مسألة: [الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفًا من ضرر الصيام] قال أبو جعفر: (وإذا خافت الحامل والمرضع على ولديهما: أفطرتا، وكان عليهما القضاء، ولا إطعام عليهما مع ذلك). وذلك لأنهما معذورتان في الإفطار، ويرجى لهما القضاء، فأشبهتا المريض والمسافر في وجوب القضاء، وسقوط الإطعام. فإن قيل: قال الله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام

مسكين}. قيل له: قد اتفق الجميع على أن فيه إضمارًا؛ لأن إطاقة الصوم لا توجب الفدية بحال، ألا ترى أنه إذا لم يفطر لم تجب عليه فدية. وإذا ثبت أن في الآية ضميرًا، احتيج إلى دلالة من غيرها في إثبات حكمها؛ لأنه ليس أحد الخصمين أولى بدعوى مراد الضمير من صاحبه، وعندنا أن الضمير فيها: "وعلى الذين يطيقونه ثم يعجزون". وروي نحو ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما. وأيضًا: قد روي عن عبد الله بن مسعود وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهما أن الآية منسوخة، وأنها كانت في الصحيح المقيم؛ إن شاء صام، وإن شاء أفطر وفدى، ونسخها قوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}. فإذا أخر هذان أنها منسوخة بما ذكرا، ومعلوم أن ذلك لا يقال من طريق الرأي؛ لأنه حكاية حكم كان عليهم فنسخ، فصار ذلك توفيقًا. وأيضًا: فمن أوجب الفدية من السلف على الحامل والمرضع، لم

يوجب عليهما القضاء، وهو مذهب ابن عمر رضي الله عنهما، وإيجاب القضاء مع الفدية مخالف لمقتضى الآية وموجبها؛ لأن الفدية ما قام مقام الشيء، كقوله تعالى: {وفديناه بذبح عظيم}: يعني أقمناه مقامه في الذبح، وقال: {ففدية من صيام}: أي قائم مقام الحلق حتى يصير كأنه لم يكن. فإذا كان ذلك كذلك، امتنع وجوب القضاء والإطعام؛ لأن الإطعام فدية قائمة مقام الصوم، ومتى أوجبنا القضاء: لم يكن الإطعام فدية. وأيضًا: غير جائز أن تكون الآية في الحامل والمرضع، لما في سياقها من الدلالة على أنهما لم تردا بها، وهو قوله تعالى: {وأن تصوموا خيرٌ لكم}، والحامل والمرضع لا تخلوان من أن يضر صومهما بالولد أو لا يضر، فإن لم يضر: لم يجز لهما الإفطار، وإن كان يضر بالولد: لم يكن الصيام خيرًا لهما، والآية وردت فيمن إذا صام كان الصوم خيرًا له من تركه، فعلمنا أنه لم يرد بها الحامل والمرضع.

مسألة: [صيام الشيخ الفاني] قال: (ومن كبر فعجز عن الصوم، ويئس من القدرة عليه في المستأنف: أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينًا، مثل ما يطعم في صدقة الفطر). وذلك لما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين}: "أنه الشيخ والشيخة". وقال ابن عباس رضي الله عنه:"هم الذين يتكلفونه ولا يستطيعونه: الشيخ والشيخة". وأيضًا: لما كان ميؤوسًا منه الصوم مع بقاء التكليف عليه، صار كالذي عليه قضاء شهر رمضان، فيموت قبل أن يقضيه، فتكون عليه الفدية. مسألة: [وجوب قضاء الصوم على الحائض والنفساء] قال أبو جعفر: (وإذا حاضت المرأة، أو نفست، فأفطرت: قضت

أيام النفاس والحيض إن شاءت متتابعة، وإن شاءت متفرقة، فإن لم يمكنها القضاء حتى ماتت: فلا شيء عليها". وذلك لأنها معذورة كالمريض والمسافر، وقال تعالى فيهما: {فعدة من أيام أخر}. فإن أدركا الأيام: كفرا بالإطعام إذا ماتا قبل القضاء، وإذا لم يدركا الأيام: لم يكن عليهما شيء؛ لأنهما لم يلحقا وقت الفرض، وهو العدة من أيام أخر، فكانا بمنزلة من مات قبل مجيء شهر رمضان، فكذلك الحائض والنفساء. * وإنما كان لها أن تتابع إن شاءت، أو تفرق، لقول الله تعالى: {فعدة من أيام أخر}، فأوجبه في أيام منكورة غير معينة، واقتضى ذلك جواز فعله في أي أيام شاءت، ولو أوجبنا عليها التتابع: كنا قد عينا في الفرض في وقت بعينه؛ لأنه إذا صام يومًا لزمه صوم ما بعده في أيام تليه، وذلك خلاف موجب الآية. ومن جهة السنة ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبد الله بن عبد ربه البغلاني قال: حدثنا عيسى بن أحمد العسقلاني قال: حدثنا بقية بن الوليد عن سليمان بن أرقم عن الحسن عن أبي هريرة قال: قال

رجل: يا رسول الله! علي أيامٌ من شهر رمضان: فأفرق بينه؟ قال: نعم. أرأيت لو كان عليك دين فقضيته متفرقًا، أكان يجزيك؟ قال: نعم. قال: فإن الله أحق بالتجاوز والعفو. * ومن جهة النظر: أن التتابع صفة زائدة لا يجوز إيجابها إلا باللفظ؛ لأن فيه زيادة في النص، ولا تجوز الزيادة في النص إلا بنص مثله. [مسألة: أمكنها القضاء فلم تقض حتى ماتت] قال أبو جعفر: (وإن أمكنها القضاء، ففرطت في ذلك حتى ماتت: فقد وجب عليها أن يطعم عنها بكل يوم مسكينًا، كما يطعم في صدقة الفطر). وذلك لما روي عن عائشة رضي الله عنها: "أنهن كن يؤمرن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حضن بقضاء الصوم، ولا يقضين الصلاة". وإذا أدركت الأيام التي يمكنها فيها الصوم، فلم تصم، جعل الصوم في ذمتها، فإذا ماتت قبل القضاء: وجب عليها أن يقضى بالطعام. وذلك لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن بشر بن مطر أخو خطاب قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن سعد المستملي قال: حدثنا

إسحاق الأزرق عن شريك عن ابن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات وعليه شهر رمضان فلم يقضه، فليطعم عن مكان كل يوم نصف صاع لمسكين". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن راشد –كوفي- قال: حدثنا عمر عن أشعث عن سوار عن محمد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل مات وعليه صوم رمضان؟ قال: يطعم عنه لكل يوم مسكينًا". وفي الحديث الأول: "نصف صاع": فثبت أنه بمنزلة صدقة الفطر في مقدار الطعام. فإن قيل: روى ابن عباس رضي الله عنهما "أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين أكنت تقضيه؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى".

وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام: صام عنه وليه". قيل له: أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فإنما فيه ذكر القضاء، والقضاء يقع بالإطعام، فلا دلالة فيه على جواز الصوم عنها. وأيضًا: لفظ حديث عائشة رضي الله عنها في أن وليه يصوم عنه، محتمل أن يكون المراد منه الإطعام الذي يقوم مقام الصوم، فأطلق أن وليه يصوم عنه، ومعناه يقضي عنه ما يقوم مقام الصوم. * ومن جهة النظر: أن الصوم عبادة على البدن، فأشبه الصلاة والإيمان، لما لم يجز أن يقوم عنه فيه غيره: كذلك الصوم. فإن قيل: فقد يقضى عنه الحج بعد موته، وهو عبادة على البدن. قيل له: الحج عندنا يقع عن الحاج، وإنما يلحق الميت أجر النفقة. ويدلك على أن الحج يقع للحاج، أن شرطه: أن يكون قربة له، ألا ترى أنهم لو أحجوا عنه ذميًا: لم يصح؛ لأنه لا يكون قربة له، فدل على أن الحج يقع عن الحاج، وإنما يلحق بالميت أجر النفقة. [مسألة:] * قال أبو جعفر: (فإن أوصت بذلك: كان من الثلث). وذلك لما بينا فيما سلف من مسائل الزكاة، في أن كل ما كان طريقه العبادات: فإنه يسقط بالموت.

* قال: (فإن لم توصِ بذلك: لم يُخرج عنها من مالها، إلا أن يتبرع بذلك وراثُها). وذلك لما بينا، وإن تبرع وارثها: جاز، لما روي "أن سعد بن عبادة رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن أمه ماتت ولم توص، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم". فصل: [إن أمكنها قضاء بعض ما عليها، ثم ماتت] قال أبو جعفر: (وإن أمكنها قضاء بعض ما عليها، ولم يمكنها قضاء بعضه حتى ماتت ولم تقض ما أمكنها قضاؤه: فإن أبا حنيفة وأبا يوسف قالا: هذا والأول سواء، وقال محمد: لا يجب عليها من الأيام إلا مقدار ما قدرت على قضائه منها). قال أبو بكر أحمد: هذا الخلاف الذي ذكره لا نعرفه عنهم، بل المشهور من قولهم جميعًا: أنه لا يلزمها إلا قضاء ما أدركت من الأيام. ووجه ذلك: أن الله تعالى لما أعذر هؤلاء في الإفطار، ألزمهم القضاء في أيام أخر بقوله: {فعدة من أيام أخر}، فمن لم يلحق العدة: لم يلزمه، كمن مات قبل مجيء شهر رمضان، ومقدار ما أدرك من العدة قد ثبت في ذممهم، فلزمهم القضاء. والجواب الذي ذكره أبو جعفر عن أبي حنيفة وأبي يوسف، إنما نعرفه

فيمن قال وهو مريض: لله علي اعتكاف شهر، ثم مات قبل أن يبرأ، فلا يلزمه شيء، فإن صح يومًا ثم مات: فالواجب عليه قبل الموت أن يوصي بأن يقضى عنه جميع الشهر بالإطعام. وهذا صحيح، وليس من مسألة قضاء شهر رمضان في شيء، من قبل أن قضاء شهر رمضان متعلق في وجوبه بلحاق العدة، لقوله تعالى: {فعدة من أيام أخر}. أما النذر، فإنه ثبت في الذمة إذا كانت الذمة صحيحة، فلما نذر في حال المرض: لم يلزمه في ذمته في الحال؛ لأنها ليست ذمة صحيحة في باب ثبوت الصوم، فإذا برأ بعد ذلك: صحت ذمته، فكان بمنزلة من أوجب اعتكاف شهر وهو صحيح: يلزمه في ذمته، فإن حذره الموت بعد ذلك بساعة، كان عليه أن يوصي بأن يطعم عنه لكل يوم مسكين، وليس لزوم ذلك من حيث نذر الاعتكاف، إنما هو من جهة الصوم الذي تضمنه الاعتكاف. مسألة: [إباحة الفطر للمريض إذا ضره المرض] قال: (ومن خاف أن تزداد عينه وجعًا، أو يزداد حماه شدة: أفطر وقضى). وذلك لقول الله تعالى: {ومن كان مريضًا أو على سفرٍ فعدةٌ من

أيامٍ أخر}: يقتضي ظاهرة إباحة الإفطار لكل مريض، إلا أنه قد اتفق أهل العلم على أن المرض الذي لا يضر معه الصوم: لا يبيح الإفطار، فخصصناه من الظاهر، وبقي حكم اللفظ فيما عداه. وأباح النبي صلى الله عليه وسلم الإفطار للحامل والمرضع، لما يخافان على الولد من الضرر، فضرر نفسه أولى بإباحة الإفطار من أجله. وليس الضرر من هذا كالسفر؛ لأن ضرر السفر الذي يوجب قصر الصلاة يبيح الإفطار وإن لم يضره الصوم، ولا نعلم فيه خلافًا. مسألة: [ويمسك الصبي والكافر بقية يومهما عند البلوغ والإسلام] قال: (ومن بلغ من الصبيان، أو أسلم في يومٍ من شهر رمضان: أمسك عن الطعام بقية يومه، وصام ما بقي من الشهر). وذلك لقول الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، ومعلوم أن المراد شهود بعض الشهر بالتكليف؛ لأنه لو كان المراد شهود جميع

الشهر، لما لزمه صوم شهر رمضان إلا في شوال، فثبت أن شرط لزوم الصوم شهود بعض الشهر. ويمسك في ذلك اليوم وإن كان مفطرًا؛ لأن الإسلام والبلوغ لو كانا موجودين في أول النهار، كانا مأمورين بالصيام. وإنما لم يصح لهما ابتداء الصوم في بعض النهار وإن كان قبل الزوال، من قبل أن الكفر والصغر ينافيان صحة الصوم، فصارا كمن أكل في أول النهار، وكالمرأة إذا كانت حائضًا في أول النهار، ثم طهرت، فلم يجزئها صوم ذلك اليوم. ولا يجب على هذين قضاء هذا اليوم ولا ما قبله؛ لأن الكفر والصغر ينافيان صحة تكليف الصوم، أما الصبي فليس بمخاطب، وأما الكافر فلأن صحة صومه متعلقة بتقديم الإيمان عليه. مسألة: [حكم صوم المجنون والمغمى عليه] قال أبو جعفر: (ومن جن قبل شهر رمضان، فلم يزل كذلك حتى خرج الشهر، ثم أفاق: فلا قضاء عليه). لأن الله تعالى قال: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، وهذا لم يشهد شيئًا من الشهر. وأيضًا: فإن الجنون إذا دام استحق به الولاية، فصار كالصبي،

ويفارق الصبي من جهة أن الصبي إذا بلغ في بعض الشهر: لم يلزمه قضاء ما مضى منه، والمجنون إذا أفاق في شيء من الشهر: قضاه كله؛ لأن الجنون لا ينافي صحة الصوم. والدليل عليه: أنه لو نوى الصوم من الليل، ثم جن في النهار: لم يبطل صومه. والكفر بمنزلة الصغر في هذا؛ لأنه ينافي صحة الصوم، ألا ترى أن من ارتد وهو صائم: بطل صومه. فإن أفاق في شيء من الشهر: قضاه كله، لقول الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، وقد بينا أن المراد شهود بعض الشهر، فقد وجد شرط تكليف الصوم، فلزمه جميع الشهر، إذ كان الجنون لا ينافي صحة الصوم على ما بينا. * ومن أغمي عليه شهر رمضان كله: قضاه؛ لقول الله تعالى: {ومن كان مريضًا أو على سفرٍ فعدةٌ من أيامٍ أخر}، والمغمى عليه مريض، فلزمه القضاء بالعموم. وأيضًا: فإن الإغماء لا تستحق به الولاية، ولا ينافي صحة الصوم، فصار فيه كالنائم، فلزمه القضاء، وفارق الجنون؛ لأن الجنون يستحق به

الولاية عليه، فصار كالصغر. وأيضًا: فإن الإغماء لا يؤثر في العقل، بل العقل قائم، وإنما هناك عارض يمنع الإدراك والعلم، والجنون يؤثر في العقل، فيصير من هذا الوجه أيضًا بمنزلة الصغير. مسألة: [من رأى هلال رمضان وحده] قال أبو جعفر: (ومن رأى هلال شهر رمضان وحده: صام). وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته"، وهو خطاب لكل أحد في نفسه، فإن أفطر لم تكن عليه كفارة، لأن وجوب كفارة شهر رمضان متعلقة بإفساد صوم مستحق العين، والمستحق العين هو الذي يلزم فرضه الكافة، فلما لم يلزم فرضه غيره، إذ كان هو الرائي وحده، صار بمنزلة المفطر في قضاء شهر رمضان، وصوم كفارة اليمين، والنذر ونحوه، فلا تلزمه الكفارة. ووجه آخر: هو أن هذا اليوم لما كان محكومًا عند الإمام وسائر الناس بأنه من غير شهر رمضان، صار ذلك شبهة في سقوط الكفارة، كمن وطئ جارية بينه وبين غيره، فلا يجب عليه الحد، وكمن وطئ جارية على عقد فاسد عنده، وجائز عند غيره.

مسألة" [رؤية الواحد هلال شوال لا تبيح له الفطر] قال أبو جعفر: "ومن رأى هلال شوال وحده لم يفطر". وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فطركم يوم تفطرون"، فإذا كان محكومًا عند الناس بأنه من شهر رمضان، لم يسغ له أن يفطر، فيعرض له للتفسيق. فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم: "وأفطروا لرؤيته": يبيح له الإفطار بالرؤية. قيل له: يخصه ما ذكرنا من الدلالة. وأيضًا: فإن اللفظ إنما يتناول رؤية الجميع، لا رؤية الواحد. مسألة: [صيام من اشتبهت عليه الشهور وهو في دار الحرب] قال: (ومن اشتبهت عليه الشهور وهو في أرض الحرب، فتحرى شهرًا، فصامه، فهو على ثلاثة أوجه: إن صام قبل شهر رمضان: لم يجزه، وإن صام شهر رمضان، أو صام بعده: أجزأه). * أما إذا صام قبله فإنه لا يجزئه؛ لأن الفرض لا يقع موقعه إلا بحضور وقته، أو وجود سببه، وذلك معذور في الصوم قبل شهر رمضان، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم النحر: "إن أول نسكنا في يومنا هذا

الصلاة، ثم الذبح، فمن ذبح قبل الصلاة، فإنما هي شاة لحم قدمها لأهله، فليعد أضحيته"، كمن صلى الظهر قبل الزوال، فلا يجزئه. * وإن صادف شهر رمضان أجزأه؛ لقول الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، وهذا قد شهده وصامه. * وإن صام بعد شهر رمضان أجزأه؛ لأنه قد نوى ما عليه من فرض صوم شهر رمضان. فإن قيل: قد حصل عليه القضاء في ذمته، لفوات الوقت، فينبغي أن لا يجزئه إلا مع نية القضاء. قيل له: إذا نوى ما عليه من فرض الصوم: فقد أجزأ؛ لأن القضاء هو الذي عليه من فرضه. [مسألة:] قال: (فإن صام يوم الفطر، أو يوم النحر، أو أيام التشريق: لم يجزه). لأن هذه الأيام لا يجزئ صومها عن واجب؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام هذه الأيام، فيحصل صومه ناقصًا بالنهي، فلم يجزئه عن الفرض.

مسألة: [الشهادة برؤية هلال رمضان] قال أبو جعفر: (ويقبل في الشهادة على رؤية هلال شهر رمضان رجل واحد مسلم، أو امرأة مسلمة، عدلًا كان الشاهد بذلك أو غير عدل، بعد أن يكون شهد أنه رآه خارج المصر، أو أنه رآه في المصر وفي السماء علة تمنع العامة من التساوي في رؤيته). قال أبو بكر أحمد: قوله في الشاهد: "أنه تقبل شهادته على رؤية الهلال عدلًا كان، أو غير عدل": ليس بسديد؛ لأن من مذهب أصحابنا أنه لا تقبل في ذلك إلا شهادة عدل في نفسه، وتقبل فيه شهادة العبد، والمحدود في القذف، والمرأة بعد أن يكونوا عدولًا في دينهم. وذلك لأن هذا شيء من أمر الدين، ولا يقبل فيه إلا خبر العدل، مثل خبر الواحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يقبل إلا أن يكون مخبره عدلًا. والدليل على قبول خبر الواحد فيه: ما رواه سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت هلال شهر رمضان، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم. قال: يا بلال! أذن في الناس أن صوموا غدًا"، فدل هذا الخبر على معنيين:

أحدهما: قبول خبر الواحد في هلال شهر رمضان إذا كان بالسماء علة. والثاني: أن ظاهر الإسلام يوجب العدالة، وقبول الشهادة منه، ما لم يظهر منه ما يسقطها. وروى أبو بكر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه". قال أبو بكر أحمد: وقول أبي جعفر: "بعد أن يكون رآه خارج المصر": لا معنى له؛ لأن من أصلهم: أن خبره غير مقبول إذا لم تكن بالسماء علة، سواء كان في المصر أو خارج المصر، وإنما يقبل خبره إذا كان بالسماء علة، سواء كان في مصر أو غيره. [مسألة:] * قال: (وإن كان في المصر ولا علة في السماء، لم يقبل في ذلك إلا الجماعة). قال أبو بكر أحمد: وذلك لأنه لا يمتنع في العادة مع ارتفاع الموانع، وتساوي همم الجميع في طلب رؤية الهلال، مع صحة أبصارهم أن يختص بعضهم برؤيته دون الباقين، وإذا لم يخبر به الجماعات الكثيرة

التي يوجب خبرها العلم، لم يلتفت إليه. مسألة: [الشهادة على هلال شوال] قال أبو جعفر: (ولا يقبل في هلال الفطر إذا كان بالسماء علة إلا شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين أحرار عدول). قال أبو بكر: وكذلك عندهم هلال ذي الحجة، لا يقبل في رؤيته إلا شهادة من تقطع شهادتهم الخصومة. وذلك لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز قال: أخبرنا سعيد بن سليمان قال: حدثنا عباد عن أبي ملك الأشجعي قال: حدثنا حسين بن الحارث الجدلي –جديلة قيس- أن أمير مكة وهو الحارث بن حاطب أخو محمد بن حاطب، خطب ثم قال: "عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ننسك لرؤية الهلال، فإن لم نره وشهد شاهدا عدل، نسكنا بشهادتهما، وقد شهد هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، وأشار إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "بذلك أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم". ومعنى قوله: ننسك لرؤية الهلال: يريد به صلاة العيد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: "إن أول نسكنا في يومنا هذا: الصلاة، ثم الذبح". فسمى صلاة العيد نسكًا، فصار هذا الحديث أصلًا في هلال شوال،

أنه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين، كما شرط النبي صلى الله عليه وسلم. والخبر الأول أصل في قبول شهادة الواحد في هلال شهر رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل قول الأعرابي وحده فيه. وإذا صح ذلك في هلال شوال، كان حكم هلال ذي الحجة مثله، لأن أحدًا لم يفرق بينهما. ولأنهما متساويان في أن كل واحد منهما تتعلق به حقوق الناس، أما هلال شوال فالإفطار، وأما هلال ذي الحجة فالحج والنحر والإحلال من الحج، فلهم فيه منافع، فأشبهت الشهادة على حقوق الناس. وأما هلال شهر رمضان، فإنما يلزمهم فيه فرض لا يتعلق بشيء من حقوقهم، فقبلت فيه شهادة الواحد. وأيضًا: فإن حكم الصوم أن يستظهر له، ويحتاط فيه، ومن الاحتياط فيه أن يصام بقول الواحد، ويحتاط له بأن لا يفطر إلا بشهادة اثنين، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لأن أصوم يومًا من شعبان أحب إلي من أن أفطر يومًا من شهر رمضان". وروي نحو قولنا في هلال شوال عن علي، وعمر، وعبد الله بن

مسعود رضي الله عنهم أجمعين. مسألة: [رؤية الهلال في النهار] قال أبو جعفر: (وإذا رأى الهلال نهارًا: فهو لليلة الجائية، وقال أبو يوسف أخيرًا: إن كان قبل الزوال: فهو لليلة الماضية، وإن كان بعد الزوال: فهو لليلة الجائية). قال أبو بكر: قد روي نحو القول الأول عن علي وعبد الله بن مسعود، وعن عمر رضي الله عنه في إحدى الروايتين، وروي عنه رواية أخرى مثل قول أبي يوسف. وجه القول الأول: قول الله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل}، ولا يجوز إباحة الإفطار في بعض النهار. وأيضًا: لما اتفق الجميع على أن رؤيته بعد الزوال يوجب أن يكون

لليلة المستقبلة، وجب أن يكون كذلك حكم رؤيته قبل الزوال؛ إذ جائز أن تكون رؤيته قبل الزوال لكبره، لا لأنه لليلة الماضية، إذ قد يكون بعض الأهلة أكبر من بعض. وأيضًا: لو جاز اعتبار رؤيته نهارًا، لوجب أن يكون الصوم والفطر من وقت الرؤية، وهذا يوجب أن يكون بعض اليوم من شهر رمضان، وبعضه من شوال، وأن يكون الشهر تسعة وعشرين يومًا ونصفًا، وذلك خلاف السنة، والإجماع، فثبت أن لا عبرة برؤيته نهارًا، وأن الحكم متعلق برؤيته ليلًا. فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته": يقتضي إيجاب الصوم برؤيته نهارًا؛ لأنه لم يخص الليل دون النهار. قيل له: المراد لرؤية ماضية، لا لرؤية مستقبلة، ومعلوم أنه لا يلزمه صوم بعض النهار لرؤيته نهارًا، فعلم أنه أراد لرؤيته ليلًا. مسألة: [إباحة الكحل والسواك للصائم] قال أبو جعفر: (ولا بأس بالكحل والسواك للصائم).

أما الكحل، فلما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثنا محمد بن سليم قال: حدثنا حبان بن علي عن محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتحل بالإثمد وهو صائم". وأما السواك، فلما روى الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خير خصال الصائم السواك". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حسن بن إسحاق بن بهلول قال: حدثنا إسحاق بن عيسى الطماع عن القاسم بن عبد الله عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر العمري عن سالم بن عبد الرحمن عن أبيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستاك بالسواك الرطب وهو صائم". فإن قيل: إن السواك يذهب بالخلوف، والخلوف مستحب للصائم،

لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك". قيل له: السواك يزيد في الخلوف، لأن الخلوف يكون من الخواء والجوع، والسواك يزيد فيه. مسألة: [أثر القيء في الصيام] قال أبو جعفر: (ومن ذرعه القيء وهو صائم: لم يفطره، وإن استقاء عمدًا: فقد أفطر، ووجب عليه قضاء يوم بلا كفارة). وذلك لما روى عيسى بن يونس وحفص بن غياث عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء وهو صائم: فليس عليه قضاء، وإن استقاء: فليقض". وحديث أبي الدرداء وثوبان رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء: فأفطر". قال أبو بكر أحمد: وكان القياس أن لا يفطر الاستقاء، لأن سائر ما

يخرج من البدن لا ينقض الصوم، مثل البول والغائط وغيرهما، إلا أنهم تركوا القياس فيه للأثر. فإن قيل: قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا يفطرن الصائم: القيء، والحجامة، والاحتلام". قيل له: معناه: إذا ذرعه القيء، على ما روي في خبر أبي هريرة رضي الله عنه. مسألة: [يجب القضاء بلا كفارة في السعوط والحقنة وقطرة الأذن] قال: (ومن استعط، أو احتقن وهو صائم ذاكر لصومه: كان عليه القضاء بلا كفارة، وكذلك من قطر في أذنه). قال أبو بكر أحمد: الأصل فيه حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائمًا". فأمر بالمبالغة في الاستنشاق، ونهى عنها لأجل الصوم. فلولا أن ما يصل إلى حلقه من الماء بالاستنشاق يوجب الإفطار، لما كان للنهي عن المبالغة فيه فائدة، فصار ذلك أصلًا في أن كل ما وصل إلى

الجوف من غير مجرى الطعام والشراب: فإنه يوجب الإفطار. فلذلك قال أبو حنيفة في الجائفة: إذا داواها بدواء رطب: فطره؛ لوصوله إلى الجوف، وفي اليابس: لا يفطره؛ لأنه لا يصل إلى الجوف، ولو علم وصوله إلى الجوف: فطره. ولم يختلف الجواب في الرطب واليابس من جهة الرطوبة واليبوسة، وإنما اختلف من جهة أن اليابس لا يصل في العادة إلى الجوف، والرطب يصل، فهذا اعتبار جار في كل ما وصل إلى الجوف، واستقر فيه، مما يستطاع منه الامتناع في العادة. * وأما أبو يوسف ومحمد: فإنهما يعتبران وصوله إلى الجوف مخارق البدن التي هي خلقة في بنية الإنسان، قياسًا على ما يصل بالاستنشاق، وهو الذي ورد فيه النهي. مسألة: [أثر القطر في الإحليل للصائم] قال أبو جعفر: (وإن قطر في إحليله: فلا قضاء عليه في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: عليه القضاء). قال أبو بكر أحمد: محمد مع أبو حنيفة في الأصول في هذه المسألة. وقد حكي عن محمد: أنه وقف في ذلك.

وجه قول أبي حنيفة: أنه ليس من المثانة مجرى إلى الجوف، وما يصير إلى هناك من البول، فإنما يصير فيها بالرشح، فإذا لم يصل من هناك إلى الجوف: لم يفطر، كما أن من أخذ من في فيه ماء: لم يفطره؛ لأنه لم يصل إلى الجوف، كذلك ما حصل في المثانة. فإن قيل: إذا استعط ووصل الدهن إلى دماغه: فطره ذلك. قيل له: لأنه ينزل منه إلى الحلق، ويصل إلى الجوف. * ولأبي يوسف: أن المثانة جوف، فيفطره ما يحصل فيها. مسألة: [من أكل أو شرب عمدًا بعد ما أكل أو شرب ناسيًا] قال أبو جعفر: (ومن أكل ناسيًا في شهر رمضان، فظن أن ذلك يفطره، فأكل بعد ذلك متعمدًا: فإن عليه القضاء، ولا كفارة عليه). لأن الأكل لو وقع عمدًا: فطره، فقد يشتبه مثله على بعض الناس، فيظن أن الأكل ناسيًا يفطره، وهو القياس أيضًا عندنا، فصار ذلك شبهة في سقوط الكفارة، إذ كانت كفارة شهر رمضان تسقطها الشبهة. ولو كان الرجل عالمًا بأنه لم يفطره، ثم أكل متعمدًا: وجبت عليه

الكفارة؛ لأنه لا شبهة هناك مع العلم، ألا ترى أن من وطئ جارية امرأته مع العلم بتحريمها عليه: وجب عليه الحد، ولو ظن أنها تحل له: لم يجب الحد. وليس هذا مثل من احتجم، فظن أن ذلك يفطره، فأكل بعد ذلك متعمدًا، فتكون عليه الكفارة، ولا تصير الحجامة شبهة في سقوط الكفارة؛ لأنه لو تعمدها: لم تفطره، وأكل المتعمد يفسد الصوم إلا أن يكون سمع الحديث الذي جاء في الحجامة، فرأى أن ذلك يفطره، أو أفتاه به مفتٍ، فحينئذ لا تجب الكفارة. مسألة: [من لم ينو الصوم في رمضان وأفطر: فإنه يقضي] قال أبو جعفر: (ومن أصبح في يوم من شهر رمضان، ولم يكن نوى الصوم، ثم أكل أو شرب أو جامع متعمدًا، فإن أبا حنيفة كان يقول: عليه القضاء بلا كفارة، وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان ذلك منه قبل الزوال: فعليه القضاء والكفارة، وإن كان بعد الزوال: فعليه القضاء بلا كفارة). قال أبو بكر أحمد: المشهور أن محمدًا مع أبي حنيفة، وإنما روى ما ذكره عن أبي يوسف وحده هشام. ووجه قول أبي حنيفة: أن وجوب الكفارة متعلق بإفساد الصوم على ما وصف، وهو لم يفسد صومًا، فلا تجب عليه كفارة؛ لأنه لا يجوز إثبات الكفارة قياسًا، ألا ترى أنه لو لم يأكل حتى أمسى: لم يكن صائمًا، ولم تجب عليه كفارة لترك الصوم، فهذا إنما ترك أن يصوم، فلا يجب عليه شيء.

* وذهب أبو يوسف إلى أنه لو نوى الصوم في تلك الحال: صح صومه فيما مضى من حال الإمساك، بمنزلة حال الصوم ما لم تزل الشمس، فإذا زالت الشمس: امتنعت صحة الصوم فيه، فلا تلزمه كفارة. ************

باب الاعتكاف

باب الاعتكاف مسألة: [اشتراط الصوم في الاعتكاف] قال أبو جعفر: (والاعتكاف سنة، ولا يجوز إلا بصوم). قال أبو بكر أحمد: يعني بقوله: سنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله، وليس يعني به الوجوب. * وروي أن لا اعتكاف إلا بصوم عن علي وابن عباس وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم. قال عائشة: "من سنة المعتكف أن يصوم". والدليل على أن من شرطه الصوم: قول الله تعالى: {ولا تباشروهن

وأنتم عاكفون في المساجد}، والاعتكاف لفظ مجمل مفتقر إلى البيان؛ لأنه وإن كان في اللغة موضوعًا للبث، فقد وضع في الشرع لمعان أخر مع اللبث، لا يتناولها الاسم في اللغة. ألا ترى أنه ليس كل لابث في المسجد معتكفًا، كما لو لزم رجل لماله غريمًا له في المسجد، أو حبسه رجل فيه، لم يكن معتكفًا. وإذا كان كذلك افتقر إلى البيان، ووجدنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا صائمًا، فوجب أن يكون الصوم من شرطه؛ لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد على وجه البيان، فهو على الوجوب. ومن جهة السنة: ما حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم النيسابوري قال: حدثنا محمد بن سنان البصري القزاز أبو الحسن ببغداد قال: حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد قال: حدثنا عبد الله بن بديل قال: حدثني عمرو بن دينار عن ابن عمر "عن عمر رضي الله عنهما أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الجعرانة: يا رسول الله! إن علي يومًا أعتكفه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فاعتكف، وصم". فأمره بالصوم في الاعتكاف على الوجوب، فثبت أن من شرطه الصوم. فإن قيل: قد روي أن عمر رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه

وسلم: نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية، فقال له: "أوف بنذرك"، والليل ليس فيه صوم، فدل على جوازه بغير صوم. قيل له: قد اختلف في لفظ هذا الحديث، فقال بعضهم: "يومًا"، وقال بعضهم: "ليلة"، وقال بعضهم: "يومًا وليلة". والجمع بين هذه الأخبار يوجب أن يكون: "يومًا وليلة": أكثر ما روي منه، ويجمع إليه ما روي في الخبر الذي رويناه من الأمر بالصوم، فاقتضى اعتكافًا بصوم. * ومن جهة النظر: أنه لبث في مكان، فلا يصير قربة إلا بانضمام معنى آخر إليه هو قربة في نفسه، كما أن الوقوف بعرفة لما كان لبثًا في مكان، لم يكن قربة إلا بانضمام معنى آخر إليه قربة في نفسه، وهو الإحرام، ولم يشترط أحد في ضم قربة إليه إلا الصوم، فثبت أن الصوم من شرطه. وأيضًا: قد اتفق الجميع على لزوم الاعتكاف بالنذر، فلولا ما تضمنه من الصوم لما لزم بالنذر؛ لأن ما ليس له أصل في الفرض، لا يلزم

بالنذر، فدل أن لزومه بالنذر لأجل ما تضمنه من الصوم الذي له أصل في الفرض. فإن قيل: فلو نذر عمرة لزمته، وليس لها أصل في الفرض عندكم؟ قيل له: العمرة هي الإحرام والطواف والسعي، ولها أصل في الفرض، وهو إحرام الحج وطوافه وسعيه. فغن قيل: لما صح بالليل مع عدم الصوم، دل على أنه ليس من شرطه الصوم. قيل له: إنما يصح بالليل تبعًا للنهار، كما يصح مع خروجه من المسجد لحاجة الإنسان، ولم يدل ذلك على أنه ليس من شرطه اللبث في المسجد، وكما يكون بمنى قربة بالليل لأجل الرمي المفعول نهارًا. فإن قيل: لو كان من شرطه الصوم لما صح في شهر رمضان؛ لأن صوم يوم واحد لا ينوب عن نفسه وعن غيره. قيل له: لم نقل إنه يوجب الصوم، وإنما قلنا من شرطه الصوم، كما نقول: من شرط دخول مكة أن لا يدخلها إلا محرمًا، ولو دخلها محرمًا بحجة الإسلام: لم يلزمه للدخول إحرام آخر. وكما نقول: لا يصلي إلا بطهارة، وإلا بستر العورة، ولا نقول: إن الصلاة توجب طهارة ولا سترًا، ألا ترى أنه لو توضأ لنافلة قبل دخول الوقت: لم تلزمه بدخول الوقت طهارة للصلاة، كذلك الصوم في الاعتكاف.

مسألة" [المسجد الذي يجوز فيه الاعتكاف] قال: (ويجوز الاعتكاف في كل مسجد له إمام ومؤذن، كان مسجد جماعة أو لم يكن). قال أبو بكر أحمد: يعني بقوله: مسجد جماعة: مسجد الجامع؛ لأن كل مسجد له إمام ومؤذن، فهو مسجد جماعة. ويجوز الاعتكاف فيه، لقول الله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}، فعم المساجد كلها، وأجاز الاعتكاف فيها. وقد روى أبو وائل أن حذيفة قال لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"إن قومًا عكفوا بين دارك ودار أبي موسى، وأنت لا تغير؟! وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". فقال عبد الله: "لعلهم أصابوا وأخطأت، وحفظوا ونسيت". وروى جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام"، فقال حذيفة رضي الله عنه: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مسجد له إمام

ومؤذن: فإنه يعتكف فيه". ويحتمل أن يكون ذلك كله صحيحًا، ويكون معنى قوله: "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة": أنه أفضل الاعتكاف، وأن غيرها من المساجد ليس كهي في فضيلة الاعتكاف فيه. كما روى الحارث عن علي رضي الله عنه: "إنما الاعتكاف في مسجد إبراهيم ومسجد محمد صلى الله عليهما، فمن اعتكف في سواهما: فلا يعتكف إلا في المسجد الجامع الذي تصلى فيه الجماعة". مسألة: قال أبو جعفر: (ويخرج المعتكف لحاجة الإنسان عن المسجد). وذلك لما روت عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان". مسألة: [ما يباح للمعتكف فعله] قال أبو جعفر: (ولا بأس بأن يبيع، ويبتاع، ويشهد، ويتحدث، ويتزوج، ويراجع في اعتكافه من غير جماع).

وذلك لأن اللبث في المسجد والصوم لا يحظران هذه الأشياء، فلا يمنع الاعتكاف منها. مسألة: [الجماع يفسد الاعتكاف] قال أبو جعفر: (وإن أصاب أهله في ليل أو نهار: خرج بذلك من اعتكافه). اقول الله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}، ولا يختلف فيه الليل والنهار؛ لأن الاعتكاف يحظر المباشرة بالليل وإن لم يكن فيه صوم. قال أبو جعفر: (فإن كان قد أوجبه قبل ذلك الوقت: انتقض، ووجب عليه استئنافه). لأن الجماع يفسد الاعتكاف، كما يفسد الصوم بالنهار، فيستقبل اعتكافًا صحيحًا، كما يستقبل صومًا صحيحًا إذا جامع نهارًا. مسألة: [مكان اعتكاف المرأة] قال أبو جعفر: (ولا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها).

قال أبو بكر أحمد: يعني أن اعتكافها في مسجد بيتها أفضل من اعتكافها في مسجد جماعة، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن". وقال صلى الله عليه وسلم: "خير صلاة المرأة في بيتها". مسألة: [خروج المعتكف لصلاة الجمعة] قال أبو جعفر: (ويخرج المعتكف لصلاة الجمعة بمقدار ما يصلي قبل الجمعة أربع ركعات أو ستًا، وكذلك مقامه بعد الصلاة، فإن زاد على ذلك أو نقص منه: لم يضره). وذلك لأن حضور الجمعة مستثنى من الاعتكاف، كحاجة الإنسان؛ لأنه معلوم أنه لم يعقد على نفسه الاعتكاف على أن يترك فرض الجمعة، ولا تضره الزيادة على النافلة؛ لأنه في مسجد يصح الاعتكاف فيه، فطول مكثه فيه لا يفسد اعتكافه. مسألة: [الخروج الذي يفسد الاعتكاف] قال أبو جعفر: (وإن خرج المعتكف إلى جنازة، أو إلى عيادة مريض، أو غير ذلك، سوى خروجه للغائط والبول والجمعة: فسد اعتكافه في قول أبي حنيفة.

وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان ذلك أقل من نصف يوم: لم يفسد اعتكافه، وإن كان أكثر من ذلك: نقض اعتكافه). قال أبو بكر أحمد: المشهور من قولهما: أنه إذا كان من نصف يوم: فسد اعتكافه، والذي ذكره أبو جعفر من قولهما لا نعرفه. وجه قول أبي حنيفة: أن من شرط الاعتكاف اللبث في المسجد، والخروج من المسجد ينافي الاعتكاف، والخروج للجمعة والغائط والبول كالمستثنى منه؛ لأنه لا بد منه. ولما روي "ان النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان". وقال عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف، فما يعرج عليه يسأل عنه ويمضي". * وأما أبو يوسف ومحمد: فإنما ذهبا إلى أنه لما كان خروجه للوقت اليسير لا يفسد اعتكافه، والكثير يفسده، فاعتبرا أكثر اليوم؛ لأن الأكثر في حكم الكل في كثير من الأصول، ألا ترى أن وجود النية في أكثر

النهار في الصوم الذي يجوز ترك النية فيه من الليل، بمنزلة وجوده جميعه في جواز الصوم. مسألة: قال أبو جعفر: (وصعود المعتكف المئذنة للأذان: لا يفسد اعتكافه وإن كانت خارجة عن المسجد). وذلك لأنها في حكم المسجد؛ ولأن خروجه للأذان كالمستثنى؛ لأنه لم يعقد الاعتكاف على نفسه لترك الأذان. مسألة: [أقل مدة الاعتكاف] قال أبو جعفر: (ويجوز الاعتكاف يومًا فما فوقه من الأيام). وذلك لقول الله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد}، ولم يقدره بوقت، والاعتكاف هو اللبث على وصف، وأي جزء حصل منه على الوصف المشروط: فهو اعتكاف. وقد قال محمد بن الحسن: إنه لو اعتكف نصف يوم: جاز؛ لأن مقدار ما فعله لبث صحيح، إلا أنه لا ينبغي له أن يفطر حتى يمسي؛ لأن الصوم الذي قد دخل فيه، قد لزمه إتمامه بالدخول. وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أنه إذا دخل في اعتكاف: لزمه أن يتمه يومًا.

مسألة: [أوجب على نفسه اعتكاف أيام] قال: (ومن أوجب على نفسه اعتكاف الأيام: فإنها تلزمه متتابعة، سواء نوى التتابع أو لم ينوه). وذلك لأن الاعتكاف يصح بالليل والنهار، وذكر الأيام ينطوي تحت الليالي، فصار كقوله: والله لا كلمت فلانًا أيامًا: فيكون ترك الكلام متصلًا إلى انقضائه باليمين. وليس هذا بمنزلة قوله: لله علي أن أصوم أيامًا: فلا يلزمه التتابع؛ لأن الصوم لا يكون متصلًا فيها، لأن الليل يقطعه، فلا يلزمه التتابع فيه إلا باللفظ، وإنما يلزمه من الليالي بعدد الأيام، من قبل أن ذكر جميع الأيام يقتضي دخول مثلها من الليالي، وكذلك ذكر الليالي يقتضي دخول مثلها من الأيام. والدليل عليه: قول الله تعالى في قصة زكريا عليه السلام: {ثلاثة أيام إلا رمزًا}، وقال في موضع آخر: {ثلاث ليال سويًا}، فالقصة واحدة، فعبر بأحد العددين اكتفاء به عن ذكر العدد الآخر.

ألا ترى أنه لما اختلف العددان، لم يكتف بذكر أحدهما دون الآخر في قوله تعالى: {سبع ليال وثمانية أيام حسومًا}. [مسألة:] قال أبو جعفر: (ومن أوجب على نفسه اعتكاف ليلة: فلا شيء عليه). لأن اعتكاف الليلة الواحدة لا يتبعها النهار، ولا يصح فيها صوم، والاعتكاف لا يكون قربة إلا بصوم، فلم يوجب به قربة، فلم يلزمه. [مسألة:] قال: (ومن أوجب على نفسه اعتكاف ليلتين أو أكثر: لزمه من الأيام بعدد الليالي). لما قدمنا من أن ذكر جمع أحد العددين ينتظم مثله من العدد الآخر، وليس ذلك كالليلة الواحدة، ولا كاليوم الواحد؛ لأن اليوم الواحد لا تنطوي تحته الليلة، ولا الليلة ينطوي تحتها اليوم، وأما الليلتان فما فوقهما فإنهما تنتظمان الأيام، فكذلك اليومان فما فوقهما؛ لأنه لا يوجد جمع من أحد العددين إلا ويتخلله من العدد الآخر. [مسألة:] قال: (ومن أوجب على نفسه اعتكاف شهر: كان عليه اعتكافه بلياليه وأيامه).

لأن الشهر عبارة عن العددين جميعًا. * (فإن نوى الليالي دون الأيام، أو الأيام دون الليالي: كانت نيته باطلة). كما لو نوى عشرين يومًا: بطلت نيته؛ لأنه عبر عن الجميع، ونوى البعض، فلا يعمل بنيته، ألا ترى أنه لو قال: والله لا كلمت فلانًا شهرًا: لم يعمل بنيته في تخصيص أحد العددين دون الآخر. مسألة: [عدم جواز النيابة في الصوم أو الاعتكاف] قال أبو جعفر: (ولا يصوم أحد عن أحد، ولا يعتكف أحد عن أحد). وذلك أنه عبادة على البدن، كالإيمان والصلاة ونحوهما. *********** آخر كتاب الصوم

كتاب المناسك

كتاب المناسك باب وجوب الحد قال أبو بكر أحمد: ما كنا علمناه قديمًا من شرح كتاب المناسك لمحمد بن الحسن رحمه الله، ينتظم مسائل هذا الكتاب، ولا يشذ عنه منها إلا القليل، وفيه غنى عن إعادة جميعه، إلا أني لا أخلي هذا الكتاب من ذكر النكت التي عليها مدار المسائل، لئلا ينقطع نظام الكتاب، ونسأل الله حسن التوفيق برحمته. مسألة: [من يجب عليه الحج] قال أبو جعفر: (ومن لم يستطع الثبوت على الراحلة، أو كان يستطيع الثبوت عليها إلا أنه زمن من رجليه: سقط عنه فرض الحج. وإن كان واجدًا لما يحج به غيره عنه: أحجه، وأجزأه ذلك عن حجة

الإسلام إن بقي كذلك حتى يموت، وإن صح قبل موته، وأطاق الحج: كان عليه الحج عن نفسه). قال أبو بكر أحمد: هذا الفصل لا اختلاف فيه بين أصحابنا في الرواية المشهورة إلا شيء رواه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في المقعد، والأعمى: أن عليهما فرض الحج بأنفسهما إذا وجدا زادًا وراحلة. ووجه الرواية الأولى: قول الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا}، والاستطاعة تنتظم صحة الجوارح التي بها يصل إلى فعل الحج. وشرط النبي صلى الله عليه وسلم مع ذلك في الاستطاعة في الرجال المكلفين ثلاثة أشياء: الصحة، والزاد، والراحلة. وإذا وجد الزاد والراحلة، ولم يكن ممن يقدر على المشي والركوب، لزمان به: لم يلزمه فرض الحج بنفسه، ولزمه في ماله. والدليل على صحة ذلك أيضًا: حديث الزهري عن سليمان بن يسار

عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن امرأة من خثعم سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم حجي عن أبيك". فدل هذا الخبر علة معنيين: أحدهما: أن العاجز عن الركوب والمشي لا حج عليه في نفسه. والثاني: أنه إذا كان له مال: لزمه في ماله أن يحج عنه غيره، وذلك لأنها لما قالت: إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا: لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قولها: إن الفرض لزمه وهو شيخ: ومعلوم أنه لم يلزمه بنفسه، إذ أجاز لها أن تحج عنه. فإن قيل: فإنما يدل هذا على سقوط الحج عمن لا يمكنه الثبوت على الراحلة، والمقعد والزمن قد يمكنهما القعود في المحمل. قيل له: إذا لم يمكنهما الركوب والنزول، وشد المحمل بأنفسهما: لم يلزمهما، فقد دل خبر الخثعمية على هذا، من حيث لم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بحمله في هودج أو محمل، والمقعد ومن لا يثبت على الراحلة يثبت في الهودج، فدل ذلك على ما وصفنا. * فإذا حج عنه غيره، ومات قبل الصحة: أجزأه، لدوام العذر الموجب لجواز الحج عنه، وإن صح: لم يجزه، حتى يحج بنفسه، لزوال العذر، ووجود الصحة التي يتعلق بها فرض الحج.

فإن قيل: هلا كان بمنزلة المريض إذا صلى قاعدًا في أول الوقت، ثم برئ قبل مضي الوقت، فلا يلزمه الإعادة. قيل له: لأن صلاة المريض صلاة صحيحة عن نفسه، فصح أداؤها على الوجه الذي فعلها، ولا يؤثر بعد ذلك زوال العذر فيما قد صح، إذ لم يكن عليه فرض غيرها في حال الأداء، وأما إذا حج عنه غيره، فإنما وقع الحج عن الحاج، والذي لحق المحجوج عنه أجر النفقة، والنفقة لا تنوب عنه في سقوط فرض الحج عنه مع الإمكان، إذ لم يصح له الحج رأسًا. وكذلك يقول أصحابنا في الحج عن الميت، إن الميت إنما يلحقه أجر النفقة، وأما الحج فهو للحاج؛ لأنه عبادة على البدن كالصلاة والصوم والإيمان، فلا ينوب عنه غيره فيها. مسألة: [الخلاف في فرضية الحج على الأعمى] قال أبو جعفر: (وأما الأعمى: فهو كالبصير في قول محمد، ولم

يحك فيه خلافًا، وروى المعلى بن منصور عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه كالمقعد في سقوط فرض الحج عنه). قال أبو بكر أحمد: المشهور من قول أبي حنيفة أن فرض الحج ساقط عن الأعمى بنفسه كالمقعد. والصحيح من قول أبي يوسف ومحمد: أن الأعمى عليه الحج إذا وجد قائدًا، وزادًا، وراحلة. وجه قول أبي حنيفة: أنه بمنزلة المقعد إذا لم يمكنه الركوب والنزول والسير بنفسه؛ لأن العمى حائل بينه وبين ذلك، وكذلك قول أبي حنيفة في سقوط فرض الجمعة عن الأعمى، وقالا: عليه الجمعة إذا وجد قائدًا. وفرق أبي يوسف ومحمد بين الأعمى والمقعد؛ لأن الأعمى مستطيع للمشي والركوب والنزول، وإنما يحتاج إلى من يرشده إلى الطريق، فهو كالذي لا يهتدي طريق الحج، فلا يسقط عنه فرض الحج إذا وجد من يرشده. وفرق أبو حنيفة بين الأعمى والجاهل بالطريق، لأن الجاهل بالطريق إذا أرشد اهتدى بنفسه، والأعمى إذا أرشد لم يهتد، فكان كالمقعد. مسألة: [شروط وجوب الحج على المرأة] قال أبو جعفر: (والمرأة في وجوب الحج عليها كالرجل إذا كان معها زوج، أو ذو رحم محرم، فإن لم يكن معها ولا أحد من هذين: لم تخرج).

وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم، أو زوج". رواه بن عباس وابن عمر وأبو سعيد وأبو هريرة رضي الله عنهم. وروي في حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحج المرأة إلا ومعها ذو محرم". وعن ابن عباس رضي الله عنه أيضًا: أن رجلًا قال: يا رسول الله! إني قد اكتتبت في غزوة كذا، وقد أردت أن أحج امرأتي، فقال: "احجج مع امرأتك". فأمره بترك الغزو، وهو فرض، ليحج مع امرأته، فيسقط عنها فرض الحج. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن الحسين الأنماطي

قال: حدثنا الحكم بن موسى قال: حدثنا عبد الله بن زياد الفلسطيني عن زرعة عن إبراهيم عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابنتي تريد أن تحج فقال: لها محرم؟ قالت: لا، قال: فزوجيها، ثم لتحج". فإن قيل: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستطاعة، فقال: الزاد والراحلة"، ولم يذكر المحرم للمرأة. قيل له: عسى أن يكون السائل كان رجلًا، فسأل عن استطاعة نفسه. يدل أيضًا على ذلك: أنه لم يشترط الصحة، ولو كان مقعدًا أو مفلوجًا: لم يلزمه الحج بوجود الزاد والراحلة، دون وجود الصحة، كذلك المحرم للمرأة. وأيضًا: يجمع بينه وبين خبر المحرم، فكأنه قال: الزاد والراحلة، والمحرم للمرأة. ومخالفنا يشترط أن يكون معها امرأة وإن لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في شرط الاستطاعة، فأسقط ما شرطه النبي صلى الله عليه

وسلم من المحرم، وأثبت ما لم يشترطه. فإن قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله". قيل له: أراد في حضور الجماعة، ولم يرد به فرض الحج، والدليل عليه قوله في سياق الخبر: "وبيوتهن خير لهن". وأيضًا: نجمعه إلى خبر المحرم، فكأنه قال: لا تمنعوا إماء الله، ولا يسافرن إلا مع محرم. فإن قيل: فقد جاز للمهاجرة الخروج إلى دار الإسلام بغير محرم، لما لزمها من فرض الخروج، كذلك الحج. قيل له: ينبغي أن نثبت أن عليها فرض الحج مع عدم المحرم، حتى نقيسها على المهاجرة. وأيضًا: المهاجرة تخرج وهي معتدة، ولا تحج وهي معتدة، وكذلك المعتدة إذا أتت بفاحشة أخرجت للحد وهي معتدة، ولا تخرج للحج في حال العدة. مسألة: [الحج فرض مرة واحدة في العمر] قال أبو جعفر: (ولا حج على أحد غير حجة واحدة). وذلك لأن قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت): لا يقتضي

التكرار، وإنما يقتضي مرة واحدة؛ لأنه ليس فيه تكرار. وروى ابن عباس "أن الأقرع بن حابس رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! الحج في كل سنة، أو مرة واحدة؟ قال: بل مرة واحدة، فمن زاد فتطوع". مسألة: قال أبو جعفر: (والعمرة سنة، وليست بواجبة). وذلك لأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العمرة هي الحجة الصغرى". وقال عبد الله بن شداد ومجاهد رضي الله عنهما: "إن العمرة الحج الأصغر". فثبت بذلك أن اسم الحج يتناول العمرة. ولما روي "أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ قال: بل مرة واحدة، فمن زاد، فتطوع".

فانتفى بذلك وجوب العمرة؛ لأن قول الأقرع: يا رسول الله الحج في كل سنة، أم مرة واحدة: اسم للجنس، يتناول كل ما يسمى حجًا. ثم جواب النبي صلى الله عليه وسلم إياه شامل لجميع ما سأله عنه، فنفى به جميع ما يسمى به إلا حجة واحدة، فثبت أن العمرة تطوع. حدثنا هذا الحديث محمد ابن بكر ابن عبد الرزاق قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا: حدثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي سنان –وهو الدؤلي- عن ابن عباس أن الأقرع بن حابس رضي الله عنهم سأل النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر الحديث. وقد روي عن طلحة بن عبيد الله وابن عباس وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أن العمرة تطوع. ورواه أبو صالح مرسلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأما حديث طلحة: فحدثنا عن الباقي بن قانع قال: حدثنا إسماعيل ابن الفضل قال: حدثنا هشام بن عمارة قال: حدثنا الحسن بن يحيى الخشني قال: حدثنا عمر بن قيس قال: حدثنا طلحة بن موسى عن عمه إسحاق بن طلحة عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه

وسلم يقول: "الحج جهاد، والعمرة تطوع". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العطار قال: حدثنا محمد بن بكار قال: حدثنا محمد بن الفضل بن عطية عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحج جهاد، والعمرة تطوع". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا يعقوب بن يوسف المطوعي قال: حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن الحجاج بن أرطاة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة والحج أواجب؟ قال: نعم، وسأله عن العمرة أواجبة هي؟ قال: لا، ولأن تعتمر خير لك. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن علي الخزاز قال: حدثنا سعيد بن سليمان قال: حدثنا حفص عن الحجاج بإسناده نحوه.

وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا ابن الأصبهاني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحج جهاد، والعمرة تطوع". وروي هذا الحديث عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل: روى ابن لهيعة عن عطاء عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحج والعمرة فريضتان واجبتان". وروى الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم لكم". وأمره صلى الله عليه وسلم على الوجوب. قيل له: أما حديث جابر هذا، فمن طريق بن لهيعة، وهو يخطئ كثيرًا، ضعيف جدًا عندهم.

وقد روينا عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ضده، وإسناده أحسن من إسناد ابن لهيعة. وعلى أن أكثر أحوالهما أن يتعارضا، فيسقطان جميعًا، وبقي لنا حديث طلحة وابن عباس رضي الله عنهم من غير معارض. وأما حديث سمرة رضي الله عنه، وقوله: "اعتمروا": فإنه على الندب، للدلائل التي قدمنا. فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإسلام، فذكر الصلاة وغيرها، ثم قال: "وأن يحج ويعتمر". قيل له: النوافل من الإسلام، لأنها من شرائعه، وقد روي "أن الإسلام بضع وسبعون خصلة؛ منها إماطة الأذى عن الطريق". وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة": يدل على قولنا؛ لأن معناه أنه ثابت عنها؛ لأن أفعال العمرة موجودة في الحج وزيادة. ويجوز أن يكون المراد: أن وجوبها كوجوب الحج؛ لأنه حينئذٍ لا تكون العمرة بأولى بأن تدخل في الحج، من الحج بأن يدخل في العمرة، إذ هما جميعًا واجبان، وكما لا يقال: دخلت الصلاة في الحج؛ لأنها

واجبة كوجوب الحج. فإن احتجوا بقول الله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله}، فإنه لما كان أمرًا، وجب أن يكون الأمر على الوجوب. قيل له: لا دلالة فيه على وجوبهما ابتداء؛ لأن الإتمام إنما هو نفي النقص، لا غير، ولا يقتضي وجوب الأصل، ألا ترى أنه يصح أن يقال: أتموا العمرة النافلة كالصلاة النافلة، ولو كان اللفظ يقتضي وجوب الأصل، لما صح أن يقرن بالتطوع؛ لأن الوجوب ينافي كونه تطوعًا. ومن جهة النظر: أن العمرة لما كانت نسكًا غير مؤقت، أشبهت طواف النفل. فإن قال قائل: قوله تعالى: {وافعلوا الخير}: يدل على وجوب العمرة؛ لأنها خير، وظاهر اللفظ يقتضي جميع الخير. قيل له: الجواب عنه من وجوه: أحدها: أنك تحتاج أن تثبت أن فعل العمرة مع اعتقاد وجوبها خير؛ لأن من لا يراها واجبة يقول: فعلها مع اعتقاد الوجوب معصية، كمن صلى تطوعًا واعتقد فيه الفرض. وآخر وهو: أن قوله: {وافعلوا الخير}: لفظ مجمل، لاشتماله

على المجمل، ألا ترى أنه يدخل فيه الصلاة والزكاة والصوم وغيرها، وهذه كلها فروض مجملة، فإذا انتظم اللفظ ما هو محتمل، فهو مجمل يحتاج في إثبات حكمه إلى دليل من غيره. ووجه آخر: وهو قوله: "الخير": لفظ جنس، لا يمكن استغراقه، فيتناول أدنى ما يقع عليه الاسم، كقوله: إن شربت الماء، وإن تزوجت النساء. وأيضًا: فقد علمنا مع ورود اللفظ، أن المراد: البعض، لتعذر استيعاب الكل، فصار كقوله: افعلوا بعض الخير، فاحتاج إلى بيان المراد. مسألة: [وصية الميت بالحج تنفذ من الثلث] قال أبو جعفر: (ومن وجب عليه الحج، ولم يحج حتى مات، فأوصى أن يحج عنه: حج عنه من ثلثه، وإن لم يوص به، فتبرع به وارثه: أجزأه ذلك). أما وجه الجواز: فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أخبار شائعة من إجازة الحج عن الميت، وقال في بعضها: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أكان يجزي؟ قال: نعم. قال: "فدين الله أحق".

وأجاز للخثعمية أن تحج عن أبيها. ولا يجب فعله من ماله إلا أن يوصي، لما بينا في صدقة الفطر والزكاة أنها عبادة يسقطها الموت. مسألة: قال أبو جعفر: (ولا يجوز الاستئجار على الحج). وذلك لأن شرط صحة الحج عن الميت أن يكون قربة للحاج، والدليل عليه أنه لو أحج ذميًا عن نفسه لا يصح، وأخذ البدل عليه يخرجه من أن يكون قربة له. وأيضًا لما كان شرط صحة الحج أن يكون قربة، وجب أن لا يصح أخذ الأجر عليه. والدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه: "واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على الأذان أجرًا". وقال لأبي بن كعب أو لعبادة بن الصامت رضي الله عنه، وقد علم رجلًا سورة من القرآن، فأهدى له، قوسًا فقال: "إن أردت أن يقلدك الله

قوسًا من نار، فاقبلها". فمنع صلى الله عليه وسلم أخذ العوض عن هذه القرب، فكان الحج بمثابتها، من حيث كان شرطه أن لا يفعل إلا على وجه القربة. وليس هذا كبناء المساجد، وحفر القبور، وغسيل الموتى، لأن هذه الأفعال ليس شرطها أن لا تكون إلا قربة، ألا ترى أن الذمي يصح أن يبني المسجد، ويحفر القبور، ويغسل الميت، ولو أحج ذميًا: لم يصح. مسألة: [عدم جواز الاستئجار على الطاعات] قال أبو جعفر: (ولا يجوز الاستئجار على شيء من الطاعات، ولا على شيء من المعاصي). أما الطاعات فقد بينا وجوهها. وأما المعاصي، فلأنه لا يلزم فيها تسليم المنافع بعقد الإجارة، وما لا يستحق تسليمه بالعقد: لا يصح العقد عليه. [مسألة:] قال: (وإنما تدفع النفقة إلى الحاج، فما فضل: رده على الورثة).

وذلك لأن النفقة مبقاة على ملك الميت، لا يملكها الحاج، فما لم ينفقه: فهو مردود على الورثة. مسألة: [لا يجزئ حج الصغير والعبد عن الفريضة] قال أبو جعفر: (ومن حج وهو طفل ثم بلغ، أو عبد ثم أعتق: فعليه الحج). وذلك لما روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما صبي حج، ثم أدرك الحلم: فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما عبد حج، ثم أعتق: فعليه أن يحج حجة أخرى". وروى جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، إلا أنه قال: "لو أن صبيًا حج عشر حجج، ثم بلغ، وكذلك العبد إذا أعتق". فإن قيل: ذكر معه الأعرابي، وأنه إذا هاجر: وجب عليه الحج، واتفقنا على أنه جائز الحج قبل الهجرة.

قيل له: ظاهر اللفظ يمنع جوازه عن حجة الإسلام، إلا أنا خصصنا الأعرابي بالاتفاق، وبقي حكم اللفظ فيمن عداه. وأيضًا: فإنه قال: ثم هاجر: والهجرة قد ارتفعت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا هجرة بعد الفتح"، فإنما قال ذلك في الأعرابي وفرض الهجرة قائم. وأيضًا: فإن العبد لا يملك منافع نفسه، وإنما يفعلها بإذن المولى له على جهة العارية، فلا يجعل له بها ملك تلك المنافع، فلا يصح عن الفرض، وليس كالفقير الحر؛ لأنه مالك لمنافع نفسه. وليس حج العبد كفعله للجمعة، فتجزئه؛ لأن الجمعة قائمة مقام الظهر، وليس لمولاه منعه من الظهر، وله منعه من الحج. مسألة: [حكم النيابة في أفعال الحج] قال أبو جعفر: (ومن خرج للحج من الصبيان، أو من البالغين، فعجز عن التلبية للدخول في الحج، أو عما سواها من أمور الحج، ففعل ذلك عنه: قام مقام لو فعله بنفسه في قول أبي حنيفة.

وقال أبو يوسف ومحمد كذلك أيضًا، إلا في الإحرام، فإنه لا يصح من غير الرجل الذي يريد الإحرام بالحج. قال أبو بكر أحمد: لا معنى لقوله: من الصبيان: لأنه لا خلاف بين أصحابنا أن الصبي لا يكون محرمًا بحال وإن أحرم عنه أبوه، وكذلك لو أحرم الصبي وهو يعقل الإحرام: لم يصح إحرامه، وكذلك لو أن صبيًا أحرم بالحج، ثم بلغ، فجدد الإحرام، ووقف بعرفة: أجزأه من حجة الإسلام، وإن لم يجدد الإحرام: لم يكن محرمًا. فأما وجه قول أبي حنيفة في المغمى عليه إذا أهل عنه أصحابه: فهو اتفاق أصحابنا جميعًا على جواز الطواف به، والوقوف، وسائر الأفعال، فكذلك الإحرام، ألا ترى أن الطواف لا يصح إلا بنية كالإحرام؛ لأنه لو عدا خلف غريم له حوالي البيت: لم يكن طائفًا، ثم قد جاز أن يفعل ذلك به، فالإحرام مثله. ومخالفونا من غير أصحابنا يجيزون أن يكون الصبي محرمًا بإحرام أبيه عنه. فقد صح باتفاقنا جميعًا: أن الإنسان قد يصير محرمًا بإحرام الغير عنه؛ لأنا نجيز ذلك من المغمى عليه، ومخالفنا يجيزه عن الصبي، ثم نظرنا أيهما أولى بجواز ذلك، فكان المغمى عليه بجواز ذلك أولى من الصبي لمعنيين: أحدهما: أن الإحرام لا يصح إلا بنية، ولا يتقدم من الطفل نية في ذلك. والثاني: أن الصبي ليس من أهل العبادات، والمغمى عليه من أهل

العبادة؛ لأنه يلزمه قضاء شهر رمضان، وقضاء الصلوات في اليوم والليلة وما دونها عندنا، والصبي لا يلزمه من ذلك شيء. مسألة: (ومن طاف به محمولًا: أجزأه). وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبًا، وروي أن ذلك لشكاة كانت به. * قال: (فإن كان حامله نوى الطواف من نفسه: أجزأه أيضًا). لأنه طائف بنفسه، حامل لغيره، فيجزئهما جميعًا؛ لأن كونه حاملًا لغيره: لا يمنع صحة طوافه، كما لو كان على رأسه عدل متاع: أجزأه طوافه، ونية الحامل لنفسه لا تؤثر في صحة طواف المحمول. [مسألة:] قال أبو جعفر: (وينبغي لولي من أحرم من الصبيان أن يجنبه ما يجتنبه المحرم، فإن وقع في شيء من ذلك: فلا شيء عليه). وذلك لما روي "أن امرأة رفعت صبيًا لها إلى النبي صلى الله عليه

وسلم فقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر". وهذا عندنا على وجه التعليم والتأديب، لا على وجه صحة الإحرام ولزومه؛ لأن الإحرام عبادة، والصبي ليس من أهل العبادات. *********************

باب ذكر الحج والعمرة

باب ذكر الحج والعمرة [مسألة: أنواع الإحرام] قال أبو جعفر: (المحرمون أربعة: محرم مفرد بعمرة غير متمتع، ومفرد بعمرة متمتع، ومفرد بالحج، وقارن. والمتمتع والقارن فريقان: أحدهما: من حاضري المسجد الحرام، وهما مسيئان، وعلى كل واحد منهما دم، لإساءته، لا يأكل منه. وفريق من غير حاضري المسجد الحرام: فلهم التمتع والقران، وعلى كل واحد منهما ما استيسر من الهدي، وهو شاة فما علا، فإن لم يجد: فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع). قال أبو بكر أحمد: معنى التمتع: هو الجمع بين الحج والعمرة في أشهر الحج، في سنة واحدة، من غير إلمام بأهله فيما بينهما. ومعنى التمتع: هو الانتفاع بالعمرة والحج في أشهر الحج في سفر واحد، ولذلك كان القارن متمتعًا؛ لأنه منتفع بهما على هذا الوصف.

وليس معنى التمتع: الإحلال من العمرة في أشهر الحج، والانتفاع باللبس والطيب ونحوهما؛ لأن المعتمر الذي قد ساق الهدي، لا يجوز له الإحلال، ولا يخرجه ذلك من أن يكون متمتعًا، فإذًا معنى التمتع هو ما وصفنا. والتمتع والقران لا يصح عندنا إلا لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، وهم الذين لا يجوز لهم دخول مكة من منازلهم إلا بإحرام، وذلك لقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}، فأباح التمتع لمن كان هذا وصفه. وقد كان أهل الجاهلية يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فأنزل الله هذه الآية على ما روي. فإن قيل: قوله: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}: إنما هو راجع إلى الهدي، دون التمتع. قيل له: لو كان كذلك لقال: ذلك على من لم يكن أهله حاضري

المسجد الحرام. * فمن كان من حاضري المسجد الحرام، فلا تمتع ولا قران، فإن فعل: لم يكن متمتعًا، وكان عليه دم للإساءة، لا دم قران ولا تمتع. [حاضروا المسجد الحرام] وإنما قلنا إن حاضري المسجد الحرام أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة، من قبل أنهم في حكم أهل مكة في باب جواز دخولهم مكة بغير إحرام، ومن وراءهم إلينا: لا يدخلونها إلا بإحرام، فلذلك كان حلمهم على ما وصفنا. ومن جاز له التمتع والقران، ففعل: فعليه ما قال الله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي}. الآية. مسألة: [من وجد الهدي قبل التحلل وقد شرع بصيام التمتع] قال أبو جعفر: (ولو دخل رجل في الصوم، فلم يفرغ منه، أو فرغ منه، فلم يحل حتى وجد الهدي: أهدى، وحل بالهدي، لا يجزئه غير ذلك). قال أبو بكر أحمد: قوله: إنه إذا لم يحل حتى وجد الهدي: أهدى وحل بالهدي: ليس بسديد على الإطلاق؛ لأنهم يقولون إذا مضت أيام الذبح، ثم وجد الهدي قبل أن يحل: فصومه تام، ولا شيء عليه. رواه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة، ورواه ابن سماعة عن محمد.

وإنما يشرطون: ما لم يحل ما دام في أيام الذبح، فإذا وجد الهدي قبل أن يحل في هذه الأيام: انتقض صومه، وإن مضت هذه الأيام، ولم يحل: فقد صح صومه عن المتعة، ولا ينتقض بعد ذلك. وإنما قلنا إن الصوم ينتقض بوجود الهدي قبل أن يحل على ما وصفنا: من قبل أن الله تعالى جعل الصوم بدلًا من الهدي عند عدمه بقوله: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج}، فمن وجد الهدي في وقته، قبل أن يحل: انتقض صومه، كالمتيمم إذا وجد الماء قبل أن يصلي، أو قبل أن يفرغ من صلاته، وكالماسح على الخفين إذا خرج وقت مسحه، وهو في الصلاة، وكالمستحاضة إذا برأت وهي في الصلاة. فإذا مضت أيام الذبح، ثم وجد الهدي: لم ينتقض الصوم، كما لو وجد الماء بعد فراغه من الصلاة، وخروج وقت المسح قبل الفراغ منها. فإن قيل: والذبح ممكن بعد مضي هذه الأيام. قيل له: هذا ممكن، إلا أنه في غير وقته، ألا ترى أن أبا حنيفة يوجب عليه لتأخيره عن هذه الأيام دمًا إذا كان واجدًا له، وأبو يوسف ومحمد أيضًا يجعلانه مؤقتًا بهذه الأيام، إلا أنهما لا يريان عليه لتأخيره شيئًا. فصل: [صفة التمتع الموجب للهدي]: قال أبو جعفر: (والتمتع الذي يوجب الهدي هو: الإحرام بالعمرة، وترك العود إلى الأهل حتى يحج من عامه ذلك).

قال أبو بكر أحمد: هو فعل العمرة أو أكثرها في أشهر الحج، من غير إلمام بأهله، بعد صحة العمرة، حتى يحد من عامه ذلك. وليس كل من أحرم بعمرة، ثم حج من عامه من غير رجوع إلى أهله: يكون متمتعًا؛ لأنه لو أحرم بها في غير أشهر الحج، وفرغ منها، ثم حج من عامه: لم يكن متمتعًا، وكذلك لو فعل أكثر طوافها في غير أشهر الحج. [مسألة:] قال أبو جعفر: (فمن رجع إلى أهله بينهما، لم يكن متمتعًا). وذلك لأنه قد صار في معنى حاضري المسجد الحرام؛ لأن المعنى في منع أهل مكة من التمتع: حصول الإلمام بالأهل بعد الفراغ من العمرة، وذلك موجود في الكوفي إذا رجع إلى أهله. [مسألة:] قال أبو جعفر: (وإن رجع إلى غير أهله الذين كانوا أهله يوم إنشاء العمرة من الآفاق التي لأهلها التمتع والقران، فإن أبا حنيفة قال: هو على تمتعه). قال: (وقال أبو يوسف ومحمد: إذا رجع إلى مكان لأهله التمتع والقران: لم يكن متمتعًا، وكان ذلك كرجوعه إلى أهله) قال أبو بكر أحمد: الذي حكاه أبو جعفر عن أبي حنيفة هو قولهم جميعًا، لا خلاف بينهم فيه، قد ذكره محمد في مواضع.

وما حكاه عن أبي يوسف ومحمد في هذه المسألة، أنه متى رجع بعد العمرة إلى مكان لأهله التمتع والقران: لم يكن متمتعًا، هو وهم، لا أعلم أحدًا من أصحابنا قاله، ولا يستقيم أيضًا على أصولهم. وأحسب أن أبا جعفر رحمه الله أراد مسألة: من دخل مكة في أشهر الحج بعمرة، فأفسدها، وفرغ منها، ثم أحرم بأخرى ينوي قضائها، فقضاها، وحج من عامه: أنه لا يكون متمتعًا عندهم جميعًا. فإن كان جاوز بعض المواقيت، ثم أحرم بعمرة، وقضاها، وحج من عامه: كان متمتعًا في قول أبي يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: لا يكون متمتعًا حتى يرجع إلى أهله، فينشئ العمرة، ثم يحج من عامه. وكذلك الكوفي: إذا دخلت عليه أشهر الحج وهو بمكة، لا يصح له التمتع عند أبي حنيفة حتى يرجع إلى أهله، ثم ينشئ العمرة، ثم يحج من عامه. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا جاوز بعض المواقيت، ثم أحرم بالعمرة وقضاها، وحج من عامه: كان متمتعًا. فصل: [أشهر الحج، وإدخال الحج على العمرة]. قال أبو جعفر: (وأشهر الحج شوال، وذو القعدة، والعشر الأول من ذي الحجة).

روي ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، في آخرين من التابعين. مسألة: [حكم إدخال الحج على العمرة، وبالعكس] قال أبو جعفر: (وجائز إدخال الحجة على العمرة). وذلك لقول الله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج}، فجعل العمرة مقدمة عليه، ويجوز الجمع بينهما بسنة النبي صلى الله عليه وسلم حين قرن. قال: (ومكروه إدخال العمرة على الحج). وذلك لأن فعل العمرة مقدم على فعل الحج، ولا يصح فعل الحج قبل فعل العمرة للمتمتع، فوجب أن يكون ممنوعًا من إدخال العمرة على

الحج، كما منع تقديم فعله على فعلها. [مسألة:] قال: (ومن أدخلها عليها قبل الطواف: كان قارنًا). لأنه قد فعلها على وجه الابتداء، إذ لم يعرض بين الإحرامين ما يقطع حكم الابتداء. [مسألة:] قال: (وإذا أدخل العمرة على الحج بعد الطواف له: أمر أن يرفضهما، وعليه دم لرفضهما، وعمرة مكانها). وذلك لأن الطواف المفعول للحج لم ينفسخ بإحرام العمرة، فيجعل حينئذ فعل الحج مقدمًا على فعل العمرة، وذلك ضد ما يوجبه القران والتمتع، فلذلك لم يرفض العمرة، وقضى بها. وعليه دم للرفض؛ لأن كل من حل من إحرامه قبل طواف، فعليه دم، بدلالة المحصر. ولا يبطل إحرامه من حيث وقع منهيًا عنه، وأمر برفضه؛ لأن كون الإحرام منهيًا عنه، لا يمنع صحة وقوعه، ألا ترى أنه لو أحرم وهو مجامع لامرأته: صح إحرامه، وفسد في الثاني. مسألة: [أفضل أنواع الإحرام] قال أبو جعفر: (والقران أفضل مما سواه، ثم التمتع، ثم الإفراد،

وكل ذلك واسع). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات كثيرة أنه كان قارنًا في حجة الوداع، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم علي، وعمر، وابن عباس، وعمران بن حصين، وأبو طلحة، وأنس بن مالك، رضي الله عنهم أجمعين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التي مع حجته". وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "اعتمر ثلاثًا، والرابعة مع الحج".

وقالت عائشة للبراء رضي الله عنهما: "لقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربعًا بعمرته في حجة الوداع". وقال ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أتاني آت من ربي بالعقيق: أن صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة". ومن أدل الأشياء على ذلك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه بفسخ الحج والإحلال، لم يحل منه، وقال: إني سقت الهدي، ولا أحل إلى يوم النحر". وقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهدي". فلولا أن هديه كان هدي قران أو متعة، ما الذي كان منعه من الإحلال، وهو هدي تطوع؟ فدل ذلك على أنه لم يكن مفردًا. فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج.

قيل له: هو صحيح، ومعناه أنه أفرد فعل الحج، وأبطل به قول من قال إن القارن يطوف لهما طوافًا واحدًا. وإذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنًا، دل ذلك على أن القارن كان أفضل، لأن الأنبياء لا يختارون من الأعمال إلا أفضلها، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم حين توضأ ثلاثًا ثلاثًا: "هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء قبلي". وأيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"، وقرن هو، فقد اقتضى ذلك أمرًا منه لنا بالقران، فأقل أحواله إذا لم يكن واجبًا، أن يكون ندبًا وإرشادًا، فهو أفضل من غيره مما لم يرد فيه مثله. وأيضًا: يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الحج العج والثج". والثج: الذبح، وذلك إنما يكون في القران والتمتع. وأيضًا: ففيه زيادة نسك، وهو الهدي، فهو أفضل من الإفراد. وأيضًا: فإنه يقتضي البقاء في الإحرامين إلى وقت الإحلال منهما، والبقاء في الإحرام نسك وعبادة، فهو أفضل من تركه.

ويدل على أن القران أفضل من التمتع: أن القارن حجته كوفية، والمتمتع حجته مكية، ويحصل السفر للعمرة خاصة، ولأن يكون السفر لهما، أفضل من أن يكون لأحدهما. ثم التمتع أفضل من الإفراد لما وصفنا، من أن فيه زيادة نسك، وهو الهدي. فإن قيل: وجوب الهدي فيه، يدل على النقص. قيل له: ليس كذلك؛ لأن الهدي ها هنا نسك ليس بدم جناية، ألا ترى أنا نجيز الأكل منه، وقد دل كتاب الله تعالى عليه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل منه. ****************

باب المواقيت

باب المواقيت [مسألة: مواقيت الحج] قال أبو بكر: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة: ذا الحليفة، ولأهل الشام: الجحفة، ولأهل نجد: قرن، ولأهل اليمن: يلملم، ولأهل العراق: ذات عرق، وقال: "هن لأهلهن، ولمن مر عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج أو العمرة". قال أبو جعفر: (فمن مر وهو يريد الحج، أو العمرة بميقات منها، فلا يجاوزه إلا محرمًا). لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرنا بالإحرام من الميقات، فقد تضمن ذلك نهيه عن مجاوزته إلا محرمًا. وأيضًا روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "لا يحل لأحد أن يدخل مكة إلا بإحرام، ورخص للحطابين".

ومعلوم أن الرخصة في مثل ذلك لا تكون إلا من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا الحظر من جهة من إليه الرخصة، وأنه إنما ذكر الحطابين، لأنهم لا يبعدون من مكة ولا يجاوزون المواقيت. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة حين دخلها بغير إحرام؛ لأنه دخلها وعلى رأسه مغفر: "إنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار". ومعلوم أنه لم يرد القتال؛ لأن القتال يحل بعده إذا أحتيج إليه، فدل أنه أراد دخولها بغير إحرام. مسألة: [الإحرام بعد مجاوزة الميقات] قال أبو جعفر: (ومن أحرم بعد مجاوزته الميقات، فإن رجع إلى الوقت، فلبى: سقط عنه الدم، وإن لم يلب: لم يسقط. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا رجع إلى الوقت محرمًا، فلبى أو لم يلب: سقط عنه الدم، وقال زفر: لا يسقط عنه الدم بوجه). لأبي حنيفة: أن المتروك هو التلبية في الوقت؛ لأنه لو لبى في الوقت، لم يكن في إحرامه نقص، فإذا فعل المتروك: فقد جبر النقص. فإن قيل: تلبيته في الوقت لا تجدد له إحرامًا، فلا يرتفع بها النقص الداخل بترك التلبية في ابتداء الإحرام.

قيل له: أجل، لا يتجدد به إحرام، إلا أنه يرتفع به النقص، ألا ترى أن من طاف على غير وضوء، ثم أعاده لم يتجدد له طواف بالإعادة، وإنما ينجبر به النقص. فإن قيل: فلو دفع من عرفات قبل الإمام، ثم عاد: لم يسقط عنه الدم. قيل لهم: هذا عندهم على وجهين: إن عاد قبل دفع الإمام: لم يكن عليه شيء، وإن عاد بعد خروج الإمام من عرفات: لم يسقط عنه الدم؛ لأنه لم يستدرك المتروك، إذ كان المتروك الدفع مع الإمام، وإذا عاد قبل دفع الإمام: فقد أدرك سنة الدفع، فلا يلزمه شيء. فإن قيل: هلا أسقطت عنه الدم لعوده محرمًا؟! قيل له: لما بينا أن المتروك في الوقت هو التلبية، فيحتاج أن يفعل المتروك. فإن قيل: فلو جاوز الوقت وهو محرم، ولم يلب فيه: لم يكن عليه شيء؛ لأنه قد حصل محرمًا فيه، كذلك إذا عاد محرمًا. قيل له: فقد فعل التلبية في الوقت حيث أحرم؛ لأن كل موقع أحرم فيه من وراء المواقيت، فهو وقته، وإنما المواضع التي منع مجاوزتها إلا محرمًا آخر الوقت. ويدل عليه: ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تأويل

قول الله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله): أن إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. ولأبي يوسف ومحمد: أن المتروك في الوقت هو الإحرام، فإذا عاد محرمًا: فقد فعل المتروك. وهذا لا يلزم أبا حنيفة؛ لأن عوده إلى الوقت لم يفعل به إحرامًا، فالواجب أن يكون المعنى الذي ينجبر به النقص هو التلبية التي هي من شرائط الإحرام. فصل: [من تجاوز ميقاتًا بغير إحرام، ثم عاد إلى غيره فأحرم منه] قال أبو جعفر: (ومن مر بميقات من هذه المواقيت، فجاوزه غير محرم، ثم رجع إلى وقت غيره، فأحرم منه قبل أن يقف بعرفة: سقط عنه الدم). وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "هن لأهلهن، ولمن مر عليهن من غير أهلهن، ممن يريد الحج أو العمرة". ومن كان منزله من ورائهن إلى مكة: فميقاته من أهله، حتى أهل مكة يهلون من مكة. ولأن من جاوز ذا الحليفة إلى الجحفة، فأحرم منها: جاز له ذلك،

فكذلك إذا جاوز الوقت، ثم رجع إلى وقت غيره، أي وقت كان. * قال أبو جعفر: (وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة في الإملاء: أنه إذا رجع إلى ميقات يحاذي الميقات الأول: فلا شيء عليه، وإن رجع إلى ميقات بين الميقات الأول وبين الحرم: لم يسقط ذلك عنه الدم). وعسى أن يكون ذهب إلى أنه لما جاوز الميقات غير محرم، فقد استحق عليه العود إليه، فلا يسقط عنه الدم بعوده إلى ما دونه. [مسألة: من جاوز الميقات فأحرم بالعمرة وطاف] قال أبو جعفر: (ولو جاوز الوقت، ثم أحرم بعمرة، وطاف لها شوطًا، ثم عاد إلى الوقت: لم يسقط عنه الدم بحال). وذلك لأن عوده في هذه الحال، لا يكون له حكم الابتداء، من قبل أن الشوط المفعول من الطواف لا ينفسخ بالعود، وإنما يسقط عنه الدم إذا عاد إلى الوقت على حكم الابتداء، كأنه ابتدأ الإحرام منه، واختلافهم في إعادة التلبية في الوقت أو تركها على ما تبين. مسألة: [من جاوز الميقات لا يريد الإحرام، ثم بدا له أن يحرم] قال أبو جعفر: (ومن مر بالميقات لا يريد الإحرام، حتى جاوزه، ثم بدا له أن يدخل مكة: أحرم من حيث شاء قبل أن يدخل الحرم). قال أبو بكر أحمد: عسى أن يكون أراد: أنه لا يريد دخول مكة حين

أتى الميقات إذ جاوزه، فإذا كان كذلك، فله أن يجاوزه بغير إحرام، ويصير حينئذ بمنزلة أهل الميقات إذا أراد الإحرام: أحرم من حيث شاء، ما بينه وبين الحرم، كإحرام أهل الوقت. ********

باب ذكر ما يعمل عند الميقات

باب ذكر ما يعمل عند الميقات [التجرد من المخيط عند الإحرام، وسنية الاغتسال] قال أبو جعفر: (إذا أتى الرجل الميقات، وهو يريد العمرة: تجرد، واغتسل أو توضأ، والغسل أفضل). * أما التجرد، فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن لبس القميص، والسراويل، والعمامة، ونحوها في الإحرام، فقلنا على هذا: محظور عليه لبس ما يشمل عليه من الخياطة. * فأما الغسل، فمسنون عند الإحرام، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها حين حاضت، وكانت مهلة بعمرة: "انقضي رأسك، وامتشطي، واغتسلي، وأهلي بالحج". وقال لأسماء بنت عميس رضي الله عنها حين ولدت: "لتغتسل،

ولتحرم بالحج، ولتصنع كما يصنع الحاج، غير أنها لا تطوف بالبيت". فدل على أن هذا الغسل مسنون للإحرام، لا للطهارة؛ لأن غسل النفساء والحائض لا يطهرهما. * والوضوء يجزئ عنه، كما يجزئ عن غسل الجمعة؛ لأنه مسنون أيضًا. [لبس الإزار والرداء، ومس الطيب] قال أبو جعفر: (ويلبس ثوبين، إزار ورداء جديدين أو غسيلين) إنما ذكر جديدين أو غسيلين؛ لأنه روي عن بعض السلف كراهة لبس الجديد عند الإحرام، فاعلم أنه لا فرق بينهما. * (ويمس من طيبه إن شاء، ولا يضره بقاء الطيب عليه بعد الإحرام عند أبي حنيفة وأبي يوسف). وذلك لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم للإحرام حين أحرم". وقالت: "كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله

صلى الله عليه وسلم بعد الثالثة من إحرامه". وكما جاز أن يحلق رأسه قبل الإحرام، فيحرم ويبقى محلوق الرأس، جاز أيضًا أن يحرم ويبقى الطيب عليه بعد الإحرام، إذ ليس بقاء الطيب عليه تطيبًا منه. وليس ذلك كاللبس؛ لأن بقاءه على حال اللبس، بمنزلة لبس مستقبل. * وكره محمد من الطيب ما يبقى أثره، كاللبس وسائر ما ينهى عنه ابتداء بعد الإحرام. [استحباب الإحرام بعد الصلاة] قال أبو جعفر: (ثم يحرم بالعمرة بعد صلاة مكتوبة أو نافلة). لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بذي الحليفة عقيب الصلاة. [التلبية] والتلبية التي ذكرها أبو جعفر رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (ويلبي إذا استوى على راحلته، وكلما علا شرفًا، أو هبط واديًا، وبالأسحار). وذلك لأن منزلة التلبية من الحاج، كمنزلة تكبيرة الافتتاح من المصلي، والمصلي يكبر عند تنقل الأحوال به في صلاته، كذلك المحرم يلبي عند تنقل الأحوال به. وقد روى ذلك جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي أيضًا عن جماعة من السلف. * قال: (ولا يزال يلبي حتى يفتتح الطواف لعمرته). وذلك لأن التلبية لما كانت مسنونة في الإحرام على الوجه الذي ذكرنا، فلو أنا خلينا والقياس، لقلنا إنه يلبي حتى يحل من الإحرام، إلا أن الناس متفقون على قطع تلبية العمرة عند افتتاح الطواف، ومنهم من يقطعها قبل ذلك، فلم نقطعها بالقياس، إذ كان القياس يوجب استصحابها للإحرام.

[الطواف بالبيت] قال: (ويطوف سبعة أشواط من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود). وذلك لأن افتتاح الطواف بالحجر، كافتتاح الإحرام بالتلبية، والصلاة بالتكبير. وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استلم الحجر أو ما دخل المسجد، ثم طاف. [الرمل في الطواف] قال: (ويرمل في الثلاثة الأشواط الأول منها، ويمشي في بقيتها). وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة في عمرة القضاء، رمل في الثلاثة الأشواط، وأمر أصحابه بذلك، وقال: "رحم الله امرأ أظهر اليوم من نفسه جلدًا". وكان ذلك لإظهار الجلد للمشركين، لأنهم قالوا: "قد أوهنتهم حمى يثرب". ثم رمل أيضًا حين قدم لحجة الوداع، ولم تكن هناك مراءاة

للمشركين فثبت أنه سنة. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "على ما أهز كتفي وليس هاهنا أحد أرائيه"، ثم قال: "لأتبعن أصحابي". قال أبو بكر أحمد: كل طواف بعده سعي: يرمل فيه، وكل طواف ليس بعده سعي: فلا رمل فيه. [استلام الحجر الأسود] (ويستلم الحجر الأسود، ويقبله كلما مر به إن أمكنه ذلك، فإن لم يستطع: استقبله، وكبر، ورفع يديه). روي أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبًا يستلم الحجر والأركان بمحجنه، يشير إليها. * قال: (ويرفع يديه إذا كبر مستقبلًا بظهورهما وجهه، وببطونهما الحجر). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ترفع

الأيدي إلا في سبعة مواطن"، وذكر منها استلام الحجر. * قال: (ويفعل ذلك في الأشواط السبعة). لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يمر بهذين الركنين إلا استلمهما. وروى عمر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحجر". [استلام الركن اليماني، واستحباب تقبيله عند الإمام محمد] قال: (فأما الركن اليماني، فإن استلمه فحسن، وإن تركه: لم يضره في قول أبي حنيفة وأبي يوسف). وذلك لأنه روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الركن اليماني، ووضع خده عليه".

وليس استلامه بواجب، وإنما يجب استلام الحجر؛ لأن افتتاح الطواف منه يصح، ولو ابتدأه من غيره: لم يصح. ويدل عليه: أنه إذا صلى ركعتي الطواف، وأراد الخروج إلى الصفا، عاد لاستلام الحجر، دون الركن اليماني. وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه أنه فعله. * قال: (وقال محمد بعد ذلك: يستلم الركن اليماني، ويقبله، ويفعل فيه كما يفعل في الحجر). لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلمه. وإنما لم يستلم غير هذين الركنين؛ لأن الركنين الأخيرين ليسا من أركان البيت، لأن الحجر قطعة من البيت، فالركنان من وسط البيت، ليسا ركنين على الحقيقة.

[صلاة ركعتي الطواف] قال أبو جعفر: (فإذا فرغ من هذه السبعة الأشواط صلى ركعتين). لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى ركعتين بعد الطواف عند المقام، وتلا قول الله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}. وقال: (فإن كان بعد الصبح، أو بعد العصر، أو عند الطلوع والزوال والغروب: لم يصلهما). لأن هذه أوقات قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها، وقد بيناها في كتاب الصلاة. [السعي بين الصفا والمروة] قال أبو جعفر: (ثم يخرج من باب الصفا، أو من حيث تيسر عليه، حتى يقف على الصفا من حيث يرى البيت، فيكبر الله، ويهلله، ويحمده، ويصلي على نبيه، ويدعوا بما أحب. ثم ينزل ماشيًا، ويسعى في بطن الوادي حتى يجاوز الميلين الأخضرين. ثم يقف على المروة، فيفعل عليها كما يفعل على الصفا، حتى يفعل ذلك سبع مرات، يبتدئ في كل مرة بالصفا، ويختم بالمروة).

قال أبو بكر أحمد: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا في قوله: يبتدئ في كل مرة بالصفا، ويختم بالمروة: فإن هذا غلط، وتجئ على هذا: أربعة عشر شوطًا، وإنما عليه سبعة أشواط فمضيه من الصفا إلى المروة: شوط، ورجوعه من المروة إلى الصفا: شوط آخر، وكذلك على هذا إلى أن يقضي السعي. وعسى أن يكون أراد به: يبدأ بالصفا أول مرة، ويختم بالمروة في آخره، وكذلك قال محمد بن الحسن في كتاب المناسك. [الحلق بعد السعي] قال: (فإذا فعل ذلك حلق أو قصر، والحلق أفضل). وذلك لأن العمرة إنما هي الإحرام والطواف والسعي. وإنما كان الحلق أفضل، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه دعا للمحلقين ثلاثًا، وللمقصرين مرة". [ما تفعله المرأة في الطواف والسعي] قال: (والنساء في العمرة كالرجال، إلا أنهن لا يسعين، ولا

يرملن، ولا يحلقن، وإنما يقصرن). وذلك لأن الرمل والسعي ربما بدا فيهما ما حكمه أن يستر، والنساء مأمورات بالستر. ولا يحلقن؛ لأن حلقهن مثلة، وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. [مسألة:] (وإذا أقيمت الصلاة وهو يطوف أو يسعى، صلى، وبنى). وذلك لأن قطعه بالكلام وسائر التصرف لا يمنع البناء، كذلك بالصلاة. [مسألة:] قال: (ولو طاف لعمرته محمولًا لعلة: لم يضره). وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبًا، وذكر أن ذلك لشكاة كانت به.

* قال: (ولو كان لغير علة: كان عليه دم، وأجزأه). وإنما لزمه الدم، لما فيه من النقص، وأجزأه؛ لأنه قد فعل الطواف. [الأوقات التي لا تجوز فيها العمرة] قال: (والعمرة جائزة في السنة كلها، إلا في يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق). وروي ذلك عن عائشة رضي الله عنها. مسألة: [وجوب الدم بالطواف للعمرة على غير طهارة] قال: (ومن طاف بالبيت لعمرته جنبًا، أو على غير وضوء، فإن أعاد: أجزأ، ولا شيء عليه، وإن لم يعد حتى رجع إلى أهله: فعليه دم، ويجزئه). وذلك لقول الله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق}، ولو جعلنا الطهارة من شرطه، كان فيه زيادة في النص، ولا يجوز ذلك إلا بنص منه، وإذا ثبت الجواز: لزمه دم للنقصان؛ لأن كل من أجازه، أوجب عليه دمًا. [عدم اشتراط طهارة الثياب في الطواف] قال: (ولو طاف لعمرته في ثوب نجس، فلا شيء عليه).

وذلك لأن نجاسة الثوب لا تأثير لها في شيء من أفعال المناسك، ولا يمنع مس المصحف، وقراءة القرآن، ولا دخول المسجد. وليس مثل الطواف مع الحدث؛ لأن للحدث تأثيرًا في منع مس المصحف، فهو أغلظ من نجاسة الثوب، ولأنه لم يرد نهي في منع الطواف مع نجاسة البدن والثوب. [أثر كشف العورة في الطواف] قال: (ولو طاف مكشوف العورة، ثم رجع إلى أهله قبل أن يعيد: فعليه دم، وأجزأه). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر فنودي بمكة: "ولا يطوف بالبيت عريان"، فنهى عنه مع العري. [عدم اشتراط الطهارة للسعي] قال: (ومن سعى بين الصفا والمروة على غير طهارة: فلا شيء عليه). وذلك لأنه مفعول في غير المسجد، فأشبه رمي الجمار، والوقوف بعرفة والمزدلفة. ***********

باب ذكر الحج

باب ذكر الحج [صفة إحرام الحج] قال: (وإحرام الحج كإحرام العمرة على ما بينا، غير أنه لا يقطع التلبية عند أخذه في الطواف). وهذا لا خلاف فيه. [أفعال الحج] قال: (ويقيم على إحرامه، ويطوف بالبيت متى شاء، ولا يرمل في طوافه، ولا يسعى بين الصفا والمروة). قال أحمد: قوله: ولا يرمل في طوافه، ولا يسعى بين الصفا والمروة: ليس بسديد؛ لأنه إن طاف بعد إحرام الحج، وأراد أن يقدم السعي بين الصفا والمروة على يوم النحر: كان له ذلك، فإذا أراد ذلك رمل في الطواف الذي بعده سعي؛ لأن كل طواف بعده سعي: ففيه رمل. قال: (ويصلي لكل أسبوع ركعتين) وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد ما طاف أسبوعًا،

ركعتين، وتلا قول الله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، فدلت تلاوته الآية حين أراد الصلاة، أن هذه الصلاة مرادة بالآية، فصارت الصلاة موجبة بالطواف، كإيجابها بالنذر؛ إذ كان وجوبها معلقًا بفعله للطواف. [الخروج إلى منى يوم التروية] قال: (وإذا كان يوم التروية خرج إلى منى، يصلي بها خمس صلوات: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر) كذلك روي عن النبي. [الخروج إلى عرفات، وجمع الظهر والعصر فيهما تقديمًا قال: (وإذا أصبح من يوم عرفة، وطلعت الشمس، غدا إلى عرفات، فأقام بها حتى يصلي الظهر والعصر في وقت الظهر مع الإمام). هكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه جمع بينهما هناك بعد زوال الشمس". * قال: (فإن فاتتا، أو أحدهما مع الإمام: صلى كل واحدة منهما لوقتها في قول أبي حنيفة). وذلك لأن جواز الجمع عنده متعلق بالإمام؛ لأن للإمام تأثيرًا في

تغيير الفرض، كمصلي الجمعة مع الإمام، يسقط عنه فرض الظهر. وأيضًا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وهو صلى الله عليه وسلم جمع بينهما بإمام، فصار الإمام شرطًا في الجمع. * قال: (وأما في قول أبي يوسف ومحمد فيصليهما في رحله، كما يصليهما مع الإمام). وذلك لأن علة الجمع عندهما هو الوقوف، ليتصل ولا ينقطع بفعل العصر. * قال: (ويجمع الإمام بين هاتين الصلاتين بأذان وإقامتين). وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. * قال: (ثم يقف بعرفة، وكل عرفة موقف إلا عرنة، فاجتهد في الدعاء إلى الغروب). لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة".

ودفع النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة بعد غروب الشمس. [الدفع إلى مزدلفة، وجمع المغرب والعشاء فيها تأخيرًا] قال: (ثم ادفع إلى مزدلفة، فصل بها المغرب والعشاء، ثم انزل منها حيث أحببت، وكلها موقف إلا بطن محسر). لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ومزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن محسر". * قال: (وإن صلاهما دونها: لم يجزه في قول أبي حنيفة ومحمد). لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين قال له أسامة بن زيد رضي الله عنه قبل بلوغه مزدلفة: الصلاة يا رسول الله! قال: "الصلاة أمامك". * (وقال أبو يوسف: يجزيه)؛ لأن التأخير رخصة. [مسألة:] قال: (ويجمع الإمام بين هاتين الصلاتين بأذان وإقامة).

كذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. [الدفع إلى منى قبل طلوع الشمس] قال: (فإذا أصبح وصلى الفجر، وقف عند المشعر الحرام، ودعا، ثم دفع قبل طلوع الشمس إلى منى). لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه صلى الفجر يومئذ بغلس، ودعا، ثم لما أسفر دفع قبل طلوع الشمس". [رمي جمرة العقبة] (فإذا أتى منى، بدأ بجمرة العقبة، فرماها بسبع حصيات، مثل حصى الخذف). لأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل، وقال: "ارموا بمثل حصى الخذف". * (وكبر مع كل حصاة) كذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. * قال: (ويقطع التلبية مع أول حصاة). لما "روى الفضل بن العباس رضي الله عنهما وكان رديف النبي

صلى الله عليه وسلم من مزدلفة إلى منى: أنه قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة". * قال أبو بكر أحمد: المعتمر يقطع التلبية عند استلام الحجر للطواف، والحاج عند أول حصاة يرمي بها جمرة العقبة، والذي يفسد حجة بجماع كذلك، والذي يفوته الحج يقطعها عند استلام الحجر للطواف كالمعتمر، والمحصر يقطعها إذا ذبح عنه الهدي، وحل. [التحلل الأصغر بالذبح والحلق] قال: (فإن كان معه هدي: نحره، ثم حلق أو قصر). لأن الحلق مؤخر عن الذبح، قال الله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله}. قال: (ثم قد حل له كل شيء إلا النساء). وذلك لما روت عائشة قالت: "طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين أحرم، ولإحلاله قبل أن يطوف بالبيت". ولأنهم لا يختلفون أنه يحل له اللبس، فكذلك الصيد والطيب.

[طواف الإفاضة (الزيارة) والتحلل الأكبر] قال: (ثم يأتي البيت، فيطوف به سبعة أشواط لا يرمل فيهن، ولا يسعى بين الصفا والمروة معهن، وهو طواف الزيارة). قال أبو بكر: إذا كان قد قدم السعي بين الصفا والمروة بعد طواف القدوم للحج، فإن لم يكن سعى حينئذ: فإنه يرمل في طواف الزيارة، ويسعى. قال: (وإذا فعل ذلك، فقد حل له النساء، ثم يركع ركعتين)، وهما ركعتا الطواف. [العودة إلى منى والمبيت فيها] (ثم رجع إلى منى، فبات بها). وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات هو وأصحابه رضي الله عنهم بها، ورخص للعباس رضي الله عنه في البيتوتة بمكة، لأجل السقاية. وكان عمر رضي الله عنه يمنع الناس أن يبيتوا دون العقبة. [رمي اليوم الأول من أيام التشريق] قال: (فإذا أصبح، وزالت الشمس، رمى الجمرة الأولى بسبع حصيات، ووقف عندها فدعا، ثم رمى الوسطى كذلك، ووقف ودعا،

ثم رمى جمرة العقبة كذلك، ولم يقف عندها). قال أبو بكر: وكل جمرة بعدها أخرى: وقف عليها، وكل جمرة ليس بعدها إلا الانصراف: لم يقف عندها، وكذلك روي في الآثار. وهذا الدعاء هو الذكر المأمور به –والله أعلم- في قوله جل وعلا: {واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه}. [رمي اليوم الثاني من أيام التشريق] قال: (ويبيت بمنى، فإذا أصبح وزالت الشمس، رمى الجمرات الثلاث كما رمى بالأمس). لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه. [النفر من منى متعجلًا أو متأخرًا] قال: (فإن أحب أن يتعجل: خرج قبل الغروب من منى، وإن غربت الشمس وهو بمنى، فالأفضل أن يقيم إلى النفر الآخر، فإن لم يفعل، ونفر فيما بينه وبين طلوع الفجر: فلا شيء عليه). فأما تعجيل النفر، فالأصل فيه قول الله تعالى: {فمن تعجل في يومين

فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه". * وأما إذا بقي هناك إلى الغروب، فإن محمدًا قال في الزيادات: أكره له أن ينفر حتى يصبح، فيرمي جمرة ذلك اليوم، وذلك لأن الكون هناك ليلًا، إنما يكون قربة لأجل الرمي المفعول في اليوم الذي يليه، ألا ترى أنه إذا لم ينو الرمي: لم تكن البيتوتة هناك قربة، فإذا قضى هناك ليلًا، فكأنه قد اختار اليوم الثالث، فيكره له تركه. وإن نفر: جاز؛ لأن الليل في باب الرمي: في حكم اليوم الذي قبله، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يرموا ليلًا، وأن

من أخر الرمي إلى الليل: لم يلزمه شيء عند من يرى التأخير نقصًا. قال: (وإن طلع الفجر قبل أن ينفر: فقد وجبت عليه الإقامة إلى النفر الآخر). لأنه قد تأخر إلى اليوم الثالث، وإنما أبيح ترك الرمي لمن عجل النفر. * فإن رمى في اليوم الثالث قبل الزوال: أجزأه في قول أبي حنيفة، لأنه وقت الرمي، والدليل عليه أن وجوبه متعلق بكونه هناك وقت طلوع الفجر، ومحال أن يكون وقتًا للوجوب، ولا يجوز فيه الفعل. [طواف الوداع (الصدر)] قال: (ثم يخرج إلى مكة، فيأتي بالبيت، فيطوف به سبعًا، وهو طواف الصدر). لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف". * قال: (ولا ينبغي له أن يقدم ثقله). قال أبو بكر أحمد: يعني قبل النفر، روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "من قدم ثقله: فلا حج له".

ولأن في تقديم ثقله شغل فكره عن استيفاء ما يفعله من النسك. ومعنى آخر: وهو أنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما سأله قوم من الأنصار أن ينزل عندهم حين قدم المدينة، وقد كان أبو أيوب رضي الله عنه أخذ رحله وحوله إلى منزله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المرء حيث رحله". فإذا قدم ثقله، فكأنه قد نفر، وصار إلى حيث ثقله قبل وقت النفر. [النزول بالأبطح] قال: (ولا بأس أن ينزل الأبطح، فيقيم بها ساعة قبل أن يمضي إلى مكة لطوافه لوداعه). لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نزل بالأبطح، ثم رحل منه. [جواز ترك الحائض لطواف الوداع] قال: (وللحائض أن تترك طواف الصدر، وتخرج ولا شيء عليها). لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر صفية رضي الله عنها أن تنفر قبل أن تطوف للصدر، ولم يوجب عليها شيئًا.

[وجوب الدم على من لم يطف للوداع] (ومن ترك طواف الصدر سوى الحائض والنفساء حتى رجع إلى أهله: فعليه دم). لأنه واجب عندنا كالسعي والرمي ونحوهما؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم به. * (والدم يذبح بمكة) لا يجزيه في غيرها، والأصل فيه أن كل دم تعلق وجوبه بالإحرام: لم يجز ذبحه إلا بمكة، لقول الله تعالى: {هديًا بالغ الكعبة}، ولقوله تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق}. ولاتفاق الفقهاء على أن هدي جزاء الصيد والمتعة لا يجزيان إلا في الحرم. والمعنى فيه أن وجوبه متعلق بالإحرام، وكذلك كل هدي هذا وصفه. [مسألة:] قال: (ومن ترك الطواف للزيارة، وطاف طواف الصدر: أجزأه من طواف الزيارة، وكان عليه دم لطواف الصدر).

وذلك لأن فعل طواف الزيارة مستحق عليه بالإحرام، كما استحق عليه فعل الركعة الأولى من الظهر قبل الثانية بالتحريمة، فلا يقع إلا عن المستحق، وإن نوى غيره لم يكن لنيته تأثير. [حكم من لم يطف للإفاضة ولا للوداع] قال: (ومن لم يطف طواف الزيارة، ولا طواف الصدر، حتى رجع إلى أهله: كان حرامًا أبدًا، حتى يرجع فيطوف للزيارة). قال أبو بكر أحمد: يعني أنه حرام من النساء، فأما من غيرهن فلا، وقد بيناه فيما سلف. [مسألة:] قال: (والقارن يطوف طوافين، ويسعى سعيين). وذلك لقول الله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله)، والطواف والسعي لكل واحد منهما على الانفراد من إتمامهما، بدلالة أن المنفرد لكل واحد منهما يلزمه إفراد الطواف والسعي له، وإذا صح أنهما من إتمامهما بحال: لزمه فعلهما بعموم اللفظ، ولا يجوز إسقاطه إلا بدلالة. وأيضًا: روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه طاف لهما طوافين، وسعى سعيين، وقال: "هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل".

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم". فوجب بمجموعي الخبرين وجوب الطوافين والسعيين. وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف لهما طوافًا واحدًا: فمعناه للقدوم، أو على صفة واحدة. وأيضًا لا خلاف أن القارن يجوز له الحلق بعد الرمي والذبح، ولو كان طواف الزيارة نائبًا عن العمرة، لمنع الحلق قبله؛ لأن بقاء طواف العمرة يمنع الحلق. [الذبح ثم الحلق] قال: (فإذا كان يوم النحر ورمى: ذبح الهدي الذي لقرانه إن كان يجد، ثم حلق). لقول الله تعالى: {فما استيسر من الهدي}، وقال: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله}، وهو عموم في سائر الهدايا التي معها حلق. (فإن لم يجد الهدي: صام ثلاثة أيام، آخرها يوم عرفة).

لقول الله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج}، ويكون آخرها يوم عرفة؛ لأنه لا يجوز أن يصوم يوم النحر وأيام التشريق؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم هذه الأيام. ولم يختلفوا أنه لا يصوم يوم النحر، فكذلك أيام التشريق؛ لأن النهي قد ورد في الجميع. وكما لا يجوز صوم هذه الأيام من قضاء شهر رمضان، ومن سائر الصيام الواجب، كذلك صوم المتعة. [مسألة:] قال: (ومن اعتمر في غير أشهر الحج، وطاف أكثر طواف عمرته في أشهر الحج، ثم حج من عامه، وليس من أهل مكة: فهو متمتع). لأن حكم الأكثر حكم الكل في باب الجواز، وكذلك قالوا: إن من طاف أربعة أشواط لعمرته، ثم جامع، لم تفسد عمرته، وكذلك لو طاف أربعة أشواط من طواف الزيارة، وترك الباقي حتى رجع: أنه يجزئه دم لما بقي منه. والأصل في ذلك كله: أن فرائض الحج ثلاثة أشياء: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الزيارة، ثم قام الأكثر منها مقام الكل في باب

الجواز، والامتناع من ورود الفساد عليه بعده. ألا ترى أنه لو جامع بعد الوقوف بعرفة: لم يفسد عليه حجه مع بقاء طواف الزيارة، فصار ذلك أصلًا في أن كل ما تعلق بالإحرام من الأفعال: فحكم أكثره حكم جميعه في باب الجواز، وامتناع ورود الفساد عليه. [مسألة:] قال: (وإذا توجه القارن إلى عرفة قبل أن يطوف لعمرته، فإن أبا حنيفة كان يقول: قد صار بذلك رافضًا لعمرته حين توجه، وعليه لرفضها دم، وعمرة مكانها، ويمضي في حجته. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يكون رافضًا لعمرته حتى يقف بعرفة لحجته بعد زوال الشمس). قال أبو بكر أحمد: هذا الخلاف الذي ذكره لا نعرفه، وإنما نعرف عن أبي حنيفة فيها روايتين: فأما في رواية "الجامع الصغير"، و"الأصل"، فإنه لا يكون رافضًا بالتوجه، حتى يقف بعرفه بعد الزوال. وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه يكون رافضًا بالتوجه. ووجه رواية الأصل التي لا تجعله رافضًا فيها: أن توجهه إلى عرفات ليس بنسك في نفسه، فهو كتوجهه إلى سائر الآفاق، وإنما الذي ينافي بقاء إحرام العمرة، حصول فعل الحج، وليس التوجه من أفعال الحج.

والفصل بينه وبين من توجه إلى الجمعة بعد ما صلى الظهر: أن التوجه إلى الجمعة فرض من فروضها، لقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله}، فصار كدخوله فيها في باب انتقاض الظهر به. وفصل آخر: وهو أن الإحرام أكد في باب البقاء من الصلاة، والدليل عليه أن ترك بعض فروض الصلاة يفسدها، وترك بعض فروض الإحرام لا يفسده، ألا ترى أنه لو لبس، أو تطيب، أو اصطاد: لم يفسد إحرامه، ولو تكلم أو أكل في الصلاة، فسدت صلاته. ووجه الرواية الأخرى: أن الرفض قد يقع عنده بما لا يكون نسكًا في نفسه، ألا ترى أن من قوله: إن من أحرم بحجتين، ثم سار: كان بنفس السير رافضًا لإحداهما. [مسألة:] قال: (وإذا دخلت المرأة مكة معتمرة، وهي تريد الحج بعد العمرة، أو دخلتها قارنة، فحاضت قبل أن تطوف للعمرة: رفضت العمرة، وكان عليها لرفضها دم، وعمرة مكانها، ومضت في حجها إن كانت قارنة، أو أحرمت بالحج ومضت فيه). وذلك لأن الوقوف بعرفة ينافي بقاء العمرة، ما لم تكن قد تمت قبل ذلك، والدليل على ذلك أن عائشة رضي الله عنها كانت محرمة بعمرة، فحاضت قبل أن تطوف، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنقض

رأسها، وترفض العمرة، وتهل بالحج. فلو كان الوقوف بعرفه يجامعه بقاء العمرة، لما أمرها صلى الله عليه وسلم برفضها، ومن أجل ذلك قلنا إن القارن إذا وقف بعرفة قبل أن يطوف للعمرة، صار رافضًا لها. وإنما وجب عليها دم لرفض العمرة؛ لأن كل من حل من إحرامه بغير طواف: فعليه دم، والأصل فيه المحصر. وعليها القضاء؛ لأنها قد لزمتها العمرة في ذمتها. [مسألة: لو جامع زوجته الحاجة قبل عرفات] قال: (وإذا جامع الحاج امرأته الحاجة قبل الوقوف بعرفة، فسد حجهما، مطاوعة كانت أو مكرهه، وعليهما قضاء الحج، ودم على كل واحد منهما، ولا يتفرقان إذا عادا للقضاء). أما فساد الحج في حال الطوع: فلا خلاف فيه، وروي نحوه عن عمر، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم.

ولا يختلف حكم الطوع والإكراه عندنا؛ لأن الأشياء المحظورة في الإحرام، لا يختلف فيها حكم المعذور وغيره، ألا ترى أنه لو حلق رأسه من أذى أو من غيره: لم يخل من وجوب الفدية، وكذلك اللابس والمتطيب، وكذلك الصيد إذا أصيب عمدًا أو خطأ. ويدل على صحة هذا الأصل: أنه لا فرق بين أن يفوته الحج بقصد منه إلى ذلك، أو بعذر فيما تعلق به من الحكم. * وعلى كل واحد منهما دم؛ لأنه جامع وهو محرم. * ولا يفترقان؛ لأن الفرقة ليست بنسك في الابتداء قبل الجماع. [مسألة: لو جامعها بعرفة بعد الزوال] قال: (فإن جامع بعد ما وقف بعرفة بعد الزوال: فعليه بدنة، وعلى المرأة بدنة، ويمضيان في حجهما ولا يفسد). وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك عرفة ليلًا أو نهارًا، فقد تم حجه". ولفظ: "الإتمام": يطلق على أحد وجهين:

إما لاستيفاء كمال الأفعال، أو لانتفاء ورود الفساد عليه، فلما لم يرد بقوله: "من أدرك عرفة ليلا": استيفاء فروضه، علمنا أنه أراد نفي ورود الفساد عليه. وأيضا: فقد وافقنا المخالف على أن جماعه بعد رمي الجمار: لا يفسد عليه حجه، ومعلوم أن الرمي من توابع الحج، لا يتعلق به حكم الفساد، فدل على أنه إنما لم يفسد؛ لأجل حصول الوقوف. *وعلى كل واحد منهما بدنة؛ لأن كل من يفسد حجه أوجب بدنة. *ولا ترجع عليه بشيء لإكراهه، من قبل أن حصول المتعة لها بالجماع، هو الذي ألزمها ذلك، فلا ترجع به عليه، ألا ترى أنه لو حبسها حتى فاتها الحج: لم ترجع عليه بنفقة الحج التي أنفقها، وكذلك إذا جامعها مكرهة قبل الوقوف، لا ترجع عليه بنفقة الطريق، فكذلك دم الجماع. *قال أبو بكر أحمد: والبدنة لا تجب الإحرام في موضعين: أحدهما: الجماع الذي يكون من الحاج بعد الوقوف بعرفة، وهو أول جماع يكون منه، ولو جامع ثانيا، لم تلزمه له بدنة، وإنما تلزمه شاة. والموضع الآخر: إذا طاف للزيارة جنبا، ورجع إلى أهله قبل أن يعيد، فتكون عليه بدنة.

وإنما أوجبنا البدنة بالجماع في مسألتنا؛ لأن الناس فيه على قولين: منهم من يفسد حجه، ويوجب بدنة، ومنهم من لا يفسده، ويوجب بدنة، وكل من أفسد حجه، ومن لم يفسد حجه يوجب بدنة. فلما ثبت عندنا جواز حجه، وجبت البدنة بالإجماع، وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما. [مسألة: جامع قبل عرفة] قال: (ومن جامع في حجة مرارا قبل وقوفه بعرفة، فإن كان ذلك في موطن واحد: فعليه دم واحد، وإن كان في مواطن كثيرة: فعليه لكل موطن دم. وقال محمد: عليه دم واحد ما لم يهد، فإن أهدى، ثم جامع: فعليه دم آخر).

لأبي حنيفة: أن الجماع الواحد، وإن حصل فيه إيلاج كثير لا يوجب بالاتفاق إلا دما واحدا، والمعنى فيه حصول الجميع في مجلس واحد، فوجب أن يكون كذلك حكم الجماعين والثلاثة؛ لوقوع الجميع في مجس واحد، وإن كان كل واحد لو انفرد: أوجب دما، كما أن الإيلاج لو انفرد أوجب دما، ثم إذا جمع الكثير في مجلس واحد: لم يجب إلا دم واحد. وإذا كان كذلك في مجالس مختلفة: وجب لكل جماع دم، من قبل أن كل جماع قد صادف إحراما هو محظور فيه في مجلس لم يقع فيه جماع غيره، فكان كمن أهدى، ثم عاد. *وجعله محمد ككفارة شهر رمضان، أنها لا تجب ثانيا بإفطار آخر، حتى يكفر له. والفصل بينهما عند أبي حنيفة: أن كفارة شهر رمضان مما تسقطه الشبهة، ولا توجب على المعذور، وكفارات الإحرام تثبت مع الشبهة والعذر. [مسألة: قبل زوجته وهو محرم] قال: (وإذا قبل امرأته، وأنزل أو لم ينزل: فعليه دم، ولا يفسد إحرامه). وذلك لأن فساد الإحرام مخصوص بالجماع، والدليل عليه أن اللبس والطيب لا يفسدانه، وما كان مخصوصا بالجماع، فإنما يتعلق الحكم فيه بالجماع في الفرج.

والدليل عليه الزنى والإحصان ونحوهما. ويجب دم؛ لحصول المنفعة بما يحظره الإحرام كاللبس والطيب.

باب ما يجتنبه المحرم

باب ما يجتنبه المحرم [محظورات الإحرام]: قال أبو جعفر: (ومن أحرم من الرجال لم يتطيب، ولم يلبس ثوبا مصبوغا بورس، ولا زعفران، ولا بعصفر، ولا قميصا، ولا قباء، ولا برنسا، ولا سراويل، ولا خفين). أما الطيب؛ فلما روى يعلى بن منية رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه جبة، وهو متضمخ بخلوق، فسأله عما يصنع في عمرته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أنزل عليه الوحي: "ما كنت تصنع في حجك؟ فقال: أنزع عني هذه الجبة، وأغسل عني هذا الطيب، فقال: "فاصنع في عمرتك ما كنت صانعا في حجك". وروى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يلبس المحرم القميص ولا السراويلات، ولا العمائم، ولا الأقبية، ولا القلانس، ولا الخفاف، ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران، إلا

أن يكون غسيلا". وقال صلى الله عليه وسلم: "ومن لم يجد نعلين، فليلبس خفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين". وروي: "من لم يجد إزارا، فليلبس سراويل". وهذا عندنا على الوجه الذي أمر فيه بلبس الخفين بعد قطعهما أسفل من الكعبين، كذلك السراويل يتزر بها من غير أن يشتمل عليها بخياطتها أو يضيقها. وأما تغطية الرأس والوجه، فلنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس العمائم. وقال في المحرم الذي مات حين بقي له حكم إحرامه: "لا تغطوا وجهه ولا رأسه". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إحرام المرأة في وجهها"، والرجل بذلك أولى؛ لأن المرأة أخف حكما في اللبس

من الرجل. وجملة الأمر في اللبس عندنا: أنه لا ينبغي له أن يلبس ما يشتمل عليه بخياطة. [النهي عن قتل الصيد، والجماع، وجز الشعر، وقلم الظفر] *قال: (ولا يقتل صيدا من صيد البر). لقول الله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم}، وقال: {وحرم عليكم صيد البر مادمتم حرما}. * (ولا يجامع). لقول الله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}، والرفث: الجماع. *قال: (ولا يجز شعره، ولا يقلم ظفره). وذلك لقول الله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله}، وقال

تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم}: يعني الذبح. [النهي عن الدهن، وعقد النكاح، وقطع شجر المحرم] * (ولا يدهن بدهن مطيب ولا غيره). لأن الدهن في نفسه طيب. * (ولا بأس بأن يتزوج، ولا يطأ). وقد بينا ذلك في النكاح. * (ولا يقطع من شجر الحرم إلا الإذخر). لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يختلى بخلاها، ولا يعضد شجرها، فقال العباس: إلا الإذخر. فقال: إلا الإذخر". * (وكذلك الحلال في شجر الحرم بهذه المنزلة). لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص المحرم. [ما تجتنبه المرأة في إحرامها] قال: (والنساء كالرجال في اجتناب الطيب)، ولا خلاف فيه نعلمه.

* (ويلبسن ما شئن من اللباس، ولا يغطين وجوههن، وليسدلن عليها، ويجافين عنها). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس إحرام المرأة إلا في وجهها". حدثنا بذلك عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن يونس بن موسى قال: حدثنا عبد الله بن رجاء قال: حدثنا أيوب بن محمد أبو الجمل عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس على المرأة إحرام إلا في وجهها". وفي حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ولا تنتقب المرأة الحرام". *قال: (ولا بأس بأن تغطي المرأة فاها في إحرامها، إلا في الصلاة فإنها لا تغطيه فيها). وهذا ينبغي أن يكون على سبيل سدل الخمار، لا على جهة النقاب، لأنه لا ينبغي لها أن تنتقب. ويكره تغطية الفم في الصلاة، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه.

[إذا لبس المحرم القميص ونحوه] قال: (وإن لبس المحرم قميصا أو نحوه يوما كاملا من غير ضرورة: فعليه دم، لا يجزئه غير ذلك). وذلك لأنه متعد فيه، بمنزلة المتطيب، وحالق الرأس من غير أذى. وإنما اعتبر لبسه يوما كاملا؛ لأنه اللبس المعتاد، ألا ترى أن في العادة أن يغير اللبس بالليل. *قال: (فإن لبسه من ضرورة: فعليه أي الكفارات شاء: إن شاء ذبح شاة، وإن شاء صام ثلاثة أيام، وإن شاء تصدق على ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من بر، أو صاع من شعير). وذلك لقول الله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "النسك شاة، والصيام ثلاثة أيام، والدقة ثلاثة آصع من طعام على ستة مساكين". وفي خبر آخر: "ستة آصع من تمر على ستة مساكين".

* (ولا يجزئ النسك إلا في الحرم). وذلك لنما بيناه من أنه دم متعلق بالإحرام). [لو حلق المحرم شعر رأسه، أو بعضه] قال: (وإذا حلق رأسه من غير ضرورة: فعليه دم لا يجزئه غيره). لما بينا. (وإن كان من ضرورة: فعليه أي الكفارات شاء)؛ للآية. *قال: (وكذلك لو حلق ربع رأسه في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف، ومحمد: لا يجب عليه دم حتى يحلق أكثر رأسه، فيجب دم). قال أبو بكر أحمد: الرواية المشهورة عنهم جميعا أن عليه في حلق الربع دما. وروي عن أبي يوسف وحده في غير الأصول: أن الدم لا يجب حتى يحلق أكثر رأسه. *وأما اعتبار الربع؛ فلأن الربع قد تعلق به الحكم في الرأس في باب جواز مسحه، فصار في حكم الكل من هذا الوجه.

ولأن الربع قد ثبت حكمه أيضا في باب كشف المرأة ربع رأسها، أو ساقها في الصلاة، بأنه يمنع جوازها، فكذلك في الحلق في الإحرام. ألا ترى أن حلق القليل لا يوجب دما، والكثير يوجبه، فاحتجنا إلى حد فاصل بينهما، فجعلوه الربع، كما في كشف المرأة ربع رأسها، أو ساقها في الصلاة. وقال أبو يوسف في كشف الساق والرأس: إنه لا يمنع الصلاة حتى يكون أكثر من النصف في إحدى الروايتين، فكذلك في الحلق. [لو حلق المحرم شاربه، مواضع المحاجم، أو شعر إبطه] قال: (وإن حلق شاربه: فعليه طعام). وذلك لأن الشارب تابع للحية، فهو كمن حلق أقل من ربع رأسه. *قال: (وإن حلق مواضع المحاجم: فعليه دم في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمد: عليه طعام). وذلك لأن العنق عضو كبير، لا نظير له في البدن، فأشبه الرأس، ومواضع المحاجم منه أكثر من الربع. ولا خلاف بينهم أنه لو حلق الرقبة كلها: كان عليه دم في قولهم جميعا.

وأبو يوسف ومحمد جعلا الرقبة تابعة للرأس، فلا يجب في ربعها دم كالشارب. *قال: (وإن حلق إبطيه أو أحدهما: كان عليه دم). لأن الإبط عضو كامل، إلا أن له نظيرا في البدن، فإن حلقه كله: وجب دم، وإن حلق بعضه: لم يجب دم، لأنه عضو صغير، وله نظير في البدن. وإنما خص أبو حنيفة الرأس والرقبة، بأن جعل في ربع كل واحد منهما دما، لما وصفنا. [لو قص المحرم أظافره] (وإن قص أظافره كلها: فعليه دم، كذلك إن قص أظافر يد أو رجل: فعليه جم). وذلك لأنه قد أزال التفث عن عضو، إذ الجميع من جنس واحد، فلا يجب في الكل إلا ما يجب في العضو، ألا ترى أنه لو لبس قميصا وسراويل وخفين وعمامة، لم يجب عليه إلا دم واحد. *قال: (فإن قص خمسة أظافير من يدين أو رجلين، ففي قول أبي حنيفة وأبي يوسف عليه صدقة، وقال محمد: عليه دم). لأبي حنيفة: أن المبتغى بقص الأظفار النفع والزينة جميعا، وإنما حصل له النفع فيما قص من البدن دون الزينة، فلا يبلغ به دما. ومحمد اعتبر العدد.

[لو قطع المحرم شجر الحرم] قال: (وفي شجر الحرم: قيمة يجزئ فيه الهدي والطعام، ولا يجزئ الصوم). وذلك لأن صيامه تعلق بحرمة الموضع، فأشبه حقوق الآدميين، فلا يجزئ من بدله إلا مال. * (ولا يحتش من حشيش الحرم، ولا يرعى في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: يرعى ولا يحتش). لأبي حنيفة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا يختلى خلاها"، وهو يعم الأمرين جميعا. وأيضا: حين منع من إتلافه بالقطع، وجب أن يمنع بالرعي، كما أنه لما منه من قتل الصيد، منع أن يرسل عليه كلبا يقتله. *قال: (وشجر الحرم الذي نهي عنه هو: مما لا ينبته الناس من الحشيش وما أشبهه، إلا الإذخر، فإنه لا بأس به). قال أبو بكر أحمد: لا يضمن من شجر الحرم إلا ما نبت بنفسه، مما لا ينبته الناس، وما عداه لا يضمنه. ولا يضمن ما أنبته هو ثم قطعه؛ لأنه ماله بمنزلة متاعه وضيعته، فله

[حكم أكل المحرم من الصيد] قال: (ولا يأكل المحرم من صيد البر ما تولى صيده، ولا ما تولى صيده من المحرمين غيره). وذلك لأن قتل المحرم الصيد لا يذكيه، وهو بمنزلة الميتة، لأنه حظر ذلك عليه من جهة الدين، كصيد المجوسية، والوثنية. * (لا بأس بأن يأكل مما صاده حلال). لحديث أبي قتادة، وغيره. *قال: (ولا بأس بأن يذبح ما بدا له من الأنعام). لأنه فيها كالحلال؛ إذ ليست يصيد.

[حكم الاستظلال، والادهان بزيت] قال: (ولا بأس بأن يستظل راكبا ونازلا). كما لا بأس بأن يستظل ببيت. *قال: (ومن ادهن وهو محرم بزيت: كان عليه دم). وذلك لأن الزيت في نفسه طيب، ألا ترى أن المتطيب منه طيب بالاتفاق، وهو أنما اكتسب رائحة الطيب، كدهن البان والزئبق والورد ونحوه، ومعلوم أن الرائحة لا حكم لها، لأنه لو لبس رداء مبخرا بالعود والمسك، لم يلزمه لأجل الرائحة بشيء. قال أبو بكر أحمد: قال أبو يوسف ومحمد: عليه في الزيت صدقة. [حكم قتل المحرم للبراغيث والمقل] قال: (ولا بأس للمحرم بقتل البرغوث والنملة والبقة). لأنها ليست بصيد؛ لأن الصيد ما كان جنسه ممتنعا مستوحشا، وهذه الأشياء ليس بمتوحشة ولا ممتنعة.

*قال: (وإن قتل قملة أطعم شيئا). وذلك لأن فيه إزالة التفث، لأن القمل بمنزلة الشعر؛ لأنها متولدة من بدن الإنسان. [حكم حلق المحرم شعر غيره] قال: (ومن حلق وهو محرم شعر رأس غيره، أو قص أظفار غيره: أطعم شيئا). وذلك لأنه منهي عن حلق شعر غيره، أو قص أظافير غيره، كما أ، هـ منهي عن قتل صيد غيره. وقال الله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله}، وهو ينتظم رأس نفسه ورأس غيره. ولا يجب دم؛ لأنه لم يحصل له به نفع ولا زينة.

باب الفدية وجزاء الصيد

باب الفدية وجزاء الصيد [وجوب الدم بالدفع من عرفة قبل الغروب] قال أبو جعفر: (ومن وقف بعرفة من المحرمين بالحج، ودفع منها قبل الغروب: فعليه دم). قال أبو بكر أحمد: لا تفسد حجته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من وقف بعرفة ليلا أو نهارا، فقد تم حجه". وعليه دم؛ لأنه ترك سنة الدفع؛ لأن من سنته الدفع بعد الإمام، أو معه. قال أبو جعفر: (وإن كان الإمام واقفا على حاله، ورجع فوقف معه ما بقي من الوقوف: فالدم عليه على حاله). قال أبو بكر أحمد: وهذا الجواب خلاف مذهبهم؛ لأن من مذهبهم

أن الدم يسقط بعوده قبل دفع الإمام؛ لأنه قد فعل سنة الدفع، وقد رواه عنهم أبو الحسن الكرخي رحمه الله. مسألة: [فدية الصيد إذا قتله المحرم] قال أبو جعفر: (وإذا قتل المحرم صيدا: حكم عليه في ذلك ذوا عدل بقيمته، ثم إن شاء صرفها في هدي، وإن شاء اشترى بها طعاما فأطعم كل مسكين نصف صاع من بر، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما، وهو مخير فيه. وقال محمد: يحكم به ذوا عدل، فإن حكما بهدي: نظر إلى نظيره من النعم الذي يشبهه في المنظر، ولم ينظر إلى قيمته فيما له نظير. وما لا نظير له: فقيمته، ويشتري بالقيمة طعاما، ثم إن شاء أطعم، وإن شاء صام). قال: (وإن حكم الحكمان بالطعام أو الصيام، فعلى ما قال أبو حنيفة). قال أبو بكر أحمد: الخيار إلى القاتل في الهدي أو الطعام أو الصيام، وليس الخيار إلى الحكمين. وجه قول أبي حنيفة: أن قول الله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل نم النعم}:

قد انتظم القيمة، لاتفاق الجميع على أن ما لا نظير له من النعم: فالواجب فيه بالقيمة، فإذا أريد به القيمة في بعض ما دخل في اللفظ، وجب أن يكون المراد بالجميع القيمة، لأنه لا يجوز أن يرادا جميعا بلفظ واحد. وأيضا: فإنا إذا حملناه على القيمة، كان اللفظ عاما في الجميع، والنظير يكون خاصا في البعض، وحمل اللفظ على معنى ينتظم العموم، أولى من حمله على معنى الخصوص. وأيضا: قال الله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}، فكان هذا المثل هو القيمة في حق الآدمي، فوجب أن يكون كذلك فيما يجب من حق الله. وأيضا: فإن القيمة أعدل من النظير من النعم، ألا ترى أن الظبي الذي قتله لو كان ملكا لآدمي، كان الذي يجب عليه للآدمي القيمة، وكانت القيمة في حق الآدمي أعدل من النظير، كان كذلك في حق الله. وقول الله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة}، فإن معناه: إن اختار الهدي بالقيمة الواجبة، لأنه خيره بينه وبين الطعام والصيام بقوله: {أو كفارة طعام مساكين}.

وقد قيل: إن فيه تقديما وتأخيرا، وأن تقديره: فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم. وهذا تمام الكلام، ثم قال: هديا بالغ الكعبة إن اختاره، أو طعاما، أو صياما. *قال: (وقتله للصيد عمدا أو خطأ سواء). وذلك لأن جنايات الإحرام لا يختلف حكمها في الخطأ والعمد، بدلالة الفوات. *قال: (وكلما قتل صيدا: حكم عليه كما ذكرنا). لقوله تعالى: {ومن قتله منكم}، ولم يفرق بين أول مرة وما بعدها. وقوله تعالى: {ومن عاد فينتقم الله منه}: لا ينفي وجوب الجزاء؛ لأن أول الآية يوجبه، وآخرها يوجب الوعيد، ولا يمتنع اجتماع الوعيد والجزاء. مسألة: قال: (وإذا قتل المحرمان صيدا: كان على كل واحد منهما الجزاء).

لقول الله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء}، و:"من": يتناول كل واحد من العقلاء بالحكم الذي علق به، ألا ترى إلى قوله تعالى: {ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة}: يتناول كل واحد من القاتلين بإيجاب كفارة تامة. وأيضا: لما كان الجزاء كفارة فيها صوم لقوله: {أو كفارة طعام مساكين}: أشبهت كفارة الخطأ. وليس الجزاء بمنزلة الدية؛ لأن الجزاء كفارة لا على وجه البدل، والدليل عليه أنه لو قتل صيدا لآدمي: لزمته القيمة للآدمي، والجزاء لله تعالى، فعلمنا أن وجوبها ليس على جهة البدل، إذ ليس يجوز أن يلزمه بدلان لشيء واحد. وليس ارتفاع الجزاء وانخفاضه بموجب أن يكون بدلا من الصيد؛ لأن كفارة الطيب والحلق وسائر الجنايات الواقعة في الإحرام، قد ترتفع وتنخفض، وليست ببدل، ألا ترى أنه لو طيب بعض عضو: وجبت عليه الصدقة، وكذلك لو حلق أقل من ربع رأسه، أو قلم بعض أظفار كفه.

ولو طيب عضوا كاملا، أو حلق ربع رأسه، أو قلم أظافير كفه: كان عليه دم. مسألة: [مضاعفة الجزاءات على القارن] قال: (وإذا قتل القارن صيدا كان عليه جزاءان). لأنه محرم بشيئين، وكل واحد من الإحرامين يوجب جزاء إذا كان على وجه الكفارة. وليس مثل المحرم إذا قتل صيدا في الحرم، فيلزمه جزاء الإحرام دون الحرم؛ لأن جزاء الحرم يشبه ضمان الأموال، بدلالة أنه لا يجب به إلا حق في مال، فإذا ضمن من وجه، لم يجز أن يضمن من وجه آخر. * (وكذلك كل جناية وقعت منه في قرانه: فعليه كفارتان). [مسألة:] قال: (فإذا قتل الحلال صيدا في الحرم: كان عليه الجزاء، ولا يجزئه إلا الهدي أو الصدقة، ولا يجزئ فيه الصوم). لأن ضمانه لم يتعلق بمعنى في القاتل، وإنما تعلق بحرمة غيره، فأشبه إتلاف الأموال، فلا يجب إلا حق في مال.

مسألة: [الإحصار من العدو، والمرض] قال: (والإحصار من العدو، والمرض سواء). لقول الله تعال: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي}، وقال أهل اللغة: يقال: أحصره المرض، وحصره العدو، فالذي في لفظ الآية: الإحصار من المرض. ومن جهة السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كسر أو عرج، فقد حل، وعليه الحج من قابل". ولأن المعنى الذي من أجله جاز له الإحلال في الإحصار من العدو، هو موجود في المرض، وهو الحبس. *قال: (وثبت على إحرامه حتى ينحر عنه هدي في الحرم). وذلك لقول الله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله}، فدل على معنيين:

أحدهما: أنه لا يجوز الإحلال إلا بعد ذبح الهدي. والثاني: أن يكون الذبح في الحرم، وذلك لأن قوله: "حتى": غاية، ولو كان موضع الإحصار موضع ذبح الهدي، لم يكن يشرط فيه بلوغ غاية هي المحل. ويدل عليه قوله: {فمن كان منكم}: يعني من المحصرين؛ لأن الكناية راجعة إليهم، {أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}، ولو جاز له أن يحل في الحل بذبح الهدي في موضعه، لما صح فيه هذا الحكم. ومعنى قوله تعالى: {والهدى معكوفا أن يبلغ محله}: أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق الهدي للتطوع، فجعله للإحصار، فلم يبلغ المحل الذي له ساقه. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى بدنة ناجية بن جندب الأسلمي رضي الله عنه حتى أخذ بها في الشعاب والأودية، فنحرها في الحرم.

[مسألة: قضاء المحصر ما عليه] قال: (وعليه قضاء ما حل عنه). لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كسر أو عرج، فقد حل، وعليه الحج من قابل". *قال: (فإن كان الذي حل منه عمرة: فعليه عمرة مكانها، وإن كان حجة: فعليه حجة وعمرة مكانها). وذلك إذا لم يحج في تلك السنة. فإن حج في تلك السنة: فعليه الحجة وحدها. وإن حج من قابل: كان عليه حجة وعمرة، وذلك لأنه إذا حج من قابل، فالحجة الأولى فائتة عن سنتها، والتي يفوته الحج يتحلل بفعل عمرة، فتلزمه العمرة التي تعلقت بالفوت. [مسألة: لا إحصار بمكة] قال: (ولا يكون الإحصار بمكة). قال أبو بكر أحمد: كل من أمكنه أن يتحلل من إحرامه بالطواف: لم يكن محصرا، ألا ترى أن الذي يفوته ليس بمحصر؛ لأنه يمكنه أن يتحلل بالطواف.

*قال: (ولا يكون الحاج محصرا بعد ما يقف بعرفات). وذلك لأن الإحصار يوجب له الإحلال والقضاء، وبعد الوقوف لا يتعلق به وجوب القضاء بحال، ألا ترى أنه لا يجوز أن يلحقه الفساد بعد الوقوف بحال. [وقت ذبح هدي الإحصار] قال: (ويجوز ذبح هدي الإحصار قبل يوم النحر في قول أبي حنيفة). لقوله تعالى: {فما استيسر من الهدي}؛ ولأن الدم الذي يحل به قائم مقام الطواف الذي يلزمه بالفوت، ولا وقت لذلك الطواف، فكذلك الدم الذي يقوم مقامه في الإحلال. * (وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجزئه قبل يوم النحر). لأن الطواف الذي يحل به عند الفوات لا يجوز قبل يوم النحر. [ليس على المحصر حلق] قال: (وليس على المحصر حلق في قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف فيما روى عنه محمد: يحلق رأسه، فإن لم يحلق: فلا

شيء عليه، وقال أبو يوسف بعد ذلك في رواية ابن سماعة: لابد له من حلقه). لأبي حنيفة: أن الحلق نسك يختص بالإحرام من توابعه، فأشبه رمي الجمار والسعي ونحوه، وليس كالصدقة التي تلزم في الإحرام، ولا كالصوم؛ لأن الصوم والصدقة ليسا مختصين بالإحرام في كونهما قربة. [ما يفعله المحصر بالعمرة] قال: (ويفعل المحصر بالعمرة كما يفعل المحصر بالحج). لأن قوله تعالى: {فإن أحصرتم}: راجع إلى جميع المذكور، وهو قوله: {وأتموا الحج والعمرة لله}. * (ولا وقت لنحر الهدي لها). كما لا وقت لأفعالها، والإحلال منها لو بلغ مكة. [حكم من فاته الحج] قال: (ومن فاته الحج: تحلل بعمل عمرة).

روي ذلك عن جماعة من الصحابة، ولا نعلم فيه خلافا. * (والفوات يحصل بترك الوقوف بعرفة، حتى يطلع الفجر يوم النحر). لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك عرفة ليلا أو نهارا، فقد تم حجه". وقال: "من فاتته عرفة، فقد فاته الحج". [حكم إحرام العبد والمرأة بغير إذن السيد والزوج] قال: (وإذا أحرم العبد بغير إذن المولى، أو المرأة بغير إذن زوجها سوى حجة الإسلام: فللمولى والزوج أن يحلاهما). وذلك لأن العبد متطوع بالحج، وهو لا يملك بذلك من نفسه؛ لأن المولى أملك به. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها".

فإذا كانت ممنوعة من الصوم لحق الزوج: فالحج أولى بذلك. وإنما كان لهما أن يحلاهما في الحال؛ لأنه يجوز لنا تأخير حقهما في الحال بإحرام العبد والمرأة، ثم يكون الدم عليهما، أما العبد فحتى يعتق؛ لأنه لا يملك، والمرأة ففي الحال؛ لأن كل من حل من إحرامه بغير طواف: فعليه دم. * (وعليهما من القضاء ما على المحصر). [مسألة:] قال: (وليس للزوج أن يمنعها من حجة الإسلام إذا كان معها محرم). كما لا يمنعها من صلاة الفرض، وصيام شهر رمضان. [مسألة:] قال: (والفقير إذا حج: أجزأه عن حجة الإسلام). لأنه من أهل الخطاب بالحج؛ لأنه يملك منافع نفسه، إلا أنه لم يكلفه لعدم الاستطاعة، ومتى ما حصل هناك، صار مستطيعا، فلزمه فرض الحج. *والعبد إذا حج في الرق، ثم أتعق: لم يجزئه عن حجة الإسلام، وقد بينا ذلك فيما سلف.

[الهدي وما يجزئ فيه] قال: (والهدي من الإبل والبقر والغنم). وذلك لأنه روي في تأويل قوله تعالى: {فما استيسر من الهدي}: أن أدناه شاة، ولا خلاف في ذلك. * (ويجزئ فيه ما يجزئ في الأضاحي). قال: (والبدن: من الإبل والبقر). قال أبو بكر أحمد: البدنة: اسم للجزور، والبقرة مثلها في الحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز ذبح البقرة عن سبعة، كما أجاز نحر البعير عن سبعة. [مسألة: حكم الأكل من الهدي] قال: (ولا يأكل من شيء من الهدايا إلا هدي المتعة والقران والتطوع إذا بلغه محله).

أما هدي التطوع: فلا خلاف فيه إذا بلغ محله. وأما هدي المتعة: فلقول الله تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر}. وقال تعالى: {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير* ثم ليقضوا تفثهم}. والهدي الذي تترتب عليه هذه الأفعال: هدي المتعة؛ لأن هدي المتعة التطوع وسائر الهدايا غير مؤقتة، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من بدنة المتعة. [مسألة: إذا عطب الهدي قبل وصول لمحله] قال: (وكل هدي واجب عطب دون محله: فلصاحبه أن يفعل به ما شاء).

وذلك لأنه خرج عن أن يكون من الواجب؛ لأن الواجب في ذمته كما كان، فكان بمنزلة من دخل في صلاة على أنها عليه، ثم بين أنها ليست عليه، فلا يلزمه إتمامها. *قال: (وإن عطب هدي التطوع دون محله: فإنه ينحره، ويغمس نعله في دمه، ويضرب بها صفحته، ويخلي بينه وبين الناس يأكلونه). قال أبو بكر أحمد: الأصل فيه: ما روي أن النبي بعث بدنة مع ناجية بن جندب الأسلمي رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله! ما أصنع بما أبدع علي منها؟ فقال: "انحرها، واصبغ نعلها في دمها، وخل بينها وبين الناس، ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك". ووجه نهيه أن يأكل هو وأهل رفقته منه: أنهم أغنياء، وسبيله أن لا يأكل منه إلا الفقراء.

باب خطب الحج

باب خطب الحج (وفي الحج ثلاث خطب: إحداهن: قبل التروية بمكة بعد صلاة الظهر، خطبة واحدة، لا يجلس فيها. وخطبة يوم عرفة بعرفة بعد الزوال قبل الصلاة، وهي خطبتان يجلس بينهما جلسة خفيفة. قال أبو حنيفة ومحمد: يبتدئ الخطبة إذا فرغ المؤذنون من الأذان بين يديه، كخطبة الجمعة). قال: (وقال أبو يوسف: يخطب الإمام قبل الأذان، فإذا مضى من خطبته صدر، أذن المؤذنون. والخطبة الثالثة: بعد النحر بيوم بمنى، كالخطبة التي قبل التروية بيوم). *أما الخطبة الأولى: فليعلمهم الخروج إلى منى من غد ذلك اليوم؛ لأنهم يوم التروية يحتاجون أن يغدوا إلى منى. والثانية: خطبة يوم عرفة، ليعلم ما عليهم في غد، من الحلق والتقصير والرمي والطواف. والثالثة: بعد النحر بيوم، يعلمهم فيها النفر وطواف الصدر، ولا

يحتاج يوم النحر إلى خطبة؛ لأنهم قد علموا ما يحتاجون إليه في خطبة يوم عرفة. وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم النحر فإنما لم تكن من خطب الحج، وإنما كانت خطبة الوداع، علمهم فيها الأحكام، لما علم أنه لا يتفق مثله بعدها من الاجتماع والكثرة. *وخطبة يوم عرفة يجلس فيها كخطبة يوم الجمعة؛ لأنها مقدمة على صلاة الظهر، والظهر مفعول بعدها، كما يصلي بعد خطبة الجمعة. والخطبتان الأخريان لا يجلس فيهما؛ لأنهما للتعليم، وليس عقبيهما صلاة، فصارتا كسائر الخطب التي تخطب للحوادث، وتعليم الأحكام.

باب الإشعار

باب الإشعار مسألة: [حكم الإشعار] قال أبو جعفر: (كان أبو حنيفة يكره الإشعار، وقال أبو يوسف ومحمد: الإشعار أحسن). لأبي حنيفة: أن الإشعار مثلة في غير الهدي، وليس بنسك في الهدي، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "إنما أشعرت علامة للبدن"، وإذا لم يكن نسكا: كان مثلة. وأيضا: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن المثلة. وقيل: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا نهانا عن المثلة".

فصار الإشعار مثلة محظورا بالنهي عن المثلة. وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الإشعار، فهو منسوخ بالنهي عن المثلة. وأيضا: قد اتفقوا على أن سائر البدن من جزاء الصيد والإحصار وغيره لا تشعر، فوجب أن تكون كذلك بدنة المتعة والتطوع. *قال: (ولا تشعر البدن عندهما في غير التطوع والقران والمتعة). لأنه لم ترد السنة في غيرها. [مسألة: تجليل الإبل والبقر] قال: (ولا بأس بتجليل الإبل والبقر في قولهم جميعا). قال أبو بكر أحمد: التجليل ليس بنسك، وإنما يوقي بها المحرم الحر والبرد.

[مسألة: تقليد الإبل والبقر] قال: (ولا بأس بتقليدها أيضا). والتقليد: أن تجعل في رقبة كل واحد منهما عروة مزادة، أو نعلا جديدة، ثم يتصدق بذلك كله إذا نحرت. قال أحمد: التقليد نسك، لما روي عن النبي من تقليد البدن، قال الله تعالى: {ولا الهدى ولا القلائد}. ويتصدق بذلك كله، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه أمر عليا رضي الله عنه بأن يتصدق بحلال البدن وخطمها". [كيفية الإشعار] قال: (والإشعار في الجانب الأيسر من السنام). وذلك لما روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: (إلا أن تكون إبلا صعابا، يشعر بعضها في الجانب الأيمن، وبعضها في الجانب الأيسر، للمشقة في ذلك).

وذلك أنه إذا كان علامة للبدن، جاز أن يعدل إلى الجانب الآخر إذا شق عليه. [مسألة:] قال: (ولا بأس بترك التعريف بالهدايا). كما لا يوقف بها المزدلفة، ولا يطاف بها بين الصفا والمروة.

باب حكم المتمتع إذا ساق الهدي قال: (وإذا أحرم الرجل لعمرته وهو يريد المتعة، ولم يسق الهدي: فإن له أن يحل من عمرته إذا فرغ منها، ثم يحرم بالحج بعد ذلك إذا شاء. ولو كان ساق الهدي لمتعته عند إحرامه لعمرته: لم يحل من عمرته حتى يحل من حجته). وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين أمر أصحابه بالإحلال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة". وقال لعلي رضي الله عنه حين قدم عليه من اليمن: "إني سقت الهدي، فلا أحل إلى يوم النحر". [مسألة:] قال: (ولو أحرم بعمرة وهو يريد التمتع، وساق لها هديا، ثم بدا له

أن لا يتمتع: كان له ذلك، وكان له بيع الهدي). وذلك لأن سوق الهدي لا يعين عليه فعل الحج في تلك السنة، ولا يلزمه إياه، فله أن لا يتمتع، ويصنع بهديه ما شاء. [مسألة:] قال: (ولو أنه بعد إحلاله من عمرته، وبعد استهلاكه الهدي، بدا له أن يحج في تلك السنة، ولم يرجع إلى أهله: فله ذلك، وعليه هدي لمتعته، وهدي آخر لإحلاله بين عمرته وحجته بعد سوقه الهدي الأول لمتعته). وذلك أنه لما صح له التمتع في تلك السنة، علمنا أنه لم يكن يجوز له الإحلال فيما بين العمرة والحج بعد سوق الهدي، فكان بمنزلة من أحل في حال لم يجز له الإحلال فيه، فيلزمه دم. * * * * *

كتاب البيوع

كتاب البيوع مسألة: [عدم وجوب خيار المجلس إلا بالشرط] قال أبو جعفر: (وإذا تعاقد الرجلان البيع بلا شرط خيار: فليس لواحد منهما فسخه بعد ذلك، ترفقا بأبدانهما عن مواطن البيع، أو لم يتفرقا). قال أحمد: وذلك لقول الله تعالى:} يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم {. فأباح الأكل بوجود التراضي عن التجارة، والبيع تجارة، فدل على نفي الخيار، وصحة وقوع الملك للمشتري بنفس العقد، وجواز تصرفه فيه. ويدل عليه أيضا: قوله تعالى:} يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود {. وذلك عقد، فيلزم الوفاء به بظاهر الآية، وفي إثبات الخيار نفي للزوم الوفاء به.

وأيضا: قال الله تعالى:} وأشهدوا إذا تبايعتم {، فندب الله تعالى إلى الإشهاد على العقد توثقة لهما، ووجوب الخيار لكل واحد منهما ينفي معنى التوثقة بالإشهاد، إذ لا يلزم أحدهما لصاحبه به حق، فلما كان في إثبات الخيار إبطال معنى الآية، كان القول بإيجاب الخيار ساقطا، وحكم الآية ثابتا. ومن جهة السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من اشترى طعاما، فلا يبعه حتى يقبضه". فأجاز بيعه بعد القبض، ولو كان هناك خيرا للبيع امتنع جواز نصرف المشتري فيه. "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البيع، وصاع المشتري". فأباح بيعه بعد جريان الصاعين فيه من غير شرط الافتراق. ويدل عليه أيضا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من باع نخلا

مؤبرا، فثمرته للبيع إلا أن يشترطه المبتاع، ومن باع عبدا له مال، فماله للبيع إلا أن يشترطه المبتاع". فأزال ملك البيع عن الثمرة والمال بنفس العقد، وأوجبه للمشتري، ولو كان للبيع خيار: ما استحق عليه ذلك بالعقد. ويدل عليه أيضا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا، فيشتريه، فيعتقه". فأعتقه عليه بنفس الشراء، من غير شرط افتراق، فدل على انتفاء الخيار. ويدل عليه أيضا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عند شروطهم"، وكل واحد منهما قد عقد على نفسه التمليك بنفس العقد، فواجب أن يملك به، وأن لا يقف على الافتراق. وكذلك إن شرط بنفس العقد بيعا بتاتا بلا خيار، كان بتاتا بمضمون

الخبر، وليس نفي الخيار من الشروط الفاسدة فيفسده، وإذا انتفى ثبوت الخيار في هذا الوجه، انتفى بنفس العقد وإن لم يكن شرط؛ لأن أحدا لم يفرق بينهما، ولأن دخوله في العقد رضا بإيجاب الملك من غير خيار. *ومن جهة النظر: إن النكاح، والخلع، والعتق على مال، والكتابة متفق على صحة وقوعها بالعقد من غير خيار، فوجب أن يكون البيع مثله، والمعنى الجامع بينهما، أن العاقد راض بما تضمنه عقده من إيجاب الملك من غير شرط خيار. وأيضا: يجمع بينهما بأنه عقد معاوضة لم يشترط فيه خيار، فلا يجب به خيار المجلس. وأيضا: فلو وجب الخيار بالعقد، لما صح عقد الصرف؛ لأن شرط صحته وتمامه أن يفترقا عنه وليس بينهما شيء، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر أنه قال في الدراهم بالدنانير: "لا بأس به ما لم تفترقا، وليس بينكما شيء".

فلو وجب الخيار لم يملك واحد منهما على صاحبه بالعقد، وافتراقهما قبل تمام الملك يبطل الصرف، فلا يجوز أن يكون السبب الذي يبطل به العقد قبل تمامه، هو الذي يصححه قبل تمامه. [الجواب عن أدلة القائلين بوجوب خيار المجلس] وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا". فإنه رواه ابن عباس، وحكيم بن حزام، وابن عمر، وأنس، وسمرة، وعبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة، ليس في شيء منها ما يدل على خلاف قولنا، بل فيها ما يدل على صحة مذهبنا. وذلك لأن قوله: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا": إذا حمل على حقيقته يتناول حال العقد قبل وقوعه وتمامه؛ لأن هذا الاسم إنما يستحقه فاعله في حال الفعل، كما يقال: المتقابلان، والمتضاربان: يتناول ذلك حال فعلهما، ومتى انقضت حال الفعل، لم يسميا بذلك إلا مجازا. ويدل على ذلك: أنهما لو تفاسخا العقد بعد صحته، كانا متفاسخين على الحقيقة، ولا جائز أن يكونا متبايعين متفاسخين في حال واحدة على الحقيقة، فدل ذلك على أن انقضاء حال البيع يخرجهما من أن يكونا متبايعين على الحقيقة، وإنما يقال: إنهما كانا متبايعين. ويصح أن يقال: هما متبايعان إذا دخلا في سوم البيع، كما روي عن

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يبيعن أحدكم على بيع أخيه". وروي في لفظ آخر: "لا يسومن أحدكم على سوم أخيه". فعبر تارة بلفظ البيع، وتارة بلفظ السوم، فدل على أن أحد اللفظين ينبئ عن معنى الآخر. ويدل عليه حديث عبد الله بن دينار، ونافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا، إلا بيع الخيار". فنفى وقوع البيع إلا بعد الافتراق، فعلمناه أن مراده السوم؛ لأنهما إذا تعاقدا بتراضيهما، فالبيع واقع لا محالة، ووجوب الخيار لا ينفي وقوع البيع، ولا يسلبه اسمه. ألا ترى إلى قوله: "إلا بيع الخيار": فأثبه بيعا مع الخيار، فدل على أن قوله: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا": إنما أراد به حال البيع، وهو السوم. [معنى التفرق بين المتبايعين] والفرقة المذكورة في قوله: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا": عندنا على وجهين:

يجوز أن يريد بها فرقة الأبدان، ويجوز أن يريد فرقة الأقوال. فمتى أراد فرقة الأبدان: كان معناه أن كل واحد من المتعاقدين إذا قال لصاحبه: قد بعتك هذا العبد: فله قبوله في المجلس ما لم يفارقه، ولهذا الرجوع فيه قبل قبول الآخر، فإن افترقا قبل القبول، وتمام البيع، لم يكن له القبول، وانفسخ الإيجاب، وأفادنا بذلك أن هذا الخيار مقصور على المجلس دون غيره. وأما فرقة القول: فهي أنه إذا قال له: قد بعتك هذا العبد: فله الرجوع فيه قبل قبول الآخر، فإن قبله الآخر، فقد فارقه بالقول، فلا خيار له بعد ذلك. وأفاد به الفرق بين البيع، وبين العتق على مال، والخلع؛ لأنه لو قال لعبده: أنت حر على ألف درهم: كان للعبد القبول في المجلس، وليس للمولى الرجوع فيه قبل قبول العبد. وقد يجوز أن يسمى ذلك فرقة وإن لم يفترقا من المجلس، كما قال الله تعالى:} وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة {، وعلوم أنه لم يرد تفرق الأبدان. ويقول القائل: اجتمع القوم على كذا، وافترقوا على كذا: وهم حضور في المجلس. ويدل على صحة تأويلنا: حديث ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارق

صاحبه خشية أن يستقيله". فقوله: "بالخيار ما لم يتفرقا": معناه تفرق الأقوال؛ لأنه لو أراد التفرق بعد البيع، لم يصح معه معنى قوله: "خشية أن يستقيله"؛ لأن الاستقالة لا تكون إلا في بيع البتات الذي لا خيار فيه، لأن الاستقالة هي مسألته الإقالة، ووجوب الخيار لكل واحد منهما، ينافي ذلك، فثبت أن قوله: "ما لم يتفرقا": معناه تفرق القول. ثم قال: "ولا يحل له أن يفارقه ببدنه، خشية أن يندم، فيستقيله": وليس ذلك على جهة التحريم، إنما هم على جهة الندب والحث على سماحة الأخلاق. وقد روي عن عمر أنه قال: "البيع صفقة، أو خيار"، فنفى وجوب الخيار، موقوع الصفة، إلا مع الشرط. قال أبو جعفر في فرقة الأبدان نحو ما ذكرنا.

*وقال: (إنما يجوز له القبول من صاحبه ما لم يكن أخذ في عمل آخر، أو كلام آخر)، وذلك لأن الإيجاب يقتضي جوابا من الموجب له، فإذا اشتغل عن الجواب، وأعرض عنه، فكأنه قد فسخه، واختار تركه. مسألة: [مدة خيار الشرط] قال أبو جعفر: (ولا يجوز اشتراط الخيار في البيع أكثر من ثلاثة أيام في قول أبي حنيفة، ويجوز في قول أبي يوسف ومحمد أكثر من ثلاثة أيام إذا كان إلى نهاية معلومة). وجه قول أبي حنيفة: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر"، والبيع على شرط الخيار فيه تجوز؛ لأنه لا يدري ما الذي يحصل له به: المبيع أو الثمن؟ فاقتضى عمومه بطلان البيع على شرط الخيار في قليل المدة وكثيرها، فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه جعل رجلا بالخيار في كل بيع يشتريه ثلاثة أيام"، واتفقت الأمة على جوازه، خصصناه من عموم الخبر، وبقي ماعدا الثلاثة محمولا على لفظ الخبر.

ولأبي يوسف ومحمد: أن الغرر فيما عدا الثلاثة كهو في الثلاثة، فلما جاز بشرط الثلاثة، جاز ما فوقها. ولأبي حنيفة: أن زيادة المدة في الخيار زيادة في الغرر، ألا ترى أن الصرف قد عفي فيه عن ترك القبض مقدار المجلس ولم يجز أكثر منه. مسألة: قال أبو جعفر: (وعتق المشتري فيما فيه شرط الخيار للبيع: باطل) وذلك لأن شرط الخيار يمنع خروجه من ملكه؛ لأنه حين شرط الخيار لنفسه، لم يرض بخروجه عن ملكه إلا بعد بطلان الخيار، فلم يجز عتق المشتري فيه، لأنه غير مالك. وعتق المشتري فيما له فيه الخيار جائز؛ لأنه قد خرج من ملك البيع، وانقطعت حقوقه عنه، وبقى موقوفا لم يدخل في ملك المشتري عن أبي حنيفة، فإذا أعتقه فقد رضي بإدخاله في ملكه، فنفذ عتقه فيه، وتم البيع. وقال أبو يوسف ومحمد: هو في ملكه، فيجوز عتقه منه أيضا. مسألة: [ضمان العبد المشترى إذا مات حال الخيار] قال: (وإن مات في يد المشتري فيما له فيه الخيار، كان عليه ثمن للبيع). قال أحمد: يعني إذا لم يكن خيار البيع مشروطا معه، وذلك لأنه لزمه البيع بموته. وإنما لزمه البيع؛ لأن العبد صار معيبا في آخر أجزاء حياته قبل الموت، ومتى حدث به عيب في يد المشتري، بطل خيار المشتري؛ لأنه لا يمكنه رده معيبا على البيع، وقد قبضه صحيحا، فتم البيع فيه قبل الموت لما وصفنا.

[مسألة:] قال أبو جعفر: (وإن مات في يد المشتري ما لبيعه فيه الخيار: كان عليه ضمان قيمته). وذلك لأنه مات على ملك البيع، لما بينا من أن خيار البيع يبقي الشيء على ملكه، وحصول معيبا في آخر أجزاء حياته لا يبطل خيار البيع، ألا ترى أنه حدث به عيب في يد المشتري، كان خيرا البيع باقيا في إجازته أو فسخه، فلما كان كذلك، ثم مات قبل بطلان خيار البيع، مات على ملك البيع، وبطل البيع؛ لأنه لا يصح نقل الملك فيه بعد الموت، وقد قبضه المشتري مضمونا، فيضمن قيمته؛ لأن الثمن لا يلزم إلا مع صحة البيع. مسألة: [خيار الشرط لا يورث] قال أبو جعفر: (والخيار لا يورث). وذلك لأن خيار الشرط حق [لا] يملك به، فأشبه خيار القول، وأشبه أيضا الوصية، أن للموصي الخيار في فسخها قبل الموت، ولا ينتقل هذا الخيار إلى وارثه، للعلة التي ذكرناها. وأيضا: فإن الخيار مشروط للفسخ، لا للإجازة، ألا ترى أن مضي المدة يوجب جواز البيع، فصار خيار الشرط بمنزلة إيجاب الإقالة، فلو قال: لقد أقلتك: ثم مات قبل أن يقبلها: لم ينتقل الخيار إلى وارثه، كذلك ما وصفنا.

وليس خيار الشرط بمنزلة خيار العيب؛ لأن خيار العيب يتعلق وجوبه بفوات جزء من المبيع، فله الخيار في استدراكه، ألا ترى أنا لعبد لو مات في يده قبل الرد، رجع بأرش العيب، فلما كان خيار العيب قد يصير مالا، انتقل إلى الورثة، وخيار الشرط ليس بمال، ولا يصير مالا، وكذلك خيار الرؤية، فلذلك افترقا.

باب الربا والصرف

باب الربا والصرف مسألة: [بيع الذهب بالذهب] قال أبو جعفر: (ولا يجوز بيع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، وكذلك الفضة بالفضة، ويتقابضان قبل أن يفترقا). قال أحمد: وروى تحريم التفاضل في الذهب بالذهب، والفضة بالفضة عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة، حتى صار وروده من طريق التواتر الموجب للعلم. منهم أبو بكر، وعمر، وابن عمر، وعثمان، وعبادة بن الصامت، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وفضالة بن عبيد، ورويفع بن ثابت، وأنس بن مالك، وأبو بكرة، والبراء بن عازب. وقد كان ابن عباس يجيز التفاضل في الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يدا بيد، ويروي فيه أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ربا إلا في النسيئة"، ثم لما تواتر عنده الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم التفاضل في الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، رجع إليه، وترك قوله الأول.

قال جابر بن زيد: رجع ابن عباس عن قوله في الصرف، وفي المتعة. وقال محمد بن سيرين: أشهد على اثني عشر من أصحاب ابن مسعود شهدوا ابن عباس حين رجع عن الصرف، منهم عبيدة السلماني. وخبر أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ربا إلا في النسيئة": غير مناف للأخبار الأخر، لاحتمال كون مراده في الجنسين، نحو الذهب بالفضة، والفضة بالذهب. مسألة: [بيان على الربا] قال أبو جعفر: (ويدخل الربا في كل مكيل وموزون، مأكولا أو كان غير مأكول). قال أحمد: الربا اسم مجمل في الشرع، يتناول معاني مختلفة، فقد يكون الربا في التفاضل، إذا كان على وصف، وقد يكون في النسيئة، وقد يتناول ضربا من الجهالة فيما في الذمة، فهو لفظ مجمل يجب استعمال

حكمه على حسب قيام الدلالة. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار مستفيضة شائعة، النص على تحريم التفاضل في ستة أشياء: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والملح، والتمر. رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب وعبادة بن الصامت، وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهم. *واتفق الفقهاء على استعماله، ثم اختلفوا في العلة الموجبة لتحريم البيع عند وجود التفاضل في هذه الأصناف: فقال أصحابنا: علة التحريم البيع في ذلك زيادة كيل في جنس، ووزن في جنس. وقال آخرون: العلة في تحريم البيع في هذه الأشياء المذكورة في الخبر- ماعدا الذهب والفضة- كونه مقتاتا مدخرا في جنس. وقال آخرون: مأكول في جنس. فاتفق الجميع على اعتبار الجنس في إيجاب تحريم التفاضل، واختلفوا في المعنى المضموم إليه على الوصف الذي قدمنا، وأنا أذكر بعض ما يدل على صحة اعتبار أصحابنا من جهة العموم، ثم أعقبه بتصحيح اعتلالنا من طريق النظر. فأحد ما يحتج به في ذلك: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا

موسى بن الحسن عن أبي عباد قال: حدثنا القعنبي قال: حدثنا سليمان بن بلال عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع سعيد بن المسيب يحدث أن أبا هريرة وأبا سعيد حدثاه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي من الأنصار أمره على خيبر، فقدم عليه بتمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنشتري الصاع بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا، ولكن مثلا بمثل، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا، وكذلك الميزان". فقوله صلى الله عليه وسلم: "وكذلك الميزان": عموم في تحريم التفاضل في سائر الموزونات، إذ كان معلوما أنه لم يرد بقوله: "وكذلك الميزان": ما توزن به الأشياء، وإنما أراد الموزونات، وإذا ثبت ذلك في الموزونات، كان المكيل مثلها، لأن أحدا لم يفرق بينهما". وقد انتظم هذا الخبر أحكاما: أحدهما: تحريم التفاضل في التمر بالتمر. والثاني: بيان حكمه صلى الله عليه وسلم في الموزونات. والثالث: إباحة الحيلة في التوصل إلى جواز البيع.

وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على بعض أهله، فوجد عندهم تمرا أجود من تمرهم، فقال: من أين هذا؟ فقالوا: أبدلنا صاعين بصاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يصلح صاعان بصاع، ولا درهمان بدرهم". وقوله: "لا يصلح صاعان بصاع": عموم في تحريم المكيلات متفاضلة، لأنه معلوم أنه لم يرد به الصاع الذي يكال به. فإن قيل: هو راجع إلى التمر الذي خرج الكلام عليه. قيل له: لا يحوز أن تقصره عليه مع عموم لفظه إلا بدلالة. ويدل عليه أيضا: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إبراهيم ابن مروان الواسطي قال: حدثنا يحيى بن زكريا حيويه قال: حدثنا خلف بن خليفة عن أبي جناب عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين، ولا الدينار بالدينارين، ولا الصاع بالصاعين، إني أخاف عليكم الرماء، وهو الربا. فقام إليه رجل، فقال: يا رسول الله! الرجل يبيع الفرص بالأفراس،

والبختية بالإبل، قال: لا بأس إذا كان يدا بيد". فقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا الصاع بالصاعين": بنظم جميع المكيلات. وهذا الحديث أيضا يدل على امتناع السلم في الحيوان؛ لأنه حين سئل عن بيع الفرس بالأفراس، والبختية بالإبل، أجازه على شرط أن يكون يدا بيد. *ويدل على أن اعتبار الكيل والوزن أولى من غيرهما: قوله عليه الصلاة والسلام: "الذهب بالذهب وزنا بوزن، مثلا بمثل، والبر بالبر مثلا بمثل، كيلا بكيل".

فأوجب استيفاء المماثلة في الموزون من جهة الوزن، وفي المكيل من جهة الكيل، فدل على كونهما علما لتحريم التفاضل أولى من غيرهما. *ويدل على ما ذكرنا من وجهة النظر: أنا لما اعتبرنا علل القايسين على الحد الذي بينا، وجدنا لعلتنا تأثيرا في جواز البيع وفساده، ألا ترى أن وجود زيادة الكيل في الجنس يمنع جواز البيع، وعدمها يوجب جوازه، ولم نجد هذه المزية للقوت والادخار، ولا للأكل. ألا ترى أن المأكولين قد يتفاضلان في كونهما مأكولين، ثم لا يؤثر ذلك في جواز البيع ولا فساده، وكذلك المقتاتان، فوجب بذلك أن يكون اعتبار الكيل والوزن في تحريم البيع عند وجود التفاضل أولى. وإنما كان هذا الضرب من التأثير موجبا لترجيح الاعتلال، من قبل أن العلل هي المعاني التي تتعلق بها الأحكام، فما كان لها تأثير فيها، فهو أولى بالاعتبار. فإن قيل: قد يتعلق الحكم بالأكل أيضا، بدلالة أنه لو اشترى حنطة، فوجدها عفنة فاسدة، كان له الخيار في الرد، لأجل نقصانها في باب الأكل عما اقتضاه العقد. قيل له: لم يتعلق هذا الحكم بالأكل، وإنما تعلق بنقصان قيمتها عما أوجبه له العقد، وإنما هو خيار العيب، وذلك حكم به جاز في سائر المبيعات، مأكولا كان أو غير مأكول، ألا ترى أن الثياب والعبيد، وسائر

المبيعات بمنزلتها من هذا الوجه، فلم يكن للأكل تأثير فيها، ليس لغيره. وقد اتفق الجميع على أن هذا الضرب من الحكم لا تأثير له في وجوب تحريم البيع، لأجل وجود التفاضل. فصل: وقد احتج بسر بن سعيد عن معمر بن عبد الله أنه كره بيع الحنطة بالشعير إلا مثلا بمثل، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الطعام إلا مثلا بمثل، قال: قلت: إنه ليس بمثله، قال إني أخاف أن يضارع".

وأما النظر: فهو أن كونه مأكولا صفة لازمة للمأكولات، والكيل والوزن صفتان قد يفارقان المكيلات والموزونات مع وجود أعيانها؛ لأنهما يلزمانها بجريان العادة بالوزن والكيل. ومن جهة أخرى: إن علة الكيل والوزن مقصورة على بعض المنصوص دون بعض، وعلة الأكل تعم جميعه. والجواب: أن قوله تعالى: {لا تأكلوا الربا}: ليس بعموم؛ لأنه مجمل يحتاج إلى بيان في استعمال حكمه، لما بينا فيما سلف من أن الربا اسم يقع في الشرع على معان لم تتناولها اللغة قبل مجيء الشرع، فتحتاج أن تثبت أولا أنه ربا، حتى يتعلق به حكم التحريم. فإن قيل: كيفما تصرفت الحال، فالحظر إنما يتناول المأكول. قيل له: إنما يتناول مأكولا حصل ربا، فينبغي أن نثبت أنه ربا. وأيضا: قد تثبت الربا في المأكولات إذا كانت مكيلة أو موزونة، ومتى أوجبنا ذلك، فقد قضينا عهدة الآية. وأما حديث معمر بن عبد الله في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام بالطعام، فإنه لفظ مخصوص في العرف، يتناول أشياء مخصوصة من المأكول دون جميعه. يدل على ذلك ما حدثنا عن محمد بن علي بن زيد الصائغ قال: حدثنا سعيد بن منصور، وحدثنا عن يوسف بن يعقوب قال: حدثنا أحمد بن عيسى قالا: حدثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا النضر حدثه أن بسر بن سعيد حدثه عن معمر بن عبد الله، وذكر الحديث إلى أن قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الطعام بالطعام مثلا بمثل، وكان طعامنا يومئذ الشعير". وكما روى أبو سعيد الخدري قال: "كان طعامنا التمر والزبيب والشعير، وكنا نخرج من كل ذلك صاعا في صدقة الفطر". فإنما يتناول اللفظ ما كانوا يتعارفونه طعاما، وليس ي عادة أحد من الناس تسمية السقمونياء والأدوية المأكولة طعاما. ألا ترى أن سوق الصيادلة لا يسمى سوق الطعام، وإنما يسمى بذلك السوق التي تباع فيها الحنطة، فانصرف اللفظ إلى ما كان متعارفا معتادا منه. وأما قولهم: إن الأكل صفة لازمة للمأكول، فهو أولى بكونه علة، فكلام فارغ لا معنى تحته؛ لأن العلل قد تكون لازمة، وقد يضاف المعلول فيكون الحكم متعلقا بها إذا وحدت؛ لأن العلة بعض أوصاف المعلول، ثم لا يبالى إذا كان ذلك الوصف لازما له لا يفارقه، أو قد يفارقه في حال، ويلزمه في أخرى. ألا ترى أن السوم عندنا جميعا علة في وجوب الزكاة في الماشية، وهو قد يفارقها، فلا تكون سائمة، والشدة علة في تحريم الخمر، وقد

يفارقها، فتخرج من أن تكون خمرا. وقد اعتبر مخالفنا في نفي زكاة الحلي معنى الاستعمال، وهو يفارق العين، فتكون تارة حليا للاستعمال، وتارة دراهم ودنانير. وعلتنا فيها كونها ذهبا أو فضا، فهذه صفة لا تفارقها، فيجب أن تكون أولى بالاعتبار من علة الاستعمال. ولا نعلم أحدا يقول: شرط العلة أن يكون وصفا لازما للأصل المعلول، بل لو قال قائل: الوصف الذي يفارق المعلول في حال، ويلزمه في أخرى: أولى بأن يكون علة مما لا يفارقه، كان قوله أشبه، وإن لم يكن واحدا من القولين عندنا سديدا. وأما قولهم: إن علة الكيل مقصورة على بعض المنصوص، لتجويز التمرة بالتمرتين، وأن علتهم تعم جميع النصوص: فلا معنى له أيضا؛ لأن المنصوص لا يحتاج في إثبات حكمه إلى علة، وإنما العلل يحتاج إليها لغير المنصوص، ليقاس بها على المنصوص، فأما المنصوص عليه فمستغن بدخوله تحت النص عن الاعتلال له. وإجازتنا التمرة بالتمرتين، والبرة بالبرتين، فغير متعلق بشيء مما نحن فيه؛ لأنا إنما قصرنا حكمه على ما وصفنا بما دل عليه فحوى خطابه عليه الصلاة والسلام، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "التمر بالتمر كيلا بكيل، والبر بالبر مثلا بمثل، كيلا بكيل". فلما شرط استيفاء المماثلة من طريق الكيل، لم يدخل في حكم اللفظ

إلا ما يدخل تحت الكيل. ولدلالة الاتفاق على أن التمر بالتمر لو تساويا في العدد، وتفاضلا في الكيل: لم يجز، ولو تساويا في الكيل، وتفاضلا في العدد: جاز البيع، فدل على أن الاعتبار بالكيل دون غيره، فما لا يدخل تحت الكيل لم يدخل تحت الحكم. وقد عملت هذه المسألة قديما، واستوفينا الكلام فيها لأصحابنا وللمخالفين، فتركنا إعادته كراهة الإطالة. مسألة: قال: (ولا يجوز الخيار في الصرف). وذلك لأن الخيار المشروط في العقد يمنع صحة القبض، كما يمنع صحة الملك، وشرط صحة الصرف أن يفترقا عن قبض صحيح، فلما افترقا عن خيار، صارا كأنهما افترقا عن غير قبض. ويدل عليه حديث ابن عمر قال: "كنت أبيع الإبل بالبقيع فآخذ بالدراهم الدنانير وبالدنانير الدراهم، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لا بأس به ما لم تفترقا وبينكما شيء".

وفي بعض الألفاظ: "وبينكما لبس". وذلك يدل على بطلانه إذا افترقا مع خيار مشروط. مسألة: [القبض في بيع الربويات] قال أبو جعفر: (ويجوز بيع المكيل والموزون بجنسه متساويا، ولا يفترقان إلا عن قبض، إلا أن يكونا بأعيانهما، فيجوز تفرقهما قبل القبض، إلا الذهب والفضة، فإنهما لا يفترقان إلا عن قبض). قال أحمد: أما إذا كان أحدهما دينا، فإنما لم يجز أن يفترقا فيه عن غير قبض الدين، بمنزلة النساء، فيبطل العقد بالافتراق، كذلك سبيل كل ما لا يجوز شرط الأجل فيه. ولا خلاف في ذلك بين الفقهاء فيما يدخل فيه الربا من هذه الأجناس. وأما إذا كانا بأعيانهما، فإنما جاز الافتراق عنه قبل القبض، لما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عيه وسلم أنه قال: "كل متابعين، فلا بيع بينهما حتى يفترقا، إلا بيع الخيار". فأثبت بيع الخيار بينهما بعد الافتراق من غير شرط القبض.

وأيضا: لا خلاف بين أهل العلم في جواز ترك القبض في الحنطة بالتمر إذا كانا بأعيانهما، والمعنى فيه أنهما ليسا من جنس الأثمان التي هي الذهب والفضة، وذلك موجود في الحنطة بالحنطة فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحنطة بالحنطة مثلا بمثل، يدا بيد". قيل له: هذا لا يدل على وجوب القبض؛ لأنه أشار به إلى حال العقد. والدليل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبادة: "لا تبيعوا الحنطة بالحنطة إلا يدا بيد". وذكر الحديث، ثم قال: "وبيعوا الحنطة بالشعير كيف شئتم يدا بيد". فإنما أشار إلى حال العقد. ويدل عليه أيضا: أن الباء إنما تصحب الأثمان، وهو إنما يكون ثمنا في حال العقد، لا بالقبض، فدل أن قوله: "يدا بيد": يتناول حال العقد، كأنه قال: ما في يد هذا بما في يد هذا، ومعناه: عينا بعين، وأفاد بأنه منع النساء. ويدل عليه أيضا: أنه ذكر اليد باليد في الجنسين المختلفين، ولا خلاف أن المراد به العين، فكذلك في الجنس الواحد إنما أوجب به تعيين المبيع في العقد، ومنع النساء.

ويدل عليه: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن بيع الحيوان بالحيوان إلا يدا بيد"، ولا خلاف أنه لم يرد به إيجاب القبض في المجلس، وإنما أراد التعيين. فإن قيل: إذا حملت قوله: "يدا بيد": على معنى التعيين، بطلت فائدته؛ لأنه قد قال: "عينا بعين، يدا بيد". قيل له: كرره على وجه التأكيد، قال: "مثلا بمثل، وزنا بوزن، سواء بسواء". فإن قيل: قد أوجبت التقابض في الصرف بقوله: "يدا بيد". قيل له: لم نوجبه بذلك، وإنما أوجبناه بقوله في حديث ابن عمر: "ما لم يفترقا وبينكما شيء"، وفي بعض الألفاظ: "وبينكما لبس"، فمنع افتراقهما مع بقاء شيء من حقوق العقد. ألا ترى أن الذهب والفضة لما كان من شرط بقاء العقد فيهما المجلس، لم يتخلف فيهما حكم النوع الواحد، والنوعين المختلفين في وجوب التقابض في المجلس، وأن سائر المكيلات والموزونات إذا اختلفت أجناسها: جاز ترك القبض فيهما في المجلس إذا كانا عينين.

مسألة: [بيع المكيلات بجنسها] قال أبو جعفر: (ولا يجوز بيع شيء من المكيلات بجنسه نسيئة). قال أحمد: الأصل في هذه المسألة ونظائرها: أن التفاضل عندهم يحرم بشيئين: وجود الكيل أو الوزن، والجنس، فهذان الوصفان علة تحريم البيع عند وجود التفاضل. والنساء يحرم بأحد هذين الوصفين: الكيل أو الوزن، أو الجنس، فالجنس بانفراده يحرم النساء، والمعنى المضموم إليه في إيجاب تحريم التفاضل يحرم النساء على اختلاف الفقهاء فيه، فمن جعله كيلا أو وزنا حرم النساء بوجود ذلك منفرا عن الجنس. والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت: "وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد". وفي بعض الألفاظ: "وإذا اختلف الصنفان". وقال: "بيعوا الحنطة بالشعير كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا التمر بالشعير كيف شئتم يدا بيد". فأجاز التفاضل لعدم الجنس، وحرم النساء بوجود الكيل. وأما الجنس بانفراده، فإنما منع النساء عندنا؛ لأنه أحد وصفي علة

تحريم التفاضل، فأشبه الكيل والوزن، والمعنى الجامع بينهما ما وصفنا. فإن قيل: قد أجزت الدراهم في الموزونات نساء، مع وجود علتك الموجبة لتحريم النساء. قيل له: لأن من أصلنا القول بتخصيص العلة، ولو قيدنا العلة في الأصل، بأن قلنا: إن علة تحريم النساء وجود أحد صنفي علة تحريم التفاضل في جنس ما يتعين، لم نحتج إلى تخصيص؛ لأن الدراهم والدنانير مما لا تتعين عندنا، وسائر الأشياء تتعين، فالعلة مستمرة على أصلنا. مسألة: قال أبو جعفر: (والتمور كلها جنس واحد وإن اختلفت أسماؤها). وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "التمر بالتمر مثلا بمثل"، ولم يفرق بين الأنواع المختلفة منه. وقال في حديث أبي سعيد وأبي هريرة: "أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا، إنما نأخذ من هذا الصاع بالصاعين، والصاعين بالثلاثة من الجمع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا، ولكن بع هذا، واشتر بثمنه من هذا".

فأبان أن اختلاف أنواعه لا يبيح التفاضل فيه؛ لأن الجمع هو الأنواع المختلفة منه، وكذلك الحنطة كما وصفنا. مسألة: (ولحوم الضأن والماعز جنس واحد). لأن اختلافهما كاختلاف أنواع التمر، ألا ترى أنهما من جنس واحد في الصدقات، وكذلك البقر والجواميس. قال: (والحنطة والشعير جنسان). لقوله صلى الله عليه وسلم: "وبيعوا الحنطة بالشعير كيف شئتم، يدا بيد". مسألة: [بيع الحيوان باللحم] قال أبو جعفر: (ولا بأس ببيع الحيوان باللحم من جنسه، من غير اعتبار اللحم في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يجوز إلا أن يعلم أن في الحيوان المبيع من اللحم أقل من اللحم الذي اشترى به). لأبي حنيفة: أن اعتبار لحم الحيوان في حال حياته ساقط؛ لأنه لو اعتبر لما صح العقد رأسا، لأنه لا يحل إلا بالزكاة، ألا ترى أن ما بان منه قبل الزكاة فهو ميتة، فلما جاز البيع إذا كان أقل، دل على سقوط اعتباره في حال الحياة. وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن بيع اللحم

بالحيوان"، فوجهه إذا كان حيوانا مذبوحا بلحم، لأنه قد نسميه حيوانا بعد الذبح، كما يقول القائل: أكلنا من الحيوان كذا. والفرق بينه وبين جواز بيع الزيت بالزيتون، على الاعتبار أن الزيت الذي في الزيتون ليست إباحته موقوفة على الزكاة، فلذلك جاز اعتباره. *وجعله محمد بمنزلة الزيت بالزيتون، والشاة بالصوف، وذهب أيضا إلى ظاهر ما روي من النهي عن بيع اللحم بالحيوان. مسألة: [بيع الزيت بالزيتون] قال أبو جعفر: (ولا يجوز بيع الزيت بالزيتون إلا أن يعلم أن الزيت أكثر مما في الزيتون من الزيت). وذلك لأن هناك زيتا معقودا عليه، فوجب اعتبار ما في الزيتون منه. والأصل في وجوب هذا الاعتبار: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "نهى عن بيع اللحم بالحيوان"، وقد قامت الدلالة على أن المراد الحيوان المذبوح، وقد تقدم بيان ذلك، فصار أصلا في الزيت بالزيتون ونظائره. والمعنى فيه: اعتبار المساواة، فإذا كان الزيت أكثر، صار الزيت الذي في الزيتون بمثله من الزيت، والفضل بالثفل".

فإن قيل: هلا أبطلته من حيث وجبت قسمة الزيت المعقود عليه على قيمة الزيت الذي في الزيتون وعلى الثفل، وما وقعت القسمة فيه على القيمة لم تحصل فيه المساواة بيقين، فلا يحوز إذا كانت هذه القسمة التي يقتضيها العقد. كرجل اشترى حنطة وشعيرا بزيت أو غيره، فيقسمه على قيمة الحنطة والشعير، ويكون ثمن كل واحد منهما ما يخصه بالقيمة. قيل له: إنما يجوز اعتبار قسمة العقد على الوجه الذي ذكرت، ما لم يؤد إلى فساد العقد، فأما إذا أدى إلى فساده، فإنه لا يجوز اعتبارها، وذلك لأن دخولهما في العقد قصد منهما إلى تصحيحه، فمتى وجدنا له وجها في الصحة حملناه عليه. وأيضا: فإن سائر المكيلات والموزونات إذا لاقى جنسه، فإنما تكون قيمته مثله في مقداره؛ لأنها كذا جعلت في الشرع، فوجب أن يكون محمولا عليه. وما روي عن فضالة بن عبيد في بيع القلادة التي كان فيها ذهب وخرز بذهب، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تبعها حتى تفصل". فإن وجهه عندنا: أنه لم يعلم أن الذهب الذي أعطى أقل أو أكثر مما

فيها، فلذلك نهى عنه. ويدل عليه أنه قال: "الذهب بالذهب مثلا بمثل". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا علي بن محمد بن أبي الشوارب قال: حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال: حدثنا الليث بن سعيد عن سعيد بن يزيد عن خالد بن أبي عمران عن حنش الصنعاني عن فضالة بن عبيد قال: "اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارا ذهبا وخرزا، ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تباع حتى تفصل". فإنما نهى عن بيعه حتى يفصل، للمعنى الذي ذكرنا. مسألة: [بيع الشاة وفي ضرعها لبن بلبن] قال أبو جعفر: (وبيع الشاة التي في ضرعها لبن بلبن، كبيع الشاة باللحم، على ما ذكرنا من الاختلاف). قال أحمد: قول أبي جعفر: إن ذلك على الخلاف: غلط، لا خلاف بين أصحابنا في أن ذلك إنما يجوز على الاعتبار، وهو أن يكون اللبن يعطى أكثر من اللبن الذي في الضرع. وكذلك بيعها بصوف، وعلى ظهرها صوف، ولا خلاف بينهم في

جوازه على الاعتبار. والفرق بينهما على مذهب أبي حنيفة ما بينا. مسألة: [بيع الرطب بالتمر] قال أبو جعفر: (لا بأس ببيع الرطب بالتمر، يدا بيد، مثلا بمثل، في قول أبي حنيفة، ولا يجوز في قول أبي يوسف ومحمد. ولا يجوز متفاضلا في قولهم جميعا). لأبي حنيفة: أنا الرطب والتمر لا يخلو من أن يكون جنسا واحدا، أو جنسين مختلفين، فإن كانا جنسا واحدا: جاز، لقوله عليه الصلاة والسلام "التمر بالتمر مثلا بمثل". وإن كانا جنسين: فهو أجوز، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا اختلف النوعان، فبيعوا كيف شئتم، يدا بيد". وأيضا: فقد اتفقوا على جواز بيع التمر الحديث بالعتيق، لوجود المساواة في الحال، فكذلك الرطب بالتمر. وأما حديث زيد بن عياش عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم

في "النهي عن بيع الرطب بالتمر"، فإن زيدا أبا عياش مجهول، ـ لا يجرى من هو، ولم يرد هذا الحديث إلا من هذا الطريق. وهو مع ذلك مضطرب المتن؛ لأنه روي في بعض ألفاظه: "أينقص الرطب إذا جف؟ ". وفي بعضها: "أنه نهى عن ذلك نسيئة". ولو سلم كان معناه: متفاضلا. فإن قيل: روي في بعض ألفاظه: "أينقص الرطب إذا جف؟ ": تقرير على العلة الموجبة لفساد البيع. قيل له: لا يجوز أن يكون على معنى التنبيه على العلة من وجهين:

أحدهما: أنه قد ذكر فيه: "نساء"، وليست على تحريم علة النساء فيه حدوث النقصان في الثاني. والوجه الآخر: أن هذه العلة موجودة مع التمر الحديث بالعتيق، مع جوازه عند الجميع، فدل أنه لم يخرج مخرج الاعتلال. وأما الفرق بينه وبين الحنطة بالدقيق، فهو أن نقصان أحدهما عن الآخر موجود في الحال؛ لأن أجزاء أحدهما أكثر من أجزاء الآخر، فلذلك لم نجزه. وأما الرطب والتمر، فهما متساويان في الحال، وإنما يحدث النقصان في الرطب بعد الجفاف بذهاب بعض أجزائه باليبوسة، كما يحدث في التمر الحديث بمرور الأوقات عليه. مسألة: [لا يرد المبيع بالعيب إذا أدى الرد إلى تفريق الصفقة] قال أبو جعفر: (وإذا اشترى الرجل عبدين، فلم يقبضهما، أو قبض أحدهما، ولم يقبض الآخر، حتى وجد بأحدهما عيبا، فهو الخيار: إن شاء أخذهما جميعا، وإن شاء ردهما جميعا، ليس له غير ذلك، وإن كان قبضهما، ثم علم بالعيب، رد المعيب خاصة دون الآخر بحصته من الثمن). قال أحمد: الأصل في ذلك: أنه ليس لأحد من المتابعين تفريق الصفقة على صاحبه في الأثمان، وله تفريق الصفقة عليه في الفسخ، والدليل على صحة هذا الأصل: أن رجلا لو قال: قد بعتك هذين العبدين بألف درهم، أو قال: كل واحد بخمسمائة: لم يكن له أن يقبل

البيع في أحدهما دون الآخر؛ لأن فيه تفريق الصفقة عليه في الأثمان، ومن أصلنا أن الصفقة لا تتم إلا بالقبض، فلذلك لم يجيزوا له تفريق الصفقة فيهما. وعلى هذا الأصل قالوا: إذا اشترى عبدين على أنه بالخيار ثلاثا فيهما، وقبضهما، أو لم يقبضهما، لم يكن له رد أحدهما دون الآخر، لأن شرط الخيار يمنع تمام الصفقة، وإن كانا مقبوضين جميعا. وكذلك هذا في خيار الرؤية وإن قبض؛ لأن خيار الرؤية يمنع تمام الصفقة، لجهالة المبيع عنده إذا كان خياره، لئلا يلزم نفسه مجهولا. وأما إذا قبضها، ولا خيار له فيه: فقد تمت الصفقة، فله أن يرد أحدهما دون الآخر؛ لأن في ذلك تفريق الصفقة في الفسخ، لا في الأثمان، وذلك جائز بلا خلاف. مسألة: [العيب في ثمن الصرف] قال: (وإذا وجد في ثمن الصرف درهما زائفا بعد الافتراق، فإنه يستبدله ما بينه وبين النصف، ولا يفارقه إذا رده حتى يقبض البدل. فإن كان أكثر من النصف: انتقض الصرف بمقداره إن رده في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا ينتقض إذا أخذ البدل في المجلس الذي رده فيه ولو وجدها كلها زيوفا). قال أحمد: وقد روي عن أبي حنيفة في هذه المسألة روايتان أخريان: إحداهما: أنه ينتقض الصرف في النصف، ولا ينتقض في أقل منه. والأخرى: أنه ينتقض في الثلث، ولا ينتقض في أقل منه.

والقياس عنده أنه ينتقض في القليل والكثير إذا رده، ولا يصح له أخذ بدله، وذلك لأن رده يوجب نقض القبض في المردود، وإعادة الدين الذي كان في العقد، ولا يصح إعادته دينا بعقد صرف قد حصل عنه افتراق، إذ كان الافتراق موجبا لبطلانه لو كان الدين باقيا. واستحسن في القليل فأجازه، وترك القياس فيه، كما جاز أن يتجاوز بالزيوف عن ثمن الصرف وإن وقع العقد على الجياد. ومعلوم أن الزيوف قد خالطها عين الفضة، فسقط حكمه لأجل قلته، وصار الحكم فيه للأكثر، ولم يكن بمنزلة من أخذ عن ثمن الصرف وغيره، فكذلك ما وصفنا. وهذه علة للرواية التي أجاز فيها أقل من النصف، ولم يجز النصف، وهي أصح الروايات. *قال أبو جعفر: (إذا انتقض العقد فيما رده: كان شريكا في الدينار بحسابه، وكذلك إذا وجد بعضها ستوقا بعد الفرقة).

قال أحمد: أما الستوق، فلا يحصل به استيفاء لثمن الصرف؛ لأنه ليس بعضه، فهو بمنزلة من تصرف في ثمن الصرف قبل القبض، فلا يجوز. والأصل فيه: أن كل ما أخذ علينا تعجيله في مجلس العقد، فإنه لا يجوز التصرف فيع قبل القبض، مثل ثمن الصرف، ورأس مال السلم. *وأما قوله: "إنه يصير شريكا في الدينار الذي قبضه بيع الدراهم": فإن محمدا قد أطلق نحو ذلك في كتاب الصرف، ومعناه: أنه يشاركه في دينار، إن شاء كان ذلك الدينار، وإن شاء غيره. ولا يستحق بيع الدينار بانتقاض الصرف بعد صحته؛ لأن من أصلهم: أن رجلا لو اشترى عبدا بألف درهم، وقبض البيع الدراهم، ثم مات العبد قبل القبض: لم يستحق المشتري غير تلك الدراهم، وكان للبيع أن يعطيه غيرها، وذلك لأنها لم تملك بالعقد، وإنما ملكت بالقبض، وما لم يملك بالعقد، لم ينتقض الملك فيه بانتقاض العقد.

باب العرية

باب العرية مسألة: [بيع العرايا] قال: (والعرية أن يعري الرجل الرجل ثمر نخلته، فلا يجذها المعرى حتى يبدو للمعري أن يمنعه منها، ويعوضه منها خرصها تمرا، ويقبل ذلك منه المعرى، فيطيب ذلك للمعري والمعرى، ويخرج المعري بذلك من حكم من وعد وعدا ثم أخلفه، ويخرج المعرى من حكم من أخذ عوذا عن شيء لم يكن ملكه). قال أبو بكر أحمد: العرية عندهم هي الهبة، وذلك لأنها مشتقة من العارية، والعارية إنما هي تمليك المنافع بغير بدل، فكان اسم العرية بالهبة أولى منه بالبيع الذي هو تمليك ببدل. ويدل عليه قول الشاعر يصف نخلة: ليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح

يعني أنها موهوبة التمر في هذه السنين. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم "إذا خرصتم فدعوا الثلث أو الربع، فإن في المال: العرية والوصية". وروى ابن طاوس عن أبي بكر بن محمد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن لا تخرص الثمار العرايا". والعرايا: أن يمنح الرجل من حائطه رجلا نخلات، ثم يبتاعها الذي منحها من الممنوح بخرصها كيلا. وليس يمتنع إطلاق لفظ البيع عليه وإن كان المشتري مالكا للثمرة قبل تسليمها إلى الموهوب له، كقول الله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين

أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة}، وهي كلها لله قبل الشراء وبعده. وقال: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى}. ولا يجوز عندنا بيع ثمرة النخلة والنخلتين، ولا أكثر من ذلك بخرصها تمرا إذا كان البيع مالكا للثمرة. وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "نهى عن بيع المزابنة، وهي بيع الثمرة في رؤوس النخل بالتمر كيلا". وقال عليه الصلاة والسلام: "التمر بالتمر، مثلا بمثل، كيلا بكيل". ولاتفاق الجميع على امتناع جواز بيعها لو كانت موضوعة بالأرض إلا مكايلة. ولاتفاق المسلمين أيضا على امتناع جواز بيع تمر النخل الكثير بخرصها تمرا. فإن قيل: روى زيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وجابر، وأنس، وأبو هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها".

وقال أبو هريرة: فيما دون خمسة أوسق. قيل له: العرية ما وصفنا من الهيئة، وقد دللنا عليه في صدر المسألة. ويدل عليه أيضا: ما روى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن المزابنة". وقال زيد بن ثابت: ورخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في النخلة والنخلتين، يوهبان للرجل، فيبيعهما بخرصهما تمرا". فإن قيل: فما فائدة الرخصة على ما تأولت، والثمرة ملك الواهب بعد لم يملكها الموهوب له. قيل له: لولا خبر الرخصة فيه، لمنعناه من ذلك، لما فيه من إخلاف الوعد. ولم يكن نبيح أيضا للموهوب له أخذ البدل؛ لأنه لم يملك بعد، فأفادنا الخبر جواز ذلك. وأيضا: فلو كان خبر العرية واردا على الوجه الذي ادعيتموه من جواز عقد الشراء على ثمرة بخرصها تمرا، لكان خبر النهي عن المزابنة، وقوله صلى الله عليه وسلم "التمر بالتمر، مثلا بمثل": أولى بالاستعمال منه؛ لأنه متفق على استعماله، وخبر العرية مختلف في استعماله على الوجه الذي ذهب إليه المخالف، ومتى ورد خبران على هذا الوصف، كان

الخبر المتفق عليه، قاضيا على الآخر، وقد بينا ذلك فيما سلف. ثم إذا وجدنا لخبر العرية وجها يوافق الخبر الآخر، حملناه عليه، واستعملناهما، ومخالفنا لا يجيز بيع العرية إذا كان محاطا على النخلة والنخلتين، وإنما يجيزه إذا كانت فيما بين نخل لغيره، من غير أن يكون عليها حائط. والخبر لم يفرق بين ذلك، فكان الحائط الذي بينهما حينئذ يكون مانعا من البيع، والحائط لا تأثير له في ذلك.

باب بيع أصول النخل والشجر والثمار

باب بيع أصول النخل والشجر والثمار مسألة: [بيع الشجر وعليه ثمر] قال أبو جعفر: (وإذا باع نخلا أو شجرا فيها ثمر قد بدا: فالثمر للبيع، ويقطعه من شجر المشتري، سواء أبره أو لم يؤبره). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من باع نخلا مؤبرا، فثمرته للبيع إلا أن يشترط المبتاع". أفادنا بذلك أن كل ما كان لقطعه نهاية في العادة: فغير داخل في شراء الأصل، إلا بالشرط مثل الزرع في الأرض. وإنما استوى حكم المؤبر وغير المؤبر، لوجود المعنى الذي من أجله لم يدخل المؤبر منه في العقد، وهو أن لقطعه نهاية، وتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم للمؤبر لا يوجب أن يكون الحكم مقصورا عليه؛ لأن ذكر التأبير إنما هو إبانة عن حال ظهور الثمرة؛ لأنها تؤبر عند ظهورها. وهو كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا قطع في ثمر حتى يؤويه الجرين"، ولو آواه البيت والدار كان كذلك حكمه؛ لأن المعنى فيه

الإحراز، وبلوغ حال الاستحكام. ويؤمر البيع بقطع الثمرة؛ لأنها في ملك المشتري، بمنزلة من باع دارا له فيها متاع، فيؤمر برفع المتاع ونقله. مسألة: [بيع الثمر دون الشجر] قال: (وإن اشترى الثمرة دون الأصل: جاز، وعلى المشتري أن يجدها، أبرت أم لم تؤبر). قال أحمد: لا خلاف بين الفقهاء في جواز شرائها إذا شرط قطعها. ولا خلاف في فساده إذا شرط الترك قبل بدو صلاحها. واختلفوا فيه إذا لم يشرط قطعها، ولا تركها: فأجازه أصحابنا، وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من باع نخلا مؤبرا: فثمرته للبيع إلا أن يشترط المبتاع". فأجاز شرط الثمرة للمشتري على الإطلاق، من غير شرط القطع.

وأيضا: فإن العقد يوجب التسليم في الحال، ولا يفرق بين شرط القطع وبين الدخول في عقد يوجب قطعه، ألا ترى أنه لا فرق بين أن يبيع العبد، ويشترط تسليمه للمشتري، وبين أن يبيعه ويسكت عن شرط التسليم، إذ كان العقد يوجبه. وإنما يبطل العقد إذا شرط الترك؛ لأنه نفى موجب العقد، إذ كان العقد يوجب قطعه، كمن باع عبدا، وشرط أن لا يسلمه شهرا، فيفسد العقد، لنفيه بالشرط ما يوجب العقد من التسليم. قال أبو جعفر: (فإن اشترط في البيع تركها إلى جدادها: فإن أبا حنيفة وأبا يوسف قالا: البيع على ذلك فاسد). للعلة التي وصفنا، وهي أنه نفى التسليم الموجب بالعقد بالشرط، كشرطه أن لا يسلم العبد إلى شهر. * (وقال محمد: إن كان قد بدا صلاحها: جاز البيع والشرط)؛ استحسانا وشبهه برجل اشترى نعلا على أن يحذوها البيع ويشركها، فيجوز البيع والشرط، لجريان العادة بجواز مثله، كذلك الثمرة إذا بدا صلاحه: جاز شرط الترك فيها للعادة، ولأنها لا يحدث فيها بالترك أجزاء معدومة في الحال. والفصل بينهما على مذهب أبي حنيفة: أن القياس يمنع جواز شرط الحذو والتشريك في شراء النعل، إلا أنه ترك القياس فيه، لجريان

العادة بمثله في السلف، مع ترك الفقهاء النكير على فاعله، فصار إجماعا من السلف، ولم نجد مثله في شرط ترك الثمرة، فحمل أمرها على القياس. مسألة: [بيع الثمرة مع جهالة قدرها] قال أبو جعفر: (ولا يجوز بيع الثمرة إلا صاعا منها). وذلك لأنه مجهول، كأنه اشترى بعض الثمرة، ولم يبين مقداره. قال: (ولا بأس ببيع الجزء المعلوم من أجزائها). وذلك لأنه معلوم، كبيع ربع العبد، ونصفه. مسألة: [هلاك الثمرة بعد القبض] قال أبو جعفر: (وما هلك من الثمرة بعد قبض المشتري، فهو من مال المشتري). لأنها قد صارت في ضمانه، وخرجت من ضمان البيع، كمان اشترى طعاما أو ثيابا، وقبضها، فتهلك من ماله إذا هلكت. مسألة: [هلاك الثمرة قبل القبض] قال: (وما هلك قبل القبض: فهو من مال البيع، فإن هلك بعضه: فالمشتري بالخيار: إن شاء أخذ الباقي بحصته من الثمن، وإن شاء ترك). قال أحمد: صحة بقاء العقد عندنا موقوفة على سلامة القبض، والأصل فيه: أن الله تعالى لما حرم الربا، أبطل منه ما لم يكن مقبوضا، ولم يتعقب منه ما كان مقبوضا بالفسخ، فدل على أن من شرط بقاء

العقد: سلامة القبض، وأنه متى عدم التسليم: بطل العقد. ويدل عليه من جهة السنة: "نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها". وقال: "أرأيت إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه". فأخبر أن البيع لا يستحق الثمن إلا بسلامة المبيع للمشتري. ويدل عليه نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع العبد الآبق، وعن بيع الغرر، وسائر البياعات التي يتعذر فيها التسليم. *ومن جهة النظر: إن وجود العيب بالمشترى، يحدث للمشتري خيارا في الفسخ، لاستدراك الجزء الفائت الذي شرط تسليمه بالعقد، فإذا عدم الأصل: فهو أولى أن لا يستحق عليه الثمن.

وأيضا: لو منع البيع تسليم العبد، وغيبه، لم يستحق الثمن، لعده التسليم، كذلك إذا مات. وأيضا: فإن عقد البيع يتناول كل واحد من البدلين، فلا يستحق أحدهما تسليم ما ملك على صاحبه، إلا بتسليم ما ملك عليه. *وإنما وجب له الخيار إذا هلك بعض المبيع، من قبل أن تفريق الصفقة عليه قبل تمامه يوجب له الخيار. والدليل عليه: أنه لو قال: قد اشتريت منك هذا الكر بمائة درهم، فقال: قد بعتك نصفه: كان له أن لا يقبله، لتفريق الصفقة عليه. مسألة: [استهلاك الأجنبي المبيع] قال: (ولو استهلكه أجنبي: كان للمشتري أن يختار اتباع الجاني، ويعطي البيع الثمن). وإنما كان له الخيار، من قبل أن السلعة قد تغيرت قبل التسليم، فوجب له الخيار لذبك، ولا يبطل البيع؛ لأن ما حصل على الجاني من ضمان القيمة أو المثل قائم مقام الأصل، وإنما حدث تغير، فلا يبطل البيع. فإن قيل: لما لم يصح ابتداء العقد عليه وهو في ذمة الغير، وجب أن لا يبقى فيه حكم العقد إذا صار كذلك. قيل له: لا يجب ذلك، ألا ترى أن الآبق لا يجوز ابتداء العقد عليه،

ولو أبق بعد البيع قبل القبض: لم يبطل العقد. ولا يجوز ابتداء عقد النكاح على معتدة، ولو طرأت عليها عدة وهي تحت زوج: لم يبطل النكاح، فليس حكم البقاء في ذلك حكم الابتداء. مسألة: [جز الكلأ المشترى على المشتري] قال أبو جعفر: (وإذا اشترى رطبة قائمة في الأرض: جاز ذلك، وكان عليه جزها، وإن اشترط ذلك على البيع: فسد البيع). وذلك لأن نقلها على المشتري، فإذا اشترط نقلها على البيع: فسد البيع؛ لأنه شرط شرطا لا يوجبه العقد، بمنزلة من اشترى طعاما على أن يحمله البيع إلى منزله. مسألة: [البيع قبل القبض] قال: (ومن اشترى شيئا بعينه، أو في ذمته: لم يجز له بيعه قبل قبضه، ولا التولية، ولا الشركة). قال أحمد: هذا في غير العقار، وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "نهى عن بيع ما لم يقبض".

والإشراك، والتولية بيع، فلا يجوز. قال أبو جعفر: (والحوالة به كالبيع فيه، فلا يجوز شيء من ذلك). قال أحمد: قوله: "والحوالة به كالبيع": لا معنى له؛ لأن من قولهم: إنه إن كان في الذمة: جازت الحوالة به، ألا ترى أن رجلا لو كان له على رجل كر حنطة سلما، فأحال به عليه رجلا له كر حنطة: جاز، ولم يكن بمنزلة البيع. ويجوز أيضا للمسلم إليه أن يحيل المسلم بالسلم على غيره. وإن كان المشترى عينا: جازت الحوالة به أيضا، ويكون المحال وكيلا للمشتري في قبضه، فلا وجه لقوله: "إن الحوالة به كالبيع". مسألة: قال أبو جعفر: (والإقالة قبل القبض فسخا للبيع). قال أحمد: هذا لا خلاف فيه بين الفقهاء؛ لأن بيعه قبل القبض لا

يجوز، فدل أنها فسخ. قال: (وهي بعد قبض المبيع فسخ أيضا في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمد: بعد قبض المبيع بيع مستقبل، وقبل قبضه: فسخ للبيع). قال أحمد: وجه قول أبي حنيفة: أن الإقالة في اللغة: رفع العقد، والأصل فيها قولهم: أقال الله عثرتك، يعني: رفعها وأزالها. فإذا كانت رفعا للعقد الأول، وهما دخلا فيها على هذا الوجه، لم يجز لنا أن نجعلها بيعا مستقبلا؛ لأنها تكون حينئذ غير ما تعاقدا عليه، كما لو أنهما عقدا عقد هبة، لم يجز لنا أن نجعله عقد بيع. وأيضا: لا يختلفون أنها تصح بغير تسمية ثمن، ولو كانت بيعا مستقبلا: لما صحت بغير تسمية ثمن. وأيضا: تجوز الإقالة على القيمة بالاتفاق، والبيع المستقبل لا يصح على القيمة. وأما مذهب أبي يوسف: فهو كما قال. وأما محمد: فإنها عنده إذا كانت بجنس الثمن الأول: فهي فسخ، ولا

تصح إلا بالثمن الأول، وإن كانت بغير جنس الثمن: فهي بيع مستقبل، كما قال أبو يوسف. وذهب أبو يوسف إلى أنها لما وقعت بتراضيهما في حال يصح فيها عقد البيع، وجب أن تكون بيعا، ألا ترى أن حكمها حكم البيع في حق الغير في باب وجوب الشفعة بها، وامتناع رد المبيع بالعيب على بيعه. ولا خلاف بينهم أنها في حق الغير بمنزلة البيع المستقبل، وكذلك إذا وقعت قبل القبض؛ لأنه عاد إلى البيع بتراضيهما، وقال الله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}. فمن حجة الغير أن يقول: ليس علي من حكم العقد الأول شيء، وهذا قد عاد إلى البيع ببدل عن تراض منهما، وفسخكما لا يجوز علي، فهي بيع في حقي. مسألة: [ما يجوز فيه التصرف قبل القبض] قال أبو جعفر: (ومن وجب له حق من قرض، أو ثمن مبيع، أو غصب، فابتاع به شيئا بعينه: جاز، قبضه أو لم يقبضه). قال أحمد: الأثمان التي لا يستحق قبضها في المجلس، يجوز التصرف فيها قبل القبض. والأصل فيه: حديث ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فآخذ بالدراهم الدنانير، وبالدنانير الدراهم، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم

فقال: "لا بأس به ما لم تفترقا، وبينكما شيء". فثبت بذلك جواز التصرف في الأثمان التي لا يستحق قبضها في المجلس قبل الافتراق. فأما ما يستحق قبضه في المجلس نحو ثمن الصرف، ورأس مال السلم، فإنه لا يجوز التصرف فيه قبل القبض؛ لأن في إسقاط قبضه إفساد العقد. ألا ترى أنه لو أبرأ منه، لم تصح براءته إلا أن يقبلها الآخر، فيكون حينئذ إقالة وفسخا للعقد. [مسألة:] قال أبو جعفر: (وإن ابتاع به شيئا بغير عينه، فإن قبضه قبل أن يتفرقا: تم البيع، وإلا: بطل). قال أحمد: هذا على وجهين: إن كان الأصل فيه دراهم أو دنانير أو فلوسا، فاشترى بها طعاما، أو نحوه من مكيل، أو موزون في الذمة، لم يصح العقد رأسا؛ لأن هذه الأشياء إذا لاقت الأثمان كانت مبيعا، ولا يصح العقد على مبيع عندنا في الذمة إلا في السلم خاصة. وإن كان الأصل غير الدراهم والدنانير، وإنما هو طعام أو غيره من المكيل والموزون، ثم عقد به على مكيل أو موزون في الذمة، فهذا أيضا على وجهين:

إن جعل الأصل ثمنا، بأن قال: اشتريت منك كذا من طعام موصوف بما في ذمتك: لم يصح العقد؛ لأن الطعام المشترى في هذه الحالة مبيع في الذمة. ولو قال: قد بعتك الطعام الذي لي في ذمتك بكذا وكذا من زيت موصوف أو غيره: جاز البيع، واحتاج إلى قبضه في المجلس؛ لأن دين بدين، والدين بالدين معفو عنه مقدار المجلس، غير معفو عنه بعد المجلس. ولو باع الطعام الذي في ذمته بدراهم أو دنانير: جاز أيضا إذا قبض في المجلس؛ لأنهما أثمان. مسألة: [جواز بيع الطعام قبل نقله إن كان قبضه بالتخلية] قال أبو جعفر: (ومن اشترى طعاما صبرة، فقبضه، جاز له بيعه، نقله عن موضعه الذي ابتاعه فيه، أو لم ينقله). وذلك لأن القبض في مثل هذا يقع بالتخلية؛ لأن هذا هو التسليم المستحق على البيع، فإذا فعل ما عليه: استحق الثمن، ونقل المشتري غير مستحق بالبيع، فلا يتعلق به حكم فيما بينهما، ألا ترى أن المؤجر بالتخلية، سكنها المستأجر، أو لا. مسألة: [جهالة جملة الثمن] قال أبو جعفر: (وإذا اشترى صبرة طعام على أن كل قفيز منها

بدرهم: فإن البيع يصح في قفيز واحد في قول أبي حنيفة). وذلك لأن جملة الثمن مجهولة، لا يصح العقد فيها، وثمن القفيز الواحد معلوم، فيصح العقد فيه. *قال: (فإذا كاله البيع للمشتري، كان المشتري بالخيار، إن شاء أخذ بقيتها بعد القفيز، كل قفيز منها بدرهم، وإن شاء ترك). وذلك لأن الجهالة قد زالت، فصح البيع فيها، لزوال المعنى الذي من أجله أبطلناه. وإنما كان له الخيار؛ لأنه لم يعلم بدءا بجملة الثمن، وإنما علمها الآن، فكان بمنزلة من اشترى شيئا لم يره، فإذا رآه كان له الخيار، بمنزلة من اشترى شيئا برأس ماله، ثم علم برأس المال. * (وقال أبو يوسف ومحمد: يلزمه البيع فيها كلها، كل قفيز بدرهم)؛ لأن المعقود عليه من الطعام معين يصح البيع فيه، وإنما بقي علينا في جملة ثمنها أن نكيل الطعام، فلا يفسد ذلك البيع. *قال: (فإن اشترى الصبرة كلها بمائة درهم، كل قفيز منها بدرهم: جاز البيع في جميعها، في قولهم جميعا)؛ لأن الثمن معلوم، والطعام معين.

باب المصراة وغيرها

باب المصراة وغيرها مسألة: [ما يوجبه عيب التصرية] قال أبو جعفر: (وإذا اشترى الرجل ناقة، أو بقرة، أو شاة، على أنها لبون، ثم حلبها مرة بعد مرة، فتبين له بنقصان لبنها، أنها مصراة: فإنه يرجع على بيعها بنقصان عيبها، وليس له ردها عليه بوجه. وقال أبو يوسف بعد ذلك: يردها وقيمة صاع من تمر، واللبن له). قال أحمد: قول أبي جعفر في الشاة ونحوها، إذا اشتراها على أنها لبون، وإجازة البيع فيها مع هذا الشرط، فإن الذي نعرفه في مذهبهم في ذلك أن البيع فاسد. وقد روي عن محمد في الرجل يشتري شاه على أنها حلوب: أن البيع فاسد، وقد ذكره أبو الحسن الكرخي رحمه الله تعالى في الجماع الصغير الذي صنفه. قال أحمد: والأصل في ذلك، أن الشيء لا يدخل في حكم العقد،

ولا يكون له حصة فيه، إلا بأحد وجهين: إما أن يتناوله العقد بالتسمية، أو يقع عليه التسليم الموجب بالعقد، وما عدا ذلك فليس بداخل في العقد، ولا حصة له من الثمن. واللبن الحادث بعد القبض لا حكم له في العقد، وذلك لأن العقد لم يتناول؛ لأنه لا يصح العقد عليه على حياله، ولم يقع عليه التسليم، فلما لم يكن داخلا في العقد، لم يجز أن يكون له حصة فيه، وإذا امتنع ثبوت الحصة، امتنع رد الأصل؛ لأن الناس فيه على قولين: إما قائل يقول: يردها ويرد معها صاعا من تمر. وقائل يقول: لا يردها، ويرجع بأرش النقصان. فلما امتنع إثبات الحصة للبن لما وصفنا، امتنع الرد. وأيضا: فإن الولد الحادث بعد القبض، لا حصة له من الثمن بالاتفاق، وهو جزء من أجزائها كاللبن، فوجب أن يكون كذلك حكم اللبن، إذ كل واحد منهما لا يصح إفراده بالعقد في حال اتصاله بالأصل، ولم يقع عليه التسليم. قال أحمد: والولد واللبن وما جرى مجراهما مما يحدث بعد القبض، فإنه وإن لم يكن دخل في العقد، فهو موجب به. والدليل عليه: أن المشتري المغرور يرجع عند الاستحقاق بقيمة الولد على الغار، فلولا أنه أوجبه له بالعقد، لما رجع عليه بقيمته، حينئذ لم يسلم له إلا بضمان القيمة، فلم يخل حكم الأصل بعد حدوث

الزيادة من أحد الوجهين: إما أن يفسخ العقد من الأصل على جميع الثمن، فيبقى اللبن والولد للمشتري بغير شيء، وهو موجب بالعقد، وقد انفسخ العقد، فلا يجوز أن يبقى في يده ما هو موجب به مع فسخه. أو أن يرده بحصته مع حصة الولد واللبن، وهذا لا يجوز؛ لأنه لا حصة لهما إذا حدثا بعد القبض، لما بيناه، ومثله إذا كان مستهلكا، فهذا موافق للخبر الذي ذكر فيه رد اللبن. *وأما خبر المصراة، فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أوجه: يروى من طريق أبي هريرة على ثلاثة أوجه: - أحدها: "من اشترى شاة مصراة فهو بأحد النظرين: عن شاء أمسكها، وإن شاء رد معها صاعا من تمر". - والوجه الآخر: "فليرد معها صاعا من طعام، أو تمر".

- والثالث: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا فليح بن سليمان عن أيوب بن عبد الرحمن عن يعقوب بن أبي يعقوب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى شاة مصراة، فالمشتري بالخيار ثلاثة أيام: إن شاء ردها، وصاعا من لبن". فذكر في هذا الحديث صاعا من لبن. - والوجه الرابع: ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أبو كامل قال: حدثنا عبد الواحد قال: حدثنا صدقة بن سعيد عن جميع بني عمير التيمي قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من باع محلفة، فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها، رد معها مثل لبنها، أو مثليه قمحا".

فهذا يخالف الأخبار الأول، من قبل أنه ذكر القمح، وذكر رد المثل أيضا، وهذه الألفاظ كلها صحيحة عندنا على مذهبنا، ولا تستقيم على مذهب مخالفنا، وذلك لأنه جائز أن يكون ذلك فيمن اشترى شاة على أنها تحلب كذا وكذا، فيوجب ذلك فساد العقد، فإذا حلبها، وجب عليه رد اللبن إن كان قائما بعينه، أو مثله إن كان مستهلكا، فهذا موافق للخبر الذي ذكر فيه رد اللبن. والخبر الذي ذكر فيه القمح والتمر، يجوز أن يكون على معنى أنه جعله قيمة اللبن، وكان التمر والبر أوجد عندهم من الذهب والفضة. وجهة أخرى، وهي أنه جائز أن يكون في حال كان يجوز فيها عقد البيع على اللبن في الضرع، فصار مشترى معها، فلم يمنع ذلك رد الشاة، وجعل قيمة اللبن تمرا، أو قمحا، وذلك منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع اللبن في الضرع، رواه ابن عباس. ويحتمل أن يكون رجل اشترى شاة بتمر، فحلبها قبل القبض، ثم وجد بالشاة عيبا بعد القبض، وردها، وكانت حصة اللبن صاعا من تمر من جملة الثمن.

وحمل الخبر على مذهب المخالف خلاف الأصول؛ لأنه يوجب أن يكون لو اشترى شارة بصاع تمر، ثم حلبها، أنه يردها ويرد معها صاع تمر، ومعلوم أن حصة اللبن أقل من صاع، فهذا خلاف الأصول من وجهين: أحدهما: أنه يلزمه أكثر مما عليه. والثاني: ما فيه من الربا؛ لأنه يأخذ عن نصف صاع تمر: صاع تمر. مسألة: [ظهور العيب في الأمة المشتراة بعد استغلالها] قال أبو جعفر: (من اشترى أمة فاستغلها، ثم أصاب بها عيبا، ردها على بيعها، والغلة طيبة). وذلك لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا علي بن محمد بن أبي الشوارب قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا مسلم بن خالد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رجلا اشترى غلاما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وبه عيب لم يعلم به، فاستغله، ثم على بالعيب، فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إنه قد استغله منذ زمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الغلة بالضمان".

وقد رواه جماعة عن عورة عن عائشة، وقالوا فيه: "الخراج بالضمان" والمعنى واحد، الخراج المذكور في هذا الخبر، هو الغلة المذكورة في غيره. مسألة: [ظهور العيب في الأمة المشتراة بعد وطئها] قال أبو جعفر: (ولو جامعها، ثم أصاب بها عيبا، كان بيعها بالخيار: إن شاء أخذها لا شيء له غيرها، وإن شاء رد أرش عيبها من ثمنها، بكرا كانت أو ثيبا، وكذلك لو جنى عليها جناية ثم وجد بها عيبا). قال أحمد: الجماع عندهم بمنزلة ذهاب جزء منها بجناية المشتري، أو من السماء، والدليل على ذلك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اختلفوا في هذه المسألة: فقال علي عليه السلام: يرجع بأرش العيب، إلا أن يشاء البيع أن يقبلها، ويرد الثمن. وقال عمر: "يردها، ويرد معها عشر ثمنها إن كانت بكرا، أو نصف العشر إن كانت ثيبا". ثم اختلفوا في جناية المشتري عليها:

فقال علي عليه السلام: لا يردها، ويرجع بأرش العيب، إلا أن يشاء البيع أن يقبلها، ويرد جميع الثمن. وقال عمر: يردها مع الأرش. فحصل من اتفاقهم جميعا أن وطء المشتري في الحكم، كجناية عليها، على حسب اختلافهم فيه، فلما ثبت عندنا في حكم جناية المشتري ما وصفنا، وجب أن يكون الوطء بمثابته. فإن قيل: هلا كان الوطء بمنزلة الاستخدام. قيل له: لاتفاق الجميع من السلف على أنه في حكم الجناية دون الاستخدام، على ما بيناه. ويدل على الفصل بينهما، أنه لو اشترى جارية على أنه بالخيار ثلاثا، فاستخدمها: لم يبطل خياره، ولو وطئها: بطل خياره، كما لو جنى عليها بطل خياره، فكان الوطء كالجناية دون الاستخدام. وأيضا: فإن استخدام الغير لها لا يوجب شيئا، ووطؤه إياها لا يخلو من حد، أو مهر، فدل على أن الوطء مخالف للخدمة. ألا ترى أنه يملك إباحة الخدمة، ولا يملك إباحة الوطء إلا من وجه العقد. ودليل آخر: هو أنا لو فسخنا البيع بهذا الوطء، عادت إلى ملك البيع

على حكم الأصل، كأن العقد لم يكن، وذلك يوجب حصول وطئه في غير ملك، وحصول الوطء في غير ملك، لا يخلو من حد، أو مهر، فلما امتنع وجود ذلك مع الرد، امتنع الرد. مسألة: [ظهور العيب في الأمة المشتراة بعد جناية غيره عليها] قال أبو جعفر: (ولو كان زوجها، أو جنى عليها غيره جناية، فوجب لها مهر، أو أرش، ثم وجد بها عيبا، رجع على بيعها بأرش عيبها، ولم يكن لبيعها أخذها). وذلك لأن المهر الواجب بمنزلة أرش اليد، وأرش اليد بمنزلة الولد؛ لأنه بدل جزء من أجزائها، كما أن الولد جزء من أجزائها، فلما امتنع الرد مع حدوث الولد، امتنع مع الأرش والمهر. مسألة: [ظهور العيب بالأمة المشتراة بعد عتقها] قال أبو جعفر: (ولو أتعقها، ثم علم بعيبها، رجع بأرشه على بيعها). قال أحمد: وهذا استحسان من قولهم، وكان القياس ألا يرجع؛ لأنه منع الرد بفعله، كالقتل، والبيع، والهبة، إلا أنه استحسن الرجوع بأرش العيب. والأصل فيما يمنع الرد من فعله، ويمنع الرجوع بأرش العيب أو لا يمنع: أن المشتري متى منع نقل الملك في المشترى بفعل مضمون: لم يرجع بأرش العيب، ومتى لم يمنع نقل الملك فيه بفعله، أو منعه بفعل غير مضمون: رجع بأرش العيب إذا تعذر رد العيب. فإذا باع فقد نقل الملك فيه بفعل مضمون، وهو التسليم بعد منع البيع.

ألا ترى من سلم مال غيره إلى آخر: ضمنه، وكذلك إذا وهب وسلم، فقد منع نقل الملك فيه بفعل مضمون، وكذلك لو قتله. وأما إذا أعتقه، فإنه لم يمنع نقل الملك فيه بفعل مضمون؛ لأن العتق لا يوجب ضمانا على المعتق. ألا ترى أن من أعتق عبد غيره، لم يضمنه، ولو سلمه ضمنه. وأما إذا صبغه أحمر، فإن هذا وإن كان فعلا يتعلق به الضمان في ملك الغير، فإنه لم يمنع نقل الملك فيه، ألا ترى أنه يقدر على نقل الملك فيه، وإنما تعذر الرد من طريق الحكم؛ لأنه لا يمكنه فسخ البيع في الزيادة التي حصلت بالصبغ، لأنه لم يدخل تحت العقد، ولا يمكنه فسخ البيع في الثوب دون الصبغ، فإنما امتنع رده من طريق الحكم، لا من جهة أنه لا يمكن نقل الملك فيه، ولذلك كان الأمر فيه على ما وصفنا. مسألة: [قتل المشتري الأمة المعيبة] قال أبو جعفر: (وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أنه إذا

قتلها المشتري، ثم علم بالعيب، رجع على البيع بأرش العيب). قال أحمد: المشهور من قولهم جميعا أنه لا يرجع بشيء. مسألة: [أكل المشتري الطعام المشترى المعيب] قال أبو جعفر: (ولو كان طعاما فأكله، أو ثوبا فلبسه حتى تخرق: لم يرجه بالأرش في قول أبي حنيفة). للعلة التي وصفنا، وهي أنه منع نقل الملك فيه بفعل مضمون. (وقال أبو يوسف ومحمد: يرجع بأرش العيب استحسانا). لأن الطعام يشترى للأكل، والثوب للبس. *ولو كان عبدا فقتله غيره، وأخذ قيمته: لم يرجع على البيع في شيء؛ لأن أخذ القيمة بمنزلة أخذ الثمن بالبيع. مسألة: [اختلاف البائع والمشتري فيمن حصل عنده العيب] قال: (وإذا اختلف البيع والمشتري في عيب يحدث مثله، فقال البيع: حدث عندك، وقال المشتري: حدث عندك، فالقول قول البيع مع يمينه على البتات بالله: لقد باعه وسلمه، وما به هذا العيب). وإنما كان القول قول البيع؛ لأن الأصل فيه الصحة، والعيب حادث، فالقول قول مدعي الأصل؛ لأنه معتصم بالظاهر. وأيضا: فإن المشتري يدعي لنفسه خيارا يوجب له فسخ البيع، فالقول قول البيع في نفيه، كما لو ادعى خيار الشرط، أ, خيار الرؤية.

وأيضا: فإذا علمنا أن العيب حادث، ولم يعلم تقدمه على القبض، لم يجز الحمم به قبله؛ لأنا لا نعلم ما يدعيه المشتري من تاريخ حدوث العيب، فيحكم بحدوثه في أقرب الأوقات إلى حال الخصومة. *فإن نكل البيع عن اليمين، رده عليه؛ لأن نكوله بمنزلة الإقرار، وهذا مما يؤخذ بالنكول؛ لأنه يصح بدله. *وإن أقام المشتري البينة: قبلت بينته، لقوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه". والمشتري في هذه الحال هو المدعي. مسألة: [ظهور العيب في شيء مأكوله في جوفه] قال: (ومن اشترى شيئا مأكوله في جوفه، وكسره فوجده فاسدا، فإن كان لقشره قيمه، يرجع بأرش العيب، إلا إن شاء البيع أن يقبله ويرد الثمن). لأنه بمنزلة من اشترى ثوبا فقطعه، ولم يخطه. قال: (وإن كان لا قيمة له، رجع بجميع الثمن). لأنه لا يجوز أن يستحق ثمن ما لا قيمة له.

مسألة: [ملك مال العبد المشترى] قال: (ومن باع عبدا وله مال، فماله للبيع إلا أن يشترط المبتاع، فيكون له على ما تحل عليه البياعات). فكأنه باع عبدا، أو دراهم، أو دنانير، بثمن مسمى، فيجوز على الاعتبار. وإنما كان ماله للبيع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من باع عبدا، وله مال، فماله للبيع إلا أن يشترط المبتاع". وإنما جاز بيعه مع ماله، على الاعتبار الذي تجوز عليه البياعات؛ لأن ماله ليس يتبع العبد، بل هو بمنزلة سائر أموال المولى، بدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخله في العقد على العقد إلا بالشرط. مسألة: [جناية العبد المشترى في بني آدم] قال أبو جعفر: (وإذا جنى العبد جناية في بني آدم، ثم باعه مولاه، فإن علم بالجناية: فعليه الأرش كاملا، وإن لم يعلم: فعليه الأقل من قيمة العبد، أو الأرش). وذلك لأن جناية العبد في رقبته، والمولى فيها بالخيار، إن شاء ألزمها بعيبه، وأسقطها عن الرقبة، وإن شاء دفع الرقبة بها. فإذا باعه مع العلم بالجناية، فقد اختار إلزامها نفسه، فتلزمه، وإذا لم يعلم بالجناية، فعليه الأقل؛ لأنه لم يختر إلزام نفسه الجناية، إلا أنه قد أتلف رقبة كانت الجناية فيها، فيغرم قيمة الرقبة، إلا أن تكون الجناية بأقل، فيلزمه الأقل.

مسألة: [جناية العبد المشترى في مال] قال: (وإن كانت الجناية في مال، فباعه المولى، فللغرماء أن يفسخوا البيع، فإن فسخوه كان لهم أن يستسعوه في دينهم، وإن شاءوا رفعوه إلى الحاكم حتى يبيعه لهم، وإن شاءوا أجازوا البيع، وأخذوا الثمن). وذلك لأن حق الغرماء ثابت في ذمة العبد، لا سبيل للمولى إلى إسقاطه، وأما الجناية فإنما هي في الرقبة، لا في الذمة، وللمولى إسقاطها. ألا ترى أنه لو أعتقه: بطلت الجناية من الرقبة، ولم يبطل الدين، وإذا كان حق الغرماء ثابتا في الذمة، فلهم أن يستوفوه من السعاية، ولهم أن يستوفوه من الثمن، فمن أجل ذلك كان لهم فسخ البيع، وإن شاءوا أجازوه، وأخذوا الثمن. *ولهذه المسائل مواضع أخر، هي أولى بها من هذا الوضع، ولذلك لم نستقص القول فيها هاهنا، وستجدها في مواضعها من هذا الكتاب، مشروحة مفسرة إن شاء الله تعالى. مسألة: [البيع بالبراءة من العيوب] قال أبو جعفر: (والبيع بالبراءة من العيوب جائز في الحيوان وغيره). قال أحمد: لا خلاف بين أهل العلم في جواز البيع مع شرط

البراءة من عيوب محصورة معلومة، وأن ذلك شرط لا يفسد البيع. وإنما اختلفوا في جواز شرط البراءة من العيوب مطلقا، فأجازها أصحابنا. والأصل في جواز البراءة من المجهول: حديث عبد الله بن رافع عن أم سلمة "أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مواريث قديمة، قد درست، فقضى لأحدهما على صاحبه، فقال الآخر: والله إن حقي لحق يا رسول الله، فأمرهما أن يعيدا الخصومة، فأعاداها، فقضى عليه ثانيا، حتى فعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء، فإنما أقطع له قطعة من النار. فقال له المقضي عليه: قد جعلت حقي له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، ولكن اذهبا، فاستهما، وتوخيا الحق، وليحلل كل واحد منكما صاحبه". فقوله: "وليحلل كل واحد صاحبه"، مع ما ذكر في الخبر

أنهما اختصما في مواريث قديمة قد درست، أصل في جواز البراءة من المجاهيل. ويدل عليه أيضا: أن البراءة إسقاط حق، فأشبهت العتق، فلما جاز العتق في عبيد مجهولين، كان كذلك حكم البراءة. ويدل عليه أيضا: أنه لو سمى جنس العيب، فأبرأ من الشلل، أو القروح، أو الشجاج: جاز بالاتفاق، وهي مجهولة، فكذلك إذا أبهمها. وروي نحو قولنا عن ابن عمر، وزيد بن ثابت. مسألة: [شراء ما باعه بأقل من الثمن قبل قبضه الثمن] قال: (ومن باع شيئا، لم يجز له أن يشتريه بأقل من ذلك الثمن، قبل أن ينقد جميع الثمن). قال أحمد: الأصل فيه: ما روي "أن امرأة سألت عائشة فقال" إني بعت من زيد بن أرقم خادما بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريتها بستمائة، فقالت: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أن الله قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب. فقالت: أرأيت إن لم أجد إلا رأس مالي؟

فقالت عائشة: {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف} ". ولا جائز أن يكون هذا القول منها إلا توقيفا عن الرسول عليه الصلاة والسلام. والدلالة على ذلك من وجهين: أحدهما: أن ما كان طريقه الاجتهاد والرأي، لا يلحق فاعله فيه الوعيد. والثاني: لأن مقادير عظم الأجرام لا تعلم إلا توقيفا، كما أخبرت بمقدار الجرم، فإن مثله يبطل الاجتهاد، فعلم أن ذلك توقيفا. ولا يجوز أن يكون لأجل البيع إلى العطاء؛ لأن هذا الخبر قد دل على أن من مذهب عائشة جواز البيع إلى العطاء، لأن البيع إلى العطاء لو كان عندها فاسدا، لكان الشراء الثاني فسخا للأول؛ لأنه لا خلاف أن من باع شيئا بيعا فاسدا، ثم اشتراه من المشتري: أن الشراء الثاني فسخ للأول، لا يستحق به فاعله الذم، فلما ذمتها على العقدين جميعا بقولها: "بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت"، دل على أن البيع الأول إلى العطاء كان جائزا عندها، وأن الثاني كان فاسدا. فإن قيل: فكيف أنكرت عليها البيع الأول، وهو صحيح عندها.

قيل له: لأنها علمت أنها قصدت به إلى إيقاع العقد الثاني، كما ترى الناس يفعلونه. مسألة: [الخيانة في الإخبار بالثمن في بيع المرابحة والتولية] قال أبو جعفر: (وإذا باع الرجل من الرجل شيئا مرابحة، ثم علم المشتري بخيانة كانت من البيع ... إلى آخر ما ذكر). قال أحمد: من مذهب أبي يوسف: أن المرابحة والتولية سواء، تحط فيهما جميعا الخيانة. ومن مذهب محمد: أنهما سواء، ولا تحط الخيانة، لكن للمشتري الخيار في فسخ البيع. وأما أبو حنيفة فيحط الخيانة في التولية، ولا يحطها في المرابحة، ويجعل له الخيار في الفسخ. وجه قول أبي حنيفة: أن الخيانة لا تخرج عقد المرابحة من أن يكون عقد مرابحة، وإنما سمى ما حكمه أن يكون ربحا: رأس مال، فإذا لم تخرجه الخيانة من أن يكون عقد مرابحة، لم يجز الحط، ووجب الخيار؛ لأن ما كان رأس مال، فهو أفضل في كونه ثمنا من أن يكون ربحا، فصار كمن اشترى عبدا بثمن مؤجل، وباعه مرابحة بثمن حال، فيكون للمشتري

الخيار، لأن الحال أفضل من المؤجل. وأما التولية: فإن إثبات الخيانة فيه يخرجه من أن يكون عقد تولية؛ لأنه يصير عقد مرابحة، وهما لم يدخلا في عقد مرابحة، فلا يجوز أن يلزمه إياه. ولأبي يوسف: أن البيع قد رضي بنقله إليه بالعقد الأول، وزيادة الربح المذكور، فلا بد من أن تحط الخيانة مع رضا البيع ببيعه بغير خيانة. ولمحمد: أن البيع وإن كذب في الثمن، فإنه لم يرض بنقله إليه إلا بالثمن المسمى في العقد الثاني، فلا يحط عنه شيء، ولكن للمشتري الخيار. مسألة: [اختلاف المتبايعين في الثمن والمبيع قائم] قال أبو جعفر: (وإذا اختلف المتبايعان في الثمن، والمبيع قائم: تحالفا). وذلك لما رواه جماعة عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اختلف البيعان، والمبيع قائم بنفسه، وليس بينهما بينة: فالقول ما قال البيع، أو يترادان". والخبر مرسل في الأصل؛ لأن عبد الرحمن بن عبد الله يقال إنه لم

يسمع من أبيه شيئا، ثم كثير من الرواة لا يذكرون فيه عبد الرحمن، وإنما يروونه عن القاسم بن عبد الرحمن عن عبد الله، إلا أنه لا يضره إرساله عندنا. وعلى أن هذا الخبر مع إرساله قد اتفق فقهاء الأمصار من قابلي المراسيل وراديها، على قبوله، واستعمال حكمه. قال أحمد: ومن الفقهاء من يقول إن القياس ما ورد به الأثر، من إيجاب التحالف والتراد عند الاختلاف، من قبل أن كل واحد من البيعين يدعي عقدا غير ما ادعاه الآخر، فصار كل واحد منهما مدعيا على صاحبه، فيتحالفان ويفسخ البيع؛ لأن واحدا منهما لم تثبت دعواه. وأما أصحابنا فإنهم قالوا: القياس أن يكون القول قول المشتري، لاتفاقهما على حصول السلعة للمشتري في عقد صحيح، والبيع مدع لزيادة الثمن، فعليه البينة، والقول قول المشتري، إلا أنهم تركوا القياس للأثر. وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يميل إلى القول بأن القياس ما جاء به الُر، قال: ألا ترى أن البيع لو قال: بعتكه بألف درهم، وقال الآخر: وهبته لي: أنهما متفقان على حصول الملك للمشتري بعقد صحيح، ولم يختلفوا أنهما يتحالفان قياسا؛ لأن مدعي الهبة غير مصدق على دعواه إلا ببينة، وكذلك مدعي الثمن بالبيع. وكذلك لو قال أحدهما: بعتنيه، وقال الآخر: تزوجتك عليه لامرأة خاطبها بذلك: تحالفا.

قال: فالقياس عند الاختلاف في الثمن أن يتحالفا، على ما قدمنا من الأصل. فصل: [واختلاف المتبايعين في الثمن والسلعة هالكة] قال أو جعفر: (فإن كانت السلعة هالكة: فالقول قول المشتري مع يمينه، في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: يتحالفان ويترادان على القيمة). وجه قولهما: ما قدمنا من أن القياس يوجب أن يكون القول قول المشتري، فلما جاء الأثر في وجوب التراد في حال قيام السلعة، تركنا له القياس، وما عداه محمول على الأصل. فإن قيل: قد روي في أخبار أخر: "إذا اختلف البيعان فالقول ما قال البيع، أو يترادان"، ولم يذكر حال قيام السلعة. قيل له: كل الأخبار المروية فيه تنتظم حال قيام السلعة؛ لأنه قال: "أو يترادان"، والتراد لا يكون إلا والسلعة قائمة؛ لأن المستهلكة لا يمكن ردها. وأيضا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أعطي الناس بدعاويهم، لادعى ناس دماء قوم، وأموالهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه". فمنع عليه الصلاة السلام أن يستحق أحد على غيره شيئا بقوله؛ لأن

دعواه قوله، فلو أوجبنا التراد، لاستحق البيع القيمة بقوله، وهذا لا يجوز. وأيضا: قد هلكت السلعة على ملك المشتري عن عقد صحيح، لاتفاقهما على صحته، والاختلاف إنما يوجب فسخه في الحال التي يجب فيها التراد، ولا سبيل إلى فسخ العقد على سلعة هالكة. ألا ترى أنهما لو تقايلا: لم تصح الإقالة، ولو اطلع على عيب بها بعد الهلاك: لم يصح فسخ العقد فيها بالعيب، فلذلك لا يصح فسخه بالتحالف. وقال محمد: اختلافهما في الثمن منع صحة العقد؛ لأن كل واحد منهما غير مصدق على صاحبه فيما ادعاه من الثمن، ولا يختلف حكمه في حال قيام السلعة وهلاكها. ويفسخ البيع فيه على القيمة، كسائر البياعات الفاسدة. فصل: قال أحمد: التحالف الواجب عند التراد غير مذكور في عامة الأخبار، وإنما جهة وجوبه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه". وقد ذكر: "اليمين": في بعض أخبار عبد الله من غير طريق القاسم بن عبد الرحمن، وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن داود بن توبة السراج قال: حدثنا الحكم بن موسى قال: حدثنا سعيد بن مسلمة

عن إسماعيل بن أمية عن عبد الملك بن عمير عن ابن لعبد الله بن مسعود عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلف البيع والمشتري، ولا شهادة بينهما استحلف البيع، وكان المبتاع بالخيار: إن شاء أخذ، وإن شاء ترك". مسألة: [بيع الآبق، والسمك في الماء] قال أبو جعفر: (لا يجوز بيع الآبق على حال، ولا بيع سمك لم يصطد، ولا سمك لا يؤخذ إلا بصيد مستأنف). قال أحمد: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن بيع الآبق. ولأنه غرر غير مقدور على تسليمه، فهو كبيع السمك في الماء، والطير في الهواء. وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا أبي قال: حدثنا محمد بن السماك أبو العباس عن يزيد بن أبي زياد عن المسيب بن رافع عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى

الله عليه وسلم: "لا تشتروا السمك في الماء، فإنه غرر". ورواه هشيم عن يزيد بن أبي زياد بإسناده مثله موقوفا. قال عبد الباقي: لم يرفعه إلا أحمد بن حنبل عن ابن السماك، وهو عجيب، وابن السماك ثقة. *فأما السمك الذي لم يصطد: مثل ذلك، فإن البيع يبطل فيه من وجهين: احدهما: أن بيعه لا يملكه، لأنه مباح لا يملكه أحد إلا باصطياد. والثاني: لأنه غرر غير مقدور على تسليمه. *فأما ما قد اصطيد، ثم سيب في الماء: فإن البيع يبطل فيه من وجه واحد، وهو الغرر، وتعذر التسليم.

مسألة: [خيار المالك في بيع الفضولي بثمن في الذمة] قال أبو جعفر: (ومن باع شيئا بغير أمر مالكه، بثمن في الذمة، فمالكه بالخيار: إن شاء أجاز البيع، وإن شاء فسخ، ما لم يمت أحد المتعاقدين). وذلك لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن موسى الكديمي قال: حدثنا أبو عاصم النبيل قال: حدثنا سعيد بن زيد عن الزبير بن الخريت عن أبي لبيد "عن عروة البارقي قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا لأشتري له شاة، فاشتريت له شاتين، فبعت أحداهما بدينار، وجئت بالأخرى، فقال: أحسنت". وقد روى هذا الحديث عن الزبير بن الخريت محمد بن ذكوان أيضا. وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا شبيب بن غرقدة أنه سمع الحي يحدثون أنهم "سمعوا عروة البارقي يقول: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا أتري به أضحية، فاشتريت له شاتين، فباع أحداهما بدينار، وجاء بدينار وشاة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم له بالبركة في بيعه، فكان لو

اشترى التراب لربح فيه". وحدثنا دعلج بن أحمد قال: حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا إبراهيم بن الحجاج قال: حدثنا سعيد بن زيد عن الزبير بن الخريت عن أبي لبيد عن عروة البارقي نحو الحديث الأول. "قال: فقلت: يا رسول الله: هذا ديناركم، وهذه شاتكم. قال: كيف صنعت؟ فحدثته بالحديث، فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا موسى بن زكريا التستري قال: حدثنا هلال بن بشر قال: حدثنا عمر بن عمران العلاف قال: حدقنا الحارث بن عتبة عن حبيب بن أبي ثابت عن عمرو بن واثلة أو عامر بن واثلة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى حكيم بن حزام دينارا، وأمره أن يشتري له أضحية، فاشترى، وباع، ثم اشترى، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وشاة، فقال: ما هذا؟ قال: بعت واشتريت وربحت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك في تجارتك، وأخذ الدينار، وتصدق به، وأخذ الشاة، فضحى".

فدل هذا الخبران على صحة قولنا؛ لأن عروة وحكيما باعا ما اشتريا بغير أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأجاز النبي صلى الله عليه وسلم بيعهما بأخذه الجينا. فإن قيل: في حديث عروة أنه أمره بشراء شاة، فاشترى شاتين ولم يفسخه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يدل على وقوف الشراء، كذلك البيع. قيل له: قد ذكر في حديث شبيب بن غرقدة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يشتري له أضحية، والأضحية مصدر لا يختص بعدد دون عدد، فتناولت الواحدة فما فوقها. ويجوز أن يكون قال له: اشتر شاة، ثم قال له: اشتر أضحية، فيصح اللفظان جميعا، ويكون مخيرا. *وأما وجه حديث حكيم بن حزام، وقد كان باع ما اشترى، ثم اشترى بأحد الدينارين، ولم يكن مأمورا بالشراء الثاني، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أنه كان مشتريا لنفسه، فلما رضي أن يعطيه النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار الذي نقده، وحصل في ضمانه، وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم منه، صار ذلك بيعا فيما بينهما. دليل آخر: وهو قول الله تعالى: {وأحل الله البيع}، فوجب وقوعه على عموم اللفظ. فإن قيل: دل على أنه بيع.

قيل له: لا يمنع أحدا من إطلاق القول بأنه باع ما لا يملك، فلما سمي بيعا على الإطلاق، تناوله عموم اللفظ. وأيضا: فإن البيع عبارة عن الإيجاب والقبول، وليس هو عبارة عن إيجاب الملك بالعقد، ألا ترى أن المالكين لو تعاقدا على أنهما بالخيار ثلاثا، كان واقعا من غير إيجاب ملك. وأيضا: الوكيلان يعقدان ولا يملكان، فإذا ليس شرط وقوع البيع أن يكون العاقد مالكا. وأيضا: روى عمرو بن خارجة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة". فإذا وقف وصيته التي لم يملكها على إجازة من يستحق، وصار ذلك عقدا موقوفا على مجيزه، فوجب أن يكون البيع الموقوف كذلك، والمعنى الجامع بينهما أنهما عقد له مجيز، فوقف عليه. وكذلك إذا أوصى بجميع ماله، كان ما فوق الثلث موقوفا على إجازة الورثة، فإن أجازوه: جاز. وأيضا: الملتقط إذا تصدق باللقطة، ثم حضر صاحبها، كان بالخيار بين الأجر والضمان، فوقف عقد الصدقة على إجازة المالك. وكذلك كل عقد له مجيز في الحال، فإنه يقف على إجازة مجيزه.

فإن قيل: روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع ما لم يملك". قيل له: معناه ما روي في سائر الأخبار، أنه نهى عن بيع ما ليس عنده. وأيضا: فإن حديث عمرو بن شعيب هذا، قد روي على غير هذا الوجه. حدثنا عبد الباقي بن قانع حدثنا موسى بن الحسن بن أبي عباد قال: حدثنا عبد الله بن بكر قال: حدثنا سعيد عن مطر الوراق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على الرجل بيع فيما لا يملك". فيشبه أن يكون هذا أصل الحديث، ومعناه: إذا باع ملك غيره، لم يلزمه تسليمه، ولم يؤخذ به، ولا دلالة فيه على نفي وقوع البيع. ويدل على أن المعنى ما ذكرنا: اتفاق الجميع على جواز بيع ما لا يملكه العاقد، وهو الوكيل، يجوز بيعه، ولا يملك ما باع. *وأما الشراء فإنما لم يقف على الغير، من قبل أنه قد صح عليه ولزمه، وما قد لزم وصح لا يكون موقوفا. وأيضا: فإن المشتري للغير، إذا كان وكيلا ينتقل الشيء إليه، ومن

جهته ينتقل إلى الموكل، فإذا لم تتقدم له وكالة: استقر ملكه فيه، فلا يقف. ويدل على أن الشيء ينتقل إلى الوكيل ومن جهته ينتقل إلى الموكل: أنه متى خالف: لزمه، ولم يبطل الشرى رأسا لإخلافه. وأما الوكيل بالبيع، فإن الشيء لا ينتقل إليه، وإنما يخرج من ملك الموكل إلى المشتري. ألا ترى أنه إذا خالف: لم يلزمه، ولم يصح البيع رأسا، فلذلك اختلف حكم الشرى والبيع في وقوفه على الغير. وإنما شرط في وقوفه بقاء المتعاقدين، وبقاء الملك والمبيع، من قبل أن البيع إذا مات، لم يجز أن تلزمه حقوق العقد بعد موته، إذ لم تلزمه في حال الحياة، لأنه موقوف. وأما المشتري، فإنه لم يلزمه في حال الحياة، فلا يجوز أن يلزمه بعد الموت. وأما المالك، فلأن ملكه ينتقل إلى الوارث، فانفسخ الملك الذي كان موقوفا على المشتري. وأما المبيع فلأن الملك لم ينتقل فيه بالعقد، فلا يجوز انتقال الملك فيه بعد الهلاك، ألا ترى أن ابتداء العقد عليه لا يجوز. فصل: [خيار المالك فيما بيع له بغير أمره بعرض] قال أبو جعفر: (ولو باعه بعرض، كان مالك المبيع بالخيار، إن شاء أمضى البيع، فجاز البيع للذي عقده، وكان عليه قيمة المبيع للذي كان يملكه، وإن شاء أبطل البيع).

قال أحمد: وذلك لأنه اشترى العرض لنفسه؛ لأن الشراء لا يقف على الغير، وإنما احتيج فيه إلى الإجازة، ليسلم البدل لبيع العرض، وكان على البيع قيمته للمجيز، كأنه استقرضه منه، واشترى به شيئا لنفسه. مسألة: [جواز بيع الأعمى وشراه] قال أبو جعفر: (وبيع الأعمى، وشراه جائز). وذلك لقول الله تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا}، ولم يفرق بين العميان والبصراء. ولأن هذا مما قد نقلت الأمة جوازه؛ لأن أهل كل عصر لا يخلون من عميان يكونون فيهم، يتصرفون في الشراء والبيع، ولم يذكر عن أحد من السلف والخلف بطلان بيعه وشراه. ولو كان كذلك، لكان الأعمى محجورا عليه، وكان ذلك يوجب أن يكون العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عباس، وابن أم مكتوم، ونظراؤهم من الصحابة رضي الله عنهم لا يجوز تصرفهم،

وكفى بقول يؤدي إلى هذا سقوطا. مسألة: [خيار الأعمى] (وله الخيار فيما اشتراه إذا أمكنه معرفته بالجس أو الذوق). فيقوم ذلك له مقام الرؤية. وإن كان نخلا، أو شجرا: فحتى يوصف، فتقوم له الصفة مقام الرؤية. وما كان في الجامع الصغير: بأنه "إذا كان مما يجس، مثل النخل والشجر: فحتى يقوم مقاما لو كان بصيرا رآه": فلا معنى له، وقد كان أبو الحسن رحمه الله ينكره؛ لأن قيامه في ذلك الموضع، وفي غيره سواء، لا يستفيد به علما. مسألة: [بيع الملامسة والمنابذة والحصاة] قال: (والملامسة والمنابذة لا ينعقد بهما بيع). وذلك "لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة والمنابذة". وكان أهل الجاهلية يتراضون على البيع، فإذا لمسه، أو نبذه إليه، فقد وجب البيع، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وهذا أصل في امتناع جواز عقود البياعات على الأخطار، نحو قوله:

إن دخلت الدار، أو إن قدم زيد: فقد بعتك هذا العبد. وكذلك بيع الحصاة، وهو أن يتراضوا على البيع، فإذا وضع المشتري على المبيع حصاة: فقد وجب البيع، فأبطله النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى فيه كهو في البيعين الأولين. مسألة: [بيع الحمل دون أمه] قال أبو جعفر: (ولا يجوز بيع الحمل دون أمه). وذلك لما حدثنا دعلج بن أحمد قال: حدقنا عبد الله بن شيرويه قال: حدثنا إسحاق بن راهويه قال: حدثنا وكيع عن موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المجر- يعني ما في الأرحام- وعن بيع الكالئ بالكالئ".

وحدثنا دعلج قال: حدثنا عبد الله بن شيرويه قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا النضر بن شميل قال: حدثنا صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن المضامين، والملاقيح، وحبل الحبلة".

ونهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع المضامين مشتمل على الولد في البطن، واللبن في الضرع، وبيع الزيت في الزيتون؛ لأن جميعه من المضامين إذا كان معينا في خلقة. ومن جهة أخرى: إن الولد بمنزلة عضو بعينه من أعضائها، كبدها ورجلها، فلا يجوز إفراده بالبيع. مسألة: [بيع الأم دون الحمل] قال: (ولا يجوز بيع الأم دون الحمل). وذلك لأنه بمنزلة من باع الأصل دون يدها ورجلها، ولأن كل ما لا يصح بيعه على الاتفراد، لا يجوز استثناؤه من البيع. مسألة: [بيع اللبن في الضرع] قال أبو جعفر: (ولا يجوز بيع اللبن في الضرع). وذلك لأنه من المضامين؛ لأنه مما تضمنه الضرع خلقة، كما تضمنت الرحم الولد. ولما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عثمان بن عمر الضبي قال: حدثنا حفص بن عمر الحوضي قال: حدثنا عمر بن فروخ صاحب الأقتاب عن حبيب عن عكرمة عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله

صلى الله عليه وسلم عن بيع صوف على ظهر، وعن لبن في ضرع، وسمن في لبن". وقد روي هذا الحديث موقوفا على ابن عباس، ولا يفسد ذلك رفع من رفعه؛ لأنه جائز أن يكون رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم تارة، وأفتى به أخرى. مسألة: [بيع عسب الفحل] قال: (ولا يجوز بيع عسب الفحل). قال أحمد: يعني ما يلقح، وذلك لأنه من الملاقيح، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن عسب الفحل". وقال جابر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ضرب الفحل".

مسألة: [خيار الرؤية] قال: (ومن اشترى شيئا لم يره: جاز، وله فيه خيار الرؤية). والأصل في جواز شراه: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه، فاشترى شيئا، فهو بالخيار إذا أتى السوق". ولا معنى لهذا الخيار إلا أنه اشترى الشيء في وعائه، ثم حمله إلى السوق، فنظر إليه، فجعل له فيه خيار الرؤية؛ لأن العادة كانت فيمن يتلقى الجلب، أن يشتري الحمل على ظهر البعير، فلا يفتحه حتى يرده إلى بيته. ويدل عليه أيضا: حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم". ومعناه عندنا: أن يشتري المتاع في الوعاء، ثم يفتحه إذا نقله إلى رحله، فمنعه أن يبيعه قبل أن يراه، لئلا يلزم نفسه مغيبا مجهولا في الصفة. وأيضا "روي أن عثمان رضي الله عنه: باع مالا له بالكوفة من طلحة ابن عبيد الله، فقال طلحة: لي الخيار؛ لأني اشتريت ما لم أره، وقال عثمان: لي الخيار؛ لأني بعت ما لم أره، فحكما بينهما جبير بن مطعم،

فقضى بالخيار لطلحة". فقد اتفق هؤلاء الثلاثة على جواز شراء ما لم يره، من غير خلاف من أحد من الصحابة عليه. *ومن جهة النظر: إن الذي جهله المشتري لما لم يره، إنما هو صفات المبيع، وجهالة الصفة لا تمنع صحة العقد، كما لم يمنعه عدمها رأسا. ألا ترى أنه لو اشترى عبدا على أنه صحيح، فوجده أعمى، مقطوع اليدين والرجلين: لم تمنع عدم هذه الصفات صحة العقد، فجهالة صفاته أحرى أن لا تمنع. وأيضا: اتفقت الأمة على جواز بيع الباقلاء الرطب بقشوره، وشرى الجوز واللوز ونحوه من عدم رؤية ما وراءه، وعلى جواز شراء الصبرة من الطعام مع عدم الرؤية لما تحت الظاهر منها، فدل جميع ذلك على أن عدم رؤية المشتري، لا تمنع صحة العقد. مسألة: [البيعتين في بيعة] قال: (ومن باع عبده من رجلا بثمن، على أن يبيعه الآخر عبد بثمن ذكراه: لم يجز البيع في واحد من بيعتي العبدين المذكورين). وذلك "لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة".

فانتظم ذلك المعنى الذي ذكرنا. وينتظم أيضا أن يبيعه حالا بكذا، ونسيئة بكذا. مسألة: قال: (ولا يحل النجش). قال أحمد: وهو أن يزيد في الثمن، وهو لا يريد شراه، ليرغب غيره فيه، فيشتريه. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، رواه مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه أيضا أبو سعيد وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. مسألة: [تلقي الركبان، وبيع الحاضر للباد] قال أبو جعفر: (ولا يصلح تلقي السلع في البلد الأدنى الذي يضر بأهله، ولا بأس به في البلد الأدنى الذي لا يضر بأهله، وكذلك بيع الحاضر للباد). وذلك لأن المعنى في النهي ما يدخل من الضرر على غيره، لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق".

وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". فهذا يدل على أن النهي إنما يتناول الحال التي يضر فيها بأهله. وكما أن النهي عن الاحتكار إنما هو في الحال التي يضر ذلك بأهل البلد، فإذا لم يضر: فلا بأس. مسألة: [بيع الرجل على بيع أخيه] قال أبو جعفر: (ولا ينبغي أن يسوم الرجل على يوم أخيه إذا جنح البيع إلى بيعه). وذلك لما روى أبو سعيد أبو هريرة وعقبة بن عامر قالوا: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع الرجل على بيع أخيه". وفي بعض ألفاظ حديث أبي سعيد وأبي هريرة: "لا يسوم الرجل على سوم أخيه". وهذا محمول على الحال التي وقع منهما فيها التراضي بالبيع، فأما إذا لم يجنح البيع إلى بيعه، لا بأس بأن يزيد عليه. لما روى أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم باع قعبا

وحِلْسًا فيمن يزيد". وقال زيد بن أسلم سأل رجل ابن عمر عن بيع المزايدة؟ فقال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيد أحدكم على بيع أخيه، إلا المواريث والغنائم". مسألة: [تأخير أجل الدين] قال أبو جعفر: (ومن كان عليه دين من غير قرض، فأخره، جاز التأخير). لأنه عندنا بمنزلة الزيادة في العقد أو الحط، وذلك يلحق العقد. ولا يصح التأجيل في القرض؛ لأنه عارية ومعروف، فهو كالتأجيل في العواري.

مسألة: [تجارة الوصي بمال اليتيم] قال: (ولا بأس بأن يتجر الوصي بمال اليتيم). لقول الله تعالى: {ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم}. فاللفظان جميعا قد دلا على جواز التصرف في مال اليتيم؛ لأن قوله تعالى: {إصلاح لهم خير}: إباحة للصرف في مالهم إذا كان صلاحا له. وكذلك قوله عز وجل: {وإن تخالطوهم}. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن}. "وروى أنس أن أبا طلحة قال: يا نبي الله! إني اشتريت خمرا لأيتام في حجري قال: أرق الخمر، واكسر الدنان". مسألة: [إقرار العبد بدين] قال: (ولا يجوز إقرار العبد المحجور على نفسه بدين).

لأنه لو جاز استحق به ملك المولى، ولا يجوز إقرار الإنسان في ملك غيره. ويجوز إقرار المأذون له؛ لأن المولى رضي به أذن له. ويباع العبد وما في يديه من الدين؛ لأن الدين في ذمته، والمالك يملك كسبه من جهته، كالوارث يملك من جهة الميت، والغريم أولى بمال الميت من الوارث، فكذلك غريم العبد أولى بماله من المولى. مسألة: [جواز بيع الكلاب المنتفع بها ونحوها] قال: (وبيع الكلاب التي ينتفع بها، والصقور، والفهود، والهر جائز) وذلك لقول الله تعالى: {قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين}، ولفظ الإحلال: يقتضي إباحة سائر وجوه المنافع، والبيع أحدها، فوجب جوازه؛ لعموم اللفظ. وقد روي أن الآية نزلت في إباحة منافع الكلاب. حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا يقول بن غيلان العماني قال: حدثنا هناد بن السري قال: حدثنا يحيى بن زكريا قال: حدثنا إبراهيم بن عبيد قال: حدثني أبان بن صالح عن القعقاع بن حكيم عن

سلمى أم رافع عن أبي رافع قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقتل الكلاب. فقال الناس: يا رسول الله! ما أحل لنا في هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله تعالى: {قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين} ". ومن جهة السنة: ما رواه عبد الله بن مسعود وأبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتنى كلبا إلا كلب صيد، أو ماشية، أو حرث، نقص من أجره كل يوم قيراط". ورواه ابن عمر أيضا، ولم يذكر كلب الحرث.

والاقتناء هو التملك؛ لأن القنية الملك، يقال: عبد قن: يعني مملوك. وهذا اللفظ يقضتي إباحة جميع جهات القنية، والشراء أحدها. فوجب جوازه بالعموم. وأيضا حدثنا عبد الباقي قال: حدثنا أحمد بن النضر بن بحر قال: حدثنا محمد بن مصفى قال: حدثنا بحجاج بن إبراهيم الازرق قال: حدثنا عباد بن العوام عن يحيى بن أبي إسحاق عن أبي الزبير عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، وهر، إلا الكلب المعلم".

وحدثنا ابن قانع قال: حدثنا العباس بن أحمد بن عقيل قال: حدثنا يحيى بن أيوب قال: حدثنا عباد بن العوام عن الحسن بن أبي جعفر الجفري عن أبي الزبير عن جابر قال "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، والهر، إلا الكلب المعلم". فأباح ثمن الكلب المعلم، فدل على جواز بيع الكلاب التي ينتفع بها من وجهين: أحدهما: أنه إذا جاز بيع الكلب المعلم، جاز بيع غيره من الكلاب؛ لأن احداً لم يفرق بينهما. والثاني: أن ذكره الكلب المعلم، لأجل ما فيه من النفع، فكل ما أمكن الانتفاع به منها، فهو مثله. ودل ذلك على أن النهي إنما يتناول الكلاب التي لا نفع فيها، وإنما يبتغى بها الهراش، والقمار. وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار في النهي عن ثمن الكلب، وأن ثمن الكلب حرام، فإن خبرنا قاض عليها؛ لأن النهي موجود فيه، مع استثناء الكلب المعلم. ولأن النهي كان في حال الأمر بقتلها، وإباحة الاقتناء متأخرة عنه لا محالة.

وأيضا: لما كان الكلب مما أبيح الانتفاع به، من غير حق له في منع البيت، أشبه الحمار الأهلي، والهر، وسائر ما أبيح الأنتفاع به، من غير حق للمبيع في منع البيع، فوجب أن يجوز. ولا تلزم عليه أم الولد والمدبر؛ لأن لهما حقا في منع البيع لاستيفاء العتق الذي استحقاه بموته، إذا كان في جواز البيع إبطاله. وأيضا: فقد اتفقنا جميعا على أن الكلب موروث عن مالكه، وتجوز الوصية به، فوجب أن يجوز بيعه؛ لأنه مما قد صح انتقال الملك فيه بالميراث والوصية، كسائر الأشياء الموروثة. فإن قيل: ليس الميراث والوصية أصلا لجواز البيع؛ لأنهما يصحان في المجاهيل، ولا يصح بيع المجهول. قيل له: افتراقهما من هذا الوجه، لا يمنع الجمع بينهما من الوجه الذي ذكرناه في جواز البيع، إلا ترى أن كل ما بطل بيعه لأجل جهالته، أنه متى زالت الجهالة جاز البيع، ولا جهالة ها هنا تمنع من بيع الكلب، فهو في هذا الوجه بمنزلة الموروث، والموصى به. مسألة: [بيع الهر] وأما بيع الهر، فقد روى ابن عباس وأبو هريرة عن النبي صلى الله

عليه وسلم إباحة بيعه، وقد روي فيه نهي، إلا أن الفقهاء قد استعملوا خبر الإباحة، دون خبر الحظر، فهو أولى. مسألة: قال أبو جعفر: (وأجر وزان الثمن على المشتري).

وذلك لأن عليه تمييزه، وإفرازه من ماله، وتسليمه إلى البيع، ولا يعلم ذلك إلا بالوزن. * (وأجر كيال المبيع على البيع)؛ لهذه العلة بعينها. مسألة: [بيع ما لم يقبض] قال أبو جعفر: (ولا يجوز بيع ما لم يقبض من الأشياء المبيعة إلا العقار في قول أبي حنيفة، وأما أبو يوسف ومحمد: فكانا لا يجيزان بيع ذلك أيضا حتى يقبضه). قال أحمد: رجع أبو يوسف إلى قول أبي حنيفة، والذي ذكره عنه أبو جعفر هو قوله الأول. لأبي حنيفة: قول الله تعالى: {وأحل الله البيع}، وهو عام في كل شي، إلا ما قام دليله. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن بيع ما لم يقبض".

قيل له: إنما يتناول هذا اللفظ ما يتأتى فيه القبض الحقيقي، فأما العقار فلم يتناوله؛ لأنه لا يتأتى فيه القبض على الحقيقة، لأن القبض الحقيقي هو النقل، وذلك لا يصح في العقار. فإن قيل: القبض المستحق بالبيع ليس هو النقل، وإنما هو التخلية، وذلك يمكن في العقار. قيل له: إنما تعتبر التخلية في جواز البيع، وتقام مقام النقل فيما يتأتي فيه القبض الحقيقي، فأما ما لا يتأتى ذلك فيه، فاعتبار التخلية فيه من هذا الوجه ساقط. *ومن جهة النظر: إنه لما كان العقار مما لا يخشى انتقاض البيع بهلاكه، صار كالمهر، والجعل في الخلع، والصلح من دم العمد، ويجوز التصرف في جميع ذلك قبل القبض؛ لأنه لا يخشى انتقاض العقد بهلاكه. وأما أبو يوسف، فكان قوله مثل قول محمد، ثم رجع إلى قول أبي حنيفة. هذا المسألة مبنية على اختلافهم في ضمان العقار بالغصب. مسألة: [بيع المكيلات قبل كيلها] قال أبو جعفر: (ولا يجوز لمن اشترى شيئا كيلا وإن قبضه أن يبيعه حتى يكتاله). وذلك لما رواه جابر وأبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى

عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البيع، وصاع المشتري". والمعنى فيه: أنه لا يتعين حقه إلا بالكيل؛ لأنه يجوز أن يزيد إذا اكتاله، أو ينقص، فصار بمنزلة ما لم يقبض، إذ كان الواجب استيفاؤه بالكيل، وهو لم يكتل، فكأنه لم يستوفه، ولهذه العلة قلنا مثله في الموزون. *وأما المعدود: فقد روي فيه عن أبي حنيفة مثل ذلك، وروي أن له أن يبيعه إذا قبضه قبل أن يعده. * (وذكر أبو جعفر أن أبا يوسف قال بأخرة في المعدود: له أن يبيعه قبل أن يعده إذا كان قد قبضه. قال: وقد روي ذلك أيضا عن محمد بن الحسن) وجه القول الأول: ما ذكرنا من أن حقه لا يتعين إلا بالعدد، فلا يصح التسليم إلا بتمييز ما اشتراه عددا. ووجه الرواية الأخرى التي فرق فيها بين الكيل والمعدود: أن المكيل والموزون يختلفان إذا أعيد عليهما الكيل أو الوزن، فيزيدان تارة، وينقصان أخرى، وليس كذلك المعدود؛ لأنه لا يختلف بحال إذا أعيد عده، فلا يحصل القبض في مجهول. فأما ما اشتراه مذارعة: فإنه يجوز بيعه قبل الذرع إذا قبضه؛ لأن الذرع ليس مما يقع عليه العقد.

ألا ترى أن من اشتري ثوبا على أنه عشرة أذرع، فوجده أكثر: كان كله له، ولو كان تسعا كان بالخيار: إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء تركه، فلما لم يتعلق العقد عليه، سقط اعتباره، والكيل والوزن والعدد، مما يتعلق عليه العقد إذا ذكر. مسألة: [بيع الأخرس] قال أبو جعفر: (وبيع الأخرس، وابتياعه، وعقوده على نفسه بالإشارات المفهومة منه جائز كله). وذلك لأنه يفهم بها ما يفهم بالكلام، فقامت مقامه، إذ لا يتوصل إلى مراده من غير هذا الوجه، فليست بدون الكتاب. [مسألة:] قال: (ومن اعتقل لسانه: لم تجز عقوده بالإشارة). لأنه يرجى إمكان الوصول إلى مراده بصريح القول، فكان بمنزلة إشارة الصحيح. مسألة: [ظهور العيب في أحد النعلين ونحوهما] قال: (ومن اشترى شيئين لا يقوم أحدهما إلا بصاحبه، كالخفين، والنعلين، فقبضهما، فأصاب بأحدهما عيبا، فهو كالشيء الواحد، إن شاء ردهما، وإن شاء أخذهما).

وذلك لأن انفراد أحدهما عن صاحبه الآخر يوجب عيبا فيه؛ لأنه ينقص ثمنه، فيصير كم اشتري شيئا صحيحا، فلا يجوز أن يرده معيبا. مسألة: [حبس البائع المبيع ليستوفي الثمن] قال أبو جعفر: (وللبيع احتباس ما باع ما بقي له على المبتاع شيء من الثمن، أو على حويل إن أحاله عليه بشيء من الثمن إن كان الثمن حالا). قال أحمد: وذلك لأنه عقد معاوضة يقتضي وقوع ملك كل واحد منهما لصاحبه بحذاء ملك الآخر، ويقتضي التسليم على كل واحد بحذاء تسليم الآخر، فذلك كان له حبسه حتى يسلم له الثمن. وكذلك إن أحاله بالثمن على غيره؛ لأن مطالبته بالثمن قائمة، كما لو كفل به عنه كفيل. *قال: (وإن كان الثمن مؤجلا: لم يكن له حبسه). وذلك لأنه قد عقد على نفسه أن لا يستحق تسليم الثمن بإزاء تسليم المبيع. ولأنا لو جعلنا له الحبس إلى أن يحل الأجل، لصار الأجل داخلا على المبيع. ولا يصح دخول الأجل على الأعيان المبيعة. مسألة: [يكره التفريق بين ذوي رحم محرم في بيع العبيد] قال أبو جعفر: (ولا ينبغي لأحد أن يفرق بين ذوي رحم محرم فيهما صغير). وذلك لما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي عليه الصلاة والسلام قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين، فبعت أحدهما، وذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال

أرجعهما، ـ ولا تبعهما إلا جميعا، ولا تفرق بينهما". وروى أبو عبد الرحمن الحبلي عن أبي أيوب الأنصاري أنه مر بصبيان بيكون من السبي، قد فرق بينهم وبين أمهاتهم، فردهم أبو أيوب إلى أمهاتهم، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من فرق بين والدة وولدها: فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة". [مسألة:] قال أبو جعفر: (فإن فرق بينهم: فإن أبا حنيفة كان يكره ذلك، ولا يفسخ البيع فيه، وكان أبو يوسف ومحمد يفسخان البيع فيه). قال أحمد: لا خلاف بينهم أنه لا يفسخ في الأخوين.

وقال أبو يوسف وحده: يفسخ في الولد والوالد. ومحمد مع أبي حنيفة في أنه لا يفسخ في شيء منه. وجه قول أبي حنيفة: أن النهي لم يتناول معني في نفسد العقد، وإنما تناول معنى في غيره، فصار كتلقي الجلب، وبيع حاضر لباد، إذ لم يتناول النهي معنى في نفس العقد، وإنما تناول معني في غيره، وهو ما يلحق الناس من الضرر بالتلقي، وما يلحق الصغير من الوحشة بالتفريق. وكالبيع عند أذان الجمعة، والمعنى الاشتغال به عن الصلاة. وإنما اعتبروا ذلك إذا كان معهم صغير؛ لأن ذلك في معنى الحق الذي يثبت بالحضانة، والحضانة إنما تثبت في الصغر. *قال أبو جعفر: (غير أن محمدا قال في الصبي: إذا كان له أخوان، أو أختان، أو عمتان: فلا بأس ببيع واحد من ذلك، واحتباس الصغير مع الآخر". وذلك لأنه قد بقي للصغير من له قرابة، مثل قرابة من باعه. ****

باب أحكام البيوع الفاسدة

باب أحكام البيوع الفاسدة مسألة: [تصرف المشتري فيما اشتراه في البيع الفاسد] قال أبو جعفر: (ومن اشترى شيئا فشراء فاسدا، فلم يقبضه بأمر بيعه: لم يخرج عن ملك بيعه). وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء. *قال: (فإن قبضه بأمر بيعه: ملكه، وجاز تصرفه فيه). وذلك لأن البيع قد ملك عليه القيمة عن عقد فيه تسليط، فأشبه البيع الصحيح حين ملك عليه الثمن عن عقد فيه تسليط، فملك المشتري المبيع. ألا ترى أن البيع الصحيح إذا كان فيه للبيع خيار، لم يملك المشتري المبيع لعدم التسليط. وأما إذا لم يقبض: فإن البيع لم يملك القيمة على المشتري، فلم يملك عليه المبيع. فإن قيل: المقبوض على وجه السوم مضمون بالقيمة، وكذلك الغصب، ولا يملك به. قيل له: لأنه ليس هناك عقد وتسليط، ولم نقل بجواز حصول ضمان القيمة يوجب له الملك، دون ما ذكرناه.

وأيضا: فقد اتفق الجمع على أن النكاح الفاسد لا يحكم له بانفراده، ثم إذا اتصل به الدخول صار في حكم التصحيح فيما يتعلق به الحكم، فكان بمنزلة ملك البضع بعقد صحيح. إلا ترى أنه لو وطئ فيه مرارا: لم يجيب عليه فيه إلا مهر واحد، وكان في حكم من وطئ ما يملك، ولو لم يحصل له حكم الملك، لوجب لكل وطء مهر، فكذلك البيع الفاسد إذا اتصل به القبض، والمعنى الجامع بينهما: حصول ضمان البدل عن عقد فيه تسليط. ولا يلزمنا على ذلك الشراء بالميتة والدم؛ لأن ذلك ليس بعقد عندنا، ولا تعرف الرواية عن أصحابنا في كونه مضمونا على مشتريه بالقبض. وجائز أن يقال: إنه لا يضمنه؛ لأنه قبضه بإذنه عن غير عقد، ولا سوم، فصار بمنزلة الوديعة، وإذا كان كذلك، فلم يحصل هناك ضمان ولا عقد، فلم يملك. وأيضا: فقد اتفقنا على أن الكتابة الفاسدة إذا اتصل بها الأداء، صارت في حكم الصحيحة في باب وقوع العتاق بها عند حصول الأداء، كذلك البيع. وقد احتج لذلك بحديث بريرة "أن عائشة رضي الله عنها اشترتها، واشترطت لهم الولاء، وأعتقتها، وأخبرت بذلك النبي صلى الله عليه

وسلم، فأجاز العتق، وأبطل الشرط". وقد صح عندنا أم ما كان بهذا الوصف من البيوع: فهو فاسد، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عتق عائشة فيها. فإن قيل: لما كان العقد على حالة غير موجب للملك باجتماعهما، إذ كان القبض والعقد جميعا فاسدين، لم يفد الملك، ولم يجز تصرفه. قيل له: ولو انفرد عقد النكاح الفاسد: لم يوجب مهربا، ولو انفرد الوطء عن العقد: لم يوجب أيضا مهرا، ثم باجتماعهما: قد وجب وإن وقعا على الفساد، كذلك ما وصفنا. ولو انفرد الإيجاب في العقد الصحيح عن القبول: لم يوجب الملك، ولو انفرد القبول عن الإيجاب: لم يوجبه أيضا، قم إذا اجتمعا: أوجباه. والكتابة الفاسدة لا توجب العتق، والأداء عن غير عقد لا يوجبه، ثم إذا اجتمعا: أوجباه، ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى. *****

باب السلم

باب السلم مسألة: [شروط السلم] قال أبو جعفر: (ولا يجوز السلم، ولا آجال البياعات إلى الحصاد والدياس، ولا إلى صوم النصارى، ولا إلى فطرهم قبل دخولهم في الصوم، فإن كانوا قد دخلوا في صومهم: فقد صار آخره معروفا، فيجوز). قال أحمد: روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أسلم فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، فانتظم هذا الخبر معاني منها: نفي الجهالة عن مقدار السلم؛ لأن الكيل موضوع لمعرفة المقادير. ومنها: نفي الجهالة عن القبض؛ لأن الأجل مشروط للقبض، فكل ما كان جهالة في المقدار، فحكمها أن تكون منفية عن السلم، قياسا على الكيل، وما كان جهالة في القبض، فهي منفية عنه، قياسا الأجل. وأفادنا بطلان السلم الحال؛ لأنه أمر بشرط الأجل المعلوم في

السلم، والأمر على الوجوب. وأيضا "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان"، ورخص في السلم، والسلم يختص بتعجيل رأس المال، وتأخير المسلم فيه، ومنى كان تعجيلهما جميعا مستحقا بالعقد، خرج من أن يكون سلما، وصار بيع ما ليس عند الإنسان، فامتنع جوازه بعموم نهيه عن بيع ما ليس عند الإنسان. وأيضا لما اتفقنا على عدم جواز بيع العين التي ليست عند بيعها، قسنا عليه السلم الحال، بعلة أنه بيع ما ليس عنده مؤجل. قال احمد: والسلم لا يصح عند أبي حنيفة إلا بشرائط سبع مذكورة في العقد: 1 - أحدها: أن يكون جنسا معلوما، كقوله: تمر. 2 - ونوعا معلوما، كقوله: شهريزا، أو فارسيا. 3 - وصفة معلومة، كقوله: جيد أو رديء. 4 - وأجلا معلوما. 5 - ومقدارا معلوما، كقولك: كر، أو مائة رطل، أو كذا ذراعا. 6 -

والمكان الذي يوفيه فيه، فيما لا حمل ومؤونة. 7 - ومقدار رأس المال، فيما يتعلق العقد فيه على المقدار. وعند أبي يوسف ومحمد خمس: وهي الجنس، والنوع، والصفة، والمقدار، والأجل. ولا يجعلان المكان، ومقدار رأس المال شرطا فيه. فأما الجنس، والنوع، والصفة، فإنما وجب أن يكون معلوما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نفى جهالة المقدار عن السلم بقوله: "فليسلم في كيل معلوم": كانت جهالة الجنس، والنوع والصفة أولى بأن تكون منفية عنه؛ لأنها مثل جهالة الكيل، أو أكثر، وأما الأجل فقد بيناه. وأما شرط المكان: فلأن جهالته توجب جهالة القبض، وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم جهالة القبض عن السلم بقوله: "إلى أجل معلوم". وهذا المعنى لا خلاف بين أصحابنا فيه، وإنما الخلاف في أن مكان العقد هو مكان للتسليم أم لا، إذا لم يشرط غيره؟ فقال أبو حنيفة: لا يوجب العقد الإيفاء في الموضع الذي وقع فيه. وقال أبو يوسف ومحمد: يوجبه في السلم، إذا لم يشرط مكانا غيره. لأبي حنيفة: أن العقد لا يقتضي التسليم في الموضع الذي وقع فيه، ألا ترى أنه لو اشترى طعاما بالسواد، وهما في المصر، أنه لا يلزمه تسلميه في موضع العقد، كذلك السلم. وأيضا: لو كان عقد السلم يوجب الإيفاء في الموضع الذي وقع فيه،

لما جاز نفسه بالشرط، فلما اتفق الجميع على جواز نفيه بالشرط، وشرط مكان غيره، دل ذلك على أن العقد لا يقتضي تسليمه في موضعه؛ لأن ما كان من موجب العقد: لا يصح نفيه بالشرط. ألا ترى أن رجلا لو اشترى طعاما بالسواد، وشرط تسليمه في المصر، أن العقد فاسد، لنفيه موجب العقد. *وإنما اعتبرنا ذكر المكان فيما له حمل ومؤونة؛ لأن ما له حمل ومؤونة؛ تختلف قيمته في الأماكن، لأجل ما يلزم فيه من نفقة الحمل ومؤونته، فصار كجهالة مقدار السلم وصفته. وأما ما لا حمل له ولا مؤونة، فلا يلزم له نفقة الحمل، فتختلف من أجلها قيمته، فلذلك لم يحتج إلى شرط المكان فيه. وأما مقدار رأس المال فيما يتعلق العقد فيه على المقدار، فإنما احتيج إلى معرفته في العقد عند أبي حنيفة، من قبل أنه لما كان بدلا عن السلم، وكان شرط السلم أن يكون معلوم المقدار، إذا كان العقد يتعلق على مقداره، وجب أن يكون كذلك رأس ماله؛ لأن حكم البدل حكم المبدل عنه. فإن قيل: فقد خالفت بينهما حين جعلت السلم مؤجلا، ورأس المال معجلا. قيل له: لم يختلفا في المعني؛ لأن السلم إنما احتاج إلى الأجل، ليكون وقت القبض معلوما، وشرطنا تعجيل رأس المال لنفي جهالة وقت القبض، فهما في المعنى سواء.

فإن قيل: إذا كان رأس المال عينا، فليس بمجهول، إلا ترى أن مثله يجوز السراء به. قيل له: وعقد الشراء يجوز أيضا على صبرة لا يعرف مقدارها، ولا يجوز أن يكون السلم مجهول القدر. دليل آخر: وهو أن حكم السلم مراعى إلى وقت حلوله، بدلالة أنه لو أسلم في مثل هذا الإناء: لم يجز، وصار جواز هلاك الإناء قبل حلوله، بمنزلة عقده على مقدار إناء غير موجود. ومن أجل ذلك، جعلوا السلم فيما يجوز انقطاعه من أيدي الناس، بمنزله ما هو منقطع في الحال، وفرقوا بينه وبين سائر البياعات، فلم يجعلوا جواز هلال العبد الغائب قبل حضوره مانعا من جواز العقد عليه، فوجب على ذلك اعتبار مقدار رأس المال في جواز ورود انتقاض العقد، فيحصل رأس المال مجهولا، لا يدرى ما يرد. ألا ترى أنه جائز انقطاعه من أيدي الناس بعد حلول أجله. وجائز أن يجد بعضه زيوفا، فيرده، فلا يدري كم يبقى من السلم. فلما كان ذلك جائزا فيه، وجب اعتباره في حال العقد، كما اعتبرنا جواز هلال الإناء قبل حلول السلم. قال أحمد: فهذه الشرائط السبع هي التي يحتاج إلى ذكرها في العقد. [أوصاف أخرى للسلم] وللسلم أوصاف أخر، لا يتم العقد إلا بها. 1 - منها: قبض رأس المال في المجلس. 2 - ومنها أن يكون المسلم فيه موجودا في أيدي الناس، من وقت

العقد إلى وقت حلول الأجل. 3 - ومنها: أن لا يخشى انقطاعه من أيديهم. *فأما قبض رأس المال في المجلس: فإن رأس المال إن كان دينا، ـ احتيج إلى قبضه في المجلس لمعنيين: أحدهما: أنه دين بدين، وقد "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الكالئ بالكالئ". والثاني: أن السل يختص بتعجيل رأس المال، وتأخير المسلم فيه؛ لأن السلم والسلف واحد، فإذا كان المستثني من جملة بيع ما ليس عند الإنسان شرطه أن يكون سلما معجلا، صار التعجيل من شرائط صحته. وأنا إذا كان رأس المال عينا، فإن القياس عندهم أن يجوز، كما لو اشترى عبدا بكر حنطة وسطـ، وجعل الكر ثمنا، جاز له أن يفارقه قبل قبض العبد، ولكنهم تركوا القياس على هذا الأصل، وألحقوه بالأصل الآخر، وهو أنه متى لم يجعله، حصل بيع ما ليس عند الإنسان في غير السلم، وهذا لا يجوز. وأما شراء العبد بالكر، فإن الكر ليس يمتنع إذا لاقى عرضا، وصحبته الباء، وإنما هو بمنزلة الدراهم والدنانير. *وإنما قلنا إنه لا يجوز أن ينقطع من أيدي الناس؛ لأن النبي صلى

الله عليه وسلم لما قال: "من أسلم فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"، وكان معقولا من مراده الكيل المعلوم عند الناس، فمنع بذلك جواز عقد السلم في مال بإناء لا يعرف مقداره من الكيل المعلوم، والوزن المعلوم، لجولا هلاكه قبل استيفاء السلم، وحصوله في مجهول: اعتبرنا ذلك فيما يجوز انقطاعه من أيدي الناس، فقلنا إن جواز انقطاعه قبل حلوله بمنزلة كونه معدوما، وحصول السلم في مجهول. ويدل على ذلك: ما حدثنا دعلج بن أحمد قال: حدثنا عبد الله بن شيرويه قال: حدثنا إسحاق بن راهويه قال: أخبرنا الوليد بن مسلم عن محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده عبد الله بن سلام "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلف رجلا دنانير في تمر مسمى، فقال: من حائط فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما من حائط فلان: فلا، ولكن تمر مسمى، وكيل مسمى، وأجل مسمى". فهذا الخبر ينفي جواز السلم فيما يجوز انقطاعه، واقتضى أيضا وجوب معرفة الجنس، والمقدار، والأجل. *وإنما قلنا إنه يجب أن يكون موجودا من وقت وقوع العقد إلى وقت حلول الأجل: للمعنى الذي قدمناه في جواز الانقطاع، وهو انه جائز أن يموت المسلم إليه، فيحل عليه السلم، وهو معدوم. ولا خلاف أن كونه منقطعا في وقت حلول الأجل: يفسد العقد،

فجعلنا جواز انقطاعه، كالانقطاع الموجود في وقت الحلول، كما كان جواز هلال الإناء، كعدمه في الحال. مسألة: [السلم في الحيوان] قال أبو جعفر: (ولا يجوز السلم في شيء من الحيوان). وذلك لما روي "عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إن من الربا أبوابا لا تخفى: منها السلم في السن". حدثنا به الثقة قال حدثنا على بن العباس المقانعي قال حدثنا محمد بن عمر بن الوليد قال حدثنا وكيع قال حدثنا المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن عن يزيد بن شريك وهو أبو إبراهيم التيمي عن عمر. وقد رواه وكيع في كتابه في البيوع، وجعله عن القاسم عن عمر، ولم يذكر فيه يزيد بن شريك. فلما جعل عمر السلم في الحيوان ربا، ـ لم يحل إطلاقه، وذلك من احد وجهين:

إما من طريق اللغة، أو الشرع، فإن كان قاله من جهة اللغة، فهو حجة فيها. وإن قاله من طريق الشرع، لم يكن ذلك إلا توقيفا؛ لأن أسماء الشرع لا توجد إلا توقيفا. وإذا ثبت أن اسم الربا يتناوله، بطل العقد عليه بقوله الله تعالى: {وحرم الربا}. ومن جهة السنة: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئه" رواه ابن عباس وجابر وسمرة بن جندب. ويدل عليه ايضا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة"، وعمومه ينفي جوازه في الحيوان. ولا يخصه قوله: "فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم"؛ لأنه في غير الحيوان. وأيضا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أسلم فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم". فنفى بذكر الكيل جهالة القدر؛ لأن الكيل موضوع لمعرفة المقدار،

فكل ما كان جهالة في المقدار، فهي منتفية عن السلم، قياسا على الكيل. والحيوان لا سبيل إلى معرفة مقداره بالصفة؛ لأن ذكر السن لا يدل على المقدار، إذا قد يتفقان في السن، ويتفاوتان في المقدار. وليست كالثياب؛ لأن مقاديرها تضبط بالذرع. ويدل هذا الخبر على صحة ما ذكرنا من وجه آخر، وهو قوله: "فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم". وظاهر أمره يقتضي الاقتصار بالسلم على المكيل والموزون، ونفيه عما سواهما؛ لأن الأمر على الوجوب، فلا يجوز تركه بحال، إلا بدلالة، فانتفى به جواز السلم في الحيوان. وأيضا: المبتغى من الحيوان الشدة، والقوة، وعظم الجثة والسمن، ونحوها، وذلك غير مضمون بذكر السن، لتفاوت المتساويين منها في السن في المعاني المبتغاة منه، لم يجز السلم فيه. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها". فأقام الصفة مقام الرؤية. قيل له: هذا فيما قد رؤي، فأما ما لم ير، وإنما نريد إثباته في الذمة، فلا دلالة في الخبر عليه. أرأيت لو قال: قد أسلمت إليك في مثل هذه الجارية، هل كان

يجوز، مع وجود العين التي جعلتها صفة لما في الذمة؟ فكيف يجوز ابتداؤه على ما في الذمة، من غير ضبط الصفة؟ فإن احتج محتج بما روى أبو سفيان عن عمرو بن حريش عن عبد الله بن عمرو "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلاص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين، إلى إبل الصدقة". قيل له: لا دلالة في هذا الخبر على موضع الخلاف، وذلك لأن قوله: "خذ على قلاص الصدقة": لا يدل على أنه أمره بإثبات القلاص في الذمة، إذ لا يمتنع أن يكون مراده شراه بالدراهم، ليقبضها من إبل الصدقة، بأن يبيعها، فيقضي من ثمنها. وقوله: "كان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة": إنما هو حكاية فعل عبد الله بن عمرو، وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره به، ولا علم به، فأقره عليه. وأيضا: لو ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره به، كان منسوخا بتحريم الربا، لما ذكرنا أن السلم في الحيوان من جنس الربا، وينهيه عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، ويكون خبر الحظر حينئذ أولى من خبر الإباحة. وأيضا: فلا دلالة فيه على البيع، وجائز أن يكون كان قرضا على إبل

الصدقة، كما "استلف بكرا، ثم قضاه من إبل الصدقة". وقد يجوز عندنا أن يثبت على الصدقة حيوان مجهول، كما يجوز أن يثبت لها حيوان مجهول. ويدل على ما ذكرنا: أنه أخذه إلى إبل الصدقة، وذلك أجل مجهول، ـ لا يصح مثله في البياعات، فدل على انه كان في حال كان يجوز فيه الربا، والقرض الذي يجر منفعة، وشرط الآجال المجهولة. فإن قيل: ثبت الحيوان مهرا في النكاح، والدية. قيل له: النكاح يصح على مهر المثل، والبيع لا يصح بالقيمة، وكذلك يثبت فيه عند مطلع تسمية، ولا خلاف أن السلم في عبد مطلق غير جائز، والدية ثبتت إبلا مجهولة بنات مخاض، وبنات لبنون، ولا

يجوز السلم في مثلها. مسألة: [الكفالة والحوالة في السلم] قال أبو جعفر: (ولا بأس بالكفالة والحوالة في السلم). وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم "الزعيم غارم". وقال: "من أحيل على مليء فليحتل". وكما صحتا بسائر الديون، صحتا بالسلم؛ لأنه ليس من شرط السلم قبضه من المسلم إليه بعينه، دون غيره. ألا ترى أنه لو وكل رجلا بتسليمه إليه: جاز. وتجوز الحوالة والكفالة برأس المال إذا قبضه المسلم إليه قبل أن

يفارقه رب السلم. أما جوازها، فلما وصفنا. وأما قبضه في المجلس، فلأن حقوق العقد ثبتت بين المتعاقدين، فاعتبر افتراقهما، دون افتراق الكفيل والمحال عليه. مسألة: [بيع المسلم فيه قبل قبضه] قال أبو جعفر: (ولا يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه ممن هو عليه، ولا من غيره، ولا التولية، ولا الشركة). لأنه بيع ما لم يقبض، ولأنه بيع دين في ذمة الغير، وبيعه غير قادر على تسليمه. مسألة: [الرهن بالسلم] قال: (ولا بأس بالرهن بالسلم). قوله تعالى: {أذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممكن ترضون من الشهداء أن تضل

إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسئموا أن تكتبوه صفير أو كبيرا على اجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى إلا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليك جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فلوس بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم وأن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة}، وذلك عام في السلف وغيره. وقال ابن عباس: السلم المؤجل في كتاب الله، ثم تلا قول الله تعالى: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى}. وأيضا الرهن مقبوض للاستيفاء، والسلم يوجب الاستيفاء، فصح الرهن به. [مسألة:] (وإذا هلك الرهن، وقيمته والسلم سواء، كان مستوفى كسائر الديون. ويجوز الرهن برأس المال إذا كان دينا، فإن هلك الرهن قبل الافتراق: كان مستوفى، وإن افترقا قبل الهلاك: بطل السلم). لأنه حصل دينا بدين بعد الافتراق؛ لأن قبض الرهن لا يحصل به الاستيفاء حتى يهلك.

مسألة: [الإقالة في السلم] قال: (وتجوز الإقالة في السلم كله، وفي بعضه). لا خلاف في جوازها في جمعيه، والبعض مثله؛ لأن كل شيء جازت الإقالة في جميعه، فالبعض مثله؛ لأن كل شيء جازت الإقالة في جميعه، جازت في بعضه. وما روي: "أن لا تأخذ إلا سلمك، أو رأس مالك": لا ينفي الإقالة في البعض؛ لأنه لم يأخذ إلا سلما، أو رأس مال. مسألة: [السلم بمال واحد في شيئين مختلفين] قال: (وإذا أسلم دراهم في شيئين من جنسين: لم يجز حتى يبين رأس مال كل واحد منهما، في قول أبي حنيفة). لأن من أصله: أنه كلما تعلق العقد على مقدار من رأس مال السلم، فإنه لا يجوز إلا أن يكون معلوم القدر، على ما تقدم من بيانه. فإن كان رأس المال عرضا، جاز وإن لم يبين رأس مال كل واحد منهما؛ لأن مقادير العروض من الثياب ونحوها إنما تعرف بالذرع، والذرع في الأعيان لا يتعلق العقد عليه؛ لأنه لو باع ثوبا على انه عشرة أذرع، فوجده أقل: أخذه عن شاء بجميع الثمن، وغن شاء ترك، وإن كان

أكثر: كان جميعه له، فهذا مما لا يتعلق العقد على مقداره، فلا معني لذكر المقدار فيه. *قال: (ويجوز في قول أبي يوسف ومحمد). *قال أبو جعفر: "ولا تجوز في قولهما الإقالة في واحد منهما دون صاحبه". قال أحمد: ولا أعرف لقوله: "ولا تجوز الإقالة في واحد منهما دون صاحبه": معني، فإن كان مراده انه إذا أسلم دراهم، أو عرضا في شيئين مختلفين: لم تجز الإقالة في أحدهما، في قول أبي يوسف ومحمد، فإن هذا لا نعرفه من قولهما، ولا أدري من أين وقع ذلك إليه، ولا على أي أصل قاسه؟ مسألة: [جعل أجل السلم في وقتين] قال: (ولا بأس بالسلم في نوع واحد، مما يكال أو يوزن، على أن يكون حلول بعضه في الوقت، وحلول بقيته في وقت آخر). كما جاز أن يجعل أجل الجميع إلى أحد الوقتين. مسألة: [انقطاع المسلم فيه من أيدي الناس بعد حلول الأجل] قال: (وإذا حل السلم، فلم يقبضه رب السلم حتى فات وانقطع من أيدي الناس، فالمسلم بالخيار: إن شاء فسخ السلم وأخذ رأس ماله، وإن شاء صبر إلى وقت وجود مثله).

وذلك لأنه لما صحت المطالبة به بحلول أجله، لم يفسد العقد بعد ذلك بانقطاعه من أيدي الناس، وذلك لأن وجوده مرجو في الثاني، فصار كإباق العبد من يدي البيع بعد صحة العقد، لا يفسد العقد، وللمشتري الخيار في الفسخ، كذلك انقطاع السلم بعد حلول الأجل. وليس ذلك مثل انقطاعه قبل حلول الأجل؛ لأن بمنزلة بيع العبد الآبق، لأنه لم يكن مما يصح تسليمه وقت وجوب المطالبة به. وليس مما يطرأ على العقد من ذلك بعد صحته، بمنزلة ما كان موجودا في العقد، ألا ترى أن العدة تمنع ابتداء العقد، فلا ترفع عقدا متقدما. مسألة: [إذا أصاب المسلم فيه عيب] قال أبو جعفر: (ومن قبض ما أسلم فيه، ثم أصاب به عيبا: رده، وطالب المسلم إليه بما أسلم إليه فيه غير معيب). وذلك لأنه استحق على المسلم إليه تسليم السلم إليه صحيحا كسائر البياعات، إذ كان العقد يوجب لكل واحد من المتعاقدين صحة العقود عليه، فإذا رده: انتقض القبض فيه، كأنه لم يقبض، وعاد ما كان في ذمته من السلم. *قال: (فإن كان حدث به في يده عيب آخر قبل الرد، فإن أبا حنيفة قال: قد لزمه، ولا يرجع بشيء إلا يشاء المسلم إليه أن يقبله). وذلك لأنه قد تعذر رد العين، لأجل العيب الحادث في يد المسلم، كمن اشترى حنطة بعينها، فوجد بها عيبا، وحدث بها عيب عنده، فيمنع ذلك ردها. وإنما لم يرجع بشيء من أرش العيب؛ لأن السلم مقبوض عما كان له

في ذمة المسلم إليه، وليس هو المبيع بعينه، لأنه لو كان كذلك، لا نتقض السلم برده بالعيب، لا يجوز أن يأخذ عما كان له في ذمه المسلم إليه فيه وزيادة؛ لأنه لا يجوز له أن يأخذ إلا أو رأس ماله. وكذلك قال أبو حنيفة في الدراهم، إذا وجدها الذي له زيوفا، وقد هلكت، أنه لا يرجع بشيء، ولا يرد مثلها، لهذه العلة بعينها. وليس هو مثل الحنطة المشتراة بعينها بدراهم، إذا قبضها، فحدث بها عيب عنده، ثم اطلع على عيب كان عند البيع، فيرجع بأرش العيب؛ لأن العقد ينتقض في الجزء المرجوع به من حصة العيب، وها هنا لا ينتقض عند السلم في ذلك الجزء بالرجوع، كما لا ينتقض برد الكر لو كان قائما بعينه، فرده. *وقال أبو يوسف: يغرم المسلم كرا مثله معيبا، ويرجع بسلمه أذا أبى المسلم إليه أن يقبله). وذلك لأنه لا يمكنه استدراك حقه إلا بنقض القبض في مثله. وكذلك قال في الدراهم الزيوف، إذا قبضها عن الجياد، وهو لا يعلم، فهلكت: أنه يغرم مثل الزيوف، ويرجع بالجياد. وأبى ذلك أبو حنيفة؛ لأن فيه نقض القبض على غير ما وقع عليه القبض، وذلك لا يجوز، كما لا يجوز نقض العقد على ما لم يقع عليه العقد. * (وقال محمد: يرجع المسلم على المسلم إليه بنقصان العيب من رأس المال). وجعله بمنزله كر بعينه اشتراه بدراهم، ثم اطلع على عيب، وقد حدث به عيب عنده، فيرجع بنقصان عيبه من الثمن.

*قال: (وذلك إذا كان العيب الحادث عنده من جنايته، أو من السماء، فإن كان من جناية جان، فأخذ له أرشا، فلا خيار للمسلم إليه في قبوله). والاختلاف فيما سوى ذلك على ما وصفنا. مسألة: [تصرف المسلم برأس المال بعد الإقالة] قال: (ولا يجوز للمسلم بعد الإقالة وقبلها أن يشتري به شيئا قبل قبضه إياه من المسلم إليه). وذلك لما حدثنا محمد بن بكر البصري قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عيسى قال: حدثنا أبو بدر عن زياد بن خيثمه عن سعد- يعني الطائي- عن عطية بن سعد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره". وقد روي عن جماعة من السلف: "لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك"، منهم ابن عمر وغيره.

مسألة: قال: (ولا يجوز التسعير على الناس). لأن الله تعالى لم يبح أخذ مال الغير إلا عن تراض بقوله: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه". وروي عن أنس بن مالك قال: "غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: يا رسول الله! قد غلا السعر، فسعر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله الخالص القابض الباسط الرازق المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس يطلبني أحد منكم بمظلمة في نفس ولا مال".

باب الاستبراء

باب الاستبراء مسألة: [استحباب استبراء الجارية من قبل بائعها] قال أبو جعفر: (وإذا كانت للرجل جارية يطؤها، لم يبعها حتى يستبرئها بحيضة إن كانت ممن تحيض، أو بشهر إن كانت ممن لا تحيض). قال أحمد: وهذا استحباب في البيع، وليس بواجب، وذلك لأنها إذا كانت ذات حيض، وقد وطئها، لا يأمن أن تكون حاملا منه، فيستهلكها المشتري، أو يحدث ما يمنع صحة دعوه، فاستحب له الاستبراء احتياطا. مسألة: [يجب على المشتري استبراء الأمة] قال أبو جعفر: (ولا يقربها المشتري، أو من ملكها بغير شراء، حتى يستبرئها بحيضة إن كانت ممن تحيض، أو شهرا إن كانت ممن لا تحيض). قال أحمد: الأصل فيه: ما روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في سبايا أوطاس: "لا توطأ حامل حتى تضع،

ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة", فصار ذلك أصلا في وجوب الاستبراء لحدوث الملك؛ لأنه معلوم أن هذا الاستبراء لم يجب عن فراش، لأنه لو كان كذلك، لفرق بين ذات الفراش، وبين غيرها. فلما أوجب الاستبراء في الجميع، دل على أنه وجوبه متعلق بحدوث الملك، فكل من استحدث ملكا في جارية، وتم ملكه فيها: لم يطأها حتى يستبرئها. وقد روي نحو ذلك عن علي، وعبد الله بن مسعود، وعثمان بن عفان وعمر، وعبادة بن الصامت. * (فإن كانت ممن لا تحيض: فشهر). وروي نحوه عن ابن عمر في آخرين من السلف. لأن الشهر يقوم مقام حيضة في العدة، فكذلك في الاستبراء. مسألة: [يكره تحريما دواعي الوطء قبل استبراء الجارية] قال أبو جعفر: (ولا ينبغي له أن يقبلها، ولا ينظر إلى فرجها من

شهوة، حتى يستبرئها). قال أحمد: كما أن رجلا لو وجبت على امرأته عدة من وطء بشبهة، لم يكن للزوج أن يقبلها، ولا يباشرها حتى تنقضي عدتها، وكذلك الأمة، إذا كانت معتدة من زوج، لا يقبلها المولى ما دامت في العدة، والاستبراء يشبه العدة؛ لأن العدة تجب على وجه الاستبراء. مسألة: [وجوب استبراء الجارية الحامل من زنى] قال أبو جعفر: (ومن ابتاع جارية حاملا من زنى، لم يطأها حتى تضع حملها). لحديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في السبايا: "لا توطأ حامل حتى تضع"، وهو عام في سائر الحوامل. وكما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره". رواه رويفع بن ثابت الأنصاري. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل لرجلين يؤمنان بالله واليوم الآخر أن يجتمعا في امرأة في طهر واحد".

وهذا كله يحظر من وطء الحامل على من ليس الحمل منه. مسألة: قال: (ولا يعتد المشتري بالحيضة التي حاضتها في يد البيع بعد البيع قبل القبض). وذلك لأن المشتري إنما يملك الوطء بعد القبض، ولا يجوز له أن يطأ قبل القبض، فإنما يجب الاستبراء في الحال التي يملك فيها الوطء. وأيضا: فإن الملك لا يتم فيها إلا بالقبض، وعند تمام الملك يجب الاستبراء. *قال: (وروي عن أبي يوسف أنه قال بأخرة: يعتد بتلك الحيضة من الاستبراء). وذهب إلى أن الملك قد صح له وإن لم يقبض. مسألة: [مدة استبراء الجارية التي ارتفع حيضها] قال أبو جعفر: (وإذا اشترى جارية ممن تحيض، فقبضها، فارتفع حيضها لا من حمل، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال: لا يطأها حتى يعلم أنها غير حامل، ولم يقدر ذلك بشيء. وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف عنه مثل ذلك، إلا أنه قال: حتى تمضي عليها ثلاثة أشهر، أو أربعة أشهر، فإذا مضى ذلك عليها، ولم يعلم حمل: كان له وطؤها). وذلك لأن الحيضة لما كانت استبراء من الحمل في ذوات الحيض، لقوله عليه الصلاة والسلام "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى

تستبرأ بحيضة"، وحب أن يعتبر حصول غلبة الظن في براءة رحمها من الحبل، وذلك قد يظهر في مثل المدة التي ذكر. وليس ذلك كالعدة لذات الحيض: أن عدتها لا تنقضي حتى تحيض ثلاث حيض وإن كانت في سنين؛ لأنها منصوص في كتاب الله عليها: {ثلاثة}، لا يجوز النقصان عنها. * (وقال محمد: لا يطؤها حتى يمضي عليها شهران وخمسة أيام، ثم رجع فقال: حتى تمضي أربعة أشهر وعشر). قال أبو بكر: ذكر محمد في الأصل: أربعة أشهر وعشرا، وروى ابن سماعة عنه: شهران وخمسة أيام، فاعتبر فى إحدى الروايتين عدة الحرة في الوفاة، والأخرى عدة الأمة. مسألة: [عدم وجوب استبراء الجارية المطلقة غير المدخول بها] قال أبو جعفر: (ومن اشترى جارية ولها زوج لم يدخل بها، وقبضها، وهي كذلك، ثم طلقها زوجها: حل له أن يطأها، ولم يكن عليه أن يستبرأها). وذلك أن الاستبراء إنما يجب بتمام الملك، وقد وجد ذلك، وهي

تحت زوج فلم يجب؛ لأن غيره هو المالك لوطئها، وطلاق الزوج لم يحدث للمولى ملكا فيها، فلم يجب الاستبراء، إذ كان وجوبه متعلقا بحدوث الملك لاستباحة الوطء. والدليل على ذلك: أن المولى لو زوج أمته من رجل، حرم وطؤها عليه، فإن طلقها الزوج قبل أن يدخل بها، لم يجب عليه استبراء لاستباحة وطئها، إذ لم يستحدث بذلك ملكا. مسألة: قال أبو جعفر: (ومن اشترى جارية، ولم يفارق بيعها عن موطن البيع، أو لم يكن قبضها، حتى تقايلا البيع، فإن أبا حنيفة قد قال: في الأصل القياس أن لا يطأها حتى يستبرئها، قال: وأستحسن فأجعل له وطأها من غير استبراء. وروى أبو يوسف في الإملاء عن أبي حنيفة أنه قال: لا يطأها حتى تستبرأ). قال أحمد: القياس أن يستبرئها البيع، لحدوث ملكه فيها بالإقالة، ولا تستبرأ استحسانا؛ لأن ملك المشتري لم يتم حتى عادت إليه. ألا ترى أن المشتري لم يكن يعتد بالحيضة التي كانت في يد البيع من الاستبراء، وأنها في هذا الوجه بمنزلة من هي في ملك البيع، فكذلك هي في حكم ملكه في سقوط الاستبراء عنه بالإقالة. *قال: (وذكر ابن سماعة عن محمد: أن القياس أن لا يستبرأها). قال أحمد: وذلك لأن ملك المشتري لم يتم فيها بعد، والله أعلم. *****

كتاب الرهن

كتاب الرهن مسألة: [شروط الرهن] قال أبو جعفر: (ولا يجوز الرهن إلا مقبوضا، مفرغا، محوزا، خارجا عن يد راهنه إلى يد مرتهنه، أو إلى يد عدل يرتضيان به). قال أحمد: وذلك لقول الله عز وجل: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة}، وحكم جواز الرهن مأخوذ من الآية، ولم يرد إلا معقودا بصفة القبض. وأيضا: فإن الرهن وثيقة، ولا يحصل معناها إلا يحصل معناها إلا بحصول ي المرتهن عليه. وإنما يصح قبض العدل؛ لأن الله تعالى لما قال: {فرهان مقبوضة}، أجازه مقبوضا على الإطلاق، ولم يفرق فيه بين قبض المرتهن وقبض العدل، وعمومه يقتضي جوازه بقبض أيهما قبض. وأيضا: فإن العدل وكيل للمرتهن في القبض، وقد يحصل مضمونا عليه، ويد الوكيل كيد الموكل. مسألة: [رهن المشاع] قال: (ولا يصح رهن المشاع فيما يقسم، ولا فيما يقسم).

وذلك لأن كونه مشاعا يوجب استحقاق القبض بالمهايأة، فإذا كان المعنى الموجب لاستحقاق القبض الذي هو شرط في صحة العقد مقارنا للعقد، لم يصح الرهن. وإنما كان شرط استصحاب اليد مع بقاء الرهن، من قبل أن الرهن لما كان وثيقة، وكان لا يحصل معنى الوثيقة فيه إلا بالقبض، فمتى استحق القبض، ارتفعت الوثيقة، ومنى ارتفع ذلك بطل الرهن. وليس الرهن كالهبة في جوازها في المشاع الذي لا يقسم؛ لأن القبض في الهبة شرط في صحة العقد، لا في بقاء الملك، لأن صحة بقاء الملك غير مفتقرة إلى استصحاب اليد، وصحة بقاء الرهن مفتقرة إلى استصحاب اليد، إذ به تحصل وثيقة، وليس في الرهن معني غيرها، ففي ارتفاعها ارتفاع الرهن، فلذلك افترقا. فإن قيل: فقد يصح بقاء الرهن عندكم مع زوال اليد، وهو أن يستعيره الراهن، فلا يبطل الرهن. قيل له: إنما منعنا صحة رهن المشاع؛ لأن اليد التي بها صح معنى الرهن مستحقة بمعنى يقارب العقد. ولا يلزم على ذلك العارية؛ لأن يد العارية غير مستحقة على المعير، وكونه شائعا يوجب استحقاق يده عليه، فلذلك اختلفا.

مسألة: [الانتفاع بالرهن بإجارة ونحوها] قال أبو جعفر: (ولا يؤاجر الرهن، ولا يخرج من يد المرتهن إلا بعد قضاء الدين، ولا ينتفع به). وذلك لأن في إجارته استحقاق يد المرتهن، وفي ذلك إبطال الرهن. ولا يركب؛ لأن ركوب الرهن يزيل يد المرتهن. والمرتهن لا يجوز له أن يركبه؛ لأنه لا يملك منافعه بعقد الرهن، إذ كان عقد الرهن لا يوجب له ملك المنافع. وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرهن محلوب ومركوب": فإنه يحتمل أن يريد به جواز الرهن فيما يحلب ويركب، كأنه قال عليه الصلاة والسلام: المحلوب والمركوب يصح رهنه. ويحتمل أن يحلب، واللبن رهن معه. ويركبه الراهن عارية من جهة المرتهن، ولا يبطل به حق المرتهن في إعادته إلى يد الراهن.

فأفاد أن العقد لا يبطل بعوده على يد الراهن عارية. وقد روى الشعبي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كانت الدابة مرهونة، فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذي يشربه نفقته". وهذا جائز أن يكون كان قبل تحريم الربا، وقبل تحريم كل قرض جر منفعة؛ لأنه جعل اللبن بإزاء النفقة، وقد يتقاربان، فلم يعتبر ذلك. مسألة: [رهن عبد ابن المدين] قال: (ويجوز للرجل أن يرهن عبد ابنه الصغير بدين على الأب). وذلك لأنه يلي الصرف عليه في الشراء والبيع، وله أن يودع مال ابنه بغير ضمان، فإذا شرط فيه ضمانا يحصل عليه بالهلاك، فهو أنفع للصبي. فإن قيل: هلاك الرهن يوجب استيفاء الدين، وليس له أن يقضي دينه من مال ابنه. قيل له: نفس القبض لا يحصل به استيفاء، وإنما يحصل ذلك بالهلاك، وإذا هلك بضمان الدين، ضمن الأب مقدار ما قضى به الدين للصغير، كمن أعاره رجل عبده على أن يرهنه بدين عليه، فما قضى به من الدين: ضمنه المستعير.

مسألة: [ضياع الرهن، وضمانه] قال أبو جعفر: (وإذا ضاع الرهن في يدي المرتهن، ضاع بالأقل مما هو مضمون به، ومن الدين). والدليل على أن الرهن مضمون، ليس بأمانة، قول الله تعالى، {فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليود الذي اؤتمن أمانته}. ففرق بين الرهن والأمانة، فدل على أن الرهن ليس بأمانة، وإذا لم يكن أمانة، فهو مضمون. وأيضا: "روى عطاء بن أبي رباح أن رجلا رهن رجلا فرسا بدين له عليه، فنفق الفرس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمرتهن: ذهب حقك". وأيضا اتفقت الصحابة على ضمانه أي الرهن، إلا أنهم اختلفوا في كيفية الضمان:

فروي عن عمر نحو قولنا. وروي عن علي بن أبي طالب أنهما يترادان الفضل، وعن ابن عمر نحوه. وعن شريح قال: الرهن بما فيه، ولو خاتم من حديد. فحصل من اتفاقهم ضمانه، فمن قال هو أمانة غير مضمون بوجه، فهو خارج من اختلافهم، ومخالف لإجماعهم. *ومن جهة النظر: إن الرهن مقبوض للاستيفاء، والدليل عليه: أن المرتهن أحق به بعد الموت من سائر الغرماء لاستيفاء دينه، وإذا كان مقبوضا للاستيفاء، وجب أن يكون هلاكه على الوجه الذي حصل عليه قبضه. ألا ترى أن المقبوض على وجع البيع، والغصب، والسوم، إذا هلك، هلك على الوجه الذي هو مقبوض عليه من الضمان. وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يغلق الرهن،

لصاحبه غنمه، وعليه غرمه". فإنه روي عن إبراهيم والزهري في تأويل قوله: "لا يعلق الرهن": أن أهل الجاهلية كانوا يرهنون على انه إن يأته بالمال وقت كذا: فهو له، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: "لا يغلق الرهن"، يعني أنه لا يملك بالدين. وقد حكي عن جماعة من أهل اللغة أن العرب تقول: غلق الرهن: إذا ذهب بغير شيء، وأنشد في ذلك قول زهير: وفارقتك برهن لا فكال له ... يوم الوداع، فأمسى رهنا غلقا

يعني قد ذهب بغير شيء. وأما قوله: "لصاحبه غنمه، وعليه غرمه": فإن الغنم هو الزيادة من نحو اللبن، والولد، والصوف، والسمن، والغرم: هو الدين. فيكون تفسيرا لقوله: "لا يغلق الرهن": يعني أنه لا يملك بالشرط عند محل الأجل، ولصاحبه إذا جاء زيادته، وعليه دينه الذي هو مرهون به. وتأول بعض المخالفين: "عليه غرمه": يعني على الراهن هلاكه، فأخطأ في اللغة خطأ بينا. قال لنا أبو عمر غلام ثعلب: أخطأ في اللغة من قال: إن الغرم الهلاك؛ لأن الغرم أصله في اللغة هو اللزوم، ومنه يسمى من عليه الدين: غريما؛ لأنه قد لزمه الدين والمطالبة. ويسمى المطالب الذي له الدين: غريما؛ لأن له اللزوم والمطالبة، إلا ترى أنه لا يقال لمن ذهب ماله: غريم، وغنما يقال ذلك لمن عليه دين. ومن ذلك قول الله تعالى: {إن عذابها كان غراما}: يعني لازما دائما. وقال: {إنا لمغرمون}: يعني مطالبون بما قدمناه. ومنه قول الشاعر:

"إني بحبك مستهام مغرم" يعني: ملزوما مطالبا. *ومما يدل على ضمان الرهن: أنه محبوس في يد المرتهن لاستيفاء الدين. *وفي الأصول: أن الحبس لا يثبت إلا مع تعلق ضمان، إلا ترى أن البيع لما كانت السلعة محبوسة في يده لاستيفاء الثمن، كانت مضمونة عليه. فإن قيل: فالمستأجر لا يضمن العبد المستأجر، وهو محبوس في يده. قيل له: هو مضمون في يده بما هو محبوس به، وهو المنافع، ألا ترى أنه يكون مستوفيا للمنافع على حسب بقائه في يده. *ويدل على أن الرهن مضمون: أن جوازه مقصور على ما يصح أن يكون مضمونا به من الديون المضمونة، وأنه لا يصح بالأعيان التي ليست بمضمونة، نحو الودائع والعواري؛ لأنه إذا هلك لم يهلك بها، وصح بالدين، فدل على أنه إنما يصح به؛ لأن هلاكه يوجب استيفاء الدين، ولولا ذلك لكان يصح بالأعيان التي وصفنا، فلما لم يصح بها، لأن هلاكه لا يوجب استيفاءها، دل على صحة ما ذكرنا. *وإنما جعلوا الرهن مضمونا بالأقل من الدين، ومن قيمته: من قبل أنه أي الرهن، لما كان مقبوضا للاستيفاء، وجب أن يكون أمينا في الفضل؛ لأن الدين إذا كان مائة درهم، لا يجوز أن يستوفي المائة، إلا

من مقدارها من الرهن. وإن كان الدين أكثر، فليس يجوز أن يستوفي من خمسين درهم مائة درهم. مسألة: [عتق الراهن العبد المرهون، وضمانه] قال أبو جعفر: (وإذا أعتق الراهن عبده المرهون، كان حرا، وخرج من الرهن). وإنما جاز عتقه؛ لأن صحة الرهن فيه لم يزل ملكه عنه، وإذا كان مالكا: نفذ عتقه، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا عتق إلا فيما يملك ابن آدم"، فأجاز العتق فيما يملك، وهذا مالك. ويخرج العبد من الرهن؛ لأنه حر لا يصح استيفاء الدين منه، والرهن مقبوض للاستيفاء، لما بينا، ولا يمنع حق المرتهن من نفاذ عتق الرهن فيه، كما أن حق أحد الشريكين في العبد وما يلحقه من الضرر بالعتق، لا يمنع عتقه. *فإن كان الراهن موسرا: غرم قيمته، كما لو قتله غرم قيمته؛ لأن له حق الاستيفاء من الرقبة، فتقوم القيمة مقامها.

وكما لو قتله أجنبي، كان المرتهن أحق بها، حتى يستوفي حقه منها. *قال: (وإن كان الراهن معسرا: سعى العبد في الأقل من الدين وقيمته للمرتهن، ثم رجع به على الراهن). وذلك لأن حق المرتهن كان ثابتا في استيفاء الدين من الرقبة، فإذا حصلت الرقبة للعبد، ولم يقدر على أخذ بدلها من الراهن، ضمنها. كما أن المريض إذا عتق عبده في مرضه، وعليه دين، ولا مال له: سعى العبد في قيمته. فإن قيل: لو أعتق المشتري العبد المشترى قبل القبض، لم يسع العبد في شيء وإن كان المشتري معسرا، مع ثبوت حق البيع في الإمساك، لاستيفاء الثمن. قيل له: الفرق بينهما أن الثمن غير متعلق برقبة العبد المبيع على جهة الاستيفاء بهلاكه، والدين متعلق برقبة الرهن على جهة أن يكون مستوفى بهلاكه. ألا ترى أن العبد المرهون لو هلك كان المرتهن مستوفيا لدينه، ولو هلك المبيع في يد المبيع: لم يكن البيع مستوفيا للثمن بهلاكه، وإنما ينتقض به البيع، ويهلك من ماله. *وإنما كان للعبد الرجوع على المولى بما أدى من ذلك؛ لأنه لزمه قضاء دينه من جهة الحكم، فصار كأنه قضاه بأمره، ألا ترى أن الوصي والوارث متى قضيا دين الميت، كان لهما أن يرجعا به في مال الميت. مسألة: [ضمان الأمة الرهن باستيلادها] قال أبو جعفر: (ولو حبلت الأمة الرهن، فادعى الراهن حملها، ثم

وضعت، ضمن قيمتها إن كان موسرا). لأنه أخرجها من الرهن بالاستيلاد. * (وإن كان معسرا، سعت الأمة في الدين بالغا ما بلغ، ولم يرجع به على الراهن). وذلك لما ذكرنا، من أن حقه كان متعلقا بالرقبة، وقد استحقت هي تلك الرقبة من الرهن بالاستيلاد. *وإنما سعت في جميع الدين، ولم تكن كالعبد المعتق؛ لأن كسبها في هذه الحال للمولى، فالمرتهن اولى به، ولا ترجع على المولى بما أدته؛ لأنها أدته من مال المولى. وأما المعتق فإنما لزمه الأقل؛ لأن كسبه لنفسه، وإنما يضمن الرقبة التي حصل له، ثم يرجع به على المولى؛ لأنه أداه من ماله نفسه. *ولا سعي على الولد؛ لأنه كان علوقا يوم الدعوة، لا قيمة له، لم يدخل في الرهن. مسألة: [ادعاء الراهن ولد الأمة الرهن] قال أبو جعفر: (وإن ادعى الراهن الولد بعد ما وضعت، والراهن معسر: قسم الدين على قيمة الأمة يوم الرهن، وعلى قيمة الولد يوم الدعوة، فما أصاب الأمة: سعت فيه، بالغا ما بلغ للمرتهن، فيكون رهنا فيه، ولا ترجع به على مولاها. وما أصاب الولد: سعى في الأقل منه ومن قيمته، ثم يرجع بذلك على

الراهن، وقبض المرتهن ما سعى فيه الولد من دينه، ورجع ببقية دينه أيضا على الراهن) وذلك لأن الولد دخل في الرهن بعد الولادة، فصار مع الأم، بمنزلة عبد وأمة رهنا جميعا، ثم أعتق الراهن العبد، وادعى أن الأمة أم ولد له، فيسعى العبد في الأقل، ويرجع به عليه، وتسعى هي في جميع حصتها على ما بينا. [مسألة:] قال: (وتدبير الأمة الرهن، بمنزلة دعوى الاستيلاد). لأن كسبها للمولى. مسألة: قال: (وتجوز الزيادة في الرهن). قال أحمد: كان القياس عندهم أن لا تجوز؛ لأن فيها تحويل ضمان بعض الرهن إلى الزيادة، وذلك الضمان لا يرتفع إلا بارتفاع السبب الموجب له، وهو القبض، والقبض باق لم يرتفع، فهذا هو القياس، إلا أنهم تركوا القياس؛ لأن الزيادة تلحق العقد، وتصير كأنها كانت موجودة فيه، فكأنه رهنهما معا. ولا يجوز اعتبار الزيادة على حيالها كأنها رهن مبتدأ، ألا ترى أن من اشترى عبدا بألف درهم، ثم إن البيع زاده عبدا آخر، ودخل في العقد بحصة الألف من الثمن، كأنه كان موجودا فيه، ولو اعتبر حكمه على جهة ابتداء العقد عليه لما صح؛ لأن عقد البيع لا يجوز بالحصة.

مسألة: [حكم الزيادة في الدين] (وقال أبو حنيفة ومحمد: لا تجوز الزيادة في الدين، وتجوز فى قول أبي يوسف). لأبي حنيفة: أن الزيادة في الدين لو جازت، ولحقت العقد كأنها كانت موجودة فيه، لما صحت على الوجه الذي أوقع الزيادة؛ لأنه لو قال في حال العقد: قد رهنتك هذا العبد نصفه بخمس مائة، ونصف الآخر بخمس مائه، كذلك الدين لما كان مسمى في العقد على حياله، والزيادة مسماة على حيالها، والزيادة مسماة على حيالها، لم يصح العقد. وليس كذلك الزيادة في الرهن؛ لأن ابتداء الرهن عليهما على هذا الوجه جائز. وأجازها أبو يوسف، كأن جملة الدين كانت موجودة وقت العقد. مسألة: [جناية العبد المرهون] قال: (وإذا جنى العبد المرهن، فإن فداه المرتهن، كان متطوعا). لأنه أصلح به رهنه، وجنايته مضمونة عليه في مقدار المضمون؛ لأن العبد مضمون في يده. وإن دفع بها برضا الراهن، بطل الدين؛ لأنه استحق بجناية كانت في يد المرتهن، كالعبد المغصوب إذا جنى في يد الغاصب، فدفع بها، ضمن الغاصب قيمته، كأنه هلك في يده، كذلك العبد المدفوع بالجناية، كأنه هلك في يد المرتهن. *قال: (وإن فداه الراهن: أخذه، وبطل الدين). لأن ضمانه على المرتهن.

* (وإن كانت قيمة الرهن أكثر من الدين، كان بمقدار المضمون على المرتهن، وبمقدار الأمانة على الراهن) لأن المضمون منه كالغصب، والأمانة منه كالوديعة. [مسألة:] (وما جني على العبد: فالخصم فيه المرتهن). لأنه أحق بإمساكه ورده إلى يده. مسألة: [نماء الرهن] قال: (والولد وسائر النماء الحادث من الرهن داخل في الرهن). لأن حق المرتهن ثابت في الرقبة، مستقر فيها، فيسري ذلك الحق في الولد، كما يسري في حق الكتابة، والتدبير، والاستيلاد في الأولاد. فإن قيل: فلم لا يسري حق ولي الجناية في ولد الجانية، لثبوت حقه في الرقبة في حال الولادة. قيل له: ليست الجناية حقا مستقرا في الرقبة، وإنما توجب الجناية أحد شيئين: إما الدفع، وإما الفداء، فلم يستقر الحق بنفس الجناية في الرقبة، فلذلك لم يسر في الولد. مسألة: [هلاك نماء الرهن] قال: (وإن هلك النماء الحادث في يد المرتهن: هلك بغير شيء). لأنه دخل في العقد على وجه البيع، كولد المبيعة الحادث في يد البيع، يدخل في البيع تبعا، ولا يسقط بهلاكه شيء من الثمن، كذلك ولد الرهن.

مسألة: [هلاك الأصل وبقاء النماء] قال: (وإن هلك الأصل، وبقي النماء: هلك بحصته). كالمبيعة إذا هلكت في يد البيع، وبقي الولد. مسألة: [تقدير قيمة الهالك] قال: (وتعتبر قيمة الولد يوم الفكاك، وقيمة الأصل يوم العقد). كما تعتبر قيمة المبيعة يوم العقد، وقيمة الولد يوم القبض فيما ينقسم عليه الثمن. وإنما كان هذا هكذا، من قبل أن الولد ليس بمضمون، ولا يثبت له حكم في الرهن إلا عند الفكاك، وفي البيع إلا عند القبض، فلذلك اعتبر قيمتها على ما وصفنا. مسألة: قال: (والقول قول الرهن في مقدار الدين). لأن الأصل أنه بريء الذمة من حق الغير، فلا يلزمه إلا مقدار ما اعترف به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه". ولأنه لو أنكر الدين رأسا والرهن، كان القول قوله، كذلك يرجع إلى قوله في مقدار ما اعترف به.

مسألة: [اعتبار قول المرتهن في قيمة الرهن] قال: (والقول قول المرتهن في قيمة الرهن، إذا هلك في يده). لأنهما إذا اختلفنا في مقدار ما استوفاه، فالقول قوله فيه. كما لو اختلفا في مقدار ما قضاه من غير رهن، كان القول قول الطالب؛ لأن الأصل بقاء الدين الذي علم وجوبه، فالقول قوله في مقدار ما برئت منه ذمته. والأصل في جميع ذلك: أن كل من اعتصم بالظاهر: فالقول قوله ومن ادعى خلاف الظاهر: فعليه البينة. وإن شئت قلت: إن من ادعى أمرا حادثا: فهو المدعي، وعليه البينة، ومن أنكره: فهو المدعى عليه، والقول قوله مع يمينه. *****

كتاب المداينات

كتاب المداينات مسألة: [البائع أسوة الغرماء لو أفلس المشتري] قال أبو جعفر: (وإذا أفلس المشتري، أو مات وقد قبض المبيع: فالبيع أسوة الغرماء، ولا يكون أحق بالمبيع من سائرهم). وذلك لقول الله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}. ودلالة هذه الآية على ما قلنا من وجهين: أحدهما: أنه أباح للمشتري الأكل والتصرف فيه، موسرا كان أو معسرا. الثاني: أنه منع البيع أخذه إلا برضا المشتري، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه". وأيضا: فلما سلمه إلى المشتري، فقد رضي بإسقاط حقه من عينه، فلا فرق بينه وبين غيره؛ لأن ثمنه في ذمة المشتري، لا في العين، فكان كسائر الغرماء.

ونظيره المرتهن إذا رضي برد الرهن إلى الراهن، فيكون هو وسائر الغرماء فيه سواء. وما روي في حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من وجد متاعه عند رجل قد أفلس، فهو أحق به من سائر الغرماء". فإنه محمول عندنا على حقيقة اللفظ، وهو أن يكون وجد ملكه في يد غيره وديعة، أو مضاربة، أو نحوها، فيكون أحق به، ولا يجوز أن يحمل على من باع متاعا، فوجده في يد مشتريه وقد أفلس؛ لأن هذا وحج متاع غيره، ولم يجد متاعه. ويحتمل أن يكون معناه: ما روى سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: "من وجد متاعه عند رجل قد اشتراه، فهو أحق به، ويرجع المشتري على البيع بالثمن". فإن قيل: روي في حديث أبي هريرة هذه القصة في البيع. قيل له: إن صح: احتمل أن يكون معناه؛ أن المشتري قبضة بغير إذن البيع وهو مفلس لا يقدر على الثمن، فيكون البيع أولى برده إلى يده حتى يقضي الثمن، أو تباع له دون سائر الغرماء.

وأيضا: أصل الحديث ما ذكر في الخبر الأول: "من وجد متاعه عند رجل قد أفلس، فهو أحق به". ومن ذكر البيع من الرواة، فجائز أن يكون حمله على المعني عنده، وترك نقل اللفظ على وجهه، إذا كان من الرواة من يرى نقل المعنى دون اللفظ. وأيضا: يحتمل أن يكون الحديث فيمن اشترى سلعة في مرضه بحضرة الشهود، وقبضها، ثم أقر بدين في مرضه، فيكون صاحب السلعة أولى بها بعد الموت من غرماء المرض الذين أقر لهم. فإن قيل: روي في بعض ألفاظه: "فإن كان قد قبض بعض الثمن، فهو أسوة الغرماء". قيل له: مخالفنا لا يقول بذلك، ولو ثبتت الرواية: لم تدل على أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم، لجواز أن يكون من قول بعض الرواة، أدرجه في الحديث. وعلى أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك.

حدثنا محمد بن أبي حفص المدني قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن عبيد الله بن إلياس الحافظ قال: حدثنا واقد بن موسى قال: حدثنا عبدة بن سليمان المروزي قال: حدثنا أبو عصمة نوع بن أبي مرين عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أفلس الرجل، فوجد رجل متاعه عنده، فهو بين غرمائه". وحدثنا محمد بن أبي حفص قال: حدثني عبد الله بن إسحاق الأنماطي أبو محمد قال: حدثنا عبيد بن شريك قال: حدثنا هشام بن عمار قال: حدثنا صدقة بن خالد عن عمرو بن قيس عن ابن أبي مليكة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من باع بيعا، فوجده بعينه وقد أفلس الرجل، فهو بين غرمائه". وعلى أنه قد روي في خبر أبي هريرة الذي ذهب إليه مخالنا الفرق بين حال الحياة والموت. وهو ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عوف الطائي قال: حدثنا عبد الله بن عبد الجبار الخبائري قال: حدثنا إسماعيل بن عياش عن الزبيدي، -قال أبو داود: وهو محمد بن الوليد أبو الهذيل الحمصي- عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن

أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل باع متاعا، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا، فوجد متاعه بعينه، فهو أحق به، وإن مات المشتري، فصاحب المتاع أسوة الغرماء. قال: فإن كان قضاه من ثمنها شيئا، فما بقي فهو أسوة الغرماء". ففرق في هذا الخبر بين الموت والحياة، وبين أن يكون قبض من ثمنها شيئا، أو لم يكن قبض، ومخالفنا قد تركه وسوى بين حال الموت والحياة. فإن قيل: لما كان ذلك عقد معاوضة، أوجب على كل واحد منهما تسليم ما أوجب ملكه لصاحبه، ثم بطلت ذمة المشتري بالموت، وصارت رقبة معيبة بالإفلاس: أوجب أن يكون للبيع الرجوع في عين المبيع، وفسخ البيع فيه؛ لأن الثمن قد صار معيبا قبل القبض، كما لو حدث بالمبيع عيب قبل القبض، كان للمشتري الخيار في فسخ البيع. وكما لو قلتم في الحوالة: متى مات المحتال عليه مفلسا، كان للمحتال الرجوع على المحيل؛ لأنه شرط في صحة الحوالة سلامة المال الذي أحال به له من جهة المحال عليه، لما لم يسلم له: كان له الرجوع على المحيل، كذلك يلزمكم مثله في البيع إذا أفلس المشتري أو مات. قيل له: أما سؤالك الإفلاس، فساقط على مذهب أبي حنيفة رحمه

الله؛ لأنه لا يرى الإفلاس شيئا، ولا يوجب به لمحتال الرجوع على المحيل. وأما موت المشتري مفلسا، فمخالف للعيب الحادث بالسلعة قبل القبض؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون موته موجبا لانتقاض البيع، وعود الشيء إلى ملك البيع، لبطلان الذمة التي كان فيها الثمن، كما يبطل البيع بهلاك المبيع قبل القبض، فلما لم يوجب أحد انتقاض البيع بموت المشتري مفلسا، علمنا أن موت المشتري لم يوجب عيبا في الثمن. وأيضا: فإن البيع قد كان ثبت له حق الحبس بنفس العقد، ليكون أحق به بعد الموت من سائر الغرماء، أسقط هذا الحق، فاستوى هو غيره، كالمرتهن إذا رضي برد الرهن على الراهن، يكون وسائر الغرماء فيه سواء، وكذلك مسألة الحوالة، لا يلزم على هذا، من قبل أن البيع قد أسقط حقه الذي أوجبه له العقد بتسليمه، فلا سبيل له إلى فسخه. وأما مسألة الحوالة، فلم يتعلق بها حق أوجبه له العقد فأسقطه، وإنما أحال بالمال على أن يسلم له، ولم يجعل له قبض شيء قد كان حقه متعلقا به، فلما لم يسلم له، رجع بالمال على المحيل. ثم يقال لمخالفنا: فهلا أوجبت الرجوع في الحوالة بموت المحال عليه وإفلاسه، قياسا على البيع، فمن حيث لم يلزم مسألة الحوالة على أصلك في البيع، كذلك لا يلزمنا مسألة البيع على الحوالة، فقد سقط هذا السؤال من هذا الوجه؛ لأن كل سؤال يرجع على سائله من حيث يريد

إلزامه خصمه، فهو ساقط من أصله. مسألة: [حبس المدين بطلب الغرماء] قال أبو جعفر: (وإن سأل الغرماء القاضي حبس المطلوب بدينهم، وقد ثبت عنده: فعل ذلك به). قال احمد: "روي عن الحسن أن ناسا من أهل الحجاز اقتتلوا، فقتلوا بينهم قتيلا، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسهم". "وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم". فإذا استحق الحبس في التهمة، فبالظالم أحرى أن يستحقه. "وحبس النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة لما نزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، ثم قتلهم". وروى أبو مجلز "أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا أعتق

شقصا له في مملوك، حتى باع غنيمه له". وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لي الواجد يحل عرضه، وعقوبته". ومعلوم أنه لم يرد الضرب، فثبت انها الحبس. وروي الحبس في الدين عن علي رضي الله عنه، وعن جماعة من السلف. مسألة: [بيع مال المدين] قال أبو جعفر: (فإن سألوه بيع ماله، لم يبعه إلا الدراهم بالدنانير، أو الدنانير بالدراهم في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: يبيع العروض، وكل شيء). لأبي حنيفة: قول الله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه". ولما "روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا اعتق شقصا له في عبد حتى باع غنيمه له". ولو جاز أن تباع عليه، لباعها النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجبره على البيع بالحبس. *وما "روي أن النبي صلى الله عليه وسلم باع على معاذ ماله": فإن معناه عندنا أنه أمره بالبيع. وجائز أن يقال: باع عليه، إذا أمره بالبيع، كما روي في حديث سويد ابن المقرن، "أنه كانت له جارية، فلطمها أحدهم، فقال في بعض ألفاظ الحديث، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعتقها". وفي بعضها: فأعتقها النبي صلى الله عليه وسلم"، فأضاف العتق

إليه، إذ كان بأمره. وكقول الله عز وجل: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم}، ومعلوم أنه لم يكن يلي ذلك بنفسه، وإنما كان يأمر به. ولا يحتمل حديث غير ما وصفنا، من قبل أن أحدا لا يرى البيع على الغريم، إلا في حال امتناعه من البيع، وقضاء الدين، ولا جائز أن يكون معاذ ممتنعا من قضاء الدين، وبيع ماله مع إلزام النبي صلى الله عليه وسلم إياه ذلك، فعلم أن معنى الخبر، أنه أمره بالبيع. *ووجه آخر للمسألة وهو أن نقول: الغريم لما كان جائز التصرف في ماله، ولم يستفد الولاية من ماله، والتصرف فيه من جهة القاضي، وجب ألا يجوز تصرف القاضي عليه بالبيع؛ لأن تصرف الإنسان إنما

يجوز على غيره إذا كان الغير استفاد جواز تصرفه من جهة أمره، كالصبي المأذون له، والعبد المأذون له، فأما من كان جائز التصرف على نفسه، ولم يستفده من جهة غيره، فهذا لا يجوز تصرف الغير عليه، قياسا على الأحرار البالغين الذين لا حق عليهم لأحد. *وهذا القياس في الدراهم والدنانير، إلا أن أبا حنيفة استحسن فيهما، فأجاز للقاضي بيع أحدهما بالآخر، وذلك لأنهما في كثير من الأحكام كالشيء الواحد، وبهما تقوم المستهلكات، إن شاء بالدراهم، وإن شاء بالدنانير، وأن كل واحد منهما ينوب عن صاحبه في الزكاة. وقد اتفق أصحابنا على أن المضارب يشتري بالعروض ما تشاء بعد موت رب المال، ولو كان في يده دراهم، ورأس المال دنانير: لم يكن له أن يصرفها إلا في رأس المال. * (وأبو يوسف ومحمد يبيعان العروض وغيرها في الدين). لما روي في قصة معاذ. مسألة: [بيع القاضي أموال المطلوب بموته] قال أبو جعفر: (وإن مات المطلوب: باع لهم القاضي جميع ذلك، في قولهم جميعا للغرماء، والعهدة فيه على الغرماء، دون الورثة). وذلك لأن ولاية الميت قد زالت عن نفسه بالموت، فجاز تصرف القاضي عليه، كالصغير، والمعتوه، وسائر من لا ولاية له في ماله. وتكون العهدة على الغرماء؛ لأن البيع وقع لهم، كرجل أمر رجلا

ببيع عبده، فباعه ثم استحق، فإن ضمان الثمن على الآمر إذا لحقه درك. ولا ضمان على القاضي في ذلك، لأنه تصرف فيه من جهة الحكم، وما تصرف فيه القاضي من طريق الحكم، ولا يلحقه فيه ضمان، لأنه لو لحقه فيه ضمان، لكان خصما فيه، وكونه خصما فيه يمنع جواز حكمه؛ لأن حكمه لا يجوز فيما يكون خصما فيه. مسألة: بالدين الآجل يحل بموت المدين] قال أبو جعفر: (ومن مات وعليه دين إلى أجل: فقد حل دينه). وذلك لأن مال الميت لا يخلو من أن يكون محبوسا على الدين، ممنوعا منه الوارث، أو يكون للوارث تصرف فيه إلى وقت حلول الدين، فإن سلمناه إلى الوارث، كان ذلك خلاف الكتاب؛ لأن الله تعالى جعل الميراث بعد الدين بقوله: {من بعد وصية يوصين بها أو دين} وإن حبسناه على الدين، ومنعناه الورثة، لم يكن في حبسه حق لأحد، والأجل إذا لم يكن حقا لأحد: سقط، فوجب أن يحل الدين.

فصل: [يطلق المطلوب إذا ثبت فقره، وتجوز ملازمته] قال أبو جعفر: (ومن ثبت عند القاضي عدمه بعد حبسه إياه: أطلقه، ولم يحل بينه وبين غرمائه، وبين لزومه). وإنما قال: يطلقه؛ لأن الحبس عقوبة على منع الدين عند إمكان الأداء، فإذا لم يمكنه الأداء، لم يستحق العقوبة. وأيضا: قال الله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}، فأمر بإنظاره، لا يجوز للقاضي حبسه، مع أمر الله بإنظاره. *وأيضا: لم يحل بينه وبين لزومه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لصحاب الحق اليد واللسان". فقيل في معنى اليد: أنه اللزوم، واللسان: التقاضي والمطالبة. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أنظر معسرا، أو وضع عنه: أظله الله عز وجل في ظل عرشه". فجعل الإنظار إليه، فدل أنه لا يكون منظرا حتى ينظره، وإلا فله

لزومه، كما له أن لا يضع عنه، ولو لم يكن له لزومه: لكان منظرا. مسألة: [حبس المدين وإن ادعى الإعسار] قال أبو جعفر: (وإذا ادعى الغريم إعسارا، لم يصدق، وحبس). وذلك لأن دخوله في السبب الملزم له الدين اعتراف منه بلزوم أدائه، فلا يصدق على سقوطه بما يدعيه من الإعسار. *لا أبو جعفر: (ثم يسأل القاضي عنه بعد أن يمضي له في حبسه شهر). قال أحمد: روى محمد عنهم شهرين أو ثلاثة، وقال محمد عن نفسه: ما بين أربعة أشهر إلى ستة أشهر، ثم يسأل عنه. *وإنما حبسه بداءا، ولم يسأل عنه؛ لأن في حبسه اختبار حاله في الظاهر في يساره وإعساره، وفى الغالب أنه علمه يظهر في مثل هذه المدة، وتوقيت المدة اجتهاد. وجائز أن يكون له مال مخبوء لا يقف الناس عليه، فإذا حبسه مدة ما، يظهر أمره في العادة، ويلجئه الضجر بالحبس إلى إخراجه. فإذا لم يظهر ذلك، سأل عنه، فإن وقف على أن لا مال له: أطلقه. مسألة: [بيع أموال المدين لقضاء الدين منها] قال: (وإن كانت عليه ديون عاجلة وآجلة، فأمره القاضي ببيع ماله، فإنه يقضي أصحاب الديون العاجلة ديونهم، فإذا حلت الديون الآجلة:

دخلوا مع الذين اقتضوا ديونهم، فحاصصوهم). وذلك لأنه ليس لأصحاب الديون الآجلة حق القبض في الحال، فيسلم المال إلى أصحاب العاجل، فإذا حل الأجل: شاركوهم، من قبل أن ديونهم كانت ثابتة وقت القضاء، وإنما كانت المطالبة بالقبض متأخرة، فإذا صحت المطالبة: ساووهم. قال أبو بكر أحمد: وهذا قول أبي يوسف ومحمد؛ لأنهما يريان أثبات حق الغرماء في عين مال المطلوب بالإفلاس والحجر. وأما على مذهب أبي حنيفة: فلا يدخل أصحاب الديون المؤجلة، مع من قبض دينه على ذلك. مسألة: [إقرار المدين المحبوس بدين لغرماء آخرين] قال أبو جعفر: (ومن حبس بدين عليه لقوم، ثم أقر بدين لقوم آخرين، فإن أبا حنيفة وأبا يوسف كانا يقولان في ذلك: إقراره جائز، يشارك من أقر لهم أصحاب الديون الأولى). مسألة: [الحجر على المدين المحبوس] قال: (وإن سأل الغرماء الأولون القاضي- قبل إقرار غريمهم لغيرهم بدين- الحجر على الغريم، ومنعه الإقرار لغيرهم: لم يجبهم إلى ذلك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يجيبهم إلى ذلك، ويحجر على المطلوب، ويمنعه من الإقرار لغيرهم، ومن صرف ماله في هبة، أو صدقة، حتى يبرأ من الديون

التي حبسه فيها). قال أحمد: أبو يوسف مع محمد، وذلك مشهور من قوله، وأبو حنيفة وحده. وجه قول أبي حنيفة رحمه الله في إبطال الحجر على الحر: أن الحر البالغ لم يستفد التصرف قبل الدين من جهة الغرماء، ولا من جهة القاضي، لا يجوز حجره؛ لأن الحجر إنما يجوز من جهة من استفيد التصرف من جهته، كحجر المولى على العبد، والأب من ابنه الصغير، ونحوه. وأيضا: فإن الغريم يلزمه بإقراره حقوق الله عز وجل التي تسقطها الشبهة، وهي الحدود، فلأن حقوق العباد أولى، إذ لزمه ما سقط بالشبهة، فما لا يسقط بالشبهة أولى باللزوم، كسائر الأحرار البالغين من أهل التكليف. فإن قيل: العبد المحجور عليه تلزمه الحدود بإقراره، ولا يلزمه المال. قيل له: يلزمه ما يقر به من المال في ذمته، وإنما لا نجيز إقراره على المولى، لأنا لو أجزناه، أجزناه في ملك غيره، ولا يجوز إقراره في ملك الغير، وإنما يجوز على نفسه، ألا ترى أنه إذا أعتق، أخذ به. فإن قيل: المريض يجوز إقراره بالحدود، ولا يجوز إقراره في ماله مع غرماء الصحة، لأجل حقهم. قيل له: من قبل أن تصرفه في المال معتبر به حال الموت.

والدليل على ذلك: أن هبته من الثلث، وإن لم يكن عليه دين، فصار إقراره في الحكم كأنه واقع في الحال التي لا يجوز تصرفه في المال، وهي حال الموت، وفي تلك الحال لا يصح منه إقرار بالحدود، ولا غيرها، فلم تلزم على الغريم. وجعله أبو يوسف ومحمد بعد حجر القاضي، بمنزلة مريض عليه دين في الصحة. مسألة: [النفقة من مال المحبوس على من يجب عليه الإنفاق عليه] قال أبو جعفر: (وينفق في قول محمد من مال المحجور عليه المحبوس على من يجب عليه الإنفاق عليه). وذلك لأن وجوبها لم يتعلق بقوله، فهي كنفقته على نفسه. مسألة: [ليس لغريم مدين بدين آجل منعه من السفر] قال: (ومن وجب عليه حق إلى أجل، كان له السفر قبل حلوله، وليس لغريمه منعه). لأنه ليس له حق المطالبة في الحال، وليس له لزومه ولا حبسه، فلا سبيل له إلى منعه. *****

كتاب الحجر

كتاب الحجر مسألة: قال أبو جعفر: (وإذا بلغ الغلام رشيدا: دفع إليه ماله). وذلك لقول الله عز وجل: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم}. *قال: (وكذلك الجارية وإن لم تتزوج). وذلك لأن عموم اللفظ ينتظمهما. مسألة: [السن التي يدفع فيها المال إلى اليتيم] قال: (وإن بلغ واحد منهما غير رشيد، فإنا أبا حنيفة قال: لا يدفع إليه ماله حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا كملها دفع إليه ماله، ولم ينظر إلى رشده بعد أن يكون صحيحا في عقله. وفي قول أبي يوسف: إذا لم يكن رشيدا: حجر عليه في ماله، فكان بمنزلة الصغير، إلا في التزويج، فإنه يجوز بمهر المثل، ويجوز عتقه عنده، ويسعى العبد في قيمته، فيكون ذلك حاله حتى يؤنس منه الرشد، والرشد عنده: الصلاح في المال، فإذا ثبت ذلك أطلق عنه الحجر، وخلي

بينه وبين ماله. وقال محمد: إذا كان غير رشيد، كان محجورا عليه، حجر عليه القاضي، أو لم يحجر، فإن عاد رشيدا زال عنه الحجر، أطلق عنه القاضي أو لم يطلق. وقوله في الترويج كقوله أبي يوسف، وكذلك العتق، ثم رجع فقال: لا سعي على العبد المعتق). قال أحمد: أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يرى الحجر على الحر البالغ المكلف بحال. وأبو يوسف ومحمد يريان عليه من وجهين: أحدهما: الدين والإفلاس، ولا خلاف بينهما انه لا يصير محجورا عليه في ذلك إلا بحجر الحاكم. والآخر: الحجر من جهة السفه، وتبذير المال. واختلفا في حال وقوع الحجر، فقال أبو يوسف: لا يكون محجورا عليه إلا بحكم الحاكم؛ لأن الحجر مختلف فيه، ولا يثبت أو يحكم به الحاكم. وقال محمد: يصير محجورا عليه بنفس السفه، بمنزلة المريض يصير محجورا عليه في ماله بالمرض، من غير حكم الحاكم. وأما حجر التفليس، لا يثبت إلا بحكم الحاكم في قولهما جميعا؛ لأنه لا يعلم إفلاسه ولا يوقف عليه إلا بعد حبسه، واستبراء حاله زمانا،

وذلك لا يحصل إلا بحكم الحاكم. *قال أحمد: وأبو حنيفة رحمه الله يرى جواز إقراره وبيعه وتصرفه بعد البلوغ، وإن لم يدفع ماله إليه إلا بعد ما يصير له خمسا وعشرين سنة. والحجة لأبي حنيفة في بطلان الحجر على الحر لأجل السفه: قول الله عز وجل: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى} فأثبت عليه حكم سعيه، وهو عام في جميع تصرفه وأفعاله. ويدل على صحة قوله: قول الله عز وجل: {يا أيها الذين أمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه}، ثم قال: {فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل}. فأجاز مداينة السفيه والضعيف اللذين لا يقومان بضبط الإملاء، ولو كان السفه والضعف عن معرفة التجارة، وحفظ المال موجبا للحجر، لما جازت مداينتهما، ولكانا فيه بمنزلة الصبي والمجنون. فلما أجاز الله تعالى مداينتهما، مع وصفه لهما بالضعف والسفه، دل على أن الضعف والسفه عن حفظ المال، ليس بعلة في إيجاب الحجر. وقوله عز وجل: {ضعيفا}: عموم في جميع السفهاء المبذرين، والعاجزين عن حفظ المال. فإن قيل: قوله: {فليملل وليه بالعدل}: يدل على الحجر؛ لأنه أجاز

إملاء الولي عليه بالعدل. قيل له: ولم زعمت أنه أراد ولي السفيه، دون أن يكون المراد ولي الحق، وهو بذلك أولى؛ لأن الذي تجوز مداينته من الأحرار البالغين، لا يجوز تصرف أحد عليه. ويدل عليه قول الله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}، فأباح أكل المال بتجارة عن تراض، وهو عموم في السفيه وغيره. ويدل عليه من جهة السنة: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه". فأباحه لغيره بطيبة من نفسه، فانتظم ذلك السفيه وغيره. ويدل عليه أيضا: ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأزري وأبو ثور المفتي قالا: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء قال: أخبرني سعيد عن قتادة عن أنس "أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبتاع، وفي عقدته ضعف، فأتى أهله نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! احجر على فلان، فإنه يبتاع، وفي عقدته ضعف، فداع النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاه عن البيع، فقال: يا نبي الله! لا أصبر عن البيع، فقال رسول الله صلى الله عليه

وسلم: إن كنت غير تارك البيع فقل: هاء وهاء، ولا خلابة". فهذا الحديث يدل على بطلان الحجر على السفيه؛ لأن السفه لو كان موجبا للحجر، لما أطلق له النبي صلى الله عليه وسلم البيع حين قال الذي في عقدته ضعف: "لا أصبر عن البيع". ألا ترى أن سائر من يستحق الحجر، نحو الصبي، والمجنون لا يزول الحجر عنهم بأن لا يصبروا عن البيع، فثبت بذلك بطلان القول بالحجر، وأن نهي النبي صلى الله عليه وسلم إياه عن البيع، لم يكن على وجه الحجر، وإنما كان على جهة النظر له. وروى مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر "أن رجلا كان يخدع في البيع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذا بعت فقل: لا خلابة". فكان يقول ذلك إذا بايع، فلم يحجر عليه النبي عليه الصلاة والسلام، مع علمه بعجزه عن دفع الخيانة عن ماله، وقال له: أشرط: لا

خلابة، فدل على أن السفه والضعف عن حفظ المال لا يوجبان حجرا عليه. وقد روي في قصة منقذ بن عمرو مثل ذلك، رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان "أن منقذ بن عمرو أصابته آمة في رأسه، فكسر لسانه، وغاب عنه عقله، وكان لا يدع مع ذلك التجارة، وكان يغبن، فكان إذا باع بيعا يقول: أنا بالخيار: إن رضيت أخذت، وإن سخطت رددت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جعلني بالخيار ثلاثا". ويدل على بطلان الحجر من جهة النظر: ما استدللنا به فيما سلف من جواز إقراره بالحدود، وإيقاع طلاقه، وذلك يدل على نفي الحجر، ولزوم أحكام أقواله، كسائر الأحرار البالغين. وقد روي نحو قول أبي حنيفة في نفي الحجر عن إبراهيم، ومحمد

بن سيرين. *وأما أبو يوسف ومحمد، فأجازا من عقوده: النكاح، والعتق، والطلاق، لأن جد ذلك وهزله سواء، إلا أن الزيادة على مهر المثل الذي هو قيمة البضع لا تلزمه؛ لأن هذه الزيادة هو متبرع بها، إذ ليس بإزالتها شيء، كالمريض إذا تزوج بأكثر من مهر المثل، وكذلك العبد يسعى في قيمته، كالمريض إذا عتق، وعليه دين. فصل: وأما منع ماله قبل الخمس والعشرين سنة، ودفعه إليه بعدها، فإن أبا حنيفة ذهب فيه إلى ظاهر قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن أنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم}. فلو خلينا وموجب اللفظ، لمنعتاه المال أبدا حتى يؤنس منه رشده، فلما قال تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده}، وكانت؛ حتى: غاية يقتضي أن يكون حكم ما بعدها بخلاف الذي يكون قبلها، تضمنت الآية وجوب دفع المال إليه، والامتناع من قربه عند بلوغ أشده، فكان ذلك مجموعا إلى الآية التي فيها ذكر إيناس الرشد، فصار تقديرهما بمجموعهما كأنه قال: فإن آنستم منهم رشدا، وبلغوا أشدهم،

فادفعوا إليهم أموالهم. فاقتضت الآيتان بمجموعهما حكمين: أحدهما: منعه المال قبل بلوغ الأشد إذا لم يؤنس منه رشد. والثاني: دفع المال إليه بعد بلوغ الأشد، وإن لم يؤنس منه رشد. ثم الكلام في معني بلوغ الأشد، ومعرفة مقداره مسألة أخرى غيرها، وسنذكرها بعد الفراغ من هذا الفصل. وليس في منعه المال حجر عليه، إذ قد يجوز أن يمنع الإنسان من ماله لأسباب توجبه، ولا يوجب ذلك أن يكون محجورا عليه، مثل الرهن ممنوع من الرهن، والمؤاجر ممنوع مما آجر، وليسا محجورا عليهما. *وأما القول في المقدار الذي إذا بلغه الإنسان كان بالغا أشده، فإن طريقه الاجتهاد، وعليه الرأي، ولا سبيل لنا فيما كان سبيله ما وصفنا من المقادير إلا الاجتهاد، أو التوقيف، وذلك لأنه فصل بين حد الكبر وحال الحداثة. ولا يتوجه على القائل بشيء منه سؤال، كتقويم المستهلكات، ونفقات الزوجات، ونحوها من المقادير التي طريقها الاجتهاد إذا عدمنا فيها التوقيف، ولا سبيل إلى إثباتها إلا من طريق القياس، ولا يمكن إقامة الدليل عليه إذا كان طريقها الاجتهاد، إلا أنه وإن كان حاله ما وصفنا، فلا بد من ذكر جهة تغلب في النفس إثبات هذا المقدار بعينه دون غيره من المقادير، فنقول:

إنه قد قيل في بلوغ الأشد: إنه ثماني عشر سنة، وقيل: اثنتان وعشرون سنة، وقيل: خمس وعشرون سنة. وقال الله تعالى: {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة}، فلما اتفق الجميع على سقوط اعتبار الأربعين سنة في جواز دفع المال إليه، لم يعتبرها، وبقي الكلام فيما عداها من المقادير التي ذكرنا، فكان عنده أن من بلغ خمسا وعشرين سنة فقد بلغ هذا الحد، وخرج من حد الحداثة إلى حد الكبر. وذلك لان مثله قد يكون جدا؛ لأن أقل بلوغ الرجال في اثني عشر سنة، وأقل الحمل ستة أشهر، فقد يولد له وله اثنا عشر سنة ونصف، ثم يولد لولده مثل ذلك المقدار، فيكون هذا جدا في خمس وعشرين سنة، ومحال أن يكون جدا وهو في سن حد الصغر والحداثة، فلذلك كان اعتبار الخمس والعشرين أولى في دخوله في حد الكبر، وبلوغ الأشد، وبالله التوفيق. *****

كتاب الصلح

كتاب الصلح مسألة: [وجوه الصلح] قال أبو جعفر: (والصلح جائز على الإقرار، وعلى الإنكار، وعلى السكوت الذي لا إقرار معه ولا إنكار). الدليل على جواز الصلح على الإنكار: قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود}، والصلح عقد، فلزمه الوفاء به، لعموم اللفظ. ويدل عليه قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}، وعقد الصلح تجارة واقعة عن تراض. وقال الله تعالى: {والصلح خير}، وعمومه يقتضي جواز الجميع؛ لأنه كلام قائم بنفسه، غير مفتقر إلى ما قبله. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إسماعيل بن الفضل قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن قال: حدثنا مروان قال: حدثنا كثير بن

عبد الله المزني عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث: "أعلم أن الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا، والمسلمون عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالا". وهذا الخبر يدل على جواز الصلح على الإنكار من وجهين: أحدهما: قوله: "الصلح جائز إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا"، ولم يثبت ها هنا ما يوجب التحريم، فهو على الجواز. والثاني: قوله: "المسلمون على شروطهم"، والصلح شرط، فلزمه الوفاء به حتى يثبت التحريم. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن نصر بن منصور قال: حدثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلح جائز بين المسلمين". وظاهره يقتضي جواز الصلح في حال الإنكار، والإقرار.

وأيضا: فإن كل متعاقدين دخلا في عقد، فدخولهما فيه اعتراف منهما بجوازه. والدليل عليه: أالمتبايعين، والمتعاقدين عقد نكاح، متى ادعى احدهما فسادا في العقد، لم يصدق عليه، وكان القول قول مدعي الصحة منهما. فإذا كان كذلك، وجب أن لا يمنع تقدم الإنكار من صحة عقد الصلح بعده، كما لا يمنع صحة إقراره لو أقر له بالحق، إذ كان دخوله معه في عقد الصلح: اعترافا بجواز الصلح له. مسألة: [الصلح على عبد، فاستحق] قال أبو جعفر: (وإذا ادعى رجل دارا في يد رجل، فصالحه منها على عبد، فاستحق العبد: رجع المدعي على دعواه). وذلك لأن العبد لم يسلم له، وهو فإنما أبرأ من الدعوى على شرط سلامة العبد له، كالبيع فمتى لم يسلم له البدل، رجع في دعواه. فإن كان المدعى عليه صالحه على إقرار منه: كان ذلك بيعا، فإذا استحق العبد: أخذ الدار. وإن كان على غير إقرار: رجع المدعي على دعواه، كما كان قبل الصلح؛ لأنه أبرأ من الدعوى على شرط سلامة العبد له، فإذا لم يسلم له، عاد فى الدعوى. فإن قيل: إن كان دخوله في عقد الصلح اعترافا منه بجوازه، فهلا

جعلت له الرجوع في المدعى بعينه عند استحقاق البدل، كما لو أقر به، قيل له: لم نقل إن دخوله معه في عقد الصلح اعتراف منه بأن الشيء للمدعي، وإنما قلنا هو اعتراف بجواز العقد، وقد يجوز العقد وإن لم يكن الشيء له، بأن يدخل معه في الصلح افتداء من اليمين، وإسقاطا للخصومة. فصل: [وجوه الصلح على الإنكار] قال أحمد: الصلح على الإنكار من الاموال على أربعة أوجه: 1 - صلح من معلوم على معلوم، فيجوز. 2 - وصلح من مجهول على معلوم، فيجوز أيضا. 3 - وصلح من معلوم على مجهول، فلا يجوز. 4 - وصلح من مجهول على مجهول، فلا يجوز. وهذه الجملة ينتظمها حرفان: أن الصلح من المجهول جائز، وعلى المجهول غير جائز، وما يأخذه الدعي بعقد الصلح فهو محمول على أحكام البيع أن كان مالا، وإن كان منافع فعلى أحكام الإجارة. وما حصل للمدعى عليه إذا كان منكرا لحق المدعي، فهو في حكم المبرأ منه، ومن أجل ذلك جاز من المجهول. والدليل على ان المصالح عنه في حكم المبرأ منه: أن الصلح إنما هو إبراء وإسقاط. والدليل عليه: أنه لو صالحه من ألف درهم له عليه، على خمس مائة: جاز. وقد وردت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة كعب بن

مالك حين لزم غريما له في المسجد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "خذ النصف، فرضي بذلك". فثبت به جواز الصلح من الألف على خمس مائة، ولو لم يقع ذلك على جهة البراءة: لما جاز؛ لأنه كان يكون بيع ألف بخمس مائة. ومن الدليل على أنه براءة: أنا وجدنا عقد الصلح مخصوصا بهذا الاسم، دون غيره من العقود، فدل اختصاصه بهذا الاسم على أنه اختص به، لمعنى فارق به سائر العقود، وهو معنى البراءة. وإذا ثبت أنه براءة، جاز من المجهول؛ لأن البراءة من المجاهيل جائزة، لما بينا في غير هذا الموضع. ويدل عليه أيضا: ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا عليه السلام إلى بني جذيمة حين قتل خالد بن الوليد من قتل منهم، ودفع إليه مالا، وأمره أن يدي لهم قتلاهم، وما استهلك من أموالهم، قال: فودى لهم كل ما أخذ منهم حتى ميلغة الكلب، وبقيت في يده بقين من مال، فقال أعطيكم هذا مما لا تعلمونه، ولا يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم جاء فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام، فسر به النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ما يسرني بها حمر النعم".

فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم دفعه بقية المال إليهم عن المجهول الذي لا يعلمونه. *وأما الصلح على المجهول: فغير جائز، من قبل أن حكم المصالح عليه حكم البيع إن كان مالا، وحكم الإجارة إن كان منافع، ولا يجوز ذلك إلا على معلوم. وأيضا: فلأن المصالح عليه يقتضي العقد تسليمه إلى المدعي، فلا يصح في مجهول، لتعذر تسليمه. وبهذا المعني أيضا فارق المصالح عنه؛ لأنه في يد المدعى عليه لا يحتاج إلى تسليم. وأيضا: فإن المدعي معترف بأن ما أخذه على وجه البدل، فهو محمول على أحكام عقود المعاوضات، ولهذا المعنى قالوا: إذا وقع الصلح على دار، كان للشفيع فيها الشفعة، لإقرار المدعي بأنه أخذها ببدل، ولو صالح من دراهم ادعاها على دنانير، لم يفارقه حتى يقبض؛ لأن حكم المصالح عليه حكم عقد الصرف. ولو كانت الدراهم هي المدعاة، فجحد الذي في يديه، ثم صالحه على عبد أو دار: لم يكن للشفيع فيها شفعة؛ لأن الدار غير مبيعة في الحكم، وإنما هي مبرأ منها، لما بينا أن المصالح عنه مبرأ منه.

مسألة: [الصلح على خدمة عبد مدة معينه، ثم موته قبل تمامها] قال أبو جعفر: (ولو ادعى دارا في يد رجل، فصالحه منها على خدمة عبد له سنة، فخدمة بعض السنة، ثم مات العبد: رجع المدعي بمقدار ما بقي من الخدمة فيما قابله من الدار، على ما بينا في حكم الإقرار والإنكار. وكذلك لو مات المصالح او المصالح، وهو في حكم الإجارات). قال أحمد: قد بينا فيما تقدم أن المصالح عليه مأخوذ على وجه البدل، فإن كانت منافع: فهي إجارة، وإن كان مالا: فهو بيع. قال أحمد: وقد ذكر محمد هذه المسألة، ولم يذكر فيها خلافا، وذكرها أبو الحسن أيضا في المختصر، ولم يذكر فيها خلافا. وقال محمد في كتاب الصلح: لو صالحه على خدمة عبد له سنة، فقتل العبد خطأ، فأخذ قيمته: فإن صاحب الخدمة بالخير: إن شاء اشترى له بها عبدا، فخدمه، وإن شاء ترك ذلك، وكان على حقه في قول أبي يوسف، وفي قول محمد قد انتقض الصلح، ويعود على دعواه. وقال محمد أيضا في كتاب الصلح: ولو ادعى في دار في يدي رجل حقا، فأنكره، فصالحه من ذلك على سكنى بيت منها معلوم سنين مسماة: فإن ذلك جائز. فإن مات صاحب السكنى: كان ما في يده من السكنى لو ورثته.

وكذلك لو مات صاحب الدار، وبقي صاحب السكنى: فإن السكنى لصاحبه على حاله. ولا يشبه الصلح في هذا الإجارة في قول أبي يوسف. وقال محمد: يبطل ما بقي من السكنى، ويرجع المدعي على دعواه بقدر ما بطل من السكنى. فذكر الخلاف في هاتين المسألتين، ولم يذكره في المسألة الأولى. وينبغي في قول أبي يوسف أن تكون مسألة السكنى، وخدمة العبد سواء، في أن موت أحدهما لا يبطله، كما لم يبطله بقتل العبد إذا أخذ قيمته. ومن شيوخنا من كاف يفرق بين مسألة خدمة العبد، وبين مسألة السكنى في موت أحدهما، بأن في مسألة السكنى ادعاء حق في الدار، فصالحه على سكنى بيت منها، فالمدعي زعم أنه أخذ السكنى لا على جهة العوض من الحق المدعى في الدار؛ لأن حقه الذي ادعاه لا يخلو من أن يكون سكنى، فيكون ساكنا في حقه، فينتقل إلى ورثته، وإن كان حقه بعض الدار، فله أيضا حق السكنى، فلذلك حمل الأمر على ما وصفنا. وفي مسألة الخدمة أخذها عن عوض في قوله. قال أحمد: والصحيح عندي أنهما سواء، وأنه لا يبطل على قول أبي يوسف؛ لأنه قد نقل حق الخدمة إلى القيمة عند القتل، ولم يبطلها قتله، كما يبطل الإجازة. وقد سمعت أبا الحسن يقول في مسألة ذكرها محمد بعد ذلك فقال: لو أعتق صاحب الصلح العبد: جاز عتقه، وكان المدعي على حقه: أنه قول محمد عندي.

قال أبو الحسن: ويجيء في قول أبي يوسف أن يضمن المعتق قيمة عبد الخدمة. ألا ترى أن قاتل عبد الرهن، تؤخذ منه القيمة، فتكون رهنا مكانه، كما قال أبو يوسف في العبد المصالح على خدمته سنة إذا قتل، فأخذ قيمته. *وكان أبو الحسن رحمه الله يحتج قول أبي يوسف في مسألة العبد المصالح على خدمته إذا قتل: أنه أجراه في هذا الوجه مجرى الوصية بالخدمة، من قبل أنه لم يثبت عن هذه الخدمة للمدعى عليه بدل في الظاهر، فكأنها خدمة يستحقها بنفسها، كالعبد الموصى بخدمته. قال: ويدل على أن المدعى عليه لم يحصل له عنها بدل: أنه لو صالحه من دعواه على عبد، لم يجب للشفيع الشفعة في الدار المدعاة. وعلى هذا المعني أجرى أبو الحسن مسألة الصلح على سكنى بيت منها. فإن قال قائل: الوصية بالسكنى لا تنتقل إلى ورثة الموصى له، فإن كان الصلح بمنزلة الوصية، فالواجب أن يبطل بالموت. قيل له: ليس يمتنع أن نجعله بمنزلة الوصية من وجه، وإن اختلفا من وجه آخر، فأما وجهة اشتباههما فهي أن هذه خدمة، أو سكنى مستحقة بنفسها، فلا يبطلها قتل العبد، ولا موت أحدهما. ويختلفان من جهة أن هذا لا يبطله موت المدعي. ويفصل بينهما: بأن الموصي إنما أوصى بالخدمة لهذا، فإذا مات بطلت الوصية، لاستحالة وجود الخدمة الموصى بها، فلم يكن هناك بعد موته وصية تنتقل إلى الوارث.

وفي مسألتنا استحق الخدمة والسكنى بالعقد، فجاز أن تنتقل. إلا ترى أن الموصى له بالخدمة، ليس له أن يؤاجر العبد؛ لأنه لم يرض بالخدمة لغيره، وها هنا قد أثبت له حقا استحقه عليه بعقد الصلح، فيثبت ذلك لورثته. فإن قيل: فهذا إذا يكون خارجا عن الأصلين جميعا: الإجارة والوصية، لأن موت المستأجر، والموصى له، يبطل الإجارة والوصية. قيل له: لا يمتنع إذا أخذ الشبه من أصلين، أن يكون خارجا عنهما في بعض أحكامه، وإنما يشبه أحدهما في بعض أحكامه، والآخر في حكم آخر غيره. ألا ترى أن الهبة على عوض، لها حكم البيع من وجه، وحكم الهبة من وجه آخر، وهو مع ذلك خارج عنهما جميعا. مسألة: [ادعاء كل من الجارين الجدار الحاجز بينهما] قال أبو جعفر: (وإذا كان الجدار حاجزا بين دارين، فادعاه كل واحد من صاحبي الدارين، فإن كان الجدار داخلا في ترابيع بناء إحدى الدارين دون بناء الأخرى: فهو لصاحبها دون صاحب الأخرى. وإن لم يكن داخلا في ترابيع بناء واحدة من الدارين، وكان مرتبطا ببناء إحدى الدارين: كان لصاحبها. فإن لم يكن شيء من ذلك، وكان عليه حمولة خشب لإحداهما: فهو لصاحبها دون الآخر.

فإن كان متصلا ببناء إحداهما بتربيع، وللآخر عليه حمولة: فالحائط لصاحب التربيع، ويترك خشب الآخر بحاله). قال أحمد: الأصل في ذلك أن اليدين إذا اجتمعتا لرجلين في شيء، فإنما يستحقه آكدهما يدا، وأظهرهما تصرفا. والدليل على ذلك: أن رجلا لو كان راكب دابة، وآخر متعلق بلجامها: أن الراكب أولى بها، وإن كان الممسك باللجام له يد لو انفرد بها: لحكم له باليد فيها، إلا أن الركوب لما كان آكد في باب ثبوت اليد، كان صاحبه أولى. فقلنا على هذا، إن صاحب التربيع أولى من صاحب الاتصال بلا تربيع؛ لأن التربيع: أن يكون الحائط المتنازع فيه يداخل آخره آخر بناء الحائط الآخر، وذلك الحائط يداخل مالكه من جوانب البيت الأربعة، فيكون حينئذ بمنزلة الأزج، والبيت واحد، فيستحقه صاحبه. وكذا كان يقول أبو الحسن في معني اتصال التربيع. *وأما اتصال غير التربيع: فهو أن يداخل آخر الحائط المتنازع فيه آخر الحائط الأخر، ولا يكون لذلك الحائط اتصال بسائر حيطان البيت، أو الدار على نحو ما ذكرنا، فتكون حينئذ يد صاحب التربيع أظهر وأكد، هو أولى. فإن كان لأحدهما اتصال بغير تربيع، وليس للآخر اتصال ولا حمل:

فصاحب الاتصال أولى؛ لأن له ضربا من اليد لم يشاركه الآخر فيه، فكان أولى. *وإن كان لأحدهما عليه خشب، وللآخر اتصال بتربيع: حكم بالحائط لصاحب الاتصال، من جهة يده؛ لأن الاتصال متقدم يحمل الخشب. ولا ينزع خشب الآخر؛ لأن هذا يجوز أن يكون حقا له، ألا ترى أنه قد يجوز وقوع القسمة في الابتداء على أن يكون الحائط لأحدهما، والخشب الذي عليه لآخر: يترك على حاله، وبمنزلة السفل والعلو. ولأنه لا يجوز أن يستحق على الغير بالظاهر؛ لأن الظاهر إنما يدفع به، ولا يستحق به. وليس الاتصال في هذا كقيام البينة، لو قامت البينة لأحدهما، وللآخر عليه خشب: أمر بنزع الخشب؛ لأنه استحق ملك الحائط بالبينة، والبينة يستحق بها على الغير، فأمر الآخر برفع الخشب إلا أن يقيم البينة أنه يستحق تركها بحق يوجبه له. وأما صاحب اتصال التربيع، فإنما حكم له به من جهة ظهور يده، لا من طريق الاستحقاق، والظاهر لا يستحق به على الغير، ولصاحب الخشب أيضا يد ظاهرة، كيد صاحب العلو، فلذلك لم يؤمر برفع الخشب. والمحكوم له بذلك يستحلف إن طلب الآخر يمينه؛ لأنه مدعى عليه، كما يستحلف صاحب اليد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:

"اليمين على المدعى عليه". فإن نكل عن اليمين: قضي به عليه للمدعي؛ لأن النكول عندنا يستحق به. مسألة: قال أبو جعفر: (وإذا كان لرجل سفل، ولآخر عليه علو، فسقطا جميعا: لم يجبر أحدهما على البناء إذا أبى، وقيل لصاحب العلو: إن شئت فابن سفله، وابن عليه العلو الذي كان لك عليه، وامنع صاحب السفل من سفله حتى يؤدي إليك ما أنفقته عليه). وإنما لم يجبر واحد منهما على البناء إذا أباه؛ لأنه لم يتعد في طرحه، ولا يجبر على بناء ملكه لأجل صاحبه. ولصاحب العلو أن يبنى؛ لأنه لا يصل إلى حقه إلا بالبناء، فإذا بنى كان له منع صاحب السفل من السكنى حتى يعطيه قيمة البناء؛ لأن البناء ملك لصاحب العلو، فله أن يمنع صاحب السفل الانتفاع بملكه حتى يعطيه قيمته؛ لأنه لا يجوز أن نملكه إياه بغير بدل. والذي ذكره أبو جعفر من أنه يرد عليه النفقة، ليس بسديد، إلا أن تكون النفقة مثل قيمة البناء؛ لأنا نحتاج أن نملكه هذا البناء في الحال،

فتعتبر قيمته وقت التمليك. مسألة: [انتفاع الرجل بجناح مده من بيته على الطريق] قال أبو جعفر: (وإذا أشرع الرجل جناحا على طريق نافذ، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال: له الانتفاع به ما لم يمنعه من ذلك أحد، أو خاصمه فيه، فإن منعه أحد أو خاصمه فيه: لم يسعه الانتفاع به، وكان عليه نزعه. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا كان ذلك مما لا ضرر فيه: لم يكن لأحد منعه، وكان له الانتفاع به). وجه قول أبي حنيفة: أن حق كافة المسلمين ثابت في الموضع، إلا أن له الانتفاع به ما لم يمنع منه، كما له أن يقعد في الطريق، وينتفع بفنائه ما لم يؤذ به أحدا. فإن خاصمه فيه أحد: كان عليه نزعه؛ لأن كل أحد خصم في ذلك، إذ كل الناس متساوون في ثبوت الحق في الموضع. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا لم يضر أحدا: فله أن ينتفع به، إذ ليس فيه إبطال حق أحد. وهذا كما قال أبو حنيفة في أرض الموات، أن المحيي لها لا يملكها إلا بإذن الإمام في قول أبي حنيفة، لتساوي الكافة في الحق في الموضع. وفي قولهما: يملكها المحيي لها: أذن الإمام، أو لم يأذن، إذ ليس فيه إبطال حق أحد. *قال أحمد: قال محمد في كتاب الصلح: ولو كان لرجل ظلة،

أو كنيف شارع على طريق نافذ، فخاصمه رجل فيه، وأراد طرحه، فصالحه من ذلك على درهم: كان الصلح باطلا، ويخاصمه في طرحه متى شاء. ووجه ذلك: أن الطريق النافذ حق لجماعة المسلمين، ولا يجوز لأحد منهم تمليكه؛ لأنه ليس بحق صحيح يصح تمليكه، ولا يورث، ولا تؤخذ عنه الأعواض، فلا يجوز أخد المال على تركه. وله أن يخاصمه متى شاء؛ لأن حقه في الخصومة لم يسقط، إذ لم يصح إسقاطه. *قال محمد: وإن كان على طريق غير نافذ، فصالحه على دراهم مسماة: كان الصلح جائزا. قال أحمد: كان أبو الحسن يقول: قد حصل محمد هذه المسألة في غير هذا الموضع، فقال: إن كان الطريق ملكا لهم، وكان أصله دارا، أو أرضا بينهم, فبنوها حجرا، أو رفعوا بينهم طريقا: فإن الصلح جائز، من قبل أنهم مالكون، يورث عن كل واحد منهم ملكه إذا مات، ويجوز تمليكه، كدار بين رجلين. قال وإن كانت هذه السكة اختطت في الأصل هكذا: لم يجز الصلح؛ لأنها ليست بملك لهم، ولو احتاج المسلمون إلى هذه السكة لزحمة، أو غيرها، لتساووا فيها.

* قال محمد في كتاب الصلح: ولو صالحه على مائة درهم على أن يطرح الظلة عن هذا الطريق: كان ذلك جائزا؛ لأن في هذا منعة لأهل الطريق. وكان أبو الحسن يقول: يعنى محمد: أن صاحب الظلة هو الذي أخد المال على طرحه. وإنما أجاز ذلك؛ لأن له في هذا لموضع حقا، فإذا أسقط حقه من ذلك بعوض أخذه على أن يطرحه، جاز ذلك. فإن قيل: فالباني للظلة عليه طرحها، فكيف يجوز له أخذ العوض على ما عليه قلعه؟ أرأيت لو بنى أحد الشريكين في دار بينهما بغير أمر شريكه، هل يجوز له أخذ العوض على رفع بنائه؟ قيل له: لا يجوز ذلك في الدار، ويجوز في السكة التي ليست بنافذة، التي لا تملك لواحد منهم فيها إلا حق الانتفاع، إذ لا تصح قسمتها بينهم، وهي كفناء خاص لهم، دون غيرهم من الناس، فلو ربط فيها أحدهم دابة، لم يكن لصاحبة منعه، فلما كان له حق الانتفاع به من هذا الوجه، جاز صلحه على طرحه، على أن يأخذ الباني دراهم، إذ كان بذلك تاركا لحقه، والحق المتروك بمنزلة ما هو ملك له خاص؛ لأن لكل واحد الانتفاع به.

فإن قيل: لو كان كذلك، كان لا يكون له أن يخاصمه في طرحه؛ لأنه في حقه. قيل له: لأن البناء يبقى على الأيام، فيبطل حق الآخرين في الانتفاع، وهو يفارق أيضا ربط الدابة من هذا الوجه. *قال أحمد: ومن شيوخنا من كان يقول في جواب محمد في هذه المسألة إن معناه: أن المخاصم هو الذي أخذ الدراهم على طرحها، كأن الباني استأجره عليه، وذلك جائز، كما لو استأجره غيره. مسألة: [حكم مصالحة المدين الدائن على دينه الآجل ببعضه حالا] قال أبو جعفر: (وإذا كان لرجل على رجل مال إلى أجل، فصالحه على أن يعطيه بعضه حالا، وعلى أنه بريء مما بقي: فإن ذلك لا يجوز). قال أحمد: الأصل في هذه المسألة ونظائرها: أن ينظر إلى ما وقع عليه الصلح، فإن كان مما استحقه بعقد المداينة فهذا جائز، وما بقي فهو مبرأ منه. وإن كان مما لا يستحقه بعقد المداينة، فهذا عقد مستأنف بينهما، فيحمل على نظائره من العقود في صحته وفساده. فقلنا على هذا في مسألتنا: إن الخمس مائة المأخوذة في الحال، لم يستحقها بعقد المداينة، وإنما أراد أن يستحقها بعقد الصلح، وذلك عقد مستقل، فيه بيه الألف التي استحقها بعقد المداينة، بخمس مائة، عقد عليها عقد الصلح، فلم يجز ذلك؛ لأنه بيع ألف بخمس مائة. وعلى هذا قالوا: لو كان عليه ألف سود، فصالحه منها على خمس مائة بيض، أنه لا يجوز، لأن البيض غير مستحقة بعقد المداينة، وإنما يريد استحقاقها بعقد الصلح، فصار كثرى خمس مائة بيض، بألف سود.

وكذلك لو كان له عليه ألف درهم، فصالحه منها على مائة دينار، كان ذلك عقد صرف مبتدأ، فيجوز إن قبضها قبل الافتراق؛ لأنه لم يكن استحق الدنانير بعقد المداينة. ولو كان له عليه ألف بيض، فصالحه على خمس مائة بيض، أو سود جاز؛ لأن المأخوذ بالصلح مستحق بعقد المداينة، فهو آخذ لبعض حقه، ومبرئ من الباقي، لأن من له عليه دراهم بيض، كان له أخذ السود بغير رضا الغريم، لأنها دون حقه، ويعتبر ما أوجبه له عقد المداينة بما له أخذه بغير رضا الغريم، وما لم يوجبه عقد المداينة بما ليس له أخذه بغير رضا. ولو كان عليه ألف حالة، فصالحه منها على خمس مائة مؤجلة: جاز لما وصفنا؛ لأن المؤجلة مستحقة بعقد المداينة، فهو لم يأخذها بعقد ثان، فكان آخذا لبعض حقه، ومبرئا من الباقي. مسألة: [صالحه على الألف التي عليه على خمسمائة في يومه هذا] قال أبو جعفر: (ولو كان لرجل على رجل ألف درهم، فصالحه منها على خمس مائة درهم، على أن يدفعها إليه في يومه هذا، وعلى أنه إن لم يدفعها إليه حتى يمضي يومه هذا، عاد المال عليه كما كان: كان الصلح على هذا جائزا). وذلك لأن البراءة واقعة في الحال، وليست معلقة على خطر، فصحت، وإنما شرط فسخها بترك الدفع، وهذا جائز؛ لأن البراءة مما يلحقه الفسخ بعد صحته، ألا ترى لو أن رجلا أبرأ رجلا من دين له عليه: وقعت البراءة بغير قبول المبرأ، فإن رد المطلوب البراءة: انفسخت. وكذلك لو أن رجلا له على رجل مال، فصالحه منه على عبد بعينه، برئ منه المطلوب، فإن مات العبد قبل القبض: عاد المال على

المطلوب، وانفسخت البراءة. فلما كانت البراءة مما يلحقه الفسخ بعد وقوعه وصحته، جاز شرط فسخها بترك دفع المال في اليوم. ألا ترى أنه لو اشترى عبدا على أنه إن لم ينقده الثمن فيما بينه وبين ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما، أن ذلك جائز على ما شرط، وينفسخ البيع بترك نقد الثمن في الثلاث. كذلك البراءة واقعة في الحال، فإذا شرط فسخها بترك تعجيل الخمس المئين في اليوم، جاز ذلك، وعاد المال عليه إذا لم يف بالشرط. [مسألة:] قال أبو جعفر: (ولو كان صالحه على خمس مائة درهم، على أن يعجلها له في هذه اليوم، ولم يذكر شيئا سوى ذلك: جاز الصلح، وكان هذا والأول سواء في قول أبي حنيفة ومحمد. وفي قول أبي يوسف: لا يعود المال عليه إن لم يعجل). لأبي حنيفة ومحمد: أن قوله: عجل لي اليوم خمس مائة، على أنك بريء من الفضل، معلوم من الظاهر أن البراءة واقعة بشرط التعجيل، وأنه لولاه لم يبرئه، فصار كقوله: إن لم تعجلها، عاد عليك المبرأ منه، فلم يفرقا بين أن يكون ذلك ملفوظا به، وبين ما يكون منه معقولا من معناه. وأبو يوسف قال: البراءة واقعة، ولم يشرط عود المال بترك التعجيل فلا يعود. مسألة: [صالحه على جارية فاستحقت بعد أن أولدها] قال أبو جعفر: (وإذا ادعى رجل على رجل دارا، فأنكر، وصالحه

على جارية، وقبضها المصالح، فوطئها، وأولدها ولدا، ثم استحقت الجارية: يأخذها وعقرها وقيمة ولدها من المصالح. ويرجع المدعي في دعواه في الدار، فإن أقام بينة على الدار: قضي له بها، وقضي له بقيمة الولد على الذي صالحه على الجارية، وإن لم يقم على ذلك بينة: لم يكن له على المدعى عليه شيء غير الرجوع في الدعوى). قال أحمد: المصالح مغرور في باب صحة الدعوة، وحرية الولد مع الاستحقاق؛ لأنه وطئ على وجه الملك. ولم يختلف السلف فيمن اشترى جارية واستولدها، فاستحقت: أنه يصدق على الدعوة، وأن ولده حر الأصل، ويغرم للمشتري قيمة الولد، والعقر للمستحق. فكذلك المصالح بهذه المنزلة في باب صحة الدعوة، وحرية الولد، وضمان العقر، وقيمة الولد. ثم إن صح له ملك الدار: كان بمنزلة المشتري في الرجوع بقيمة الولد على المدعى عليه الدار؛ لأنه قد غره ببدل أخذه منه. وإن لم تقم له بينة على ملكها: لم يرجع بشيء. كمن وهب له جارية، فاستولدها، فلا يرجع على الواهب بقيمة الولد

التي غرمها للمستحق؛ لأنه ملكها بغير بدل، وعقد الهبة لا يوجب ضمانا ع الواهب. قال أحمد: والغرور الموجب للرجوع بقيمة الولد على الموجب للملك، إنما يكون باجتماع شيئين: أحدهما: أن يكون عقدا يوجب ضمانا، وهي عقود المعاوضات. والثاني: أن يكون التمليك واقعا برضا من كان التمليك من جهته؛ لأنه استحق عليه بغير رضاه، لم يلزمه ضمان قيمة ما تضمنه الذي حصل له الملك بالغرور. مثل الشفيع إذا بنى، ثم استحق، لم يرجع على المشتري بقيمة البناء. ومثل الجارية المسبية إذا أخذها المالك الأول من مشتريها من أهل الحرب، واستودلها، ثم استحقت، فضمن القيمة: لم يرجع المولى على المشتري بقيمة الولد؛ لأنه أخدها منه بغير رضاه. وكذلك الرجل يستولد جارية ابنه، فيغم له القيمة، ثم استحقها مستحق، فإنه يأخذها، وعقرها، وقيمة ولدها، ويرجع الأب على الابن بالقيمة التي أعطاه، ولا يرجع عليه بقيمة الولد؛ لأنه ملكها عليه بغير رضا، حسب ما قلنا في المسيبة ومسألة الشفعة. مسألة: [الصلح على عدم الاستخلاف حال الإنكار] قال أبو جعفر: (وإذا ادعى على رجل مالا، فأنكر، فصالحه

باب الشفعة في الدار حال الصلح

على دراهم على أن لا يستحلفه: فإن الصلح جائز، وهو بريء من اليمين). قال أحمد: هذه المسالة مبنية على جواز الصلح على الإنكار، والعلة فيهما واحدة، وهي أن دخولهما في العقد اعتراف منهما بجوازه، ولأن المدعي يزعم أنه أخذه عما له عليه، فيجمل أمره فيما أخذه على الجواز والصحة، حتى يتبين غيره. وأيضا: فهو بمنزلة الناكل؛ لأنه بذل المال صيانة لنفسه عن اليمين، والمال مما يصح بذله، فجاز أخذه من هذا الوجه. ويدل عليه قوله تعالى:} إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم {،وهذا واقع عن تراض. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه"، وقد أخذه بطيبة من نفسه، فجاز. باب: [الشفعة في الدار حال الصلح] قال أبو جعفر: (وإذا ادعى دارا في يدي رجل، فأقره، ثم صالحه على دراهم: فللشيع فيها شفعة). لأنه بيع، ولو أنكر: لم يكن للشفيع فيها شفعة؛ لأنه لم يعترف له، وقد يجوز أن يكون الصلح للبراءة من الخصومة، وصيانة النفس عن اليمين.

مسألة: [ادعى دراهم فصاحله على دنانير] قال: (وإن ادعى عليه دراهم، وصالحه على دنانير، ثم افترقا قبل أن يقبضها: بطل الصلح). لما بينا أن حكم ما يأخذه المدعي حكم الأعواض المأخوذة عن اعتبارها، فاعتبر فيه حكم الصرف في إيجاب القبض في المجلس. مسألة: [العيب في بدل الصلح إن كان عرضا] قال أبو جعفر: (ولو كان صالحه منها على عرض بعينه، فقبضه، ثم أصاحب به عيبا: كان له أن يرده على المدعى عليه، وينتقض الصلح بذلك، ويرجع عليه دعواه إن كان صالحه على إقرار). قال أحمد: وذلك لأنه مشتر للعرض، وعقود المعاوضات تقتضي صحة الأبدال من كل واحد منهما، فإذا وجده معيبا، كان له الرد والرجوع في البدل. *قال أبو جعفر: (فإن كان صالحه على إنكار، وكان العيب فاحشا: فالجواب فيه كذلك، وإن كان غير فاحش: فالصلح ماض). قال أحمد: قوله: "إن كان الصلح على إنكار: لم يرد بعيب فاحش": ليس بسديد، ومذهبهم أنه يرد بالعيب الفاحش وغير الفاحش؛ لأنه يرجع في الدعوى. ويجوز أن يقيم البنية، فيستحق المال الذي كان جعله بدلا عن العوض.

ويشبه أن يكون أبو جعفر جلعه كالمهر، والجعل، والخلع، والصلح من دم العمد، وليست مسألتنا من نظائر هذه المسائل؛ لأن هذه العقود لا تنفسخ ببطلان البدل، وفسخ الملك فيه، وإنما يرجع فيه بقيمه العرض المردود، فلا يرده إلا بعيب فاحش؛ لأن العيب غير الفاحش لا يستردك به حق في مثل هذا بالرد، لأن ذلك القدر قد يدخل فيما بين تقويم المقوين، فلم يرد لهذه العلة. مسألة: [ظهور العيب في بدل الصلح بعد جناية عليه] قال أبو جعفر: (ولو كان لما قبض العرض لم يجد فيه عيبا، حتى جنى عليه جان، فأخذ لها أرشا، ثم اطلع على عيب به قديم: فإنه يرجع بحصة العيب من الشيء الذي ادعى على دعواه فيه). وذلك لأن العقد ينفسخ في حصة العيب؛ لأنه لا سبيل له إلى فسخ الملك في العرض لما وجب من الأرش، على مابينا من مسائل البيوع. كمن اشترى عبدا، فقطعت يده في يد المشتري، ثم اطلع على عيب: فإنه يرجع بأرش العيب، ولا يرد، إلا أنه إذا كان الصلح على إنكار: رجع في الدعوى في حصة العيب. مسألة: [الصلح من غير المدعى عليه] قال أبو جعفر: (وإذا ادعى رجل على رجل مالا، فأنكره ذلك،

فصالحه غيره عنه بأمره: فالصلح جائز، والدراهم على الآمر، لا على المصالح. وإن كان بيغر أمره: فالصلح موقوف على إجازة المدعى عليه، فإن أجازه: جاز، وكانت الدراهم عليه، وإن لم يقبله ورده: بطل الصلح، وعاد المدعي على دعواه). قال أحمد: إذا صالح عنه بأمره، فهو وكيل، ولا يلزمه ضمان المال؛ لأنه بمنزلة الوكيل بالخلع على مال، والنكاح، وذلك لأن الصلح إبراء وإسقاط للحق، على ما تقدم من بيانه فيما سلف. ومعلوم أن البراءة ليست معنى يصح انتقالها إلى الوكيل، فصار كالوكيل بالعتق على مال، والطلاق على مال، والنكاح، إذ لم تكن هذه المعانى مما يصح نقله إلي الوكيل، فصار الوكيل معبرا فيه وسفيرا، ولا يتعلق به شيء من حقوق هذه العقود. وإذا صالح عنه بغير أمره: فهذا عقد موقوف، بمنزلة من طلق امرأة رجل على مال، أو أعتق عبده على مال، أو زوجه، فيكون العقد موقوفا على المعقود له ذلك، فإن أجازه: جاز، وكانت حقوق العقد متعلقة بالمجيز دون العاقد. قال أحمد: قالوا: لو ضمن المصالح المال، صح ضمانه ووقعت البراءة، كمن خاطب رجلا في طلاق امرأته على جعل، وضمنه فيكون المال عليه بالضمان، وذلك لأن البراءة لا يحتاج في صحة وقوعها إلى قبول المبرأ منه كالطلاق، وإنما يحتاج إلى القبول إذا

شرط فيها المال، ليسلم المال إلى المبرأ، فإذا كان هناك من صح عليه الضمان: تم العقد. *وإنما صح تبرع الغير بالضمان والأداء، لما روي في حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس "أن رجلا لزم غريما له بعشرة دنانير، فقال: والله ما عندي شيء أقضيكه اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تنظرة شهرا واحدا؟ قال: لا، قال: فأنا أحمل بها، فتحمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب الرجل، فأتاه بقدر ما وعده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أين أصبت هذا الذهب؟ قال: من معدن. قال: فاذهب، فلا حاجة لنا فيها، ليس فيها خير، فقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه بغير أمره" فإذا جاز الضمان عنه بغير أمره، جاز الأداء. ويدل عليه "حديث أبي قتادة في ضمانه لدينارين عن الميت، حتى

صلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام". فاستدللنا بذلك على جواز الضمان عن الغير بغير أمره، وجواز الأداء أيضا عنه بغير ضمان.

كتاب الحوالة والكفالة والضمان

كتاب الحوالة والكفالة والضمان مسألة: [الحواله وشروطها] قال أبو جعفر: (وإذا أحال رجل رجلا بمال له عليه، على رجل له عليه مثله، فرضي المحال والمحال عليه بذلك: فقد برئ المحيل من مال المحتال، وصار ما للمحتال على المحتال عليه، ولم يكن للمحتال أن يرجع على المحيل بشيء، ما لم يتو المال على المحتال عليه). قال أحمد: الأصل في جواز الحوالة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم، وإذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل". وفي بعض ألفاظه: "فليتبع". ومعنى الحوالة: تحويل المال من ذمة المحيل إلى ذمة المحتال، ومن أجل ذلك برئ المحيل، لاستحالة أن يكون محولا إلى ذمة غيره باقيا في ذمته، إلا أن من شرط بقاء الحوالة بقاء ذمة المحتال عليه، وإممكان استيفائه منها. وللمحتال أن يقبل الحوالة، وأن لا يقبل إن شاء؛ لأن له أن لا يبرئ

الذمة التي فيها المال، ولا ينقله إلى غيرها، لاختلاف أحوال الذمم، كما أن من له حق في عين، كان له أن لا ينقله إلى غيرها. ولا تصح أيضا إلا بقبول المحتال عليه؛ لأنه لا يجوز للمحيل إثبات دين في ذمة المحتال عليه لغيره إلا برضاه. وليس للمحال أن يرجع على المحيل بشيء، ما لم يتو المال؛ لأنه لما أمكنه استيفاء دينه من الذمة الني نقلها إليها: لم يكن له سبيل إلى إعادته في ذمة المحيل. كمن له على رجل مال، فاشترى به منه عبدا، فقد نقل ما كان له في الذمة إلى الغير. ثم لا سبيل إلى إعادته في دمة البيع ما أمكن استيفاء العين على حسب ما اقتضاه العقد. مسألة: [رجوع المحتال على المحيل عند هلاك المال] قال أبو جعفر: (فإن توى المال على المحال عليه: رجع المحتال بماله على المحيل). وإنما رجع فيه عند التوى، من قبل أنه لما شرط استيفاء الألف التي في ذمة المحال عليه عما كان له في ذمة المحيل، صار ذلك بمنزلة لو اشترى به عبدا، أنه قد نقل حقه من الألف إلى العبد، فإن سلم له العبد لم يرجع بالمال، وإن لم يسلم له العبد حتى مات، أو تعذر تسليمه عادت الألف التي قد برئ منها بعقد البيع في ذمته. ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " وإذا أحيل على

مليء فليتبع"، فأمره بالإتباع بشرط الملاء، كأنه قال: فليتبع ما دام مليا، فمتى لم يكن مليا، وتوى المالـ، كان له إتباع الأول، إذ كان الأمر بالإتباع تناول حال إمكان استيفاء المال من المحال عليه دون غيرها. وشرط الملاء: يدل على براءة صاحب الأصل بالحوالة؛ لأن المال لو كان باقيا في ذمة الأول: لم يضره أن لا يكون مليا، إذ كان المال باقيا في ذمة الأول. وليست الحوالة بمنزلة الرهن، في باب أن هلاكه يسقط الدين، ولا يوجب له الرجوع على الراهن، من قبل أنه قد حصلت له يد مضمونة على الرهن، فصار من أجل ذلك في ضمانه، فلم تحصل للمحال يد على المال باحتياله به، فلا يصير في ضمانه. فإن قيل: ليست الحوالة بمنزلة البيع، وإنما هى تحول المال إلى ذمة الثاني، فتصير به في ضمانه. والدليل على أنها ليست ببيع: أن بيع ما في ذمة الغير لا يصح، ولو كان بيعا كان بمنزلة بيع ألف بألف، فكان لا يجوز له مفارقته قبل القبض، لأنه صرف. قيل له: لم نقل إنها بيع فيلزم ما ذكرت، وإن كان من شرطها أن يسلم له ما في ذمة المحال عليه، وليس يقتضي ما قلنا أن يكون ذلك بيعا. ألا ترى أن القرض ليس ببيع، ولو كان بيعا، ما جاز له مفارقته حتى يقبض ما عليه، ولا يخرجه ذلك من أن تكون الألف المقبوضة مضمونة عليه بألف مثلها بدلا منها.

والكتابة عقد معاوضة، وليست ببيع، وكذلك الإجازة، والنكاح والصلح من دم العمد، ونظائرها من العقود المعقودة على شرط سلامة الأبدال، فكذلك الحوالة، وإن لم تكن بيعا فإن ذلك لا يمنع من أن يكون من شرط بقائها وصحتها إمكان استيفاء المال من جهة المحال عليه. وعلى أنا لو جعلناها كأنها هي الألف التي كانت للمحيل حولها إلى ذمة المحال عليه، لم يوجب دخولها في ضمان المحال. ألا ترى أن رجلا لو اشترى من رجل عبدا، ووضعاه فلى يدي عدل حتى ينقده الثمن، أن ذلك لا يوجب دخوله في ضمان المشتري وخروجه من ضمان البيع، فكذلك ما وصفنا. وقد روى عن عثمان بن عفان أن المحال يرجع عند التوى على المحيل، وقال: لا توى على مال امرئ مسلم. وروي نحوه عن شريح، ولا نعلم عن أحد من الصحابة خلاف ذلك. فصل: [وجوه هلاك المال لرجوع المحتال على المحيل] قال أبو جعفر: (والتوى في قول أبي حنيفة رحمه الله يكون من أحد وجهين: وهو أن يجحد المحتال عليه الحوالة، ويحلف له عليها عند القاضي: ولا يكون للمحتال بها بينة.

أو: يموت المحتال عليه معدما لا يترك شيئا فيه وفاء بالدين الذي احتيل به عليه، ولا كفيل له بالمال. فأي هذين الوجهين كان، فإن للمحتال أن يرجع بماله على المحيل. وفي قول أبي يوسف ومحمد: أن التوى يكون من ثلاثة أوجه: وجهان منها ما قال أبو حنيفة، والوجه الثالث: أن يفلس المحتال عليه، ويقضي القاضي بعدمه، ويخرجه من السجن، فأي هذه الثلاثة الأوجه كان: رجع المحتال بدينه على المحيل). وإنما كان الحلف والموت مع الإفلاس توى، من قبل أنه إذا حلف فقد انقطعت الخصومة فيما بينهما، وصار بريئا من حقه في الظاهر، فتعذر استيفاء المال من جهتة، فعاد المال على المحيل، بمنزلة إباق العبد المشترى في يد بيعه، فللمشتري فيه فسخ البيع، والرجوع بالدين، لتعذر تسليم البدل. وأما إذا مات مفلسا، فقد بطلت ذمته التي ثبتت فيها الحوالة، ولم يخلفها مال للميت يتحول الدين فيه، فصار بمنزلة موت العبد في يد بيعه، فينفسخ البيع فيه، ويرجع المشتري بالدين الذي اشترى بيه العبد. وأما الإفلاس في حال الحياة، فإنه لا يتوى به المال، من قبل أن أبا حنيفة لا يرى الإفلاس شيئا، ولا يتعلق به حكم عنده. ألا ترى أنه لا يوجب الحجر عليه, ولا يمنعه التصرف في ماله، فالذمة التي تحول إليها المال باقية على ما كانت عليه، لم تبطل، ولم يحدث فيها عيب، فلذلك لم يرجع به. *وأما أبو يوسف ومحمد، فمن أصلهما أن الإفلاس يوجب كون الذمة معيبة؛ لأنهما يريان الحجر، ومنع التصرف لأجل الإفلاس فيمن

عليه دين، فلذلك كان للمحتال الرجوع على المحيل. فصل: [الحوالة بغير أمر الذي عليه المال] قال أبو جعفر: (وإن كانت الحوالة بغير أمر الذي كان عليه المال: جاز أيضا، غير أن المحتال عليه إذا أدى المال، لم يرجع على المحيل بشيء إن لم يكن عليه شيء، وإن كان له عليه مال: فماله بحاله). وإنما جازت الحوالة بغير أمر الذي عليه المال؛ لأن براءته من المال ليست بموقوفة على قبوله، ألا ترى أنه لو أبرأه من المال بغير حوالة، صحت البراءة، ما لم يفسخها بالرد، فإذا كانت حوالة: احتيج فيها إلى قبول المحال عليه؛ لأن المحيل لم يرض بإبراء صاحب الأصل إلا بضمان المحال عليه. وهذا مثل الطلاق، أنه يصح وقوعه من جهة الزوج من غير قبول المرأة، فإن عقده بمال، لم يقع أو يحصل له المال، فإن خالعه أجنبي بغير أمر المرأة، وضمن المال، صح الخلع، لصحة المال له بضمان الأجنبي. والأصل في جميع ما قدمنا من جواز ضمان الأجنبي المال عن الذي عليه بغير إذنه، وجواز أدائه عنه متبرعا به، ما ذكرنا من حديث ابن عباس وأبي قتادة.

مسألة: [تصرف المحال والمحال عليه في مال الحوالة] قال أبو جعفر: (وللمحال أن يصارف المحال عليه مما عليه، ويجوز إذا قبضه قبل الافتراق). وذلك لأن دين الحوالة ليس بمبيع في الذمة، ولا قبضه مستحق في المجلس، وكل ما كان هذا وصفه من الديون، جاز التصرف فيه قبل القبض، كالقرض، وثمن المبيع، والغصب، ونظائره من الديون، فلما لم يكن من شرط الحوالة قبض المال في المجلس، ولا كان معينا في الذمة، جاز التصرف فيه قبل القبض بالصرف وغيره، إلا أنه في الصرف يحتاج إلى قبض البدل في المجلس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر حين سأله فقال: إني أبيع الإبل بالبقيع، فآخذ بالدراهم الدنانير، وبالدنانير الدراهم، فقال: "لا بأس به ما لم تفترقا، وبينكما شيء". قال أحمد: وإنما يجوز التصرف في مال الحوالة قبل القبض فيما كان للمحيل والمحال أن يتصرفا فيه قبل الحوالة، وذلك مثل ثمن المبيع والقرض ونحوه، فإن كان أحاله بدين لا يجوز التصرف فيه قبل القبض، مثل السلم، وثمن الصرف: فإنه لا يجوز للمحال أن يتصرف فيه قبل القبض، ولا يأخذ به شيئا غيره، كما لم يجز له التصرف فيه قبل الحوالة. مسألة: [الكفالة] قال أبو جعفر: (وإذا ضمن الرجل للرجل مالا عن رجل بأمره، ولا

شيء للمضمون عنه على الضامن: فقد وجب الضمان، وللمضمون له مطالبة كل واحد منهما). قال أحمد: الأصل في جواز الكفالة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم"، والزعيم الكفيل. "وتحمل النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دنانير عن رجل"، في حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس. وفي حديث قبيصة بن المخارق الهلالي قال: تحملت حمالة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها، ثم قال: يا قبيصة! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة حتى يؤديها ... "، وذكر الحديث. ولا يبرأ صاحب الأصل؛ لأنه لم تشرط براءته، وليس في صحة ضمانه ما يبرئ صاحب الأصل. والدليل عليه: حديث أبي قتادة، وهو ما حدثنا عن بشر بن موسى قال: حدثنا زكريا بن عدي، قال: وأخبرنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: مات رجل فغسلناه وكفناه، ووضعناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل، ثم آذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليه، فجاء معنا خطى ثم قال:

لعل على صاحبكم دينا؟ قالوا: نعم. ديناران، فتخلف. فقال له رجل منا- يقال له أبو قتادة-: يا رسول الله! هما علي. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوثق على أبي قتادة، ويقول: هما عليك، وفي مالك، وحق الرجل عليك، والميت منهما بريء. فقال: نعم، فصلى عليه. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي أبا قتادة يقول: ما صنعت في الدينارين، حتى كان آخر ذلك، قال: قد قضيناهما يا رسول الله، فقال: "الآن حين بردت عليه جلده". فدله قوله: "الآن حين بردت عليه جلده": أن الميت لم يكن برئ من الدين بنفس الضمان حتى أدي. ويدل هذا الحديث أيضا على جواز أداء المال وضمانه بغير أمر المضمون عنه. فإن قيل: لو لم يكن برئ بضمانه، لما صلى عليه. قيل له: إنما صلى عليه؛ لأنه صار بمنزلة من ترك وفاء، "وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لا يصلي على من مات وعليه دين لم يترك له وفاء، ويصلي على من ترك وفاء، ثم لما فتح الله تعالى

الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين، فترك دينا، فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته"، كذلك ذكر أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: فقد قال في حديث جابر هذا: إنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي قتادة: هما عليك، والميت منهما بريء. قيل له: معناه أنه يبرأ بأدائك، كما روي في حديث عثمان بن موهب عن ابن أبي قتادة في هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هما عليك بالوفاء": يعنى توفيه إياهما. ويدل على أن الميت لم يكن برئ منهما: أن صاحب الدين لم يكن حاضرا فيبرأ به. ويدل على أنه لم يبرأ: حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس حين "تحمل النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة دنانير، فجاء الرجل بذهب من المعدن ليؤديه، فقال: لا حاجة لنا فيه، فقضى عنه". ولو لم يكن الدين باقيا، لقال للرجل: ليس عليك، وقد برئت. فإن قيل: كيف يجوز أن يكون مال واحد في ذمة اثنين؟ قيل له: لا يمتنع ذلك، ألا ترى أن رجلا لو مات، وترك ابنين وألفي درهم، فأخذ كل واحد منهما ألف درهم، واستهلكه، ثم أقام رجل البينة

أن له على الميت ألف درهم دينا، أن له أن يطالب كل واحد منهما بالألف، فصارت ألف واحدة، كلها في ذمة هذا، وكلها في ذمة الآخر. وكذلك لو كاتب عبدين له على ألف درهم كتابة واحدة، على أن كل واحد كفيل عن صاحبه، فالألف كلها على هذا، وكلها على هذا. مسألة: [رجوع الضمين على المطلوب بما أداه للطالب] قال أبو جعفر: (فإن طالب به الضمين، فأداه إليه: فإن له أن يرجع على المطلوب). وذلك لأنه ضمنه بأمره، فصار ذلك استقراضا منه للمؤدي، ألا ترى أن من قال لرجل: اقض فلانا ما له علي من دين: أن ذلك بمنزلة قوله: ملكني الألف التي في ذمتي، بألف تعطيها إياه، يكن لك علي مثلها: فصار كعقد معاوضة. مسألة: [لا يطالب الضمين المطلوب قبل الأداء] قال أبو جعفر: (وليس للضمين أن يطالب المطلوب بالمال قبل الأداء، ولكنه يطالبه بتخليصه مما ادخله فيه). وإذا لم يكن له أن يطالبه بالمال قبل الأداء، لأنه لم يملكه بعد الدين الذي عليه للطالب في ذمته، فلم يكن في معنى المستقرض: لم يكن له الرجوع عليه، إلا أن له مطالبته بتخليصه مما أدخله فيه؛ لأنه بأمره ضمنه. فإن قيل جواز عقد الشرى بين الكفيل والمطلوب فيما ضمنه عنه، يدل على ثبوت المال عليه بعقد الكفالة. قيل له: إنما جاز ذلك بوجود سبب ملك الدين في ذمته، وهو صحة الضمان بأمره.

وقد يجوز أن يقال: إن الضمين قد ملك المال على المطلوب حسب ما ملكه الطالب عليه، ولكنه لا يرجع عليه حتى يؤدي، بمنزلة الدين المؤجل. مسألة: [الضمان بغير أمر المطلوب] قال أبو جعفر: (وإن كان الضمان بغير أمر من المطلوب: لم يرجع عليه بشيء). لأنه متبرع به. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه سلم لأبي قتادة حين أدى الدينارين: "الآن بردت عليه جلده". ولو كان ضمانه بغير أمره يوجب له الرجوع، لكان الدين باقيا لأبي قتادة على الميت، كما كان للطالب عليه، وهذا ينفيه قوله: "الآن بردت عليه جلده"؛ لأنه يقتضي براءته من الدين، ولو كان دين أبي قتادة باقيا عليه، لما كان قد برد عليه جلده. مسألة: قال أبو جعفر: (والكفالة والحمالة كالضمان في جميع ما وصفنا). وذلك لأن هذه عبارات عن معنى واحد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الذي عليه عشرة دنانير: "أنا أتحمل بها عنه"، وفي حديث

قبيصة بن المخارق: "وجل تحمل حمالة". وكذلك القبيل، والضمين، والزعيم. قال أحمد: ومن الناس من يظن أن قوله تعالى:} ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم {: أن ذلك كفالة، وليس من الكفالة في شيء؛ لأن القائل لذلك مستأجر لمن جاء به، وهو الذي يلزمه ضمان الأجر بعقد الإجارة، سواء شرط الضمان أو سكت، لقوله:} وأنا به زعيم {، يعنى ضامن للأجرة التي عقد عليها لمن جاء به، وليس ذلك كفالة، ولا ضمانا عن إنسان. مسألة: [يشترط في الكفالة قبول الطالب] قال أبو جعفر: (ولا تجوز الكفالة إلا بقبول الطالب مخاطبا له بذلك، إلا في خصلة واحدة، فإن أبا حنيفة كان يجيز الضمان فيها بغير قبول ممن ضمن له، وهي أن تحضر الرجل الوفاة، فيقول لورثته: إن علي ديونا فاضمنوها علي، فيضمنوها بغير محضر من أهلها، ثم يموت الذي هي عليه: فيجوز الضمان فيجوز الضمان في ذلك استحسانا. وأما أبو يوسف ومحمد، فكانا يجيزان الكفالة بغير قبول من المكفول له في جميع ما ذكرنا).

قال أحمد: محمد مع أبي حنيفة، وأبو يوسف وحده، قد ذكره محمد في الأصل، وفي غيره. وما ذكره من قول أبي يوسف في جواز الضمان بغير قبول المضمون له: فإن محمدا قال في الأصل: وقال أبو يوسف: تجوز الكفالة، وإن لم يحضر المضمون له. وكان أبو الحسن رحمه الله يقول: إن قول أبي يوسف: إن الكفالة موقوفة على إجازة المضمون له، وأن الخلاف بينه وبين أبي حنيفة إنما هو في: أنها تقف على قبول غائب عن المجلس أم لا؟ وقال في المختصر: وقال أبو يوسف: المريض في هذا وغيره سواء إذا ضمن رجل لرجل غائب عنه، فبلغه ذلك، فرضي: فهو جائز. قال أبو الحسن: يعنى أن الضمان خاطب المكفول عنه في الضمان عنه للغائب، ويحتمل أن يكون معنى ما ذكره محمد عن أبي يوسف في الأصل، أن الضمان جائز وإن لم يحضر الطالب، أنه واقع وإن كان موقوفا على إجازة الطالب. فأما وجه قول أبي حنيفة ومحمد: فهو أن الضمان عقد يقتضي قبول المضمون له كسائر العقود، وكل عقد اقتضى قبولا من غيره، فإنما يقف قبوله على حاضر في المجلس، كالنكاح والخلع والبيع، ونحوها من العقود، ولا تقف على غائب عن المجلس.

وأيضا: فلا سبيل له إلى إثبات الدين للغائب في ذمته إلا بقبوله، كما لا يصح تمليكه الأعيان إلا بقبوله، وإن كان متبرعا بها كالهبة، والصدقة، ونحوها، فمن حيث اقتضى قبولا من المضمون له، وجب أن يتعلق على المجلس، كما تعلق قبول الهبة ونحوها. وأيضا: فلو قضاه إياه بغير ضمان متبرعا به، لم يصح قضاؤه له إلا بقبوله، فالضمان أولى بذلك، ولا خلاف في القضاء أنه لا يصح إلا بقبوله، وأن له أن يمتنع منه إذا لم يكن كفيلا، قد ذكره محمد في كتاب الحوالة والكفالة. *ووجه قول أبي يوسف: أنه جعل خطاب الضمين المطلوب عقدا واقعا موقوفا على قبول الغائب، كما قال في عقد النكاح إذا عقده واحد على الزوجين، أن يكون موقوفا على قبول الزوجين. *وأما وجه قول أبي حنيفة في إجازته كفالة الوارث عن الميت لغرمائه في مرضه: فهو أن حق الورثة يثبت بالمرض في مال المريض، فيصير حال المرض كحال الموت فيما يتعلق به من حق الورثة. ألا ترى أن هبته تكون من الثلث، كأنها وصية أوصى بها بعد الموت، فلما كان ذلك، وكانت الورثة إنما يخلفون الميت في ملكه، ويقومون في مقامه، بدلالة أنهم يردون بالعيب على بيع الميت: جاز ضمانهم، وقاموا فيه مقام الميت. *قال: (والحوالة بمنزلة الكفالة في القبول). على ما قدمنا؛ للعلة التي ذكرناها في الكفالة. مسألة: [إبراء الطالب المطلوب براءة للكفيل أيضا] قال أبو جعفر: (وإذا أبرأ الطالب المطلوب من المال الذي كفل له

به، وقبل ذلك منه: برئ منه المطلوب والكفيل جميعا). قال أحمد: قبل أو سكت، فالبراءة واقعة ما لم يردها؛ لأنها إسقاط حق كالعتق والطلاق، إلا أنها يلحقها الفسخ، فتنفسخ بالرد، والطلاق والعتق لا ينفسخان بعد وقوعهما، فمن هذا الوجه يختلفان. فإذا أبرأ صاحب الأصل: برئ الكفيل؛ لأن صحة الكفالة متعلقة بصحة الأصل، لأنه لا تصح الكفالة بما ليس بمضمون على إنسان، فإذا أبرأ صاحب الأصل: برئ الكفيل. وليس كالحوالة؛ لأنها تحويل المال من ذمته إلى ذمة المحال عليه، فجاز أن يبرأ منها صاحب الأصل إذا شرط تحويله إلى ذمة الغير. *وسوى زفر بين الحوالة والكفالة، فلم يبرئ صاحب الأصل فيهما، واستشهد بالمسألة التي ذكرنا، من أن براءة صاحب الأصل توجب براءة الكفيل، فلا يصح ضمانه على الغير مع براءة الذي عليه الأصل، وقد بينا وجه المسألة في أول الباب. مسألة: [إبراء الطالب الكفيل دون المطلوب صحيح] قال أبو جعفر: (ولو لم يبرئ منه المطلوب، ولكنه أبرأ منه الكفيل، وقبل ذلك منه الكفيل: برأ الكفيل من المال، وكان للطالب أن يرجع بالمال على المطلوب، وسواء في ذلك قبل الكفيل البراءة، أو لم يقبلها). قال أحمد: ليست صحة المال على صاحب المال متعلقة بصحته على الكفيل؛ لأن المال يصح ضمانه على صاحب الأصل من غير أن يكون به كفيل، وصحته على الكفيل متعلقة بصحة ضمانه في الأصل على المكفول عنه، فمن أجل ذلك كان إبراؤه صاحب الأصل، موجبا لبراءة الكفيل، ولم يوجب إبراءه الكفيل براءة صاحب الأصل.

وبراءة الكفيل واقعة وإن ردها، من قبل أنه ليس فيها تمليك؛ لأنها لو كانت موجبة للتمليك، لوجب أن يبرأ صاحب الأصل؛ لأنه غير جائز أن يملك ذلك المال غيره، وهو باق مع ذلك في ذمة صاحب الأصل، لأنه لا يجوز أن يبقى له ملك فيما قد ملكه غيره. ولما لم يقتض إبراء الكفيل تمليكا بحال، كان بمنزلة البراءة من سائر الحقوق التي لا تمليك فيها، نحو البراءة من العيب، وإسقاط خيار الرؤية بعد رؤية المبيع، وتسليم الشفعة، والعفو من دم العمد، ونحو ذلك من الحقوق التي إذا أبرأ منها: لم تنفسخ بالرد. وليس كذلك براءة صاحب الأصل، في باب أنها تنفسخ بالرد؛ لأن فيها تمليك أصل المال، فلذلك انفسخت بالرد. مسألة: [تصدق الطالب أو هبته المال للكفيل] قال أبو جعفر: (ولو لم يبرئه من المال، ولكنه وهبه له، أو تصدق به عليه، وقبل منه الكفيل: جازت الهبة والصدقة، وللكفيل أن يرجع بالمال على المطلوب). وذلك أن الهبة والصدقة من ألفاظ التمليك، ألا ترى أنها تملك بها الأعيان، وليست البراءة كذلك، ألا ترى أن الأعيان لا تملك بلفظ البراءة. وإذا كان كذلك، انتقل ملك المال إلى الكفيل، وبرئ المطلوب من مال الطالب، وصار المال للكفيل. وإنما جاز أن يملكه الكفيل، من قبل أن ذلك المال بعينه في ذمة الكفيل، فجاز تمليكه إياه، ورجع الكفيل بالمال على المطلوب، كما لو ملكه بالأداء، رجع به على المطلوب. *قال أبو جعفر: (وإن لم يقبل الكفيل الهبة ولا الصدقة: بطلت،

وكانت الكفالة على حالها). وذلك لأن الهبة والصدقة لما كانتا عقدي تمليك، كان له أن لا يقبل، ويفسخها بالرد، وكانت الكفالة بحالها، والمال على حاله يأخذ له أيهما شاء. مسألة: [تأخير الطالب مطالبة الكفيل لا يعتبر تأخيرا للمطلوب] قال أبو جعفر: (وإذا أخر الطالب المال عن الكفيل: لم يكن تأخيرا عن صاحب الأصل، وإن أخر عن المطلوب: كان تأخيرا عن الكفيل). وهذا علة ما بينا في براءة صاحب الأصل، أنها توجب براءة الكفيل، ولا توجب براءة الكفيل إبراء صاحب الأصل. فإن قيل: فقد يجوز أن يكون المال مؤجلا على صاحب الأصل، حالا على الكفيل، وهو أن يموت الكفيل فيحل عليه المال. وكالعبد المحجور عليه إذا أقر بمال، أو الفقير، فيكفل به عنهما رجل، فيكون المال على الكفيل حالا، وعلى العبد بعد العتق، وعلى الفقير إذا وجد. قيل له: إذا مات الكفيل، فإن الأجل حل عليه من جهة الحكم، ولم يكن سقوطه من جهة من هو عليه، فصار كأنه أداه في حياته حالا، فلا يرجع به على صاحب الأصل إلا إلى أجله. فأما العبد المحجور عليه، فليس المال مؤجلا عليه، ولكنه لا يطالب به في الرق؛ لأن الرق ملك للمولى، والعبد لا يملك شيئأ، فلم يجز إقراره على غيره، فهو بمنزلة الفقير الذي لا يملك شيئا.

وكونه فقيرا: لا يوجب أن يكون المال مؤجلا عليه؛ لأن المطالبة قائمة عليه في اللزوم. مسألة: قال: (وإذا صالح الطالب الكفيل من المال على بعضه: جاز). قال أحمد: وهو على ثلاثة أوجه: 1. إما أن يوقع الصلح مبهما، فيقول: قد صالحتك من المال على نصفه أو ثلثه: فيجوز، فيبرأ الكفيل وصاحب الأصل من البقية. 2. أو أن يقول: صالحتك على أن تبرأ أنت من البقية: فهذا لا يوجب براءة الأصل. أو يقول: صالحتك على أن تبرآ جميعا من الباقي: فيبرآن جميعا. وذلك لأن المال مال واحد، الذي على الكفيل هو الذي على صاحب الأصل، فإن صالح من المال على البعض، فالظاهر أنه قد أسقط حقه من الباقي. وإذا شرط براءتهما جميعا: فكذلك. وإذا شرط براءة الكفيل خاصة: لم يبرأ صاحب الأصل، إذ ليست صحة بقائه على صاحب الأصل متعلقة ببقائه على الكفيل، على ما قد بينا. مسألة: [ضمان العهدة] قال: (وقال أبو حنيفة ضمان العهدة باطل).

قال أبو أحمد: العهدة في كتاب الشرى، وهو للمشتري، فهو منزلة من ضمن لرجل ملكه، وهذا باطل؛ لأن صحة الضمان إنما تتعلق بما كان مضمونا على إنسان، فيضمنه الكفيل عنه، وكتاب الشرى ليس بمضمون على أحد فيضمنه الكفيل. وأما أبو يوسف ومحمد فقالا: إن حملنا الضمان على هذا المعنى: بطل، وصار لغوا، فحملاه على ضمان الدرك فيما عقد عليه الشرى، ليصح معنى الضمان، ولا يصير لغوا. مسألة: [صحة الكفالة بالمجهول، وإلى الأجل المجهول المتعارف] قال أحمد: والكفالة تتعلق ع الأخطار، وتصح في المجهول، وإلى الآجال المجهولة التي لها سبب في المال، أو جرت العادة من الناس بمثلها. فأما تعلها على الأخطار، فنحو قوله: ما بايعت به فلانا من شيء: فهو علي. و: وإن لم يوفك فلان اليوم ما لك عليه: فهو علي. وبالمجهول أن يقول: ما لك على فلان: فهو علي. والأجل المجهول: إلى الحصاد والدياس، وإلي قدوم فلان، وهو الذي عليه الأصل، أو: هو كفيل عنه: فهي جائزة إلى هذه الآجال؛ لأنها

أسباب قد يتعلق بها إمكان الأداء. ولو جعل أجلها إلى أن تمطر السماء، أو تهب الريح: لم يكن ذلك أجلا، وكان المال حالا عليه، ذلك لأن هذه الآجال ليس لها سبب في إمكان الأداء، ولا يتعارفها الناس آجالا. والأصل في جواز تعلقها على الأخطار: اتفاق الفقهاء على جواز ضمان الدرك، وهو خطر، لجواز كون الاستحقاق أو عدمه، وإذا جازت على الأخطار، جازت بالمجهول، وإلى الآجال المجهولة؛ لأن كل ما كان تعلقه على خطر، جاز في المجهول، وإلى أجل مجهول، كالطلاق والعتاق ونحوهما. وبهذا المعنى فارقت البيوع؛ لأن لها أصلا آخر، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أسلم فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم". ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وسائر الأخبار الواردة في هذا المعنى. *****

كتاب الشركة

كتاب الشركة مسألة: [وجوه الشركة] قال أحمد: الشركة على وجهين: شركة العقود، وشركة الأملاك. فأما شركة الملك، فهي مثل العبد بين رجلين، أو الدار ونحوها، أو دين بين رجلين لهما على رجل من ثمن عبد باعاه صفقة، أو غصبه رجل فاستهلكه، فهما شريكان في الدين، يقبضه أحدهما، شركه الآخر فيه. وأما شركة العقود، فهي على ضربين: شركة الأموال، وشركة الأبدان. وشركة الأموال تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: شركة المفاوضة، والثاني: شركة عنان، والثالث: شركة الوجوه. فأما شركة الأبدان فهي على وجهين: منها مفاوضة، وغير مفاوضة. [1 - شركة المفاوضة:] فأما شركة المفاوضة في الأموال، فإنها تنتظم الكفالة فيما يتعلق

بالتجارة، والوكالة العامة في التصرف، والخصومة والمساواة في جميع ذلك، وفي ملك ما يصح انعقاد الشركة عليه، وهو الدراهم والدنانير، وأن يكون جميع المال الذي تنعقد عليه الشركة داخلا في شركتهما. ولا تنعقد إلا بذكر لفظ المفاوضة مع ذلك في عقد الشركة، وذلك مروي عن أصحابنا. ومتى فقد شيء من هذه الشروط التي ذكرنا: لم تكن مفاوضة، وكانت شركة عنان. وقد قيل: إن المفاوضة أصلها المساواة، كما قال الأفوه الأودي: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا وقيل: إنها من التفويض، وهو أن كل واحد منهما يفوض أمره في التصرف في التجارة والخصومة وما يتعلق بها إلي صاحبه، وأقامه في ذلك مقام نفسه. وقد روي جواز شركة المفاوضة عن الشعبي وابن سيرين وغيرهما.

*وإنما جازت شركة المفاوضة؛ لأنها منتظمة لمعان، لو أفرد كل واحد منها، وعقد عليه: جاز، وهى الكفالة والوكالة في التصرف وفي الخصومة، والشركة، والمساواة في ذلك. فإن قيل: لو قال رجل لرجل: من بايعت من الناس فأنا ضامن لذلك: لم يصح الضمان على هذا الوجه، فكيف تنعقد عليه المفاوضة؟. وكذلك الوكيل بالخصومة، لا يصح إقراره عند غير القاضي، وقد أجزت إقرار أحد المتفاوضين على صاحبه عند غير قاض. قيل له: قد يجوز أن يتعلق بعقد المفاوضة من هذه المعاني ما لو أفرده لم يصح. ألا ترى أن المضاربة، تحتها وكالة بالبيع، وما يتعلق بالمضاربة من الوكالة لا يصح إفرادها؛ لأن المضارب يجوز له بيع ما يشريه، ولا يعمل نهي رب المال بعد الشرى، والوكالة المفردة من غير جهة المضاربة، يصح فيها النهي عن البيع بعد الشرى. وكذلك لو دفع إلى رجل مالا مضاربة بالنصف جاز، وتعلقت بها الوكالة في الشرى والبيع. ولو قال له: قد وكلتك. وسكت، لم ينتظم ذلك جواز البيع والشرى، فصار ما يتعلق باللفظ من طريق الحكم مخالفا لما تفرد به، ألا ترى أنه لا يجوز البيع على شرط خيار مجهول المدة، ولو باع عبدا، فاطلع المشتري على عيب، كان له خيار الرد بالعيب، وهو مجهول المدة. وكذلك لو اشترى إبريق فضة بمائة دينار، وافترقا، ثم وجد به عيبا، كان له الخيار في الرد، ولم يبطل العقد لأجل ما له فيه من الخيار، ولم يكن ذلك بمنزلة خيار الشرط.

فدل ذلك على أنه قد يجوز أن يتعلق بعقد المفاوضة من الكفالة والوكالة ما لا يصح إفراده لو انفرد عن المفاوضة. *وإنما قلنا إنها تنتظم كفالة عامة فيما يتعلق بالتجارة، وكان ضمنه ضمان التجارة، لئلا تدخل أروش الجنايات، ومهر المرأة، ونحوها في الضمان، إذ كان ذلك مما لا يتعلق بالتجارة، ولا يصح فيه عقد الشركة. *وشرنا إفساد المفاوضة بزيادة المال الذي تصح فيه الشركة؛ لأنه لو ورث عروضا، لم تفسد المفاوضة، ولو ورث دينا لم تفسد حتى يقبض، لأن العروض والدين لا تصح فيهما المفاوضة. [2 - شركة العنان:] وأما شركة العنان، فهي أن تعقد شركة على مال، يخرجه كل واحد منهما، على أن يشتريا ويبيعا في التجارات كلها، أو في نوع خاص، فهذا منهما، على أن يشتريا عنان، وكل واحد منهما يجوز تصرفه على صاحبه، كما يجوز تصرف المضارب. ويجوز فيها شرط زيادة الربح لأحدهما، وسواء خلطا المالين، أو لم يخلطا، وسواء تساويا في رأس المال، أو تفاضلا فيه، فهو جائز. ولا خلاف بين الفقهاء في جواز شركة العنان، وهو مما أقر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة عليه؛ لأن أهل كل عصر لم يخلو من ذلك، كالمضاربة، فصار أصلا بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم الأمة عليه، من

غير نكير على فاعله. وحدثنا دعلج بن أحمد قال: حدثنا وهيب قال: حدثنا عبد الله بن عثمان عن مجاهد"عن السائب بن أبي السائب أنه كان يشارك النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام في التجارة، فلما كان يوم الفتح قال: مرحبا بأخي وشريكي، لا يداري ولا يماري، يا سائب! قد كنت تعمل أعمالا في الجاهلية لا تقبل منك، وكان ذا سلف وصلة، وهي اليوم تقبل منك". وهى تنتظم الوكالة في التصرف في المال الذي عقدا فيه الشركة، واستحقاق الربح دون أن يكون واحد منهما خصما عن صاحبه، أو ضمينا له في شيء من ذلك، كالمضارب سواء. [وجه تسمية شركة العنان:] وقيل: إن قولهم شركة عنان، مأخوذ من عنان الدابة، فإن الراكب يشغل إحدى يديه بالعنان، والأخرى يصرفها كيف يشاء في غيره، كذلك شريك العنان، يتصرف من وجه في مال الشركة، ويتصرف مع ذلك لنفسه

كيف شاء في غير مال الشركة. وحكي لنا عن أبي جعفر بن أبي عمران أنه قال: قيل لأبي عاصم النبيل: ما معنى شركة العنان؟ فقال: كلمة تطرف بها أهل الكوفة، لا أصل لها في اللغة. قال أبو بكر: وهى مشهورة في اللغة، قال النابغة الجعدي: وشاركنا قريشا في تقاها ... وفي أحسابها شرك العنان بما ولدت نساء بني هلال ... وما ولدت نساء أبي أبان

وقيل: إن شركة العنان مأخوذة من قولهم: عن لي الشيء: أي ظهر لي، كما قال امرؤ القيس: فعن لنا سرب كأن نعاجه ... عذارى دوار في ملاء مذيل فكأنهما لما ظهر لهما العقد على التصرف في جهة دون غيرها، سموها شركة عنان. *وقد تكون شركة عنان، بأن يكون المال من عندهما جميعا، والعمل على أحدهما خاصة، فتجوز حينئذ بشرط فضل الربح للعامل، لأجل عمله، ولا تجوز بشرط فضل الربح للذي لم يعمل؛ لأنه لم يشر عمل، فهو إنما يستحق الربح بمقدار ملكه فحسب. [3 - شركة الوجوه:] وأما شركة الوجوه، فهي أن يشتركا من غير مال، على أن ما اشترياه من شيء، فهو بينهما نصفين، أو على الثلثين والثلث، ونحو ذلك: فهذا جائز.

وكذلك إن اشتركا في نوع خاص من التجارات: جاز أيضا، ويستحقان الربح على قدر الملكين، ولا يجوز لأحدهما أن يستحق ربح شيء من ملك صاحبه. وهي مخالفة لشركة العنان من هذا الوجه، وذلك لأن هذه الشركة ليست معقودة على العمل، لأن ما انعقد من الشركة لا يصح إلا في مال خاص، بمنزلة المضاربة، ولما صحت بغير مال حاضر لهما، دل على أنها ليست معقودة على العمل، وإنما هي وكالة، فلا يجوز لأحدهما أن يستحق ملك صاحبه، منزلة رجل قال لرجل: اشتر لنفسك عبدا على أن ربحه بينى وبينك، فلا يصح هذا الشرط، ولا يكون ذلك مضاربة، كذلك شركة الوجوه بهذه المئابة. ولا يلزم واحدا منهما ضمان ما لزم صاحبه إذا لم يشرطا فيها المفاوضة، وذلك لأن هذه الشركة غير مفتقرة إلى الضمان في صحتها، ولم يكن في عقد الشركة ضمان، وإنما هي وكالة على ما بينا، فلذلك انتفى عنها الضمان، وتفضيل الربح. وقد تصح المفاوضة في شركة الوجوه، رواه أبو الحسن عنهم. [4 - شركة الأبدان:] وأما شركة الأبدان، فهي أن يشتركا على أن يتقبلا الأعمال، أو نوعا منها، على أن ما ربحا كان بينهما نصفين: فهو جائز. وكذلك إن كان أحدهما خياطا، والآخر قصارا، كما لو اشتركا

شركة عنان، ولأحدهما دراهم وللأخر دنانير, ويجوز أن يشرط لأحدهما من الفضل أكثر مما شرط للآخر، فإن شرطا أن يكون ما تقبلاه فعلى أحدهما ضمان ثلثه، وعلى الآخر ضمان الثلثين: جاز الشرط على ما عقداه، ويكون الربح بينهما على ما اشترطا، والوضيعة عليهما على قدر الضمان. *وجعل محمد ذلك بمنزلة شركة العنان في المال المعين منهما إذا اشترطا لأحدهما فضل الربح لأجل عمله جاز، والوضيعة على قدر رأس المالين، لا غيره. *وإذا دفع رجل إلى أحد الشريكين عملا، فله أن يأخذ بالعمل أيهما شاء، ولكل واحد منهما أن يطالب بأجرة العمل، وإلى أيهما دفع صاحب العمل: برئ. وعلى أيهما وجب ضمان العمل، كان له أن يطال الآخر وإن لم يتفاوضا، وإنما اشتركا شركة مبهمة، وهي استحسان، ذكر ذلك أبو الحسن من قول أصحابنا. قال أحمد: شركة الأبدان معقودة على الضمان؛ لأنها لا تصح إلا بالضمان، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: تقبل أنت بعمل، على أن يكون ربحه لي، وليس لهما مال يستحقان الربع عليه، فإذا لم يكن ها هنا وجه يجوز أن يستحق عليه الربح غير الضمان، صار عقدهما الشركة متضمنا للضمان، وموجبا لع من حيث لا يصح إلا به، وقد قصد إلى تصحيحها. وليست شركة الأبدان في هذا، مثل شركة الوجوه والعنان؛ لأن شركة

الوجوه غير مفتقرة إلى الضمان، إذ قد صحت بغيره، وهي حصول ملك ما يشترى. وكذلك في شركة الأبدان مال، ولا ملك لوحد منهما، فوجب أن يكون المعنى الذي انعقدت عليه الشركة وصح به الربح لكل واحد منهما فيما تقبله الآخر هو الضمان. *وإنما جاز شرط التفاضل في الربح في شركة الأبدان: لأجل فضل بصره في العمل، وقد انعقدت الشركة على العمل مع الضمان، فصارت كشركة عنان. وتجوز عندهم شركة الأبدان على عمل بأبدانهم مختلف، وهي مثل شركة عنان، على أن يتجر أحدهما في الدقيق، والآخر في البر. *وتجوز المفاوضة في شركة الأبدان، كما تجوز في شركة الأموال. فصل: [وجوه استحقاق الربح] قال أحمد: ولا يجوز استحقاق الربح إلا بأحد وجوه ثلاثة: أما بالملك، أو العمل، أو بالضمان. فاستحقاقه بالعمل والملك، مثل ما يستحقه المضارب لأجل عمله، ورب المال لأجل ملكه. وأما استحقاق الربح بالضمان، فهو ما يستحقه كل واحد من شريكي شركة الأبدان وإن لم يعمل، بحصول العمل في ضمانه.

قال أحمد: وقد بينا أصول الشركة، فلنذكر مسائل الباب، ونجريها عليها. مسألة: قال أبو جعفر: (وتصح المفاوضة وإن لم يخلطا المالين). وذلك لأن هذه الشركة تعلقت صحتها بالعقد، على حسب ما تصح الوكالة والمضاربة، فلا تفتقر في صحتها إلى خلط المال. مسألة: [الميراث لا يدخل في المفاوضة] قال: (وإن ورث أحدهما، كان له خاصة، ولا تفسد به المفاوضة حتى يقبضه). قال أحمد: الميراث لا يدخل في المفاوضة، لأنه لا يستحق بالعقد، وإنما يستحق بالنسب ونحوه من الأسباب الموجبة له. وأيضا: فلا يصح أن يستحقه بالوكالة، فلا يدخل في المفاوضة. ولا تفسد المفاوضة إذا كان الذي ورث دراهم أو دنانير حتى يقبض؛ لأنها في الأصل لا تنعقد على مال حاضر، فلا تفسد حتى تصير في يده، بحيث يصح عقد الشركة فيه. مسألة: قال: (ويجوز إقرار كل واحد منهما على نفسه في أسباب المفاوضة، ويلزم الشريك). لما بينا من أنها تقتضي وكالة عامة في هذه الوجوه. مسألة: قال بو جعفر: (وتجوز شركة العنان مع التفاضل في الربح).

وذلك لأنه يجوز أن يشترطه له، لأجل عمله، كما يستحقه المضارب. قال أحمد: وقال زفر: لا يجوز شرط تفضيل الربح في شركة العنان؛ لأنه شريك في الربح بمنزلة الأجر، فلا يستحقه الشريك، كطعام بين رجلين استأجر أحدهما صاحبه لحمله. قال أحمد: لو صح هذا الاعتبار، لم يصح للمضارب استحقاق الربح؛ لأنه يصير شريكا بأول جزء من الربح، فيكون عاملا في مال نفسه، ومال غيره. وأيضا: فليس ربح الشريك مستحقا على وجه الأجرة؛ لأنه لو كان كذلك، يجبر على العمل، ولما كان له فسخها إلا من عذر، فدل ذلك على جواز شرط فضل الربح في شركة العنان. مسألة: [إقرار أحد المتفاوضين بدين] قال أبو جعفر: (وما أقر به كل واحد منهما من دين بسبب الشركة، فإنه يلزمه دون صاحبه). وذلك لأنه بمنزلة الوكيل في الشرى، وليس بوكيل في الخصومة، فلا يجوز إقراره على الموكل. مسألة: [مفاوضة المسلم مع الذمي] (وجائز أن يتعاقدها المسلم والذمي، ويكره ذلك للمسلم).

وروى كراهة ذلك عن ابن عباس، وذلك لأن الذمي يستحل ما لا يستحله المسلم من العقود الفاسدة. مسألة: [مفاوضة الحر والعبد] قال: (وجائز أن يتعاقدها الحر والعبد المأذون له في التجارة، والصبي المأذون له في التجارة). وذلك لما وصفنا من أنها في معنى المضاربة والوكالة. مسألة: [شركة الأبدان] قال أبو جعفر: (وشركة الأبدان جائزة فيما تصح فيه الوكالة، ولا تجوز فيما لا تجوز فيه الوكالة. قال: وتفسير ذلك أنه يجوز للرجل أن يوكل صاحبه بالابتياع له، وبالاستئجار عليه، ولا يجوز له أن يوكل صاحبه بالاصطياد له، فما جاز فيه الوكالة من ذلك: جازت فيه الشركة، وما لم تجز فيه الوكالة من هذا، لم تجز فيه الشركة). قال أحمد: وذلك لأن التصرف في الشركة إنما هو على جهة الوكالة، فلذلك اعتبر فيه الوكالة. وفيه وجه آخر: وهو أن الاصطياد والاحتطاب، إنما يقع في أشياء مباحة الأصل، لا ملك فيها لوحد منهما، ولا ضمان، ولا تصح الشركة إلا على ملك أو ضمان، فلما عري ذلك من الوجهين جميعا: لم تصح الشركة.

والخياطة، والصبغ، والقصارة، فيها ضمان العقد، فصحت الشركة فيها. مسألة: [الشركة في الصناعات] قال أبو جعفر: (وللرجلين أن يشتركا في صناعة واحدة، أو صناعتين مختلفتين، ولا يجوز في هذا أن يفضل أحج الشريكين صاحبه في الربح كما يجوز في شركة العنان). قال أحمد: إن أراد بقوله: لا يجوز تفضيل أحدهما على الآخر في الربح في شركة الوجوه، وأراد بالصناعتين: نوعين من التجارة، نحو البر والدقيق: فالجواب صحيح، لا يجوز فيه تفضيل أحدهما في الربح على مقدار ملكه. وإن أراد به شركة الأبدان: فليس كذلك؛ لأن من أصلهم جواز التفضيل في الربح في شركة الأبدان. مسألة: [عدم جواز شركة العنان بالفلوس] قال أبو جعفر: (ولا تجوز شركة العنان إلا على الدراهم والدنانير في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف: تجوز بالفلوس، ثم رجع فقال لا تجوز، وقال محمد: هي جائزة بالفلوس). قال أحمد: ذكر محمد في كتاب المضاربة: أن المضاربة لا تجوز بالفلوس في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: تجوز. وحكى ابن شجاع عن أبي يوسف أن الشركة جائزة بالفلوس، ولا

تجوز المضاربة. ففرق بين الشركة، والمضاربة في رواية ابن شجاع، وعلى ما ذكره أبو جعفر من قوله الأخير لم يفرق. *وإنما لم تجوز الشركة بالعروض، من قبل أنها تقتضي الوكالة، على الحد الذي بينا فيما سلف من الباب، فالوكالة لا تصح على هذا الوجه؛ لأنه لا يجوز أن تقول له: بع عبدك هذا على أن يكون بيني وبينك، فكذلك الشركة لا تصح بالعروض، إذ هي متضمنة للوكالة على هذا الوجه، وليس كذلك الدراهم والدنانير؛ لأنه تصح الوكالة فيها على هذا الوجه الذي انعقدت عليه الشركة. ألا ترى أنه يجوز أن يقول: اشتر بدراهمك هذه عبدا يكون بيني وبينك ووجه آخر: وهو أنها لو جازت بالعروض، لوقعت القسمة على القيمة إذا أرادا فسخ الشركة، ولا تعرف قيمتها إلا بالحرز والظن، بتحصل الشركة في مجهول، ولا تصح الشركة في رأس مال مجهول. فإن قيل: قد جازت على ربح مجهول، ولا تفسدها أيضا الشروط، فهلا أجهزتها وإن انقسمت على القيمة عند القسمة. قيل له: لا يجب ما ذكرت؛ لأن عند النكاح قد يصح على مهر مجهول، ولا تفسده الشروط، ولا يصح مع ذلك في منكوحة مجهولة.

مسألة: [الشركة بالمكيلات أو الموزونات] قال أحمد: قال محمد: إذا جاء أحدهما بنوع من المكيل أو الموزون، وجاء الآخر بمثله في الكيل والصفة والجودة، فخلطاه: جازت الشركة فيما بينهما عند محمد، وأن يتفاضلا في الربح، كما يكون في الدراهم والدنانير. وقال أبو يوسف في الإملاء: يكونان شريكين بالخلط، ولا يجوز أن يفضل أحدهما صاحبه في الريح. فإن قال قائل: أجازة محمد الشركة بالخلط في الصنف الواحد من المكيل والموزون، ينقض علينا اعتلالنا له في امتناع جواز الشركة بالعروض؛ لأنه إذا قال: بع حنطتك هذه على ان يكون ثمنها بيني وبينك، لم يصح. قيل له: لا يلزم، من قبل أن الحنطة قد تصح أن تكون ثمنا، وتصح الوكالة فيها على وجه. ألا ترى انه لو قال: اشتر لي عبدا بكر حنطة في ذمتك، واقضه الكر الذي لك: جازت هذه الوكالة، وإذا قضاه رجع به على الآمر، فلما كانت الوكالة قد تصح فيها من وجه، صحت الشركة فيها إذا خلطاها، لأنهما قد شرطا أن يبيعا ويشتريا بها، فإذا خلطا لم يقع الشرى إلا بهما، فلذلك جازت بحصول شركتهما فيها، وجواز ثبوتها في الذمة ثمنا إذا اشترى بها. وكان أبو الحسن يقول: كل ما لم يكن ثمنا للأشياء: لم تنعقد الشركة عليه إلا بالخلط، فإذا خلط ما يكال أو يوزن صحت الشركة؛ لأن كل جزء منه صار بينهما.

ويصح أن يستوفى كل واحد منهما عند القسمة رأس ماله من غير تقويم، فهو في هذا الوجه مثل الدراهم والدنانير. ولو كان لأحدهما شعير، وللآخر حنطة، فخلطاه: لم تصح الشركة؛ لأن القسمة تقع فيهما على القيمة، لأن الخلط يجعلهما بمنزلة العروض. مسألة: [الشركة في العروض] وقال محمد: إن أراد الشركة في العروض، باع كل واحد منهما نصف عروضه بنصف عروض الآخر، وتقابضا، حتى يصير ذلك كله بينهما، ثم يشتركان بعد ذلك، فتكون الشركة جائزة. قال محمد: ولو اشتركا هكذا مفاوضة: جاز. حكى ذلك أبو الحسن عن محمد. قال أحمد: وإنما جازت، لأنهما متساويات في الحال، شريكان فيها، ولا يحتاج عند القسمة إلى اعتبار القيمة؛ لأن جميع ما يحصل من الثمن يكون بينهما نصفين. *وأما وجه قول أبي حنيفة في امتناع جوازها بالفلوس، فلأنها يجوز أن تكسد قبل القسمة، فتصير عروضا، ويؤدي ذلك إلى إيقاع القسمة على القيمة. وأيضا: فإنهما إنما تنفق في موضع دون موضع، وجائز أن تصير إلى موضع لا تنفق فيه، فتخرج من أن يصح ابتداء العقد، أو يريد القسمة فيحتاج إلى اعتبار القيمة.

ويدل على ما ذكرنا: أنها لا تقوم بها المستهلكات، وتقوم بالدراهم والدنانير. مسألة: [يد الشريك يد أمانة] قال أبو جعفر: (وكل واحد من الشريكين أمين فيما في يده، يقبل قوله في ضياع المال مع يمينه). وذلك لأنه قبضه بإذن شريكه لا على وجه البدل، فصار كالمودع. وأيضا: "روي عن على رضي الله عنه انه قال: ليس على من قاسم الربح ضمان"، يعني المضارب والشريك. مسألة: [فسخ الشركة بموت أحد الشريكين] قال: (وأي الشريكين مات انفسخت الشركة). وذلك لأن الملك ينتقل إلى الغير، فيبطل أمره فيه؛ لأن الشركة تحتها وكالة، والموت يبطل الوكالة، كذلك الشركة, مسألة: [حق الشريك في فسخ الشركة] قال: (ولكل واحد من الشريكين أن يفسخ الشركة ما كان المال عينا، كما تفسخ الوكالة. قال: فإن لم يعلم صاحبه بفسخ الشركة، كانت الشركة على حالها، كالعزل عن الوكالة، لا تصح إلا مع العلم). والأصل فيه: أوامر الله تعالى ونواهيه، لا يتعلق حكمها إلا بالعلم.

وأما في الموت: فإنها تفسخ، علم الآخر بالموت، أو لم يعلم؛ لأن ملك المال قد انتقال إلى الغير، وبطل أمر الميت فيه. ألا ترى أنه لو وكل رجلا ببيع عبده، ثم عزله، وهو لا يعلم: لم ينعزل حتى يعلم. ولو باع العبد، فانتقل ملكه إلى الغير، صار الوكيل معزولا، علم أو لم يعلم، لانتقال ملك العبد إلى الغير، وبطلان أمره فيه، فانعزل من جهة الحكم. مسألة: [المساواة في التصرف بين المتفاوضين] قال احمد: وقال أبو حنيفة: لا تجوز المفاوضة بين عبدين أو صبيين، ولا بين عبد وحر، ولا صغير وكبير، ولا بين مسلم وذمي، وتجوز بين الذميين. وقال أبو يوسف: تجوز مفاوضة المسلم والذمي. أما العبد والصغير، فلأن المفاوضة فيها كفالة، وهما لا يملكان 1 لك بأنفسهما، والعبد وإن جازت كفالته بإذن مولاه، فإنه ليس ممكن يملكها بنفسه. وأما الذمي والمسلم، فلأنهما غير متساويين في التصرف، ألا ترى أنه يجوز تصرف الذمي في الخمر والخنزير، ولا يجوز تصرف المسلم فيهما. وقد بينا فيما سلف أن المفاوضة تقتضي المساواة، فوجب اعتبار المساواة في التصرف، كما اعتبرناها في رأس المال. *****

كتاب الوكالة

كتاب الوكالة مسألة: [دليل جواز الوكالة وبيان وجوهها] قال أبو جعفر: (وللرجل أن يؤكل بحفظ ماله وببيعه، وبالتزويج عليه، وبطلاق نسائه، وبالمكاتبة، والعتق). قال أحمد: الوكالة من الأمور التي أقر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة عليهما، مع علمه بكونها منها؛ لأن أهل كل مصر لم يكونوا يخلون من ذلك، كما أقرهم على المضاربة والشركة ونحوها. وهي أيضا مذكورة في كتاب الله تعالى، قال الله عز وجل فيما حكى أصحاب الكهف: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه}. فتضمنت التوكيل من جماعتهم لواحد منهم؛ لأنه أضاف الورق إليهم جميعا بقوله: {بورقكم}، وهذه وكالة بشرى الطعام. ودل أيضا على أن ما ينبئ عن معني الشرى من الألفاظ، فهو قائم مقام لفظ الشرى في التوكيل في عقد الشرى؛ لأنه قال: {فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق

منه} ولم يقل: فليشتر, ويدل أيضا على أن الدراهم إذا كانت معلومة، أو معينة لم يحتج على ذكر مقدار ما يشتريه من الطعام في عقد الوكالة؛ لأنهم لم يذكروا مقدار الطعام. ويدل أيضا على جواز الاجتماع على أكل الطعام بينهم، وإن كان احدهم قد يأكل أكثر مما يأكله الآخر. *ويدل على الوكالة بالشرى والبيع حديث عروة البارقي وحكيم بن حزام حين "دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى كل واحد دينارا، وأمره أن يشتري له شاة، ثم أجاز بيع عروة للشاة بغير أمره". *ويدل على جواز الوكالة في قضاء الدين واقتضائه حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن رجلا لم يعمل من الخير شيئا إلا أنه قال: كنت آمر فتياني أن ينظروا المعسر، ويتجاوزوا عن الموسر، فقال الله تعالى: تجاوزوا عنه". وحديث أبي رافع: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقضي الرجل بكره". "وحديث أبي حميد الساعدى حين طالب الأعرابي النبي صلى الله

عليه وسلم بدينه، فأمر بأن يؤخذ من خولة بنت حكيم ويقضي". ولا خلاف بين أهل العلم فيه مع ذلك. مسألة: [الوكالة في الخصومة] قال أبو جعفر: (وليس له أن يوكل في خصومة إلا برضا خصمه، إلا أن يكون مريضا، أو غائبا على مسيرة ثلاث، فإنه إذا كان ذلك: قبلت منه الوكالة في قول أبي حنيفة، ويستوي في ذلك الرجال والنساء. وأبو يوسف ومحمد يقبلان الوكالة في ذلك من الناس جميعا رضي الخصم، أو لم يرض). يحتج لأبي حنيفة فيها من وجهين: أحدهما: أن الخصومة حق قد لزمه للخصم، بدلالة أن الحاكم يعدي عليه، ويحضره، ويحول بينه وبين تصرفه وأشغاله، فليس له أن يحيل بهذا الحق على غير إلا برضا خصمه، كما أن من كان عليه مال، لم تصح إحالته به على غيره إلا برضا الطالب والوجه الآخر: أن على الحاكم التسوية بين الخصوم في المجلس، واللفظ، واللحظ، وليس من التسوية بينهما حضور أحدهما، وابتذاله للخصومة، وقعود الآخر في بيته. ألا ترى أنهما لو حضرا جميعا عند الحاكم، كان عليه التسوية بينهما

في المجلس، وكذلك يجب أن يكون حكمه ما دام عليه حق الخصومة. وأما المريض والغائب، فحق الخصومة عند القاضي ساقط عنهما، بدلالة أن القاضي لا يعدي عليهما، ولا يحضرهما. وأما أبو يوسف ومحمد فذهبا إلى أن الوكيل يقوم مقام الموكل، وينوب عنه في الخصومة، فإذا وكل فقد وفى الخصم حقه من الخصومة. ولأبي حنيفة أن حق الخصومة إذا تعين على إنسان، فليس له أن يحيل به على غيره، لاختلاف أحوال الناس في الخصومة، ألا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء، فإنما أقطع له قطعة من النار". فأخبر عن اختلاف أحوال الناس في القيام بالخصومة، والإدلاء بالحجة، فأشبه الدين الذي في الذمة، ليس له أن يحيله به على غيره إلا برضاه، لاختلاف أحوال ذمم الناس في الملاءة والثقة. *وما روي عن "عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يخاصم، ويقول: أن للخصومة قحما، فكان يوكل بها عقيلا، ثم وكل عبد الله ب جعفر، وقبل ذلك عثمان".

فإن وجهه عندنا، أنه كان يوكل برضا الخصم، وذلك جائز عندنا. فإن قيل: هلا كانت الوكالة بالخصومة كسائر الوكالات من البيع والشرى وقبض الديون. قيل له: لأنه ليس في ذلك إبطال حق أحد، وفي التوكيل بالخصومة إبطال حق قد لزمه عن نفسه. فصل: [مكان قبول إقرار الوكيل بالخصومة] ويجوز إقرار الوكيل بالخصومة على موكله فيما وكل به عند القاضي، ولا يجوز عند غير القاضي في قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: يجوز أيضا عن غير القاضي. وقال زفر: لا يجوز عند القاضي ولا عند غيره. لأبي حنيفة: أنه قد أقامه مقام نفسه في الخصومة، فيجوز إقراره في الموضع الذي تجوز خصومته فيه، كما جاز إقرار الموكل؛ لأنه قائم مقامه، ولأنه حين كان موكلا بالخصومة، والخصومة فيها إقرار وإنكار، وتنظيم الأمرين، وجب أن يدخل تحتها جميع ذلك. وإنما لم يجز عند غير القاضي؛ لأنه إنما جاز إقراره من حيث ملك الخصومة عنه بأمره، ولا تجوز خصومته عند غير القاضي فكذلك إقراره. مسألة: [توكيل الوكيل غيره بما وكل به] قال أبو جعفر: (وليس للوكيل أن يوكل بما وكل به، إلا أن يطلق له ذلك الموكل، أو يجيز أمره فيما وكل به، فيكون له ذلك). وذلك لأن الوكيل إنما يتصرف من جهة الآمر، وليس تحت الوكالة بالبيع والقبض ونحوه أمر منه بتوكيل غيره؛ لأن البيع وما وكل به، ليس

هو عبارة عن توكيل الغير، فلذلك لم يجز، غلا أنه يقول له: اعمل فيه برأيك، فيجوز له توكيل غيره إذا رأى ذلك مسألة: [عزل الموكل للوكيل] قال: (وللموكل أن يعزل الوكيل متى شاء) , وذلك لأن الوكالة لم تكن حقا لآخر، وإنما هي حق له، فله أن يبطلها ويعزل عنها متى شاء، وهي تشبه الإباحة، فلو أن رجلا أباح لرجل دخول داره، أو أكل طعامه، كان له أن ينهاه عن فعله قبل أن يفعله، كذلك التوكيل. *وقال: (وإنما يصح العزل إذا علم به الوكيل). وذلك بمنزلة أوامر الله ونواهيه، تتعلق أحكامها علينا بالعلم دون وجوب الأمر. [مسألة:] قال: (ولا يكون عزلا حتى يخبره به رجلا، أو رجل عدل في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: ينعزل بخبر من أخبره بذلك إذا كان خبره حقا). قال أحمد: لم يختلفوا أن الوكالة نفسها ثبتت بخبر الواحد، ثقة كان أو غير ثقة، ولم يختلفوا أن العزل برسالة الواحد إذا أرسله فيه الموكل، عدلا كان أو غير عدل، وإنما اختلفوا في المخبر بالعزل إذا لم يكن رسولا.

فأما قبول خبر الواحد في الوكالة من شرط العدالة، فلأنه من أخبار المعاملات، نحو الإذن في دخول الدار، وقبول الهدية بخبر الواحد. قال الله تعالى: {لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا}، ثم قال، {فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم}. فأباح الدخول بإذن الواحد: من كان من الناس. وقبول أخبار الآحاد في هذا الضرب من المعاملات لا خلاف بين الفقهاء فيه. *وأما الرسول في العزل، فإنما صح به العزل، ولم تشرط فيه العدالة: من قبل أن الرسول قائم مقام المرسل في الأداء، كما يقوم في الكتاب مقام الكاتب، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الآفاق، وأرسل إليهم رسلا يدعوهم إلى الإسلام، فقام كتابه ورسوله مقامه عليه الصلاح والسلام في الأداء، والدعاء إلى الدين، كذلك الرسول في العزل عن الوكالة، فليس بدون الكتاب أيضا. وأما إذا أخبره مخبر بالعزل على غير وجه الرسالة، فإن أبا حنيفة قال: ينبغي أن يكون خبر العزل آكد من خبر التوكيل؛ لأنه قد ثبت له حق التصرف بغير ضمان يلحقه، وخبر المخبر بالعزل يلزمه الضمان بالتصرف، فوجب أن يكون آكد من خبر الوكالة.

ثم أكده بأحد وصفي الشهادة، وهو العدالة، أو العدد؛ لأن الشهادة التي يصح الحكم بها تنظيم معنيين: العددـ، والعدالة، فلما اقتضى هذا الخبر ضربا من التأكيد، لم يحتج مع ذلك فيه إلى جميع شرائط الشهادة، على الوصف الذي بينا. وليس يمتنع في الأصول تنزيل الأخبار على مراتب، على حسب اختلاف أحوال مخبر فيها. * [اختلاف عدد الشهود وصفتهم باختلاف المشهود به:] ألا ترى أن الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات الأحكام، لها منازل في القبول وشرائط، على حسب اختلاف أحوال المعاني التي وردت فيها: فمنها: ما يقبل فيه خبر الواحد العدل. ومنها: ما شرطه الاستفاضة، وتلقي الناس إياه بالقبول. ومنها: ما شرطه التواتر الموجب للعلم. وكان علي رضي الله عنه يقول: "كنت إذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما تشاء منه، وإذا حدثني غيره استحلفته، ثم صدقته، وحدثني أبو بكر الصديق- وصدق أبو بكر- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ، فيحسن الوضوء، ثم يصلي ركعتين،

فيستغفر الله إلا غفر الله له". فكان علي رضي الله عنه يستحلف كل من حدث إلا أبا بكر، فإنه يصدقه بغير يمين، لثقته في نفسه. ومن الأشياء: ما يقبل فيها شهادة المرأة الواحدة العدل، وهي الولادة. ومنها: ما يقبل فيه خبر العدل، ولا يقبل فيه غير العدل، وهو رؤية هلال شهر رمضان، ولا يختلف فيه حكم الحر والعبد، والمرأة والرجل. ومنها: ما لا يقبل فيه إلا رجلان، أو رجل وامرأتان، نحو سائر الحقوق التي لا تسقطها الشبهة. ومنها: ما لا يقبل فيه إلا شهادة أربعة، وهو الزنى. فلما كان ذلك كذلك، لم يمتنع أن تختلف أحوال الأخبار على حسب اختلاف مخيرها، فيحتاج في بعضها من التأكيد إلى أكثر مما يحتاج إليه

في غيره، فلذلك فرق أبو حنيفة بين التوكيل والعزل فيما وصفنا. وكذلك قال أبو حنيفة في المولى إذا أخبر بجناية عبده، فأعتقه، أنه لا يضمن الدية حتى يخبره رجلان، أو رجل عدل، لما تعلق بخبره من ضمان الدية بالعتق. وجعله أبو يوسف ومحمد مختارا للدية، بخبر من أخبره بعد أن يكون الخبر حقا. مسألة: [فعل الوكيل قبل علمه بالوكالة] قال أبو جعفر: (وما فعله الوكيل قبل علمه بالوكالة: فغير نافذ). ذلك بما ذكرنا من تعليق حكم أوامر الله تعالى بالعلم، كذلك أوامر العباد. وليس كالوصي إذا تصرف بعد موت الموصي وهو لا يعلم بالوصية، فتجوز، وذلك لأن الوصية قد صحت من جهة الميت، بحيث لا يلحقها الفسخ، وإنما وقفت على خيار الوصي، فصارت منزلة رجل باع عبدا على أن المشتري بالخيار ثلاثا، فتصرف المشتري في العبد بالبيع والعتق، وهو لا يعلم أنه العبد المشتري، فيجوز تصرفه، ويبطل خياره، كذلك الوصي. وأما التوكيل فلم يقطع حق الموكل، فلم يثبت حكمها وتصرف الوكيل فيه إلا بالعلم.

ألا ترى أن من أباح لرجل طعامه لم يثبت للمباح له حكم الإباحة إلا بالعلم، لأن الإباحة لم تقطع حق المبيح عن الشيء *قال: (ومن بلغه من رجل أو امرأة: جاز). وذلك لما بينا من أنه من أخبار المعاملات. مسألة: [الوكالة في الحدود والقصاص] قال أبو جعفر: (ولا تجوز الوكالة في الحدود، ولا في القصاص، إلا في إقامة البينات عليها، ولا يستوفيها الوكيل حتى يحضر الموكل في قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا تقبل الوكالة في الخصومة، ولا في إثباتها أيضا). قال أحمد: لم يختلفوا أن الوكالة لا تجوز في استيفاء الحدود والقصاص، وذلك لأنه لا تجوز فيها الشهادة على الشهادة، ولا شهادة النساء؛ لأنها قائمة مقام الغير، وإذا لم يجز ذلك في الإثبات، لم يجوز في الاستيفاء؛ لأن الإثبات إنما يحتاج إليه للاستيفاء. *وأما الوكالة في الخصومة وفي إقامة البينة، فإنما أجازها أبو حنيفة ومحمد، من قبل أن الخصومة إنما هي سبب الإثبات، لا أنها هي المثبتة، فأشبهت شهادة الإحصان، لما كانت سببا في إثبات الرجم، ولكم تكن هي الموجبة له: جاز إثباته بما لا يثبت به الزنى، وهو شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، كذلك الخصومة في إثباته. وأبو يوسف لم يجزها أيضا، كما لا تجوز في الاستيفاء.

*وقد عقد أبو الحسن رحمه الله أصلا لما تجوز فيه الوكالة مما لا تجوز: بأن ما يجوز تمليكه، أو أن توجب فيه الحقوق، جازت الوكالة فيه، وأن ما لا يجوز تمليكه، أو أن توجب فيه الحقوق: لم تجز فيه الوكالة. وما لا يجوز تمليكه، وإيجاب الحقوق فيه، فهو الحدود والقصاص. مسألة: [تأقيت الوكالة] قال أبو جعفر: (وإذا وكل رجل رجلا ببيع عبده غدا، كان وكيله ببيعه في غد، وفيما بعده، وليس بوكيل بذلك قبل غد). وذلك لأنه بمنزلة قوله: بع عبدي إذا قدم فلان، أو إذا جاء رأس الشهر، فتصير وكالة مطلقة عند مجيء الوقت. مسألة: [خصومة الوكيل] قال: (والخصم في حقوق البيع والشرى هو العاقد وإن كان وكيلا، وكذلك الإجارة). *قال أحمد: قد عقد أبو الحسن رحمه الله هذا الأصل بأن قال: كل عقد فيه بدل فهو على وجهين: إذا وليه الوكيل، فما كان ما استحقه كل واحد من المتعاقدين يجوز أن ينقله مستحقه إلى غيره: فالحقوق التي يوجبها ذلك العقد للوكيل وعليه، مثل الشرى والبيع والإجازة. قال: وإن كان ما وقع عليه العقد مما لا يجوز أن ينلقه مستحقه إلى غيره، ولا أن يوجب فيه حقا لغيره، فحقوق ذلك العقد للموكل وعليه، دون غيره.

وذلك مثل عقد النكاح، والخلع، والطلاق على مال، والصلح من دم العمد، والعتق على مال، والكتابة. والدليل على أن حقوق العقد متعلقة بالمتعاقدين فيما قدمنا بدءا: اتفاق الفقهاء على جواز صرف الوكيلين مع غيبة الموكلين عن مجل العقد، والقبض في المجلس من حقوق عقد الصرف، فلما تعلق ذلك بحضورهما، دون حضور الموكلين، دل ذلك على أن حقوق عقد البيع ونظائره متعلقة بالمتعاقدين، فبثبت قبض الثمن للوكيل بالبيع، دون الموكل. ويدل عليه أيضا: اتفاق الجميع على أن الوكيل بالبيع مطالب بتسليم المبيع. وكما توجهت عليه المطالبة بالتسليم دون الموكل، كذلك يثبت له حق القبض دون الموكل. ولهذه العلة بعينها أجاز أبو حنيفة ومحمد إبراء الوكيل بالبيع للمشتري من الثمن قبل القبض، ويضمنه الموكل؛ لأن حق القبض له دون الآمر. وقالوا: لو طالب الآمر المشتري، كان له أن يحلف: ما له عليه شيء، فإذا أسقطه يعني الوكيل، جاز عليه: يعني على الآمر، إذا هو المالك له، ويضمن للآمر؛ لأن ما استحق قبضه إذا تغير، كان ملكا للآمر، فلذلك ضمنه حين أبرأ منه. *وأما النكاح ونظائره، فلا يتعلق بالوكيل شيء من حقوقها، من قبل

أنه لا تتوجه عليه المطالبة بالتسليم، ولا يثبت له حق القبض، فصار فيه كالسفير والمعبر. وإن شئت قلت: لأنه لا يصح نقله إلى غيره بعد ثبوته له، ولا إيجاب الحق فيه، فصار كالرسول في العقد، فلذلك لم يلزم الوكيل بالنكاح المهر، ولزم الموكل بالعقد المهر. ويدلك على الفصل بينهما: أن الوكيل بالنكاح يقول: زوجت فلانا، والوكيل بالشرى يقول: اشتريت، ولا يحتاج أن يقول: اشتريت لفلان. وكل ما يصح نقله إلى غيره بعد ثبوته، فكأنه انتقل إلى الوكيل، ومن جهة الوكيل انتقل إلى الموكل، فلذلك كان الأمر فيه على ما وصفنا. وما لا يصح نقله بعد ثبوته له إلى غيره، فإنما انتقل من العاقد إلى المعقود له دون الوكيل؛ لأنه لو انتقل إلى الوكيل، لم يصح نقله من جهته إلى الموكل، لم يثبت للوكيل حق في العقد. مسألة: [بطلان الوكالة بموت الموكل] قال أبو جعفر: (وموت الموكل يخرج الوكيل من الوكالة، علم بذلك الوكيل، أو لم يعلم). لأن الملك قد انتقل عن الموكل، فبطل أمره من جهة الحكم، كما لو باعه الموكل. مسألة: [توكيل الصبي أو العبد] قال أبو جعفر: (وإذا وكل الحر البالغ صبيا أو عبدا محجورا عليه ببيع عبده، ففعلا ذلك، فالعهدة في ذلك الآمر، لا على الصبي، ولا على العبد).

قال أحمد: الأصل في جواز توكيل الصبي: ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب أم سلمة قالت: ليس أحد من أوليائي حاضرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس أحد من أوليائك إلا وهو يرضاني، ثم قالت لابنها: لا عمر، قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صغيرا". فأجاز عليه الصلاة والسلام تزويجه إياها بأمرها. وأيضا: فلو خاطبه بكتاب يطلب فيه البيع أو الشرى جاز؛ لأنه يعبر عنه، فكان الصبي والعبد أولى بذلك، إلا أنهما لا تلزمهما العهدة؛ لأن قولهما لا يجوز على أنفسهما في ضمان الثمن، ولزوم تسليم المبيع. *قال أبو جعفر: (وقال أبو يوسف في الإملاء: إن علم المشتري أن بيعه صبي أو عبد محجور عليه: فهو كذلك). لأنه قد رضي بأن لا تتعلق له حقوق العقد عليه. * (وإن لم يعلم، ثم علم: كان بالخيار: إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أمضاه، وكانت عهدته على الآمر). لأن ظاهر دخوله معه في العقد يقتضي تعلق حقوقه، فإذا لم تلزمه له حقوق العقد: كان له الخيار في الفسخ، ويصير ذلك كعيب لحق العقد. ألا ترى أن إقراره لا يجوز بقبض الثمن، إذ لم تلزمه حقوقه، كمريض باع عبدا، وعليه دين في الصحة، ثم أقر بقبض الثمن من

المشتري، فلا يصدق، ويكون المشتري بالخيار في فسخ البيع؛ لأنه يقول إنما دخلت معه في العقد على أن يجوز إقراره لي بقبض الثمن، فإذا لم تجوزوه، فذلك عين لحق العقد، فيكون له الخيار في الفسخ، كذلك ما وصفنا. مسألة: [دعوى وكيل البيع تلف الثمن المقبوض] قال أبو جعفر: (وإذا باع الوكيل، ثم ادعى تلف الثمن منه، كان القول في ذلك قوله مع يمينه). وذلك لأنه أمين فيما يحصل في يده من الثمن، كما كان أمينا في المبيع قبل. * (وكذلك لو قال: دفعت الثمن إلى الآمر، كان كذلك أيضا). كما لو قال قبل البيع: رددت العبد إليك، وكالمودع إذا قال: رددت الوديعة إلى المودع. *وقال أبو جعفر: (وكذلك لو أقر الوكيل أن الآمر قبضه من المشتري، أو ادعى المشتري ذلك، وأنكره الآمر، غير أن المشتري إذا أصاب بالمبيع عيبا، كان له رده على الوكيل، وأخذ ثمنه منه، ولم يكن للوكيل أن يرجع بالثمن على الآمر، ولكنه يبيع العبد،

ويأخذ الثمن الذي غرمه للمشتري، إلا أن يكون فيه فضل، فيدفعه إلى الآمر، وهذا قول أبي يوسف ومحمد. وأما في قول أبي حنيفة، فليس للوكيل بيع العبد في ذلك). قال أحمد: إقرار الوكيل على الآمر بقبض الثمن تضمن معنيين: أحدهما: براءة المشتري بالقبض، وهو يملك إبراءه بالقبض، فجاز إقراره فيه. والثاني: أن الثمن صار مضمونا على الآمر بقبضه، وهو غير مصدق؛ لأن كل من كان أمينا في شيء، فإنما يصدق في براءة نفسه، ولا يصدق في إيجاب الضمان على غيره. كرجل له عند رجل وديعة، فأمره بدفعها إلى ذلك، فقال المودع: قد دفعتها، وأنكر ذلك قبضها، فيكون المودع مصدقا في براءة نفسه، غير مصدق في إيجاب الضمان على غيره، كذلك مسألتنا. فإذا وجد المشتري بالعبد عيبا، رده على الوكيل، وأحذ منه الثمن، لاعتراف الوكيل بأن الثمن صار مضمونا عليه بقبض الآمر، فيصدق على نفسه، ولا يصدق في إيجاب الضمان على الآمر. وللوكيل أن يبيع العبد فيستوفي منه الثمن؛ لأن المشتري قد كان له حبس العبد بالثمن بعد فسخ المبيع، فينتقل ذلك الحق إلى الوكيل. والذي ذكره أبو جعفر من الخلاف، عسى أن يكون حمله على خلافهم في الحجر على الحرـ وإجازة القاضي بيع العبد على مالكه

لأجل الدين. وقد ذكر محمد هذه المسألة في الجامع الكبير، ولم يذكر فيها خلافا، وقد بيناها هناك. مسألة: [شراء الوكيل وبيعه من نفسه] قال أبو جعفر: (ولا يجوز شرى الوكيل من نفسه، ولا بيعه منها). وذلك لما قدمنا من أن حقوق العقد تتعلق به، فلا يجوز أن يثبت له الثمن على نفسه لنفسه، ولا يجوز أن يستحق التسليم على نفسه لنفسه. مسألة: [شراء أبي الصغير منه لنفسه] (ولأبي الصغير أن يشتري منه لنفسه، وكذلك الجد إذا لم يكن أب، ولا وصي أب). قال أحمد: كان القياس أن لا يجوز للعلة التي ذكرنا، إلا أنهم أجازوه من قبل أن الأب لما كان تصرفه على الصغير من غير جهة العقد، بل بنفسه، استحق هذه الولاية، فصار ايجابه وقبوله في ملك الصبي، كقول الصبي نفسه لو كان بالغا، وهذه العلة معدومة في الوصي، والوكيل، والقاضي، لأن ولاية هؤلاء كلهم من جهة العقد، فلا يجوز عقدهم لأنفسهم. وقال زفر: ليس للأب أن يشتري من نفسه مال اليتيم، وذهب إلى

القياس. مسألة: [شراء الوصي وبيعه من نفسه بمال اليتيم] قال: (وأما الوصي فإنه يجوز شراؤه وبيعه من نفسه بمال اليتيم إذا كان خيرا لليتيم، في قول أبي حنيفة استحسانا). قال أحمد: يعني بقوله: خيرا لليتيم: أم ما يأخذه لليتيم أكثر قيمة مما يؤخذ منه، قد بينه محمد في مواضع. (وفي قول أبي يوسف ومحمد: لا يجوز بيع الوصي وشراه مال اليتيم لنفسه). لأبي حنيفة: قول الله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن}، ومن الأحسن أن يثمر ماله، ويزيد فيه. وقال تعالى: {وإن تخالطوهم هم فإخوانكم}، وظاهره يقتضي جواز شراه من نفسه وبيعه. وفي قولهما: ولايته من جهة العقد، فلا يشتري لنفسه كالوكيل. مسألة: [حد الغبن في بيع الوكيل وشرائه] قال أبو جعفر: (ويجوز بيع الوكيل بما لما يتغابن الناس في مثله في قول أبي حنيفة.

ولا يجوز في قول أبي يوسف ومحمد إلا بما يتغابن الناس فيه. وأما الشرى: فلا يجوز على الآمر بما يتغابن الناس فيه إذا لم يسم ثمنا). قال أحمد: أما وجه قول أبي حنيفة في البيع، فهو أن الوكيل يتصرف بأمر الآمر، ولفظ الآمر عام في كل ما يسمى بيعا، فجاز بالقليل والكثير، لدخوله تحت اللفظ. فإن قيل: هلا خصصته بالعرف، كما لو أمره بشرى طعام، كان على الطعام المتعارف من الحنطة والدقيق. قيل له: لأن العرف لم يجعل اللفظ مخصوصا بالكثير دون القليل؛ لأن الاسم لم يتناول العقد بقليل من الثمن، كما يتناوله بالكثير، فالعرف في الاسم واحد في الحالين. وإن أردت أن مقاصد الناس البيع بمثل القيمة، فليس كذلك؛ لأن في العرف أن كل من دخل في عقدة، فإنما يقصد إلى غير صاحبه، فهو حين علم أن المشتري يقصد إلى الشرى بقليل الثمن، ثم لم يخصه، فقد أطلق الجميع. وأما أمره إياه بشرى الطعام، فإن الطعام اسم مخصوص في العرف لنوع من المأكول إذا أطلق، ولا يتناول الإطلاق غيره، كما لا يقع اسم اللحم في الإطلاق على السمك، فمن أجل ذلك تناول المتعارف منه، دون غيره.

فإن قيل: هلا كان البيع كالشرى في اعتباره بما يتغابن فيه من الثمن. قيل له: من قبل أن الثمن الذي يلزم الآمر غير ملفوظ به في لفظ الوكالة، وإنما يلزمه من طريق الحكم، فلم يصح اعتبار العموم فيه، وإنما ذكر في لفظ الوكالة بالشرى العبد المشترى وهو في ملك غيره، ولا يصح اعتبار عموم لفظ في غير ملكه. فأشبه الوكيل بالشرى من هذا الوجه الوصي والأب، لما كان تصرفهما على الصغير من جهة الحكم، لم يجز تصرفهما إلا بما يتغابن الناس فيه. *ووجه آخر في الفصل بين الشرى والبيع: وهو أن من أصلهم: أن المشترى ينتقل إلى الوكيل وإن لم يستقر ملكه فيه، ومن جهته ينتقل إلى الموكل، فلما ألزم نفسه الزيادة على ما يتغابن الناس فيه، أراد ان يبرئ نفسه منها، ويلزمها الآمر، فيتهم فيه. ويدلك الوكيل بالبيع، فلا ينتقل إليه المبيع، وإنما يخرج من ملك الآمر إلى المشتري. يدلك عليه: أنه متى خالف: لم يصح البيع، ولم يلزمه، فلم يكن فيه تهمة في إسقاط شيء قد لزمه عن نفسه وألزم غيره، فلذلك اختلفا. *قال أحمد: والخلاف في بيع المضاربة، وشريك العنان، كهو في الوكيل بالبيع، وشراهما عند الجميع كشرى الوكيل بالشرى في اعتبار ما يتغابن فيه الناس. *وأما العبد المأذون والمكاتب، فإن أبا حنيفة يجيز بيعهما وشراهما بالثمن بما لا يتغابن فيه الناس؛ لأنهما يتصرفان على أنفسهما، لا على

غيرهما، ألا ترى أنهما لا يرجعان بالثمن على أحد، فأشبها الحرين. والوكيل والمضارب والشريك يتصرفون على الغير، ألا ترى أن الثمن الذي يلزمهما يلزم الآمر، وربا المال، والشريك لهم. *وأبو يوسف ومحمد لا يجيزان تصرف العبد والمكاتب إلا بما يتغابن الناس فيه، وجعلا محاباتهما كهبة مبتدأة. *ومن الناس من لا يجوز تصرفه وبيعه وشراه إلا بمقدار القيمة، سواء من غير حط شيء مما يتغابن الناس فيه أو لا يتغابن، وهو كبيع رب المال لعبد المضاربة، وبيع المريض وعليه دين يحيط بماله. وهؤلاء لا يجوز بيعهم إلا بمثل القيمة سواء، فإن حطوا ما يتغابن فيه، أو لا يتغابن فيه، لم يجز، وقد بينا هذه المسائل في "شرح الجامع الكبير". مسألة: [مقدار ما يتغابن فيه] قال أبو جعفر: (والمقدار الذي بتغابن فيه: نصف العشر). قال أحمد: وهو اجتهاد، ومقداره ما يدخل بين تقويم المقومين. مسألة: [لو وكله بشراء عبد، فاشترى له نصفه] قال أبو جعفر: (وإذا وكل رجل رجلا بشرى عبد، فاشترى له نصفه: لم يلزم الآمر إلا أن يشتري النصف الآخر قبل خروجه من الوكالة، في قولهم جميعا). وذلك لأن في تبعيضه ضررا عليه، فصار كمن قال: اشتر لي عبدا صحيحا، فاشترى له معيبا. مسألة: [لو وكله ببيع عبد، فباع نصفه] قال: (وكذلك لو وكله ببيع عبد، فباع نصفه، عند أبي يوسف

ومحمد. وقال أبو حنيفة: ذلك جائز، وخالف بين البيع والشرى). وذلك لأن الضرر لم يدخل على الآمر فيما باع، وإنما دخل الضرر عليه فيما لم يبعه، فلا يقدح ذلك في العقد شيئا؛ لأن أمره بالبيع لا يقتضي بيع الجميع معا في صفقة. ألا ترى أنه لو أمره ببيع طعامه، أو شعيره، فباع بعضه: جاز في قولهم، فدل ذلك على أن الأمر بالبيع لا يتضمن بيع جميعه في الصفقة، فإذا لم يدخل به ضرر فيما عقد، لم يبطل معه. وفصل آخر: وهو أنه من أصله: أنه لو باع جميعه بهذا القدر من الثمن: جاز، فبيع بعضه أحرى بالجواز. والشرى لا يجوز إلا بما يتغابن فيه، فلذلك لا يجوز شرى بعضه لأجل الضرر. مسألة: [بيع الوكيل العبد بعرض] قال أبو جعفر: (ومن وكل ببيع عبد، فباعه بعرض: جاز في قول أبي حنيفة). لعموم اللفظ. فإن قيل: في بيعه بعرض: شرى للعرض، وهو لم يؤمر بالشرى. قيل له: كون العرض مشترى، لا يخرجه من أن يكون العبد مبيعا منطويا تحت لفظ الآمر، فلذلك جاز. * (وفي قول أبي يوسف ومحمد: لا يجوز أن يبيعه إلا بالدراهم أو الدنانير).

لأنهما الأثمان التي تدور عليها البياعات. مسألة: [بيع الوكيل الشيء نسيئة] قال أبو جعفر: (ومن وكل ببيع شيء، ولم يسم له نقد، ولا نسيئة: فله أن يبيعه بالنسيئة في قول أبي حنيفة ومحمد، وأبي يوسف الأول). وذلك لعموم لفظ الآمر؛ لأن الاسم ينتظم العقد في الحقيقة والعرف. قال: (وقال أبو يوسف بعد ذلك في الإملاء: عن قال بعه لأقضي بثمنه ديني، أو أشتري دقيقا لأهلي: لم يجز أن يبيعه إلا نقدا). وذلك لأن دلالة اللفظ والحال كالنطق بها، فصار كأنه قال: بعه بنقد. قال أحمد: وينبغي أن لا يكون بينهم خلاف في هذا المعني، ألا ترى أن رجلا لو قال لرجل: اشتر لي عبدا للخدمة: لم يجز له أن يشتريه أعمى، ولو لم يقل ذلك: جاز أن يشتريه أعمى في قول أبي حنيفة. وكذلك لو قال: اشتر لي جارية أطؤها: لم يجز أن يشتري له ذات محرم منه. فينبغي أن يكون قوله: "لأقضي بثمنه ديني، أو أشتري به دقيقا لأهلي": كذلك في قولهم. مسألة: [بيع وكيل الوكيل بمحضره] وقال أبو جعفر: (ومن وكل يبيع شيء، فوكل غيره بذلك، ففعله بمحضره، كان جائزا). لأنه عقده برأيه. * (وإن كان غائبا: لم يجز). لتعذر رأيه وإجازته.

* (إلا أن يجيزه: فيجوز بإجازته). وذلك لأنه عقده برأيه وإجازته، والوكالة اقتضت جواز العقد برأيه، وقد وجد. وقد تقدم الكلام في البيع الموقوف والشرى الموقوف في كتاب البيوع. مسألة: [بيع الوكيلين] قال أبو جعفر: (وإذا وكل رجلين ببيع عبد أو شراه: لم يجز لأحدهما أن يعقد دون الآخر). قال أحمد: الأصل في ذلك: أن كل عقد فيه بدل، متى وكل به رجلا: لم يجز لأحدهما إيقاعه دون الآخر، مثل البيع، والشرى، والخلع، والصلح من دم العمد، والكتابة، والعتق على مال؛ لأنه يحتاج فيه إلى الرأي لتمليك البدل، وهو حين وكلهما لم يرض برأي أحدهما، وإنما رضي رأيهما جميعا، فلا ينعقد عليه برأي أحدهما. وكذلك كل ما لم يكن فيه بدل، وجعله إليهما على وجه التمليك: فإنه لا يجوز لأحدهما إيقاعه دون الآخر. وذلك كقوله: أمر امرأتي بأيديكما إن شئتما، أو: أمر عبدي في العتق إليكما، أو: أعتقاه إن شئتما: فإنه لا يجوز لأحدهما إيقاعه دون الآخر. *ودلالة التمليك فيه: تعلقه على المجلس، وإنما كان كذلك؛ لأن ما خرج مخرج التمليك، صار كأن المشيئة مشروطة فيه، ومن أجل ذلك تعلق على المجلس، فصار كقوله: طلقاها إن شئتما، فلا يجوز لأحدهما إيقاعه دون الآخر؛ لأن مشيئتهما مشروطة فيه، كقوله: إن دخلتما الدار فهي طالق، أو: فعبدي حر، في كون دخولهما شرطا فيه.

وأما ما لا بدل فيه من الإيقاع، ولم يخرج الأمر مخرج التمليك، فإن لأحدهما إيقاعه دون الآخر، كقوله: طلقا امرأتي، و: أعتقا عبدي، وذلك لأنه لما لم يكن فيه تمليك البدل، ولا شرط مشيئتهما، جرى مجرى الإباحة، فلو أن رجلا قال لرجلين: أبحا هذا الطعام لفلان، كان لأحدهما أن يبيحه دون الآخر، وأيضا في الطلاق يصير كل واحد منهما كأنه موكل بإيقاع نصف تطليقة، وإيقاع نصف منها يقتضي الجميع. مسألة: [بطلان الوكالة بمجهول] قال أبو جعفر: (ومن وكل بشرى عبد، ولم يسم جنسا، ولا مالا: كانت الوكالة باطلة). قال أحمد: الوكالة على ضربين: -وكالة عامة: على وجه التفويض، وهو أن يقول: اشتر لي بألف درهم ما شئت، أو: خذ هذه الألف بضاعة، أو: اجعل لي في مالك بضاعة ألف درهم، ونحو ذلك من الألفاظ الموجبة للتفويض، وجعل الخيار إليه فيما يشتريه، فهذا الضرب من الوكالة لا يضر فيها جهالة الشيء المأمور بشراه. والأصل في المضاربة والشركة والبضاعة لا يضره فيها أن لا يذكر جنس المشترى، وكذلك الوكالة إذا خرجت مخرجها. -ووكالة خاصة: وهو أن لا تقع على وجه التفويض والتخيير: فلا تصح حينئذ مع الجهالة الكثيرة، وتصح مع الجهالة اليسيرة، وذلك مثل قوله: اشتر لي عبدا، فلا تصح الوكالة فيه لكثرة الجهالة، ولو قال: اشتر

لي عبدا ومتاعا، أو: اشتر لي عبدا بألف درهم: جازت الوكالة. والأصل في هذا الضرب من الوكالة: أن يكون الثمن معلوما، لا يصح إلا بذلك، ثم مع الجنس: ينبغي أن يكون الثمن معلوما أو الصفة، فإن كان الثمن معلوما: جازت الوكالة مع جهالة الصفة, وإن كانت الصفة معلومة: جازت مع جهالة الثمن. وكان القياس عندهم أن لا تصح إلا مع نفي الجهالات التي هي منفية عن عقود البياعات، من قبل أن الشيء ينتقل إلى الوكيل، ومن جهته ينتقل إلى الموكل في هذا الوجه. كمن اشترى عبدا من جملة عبيد بغير عينه، فلا يجوز، هذا هو القياس في الوكالة الشرى، إلا أنهم تركوا القياس، وأجازوها مع جهالة الصفة إذا كان الجنس والثمن معلوما، ومع جهالة الثمن إذا كان الجنس والصفة معلومة. والأصل فيه: حديث عروة البارقي، وحكيم بن حزام "أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إليه دينارا وأمره أن يشتري له شاة"، والشاة مجهولة الصفة، معلومة الجنس. فاجزنا هذا القدر من الجهالة في الوكالة الخاصة, وجازت أيضا مع جهالة الثمن إذا كانت الصفة معلومة, مثل أن يقول: اشتر لي عبدا روميا وإن لم يسم الثمن؛ لأن جهالة الثمن مع معرفة الصفة، ليست بأكثر من جهالة الصفة مع معرفة الثمن.

فإن قيل: عبد رومي بعشرة آلاف، وعبد رومي بخمسمائة، وهذا تفاوت عظيم. قيل له: إنما يعتبر العبد المأمور بشراه، على قدر حال الرجل، وما يشتريه مثله، فإذا اعتبرنا ذلك، لم تكن جهالة الثمن بأكثر من جهالة الصفة مع معرفة الثمن. مسألة: بجهالة الثمن في التوكيل بشراء دابة أو ثوب] قال أبو جعفر: (ومن وكل بشرى دابة، أو ثوب، ولم يسم صنفا: لم يجز ذلك، وإن سمى صنفا: جازت الوكالة، سمى في ذلك ثمنا أو لم يسم). قال أحمد: وقد بينا أن جهالة الجنس تمنع صحة الوكالة، سواء سمى الثمن أو لم يسم، والدواب أجناس مختلفة، وكذلك الثياب مختلفة الجنس، فلا تصح الوكالة فيه. وأما إذا سمي صنفا فقال: حمارا، أو برذونا، أو قال ثوبا مرويا: جاز وإن لم يسم الثمن، وذلك لأنه ليس يتناول أنواعا مختلفة يتفاوت ما بينها، فصار كالعبد الرومي، والحبشي، تجوز الوكالة فيه، وإن لم يسم

ثمنًا. مسألة: [جهالة الثمن في التوكيل بشراء دار] قال أبو جعفر: (ومن وكل بشرى دار، ولم يسم ثمنا: لم يجز ذلك، وإن سمى ثمنا: جاز ذلك، وكان ذلك على دور المصر الذي وقعت فيه الوكالة، في قول أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف الأول، ثم رجع فقال: لا تجوز الوكالة في ذلك وإن سمى فيه الثمن، حتى يسمي فيه مصرا بعينه). قال أحمد: الدور مختلفة متفاوتة القيمة، فكانت جهالتها كجهالة صحيحة، وكان لها مهر مثلها، كما لو تزوجها على دابة. فإن سمى بيتا: جازت الوكالة؛ لأن دور المصر الواحد لا تتفاوت مع تسمية الثمن، كالدابة إذا سمى نوعا، وكالثوب إذا سمى صنفا منه. وجعلها أبو حنيفة على دور المصر، للعرف والعادة؛ لأنه معلوم من أمر إنسانا أن يشتري دارا وهو ببغداد: لم يرد به شراها بمصر، أو مكة. *وأبو يوسف حمل الوكالة على الإطلاق، غير مخصوصة بدور المصر، فلم تجوز لأنها تختلف في البلد الواحد ولو مع تسمية الثمن. *****

كتاب الإقرار بالحقوق

كتاب الإقرار بالحقوق [مسألة: القول قول المقر] قال أبو جعفر: (وإذا أقر الرجل: لفلان علي شيء، ثم قال: هو كذا، بشيء ذكره: لم يلزمه غيره). قال أحمد: يقوله: لفلان علي شيء، يقتضي لزومه شيئا تصح المطالبة به، ويكون مضمونا عليه، فإذا أقر بشيء له قيمة: صدق، ولم يلزمه غيره، وإن أقر بشيء لا قيمة له: لم يصدق؛ لأن مثله لا يكون مضمونا، ولا تصح المطالبة به، ولا لزومه. وإنما كان القول قوله، ولم يصدق المدعي على ما ادعى من الزيادة إلا ببينه؛ ولا نلزمه ما شككنا فيه، هل دخل في إقراره أم لا؟ من قبل أن الإنسان بريء الذمة في الأصل من حق الغير، فما تيقنا أن إقراره قد شغله منها: شغلناه، وما شككنا فيه: فهو فارغ على الأصل. والدليل عليه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه". فجعل القول قول المدعى عليه، من حيث كان بريء الذمة في الظاهر

من حق الغير، وجعل المدعي خلاف الظاهر البينة. وكذلك المقر مدع للزيادة التي لم يتيقن دخولها في إقرار المقر، فكان القول فيها قول المقر مع يمينه، وعلى المدعي البينة. مسألة: [الاستثناء في ألفاظ الإقرار] قال أبو جعفر: (ولو قال: له علي عشرة دراهم إلا سبعة: لم تلزمه إلا ثلاثة دراهم). وذلك لأن الثلاثة مع الاستثناء عبارة عن الباقي، فصارت الثلاثة لها عبارتان، إحداهما: قولك ثلاثة، والثانية: قولك: عشرة إلا سبعة. والدليل على ذلك: أن المعقول بكل واحد منهما من القولين هو المعقول بالآخر، ألا ترى إلى قوله: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما}، عقل منه ما يعقل من قوله لو قال: تسعمائة وخمسين. مسألة: [الاستثناء من المستثنى] قال أبو جعفر: (ولو قال: له علي عشرة إلا ثلاثة إلا درهما: كان له ثمانية دراهم). وذلك لأن الاستثناء حكمه أن يرجع إلى ما يليه، والدليل عليه: قوله تعالى: {إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته}، فكان آل لوط مستثنيين من المهلكين، ثم كانت المرأة مستثناة من المنجين، لاحقة بالمهلكين، وكان الاستثناء في كل واحد راجعا إلى ما يليه دون ما يقتصر.

وإذا صح ذلك، كان قوله: لفلان علي عشرة إلا ثلاثة: موجبا لاستثناء الثلاثة من العشرة لو اقتصر عليها، فلما لم يقتصر عليهما حتى قال: إلا درهما، كان الدرهم مستثنى من الثلاثة؛ لأنه يليها، فنفى منها درهما، فحصل الاستثناء من العشرة درهمان. مسألة: [الاختلاف في حلول المال المقر به] قال أبو جعفر: (ولو قال: له علي عشرة دراهم إلى شهر، فقال المقر له: بل هي حالة: كان القول قول المقر به له مع يمينه). وذلك أن قوله: علي عشرة: إقرار له يما لزمه في الحال، وذكر الأجل دعوى لحق يدعيه لملك الغير؛ لأن كل من أقر لغيره بملك شيء، ثم ادعى فيه حقا: لم يصدق إلا ببينة، كمن أقر لرجل بدار في يده، وادعى أنه آجرها منه، أو رهنها إياه، فلا يصدق إلا ببينة. [مسألة:] قال: (ولو قال: كفلت لك بعشرة دراهم إلى شهر، فقال المقر له: بل كفلت في حالة، كان القول قول المقر، في قول أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف الأول، ثم رجع أبو يوسف فقال: لا يصدق على الأجل). وإنما صدق على الأجل، لأن مال الكفالة قد يجوز أن يتعلق ثبوته بمجيء الوقت، بأن يقول: إذا جاء رأس الشهر، فقد كفلت بما لك على فلان، فيصح ذلك، فلما كان كذلك، كان القول كقوله فيه، كأنه أقر بضرب من المال دون غيره، وأما سائر الديون فلا يصح تعلقها بمجيء الوقت، فكان قوله: علي عشرة دراهم: إقرار يلزمه، وادعى دخول الأجل عليه، فلم يصدق. ألا ترى أنه لو قال: قد بعتك هذا العبد بألف درهم، على أن لا

تلزمك الألف إلا بعد شهر: لم يصح، ولو قال: بألف إلى شهر: جازه لأن الألف قد لزمت في الحال، ودخل الأجل عليه لتأخير المطالبة، فلذلك اختلفا. مسألة: [الاستثناء بعد السكوت في الإقرار] قال أبو جعفر: (ولو قال: له علي عشرة دراهم، ثم سكت، ثم قال: إلا درهما: كانت عليه عشرة، وكان الاستثناء باطلا). وذلك لأن الاستثناء إذا لم يكن موصولا بالجملة: انفرد عن حكمها، وثبت حكم الجملة معفوا منها ما تضمنته من المال؛ لأن قوله: له علي عشرة: إذا سكت عليها يلزمه العشرة، فإذا قال بعد لزومها: إلا درهما: كان ذلك رجوعا عما لزمه، ولم يكن استثناء. ألا ترى أن الاستثناء الذي هو المشيئة، لا يصح حكمه بعد مع السكوت إذا قال: عبدي حر، ثم سكت، ثم قال: إن شاء الله: لم يقبل الاستثناء، ولو قال: عبدي حر إن شاء الله، موصولا: لم يعتق. ويدل على ذلك: انه لو قال: لفلان علي ألف درهم ولفلان: كانت الألف لهما جميعا، ولو قال: لفلان علي ألف درهم، ثم سكت، ثم قال: ولفلان: لم ينقص الأول من الألف شيئا. مسألة: [الجمع بين شيئين في الإقرار] قال أبو جعفر: (ولو قال: له علي عشرة ودرهم: كانت عليه أحد عشر درهما). وذلك لأن قوله: علي: يقتضي شيئا عليه في ذمته، والدرهم مما يصح ثبوته في الذمة، فكانت العشرة من جنس الزيادة، فصار كقوله: له علي أحد عشر درهما.

قال أحمد: وكذلك هذا في كل مكيل، أو موزون، أو معدود؛ لأن جميع ذلك يثبت في الذمة بنفسه، ألا ترى أن على مستهلكه مثله في ذمته. مسألة: قال أبو جعفر: (لو قال: له علي عشرة وثوب: كان له عليه ثوب، وكان القول قوله في العشرة). قال أحمد: وذلك لأن قوله: له علي عشرة: يقتضي ثبوت شيء في ذمته، والثوب مما لا يصح ثبوته في ذمته بنفسه؛ لان مستهلكه لا يلزمه مثله، وإنما يلزم قيمته، وليس ذكر الثوب في ذلك عبارة عن عدد، إذ جائز أن يكون عبارة عن الجنس إذا دخلت الألف واللام عليه، فلم يكن في اللفظ دلالة على ان العشرة من جنس الثوب، لاختلاف حكمهما في ثبوتهما في الذمة، وفي العبارة عن العدد، فلم يجز أن نجعله كقوله: له علي أحد عشر ثوبا، فلذلك انفرد حكم الثوب عن حكم العشرة، وكان القول قوله في العشرة. وكذلك لو قال: عشرة وثوبان؛ لأن قوله: وثوبان: تضعيف لذلك الثوب الذي لو يوجب ذكره كون العشرة أثوابا. مسألة: قال: (ولو قال: له علي عشرة وثلاثة أثواب: كان عليه ثلاثة عشر ثوبا). وذلك لأنه قرر الأثواب، وذكر الأعداد، وهو قوله: ثلاثة، فالعشرة أيضا من ألفاظ الأعداد، فصارت العشرة من جنس الأثواب، لاتفاقها في ذكر العدد، كقوله: ثلاثة عشر ثوبا. وليس كذلك الثوبان؛ لأنه تضعيف للثوب، والثوب ليس بعبارة عن

العدد، بل عن الجنس، فلذلك اختلفا. مسألة: [الاستدراك في لفظ الإقرار] قال أبو جعفر: (ولو قال: له علي درهم، لا بل دينار: كان عليه درهم ودينار إذا ادعاهما المقر له). وذلك لأن قوله: له علي درهم: إقرار بالدرهم، وقوله: لا: رجوع عما أقر به، و: بل: استدراك وإثبات للثاني، فلا يصدق على الرجوع؛ لأنه على غيره، ويصدق على إثبات الثاني؛ لأنه على نفسه. مسألة: قال: (ولو قال: له علي درهم لا بل درهمان: لزمه درهمان). وذلك لان الدرهم يصح دخوله تحت الدرهمين، فيصح بذكر الدرهمين خبرا عنهما، فلم نجعله غيرهما. مسألة: قال: (ولو قال: هذا العبد لزيد، لا بل لعمرو: يسلمه إلى زيد، ولم يكن لعمرو شيء). وذلك لأن إقراره قد صح لزيد بدءا، فلا يصدق بعد ذلك على إزالة ملك زيد عنه بقوله؛ لأن إقرار الإنسان حكمه أن يصح منه ما كان على نفسه، ولا يصح على غيره, مسألة: (ولو أقر به لزيد، وسلمه إليه بغير قضاء، ثم أقر به لعمرو: ضمن قيمته لعمرو). وذلك لأنه قد اعترف على نفسه بفعل يلزمه به الضمان، وهو تسليمه

إلى زيد مع إقراره بأنه لعمرو، وقد صدق على نفسه فيما تضمنه إقراره من الضمان، ولا يصدق على زيد في إبطال ملكه. *قال: (ولو كان سلمه إلى زيد بقضاء قاض: فلا ضمان عليه). من قبل أن القاضي أخرجه عند يده، لم يكن منه فعل فيه يلزمه الضمان، وإقراره به بدءا لزيد لا يلزمه الضمان لعمرو؛ لأن مال الغير لا يضمن بالإقرار، ويضمن بالتسليم. ألا ترى أن من أقر بعبد في يد رجل أنه آجره: لم يضمنه، ولو أخذه وسلمه إليه: ضمنه. مسألة: قال: (ولو قال: غصبت هذا العبد من زيد، فسلمه إليه بقضاء، أو بغير قضاء، ثم قال: غصبته من عمرو: ضمن لعمرو قيمته). لأنه اعترف بضمانه بالغصب. مسألة: [دخول الغاية في ألفاظ الإقرار، وعدم دخولها] قال: (ولو قال: لفلان علي من درهم إلى عشرة دراهم: كانت له عليه تسعة دراهم في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمد: عشرة). الأصل في ذلك عند أبي حنيفة: أن الغاية قد تدخل في حال، ولا تدخل في أخرى، فهي مشكوك فيها، وقد قدمنا فيما سلف، أنا لا نلزم المقر إلا ما تيقنا دخوله في إقراره، فلما كان الدرهم العاشر الذي هو الغاية مشكوكا فيه: لم يدخل في إقراره. والدليل على أن الغاية قد لا تدخل: قوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى

الليل}، فلم يدخل الليل فيه. وقال: {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}، فدخل الغسل في إباحة الصلاة. وعلى هذا المعنى قلنا في قوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق}: أنها داخلة في الغسل؛ لأنها لما كانت مشكوكا فيها بدخول الغاية عليها، وكان الحدث يقينا، لم نرفعه بالشك. ولهذه العلة قال أبو حنيفة: إذا باع عبدا على أنه بالخيار إلى وقت الظهر، أن وقت الظهر داخل في الخيار؛ لأن الثمن لما لم يستحق عليه بعقد البيع، إذ لم يملك عليه المبيع مع شرط الخيار، بقيناه على الأصل، ولم نخرجه عن ملكه بالشك. فالمعنى المانع من دخول الدرهم العاشر في الإقرار، هو الموجب لدخول المرافق في الطهارة، ودخول وقت الظهر في الخيار. وكذا قال أبو حنيفة في قوله: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث: أنها تطلق ثنتين، للعلة التي ذكرنا، وهو أنا لا نوقع الطلاق بالشك، والغاية مشكوك فيها. *وقال أبو يوسف ومحمد: تدخل الغاية في الطلاق، والإقرار، والمرافق في الطهارة، ولا يدخل وقت الظهر في الخيار، وذلك لأنه قد

لفظ بالثلاث، وذكر العشرة في الإقرار، والمرافق مذكورة في آية الطهارة، فلا نخرج شيئا منها من حكم اللفظ إلا بيقين. وأما الخيار إلى وقت الظهر، فإنهم جعلوه بمنزلة قولك: بعتك هذا العبد بألف درهم إلى شهر رمضان: أن شهر رمضان غير داخل في الأجل باتفاق، وكذلك وقت الظهر لما جعله غاية لأجل الخيار، لم يدخل. *وفرق أبو حنيفة بين قوله في الأجل إلى شهر رمضان، وبين الخيار إلى وقت الظهر، لجريان الفرق بنفي دخول شهر رمضان في الأجل، كما لو قال: بعتكه بألف درهم إلى سنة ثلاث وخمسين: لم تدخل سنة ثلاث في الأجل. وأصل آخر تجري عليه مسائل أبي حنيفة في هذا الباب، وهو: أن الجملة متى كانت منتظمة للغاية، وما عداها، فإن دخول الغاية لنفي ما عداها، كقوله تعالى: {وأيديكم}: يتناول العضو إلى المنكب. يدل عليه أن عمارا تيمم إلا الآباط، لقوله تعالى: {بوجوهكم وأيديكم منه}، فكان قوله: {إلى المرافق}: لإسقاط ما عداها، وبقى حكم اللفظ موجودا في الغاية، لم يسقط عنها بالشك، إذ جائز أن يريدها.

وكذلك قوله: {وأرجلكم إلى الكعبين}، لأن الاسم يتناول العضو إلى الفخذ. وقوله: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض)، فأباح الأكل بالليل، وحظره بالنهار، واسم النهار لا ينتظم الليل، فلم تدخل الغاية لإسقاط ما انتظمته الجملة، فلذلك لم تدخل في الحكم. ولهذا قلنا في قوله: على أنك بالخيار إلى وقت الظهر، أن ذلك ساقط ما عدا الغاية؛ لأن قوله: على أنك بالخيار: يقتضي خيارا مؤبدا، ولذلك يفسد البيع، فإذا قال: إلى وقت الظهر: فإنما ذكر الغاية لإسقاط ما عداه، فلذلك دخل فيه، كما دخلت المرافق والكعبان في الغسل. *وأما قوله: لفلان علي من درهم إلى عشرة، و: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث: فلم تنتظم هذه الجملة دخول الغاية فيها، فلم يلزمه العاشر، إذ لم تنتظمه الجملة، ولا اشتمل عليه معناها، وإنما ذلك العاشر في الغاية، وجائز أن يراد، وأن لا يراد، فلم يلزمه للشك. وأما الابتداء، فهو ثابت لا محالة، إ\ لا تصح بها العشرة إلا عليه، ولأن الدرهم مذكور في اللفظ بلا محالة، فهو ثابت، وليس كذلك الغاية؛ لأن الدرهم العاشر غير مذكور في اللفظ على حاله، وإنما هو مذكور في جملة العشرة.

*وقال زفر: يسقط الابتداء والغاية، فتلزمه ثمانية، وجعله بمنزلة قوله: لفلان من هذا الحائط إلى هذا الحائط: وهذا لا خلاف فيه أنه على ما بينهما، ولا يدخل فيه الحائطان. وفرق أبو حنيفة بينهما، من قبل أن ذكر الحائطين في هذا الإقرار على وجه التحديد للموضع، والحد لا يدخل في المحدود، ألا ترى أنه إذا قال في الشرى: حده الأول إلى الطريق: أن الطريق غير داخل في العقد. *وقوله: علي ما بين درهم إلى عشرة دراهم: على الاختلاف الذي ذكرنا في قوله: على من درهم إلى عشرة. مسألة: [الاستثناء من غير جنسه في الإقرار] قال أبو جعفر: (ولو قال: له علي دينار إلا درهما، أو إلا قفيز حنطة: فعليه دينار إلا مقدار قيمة ذلك منه. ولو قال: علي دينار إلا ثوبا: كان عليه دينار، ولم يصح استثناء الثوب. وقال محمد: لا يصح الاستثناء من غير جنسه). قال أحمد: أصل أبي حنيفة في ذلك، أن الاستثناء لما ثبت في الذمة بنفسه، يصح من الجملة ولو كان من غير جنسه، وما لا يصح ثبوته في الذمة بنفسه، لم يصح استثناؤه من غير جنسه. فما يثبت في الذمة بنفسه هو الذي يلزم بالاستهلاك مثله، وما لا يثبت في الذمة بنفسه، هو ما يلزم بالاستهلاك قيمته. وإنما جاز هذا عنده؛ لأن قوله: علي: ينفي ثبوت ما أقر به في ذمته، فجاز أن يستثني منه ما يثبت في الذمة بنفسه، وكان هذا منزلة الاستثناء

من جنسه، لجواز كون الجميع في الذمة بالإطلاق. ويدل على ذلك: قول الله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى}، فاستثنى إبليس من الملائكة، وليس من جنسهم، لجواز كونه من الساجدين، وإن لم يكن من جنس الملائكة المأمورين بالسجود، وكذلك ما وصفنا. وأما الثوب فلا يصح ثبوته بالذمة بنفسه، فلم يكن هناك جهة لجواز استثنائه من الدراهم لو لم تكن من جنسه، ولا مما يثبت في الذمة بنفسه، فتصح العبارة عنه بقوله: علي، فلذلك بطل. وأما محمد، فإنه لم يجز الاستثناء من غير جنسه، كما لم يجز استثناء الثوب من الدراهم. مسألة: [لو ادعى أنه أخذها وديعة، فقال له: بل غصبا] قال أبو جعفر: (ومن قال لرجل: أخذت منك ألف درهم وديعة، فهلكت، وقال صاحب المال: أخذتها غصبا: فالمقر ضامن لها). وذلك أنه أقر بعل، فلزمه الضمان، وهو قوله: أخذتها، وادعى البراءة بالإذن، فلا يصدق. كمن أقر لرجل بألف درهم في ذمته، ثم ادعى أنه أبرأه. وكمن قلع ضرسا لرجل، ثم قال: استأجرتني بنصف درهم على قلعه، فيضمن، ولا يصدق على ما ادعى.

وكمن هدم حائط رجل، وقال: استأجرتني على هدمه، فيضمن ما هدم، ولا يصدق على الإجازة. ويستحلف المقر له؛ لأنه مدعى عليه، ادعى المقر البراءة من جهته بعد اعترافه بما يوجب عليه الضمان، كمن أقر لرجل بألف درهم، وادعى البراءة. مسألة: قال أبو جعفر: (ولو قال: أعطيتني ألف درهم وديعة، فهلكت، وقال الآخر: أخذتها غصبا: فالقول قول المقر مع يمينه). وذلك لأنه لم يعترف بفعل لنفسه يلزمه الضمان، وإنما اعترف بفعل الدافع، إذ جائز أن يودعه هو، بأن يضعه في بيته، من عير أن يقبضه المودع، فلم يصدق المقر له على دعوى الضمان إلا ببينة. مسألة: [ادعاء المقر زيوف الدراهم المقر بها] قال أبو جعفر: (وإذا قال له: علي ألف درهم من ثمن متاع، أو قرض، ثم قال: هي زيوف أو بهرجة: لم يصدق، وصل أو قطع. وقال أبو يوسف ومحمد: يصدق إذا وصل). لأبي حنيفة: أن عقد البيع يوجب صحة الثمن للبيع، كما يوجب صحة المبيع للمشتري، فدعوى المشتري لرضا البيع بالزيوف، كدعوى

البيع لرضا المشتري بعيب في المبيع، فلا يصدق؛ لأنه بمنزلة من ادعى البراءة من عيب بمبيع يوجب العقد صحته. *وفي قولهما: يصدق إذا وصل، كما لو استثنى، وإذا قطع: فقد لزمه الثمن صحيحا، فلا يصدق على النقص، كما لا يصدق على الاستثناء. والقرض كالبيع؛ لأنه يقتضي صحة البدل في العرف، من حيث ملكه بالتراضي على وجه البدل. مسألة: قال أبو جعفر: (ولو قال له: علي ألف درهم من ثمن متاع ستوقة أو رصاص، فإن وصل: فعليه في قول أبي يوسف ألف جياد. قال أبو يوسف: لأني لو صدقته على ذلك أفسدت البيع. قال: وقال محمد: القول فيه قوله، وأصدقه، لأنه لو لم يقر إلا ببيع فاسد، والآخر يدعي بيعا صحيحا، فهو مدع، وعليه البينة). قال أحمد: روى أبو الحسن رحمه الله في هذه المسألة أن قول أبي حنيفة أنه لا يصدق، وعليه ألف جياد، وهو صحيح على ما قدمنا من الاعتلال. قال: وقال أبو يوسف: يصدق المقر، والبيع فاسد، لأن الستوقة لا يتبايع بها، وهذا خلاف ما رواه أبو جعفر عنه، وفي غير كتاب الإقرار

من الأصول، كما روى أبو بكر جعفر من الاختلاف. ولقول أبي جعفر وجه آخر في هذه المسألة، وهو: أن كل متعاقدين دخلا في عقد، فدخولهما فيه شرط اعتراف منهما بجوازه، ألا ترى أنهما لو تبايعا، ثم ادعى أحدهما شرطا في العقد يفسد العقد، أو خيارا مجهولا، لم يصدق عليه، وكان القول قول مدعي الصحة. فكذلك إذا ادعى المشتري أنها ستوقة، فقد ادعى فساد البيع؛ لأن الستوقة عرض تختلف أنواعه وقيمته، بمنزلة أواني صفر غير معينة، فلا يجوز. *ووجه قول أبي يوسف الذي رواه أبو الحسن، وقول محمد الذي رواه أبو جعفر: هو أنهما في هذه الحال مختلفان في الثمن، كالذي يقول: اشتريته بألف درهم، وقال البيع: بعتكه بمائة دينار: فلا يصدق البيع على دعواه. وبمنزلة من قال: اشتريته بخمر، وقال البيع: بعتكه بدراهم. وأما الزيوف فهي من جنس الجياد، وإنما ذاك عيب فيها، ألا ترى أنه يجوز أخذها عن الجياد في ثمن الصرف، ورأس مال السلم، ولا يجوز مثله في الستوقة. مسألة: [دعوى الزيوف في الإقرار بغصب أو وديعة] قال أبو جعفر: (ولو قال: غصبتك ألف درهم، أو أودعتنيها، ثم قال

بعد ذلك: هي زيوف أو بهرجة: صدق". وذلك لأن الغصب والوديعة لا يوجبان صحة المغصوب والمودع. وأيضا فلم تجر العادة في الغصب والوديعة بجياد دون غيرها، والعادة في البيع الجياد، دون الزيوف. مسألة: [دعوى الإقرار بعبد لم يقبضه] قال أبو جعفر: (ولو قال: له علي ألف درهم من ثمن عبد باعنيه، ولم أقبضه: لم يصدق في قول أبي حنيفة، ولزمه ما أقر به إلا أن يقول موصولا بإقراره: من ثمن هذا العبد، لعبد قائم في يد المقر، فيكون القول فيه قوله). وذلك أن قوله: له علي ألف درهم: يقتضي ثبوت المال عليه في ذمته، فإذا قال: من ثمن عبد باعنيه، وهو بغير عينه، ومعلوم أنه لا يجوز أن يلزمه ثمن عبد بغير عينه، لأنه لو اشترى عبدا بعينه، ثم اختلط بعبيد، فلم يعرف بعينه: بطل البيع وسقط عنه المال، فصارت إضافته له إلى ثمن عبد بغير عينه، رجوعا عن الإقرار، كمن قال: له علي ألف درهم ليست له علي. وأما إذا أضافه إلى عبد بعينه: فالقول قوله؛ لأنه لم ينف وجوبه، وإنما أضافه إلى هذه الجهة دون غيرها. ومن أقر لإنسان بحق: فالقول قوله فيه من أي جهة لزمه، ما لم يكن في ذكر الجهة إقراره وإبطاله. *قال: (وأما أبو يوسف ومحمد فإنهما قولان: لو صدقه المقر له أنه من ثمن عبد: كان القول قول المقر أنه ما قبضه). من قبل أن العبد لا يصير في ضمانه إلا بالقبض، فلا يصدق

البيع على القبض. و (أما إذا قال المقر له: هي لي عليه، لا من ثمن عبد بعته: فالقول قوله، ولزم المقر الدراهم). لأنه غير مصدق على إسقاطه عن نفسه بقوله: من ثمن عبد بغير عينه. مسألة: [الإقرار بدين في المرض] قال أبو جعفر: (ومن أقرض بدين في مرضه: لزمه كما يلزمه في صحته، إلا أن يكون عليه دين في الصحة، فيبدأ به على دين المرض). وذلك لأن المرض لا يوجب حجرا عليه في إقراره للأجنبي، كما لا يوجب حجرا في التصرف في الشرى والبيع، ولا نعلم أيضا في جوازه خلافا بين الفقهاء. وأما إذا كان عليه دين في الصحة، فإن إقراره جائز أيضا، إلا أنه يبدأ بدين الصحة، وذلك لأن غرماء الصحة قد تعلق لهم حق الاستيفاء في مرضه في ماله. ألا ترى أنه لو وهب أو تصدق، ثم مات: فسخ ذلك كله لحق الغرماء، فلما تعلق لهم حق بعين المال في المرض، لم يصدق المريض عليهم في إيجاب المحاصة بينهم وبين من أقر له في المرض فيما في يده. مسألة: [إقرار المريض بدين لأحد ورثته] قال: (ولا يجوز إقرار المريض بدين لأحد من ورثته إذا مات من مرضه).

وذلك لأن المرض يوجب حجرا عليه في الحكم الوارث، والدليل عليه: أن ما يملكه من ماله في حال الموت، وهو الثلث، لا يجوز صرفه إلى الوارث، فهذه صفة الحجر أن لا يجوز تصرف المالك فيما يملكه، كالصبي والمجنون. والدين كذلك حكمه مع الأجنبي، ألا ترى أنه يملك صرف ما يملكه من الثلث في حال الموت إليه، فدل أنه غير محجور عليه في حق الأجنبي. فإن قيل: فهو محجور عليه في حق الأجنبي في الثلثين؛ لأنه لا يجوز صرفهما عليه في حال المرض من الثلثين، لأنه لا يجوز صرفهما إليه في حال الموت. قيل له: لأنه في حال المرض غير مالك للثلثين؛ لأن تصرفه في المرض معتبر به حال الموت، ألا ترى أن هبته في المرض لا تجوز إلا من الثلث، كأنه وهب بعد الموت، وهو فإنما يملك في المرض ما يملكه بعد الموت، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: "إن الله تعالى جعل ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم". "وقال لسعد حين قال: أتصدق بجميع مالي في مرضي؟ فقال:

الثلث والثلث كثير". فلما كان تصرفه في الثلثين في حال المرض بالهبة ونحوها كتصرف من تصرف في ملك غيره، لم يدل ذلك على الحجر؛ لأن امتناع جواز تصرف الإنسان في ملك الغير، لا يدل على الحجر. ولهذه العلة قال أبو حنيفة في بيعه من وارثه في المرض بمثل القيمة: أنه لا يجوز؛ لأنه حين كان محجورا عليه في حق الوارث لما بينا، صار كالمجنون والصغير إذا باعا بمثل القيمة. *ووجه آخر: وهو أنه لا يملك في المرض إيجاب حق للوارث فيما يملكه بقوله، وهو الهبة والوصية، كذلك الدين، إذا كان ثبوت جميعه متعلقا بقوله، وهو يملك إثبات الحق في ماله لأجنبي بقوله، لأنه لو وهب له مقدار الثلث من المال في مرضه جاز، فإذا أقر فيه بدين جاز إقراره فيه على الوجه الذي أقر به، واستحق الثلث بالدين، ثم ما بقى ينبغي أن يجوز إقراره في الثلث لهذه العلة أيضا، ثم كذلك أبدا حتى لا يبقى شيء من ماله إلا مستحقا بالدين، وبذلك فارق الوارث. ****

كتاب العارية

كتاب العارية مسألة: [ضمان العارية بالتعدي] قال أبو جعفر: (والعارية غير مضمونة إلا أن يتعدى فيها المستعير، فيضمن بالتعدي). وإنما لم تكن مضمونة؛ لأنه قبضها بإذن مالكها، لا على وجه البدل، فصارت كالوديعة. فإن قيل: ينبغي أن يضمنها؛ لأنه قابض لنفسه، وله منفعته. قيل له: والمستأجر قابض لنفسه، ولا يضمن بالاتفاق، فهذه علة منتقضة. وأيضا قد اتفق الجميع على أن ما يحدث من التلف والخرق باللبس غير مضمون، فدل أن الأصل غير مضمون، وأنه بمنزلة الثوب المستأجر، أنه لما لم يضمن النقصان، لم يضمن الأصل بالهلاك. ألا ترى أن الغصب لما كان مضمونا، لم يختلف فيه ضمان الجزء، والكل، في أن الأصل لما كان مضمونا، كان الجزء منه مضمونا. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قال لصفوان بن

أمية حين استعار منه أدراعا: "إنها عارية مضمونة". قيل له: أول ما يقال: إن هذه اللفظة لا يصححها أهل النقل. ورواها يزيد بن هارون ببغداد، وروى غيرها بواسط، وإنما الصحيح منه: "بل عارية مؤداة". وعلى أنها لو صحت، لم تدل على ضمانها عند الهلاك؛ لأن المراد: مضمونة الأداء. كما روي في خبر آخر: "بل عارية مضمونة حتى يؤديها إليك". فأخبر أن المراد ضمان الأداء والرد، لا ضمان القيمة عند الهلاك، وهذا كما يقول الرجل: قد ضمنت لك حاجتك، يعني هممت بالقيام بها، وأضمرتها. وكذلك قوله: مضمونة، يعني به: انه يضمن بردها؛ لأن صفوان قال له: تأخذها يا محمد غصبا؟ فقال: لا، بل عارية مضمونة، يعني مردودة.

ويدل أن معنى الضمان ما وصفنا، قول لبيد يصف ناقته: بتلك أسلي حاجتي إن ضمنتها ... وأبرئ هما كان في الصدر داخلا قال أهل اللغة: ضمنتها: أي صارت في قلبي، وهممت بها. ويدل عليه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لصفوان بعد فراغه من الحرب: "إنا فقدنا من أدرعكم أدراعا، فهل نغرم لك؟ قال: لا يا رسول الله، لأن في قلبي ما لم يكن فيه يومئذ". فهذا يدل على أنها لم تكن مضمونة؛ لأنها لو كانت كذلك لما قال: هل نغرم لك؟ وهو قد غرمها وضمنها.

ألا ترى "أنه لما استقرض من عبد الله بن أبي ربيعة ثلاثين ألفا في بعض مغازيه، فلما قدم مال أعطاه، وقال: بارك الله لك في أهلك ومالك، فما جزاؤك إلا الوفاء والحمد". ألا ترى أنه لما كان القرض مضمونا، لم يقل: هل أغرم لك، فلو كانت العارية مضمونة، لغرمها، وما سأله عن إرادته للغرامة. وأيضا: لو صح أنها مضمونة لصفوان، لم يدل على ضمانها لغيره، لأن صفوان كان حربيا حينئذ، ولم يكن أسلم، وقد يجوز بين أهل الحرب والمسلمين من العقد، ما لا يجوز بين المسلمين فيما بينهم. ألا ترى أنه يجوز لنا أن نأخذ منهم رهائن أحرارا، ولا يجوز رهن الحر فيما بيننا. وأيضا: يجوز أن يكون شرط ضمانها تألفا له على الإسلام، كما كان يعطي المؤلفة قلوبهم بلا سبب غير التألف. ويدل عليه "أن صفوان قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين قال: أغرمها لك؟ قال: لا، فإن في قلبي من الإسلام، ما لم يكن قبل".

فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى ترد": عمومه يوجب ضمانها. قيل له: لم تضمن حال الهلاك، لأنه قال: "عليه ما أخذت"، ولا قيمة، فليست ما أخذت، فإنما تناول ذلك رد العين مادامت قائمة، فأما حال الهلاك، فلم يدخل في الخبر. ويعارضون عليه بقوله تعالى: (ما على المحسنين من سبيل)، والمستعير محسن في استعارته ثوبا ليصلي فيه، وعموم الآية ينفي ضمانه. وقد روي عن علي رضي الله عنه مثل قولنا. وروي عن ابن عباس وأبي هريرة ضمانها. مسألة: [إعارة العارية]. قال أبو جعفر: (ومن استعار دابة، ولم يسم شيئا: كان له أن يعيرها غيره).

وذلك لأن العارية تقتضي تمليك المنافع بغير بدل، فكان له أن يملكها غيره، كما أن للمستأجر تمليك المنافع غيره؛ لأن الإجازة أيضا تقتضي تمليك المنافع. وليست العارية كالوديعة في أن المودع يضمنها إذا أودعها غيره؛ لأن الوديعة إنما هي أمر بإمساك، ولا يدخل تحتها إمساك غيره، والعارية تمليك المنافع، فهي بالإجازة التي هي تمليك المنافع أشبه. *قال أبو جعفر: (فإن سمى له شيئا: لم يكن له أن يجاوزه إلى غيره، فإن تجاوزه إلى غيره: ضمن). قال أحمد: هذا فيما يختلف استعماله من اللبس والركوب ونحوهما، فإذا استعار ليلبسه هو، فألبسه غيره: ضمن؛ لأن اللبس يختلف. وكذلك الركوب، وهو فلم يرض بركوب غيره، ولبس غيره، فإذا خالف: ضمن. وأما ما لا يختلف استعماله وغيره فيه: فإنه لا يضمن إذا أعاره غيره، وإن شرط له أن يستعمله هو، على حسب ما نقول في الإجارة. مسألة: [أقسام العارية] والعواري عندهم على ضربين: ضرب غير مضمون، وهو الذي يجوز أن تملك منافعه بعقد الإجارة، كلبس الثوب، وركوب الدابة. والضرب الآخر منها مضمون، وهو ما لا يصح تمليك منافعه بعقد الإجارة، وتكون عاريتها قرضها، نحو الدراهم، والدنانير والفلوس، والموزونات، والمكيلات، التي لا يتوصل إلى الانتفاع بها إلا بأستهلاك

أعيانها، فتكون عاريتها فرضها، لأن العارية لما كانت تمليك المنافع، وهو لا يصل إلى منافعها إلا باستهلاك العين، صار ذلك إذنا منه له في استهلاك العين، وهذا هو القرض. ومن أجل كونه عارية، لم يصح الأجل فيه؛ لأن التأجيل لا يصح في العواري، ألا ترى أنه لو أعاره ثوبا شهرا: كان له الرجوع فيه قبل الشهر. مسألة: [استعارة الأرض] قال أبو جعفر: (ومن استعار أرضا مدة معلومة: فللمعير أخذها منه في المدة، ونقض العارية فيها). وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى ترد": اقتضى ذلك ردها متى طولب بها. وأيضا: فإن المنافع التي لم يستوفها بعد في مستقبل المدة بمنزلة الصدقة والهبة التي لم تقبض، فله الرجوع فيها. مسألة: [استعارة الأرض بشرط البناء فيها بغير مدة] قال: (ولو استعارها منه على أن يبني فيها ما شاء، أو يغرس بغير

مدة: فللمعير الرجوع بعد البناء والغرس). لما ذكرنا من العموم قوله صلى الله عليه وسلم، والنظر. * (ويأخذ المستعير بهدم بنائه، وقلع شجره، وإن شاء أعطاه قيمة البناء والغرس). وذلك لأنه لما صح له الرجوع فيها لما بيناه، خرجت من أن تكون عارية، فكان بمنزلة وضع شيئا في أرض غيره، فيِمر برفعه؛ لأنه ليس له الانتفاع بها إلا بإذن مالكها. وللمعير أن يعطيه قيمة ذلك، لما في قلعه من تخريب أرضه. مسألة: [استعارة الأرض بشرط البناء إلى مدة معلومة] قال أبو جعفر: (ولو كانت العارية إلى وقت بعينه: لم ينقض، والمسألة بحالها، وكان على المعير قيمة البناء والغرس قائمين في الأرض). وقال أحمد: وله الرجوع في الأرض لما بينا، ويغرم قيمة البناء والغرس؛ لأنه قد غره في الغرس والبناء، وتبقيته فيه إلى انقضاء المدة، فضمنها إذ أخرجه منها قبل الوقت، كما يضمن البيع عند الاستحقاق بالغرور. ويضمن قيمته قائما في الأرض لأجل الغرور، كما يضمنه البيع عند الاستحقاق. *****

كتاب الغصب

كتاب الغصب مسألة: [ضمان المغصوب] قال أبو جعفر: (وكل ما غصبه رجل مما ينقل ويحول، فتلف في يده بغير فعله: فعليه قيمته يوم غصبه، إلا أن يكون مما له مثل، فيكون عليه مثله). قال أحمد: الأصل فيه: قول الله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم}. وقال الله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}. وقال: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}. والمثل تارة يكون بمثله في مقداره من جنسه، وذلك في المكيل، والموزون، والمعدود، وتارة يكون القيمة، وهو فيما عدا ما ذكرنا. والأصل في ضمان قيمة ما استهلك مما وصفنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم "في عبد بين رجلين أعتقه أحدهما، وهو موسر: أنه يضمن

نصف قيمته". فلم يوجب عليه نصف عبد مثله، فصار ذلك أصلا فيما وصفنا. ولأن القيمة في نظائر ذلك أعدل من مثله في جنسه، لتفاوت ما بين الشخصين. فإن قيل: روى أنس أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كسرت قصعة، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم بدلها قصعة. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا يحيى عن سفيان قال: حدثني فليت العامري عن جسرة بنت دجاجة قالت: قالت عائشة: "ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية، صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما، فبعثت به، فأخذني أفكل، فكسرت الإناء، فقلت: يا رسول الله! إما كفارة ما صنعت؟ فقال: إناء مثل إناء، وطعام مثل طعام". قيل له: أما الحديث الأول، فلا دلالة على وجوب قصعة بدلها؛ لأنه أعطاها قصعة، فرضيت.

وكذلك حديث عائشة، لأنه يحتمل أن يكون برضا صاحب القصعة، ونحن نجيز ذلك بتراضهما. وكذلك ما روي عن عبد الله بن مسعود حين أشار على عثمان بأن يضمن للأعرابي الذي قال له: إن بني عمك عدوا على إبلي، فحملوا ألبانها، وأكلوا فصلانها، فقال: إذا نعطيك إبلا مثل إبلك، وفصلانا مثل فصلانك. فأشار عبد الله عليه بأن يعطيه ذلك في الوادي الذي ينزله الأعرابي". إنما كان على وجه التراضي بها: يدل عليه: أن عثمان لم يكن عليه ضمان ما استهلكه بنو عمه. مسألة: [ضمان نقصان المغصوب في يد الغاصب] قال أبو جعفر: (وإذا نقص المغصوب في يد الغاصب، ضمن النقصان، ويرد الأصل). وذلك لأن ضمانه تعلق بالقبض، والأتباع تضمن بالقبوض؛ لأنه لا يصح إفرادها بالقبض، وكذلك المقبوض على بيع فاسد، والرهن، والمقبوض على وجه السوم، كل ذلك يضمن أتباعه من حيث تعلق ضمانه بالقبض. وليس كالمبيع في يد البيع، وكون المهر في يد الزوج، وسائر

المضمونات في يد العاقد بالعقد، فلا يضمن أبتاعه، وذلك لأن الأتباع لا تضمن بالعقد، لأنه لا يصح إفرادها بالعقد. مسألة: [ضمان زيادة المغصوب في يد الغاصب] قال أبو جعفر: (وإذا زاد المغصوب في يد الغاصب في بدنه، ثم هلك: لم يضمن الزيادة، وضمن قيمة الأصل يوم الغصب، فإن استهلكها الغاصب ضمنها زائدة. قال أبو جعفر: هكذا روى محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه لا يجب على الغاصب ضمان الزيادة إلا أن يكون المغصوب عبدا، أو جارية، فيقتله بعد الزيادة خطأ، فتضمن العاقلة قيمته زائدة. وأما أبو يوسف ومحمد فيضمنانه الزيادة أيضا، لا اختلاف عنهما في ذلك). قال أحمد: الصحيح من قول أبي حنيفة أنه لا يضمن الزيادة باستهلاك الأصل إلا في القتل خاصة. وجه قول أبي حنيفة: أنه لا يخلو من أن يضمن الزيادة دون الأصل، أو مع الأصل، ولا يجوز أن يضمنها بالاستهلاك مع الأصل؛ لأن الأصل قد ضمنه بالغصب، فلا يجوز أن يتجدد عليه ضمانه بالاستهلاك، لأنه يستحيل أن يتجدد عليه ضمان ما قد ضمنه، فقد بطل هذا الوجه. ألا ترى أنه لا يجوز أن تكون الزيادة مضمونة، والأصل غير مضمون، هذا معدوم في الأصول، فبطل.

وأما إذا قتلها خطأ، فقد تجدد هاهنا ضمان في الأصل على العاقلةـ، لم يكن موجودا قبل القبض، فضمن الزيادة معه. مسألة: [ضمان ولادة المغصوبة إذا مات ولدها] قال أبو جعفر: (وإذا ولدت المغصوبة، ثم مات ولدها من غير فعل الغاصب: فلا ضمان عليه فيه، وعليه نقصان ولادة الجارية). وإنما لم يضمن الولد، من قبل أنه حصل في يده بغير فعله، فكان بمنزلة ثوب ألقته الريح في دار رجل، فلا يصير مضمونا عليه بوقوعه في داره، وكما أن طائر الرجل لو وقع على رجل، أو في داره، لم يصر مضمونا عليه؛ لأنه صار في يده بغير فعله. ولا يشبه هذا ولد الظبية أذا صادها المحرم، أو أخرجها من المحرم، ثم ولدت، فيضمنها وأولادها إذا هلكن، من قبل أن الله تعالى مطالب له بإرسالها، وإرسال ولدها، أو ردها إلى الحرم، فلما امتنع من ذلك مع صحة لزوم المطالبة له به: ضمنه. ونظير هذا أن يطالبه المغصوب برد الولد، فيمتنع من رده: فيضمنه. فإذا قيل: فهلا كان سبب غصبه للأم، سببا لغصب الولد وحدوثه في يده، كما جعلت حفر البئر سببا للجناية. قيل له: لأن حفرة البئر يوجب الوقوع في البئر لمن مر بها، وغصبه الأم لا يوجب حدوث الولد. فإن قيل: لما كان الأصل مضمونا، سرى ضمانه في الولد، كالكتابة، والرهن، والبيع، وسائر الحقوق الثابتة في الأمهات، فتسري في الأولاد. قيل له: إنما يدخل الولد في ضمان الأم في هذه العقود من غير أن

ينفرد بضمان دون الأصل، ومن أوجب ضمان الولد في الغصب فإنما يفرده بضمان دون ضمان قيمة الأم، وهذا خلاف ما يتعلق من حكم الضمان بالسراية، ألا ترى أن ولد المكاتبة حين دخل في كتابتها لم ينفرد بضمان دون ضمانها، وكذلك ولد الراهن، وولد المبيعة. وإن جعلنا هذا المعتى دليلا للمسألة: لم يمتتنع؛ لأنه لما لم يكن منه فعل في الولد، وجب أن يدخل في حكم الأم على وجه البيع، فلا ينفرد بضمان دونها، أو يحدث فيه من البيع بعد المطالبة ما يفرده بضمان نفسه. فصل: فإذا مات الولد، ورد الأم: ضمن نقصان الولادة؛ لأنه جزء ثابت من الأصل. مسألة: [ضمان ولادة المغصوبة إن لم يمت الولد] قال أبو جعفر: (وإن لم يمت الولد، ورده مع الأم: جبر بالولد نقصان الولادة). وذلك لأن نقصان الولادة حادث من الولد، لأن الأجزاء الفائتة منها استحالت ولدا، فوجب أن يقوم الولد مقامها، كما لو قطعت يدها، وأخذ الغاصب أرشها، وردها مع الأصل إلى المغصوب، قام الأرش مقام اليد. مسألة: [ضمان غصب الدور] قال أبو جعفر: (ومن حال بين رجل وبين دار، فحدث في تلك الحال هدم من غير فعله: لم يضمنه.

قال: ومذهبه: أن الدور لا تغصب، وتضمن في قول أبي يوسف ومحمد). قال أحمد: الدور تغصب في قول أبي حنيفة، إلا أنها لا تضمن بالغصب، وأبو يوسف مع أبي حنيفة، وذكره أبو جعفر مع محمد، والذي ذكره هو قوله الأول. قال أحمد: الأصل في ذلك أن الضمان على وجهين: أحدهما: ضمان الغصب وما في معناه، فهو يتعلق بالنقل والتحويل، لا بالتخلية. والآخر: ضمان العقود، وهو يتعلق بالتخلية والتسليم وإن لم يكن معه نقل ولا تحويل. والدليل على أن ضمان الغصب متعلق بالتحويل: أن رجلا لو خلى بين نفسه وبين متاع لرجل: لم يصر المتاع بذلك في ضمانه. ويدل على ذلك: أن من دخل دار إنسان وهو ساكن فيها، لم تصر الدار مضمونة عليه بدخوله إليها بغير إذن مالكها، إذ لم يكن منه نقل ولا تحويل. ولو ارتدف خلف راكب بغير إذنه، فعطبت الدابة: ضمن نصفها، فدل أن ضمان الغصب إنما يتعلق بالنقل دون التخلية. وأما ضمان العقد فيتعلق بالتخلية، ألا ترى أنه لو خلى بينه وبين العبد

في البيع: صار في ضمانه، وبمثله لا يضمن الغصب. فإن قيل: قد تضمن عندكم الوديعة بالجحود، مع عدم النقل فيها. قيل له: قد كان تقدمه نقل وتحويل، فيضمن عند الجحود بما تقدم من النقل. وأيضا: فإنه لما جحدها، حكمنا بها في الظاهر ملكا له؛ لأن كل من في يده شيء، فالقول قوله أنه في ملكه، وفي إقراره، أنا متى حكمنا له بملك شيء، كان لغيره أنه لا يملكه إلا ببدل، فجعل عليه ضمان البدل من هذا الوجه، فلا يسقط بعد ذلك رجوعه عن الجحود إلى الإقرار. فإن قيل: فلو سهد شاهدان على رجل بدار في يديه لآخر، ثم رجعا عن شهادتهما: ضمناها من غير نقل لها. قيل له: لأن شهادتهما أوجبت نقل الملك في الظاهر، فصارت بمنزلة العقد، وقد قلنا إن ضمان العقد قد يصح من وجه لا يصح به ضمان الغصب. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من غصب شبرا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين". قيل له: أكثر الأخبار: "من أخذ شبرا من الأرض"، و: "من ظلم شبرا من الأرض"، ويشبه أن يكون من ذكر الغصب عبر عن المعنى عنده،

ولم ينقل اللفظ نفسه. وأيضا: فإنا نقول: إنها تغصب، إلا أنها لا تضمن بالغصب. مسألة: [ضمان استخدام العبد المغصوب ونحوه] قال أبو جعفر: (ولا أجرة في استخدامه عبدا غصبه، ولا في سكنى دار الغصب). وذلك لأن المنافع لا قيمة لها، إلا من جهة العقد. والدليل عليه: أنه لو وطئ أمة رجل مطاوعة له: لم يكن عليه مهر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مهر البغي حرام". والبغي هي الزانية، فصار ذلك أصلا قي سائر منافعها، أنها لا تضمن إلا بعقد، أو شبهة عقد. وأيضا: لا خلاف أن المغرور لا يضمن للمستحق منافع الأولاد، ولو كان للمنافع قيمة من غير جهة العقد، لضمنها الغرور للمستحق،

كما ضمن قيمة الولد. فإن قيل: لأن الولد حر، فلا تضمن منافعه للمستحق. قيل له: كونه حرا لم يمنع قيمة نفسه، إذ كانت مما له قيمة لولا الغرور، فلو كان للمنافع قيمة في نفسها من غير وجه العقد، لضمنها له. فإن تجاسر بعض المخالفين على مخالفة الإجماع في الفصل الأول، فقال يضمن مهر الأمة وإن طاوعته؛ لأن المنافع للمولى، ولا تملك هي إتلافها، وإنما نقول: إن الحرة إذا طاوعته لا يجب لها مهر؛ لأنها رضيت بإتلاف منافعها بغير بدل. قيل له: هذا قول مخالف للسنة والإجماع معا، على أن دلالتنا على صحة المسألة قائمة فيما أقررت به من سقوط مهر الحرة الزانية، وذلك أنا نقول: لو كان لمنافعها قيمة في هذه الحال لما أسقطها رضاها بإباحتها بغير بدل؛ لأن بدل البضع لا يسقطه الرضا بإسقاطه في الموضع الذي له قيمة. ألا ترى أن من تزوج امرأة نكاحا فاسدا أو جائزا على أن لا مهر لها، ثم وطئها: استحقت المهر، ولم يكن لرضاها تأثير في إسقاطه. فإن قيل: لو نقض حائطا أو بابا منحوتا، يضمن ما أتلفه من المنافع، فدل أن لها قيمة من غير وجه العقد. قيل له: لأنها إذا حصلت في العين، صارت من صفاته، ومالا قائما،

فيضمنها، وقبل أن تحصل من صفات العين، فليست بمال لما قدمنا، فلا يضمنها. ألا ترى أن رجلا لو حلق شعر رأس جارية رجل: ضمن النقصان الحادث بزواله، من حيث كان من صفاتها حين كان متصلا بها، ولو أتلفه متلف بعد زواله عن رأسها: لم يكن له قيمة، إذ لم يكن صفة في مال، كذلك المنافع. فإن قيل: لو لم تكن المنافع مالا، لما جاز أن يؤخذ عنها عوض مال بعقد الإجارة. قيل له: الطلاق ليس بملك، ويجوز أخذ العوض عنه بالخلع، ودم العمد والقصاص فيما دون النفس ليسا بمال، ويجوز أخذ البدل عنهما. مسألة: [لو أخذ المالك قيمة العبد المغصوب الآبق قبل ظهوره] قال: (وإذا أبق العبد المغصوب في يد الغاصب، فجاء المولى وأخذ القيمة بقوله، أو قامت له بينة، ثم ظهر العبد: فهو للغاصب، ولا سبيل للمغصوب عليه). وذلك لأنه قد رضي بأخذ البدل الذي ادعاه وملكه، فلا يجوز أن يبقى العبد في ملكه، مع ملكه للبدل؛ لأنه لا يجوز اجتماع الشيء وبدله في ملك واحد فيما يصح تمليكه، لعدم نظيره في الأصول. *قال: (وإن ضمنه القاضي القيمة بقول الغاصب، وادعى المغصوب أكثر منها، ثم ظهر العبد: كان المغصوب منه بالخيار، إن شاء رد القيمة على الغاصب، وأخذ العبد، وإن شاء احتبس القيمة، وسلم له العبد المغصوب). قال أحمد: هذا إذا ظهر وقيمته أكثر مما حلف عليه الغاصب، وذلك

لأن المغصوب لم يرض بهذه القيمة بدلا عن العقد؛ لأنه ادعى أكثر منها، فصار كأنه ملكه على شرط الخيار إن كانت القيمة على ما ادعى، فإذا كانت القيمة على أكثر مما أخذ: فله الخيار في فسخ الملك. ويدل على أنه إذا ملك البدل ملك عليه العبد: أن من أعتق عبدا بينه وبين آخر، وهو موسر فضمن القيمة، أن نصيب الشريك ينتقل إليه لأجل ما حصل عليه من ضمان القيمة، وأن العبد كان في حال العتق ممن يصح تمليكه، ألا ترى أن الولاء كله للمعتق. مسألة: [ضمان إتلاف خمر الذمي] قال أبو جعفر: (ومن أتلف لذمي خمرا، أو خنزيرا: فعليه ضمانه، فإن كان المتلف مسلما: فعليه القيمة، وإن كان ذميا: ففي الخمر مثلها، وفي الخنزير القيمة). وذلك لأنا أعطيناهم العهد على أن نتركهما مالا لهم، فلو لم يضمن مستهلكهما، لصارا لا قيمة لهما، وفي ذلك إخراج لهما من أن يكونا مالا، وفي ذلك نقض العهد، فلا يجوز. وأيضا: روي "أن عمر بلغه أنهم يأخذون الخمر من أهل الذمة في العشور، فكتب إلى عماله: أن ولوهم بيعها، وخذوا العشر من أثمانها"، وذلك بمحضر الصحابة، من غير نكير من أحد منهم عليه. وليس ذلك كمنعنا إياهم من الربا؛ لأنه ليس في منعنا إياهم من الربا في أموالهم إخراج لها من أن تكون مالا لهم، لأنهم يتصرفون فيها بسائر

وجوه التصرف، كالمسلم. وله أيضا أصل في السنة: وهو "ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى نصارى نجران: إما أن تذروا الربا، وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله". مسألة: [ضمان إتلاف المثليات] قال أبو جعفر: (ومن أتلف شيئا لرجل مما له مثل، ثم انقطع مثله، فلم يقدر عليه: فعليه ضمان قيمته يوم الخصومة. وقال محمد: عليه ضمان قيمته آخر ما انقطع من أيدي الناس). قال أحمد: وقال أبو يوسف: يضمن قيمته يوم الغصب. وجه قول أبي حنيفة: أن انقطاعه من أيدي الناس لم يسقط المثل الذي كان واجبا بالغصب عن ذمته. والدليل على ذلك: أنه لو لم يطالبه حتى وجد مثله بعد انقطاعه، كان الواجب هو المثل دون القيمة بالاتفاق، ولو كان خاصمه فقضى عليه بالقيمة، ثم وجد المثل: لم يجب المثل، وكان الواجب هو القيمة المقضي بها، فدل ذلك على أن المثل لم يسقط بانقطاعه من أيدي الناس، وإذا كان المثل هو الثابت في الذمة في حال الخصومة، واحتجنا في نقله إلى القيمة، وجب اعتبار قيمته يوم يريد النقل.

وأيضا: فإن الواجب في الابتداء إذا كان المثل هو، لم يملك القيمة عليه إلا بالتراضي، أو بقضاء القاضي؛ لأنهما أسباب التمليكات، وليس انقطاعه من أيدي الناس سببا يوجب التمليك، فوجب أن يكون المثل في الذمة حتى ينقله بالقضاء، أو يملكه إياه، فيعتبر حينئذ قيمته عند التمليك. *وجعله محمد عند الانقطاع، بمنزلة ما لا مثل له، فاعتبر قيمته يومئذ. وأما أبو يوسف فإنه عند الانقطاع اعتبر قيمته يوم الغصب؛ لأنه سبب الضمان دون الانقطاع، ودون الخصومة. مسألة: [ضمان إتلاف المصوغات بالقيمة] قال: (ومن كسر قلب فضة لرجل: فصاحبه بالخيار، إن شاء أخذه مهشوما لا شيء له غيره، وإن شاء ضمنه قيمته مصوغا من الذهب). والأصل في ذلك: أن ما لا يجوز التفاضل فيه متى أحدث فيه نقص، لم يجز أن يسلم له الوزن، أو الكيل وزيادة، وذلك لأن ذلك النقصان لا قيمة له إذا لاقى جنسه، وله قيمة إذا لاقى غير جنسه، فلا يجوز للمالك

أن يأخذ القُلْب والنقصان؛ لأنه يحصل له زيادة. ألا ترى أنه لو أراد أن يغرم قيمته دراهم: لم يجز له أخذ قيمة النقصان، فيحصل له الوزن وزيادة. ولا يجوز أن يغرمه مثل وزنه من جنسه، فتبطل عليه قيمة الصنعة، من قبل أن تلك الصنعة لها قيمة، ألا ترى أن من استهلك لرجل ثوبا، أو بابا: ألزمناه ضمان قيمته منسوجا، وقيمة الباب منحوتا، فلما لم يمكنا أن نستوفي قيمة الصنعة إلا بتضمين قيمته من غير جنسه، وجب أن يعدل عن الجنس إليه. *قال: (فإن اختار تضمين قيمته مصوغا: لم تضر مفارقته قبل قبضها). وذلك لأن هذا ضمان تعلق عليه بالاستهلاك والقبض، لا من جهة العقد، فلا معنى لاعتبار المجلس. ألا ترى أنا لو أبطلناه لأجل الفرقة، كنا نحتاج إلى إعادته في حال إبطاله، لقيام السبب الموجب له، ولو جاز اعتبار المجلس فيه، لجاز مثله فيمن استهلك لرجل دراهم أن يعتبر في صحة ضمان مثلها المجلس، لأنه يصير بمنزلة من باع دراهم بدراهم، فلما سقط ذلك في الدراهم المستهلكة، كذلك وجب مثله في القلب. مسألة: [ضمان إتلاف الدينار] (وكذلك من كسر لرجل دينارا: فعليه مثله، وإن شاء أخذه ولا شيء عليه). على ما بينا في القلب، وقد تمكننا الصنعة بإيجاب المثل في الدينار، ولا يمكن في القلب؛ لأنه لا مثل له.

مسألة: [ضمان تقطيع الثوب المغصوب] قال: (ومن غصب ثوبا، فقطعه، فإن كان ذلك مما حكمه حكم الاستهلاك له: فصاحبه بالخيار: إن شاء أخذه كذلك، وأخذ نقصانه من الغاصب، وإن شاء سلمه إلى الغاصب، وضمنه نقصانه). وذلك لأنه إذا زال عظم منافعه، فله أن يعدل عن أخذ العين إلى القيمة، لأن المبتغى من العين هو المنافع. والدليل على ذلك: أن من غصب عبدا، فمات في يده: ضمن قيمته وإن كانت العين قائمة، لزوال منافعه، فدل ذلك على أن معنى الملك كتعلق بالمنافع، والثوب فقد بقي بعض منافعه بالتخريق من غير زيادة حصلت فيه من جهة الغاصب، فكان له أخذ العين وتضمين النقصان. وإن شاء ضمنه القيمة، فتقوم مقام الثوب في استيفاء كمال منافعه، وذلك لأن في أخذ النقصان استيفاء بعض المنافع، إذ ليس يمكن الانتفاع بأرش النقصان مع الثوب المخرق على حسب الانتفاع بالثوب الكامل، فلذلك كان له العدول عن تضمين الأرش إلى القيمة. وتخريق الثوب يفارق موت العبد في يده، من جهة أنه لم تبق هناك منفعة في العبد بحال بعد الموت، والثوب المخرق بعض منافعه باق، وإنما تتفرق عليه المنافع بالتخريق، فلذلك كان الأمر فيه على ما وصفنا. مسألة: [ضمان إتلاف الثوب بحيث لم تذهب كل منافعه] قال: (وإن كان ما أحدثه فيه لا يستهلكه: أخذه منه، وأخذ مع ذلك نقصانه). وذلك لأن عظم منافعه باق، فهو بمنزلة رجل شجه، فلا يكون للمولى الخيار في أخذ جميع قيمته.

*ولو كان قطعه قميصا، وخاطه: لم يكن للمغصوب عليه سبيل، وذلك لزوال أكثر منافعه بالقطع، وحدوث زيادة الخياطة فيه من جهته، فمنع ذلك من أخذه. *وكذلك الحنطة إذا طحنها، والدقيق إذا خبز منه خبزا، واللحم إذا طبخه أو شواه. والأصل فيه: حديث عاصم بن كليب الجرمي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار قوما من الأنصار في دارهم، فذبحوا له شاة، وصنعوا منها طعاما، فأخذ من اللحم شيئا ليأكله، فمضغه ساعة لا يسيغه، فقال: ما شأن هذا اللحم؟ فقالوا: شاة لفلان، حتى نرضيه من ثمنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطعموها الأسارى". وقد روي هذا الحديث عن عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يجوز أن يكون سمعه من أبيه، ومن أبي بردة، فكان له عنده إسنادان. فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يطعم الأسارى حين ذبحت بغير أمر مالكها، دل على أن حق المالك قد انقطع عنها حين شواها، لولا ذلك لأمر بردها إلى المغصوب، أو أخبر بأن له الخيار في أخذها، وأخذ قيمتها، فصار ذلك أصلا في نظائرها مما يحدثه الغاصب في الشيء

المغصوب، فيزول به أكثر منافعه. مسألة: [ضمان صبغ الثوب المغصوب] قال أبو جعفر: (ولو غصبه ثوبا، فصبغه بعصفر أو بزعفران: فالمغصوب منه بالخيار، إن شاء أخذه كذلك، وضمن للغاصب ما زاد الصبغ فيه، وإن شاء سلمه إلى الغاصب، وضمنه قيمته يوم الغصب). وذلك لأن صبغه بالعصفر لا يزيل عظم منافعه، وإنما تحصل فيه زيادة من مال الغاصب، لا يمكن المغصوب منه أخذه إلا بضمان قيمة الزيادة، لأنه مال قائم فيه، فإنما وجب له الخيار من أجل ذلك. فإن قيل: فهلا جعلت الخيار للغاصب؛ لأن ماله أيضا قائم في الثوب، فلا يجوز للمغصوب منه أخذه إلا برضاه. قيل له: من جهة أن الصبغ تبع للثوب، وليس تبعا للصبغ، ألا ترى أن من باع ثوبا مصبوغا تبعه الصبغ الذي فيه، ولو باع الصبغ دون الثوب لم يصح، فصار الصبغ أحد صفات الثوب، بمنزلة عين العبد ويده ورجله. فلذلك كان المغصوب أولى بأخذ الثوب، إذ لم يكن الثوب مستهلكا به، وهو مستهلك في الثوب. [مسألة:] قال: (وإن كان صبغه سوادا، فإن أبا حنيفة قال: إن شاء صاحبه سلمه إلى الغاصب كذلك، وضمنه قيمته أبيض يوم غصبه، وإن شاء احتبسه، ولم يغرم للغاصب شيئا. وقال أبو يوسف ومحمد: صاحب الثوب بالخيار: إن شاء سلمه إلى

الغاصب، وضمَّنه قيمته أبيض يوم غصبه، وإن شاء احتبسه وضمن للغاصب ما زاد البيع فيه). قال أحمد: بنى أبو حنيفة الأمر على ما كان عليه حال السواد في الوقت الذي أجاب فيه في المسألة، وذلك لأن السواد كان نقصانا في أيام بني أمية؛ لأن الناس لم يكونوا يلبسونه إلا في الإحداد. وأجابا هما على ما كان عليه في أيام بني العباس؛ أنه صار زيادة، لأنهم لبسوه، وأخذوا الناس بلبسه. وأيضا فإن السواد يخرق الثوب ويفسده، وليس كذلك الحمرة.

كتاب الشفعة

كتاب الشفعة مسألة: قال أبو جعفر: (ولا شفعة فيما سوى الدور والأرضين). وذلك لأنه لا خلاف بين الفقهاء في انتفاء وجوبها في الثياب ونحوها من العروض، والمعنى فيها: أن التأذي بالشركة فيها ليس على جهة الدوام والبقاء، فكذلك ما اختلفنا فيه من نحو الزورق، وما يوجب مخالفنا فيه الشفعة. وقد روي في آثار: "لا شفعة إلا في أرض أو ربع". ذكره محمد بن الحسن، ولم يعزه إلى رجل بعينه. وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الشفعة في كل شرك في أرض، أو ربع، أو حائط".

وهذا اللفظ ينفي وجوب الشفعة في غير العقار؛ لأن قوله: الشفعة للجنس، لدخول الألف واللام عليه، واستغراقه لجميع ما تناوله، فلا تبقى هناك شفعة في غير ما ذكر من الأرض، والربعة، والحائط. فإن قيل: روى أبو حمزة السكري عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء". قيل له: أصله مرسل فيما يقال، لو يسنده إلا أبو حمزة السكري. وقد رواه شعبة، وحريز، وأبو بكر بن عياش وغيرهم، عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشفعة في العبد، وفي كل شيء". لفظ شعبة. ولو ثبت وصح كان معنى قوله: "في كل شيء: من العقار، أو الأرضين، على ما روي في الأخبار الأخر. وأما قوله: "الشفعة في العبد": فقد ذكر في هذا الحديث، وروي بإسناد آخر، وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن علي الخزار وعبد الله بن أحمد بن حنبل قالا: حدثنا عفان بن مخلد البلخي قال: حدثنا عمر بن هارون البلخي قال: حدثنا شعبة عن أبي بشر عن

سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في العبد شفعة، وفي كل شيء". ولو ثبت هذا اللفظ: احتمل أن يكون معنى قوله: "في العبد شفعة": فيما بيع من العقار بعبد. وفائدته أن كون العبد مما لا مثل له، لا يمنع وجوب الشفعة، وإن كان الشفيع إنما كان يأخذ بالبدل، فإذا لم يكن للعبد مثل، أخذه بقيمته. مسألة: [الشفعة للجار] قال أبو جعفر: (والشفعة في ذلك: مقسوما كان، أو مشاعا). قال أحمد: الدليل على وجوب الشفعة للجار الملاصق: حديث عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا.

رواه عن عبد الملك جماعة، منهم أبو يوسف، وشعبة، وهشيم، وغيرهم. وقد حدثنا عن الثوري أنه قال: الحفاظ أربعة: أحدهم عبد الملك بن أبي سليمان، وهذا الحديث وإن كان عبد الملك قد تفرد به، فإن تفرده به لا يوجب رده؛ لأن أخبار الآحاد مقبولة عندنا في مثل ذلك، وليس أحد من الرواة إلا وقد تفرد بأشياء فيما رواه، لم يوافقه عليها غيره، ولم يوجب ذلك رد روايته. فنص في الخبر على وجوب الشفعة في الدار التي لا شرك فيها، لأجل الشركة في الطريق. وروى حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله! أرض ليس لأحد فيها شرك ولا قسم، إلا الجوار؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بصقبه ما كان". وهذا أيضا دليل واضح في إيجاب الشفعة بالجوار دون الشركة؛ لأنه أجابه عن الجوار الذي ليس معه شركة، فأوجبها فيه.

وهذا يبطل تأويل من تأول الجار على الشريك. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل قال: حدثنا محمد بن جابر عن إبراهيم بن مهاجر عن رجل عن أبي رافع قال: قال سعد بن أبي وقاص: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الشريك أحق بالشفعة، والجار أحق ممن وراءه، ما اشتريته". فانتظم هذا الخبر وجوب الشفعة للشريك دون الجار، ثم للجار دون من وراءه. وروى قتادة عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جار الدار أحق بشفعة الدار والأرض". وهذا اللفظ أيضا ينفي احتمال الشريك؛ لأنه أوجبها لجار الدار والأرض، وجعله أحق بالدار، والشريك ليس هو جار الدار، ولا يأخذ الدار، وإنما يأخذ بالشفعة بعض الدار والأرض، ولا يأخذ الدار والأرض بالشفعة إلا الجار.

وقد روى قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جار الدار أحق بالدار". وهو مثل حديث سمرة في دلالته على ما دل عليه. ويدل على صحة قولنا: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن يونس بن موسى قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال: حدثنا ابن جريج قال: حدثنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشفعة في كل شرك وحائط، لا يصلح لشريك أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن أبى، فشريكه أحق به حتى يؤذنه". اقتضى ظاهره وجوب الشفعة للشريك في الطريق، وفي البئر والحائط، وإذا أوجبت للشريك في الطريق، وجبت للجار بعده. ويدل عليه حديث أبي رافع حين عرض بيتا له على سعد بأربع مائة دينار، وقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الجار أحق بصقبه ما بعته، إنه أعطيت به خمس مائة دينار". رواه إبراهيم بن ميسرة عن عمرو بن الشريد عن أبي رافع، وهو حديث مشهور. وكان ذلك بيتا مقسوما؛ لأنه كان فيه شركة، كان بعض بيت.

وقد عُقِل من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بصقبه": وجوب الشفعة فيه. وهذه الألفاظ التي ذكرناها كلها تنفي تأويل من تأول الجار على الشريك، مع تعسفه في معنى اللفظ، لأن الشريك لا يسمى جارا. *واستدل من تأوله على الشريك بقول الأعشى: يا جارتي بيني فإنك طالقة" فسمى المرأة جارة. وقال: حمل بن مالك للنبي صلى الله عليه وسلم: "كنت بين جارتين لي، يعني امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط". قال: فلما سميت المرأة جارة، لأجل الشركة بينها وبين الزوج، كذلك الشريك يف الدار. وهذا تعسف شديد في التأويل؛ لأن المرأة لا شركة بينها وبين الزوج، وإنما لها قرب من غير شركة، فسميت جارة، لقربها منه ببدنها، لا لشركة بينهما. فإن احتجوا بما روى الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن

أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة"، رواه أبو عاصم النبيل عن مالك عن الزهري. وبما روى ابن جريج عن الزهري عن أبي سلمة أو سعيد بن المسيب أو عنهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قسمت الأرض، وحدت، فلا شفعة فيها". وبحديث معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة". وفي بعض الألفاظ: "إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما لم يقسم". قيل له: ليس قي شيء من هذه الأخبار ما ينفي وجوب الشفعة للجار عن النبي صلى الله عليه وسلم، أكثر ما فيه إيجاب الشفعة للشريك. وقوله: "فإذا وقعت الحدود، فلا شفعة": من كلام الراوي، ليس عن النبي عليه الصلاة والسلام، هذا في الأخبار التي قدم فيها ذكر إيجاب الشفعة للشريك.

وذلك لأن الراوي كثيرا ما يروي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، ويعطف عليه قول نفسه، فيدرجه فيه، فيظن السامع أن الجميع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأقل أحوال ما كان هذا سبيله، أن لا نثبته عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه غير جائز إثبات الرواية عنه بالاحتمال. وأما حديث أبي هريرة من طريق ابن جريج روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قسمت الأرض وحدت، فلا شفعة فيها". فإنما فيه نفي الشفعة بالقسمة. وكذلك نقول: إن القوم إذا قسموا أرضا، أو دارا بينهم: لم تجب بالقسمة الشفعة بهذا الخبر. ولا دلالة له على نفي وجوب الشفعة بالبيع. وكذلك سائر الألفاظ التي ذكرت في نحو ذلك، بعد ذكر الشفعة للشريك، لو صحت: كان معناها معنى إيجاب الشفعة بالقسمة. وفي حديث جابر تأويل آخر، وهو أنه ذكر فيه: "فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة". ومعناه: إذا كان بين الدارين طريق نافذة فلا شفعة، وكذلك نقول: إن الجار غير الملاصق لا شفعة له وإن تناوله اسم الجار. *ووجه آخر: وهو أنه يحتمل أن يكون رجلان اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أحدهما جار، والآخر شريك، فنفى شفعة الجار مع الشريك، فقال: فإذا وقعت الحدود، فلا شفعة للجار مع الشريك في الطريق، أو في نفس المبيع.

وكذلك ما روى صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشفعة فيما لم يقسم، وتعرف حدوده". معناه: أن هذه الشفعة التي تجب بالشركة، لا تجب بغيرها من الجوار ونحوه. *ويدل على صحة قولنا من طريق النظر: أن العلة الموجبة للشريك الشفعة، هو خوف التأذي على الدوام، وذلك موجود في الجار، لأن التأذي قائم على جهة الدوام والبقاء. وأيضا: اتفقنا على أن الشركة في العروض لا توجب الشفعة، فلو كانت الشفعة مستحقة لأجل الشركة، لوجبت في العروض أيضا لوجود الشركة، فدل على أن وجوبها للشريك في العقار إنما هو لما تعلق بها من معنى الجوار؛ لأنه يستحق بهذه الشركة أن يصير جارا، فلما كانت العلة الموجبة للشفعة عند الشركة إنما هي الجوار، وهي موجودة في الجار، وجبت الشفعة به. وليس يمتنع أن يكون الجوار والشركة كل واحد منهما سببا تستحق به الشفعة على الانفراد، وإذا اجتمعا كان الشريك أولى، وإن كان الشريك إنما يستحقها أيضا بمعنى الجوار، كما أن الأخ من الأب يستحق الميراث على الانفراد بتعصيبه من جهة الأب، وكذلك الأخ من الأب والأم، ثم إذا اجتمعا: كان الأخ من الأب والأم أحقهما به وإن كان نسبه من الأم على حياله لا يستحق به التعصيب.

مسألة: [الأولى بالشفعة] قال أبو جعفر: (وأولى الشفعاء بالمبيع: الشريك الذي لم يقاسم، ثم يتلوه الشريك في الطريق، ثم الجار الملاصق). وإنما كان الشريك في المبيع أولى لحديث جابر: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم". وقوله: "إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة". وقد بينا أن تأويله: أن جارا وشريكا اختصما، فقضى للشريك دون الجار، ولم يجعل للجار مع الشريك حقا. ويدل عليه: حديث أبي رافع من طريق إبراهيم بن مهاجر، وقد قدمنا إسناده: "الشريك أحق بالشفعة، والجار أحق ممن وراءه". ولا خلاف بين الفقهاء أن الشريك أحق من الجار، ثم الشريك في الطريق أولى من الجار؛ لأن قوله: "الشريك أحق بالشفعة، والجار أحق من غيره": ينتظم الشريك في الطريق وغيره. ولحديث عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "جار الدار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها إذا كان

غائبا، إذا كان طريقهما واحدا". ولأن وجوب الشفعة في الأصل موضوع على ما يخشى من التأذي بالمشتري في شركته، أو جواره، والتأذي بالشريك في المبيع أكثر منه بالشريك في الطريق، وبالشريك في الطريق أكثر منه بالجار. ولهذه العلة كانت الشفعة للجار الملاصق دون من ليس بلصيق؛ لأن التأذي إنما يكون للملاصق، لما يخاف من إشرافه عليه، واطلاعه في داره، وضرر ما يلحقه مما يحدثه في ملكه من بئر، أو حمام، أو رحى، أو نحو ذلك، وذلك معدوم في غير الملاصق. مسألة: [استحقاق الشفيع الشفعة بالإشهاد] قال أبو جعفر: (وإذا علم الشفيع بالبيع، فإذا أشهد مكانه أنه على شفعته، وإلا بطلت شفعته). قال أحمد: وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الشفعة كنشطة عقال، فإن قيدها مكانه ثبت حقه، وإلا فاللوم عليه إذا لم يقدر عليه".

وروي في خبر آخر: "إنما الشفعة لمن واثبها". ولاتفاق الجميع من فقهاء الأمصار على أن ترك الطلب مدة طويلة يبطلها، فعلمنا أن وجوبها متعلق بالطلب في حال العلم بالعقد. [مقدار المدة طلب الشفعة:] وكان أبو الحسن رحمه الله يحتج عن أبي سعيد أنه مقدار المجلس، مثل الخيار بقول، قال: وكذلك هو عندي. وقد روى هشام عن محمد مثل ذلك. وإنما تعلقت صحة الطلب بالمجلس، لأنه حق تعلق بعقد البيع، فأشبه خيار القبول. مسألة: [لا يشترط في الإشهاد إحضار الثمن] قال أبو جعفر: (وسواء أحضر مالا عند ذلك بمقدار ثمن المبيع،

أو لم يحضره). وذلك لأن الحق يتعلق بالطلب، لا بإحضار الثمن، كما يتعلق بخيار القبول إبرام المبيع، لا بإحضار المال. *قال أبو جعفر: (وروي عن محمد بن الحسن خاصة أنه قال: وينبغي أن يكون الإشهاد بمحضر المطلوب بالشفعة، أو بحضرة الدار المبيعة). وذلك لأن الحق معلق بالبائع إذا كانت في يده، والمشتري أيضا، لأنه في ملكه، وبالمبيع؛ لأنه يستحقه بالشفعة، فإذا أشهد بمحضرها ولاء: صح الإشهاد. مسألة: [حبس المشتري الدار المشفوع بها حتى يقبض الثمن] قال: (وللمشتري أن يحبس الدار في يده حتى يقبض الثمن، كما يجب للبيع حق الحبس إلى أن يستوفي الثمن. قال: وقد روي عن محمد أن القاضي لا يقضي بالشفعة للشفيع حتى يحضره مثل الثمن الذي استحق به الشفعة). وذلك لأن المشتري مجبر على ذلك، ولا يأمن من أن يقضي له بالشفعة، ويبقى الثمن دينا عليه، فيتوى حق المشتري في الثمن الذي نفده البيع. مسألة: [وجوب الشفعة واستحقاقها وملكها] قال أبو جعفر: (والشفعة تجب بالبيع، وتستحق بالإشهاد والطلب، وتملك بالأخذ).

قال أحمد: يعني بقوله: تجب بالبيع: أن حق الطلب يجب بالعقد، فإذا طلب، ثبتت الشفعة وصحت، ولا تملك حتى يقضى به، وذلك لقول الله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}. فلا يملكه عليه إلا بالتراضي، أو بحكم الحاكم إذا كان نافذا عليه، قائما مقام قوله، كالعنين، والمجبوب، يوجب الحاكم لامرأتيهما الخيار، ويقوم ذلك مقام قولهما في تخييرهما. وكذلك في الرد بالعيب بعد القبض، أن الفسخ به لا يصح إلا بالتراضي، أو بقضاء القاضي. مسألة: [اعتبار المثل أو القيمة في ثمن المشفوع به] قال أبو جعفر: (وإذا كان ثمن المشفوع فيه له مثل: أخذه بالمثل، وإن لم يكن له مثل: أخذه بالقيمة). لأن الشفيع يثبت له حق الأخذ بالبدل الذي حصل على المشتري، فإذا كان له مثل: ثبت مثله، فالقيمة، لأن مثله يتعذر، والقيمة تقوم مقام العين.

مسألة: [ما لا شفعة فيه] قال: (ولا شفعة فيما لم يكن بدله مالا، مثل النكاح، والخلع، والصلح من دم العمد). من قبل أنه قد ثبت عندنا أن الشفيع إنما يأخذ الشيء بالبدل الذي حصل على المشتري، وأنه متى حصل له الدار بغير بدل: لم يستحق عليه الشفعة، مثل الهبة، والوصية، والميراث. وإذا صح ذلك، قلنا في النكاح على دار: إن بدلها هو البضع، والبضع لا يتقوم أحد إلا من جهة العقد، أو وطء على شبهة عقد، فصارت الدار في حق الشفيع، كالهبة التي لا بدل فيها؛ لأن الشفيع لا يتقوم عليه بضع، إذ ليس له عند نكاح، فلم يجز له أخذها. وكذلك الطلاق ليس بمال، ألا ترى أن من طلق امرأته في مرضه، فحصل لها بضعها: لم يتقوم عليها. مسألة: [سكوت الشفيع بعد المطالبة والإشهاد] قال: (وإذا طلب الشفيع، وأشهد على الطلب، ثم لم يطالب بها، فإن أبا حنيفة وأبا يوسف قالا: هو على شفعته أبدا؛ لان الشفعة قد ثبتت بالطلب؛ وصارت له، فلا يبطلها السكوت، وترك المطالبة، كما لا تبطل سائر الحقوق بترك المطالبة. وقال محمد: إذا ترك مطالبته شهرا: بطلت شفعته). وذلك لأنه لا يجوز أن يعطل على المشتري نصرفه فيها، وثمن الدار جميعا. ألا ترى أن ما يتصرف فيه البناء، والغرس، معرض للتلف والنقض؛

لأن للشفيع متى جاء أن يأخذه برفع البناء، وقلع الغرس. وإنما للشفيع حق الأخذ، وليس له إبطال حق الغير، فيقال له: إما أن تأخذ، فتحصل للمشتري الثمن، أو تترك، فتحصل له الدار. وإنما وقت لذلك شهرا اجتهادا، وجعله حدا فاصلا بين القليل والكثير، وقد قالوا جميعا فيمن حلف ليقضين فلانا ماله عاجلا أو قريبا، ولا نية له، أنه على أقل من شهر، فلم يجعلوا الشهر قريبا ولا عاجلا. مسألة: [لزوم حضور البائع والمشتري للقضاء بالشفعة] قال أبو جعفر: (وإذا كان المبيع في يد المبيع: لم يقض للشفيع حتى يحضر البيع والمشتري). لأن فيه قضاء عليه؛ لأنه ملكه، ويحتاج إلى حضور البيع، لما فيه من استحقاق يده. وأيضا أخذها من يد البيع يوجب فسخ عقد المشتري، فلا يصح الفسخ أو يحضرا جميعا؛ لأن الفسخ يقع عليهما. مسالة: [العهدة على البائع إن أخذها الشفيع منه دون المشتري] قال: (فإذا أخذها من يد البيع: كانت عهدته عليه دون المشتري). من قبل أن البيع ينفسخ بأخذها من البيع، وذلك لأن صحة العقد موقوفة على سلامة القبض، وقد بطل القبض، فيبطل البيع، ألا ترى أن هلاك المبيع قبل القبض يبطل العقد، لعدم القبض، وإذا صح ذلك كانت العهدة على البيع، كأنه بيع بين الشفيع والبيع.

مسألة: [العهدة على من قبض الثمن] قال: (وإذا كان المشتري قد قبض فهو الخصم وإن غاب البيع). لأن البيع في هذه الحال لا يقع عليه القضاء بحال؛ لأن ملكه ويده جميعا زائلان، ولا ينفسخ البيع أيضا بأخذها من يد المشتري، فلذلك لم يعتبر حضور البيع، فإذا أخذها من المشتري: كانت عهدته عليه، لأنه هو المستحق للثمن. وجملة الأمر: أن العهدة على من قبض الثمن. مسألة: [الشفعة على الرؤوس لا الأنصباء] قال: (والشفعة على الرؤوس، لا على الأنصباء). لأن صاحب القليل يستحق شفعة جميع الجميع، كما يستحق صاحب الكثير لو انفرد، فلما تساويا في الاستحقاق. ومن حضر منهم أخذ الجميع؛ لأن حقه ثابت في الجميع، وإنما ينقص بالمخاصمة والشركة. ومن لم يحضر من شاركه استحق الكل. فإن حضر الآخر: شركة فيه، كأنهما حضرا معا، لا أنا إنما قضينا للحاضر على أن يبطل حق الغائب. *قال: (وإن كان الأول جارا، والثاني شريكا: كان الثاني أولى). كما لو حضرا معا كان الشريك أولاهما.

مسألة: [القول قول المشتري في الثمن] قال: (وإذا اختلف الشفيع والمشتري في الثمن: فالقول قول المشتري). وذلك لان الدار في ملك المشتري، والشفيع يردي نقلها إليه بالثمن، فالقول قول المشتري فيما يستحق به النقل، كالبيع مع المشتري. والأصل فيه قول النبي صلى الله على وسلم: " إذا اختلف البيعان، فالقول ما قال البيع أو يترادان". فجعل القول قول البيع والشفيع؛ لأنه لم يكن بينهما عقد، ولم ينتقل الملك إليه بعد، وإنما هو ملك المشتري. وهذا يفارق الوكيل والموكل إذا اختلفا في الثمن، فيتحالفان؛ لأن الشيء في ملك الآمر انتقل إليه بالعقد، فصار كالمشتري مع البيع. مسألة: [تعارض بينة الشفيع والمشتري] قال: (وإن أقام كل واحد منهما على ما ادعى من ذلك بينة: كانت البينة بينة الشفيع، في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: البينة بينة المشتري). وذلك لان الشفيع أقام البينة على أقرار المشتري بما أدعى، وأقام المشتري البينة على إقرار نفسه أيضا، فحصل منه إقراران: أحدهما على نفسه، والآخر لنفسه، فإقراره على نفسه أجوز من إقراره لنفسه، ألا ترى

أنه لو حصل الإقراران منه عند القاضي، أخذه بإقراره على نفسه، دون إقراره لنفسه. مسألة: قال: (وإذا كان الثمن عرضا وقد هلك، فاختلفا في قيمته، فالقول قول المشتري أيضا). على ما بينا. *قال: (وإن أقاما بينة: فالبينة أيضا بينة الشفيع في قياس قول أبي حنيفة، على ما رواه أبو يوسف. وقال أبو يوسف ومحمد: البينة بينة المشتري). وذكر محمد أن هذا القياس قول أبي حنيفة، وأن ذلك مخالف لإقامتهما البينة على الثمن نفسه؛ لأنه إذا أقاما البينة على الثمن، فقد ثبت من المشتري إقراران، فكان إقراره على نفسه أولى من إقراره على غيره؛ لأن البينة قد قامت على إقراره بالثمنين جميعا، كأنه أقر بهما عند القاضي. وأما قيمة العرض، فلم يكن من المشتري إقرار بمقدارها، فالبينة بينة المشتري؛ لأنه أثبت بها فضل القيمة. مسألة: قال: (وللشفيع خيار الرؤية فيما يأخذه). لأنه بمنزلة الشرى. * (ويرد أيضا بالعيب)؛ لهذه العلة. مسألة: [ليس للشفيع تفريق صفقة المشتري] قال: (ومن اشترى دارا من رجلين: لم يكن للشفيع أن يأخذ نصيب

أحدهما دون الآخر). لان المشتري ملك النصيبين صفقة واحدة، فليس للشفيع أن يفرقها عليه. مسألة: قال: (وإن اشترى رجلان من رجل دارا: كان له أن يأخذ نصيب أحدهما دون الآخر). لأنه ليس فيه تفريق الصفقة على أحد؛ لأنه اخذ جميع ما ملكه كل واحد منهما بالعقد. مسألة: قال أبو جعفر: (والشفعة لا تورث). وذلك أن الوارث لا يخلو من أن يأخذه للميت أو لنفسه، ولا يجوز له أخذه لنفسه؛ لان جواره حادث بعد العقد، ومن حدث له جوار أو شركة بعد العقد: لم يستحق به الشفعة في عقد متقدم. أو يأخذه للميت، ولا يجوز ذلك؛ لأنه يلزم الميت دينا، ولا يجوز له ذلك، لأنه لا يجوز تصرفه على الميت. وأيضا: فلما كان حق الشفعة متعلقا بعقد البيع، أن يملك به، صار بمنزلة خيار القبول، فلما اتفق الجميع على أن خيار القبول لا ينتقل

إلى الوارث بالموت، وجب أن يكون كذلك حكم الشفعة. مسألة: [ليس للشفيع تفريق الصفقة] قال أبو جعفر: (ومن اشترى دارين صفقة واحدة، ولهما شفيع واحد، فليس للشفيع أخذ إحداهما دون الأخرى). وذلك لان المشتري ملكهما صفقة واحدة، فليس للشفيع تفريق الصفقة، كما أن رجلا لو قال لرجل: قد بعتك هاتين الدارين، لم يكن للمشتري أن يقبل البيع في إحداهما دون الأخرى. مسألة: [بقاء ملك المشتري لما اشترى ما لم يأخذه الشفيع] قال أبو جعفر: (والمشتري مالك لما اشترى مما فيه الشفعة، ما لم يأخذه الشفيع). وذلك لأن البيع كان مالكا، وقد ملكه إياه وسلطه عليه، فملكه كما كان البيع مالكا. وأيضا: فإن ثبوت حق الغير في العقد لا يمنع وقوع الملك، كما أن خيار العيب وخيار الرؤية لا يمنع صحة الملك، وكما أن خيار امرأة المجبوب، وخيار الولي في فسخ نكاح غير الكفء لا يمنع وقوع العقد. مسألة: [خيار الشفيع إن باع المشتري ما اشترى] قال: (فإن باعه المشتري: جاز بيعه، وكان الشفيع بالخيار، إن شاء أخذه بحق شفعته بالبيع الأول، وإن شاء أخذه بحق شفعته بالبيع الثاني). وذلك لان تصرف المشتري لما كان جائزا على ما بينا، وجب أن يثبت للشفيع حق الشفعة في بيع المشتري، حينئذ قد ثبت له حق الأخذ بأحد عقدين، إما الأول، وإما الثاني، فإن سلم الأول: أخذه بالثاني، وإن

فسخ العقد الثاني: أخذه بالأول. * والمشتري وإن جاز بيعه، فليس له إبطال حق الشفيع، إذ لم يكن منه تسليط في إبطال حقه من العين، ولا ينتقل حقه مع ذلك إلى بدل. وليس هذا كالمشتري شراء فاسدا، فيجوز تصرفه، ويبطل حق البيع بتصرفه؛ لان البيع قد كان منه تسليط للمشتري في التصرف. مسألة: [للشفيع إبطال هبة المشتري] قال أبو جعفر: (ولو لم يبعه المشتري، ولكنه وهبه: فللشفيع أخذه، وإبطال هبة المشتري إذا كان أخذه بقضاء القاضي). وذلك لأن الدار لو كانت في ملك المشتري، لم ينتقل الملك إليه إلا بقضاء القاضي، أو بالتراضي، وهبته صحيحة فلا تنفسخ، أو يفسخها القاضي على ما بينا فيما تقدم. مسألة: [أثر استحقاق البناء في الشفعة] قال: (والشفيع غير مغرور في باب الرجوع بقيمة البناء على المشتري عند الاستحقاق). لأن المشتري لم يوجبه له، وإنما اختار أخذه من غير رضا المشتري، وقد بينا ذلك فيما تقدم. مسألة: [للشفيع أمر المشتري بنقض ما بناه] قال: (وللشفيع أن يأخذ المشتري بنقض ما بناه) لأنه بنى في حق غيره، كم بنى في ملك غيره. * قال: (وروي عن أبي يوسف أنه قال للشفيع: إن شئت فخذها بالثمن وقيمة البناء، وإن شئت فاترك).

وهو شاذ من قوله، والمشهور هو الأول. ووجهه: أن المشتري بنى في ملكه، وكان له أن يبني، فلا يؤمر بنقضه؛ للضرر الذي يلحقه. مسألة: [لا تثبت الشفعة في المبيع بخيار البائع] (وخيار البيع المشروط في العقد يمنع وجوب الشفعة). لأن الشفعة تجب برغبة البيع عن ملكه، فيكون حينئذ الشفيع أولى به من المشتري. فأما إذا كان الشيء باقيا في ملك البيع، وهو لم يرغب بعد عن ملكه: فل تجب الشفعة. ألا ترى أنه إنما لنفسه الخيار، لئلا يخرج عن ملكه إلا برضاه، ولو كان للشفيع أخذ، فكان قد أخذه بغير رضاه، وذلك خلاف موجب العقد. * وإذا شرط الخيار للمشتري دون البيع: فللشفيع الشفعة؛ لأنها قد خرجت عن ملك البيع، وانقطع حقه عنها، فالشفيع حينئذ أولى به، لانقطاع حق البيع. ألا ترى أنه لو يكن للمشتري خيار، لكان الشفيع أولى به لانقطاع حق البيع، فخيار المشتري لا يمنع حقه، ألا ترى أن للشفيع إبطال ملك المشتري، وفسخ عقده لو كان العقد بغير خيار إذا أخذه من يد البيع.

مسألة: [شفعة الذمي] قال: (والشفعة للذمي كهي للمسلم). لان عموم الأخبار الواردة فيها لم تفرق في شيء منها بين المسلم والذمي، ولأنهما لا يختلفان في سائر حقوق العقد، كخيار الرؤية والعيب وسائر الحقوق. مسألة: [جواز تسليم شفعة الصغير لوليه] قال: (ويجوز تسليم الوصي والأب شفعة الصغير في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا يجوز في قول محمد). وجه قولهما: أنه كما جاز له أن ينقلها إليه بعد الأخذ بذلك الثمن، جاز له ترك الثمن على ملك الصغير من غير أخذ. مسألة: [للشفيع أخذ المشترى من وكيل الشراء] قال: (وللشفيع أن يأخذ من يد الوكيل بالشراء إذا كان في يده). لأن حقوق العقد تعلقت به، فصار كالمشتري لنفسه، فإن سلمها إلى الآمر: أخذها من يد الآمر، كما لو جاء والدار في يد البيع أخذها منه، فإن كان قد سلمها إلى المشتري: أخذها من يده، ولا ينفسخ القبض. *قال أبو جعفر: (وقال أبو يوسف: يقال للمشتري وهو الوكيل: سلمها إلى الآمر حتى يأخذها الشفيع منه). وذلك لأنها أمانة في يده، بمنزلة الوديعة، فيأخذها من الآمر حتى تكون عهدته عليه.

قال أحمد: وهذا القول ليس بمشهور، والصحيح هو الأول؛ لأنها في يد المشتري على حكم العقد. والدليل عليه: أن الوكيل لو وجد بها عيبا، كان له أن يردها، ولا يستأذن الآمر فيه. *****

كتاب المضاربة

كتاب المضاربة مسألة: [جواز المضاربة] قال: (والمضاربة بجزء معلوم من الربح جائزة). وذلك لأنها من العقود التي أقر النبي صلى الله عليه وسلم الناس عليها، مع علمه بأنهم يتعاملون بها؛ لأن عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وسائر الأعصار بعده على يومنا لم تخل من هذه العقود، وكانت ظاهرة بينهم، فلم ينكرها عليهم، ولم ينكر سائر الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم على فاعليها، فصار ذلك توقيفا واتفاقا من السلف على جوازها. مسألة: (ولا تجوز المضاربة إلا بمثل ما تجوز به الشركة من الأثمان). وقد بينا ذلك في كتاب الشركة. مسألة: قال: (ولا تجوز المضاربة على أن لأحدهما دراهم معلومة). وذلك لأن هذا يخرجها عن باب الشركة، لجواز أن لا يربح إلا هذا القدر، ولا يشاركه الآخر فيه، ومتى خرجت عن باب الشركة، صارت

إجارة، والإجارة لا تجوز إلا بأجر معلوم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من استأجر أجيرا فليعلمه أجره". والأجرة أيضا في هذه المسألة مشروطة على غرر، لأنها شرطت بما يكسبه، ويجوز أن لا يسكب. *ويقتضي أن يكون العمل معلوما، والمدة معلومة؛ لأن العقد واقع على المدة، والمضاربة ليس لها مدة معلومة، ولا عمل معلوم، فبطل، وصارت إجارة فاسدة. * وإنما الفرق بين المضاربة والإجارة، أن المضاربة ضرب من الشركة، والإجارة عقد على المنافع، لا على وجه الشركة، بل لا تجوز مع الشركة. مسألة: [ما يجب بفساد المضاربة] قال: (وإذا فسدت المضاربة: كان الربح لرب المال، وللمضارب أجرة مثله). وذلك لأنها حصلت إجارة بأجر مجهول، والإجارة إذا فسدت أوجبت أجر المثل للعمل.

مسألة: [المضارب أمين] قال: (والمضارب أمين في المضاربة الصحيحة). كالمودع، وهذا معنى ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "ليس على من قاسم الربح ضمان"، يعني المضارب والشريك. * (وكذلك في المضاربة الفاسدة على قول أبي حنيفة). لأنه أجير مشترك، وهو لا يرى ضمان الأجير المشترك. (وفي قول أبي يوسف ومحمد: هو ضمان، كما يضمن الأجير المشترك). مسألة: [للمضارب العمل بنفسه وبأجرائه] قال: (وللمضارب في المضاربة الصحيحة أن يعمل فيها بنفسه وبأجرائه). لأن المضاربة تشتمل على ذلك كله. مسالة: [دفع المضارب رأس المال لغيره مضاربة] قال: (وليس له أن يدفعه إلى غيره مضاربة). لأن فيه إثبات شركة الغير في مال رب المال، وذلك لا يجوز إلا بإذنه. مسألة: قال: (فإن قال له رب المال: اعمل فيه برأيك: كان له ذلك).

لأنه قد رأى ذلك. مسألة: [ما يمنع منه المضارب المطلق] وعقد المضاربة المطلقة لا يجيز له أن يخلطه بماله، ولا أن يدفعه مضاربة، ولا يشارك به غيره. مسألة: [استدانة المضارب] (فإن قيل له: اعمل فيه برأيك، كان له أن يفعل جميع ذلك. لأن في الاستدانة زيادة في رأس المال، ورب المال فإنما رضي بأن يكون رأس ماله المقدار المدفوع، ولم يأذن له في أن يجعل رأس ماله في المضاربة أكثر منه، فلذلك لم يكن له أن يستدين عليها. فصل: [سفر المضارب بالمال] قال: (وله أن يسافر بالمال وإن لم يقل: اعمل فيه برأيك). لأن اللفظ يقتضي ذلك؛ لأن المضاربة إنما هي الضرب في الأرض، قال الله تعال: {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله}. * (وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه ليس له أن يفعل ذلك). ويشبه أن يكون جعله كالوكيل بالشراء. * (وقال أبو يوسف: له أن يسافر به إلى الموضع الذي يقدر الرجوع

إلى أهله فيبيت فيهم، كنحو قطربل من بغداد). وجعله كجانبي بغداد، وكسائر محال البلد. مسألة: [بنفقة المضارب في السفر] (ونفقة المضارب في مال المضاربة في السفر). لأن سفره كان لأجل المضاربة، مع جريان العادة من التجار بمثله، وما جرت به العادة من ذلك فهو كالنطق به. ألا ترى أنهم قالوا: إن للمشتري أن يلحق برأس ماله ما أنفقه على السلعة، مما جرت عادة التجار بإلحاقه برأس المال، فيبيع المرابحة عليه. مسألة: [نفقة المضارب في المصر] قال: (ونفقته في المصر على نفسه) لأن كونه في مصره وإقامته فيه ليس من أجل المضاربة. مسألة: [كلفة علاج المضارب على نفسه] قال: (والدواء والحجامة من ماله خاصة). لأنه نادر خاص، وليست الحاجة إليه ضرورة، فلم يكن كالطعام

والشراب والركوب. وأيضا: لم تجر العادة بمثله في أخذه من مال المضاربة. مسألة: [ليس للمضارب السفر بمال المضاربة إن شرط عليه ذلك] قال: (وإذا شرط على المضارب أن يعمل به في المصر: لم يكن له أن يخرج به). لأن تخصيصه إياها بالمصر جائز، كما لو خص نوعا من التجارات. * (فإن خرج به، وباع واشترى: كان ضامنا، وكان ربحه له، ويتصدق به في قول أبي حنيفة). لأنه حصل له من وجه محظور، ومن حصل له ربح من وجه محظور. أمر أن يتصدق به. والأصل فيه: حديث عاصم بن كليب عن أبيه في "الشاة المغصوبة التي دعي النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يمكنه أكلها، وسأل عن شأنها، فأخبر أنها لغيره، ثم ذبحت بغير أمره، فأمرهم أن يتصدقوا بها على الأسارى". قال: (وفي قول أبي يوسف ومحمد: لا يتصدق به). وذكر أبو جعفر محمدا مع أبي يوسف، وهو مع أبي حنيفة. مسألة: [فسخ المضاربة والمال دين] قال: (وإذا فسخا المضاربة، والمال دين، فإن كان فيه ربح: أجبر المضارب على التقاضي).

لأنه قد استحق على عمله عوضا كالأجير. * (وإن لم يكن فيه ربح: لم يجبر على التقاضي). لأنه [لم] يستحق على عمله عوضا، وهو متبرع كالوكيل، فيحيل رب المال على الغريم. مسألة: [موت المضارب] قال: (وإذا مات المضارب، فلم تعرف المضاربة بعينها في ماله: صارت دينا عليه). لأنا قد حكمنا بما كان في يده ميراثا عنه، وإذا صار ميراثا عنه فقد ملكناه إياه، ولا يجوز أن نملكه مال الغير بغير بدل، ولذلك صار مضمونا. فإن قيل: إنما يجب هذا الاعتبار إذا علم انه كان في يده إلى أن مات. قيل له: هو كذلك، فالأصل أنه باق في يده حتى يعلم زوالها عنه. وأيضا: لما أمكنه البيان، فتوصل به رب المال إلى حقه بعينه، فلم يفعل، صار مضيعا له، بمنزلة لو تركه في غير حرز فضمنه. مسألة: [عتق المضارب عبد المضاربة] قال: (فإن أعتق المضارب عبد المضاربة، فإن كان فيه فضل: جاز عتقه في حصته من الربح، وكان بمنزلة عبد بين رجلين أعتقه أحدهما على اختلافهم فيه). وذلك لان هذا العبد بعينه قد حصل فيه رأس المال والربح، ولا بد

من أن يملك المضارب حثته من الربح، فينفذ عتقه فيه. قال: (وإن لم يكن فيه فضل، لم يجز عتقه). مسألة: [عتق المضارب عبدي المضاربة] قال: (وإن اشترى المضارب عبدين بمال المضاربة، قيمة كل واحد منهما رأس المال، فأعتقهما، أو أحدهما: لم يجز عتقه في شيء منهما). ألا ترى أنه لو هلك الآخر، كان رأس ماله في الباقي، ولا ربح للمضارب إلا بعد حصول رأس المال، فإذا لم يكن له في واحد منهما ربح، لم يجز عتقه فيه. *فإن أعتقهما جميعا: لم يجز أيضا؛ لأنه إذا ثبت أن عتقه غير جائز في كل واحد منهما على الانفراد، لم يجز عتقه إذا جمعهما في العتق، إذ ليس في الأصول عتق عبد يكون جوازه موقوفا على عتق عبد آخر. مسألة: [عتق رب المال عبدي المضاربة معا] قال: (فإن أعتقهما رب المال معا: نفذ عتقه فيهما، وضمن للمضارب قيمة حصته من الربح منهما، موسرا كان أو معسرا). وذلك لأن ملكه قائم في كل واحد منهما على حياله، فنفذ عتقه فيهما، إلا أنه يصير به مستوفيا لألفين إن كانت قيمة كل واحد منهما ألفا، ورأس المال ألف، فما فضل عن رأس المال ضمن نصفه للمضارب

* وإنما لم يختلف فيه حكم اليسار والإعسار؛ لأن المضارب لم يكن له ملك في واحد من العبدين، وإنما كان له حق يملك به في الثاني عند حصول رأس المال. وإنما حصل ربحه بعد نفاذ عتق رب المال فيهما، فضمنه من طريق الاستهلاك ومنع الملك. ألا ترى أن ولد المغرور: يضمن المغرور قيمته للمستحق، موسرا كان معسرا؛ لأنه أنما منعه الدخول في ملكه، إذ كان جزء الأصل، فإنه لا يختلفان بكون الجارية أم ولد للمستحق، أو أمة غير ام ولد، في باب ضامن الولد، لأنه منعه من الدخول في ملكه مع استحقاقه إياه لولا حريته بدعوته، كذلك ما وصفنا. مسألة: [تفريق رب المال عتق عبدي المضاربة] قال: أبو جعفر: (وسواء كان عتقه إياهما معا، أو كان أعتق أحدهما، ثم أعتق الآخر).

قال أحمد: هذا الذي قاله في هذا الفصل خطأ؛ لأنه إذا أعتق أحدهما قبل الآخر: نفذ عتقه في جميعه، وصار به مستوفيا لرأس المال، وبقي العبد الآخر ربحا بينهما، فلما أعتقه صار بمنزلة عبد بين رجلين أعتقه أحدهما، فيكون له خيار على ثلاثة أوجه في قول أبي حنيفة: [ضمن] إن كان موسرا. وإن كان معسرا: فله خياران: إن شاء اعتق، وإن شاء استسعى. وفى قول أبي يوسف ومحمد: إن كان موسرا ضمن، وإن كان معسرا سعى العبد في نصف قيمته. وقد بينه محمد على هذا الوجه في كتاب المضاربة الكبير. مسألة: [ما ليس للمضارب أن يشتريه] قال: (وليس للمضارب أن يشتري بمال المضاربة ذا رحم محرم من رب المال، ولا أم ولده، ولا من يجوز له بيعه). لأن المضاربة تقتضي جواز التصرف فيما يشتريه حتى يحصل رأس المال، فما كان لا يمكنه بيعه وتحصيل رأس المال به، لم يدخل تحت عقد المضاربة. * قال: (ولا يجوز أن يشتري على المضاربة ذا رحم محرم من المضارب إذا كان فيه فضل عن رأس المال). وذلك للعلة التي ذكرنا، وهو أنه لا يمكنه التصرف فيما اشتراه على

المضاربة، لأنه يعتق عليه حصته من الربح، فصار شراؤه لنفسه خاصة. قال أحمد: وقال محمد في الزيادات: لو اشترى المضارب نصفها بمال المضاربة، ونصفها لنفسه خاصة، ونصف قيمة الجارية مثل رأس المال: كان النصف الذي اشتراه على المضاربة واقعا للمضاربة، وتعتق الجارية على المضارب، ولا ضمان عليه في قياس قول أبي حنيفة، وتسعى الجارية في نصف قيمتها لرب المال، فتكون على المضاربة. وفي قول أبي يوسف ومحمد: يضمن المضارب إن كان موسرا نصف قيمة الجارية، وإن كان معسرا: سعت الجارية في نصف قيمتها. ففرق بين أن يشتري على المضاربة نصفها، ونصفها لنفسه، وقيمة نصف الجارية مثل رأس المال، وبين أن يشتري جميعها على المضاربة، وقيمتها أكثر من رأس المال، من قبل أن يشتري جميعها على المضاربة، وقيمتها أكثر من رأس المال، من قبل أن النصف الذي اشتراه على المضاربة، لو انفرد به من غير شراء النصف الآخر لنفسه، لم يكن مخالفا، فشراه للنصف الآخر لنفسه، لا يجعله مخالفا، كما لو اشتراها هو على المضاربة ورجل آخر، هي ذات رحم محرم منه، لم يكن مخالفا، وكذلك شراؤه نصفها لنفسه لا يجعله مخالفا. وإذا اشترى جميع الجارية على المضاربة، وفيها فضل وهي ذات رحم محرم منه: فهو مخالف في نفس ما اشتراه على المضاربة، فلذلك لزمه. وإنما لم يجب عليه ضمان ما اشتراه على المضاربة بعتق النصف الذي اشتراه لنفسه في قول أبي حنيفة: من قبل أنه لما كان مأذونا له في شراء ذلك النصف على المضاربة، صار بمنزلة رجلين اشتريا ابن احدهما، فلا يضمن الأب ببشريك شيئا، ولكن الغلام يسعى في قول أبي حنيفة،

ويضمن في قولهما وإن كان موسرا. مسألة: قال: (فإن اشتراه، ولا فضل فيه عن رأس المال، ثم زادت قيمته على رأس المال: خرج من المضاربة، وسعى لرب المال في حصته، ولا يضمن المضارب شيئا). لأنه عتق بغير فعله، إنما أعتق بزيادة القيمة ولا يضمن، ألا ترى أن رجلين لو ورثا ابن أحدهما: لم يضمن الأب شيئا، لأنه دخل في ملكه بغير فعله، ولكنه يسعى، كذلك ما وصفنا. مسألة: [شراء أم ولد نفسه] قال: (فإن اشترى أم ولد نفسه، ثم زادت قيمتها، حتى صار له فيها ربح، ضمن حصة رب المال، ولا سعي عليها). لأنها قد انتقلت إليه، وهو على ملكه، فضمن قيمتها. ألا ترى أن رجلين ورثا أم ولد لأحدهما: ضمن حصة شريكه، موسرا كان أو معسرا؛ لأن نصيب الشريك قد انتقل إليه، وهو في ملكه. *****

كتاب المساقاة

كتاب المساقاة مسألة: [عدم جواز المساقاة عند الإمام] قال: (كان أبو حنيفة لا يجيز المساقاة بحال). وذلك لأنها إجارة بأجر مجهول، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من استأجر أجيرا، فليعلمه أجره". وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرافع بن خديج في الأرض: "لا تستأجرها بشيء منها". والدليل على أن المساقاة إجارة: أنها عقد على منافع، من شرط صحتها توقيت المدة عند من يجيزها. وليست كالمضاربة؛ لأنها تصح بغير مدة مشروطة، والمساقاة لا تصح الإ بمدة معلومة، فدل ذلك على أنها إجارة، والإجارة لا تصح الإ بأجر معلوم، بما قدمنا من السنة، واتفاق الأمة من سائر الإجارات.

* وأما قصة خيبر، ودفع النبي صلى الله عليه وسلم النخل مساقاة، لا يجوز أن يكون أصلا فيه؛ لأن أولئك كانوا مبقين على حكم الفيء والغنيمة؛ لان النبي صلى الله عليه وسلم فتح بلدهم عنوة، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأرض والنخل على أن يعملوا فيها، وقال لهم: "أقركم ما أقركم الله". ومثل هذا قد يجوز فيما بيننا وبين عبيدنا. ويدل عليه: أنه لم يضرب لهم مدة معلومة للعمل، فدل على أنها كانت على سبيل ما يعامل به المولى عبده. واتفق مجيزو المساقات فيما بيننا على أنها لا تجوز إلا بمدة معلومة، فعلمنا أن قصة خيبر، ليست بأصل للمساقاة فيما بيننا. وأيضا: يحتمل أن يكون ما أخذ منهم، كان على سبيل الجزية، وقد يجوز في الجزية من الجهالة ما لا يجوز مثله في عقود الإجارات. * (وفي قول أبي يوسف ومحمد: تجوز المساقاة على وقت معلوم وعمل معلوم). واستدلوا عليها بقصة خيبر. مسألة: [شروط المساقاة عند الصاحبين المجيزين لها] (فإن لم يشترط الحفظ، والتلقيح على العامل، والنخل يحتاج إلى ذلك: فسدت المساقاة عندهما).

وذلك أن العامل إذا لم يكن عليه الحفظ والسقي ونحو ذلك، والنخل محتاج إليه، كان ذلك على النخل، وشرط بعض عمل المساقاة على رب النخل يفسدها، كما أنه لو شرط عمل رب المال مع المضارب، فسدت المضاربة. ****

كتاب الإجارات

كتاب الإجارات مسالة: [أدلة جواز الإجارة] قال أحمد: الأصل في جواز عقود الإجارات كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واتفاق الصدر الأول. فأما موضعه في كتاب الله تعالى: {فإن أرضعن لكم فئاتوهن أجورهن}. وقال موسى عليه السلام لصاحبه: {لو شئت لتخذت عليه أجرا}. وقال الله تعالى حاكيا عن نبيه شعيب صلى الله عليه وسلم: {إني أريد أن انكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرنى ثمانى حجج}. فدل ظاهر لفظه على أن ذلك كان عقد إجارة فيما بين شعيب وبين موسى عليهما السلام، وأنه جعل نكاح البنت شرطا في الإجارة؛ لأنه شرط المنافع لنفسه، لا للمرأة، ولو كان ذلك عقد نكاح، لوجب أن تكون المنافع مشروطة للمرأة؛ لانه لا يجوز ان يستحق بدل بضعها غيرها. وقال تعالى حاكيا عن صاحب يوسف عليه السلام: {ولمن جاء به

حمل بعير وأنه به زعيم}. وذلك إجارة؛ لانه شرط لمن جاء به حمل بعير، بدلا عن مجيئه به. وقال الله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم}. روي عن ابن عمر أنها نزلت فيمن أكري إلى مكة، وحج. ومن جهة السنة: حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يربط الحجر على بطنه من الغرث، فانطلق رجل من الصحابة فاستقي عشرين سجلا على عشرين تمرة، فجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكلها".

وحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثلكم ومثل اليهود والنصارى، كمثل رجل اتسأجر أجيرا، فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط ... "، إلى آخر الحديث. وحديث عائشة في قصة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر قال: "واستأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا، فأخذ بهما على طريق الساحل". وحديث الثوري عن سماك بن حرب عن سويد بن قيس قال: "جلبت أن ومخرفة العبدي بزا من هجر، فلما كنا بمنى، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشترى منا سراويل قال: وثم وزان يزن بالأجر، فدفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الثمن، ثم قال: زن وأرجح".

فهذه الأخبار كلها تقتضي جواز الإجارة على منافع الإنسان. وقد روي في جواز عقد الإجارة على منافع الأرضين حديث سعد بن أبي وقاص "أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص أن تكرى الأرضون بالذهب والفضة". وقد اتفق فقهاء السلف على مثل ما ورد به ظاهر الكتاب والسنة. من جواز عقود الإجارات على منافع الأبدان والعقار والعروض. فصل: [انواع الإجارة] وعقد الإجارة على وجهين: أحدهما على منافع معلومة، والثاني علي مدة معلومة يستحق فيها تسليم الشيء المستأجر، لا تصح إلا على أحد هذين الوجهين، مع نفي الجهالة عن الأجرة حسب نفيها عن عقود البياعات. والدليل على صحة ذلك: ما روى أبو سعيد الخدري وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من استأجر أجيرا فليعلمه أجره". استفدنا به معنيين: أحدهما من طريق النص، والآخر من طريق الدليل. فأما شرط معرفة الأجرة، ونفس الجهالة عنها، فهو مذكور فيها نصا.

ودلنا ذلك على وجوب نفي الجهالة عن المعقود عليه من المنافع، وعلى ان المعدوم من المنافع في عقد الإجارة في حكم المملوك من الأعيان بعقد البيع؛ لأنه من حيث نفى الجهالة، كان واجبا أن تكون منفية عن بدلها وهي المنافع. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نفى الجهالة عن السلم بقوله: "فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم": عقلنا به وجوب نفي الجهالة عند بدله، وهو رأس المال. فصل: [شروط استحقاق الأجرة] والأجرة لا تستحق عندنا إلا باحد ثلاثة معان: إما بشرط التعجيل، [أو بالتعجيل من غير شرط]، أو باستيفاء المنافع. والدليل على انها غير مستحقة بالعقد: قول الله تعالى: {فإن أرضعن لكم فئاتوهن أجورهن}، فاوجب لهن الأجر بعد الرضاع. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة:

"أعط الأجير أجره قبل ان يجف عرقه". وهذه حال فراغه من العمل. وحدثنا دعلج بن أحمد قال: حدثنا محمد بن إبراهيم البوشنجي قال: حدثنا النفيلي قال: حدثنا يحيى بن سليم الطائفي قال: سمعت إسماعيل بن أمية يذكر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن ابيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول ربكم: ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطاني عهدا ثم غدر، ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاتسوفى عمله، ولم يوفه أجره". فأخبر أن اللوم يلحقه بمنع الأجر بعد استيفاء العمل، ألا ترى أن الأجرة لما كان شرطها أن تكون معلومة في العقد قال: "من استأجر أجيرا فليعلمه أجره"، فشرط نفي الجهالة عنها في العقد، إذا كان ذلك واجبا في نفس العقد، فلو كانت الأجرة مستحقة بالعقد، لكان الأولى ان يقول: أعط الأجير أجره بعد العقد.

ولقال في حديث: "ثلاثة أنا خصمهم": ورجل استأجر أجيرا فلم يعطه أجره. * وأيضا من جهة النظر: إن عقد الإجارة واقع على المنافع وعلى الأجرة، كعقد البيع، يفيد ملك الثمن والمبيع معا، فلما لم تكن المنافع مملوكة في حال العقد، لانها معدومة فيه، وجب أن لا يملك المؤجر الأجرة، فإذا استوفى المنافع ملك المؤاجر بإزاء ملك المستأجر المنافع. * فإن شرط التعجيل، أو عجل: ملك، وذلك لوجود السبب الذي به تملك الىخر عند استيفاء المنافع، وهو العقد، ويصح تعجيل ما لم يستحق من أجل وجود السبب، كجواز تعجيل الزكاة لأجل وجود النصاب، وتعجيل كفارة القتل لأجب وجود الجراحة. فإن قال قائل: قبض الشيء المستأجر، بإزاء قبض المبيع، فيجب على هذا ان يستحق عليه الأجر بقبض المستأجر، كما يستحق الثمن على المشتري بقبض المبيع. قيل له: أما الثمن فإنما ييستحق على المشتري بالعقد، كما ملك المبيع بالعقد، وأما قبض المستأجر، فلم يوجب له ملك المنافع؛ لانها لو كانت مملوكة بالقبض، لوجب أن تصير في ضمانه، حتى لو هلك المستأجر في يده بعد القبض: أن لا تنتفض الإجارة، ولا يسقط عنه شيء من الأجر، وهذا خلاف الاتفاق، فثبت بذلك أن قبض المستأجر، لم يوجب له ملك المنافع ولا حصولهما في ضمانه. فصل: [زمن استحقاق الأجر] قال أبو جعفر: (وقال أبو حنيفة في الإجارة الواقعة على المدة، مثل استثجار الدار شهرا، أو سنة، أنه يستحق الأجر يوما بيوم، على حسب

استيفاء المنافع وهو قولهم جميعا. وكان ابو حنيفة يقول قبل ذلك: لا يستحق شيئا من الأجر حتى تمضي المدة كلها). وقد بينا وجه قوله فيما تقدم آنفا. ووجه قوله الأول: أنه جعله بمنزلة المبيع، أن البيع لا يستحق شيئا من الثمن إلا مع تسليم جميع المبيع، وأنه لو منعه بعض المبيع، لم يستحق ثمن الباقي حتى يحضر الجميع. ثم رجع وفرق بينه وبين البيع، من قبل أن عقد البيع يوجب تسليم المبيع دفعة، يستحق البدل على حسب استحقاق المبدل منه؛ لأن تسليم أحد البدلين مستحق بحذا تسليم البدل الآخر، ولهذه العلة قالوا: إن المؤجر لو منعه تسليم المستأجر بعض المدة، ثم أراد ان يسلم في بقية المدة، لم يكن للمستأجر أن يمتنع من ذلك. ولو ان البيع أتلف بعض المبيع قبل القبض، كان للمشتري أن يمتنع من قبل الباقي، وأن يفسخ البيع فيه، من قبل أن المستأجر لم يستحق تسليم المنافع على المؤجر إلا حالا فحالا، على حسب مضي الأوقات، فلم يتفرق عليه التسليم المستحق بالعقد لأجل منع المؤجر إياه بعض المدة. وأما المشتري فقد استحق على البيع تسليم المبيع دفعة، فإذا هلك

بعضه، أو نصفه، أو منعه، كان له الامتناع من قبض الباقي، إذا ليس هو واقعا على الوجه المستحق بالعقد. فصل: قال ابو جعفر: (وتجوز الإجارة على أجرة آجلة أو عاجلة). وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من استأجر أجيرا فليعلمه أجره"، فأجازها إذا كانت الأجرة معلومة، ولم يفرق بين أن تكون الأجرة معجلة او مؤجلة. مسالة: [حكم الأجرة لو انتقضت الإجارة] (ولو انتقضت الإجارة المؤجر: كان له منها بحساب ما مضى، مما قد استوفى منافعه، ورد على المستأجر ما بقي منها). وذلك أن قبض العبد لا تصير به المنافع في ضمانه؛ كان له منها بحساب ما مضى، مما قد استوفى منافعه، ورد على المستأجر ما بقي منها). وذلك أن قبض العبد لا تصير به المنافع في ضمانه؛ لأنه لا سبيل له إلى استيفاء جميع المنافع بحصول العقد في يده في الحال، وإنما يمكن استيفاؤها على حسب مضي الأوقات، فيحتاج إلى وجود الاوقات التي يصح فيها تسليم المنافع واستيفاؤها، حتى يستحق الأجر بها، فلذلك لم تلزمه أجره الأوقات التي لم يقع منه تسليم فيها. وليست الإجازة في هذا كالنكاح، في باب أن وجود الخلوة مرة واحدة، تمنع سقوط شيء من المهر بورود الطلاق، وذلك لأن عقد

النكاح لا يتناول المدة، لأنه لو وقع على المدة، لما صح إلا مع ذكر مدة معلومة، كالإجارة لما تناولت المدة، إذا كانت معقودة عليها، لم تصح إلا مع ذكر المدة، وإذا كان كذلك علمنا أن عقد النكاح إنما يتناول تسليما صحيحا من جهتها، كما تناول عقد البيع تسليما، واحدا من جهة البيع، فإذا وجد: صار الشيء في ضمان المشتري، كذلك في النكاح. ويدلك على ما وصفنا الفرق: أن أحد الزوجين لو مات قبل الدخول: استحقت كمال المهر، ولو مات العبد المستاجر قبل القبض: لم يستحق المؤجر شيئا من الأجر. مسألة: [انتقاض الإجارة بموت المستأجر أو المؤجر] قال: (ومن مات من المستأجر او المؤجر انتقضت الإجارة). أما إذا مات المؤجر، فقد انتقل ملك الدار إلى الورثة، والمنافع حادثة على ملكهم، لأنها تملك في حال حدوثها، فمن كان الأصل في ملكه، فالمنافع حادثة على ملكه، والميت فإنما كان عقد الإجارة على أن تستوفى المنافع من ملكه، فلما زال ملكه عن الأصل بطلت الإجارة، إذ غير جائز للمستأجر استيفاء المنافع من ملك من لم يعقد في ملكه. فإن قيل: فالجارية الموصى بخدمتها لرجل، تستوفى منافعها ممكن هي ملك الوارث. قيل له: لأن هذه المنافع لم تعقد إلا في ملك الوارث، ونحن فإنما منعما أن تستوفى من ملك الوارث منافع عقد عليها في غير ملكه. ألا ترى أن المؤجر لو باع العبد المستأجر، فأجاز المستأجر البيع: فإن الإجارة تبطل، لانتقال الملك إلى غير من عقد في ملكه، ولم يجز ان تستوفى المنافع من ملك المشتري إذا لم يعقد عليها في ملكه، كذلك إذا

مات المؤجر. * وأما إذا مات المستاجر، فقد انتقل ملكه إلى الورثة, فلا يجوز أن تستحق عليهم الأجرة بعد الموت، وذمة الميت قد بطلت، ولا يلحقه الدين بعد موته. ولانه معسر أيضا، لا سبيل له إلى الأداء؛ لأن الملك قد صار للوارث. فإن قال قائل: لما كان المعدوم من المنافع في حكم الموجود من الأعيان في باب العقد عليها، فهلا جعلتها في حكم الأعيان في باب بقاء العقد عليها مع موت أحدهما. قيل له: جواز العقد على المنافع المعدومة لم نجعلها في حكم الأعيان في باب حصولها في ضمانه بقبض العيد، لاتفاق الجميع على أن العبد لو مات بعد قبض المستأجر إياه قبل مضي شيء من المدة: بطل العقد، ولم تلزمه شيء من الأجرة. ولم تكن بمنزلة العبد المشترى إذا مات في يد المشتري بعد القبض بلا فصل، فكذلك لا تصير في حكم الموجود من الاعيان في باب امتناع انتقاض العقد بموت أحدهما. ويدل على أن المنافع المعقود عليها في ملك لا يجوز استيفاؤها من ملك آخر: أن العارية تبطل بموت المعير أو المستعير، لبطلان الملك الذي عقد فيه الإجارة.

مسألة: [ضمان المستأجر إن تعدى الشروط] قال أبو جعفر: (ومن استاجر دابة إلى مكان، فجاوز بها إلى مكان آخر: كان ضامنا لها ساعة جاوز بها). وذلك انه لم يؤمر بالمجاوزة، فلما جاوز بها بغير أمر مالكها: صار غاصبا، وقد لزمه الأجر قبل ذلك، فلا يسقط الضمان. مسألة: [حبس المستأجر الدابة في منزله] قال: (ولو اتسأجرها إلى مكان بعينه، فحبسها في بيته: فلا أجر عليه). لان المعقود عليه منها تسليمها في الموضع المشروط فيها السير، ولم يحصل ذلك، فلم يجب الأجر، لعدم التسليم. وهو ضامن بحبسها في منزله؛ لأنه لم يؤمر بإمساكها على الوجه. مسألة: [استحقاق الأجر بالتسليم] قال: (وإن قادرها إلى ذلك المكان، ولم يركبها: فعليه الأجر). لأن التسليم قد وجد في الأماكن المستأجر إليها، وبه يستحق الأجر، لا بالركوب، كما يستحق أجر الدار بالتسليم، لا بالسكنى. مسألة: [وجوب أجر الدار بقبضها] قال: (ولو استأجر دارا فقبضها: فعليه الأجر وإن لم يسكنها إذا بقيت في يده إلى انقضاء المدة). لأن الأجر إنما يستحق بتسليمها في المدة المؤقتة للإجارة، ألا ترى أنه لو سكنها إلا أنه كان يخرج بالنهار، ويرجع بالليل فيبيت فيها، أنه تستحق جميع الأجرة، ولم تسقط عنه حصة خروجه بالنهار.

مسألة: [عدم وجوب أجر الدار إن حال دون سكناها حائل] قال: (ولو قبضها، ثم حال بينه وبينها حائل: لم يكن عليه أجر ما كانت كذلك). وذلك لأن التسليم الذي يستحق به الأجر قد ارتفع، وقد بينا ذلك فيما تقدم. مسألة: [خيار الرؤية للمستأجر] قال: (ومن استأجر دارا لم يرها، ثم رآها: فله فيها خيار الرؤية). كالشراء، والمعنى فيها جميعا جهالة المعقود عليه عنده. مسألة: [يد المستأجر يد أمانة إن لم يتعد] قال: (ولا ضمان على المستأجر إن هلكت الدابة عنده من غير تعد). من قبل أنه قبضها بإذن المالك، لا على ضمان البدل عن عينها. مسألة: [جواز تأجير المستأجر للدابة إن قبضها] قال: (ومن استأجر دابة: لم يجز له أن يؤاجرها قبل القبض). كما لا يجوز بيع ما لم يقبض، والمعنى فيهما جميعا: أن من شرائط صحة كل واحد منهما صحة التسليم. وليس هذا كالتصرف في المهر قبل القبض، إذ ليس من شرائط بقاء العقد وجود التسليم؛ لأن العبد المهر لو هلك قبل القبض، لم يبطل النكاح، وتبطل الإجارة والبيع بالهلاك قبل القبض. *وإن آجرها بعد القبض: جاز، إلا أنه إن كان فيه فضل تصدق به؛ لأنه ربح ما لم يضمن، لأن المنافع لم تحصل في جهاته بالقبض، ألا ترى أنه لو هلك: بطل الأجر في المستقبل.

وأيضا: هو ربح ما لم يملك بنفس العقد؛ لأنها معدومة، والمعدوم لا يملكه أحد. ولو كان لما قبضها زاد فيها زيادة من عنده: طاب له الفضل، لأن الربح يصير بإزاء الزيادة. مسألة: [خيار العيب للمستأجر] قال: (وإن استأجر دارا، فحدث فيها عيب بعد القبض يضر بسكناها: فهو بالخيار: إن شاء أمسكها، وإن شاء نقض الإجارة). لأنه بمنزلة عيب حدث بالمبيع قبل القبض؛ لأن قبض الدار لا يجعل المنافع في ضمانه إلا بمقدار ما يمكن استيفاؤه منها. ألا ترى أننها لو انهدمت: سقط عنه الأجر بمقدار ما لم يستوف. مسألة: [الضرر المجاور للفعل المأذون في غير مضمون] قال: (ولا ضمان على الحجام إن هلك المحجوم، وكذلك إذا استؤجر لتبزيغ دابة). لأن السراية الحادثة ليست من فعله، وهو مأذون له في الحجامة، ولا يضمن السراية. وليس هذا بمنزلة تخريق الثوب بالدق، فيضمنه، من قبل أن ذلك من جناية يده بالمباشرة في نفس ما يستحق عليه البدل، فكان مضمونا عليه. وحدوث السراية والموت عن الحجامة والتبزيغ ليس من فعله، فلا

يضمنه، إذ لم تكن الحجامة نفسها مضمونة عليه، إذ هو مأذون فيها. مسألة: [ضمان الأجير المشترك] قال: (ولا ضمان على الأجير المشترك، إلا فيما جنت يداه في قول أبي حنيفة). وذلك لأن قبضه بإذن مالكه على غير وجه البدل، فصار كالوديعة، والمضاربة، وكالعبد المستأجر في يدي مستأجره. والأجر غير مستحق على الرقبة، ولا عن الحفظ، وإنما هو مستحق بدلا من المنافع. والدليل على أنه لم يستحق الأجر على الحفظ: أنه لو لم يعمله، ونفى عبده زمانا، ثم رده: لم يستحق شيئا من الأجر للحفظ، عدل على أن الأجر غير مستحق على الحفظ، ولا بدلا عن الرقبة؛ لأن الرقبة على ملك مالكها. وأيضا: قد اتفقوا في الأجير الخاص أنه لا يضمن ما يهلك في يده، فكان الأجير المشترك بمثابته، والمعنى الجامع بينهما أن الأجر غير مستحق على الحفظ في الناس، ولا عن الرقبة، وهو مقبوض بإذن المالك. وأيضا: لو كان الشيء مضمونا في يده، لضمنه بالموت كسائر المضمونات من المغصوب ونحوها. وقد وافقه أبو يوسف ومحمد انه لا يضمن بالموت، ولا بالحريق الغالب الذي لا يقدر على الامتناع منه، ولو كان مضمونا لضمنه في هذه الوجوه.

فإن قيل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى ترد": يوجب ضمانه حتى يخصه دليل. قيل له: لم يتناول لفظه هذا حال الهلاك، وإنما يتناول حال قيامه بعينه؛ لأنه قال: "عليها رد ما أخذت". * (وقال أبو يوسف ومحمد: يضمن الأجير المشترك مما يمكن التحفظ منه، وما لا يمكن التحفظ منه: لا يضمنه). وروي عن علي رضي الله عنه روايتان في الأجير المشترك: إحداهما: أنه يضمن، والأخرى: لا يضمن. وقيل: إنه يضمن احتياطا لأموال الناس، ويحتمل ان يكون الوجه الذي ضمن فيه إذا كان الهلاك من خيانه يده. فصل: [ضمان الأجير المشترك عند الجناية] وأما ما جنت يد الأجير المشترك، فإنه يضمنه وإن لم يكن متعديا فيه في قولهم. وقال زفر: لا يضمن ما جنت يداه إلا أن يخالف، وهو عنده في يده

كالوديعة، لا يضمن إلا بما تضمن به الوديعة من الخلاف. والحجة لقولهم في ضمان ما جنت يداه وإن لم يخالف: أن الأجير لما كان مستحقا للأجر على العمل، كان العمل مضمونا، لأن عقود المعاوضات تقتضي الضمان، وإذا كان العمل مضمونا، كان ما حدث عنه مضمونا، لأن ما حدث من المضمون فهو مضمون. مسألة: [ما للمستأجر أن يأخذه إن ضمن الأجير] (وإذا وجب الضمان، فالمستأجر بالخيار: إن شاء ضمنه غير معمول، ولا أجر له، وإن شاء ضمنه قيمته معمولا، وعليه الأجرة). وذلك لأن العمل لم يسلم له بعد، لأن الثوب لم يحصل في يده، فله أن لا يجعل العمل مضمونا على نفسه، فيضمنه قيمته غير معمول، وإن شاء جعل العمل مضمونا على نفسه، لانه قد حصل في ثوبه بأمره، فيضمنه قيمته معمولا، ويعطيه الأجر. فصل: [عدم ضمان الأجير الخاص إلا إن حالف] قال: (والأجير الخاص لا ضمان عليه في قولهم جميعا، والاجير الخاص هو الذي يستحق الأجر بمضي المدة مع التسليم). فيصير الشيء في يده كالوديعة. * (ولا يضمن ما جنت يداه، ما لم يخالف). لأن عمله غير مضمون، إذ كان الأجر مستحقا بالتسليم لا بالعمل. مسألة: [اختلاف الأجير المشترك وصاحب الثوب في رد الثوب] قال: (وإذا ادعى الأجير المشترك أنه رد الثوب على صاحبه: كان القول قوله في قول أبي حنيفة).

لأنه أمين كالمودع، وكل من كان مؤتمنا في شيء، فالقول قوله. والأصل فيه: قول الله تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضا فليود الذي اؤتمن أمنته وليتق الله ربه}، فوعظه في البخس، فدل على أن القول فيه قوله. (وفي قول أبي يوسف ومحمد: لا يصدق). لأنه مضمون عليه عندهما كالغاصب، لا يصدق فيه على البراءة من الضمان، وكم له على رجل دين، فلا يصدق على القضاء. مسألة: [للأجير القائم عمله في الشيء حبس الشيء بالأجر] قال: (وللحائك والقصار ونحوهما أن يحبسا الثوب بالأجر، وليس للحمال والجمال والملاح الحبس). والأصل فيه: أن الأجر مستحق على العمل متى كان العمل قائما في الشيء المستأجر عليه، فله حبسه بالأجر، كما يحبس المبيع بالثمن. وعمل الحائك قائم في الثوب، وكذلك القصار تأثيره قائم في الثوب، فمن أجل ذلك كان له حبسه. وعمل الحمال غير قائم في المحمول، ولا تأثير له باق فيه، فلذلك لم يكن له حبسه. مسألة: [لزوم عقد الإجارة، ولا تنقض إلا بعذر] قال أبو جعفر: (وليس للمستأجر ولا للمؤجر نقض الإجارة إلا من عذر).

قال أحمد: ومن السلف من يرى نقضها من غير عذر، وأحسبه قول شريح. وإنما لم يكن له نقضها من غير عذر، لقول الله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عند شروطهم". وقال الله تعالى: {فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن}. فظاهره يقتضي وجوب استحقاق الأجر بالرضاع، سواء اختار الزوج فسخ الإجارة، أو لم يختر. مسألة: [أعذار تفسخ بها الإجارة] قال: (ومن عذر المستأجر: أن يفلس، فيقوم من السوق، ومن عذر المؤجر: أن يلحقه دين فيحتاج إلى الدار). والدليل على أن الإجارة تنقض بالعذر: أنه لو استأجر رجلا يقلع ضرسا له لوجع أصابه، أو علة، ثم برأ ضرسه، أن لا يجبر على قلعه ليستحق الأجر، وكان له فسخ الإجارة. وكذلك لو استأجر لهدم داره، ثم بدا له في هدمها، كان له فسخ

الإجارة، فصار ذلك أصلا في فسخ الإجارة بالأعذار. ثم تختلف وجوه الأعذار، فتكون تارة بإفلاس المستأجر وقيامه من السوق، فيكون ذلك عذرا له في فسخها؛ لأنه لا يمكنه القعود في الحانوت، ولا الانتفاع به، فيلحقه ضرر ببقاء الإجارة من غير نفع، كالذي يستأجر لقلع الضرس: للمستأجر فسخ الإجارة، لما يلحقه من الضرر بقلعه. وكذلك قالوا في الرجل يكتري جمالا ليخرج عليها إلى بلد، أو يحمل عليها متاعه، فله أن يقعد ولا يوجه بالأحمال؛ لأن في خروجه تغريرا بنفسه وماله، وذلك غير مستحق عليه بعقد الإجارة. *قال: (فإذا لحق المؤجر دين: فذلك عذر في فسخ الإجارة). لأن الدين يستحق به بيع الرقبة، فهو أولى من المنافع المستحقة بعقد الإجارة، إذ ليس يستحق بها الرقبة. مسألة: [بيع المؤجر الدار قبل انتهاء مدة الإجارة] قال أبو جعفر: (ومن أجر داره، ثم باعها قبل انقضاء مدة الإجارة، فإن أبا حنيفة قال: للمستأجر منع المشتري منها، ونقض البيع عليه فيها، فإن نقضه كان منتقضا، ولم يعد بعد ذلك. قال: وروى محمد عن أبي حنيفة: أنه ليس للمستأجر نقض البيع، ولكنه إن أجاز البيع كان له في ذلك إبطال ما بقي من الإجارة. قال: وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أنه قال: لا سبيل للمستأجر إلى نقض البيع، والإجارة فيها كالعيب، فإن علم بها المشتري فقد برئ البيع منه، وللمشتري قبض الدار بعد انقضاء الإجارة فيها.

وإن لم يعلم بذلك، فهو الخيار: إن شاء نقض البيع للعيب، وإن شاء أمضاه). قال أحمد: وأما الرواية الأولى فلا وجه لها؛ لأن المستأجر لا حق له في نقض البيع، وإنما حقه استيفاء المنافع، وقد يمكنه أن يستوفيها من غير نقض البيع. ورواية محمد هي الصحيحة، فإن أجاز المستأجر البيع، فقد رضي بفسخ الإجارة، وإن لم يرض: كان للمشتري أن يفسخ البيع، لتعذر التسليم في الحال. وإن شاء صبر حتى تنقضي مدة الإجارة، فيأخذها، وهذا كرجل اشترى عبدا، فلم يقبضه حتى أبق، فله أن يفسخ لتعذر التسليم. مسألة: [ضمان الراعي] قال أبو جعفر: (والراعي فيما تلف منه كالصناع فيما تلف منهم، على ما ذكرنا من الاختلاف). قال أحمد: الراعي قد يكون أجيرا خاصا، وقد يكون أجيرا مشتركا، فإن وقعت الإجارة فيه على نفس الرجل في المدة، بأن قال: استأجرتك شهرا لرعي الغنم، فهذا أجير خاص، وليس له أن يرعى لغيره. فإن قال: ارع هذا الغنم شهرا بدرهم، فهو أجير مشترك، وله أن يرعى لغيره، كالرجل يقول لآخر: استأجرتك شهرا لصبغ الثياب وخياطتها، فهذا أجير خاص.

ولو قال: اصبغ لي هذه الثياب، وخطها لي بدرهم: كان مشتركا. ويعتبر ذلك أن ينظر إلى المعنى الذي يستحق به الأجر ما هو؟ فإن كان إنما يستحقه لتسليم نفسه في المدة إليه: استعمله أو لم يستعمله: فهذا أجير خاص، وإن كان لا يستحق الأجر إلا بالعمل وإن سلم نفسه إليه: فهذا أجير مشترك. مسألة: [إجارة الحانوت] قال أبو جعفر: (ومن استأجر حانوتا ولم يسم شيئا: فالإجارة جائزة، ولا يقعد فيها حدادا ولا قصارا ولا طحانا). وإنما جازت الإجارة؛ لأن منافع الحانوت لا تختلف ولا تتفاوت، وهذه الأشياء المضرة بالبناء مستثناة من عقد الإجارة بالعرف، والمتعارف كالمنطوق به، وفي عادة الناي أنهم متى أرادوا استئجارا للقصارة والطحن وعمل الحديد بينوه، فصار ذلك مستثنى، وما عدا ذلك من منافع الحانوت فغير مختلف فيه، فلذلك جازت الإجارة. مسألة: [إجارة المشاع] قال أبو جعفر: (ولا تجوز إجارة المشاع إلا من الشريك في قول أبي حنيفة). قال أحمد: وسواء ذلك فيما يقسم، أو ما لا يقسم، وذلك لأن الانتفاع بالمشاع غير ممكن، لاستحالة سكنى نصف دار مشاع، واستخدام نصف عبد دون النصف الآخر، فلما امتنع استيفاء المنافع على المشاع لم يصح عقد الإجارة، إذ كان من شرائط عقد الإجارة إمكان التسليم.

فإن قيل: يمكنه استيفاؤها بالمهايأة. قيل له: ليست المهايأة من موجب عقد الإجارة؛ لأنها لو كانت من موجب العقد، لما خلا عقد الإجارة من إيجاب مهايأة، وإذا لم تكن المهايأة من موجب العقد: لم تجب، وإذا لم تجب: لم يصخ العقد، لتعذر استيفاء المنافع. قال أحمد: ولم يختلف أصحابنا في بطلان الرهن المشاع فيما يقسم، وفيما لا يقسم، وقد بينا مسألة الرهن فيما سلف. وأما هبة المشاع فيما لا يقسم، فإنما جازت من قبل أنه لا ينافي القبض إلا على هذا الوجه، فسقط اعتبار الحيازة فيه، وليس شرط صحة الملك وجود الحيازة فيه والقسمة. ألا ترى أنه قد يصح له ملك المشاع بالشراء، والميراث، والوصية، ونحوها، فلذلك جازت فيما لا يقسم من المشاع. وفارقت الإجارة من قبل أن الإجارة عقد على المنافع، ولا سبيل له إلى استيفائها على المشاع، فلم يختلف حكم ما يقسم، وما لا يقسم فيها. *وأما إذا آجره من شريكه: فهو جائز؛ لأنه يصل إلى الانتفاع بها من غير مهايأة. * (وقال أبو يوسف ومحمد: تجوز الإجارة ويتهايآن فيها). كمن استأجر أرضا أو دارا، ولم يشرط له الشرب والطريق: كان له الشرب والطريق، إذ لا يصل إلى الانتفاع بهما، فصارا موجبين بعقد

الإجارة، لتعلق صحتها بهما، كذلك المهايأة. فصل: [موت أحد المالكين للدار المستأجرة] (ومن استأجر دارا من رجلين، ـ فمات أحدهما، فانتقضت الإجارة في حصته: لم تنتقض في حصة الحي). قال أحمد: لا خلاف بينهم في جواز استئجار دار من رجلين، وإن كان كل واحد منهما أجر نصيبه مشاعا، من قبل أن العقد وقع صفقة واحدة توجب خروج المنافع من ملكهما إلى المستأجر في حال واحدة، وهو يصل إلى الانتفاع بها من غير مهايأة. وكذلك لو أجر رجل من رجلين دارا: جاز؛ لأن المنافع خرجت من ملكه إليهما في صفقة واحدة، وإنما يحتاجان هما إلى المهايأة فيما بينهما بعد صحة عقد الإجارة، إذ كان عقد الإجارة يتناول منافع غير مشاعة. ألا ترى أنه يجوز بيع عبدين، أو إجارة دارين صفقة واحدة وإن لم يسم لكل واحد شيء، وإن كان لو أفرد كل واحد منهما، فعقد عليه بالحصة: لم يصح العقد، ثم جاز إذا وقع العقد صفقة واحدة. وإذا صح ما قلنا، ثم مات أحد المؤجرين: لم تنتقض الإجارة في نصيب الآخر، وإن لم يصح ابتداء عقد إجارة على المشاع لغير الشريك في قول أبي حنيفة. وذلك لأن الإجارة قد صحت بدءا، وصح تسليم الدار إليهما، فلم ينتقض العقد في نصيبه، لأجل انتقاضه في نصيب الميت. ألا ترى أنه لو اشترى عبدين بألف درهم، ثم مات أحدهما قبل القبض: لم ينتقض البيع في الباقي وإن نفى حصته من الثمن، وهو مجهول، ومع ذلك لا يصح ابتداء العقد على الصحة.

مسألة: [زمن استحقاق أجر حمال المتاع] قال أبو جعفر: (ومن استأجر رجلا على أن يحمل له شيئا مسافة معلومة، فحمله، ثم طالبه بأجر ما حمله من المسافة التي استأجره على حمله إليها: فليس عليه أن يعطيه شيئا من الأجرة حتى يستوفي منه الحمولة كلها). قال أحمد: هذا خلاف قولهم؛ لأن المشهور من قولهم أنه يستحق الأجرة بمقدار ما سار. وإن هلكت الحمولة بعد الحمل من غير عمل الأجير: كان له الأجر كاملا في قول أبي حنيفة، ولا ضمان عليه. وفي قول أبي يوسف ومحمد: يضمنه قيمته في الموضع الذي ضاعت فيه، ويعطيه الأجر، لأنهما يريان ضمان الأجير المشترك. وهو قولهم في سائر ما ليس للأجير حبسه، وهو الملاح، والجمال، والحمال، وكل من لم يكن لعمله أثر قائم في المعمول. وإنما يكون للمستأجر أن يسقط الأجر عن نفسه: إذا هلك من عمل الأجير في بعض الطريق، نحو أن ينكسر المحمول من حمله، أو تغرق السفينة من مده، أو ما جرى مجرى ذلك مما يوجب الضمان، فيكون للمستأجر الخيار: أن يضمنه إن شاء قيمته في الموضع الذي حمله منه، ولا أجر له، وإن شاء ضمنه قيمته في الموضع الذي تلف فيه من عمله،

ويعطيه الأجر بحسابه. والجواب الذي ذكره أبو جعفر إنما هو في القصار، والصباغ، والخياط، ونحوهم ممن يكون لعملهم تأثير قائم في المعمول، فيكون للأجير حبسه بالأجر، ولا يستحق شيئا من الأجر حتى يسلم العمل. فإن هلك قبل أن يسلمه من غير عمله: لم يضمن في قول أبي حنيفة، ولا أجر له؛ لأن العمل كان محبوسا بالأجر، كالمبيع محبوس في يد بيعه بالثمن، إذا هلك: هلك بالثمن. *وفي قول أبي يوسف ومحمد: يضمن فإن ضمنه معمولا: استحق الأجر، وإن ضمنه غير معمول: لم يستحق. مسألة: [زمن استحقاق أجر من حمل على ظهره] قال أبو جعفر: (ولو كانت الإجارة على حمل الرجل بنسفه: استحق الأجر بمقدار ما سار). قال أحمد: لا فرق بين هذا الوجه، وبين الإجارة على حمل الرجل، وحمل المتاع، في أنه يستحق الأجر بحساب ما سار، وإنما يختلفان من جهة أخرى، وهي أن الدابة لو وقعت، فعطب الرجل من سوق الأجير من غير تعد: لم يضمن الأجير شيئا، ولو كان بدل الرجل متاع محمول، فعطب من سوقه: ضمنه. وإنما يفترق حكم الإجارة على حمل الرجل، وعلى حمل المتاع من هذا لوجه الذي ذكرنا، لا من الوجه الذي ذكره أبو جعفر. وكذلك سبيل بني آدم كلهم، أحرارهم وعبيدهم، لا يضمن الأجير منهم من عطب من سوقه الدابة إذا لم يكن منه تعد، وإنما يختلف حكم بني آدم، والأمتعة من هذا الوجه، من قبل أنه لو ضمن ابن آدم بما تولد

من فعله من هذا الوجه، كان ضمانه ضمان الجنايات، وكان يجب أن يكون على العاقلة، وضمان الجنايات لا يستحق بالعقود. وهذا الضرب من الضمان متعلق بالعقد، ألا ترى أنه لو أمر رجلا بسوق دابته، وعليها متاع من غير أجر شرط، فساقها فعطبت الدابة، وهلك المتاع: أنه لا ضمان على السائق؛ لأن فعله غير مضمون عليه، إذ كان بإذن مالك الدابة، ولم يستحق عليه أجر. وكذلك لو أمر راكب الدابة رجلا بسوق دابته، وليس بأجير، فساقها فعطبت، وعطب الرجل: لم يضمن السائق شيئا؛ لأنه ساقها بإذنه، فلو ضمناه في مسألة الإجارة، لتعلق ضمانه بالعقد، وضمان الجنايات لا يستحق بالعقود. وأما المتاع فإنه مما يصح ضمانه بالعقود، ألا ترى أن المبيع بيعا فاسدا: يكون في ضمان المشتري بالقبض عن العقد. وكذلك الرهن في يدي المرتهن، والمقبوض على وجه السوم، فيصير المبيع مضمونا على البيع بالعقد إلى أن يسلمه إلى المشتري، فلذلك اختلفا فيما ذكرنا. *وهذا الذي ذكرنا من جواب هذه المسائل قول أصحابنا على ما وصفنا، قد ذكره محمد في مواضع من الكتب، والذي ذكره أبو جعفر قد روي نحوه عن أبي يوسف في الإملاء، وفي الجوامع، والمشهور

عنهم ما ذكرناه. *وفد قال في الأصل: إذا استأجر حمالا يحمل له شيئا من السوق إلى أهله: لم يعطه الأجر حتى تبلغ الحمولة إلى أهله. وليس هذا بمخالف لما قلنا، من قبل أن هذا القدر من المسافة لا يمكن أن يقال فيها: أعطه الأجر بحساب ما سار، إذ ليس يكاد يضبط ذلك. وهذا كما قالوا في الدار أنه يستحق أجر يوم بيوم، لا على معنى أنه لا يستحق الأجر في بعض اليوم، فلا يطالب به، ولكنهم ذكروا ذلك للقدر، استيفاء أجر كل جزء من الوقت، فكما قدروا فرض نفقة المرأة شهرا بشهر. وأيضا: يجوز أن يكون قال ذلك في الحمال يحمل الشيء من السوق إلى أهله، أنه لا يعطيه الأجر حتى يبلغ إلى أهله، لجريان العادة بمثله في الحمال، فصار ذلك كالنطق به. وكما أنه لو أمره بالحمل، ولم يشرط له أجرا: استحق الأجر، لجريان العادة به، فصار كالمنطوق به. مسألة: [زمن استحقاق أجر حفار البئر] قال أبو جعفر: (ومن استأجر رجلا على حفر بئر في مكان أراه إياه، ووصف له سعتها، وعمقها، بأجرة معلومة، فحفر له بعضها، ثم طالبه بأجر ما حفر: لم يكن عليه أن يدفع شيئا من أجرتها حتى يفرغ له منها). قال أحمد: هذا على وجهين: إذا كانت في ملكه استحق الأجرة بمقدار ما حفر؛ لأنها لو انهارت بعد ما حفر: لم يسقط عنه أجر ما حفر،

لأنه مسلم لكل جزء من العمل بعمله، إذ كانت في ملك المستأجر، وفي يده. فإن كانت البئر ليست في ملك المستأجر، ولا في يده: فإنه ينبغي أن لا يستحق الأجر حتى يفرغ منه، سواء أراه الموضع الذي يحفرها فيه بعينه، أو لم يره. ألا ترى أنها لو انهارت بعد ما حفر بعضها، أو جميعها: لم يستحق شيئا من الأجر. وهذا الذي ذكرنا في التسوية من أن يريه الموضع، أو لا يريه: أنه لا يستحق الأجر إذا انهارت قبل التسليم رواية هشام عن محمد. وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أنه إن أراه الموضع، فهو بمنزلة ما في يده، ويحصل الحفر في ضمانه، وإن لم يره: لم يكن في ضمانه حتى يسلمه. فينبغي في الموضع الذي يصير الحفر من ضمانه: أن يستحق الأجر بقدر الحفر، وفي الموضع الذي لا يصير الحفر في ضمانه: ينبغي أن لا يستحق الأجر حتى يحفر الجميع.

كتاب المزارعة

كتاب المزارعة مسألة: [جواز استئجار الأرض للزرع بما تستأجر به الجور] قال أبو جعفر: (وما جاز أن تستأجر به الدور وغيرها من دراهم أو دنانير أو مكيل أو غيره: جاز استئجار الأرض به للزرع). وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من استأجر أجيرا فليعلمه أجره". يقتضي عمومه جواز الإجارة بأجر معلوم في الأرضين وغيرها. ويدل عليه أيضا: قوله عليه الصلاة والسلام: "أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه". وقال سعد بن أبي وقاص: "كنا نكري الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على السواقي من الزرع، وبما صعد بالماء عنها، فنهى رسول الله عن ذلك، ورخص لنا أن نكريها بالذهب والورق". وإذا جازت إجارتها بالذهب والورق: جازت سائر الأشياء المعلومة؛

لأن أحدا لم يفرق بينهما، وخص الذهب والورق بالذكر من بين سائر ما تستأجر به الأرضون؛ لأنهما أثمان المبيعات، وما يجرب عليه التعامل من الأموال. قال أحمد: وكل ما جاز أن يكون ثمنا في البيع: جاز أن يكون أجرة في الإجارات، وما لا يجوز أن يكون ثمنا في البيع لأجل جهالته: لم يجز أن يكون أجرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "من استأجر أجيرا، فليعلمه أجره". نفى به الجهالة عنها، كما نفى الجهالة عن المبيعات وأثمانها بقوله: "من أسلم فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم". مسألة: [مدة استئجار الأرض للزرع] قال أبو جعفر: (ولا بأس باستئجار الأرض للزرع إلى طويل المدة وقصيرها بعد أن يكون معلوما). وذلك لحديث سعد الذي قدمناه: "ورخص لنا أن نكريها بالذهب والورق": ولم يفرق فيه بين الطويل المدة وقصيرها. وكما جازت إجارة سائر العقار بطويل المدة وقصيرها. مسألة: [جواز استئجار الأرض للزرع إن أمكن تسليم منافعها] قال أبو جعفر: (ولا بأس باستئجارها للزرع قبل ريها بعد أن تكون

معتادة الري في مثل المدة التي تعقد الإجارة عليها فيها). قال أحمد: إذا كانت مما يمكن تسليمها للمنافع: جاز عقد الإجارة عليها، كالمبيعات إذا أمكن تسليمها: جاز عقد البيع عليها. مسألة: [الأجر مستحق للمنافع] قال أبو جعفر: (فإن لم يأتها الماء التي تزرع به: لم تجب عليه فيها أجرة). وذلك لأن الأجر مستحق للمنافع، والمنافع متعذرة مع انقطاع الماء: فلم يصح التسليم، كما لو غصبها غاصب ومنعه الزراعة: لم تلزمه أجرة. مسألة: [لو لم يكف الماء في الأرض لكل الزرع] قال أبو جعفر: (فإن كان إنما جاء من الماء ما يزرع به بعض الأرض: فالمستأجر بالخيار: إن شاء نقض الإجارة، وإن شاء زرع ما أمكنه منها، وأعطاه الأجر بحساب ما زرع). قال أحمد: وإنما كان له الخيار لتفرق الصفقة عليه؛ لأنه قد استحق تسليم الجميع إليه جملة، فإذا تفرقت عليه الصفقة: كان له الخيار في فسخ الإجارة، كرجل اشترى عبدين، فمات أحدهما قبل القبض. وإن زرع: كان له الأجر بحسابه، كالعبدين إذا مات أحدهما قبل القبض: يأخذ الباقي بحصته من الثمن. مسألة: [المزارعة على جزء مما تخرج الأرض] قال أبو جعفر: (ولا بأس بالمزارعة على جزء من أجزاء ما يخرج من الأرض في قول أبي يوسف ومحمد، ولا يجوز ذلك في

قول أبي حنيفة). قال أحمد: مخالفو أبي حنيفة في ذلك فريقان: أحدهما: أبو يوسف ومحمد، وهما يجيزان المزارعة والمساقاة جميعا. والآخر: مالك والشافعي، وهما يجيزان المساقاة والمزارعة في الزرع الذي يكون بين النخل، ولا يجيزان المزارعة في أرض بيضاء ليس فيها نخل. وأما حجة أبي حنيفة في إبطال المساقاة، فقد تقدمت جملة من القول فيها، ونحن نذكر هاهنا ما يدل على صحة قول أبي حنيفة في إبطال المزارعة، وينتظم بعض ما نذكره إبطال المساقاة أيضا. فأما ما ينتظم الأمرين جميعا بالإفساد: فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من استأجر أجيرا، فليعلمه أجره"، والعامل في النخل والزراعة أجير، بدلالة اتفاق الجميع من مجيزيها أنها لا تصح إلا بوقت معلوم.

ولا خلاف أن الإجارة لا تصح بما تخرجه هذه النخلة، لنخلة لم يشرط عليه عملها. وكذلك إذا شرط له نصف ثمرة النخل الذي شرط عليه عمله. وهذا الخبر ينتظم إفساد المزارعة والمعاملة جميعا بجهالة الأجر فيهما. *ومن الألفاظ التي تنتظم إفسادهما جميعا: قول النبي صلى الله عليه وسلم لرافع بن خديج في الأرض: "لا تستأجرها بشيء منها". والثمرة في الأرض، كما أن الحب من الأرض، فمن حيث دل على فساد المزارعة، دل أيضا على فساد المساقاة. *ومما يدل على فسادهما جميعا: حديث ابن جريج عن عطاء وأبي الزبير عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة". وقال ابن خثيم عن أبي الزبير عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لم يذر المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله". وروى جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج عن زيد بن ثابت قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة".

والمخابرة اسم يتناول المساقاة والمزارعة جميعا. ذكر أبو عبيد أن المخابرة عند العرب هي المزارعة بالنصف والثلث. قال: والمخابرة هي المؤاكرة أيضا، ولذلك سمي الأكار أكارا؛ لأنه يؤاكر الأرض. قال أحمد: والمؤاكرة تتناول النخل والزرع جميعا، فيشتمل عليهما لفظ النهي. وذكر القتيبي عن ابن الأعرابي: أن المخابرة اسمها مشتق من أمر

خيبر، قال ابن الأعرابي: ثم صارت بعد ذلك لغة، فقيل للأكار العامل: خيبر. قال أحمد: ومعلوم أن عظم ما عقد النبي صلى الله عليه وسلم على أهل خيبر العمل فيه: كان النخل، فدل أن المخابرة اسم يتناول المساقاة، فوجب أن تبطل بعموم نهيه عن المخابرة. فإن قيل: لم نرهم يشتقون من المواضع اسما للأفعال، ولا يجوز أن يكون اسم المخابرة مشتق من خيبر. قيل له: قد أجاز ذلك على الأعرابي، وهو مقبول القول في اللغة. وأيضا: قد وجدناهم يقولون: بدا الرجل: إذا صار إلى البدو. وقال الله تعالى: {سواء العاكف فيه والباد}. ويقولون: أعرق الرجل: إذا أتى العراق، وأنجد: إذا أتى نجدا، وأتهم: إذا أتى تهامة، وذلك مشهورا في لغتهم، فليس يمتنع أن يسموا المساقاة مخابرة، اشتقاقا من قصة خيبر.

*وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبارا أخر تختص بإفساد المزارعة، وهي ما رواه رافع بن خديج، وثابت بن الضحاك، وجابر بن عبد الله "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة بالثلث والربع". تركت ذكر أسانيدها كراهة الإطالة، ولأنها أخبار مشهورة. وقال محمد بن المنكدر عن جابر "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض إلا بذب أو فضة". وقال أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر سمعت جابر بن عبد الله يقول: " حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كراء المزارع". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حسين بن إسحاق قال: حدثنا عمرو بن يحيى الأسواري قال: حدثنا مخلد بن يزيد عن بكير بن عامر عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن رافع بن خديج قال: "مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أزرع من البقول، فقال: ما هذا؟ فقلت: بذري، وما لي إلا الشطر، ولآل فلان الشطر، قال: أربيت، رد الأرض إلى أهلها".

فدل هذا الخبر على فساد المزارعة من وجهين: أحدهما: نهيه عليه الصلاة والسلام عنها. والثاني: أنه سماها: ربا، فوجب تحريمها بقوله تعالى: {وحرم الربا}. *وهذه الأخبار الموجبة للنهي عن المزارعة، تقضي بفساد قول من أجازها في الأرض البيضاء، وبفساد قول من أجازها في الزرع بين النخل، إذ لم تفرق هذه الآثار بين شيء منها. فإن قال قائل: الذي تناوله النهي من المزارعة في هذه الأخبار، ما بين في أخبار أخر، وهو ما روي عن رافع بن خديج أنه قال: "كنا نزارع بالثلث والربع، وما نبت على السواقي، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك". وقال في خبر آخر: "ونشترط على الأكرة ما سقى الماذيان، والربيع،

وما سقت الجداول، وكذا وكذا، يعني سواقيهم قبلكم، فربما هلك هذا، وسلم هذا، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنهانا عنه". "وإن ابن عباس ذكر له حديث رافع بن خديج عن النبي عليه الصلاة والسلام في النهي عن المزارعة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينهه عنها، ولكنه قال: "يمنح أحدكم أرضه، خيرا له من أن يأخذ عليه خراجا معلوما". وقال زيد بن ثابت: أنا والله أعلم بالحديث من رافع بن خديج: "إنما أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلان قد اقتتلا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان هذا شأنكم، فلا تكروا المزارع، فسمع رافع: لا تكروا المزارع". فثبتت هذه الأخبار جهة النفي، وإنما تناولتها في حال إذا شرط لأحدهما زرع موضع بعينه، وفي حال تناولتها على جهة الندب دون الإيجاب. قيل له: ليس في شيء من هذه الأخبار ما يعترض على عموم الأخبار

الواردة في النهي مطلقة، وذلك لأن نهيه عن المزارعة إذا شرط لأحدهما زرع موضع بعينه، لا ينفي عموم نهيه عن المزارعة في هذا الضرب منها، وفي غيره. وهذا كما روي عن ابن عباس "أن الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعه قبل قبضه، إنما هو طعام. وقال ابن عباس: ما أرى كل شيء إلا مثله". ثم لم يمنع استعمال عموم الألفاظ الواردة في النهي عن بيع ما لم يقبض؛ لأن الخبرين جميعا إنما وردا في النهي عن البيع قبل القبض، إلا أن أحدهما أخص من الآخر فيما تناوله، فلا يوجب ذلك تخصيصا، فكذلك قلنا في نهيه عن المزارعة أنه على العموم. *وتبطل أيضا المزارعة إذا شرط الربيع والماذيان بالخبر الآخر، وبعموم نهيه عن المزارعة. *وأما قول ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها: فلا يقضي على رواية من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنها. ولا يجوز لنا إبطال ما ثبت عن النبي بقول عن غيره. *وأما قول زيد بن ثابت: أن ذلك كان في رجلين اقتتلا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن كان هذا شأنكم، فلا تكروا المزارع: فإن هذا لا يدل على الجواز، ولا يوجب تخصيص أخبار النهي المطلق؛ لأن أكثر ما

فيه: أنه نهى عنها إذا كانت الحال ما ذكر من الخصومة والقتال، ولا ينفي ذلك نهيه عنهما على الإطلاق بالأخبار الأخر. فإن قال قائل: قد دفع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر إلى اليهود بشطر ما يخرج من ثمرة أو زرع، وقد نقل الناس نقلا متواترا عنه يوجب العلم والعمل، فهو أولى من الأخبار التي رويتها في النهي عن المزارعة والمخابرة، إذا كانت من أخبار الآحاد. ولأن شرط النبي صلى الله عليه وسلم، وعهده معهم على ذلك، كان قائما إلى أن أجلاهم عمر بن الخطاب، وما كان هذا شرطه: فلا يجوز الاعتراض عليه بأخبار الآحاد، مع ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتواتر، واتفاق السلف على ثبوت حكمه أيام أبي بكر رضي الله عنه، وبعض أيام عمر رضي الله عنه. [الجواب عن الاستدلال بقصة خيبر على جواز المزارعة:] قيل له: لا يجوز أن يكون أمر خيبر أصلا لما اختلفا فيه من المزارعة بين المسلمين، وذلك لأن أهل خيبر كانوا فيئا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طهر عليهم عنوة، وقسم أموالهم، ثم عاقدهم النبي صلى الله عليه وسلم على العمل في النخل والزرع بنصف الخارج، فلم يخل ذلك من أحد وجهين: إما أن بقاهم على حكم الفيء، فكانوا عبيدا للمسلمين، أو يكون جعلهم ذمة، وأقرهم على الأرضين. فإن كانوا مبقين على حكم الفيء: فهم بمنزلة العبيد، ويجوز لمولاهم

أن يعطيهم أرضا، ويشرط لهم نصف الخارج، كما يجوز أن يجبرهم على العمل، ويعطيهم مقدار النفقة من الخارج. وإن كان جعلهم ذمة: فالمأخوذ منهم من نصف الخارج كان على وجه الجزية. وهذا أيضا يجوز عندنا في كلا الوجهين اللذين يحتملان قصة خيبر، نحن نقول بهما، وذلك معدوم فيما بين المسلمين في العقود التي سبيلها نفي الجهالات عندنا. ألا ترى "أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع على أهل نجران مؤنة رسله عشرين يوما، وجعل عليهم عارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، إذ كانت تجوز الثمن، مع ما شرط عليهم من الحلل". وجميع ذلك جزية، ومثله لا يجوز في عقود المسلمين فيما بينهم. *ومما يدل على أن ما شرط من نصف الثمر، ومن الزرع، كان على وجه الجزية: أنه لم يرو في شيء من الأخبار أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ منهم الجزية إلى أن مات، ولا أبو بكر، ولا عمر رضي الله عنهما، إلى أن أجلاهم، فلو لم يكن ذلك جزية، لأخذ منهم الجزية حين نزلت آية الجزية.

ويدل على أن أمر خيبر ليس بأصل فيما اختلفنا فيه: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبد الله بن موسى بن هلال قال: حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي قال: حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن نافع عن عبد الله بن عمر قال: "لما فتحت خيبر، سأل يهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعملوا على نصف ما خرج منها من الثمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقروهم فيها على ذلك ما شئنا، فكانوا فيها كذلك حتى أخرجهم عمر". وفي أخبار أخر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود: أقركم ما أقركم الله". ولا خلاف بين أهل العلم أن المساقاة والمزارعة إذا لم يكن لهما وقت معلوم: لم تجز واحدة منهما، وأنهما لا تجوزان على الشرط الذي ذكر في أمر خيبر من قوله: "أقركم فيها ما شئنا"، "وأقركم فيها ما أقركم الله". فدل أنه ليس بأصل لما اختلفنا فيه، إذ كانت المزارعة والمساقاة عند مجيزهما ضربا من الإجازة لا تجوزان إلا مؤقتتين بوقت معلوم. فإن قال قائل: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على أملاكهم، وأخذ منهم نصف الثمار على جهة الجزية، لما جاز إخراجهم

عنها، فقد أجلاهم عمر. قيل له: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم عليها على شرط، وهو قوله: "أقركم فيها ما شئنا"، وقد يجوز عندنا مثل ذلك فيمن نقر له، ونمن عليه من أهل الذمة إذا شرطنا عليهم مثل هذا الشرط. *ويقال لمن أجاز المزارعة في الأرض التي بين النخل، ولم يجزها في الأرض البيضاء التي ليس فيها نخل، لم قلت ذلك المعنى الموجب للفرق بينهما؟ فإن قال: لأني أنا أجيز المساقاة والمزارعة على حسب ما ورد به الأثر من أمر خيبر، فلم يرد إلا على هذا الوجه. قيل له: ومن أين قلت إن حال خيبر كان على ما قضيت من أن زرعها كان بين النخل؟ فإن ادعى في ذلك رواية- تعذر عليه إثباتها- فيقال له: هلا استدللت بأمر خيبر على جواز المزارعة في الأرض البيضاء، إذ كانت خيبر في سعة أرضها، وكبرها، لا يخلو من أن تكون فيها أرض بيضاء للزراعة، على حسب ما قد شاهدنا في البلدان الكبار ورساتيقها. فإن منع أن يكون في خيبر أرض بيضاء، وزعم أن النخل قد كان طبق أرضها، حتى لم يبق فيها أرض بيضاء تزرع على حيالها: كابر؟، وقيل له: ما أنكرت ممن قال: إن أرض خيبر على قسمين: قسم منها كانت

نخلا بلا زرع بينها، وقسم منها كانت أرضا بيضاء، ولا نخل فيها، فلا أجيز المزارعة إلا في الأرض البيضاء، ولا أجيزها في الزرع بين النخل، لأن خيبر كذا كانت. ثم لا تكون أنت أسعد بدعواك منه بدعواه هذه، بل دعواه هذه أقرب إلى الصواب، إذ ليس يمتنع أن تكون النخل على حدة، والزرع على حدة في كثير من المواضع، ويمتنع أن يوجد كثير من الضياع، والقرى لا يوجد فيها أرض بيضاء للزراعة. وإذا ثبت أن في أرض خيبر: ما كانت تزرع على حيالها، ثم أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الجميع بنصف ما يخرج من ثمر أو زرع، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز المزارعة بينه وبين أهل خيبر في الأرض، فينبغي أن يجيزها، إذ لم يختلف الرواة أن النبي صلى الله عليه وسلم شرط عليهم نصف الثمرة، ونصف الزرع. فإن قيل قائل: ما ذكرت من تقسيمك أمر خيبر على وجهين، وأنهم إما أن يكونوا كانوا عبيدا مبقين على حكم الفيء، وأن مثل ذلك جائز فيما بيننا وبين عبيدنا. أو أن يكون جعلهم ذمة، وأقرهم على أملاكهم إلى مدة ما، وأخذ منهم شطر الثمار والزرع على وجه الجزية، فإنه قد ذكر فيه قسم ثالث يجوز أن يكون الأمر كان عليه.

وهو ما روى عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلب على الأرض، والزرع، والنخل، فقالوا: يا محمد: دعنا نكون في هذه الأرض، نصلحها، ونقوم عليها". فجائز أن يكون أقرهم عليها على وجه الصبح. قيل له: وأحسب الأمر كذلك، فإن مثله لا يكون أصلا للزراعة والمساقاة فيما بين أهل الإسلام؛ لأنا نجيز مثل هذا الصلح فيما بيننا، وبين أهل الحرب. وهذا الخبر يدل على صحة ما قلنا، من أن أمر خيبر ليس بأصل فيما ذكرنا؛ لأنه صالحهم وهم متحصنون، فحقن دماءهم بما شرط عليهم من نصف الثمار، وهذا أيضا في معنى الجزية. وإذا كانت حال خيبر على ما وصفنا: لم يصح الاحتجاج به لمخالفنا في المساقاة والمزارعة بين المسلمين. *وما ذكره السائل من أن ورود أمر خيبر من جهة التواتر، وأنه لا يجوز الاعتراض عليه بأخبار الآحاد: فكلام فارغ لا معنى له؛ لأنا لم نعلم أن أمر خيبر منسوخ، بل هو ثابت جائز إذا كان الحال مثل حال أهل خيبر، من أخذ على وجه الجزية، أو على جهة حقن دم من حصل في أيدينا على وجه الفيء، أو على جهة الصلح بيننا وبين أهل الحرب.

واستعملنا مع ذلك الأخبار الواردة في النهي عن المخابرة والمزارعة، ولم نبطلها لأجل ما ذكرنا من أمر خيبر، إذ لو لم ترد هذه الأخبار التي فيها النهي، لما لزمنا قياس عقود المسلمين في الإجارات على قصة خيبر، لما بينا أن كل واحد منها أصل برأسه، لا يقاس على غيره. *ومما يجل على أن أمر خيبر مخصوص في أهل الحرب، لا يقاس عليه سائر العقود التي فيما بين أهل الإسلام: أن القائلين بالمساقاة والمزارعة لم يقيسوا عليها جواز دفع الغنم إلى الراعي بنصف ألبانها وأولادها. ولو كان أمر خيبر أصلا في هذه العقود، لما اختلف حكم الغنم في دفعا إلى الراعي بنصف النماء، ودفع النخل إلى العامل بنصف الثمار. وامتنع الشافعي من إجارة المساقاة إلا في النخل والكرم، ولم يجزها في سائر الشجر، وعلى أن في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع إليهم الأموال بالنصف، وذلك يقتضي دخول سائر الشجر؛ لأنه يمتنع في العادة أن يخلو مثل خيبر ألا يكون فيها شجر غير النخل، وظاهر ذلك يقتضي دخول الشجر في المساقاة لأهل خيبر. وعلى أن خيبر لم يكن فيها كرم، وقد أجازها المخالف على الكرم، فيلزمه مثله في سائر الشجر. وأيضا: لما وافقنا مالك والشافعي على بطلان المزارعة في الأرض البيضاء، وكان المعنى فيها: شرط بعض الخارج بدلا من عمله، وذلك موجود في المساقاة، وجب أن يكون مثلها، وتعديها

أيضا على سائر الشجر بهذه العلة على قول من لم يجزها إلا في النخل والكرم. *وكذلك اتفاق الجميع على بطلان دفع الغنم إلى الراعي ببعض نمائها من الأولاد والألبان: يدل على بطلان المساقاة والمزارعة، إذ كانت الجهالة التي من أجلها أبطلنا هذا العقد، موجودة في المساقاة والمزارعة، وهي أنه شرط ما لا يعرف مقداره، ويجوز أن يكون، وأن لا يكون. فإن قال قائل من المجيزين للمزارعة فيما بين النخل، وأباها في الأرض البيضاء: لا يلزمنا ما ذكر من قياسها على الأرض البيضاء، لأنها تدخل حينئذ في المساقاة على وجه البيع، وقد يجوز أن يدخل في العقد على وجه البيع، ما لا يصخ إفراده بالعقد، كما يقولون في حقوق الدار، وشرب الأرض أنها تدخل إذا اشتريت بحقوقها على وجه البيع في العقد، ولا يصح مع ذلك إفرادها. قيل: لا يسقط عنك سؤالنا في لزوم قياس ما تحت النخل من الزرع على الزرع في الأرض البيضاء، لوجود العلة التي ألزمناك القياس عليها. وليس لأن الشرب والحقوق تدخل في العقد على وجه البيع إذا بيع، ولم يجز بيعها على الانفراد، ما يجب أن يكون كذلك حكم الزرع بين النخل، إذ ليس هناك علة توجب الجمع بينهما من الوجه الذي ذكرت.

ثم يقال له: فالعلة التي ذكرتها في الشرب والحقوق، غير موجودة فيها؛ لأن هذه أتباع وحقوق الأرضين، وليست الأرض التي بين الأرض تبعا للنخل. ألا ترى أنه لا يصح العقد على الحقوق والشرب على حيالها، ويصح عقد الإجارة على الأرض التي بين النخل على حيالها، وكذلك سائر العقود، ولو عقد على النخل: لم تدخل الأرض التي بينها فيه. فلما كان كذلك، لم يختلف حكمها وحكم الأرض البيضاء بلا نخل، وفارقت ما ذكرت من أمر الشرب وحقوق الدار. فصل: فإن قال قائل: هلا أجزت المساقاة والمزارعة قياسا على المضاربة. قيل له: لأنا لا نقيس على المخصوص إلا أن تكون علة القياس منصوصا عليها، إذ كانت الأصول تمنع منها، ولولا ورود السنة، والاتفاق لجواز المضاربة، فلا يجوز أن يكون أصلا لما وصفنا، لاتفاق الجميع على أن جوازها غير مؤقتة، وكل من أجاز المزارعة والمساقاة، لم يجزها إلا مؤقتة، فعلمنا أن المضاربة شركة على وجه الإجارة، كشركة العنان ونحوها، وأن المساقاة والمزارعة إجارة، فلا تجوز إلا بأجر معلوم كسائر الإجارات. ووجه آخر: وهو أنه لو شرط في المضاربة أن يكون رأس المال والربح جميعا بينهما نصفين: فسدت المضاربة، ولو شرط في المزارعة أن يكون لرب البذر مقدار البذر، ثم الباقي نصفين: لم تصح المزارعة،

فعلمنا أن المضاربة ليست بأصل للمزارعة والمساقاة، إذ ما صح به أحدهما: بطل به الآخر، وما بطل به أحدهما: صح به الآخر. فإن قال قائل: المساقاة مثل المضاربة؛ لأن الأصل يحصل فيهما جميعا للدافع، ثم النماء والربح بينهما. قيل له: فلو شرط في المساقاة قلع النخل واستبدالها بنخل آخر، وغرسها كما شرط في المضاربة التصرف في رأس المال واستهلاك عينه: لبطلت المساقاة عندك، فكيف يجوز أن تكون المضاربة أصلا لها؟ ونفس ما انعقدت عليه المضاربة لا يجوز انعقاد المساقاة على مثله. ويقال له: فلا تجز المزارعة في الزرع الذي بين أضعاف النخل، إذ كان بمنزلة المضارب إذا شرط له قسمة رأس المال مع الربح. ثم يقال له: إن كانت المعاملة بمنزلة المضاربة لحصول الأصل لرب المال قبل قسمة الربح والنماء، فأجزها في سائر الشجر، وفي دفع الغنم إلى الراعي ببعض أولادها لوجود العلة. وعلى أن الشافعي زعم في كتاب المزارعة أنه إنما أجاز المقارضة قياسا على المعاملة، وهذا قياس طريف ما أعلم أحدا من القائسين اهتدى له!. وذلك أن المقارضة أصل قد أقر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة

عليها، مع علمه بأنهم يتعاملون بها، كما أقرهم على الشركة، والوكالة، وسائر العقود التي لا يخلو منها أهل عصر، ثم نقلت الأمة خلفا عن سلف جوزها، وترك النكير على فاعليها، حتى لو أن شاكا شك في جوازها، أو في إباحتها من شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم: لكان مرتكبا لأمر عظيم، يكاد يبلغ به انسلاخ من الدين. والمعاملة على النخل قد اختلف الناس فيها، والأصول تبطلها، وهي فرع لا يمكن مثبتوه أن يفرغوا فيه إلى أصل يرمون به إثباته، إلا ولمخالفهم رده إلى غيره، والاستشهاد على إبطاله بسواه. ولا خلاف بين الفقهاء مع ذلك أن القول في المقاساة طريقه الاجتهاد في إثباتها وإبطالها، فقاس الشافعي المضاربة التي هي الأصل على المساقاة التي هي الفرع، ومن حكم الفرع قياسها على الأصول. وسبيل المختلف فيه أن يرد إلى المتفق عليه، فأما رد الأصول إلى الفروع، وقياس المتفق عليه على المختلف فيه، فهو قياس غاص عليه الشافعي بلطف نظره، ما أظن أحدا سبقه إليها!. مسألة: [أقسام المزارعة] قال أبو جعفر: (وقال محمد بن الحسن: المزارعة على أربعة أوجه،

تصح في ثلاثة منها، وتبطل في الرابع. فأما الثلاثة، فأحدها: أن يكون البذر من قبل المزارع، والعمل والآلة كلها من قبل المزارع، فتجوز. [أو يكون البذر من قبل رب الأرض، والآلة كلها من قبل المزارع، فهذا وجه]. أو يكون البذر والآلة كلها من قبل رب الأرض، والعمل من قبل المزارع، فهذا وجه. والوجه الرابع الذي لا تجوز فيه المزارعة: أن يكون البذر من قبل المزارع، والآلة من قبل رب الأرض، فلا تجوز). قال أحمد: الأصل في ذلك أن ينظر إلى صاحب البذر، فنجعله هو المستحق للخارج، والآخر إما أن يكون مؤجرا لأرضه أو نفسه: *فإذا كان البذر من قبل صاحب الأرض، فهو المستأجر للعامل، فيجوز أن يشرط الآلة من قبل رب الأرض؛ لأنه استأجر العامل وحده بغير الآلة، وهذا جائز. ويجوز أن يشترط الآلة على العامل أيضا؛ لأن العامل يحتاج في عمله إلى آلة، ولا تكون الآلة مستأجرة، إنما يدخل استعمال الآلة تبعا للعمل، كما يستأجر النجار لقطع الخشب، فالآلة على النجار تبعا للعمل. *وإن كان البذر من قبل العامل، فهو مستأجر الأرض، فيجوز شرط

الآلة على العامل؛ لأنه استأجر الأرض وحدا، ولا يجوز في هذه الحال شرط الآلة على رب الأرض، لأنه يصير مستأجرا للآلة ببعض الخارج، ولا يجوز استئجار الآلة ببعض الخارج. ولا تدخل الآلة في العقد تبعا للأرض، كما تدخل في العمل على ما بينا، فلذلك كان الأمر فيه على ما صفنا. قال أحمد: ومن كان البذر من قبله، فما يستحقه من الخارج، فإنما يستحقه ببذره، لا بالشر، ومن لم يكن من قبله البذر، فإنما يستحق الخارج بالشر دون غيره. *ومتى فسدت المزارعة، فالزرع كله لصاحب البذر، أيهما كان، وللآخر أجر مثله في أرضه إن كان البذر من قبل العامل، وإن كان من قبل رب الأرض، فللعامل أجر مثله في عمله. ومتى كان البذر من قبل رب الأرض، وفسدت المزارعة: لم يتصدق رب الأرض بشيء مما فضل من الزرع عن نفقته، لأنه بمنزلة من استأجر رجلا إجارة فاسدة على أن يعمل في أرضه، فلا يتصدق بشيء مما تخرجه الأرض. وكمن استأجر رجلا ليعمل في ماله إجارة فاسدة، فلا يتصدق بالربح. وإن كان المستحق للبذر هو العامل، أخذ من الزرع قدر بذره، وقدر أجر الأرض، وتصدق بالفضل؛ لأنه بمنزلة من استأجر أرضا إجارة فاسدة، وزرعها، فعليه أن يتصدق بالفضل؛ لأن نفس المزارعة وقعت محظورة في أرض غيره، كمن غصب أرضا وزرعها، وكمن اشترى جارية بيعا فاسدا، وباعها وربح فيها.

مسألة: [عشر الأرض العشرية المستأجرة] قال أبو جعفر: (وإذا استأجر أرضا من أرض العشر: فالعشر على رب الأرض، وقال أبو يوسف ومحمد: هو في الخارج). وجه قول أبي حنيفة: أن وجوب العشر متعلق بمنفعة الأرض، وقد حصلت للمؤجر، حيث استحق بدلها، فصار كأن الخارج قد حصل له، فملكه غيره، فالعشر عليه. ويدل عليه اتفاق الجميع على أن الخراج على رب الأرض، فكذلك العشر، إذ كل واحد منهما وجوبه متعلق بمنفعة الأرض، ألا ترى أن الغلة لو أصابتها آفة اصطلمتها: لم يجب فها خراج. وليست للإجارة عنده كالعارية، هو في العارية على صاحب الزرع في قولهم؛ لأنه هو الذي حصلت له منفعة الأرض دون رب الأرض، إذ لم يستحق عنها بدلا. ووجه قولهما: قول لنبي صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر"، فأوجبه في نفس الخارج. ولأن المؤجر لم يحصل له قط ذلك الخراج، فلا يجب عليه عشر.

مسألة: [أجرة استعمال الأرض المستأجرة إجارة فاسدة] قال أبو جعفر: (ومن استأجر أرضا إجارة فاسدة، فاستعملها: فعليه الأقل مما استأجرها به، ومن أجر مثلها). وذلك لأن التسليم غير مستحق في العقد الفاسد، ألا ترى لو سلم، ولم يسكن الدار: أنه لم يجب الأجر، فلا يجوز أن يستحق به المسمى بالعقد؛ لأنه فاسد. وإنما لزمه الأجر باستيفاء المنافع على وجه العقد، فإن كان المسمى أقل من أجر المثل، فقد رضي المؤجر بإسقاط الفضل، فلذلك لم يجب. والفضل عن أجر المثل لا يستحق إلا بالتسمية في عقد صحيح، فلذلك لم يزد على أجر المثل، ونقص عنه إذا المسمى أقل. والأصل في اعتبار قيمة المنافع عند فساد العقد على الوجه الذي ذكرنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها، فنكاحها بال، فإن دخل بها، فلها مهر مثلها بما استحل من فرجها، لا وكس ولا شطط".

وهذا عندنا في الأمة تتزوج بغير إذن مولاها، فصار ذلك أصلا في سائر العقود على المنافع إذا فسدت في وجوب اعتبار قيمتها، ولا نوجب الزيادة عليها وإن كانت التسمية أكثر منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجبها، وتنقص منها إذا كانت التسمية أقل؛ لرضاهما بإسقاطه. مسألة: [حكم التبن في المزارعة] قال أبو جعفر: (قال محمد بن الحسن: التبن في المزارعة لصاحب البذر دون الآخر. قال: وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف: أن المزارعة لا تجوز حتى يكون التبن مشروطا لهما كالحب، فإن قصرا عن ذلك: فالمزارعة فاسدة. قال أبو جعفر: ثم وجدنا لمحمد بعد ذلك ما يدل على رجوعه عن قوله الذي ذكرناه عنه إلى ما قال أبو يوسف في الإملاء، وهو الصحيح على أصله). قال أحمد: وجه قول من جعله لرب البذر، أن يجعله بمنزلة السعف والورق، فيجوز إفرادها عن الشركة؛ لأنه غير مقصود بالزراعة، إنما هو تبع لا حكم له، ولذلك جاز أن لا تشرط الشركة فيه. فأما وجه قول أبي يوسف: فهو أنه جعله بمنزلة صنفين من البذر تعقد

المزارعة عليها، ولا يجوز إسقاط الشركة فيه. ولأن التبن لما كان خارجا بزراعته: صار كالشجر والنخل إذا دفعها إليه، وشرط عليه غراسها: فلا يجوز إلا أن يشترط الشركة في نفس الشجر والثمر جميعا، كذلك حكم الحب والتبن. مسألة: [فساد إجارة الأرض للزراعة إن جهل ما يزرع] قال أبو جعفر: (وإذا استأجر الرجل أرضا للزراعة ولم يسم ما يزرع: فالإجارة فاسدة). قال أحمد: وذلك لأن الزراعة تختلف فيما يوجب من نقصان الأرض، فتحصل المنفعة المعقود عليها مجهولة، كم استأجر دابة للحمل، ولم يسم ما يحمل عليها؛ لأن الحمل يختلف، فيقل ويكثر، وتختلف أيضا على قدر الرزانة والخفة. وليس ذلك بمنزلة من استأجر بيتا، ولم يسم ما يجعل فيه، فتجوز، ولا يجعل فيه حدادا، ولا قصارا، ولا طحانا؛ لأن هذه الأشياء مستثناة من إطلاق العقد على منافع البيت والعرف والعادة، وما عدا ذلك من المنافع: فليس بمختلف، فلذلك جازت الإجارة. وأما الزراعة، والحمل، فليس يختص في العرف بشيء دون شيء، فتناول العقد جميع ما يقع عليه الاسم منه، وهو مجهول مختلف، فبطل. *قال: (فإن زرعها: فعليه الأجر المسمى). وذلك لأن العقد انتظم كل صنف من أصناف الزرع، لعموم اللفظ،

وأبطلناه للجهالة، فإذا زرع زالت الجهالة، وحصل معلوما، فجاز. ألا ترى أن الشراء برأس المال، وبالرقم لا يجوز؛ لأجل الجهالة، فإذا علم رأس المال: جاز لزوال الجهالة، وحصوله معلوما.

كتاب أحكام الأرض الموات

كتاب أحكام الأرض الموات مسألة: [خراب الأرض لا يزيل ملكها عن صاحبها] قال أبو جعفر: (وكل أرض يملكها مسلم أو ذمي لا يزول ملكه عنها بخرابها). وذلك لأنه ملك صحيح، فلا يزول عمن هو له إلا بالسبب الموجب لزواله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم أو ذمي إلا بطيبة من نفسه". مسألة: قال: (وما قرب من العامر: فليس بموات). وذلك لأنه فناء للعامر، ومن مرافقه، ففيه حق مالك العامر، وما كان فيه حق الغير: فليس بموات. مسألة: [تعريف الموات] قال: (وما بعد منه، ولم يملك قبل ذلك: فهو موات. قال: وذكر أصحاب الإملاء عن ا [ي يوسف: أن الموات هو الذي إذا وقف رجل على أدناه من العامر، فنادى بأعلى صوته: لم يسمعه أقرب من في العامر إليه).

قال أحمد: الموات هو: الذي لا حق فيه لآدمي بعينه، ومتى كان فيه حق لقوم بأعيانهم: لم يكن مواتا. فما كان من فناء قرية، أو مرعاها، أو محتطبها، فأهل القرية أولى بها من سائر الناس، وحقهم في الانتفاع به دون من سواهم ثابت، فلا يكون مواتا، كما أنها لو كانت ملكا لهم: لم تكن مواتا. والذي ذكره عن أبي يوسف، إنما هو اجتهاد في إيجاب الفرق بين فناء القرية، وما ليس بفناء لها. مسألة: [إذن الإمام في إحياء الأرض] قال: (وقال أبو حنيفة: ليس لأحد أن يحيي أرضا مواتا إلا بأمر الإمام، ولا يملكه إلا بتمليك الإمام إياه ذلك. وقال أبو يوسف ومحمد: من أحيا مواتا من الأرض فقد ملكه بذلك، أذن له الإمام في ذلك، أو لم يأذن له فيه). لأبي حنيفة: ما روى معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه"، وقد ذكرنا إسناده في باب السير من هذا الكتاب.

وذلك عام في كل شيء إلا ما قام دليله. وأيضا: فإن حق جماعة المسلمين قائم في الموات، فلا يجوز لأحد أن يختص به دون غيره إلا بإذن الإمام. كما أن بيت المال لما لم يكن له مالك بعينه، وتساوى المسلمون في ثبوت حقوقهم فيه: لم يكن لأحد أن يختص بشيء منه إلا بإذن الإمام، فإذا ملكه الإمام شيئا مما في بيت المال: ملكه، كذلك إذا ملكه الأرض الموات. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحيا أرضا ميتة فهي له". قيل له: لا يكون الإحياء مع ثبوت حق الغير فيها. والدليل عليه: أنها لو كانت مواتا ملكا لقوم، أو فناء لقرية، أو طريقا للناس، فأحياها: لم يكن ذلك إحياء موجبا لاستحقاق الملك، فعلمنا أن ثبوت حق الغير فيها يمنع صحة الإحياء. كذلك أرض الموات، لما تساوى الناس كلهم في ثبوت الحق فيها: لم يصح الإحياء إلا بإذن من ينوب عنهم في ذلك، ويقوم مقامهم، وهو الإمام. وأيضا: يحتمل أن يكون الخطاب خرج على أرضين مخصوصة، جعلها النبي صلى الله عليه وسلم لقوم بأعيانهم، وأمرهم بإحيائها، كقوله عليه الصلاة والسلام: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه

فهو آمن"، ونحوه من الكلام الخارج عن سبب مقصور الحكم عليه. وذهب أبو يوسف ومحمد إلى ظاهر الحديث. مسألة: [ما لا يقطعه الإمام] قال أبو جعفر: (ولا ينبغي للإمام أن يقطع ما لا غنى بالمسلمين عنه، كالبحار التي يشربون منها، والملح الذي يمتارون منه). قال أحمد: يعني بالبحار: الآبار، كذلك يسميها أهل مصر، وإنما كان كذلك، من قبل أن في إقطاعه إياها ضررا على الناس، ولا يجوز له إدخال الضرر عليهم بإقطاعها، وقطع حقوقهم عنها، كما لا يجوز أن يقطع أملاكهم، وسائر حقوقهم. وليس ذلك كالأرض الموات؛ لأنه لا ضرر على الناس في إقطاع الموات. مسألة: [مدة إحياء الإقطاع] قال أبو جعفر: (ومن أقطعه الإمام، فإن تركها ثلاث سنين لم يعمرها: بطل إقطاع الإمام إياه). وذلك أن الإمام إنما يقطع الموات، ويقطع عنها حق سائر المسلمين، ليحييها المقطع له، وليعمرها، وليكون الحق الواجب فيها من العشر أو الخراج عائدا على المسلمين، ولا يقطع لتملكه من غير إحياء.

"وقال عمر بن الخطاب لبلال بن الحارث وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أقطع لبلال العقيق أجمع: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك إلا لتعمل، ولم يقطعك لتحتجزه عن الناس، فأقطع عمر الناس العقيق". *وإنما جعل المدة في ذلك ثلاث سنين؛ لما روي عن عمر أنه قال: "ليس لمحتجر بعد ثلاث سنين حق". مسألة: [الأرض المحياة بماء المطر عشرية] (ومن أحيا أرضا فكانت تسقى بماء المطر: فهي أرض عشر).

لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر". مسألة: [الأرض المحياة بماء النهر] قال: (ومن أحياها بماء نهر ساقه إليها، فإن أبا يوسف قال: حكمه حكم الأرض التي فيها ذلك النهر، فإذا كانت من أرض الخراج: فهو من أرض الخراج، وإن كانت من أرض العشر: فهو من أرض العشر. وقال محمد: إن أحياها بماء الأنهار العظام التي لله، كالنيل والفرات ونحوها: فهي من أرض العشر، وإن ساق إليه من نهر حفره الإمام من مال الخراج: فهو من أرض الخراج). قال أحمد: إذا أحيا بماء نهر حفره الأعاجم، فهو أرض خراج أيضا عند محمد. *وإنما الخلاف فيما أحيي بماء دجلة والفرات والأودية العظام، التي ليست بمحفورة: فجعلها أبو يوسف من أرض الخراج إذا كان النهر بين أرض الخراج. وجعلها محمد أرش العشر. *وكذلك قال أبو يوسف فيما استخرج من أرض الجبال من بئر، أو قناة: فهي خراج؛ لأنه هكذا تستخرج أرض الجبال. رواه ابن سماعة عن أبي يوسف. وقال محمد: هي أرض عشر في أي أرض كانت، إذا أحييت ببئر

أو قناة استخرجت. فأما وجه قول أبي يوسف في مسألة أبي جعفر التي ذكرها فيما أحيي بنهر من أرض الخراج: فلأن النهر إذا كان من أرض الخراج، فقد ثبت الحق فيه لكافة المسلمين، كما ثبت في الأرضين أنفسها، فلا ينتقل عنه. ألا ترى أن المسلم إذا اشترى أرض الخراج، لم تنتقل عن الخراج إلى العشر، كذلك ما أحيي بماء الخراج. ووجه قول محمد: أن هذه الأودية العظام غير مملوكة لأحد، فهي غير مظهور عليها، ولا مظهور عليها، ولا اعتبار بكونها في أرض الأعاجم أو غيرها، وإنما الواجب اعتبار حال المحيي لها، فإن كان مسلما: فعليه العشر، وإن كان ذميا: فعليه الخراج. ويدل عليه: أن أرض البصرة عشرية، وإنما أحييت في زمن الصحابة بماء دجلة، وجعلوا فيها العشر، فصار ذلك أصلا في نظائره. *وأما ما أحيي من الأرضين ببئر أو قناة، استخرجها المحيي، فإن محمد جعلها أرض عشر في أي موضع كانت، من قبل أنه لم يتقدم في الموضع، ولا في الماء الذي أحيي به وجوب حق لأحد، وإنما يحتاج إلى أن يبتدئها الآن بالحق، وهو مسلم، والحق الذي يبتدأ به المسلم هو العشر؛ لأنه صدقة، ولا يبتدأ المسلم بالخراج؛ لأنه فيء.

مسألة: [بيع أرض الخراج] قال أبو جعفر: (ويجوز بيع أرض الخراج، وتورث، وتملك). وذلك لأن عمر مع جماعة من الصحابة اتفقوا على إقرار أهل السواد على أملاكهم بعد فتحها عنوة، وقد اشترت الصحابة أرض الخراج، وتبايعوها من غير نكير أحد منهم، فصار ذلك إجماعا منهم في صحة الأملاك فيها. وإنما كره بعضهم شراءها للسلم؛ لأنه كان عنده أن الخراج لم اوضع موضع الجزية، كان مشتبها لما هو مأخوذ على وجه الصغار والذلة، فكرهوا أن يدخل نفسه في التزام الصغار. قال أحمد: وليس ذلك عندنا بصغار، لأن الصغار إنما هو جزية الرؤوس، وليس الخراج بمنزلتها. والدليل عليه: أن عليا وعمر رضي الله عنهما قالا فيمن أسلم على أرض الخراج: أن عليه الخراج، ولم يختلف المسلمون أن من أسلم من أهل الجزية: سقطت عنه الجزية.

مسألة: [حريم النهر] قال: (وكان أبو حنيفة لا يرى للنهر حريما). ويجعل المسناة لصاحب الأرض التي فيها النهر، إلا أنه ليس له أن يهدمها، لما فيه من الضرر على صاحب النهر. (وقال أبو يوسف ومحمد: النهر لابد له من ملقى طين وغيره، فاحتاج إلى حريم كالبئر). مسألة: [حريم البئر] قال: (وحريم بئر العطن: أربعون ذراعا، إلا أن يتجاوز الحبل ذلك، فيكون له إلى ما تناهى الحبل). وذلك لأنه لا يصل إلى الانتفاع بها إلا من هذا الوجه، إذا كان سبيلها أن يستقى منها بالإبل، فينبغي أن يكون حريمها مقدار الحبل إذا احتيج إلى ذلك. وإن اكتفى بدونها: كان له أربعون ذراعا؛ لأنه لو لم نجعل له ذلك، أدى إلى بطلان الانتفاع بها؛ لأنه كان يكون لآخر أن يحفر بئرا إلى جنبها، أو يحيي الأرض التي تلاصق البئر، فيمنع الانتفاع بها، والاستقاء منها،

فمن أجل ذلك احتاجت إلى الحريم. *وقدروه أربعين ذراعا، لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في تقديره. ولجريان العادة بمثله في كثير من المواضع التي يحفر فيها آبار للماشية. *قال: (وحريم بئر الناضح: ستون ذراعا). وقد روي فيه أيضا أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحريم فيه مثل ذلك مقداره الحاجة إليه للسقي. مسألة: [حريم العين] وأما حريم العين، فإنما جعله خمس مائة ذراع على ما ذكره أبو جعفر؛ لأن العين تحفر حواليها آبار ليجتمع ماء جميعها في العين، وليس يؤمن مع ذلك أن يحفر إنسان بقربها بئرا أو عينا، فيذهب بماء العين، فلذلك جعل حريمها خمس مائة ذراع. وهذه المقادير اجتهاد، وقد روي في جميعها عن النبي صلى الله عليه

وسلم آثار. مسألة: [حق الانتفاع بماء البئر في أرض الغير] قال أبو جعفر: [ومن كان في أرضه بئرا أو عين، فله منع الناس من دخول أرضه، إلا أن يكون بالناس إلى ذلك حاجة، ولا يجدون ماء من غيرها، فيكون عليه إباحتهم ماءها لشفاههم، ومواشيهم، وليس عليه إباحته لزروعهم). قال أحمد: وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الناس شركاء في ثلاثة: في الكلأ والماء والنار". فإذا وجدوا غيره: كان له منعهم من دخول أرضه، وإذا لم يجدوا غيره: كانوا متساوين في الانتفاع بالماء الذي فيها، ولم يكن منعهم منها. وقد روي "أن قوما مروا بالماء، فأرادوا أن يستقوا، فمنعهم أهل

الماء، فأخبروا عمر بن الخطاب بذلك، فقال: هلا وضعتهم فيهم السلاح". وروي "أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: الماء". *وقال: وإنما لم يكن لهم أن يسقوا منه زرعهم إلا بإذن مالك الأرض؛ لأنه فيه خوف التلف على النفس. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم للزبير: "احبس حتى يبلغ الجدر، ثم أرسله". مسألة: [بيع ماء النهر أو البئر] قال أبو جعفر: (وليس لأحد بيع ما في نهر أو بئر). وذلك لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه" نهى عن بيع

الماء"، رواه جابر، وعبد الله بن عمر، وإياس بن عبد المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الناس شركاء في ثلاثة: الكلأ والماء والنار". مسألة: [تملك ما أخذ من ماء النهر أو البئر] قال: (فإن أخذ من ماء بئر غيره، أو من نهره: فقد ملكه، وليس لصاحب النهر والبئر أخذه منه، وكذلك الكلأ والنار). وذلك لأن الماء في موضعه من البئر والنهر ليس بملك لأحد، بل هو مباح، بدلالة أنه يأخذه عند الحاجة بغير بدل. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الناس شركاء في ثلاثة"، ونهبه عن بيع الماء. فمن أخذه فهو له كسائر المباحات التي ليست بأملاك، وهو في هذا الوجه كالكلأ إذا نبت في أرض رجل، فمن أخذه فهو له. وكذلك الصيد إذا انكسر في أرض رجل، أو السمك إذا اصطاده من جهة لرجل، فهذا كله لآخذه؛ لأنه مباح الأصل، لم يتقدم فيه ملك لأحد. وجهة وقوع الملك فيه أخذه وحيازته، فإذا ملكه: انقطع حق سائر

الناس عنه، فجائز بيعه كسائر المملوكات. ولا خلاف في جواز بيع الماء الذي أحرزه صاحبه في إناء، وبيع الكلأ المحرز. مسألة: [تملك ما أخذ من الكلأ والنار] قال: (وكذلك الكلأ والنار] فهما في ذلك كالماء سواء، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "الناس شركاء في ثلاثة".

كتاب العطايا

كتاب العطايا [أحكام الوقف] مسألة: [عدم زوال الملك بالوقف عند أبي حنيفة] قال أبو جعفر: (لا يجوز الوقف في الصحة في قول أبي حنيفة). قال أحمد: الوقف جائز في قول أبي حنيفة، إلا أنه لا تخرج الأرض الموقوفة عن ملك صاحبها، ولا يمنع وقفه إياها جواز تصرفه فيها، من بيع وهبة وغير ذلك، ولا انتقال الملك فيها إلى الوارث بالموت. وموضع الخلاف بينه وبين مخالفيه، إنما هو في زوال ملكه بالوقف، وجواز تصرفه. فأما جواز تصرفه، فلا تمنع منه، وقد روي عن علي، وابن عباس رضي الله عنهما قالا: "لا حبس إلا في كراع، أو سلاح".

والدليل على صحة قول أبو حنيفة: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبيد بن شريك قال: حدثنا عبد الغفار بن داود قال: حدثنا ابن لهيعة. قال عبد الباقي: وحدثنا عبد الله بن محمد الوراق قال: ثنا كامل بن طلحة قال: ثنا ابن لهيعة عن عكرمة قال: سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لما نزلت سورة النساء، وفرض فيها الفرائض: "لا حبس بعد سورة النساء"، ولم يذكر عبيد: "بعد سورة النساء". فإن هذا خبر دل على صحة قوله من حيث منع أن يكون وقفه إياها حابسًا لها عن انتقال الملك منها بالميراث. وروى سفيان عن مسعر عن أبى عون الثقفي عن شريح قال: "جاء محمد صلى الله عليه وسلم ببيع الحبس". فإن قيل: المراد بالحبس المذكور في هذه الأخبار: حبس الجاهلية من

السائبة، والوصيلة، والحام، ونحو ذلك. قيل له: هو على العموم في كل حبس، إلا ما قام دليله. وعلى أن قوله في حديث ابن عباس: "لا حبس بعد سورة النساء": لا يجوز أن يكون المراد به حبس أهل الجاهلية، لأن ذلك الحبس لم يكن قط مباحًا في الإسلام. ويدل على صحة قولنا في الوقف: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا هارون بن يوسف قال: حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن عبد الله بن زيد_ الذي أري النداء_ جعل حائطا له صدقة، وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتى أبواه النبي صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله؟ لم يكن لنا عيش إلا هذا الحائط، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما،

ثم ماتا، فورثهما" ورواه الأنصاري في كتابه في الوقف عن حماد بن سلمه عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم نحو ذلك. وذكر أبو الفضل محمد بن يحيى بن الفياض البصري صاحب الأنصاري أن عبد الوهاب حدثه قال: ثنا عبيد الله بن عمر عن بشير بن محمد "عن عبد الله بن زيد أنه تصدق بحائط له، فأتى أبواه النبي صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله! إنه كانت تقيم وجوهنا، ولم يكن يقيمنا شيء غيرها. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن زيد فقال: إن الله قد

قبل صدقتك، وردها على أبويك، قال: وورثه إياها منهما بعد ذلك" قال أبو الفضل: وحدثنا الأنصاري قال: ثنا أبو أمية بن يعلى الثقفي قال: ثنا أبو الزناد قال: "جاء عبد الله بن زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كل شيء سوى سلاحي، وسكني صدقة يجعله رسول الله حيث شاء، فجعله رسول الله في الأوقاص، يعني المساكين. فجاء أبواه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: إن بنينا تصدق بأرض له، وإنه ليس لنا شيء إلا أن نسأل مع الأوقاص. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: قد رددت عليكما صدقة ابنكما، فكلا، واتقيا الله، فأكلاها حتى ماتا. فقال عبد الله: قد مات أبواي، فهي حل لي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فكلها هنيئًا" وهذه الأخبار تدل على أن وقفه إياها لم يخرجها عن ملكه، ولا منع انتقال الملك منها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ردها إليه بعدما وقفها على المساكين. * ومن جهة النظر: إن وقف الأرض إنما يصح عند مجيزيه لأجل الصدفة والقرية التي في إخراج غلتها، وهو لو تصدق بالغلة وهي

موجودة، لم تخرج عن ملكه بالقول حتى يقبض الله تعالى المتصدق بها عليه، فالأرض التي لا يستحقها الفقراء أحرى أن لا تخرج عن ملكه بوقفه إياها. ومن الدليل على أن إيجابه الصدقة فيها لا يوجب إخراجها عن ملكه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ساق البدن عام الحديبية، وقلدها. وذلك يقتضى إيجابًا منه لها، ثم صرفها عما أوجبه له، وجعلها للإحصار، ولو يمنع الإيجاب بها من غير جهة الإحصار من نقلها إلى الإحصار، ولو كان ملكه زائلًا عنها، لما صح نقله إلى غير الوجه الذي استحق عليه بالإيجاب. ويدل على أنه قد كان أوجبها: انه أبدلها في العام القابل، ولو لم تكن الأولى واجبة لما كان الثاني بدلًا. فإن قيل: معلوم أن الذي جعله للإحصار بدنه واحده، وعسى أن لا يكون قد كان أوجب تلك الواحدة قبل الإحصار. قيل له: يبطله قوله: إنه أبدلها في العام القابل. وعلى أنه فرق البدن على أصحابه حتى نحروها عن الإحصار.

ودليل آخر: وهو أنه لو خرج عن ملكه بالوقف، لكان فيه إزالة المال لا إلى مالك بقوله، فوجب أن لا يصح، كرجل قال: أخرجت هذه الدار عن ملكي، فلا يصح. فإن فيل: فالمسجد فيه إزالة الملك لا إلى مالك، وقد صح عند الجميع. قيل له: للمسجد قابض، وهو الذي يصلي فيه، لأنه لا يخرج عن ملكه إلا أن يصلى فيه، والمصلي فيه قابض له عن نفسه، وعن الجماعة المسلمين، فخرج عن ملكه، كمن تصدق على رجل بصدقة، وأقبضها إياه. وأما الوقف فليس له قابض، وإنما يخرج عن ملكه لو جاز بقوله، وهذا الذي أثبتاه قياسًا على قوله: قد أخرجت هذه الدار عن ملكي: فلا يزول عن ملكه بقوله. فإن قال قائل: الوقف أيضًا له قابض، بمنزلة الصدقة والمسجد، بأن يجعله الواقف على يد غيره، فيخرج عن ملكه بقبضه. قيل له: إذا كان القابض إنما يصح قبضه بقول الواقف وتوكيله إياه بالقبض، فليس ذلك بقبض، لأن يد وكيله كيده، فهو مع ذلك باق في يده مع تسليمه إلى من أمره بقبضه، ومع هذا فلم يخرجه ذلك من أن تكون صحة القبض أيضًا متعلقة بقوله، فيكون خارجًا عن ملكه بقوله لا إلى مالك، وهذا فاسد بما دللنا عليه. وأيضا: فغير جائز قياس الوقف على المسجد، لأن ما يصح المسجد من أجله لا يصح تمليكه، ولا اخذ البدل عنه، وهو الصلاة فيه، فلذلك جاز خروجه عن ملكه، إذ كان ذلك حقًا خالصًا لله تعالى.

وأما الأرض، فإن غلتها التي صح الوقف من أجلها، يصح أخذ البدل عنها وتمليكها، فالأصل أحرى أن يجوز نقل الملك فيها مع وقفه إياها. فإن قال قائل: اعتلالك بأن في تصحيح وقفه إزالة ملكه لا إلى مالك بقوله: منتقض بإجازتك الوقف في الوصية. قيل له: إنما أجيزه إذا أضافه إلى ما بعد الموت؛ لأن الموت يوجب زوال ملكه، فلم يزل بقوله، وإنما حظ قوله فيه: منع انتقاله إلى الوارث إذا كان في الثلث الذي يملكه الميت، فليس ذلك إزالة ملكه لا إلى مالك بقوله. [أدلة المخالفين:] واحتج مخالفنا بما روى ابن عون وغيره عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: أصيب أرضًا من خيبر، ما أصبت مالًا أنفس عندي منها، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمره، فقال: "إن شئت حسبت أصلها، وتصدقت بها". وفى بعض ألفاظ هذا الحديث: "وتصدقت بثمرتها". وفى بعضها: "إن شئت أمسكت أصلها، وتصدقت بثمرتها". قال: "فتصدق بها عمر على أن لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، حتى تصدق بها في الفقراء والأقربين"، وذكر الحديث.

وما روي في أوقاف النبي صلى الله عليه وسلم، وأوقاف علي وسائر الصحابة رضي الله عنهم، وبأن عثمان اشتري بئر رومة في أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلها للمسلمين، فالجواب: أنه ليس فيما ذكره ما يعترض به على قولنا ولا يخالفه، وذلك لأنا نجيز جميع ذلك على ما روي في هذه الأخبار، وليس في شيء منها بيان الخلاف بيننا، لأنا نقول يجوز أن يحبس أصلها، ويتصدق بثمرتها، ويشترط فيها أنها لا تباع ولا تورث، ويكون ذلك عدة منه في أن لا يبيعها، وأمرا للورثة أن لا يعترضوا في فسخها، وإبطالها. وليس في شيء منه دليل على منع البيع، وانتقال الملك فيها، وإنما بقيت أوقاف الصحابة بعدهم على مر السنين والأوقات؛ لأن ورثتهم أمضوا على ما كان الواقف شرطه فيها. وأما وقف النبي صلى الله عليه وسلم، فلأنه قال: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة"، هكذا رواه مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر رضي الله عنه. واستشهد عمر على ذلك عليًا، والعباس، وطلحة، والزبير في آخرين من الصحابة رضي الله عنهم، فصدقوه، واعترفوا به.

وإذا كان ذلك سبيل أملاك النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، فلا دلالة فيه على صحة الوقف في أملاكنا على الوجه الذي ذهب إليه مخالفنا؛ لأنه لو لم يكن وقفها، لكانت وفقًا بعد موته. فإن قيل: هذا الخبر يرد ظاهر الكتاب؛ لن الله تعالى قال حاكيُا عن زكريا: {فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من إل يعقوب}، فأخبر أن ابنه يرثه. قيل له: لا يجوز أن يكون المراد وراثة المال، وإنما المعنى فيه وراثة النبوة، والحكمة، والقيام بالشرعية. وذلك لأنه قال: {وإني خفت المولى من وراءى}، ومعلوم أن النبي عليه السلام لا يأسف على أن يصير المال لمستحقه، بل كانت الدنيا أهون في عينه في حال حياته من أن يأسف بعد موته أن تصير لبني أعمامه. فدل أن المراد وراثة العلم والقيام بالدين، كما قال الله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} وكما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما أورثوا العلم، فمن أخذ به فقد

أخذ بحظ وافر" فصل: [الوقف في مرض الموت] قال أبو جعفر: (إذا وقفها في مرضه الذي مات فيه، فخرج مخرج الوصايا: جاز كما تجوز الوصايا). قال أحمد: هذا الذي ذكره أبو جعفر عن أبى حنيفة من إجازته الوقف في المرض، فإنه شيء لا نعرفه، ولم نقرأ عنهم إلا من جهة أبي جعفر. * (وقد روى محمد عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز في المرض أيضًا، كما لا يجوز منه في صحته، وأنه لا يخرج مخرج الوصايا، وهذا هو الصحيح من قوله). مسألة: [جواز الوقف عند أبي يوسف، وصفته] قال: (وقال أبو يوسف: يجوز الوقف وإن كان مشاعًا، وغير مقبوض).

وذهب فيه إلى حديث عمر في قصة خبير: "حبس أصلها". وفى بعض الألفاظ: "أمسك أصلها، وتصدق بثمرتها"، ولم يشترط فيه القبض. وكان الذي تصدق به عمر رضي الله عنه من سهمه بخيبر مشاعا؛ لأنه إنما قسم خيبر أيامه بين من شهد فتح خيبر، وكان له فيها سهم. وفرق بين هذه الصدقة، وبين صدقة الأعيان، ولا خلاف بين أصحابنا في أن من شرط صدقة الأعيان الحيازة والقبض جميعًا فيما يقسم. ووجه الفرق بينهما عنده: أن الحق الذي تعلقت به القربة في الوقف، ليس هو العين التي عقد الوقف فيها، ولا اعتبار فيه بالقبض والحيازة؛ لأنه ليس هو المملوك به، وصدقة العين هي المملوكة بنفسها، فلذلك اعتبر فيها القبض والحيازة. * (ويجوز عند أبي يوسف إذا قال: حبسًا موقوفًا، أو حبسًا صدقة، فإذا انقرض أهل الوقف: رجعت إلى الله مصروفة في وجوه القرب منه). وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لعمر: "حبس أصلها"، فأجازه بلفظ الحبس، وإن لم يذكر فيه التأبيد، فجعل أبو يوسف ذلك بمنزلة العتق أنه يصح بالقول، وفي المشاع.

وروي نحوه عن المسعودي القاسم أنه قال: "من تكلم بصدقة جازت صدقته، كما يجوز عتقه" * (وأجاز أبو يوسف أن يجعله الواقف لها وفقًا على نفسه، أو على من سواه). وذلك كما يجوز أن يشرط لغيره، كذلك لنفسه، لأن الأصل قد خرج عن ملكه بوقفه إياه، فله في عقد الوقف أن يجعله لمن شاء. [الشروط المفسدة للوقف عند محمد] (وأما محمد فإنه يجيز الوقف في الحياة، إلا إنه إذا كان فيه إحدى خلال يبطل: وهو أن يكون مشاعًا، أو غير مقبوض، أو مستثنيًا الواقف لنفسه فيه شرطًا، أو كان غير مؤبد، أو لم يجعل آخره للفقراء والمساكين، أو في وجه من وجوه القرب). وإنما شرط فيه القبض والحيازة، كما شرط في صدقة الأعيان، ومنع أن يشرط لنفسه فيها شيئا، كما منع فيه المشاع، لبقاء حقه في المشاع

الذي يمكن قسمته؛ لأن الثمرة والغلة مما يتأتى فيه القسمة. وأيضًا: "منع النبي عليه الصلاة والسلام عمر بن الخطاب حين حمل على فرس في سبيل الله أن يرجع فيه، أو في شيء من نسلها بشرى أو غيره"، فكذلك الصدقة الموقوفة. ولم يجزها إذا لم يشترط آخرها للفقراء والمساكين؛ لأنه متى لم يكن كذلك: رجع إليه عند انقراض أهل الوقف، فيكون بمنزلة أن يستثني لنفسه فيه شرطًا. مسألة: [عدم جواز الوقف في المنقول إلا تبعًا] قال: (ولا يجوز الوقف في عبد، ولا في شيء سوى العقار والأرضين، إلا أن تكون أرضًا فيها بقر وعبيد لمصالحها، فيشترط وقفها مع الأصل). وذلك لأن هذه الأشياء لا تبقى مؤبدة، فتكون وفقًا بمنزلة وقف إلى مدة، فلا يجوز. وأما إذا كان شيء من العبيد والبقر لمصالح الضيعة، فإنه يجوز شرطه في الوقف، لأنه يدخل فيها على وجه التبع وإن لم يصح وقفه على حدة، كما يدخل الشرب في البيع تبعًا للأرض، وكذلك حقوق الدار، ولو أفرادها بالعقد لم يصح.

مسألة: [وقف الخيل] قال: (وقال أبو يوسف ومحمد: لا بأس بحبس الخيل في سبيل الله). وذلك لما روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما، ولا يعرف عن أحد من السلف خلافه. ويدل عليه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الخيل ثلاثة: هي لرجل أجر، ولآخر ستر، وعلى آخر وزر، فأما الذي له الأجر: فالذي يحمل عليها في سبيل الله" عمومه يقتضي جواز حبسها للحمل عليها في سبيل الله، إذ لم يفرق بين ما كان منها محبوسًا، أو موهوبًا، أو معارًا.

أحكام الهبة

[أحكام الهبة] مسألة: [هبة الأعيان] (ولا تجوز الهبة في الأعيان إلا مقبوضة). وذلك لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "يقول ابن آدم مالي مالي .. وما لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت". فشرط في صحة الصدقة إمضاءها، ومنع صحتها بالقول دون إمضائها، وهو الإقباض والتسليم، فدل أنها لا تصح إلا مقبوضة. ويدل عليه: قول أبى بكر الصديق في مرضه لعائشة رضي الله عنهما: إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقًا من مالي بالعالية، وإنك لم تكوني حزتيه، ولا قبضتيه، وإنما هو مال الوارث، وإنما هما أخواك وأختاك. فقالت عائشة: وإنما هي أسماء. فقال: ألقي في روعي أن ذا بطن-

بنت خارجة_ جارية، لامرأة له كانت حاملًا". فقال ذلك بحضرة من الصحابة، من غير نكير من أحد منهم عليه، فدل على موافقتهم إياه. * وقد انتظم هذا الخبر أحكامًا: منها: أن شرط صحة الصدقة الحيازة والقبض جميعًا، فدل على بطلانها في المشاع التي يمكن قسمتها وإن قبض، لعدم الحيازة. وعلى بطلانها في الثمرة في رؤوس النخل والزرع القائم في الأرض، لعدم الحيازة. ومنها: أنه إذا أضاف المال الذي له في المرض إلى الوارث، يثبت حقه فيه. ودل على أن الهبة غير جائزة للوارث في المرض، وأنها بمنزلة الوصية. ودل أيضا على أنه جائز للإنسان أن يخبر عما يغلب في ظنه من كون الحمل غلامًا أو جارية.

* ومما يدل على أن من شرط الهبة والصدقة القبض: أنهما تسرع ومعروف من جهة الواهب والمتصدق، فأشبهتا القرض، من حيث كان تبرعًا ومعروفًا لم يصح بالقول دون معنى ينضم إليه. ويشبهان العارية أيضا، لما كانت تبرعًا ومعروفًا: لم يثبت حكمها بالقول دون معنى ينضم إليه، لو قال لرجل: أعرتك دابتي هذه، لم يثبت له عليه بها حق ولا مطالبته في تسليمها إليه. وكذلك لو قال: أعرتك شهرًا، لم يثبت حكمها بالقول دون معنى ينضم إليه، فوجب أن تكون الهبة والصدقة مثلها في أنهما لا يصحان بالقول. وإذا ثبت أنهما مفتقرتان في صحة وقوع الملك بهما إلى معنى غير القول، ولم يشترط أحد فيهما معنى غير القبض، وجب أن يكون القبض هو الذي يصح به وقوع الملك بعقد الهبة والصدقة. ولا يلزم على ما ذكرنا الوصية، لأنها أيضا لا يصح بالقول، ولا تلك به دون معنى آخر ينضم إليه، وهو الموت. ولو جعلنا الوصية أيضا أصلًا للهبة والصدقة: جاز أيضًا في أنه لا تملك فيها بالقول دون معنى آخر ينضم إليه، إذ كانت تبرعًا ومعروفًا، فوجب أن تكون كذلك الهبة والصدقة، لوجود العلة. ثم اختلافهما من جهة أن المعنى المضموم إلى الهبة والصدقة هو القبض، والمضموم إلى الوصية هو الموت: لم يمنع الجمع بينهما من الوجه الذي ذكرنا، وهو أن كل واحد منهما لا يوجب الملك بالقول دون انضمام معنى آخر إليه. وإنما لم تحتج الوصية إلى القبض في صحة وقوع الملك به بعد

الموت، من قبل أن الموت سبب لزوال الملك، سواء كانت هناك وصية، أو لم يكن، فإذا زال الملك فيه بالموت، كان له صرفه بالقول إلى من شاء إذا خرج من الثلث. مسألة: [الأولياء في قبض ما وهب للطفل] قال أبو جعفر: (ويقبض للطفل أبوه، أو وصي أبيه، أو جده إن لم يكن هذان، ووصي الجد). وذلك لأن لهم ولاية على الصغير. وكذلك كل من يتصرف عليه بالبيع والشرى، فإنه يقبض له الهبة، كما يقبض سائر حقوقه، ويتصرف عليه في سائر العقود التي يستحق التصرف فيها. قال: (ويقضيها له أيضًا من هو في عاليه وإن لم يتصرف عليه بالبيع، مثل العم، والأم). * والملتقط يقبض للقيط أيضًا. * وهو استحسان، ووجهه: أنه ليس فيه ضرر على الصغير، بل فيه نفع له. والذي هو في عياله له ضرب من الولاية عليه في إمساكه.

والملتقط له ضرب من الولاية، ألا ترى أنه لو أراد غيره انتزاع الصبي منه: كان الذي التقطه بدءا أولى بإمساكه. مسألة: [العدل بين الأولاد في العطايا] قال أبو جعفر: (ينبغي للرجل أن يعدل بين أولاده في العطايا، والعدل في ذلك قول أبي يوسف: التسوية بينهم، وفي قول محمد: يجريهم على سبيل مواريثهم منه لو توفي). وجه قول أبى يوسف: حديث الشعبي عن النعمان بن بشير قال: "نحلني أبى نحلًا، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: ائت النبي صلى الله عليه وسلم فأشهده، فأتى النبي عليه الصلاة والسلام، فذكر ذلك له، فقال: ألك سواه؟ قال: نعم. قال: وكلهم أعطيت مثل ما أعطيت النعمان؟ فقال: لا. فقال: هذا جوز، فأشهد على هذا غيري". فقوله: ألك سواه؟، وقوله: أعطيت كلهم مثل ما أعطيت النعمان؟: من غير فرق بين الذكر والأنثى، يدل على أنهما متساويان فيه. وروى عبد الله بن مسعود "أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني تصدقت على ابني صدقة، فاشهد. قال: ألك ولد غيره؟ قال: نعم. قال: قد أعطيتهم كما أعطيته؟ قال: لا. قال: لا أشهد على جور".

وهذا أيضا يدل على التسوية، لأنه قال: هل لك ولد غيره؟ ولم يسأله عن الذكر والأنثى منهم، وأوجب أن يساوي بينهم في العطايا. ويدل عليه أيضا: ما روى في بعض ألفاظ حديث النعمان بن بشير حين قال: أشهد على هذا غيري، ثم قال:"أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: بلى. قال: فلا إذا". ومعلوم أن محبته لمساواتهم في البر، لا تختص بالذكر دون الأنثى، وكذلك فيما يعطيهم. ويدل عليه: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الحسن بن علي بن محمد بن سليمان القطان قال: حدثنا عباد بن موسى قال: حدثنا إسماعيل بن عياش قال: حدثنا سعيد بن يوسف الرحبي عن يحيى بن أبي كثير اليمامي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ساووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلًا لفضلت البنات". فلم يفرق بين الذكور والإناث حين أمر بالمساواة بينهم. وقوله: ولو كنت مفضلا لفضلت البنات: يدل على التسوية أيضًا. وقال محمد: يجريهم على سبيل المواريث، لأنه لو مات استحقوا ماله كذلك، وكذلك في الحياة. ... *

* وإن فعل خلاف ذلك: جاز في الحكم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن البشير: هذا جور، أشهد عليه غيري، فأخبر له الهبة، ولولا ذلك لما قال: أشهد عليهما غيري. مسألة: [الهبة على عوض] (والهبة على عوض: عقدها عقد هبة، وجوازها جواز البيع، فلا يصح العقد وإن شرط فيه عوض إلا بشرائط العقد الذي ليس فيه عوض مشروط من القبض والحيازة. فإذا قبضت وصحت: كانت بمنزلة البيع في وجوب الشفعة والضمان، والرد بالعيب ونحوها). قال أحمد: وجعله زفر بمنزلة البيع في سائر أحكامه، فأجازه غير مقبوض، وفي المشاع، كما يجوز البيع. والأصل فيه أنهما دخلا في عقد هبة، فلا يلزمهما عقد غيره، وكما أنه إذا كاتب عبده، ولم يجعله عتقًا على مال، وإذا باعه لم يجعله هبة، لأن كل متعاقدين دخلا في عقد، فإنما نلزمهما أحكامه، ولا يلزمهما عقد غيره. ألا ترى أنهما إذا تقابلا في عقد البيع، لم يجز لنا أن نجعلها عقدًا مستبدلًا من حيث كان عقدًا فيه بدل، في باب أنه لا يجوز إلا بتسمية ثمن، ولا يجوز على القيمة، كذلك إذا عقدًا عقد هبة وإن شرطا فيها عوضًا، لم يجز أن نجعلها عقد بيع. وكما لو أوصى لرجل بغير شرط عوضٍ، كانت وصيته صحيحة لا يبطلها عدم القبول عقيب الموت، ولم يخرجها شرط العوض عن الحكم الوصايا.

ألا ترى أنها لو كانت بمنزلة البيع لما صح، لأن وقوعه متعلقًا بالموت، حتى إذا صح البدل صار بمزلة البيع. وإذا كان ذلك على ما وصفنا، قلنا لم يخرج العوض المشروط في الهبة من أن يكون عقد هبة، ثم إذا تقابضا صار بمنزلة البيع في سائر أحكامه، لأنه ملكه ببدل هو مال، وكل واحد منهما مضمون على صاحبه ببدله. ألا ترى أنه لو استحق أحدهما: كان له أن يرجع في الآخر إن وجده قائمًا بعينه، ويضمنه قيمه إن كان مستهلكًا، فلما صح له حكم البدل، صار كالبيع. مسألة: قال: (وللأب أن يقبض لابنه الصغير ما وهبه له). وذلك لأنه لو وهب له غيره، كان هو القابض له، كذلك إذا وهب له هو، لأنه لا يتعلق به ضمان، ولفائدة عليه قبض له. وروى سعيد بن المسيب عن عثمان انه قال: "من نحل ولدًا صغيرًا له، لم يبلغ أن يجوز نحله، فأعلن بها، وأشهد عليها، فهو جائز، وإن وليها أبوه". * (ولو قبضه الصغير وهو يعقل: جاز). لما روى محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير

عن عائشة قالت: "أهدى النجاشي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلية فيها خاتم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة ابنته أمامة بنت أبي العاص فقال: تحلي بهذا يا بنية". مسألة: [الرجوع في الصدقة والهبة] قال: (وكل صدقة صحت، فليس فيها رجوع بحال، وكل هبة صحت لذي رحم محرم أو على عوض: فلا رجوع فيها، وله الرجوع فيها إذا لم يعوض منها، ولم تكن لذي رحم محرم). فأما الصدقة فلا خلاف أنه لا يصح الرجوع فيها بعد صحتها، والهبة لذي الرحم المحرم في معنى الصدقة، لأنه قد استحق عليها الثواب بصلة الرحم، إذ كان موضوعها موضوع القربة، كالصدقة سواء. ومن الناس من يجيز للأب الرجوع فيما وهبه لابنه، ولا يصح عندنا الرجوع فيما وهب له ما دام مستغنيًا عنها، فإن احتاج إليها: جاز له أخذهما، كما يأخذ من سائر ماله للنفقة على نفسه. وذلك لأن المعنى المانع من الرجوع في هبته سائر ذوي الرحم المحرم موجود في الابن، وهو أن موضوعها موضوع القرب، لما فيها من صلة الرحم، فأشبهت الصدقة.

ومعنى ما روي عن النبي صلى الله علية وسلم أنه قال: " لا يحل لأحد أن يهب هبة، فيرجع فيها، إلا الوالد فيما وهبه لولده": فإنه إباحة لأخذها عند الحاجة. وقد يجوز أن يسمى ذلك رجوعًا فيها وإن يملك مستقبل، كما روي عن عمر رضي الله عنه انه حمل على فرس في سبيل الله، ثم وجدها تباع في السوق، فأرد أن يشتريها، فسال النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: لا تعد في صدقتك". فسمى شراه إياها رجوعًا في الصدقة، بأن عادت إليه بملك مستقبل. كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا الوالد فيما يهبه لولده"، وهو في هذا المعنى. وفائدة الخبر كان الهبة لذي الرحم المحرم لما كانت في معنى الصدقة، لما استحق بها من الثواب، قد كان يجوز أن تشبه إباحة الرجوع فيها عند الحاجة، فأفاد عليه الصلاة والسلام أنه جائز له أخذها عند الحاجة، كما يأخذ سائر ماله وإن كانت مملوكة من جهته على وجه الهبة. فصل: [أدلة جواز الرجوع في الهبة] والحجة في جواز الرجوع في الهبة لغير ذي الرحم المحرم إذا لم يعتض عنها: ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال: حدثنا أبو

داود السجستاني قال: حدثنا سليمان بن داود المهري قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني أسامة بن زيد أن عمرو بن شعيب حدثه عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثل الذي استرد ما وهب، كمثل الكلب يقئ، فيأكل قيئه، فإذا استرد الواهب، فليوقف، فليعرف بما استرد، ثم ليدفع إليه ما وهب"، فانتظم الخبر معنيين: أحدهما: كراهة الرجوع فيها، لأنه شبهه بالكلب يعود في قيئه، وذلك مستقبح في العادة. والثاني: صحة الرجوع فيها إذا رجع، ووجوب ردها عليه. وأيضًا: روي نحو قولنا عن علي وعمر وفضالة بن عبيد الأنصاري من غير خلاف من أحد من الصحابة عليهم. ويدل على صحة ذلك: ما روى ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "العائد في هبته كالكلب يقئ، ثم يعود في قيئه".

فلما شبهه بالكلب يعود في قيئه، دل ذلك على صحة الرجوع مع الكراهة. ألا ترى أن ذلك الرجوع في الهبة ينبغي أن يصح حتى يقع التشبيه موقعه، وإلا فلو لم يصح الرجوع فيها رأسًا، وكان الشيء باقيًا على ملك الموهوب له، لا حق للواهب فيهو لما صح تشبيهه بالكلب الذي قد صح له الرجوع في القيء. فإن قيل: قد روي في الحديث ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام: "العائد في هبته كالعائد في قيئه". والقيء حرام على من عاد فيه، وكذلك الرجوع فيه، ولم يذكر في هذا الخبر الكلب، فيكون على وجه الاستقباح دون التحريم. قيل له: هذا خبر واحد ذكر فيه الكلب، وحذفه الآخرون. على أن الخبر الذي حذف فيه ذكر الكلب، يدل ظاهره على أن المراد به الكلب، وذلك أنه عرفه بالألف واللام، وهما يدخلان للجنس أو التعريف، فإن كان مراده التعريف، فهذا يقضي أن يكون هناك إنسان بعينه قد عاد في قيئه، فشبه به العائد في الهبة، ومعلوم أنه لم يكن هناك إنسان عاد في قيئه، فيخرج الكلام عليه، فإذا المراد به الجنس، وليس هناك جنس يعود في قيئه إلا الكلب، فعاد حكم اللفظ إليه. وأيضًا: كيف يصرف القول فيه، فقد دل على صحة الرجوع فيها وإن

كان محرمًا؛ لأنه شبه بالعود في القيء، فالواجب أن يصح الرجوع فيها، حتى يصح تشبيهها بالعود في القيء، وإلا فما لم يصح وقوعه، كيف يجوز أن يشبه بما قد صح ووقع. وهو إذا رجع فيها، كان قوله لغوًا، لا له حكم له فيه وجه. وليس يمتنع أن يكون منهيًا عن الرجوع، ثم إذا رجع: صح رجوعه، كما أنه منهي عن البيع عند أذان الجمعة، ولو عقد: صح إيقاعه. ومحرم عليه الصلاة في أرض مغصوبة، والذبح بسكين مغصوبة، ولو فعل: ثبت حكمه على الوجه الذي يثبت عليه حكم المباح. فصل: [زيادة الهبة تمنع من الرجوع] (وإن زادت الهبة في بدنها: لم يصح الرجوع فيها). وذلك لأن الزيادة لم يقع عليها عقد الهبة، ولا يمكنه الرجوع في الأصل دون الزيادة، فبطل الرجوع. [موت الواهب أو الموهوب له يمنع من الرجوع] (وإذا مات أحدهما: لم يصح الرجوع). لأن الواهب إن كان هو الميت، فالوارث لم يوجب له ملكًا، ولا يصح ملكه فيما لم يوجبه، ولا ينتقل حق الرجوع في الهبة إلى الوارث، كما لا ينتقل حق الشفعة، وقد بيناها فيما سلف. وإن كان الموهوب له هو الميت، فقد انتقل الملك إلى وارثه، وهو لم يوجب هذا الملك للوارث، ولا يصح له فسخه.

مسألة: [رجوع أحد الزوجين فيما وهبه للآخر] قال: (ولا يرجع أحد الزوجين فيما وهبه للآخر). وذلك لما حدثنا عبد الباقي بن قانع ثنا ابن غنام بالكوفة قال: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا مصعب بن المقدام عن خارجة بن مصعب عن أبي الحسين عبد الله بن عمرو بن أمية الضمري عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أعطى امرأته عطية، فهي له صدقة". فقال له عمر: لتأتيني بمن يشهد على هذا. فقال: عائشة سمعت هذا، فأرسلوا إلى عائشة، فقالت: صدق. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. فلما لم يصح الرجوع في الصدقة، لم يصح في الهبة الرجوع، إذ كانت بمثابة الصدقة. وإذا لم يصح رجوع الزوج فيما وهبه لامرأته بدلالة السنة، لم يصح في الهبة رجوعها أيضًا فيما تهبه له، لأن أحدًا لم يفرق بينهما.

فصل: [لا يصح الرجوع في الهبة إلا بقضاء أو برضا الموهوب له] (وإذا صحت الهبة: لم يصح الرجوع فيها إلا بقضاء قاض، أو برد الموهوب له ذلك إليه). وذلك لأن الملك قد تم للموهوب له. واحتج إلى فسخه، ولم ينفسخ بقول الواهب دون ما وصفنا، كالشفعة، والرد بالعيب بعد القبض، وكالنكاح إذا احتج إلى فسخه لعنة الزوج ونحوها. مسألة: [العمرى] قال أبو جعفر: (والعمرى كالهبة في جميع ما وصفنا، وهي أن يقول الرجل للرجل: قد أعمرتك داري هذه حياتك، ويسلمها إليه، ويقبضها منه، واشترط المعمر رجوعها إليه باطل). وذلك لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن يحيى ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا بشر بن عمر قال: حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عنه أبي سلمة عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي يعطاها، لا ترجع إلى الذي أعطاها، لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: ثنا محمد بن موسى ابن إسماعيل قال: حدثنا أبان عن يحيى عن أبي سلمة عن جابر أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "العمرى لمن وهبت له". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عثمان بن عمر الضبي قال: حدثنا إبراهيم بن أبي سويد قال: حدثنا حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر الأنصار؟ عليكم أموالكم لا تعمروها، فمن أعمر شيئًا فهو له حياته ومماته". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا حامد بن محمد قال: حدثنا شريح قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا ابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعمر عمرى، فهي له ولعقبه بتاتًا، لا يجوز للمعطي فيها شرط ولا مثنوية". فهذه الآثار كلها تدل على أن العمرى هبة صحيحة، وأن شرط

المعطى فيها حياته باطل. فإن قيل: إنما عنى بها العمرى التي يقول فيها: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فهو كما قال، وترجع إلى الواهب بعد موت الموهوب له. وذلك لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله قال: "إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما الذي قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها". قيل له: الأخبار التي قدمناها من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاستعمال من قول الراوي وتفسيره، لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أبطل لفظ النبي عليه الصلاة والسلام هذا التأويل في الحديث ابن أبى ذئب الذي ذكرناه حين قال: [:"هي له ولعقبه بتاتًا". وأما قوله:] "هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها": يجوز أن

يكون من كلامه الزهري؛ لأن قتادة قد ذكر عنه مثل ذلك من قوله في كلام جرى بينه وبينه، عند بعض الأمراء. [الهبة لا تفسدها الشروط الفاسدة] قال أحمد: وحديث العمرى وإجازة النبي صلى الله عليه وسلم إياها، وإبطاله الشرط فيها، أصل في ان عقد الهبة لا تفسدها الشروط الفاسدة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بفسخ الهبة حين وقعت على شروط فاسدة. وفارقت البيع في إفساده بالشروط، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط. فصل: [الرقبى] قال أبو جعفر: (والرقبى مثل العمرى في قول أبي يوسف، وهي أن يقول: أرقبتك داري هذه، ويقبضها على ذلك. وفي قول أبي حنيفة ومحمد الرقبى عارية، لا يملكها المرقب).

وذلك لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام "أنه أجاز العمرى، وأبطل الرقبى". ومعنى الرقبى: أن تكون الملك مترقبًا، فيقول هو الآخر من بقى مني ومنك. وروي نحو ذلك عن مجاهد في تفسير الرقبى، فهو لم يملكه بعد شيئًا، ولذلك كان باقيًا على ملك مالكه. والعمرى ليست كذلك، لأنه قد ملكه ملكًا واقعيًا في الحال، وإنما شرط رجوعه إليه بعد الموت، فبطل شرطه، ولم ينفسخ ملكه، ولذلك اختلفا. * وأما أبو سيف فإنه جعلهما عقدًا واحدًا، وإن اختلفت العبارة منه، تارة بالعمرة، وتارة بالرقبى. وقد روي عن ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "الرقبى والعمرى جائزة". وروي عن حجر عن زيد بن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"لا ترقبوا شيئًا، فمن أراقب شيئًا، فهو سبيل الميراث". ويجوز أن تكون الرقبى المذكورة في هذه الأخبار: بعد أن يهبها، ويشترط رجوعها إليه بعد الموت كالعمرى؛ لأن هذا يجوز أن تسمى رقبى، إذ كان مترقبًا لموته في رجوع الهبة. مسألة: قال: (ولا تجوز هبة المشاع فيما يقسم). وذلك لقول أبي بكر الصديق لعائشة: "إنك لم تكوني حزتيه، ولا قبضتيه"، فشرط الحيازة مع القبض، وذلك بمحضر من الصحابة، من غير نكير من أحد منهم عليه. وما أمكن قسمته وحيازته: لم تصح فيه مشاعًا الهبة، وإذا كانت صحة العقد متعلقة بالقبض والحيازة، والمشاع لا يتأتى فيه قبض صحيح على وجه الحيازة فيه ساقط. فإن قال قائل: روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بالروحاء في حجة الوداع رأى حمار وحش عقيرًا، فقال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: دعوه، فإنه سيطلبه صاحبه. فجاء رجل من بهز، فقال: يا رسول الله! إني أصبت هذا، فشأنكم به، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسم لحمه بين الرفاق". وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم "وجاءه رجل ومعه كبة من شعر، فقال: أخذت هذه لأصلح بردعه لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك.

فقال الرجل: أما إذا بلغت، فلا أرب لي فيها، ونبذها". فهذا يدل على جواز هبة المشاع فيما يحتمل القسمة. قيل له: أما الحديث الأول: فعلى وجه الإباحة لا الهبة، وذلك يجوز عندنا. وأما قوله في الحديث الثاني، فإنما جعل له نصيبه من الغنيمة، ولا خلاف أن هبة النصيب من الغنيمة لا تجوز قبل القسمة، وإنما مراده: أنه سأهب لك ما يحصل لي منها بالقسمة، وأسأل بني عبد المطلب أن يهبوا لك أنصباءهم. مسألة: [هبة الدار أو الصدقة بها على رجلين] قال أبو جعفر: (ومن وهب أو تصدق بدار على رجلين: لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة). وذلك لأن كل واحد منهما لا يصح له الملك بالهبة إلا بالقبض، وقبض المشاع فيما يحتمل القسمة لا يصح بالهبة، ألا ترى أنه لو وهب لكل واحد منهما نصف دينار على حدة، لم تصح هبته، ولم يملك بها، كذلك إذا وهب لهما في صفقة واحدة.

وليست الهبة في هذا كالرهن، لو رهن دارا من رجلين: جاز في قولهم جميعًا؛ لأن جميعها رهن لهذا، وجميعها رهن لهذا، ألا ترى أنه لو قضى أحدهما دينه: كان للآخر حبس جميعها بدينه، ولا يجوز أن يقع الملك في الجميع لكل واحد منهما. ولو وهب رجلان لرجل دارًا: جاز في قولهم جميعًا، وذلك لأن الهبة لما كانت صحتها متعلقة بالقبض، وحصل قبض محوزًا مقسومًا: جازت، ولم يعتبر الواهبان. *وجمع أبو جعفر بين الهبة والصدقة في السؤال، ثم أجاب فيهما بجواب واحد، وهو مختلف إذا كانت الصدقة على فقيرين؛ لأنه لا خلاف بينهم في جوازها إذا كانت على فقيرين وإن كانت فيما يقسم، وإنما الصدقة بمنزلة الهبة إذا كانت على عبدين، فيكون على الخلاف. وإنما اختلف حكم الهبة والصدقة على الفقير فيما وصفنا على قول أبي حنيفة، من قبل أن الصدقة مخرجها القرب، فهي حق لله تعالى، فلما كان الذي له الحق واحدًا: لم تمنع صحتها بقبض الرجلين، كرجل وهب لرجل، ووكل الموهوب له رجلين بالقبض: فيصح. * (وأما أبو يوسف ومحمد: فإنهما أجازا الهبة من رجلين فيما يقسم إذا كانت صفقة واحدة).

لأنهما عقد واحد في محوز مقسوم، ولا يبطلها كون الموهوب له اثنين. ألا ترى أنه لو باع عبدين من رجلين بثمن واحد: جاز، ولم يعتبر ما لكل واحد منهما من الحصة في العقد، ولو اعتبرت الحصة: بطل العقد، وكذلك ما وصفنا. ولو وهبها لرجلين لكل واحد منهما نصفها: لم يجز أيضًا في قول أبي حنيفة، وجاز في قولهما. وإنما جاز على قولهما وإن سمى لكل واحد مهما نصفها؛ لأن ما ذكره من تسمية النصف هو الذي أوجبه العقد، فتسميته وتركه سواء. ولو قال: قد وهبت لكما هذه الدار ثلثها لهذا، وثلثيها لهذا: لم يجز في قول أبي يوسف؛ لأن ذلك بمنزلة، إذ ليست القسمة على الثلثين والثلث من موجب العقد الأول. وفي قول محمد هي جائزة، لأن ذكره الثلثين والثلث، لا يخرج العقد من أن يكون صفقة واحدة، ألا ترى أنه لو قال لرجلين: قد بعتكما هذا العبد بألف درهم، ثلثه لهذا، وثلثاه للآخر: أن ذلك صفقة واحدة، كذلك ما وصفنا.

كتاب اللقطة والآبق

كتاب اللقطة والآبق مسألة: [حكم أخذ اللقطة، وما ينبغي على الملتقط] قال أبو جعفر: (وإذا وجد الرجل لقطة، فينبغي له أن يعرف عفاصها، ووكاءها، وكيلها، وعددها، ووزنها، وأن يشهد أنه إنما يأخذها ليعرفها، ثم يعرفها بعد ذلك سنة في الأسواق، وعلى أبواب المساجد، فإن جاء صاحبها، واستحقها ببينة أقامها عليها: دفعها إليه، وإلا: تصدق بها، ولم يأكلها، إلا أن تكون ذا حاجة إليها). قال أحمد: هذا الفصل يشتمل على مسائل: منها: أن له أخذ اللقطة. ومنها: معرفة العفاص: أي الوعاء، والوكاء، والوزن. ومنها: تعريفها حولًا. ومنها: أن مدعيها لا يستحقها إلا بالبينة. ومننها: أنه لا يأكلها إذا كان غنيًا.

[أدلة إباحة اللقطة] وأما وجه إباحة أخذها: فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل". فأباح أخذها، وأمر بالإشهاد عليها. ومنها: "حديث أبي بن كعب أنه وجد صرة فيها مائة دينار، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتعريفها، فلما لم يجد من يعرفها قال: احفظ عددها ووكاءها". وروى زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. ولم يذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن على الملتقط أخذها، فدلت على أن لواجدها التعريف والرد على صاحبها. ويدل عليه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ضالة الغنم: لك، أو لأخيك، أو للذئب، خذها".

* فأما وجه ما روى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤوي الضالة إلا ضال": فهو على أنه إذا أراد أخذها لنفسه، أو ليأكلها وهو غني عنها، بدلالة الأخبار الموجبة لإباحة أخذها. [معرفة أوصاف اللقطة ودفع اللقطة بذكرها] وأما قوله: فليعرف عفاصها ووكاءها: فإنما روى أبي بن كعب وزيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فليعرف عفاصها ووكاءها". وقد تنازع أهل العلم في معنى أمره عليه الصلاة والسلام بمعرفة العفاص والوكاء. فقال قائلون: المعنى فيه: أن يعرف على هذا الوجه، ليتميز من ماله، ولا يختلط به. وقال آخرون: لكي إن جاء من عرف صفتها ووزنها، [فلا] يمنع الملتقط دفعها إليه، وإن لم يستحقها من جهة الحكم. وقال آخرون: هذا يدل على أن من جاء ووصف صفتها: استحقها

بالصفة وغن لم تقم له بينة، وهو قول ابن أنس. والوجهان الأولان صحيحان عندنا، والوجه الثالث فيه خلل، وذلك لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه". واسم المدعي لازم [لطالب] اللقطة، فلا يصدق عليها إلا ببينة؛ والصفة ليست ببينة، لأن رجلًا لو ادعى شيئًا في يد غيره: لم تكن صفته إياه موجبة له استحقاقه، ولا كانت الصفة ببينة. وكذلك لو تنازع رجلان شيئًا في أيديهما، ووصفه أحدهما بصفة لم يصفه بها الآخر، لم يجز أن يستحقه الواصف دون الآخر. وقال النبي صلى الله عليه وسلم للمدعي الذي خاصم صاحبه في أرض ادعاها: "شاهداك أو يمينه، ليس لك إلا ذلك". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أعطي الناس بدعاويهم: لادعى ناس دماء ناس، وأموالهم، ولكن البينة على المدعي". فمنع أن يستحق أحد بقوله شيئًا.

* فإن احتجوا بما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد وربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: عرفها سنة، ثم أعرف وكاءها وعفاصها، فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها، فادفعها إليه. قال: وقال حماد أيضًا: عن عبيد الله بن عمر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وبما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: ثنا حماد قال: حدثنا سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في اللقطة، وذكر الحديث، وقال: "فإن جاء صاحبها، فعرف عددها ووكاءها، فادفعها إليه". * قيل له: لفظ الحديث في الأصل: "فإن جاء صاحبها". وفي بعضها: "فإن جاء ربها، فادفعها إليه". وقد روى جماعة عن ربيعة عن شيوخ حماد بن سلمة الذين روى

عنهم، فلم يذكروا فيه: "فعرف عفاصها، فأدفعها إليه"، وإنما غلط فيه حماد ين سلمة على ما قيل. حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: هذه الزيادة التي زاد حماد بن سلمة في حديث سلمة بن كهيل ويحيى بن سعيد وربيعة وعبيد الله: "إن جاء صاحبها فعرف عفاصها ووكاءها"، وأهل النقل لا يشكون في كثرة غلط حماد بن سلمة. ورواه أيضًا عقبة بن سويد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه: "فإن جاء صاحبها فادفعها إليه"، ولم يقل: "فعرف عفاصها". وعلى أنه لو ثبت لفظ حديث حماد بن سلمة: كانت فائدته إباحة دفعها إليه بعد الصفة، لا على جهة استحقاقها من جهة الحكم، لدلائل الشبه والأصول. فإن قيل: قد اعتبرتم العلامة في مواضع المستأجر والمؤجر وإذا اختلفا في أبواب، أو جذوع موضوعة في الدار، أنها إن كانت مشبهة للجذوع

التي في بناء الدار لو كان أحد مصراعي باب مركب في بيت من الدار، كان القول قول المؤجر، وإن كان مخالفًا لما في الدار، فالقول قول المستأجر. وقلتم في اللقط إذا ادعاه رجلان، ووصف أحدهما علامة في جسده، فصاحب العلامة أولى به، فهلا حكمتم بالعلامة في اللقطة. قيل له: أما مسألة المستأجر والمؤجر واختلافهما، فليست من مسألتنا في شيء؛ لأنه لم يصف هناك أحدهما علامة استحق بها شيئًا، وإنما لهما جميعًا يد في الدار. وكان اشتباه جذوع الدار، ومصراعي الباب، دلالة على تأكيد أحدهما، كما في الزوجين إذا اختلفا في متاع البيت، فإنما يعتبر من هذا المعنى أيضًا في المواضع التي تكون يد كل واحد منهما ثابتة في جميع الشيء المدعى من جهة الحكم، فأما إن كان في يد كل واحد منهما نصفه، فهذا الاعتبار ساقط. وأما مسألة اللقطة، فإنما يريد المدعي استحقاق يد من هي في يده بالعلامة والصفة، وذلك غير جائز بدلالة السنة، واتفاق الجميع على أن المدعي لا يستحق بالعلامة شيئًا في سائر المواضع. وأما مسألة اللقيط، فغير مشبهة لما ذكرنا أيضًا؛ لأن المدعي لنسب اللقيط مصدق في دعوته لو انفرد بها من غير بينة ولا علامة، فإذا تنازعه رجلان، واختص أحدهما بذكر العلامة: كان ذلك مؤكدًا لدعوته، وجاعلًا له مزية ليست للآخر، فلذلك اختلفا.

وإنما أثبتنا حكم العلامة والصفة في تأكيد الدعوة، لا في إثبات النسب؛ لأن النسب يثبت بنفس الدعوة من غير ذكر علامة. فصل: [تعريف اللقطة حولاً] وأما التعريف، فلما ذكر في سائر الأخبار التي قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعريفها حولاً. *وإنما قلنا إن الملتقط إذا كان غنياً: لم يأكل منها، لقول الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، وهذه أمانة قد حصلت في يده مأمور بردها، قلا يجوز له أكلها؛ لأن أكله إياها ينافي الرد. فإن قبل: والصدقة بها تنافي الرد، فينبغي أن لا يتصدق بها. قيل له: كذلك يقتضيه الظاهر، إلا أن خصصناه بالاتفاق. ويدل عليه قوله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم}. [الانتفاع باللقطة] واللقطة مال الغير، فلا يجوز لملتقطٍ أكلها إلا بالتراضي، وأجزنا للمتصدق عليه أكلها بالاتفاق، وخصصناه من الآية. ويدل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئٍ

مسلمٍ إلا بطيبة من نفسه". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى ترد". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحلبن أحدكم ماشية غيره بغير إذنه". وقال مطرف بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ضالة المؤمن حرق النار". وروى جرير بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤوي الضالة إلا ضال". ومعلوم أن المراد: إذا أخذها لنفسه وهو غني عنها، بدلالة اتفاق الجميع على جواز أخذها للتعريف والرد. فإن قيل: اللقطة لا تسمى ضالة. قيل له: ليس كذلك؛ لأن في حديث عبد الله بن الشخير قال: (قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم في نفرٍ فقال: ألا أحملكم؟

قلنا: نجد في الطريق هوامي الإبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضالة المؤمن حرق النار". فأجاب عن الإبل، فذكر الضالة، فدل أن الاسم يتناولها. ويدل عليه ما روي أن قلادة لعائشة ضلت. ويدل عليه حديث عياض بن حمار المجاشعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وجد لقطة، فليشهد ذوي عدل، ولا يكتم ولا يغيب، فإن جاء صاحبها، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء". وفيه وجهان من الدلالة على قولنا: أحدهما: أنه نهى عن الكتمان والتغييب، وذلك يمنع استهلاك العين. والثاني: قوله: وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء: وهذا الاسم إنما يتناول المال الذي سبيله الصدقة، والقربة إلى الله به. ويدل عليه ما روي في الحديث: "إذا بلغ بنو مروان ثلاثين رجلًا اتخذوا مال الله دولًا، وعباد الله خولًا".

وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار قال: حدثنا خالد بن يوسف قال: حدثنا أبي قال: حدثنا زياد بن سعد قال: حدثني سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسئل عن اللقطة: "لا تحل اللقطة، من التقط شيئًا: فليعرفه سنة، فإن جاء صاحبه: فليرده إليه، فإن لم يأت: فليتصدق به، فإن جاء: فليخبره بين الأجر، وبين الذي له". وقوله: لا تحل اللقطة: يمنع الملتقط الانتفاع بها في حال الغنى والفقر، إلا أن جوزنا له ذلك في حال الفقر، للاتفاق؛ لأنه أمر بالصدقة. وقوله: فليتصدق به: ينافي أكل الملتقط إياه إن كان غنيًا. ويدل عليه حديث: أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة فقال: لولا أن تكوني من الصدقة لأكلتك". وهذا يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون شأنها الصدقة؛ لأنها لقطة،

ويجوز كونها من بين الصدقة. وأي الوجهين كان: منع الغني الانتفاع به؛ لأن الغني لا يحل له أكلها إن كانت من الصدقة، ولا إذا كان شأنها الصدقة. وأظهر الوجهين فيه: أن يكون أجاز: شأنها أنها صدقة، من حيث كانت لقطة، كقوله تعالى: {لولا أن من الله علينا لخسف بنا}، وقوله تعالى: {فلولا أنه كان من المسبحين}، فيه تحقيق الصفة، كذلك ما وصفنا. * فإن قال قائل: في حديث أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له بعد تعريفها ثلاثة أحوال: "احفط عددها ووكاءها ووعاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها". وفي حديث ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: "عرفها سنة، ثم اعرف عفاصها ووكاءها، ثم استنفق بها، فإن جاء

ربها، فأدها. فقال: يا رسول الله! فضالة الغنم؟ فقال: خذها فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب. قال: يا رسول الله! فضالة الإبل؟ قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، وقال: ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها حتى يأتيها ربها". وفي حديث عبد الله بن يزيد عن أبيه عن يزيد بن المنبعث عن زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث ربيعة قال: وسئل عن اللقطة، فقال: تعرفها حولًا، فإن جاء صاحبها دفعتها إليه، وإلا عرفت وكاءها وعفاصها، ثم أفضها في مالك، فإن جاء صاحبها دفعتها إليه". ورواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث، وقال: "فإن جاء صاحبها فادفعها إليه، وإلا فهي لك". وفي حديث عقبة بن سويد عن أبي عن النبي عليه الصلاة والسلام في

اللقطة قال: "فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها". وروى بكير الطائي عن أبي البختري قال: "وجد علي رضي الله عنه دينارًا. قال علي: فاشتريت به حنطة، ثم أخبرت النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: رزق سيق إليك، فأكل وأكلنا. ثم جاء صاحب الدينار، فقضاه النبي صلى الله عليه وسلم". والنبي وعلي عليهما السلام لم يكونا ممكن تحل لهما الصدقة، وقد أكلا منها. وجميع هذه الأخبار تدل على أن لواجد اللقطة الانتفاع بها، وأكلها بعد التعريف وإن كان غنيًا. * قيل له: أما قوله في حديث أبي: فاستمتع بها: فلا دلالة فيه على موضع الخلاف بيننا؛ لأن أبيا كان فقيرًا. والدليل عليه: "أن أبا طلحة لما جعل أرضًا له لله، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اجعلها في فقراء قرابتك، فجعلها في حسان وأبي بن كعب". - وأما قوله في حديث زيد بن خالد الجهني: ثم استنفق بها: فإن معناها في الصدقة؛ لأن الصدقة تسمى نفقة، قال الله تعالى: {وأنفقوا من ما

رزقكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت}. وقال: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، وإنما المراد الصدقة. وقوله: أستنفق بها: معناها: تصدق بها، والله أعلم. وأيضًا: يحتمل أن يكون الرجل كان فقيرًا، يجوز له أكل الصدقة. - وأما لفظ عبد الله بن يزيد عن أبيه وقوله: أفضها في مالك: فلا دلالة فيه على جواز الأكل، وإنما فيه الأمر بحفظها، وإجرائها فيما بين ماله في الموضع الذي يحوز فيه ماله. - وأما قوله في حديث حماد بن سلمة: فهو لك: فإن حمل على حقيقة لفظه، لوجب أن يكون مالكاً لها، ولا خلاف أن الملتقط لا يملكها، فإذا معناه: لك إمساكها، كما "قال عبد الله بن رواحة لليهود حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم خارصًا: إن شئتم فلكم، وإن شئتم لي". وإنما أضافه إلى نفسه، لا على جهة أنه يملك استهلاك الثمر، والانتفاع بها، لكنه لما كان هو المتولي لخرصها، والقيام فيها: جاز أن يقال: وإن شئتم فلي.

- وأما قوله في حديث عقبة بن سويد عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم: فإن جاء صاحبها، وإلا فشأنك بها: فإنه لا يوجب جواز الأكل والانتفاع بها، لاحتمال أن يكون شأنك بها في الإمساك أو الصدقة، ويحتمل أن يكون فقيرًا. - وأما حديث علي: فإن أصله ما حدثنا محمد بن بكر قال: ثنا أبو داود قال: ثنا جعفر بن مسافر قال: ثنا ابن أبي فديك قال: ثنا موسى بن يعقوب الزمعي عن أبي حازم عن سهل بن سعد أخبره "أن عليًا دخل على فاطمة، والحسين والحسن يبكيان، فقال: ما يبكيهما؟ قالت: الجوع. فخرج علي فوجد دينارًا بالسوق، فجاء إلى فاطمة فأخبرها، فقالت: اذهب إلى فلانٍ اليهودي، فخذ لنا دقيقاً، فقال اليهودي: أنت ختن هذا الذي يزعم أنه رسول الله؟ قال: نعم. قال: فخذ دينارك، ولك الدقيق. فخر علي رضي الله عنه، فجاء فاطمة فأخبرها. فقالت: اذهب إلى فلانٍ الجزار، فخذ لنا بدرهمٍ لحمًا، فذهب فرهن الدينار بدرهم لحمًا، فذهب فرهن الدينار بدرهم لحمًا، فجاء به، فعجنت وخبزت، وأرسلت إلى أبيها، فجاءهم فقالت: يا رسول الله! أذكر لك، فإن رأيته لنا حلالًا أكلنا، وأكلت معنا، من شأنه كذا وكذا.

فقال: كلوا بسم الله، فأكلوا منه، فبينا هم مكانهم، إذا غلام ينشد الله والإسلام الدينار، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعي له، فسأله، فقال: سقط مني في السوق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا علي! اذهب إلى الجزار، فقل له: إن رسول الله يقول لك: أرسل بالدينار، وإن درهمك علي، فأرسل به، فدفعه رسول الله إليه". فإذا كان هذا أصل الحديث، فلا دلالة فيه لمخالفنا؛ لأنه اشترى الدقيق بدينار في ذمته، وأما اللحم فإنما أخذه الجزار على وجه الرهن، ولا دلالة فيه على جواز الاستهلاك للعين. ألا ترى أن للوصي وللأب أن يرهنا مال الصغير بدين عليهما، ولا يدل ذلك على أن لهما استهلاك العين لأنفسهما. وكما كان له أن يودعه غيره بغير ضمان يلحقه، كذلك الرهن، لأنه يصير مضمونًا عليه. * ويدل على صحة قولنا من جهة النظر: اتفاق الجميع على أنه ليس للملتقط أن يعطيه عينًا غيره، فدل على أنه لا يجوز له إذا كان عينًا

الانتفاع به؛ لأنه لو جاز له ذلك، لجاز لغيره من الأغنياء مثله. فصل: [ضمان اللقطة] وإنما قلنا إذا تصدق بها، أن صاحبه مخير بين الأجر والضمان، لحديث أبي هريرة الذي قدمناه، ولا خلاف مع ذلك بين أهل العلم فيه فيما أعلمه. وكذلك يضمن المساكين أيضًا إن عرفهم بأعيانهم؛ لأنهم أخذوا ماله بغير إذنه، كما له تضمين الملتقط إذا سلم ماله إليهم بغير إذنه. مسألة: [ضمان اللقطة حال ضياعها] قال أبو جعفر: (فإن ضاعت اللقطة في يد الملتقط، فإن كان أشهد حين التقاطها أنه أخذها للتعريف: فلا ضمان عليه، فإن لم يشهد: فهو ضامن في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا ضمان عليه فيها بحال بعد أن يحلف بالله: ما أخذها إلا لتعريفها). وجه قول أبي حنيفة: ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا خالد الطحان عن خالد الحذاء عن أبي العلاء- يعني ابن الشخير- عن مطرف بن عبد الله عن عياض بن حمار المجاشعي قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: "من وجد لقطة، فليشهد ذوي عدل، ولا يكتم، ولا يغيب، فإن

وجد صاحبها، فليردها عليه، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء". فأمره بالإشهاد عليها عند أخذها، فصار ذلك شرطًا في إباحة الأخذ، فلا يجوز له أخذها إلا على هذا الشرط، فإذا أخذها من غير الوجه الذي أبيح له فيه الأخذ: ضمن؛ لأنه غاصب، لأخذه ما لم يكن له أخذه. ويدل عليه أيضًا: قوله: ولا يكتم، ولا يغيب: وفي تركه إشهادها، والإشهاد عليها: كتمانها وتغييبها، وذلك يوجب ضمانها من حيث أمسكها على وجه لم يؤمر فيه بإمساكها. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلمٍ إلا بطيبة من نفسه". وظاهره يمنع أخذها في جميع الأحوال، إلا حال تقوم الدلالة عليها، وهي حال الإشهاد، بدلالة خبر عياض بن حمار. ويدل عليه حديث عبد الله بن الشخير عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ضالة المؤمن حرق النار"، وقوله "لا يؤوي الضالة إلا ضال"، وذلك يمنع أخذها، إلا أن يقوم الدلالة عليه، وقد قامت الدلالة على حال والإشهاد في إباحة الأخذ.

وأيضًا: فمن أخذ شيء غيره، فالظاهر أنه أخذه لنفسه، ومن أخذ شيئا لنفسه: فعليه ضمانه، إلا أن يأخذه بإذن مالكه، ومن حيث أبيح له أخذه. * ووجه قول أبي يوسف ومحمد: أنه لما كان جائزًا له الأخذ، لم يختلف فيه حكم الإشهاد وغيره في باب سقوط الضمان عنه، إلا أن يكون عزمه أخذها لنفسه، فيضمنها، ويستحلف عليها، والقول فيه قوله أنه أخذها للرد. مسألة: [الإنفاق على ضوال الحيوانات] قال: (وإن وجد شاًة أو بعيرًا أو نحوهما، فأنفق عليه: فهو متطوع، كمن جاء إلى دابة رجلٍ فعلفها بغير أمر مالكها: فلا ضمان له على صاحبها. فإن أنفق عليها بأمر قاضٍ: كان ما أنفق دينًا فيها، فإن قضاه صاحبها، وإلا يبعث له فيها). لأن تصرف القاضي جائز على الغائب في مثل ذلك، لما فيه حفظ ماله، فصار أنه أنفقها بأمره. وإنما كانت النفقة دينًا فيها؛ لأنه أمر بها على وجه الاحتياط لصاحبها في حفظ ماله، ليسلم له ماله، ولا يتلف، فيجعله دينًا فيها، كي إن تلفت لم يلحقه ضمان من غير حصول نفع له. * (فإن رأى القاضي بيعها أو إجارتها: جاز على حسب ما يرى من المصلحة). [أخذ ضالة الإبل] (ومن وجد بعيرًا ضالًا، فالأفضل له أخذه، ويعرفه، لما فيه من

إيصال ذي الحق إلى حقه). قال الله: {وتعاونوا على البر والتقوى}. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ضالة المؤمن حرق النار"، وقال: "لا يؤوي الضالة إلا ضال". قيل له: إذا أراد أخذها لنفسه، لا للرد. فإن قيل: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإبل فقال: ما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر". قيل له: هذا في الموضع الذي لا يخشى ضياعه على صاحبه. مسألة: [الجعل لراد العبد الآبق] قال: (ومن وجد عبدًا آبقًا خارج المصر على مسيرة ثلاثة، فرده: فله جعله أربعون درهمًا). قال أحمد: القياس أن لا شيء له، كمان لو رد بعيرًا أو بقرة، إلا أن الصحابة اتفقت على لزوم الجعل على الآبق، واختلفوا في مقداره. وإنما جاء اختلافهم في المقدار عندنا، من أجل اختلاف المسافة في

القرب والبعد، فمن قال بأربعين، فهو على مسيرة ثلاثة، ومن قال بأقل، فعلى قدر المسافة. * قال: (فإن كان العبد لا يساوي أربعين درهمًا، فللذي جاء به قيمته إلا درهمًا، في قول أبي حنيفة). وذلك إنما جعل له الجعل ترغيبًا للناس في رد الأباق، فيؤدي ذلك إلى حفظ عبيدهم، فإذا استغرقت القيمة الجعل: لم يجز أن يوجب عليه مثل القيمة، إذ لا نفع للمولى حينئذ فيه. * وأبو يوسف ومحمد قالا: له أربعون درهمًا، قلت قيمته أم كثرت؛ لأن الصحابة حين أوجبت ذلك، لم تفرق بين قليل القيمة وكثيرها. [مسألة:] (وحكم الآبق في النفقة وفي الهلاك وغيره، حكم اللقطة، على ما بينًا).

كتاب اللقيط

كتاب اللقيط مسألة: [ادعاء ذمي بنوة لقيط في قرية ليس فيها مسلم] قال: (وإذا وجد اللقيط في قرية ليس فيها مسلم، فادعاه رجل ذمي أنه ابنه: فإنه يصدق، وهو على دينه). وذلك أن الظاهر من حال أهل القرية أنهم ذميون، والقرية في أيديهم، فيصدق المدعي منهم على دعوة اللقيط الموجود فيها، كما يصدق المسلم في دعوة اللقيط الموجود في أمصار المسلمين. وإنما كان اللقيط على دينه؛ لأن الحكم للغالب، ألا ترى أن الغالب من أهل الحرب لما كان الكفر، جاز الحكم على كل من وجدناه هناك بالكفر، وإن لم يخلو من أن يكون فيهم مسلم تاجر، أو أسير، أو غيره. وأيضًا: ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه": يقتضي إلحاق اللقيط بحكمه. مسألة: [ادعاء ذمي بنوة لقيط وجد في مصرٍ إسلامي] قال: (وإن كان وجد في مصرٍ من أمصار المسلمين، وادعاه ذمي: لم يصدق في القياس). لأن الظاهر أن اللقيط مسلم، إذ كان من وجدناه في مصرٍ من أمصار

المسلمين فالواجب له أن يحكم له بحكم الإسلام حتى يتبين غيره، فلما كان مسلماً لم يصدق الذمي على الدعوة؛ لأن حكم ولد الذمي أن يكون ذميًا. * (إلا أنه استحسن فصدقه على الدعوة، وجعله مسلمًا). وذلك لأن تحت دعوته شيئين: أحدهما: النسب، وفيه نفع للصبي، للزوم نفقته، وإمساكه، وغيرها. والثاني: فيه ضرر عليه، وهو أن يكون كافرًا إذا كان أبوه كافرًا، فصدقناه على حق الصبي، ولم نصدقه فيما فيه عليه ضرر، إذ كان لا يتوصل إلى صحة النسب منه إلا من جهته. وقد يكون ابن الذمي مسلمًا بإسلام أمه. وإن كان الأب كافرًا، فلم يكن في إثبات النسب منه ما يوجب كون ولده كافرًا لا محالة، إذ قد يكون ولد الكافر مسلمًا. مسألة: [ادعاء العبد بنوة لقيط] (وإن ادعى عبد أنه ابنه: لم يصدق)، وذلك (لأن اللقيط حر). وإنما كان اللقيط حرًا، من قبل أن الأصل في الناس الحرية، والرق طارئ عليها، فصارت الحرية هي الظاهرة، والحكم أبدًا للظاهر حتى تقوم الدلالة على خلافه. مسألة: [ادعاء المرأة بنوة لقيط] قال: (وإن ادعته امرأة أنه ابنها: لما تصدق حتى تشهد امرأة على الولادة).

وذلك أن الوصول إلى صحة دعواها يمكن بشهادة القابلة، ولا تصدق إلا ببينة، وبنتها هي المرأة التي يجوز لما المشاهدة للولاة. وللكلام في جواز قبول شهادة المرأة الواحدة على الولادة موضع غير هذا. وليست المرأة في هذا كالرجل في قبول دعوته لنسب اللقيط، وذلك لأن الأصل في ذلك أن كل إنسان فإنما يكلف البينة على دعواه على حسب الإمكان، ألا ترى أن المرأة تصدق على الحيض بغير بينة؛ لأنه لا سبيل إلى معرفته إلا من جهتها. ولا خلاف بين أهل العلم في جواز شهادة النساء وحدهن في الولادة؛ لأن الرجل لا يجوز لهم حضور الولادة، فقلنا على هذا الأصل: لما كان سبيل إثبات النسب من جهته قوله، وجب أن يصير قوله فيه كالبينة، كما كان قول المرأة في تصديقها على الحيض كالبينة، إذ لا يتوصل إليه إلا من جهتها، كذلك دعوة الرجل. ومن أجل ذلك قلنا في الرجل: إذا أقر بابنٍ، وصدقه فيه: ثبت النسب، ولو أقرت المرأة بابنٍ، وصدقها: لم يثبت النسب بينهما إلا بامرأة تشهد على الولادة. وقال أصاحبنا: القياس في اللقيط أن لا يصدق مدعيه على النسب إلا سنة، وإنما استحسنوا في جواز دعوته.

وقالوا فيمن ادعى صبيًا في يديه أنه ابنه: أنه مصدق فيه، وهو القياس عندهم وليس فيه استحسان. وإنما جهة القياس في مسألة اللقيط: أن للملتقط يدًا عل اللقيط، لو أراد غيره أن ينتزعه منه: لم يكن له ذلك، وكان الملتقط أولى بإمساكه، فكان القياس أن لا يصدق على الدعوة، لما فيه من إزالة يد الملتقط، إلا أنه ترك القياس فيه، واستحسن في جواز دعوته؛ لأن يد الملتقط غير مستحقة، لو رأى القاضي إزالتها: كان له ذلك، وللصبي نفع في إثبات النسب، لما يثبت له من حق الإمساك والحضانة والنفقة. فصل: [ادعاء المرأة بنوة لقيطٍ أنه ابنها من زوجها] قال: (وإن ادعت أنه ابنها من زوجٍ، وصدقها الزوج: كان ابنهما). وذلك لأن النسب قد ثبت من الزوج بدعوته، وصار الصبي في يده، وهي فراش له، فصار الفراش شاهدًا لها بثبوت النسب، لاعتراف الزوج بأنه ابنها، كرجل وامرأة في أيديهما صبي، فادعيا أنه ابنهما: فيصدقان عليه. مسألة: [ادعاء رجلين بنوة لقيط] قال: (وإن ادعاه رجلان، كل واحدٍ أنه ابنه، ووصف أحدهما علاماتٍ في جسده: فصاحب العلامة أولى به). من قبل أن كل واحد منهما لو انفرد كان قوله مقبولًا في النسب بغير بينة، فصارت العلامة مؤكدة لدعوة أحدهما، ودلالة على صدقة، وأنه كان في يده بدءًا. وقال الله تعالى: {إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من

الكاذبين} إلى آخر القصة، فحكم بصدق الصادق منهما بالعلامة الدالة على صدقه. وليس ذلك كدعوى رجلين عبدًا في يدي غيرهما، ووصف أحدهما علامة في جسده: فلا يحكم له به، ولا يستحق بالعلامة شيئًا؛ لأن العلامة إنما تدل على يد كانت متقدمة، وكون يدٍ كانت: لا يستحق به شيئًا. ألا ترى أنه لو أقام البينة أنه كان في يده: لا يلتفت إليها. ولو أقام أحد مدعيي نسب اللقيط البينة على أنه كان في يده قبل ذلك: استحقه دون الآخر، كذلك العلامة لما كانت دلالة على تقدم يده، كان مصدقًا فيه، وصار أولى به من الآخر. [مسألة:] قال: (ولو لم يصف واحد منهما شيئًا: كان ابنهما جميعًا). لتساويهما في الدعوة. وقد روي عن علي وعمر في رجلين وقعا على امرأة في طهر واحد، فادعيا الولد: أنه ابنهما، وقد بينا هذه المسألة في كتاب الدعوى

من هذا الكتاب. مسألة: [إنفاق الملتقط على اللقيط] قال: (وما أنفق الملتقط على اللقيط: فهو متطوع فيه). على ما بينا في اللقطة.

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض مسألة: [القاتل لا يرث] قال أبو جعفر: (ولا يرث القاتل من المقتول مالًا، ولا دبة). وذلك لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ميراث لقاتل". والدية ميراث عن المقتول، فهي داخلة في العموم. والدليل على أن الدية موروثة عن المقتول: أنه تقضى منها ديونه، وتنفذ وصاياه، وأنها بعد ذلك مقسومة بين الورثة على سهام المواريث، ومن أجل ذلك ورثت المرأة منها، كما ترث سائر ماله. وقد روى سعيد بن المسيب "أن عمر بن الخطاب سأل الناس عن ميراث المرأة من دية زوجها، فقام الضحاك بن سفيان فقال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة أشيم الضبابي أن أورثها من دية زوجها، فورث عمر المرأة من دية زوجها".

مسألة: قال: (ولا يرث العبد، ولا يورث). لأنه لا يملك، ولا خلاف في ذلك. مسألة: قال: (ولا ميراث لمرتد)، ولا خلاف فيه نعلمه. مسألة: [حكم مال المرتد الذي اكتسبه قبل ردته] قال: (وإذا مات المرتد على ردته، أو قتل: فماله لورثته من المسلمين على فرائض الله). قال أحمد: "روي عن علي أنه قتل المستورد حين ارتد، وجعل ميراثه لورثته من المسلمين". ويحتج فيه بعموم قول الله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل

حظ الأنثيين}. وقوله تعالى: {إن امرؤا هلك ليس له، ولد وله، أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد}. ونحوها من الآي الموجبة للمواريث فإن قال قائل: يخصه حديث أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: "لا يرث المسلم الكافر". قيل له: أصل الحديث: "لا يتوارث أهل ملتين، لا يرث المسلم الكافر". كذا رواه جماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان كذلك، ولم يكن للمرتد ملة يقر عليها، إذ ليست الردة بملة واحدة، لم يتناوله الخبر. ألا ترى أن المرتد لا يرث من أهل الدين الذي انتقل إليه. فإن قيل: قد روي في أخبارٍ أخر مطلقة: "لا يرث المسلم الكافر". من غير ذكر الملة. قيل له: هو خبر واحد، ساقه بعضهم على وجهه، وحذف بعضهم

بعض اللفظ. وأيضًا: فإن أبا حنيفة لا يورث منه وهو كافر؛ لأن من قوله: أن ملكه يزول بالردة في آخر جزء من أجزاء الإسلام، فإذا مات: كانت الردة هي الموجبة لنقل الملك، فإنما ورثه عقيب الإسلام بلا فصل، كما يورث الميت عقيب الحياة بلا فصل. فإن قيل: فإذا لحق بدار الحرب، فقد ورثته وهو حي. قيل له: لأنه صار في حكم الميت، لانقطاع حقوقه عنا بلحاقه بدار الحرب، وانقطاع العصمة بيننا وبينه، كما قال مخالفنا إنه يزول ملكه، ويجعل في بيت المال. وكما جاز إزالة الملك باللحاق ونقله إلى جماعة المسلمين في حال حياته، كذلك في نقله إلى الوارث. فإن قيل: فلم يخل في ذلك من أن تكون قد ورثته حيًا. قيل له: وما الذي يمنع منه؟ وقد قال الله تعالى: {وأورثكم أرضهم وديارهم}، وكان منهم قوم أحياء. * ومن جهة النظر: إن من لم يورث المرتد، فإنه يجعل ماله لبيت مال المسلمين، ويستحقه المسلمون عنده لأجل إسلامهم، والوارث معه إسلام، وقرب نسب، فقد اجتمع له سببان، فينبغي أن يكون أولى من ذي السبب الواحد. كما أن الإخوة من الأب والأم أولى بالميراث من الإخوة للأب؛

لأنهم ذوو سببين، وهؤلاء ذوو سبب واحد. مسألة: [حكم مال المرتد الذي اكتسبه حال ردته] وأما ما اكتسبه المرتد في حال ردته: فهو عند أبي حنيفة لبيت المال؛ لأنه اكتسبه في حال إباحة دمه، فلم يثبت له فيه ملك صحيح، فصار بمنزلة الحربي لما كان مباح الدم، لم يكن له ملك صحيح، وكان ماله لبيت المال، كذلك كسب المرتد. وأما ما اكتسبه في حال الإسلام: فقد كان ملكه صحيحًا فيه، ثم زال بالردة، فكانت الورثة أولى به؛ لما ذكرناه. وأيضًا: فإن المال الذي قد كان له في حال الإسلام، لما زال ملكه عنه بالردة، فلا يخلو من أن يستحقه بيت المال على وجه الغنيمة أو الميراث، ولا يجوز أن يستحقه على وجه الغنيمة؛ لأن مال المسلم لا يغنم في دار الإسلام، وبعد الردة ليس هو مالًا للمرتد في قول أبي حنيفة. ألا ترى أنه لا يجيز تصرفه فيه إذا مات أو قتل، فإذا لما يصح أن يغنم، وكان بيت المال إنما كان يأخذه على جهة الميراث، فلا جائز أن يستحقه مع وجود ذوي السهام والعصبات من الوارث. مسألة: [ميراث أهل الذمة من بعضهم] (وأهل الذمة يرث بعضهم بعضاً وإن اختلفت مللهم؛ لأن الكفر ملة واحدة). فيما يتعلق بهم فيما بينهم من أحكامهم. والدليل على ذلك: قوله تعالى: {لكم دينكم ولى دين}، وقوله:

{قل يأيها الكافرون}: خطاب لسائر الكفار، فجعل مللهم كلها دين واحدًا على اختلافهم، كما جعل الإسلام دينًا واحدًا. ويدل عليه قوله: "لا يتوارث أهل ملتين، لا يرث المسلم كافر"، فجعل الكفر كله ملة، والإسلام ملة. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكنة: " الناس حيز، ونحن حيز"، يعني في الدين. وأيضًا: فإن أهل الكفر وإن اختلفوا، فليس يتعلقون بشيء، وجميع مللها متفقة في البطلان والفساد، فاستويا في حكمها. فإن قيل: فقد خالفتم بينهم في الأحكام، لأجل اختلاف أديانهم؛ لأنكم تجيزون للمسلمين مناكحة أهل الكتاب، وأكل ذبائحهم، ولا تجيزون ذلك من المجوس، وعبدة الأوثان. قيل له: إنما اختلفت الأحكام فيما بيننا وبينهم، فأما في أنفسهم وفيما بينهم، فلا يختلفون عندنا، وإنما مسألتنا في مواريثهم، فأما فيما بيننا وبينهم، فإنا متعبدون بالامتناع من مناكحتهم، فذلك حكم لزمنا في أنفسنا، لا فيما بينهم.

مسألة: [ميراث الغرقى ونحوهم] قال: (والغرقى، والذين يموتون تحت الردم إذا لم يعلم تقدم موت أحدهم على الآخر: لا يرث بعضهم من بعض، ويرثهم الأحياء). وذلك لأنا نحكم بموتهم معًا، إذ لم يكن واحد منهم بأولى بالحكم بتقدم موته من صاحبه. فإن قيل: هلا ورثت أحدهم من صاحبه، ثم ورثت الآخر منه. قيل له: هذا محال؛ لأنك إذا حكمت له بحكم الميت في وقت، استحال الحكم له بحكم الحي في ذلك الوقت، وقولك هذا يؤدي إلى ما وصفنا. مسألة: [من لا يحجب] قال: (ومن لا يرث ممن ذكرنا لم يحجب). قال أحمد: يعني أن لا يكون من أهل الميراث، نحو العبد، والكافر، والقاتل، وإنما كان كذلك من قبل أنهم لا يختلفون أن الجد يرث ابن ابنه إذا مات وهما مسلمان، والأب كافر، فجعلوا الكافر بمنزلة الميت في هذا الوجه، كذلك في سائر وجوه الحجب. مسألة: [حجب الأب لمن فوقه من أصوله] قال: (والأب لا يرث معه من فوقه من الآباء، ولا أحد من أمهاته). قال أحمد: أما حجبه للجد: فلا خلاف فيه. ويحجب أمه أيضًا عندنا؛ لأنه لما حجب أباه، فحجبه الأم أولى؛ لأن الأب آكد أمرًا في المواريث من الجد.

وكما اتفقوا على أن الأم تحجب أمها، كذلك وجب أن يحجبها الأب. مسألة: [حجب الأب الإخوة والأخوات] (ولا يرث مع الأب أحد من الإخوة والأخوات). لقول الله تعالى: {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث}. فجعل جميع الميراث لهما عند عدم الولد، ثم قال: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس}، فجعل لها السدس مع الإخوة، والباقي للأب بقوله بدءًا: {وورثه أبواه}، فنظمت الآية حرمان الإخوة الميراث مع الأب. وقوله تعالى: {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه}: دلالة ظاهرة في استحقاقهما الميراث عند عدم الولد، سواء كان هناك إخوة، أو لم يكن، ففي الآية وجهان من الدلالة على صحة ما ذكرنا. مسألة: [حجب الأم للجدة] قال: (ولا يرث مع الأم جدة)، وهذا لا خلاف فيه. مسألة: [من يحجبه الجد] قال: (ولا يرث مع الجد ابن أخٍ للمتوفى، ولا أحدًا من إخوة

المتوفى لأمه)، وهذا أيضًا لا خلاف فيه. مسألة: [حجب البنت وبنت الابن للإخوة من الأم] قال: (ولا يرث الإخوة من الأم مع البنت، ولا مع بنت الابن وإن سفل). وذلك لقول الله تعالى: {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله، أخ أو أخت} - يعني لأم- {فلكل واحدٍ منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث}. والكلالة ما عدا الوالد والولد، فيصير تقدير الآية: وإن مات رجل، ولم يترك ولدًا، أو والدًا، وترك أخًا أو أختًا لأم: فلكل واحد منهما السدس. وبنت الابن كابنة الصلب، إذ لم تكن بنت الصلب في حرمان الكلالة، كما كانت بمنزلتها في استحقاق تسميتها. مسألة: [ميراث المرأة بالولاء] قال: (ولا ترث المرأة بالولاء إلا من أعتقت، أو أعتق من أعتقت).

وذلك لأن الولاء تعصيب، وليس ذلك للمرأة، ألا ترى أن العم عصبة، والعمة مساوية له في النسب، ولا تعصيب لها. وأما إذا أعتقت هي، فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق"، ولم يفرق بين المرأة والرجل. وروي "أن ابنة حمزة أعتقت عبدًا، فمات وترك ابنةً، وبنت حمزة، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم بنته النصف، وبنت حمزة النصف". ولحديث واثلة بنت الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسم قال: "المرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت به".

باب قسمة المواريث

باب قسمة المواريث مسألة: [ميراث الزوج] قال: (وللزوج النصف من ميراث زوجته إذا لم يكن لها ولد، أو ولد ابن، قرب منها، أو بعد). وذلك لقول الله تعالى: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد}، واسم الولد يتناول ولد الابن. * قال: (فإن كان لها ولد، أو ود ابنٍ: فله الربع). لقوله تعالى: {فإن كان لهن ولد فلكم الربع}. مسألة: [ميراث الزوجة] (وللمرأة من ميراث زوجها الربع إذا لم يكن له ولد، ولا ولد ابنٍ، فإن كان له ولد، أو ولد ابنٍ، وإن سفل: فلها الثمن). وذلك لقول الله تعالى: {ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم

ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم}. * قال: (والمرأتان، والثلاث، والأربع شركاء في الربع أو الثمن). وذلك لقول الله تعالى: {ولهن الربع مما تركتم}، فلم يجعل لجماعتهن أكثر من الربع. مسألة: [ميراث الأم] قال: (وللأم الثلث إن لم يكن للميت ولد، ولا ولد ابنٍ وإن سفل، ولا اثنان من الإخوة والأخوات فصاعدًا). وذلك لقول الله تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث}. فجعل لها السدس مع الولد، واسم الولد يتناول ولد الابن، وكذلك مع الإخوة، واسم الإخوة يتناول الاثنين منهم فصاعدًا. * قال: (إلا في فريضتين: إحداهما: زوج وأبوان، والأخرى: امرأة وأبوان، فإن للأم ثلث ما بقى في هاتين الفريضتين بعد نصيب الزوج والزوجة، وما بقى فللأب). وذلك لقول الله تعالى: {وورثه أبواه فلأمه الثلث}، فأوجب لها

الثلث عند عدم الولد، وأوجب الثلثين للأب، فإذا استحق الزوج النصف، صار كأن الميراث لم يكن إلا الباقي، فوجب أن يستحقا على الثلثين والثلث، كما كان يستحقانه قبل دخول الزوج في الميراث بعموم اللفظ. وأيضًا: من جهة النظر: لما كان لها مثل نصف نصيب الأب عند عدم الزوج والزوجة، وجب أن يكون كذلك حكمها في التسمية عند دخول الزوج والزوجة، والعلة الجامعة بينهما عدم الولد. مسألة: [ميراث الأم مع الجد] قال: (ولو كان مكنا الأب الجد: كان للأم ثلث المال كاملًا). ولا يكون الجد في هذه الوجوه بمنزلة الأب، كمان أن ابن الابن الابن بمنزلة الابن، ولا يكون مع البنت بمنزلة ابن الصلب، ألا ترى أن البنت تأخذ النصف كاملًا، وما بقى فلا بن الابن، كذلك الجد مع الأم، فوجب أن تأخذ الأم ثلث المال كاملًا بعد نصيب الزوج، وما بقى فللجد. مسألة: [ميراث البنت] (وللبنت النصف). بنص التنزيل، وهو قول الله تعالى: {يوصيكم الله في أولدكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف}.

[مسألة: ميراث البنتين] (وللبنتين الثلثان، وكذلك لما فوقهما). لاتفاق الجميع على أن الأختين بمنزلة الثلاث، كذلك البنتان، والعلة الجامعة بينهما أن كل واحدة قسمتها النصف إذا انفردت من البنات والأخوات. فإن قبل: قال الله تعالى: {فإن كن نساء فوق اثنتين}. قيل له: هذا كقوله تعالى: {فاضربوا فوق الأعناق}. مسألة: [ميراث البنات وبنات الابن] (ولا شيء لبنت الابن مع ابنتي الصلب، إلا أن يكون معها ذكر). وذلك لأن البنتين قد استكملتا جميع سهام البنات، وهما الثلثان، فلم يبق لبنات الابن شيء.

[مسألة:] قال: (وإن ترك ابنة وابنة ابن: فللابنة النصف، ولابنة الابن السدس، وما بقي فللعصبة). رواه هزيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. مسألة: [المشركة] (ولا يشرك بين الإخوة والأخوات من الأب والأم، والإخوة والأخوات من الأم، في مسألة المشركة، وهي: زوج وأم وإخوة، أو: أخوات لأم، وإخوة وأخوات لأب وأم. فللزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة من الأم الثلث، ولا شيء للذين من قبل الأم والأم). وهو مذهب علي رضي الله عنه، وقد كان عمر رضي الله عنه لا يشرك، ثم شرك بينهما جميعًا في الثلث. والحجة لقولنا: أن الزوج له تسمية النصف فيستحقه، وللأم تسمية السدس فتأخذه، وللإخوة من الأم الثلث أيضًا بالتسمية، فلا يجوز أن يشرك بينهم وبين الإخوة من الأب والأم؛ لأن ذلك يوجب نقصان حظهم

عن المسمى لهم، وقد سمى الله لهم الثلث بقوله: {فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث}. ولا خلاف أن المراد بهم الكلالة، وهو الإخوة أو الأخوات من الأم. وأيضًا: فإن الإخوة أو الأخوات من الأب والأم عصبة، ففي هذه الحال ليسوا من أهل التسمية، فلا يدخلون على ذوي السهام في سهامهم. فإن قيل: فقد ساووا الإخوة من الأم في قرابتهم من جهة الأم، فينبغي أن لا يبخسوا لأجل الأب؛ لأن الأب إن لم يؤكد أمرهم، لم ينقصهم. قيل له: لا اعتبار بما ذكرت؛ لأنه لو ترك زوجًا، وأمًا، وأخًا لأم، وعشرين أخًا لأب وأم، استحق الأخ من الأم السدس كاملًا، والسدس الباقي بين الإخوة من الأب والأم، فتصيب كل واحدٍ منهم أقل من نصيب الأخ من الأم، ولم يستحق بمساواته الأخ من الأم في قرابة الأم مساواتهما في الميراث، كذلك ما وصفنا. مسألة: (والأخوات مع البنات عصبة). لما روى ابن مسعود "عن النبي صلى الله عليه وسلم في بنت، وبنت

ابن، وأخت: أن للبت النصف، ولبنت الابن السدس، وما بقي فللأخت". فإن قيل: قال الله تعالى: {إن امرؤا هلك ليس له، ولد وله، أخت فلها نصف ما ترك}، فإنما جعل لها النصف عند عدم الولد، فكيف تعطيها النصف مع الولد؟. قيل له: تسميته لها النصف في حال عدم الولد، لا دلالة فيه على حكمها عند وجود الولد؛ لأن المخصوص بالذكر لا يدل على أن ما عداه فحكمه خلافه، كقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق}، ولم يدل على أن لنا قتلهم إذ لم نخش الإملاق. وإذا كان كذلك، فحال عدم الولد حكمها موقوف على الدلالة، وقد وردت السنة بإعطائها النصف مع البنت، فأعطيناها. وأيضًا: قال: {وهو يرثها إن لم يكن لها ولد}، ثم يرثها أيضًا إذا كان لها ابنة، وكان معنى الآية: إن لم يكن لها ولد ذكر. وكذلك قوله: {إن امرؤا هلك ليس له، ولد وله، أخت فلها نصف ما ترك}: معناه: ليس له ولد ذكر.

وإن كان قولنا هذا خلاق الآية، فقول مخالفنا في توريث الأخ من الأب مع البنت خلاف الآية. فإن قيل: قد روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى عصبة ذكر". قيل له: هذا فيمن عند مسألتنا لنستعمل الخبرين جميعًا، يدل على ذلك أنه لو كان معها أخ، لكان الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين بالاتفاق. مسألة: [ميراث الجدات] (والجدات وإن كثرن فلهن السدس). وهو اتفاق الصحابة، إلا شيء يروى عن ابن عباس ري الله عنه من أن الجدة بمنزلة الأم، ولها الثلث، كما أن الجد بمنزلة الأب. وقد روي "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطاها السدس".

وميراث الجدة مأخوذ من السنة، ولم يرد فيها أكثر من السدس، ولا تزاد عليه. مسألة: [لا ترث أم أب الأم] قال: (ولا يرث من الجدات أم أب الأم). وذلك لأن أبا الأم لا يرث مع ذوي السهام والعصبات، فكيف ترث أمه؟ وإنما هي بدل منه.

باب العصبة

باب العصبة [مسألة:] (وأقرب العصبة الابن وإن سفل). وهو اتفاق من أهل العلم. * (ثم الأب بعد الابن، وابن الابن، ثم الجد وإن علا، في قول أبي حنيفة. ثم الأخ من الأب والأم، ثم الأخ من الأب، ثم العم من الأب والأم، ثم العم من الأب، ثم كذلك فيقدم في ذلك من علا على من هو أبعد). وذلك لقول انبي صلى اله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى عصبة ذكر". مسألة: قال: (وإذا لم تكن عصبة من نسب، فمولى النعمة هو العصبة).

وذلك لما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى بنت مولى بنت حمزة نصف ميراثه، وأعطى بنت حمزة النصف". فجعلها عصبة مع البنت.

باب الجد

باب الجد مسألة: [ميراث الجد] (وللجد مع الولد السدس، وإن كان الولد أنثى كان ما بقي بعد فرضها لجد أيضًا. قال: وإن كان مع الجد أحد من الإخوة والأخوات للأب والأم، وليس معهم من له فرض معلوم، فإن أبا حنيفة كان يقول: المال كله للجد دونهم، وجعله معهم بمنزلة الأب. وأما أبو يوسف ومحمد: فكانا يقولان في ذلك: إن الجد يقاسم الأخ الواحد والأخت الواحدة، وأكثر من ذلك من الإخوة والأخوات ما كان حظ الجد بالمقاسمة ثلث المال فصاعدًا. وإن نقص حظه بالمقاسمة من ثلث المال: كمل له ثلث المال، ثم قسم ما بقي بين الإخوة والأخوات للأب والأم: للذكر مثل حظ الأنثيين. ومذهبهما في جميع مسائل الجد مذهب زيد بن ثابت). وجه قول أبي حنيفة: في ذلك قول الله تعالى: {وورثه أبواه فلأمه الثلث

فإن كان له إخوة فلمه السدس}. واسم الأب يتناول الجد، قال الله تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم}، فلما تناوله الاسم، أوجبت الآية الثلثين مع الأم من غير إخوة، وإذا كان معها إخوة، فله خمسة أسداس. فإن قيل: قد قال اله تعالى: {واتبعت ملة أباءي إبراهيم وإسحاق ويعقوب}، فسمى العم أبًا، ولا يقوم مقام الأب في استحقاقه. قيل له: ليس يمنع وقوع الاسم عليه خروجه من الميراث، لدلالة تقوم عليه، وقد قامت دلالة الاتفاق على أن العم لا يقوم مقام الأب في الميراث. ألا ترى أن اسم الأب يتناول العبد والقاتل، ولا يستحقون الميراث، بدلالةٍ أوجبت إخراجهم منه. ودليل آخر: وهو أن الجد له ولاد وتعصيب، فصار كالأب، فلما كان الأب أولى بالميراث من الأخ، من حيث كان له ولاد وتعصيب، وجب أن يكون الجد بمثابته، لوجود هذه العلة. ويدل عليه أيضًا: أن ابن الابن مدل ذو تعصيب، قام مقام الابن،

فكان أولى من الأخ، فوجب أن يكون الجد كذلك. وأيضًا: الجد يدلي بابنه إلى الميت، والأخ يدلي بأبيه، وهو أبو الميت، كما يدلي العم بأبيه، فكما كان الجد أولى من العم لهذه العلة، وهي موجودة في الأخ، وجب أن يكون أولى منه. وأيضًا: لما كان الجد يدلي بابنه، والأخ يدلي بأبيه، ولو اجتمع الأب والابن كان الابن أولاهما بالتعصيب، كذلك من يدلي بالابن ينبغي أن يكون أولى بالتعصيب ممن يدلي بالأب. ألا ترى أن ابن الابن لما كان يدلي بابن الميت، كان أولى من الخ الذي يدلي بأبي الميت. فإن قيل: الخ والجد جميعًا يدليان بأبي الميت، فينبغي أن يتساويا. قيل له: لا خلاف أنهما غير متساويين في الميراث؛ لأن الجد يستحق بالتسمية، ولا يحرم بحال إذا لم يكن أب، والأخ لا يستحق تسمية، وقد يحرضم مع الجد. فإن قيل: هذا الاعتلال يوجب أن يكون الجد بالتعصيب أولى من ابن الابن؛ لأن الجد يدلي بأبيه، وابن الابن يدلي بابنه. قيل له: ابن الابن وإن أدلى بابنه، فإنه يدلي بابن الميت، فلذلك لم يكن الجد أولى منه بالتعصيب، وأما الأخ فلا يدلي بابن نفسه، ولا بابن الميت، ولا يساوي من يدلي بابن على أي وجه كانت البنوة.

وأيضًا: يدلي الجد بأبوة الميت، وهو أولى ممن يدلي ببني ابن الميت، كما أن الجد أولى من العم؛ لأنه أدلى بأبوة الميت، والعم أدلى ببنوة الجد. قال أحمد: وهذا الذي ذكرناه من قول أبي حنيفة، وهو قول أبي بكر الصديق، وأحد أقاويل عمر بن الخطاب، وإحدى الروايتين عن عثمان، وأحد أقاويل علي، وهو قول ابن عباس، ومعاذ بن جبل، وعائشة، وأبي الدرداء، وأبي بن كعب، وأبي موسى، وإليه ذهب الحسن البصري، وجابر بن زيد. وأما قول علي المشهور فإنه يقول: إذا كن أخوات متفرقات وجد: كان للأخوات فرائضهن، وما بقي فللجد. فإذا كانوا إخوة منفردين، أو إخوة وأخوات مجتمعين، فإنه يقاسم بهم الجد ما دامت المقاسمة خيرًا له من السدس، فإذا كان السدس خيرًا له: أعطاه السدس، وما بقي فللإخوة والأخوات. *ووجه قوله إذا كن أخوات منفردات في إعطائهن التسمية: أن للأخوات تسمية مذكورة في الكتاب، وليس للجد تسمية، فالأخوات

من هذه الجهة أقوى حالًا من الجد، فأعطى الأخوات فرائضهن، وما بقي فللجد بالتعصيب. وإذا كانوا إخوة وأخوات: نظر، فرأى للجد مزية ليست للإخوة والأخوات، وهي الأبوة: ورث مع الابن، ولا ترث معه الكلالة، وله ولاية وليست للإخوة والأخوات. ورأى أيضًا للإخوة والأخوات حالًا لم يرها للجد، وهي أن ميراثهم مذكور في الكتاب في قوله: {وإن كانوا إخوة رجالًا ونساًء فللذكر مثل حظ الأنثيين}، وأنهم اقرب إلى الأب من الجد، والأب هو النسب الذي يدلي به الفريقان، فسوى بينهم في القسمة ما دامت المقاسمة خيرًا له من السدس. ولم يحطه عن السدس؛ لأنه لا يسقط بحال، والإخوة والأخوات يسقطون بحال فإذا كان ابنة أو ابنتان، وإخوة وأخوات، وجد: أعطى البنات فرائضهن، والجد السدس، وما بقي فللإخوة والأخوات، كان أخ أو أخت، من قبل أن الإخوة والأخوات عصبة البنات، وليس في تعصيب الجد نص. ولو كان اجتمع ابنة، وأخت لأب وأم، وأخ لأب: كان للابنة النصف، وما بقي فللأخت، وليس للأخ هاهنا تعصيب، وهو مساوٍ

للجد، فكذلك الجد يسقط مع الأخت إذا صارت عصبة، وبقي تأكيد حال الجد في استحقاقه الميراث مع الابن، فأعطاه السدس. وإلى مذهب علي رضي الله عنه ذهب ابن أبي ليلى والحسن ابن زياد اللؤلؤي، وشريك، والمغيرة، والحسن بن صالح بن حي. *وأما قول زيد بن ثابت فإنه يقاسم الجد بالإخوة المنفردين والأخوات المنفردات، والإخوة والأخوات مجتمعين، ما دامت المقاسمة خيرًا له من الثلث، إذا لم يكن هناك ذو سهم، من قبل أنه نظر في حال

الجد، فوجد لها من التأكيد ما قدمنا ذكره في وصف مذهب علي، ووجد للأخ أيضًا أحوالًا متأكدة ليست للجد، فسوى بينهم، ثم قال: للأخ إذا انفرد تعصيب الأخت، فوجب أن يعصبها الجد أيضًا، فإذا ضاق عنهم المال، أعطى الجد الثلث، من قبل أن الجد بحذاء الجدة، كما أن الأم بحذاء الأب، فلما كان للأب مثلًا ما للأم، وجب أن يكون للجد مثلًا ما للجدة، فلما كان للجدة السدس، وجب أن يكون للجد الثلث. ويعتد بأولاد الأب مع أولاد الأب والأم في القسمة، ثم يرد ما أخذوه على الأولاد الأب والأم، وذلك أنه إذا كان أخ لأب وأم، وأخ لأب، وجد: قسم المال بينهم على ثلاثة، ثم يرد الأخ من الأب ما في يده على الأخ من الأب والأم، وذلك لأن قرابتهم من الأب سواء، وكلهم يرثون بقربهم من الأب، فإذا انفرد الجد بحصته، بقي الأخ من الأب والأم مع الأخ من الأب، فيرد عليه الأخ من الأب؛ لأنه لا يرث مع الأخ من الأب والأم. وإذا كان في الورثة ذو سهم: أعطى كل ذي سهم سهمه، ثم ينظر بين الجد والإخوة والأخوات، فيعطيه أحد ثلاثة أشياء، أيها كان خيرًا له أعطاه: السدس، أو المقاسمة، أو ثلث ما بقي. ووجه اعتبار ذلك: إذا ضاق عنهم المال، فليس يجوز أن يكون الجد آكد حالًا من الأب، والأب يعطى السدس إذا ضاق المال عن السهام، وإذا قاسم جعله كأحد الإخوة، وإذا كان ثلث ما بقي خيرًا له أعطاه ثلث ما بقي؛ لأنه أقوى حالًا من الأخ، لأنه يرث مع الابن، والأخ لا يرث مع الابن.

مسألة: [الأكدرية] وقال زيد في مسألة الأكدرية: وهي زوج، وأم، وأخت، وجد. قال: لو انفرد الجد بلا أخت: كان للزوج النصف، وللأم الثلث، وما بقي فلجد، وهو السدس. ولو انفردت الأخت بلا جد: كان للزوج النصف، ولها النصف، وللأم الثلث، فيكون للأخت في هذه الحال النصف، فإذا اجتمعا أعطى كل واحد سهمه لو انفرد. فجعل للزوج النصف، وللأخت النصف، وللأم الثلث، وللجد السدس، ثم جمع ما في يد الأخت إلى ما في يد الجد، فجعل بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنه يجعل الأخت مع الجد بمنزلتها مع الأخ. *وإلى قول زيد ذهب أبو يوسف ومحمد، وسفيان الثوري،

ومالك، والأوزاعي، والشافعي. وأما مذهب عبد الله بن مسعود وهو قول علقمة، والأسود، ومسروق بن الأجدع، وعبيدة السلماني، فإنه يقول:

إذا كانت الأخوات منفردات وجد، مثل قول علي في ذلك؛ لأن الأخوات لهن سهام مذكورة في الكتاب، فورثهن بالتسمية، والجد لا تسمية له، وأعطى الأخوات فرائضهن، وما بقي فللجد. وإذا كان إخوة منفردين، أو إخوة وأخوات مجتمعين، نظر إلى أحوال الجد، فوجد له أحوالًا مثل أحوال الأب، ووجد من أحوال الأخ أن ميراثه مذكور في الكتاب، ووجد الأخ من الأب والأم آكد حالًا من الأخ من الأب، فسوى بين الجد والإخوة من الأب والأم ما دامت المقاسمة خيرًا له من السدس إذا لم يكن هناك ذو سهم. فإن كان أخت لأب وأم، وأخ لأب وجد: جعل للأخت من الأب والأم النصف، وبقي بعد ذلك حكم التعصيب، فوجد الأخ عصبة، وكذلك الجد، ووجد الجد آكد حالًا، فجعل ما بقي للجد؛ لأنهما جميعًا عصبتان، وأحدهما أقوى سببًا، وآكد حالًا. وإذا كان هناك ذو سهم، وإخوة وأخوات، وجد: أعطى كل ذي سهم سهمه، وجعل ما بقي بين الجد والإخوة والأخوات على روايتين: روى الشعبي المقاسمة بينهم، ما دامت المقاسمة خيرًا له من السدس، على نحو قول علي. وروى إبراهيم أنه قاسم بينهم ما دامت المقاسمة خيرًا له من ثلث ما

بقي، أو سدس جميع المال، مثل قول زيد. ولا يعتد بالإخوة والأخوات من الأب مع الإخوة والأخوات من الأب والأم في القسمة، كما يفعل زيد، لأن الإخوة من الأب في قول زيد يردون إلى الإخوة والأخوات من الأب والأم ما في أيديهم، ولا معنى لمقاسمتهم، وهم لا يأخذون شيئًا. ولا يفضل أما على جد، قال: لأن أحوال الجد كأحوال الأب في مواضع، فلا تفضل عليه، كما لا تفضل على الأب. فإذا كانت أم، وأخت، وجد: فمن قوله: أن للأخت النصف، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللجد. وعنه رواية أخرى: أن للأخت النصف، وما بقي بين الأم والجد نصفين. ووجه هذه الرواية: أن للجد أحوالًا مثل أحوال الأب، إلا أنه قد تباعد حال الجد؛ لأنه في درجتين، والأم في درجة، فسوى بينهما. وإذا كان زوج، وأم، وجد: فمثل ذلك على الروايات الثلاث.

وإن كانت بنت، وأخت، وجد: فمن قوله أن للبنت النصف، وما بقي فبين الأخت والجد نصفين؛ لأن الأخوات عصبة البنات بنص السنة، وليس في الجد نص رواية في التعصيب إلا أن للجد أحوالًا ليست للأخت. وإذا كانت بنت، وأختان، وجد، فمن قوله: أن للبنت النصف، وما بقي فبينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن زادت الأخوات فمن قوله: أن المال بينهم بعد نصيب البنت. للذكر مثل حظ الأنثيين ما دامت المقاسمة خيرًا له من ثلث ما بقي. وإذا كان مع البنت أخ واحد، وجد: فإنه يعطي البنت نصيبها، وما بقي بين الجد والأخ نصفين. وإذا كانا أخوين: فما بقي فبينهم على ثلاثة، وإن كانوا أكثر من ذلك: أعطى الجد ثلث ما بقي، وما بقي فللإخوة.

باب ميراث ولد الملاعنة، وولد الزنى

باب ميراث ولد الملاعنة، وولد الزنى قال أحمد: ولد الملاعنة، وولد الزنى، لا نسب لهما من جهة أب، فهما بمنزلة من لا أب له، ولا قرابة من جهته، فيرثه أخوه من أمه، وأمه. فإن كانت أمه عتاقة لقوم: كان الباقي بعد السهام لمواليها؛ لأنهم عصبته، لأن ولاء الأم لهم. وإن لم يكن لها ولاء: كان ما بقي ردًا عليها، وعلى إخوته لأمه، على قدر مواريثهم، كمن مات وترك أما وإخوة لأم. مسألة: [ادعاء الملاعن الولد المنفي] قال: (وإذا ادعى الملاعن الولد المنفي: يثبت نسبه، وضرب الحد). وذلك لأن إقراره بالنسب حق عليه، وما نفى حق لغيره، فجحده ثم أقر به، صدق على نفسه فيه. وأيضًا: فلا خلاف أنه يضرب الحد، ووقوع الحد به يبطل حكم اللعان، وذلك لأن اللعان حد أيضًا ما دام حكمه باقيًا، ولا يجوز أن يجتمع عليه حدان.

مسألة: [ادعاء الملاعن الولد المنفي وقد مات، ولم يخلف ولدًا] قال: (فإن كان الولد قد توفي قبل ذلك، ولم يخلف ولدًا، فادعاه: لم يصدق على الدعوة، ولم يرثه). وذلك لأن نسبه لا يرجع إليه بعد موته إذا لم يكن هناك حي يتعلق عليه النسب؛ لأنه لا يجوز إثبات النسب من الميت بعد موته. ألا ترى أن من ادعى لقيطًا بعد موته، لم يلتفت إلى دعوته، ولو ادعاه وهو حي: صدق، وكذلك لو باع غلامًا قد ولد عنده عن حمل كان في ملكه، فادعاه: صدق، وفسخ البيع، ولو مات في يد المشتري ثم ادعاه: لم يكن لدعوته حكم، ولم يفسخ البيع. مسألة: [ادعاء الملاعن الولد المنفي الذكر، وقد مات وترك ولدًا] قال: (وإن كان الولد ذكرًا، فمات وترك ولدًا، ثم ادعى الملاعن الولد الذي لاعن به: ثبت النسب منه). وذلك لأن هاهنا ولدًا حيًا يجوز أن يتعلق عليه نسبه، وهو ابن الابن مقام الابن، وألحقناه به بالفراش المتقدم الذي نفاه باللعان، فمتى ارتفع حكم اللعان وهناك ولد يجوز ثبوت النسب منه: ثبت بالفراش المتقدم الذي كان يوجب ثبوته، لولا اللعان. وليس هذا بمنزلة من باع جارية، فولدت عند المشتري لأقل من ستة أشهر، ثم كبر الولد، وولد ولدًا، ثم مات الولد الأول، ثم ادعاه البيع: فلا يصدق؛ لأن هذه دعوة مبتدأة يحتاج إلى إثباتها بدءًا في الولد الميت، ثم يثبت من الثاني بعده، فإذا لم يكن الولد الأول حيًا لم يثبت. وإنما كانت دعوة مبتدأة؛ لأن فراش الملك لم يكن يوجب ثبوت النسب لولا الدعوة، ولا يجوز إثبات نسب الميت منه بدعوته، وفراش

النكاح قد كان يوجب إثبات النسب لولا اللعان، فإذا بطل حكم اللعان. وهناك ولد حي يجوز أن يتعلق عليه ثبوت النسب: ثبتناه بالفراش المتقدم. مسألة: [ادعاء الملاعن الولد المنفي وهو بنت ماتت وتركت ولدًا] (ولو كان الولد المنفي بنتًا، فماتت، وتركت ولدًا، ثم ادعى الملاعن الولد المنفي: فإن أبا جعفر رحمه الله ذكر أن من قول أبي حنيفة أن الدعوة جائزة، ومرد النسب إليه. قال: وقال أبو يوسف ومحمد: الدعوة باطلة، ولا يرد النسب إليه). قال أحمد: وليس كذلك الجواب، بل هو على القلب من هذا؛ لأن من قول أبي حنيفة: أنه لا يصدق، ولا يثبت النسب منه، ومن قولهما: أنه يصدق، ذكره محمد في كتاب الدعوى. وجه قول أبي حنيفة: أن ابن ابنته يتصل نسبه به من غير الجهة التي يرجع إليه نسب ابنه، إنما يلحقه بالفراش، وكذلك نسب ابن الابن، ونسب ابن البنت ليس يلحقه من جهة الفراش، بل بالوالدة. فلما كان الوجه الذي منه يلحق نسب ابن البنت، غير الوجه الذي منه يلحق نسب الابن: لم يقم مقامه في جواز الدعوة واستلحاق النسب، ولما كان ابن الابن يرجع إليه بالنسب من حيث يرجع إليه نسب ابنه: كان مثله،

يصدق على الدعوة. ووجه آخر: وهو أن ابن البنت لو ثبت نسبه منه، لم يصر من قومه؛ لأن الولد ينسب إلى قوم الأب دون الأم، ألا ترى أن الهاشمي إذا تزوج أعجمية، أو استولد جارية رومية: أن الولد يكون هاشميًا، ولا يكون أعجميًا. ولو كانت الأم هاشمية، والأب أعجميًا: كان الولد أعجميًا، ولم يكن هاشميًا. فلما كان الولد يتبع الأب في النسب دون الأم: لم يصدق على إلحاق النسب مع موت الأب من جهة البنت، إذ لا يتصل النسب إليه فيه.

باب مواريث المجوس

باب مواريث المجوس مسألة: [ميراث المجوس فيما بينهم] قال: (ولا يتوارث المجوس بالنكاح إلا ما كان منه صحيحًا). لأن ما لم يقر عليه بعد الإسلام، فهو فاسد، ولكنهم مخلون وما يعتقدون، كما خلينا بينهم وبين عبادة غير الله. ويرث بوجود النسب الذي بينه وبين الميت، فلو ترك المجوسي امرأة، وهي أمه التي ولدته، وهي أيضًا أخته لأبيه كان أبوه تزوج ابنته، فأولدها إياه: ورثته ثلث المال بالأمومة، ونصف المال لأنها أخته لأبيه، وما بقي من المال يرد عليها. وإنما ورثت بالقرابتين؛ لأن إحداهما لا تنافي ميراث الأخرى، ألا ترى أن القرابتين لو كانتا لشخصين: ورثا بهما، كذلك إذا كانتا لشخص واحد، ألا ترى أنه لو ترك ابني عم، أحدهما أخ لأم: فالأخ للأم يأخذ سهم الأخ من الأم، ثم يأخذ مع ابن العم الآخر بالتعصيب، فيكون بينهما نصفين.

مسألة: [ترك مجوسي امرأة هي ابنته، وهي أخته لأمه] قال: (وإن ترك امرأة هي ابنته، وهي أخته لأمه، كأنه تزوج أمه، فأولدها إياها: كان لها النصف لأنها ابنته، ولا شيء لها لأنها أخته لأمه؛ لأن الأخت للأم لا ترث مع البنت).

باب الميراث بالأرحام

باب الميراث بالأرحام [مسألة:] (وإذا ترك الرجل ابنته، أو أمه، أو أخته لأمه، أو أخاه لأمه، ولم يترك وارثًا سواه من عصبة ولا غيرها: كان له من الميراث ما فرضه الله له منه، وكان ما بقي منه ردًا عليه برحمه). قال أحمد: هذه المسألة مبنية على مسألة توريث ذوي الأرحام، وكل من ورث الأرحام، فإنه يرى الرد، وكل من لا يرى توريث ذوي الأرحام: فإنه لا يرى الرد. [أدلة توريث ذوي الأرحام] والدليل على توريث ذوي الأرحام: قول الله تعالى: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبًا مفروضًا}. فاقتضى ظاهر الآية توريث جميع القرابات بقوله: {مما ترك الوالدان والأقربون}، فوجب توريثهم بالآية، ثم يكون تفصيل الأنصباء موقوفًا على قيام الدلالة عليه.

فإن قيل: إنما عنى به من سماهم في آيات المواريث؛ لأنه قال {نصيبًا مفروضًا}، وذوو الأرحام ليس لهم نصيب مفروض. قيل له: ليس في آيات المواريث ما يوجب تخصيص هذه الآية، لأن نجعل المذكورين في آيات المواريث بعض ما انتظمت الآية. وليس في قوله: {نصيبًا مفروضًا}: ما يوجب أن يكونوا هم المذكورين في آية المواريث؛ لأن ذكر النصيب المعروف بعد قوله: {للرجال نصيب}، إنما هو تأكيد لوجوب النصيب المذكور، بأن جعله فرضًا لازمًا، ومواريث ذوي الأرحام بهذه المنزلة. ودليل آخر: وهو قوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم}. وعموم ذلك يقتضي أن يكونوا أولى بالميراث في كل حال، إلا موضعًا يخصه الدليل. فإن قيل: لما كان: {أولى ببعض في كتاب الله}: وجب اعتبار من نص عليه في الكتاب في الأرحام، وهو ما بين في آيات المواريث. قيل له: ليس في قوله: {في كتاب الله}: ما يوجب الاقتصار بهم على ما ذكر في غيرها من الآيات؛ لأن هذه الآية في كتاب الله أيضًا، فإن وجب اعتبار الآيات التي فيها ذكر المواريث لأنها في كتاب الله، وجب أن يستحقوا الميراث بأرحامهم.

وأيضًا: فمعنى قوله: {في كتاب الله}: في فرض الله، كما قال: {كتاب الله عليكم}: يعني فرضه، وقال: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم}، ونحوها من الآي، فكذلك قوله تعالى: {في كتاب الله}: معناه في فرض الله، والله اعلم. فإذا كان كذلك، لم يجز تخصيص الآية بما ذكرت. ويحتج فيه بعموم قوله: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين}. واسم الأولاد يتناول أولاد البنت، فوجب لهم الميراث بالعموم حتى تقوم الدلالة على أن غيرهم أولى منهم. *ومن جهة السنة: حديث عمر، والمقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخال وارث من لا وارث له". فإن قيل: لما قال: وارث من لا وارث له: فقد نفى أن يكون وارثًا.

قيل له: هذا كلام جاهل بمعنى الخطاب؛ لأن المعقول منه انه وارث من لا وارث له غيره، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: "يا عماد من لا عماد له"، ومعناه: من لا عماد له غيره، وهو أظهر من أن يحتاج فيه إلى الاستشهاد. وعلى أنه كيف يشكل منه مع قوله: "هو وارث"، فتراه أثبته وارثًا، ثم أخرجه من الميراث بقوله: لا وارث له. حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن هاشم بن الحسين قال: حدثنا محمد بن عبد الوهاب الحارثي قال: حدثنا شريك عن ليث عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخال وارث". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الحسن بن المثنى قال: حدثنا أبو عمر الضرير قال: حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان "أن ثابت بن الدحداح مات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعاصم بن عدي: هل تعلم له شيئًا في العرب؟

قال: يا رسول اله! كان رجلًا آتيًا، فتزوج عبد المنذر أخته، فولدت له أبا لبابة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه لأبي لبابة. قال أبو عمر: وهو ابن أخته. ويدل على صحة القول بالرد، وتوريث ذوي الأرحام ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي قال: حدثنا محمد بن حرب عن عمر بن رؤية الثلبي عن عبد الواحد بن عبد الله النصري عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"المرأة تجوز ثلاثة مواريث: عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت به". فأخبر أنها تحوز جميع ميراث ابنها، فثبت بذلك وجوب الرد، ودل على توريث ذوي الأرحام؛ لأن كل من أوجب الرد، ورث ذوي الأرحام. ويدل عليه أيضًا: ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا موسى بن عامر قال: حدثنا الوليد قال: حدثنا أبو محمد عيسى عن العلاء بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلك "أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه، ولورثتها من بعدها". وهذا الحديث يدل من وجهين على ما قلنا: أحدهما: أنه جعل لها جميع الميراث، ولا يستحق الجميع عندنا عنه إلا بالرد، وإن أثبت الرد، ثبت توريث ذوي الأرحام. ومن الوجه الآخر: أنه جعل ميراثه لورثتها من بعدها، وفي ورثتها الخال والخالة، فدل على توريثهما إذا لم يكن غيرهما. *فإن احتج علينا بما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن موسى بن حماد البربري قال: حدثنا الربيع بن تعلب قال: حدثنا مسعدة بن اليسع عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: "سئل النبي

صلى الله عليه وسلم عن ميراث العمة والخالة، فقال: سار لي جبريل، وقال: لا شيء لهما". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا الحسن بن المثنى قال: حدثنا أبو عمر الضرير قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر- قال عبد الباقي: وهو المخزومي- عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء على حمار أو على حمارة، فلقيه رجل فقال: يا رسول الله! ما تقول في الخالة والعمة؟ قال: يا رب خالة وعمة، ثم قال: لا شيء لهما". كذا عن ابن عمر. قيل له: هذا الحديث يروى عن عطاء مرسلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث مسعدة ضعيف. ولو ثبت موصولًا كان خبرنا أولى من جهتين: إحداهما: أن خبرنا مثبت، وخبرهم نافٍ، والنفي والإثبات متى اجتمعا في الأخبار كان الإثبات أولى بهما. والجهة الأخرى: أن خبر النفي وارد على الأصل، وقد كان الأصل

نفي المواريث؛ لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة والحلف، دون الأنساب، إلى أن أنزل الله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم}، وإثبات الميراث بالقرابة طارئ على نفيه، فكان أولى؛ لأنا قد علمنا نفيه بدءًا، وان الإثبات حادث بعد النفي، ولا نعلم بعد ذلك حدوث إسقاطه بعد ثبوته، فصار الإثبات يقينًا من هذا الوجه، وسقوطه بعد ذلك مشكوك فيه. وأيضًا: يحتمل أن يريد بقوله: لا شيء لهما: يعني مع ذوي السهام المذكور سهامهم في الكتاب مع القرابات. ويحتمل: لا شيء لهما: أي لا فرض لهما مسمى فيه. فإن قال قائل: الدليل على أن ذوي الأرحام لا يستحقون الميراث: أنه معلوم أن كل إنسان فبينه وبين آدم بنو أعمامه وعصباته من يحجب ذوي الأرحام من الميراث وإن لم يكن معلومًا بعينه عندنا، إلا أنا قد علمنا يقينًا أن ذوي الأرحام غير مستحقين معهم، فلو أعطيناهم: كنا قد أعطينا من تيقنا أنه غير مستحقه. قيل له: ومن أين قلت إن لكل نسبًا إلى آدم عصبة من جهة الأب، وقد يجوز أن يكون في آبائه ملاعنة، أو ولد زنى، فلا يكون له نسب من جهة الأب، فهذه قضية فاسدة من هذا الوجه. وعلى أنه لو كان هذا الاعتبار صحيحًا: لوجب أن لا يستحقه بيت

المال، لن بيت المال لا حظ له في الميراث مع العصبات. ثم كان ينبغي أيضًا أن لا يستحق مولى النعمة الميراث؛ لأنه لا ميراث له مع العصبة من جهة النسب. فإن قال قائل: فقد سلمنا لك أنا لا نتيقن أنه له عصبة، لجواز أن يكون في آبائه ولد ملاعنة، أو ولد زنى لا نسب له من قبل الأب، وإذا كان كذلك، وقد تيقنا مع ذلك أنه لا بد من أن يكون له قرابة وإن لم يكن له عصبة، فلو استحق ذوو الأرحام ميراثه كما استحقه بيت المال، لحصل اليقين بأن هناك مستحقًا بعينه. ولا يلزمنا على ذلك ما لزمكم؛ لأنا لا نتيقن العصبة، فجاز أن نجعله لبيت المال، ولمولى النعمة. قيل له: فينبغي أن لو كان الرجل عرفنا بنسب آبائه إلى تميم، أن لا يستحق ميراثه بيت المال، وإن لم نعرف له وارثًا بعينه؛ لأنا قد علمنا أن له عصبة من بني تميم، وإن لم نعرفه بعينه، فلما جاز أن يستحق ميراثه بيت المال، مع علمنا بكون العصبة، كذلك يستحقه بيت المال إذا لم نعرف ذوي الأرحام بأعيانهم. *ويدل عليه من جهة النظر: وهو أن من جعله لبيت المال فإنما جعله لجماعة من المسلمين لأجل إسلامهم، وذوو الأرحام معهم إسلام ونسب، فكانوا أولى؛ لأن ذا السببين أولى من ذي السبب الواحد، مثل الأخ من الأب والأم، مع الأخ من الأب. وأيضًا: لما كان الجد وارثًا لأجل ما له من الولاد، وكذلك ابنة

الابن، وجب أن يكون الجد أبو الأم من أهل الميراث، وكذلك ابنة الابنة، لأجل ما لهما من الولادة، فإذا ثبت ميراث الجد أبي الأم وابنة البنت: ثبت ميراث سائر ذوي الأرحام على حسب اقرب من الميت؛ لأن أحدًا لم يفرق بينهما. قال أحمد: وكان أبو حازم يرى توريث ذوي الأرحام إجماعًا حدثني بعض شيوخنا من أصحاب أبي حازم أن أبا حازم أشار على المعتضد بالله برد أموالٍ صارت في بيت المال، من أموال الأموات

-ولهم ذوو الأرحام- إلى الأرحام، ففعل المعتضد ذلك، وأنشأ به كُتُبًا إلى الآفاق، وهي مشهورة في أيدي الناس. قال: فأنكر عليه بعض أصحابنا فتياه هذه، وقال: هذه مسألة فيها خلاف بين السلف، وقد حصلت هذه الأموال في بيت المال بحكم حاكم، فلا يجوز فسخ هذه الأحكام إذا كانت مما قد اختلف فيه السلف، وساغ الاجتهاد فيه. قال: فقال أبو حازم: لم يكن في بيت مال الخلفاء الراشدين- وهم الخلفاء الأربعة- شيء من أموال الأموات الذين لهم ذوو أرحام، فصار ذلك إجماعًا منهم، ولا أعد قول زيد بن ثابت خلافًا عليهم، فصار فسخي لحكم الحاكم إبطال مذهبه فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد، فنفذ وجاز. فصل: [إذا ترك أمًا وأخًا لأم] قال أبو جعفر: (فإن ترك أمه، وأخاه لأمه: كان لأمه الثلث بالفرض، ولأخيه لأمه السدس بالفرض، وما بقي فرد عليهما على مقدار مواريثهما).

قال أحمد: يصير المال بينهما على ثلاثة، ثلثاه للأم، وثلثه للأخ للأم. وإنما يرد على الأخ للام مع الأم، كما رد الجميع على الأخت من الأب والأم مع الأم، والمعنى الجامع بينهما: أن كل واحد منهما يستحق الميراث بسبب قائم بينه وبين الميت، ألا ترى أنه لو لم يكن إلا أخ لأم، يستحق الرد عليه بعد السدس، كذلك كون الأم معه لا يمنع الرد عليه. *وليس هذا بمنزلة: (الزوج والزوجة في أنهما لا يرد عليهما): من قبل أنهما يستحقان الميراث بسبب منقطع بعد الموت، ألا ترى أنهما لا يستحقان الرد لو لم يكن غيرهما. مسألة: [من لا يرد عليه] قال أبو جعفر: (ولا يرد على غير ذي سهم مع ذي سهم). قال أحمد: لا يخلو غير ذي سهم مع ذي سهم من أن يكون عصبة، أو من ذوي الأرحام: فإن كان عصبة: فإنما يستحق فضل السهام بالتعصيب. أو من ذوي الأرحام: فهو لا يرث مع من يستحق السهام من ذوي الأسباب، فلا معنى للرد عليه وهو ممن لا يرث في هذه الحال. مسألة: [لو ترك ابن ابنته، وبنت ابنة أخرى] قال أبو جعفر: (وإن ترك المتوفى ابن ابنته، وبنت ابنة له أخرى، فإن أبا يوسف قال: الميراث بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، كان يورثهما في

ذلك على أبدانهما. وكان محمد بن الحسن يقول: الميراث بينهما نصفين). قال أحمد: لا فرق بين أن يكونا ولد بنتٍ واحدة أو ابنتين عند أصحابنا، كما لا يختلف حكم العصبات في أن يكونا من أبٍ واحد، أو من آباء بعد أن يتساووا في الدرجة. قال أحمد: وهذه المسألة لا خلاف فيها بين أبي يوسف وأبي حنيفة ومحمد، والمال بينهم لذكر مثل حظ الأنثيين في قول الجميع منهم، وقد ذكرها محمد في كتاب الفرائض بلا خلاف، وكذلك رواها محمد بن سماعة عن محمد أنه قولهم جميعًا. *وكذلك الجواب عندهم في ابن أختٍ لأب وأم، وبنت أختٍ لأب وأم: أن المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، لابن الأخت الثلثان، ولبنت الأخت الثلث في قولهم جميعًا، ذكره محمد في كتاب الفرائض. والأصل في ذلك أنهم [إذا] اتفقوا في الآباء والأجداد، واختلفوا في أبدانهم فلا خلاف بينهم فيه أنه مقسوم بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين إلا في أولاد الإخوة والأخوات من الأم، فإن المال بينهم بالسوية، على أي وجهٍ كانوا، من ذكورٍ وإناث. فهذه الجملة لا خلاف بينهم فيها، وإنما مسألة الخلاف بين أبي يوسف ومحمد إذا اختلفوا في الآباء والأجداد، واتفقوا في أبدانهم:

فيعتبر حينئذٍ محمد أقرب البطون اختلافًا إلى الميت، إلا أنه يجعل كل من تقع عليه القسمة من البطون على عدد من يستحق الميراث من آخرهم بطنًا، فإن اختلفوا في أجدادهم وآبائهم: فالمال على أجدادهم، وإن اتفقوا في الأجداد والأبدان واختلفوا في آبائهم، فالمال على آبائهم. وكذلك إن كان بطن واقع، فإنه تقسم الأموال على البطون المختلفة.

وهذا أيضًا قول أبي حنيفة المشهور، وقول أبي يوسف الأول، ثم رجع أبو يوسف فقال: المال على أبدانهم، اتفقوا في آبائهم أو اختلفوا. *وكذلك قولهم في ولد الإخوة إذا اختلفوا، وكذلك ولد الخالات والعمات، وهو على ما ذكرنا من قولهم فيه. وجه قول أبي يوسف في اعتبار أبدانهم دون آبائهم: اتفاق الجميع على أن اعتبار ولد البنين بأبدانهم أولى منهم بآبائهم، ألا ترى أنه لو ترك ابن ابن، وبنت ابن: كان المال بينهما، للذكر مثل حظ الأنثيين، وكذلك ولد البنات. مسألة: قال أبو جعفر: (وإن ترك ولد أختٍ لأب وأم، وولد أختٍ لأب، وولد أختٍ لأم، فإن أبا حنيفة ومحمد قالا: لولد الأخت للأب والأم النصف، ولولد الأخت من الأب السدس، ولولد الأخت من الأم السدس، وما بقي فهو رد عليهما على قدر مواريثهم، فيكون المال بينهم على خمسة. وقال أبو يوسف: الميراث لبنت الأخت من الأب والأم، وتسقط من سواها، وهو قوله الآخر، وهذا على ما بينا من قول محمد في اعتبار من يدلي به، فجعل لكل واحد منهم ما كان لأمه لو كانت حية. ووجه قول أبي يوسف: أن الأمهات كن يأخذن بالتسمية، وهم لا يأخذون بالقرب، فكان الأقرب أولى، وهو ابن الأخت من الأب والأم، كما لو كانوا بني إخوة: كان ابن الأخ للأب والأم أولى بالتعصيب، وقد

قالوا جميعًا في ثلاث خالات متفرقات: أن المال للخالة من الأب والأم. مسألة: قال: (وإن ترك ثلاث بنات إخوة متفرقين: فلبنت الأخ من الأم السدس، وما بقي فلبنت الأخ من الأب والأم، في قول أبي حنيفة ومحمد). وذلك لأنهم يستحقون ما كان يستحقه آباؤهم، والأخ من الأب لا يرث مع الأخ من الأب والأم. ويرث الأخ من الأم معه السدس، وكذلك كان ما استحقه الأولاد على ذلك. * (وفي قول أبي يوسف: الميراث لبنت الأخ من الأب والأم). على ما بينا في أولاد الأخوات. مسألة: قال: (وإن ترك عمة وخالة: كان لعمة الثلثان، ولخالة الثلث). قال أحمد: كان القياس عندهم أن يكون المال للعمة؛ لأنهما قد تساوتا في الدرجة، فالعمة من ولد العصبة، ألا ترى أنه لو ترك بنت عم، وبنت عمةٍ: أن المال لبنت العم؛ لأنها من ولد العصبة، إلا أنهم تركوا

القياس، لما روي عن علي رضي الله عنه، وعمر، وعبد الله بن مسعود أن الثلثين للعمة، والثلث للخالة. ولأن قرابتهما من الميت من جهتين، ألا ترى أنه لو ترك أبوين، كان المال بينهما أثلاثًا، كذلك العمة تدلي بالأب، فتستحق نصيبه، والخالة تدلي بالأم، فتستحق نصيبها، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخالة والدة". مسألة: قال أبو جعفر: (وإن ترك خالة، وابن عمته: كان المال للخالة). وذلك لأنها أقرب من ابن العمة بدرجة، ومواريث ذوي الأرحام مستحقة بالقرب، كما تستحق بالعصيب، فلا يرث الأبعد مع الأقرب. *وكذلك: (العمة هي أولى من ابن الخال)، لقربها. مسألة: قال: (وإن ترك ثلاث عماتٍ متفرقاتٍ: فالمال للعمة التي من قبل الأب والأم). وذلك لأن لها فضل مزية الأم، كما أن العم من الأب والأم أولى بالتعصيب من العم للأب.

وقد روي عن علي رضي اله عنه نحو ذلك في ثلاث خالاتٍ متفرقات. مسألة: قال: (وإن ترك خالًا وخالة متساويين في القرابة منه: كان المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين). قال أحمد: وهذا لا خلاف بينهم فيه، وهو صحيح على الأصل الذي قدمنا من اتفاق أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أنهم متى اتفقوا في الآباء والأجداد، واختلفوا في أنفسهم: كان المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وفي مسألتنا قد اتفقوا فيمن يدلون به إلى الميت، وهي الأم، فكان المال بينهما، للذكر مثل حظ الأنثيين. [مسألة:] ولو ترك ابن خالةٍ، وبنت خالٍ: كانت المسألة على الخلاف؛ لأنهم قد اختلفوا بآبائهم، فيكون لابن الخالة الثلث، ولبنت الخال الثلثان، في قول محمد. وفي قول أبي يوسف: المال بينهما على أبدانهما، للذكر مثل حظ الأنثيين. وجه قول محمد في اعتباره أقرب البطون اختلافًا إلى الميت: أنهم يدلون إلى الميت بمن قرب منه، وليسوا عصبة، ولا ذوي سهام، فوجب اعتبار من يدلون بقربه من الميت دون أبدانهم، إذ ليس هم بأبدانهم

يستحقون الميراث، لا من جهة التعصيب، ولا السهام. مسألة: قال أبو جعفر: (ومن ترك جده أبا أمه، وبنت أخيه لأمه: فإن أبا حنيفة كان يقول: المال لجد أبي الأم، وقال أبو يوسف ومحمد: هو لبنت الأخ للأم، لأنها من ولد الأم). قال أحمد: وكذلك روي عن أبي حنيفة في بنت أخت لأب وأم، أو لأب، وجد: أن المال للجد أبي الأم. وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في ابن بنت، وجد لأبي الأم: أن المال لابن البنت، وروى أبو سليمان عن محمد عن أبي حنيفة: أن المال للجد. فأما وجه قوله: إن الجد أبا الأم أولى من أولاد الأخوات، فهو أن الجد له ولاد، وليس لهؤلاء ولاد، فهو أولى، وهو سديد على أصله، في أن الجد أبا الأب أولى بالميراث من الإخوة والأخوات، لما اختص به من الولاية دونهم. كذلك يجب هذا الاعتبار في الجد أبي الأم مع أولاد الأخوات.

وأما وجه قوله في أن ولد البنات أولى من الجد أبي الأم في رواية الحسن بن زياد: فهو أن ولده أقرب إليه من أبيه، كذلك ولد ولده أقرب من جده. ألا ترى أن ابن الابن وإن سفل، فهو أولى بالتعصيب من الجد أبي الأب. وأما وجه رواية محمد في أن الجد أولى: [لأنه أقرب]. ووجه قول أبي يوسف ومحمد في أن ولد الإخوة أولى من الجد أبي الأم: فهو أنه من ولد الأم، والجد أبو الأم من ولد الجد، وكلهم يدلي بالأم، فولدها أقرب.

باب الميراث بالموالاة

باب الميراث بالموالاة قال أبو جعفر: (وإذا والى الرجل الرجل، ثم مات الموالي ولم يترك وارثًا من عصبةٍ، ولا ذوي أرحام: فالمال للذي والاه). والأصل فيه قول الله تعالى: {والذين عاقدت أيمانكم فأتوهم نصيبهم}. نزلت في إيجاب المواريث بالحلف والمعاقدة، دون الأنساب، إلى أن نزل قوله تعالى: {وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض}، فجعل ذوي الأرحام أولى من الحليف المعاقد. فإذا لم يكن ذوو رحم: استحق الحليف الميراث، كما أن الابن أولى من ابن الابن، لا أن ميراث ابن الابن ساقط، فإذا عدم الابن: ورث ابن

الابن، كذلك ما وصفنا. وأيضًا: روى تميم الداري "عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يسلم على يد الرجل: أنه أولى الناس بمحياه ومماته". وظاهره يقتضي أنه أولى بميراثه بعد موته، كما قال الله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتب الله}، وعنى به الميراث، إلا أن الكل متفقون على أنه إذا لم يواله: لم يستحق الميراث، فخصصناه بالاتفاق، وبقي حكم اللفظ في إيجاب الميراث في حال الموالاة والمعاقدة. وأيضًا: فإن من لا وارث له يجوز عندنا أن يوصي بجميع ماله.

وقال عبد الله بن مسعود: "يا معشر همدان: ما قبيلة العرب أولى بأن يموت الرجل منهم، ولا وارث له غيركم، فإذا كان كذلك فليضع أحدكم ماله حيث شاء". وإذا كان ذلك من أصلنا، جاز له أن يوالي غيره، فيجعل له ماله بعد الموت، كما جاز أن يوصي له به. وكذلك قالوا: إن له أن يرجع بولاية إلى غيره، ما لم يعقل عنه، كما يرجع في الوصية، فإذا عقل عنه، فقد تعلق بالموالاة حكم لا يمكنه فسخه، فلا سبيل بعد ذلك إلى إبطاله. وعلى هذا قال أصحابنا فيمن أقر بأخٍ، ولا وارث له: أن نسبه لا يثبت، ويستحق ميراثه بعد الموت.

باب ما يجوز من الدعوى للرجل والمرأة فيحجب من سواه من عصبة

باب ما يجوز من الدعوى للرجل والمرأة فيحجب من سواه من عصبة قال أبو جعفر: (ولا يجوز دعوة الرجل إلا في أربعة: أن يقول هذا ابني، أو: هذا أبي، أو: هذا مولاي الذي أعتقني، أو: هذه زوجتي بعد أن يكون في دعوة البنوة [أو الأبوة] موهومًا ما قاله فيهما). قال أحمد: الأصل في ذلك أن إقرار الرجل مقبول على نفسه، غير جائزٍ على غيره، وإقرار الرجل بالنبوة والأبوة إنما هو على نفسه، لا يتعلق ثبوته عليه بغيره، فجاز حكم ما يجوز إقراره كسائر الحقوق من الأموال وغيرها، وكذلك إقراره بالولاء والتزويج. فإن قال قائل: عقد النكاح لا يصح به وحده، فينبغي أن لا يصدق عليه إلا بشاهدين.

قيل له: لو صح هذا الاعتبار، لما صح الإقرار بالبيع وسائر العقود؛ لأنها لا تصح بإيجاب أحدهما إلا بقبول الآخر، ونحن لا نعلم أنه كان هناك عقد متقدم فيه إيجاب وقبول، فلو جاز إقرارهما: يكون عقد فيه إيجاب وقبول في أمة زعما أنهما عقدً فيها بيعًا، أو هبة فيما بينهما. كذلك يجوز إقرارهما بعقد نكاحٍ صحيح؛ لأن أمور المسلمين محمولة على الصحة، ولا يجوز حملها على الفساد إلا أن يعلم. وأيضًا: فلما كانا مالكين للمعقود عليه وللعقد، وجب أن يكون إقرارهما فيه جائزًا، كما جاز إقرار الإنسان بسائر العقود، إذ كان مالكًا له في الحال. *ودليل آخر لجواز دعوى المقر على الوجه الذي نجيزها عليه: وهو أنه لا سبيل إلى معرفة ثبوت النسب من الرجل إلا من جهته، فصار قوله فيه كالبينة، كالحيض لما لم يكن لنا سبيل إلى معرفته إلا من جهة المرأة، صار قولها فيه كالبينة، وقد بينا ذلك فيما تقدم. والمرأة مصدقة في جميع ذلك إلا في دعوى الولد، فإنها لا تصدق إلا بشهادة المرأة، تشهد على الولادة. وفارقت الرجل من وجهين: أحدهما: أنه قد يمكننا الوصول إلى صحة دعواها من جهة غيرها، وهي القابلة التي تحضر الولادة، وكلفت البينة فيها على حسب الإمكان، ولا يكلف الرجال؛ لأنهم لا يحضرون ذلك الموضع. والوجه الآخر: أنها حاملة للنسب على غيرها، ألا ترى أنا إذا ثبتنا النسب منها بقولها، ولها زوج، وجب إثباته من الزوج، فكان فيه حمل النسب على الغير.

وهذا هو معنى "قول عمر بن الخطاب فيما كتب به إلى أمرائه: أن لا يورث الحميل إلا ببينة". وليس هذا المعنى موجودًا في الرجل؛ لأنه ليس في إثبات النسب للولد منه حمل للنسب على غيره، ألا ترى أنا إذا أثبتناه منه، وله امرأة: لم يثبت من امرأته إلا أن تصدقه؛ لأن الرجل قد يكون له امرأتان، وثلاث، وأربع، ويستفرش بملك اليمين، وليس في إثبات النسب منه حكم بين بإثباته من امرأةٍ بعينها، وفي إثبات النسب من المرأة: إلزام الولد زوجها؛ لأنها لا تكون فراشًا إلا لواحد. فإن قيل: فقد ثبت النسب منها، ولا يلحق بغيرها، بأن تلده من زنى، ولا زوج لها. قيل له: قد يكون ذلك، ولكنه لا يجوز لنا حمل أمرها على الزنى؛ لأن أمور المسلمين محمولة على الصحة والجواز، حتى يتبين غيرهما.

باب إقرار بعض الورثة بوارث مجهول

باب إقرار بعض الورثة بوارثٍ مجهول مسألة: [إقرار أحد الابنين الوارثين بزوجةٍ لأبيهما] قال أبو جعفر: (وإذا توفي الرجل وترك ابنين، فأقر أحدهما بزوجة لأبيه، وكذبه الآخر فيها: فإنها تقاسمه على ما في يده على تسعة أسهم، لها منها سهمان، وله سبعة أسهم). وإنما شاركته في الميراث وإن لم تثبت الزوجية بقوله، من قبل انه اعترف بشيئين: أحدهما: زوجية كانت، والآخر: أن لها بعض ما في يده، فلا يصدق على الزوجية، ويصدق على ما في يده؛ لأنه ماله أقر به لغيره. وليست صحة وجوب الشركة في المال متعلقة بثبوت الزوجية، فصدق فيما يملكه، ولم يصدق فيما لا يملكه. والدليل على صحة ذلك: اتفاق الجميع على أنه لو أقر بأن امرأته أخته، وليس لها نسب معروف: لم يثبت النسب، ويثبت التحريم. وكذلك لو اشترى عبدًا، ثم أقر أن البيع كان أعتقه: أعتق العبد، ولم يرجع على البيع بالثمن، فصدق على نفسه فيما يملكه، ولم يصدق فيما لا يملكه من الرجوع بالثمن، كذلك ما وصفناه. ولو أقر رجل أنه باع نصيبه من داره من فلان، وأنكر المشتري وحلف: أخذ الشفيع نصيب المقر بالشفعة وإن لم يثبت البيع.

وكذلك لو أقر أحد الوارثين بدين على الميت: جاز إقراره على نفسه، ولم يجز على أخيه. وقد قال مخالفنا في العبد المحجور عليه: إذا أقر بسرقة عشرة دراهم في يده: أنه يقطع، ويدفع الدراهم إلى المولى، فصدقه على نفسه في القطع، ولم يصدقه على المولى فيما في يده، وهذا أبعد مما ذكرنا في جواز الإقرار بالمال؛ لأن القطع لا محالة متعلق بسرقة المال. فإن قيل: فلو أقر أن له عليه عشرة دراهم من ثمن هذا الثوب الذي في يده، لم يستحقها إلا بتسليم الثوب إليه. قيل له: ليس هذا مما قلنا في شيء، وذلك لأن إقراره تضمن ثبوت المال عليه بدلًا من الثوب، ولا يستحق الثمن إلا بسلامة المبيع له، فكان ذلك في مضمون إقراره، فلذلك لم يلزمه إلا بعد سلامة المبيع له. وليس النسب الذي اعترف به عوضًا من المال الذي يأخذه، وكان بالتحريم الواقع من جهة الأخوة، أشبه منه بالإقرار بثمن الثوب، فلذلك ثبت وإن لم يثبت النسب أو الزوجية. *وأما وجه قوله: فإنه يقاسمها ما في يده على تسعة: فمن قبل أنه زعم أن لها الثمن، واحد من ثمانية، ويبقى سبعة بين الابنين لا يصح، فاضرب أصل المال وهو ثمانية في سهمين: تصير ستة عشر، لها سهمان، ولكل ابن سبعة. فالجاحد غاصب فيما تضمنه إقراره من نصيبها، فصار الباقي بعد نصيب الأخ بينهما على ما استحقاه في الأصل، ولا يكون هو أولى بدخول ضرر جحود الجاحد عليها من الابن المقر، وضربت فيما في يد

المقر بنصيبها من الجملة، وهو سهمان، وضرب فيه المقر بنصيبه، وهو سبعة، فكان ما في يده بينهما على تسعة. مسألة: [إقرار أحد الابنين الوارثين بأخٍ من أبيه] قال أبو جعفر: (وإن لم يقر بزوجة، ولكنه أقر بأخٍ له من أبيه، وكذبه الآخر فيه: قاسم المقر له المقر بما صار إليه من الميراث نصفين). وذلك لأنه زعم انه شريكه في المال على المساواة، فلا يستحق هو شيئًا إلا وله مثله، وإن الجاحد غاصب لما جحد، فصار كمال بين رجلين، غصب رجل منه بعضه، فيكون الباقي بينهما على حسب ما كان لهما فيه. [مسألة]: قال أحمد: وقال أصحابنا: لو لم يقر أحد الابنين بأخ، ولكنه أقر بأن الميت أوصى لهذا الرجل بثلث ماله، وصدقه الموصى له، وكذبه الأخ: أن الموصى له يأخذ من المقر ثلث ما في يده. وسوى ابن أبي ليلى بين الإقرار بالوصية، وبأخٍ، فقال فيهما جميعًا: يأخذ المقر له ثلث ما في يدي المقر. وجهة الفرق بينهما على مذهب أصحابنا: أن المقر بالأخ قد تضمن إقراره إيجاب الشركة بينه وبين المقر له في جميع المال، وإيجاب المساواة بينهما فيما يستحقانه، فلا يحصل في يده منه شيء إلا والآخر مساو له فيه، فلذلك أخذ منه نصف ما في يده.

والمقر بالوصية لا يتضمن إقراره إيجاب المساواة بينهما وإن كان الموصى له بالثلث في هذه الحال لو صحت وصيته: استحق ثلث المال، واستحق المقر الثلث، من قبل أن الوصية مقصورة على الثلث، لا في جميع المال، ولا حق للموصى له في الثلثين. ألا ترى أنه لو اوصى لرجلين، لكل واحدٍ منهما بالثلث على حدة: أنهما يقتسمان الثلث بينهما نصفين، ولم يكن لهما حق في الثلثين، وليس كذلك الوارث؛ لأن حقه ثابت في جميع المال. ألا ترى أنهم لو كانوا جماعة بنين: تساووا جميعًا في المال، ولم يفضل واحد منهما على صاحبه. وأنه لو أوصى لجماعةٍ، لكل واحدٍ منهم بالثلث: كان الثلث مقسومًا بينهم، والثلثان للورثة لا يشارك أحد من الموصى لهم سائر الورثة فيما يأخذونه. فقد تبين ان الإقرار بالوصية لم يقتض إيجاب المساواة بينه وبين الموصى له، ولا إثبات الشركة بينهما في جميع ما يأخذه المقر. وإذا كان هذا هكذا، قلنا: إن المقر بالوصية أقر له بثلث المال، نصفه وهو السدس في يده، ونصفه في يد أخيه، فيأخذ منه السدس الذي تضمنه إقراره، ولا يأخذ منه أكثر منه؛ لأنه يقول له: لا حق لك في أكثر من الثلث، وذلك الثلث الذي أقررت ل كبه نصفه في يدي، فأسلمه إليك، والنصف الذي في يدي أخي موقوف على تصديقه. وأما المقر للأخ، فإنه زعم انه شريكه، ومساوٍ له في جميع المال، فلا يستحق احدهم شيئًا إلا وللآخر مثله، فلذلك كان الأمر فيه على ما وصفنا.

مسألة: قال أحمد: وقالوا في أحد الابنين إذا أقر بدين على الميت، وكذبه أخوه: أنه يأخذ جميع دينه مما حصل في يده، كأن الميت لو ترك مائتي درهم، فأخذ كل واحدٍ من الابنين مائة درهم، ثم أقر أحدهما بمائة درهم على الميت، وكذبه الأخ: أن المقر له يأخذ جميع المائة التي صارت للمقر. والدين مفارق للوصية والميراث، وذلك لقول الله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دينٍ}، فأوجب الميراث بعد الدين، فلا يجوز أن يستحق شيئًا من الميراث وهناك دين؛ لأنه حينئذ يكون قد استحق الميراث مع الدين، والله تعالى إنما أوجبه بعد الدين. فإن قيل: قوله: {أو دينٍ}: لفظ مذكور يتضمن استحقاق جواز الميراث بعد قضاء جزء من الدين الذي على الميت، ولا يصح لك الاحتجاج بالظاهر مع قضاء جزء من الدين. قيل له: قد تضمنت الآية المنع من استحقاق الميراث مع بقاء الدين؛ لأن قوله: {من بعد}: يقتضي الترتيب، وما دام هناك دين باق، فهو ممنوع من استحقاق المال مع بقائه. وقضاء جزء من الدين غير مخرجٍ مخالفنا من مخالفة حكم الآية، إذ كانت الآية متضمنة لمنع الميراث مع بقاء شيء من الدين، قليلًا كان أو كثيرًا.

ووجه آخر: هو أن الابن الجاحد بمنزلة الغاصب في حق الغريم على ما تضمنه إقرار المقر، ولو أن غاضبًا غصب بعض مال الميت: كان الباقي مصروفًا في دينه، دون ورثته، كذلك المقر يزعم أن الأخ الجاحد غاصب في حق الغريم، وأن حق الغريم ثابت في جميع ما أخذه، فلذلك سلم إليه جميع دينه من نصيبه. وليس كالإقرار بأخٍ آخر، أو وصية بالثلث؛ لأن ذلك يقتضي الشركة بينهما، أما الأخ ففي جميع المال، وأما الموصى له ففي الثلث، والغريم لا يثبت بينه وبين الوارث شركة بحال، فلذلك اختلفا. مسألة: قال أبو جعفر: (وإذا أقر بأخوين لأبيه، فصدقه أخوه في أحدهما، وكذبه في الآخر، فإن أبا يوسف قال: يأخذ المصدق به من المقر بهما ربع ما في يده، فيضمه إلى ما في يد الذي أقر به خاصة، فيقسمان ذلك نصفين، ويرجع المكذب به إلى الذي أقر به خاصة، فيقاسمه ما في يده نصفين. قال: هذا قياس قول أبي حنيفة. وقال محمد: يأخذ المصدق به من يد المقر يهما خمس ما في يده، فيضمه إلى ما في يد المقر به خاصة، فيقاسمه إياه نصفين، ويرجع المكذب به على المقر به وبالآخر، فيقاسمه ما في يده نصفين. قال: وقد روى الحسن بن زياد هذا القول عن أبي حنيفة، وهو الصحيح على مذاهبهم، وهذا الجواب إذا كان المقر بهما متكاذبين).

وجه قول أبي يوسف: أن في يد كل واحدٍ من الاثنين نصف المال، فاعترف المقر بهما جميعًا أن كل جزء من المال حكمه أن يكون بينهم على أربعة، لكل واحدٍ منهم الربع، فقد اعترف للمتفق عليه بربع ما في يده، وربع ما في يد أخيه، وقد صدقه فيه، فأخذ الربع الباقي له في يده، ويضمه إلى ما في يد المصدق به خاصة، فيكون بينهما نصفين، لاتفاقهما جميعًا أن كل شيء يحصل لأحدهما، فهما متساويان فيه. وقال محمد: يأخذ المتفق عليه خمس ما في يد المقر بهما، وذلك لأنه أقر لكل واحدٍ بسهمين من ثمانية، فزعم أن للمتفق عليه سهمين: أحدهما في يدي، والآخر في يد أخي، وقد صدقني أخي فيه، فتسقط عني مخاصمته، فيضرب ما في يدي بسهم، وأضرب أنا لنفسي بسهمين، وللذي أقررت به وحدي سهمين، فيكون ما في يدي بيننا على خمسة، فيأخذ خمس ما في يدي، والباقي بيننا نصفين. مسألة: [حكم المسألة السابقة إذا كانا متصادقين] قال أبو جعفر: (وإن كان المقر بهما متصادقين فيما بينهما، فإن محمدًا قال: يأخذ المكذب به من الذي أقر به خاصة ثلث ما في يده، فيضمه إلى ما في يد الآخر، ثم يقاسمه والمقر به الآخر بالسوية، قال: ولم يحك محمد في ذلك خلافًا). وذلك لأنه أقر له بسهمين، فلما صدقه الآخر: سقط من إقراره له نصف ما أقر به له، وبقي من إقراره له سهم، ولنفسه سهمان، فلذلك قال: يأخذ من ثلث ما في يده.

مسألة: [إقرار الورثة بابن للميت غبر معروف] قال أبو جعفر: (ومن توفي، وترك ابنين معروفين، أو ورثة سواهم معروفين، فأقروا بابن للهالك غير معروف: قضي ينسبه من الهالك، وحصل ابنه. قال: وإن كان الهالك لم يترك إلا وارثا واحدا، فأقر بابن للهالك، فأن أبا حنيفة ومحمدا قالا: يدخل في الميراث، ولا يثبت نسبه من الهالك، وهذا القول هو المشهور من قول أبي يوسف. قال: وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أنه قال: إذا كان وارث واحد، لا يعرف للهالك وارث غيره، وأقر بابن للهالك، قضي بنسبه من الهالك، وجعل إقرار هذا المقر، كإقرار ورثة لو كانوا للهالك جميعًا). قال أحمد: كان أبو الحسين رحمه الله يقول: إن من قولهم جميعًا: أنه لو وقع التجاحد من الورثة: لم يقبل في إثبات نسب من الميت إلا بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين من الوارثة، أو من غيرهم. وإذا لم يقع التجاحد، وأقروا جميعا بالنسب: ثبت النسب منه وإن كان واحدا، بعد أن لا يكون هناك وارث غيره فكذبه، على ما روى أبو جعفر عن أبى يوسف، وكان يجعل ما روي عن أبى يوسف قولهم جميعًا. وما روى محمد في اعتبار رجلين، أو رجل وامرأتين قولهم جميعًا أيضا إذا تجاحدوا، فإذا لم يتجاحدوا: فلا اعتبار بذلك. وكان يحتج لذلك: أن الورثة خصم على الميت يقومون مقامه في حقوقه، فيصير إقرار الوراثة جميعًا كإقراره، إذ ليس هناك آخر يتعلق عليه حق. فإن قيل: فلم صدقت الوارث على الميت في إثبات منه؟

قيل له: الميت لا يثبت له، ولا عليه حق، وإنما يتعلق بالميت من الحقوق ما كان حقا للحي، فإذا لم يكن فيه حق للحي: فلا اعتبار لحق الميت فيه؛ لأن الميت قد انقطعت حقوقه من الدنيا، فلذبك صدق الوارث إذا لم يكن حي يتعلق عليه الحق بجحده.

كتاب الخنثى

كتاب الخنثى مسألة: [ميراث الخنثى] قال أبو جعفر: (قال أبو حنيفة: إذا هلك الرجل عن ولد خنثى، وعن ابن غير خنثى: أعطي للخنثى على أنه بنت حتى يعلم غير ذلك. وقال أبو يوسف: المال بينهما على سبعة، للابن المعروف: منها أربعة، وللخنثى ثلاثة، وقال محمد: للخنثى خمسة من اثني عشر، وللابن سبعة). وجه قول أبي حنيفة: أن نصيب النبت متيقن به، والزيادة عليها مشكوك فيها، ولا يستحقه إلا بيقين؛ لأنه لا يجوز توريثه بالشك. وأما أبو يوسف: فأنه ضرب للابن بنصيب ابن كامل، وهو أربعة، وللخنثى بثلاثة أرباع نصيب ابن، وذلك لأنه ضرب لها بنصف ميراث ابن، سهمين من أربعة، وبنصيب ميراث بنت، سهما واحدا، فصار جميع ما يضرب لها ثلاثة، وضرب للابن بأربعة. وأما محمد: فأنه جعل الخنثي مستحقًا لستة من اثني عشر في حال،

ويستحق في حال أربعة؛ لأنه إن كان ذكرا: فله ستة، ولأخيه ستة، وإن كان أنثي: فله أربعة، ولأخيه ثمانية، فله في حال أربعة، وله في حال ستة، فذلك عشرة له في حالين، له نصف ذلك، خمسة من اثني عشر، والابن يستحق في حال ثمانية، وفي حال ستة، فذلك أربعة عشر في حالين، له نصفها سبعة. وقد ذكر عن أبي يوسف رجوع إلى هذا القول. وإن شئت قلت: إن أربعة متيقنة للخنثى، وما بينها وبين الستة مشكوك فيه، وهو سهمان، فثبت نصفه، فيحصل له خمسة من اثني عشر، والابن قد تيقنا له ستة، وما بينها وبين الثمانية مشكوك فيه، وهو سهمان، فثبت نصفه ويبطل نصفه. وإنما جعل أبو حنيفة ما فضل عن ميراث البنت للابن، ولم يقفه: لأن ميراثه متيقن أنه نصيب ابن، والمزاحمة بينه وبين الخنثى في النقصان لا نعلمه، فلا يحطه عنه، ولا يقفه؛ لأن وقوفه معلوم بطلانه، إذ ليس فيه حق لأحد. مسألة: [معرفة حال الخنثى ذكورة أو أنوثة] قال أبو جعفر: (وقال أبو حنيفة: إن بال الخنثى من حيث يبول الرجل: كان رجلًا، وإن بال من حيث تبول المرأة: فهو امرأة، وإن بال منهما جميعًا: فمن أيهما سبق البول، فالحكم له، ويرث به، وإن بال منهما جميعًا معًا، فإن أبا يوسف قال: لا علم لي به). قال أحمد: قد روي عن أبي يوسف: أنه من أكثرهما بولًا يورث،

وذكر محمد في كتاب الخنثى هذا القول عن أبي يوسف، ثم قال بعد ذلك: فإن بال منهما جميعًا: لا علم لي بهذا، وهو قول محمد، ولم يذكر أكثرهما بولًا. وعن أبي حنيفة: أنه إذا بال منهما: فهو مشكل. وروى أبو يوسف عنه فيما حكاه بشر بن الوليد، أنه يعتبر أيهما سبق. وذكر محمد في كتاب الدعوى: أنه إذا بال منهما جميعًا: قضيت به لأولهما نزل منه، ولم يذكر فيه خلافًا، ثم قال: بال منهما جميعًا معًا، لا يسبق واحد منهما صاحبه: قضي به للأكثر في قول أبي يوسف ومحمد، وفي قول أبي حنيفة: لا حكم للأكثر، فجعله مشكلًا مع كثرة أحد البولين. *فأما اعتبار المبال: فإن الأصل فيه ما روي عن علي رضي الله عنه، وابن عباس، وجماعة من السلف أن الخنثى يورث من حيث يبول. وروى أبو يوسف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه سئل عن مولود ولد في قوم، وله ما للمرأة، وما للرجل، كيف يورث؟

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حيث يبول". ولأن ظهور البول منه يدل على أنه هو المجرى الأصلي، فاعتبر دون غيره. وإذا سبق من أحدهما: فالاعتبار بالسابق؛ لأن سبقه يدل أيضًا على أنه المجرى في أصل البنية، وأن رجوعه إلى الموضع الآخر انصراف عن المجرى لعله، أو سبب عارض. وأما أبو حنيفة: فلم يعرف حكمه إذا بال منهما معًا، ولم يعتبر كثرة البول؛ لأنه قد يقل ويكثر، لأجل ضيق المخرج وسعته، فلا دلالة فيه على حالة في الذكور والأنوثة. فصل: [زوال إشكال الخنثى ببلوغه] قال أبو جعفر: (وقالوا جميعًا إذا بلغ باحتلامٍ، أو حيضٍ، أو شيءٍ مما يدل على واحدٍ منهما: صار من أهل الدليل الذي وقف منه عليه، وانقطع عنه الإشكال). وذلك لأن هذه من العلامات التي يختص بها أحد الصنفين من الذكور والإناث، ولا يصح اجتماعهما فيهما، فمن وجدت فيه: حكم

له بما تقتضيه. والذي ذكره أبو جعفر من الاحتلام، إنما هو فيمن يحتلم كما يحتلم الرجل، فيحكم له بحكمه، أو كما تحتلم المرأة، فيحكم لها بحكمها، [حيث] إن المرأة قد تحتلم. قال: (وقال محمد بن الحسن: الإشكال فيمن لم يبلغ، فإذا كان البلوغ: ذهب الإشكال). وذلك لأنه لا يخلو بعد الظهور من إحدى العلامات المبينة لأمره، من ظهور لحية، أو جماع كجماع الرجل، أو احتلام كاحتلام الرجل أو المرأة، أو حيض، أو خروج ثديين كثديي المرأة. مسألة: [ختان الخنثى] (فإن احتاج إلى الختان، فإن كان له مال اشتريت له جارية ختانة، فتختنه، وإن لم يكن له مال، اشترى له الإمام من بيت مال المسلمين ختانة، فتختنه، فإذا ختنته، باعها، ورد ثمنها في بيت مال المسلمين. قال: ولم يحك محمد خلافا بينه وبين أبي يوسف). ووجه ذلك: إنه إن كان ذكرا: لم يجز للمرأة أن تختنه، وإن كان أنثى: لم يكن للرجل أن يختنها، فاحتاط بأن تختنه ملك يمينه على الوجه الذي قال، لئلا يوقع به محظوراً. قال أبو جعفر: (وسمعت ابن أبي عمران يقول: القياس عندنا في الخنثى إذا احتاج إلى الختان: أن يزوجه الإمام امرأة، فتختنه، فإن كان

ذكراً، كانت زوجته وختنته، وإن كان أنثى: كان مباحا لها ذلك). قال أحمد: ما حكاه أبو جعفر عن أصحابنا هو أصح من ذلك؛ لأنا إذا زوجناه، كان عقد النكاح مشكوكا فيه، فإن صح صارت المرأة معلقة، لا يمكنها الخلاص منه، ولا يتيقن وجوب المهر بالعقد، ولا وجوب الميراث إن مات، وهو مشكل لا يدري هل نلزمه بعتقها أم لا؟ وإذا اشترى له جارية، فإذا ختنته بعناها، وبقى ثمنها في ملكه، وإن كانت اشتريت من بيت المال، بعناها أيضا، ورددنا الثمن في بيت المال، فيكون قد قمنا بما يجب من سنة الختان من غير إضرار بأحد. مسألة: [موقف الخنثى في صلاة الجماعة] قال أبو جعفر: (وموقفه في الصلاة بين صفوف الرجال، وصفوف النساء، ولا يقف مع واحدٍ منهما). وذلك لأنه إن كان رجلا: لم يجز له القيام في صف النساء، وإن كانت امرأة: لم يجز له القيام في صف الرجال، فوجب أن يقف بينهما. ********

كتاب الوصايا

كتاب الوصايا مسألة: [الوصية للوارث] قال أبو جعفر: (ولا وصية لوارث، إلا أن يجيزها الورثة بعد موت الوصي، وهم أصحاء بالغون). قال أحمد: قد روي أن الوصية كانت واجبة للوالدين والأقربين قبل نزول آية المواريث، بقول الله تعالي:} كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للولدين والأقربين {، ثم نسخ وجوبها بآية المواريث، وهي قوله تعالي:} إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد {إلى قوله:} وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين {. فأوجب قسمة جميع ما ترك الميت بينهم بالميراث، فسقط به فرض الوصية والميراث في مال واحد.

* ومن الناس من يقول: إنها ثابتة للوالدين والأقربين من غير أهل الميراث، نحو أن يكونا كافرين أو عبدين. وآية المواريث التي ذكرناها تقضى ببطلان هذا القول من الوجه الذي ذكرنا. * وأما جواز الوصية، فالأصل فيه: قول الله تعالي في ذكر المواريث:} من بعد وصية يوصى بها أو دين {، فأجاز الوصية، وجعل الميراث بعدها. وروى ابن عمر عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "ما حق امرء مسلم يبيت ليلتين، وله مال يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عنده". وقال في قصة سعد حين أراد أن يوصي بجميع المال، قال: "الثلث والثلث كثير"، وهو اتفاق من الأمة. * فأما وجه بطلان الوصية للوارث: فما رواه ابن عباس، وعمرو بن خارجة، وأبو أمامة وغيرهم عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "لا وصية لوارث، إلا أن يجيزها الورثة". في لفظ حيث ابن عباس وعمرو بن خارجة.

مسألة: قال أبو جعفر: (ولا وصية لحربي وإن أجاز ذلك له الورثة). قال أحمد: وهذا إنما هو في الحربي إذا كان في دار الحرب؛ لأن اختلاف الدارين يقطع العصمة، ويمنع إثبات الحقوق فيما بين الفريقين، أعني: أهل دار الحرب، ودار الإسلام. والدليل على ذلك: أنا إنما نملك على أهل الحرب أموالهم بالغلبة والحيازة، وكذلك هم يملكون علينا بالغلبة وحيازة الأموال في دارهم، فلو جاز أن يثبت لنا حق في دارهم، أو يثبت لهم حق في دارنا، لمنع ثبوت ذلك من وقوع الملك بالغلبة والقهر. ألا ترى أنهم إنما ملكوا علينا حين حازوه في دارهم، لانقطاع حقوقنا عن تلك الأموال، وكذلك نحن ملكنا عليهم لهذه العلة. * وأما الحربي المستأمن: فإنه تجوز له الوصية؛ لأنه في دارنا محقون الدم بالأمان، كما تجوز هبتنا له، ومبايعتنا إياه. مسألة: قال: (ولا وصية لقاتل من المقتول). وذلك لأنه حين منع الميراث لأجل قتله إياه، تعظيما لجرمه، وهو القتل، وكان معلوما أن الميراث أكد من الوصية، فالوصية أحرى أن تكون ممنوعة. والدليل على أن جهة الميراث أكد من جهة الوصية: أن الميراث يدخل في ملك الوارث بغير قبول، والوصية لا تصح إلا بقبول. وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الحسين بن علي المعمري

قال: حدثنا محمد بن مصعب قال: حدثنا بقية عن مبشر بن عبيد عن الحجاج عن عاصم عن زيد عن علي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال: "ليس لقاتل وصية". [مسألة:] وقال أبو جعفر: (فإن أجازها الورثة: حازت في قول أبي حنيفة ومحمد، كما لو أجازوا الوصية للوارث جازت. وقال أبو يوسف: لا تجوز لقاتل وصية وإن أجازها الورثة). وذلك لأن جعل حرمان ميراثه ووصيته عقوبة له على قتله، لا لأجل حق الورثة، فلا تأثير لإجازة الورثة فيها.

وأما الوارث فإنما منع الوصية؛ لأنه قد استحق الميراث، فلا يجوز تفضيله على سائر الورثة على ما سمي له من الميراث، لدخول النقص والضرر عليهم ممن قد شاركهم في ميراثهم، فإن أجازتها الورثة: جازت؛ لأن ذلك كان حقا لهم، فرضوا بإسقاطه. مسألة: [الوصية بأكثر من الثلث] قال أبو جعفر: (ومن أوصى بأكثر من ثلثه، فأجاز ذلك له ورثته في حال حياته: كان لهم أن يرجعوا عن ذلك بعد وفاته). وذلك لأنهم أجازوا ما ليس بحق لهم في الحال، ولا يملكونه، فلا تعمل إجازتهم، كمن سلم الشفعة قبل عقد البيع، ومن أبطل الخيار قبل البيع، وأبرأ من العيب قبل العقد، وبمنزلة الأمة إذا اختارت زوجها قبل العتق، فلا يصح شيء من ذلك، كذلك ما وصفنا. مسألة: [الأفضل لمن كان له مال قليل عدم الإيصاء] قال: (والأفضل لمن كان له مال قليل، وله ورثه أن لا يوصى فيه بشيء، وأن يبقيه ميراثا للورثة). وذلك لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة وأبن أبي خلف قال: حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال: مرض مرضا شديدا – قال ابن أبي خلف: بمكة، ثم [اتفقا] –

أشفى منه، فعاده رسول الله صلي الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن لي مالا كثيرا، وليس يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بالثلثين؟ قال: لا. قال: الثلث، والثلث كثير، إنك إن تترك ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت فيها، حتى اللقمة ترفعها إلى فم امرأتك. قلت: يا رسول الله! أتخلف عن هجرتي؟ قال أن تخلف بعدي، وتعمل عملا تريد به وجه الله، لا تزداد به إلا رفعة ودرجة، لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون. قال: اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة، يرثي له رسول الله صلي الله عليه وسلم

أن مات بمكة". فدل هذا الخبر من وجهين على ما قلنا: أحدهما: قوله: "الثلث، والثلث كثير". وروى أبو عبد الرحمن السلمي عن سعد عن النبي صلي الله عليه وسلم نحو هذه القصة في أمر الوصية وقال: "الثلث، والثلث كثير". قال أبو عبد الرحمن: فمن ثم كانوا يستحبون أن يدعوا من الثلث. والثاني: قوله: "إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس. ويدل عليه أيضا: ما روى عن النبي صلي الله عليه وسلم: "إنما الصدقة عن ظهر غني، وابدأ بمن تعول". فإذا كان أهله محتاجين: فالبدء بهم بإيصال المال إليهم أفضل من الصدقة به على الأجانب. ويدل عليه أيضا: حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلي الله عليه

وسلم قال: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت" مسألة: [استحباب الوصية لمن كان له مال كثير] قال أبو جعفر: (والأفضل لمن كان له مال كثير الوصية بما لا يتجاوز الثلث، مما لا معصية فيه). وذلك لقول النبي صلي الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: "ما حق امرء مسلم يبيت ليلتين، وله ما يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عنده". فحملنا ذلك على الغني وكثرة المال؛ لأن حديث سعد قد دل على أن الأفضل ترك الوصية إذا لم يكن الورثة أغنياء. ويدل عليه أيضًا: حديث أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم: "إن الله جعل لكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم، زيادة في أعمالكم". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو عبد الله عبيد الله بن حاتم

العجلي قال: حدثني عبد الأعلى بن واصل قال: حدثنا إسماعيل بن صبيح قال: حدثنا مبارك بن حسان قال: حدثنا نافع عن ابن عمر عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "يا ابن آدم! اثنتان ليست لك واحدة منهما: جعلت لك نصيب من مالك حين أخذت بكظمك، لأطهرك وأزكيك، وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك". فهذه الأخبار تدل على استحباب الوصية لمن كان ذا مالٍ كثير. مسألة: [إجازة بعض الورثة للوصية بأكثر من الثلث] قال: (ومن أوصى بأكثر من ثلثه لأجنبي، فأجاز ذلك بعض ورثته بعد موته، ولم يجز بقيتهم: جاز له من ذلك الثلث من مال الموصي، وكان له من نصيب من أجاز له ما كان يرجع إليه لو لم يجز له، ولم يجز له ما سوى ذلك). وذلك لأنه يستحق الثلث بغير إجازة، وما زاد عليه فهو موصى به، ومن كل واحدٍ من الورثة بقسطه، وإجازته نافذة في نصيبه، غير جائزة في نصيب الآخرين. مسألة: [موت الموصى له قبل الموصي] قال: (وإذا أوصى لرجلٍ، ثم مات الموصى له قبل الموصِي:

بطلت وصيته). لأن صحة الوصية متعلقة بموت الموصِي، ألا ترى أن الموصي له أن يرجع في وصيته، ويتصرف فيما أوصَى به بسائر وجوه التصرف، فلما كان كذلك، وكان الموصَى له ميتًا قبل موت الموصى، لم تصح له وصيته. [مسألة: موت الموصَى له بعد الموصي قبل أن يقبل الوصية] قال: (وإن ماتَ بعد موت الموصِي، قبلَ أن يقبل الوصية: كانت له الوصية). وذلك لأن الوصية قد تمت من جهة الموصِي، وانقطع حقه عن ماله، وبقى موقوفًا على الموصَى له، فأشبه المشترى إذا اشترى على أنه بالخيار، وعليه قلنا: إن حق البيع لما انقطع، بقى موقوفا على المشتري، وكان موت المشتري مسقطا لخياره، ومتمما للشراء، كذلك الموصَى له، لما كانت الوصية موقوفة عليه مع انقطاع حق سائر الناس عنه، وجب أن يكون موته متممًا للوصية. مسألة: [جهالة قدر الوصية] قال: (ومن أوصى لرجلٍ بحظ من ماله، أو بشيءٍ من ماله: أعطاه الورثة ما شاؤوا).

وذلك لأن هذا الاسم لا يختص بمقدار معلوم، بل يقع على القليل والكثير، وهو شيء مستحق من مال الورثة، فكان الخيار إليهم في أن يعطوه ما شاؤوا، كرجلٍ أقر لرجلٍ بشيء، فيكون القول قوله في مقداره، وذلك لأنا لا نتيقن أنه مستحق لأكثر مما بينه المقر. والأصل في جميع ذلك، أنا لا نُلزم المقر إلا ما تيقنا دخوله في إقراره، ولا يثبت من الوصية إلا ما تيقنا ثبوته؛ لأن الأصل أنه غير ثابت، حتى نعلم ثبوته. مسألة: [أوصى لرجلٍ بسهمٍ من ماله] قال أبو جعفر: (ولو أوصى لرجلٍ بسهم من ماله: فله مثل أقل نصيب أحد الورثة، إلا أن يزيد على السدس، فلا يكون له أكثر من السدس في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: له مثل أخس سهام الورثة في هذه الوجوه كلها، ما لم يجاوزها الثلث، فيجوز منه الثلث، ولم يجز ما زاد). قال أحمد: اسم السهم يتناول نصيب كل واحد من الورثة؛ لأنك تقول: لفلان سهم من كذا، وكذا سهما، فإذا كان كذلك، أعطي مثل نصيب أحدهم، ولم يجاوز به أبو حنيفة السدس، لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا موسى بن سهل بن عبد الحميد بالبصرة قال: حدثنا سهيل بن إبراهيم الجارودي قال: حدثنا أبو بكر الحنفي قال: حدثنا العرزمي عن أبي قيس عن هزيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود "أن رجلا جعل

لرجل على عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم سهمًا من ماله، ولم يدر ما هو، فرفع إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم، فجعل له السدس من ماله". وروي نحو ذلك عن عبد الله بن مسعود من قوله، وروي عن إياس ابن معاوية أن السهم في كلام العرب السدس. وأيضًا: فلو كان اسم السهم يقع على أكثر من السدس، وعلى السدس، كان النظر يوجب الثاني؛ لأنه متيقن، وما عداه مشكوكٌ فيه، فلا نثبته بالشك. * وفي قولهما: مثل نصيب أخس الورثة؛ لأنه يسمى سهمًا، إلا أ، يزيد على الثلث، فلا يُعطى أكثر منه؛ لأن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث.

مسألة: [لو أوصى بمثل نصيب ابنه] قال أبو جعفر: (ومن أوصى لرجلٍ بمثل نصيب ابنه، وليس له وارث غير ابنٍ، فهذه وصية بنصف المال، فإن أجاز الورثة: أخذ، وإلا: فله الثلث). وذلك لأن مثل النصيب ينبغي أن يكون مساويًا للنصيب، فيأخذ نصيبًا، ويزيد عليه مثله، فيكون هو الوصية، وذلك نصف المال. وليس هذا كوصية بنصيب الابن: فلا يجوز؛ لأن نصيب الابن هو ميراثه وملكه، فلا تجوز الوصية به. مسألة: [لو أوصى بنصيب ابنٍ، ولا ابن له] (ولو أوصى له بنصيب ابن، ولا ابن له: كان له بحق الوصية مثل الذي كان يكون للابن لو كان له، من تركته). وذلك لأن معنى ذلك: نصيب ابن لو كان، فليس ذلك وصية بالميراث، وكذلك لو أوصى بنصيب ابن لو كان. مسألة: [لو أوصى لرجل بربع ماله، ولآخر بنصفه] قال: (ومن أوصى لرجل بربع ماله، ولآخر بنصفه، وأجازت الورثة: أخذا وصيتهما). وذلك لأن المال يتسع لهما، وقد أجازته الورثة، لأن الوصيتين صحيحتان، وإنما لم يكن تنفيذهما إلا من الثلث لحق الورثة، فإذا أجازتها الورثة: نفذت.

* (وإن لم يجيزوا: كان الثلث بينهما على سبعةٍ في قول أبي حنيفة؛ لأن الموصى له بالنصف يضرب بالثلث، أربعة من اثني عشر، والموصى له بالربع، يضرب بثلاثة من اثني عشر). وإنما لم يضرب صاحب النصف بما زاد على الثلث، من قبل أن ما زاد عليه فهو نصيب الوارث، ولا تجوز الوصية بمال الوارث، ولا يضرب الموصى له بما لا تصح الوصية. وقد بينا هذه المسألة ونظراءها، في غير هذا الموضع من الكتاب. * (وفي قول أبي يوسف ومحمد: يضرب كل واحد بجميع وصيته في الثلث، فيكون الثلث بينهما على على ثلاثة"، وجعلاه كالقول في الفرائض. وفرق أبو حنيفة بينهما، من قبل أن سهامهم صحيحة قد استحقوها، فيضاربون بها. وأما الوصية بأكثر من الثلث، فليست بصحيحة؛ لأنه حق الوارث، فلذلك لم يضرب. مسألة: [الوصية بما جاوز الثلث] قال أبو جعفر: (ولا يضرب في قول أبي حنيفة أحًد ممن أوصِى له

بشيءٍ ما جاوز الثلث منه، إلا بالدراهم المرسلة، وبقيمة نفسه إن كان معتقًا في المرض، أو موصَى بعتقه، وبمحاباةٍ في البيع).

قال أحمد: ذكر أبو جعفر الدراهم المرسلة، والمال المرسل كله مبنزلة الدراهم، مثل عشرة أثواب، وأربعين شاة، ونحو ذلك. وفرق بين هذه الوصايا، وبين الوصية بجميع المال، وذلك لأن ما زاد على الثلث إلى النصف، أو الجميع، فهو نصيب الوارث، فلا تصح له المضاربة بها، وأما الوصية بالمال المرسل، فليست وصية بمال الوارث. ألا ترى أن ذلك قد يجوز أن يخرج من الثلث، فلا يكون للوارث فيه حق، وكذلك يضرب برقبته في العتق في المرض، وفي الوصية بالعتق؛ لن حق الوارث ساقط عن الرقبة عن العتق، وصار إنما يضرب بقيمتها، والقيمة بمنزلة الدراهم المرسلة، فيضرب بها. وكذلك المحاباة في البيع؛ لأنه وصية بالثمن، لأن الورثة لا حق لهم في أعيان التركة، إلا أنه لو ترك عبدًا عبدًا واحدًا، وأوصى ببيعه من فلان بمثل قيمته، جازت الوصية بالبيع وإن لم يكن للورثة أن يمنعوا منه، فلما لم يكن لهم في عين الرقبة الموصَى ببيعها حق، وكانت وصية صاحب المحاباة إنما هي بالثمن، صار بمنزلة الوصية بالدراهم المرسلة. * (وفي قول أبي يوسف ومحمد: يضرب أصحاب الوصايا بوصاياهم

كلها)، كقول الفرائض. مسألة: [الوصية بالحمل وللحمل] قال أبو جعفر: (والوصية بالحمل وللحمل جائزة، إذا علم أنه كان حملاً يوم الوصية). وذلك لأن الوصية بالمجاهيل جائزة، ألا ترى أنه لو أوصَى له بثلث ماله، جازت مع جهالة مقدار ماله وقت الموت. ويدخل فيه ما يستحدث ملكه إلى وقت الموت، وهو مجهول. فكذلك الوصية بالحمل. ولأنها تتعلق على الأخطار أيضًا، ألا ترى أنها تنتظم ما يستفيده بعد الوصية إلى وقت الموت، فلما تعلقت على الأخطار، جازت بالمجاهيل، وبالحمل، ومن حيث تعلقت على الأخطار جازت للحمل أيضًا. وكما جاز أن يوصِى لغائب، ويكون بعد الموت موقوفًا على قبوله، وكما يوصى لزيدٍ إن خرج إلى مكة، ونحو ذلك. وأيضًا: كما جاز أن يثبت الميراث للحمل، جازت الوصية له، لأنهما جميعًا يتعلقان بالموت، وصحة الميراث في الحمل، يدل على صحة الوصية به أيضًا.

مسألة: [لو أوصى لرجل بأمةٍ، ثم أوصى بها لآخر] قال أبو جعفر: (وإذا أوصى بأمةٍ لرجل، ثم أوصى بها لآخر: كانت بينهما نصفين). وذلك لأنه ليس تمتنع الوصيتان جميعًا لهما، على جهة الاشتراك فيها، وليس في اللفظ دلالة على الرجوع عن الأول. ألا ترى أنه لو أوصَى لرجل بثلث ماله، ثم أوصى لآخر بثلث ماله: جازت الوصيتان جميعًا، ولم تكن الثانية رجوعًا عن الأولى وإن لم يملك إلا ثلثًا واحدًا. [مسألة:] قال: (ولو قال: الأمة التي كنت أوصيت بها لفلان، فقد أوصيت بها لفلان: كان رجوعًا عن الأولى، وإثباتًا للثانية). وذلك لأنه لما ذكرها في لفظ، واستأنف ذكرها للثانية بالفاء، دل على الرجوع، هكذا يقتضيه ظاهر هذا اللفظ. وليس هذا بمنزلة قوله: وقد أوصيت بها لفلان: فتكرون بينهما نصفين؛ لأن الواو للجميع، فصار كأنه قال: هي لهما جميعًا. مسألة: [تصرف الموصِى فيما أوصَى به ببيعٍ ونحوه] قال أبو جعفر: (وإذا أوصَى بأمةٍ لرجل، ثم باعها، أو تصدق بها، أو أخرجها عن ملكه، بوجهٍ من الوجوه، أو كانت حنطًة فطحنها: فهذا رجوع عن الوصية). وذلك لأنه قد فعل ما لا يصح معه بقاء الوصية؛ لأن حصولها في ملك الغير بالبيع والهبة، وكونها مكاتبة يمنع صحة الوصية بها، فلا فرق

بين أن يقول: قد رجعت عن الوصية، وبين أن يفعل ما لا يصح إلا مع الرجوع. ألا ترى أن المشتري إذا كان بالخيار، لم يختلف حكم قوله: قد أجزت البيع، وبين أن يفعل ما لا يصح إلا مع الاختيار في باب لزوم الشراء، مثل الوطء، والبيع. وكذلك الزوج إذا طلق امرأته رجعيًا، فلا فرق بين قوله: قد راجعتها، وبين أن يفعل ما لا يصح إلا مع الرجعة، مثل الوطء، واللمس، والقبلة للشهوة. والأصل في ذلك كله: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن يحيي الأحول الحلواني قال: حدثنا محمد بن الحكم أبو عمرو الشهروزوري قال: حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن هشان بن عروة عن أبيه عن عائشة "أن النبي صلي الله عليه وسلم قال لبريرة: إن قربك، فلا خيار لك". وفي بعض الألفاظ: "إن وطئك، فلا خيار لك".

فجعل النبي صلي الله عليه وسلم رضاها بالوطء، ومطاوعتها إياه عليه، بمنزلة قولها: قد اخترتك، فكذلك ما وصفنا. وأما الحنطة إذا طحنها، فإنما بطلت الوصية فيها؛ لأن صحة الوصية متعلقة بالموت، فإن لم تكن الحنطة موجودة وقت الموت، لم تصح الوصية. وكذلك سائر الأفعال الحادثة في الموصَى به، إذا أزالت الاسم وعظم المنافع. ألا ترى أن الغاصب يستحقه على المالك بإحداث هذه الأفعال فيه، ويبطل حقه عنه، فحق الموصَى له أولى بأن يبطل عنه بإحداث هذه الأفعال فيه. مثل أن يوصى بهذا الكفرى، الذي في هذا النخل لفلان، فيصير بسرا، قبل أن يموت الموصى. أو يوصى بهذا البيض لفلان، فتحضنه دجاجة، ويخرج منه فرايج: فإن الوصية تبطل في جميع هذه الوجوه، لزوال اسم ما تعلقت عليه الوصية، مع عظم منافعه. قال أحمد: قال محمد في الزيادات: لو قال: أوصيت بهذا الرطب

لفلان، فصار تمرًا قبل أن يموت الموصي: كانت الوصية باطلة، ولكني أستحسن أن أخير هذا. وقال: ولو قال أوصيت بهذا العنب لفلان، فصار زبيبا قبل أن يموت الموصِي، كانت الوصية باطلة. قال: ألا ترى أن رجلاً لو غضب رجلاً عنبًا، فجعله زبيبًا: لم يكن لصاحبه عليه سبيل، وأخذ منه عنبًا مثله، أو قيمته إن لم يوجد مثله. ولو غصب رطبًا، فجعله تمرًا، كان صاحب الرطب بالخيار: إن شاء أخذ التمر، وإن شاء ضمنه مثل رطبه. قال أحمد: ففرق بينهما في الوصية، من حيث افترقا في الغصب، من قبل أن زوال عظم منافع العين، يقطع حق المغصوب منه في أخذه، على حسب ما بينا في مسائل الغصب. والأصل فيه: حديث النبي صلي الله عليه وسلم في قصة الشاة المشوية: "أطعموها الأسرى"، وكانت غصبًا. وإذا كان هذا الأصل صحيحًا، قلنا في مسألة الرطب إذا صار تمرًا في يد الغاصب: إن حق صاحبه قائم في أخذه، من قبل أن عظم منافع الرطب قائم في التمر، من كون الدبس، والخل، والنبيذ منه، كما يكون من الرطب. وأما العنب إذا صار زبيبًا، فقد زال به عظم منافعه، فانقطع حق صاحبه عنه.

مسألة: [تصرف المريض مرض الموت] قال: (وتصرف المريض إذا اتصل به الموت: بمنزلة الوصية فيما يعتبر فيه الثلث). وذلك لقول النبي صلي الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص حين قال: أتصدق بجميع مالي؟ فقال: لا، إلى أن رده إلى الثلث. وجعل النبي صلي الله عليه وسلم عتق الذي أعتق ستة أعبد له في مرضه، من الثلث. وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم: "إن الله جعل لكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم، زيادة في أعمالكم". فجعل تصرفه في ماله في المرض من الثلث. وفي حديث ابن عمر عن النبي صلي الله عليه وسلم: يقول الله تعالي: "يا ابن آدم! اثنتان ليست لك واحدة منهما، جعلت لك نصيبًا من مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك وأزكيك، وصلاة عبادي علكي بعد انقضاء أجلك". فأخبر أن الذي له من ماله في المرض، نصيب منه دون جميعه وقال أبو بكر الصديق في مرضه الذي مات فيه لعائشة: "إني كنت

نحلتك جداد عشرين وسقا بالعالية، وإنك لم تكوني حزتية، ولا قبضيته، وإنما هو مال الوارث". فأضاف المال إلى الوارث، وأبان أن هبته في المرض لوارثه غير جائزة، وذلك بحضرة الصحابة من غير نكير من أحد من السلف عليه، وفيه الدلالة من وجهين على ما وصفنا: أحدهما: انه لو جازت الهبة في الحال لوهبها، لقوله: "إن أحب الناس إلى غناء أنت". والثاني: قوله: "إنما هو مال الوارث"، فأضاف المال إلى الوارث في حال مرضه، لثبوت حقه فيه. فصل: [المرض غير المميت غالبًا بمنزلة الصحة] قال: (والمرض الذي لا يخاف فيه الموت، مثل الفالج، والسل الذي قد تطاول، بمنزلة الصحة). لأنه ليس الغالب منه خوف الموت، فهو بمنزلة الصحة، وإن لم يكن أحد من الناس على ثقةٍ من الحياة طرفة عينٍ، في صحة أو مرض، إلا أنه يعتبر فيه الغالب من أمره في العادة. * قال: (والمرأة إذا ضربها الطلق: بمنزلة المريض). لأن غالب حالها الموت في العادة، كالمريض المدنف.

* (وكذلك من قدم للقتل في قصاصٍ أو رجمٍ). [مسألة:] قال: (فأما عقود المرتد وتصرفه: فغير جائز في قول أبي حنيفة، إذا قتل أو مات). لأن الردة تزيل ملكه، وقد بينا ذلك في مواضع. (وقال أبو يوسف: هو كالصحيح)، بمنزلة من وجب عليه القصاص (وقال محمد: هو كالمريض)؛ لأن خوف التلف عليه أغلب من خوفه على المريض، إذ هو مباح الدم في حال الردة. قال: (ومن أوصى بوصايا في مرضه، وأعتق عبيدًا له: بدئ بالعتق على سائر الوصايا إن لم تخرج من الثلث، تقدم أو تأخر). وذلك لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا أبو عبد الرحمن عن حيوة قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن "سعيد بن المسيب قال: "مضت السنة أن نبدأ بالإعتاق في الوصية". وأيضَا: لما كان العتق مما لا يلحقه الفسخ، وسائر الوصايا يلحقها الفسخ، صار العتق آكد منها، ومتى اجتمع أمران لا يمكن إجازتهما

جميعًا، وأحدهما ينفسخ، والآخر لا ينفسخ: فالذي لا ينفسخ أولى بالثبات، وما ينفسخ أولى بالبطلان. ألا ترى أن رجلاً لو أعتق عبد رجلٍ بغير أمره، وباعه آخر، فأجاز الأمرين: جاز العتق، وبطل البيع. وكذلك لو وكل رجلاً بعتق عبده، وآخر ببيعه، فأوقعا الأمرين معًا: جاز العتق، وبطل البيع. مسألة: [تقديم الوصية بالمحاباة على العتق] قال: (ولو أعتق وحابي في المرض، فإن بدأ بالمحاباة فهي أولى، وإن بدأ بالعتق: تحاصا في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: العتق أولى، قدم أو أخر). وذلك إذا لم يسعهما الثلث. وجه قول أبي حنيفة: أن المحاباة حق الآدمي، قد ثبت بعوض، فصارت مثل الذي يقر به المريض، فيكون أولى مما إذا بدأ بها، إذ كان مخرجه مخرج المعاوضة. ألا ترى أن من أقر في مرضه بدين، كان مصدقا على الورثة، وجعل في الحكم كأنه قد ملك بدله، لولا ذلك لما جاز إقراره إلا من الثلث، كذلك المحاباة، لما أشبهت الدين من هذا الوجه، وجب أن يبدأ بها على العتق إذا بدأ بها. فإن قيل: فالجزء الذي فيه المحاباة، ليس بإزائه عوض. قيل له: هو قد جعل الثمن عوضًا لجميع العبد، وأخرجه مخرج المعاوضة، وكذلك الدين المقر به، يجوز أن لا يكون بدلاً من شيء، إلا

أنه لما أخرجه مخرج ما فيه عوض، كان أولى، فكذلك ما ذكرنا. فإن قيل: فالعتق لا يلحقه الفسخ، والبيع يلحقه الفسخ. قيل له: الدين مما يلحقه الفسخ، ومع ذلك فهو أولى من العتق الذي لا يجوز فسخه. فإن قيل: لو كانت المحاباة بمنزلة الدين، لجازت على الورثة، ولم تكن من الثلث، كما أن الدين ليس من الثلث. قيل له: افترقهما من هذا الوجه، لا يمنع الجمع بينهما في وجوب البدء به على العتق. ألا ترى أن العتق في المرض من الثلث، ومع ذلك يبدأ به على الوصية بالمال، لتأكد حاله، كذلك المحاباة لما تأكدت بما وصفنا من شبهها بالدين، من الوجه الذي ذكرنا، وجب أن يبدأ بها على العتق إذا بدأ بها. وأيضًا: فإن المحاباة لما ساوت العتق في باب أن كل واحدٍ منهما قد صح في المرض، انقطع حق الميت في الرجوع فيها، ثم وجدنا للمحاباة فضل مزية من جهة وقوعها على العوض، ومن جهة البدء بها، وعدمنا ذلك في العنق، وجب أن تكون المحاباة مقدمة عليه. ألا ترى أن الجميع متفقون على وجوب تقديم العتق على الوصية بالمال، لوقوعه وصحته في حياته، وانقطاع حقه في الرجوع فيه، كذلك المحاباة، لما صار لها من المزية ما وصفنا، كانت أولى من العتق.

فإن قيل: فالصدقة في المرض لا رجوع فيها، ولم تكن في معني العتق. قيل له: يصح الرجوع في الصدقة بعد الموت، إذا لم تخرج من الثلث، ولا يصح في المحاباة والعتق. فإن قيل: المحاباة قد يصح فسخها، والعتق لا يصح فسخه، فالعتق أولى. قيل له: المحاباة لا يصح فسخها من جهة الميت، ولا من جهة الورثة؛ لأن للمشتري أن يقول: أنا أزيد في الثمن إلى تمام ثلثي القيمة، فلا يكون لهم سبيل إلى فسخها، وإنما يصح فسخها من جهة المشتري، لا من جهة الميت أو الورثة، وإنما يحتاج إلى أن يعتبر ما يصح فسخه من جهة الميت أو الورثة، فيستدل بانقطاع حقهم في الفسخ على تأكده، فأما وقوع الفسخ من جهة الموصى له، فلا اعتبار به. * وأما إذا بدأ بالعتق، ثم المحاباة، فإنهما يتحاصان؛ لأن العتق له مزية البدء، ووقوعه قبل الموت، من غير حق فسخ فيه لأحد، والمحاباة لها مزية العوض، فإنها لا يلحقها الفسخ أيضًا، فتساويا جميعًا، ولم يكن لأحدهما مزية على صاحبه، فلذلك تحاصا. * ولأبي يوسف ومحمد: أن المحاباة قد يلحقها الفسخ، إذا لم يرض المشتري بزيادة الثمن، والمعتق لا يلحقه الفسخ بحال، فكان أولى منها، كما كان العتق أولى من الوصية بالمال. مسألة: [اجتماع عدة فرائض في الوصية] قال: (ومن أوصى بوصايا لقوم بأعيانهم، وأوصى بزكاة عليه، وكفارات أيمان، وحج، والثلث يقصر عن جميع ذلك: ضرب بالوصايا

كلها في الثلث، فما كان منها حقًا لآدمي دفع إليه، ثم ينظر إلى القرب، فيبدأ منها بالزكاة، ثم يثني بالحج المفروض عليه، ثم يثلث بما أوصى به من ذلك في كفارات أيمانه، يبدأ في ذلك بالأولي من الأشياء، على ما هو أولى منها، فإن تساوت: بدئ منها بما بدأ به الموصِى في وصيته). قال أحمد: ذكر أبو جعفر أنه يبدأ بالزكاة، ثم بالحج الفريضة، وذكر أبو الحسن الكرخي رحمه الله أنه إذا اجتمع في الوصية فرائض ذكرها، بدئ بالأول فالأول في لفظه. فأما وجه المسألة في أنه يضرب بجميع وصايا الميت في الثلث أولا: فلأن الوصية للآدمي لا تمنع المضاربة معه في القرب الموصى بها. ألا ترى أنه لو أوصى بثلث ماله للمساكين، وأوصى بثلثه للآدمي، أن الثلث مقسوم بين المساكين، والموصى له بالثلث، فكذلك سائر القرب مع الآدمي، تصير كل واحدة منها بمنزلة إنسان، قد أوصَى له بعينه بثلث المال. فإذا تضاربوا بها، استوفى ما كان من حصة الآدمي، فدفع إليه، ثم نظر إلى ما بقى لجهات القرب، فيصير كأن الميت أوصَى به في هذه الوجوه، فيبدأ أولاً بالفروض؛ لأنها أهم وأولي من النوافل، قدم أو أخر؛ لأنا لا نحمل أمره على أنه قصد تضييع الفرض بتقديم النافلة، ولأن من

شأن المؤمن أن تأدية الفرض أهم عنده من فعل لنافلة وإن أخره في لفظ الوصية عنها. * وذكر أبو حنيفة تقديم الزكاة على حجة الفريضة، ووجهة: أن الزكاة في الأصل مما جعل أخذها إلى الإمام، وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر يأخذونها، كما يأخذون صدقة المواشي، على أن قال عثمان في خطبته في شهر رمضان: "هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده، ثم ليزك بقية ماله". فوكل الأداء إلى أرباب الأموال، من غير سقوط حق الإمام في أخذها. وقاتل أبو بكر الصديق في سائر الصحابة أهل الردة على منع الزكاة، فصارت لها هذه المزية، فكانت أولى بالتقديم من الحج؛ لأن الإمام لا مدخل له في جبر الناس على الحج. ثم بعد الزكاة حجة الإسلام؛ لأنها فرض، ثم الواجبات، من كفارات الإيمان ونحوها.

* وإنما قدم الحج على كفارات الإيمان، لما جاء من الوعيد في ترك الحج، ولم يجئ مثله في كفارات الإيمان، وهو ما روى عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "من مات ولم يحج حجة الإسلام، فليمت يهوديا أو نصرانيا". وروى هشام في نوادره عن محمد: في الحج الفريضة والزكاة: أنه يبدأ بما بدأ به الميت. قال أحمد: هذا أصح على أصولهم مما رواه أبو جعفر. * ثم يبدأ من الواجبات بعد الحج، بما بدأ به الميت في لفظ الوصية؛ لأن بدأه بها في لفظ الوصية يدل على أنها كانت أهم عنده من غيرها. ثم بعد ذلك بما بدأ به من النوافل، حتى تستوفي وصاياه إن أمكن وإن لم يمكن اقتصر بها على ما أمكن، كما وصفنا. مسألة: [مراتب الأوصياء] قال أبو جعفر: (والأوصياء الأحرار البالغون على ثلاث مراتب:

فوصي مأمون على ما أوصى به إليه، مضطلع بالقيام به: فلا ينبغي للحاكم أن يعترض عليه. ووصى مأمون غير مضطلع بالقيام به: أيده الحاكم بغيره. ووصى مخوف على ما أوصى به: فيخرجه الحاكم من الوصية، ويقيم فيها من يؤمن عليها، ويضطلع بالقيام بها). والأصل في ذلك: أن الوصي منصوب لحفظ مال الميت، والاحتياط للصغاب. قال الله تعالي:} ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن {، وقال} وأن تقوموا لليتامي بالقسط {، وقال:} ويسألونك عن اليتامي قل إصلاح لهم خير {. فإذا كان الوصي مضطلعًا بها، مأمونًا عليها: لم يتعرض له الحاكم؛ لأن الميت قد أوصى إليه وصية للقيام بأمرٍ، فلا يزال عنها، إلا بسببٍ يوجب زواله. وإن كان مأمونًا غير مضطلع بالقيام بها: أيده بغيره؛ لئلا يقع عليه غبن فيما يتصرف فيه، ولا يجري به عليه تضييع. وإن كان مخوفًا عليها: أخرجه الحاكم، وأقام فيها من يؤمن عليها؛

لأن الحاكم منصوب لحفظ أموال الناس وحقوقهم، وخاصة الأموات والصغار منهم، فإذا خاف من الوصى الخيانة: أخرجه من الوصية، وأسندها إلى غيره. مسألة: [الوصية إلى العبد] (ومن أوصى إلى عبده، والورثة صغار: فالوصية جائزة إلى أن يبلغوا في قول أبي حنيفة). وذلك لأن الصغار يولي عليهم، ولا ولاية لهم في أنفسهم، فإذا لم يكن فيمن خلف الميت من الورثة ذو ولاية في نفسه، جاز أن يلي عليهم التصرف، كما يلي عليهم الحر لو أوصى إليه. * (ولو كان فيهم كبير: لم يجز) لأن الكبير يلي على العبد، ويتصرف فيه، فلا تصح للعبد ولاية ولا تصرف، مع كونه مولى عليه محجورًا. * (وفي قول أبي يوسف ومحمد: لا تصح الوصية إلى العبد). لأن موت المولى يوجب حجرًا عليه، فكيف تثبت له ولاية وهو محجور عليه؟. مسألة: [وصية الوصى إلى غيره] (وللوصى أن يوصي إلى غيره بما أوصى به إليه، أطلق ذلك له الوصى، أو لم يطلقه). وذلك لأنه قائم مقام الميت، فيتصرف في ماله من طريق الولاية، ألا ترى أنه يتصرف في حال انقطاع أمر الميت وتصرفه، فصار بمنزلة الجد. وإن استحق الولاية على الصغير بواسطة هو الأب: جاز له أن يوصى

إلى غيره، فيقوم وصية في مال الصغير مقامه. وليس الوصي في هذا كالوكيل، في أنه لا يجوز له أن يوكل غيره فيما وكل به، إلا أن يطلق له فيه؛ لأن تصرف الوكيل من طريق الآمر، لا من طريق الولاية، ألا ترى أن وكالته تبطل بانقطاع أمر الميت لموته. ويدل على ما ذكرنا أيضًا من حال الوصي: أنه يتصرف على الصغير في سائر وجوه التجارات، وفي الكتابة، وما شابهها، فصارت الوصية إليه مقتضية لعموم التصرف من الميت، ومن وجه التصرف عليه: أن يوصي بما أوصى به إليه إلى غيره، ويقيمه في مقام نفسه، كما كان له أن يوكل بالتصرف على الصغير في حال حياته من شاء وإن لم ينص له عليه في لفظ الوصية إلى غيره. وفارق الوكيل أيضًا من هذا الوجه؛ لأن الوكيل لا يوكل غيره، والوصي يجوز توكيله. ويدل على اختلاف حكمهما في التصرف: أن لفظ الوكالة على الإطلاق لا يستحق به التصرف في العقود، ألا ترى أن من قال لرجل: وكلتك بمالي: كان وكيلاً في حفظ ماله، ولم يملك به البيع والشراء، أو سائر وجوه التصرف عليه. ولو قال له: قد أوصيتُ إليك بعد موتي: جاز له التصرف فيه على العموم، فأشبه من هذا الوجه الإذن للعبد في التجارة، أنه لما صح بإطلاق اللفظ من غير ذكر وجوه التصرف، جاز له أن يأذن لعبده أيضًا في التجارة. كذلك الوصي لما استفاد جواز التصرف بإطلاق لفظ الوصية، كان له أن يوصى إلى غيره.

فإن قيل: فقد تصح المضاربة بإطلاق لفظها، بأن يقول: دفعته إليك مضاربة، ومع ذلك لا يدفعه مضاربة إلى غيره. قيل له: لا تصح المضاربة بهذا اللفظ، وإنما تكون إجازة فاسدة، يستحق فيها أجر المثل، وإنما تصح إذا قال: بالنصف أو الثلث ونحوه. وأيضًا: فإنه قد دخلت تحت اللفظ جميع وجوه تصرف المضارب، وإنما لم يجز له دفعه إلى غيره مضاربة، لما فيه من إثبات شركة للثاني في مال رب المال، وليس ذلك من التصرف الذي يقتضيه عقد المضاربة في شيء. فأما ما كان من طريق التصرف، فله أن يفعله، ألا ترى أنه لو دفعه إلى غيره مضاربةً فاسدةً: لم يضمن، وهو متصرف فيه، كما يتصرف في المضاربة الصحيحة، إذ لم يكن في إثبات شركة للغير، وليست من طريق التصرف. مسألة: [تصرف أحد الوصيين دون الآخر] قال: (وليس لأحد الوصيين أن يشتري للورثة إذا كانوا صغارًا، إلا الكسوة والطعام، وليس له أن يشتري لهم خادمًا إن احتاجوا إليه، إلا بأمر صاحبه، في قول أبي حنيفة ومحمد. قال أبو جعفر: وقال محمد بن الحسن في نوادره: ليس لأحدهما أن يفعل شيئًا دون صاحبه، إلا ستة أشياء، فإنها تجوز له دون أمر صاحبه، وهي: 1 - شراء كفن للميت 2 - وقضاء ديونه 3 - وإنفاذ وصيته فيما أوصى به من صدقة، أو نحوها 4 - أو شيء لرجل كان له بعينه في يد الميت، يدفعه إليه 5 - وفي الخصومة فيما يدعي على الميت 6 - وفي الخصومة للميت

فيما يدعيه له من الحقوق قبل الناس. فأما غير ذلك من شراء أو بيع: فإنه لا يجوز له دون صاحبه). قال أحمد: ولم يذكر شراء الكسوة والطعام للصغير في هذه الرواية، وهو مما يجوز لأحدهما أن يفعله، في قولهم جميعًا. وليس ما ذكره في النوادر، مخالفًا لما في الأصول، وإنما هو تفسير لما أجمل ذكره في الأصول. (وقال أبو يوسف: فعل أحد الوصيين جائز، كقولهما جميعًا). وجه قول أبي حنيفة ومحمد: أن الميت لما أسند الوصية إليهما معًا، فلم يرض إلا باجتماعهما على الرأي في التصرف، ولم يرض برأي أحدهما دون صاحبه. ألا ترى أنه لو وكل رجلين بالبيع: لم يكن لأحدهما أن يعقد دون الآخر. وأما شراء الطعام والكسوة، فهو مما لابد للصبي منه، وفي تأخيره انتظارًا للآخر: ضرر عليه، ولا ولاية لهما فيما فيه ضرر على الصغير، فلذلك جاز لأحدهما أن يشتريه. وأما الخادم، فليست الحاجة إليها ضرورة، وليس في انتظار الآخر ضرر على الصغير، فلذلك لم يجز أن يشتريه دون الآخر. وأما شراء الكفن، فلا يمكن تأخيره انتظارًا للآخر؛ لأنه مأمور

بتعجيل الدفن. وأما قضاء الدين، فلأن الغريم لو قبضه بغير إذنه: صح قبضه وأما إنفاذ الوصية، فإن ابن رستم قد ذكر عن محمد وعن أبي حنيفة أنه جائز لأحدهما دون الآخر، ولم يفصل بين شيء منهما، وهو يقتضي جواز نفاذ الوصية لإنسانٍ بعينه، وللمساكين وغيرهم. فروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أيضًا: أن لحد الوصيين إنفاذ وصية الميت، سواء كانت لرجل بعينه أو للمساكين، ذكره أبو الحسن رحمه الله في كتابه. ووجه ذلك: أن الوصية إن كانت لرجلٍ بعينه، فإنه لو استوفاها الرجل بغير إذنه، جاز كما قلنا في الدين، وإن كانت وصية بالعتق، جاز أيضًا، كرجل وكل رجلين بعتق عبده، فلأحدهما أن يعتقه دون صاحبه. وإن كانت وصيةٍ لمساكين ونحوها، فوجه جواز تصرفه: أنها لا يتعلق بها حق على أحد، وإنما فيه نقل ملك الميت إلى المساكين، فصارت كالوصية لإنسانٍ بعينه، وكمن وكل رجلين بهبة عبده أو بعتقه، فلأحدهما أن يفعله.

وأما الخصومة فلا تتأتي منهما لو حضرا، وإنما كان يخاصم أحدهما، فلذلك جاز لأحدهما أن يخاصم، ولأحد الوكيلين بالخصومة أن يخاصم دون صاحبه. ووجه قول أبي يوسف: أنهما يتصرفان من طريق الولاية؛ لأنهما يتصرفان مع انقطاع أمر الميت، وفارقا الوكيلين من هذه الجهة. مسألة: [إسناد أحد الوصيين قبل موته الوصية إلى الوصي الآخر] (وإن مات أحد الوصيين، وقد أوصى إلى صاحبه، فإن محمدًا قال: هو جائز. قال: وهو قياس أبي حنيفة. وقال أبو جعفر: قد روي عن أبي حنيفة من غير هذا الوجه، أن ذلك لا يجوز، لأن الميت رضي برأي اثنين، ولم يرض برأي واحد). وجه القول الأول: أنه لما جاز له أن يوصي إلى آخر، ويقيمه في مال الميت مقام نفسه، كذلك جاز له أن يسند ما كان إليه إلى صاحبه. ألا ترى أنه قد كان له في الحياة أن يوكل صاحبه بالتصرف في الشراء والبيع في مال الميت. ووجه القول الثاني: أن الميت الأول إنما رضي بتصرف اثنين واجتماعهما على الرأي فيه، فلا يجوز الاقتصار به على رجلٍ واحد.

مسألة: [تصرف الوصي قبل أن يعلم أنه أوصى إليه] قال: (وإذا أوصى إلى رجل، ثم مات، فباع الوصي شيئًا من تركة الميت، ولم يعلم بالوصية: جاز بيعه، ولزمته الوصية). وذلك لأن حق الميت قد انقطع، وبقي موقوفًا على قبول الوصي، فأشبه البيع إذا شرط الخيار للمشتري، فإنه لما انقطع حقه، وبقي موقوفا على حق المشتري، كان تصرف المشتري فيه مبطلاً لخياره، وملزمًا له البيع، سواءً علم أنه المشتري، أو لم يعلم. ألا ترى أنه لو باع العبد المشتري، وهو لا يعلم أنه الذي اشتراه: أنه يبطل خياره، ويلزمه البيع، كذلك مسألة الوصي، لما لم يبق هناك غير حقه: نفذ بيعه، ولزمته الوصية؛ لأنه يستحيل أن يجوز بيعه إلا وهو وصي، إذ كان غير الوصي لا يجوز بيعه. مسألة: [الوصية الخاصة] قال: (ومن أوصى إلى رجلٍ في خاص من ماله: كان وصيًا في كل ماله في قول أبي حنيفة). وذلك لأن الوصي يتصرف من طريق الولاية، فصار ثبوت ولايته في شيءٍ من مال الميت، موجبًا له الولاية في جميعه، كما أن الأب لما كان تصرفه على الصغير من طريق الولاية، جاز تصرفه في جميع ماله. (وفي قول أبي يوسف ومحمد: هو وصي فيما أوصى به إليه خاصة، دون ما سواه). لأن الوصية إنما تجوز أن تختص بوقت دون وقت، وبحال دون حال، ألا ترى أنه لو قال: فلان وصيي حتى يقدم فلان، ثم الوصية إلى

فلان: كانت كما أوصى في قولهم جميعًا، فأشبهت الوكالة من هذا الوجه، فجاز أن يخصها ببعض التصرف دون بعض. فإن قيل: لما صحت بإطلاق لفظٍ من غير تعيين لوجوه التصرف، وجب أن لا يصح تخصيصها ببعض التصرف، كالإذن في التجارة، وفارقت الوصية من هذا الوجه. قيل له: هذا فاسد؛ لأن المضاربة تصح بإطلاق لفظها، من غير تعيين وجوه التصرف، ولو خصها بالتصرف في بعض التجارات، دون بعض: صحت على ما شرط من التخصيص. قال أحمد: ذكرا أبو جعفر أبا يوسف مع محمد، وهو مع أبي حنيفة في هذه المسألة. مسألة: [قبول الوصي الوصية قبل موت الموصي يلزمه الوصية] (ومن أوصى إلى رجل، فقبل وصيته في حياته، ثم مات الموصِى: فقد لزمته الوصية). لأنها قد صحت بالموت، وصارت بحيث لا يلحقها الفسخ؛ لأن فسخها إنما كان يصح بمحضر الموصي، كالخروج من الوكالة وفسخها، لا يصح إلا بمحضرٍ من الموكل، وكما لا يصح فسخ المضاربة والشركة إلا بمحضرٍ من رب المال والشريك، فلما فات ذلك في مسألتنا بموت الموصِي، صحت الوصية، ولزمته، ولم يكن له سبيل إلى فسخها. فصل: [قبول الوصي الوصية وقد رفضها بعد موت الموصى] قال: (ومن أوصى إلى رجل، ثم مات، فقال الوصى: لا أقبل، ثم قبل: جاز قوله).

لأن الوصية قد تمت من جهة الموصي، وبقيت موقوفه على قبول الموصَى له، فلم يصح فسخه لها، وكما لو فسخ المضارب المضاربة بغير محضرٍ من رب المال، لم يصح فسخه لها، وكما لو فسخ المشتري البيع وله فيه الخيار بغير محضر من البيع، لم يصح فسخه. مسألة: [قبول الموصى له للوصية بعد أن ردها وعزله القاضي] قال: (فإن أخرجه القاضي من الوصية حين ردها: لم يكن له أن يقبلها بعد ذلك). لأن القاضي قد قام مقام الميت في التصرف عليه، فجاز له أن يخرجه منها حين ردها. مسألة: [تصرف الوصي في بيع عروض الميت لقضاء الدين] قال: (وللوصي أن يبيع عروض الميت، لقضاء ديونه، بغير محضر من غرمائه). لأنه قائم فيها مقام الميت، فكما جاز للميت بيع ماله بغير محضرٍ من الغرماء، كذلك الوصي؛ لأنه يملك البيع وإن كره الغرماء. مسألة: [تصرف الوصي في بيع مال الميت بما يتغابن الناس فيه] قال: (ولا يجوز بيع الوصي لمال الميت إلا بما يتغابن الناس فيه). وذلك لأنه يتصرف على الميت على وجه الاحتياط، فلا يجوز له إتلاف ماله، إذ كان منصوبًا لحفظه. وأيضًا فإن تصرفه في ماله من طريق الحكم؛ لأن أمر الميت منقطع، فأشبه الأب في تصرفه على الصغير، أنه مقصور على ما يتغابن فيه.

مسألة: [تكرار لفظ الوصية] قال: (ومن أوصى لرجل بسدس ماله، ثم أوصى بعد ذلك بسدس ماله في مجلس أو مجلسين: فهو سدس واحد). لأنه لما احتمل اللفظ التكرار، واحتمل استباق السدس آخر، لم تثبت الوصية بالشك. مسألة: قال أبو جعفر: (وإذا أوصى له في أحد الوصيتين بثلث ماله، كان له ثلث ماله، ودخل فيه السدس). لأنه إذا احتمل دخول السدس فيه، واحتمل غيره: لم تثبت الزيادة بالشك، وجعلناه داخلاً في الثلث. مسألة: [للوصى أن يحتال بمال اليتيم] قال: (وللوصي أن يحتال بمال اليتيم، إذا كان خيرًا له). لقول الله تعالي:} ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن {، فإذا رأى ذلك خيرًا لليتيم، فهو من الأحسن المأمور به. وقال النبي صلي الله عليه وسلم: "من أحيل على ملئ فليحتل"،

وعلى عمومه ينتظم مال اليتيم وغيره، ولأن الخطاب لمن له حق المطالبة بنصيبه. وأيضًا: فإن الوصي يتصرف في مال اليتيم على وجه الاحتياط، فإن كان ذلك إصلاحًا لليتيم فعل، وكما كان له أن يبيع ماله، وينقل حق اليتيم من العين إلى الذمة بالولاية، جاز له أن يحتال به كالأب. مسألة: [أوصى بثلث ماله لرجلين وكان أحدهما ميتًا] قال: (ومن أوصى بثلث ماله لرجلين، فكان أحدهما ميتًا: فالثلث للحي، علم الموصى بموته، أو لم يعلم). وذلك لأن الميت لا تصح له الوصية بحال، فلم يزاحم به الحي الذي هو من أهل الوصية، فصار كقوله: ثلث مالي لفلان، وللحائط، فلا يمنع ذلك من استحقاق الثلث. مسألة: [أوصى بثلث ماله بين فلان وفلان وأحدهما ميت] قال أبو جعفر: (ولو قال: ثلث مالي بين فلان وفلان، وأحدهما ميت: لم يكن للحي إلا النصف). لأن لفظ الوصية لم يوجب له غير النصف، وليس ذلك كقوله: لفلان وفلان؛ لأن الثلث هاهنا موصى به لفلان، والآخر ملحق به على جهة المزاحمة به، فصار كقوله: ثلث مالي لفلان. إذا سكت عليه. ويدلك على ذلك: أنه لو قال: ثلث مالي لفلان، كانت وصيته صحيحة بالثلث، ولو قال: ثلث مالي بين فلان، وسكت: لم يستحق

الثلث بهذا القول. قال أبو جعفر: (وروي عن أبي يوسف أنه قال: إذا لم يعلم بموته: فللحي نصف الثلث، والثلث الباقي لورثة الموصى). وذلك لأنه إذا لم يعلم بموته، فقد قصد إلى إيجاب نصف الثلث للحي؛ لأن الآخر كان عنده من أهل الوصية، وإذا علم بموته: فوصيته لغو، فلم يعط الأول من وصيته شيئًا. مسألة: [أوصى بثلث ماله لأجنبي ولأحد ورثته] قال أبو جعفر: (وإذا أوصى بثلثة لأجنبي ولأحد ورثته: فللأجنبي نصف الثلث). لأن الوصية للوارث واقعة، وتلحقها الإجازة من بقية الورثة. مسألة: قال: (ووصي الجد بمنزلة الجد). لأنه قائم مقامه، فيجوز تصرفه حسبما كان يتصرف الجد، كما أن وصي الأب بمنزلة الأب في التصرف، كذلك الجد.

مسألة: [تصرف وصي الأب على الكبير الغائب] قال: (ولوصي الأب أن يبيع العروض على الكبير الغائب، ولا يبيع العقار). وذلك لأن ولاية الوصي في هذه الحال، مقصورة على حفظ مال الميت، لا علي التصرف؛ لأن تصرفه غير جائز على الكبير، وكل ما كان فيه حفظ لمال الميت: جاز تصرفه فيه؛ لن فيه حقًا للميت، يجوز أن يلحق الميت دين، فيحتاج إلى قضائه من المال. ولا يبيع العقار؛ لأنه محفوظ لا يخشى عليه التلف، ومن أراد تحصين ماله وحفظه صرفه في شراء العقار، وأما العروض فيسرع إليها التلف، وحفظ بدلها من الدراهم والدنانير أيسر وأبعد من التوى والفساد. * (وليس للوصي أن يتجز في شيءٍ من مال الميت إذا كان الوارث كبيرًا وإن كان غائبًا). لما وصفنا من عدم ولايته على الكبير، فإن تصرفه محصور على حفظ المال فحسب. مسألة: [تصرف وصي غير الأب والجد] قال: (ووصي غير الأب والجد بمنزلة وصي الأب على الكبير الغائب). يعني مثل وصي الأم، والأخ، والعم، ونحوهم، وذلك لأنهم لا

يملكون التصرف على الصغير؛ لأن كل واحد منهم قائم مقام الميت الموصي، والميت لم يكن يملك التصرف على الصغير، فوصية أجرى أن لا يملك، وإذا كان كذلك، كانت ولايته مقصورة على حفظ مال الميت، على النحو الذي بيناه في وصي الأب على الكبير الغائب. مسألة: قال: (ولوصي الأب أن يتجر في مال الصغير) لقول الله تعالي:} ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن {، وقوله تعالي:} ويسألونك عن اليتامي قل إصلاح لهم خير {، وقوله تعالي:} وأن تقوموا لليتامي بالقسط {. وأيضًا: فإنه قائم مقام الأب، وكما كان للأب أن يتجر في مال الصغير، كذلك وصية. مسألة: [الوصية بالمنافع] قال أبو جعفر: (والوصية بخدمة العبد، وبسكنى الدار، وبثمرة النخل، وبغلة العبيد، والعقار جائزة). قال أحمد: يعني في خدمة العبيد، وبسكنى الدار إذا كانت الوصية بها لإنسان بعينه.

قأما إن أوصى بها للفقراء والمساكين: فإن الوصية لا تصح بهما في قول أبي حنيفة، وتصح في قول محمد. وأما بغلة العبيد، والدار: فتصح في قولهم جميعًا. وفرق أبو حنيفة بين الوصية بالمنافع لفقراء بغير أعيانهم، وبينها إذا كانت بالمال، من قبل أن الوصية بالمنافع للفقراء جارية مجرى الإباحة والعارية، إذ لم يستحقها واحدٌ بعينه. ألا ترى أن الوصي لو أسكنها فقيرًا، أو أخدمه العبيد ساعة: كان له أن يأخذها منه، فلم يستحق السكنى والخدمة إلا على سبيل العازية، والعارية لا يستحق بها شيء، ألا ترى أنه لو أوصى بعارية عبده أو داره لغير معين لم تصح. وأما إذا كانت وصية لإنسان بعينه، فإنه يستحق المنافع، دون سائر الناس، وليس للوصى إخراجه منها، ولا صرفها إلى غيره، فجرى مجرى المنافع المستحقة بالعقود الموجبة لها. وإنما جازت الوصية بالمنافع لما كانت لأعيان، لقول الله تعالي:} من بعد وصية يوصى بها أو دين {، وعمومه يقتضى جوازها بالمنافع وغيرها. وكما جاز تمليك المنافع بعقد الإجارة، جاز تمليكها بالوصية، وجهالتها لا تمنع صحة الوصية؛ لأنها تجوز بالمجاهيل، ألا ترى أن الوصية بالثلث جائزة، وهو لا يدري كم يكون مقداره وقت الموت.

مسألة: [الوصية بثمر البستان] قال: (ولو أوصى لرجل بثمرة بستانه، ثم مات وفيه ثمرة: فلا شيء للموصى له غيرها). وذلك لأن هذه العين قد صحت الوصية فيها لا محالة، إذ كان الاسم ينتظمها، وما يستقبل حدوث منها ليس في اللفظ دلالة عليه، فلم يدخل في الوصية. *قال: (وإن مات وليس فيه ثمرة: فله ثمرته فيما يستقبل مادام حيا، ولا يورث ذلك عنه). وإنما كان له ثمرته فيما يستقبل، من قبل أنه لما لم تكن هناك في حال الموت، وفي حال صحة الوصية ثمرة، لم تنصرف الوصية إلا في المستقبل؛ لأنا متى أمكننا تصحيح الوصية على حسب ما انتظمت من لفظها، لم نبطلها، وصرفت الوصية، إذ كانت مما تصح الوصية به. ولا تورث عنه؛ لأن الوصية كانت له، فلا يستحقها غيره، ألا ترى أنه لو أوصى لرجل بخدمة عبده: لم يرثها عنه ورثته بعد موته. مسألة: [الوصية بغلة بستان] قال أبو جعفر: (ولو أوصى له بغلة بستان: له ثمرتها الموجود منها، والمستقبل جميعًا). وأما الثمرة، فإن اللفظ يتناول الموجود منها، ولا ينصرف إلى

المستقبل، إلا بدلالة ما قال مسألة: قال: (ولا تجوز وصية المسلم إلى الذمي). وذلك لأن الوصي يتصرف من جهة الولاية، ولا ولاء للكافر على المسلم، قال الله تعالي:} ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا {. وأيضًا: فإن الوصي قائم مقام الأب، ولو كان الأب كافرًا، والصغير مسلمًا: لم تكن له ولاية عليه، كذلك الوصي إذا كان كافرًا. وليست الوصية كالوكالة، لما وصفنا من أن الوصية ولاية، والوكالة ليست بولاية، وإنما يتصرف الوكيل فيها من جهة الآمر؛ لأن أمر الموكل باق. قال أحمد: وقد قال محمد في كتاب القسمة: الوصي الذمي جائز على الصغير المسلم، ما لم يخرجه القاضي منها. فهذا يدل على أن قوله: لا تجوز وصية المسلم إلى الذمي: على معني الكراهة، كما تكره شركة المسلم الذمي؛ لأنه يستحل في دينه ما هو محظور في الشريعة، وتصرف الوصي عام، كتصرف الشريك والمضارب، فإذا تصرف: جاز تصرفه، كما يجوز تصرف المضارب

والشريك الذميين. وتفارق الكراهة في باب الوكالة؛ لأن الوكالة مقصورة على ما سمي فيها من التصرف. مسألة: [أكل الوصي من مال اليتيم] قال أبو جعفر:"وليس للوصي أن يأكل من مال اليتيم قرضا ولا غيره". وذلك لقول الله تعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده}، وقال تعالى: {ولا تأكلوها إسرافا وبدارًا أن يكبروا}. وذلك عموم في النهي عن أكل مال اليتيم في سائر الأحوال. وقال: {وأن تقوموا لليتامى بالقسط}، وقال {قل إصلاح لهم خير}، وقال تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}، وذلك ينفي أكل مال اليتيم قرضا، وغيره. فإن قيل: روى ابن لهيعة قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب قال: حدثنا أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني "أنه سأل ناسا من الأنصار من أصحاب

النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: {ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف} الآية، فقالوا: " فينا نزلت، إن الوصي كان إذا عمل في نخل اليتيم، كانت يده مع يده ". قيل له: يحتمل أن يكون مراده أنهم كانوا يفعلون ذلك قبل نزول الآية، ثم نزلت الآية، فمنعوا. وعلى أن الحديث لم يرو إلا من هذا الوجه، وهو إسناد مطعون فيه، من جهة ابن لهيعة؛ لأنه ضعيف عندهم. والأصول أيضا ترد هذا التأويل؛ لأنهم لو أبيح لهم الأكل لأجل عملهم، لما اختلف الغني والفقير فيه، كما يختلفون في استحقاق أجرة ما يستأجرون عليه، فهذا تأويل لا معنى له. وقد روي عن أبن عباس في تأويل هذه الآية غير ما في حديث ابن لهيعة، وه و" ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو عامر الأسدي قال: حدثنا سفيان عن الأعمش عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: لما نزلت: {ومن كان غنيا فليستعفف} قال: أمر والي اليتيم أن يستعفف بغناه، فلا يأكل من مال اليتيم شيئا، ومن كان فقيرًا، فليقوّت على نفسه

من ماله، حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم". وروى نحو هذا التأويل عن مجاهد أيضا من قوله. فهذا يدل على أن ما روي في حديث ابن لهيعة معناه: أنهم كانوا يأكلون من مال اليتيم إذا عملوا في نخله، حتى نزلت الآية، فنهتهم عن أكله. وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على صحة ما قلناه، وهو: ما حدثنا محمد بن أبي بكر البصري قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني قال: حدثنا ابن وهب عن سليمان بن بلال عن ثور بن يزيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله! وما هنّ؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ". فعمّ عليه الصلاة والسلام تحريم مال اليتيم، ولم يخصص فيه حالا من غيرها. ويدلّ عليه أيضا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يحل مال امرئٍ

مسلم إلا بطيبة من نفسه ". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الحسين بن عبد الحميد الموصلي وخلف بن عمر وقالا: حدثنا مُعَلَّى بن مهدي قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضَّبعي عن أبي عامر الخزّاز عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله " أن رجلا قال: يا رسول اللهّ ممَّ أضرب يتيمي؟ فقال: ممَّا كنت ضاربًا ولدك، غير واقً مالك بماله، ولا متأثل من ماله مالا ".

فإن قيل: روى حسين المعلّم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده " أن رجلا قال: يا رسول الله! إني فقير ليس لي شيء، ولي يتيم، فقال: كل من مال يتيمك، غير مسرف، ولا مباذر، ولا متأثل". فقد أباح له أكل مال اليتيم في حال الفقر. قيل له: يحتمل أن يكون كان ولده، وسمَّاه يتيما لفقده أمه، لأنه قد يسمَّى يتيما من فقد الأم صغيرًا، ويسمَّى به من فقد الأب؛ لأن اليتيم هو المفرد من أحد أبويه. وكذلك سمّيت المرأة التي لا زوج لها: يتيمة، إذا كانت مفردة عن زوج. وإذا كان كذلك، اقتضى ظاهر اللفظ أن يكون ولده؛ لأنه قال: لي يتيم، فهو كقوله: لي ولد لا أم له، فأباح له الأكل من ماله؛ لأنه فقير، ولولده مال، فاستحق عليه النفقة من ماله، وكذلك قولنا فيه. فإن قيل: قد روي عن ابن عباس: أنه إذا احتاج: وضع يده، فأكل من

طعامه، ولا يلبس منه ثوبًا. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: " يا يرْفا: إني أنزلت مال الله بمنزلة مال اليتيم، إن احتجت أخذت منه، وإن يسرت رددته، وإن استغنيت استعففت ". وروي عن عبيدة السَّلماني وأبي العالية أنه يأخذه قرضًا، واستشهدوا بقوله: {فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم}. وقال الشعبي: " هو بمنزلة الميتة، يتناولها عند الضرورة، فإذا أيسر قضاه، وإذا لم يوسر، فه وفي حِلٍّ ". قيل له: يحتمل أن يكونوا أباحوا أخذه قرضًا عند الضرورة، وكما

يأخذه من مال غيره حين يخاف التلف على نفسه، وكذلك نقول فيمن خاف على نفسه التلف من الجوع، ووجد مال يتيم، لم يجد غيره، فله أن يتناوله ويضمنه. وقد روى أبو جعفر في كتابه في أحكام القرآن عن أبي حنيفة: أنه يأخذه قرضًا عند الحاجة، ثم يقضيه، كما روي عن عمر وعبيدة وأبي العالية. ولا أعرف هذه الرواية إلا من جهة أبي جعفر، فأولى الأشياء بنا، حمل معنى الآية إذ كانت متشابهة على المحكم الذي لا تشابه فيه، وهو قوله: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن}، وقوله تعالى: {ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا} * قال أبو جعفر:"وروي عن أبي يوسف: أنَّ قوله تعالى: {فليأكل بالمعروف}، يجوز أن يكون منسوخا بقوله: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}، ذكره في أحكام القرآن.

مسألة: [تصرف الوصيّين في مال اليتيم] قال أبو جعفر:"وللوصيّين أن يأخذوا مال اليتيم، فيكون في يد كل واحد منهما النصف إن كان مما يقسم، وإن كان مما لا يقسم: كان في يد كل واحد منهما يوما بالمهايأة، ولهما أن يودعاه إن شاءا ذلك". وذلك لأنهما مأموران بالامتثال والحفظ، فلهما أن يحفظاه على حسب الإمكان. *****

كتاب الوديعة

كتاب الوديعة مسألة: قال أبو جعفر:"والوديعة أمانة غير مضمونة". قال أبو بكر أحمد: ولا اختلاف فيه بين فقهاء الأمصار، وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إسماعيل بن الفضيل قال: حدثنا قُتَيْبَة قال: حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من استودع وديعة، فلا ضمان عليه ". وروى أبو الزبير عن جابر " أن رجلا استودع متاعا، فذهب من بين متاعه، فلم يضمنه أبو بكر الصديق، وقال هي أمانة ". فإن قيل: روى الشعبي عن أنس قال: " استحملني رجل بضاعة،

فضاعت من بين ثيابي، فضمنني عمر بن الخطاب ". وروى هشام بن حسان عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك قال: " استودعت ستة آلاف، فذهبت، فقال عمر: ذهب لك معها شيء؟ قلت: لا، فضمنني". قيل له: يحتمل أن يكون خالف أمر المودع خلافًا يوجب عليه الضمان، فأخذه عمر باعترافه بالخلاف، وألزمه الضمان. ويدل على نفي ضمانها: قول الله تعالى: {مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}، وهو محسن في حفظ مال أخيه المسلم إذا استحفظه إياه. وقال: {وتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى}. مسألة: [ضمان المودع إن لم يرد الوديعة بطلب المودع] قال أبو جعفر:"ومن أودع رجلا شيئًا، ثم سأله الردَّ إليه، فأبى ذلك عليه، ومنعه: ضمنه". وذلك لأنه صار غاصبًا بالمنع، إذ ليس له الإمساك في هذه الحال،

كما ليس للغاصب ذلك، فضمن، وقد قال الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المنحة مردودة"، فإن لم يردها عند المطالبة بالرد، صار بمنعه ضامنا. مسألة: [سفر المودع بالمال] قال:"وللمودع أن يخرج بالمال". لأنه قد أمره بالحفظ على الإطلاق، فله أن يحفظه كيف شاء، في السفر والحضر. قال أحمد: قد روى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أن له أن يحملها معه في السفر وإن كان لها حمل ومؤنة. وقال أبو يوسف: إن كان شيئا كبيرا يلزم في حمله مؤنة عظيمة: ضمنه إن أخرجها إلى بلد آخر. وروى هشام عن محمد: أنه إن كان له حمل ومؤنة، ضمن بالإخراج إلى سفر، وإن لم يكن له حمل ولا مؤنة: لم يضمن. مسألة: [دفع المودع الوديعة إلى عياله] قال أبو جعفر:"وله أن يدفعها إلى من شاء من عياله".

وذلك لأنه مأمور بالحفظ، وهو لا يصل إليه إلا بعياله، فقد تضمن أمره بالحفظ دفعه إلى عياله. مسألة: [مخالفة المودَع المودِع] قال:"وإن نهاه المودع أن يخرج به، فخرج به: ضمن". وذلك لأن لنهيه فائدة، فعمل النهي، ألا ترى أن حال السفر أكثر غررًا من الحضر، فإذا خرج به: لم يكن ممسكا له بالأمر، فضمن. * قال:"وإن نهاه أن يدفعه إلى أحد من عياله، فدفعه إليه، فإن كان لا بد له منه: لم يضمن، وإن كان له منه بدٌّ: ضمن". وذلك أنه إذا لم يكن له منه بد، فنهيه لغو مع الأمر بالإمساك والحفظ، إذ لا يصل إلى حفظه إلا بذلك، ألا ترى أنه لو نهاه أن يضعه في بيته، أو في صندوقه: لم يعمل نهيه؛ لأنه لا يصل إلى الحفظ إلا من هذا الوجه. وإن كان له من بد، صار كالأجنبي، فعمل نهيه، كما يعمل في دفعه إلى الأجنبي. * قال:"فإن أمره أن يجعلها في داره، ونهاه أن يجعلها في دار أخرى: عمل نهيه". لأنه قد يتوصل إلى حفظها بوضعها في الدار المأمور بوضعها فيها، والداران قد تختلفان في الحرز والحصانة. ويدل على اختلاف حكمهما: أنه لو سرق من إحدى الدارين، فأخرجه إلى الأخرى: قطع، فصارتا حرزين مختلفين. وليس ذلك مثل البيتين في دار واحدة، فلا يعمل نهيه؛ لأنهما لا

يتفاوتان في كونهما حرزين، بل هما حرز واحد، فكأنهما بيت واحد. ألا ترى أنه لو سرق من أحد البيتين، فأخرجه إلى الآخر: لم يقطع، فكانا جميعا حرزا واحدا، فصار كقوله: ضعها في هذا الجانب من البيت، ولا تضعها في الجانب الآخر، فلا يعمل نهيه، كما لو قال: ضعها في هذا الموضع من الصندوق، ولا تضعها في الجانب الآخر، أو قال: أمسكها بيمينك دون يسارك: لم يعمل نهيه، ولم يضمن لمخالفته إياه. مسألة: [حكم الوديعة إن مات المودع مجهلا لها] قال أبو جعفر:"من مات وعنده وديعة لا تعرف بعينها، ولم يعلم لها ضياع منه في حياته، ولم يعلم من الذي كانت في يده دعوى للضياع، أو الرد: فقد صارت دينا في ماله". قال أبو بكر أحمد: وذلك لأن الأصل أنها باقية في يده إلى أن مات؛ لأنّا لا نعلم الهلاك، بل قد حكمها به مالا للميت؛ لأنا في حكمنا بجميع ما في يده ملكا له، فقد ملكناه الوديعة، ولا يجوز أن نملكه مال الغير بغير بدل، فلذلك لزمه ضمانه. وأيضا: فإنه حين أمكنه البيان في حياته، فلم يبين، صار مضيعا لها، والمودع يضمن بالتضييع. قال أبو جعفر:"ولو علم سلامتها بعد موت المودع، ووقوعها في يد وصيه: صار الوصي مؤتمنا فيها، وكان في الأمانة فيها كالميت في ذلك". وذلك لأنها لما عرفت بعينها بعد الموت، لم يحكم لها مالا للميت، ولم يقع من الميت أيضا تفريط يؤدي إلى تلفها، ولما حصل في يد الوصي، قام مقام الميت في حفظها؛ لأن يده يد الميت، وله إمساكها، فلم تضمن.

مسألة: [طلب أحد المودعين نصيبه من الوديعة] قال أبو جعفر:"ومن استودعه ثلاثة نفر ألف درهم، ثم جاء أحدهم يطلب حصته فيها، ولم يحضر صاحباه: لم يكن عليه أن يعطيه منها شيئا في قول أبي حنيفة". قال أحمد: قد ذكر أبو الحسن رحمه الله في "المختصر" الدواب والثياب والعبيد على الخلاف بمنزلة الدراهم، وذلك لأن كل جزء منه بينهم فليس يخل وما يأخذه الحاضر من أن يكون نصيبه، فيتميز بالأخذ نصيبه من نصيب صاحبه، وتقع القسمة فيه، وأن يكون كل جزء مما يأخذه بينه وبين صاحبه على ما كان، فإن أوقعنا القسمة، كنا قد قسمناها على الغيب من غير حضور وكيل لهم في القسمة، ولا يجوز للمودع أن يقاسم عليهم؛ لأنه لم يوكل بالقسمة. وإن كان ما يأخذه الحاضر بينهم على الشركة، فقد أعطاه نصيب الغائب بغير إذنه، وهذا لا يجوز. * "وقال أبو يوسف ومحمد: يعطيه نصيبه"، على شريطة سلامة الباقي للغائبين، فإن حضرا، فأخذا نصيبهما، سلم للأول ما أخذه، وإن تلف الباقي قبل أن يقبضا حقهما: شاركا الأول فيما قبضه. كدين بين ثلاثة رجال على رجل، فحضر أحدهم، فإنه يقضي له بنصيبه، فإن حضر الغائبان، فأخذا نصيبهما من الغريم: فذاك، وإلا: رجعا على القابض فشاركاه فيما قبض. والانفصال لأبي حنيفة من مسألة الدين: أن ما يأخذه الحاضر من العين: فهو بينهما، وما يأخذه من الدين: فهو نصيبه خاصة، إلا أن لصاحبه فيه حق الشريك.

ألا ترى أن هذه العين كانت ملكا للغريم قبل تسليمها إلى الحاضر، فإذا ملكها إياه على أنها نصيبه، كانت ملكا له، ولصاحبه حق الشركة، لامتناع جواز قسمة الدين. وكان شيخنا أبو الحسن رحمه الله يحكي عن محمد أنه قال: قول أبي حنيفة في هذه المسألة أقيس، وقول أبي يوسف أوسع. مسألة: [ضمان وديعة أودعها المودع آخر، فضاعت] قال أبو جعفر:"ومن استودع رجلا وديعة، فأودعها المودع رجلا آخر، فضاعت منه: فإن لصاحبها أن يضمنها المودع الأول، وليس له أن يضمنها المستودع الثاني في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يضمنها أيهما شاء، فإن ضمن الأول: لم يرجع على الثاني، وإن ضمن الثاني: رجع على الأول". وجه قول أبي حنيفة: أن قبض الثاني واقع للأول، بدلالة أن ما يلحقه به من الضمان يرجع به عليه، ولا يجوز أن يتعلق بقبض واحد ضمان على اثنين، وذلك لأن الضمان سبب يتعلق به حكم التمليك، فلا جائز تعلق هذا المعنى على اثنين بقبض واحد، كما لا يجوز أن يتعلق بعقد واحد حكم الملك لاثنين في جميع المعقود عليه. وليس هذا كالغاصب إذا أودع، فيكون للمغصوب منه أن يضمن أيهما شاء في قولهم، من قبل أن هناك قبضين، تعلق الضمان فيه بكل واحد على حدة، وفي مسألتنا قبض واحد. فإن قال قائل: هلاّ ضمنت المودع الأول بالتسليم، والثاني بالقبض. قيل له: تسليمه إليه لا يوجب الضمان ما لم يقبض الثاني، فعلمنا أن الموجب للضمان هو قبض الثاني.

وأيضا: فلما كان قابضا له، سقط فيه اعتبار الضمان بالتسليم، وتعلق الضمان بالقبض، وقد وقد وجب به الضمان على الدافع، فامتنع وجوبه على المدفوع إليه، كما وصفنا. فإن قيل: فلو دفع إلى رجل دراهم يشتري له بها عبدا، فاشترى بها أمة، أو دابة، أو شيئا مما يخالف فيه الآمر، وسلمها إلى البيع، كان للموكل أن يضمن إن شاء الوكيل، وإن شاء البيع، ومعلوم أن الوكيل إنما ضمنها بقبض البيع، وكذلك البيع تعلق عليه الضمان بذلك القبض بعينه، فقد صار قبضا واحدا، موجبا للضمان على اثنين. وكذلك لو أن رجلا أكره رجلا حتى يسلم ماله إلى رجل، فسلمه، والقابض غير مكره، كان للمكره أن يضمن أيهما شاء، إن شاء ضمن الذي أكره، وإن شاء ضمّن القابض، فقد تعلق بقبض واحد الضمان على اثنين. قيل له: ليس هذا من مسألتنا في شيء، من قبل أنّا قد بينّا في بدء اعتلالنا، أن المودع الثاني قابض للأول، فامتنع أن يجب بقبضه الضمان على الثاني، وقد وجب به الضمان على الثاني، وفيما سألت: البيع قابض لنفسه على الأول. ألا ترى أن ما يلحقه من الضمان لا يرجع به على الآخر، فلم يمنع وجوب الضمان على القابض بقبضه، وعلى الآخر، وكذلك القابض من المكره قبضه لنفسه بالتسليم، إذ لم يكن تسليمه واقعا لنفسه. وفي مسألة المودع، التسليم واقع للأول، وقد وجب الضمان عليه

بقبض الآخر، فسقط اعتبار حكم التسليم، فلذلك افترقا. "وقال أبو يوسف ومحمد: يضمن الأول بالتسليم، والثاني بالقبض". مسألة: [شك المودع في مدعيين لوديعة أيهما أودعه؟] قال أبو جعفر:"ومن كان في يده ألف درهم، فحضره رجلان، كل واحد يدعي أنه أودعه، فقال: أودعني أحدكما، ولا أدري أيكما هو؟ فإنه يستخلف لهما". وذك أن كل واحد منهما لو أقر له به على انفراد، صح إقراره له. * "فإذا حلف لهما: برئ، ولم يكن لهما غير الألف التي في يده". لأنه لم يقر بغيرها. * قال:"فإن أبى أن يحلف لهما: كانت الألف بينهما، وغرم لهما مثلها، وكانت بينهما". وذلك لأن النكول بمنزلة الإقرار، فصار كإقراره لكل واحد منهما، فيستحقانه نصفين، ثم يغرم لهما ألفا أخرى؛ لأن كل واحد منهما يقول: قد استهلكت عليّ ما أقررت به للآخر. *****

باب قسمة الغنائم والفيء

باب قسمة الغنائم والفيء مسألة: [في الغنيمة الخمس] قال أبو جعفر:"وفي الغنيمة الخمس التي ذكر الله تعالى فيها، يوضع في مواضعه التي يجب وضعه فيها". وذلك لقول الله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} الآية. مسألة: [قسمة الخمس] قال أبو جعفر:"والمشهور عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أنه يقسم على ثلاثة أصناف، وهي: اليتامى، والمساكين، وأبناء السبيل. قال: وقد روى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: " أنه يقسم في ذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل ".

قال أحمد: اختلف السلف في قسمة سهام الخمس في الأصل. فقال قائلون: كانت القسمة علي ستة أسهم: سهم لله، وسهم للرسول صلي الله عليه وسلم، وسهم لذوي القربى , وسهم لليتامى , وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل. فقالوا: السهم الذي كان لله ,: يصرف إلي الكعبة. وقال آخرون: لم يكن لله سهم مفرد في الخمس , وذكر الله له في هذا الموضوع له وجهان: أحدهما: علي جهة التبرك بذكر الله , وافتتاح الكلام به , كما يبتدأ باسم الله في سائر الأمور تبركا , بذكر اسم الله لنفعل مثله في أمورنا تبركا به. والآخر: أنه أخبر أن الخمس لله , بمعني أنه مصروف في جهات القربة إلي الله , ثم بين جهات القربة إليه , وفسرها بما ذكر بعد , قالوا: فكانت القسمة في الأصل على خمسة. [قسمة سهم الرسول صلى الله عليه وسلم] ثم اختلفوا بعد ذلك في سهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته، فقال قائلون من السلف: هو لقرابته من بعده. وقال آخرون: هو لخليفته من بعده.

وقال الحسن بن محمد بن علي رضي الله عنهم: أجمعوا على صرف هذين السهمين في السلاح والكراع في سبيل الله , يعني سهم الله , وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: سقط سهم الرسول صلى الله عليه وسلم بموته , كما سقط سهمه من جملة الغنيمة , ومن الصفي , ولأن السهم إنما يستحقه الحي , ثم يورث عنه بعد صحة ملكه , أو يموت حقه فيه , فأما بعد الموت , فلا يستحق أحد سهما , لاتفاق الجميع على سقوط سائر ما كان له في حياته من السهام. [قسمة سهم ذوي القربى] ثم اختلفوا في سهم ذوي القربى: فكان من أصحابنا من يقول: إنما كان ذلك لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم , الذين نصروه , فكانوا يستحقون السهم لمعنيين: النصرة ,

والقرابة جميعا. واستدل من قال ذلك: بأن "عثمان بن عفان , وجبير بن مطعم لما سألا النبي صلى الله عليه وسلم عن اختصاصه بذلك بني المطلب, دون بني عبد شمس, وبني نوفل, وقالا: أما بنو هاشم فلا ينكر فضلهم, لقرابتهم منك, ونحن وبنو المطلب سواء في القرب منك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن بني المطلب لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام". فأخبر أنهم استحقوا السهم بالنصرة والقرابة جميعا، فلما لم يجتمعا, لم يستحقوه, فمن جاء بعد ذلك من القرابة, فقد عدمت منه النصرة , فحينئذ إنما يستحقه بالفقر دون غيره, ولا حق للأغنياء فيه.

وقال آخرون من أصحابنا: إن السهم ذوي القربى في الأصل لم يجب إلا للفقراء منهم, ولم يكن قط مستحقا باسم القرابة, دون الفقر. قالوا: والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى بني المطلب, ولم يعط بني عبد شمس, بني نوفل وهم جمعيا في محل واحد من القرابة , ولو كان مستحقا بالقرب , لاستحقه الجميع , لتساويهم فيه. ومن الدليل عليه أيضا: أن الخلفاء الراشدين , وهم الخلفاء الأربعة , لم يعطوا من سهم ذوي القربى الأغنياء منهم , وإنما أعطوا الفقراء قال ابن عباس فيما كتب به إلى نجدة:"وسألت عن سهم ذوي القربى لمن هو؟ [وهو لنا أهل البيت] , وقد كان عمر دعانا إلى أن ينكح منه أيمنا

ويحذي منه عائلنا، ويقضي منه غارمنا , فأبينا عليه إلا أن يسلمه لنا , وأبى ذلك علينا قومنا". وقال محمد بن إسحاق:"سألت أبا جعفر محمد بن علي رضي الله عنه فقلت: ما صنع علي في سهم ذي القربى حين ولي؟ فقال: سلك به سبيل أبي بكر وعمر". وإذا ثبت ذلك عن الخلفاء الراشدين، صار بحيث لا يمتنع خلافه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "عليكم بسنتي , وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي , تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ". فلو لم يكن فيه غير اتفاق هؤلاء , لكان فيه غناء وكفاية عن الاحتجاج بغيره , وهذا عندنا مما لا يسوغ الاجتهاد في مخالفته. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:"اقتدوا بالذين من بعدي

أبي بكر وعمر". فما اتفقا عليه فهو الحق، بقول النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل: قوله تعالى: {وللرسول ولذي القربى واليتامى}. يقتضي عمومه وجوب السهم للفقراء والأغنياء منهم. قيل له: هذا عندنا ليس بعموم , بل هو مجمل لا يصح الاحتجاج به , لما نبينه إن شاء الله. وعلى أنه لو كان عموما, لكان ما قدمناه من الدلائل يخصه. وإنما قلنا إنه ليس بعموم, وأنه مجمل موقوف الحكم على البيان , من قبل أن قوله: {ولذي القربى}: لا يختص بقرابة النبي صلى الله عليه وسلم دون قرابة غيره , إذ كان الاسم يتناول الجميع , ألا تري أن قوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى} , لم يختص بقرابة نبي, دون غيره من الناس. وقد كان يجوز أن يكون المراد به: قرابة الخليفة, أو قرابة الغانمين,

أو أمير الجيش. وروى قتادة عن الحسن أن المراد به قرابة الخلفاء. فلما لم يكن في الآية دلالة علي تخصيص قرابة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك دون غيرهم , حصل اللفظ مجملا , مفتقرا إلي البيان , فسقط الاحتجاج بعمومه. فإن قيل: قد "أعطى النبي صلى الله عليه وسلم العباس من سهم ذوي القربى, وكان من الأغنياء". فدل أن الغني منهم يستحقه، وأنه غير مخصوص بالفقراء. قيل له: ليس معنا يقين بأن العباس كان غنيًا في الحال التي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من سهم ذوي القربى، وليس كونه كان غنيا في وقت ما، يوجب أن يكون غنيًا أبدًا. وأيضاً: فجائز أن يكون أعطاه ليفرقه على فقراء بني هاشم. وإن صح أنه أعطاه وهو غني، وأنه أخذه لنفسه: كان وجهه أنه اجتمع له النصرة، والقرابة، فاستحقه في حال الغنى والفقر. * ومن الدليل على أنه مستحق بالفقر دون غيره بعد النبي صلى الله عليه وسلم: أنا وجدنا سائر من ذكر مع ذوي القربى في الآية لم يستحقوه إلا بالفقر، وهم اليتامى والمساكين وأبناء السبيل، والمعنى فيه أنه سهم

من الخمس، وكل جزء من الخمس لا يجوز أن يستحق إلا الفقر. * ويدل عليه أيضا: ما روي في الأثر:"أن آل محمد لمال منعوا الصدقة، جعل لهم سهم من الخمس". فلما أبدلوا من الصدقة سهمًا، وكانت الصدقة مقصورة على الفقراء، وجب أن يكون السهم الذي أقيم مقامه، مقصورًا على الفقراء منهم دون غيرهم. ويدل على ما ذكرنا أيضا: ما روي أنه "قيل: يا رسول الله! ما تقول في الغنيمة؟ قال: خمسها لله، وأربعة أخماسها للجيش". فقوله "الخمس لله": يدل على أنه مصروف في الفقراء؛ لأن ما أطلق

أنه لله من الأموال، فهو ما سبيله أن يصرف إلى الفقراء، لقوله تعالى {وءاتوهم من مال الله الذي ءاتاكم}. قيل: إن المراد به الزكاة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في اللقطة:"فإن جاء صاحبها، وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء"، يعني أنها تصرف إلى الفقراء. مسالة: [قسيمة الفيء] قال أبو جعفر:"وأما الفيء فيقسم كله كذلك على ما ذكرنا، مما يقسم عليه الخمس من الغنائم، في كل واحد من القولين الذي ذكرنا". قال أحمد: قال أبو يوسف في جواب المسائل التي سأل عنها الرشيد:"إن الفيء: الخراج عندنا خراج الأرض، لقول الله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى}، ثم

قال: {للفقراء المهاجرين}، ثم قال: {والذين تبوء والدار والإيمان من قبلهم} وهم الأنصار، ثم قال: {والذين جاء ومن بعدهم}، فهذا لمن جاء بعدهم إلى يوم القيامة". فجعل الفيء عائدًا على كافة المسلمين، حسب منازلهم في استحقاقهم. وأجمع عمر الخطاب في جماعة من الصحابة على وضع الخراج على الأرضين، وقد كان خالفة منهم الزبير وبلال، فاحتج عليهم بهذه الآية، فرجعوا إلى قوله، وتبينوا طريق الحق فيه. قال أحمد: فإذا كان الفيء عنده الخراج، فليس هو إذا مقسومًا على ما يقسم عليه الخمس، لأن الخمس لا يستحقه إلا الفقراء، والخراج مصروف فيما يعود نفعه على كافة أهل الإسلام.

مسألة: [مصارف الفيء] قال أبو جعفر:" وما أخذ من مال المشرك، وما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، أو من خراج الأرضين، أو من خراج رقاب المشركين، أو من المختلفين من أهل الذمة، وأهل الحرب في التجارات في بلدان المسلمين، فإن في ذلك كله أرزاق القضاة، وسد الثغور، وأرزاق المقاتلة، ولإصلاح الجسور والقناطر، وبناء المساجد، فما فضل بعد ذلك قسمة الإمام بين المسلمين". قال أحمد: الأصل فيه ما قدمنا من الآيات، وهي قوله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} إلى آخرها. فجعل الفيء عائدًا على الكافة، فينبغي أن يصرف في هذه الوجوه التي ذكرها. وكذلك فعل عمر بحضرة الصحابة، واتفقوا معه عليه. مسألة: [الغنيمة لمن شهد القتال] قال أبو جعفر:"ولا يدخل في ذل العبد، ولا الأعراب الذين لا يحضرون القتال". وذلك "لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسهم للعبد، وكان

يرضخ لهم". وفي حديث علقمة بن مرثد عن أبي يزيد عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في وصية الجيش: فإن أسلموا فلا شيء لهم في القسمة حتى يشهدوا القتال". مسألة: [إعطاء الإمام الناس على قدر الحاجة] قال أبو جعفر: (ويعطى الناس على مقدار الحاجة) وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال:"والله الذي لا إله إلا هو، ما أحد إلا وله في هذا المال حق، أعطيه أو منعه, وما أحد أحق به من أحد إلا عند مملوك، وما أنا فيه إلا كأحدهم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله، وقسمنا من رسول الله، فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناه في الإسلام، والرجل وحاجته".

مسألة: [للإمام التفضيل بين الناس في العطية] قال أبو جعفر: (وله أن يفضل إن رأى التفضيل، أويسوى بينهم إن رأى ذلك). قال أحمد: هذا موكول إلى رأي الإمام واجتهاده في توخي المصلحة، وقد روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يسوي بينهم، ثم رأى عمر رضي الله عنه التفضيل، ثم حكي عنه أنه قال: إن عشت إلى قابل لأجعلن الناس بنانًا واحدًا، يعني شيئًا واحدًا، وهذا يدل على أنه رأى التسوية حين قال ذلك. وروى عن علي رضي الله عنه أنه قال: يسوى بينهم العطاء. وهذا عندنا على أنه رأى المصلحة في التسوية في ذلك الوقت. مسألة: [تقييم أربعة أخماس الغنيمة مما سوى الأرضين] قال أبو جعفر: (وأما أربعة أخماس الغنيمة مما سوى الأرضين، فيقسم بين الغانمين، ويرضخ للعبيد والنساء إذا حضروا القتال بأمر الإمام).

وذلك لقوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه}. فجعله غنيمة لهم، واستثنى منها الخمس، فيثبت أن الباقي بعد الخمس للغانمين، كما قال الله تعالى: {وورثه أبواه فأمه الثلث}، علم أن الباقي للأب، وقد أكد ذلك بقوله تعالى: {فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً}. ولا يسهم للعبيد والنساء، ويرضخ لهم، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومسألة سهر الفارس والراجل، قد بيناها بعد هذا الموضوع في أبواب السير، وكذلك مسألة اعتبار حال الدخول في سهم الفارس. مسألة: [سهم من مات من الغانمين في دار الحرب] قال أبو جعفر: (ومن مات في دار الحرب قبل إحراز الغنيمة في دار الإسلام، أو بيعها، أو قسمتها: فلا سهم له). قال أبو بكر احمد: الغنيمة حكمها على ثلاثة منازل: ما لم تحرز: لم يثبت فيها حق للغانمين، فإذا أحرزت: ثبت فيها الحق، ولم تملك، فإذا قسمت: ملكت.

وإنما كان كذلك؛ لأنه صح عندنا أن جيشا لو لحقهم في هذه الحال قبل الإحراز: شركهم فيها. فإن مات منهم واحد بعد إحراز الغنيمة في دار الإسلام: كان نصيبه لورثته؛ لأنه وإن لم يملك، فقد ثبت له فيها حق. والحقوق قد يجوز أن تنتقل إلى الورثة، مثل العبد الجاني، قد يثبت فيه الحق لولي الجناية، بأن يدفع أو يفدي، ولم يملكه بعد، ثم إذا مات انتقل ذلك الحق إلى وارثه، وقام فيه مقامه، كذلك ما وصفنا. فإذا قسمت: ملك كل واحد منهم نصيبه، لتعين حقه فيه، وانقطاع حق غيره عنه. فإذا قسمت: في دار الحرب، أو بيعت: تثبت حقوقهم فيها، وانتقلت بالموت إلى ورثتهم؛ لأن جيشا لو لحقهم بعد البيع، أو القسمة: لم يشركهم فيها، وذلك لأن بيع الإمام وقسمته جائزة، إذا كانت مسألة اجتهاد ينفذ فيها حكم الحاكم إذا حكم به، وفي بيعه وقسمته حكم منه يقطع حق كل واحد غيرهم عنه، فتثبت حقوقهم فيه. مسالة: [غنيمة من لحق الإمام في دار الحرب] قال: (ومن لحق الإمام في دار الحرب قبل خروجه منها، طالبا للقتال: استحق معهم الغنيمة). قال أحمد: وروي نح وذلك عن عمر، ولأمه لا يستغنى عن القتال إلى أن يحصلوا في دار الإسلام ومنعتها، فلما كانت الحاجة إلى القتال

قائمة في إحراز الغنيمة، استحق السهم وإن لم يقاتل، كما لو وقف رداءا لهم ولم يقاتل: استحق السهم، وقد بينا هذه المسألة أيضا في السير؟ مسألة: [ليس للإمام قسمة الغنائم في دار الحرب] قال أبو جعفر: (ولا ينبغي للإمام أن يقسم الغنائم في دار الحرب). وذلك لأن جيشا لو لحقهم: شركهم فيها على ما بينا، وإذا قسم جازت قسمته؛ لأنها مما يسوغ الاجتهاد فيه، فينفذ حكم الإمام فيها. فإن قيل:"قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بني المصطلق قبل رجوعه إلى المدينة". قبل له: لأن الموضع صار مظهورا عليه، وصار من حيز الإسلام. مسألة: [قسمة ما غنمه المسلمون من الأرضين] قال أبو جعفر: (وما غنمه المسلمون من الأرضين، كان إلى الإمام أن يقسمها على ما تقسم عليه الغنائم إن رأى ذلك حظا، وله أن يوفقها إلى المسلمين، ويجعلها أرض خراج، ويكون خراجها مصروفا إلى ما ذكرنا وجهه في هذا الكتاب.

فإن شاء أن يمن على أهلها المغنومة عليهم، كما فعل عمر بن الخطاب في السواد، فتكون الأرض إذا فعل ذلك ملكاً لهم، يتوارثونها كما يتوارثون سائر أموالهم. وإن شاء أن ينقل إليها قوما من أهل الذمة سواهم، فيجعلهم في ذلك كلهم لو من عليهم فيها. وإن شاء قسمها بين الغانمين، وكانت أرض عشر. وإن وفقها، أو من على أهلها، أنقل قومًا من أهل الذمة: فهي أرض خراج). قال أحمد: قوله: وإن شاء وقفها: لا أعرفه عن أصحابنا، وإنما المشهور عنهم في سائر كتبهم، وما سمعناه من شيوخنا أن بالخيار: إن شاء قسمها بين الغانمين بعد إخراج خمس، وتكون حينئذ أرض عشر. وإن شاء من على أهلها، ووضع عليهم [الجزية]، وعلى الأرضين الخراج، ويكونون ذمة أحراراً، وأرضوهم ملكا لهم يتوارثونها ويتبايعونها. وإن شاء استرق أهلها، أو قتلهم، ونقل إليها قومًا من أهل الذمة، فيجعل الأرضين ملكًا لهم، وتكون أرض خراج.

والذي ذكره أبو جعفر من وقفها يجوز أن يكون من رواية وقعت إليه عنهم، ولم تبلغنا. والأصل في ذلك:"أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة عنوة ومن عليهم، وأقرهم على ديارهم وأموالهم". "وقد قسم بعض حصون خيبر، ولم يقسم بعضها"، فعلمنا أن الإمام مخير بين القسمة، وبين المن والإقرار على أموالهم وأرضيهم. "وفتح عمر السواد، وشاور عليًا وغيره من الصحابة، فأشاروا عليه بإقرار أهلها، ووضع الخراج، وخالفه الزبير وبلال ونفر آخرون، واحتج عليهم بقول الله تعالى: {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم}، ثم قال:

{للفقراء المهاجرين} إلى قوله: {والذين جاءوا من بعدهم} ". فقد دلت هذه الآيات على أنه لا يجوز أن تكون الغنائم دولة بين الأغنياء، ويبقى الفقراء بغير شيء، وأوجبت أيضًا الحق لمن يجيء بعدهم. وذلك لا يكون إلا بإقرار أهلها، ووضع الخراج، ليشاركهم فيها من جاء بعدهم، فرجعوا جميعًا إلى قوله، وصاروا محجوجين بما نبههم عليه من دلالة هذه الآيات على صحة ما ذهب إليه، فتبينوا ورضوا بحكمه فيما حكم به في السواد، فصار إجماعًا. وقد تكلمنا في مسألة فتح مكة في أبواب السير من هذا الكتاب، بجملة كافية لمن تدبرها، وكان الحق طليبه معها. مسألة: [بيع أرض الخراج] ويجوز بيع أرض الخراج؛ لأنها ملك لمن أقر عليها، والدليل عليه: أن المواريث تجري فيها، ولا يجوز لأحد أخذها من أيديهم، ولا أن يحول بينهم وبينها، كما أن من أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة، ومن عليهم، كانوا مالكين لأموالهم التي كانت لهم قبل الظهور والغلبة. فإن قال قائل إنما أقر عمر أهل السواد على حكم الفيء.

قيل له: لو كان كذلك، كان من أسلم منهم لا يكون حرًا، ولا كانت الجزية واجبة عليه، مثل العبد، وكان يكون بعد إسلامه بمنزلة العبد إذا أسلم. * وأما ما ذكر أبو جعفر في وجوب العشر إذا قسم، والخراج إذا لم يقسم: فإن الأصل فيه أن المسلم لا يبتدأ بالخراج؛ لأنه فيء، والكافر لا يبتدأ بالعشر الذي هو صدقة؛ لأن الصدقة قربة، ولا قربة للكافر. وقد يجوز إيجاب العشر في أرض الخراج إذا أقر الإمام أهلها عليها، ورأى ذلك، ولا يكون صدقة، بل يوضع موضع الخراج، ذكره محمد في الزيادات. مسألة: [خراج أرض باعها ذمي لمسلم] قال أبو جعفر: (ومن باع من أهل الذمة أرض خراج من مسلم: فعليه الخراج بحال). وذلك لما "روي أن الرفيل أسلم، فقال علي رضي الله عنه: إن أقمت على أرضك، فعليك الخراج". وروي نحو ذلك عن عمر بن الخطاب في دهقانة نهر الملك، حين أسلمت.

وأيضًا: فإن الخراج يعود نفعه على كافة المسلمين، وقد ثبت ذلك في الأرض، فلا يجوز نقله إلى العشر، الذي هو حق لخاص من المسلمين ببيعه إياها، إذ لا سبيل لهما على إبطال ما قد ثبت من الحق فيها للكافة. مسألة: [شراء الذمي أرض عشر من مسلم] قال أبو جعفر: (وإذا اشترى الذمي أرضا من أرض العشر من مسلم: فعليه الخراج في قول أبي حنيفة، ثم لا يعود إلى العشر أبدًا وإن ملكها مسلم. وقال أبو يوسف: على الذمي فيها عشران، ويوضعان موضع الخراج. وقال محمد: هي أرض عشر على حالها، وتوضع في مواضع العشر). قال أحمد: يعني أنه يوضع موضع الصدقة. قال أحمد: روى ابن سماعة عن محمد: أنه يوضع موضع الخراج، إلا أنه فيما تخرج الأرض. والأصل في ذلك: أن الواجب كان عليها في المسلم: العشر، وهو صدقة، ولا جائز أخذ الصدقة من الذمي؛ لأن الصدقة قربة، ولا قربة للذمي، فوجب أن يسقط العشر بملك الذمي، ثم يسقط العشر، واحتجنا إلى إثبات الحق فيها، إذ لا يجوز إخلاء الأرض من وجوب حق فيها، فوجب أن يكون ذلك الحق هو الخراج؛ لأن الكافر لا يبدأ بالعشر. ألا ترى أن الإمام إذا أقر أهل الأرض عليها بعد الظهور عليها، أن الواجب عليهم هو الخراج، فلا يمتنع من نقلها من العشر إلى الخراج؛ لأن الخراج عائد على كافة المسلمين، فلم يسقط حق مستحقي العشر

الذي كان فيها، وهم الفقراء. وليس ذلك كأرض الخراج إذا أسلم أهلها، واشتراها مسلم، لأن فيه إسقاط حق الكافة إلى الخاصة. وأصل أبي حنيفة: أنها إذا وجب فيها خراج أو عشران، لم تنتقل إلى العشر الواحد أبدا، وقد يجوز أن تنتقل من العشر إلى الخراج، وإلى العشرين. فقال في تغلبي اشترى أرض عشر: أن عليه عشرين. فإذا اشتراها من التغلبي ذمي: فعليه عشران في رواية أبي يوسف ومحمد عن أبي حنيفة. وفي رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: عليه الخراج. * وأما أبو يوسف فإنه يقول: إنه قد ينقل من عشر إلى العشرين بشراء الذمي والتغلبي، ثم يعود إلى عشر واحد إذا اشتراها مسلم. وجعلها أبو يوسف بمنزلة أموال الزكاوات بسنته، لو مر بها مسلم، وعلى العاشر أن يأخذ منه ربع العشر وهو زكاته، ولو كانت لذمي أخذ منه نصف العشر: مثلي ما يؤخذ من المسلم، فإن عاد إلى المسلم: عاد إلى ربع العشر.

وكذلك الأرضون عنده إذا كان أصلها العشر، فأما إذا كانت خراجية في الأصل، فإنها لا تنتقل إلى العشر أبدا. * وأما أصل محمد: فإنه يعتبر ما ابتديت به الأرض، فإن ابتديت بالخراج: لم ينتقل أبدا، وإن ابتديت بالعشر: لم ينتقل أبدًا، لا إلى الخراج، ولا إلى عشرين بشراء ذمي، ولا تغلبي نصراني. وروى ابن سماعة عنه أيضًا: أنها تنتقل بشراء التغلبي لها إلى عشرين، توضع موضع الخراج، إلا أنها تكون فيما تخرجه الأرض. وقال محمد: إذا ابتدئ التغلبي، بأن جعل على أرضه عشران، ثم أسلم، أو باعها من مسلم أو ذمي: فالعشران على حالهما في قول محمد. قال أحمد: والصحيح الذي استقر عليه قوله المشهور: أنه يعتبر ما تبتدأ به الأرض، ثم لا يتغير أبدًا. ووجه قوله ذلك: أن ذلك حق قد تعلق بالأرض، فلا يتغير بانتقال الملك؛ لأن الأملاك لا تأثير لها في إسقاط الأرضين. ألا ترى أن العشر قد يجب في أرض الوقف التي لا مالك لها، كما تجب في أرض لها مالك، وقد يجب الخراج أيضًا في أرض الوقف، فدل على اعتبار ثبوت الحق ابتداء في الأرض، ولا اعتبار بالملك فيه. ومن هذا الوجه فارق ذلك عنده المال الممرور به على العاشر، في أنه يجب تارة ربع العشر إذا كان لمسلم، وتارة نصف العشر إذا كان لذمي؛ لأن هذا الحق يتعلق حكمه بالمالك، ألا ترى أنه لو مر به غير مالك: لم يجب فيها شيء، بأن يكون مودوعًا، أو مضاربًا، وأن الصبي والمجنون لا يؤخذ ذلك من مالهما، فدل على اعتبار المالك فيه، وسقوطه في الأرضين.

ولأبي حنيفة في إفساد هذا القول، واعتبار حكم المالك: أنهم جميعا اعتبروا حكم المالك في الابتداء، فإن كان مسلمًا: كان في أرضه العشر، وإن كان كافرًا: فالخراج، فلما اختلف الحكم في الابتداء فيما يجب من الحق، كان كذلك حكمه عند انتقال الملك الذي قدمنا. * * * * *

كتاب النكاح

كتاب النكاح مسألة: [لا نكاح إلا بشاهدين] قال أبو جعفر: (ولا نكاح إلا بشهود أحرار، مسلمين، بالغين، شاهدين أو أكثر، أو رجل وامرأتين). قال أحمد: لا نكاح إلا بشهود، روي عن عمر رضي الله عنه، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، من غير مخالف لهما من الصحابة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار بألفاظ مختلفة في نفي النكاح بغير شهود، وروي عن علي وابن مسعود، وعمران بن حصين، وجابر، وأنس بن مالك، وأبي موسى الأشعري، وابن عمر، وأبي سعيد، وأبي هريرة كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا نكاح إلا بشاهدين"، بألفاظ مختلفة، والمعنى واحد.

وهذه الأخبار كلها عند أهل الحديث ضعيفة، بعضها من جهة الرجال، وبعضها من جهة الإرسال، والصحيح عندهم منها ما يروى عن الحسن مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيصححونه عن الحسن، وهو مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يقبلونه لأجل الإرسال. وهي عندنا صحيحة من أكثر الوجوه التي رويت فيه، وليس طريقة الفقهاء في قبول الأخبار طريقة أصحاب الحديث، ولا نعلم أحدًاً من الفقهاء رجع إليهم في قبول الأخبار وردها، ولا اعتبر أصولهم فيها. وإذا كان كذلك، فالأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن:"لا نكاح إلا بشهود"، و:"بشاهدين"، صحيحة يجب قبولها إذا لم

يردها أصل، وجاءت من الوجوه التي تقبل فيها أخبار الآحاد. وعلى أنه لا فرق عندنا بين المرسل والموصول من أخبار الآحاد، فإذا ثبت من جهة الإرسال بالاتفاق: لزم حكمه، ووجب العمل به. وقد روي في ذلك لفظ آخر موصول عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن حسان الديباجي التستري قال: حدثنا يوسف بن حماد المعني قال: حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"البغايا: اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة". وأيضًا قد اتفق الفقهاء على أن عقد النكاح مخالف لسائر العقود، في افتقاره إلى معنى يضامه، من إعلان أو شهود، فكان حضور الشهود عندنا أولى بكونه شرطًا من الإعلان والإشهاد؛ لأن من شرط الشهادة جعلها مقارنة للعقد، ومن شرط الإعلان أن لا يحصل مقارنًا للعقد، وما يقارن العقد أولى بأن يكون شرطًا فيه مما لا يقارنه ويتراخى عنه. وأيضًا:"نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح السر"، وإذا لم يحضرهما، فهو نكاح السر، فلا يجوز

مسألة [جواز النكاح بشهادة رجل وامرأتين] وإنما جاز النكاح بشهادة الرجل والمرأتين، لما روى نوح بن ميمون المضروب عن قيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا نكاح إلا بولي، وشهود". وذلك يتناول الرجل والمرأتين؛ لأن اسم الشهود يتناولهم جميعًا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه:"لا نكاح إلا بولي وشاهدين"، وذلك ينتظم جوازه برجل وامرأتين، لوجود الشاهدين. وأيضًا: فإن اسم الشاهدين في البيوع، يتناول الرجل والمرأتين. والدليل عليه: قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان}. معناه والله أعلم: فإن لم يكن الشاهدان رجلين، فالشهيدان رجل وامرأتان، فسمى الرجل والمرأتان شهيدين؛ لأن قوله تعالى {فإن لم يكونا رجلين}: معلوم أنه لم يرد به: فإن لم يوجد الاثنان، لاتفاق المسلمين على جواز شهادة النساء مع رجلين، فعلم أن المراد تسمية الرجل والمرأتين شهيدين، ليعتبر ذلك في سائر الحقوق.

وإذا صح ذلك، تناوله قوله:"لا نكاح إلا بولي وشاهدين". ومن جهة النظر: إن النكاح حق لا يسقط بالشبهة، فأشبه سائر الحقوق من الأموال وغيرها، مما لا يسقط بالشبهة، فوجب أن يجوز في لإثباته بشهادة الرجل والمرأتين، جوازها في كل حق لا تسقطه الشبهة. وإذا جاز إثباته بهم، فالعقد أولى أن يثبت بحضورهم، وينعقد بهم. وأيضاً: فإن البضع حق يملك بالعقد، فأشبه الأموال، وسائر العقود على المنافع. مسألة: [ولي المرأة في تزويجها] قال أبو جعفر: (وولي المرأة في تزويجها أبوها، ثم من فوقه من الآباء، درجة بعد درجة، لا ولاية لأحد منهم مع من هو أقرب إليها منه. فإن كان لها أب وابن: فإن أبا يوسف قال: وليها ابنها، دون أبيها. وقال محمد: وليها أبوها، دون ابنها) قال أبو بكر: فإما اعتبار الآباء في ولاية النكاح، فلا خلاف فيه بين الفقهاء فيما أعلم.

وأما إذا اجتمع أب وابن، فإن جهة قول أبي يوسف فيه: أن الولاية في النكاح مستحقة بالتعصيب، وأقرب العصبة الابن، فكان أولى بالولاية في النكاح من الأب، وكذلك ابن الابن وإن سفل. وقال محمد: الأب أولى؛ لأنه أولى بالتصرف عليها في حال الجنون في الشراء والبيع، فكذلك في النكاح. * قال: (ثم بعد هؤلاء: الأخ من الأب والأم، ثم الأقرب فالأقرب من العصبات، ثم مولى العتاقة؛ لأنه عصبة، والمرأة المعتقة والرجل سواء؛ لأنها عصبة). * قال: (ومن كان مجنوناً: فه وكالميت). لأنه لا ولاية له على نفسه، فكيف يستحقها على غيره؟. مسألة: قال: (ولا ولاية لكافر على مسلمة في النكاح). لقول الله تعالى {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلًا}، وقال تعالى: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض}، وقال: {وللمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}.

مسألة: قال:"ولا يكون المسلم وليا للكافرة". لقول الله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}، ولأنه لا توارث بينهما، والولاية في النكاح مستحقة بالتوارث، ألا ترى أن العبد لا يزوج ابنته، لخروجه من أن يكون من أهل الميراث. مسالة: [سقوط حق الولاية بالغيبة المنقطعة] قال أبو جعفر: (ومن كان منهم غائبًا غيبة منقطعة: فلا ولاية له). لأن انتظاره ضرر على المرأة؛ لأنه ربما أتاهم من يرغب في تزويجه، فيفوت بانتظار الولي، ولا يستحق أحد الولاية على غيره فيما عليه فيه ضرر. * قال جعفر: (وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف: أن الغيبة المنقطعة مثل ما بين بغداد والري، وهي عشرون مرحلة).

وهذا اجتهاد في تقدير الغيبة المنقطعة. قال أبو بكر: وروى محمد: ما بين الري والكوفة، أوما بين الرفة والبصرة. مسألة: قال أبو جعفر: (ولأحد الوليين أن يزوج دون الآخر). لأن الولاية في النكاح لا تتبعض، إذ كان عقد النكاح لا يتبعض، فإذا ملك بعض العقد، ملك جميعه، كالطلاق ونحوه. وأيضاً: لا نعلم فيه خلافًا بين الفقهاء. وأيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا نكاح إلا بولي"، يقتضي جوازه بأيهما وجد. مسألة: [امتناع الولي من تزويج موليته] قال: (وإذا امتنع ولي المرأة من تزويجها: زوجها الحاكم إذا كان كفؤًا). لقول النبي عليه الصلاة والسلام:"أيما امرأة تزوجت بغير إذن مواليها، فنكاحها باطل، فإن اشتجروا، فالسلطان ولي من لا ولي له".

مسألة: [وجوه الكفاءة] قال أبو جعفر: (وقريش بعضها أكفاء لبعض، والعرب بعضها أكفاء لبعض، والموالي: من كان له أبوان فصاعدًا أكفاء بعضهم لبعض). قال أبو بكر: الدليل علي اعتبار الكفاءة: قول الله تعالى: {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف}، وليس من المعروف في العادات والأخلاق، أن تضع الشريفة نفسها عند حارس أو زنجي، بل هو من المنكر في أخلاق المسلم. وقد روي عن ابن عمر وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العرب بعضها أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، وحي بحي، ورجل برجل، والموالي بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، وحي بحي، ورجل برجل". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حامد بن الشاذي الكشي ثقة

قال: ثنا علي بن حجر قال: ثنا بقية بن الوليد قال: ثنا مبشر بن عبيد عن الحجاج بن أرطاة عن عطاء وعمرو بن دينار عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزوجن النساء إلا الأكفاء، ولا مهر دون عشرة دراهم". وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تخيروا لنطفكم، وأنكحوا الأكفاء، وأنكحوا إليهم". ويدل على ذلك أيضًا: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: "ثلاث لا تؤخرهن: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤًا".

وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: "لأمنعن النساء ذوات الأحساب تزوجهن إلا من الأكفاء". وكان ذلك بحضرة الصحابة، ومن غير مخالف له فيه. فإن قيل: روى محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة "أن أبا هند حجم النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بني بياضة، أنكحوا أبا هند، وأنكحوا إليه". وروي "أن بلالاً خطب إلى قوم من الأنصار، فلم يزوجوه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: مر إليهم: فقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لكم: زوجوني، فذهب فقال لهم، فقالوا: قد فعلنا".

فهذان كانا موليين قد أمر النبي عليه الصلاة والسلام الأنصار بتزويجهما، فدل على سقوط اعتبار الكفاءة. قيل له: إنما أمرهم أن يزوجوهم برضاهم، لما رأى فيه من الحظ في الدين، ونحن نجيز ذلك، ولا نكرهه إذا كان برضا الأولياء. * وإذا ثبت اعتبار الكفاءة، كان ذلك محمولاً على المتعارف المعتاد عند الناس، ولذلك جعل قريشًا بعضهم لبعض أكفاء، ثم سائر العرب بعضهم لبعض أكفاء، لجريان العادة به عندهم. * قال: (ولا يكون هذا في شيء مما ذكرنا إلا بوجود المهر والنفقة). وذلك لأن المهر بدل من البضع، والنفقة مستحقة بتسليم نفسها في بيت الزوج، والكفاءة هي المساواة، ولا يكون هذا لها مع وجود ذلك من جهتها إذا لم يجد هو بدل ذلك. قال أبو بكر: وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: الكفؤ في الحسب والمال والدين، وهو قول أبي يوسف. قال أبو يوسف: إن كان فاسقًا معلنًا: فليس بكفؤ، وإن كان مستترًا: فهو كفؤ. * (واعتبر أبو يوسف الكفاءة في الصناعات أيضًا في العرب والموالي، فقال: لا يكون الحجام، ولا الكناس، ولا الحائك كفؤًا

لصيرفي، ولا لخزاز، ولا لصاحب جوهر). وقال ابن سماعة عن محمد: الكفؤ في الحسب، وفي المال، ألا ترى أن الرجل قد يكون ذا حسب ومال، ولا ينال من فعله، وتكون المرأة صالحة، ولا أفرق بينهما إذا كان له جاه وقدر، فإذا كان له حسب، وكان يشرب ويسكر، حتى يسخر منه الصبيان، ويضحك منه، والمرأة صالحة: فرقت بينهما، وذنب هذا أيسر من ذنب ذلك، فليس الدين من هذا في شيء. قال أبو بكر: وكان أبو الحسن الكرخي يخالف أصحابنا في اعتبار الكفاءة من جهة النسب والصناعات، وقال: هم أكفاء في الأنفس والقصاص، ففي النكاح أولى بأن يكونوا أكفاًء، وكان يقول: إن صح اعتبار الكفاءة، ففي المهر والنفقة؛ لأن المهر بدل البضع، والنفقة مستحقة بتسليم نفسها. مسألة: [جواز نكاح المرأة بغير أمر وليها] قال أبو جعفر: (وإذا تزوجت المرأة البالغة، الصحيحة العقل بغير أمر وليها: فالنكاح جائز، وإن كان كفؤًا لها، لم يكن للأولياء أن يفرقوا بينهما، وإن كان غير كفؤ لها: كان لوليها أن يفرق بينهما.

وقال أبو يوسف: ينظر القاضي في ذلك، فإن كان غير كفؤ لها: فسخ نكاحها عليها، وأصله غير جائز عليها، وإن كان كفؤًا لها: أمر وليها بإجازة نكاحها، فإن أجازه: جاز، وإن أبى أن يجيزه: أجازه القاضي. وقال محمد مثل ذلك، إلا في إباء وليها إجازة نكاحها، فإنه قال: يخرجه القاضي بذلك من ولايتها، ويبطل العقد المتقدم، ويستأنف عقد النكاح عليها). قال أبو بكر: وما ذكره أبو جعفر من قول محمد، أنه إذا لم يجزه الولي، أخرجه من الولاية، ويبطل العقد المتقدم، ويستأنف عقدًا ثانيًا: لا نعرفه من قول محمد، بل المشهور عنه أن الولي إذا لم يجزه: أجازه القاضي. والحجة لأبي حنيفة في جواز عقدها بغير إذن الولي، من وجوه ثلاثة: الكتاب، والسنة، والنظر. فأما الكتاب فقوله: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا}. وهذه الآية تدل من وجهين على صحة ما قلنا:

أحدهما: قوله تعالى: {حتى تنكح زوجًا غيره}، فأجاز عقد النكاح بفعلها، وصححه، حتى أجاز طلاق الزوج لها بعده. والآخر: قوله: {فلا جناح عليهما أن يتراجعا}، فأضاف التراجع – وهو عقد مستأنف – إليها أيضًا. ومن أبى جواز ذلك، فقد خالف الآية من هذين الوجهين. ويدل عليه أيضًا: قوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف}، فأجاز فعلها في نفسها بالمعروف، من غير شرط الولي. فإن قيل: فينبغي أن يدل أن هذا فعل بالمعروف، حتى يصح لك الاحتجاج باللفظ، وما أنكرت أن يكون المعروف معه أن يكون بولي، ومتى كان بغير ولي، فليس بمعروف. قيل له: الذي يقتضيه ظاهر اللفظ، أن يكون المعروف المذكور فيه شرطًا في البدل؛ لأن الباء تصحب الأبدال، كقولك: تزوجها بألف درهم وبثوب، ونحو ذلك، فإذا كان هذا مقتضى اللفظ، فمتى تزوج بمال معلوم، فقد قضينا عهدة الآية، وصح لنا الاحتجاج بظاهر اللفظ في جواز عقدها.

وعلى أنه مهما كان المعروف من شيء، فلا جائز أن يكون شرط الولي، وذلك لأن تزويج الولي إياها، لا يكون فعلاً منها في نفسها، والله تعالى إنما أجاز فعلها في نفسها، فغير جائز أن يكون المعروف المذكور في الآية رافعًا لحكم اللفظ، ومانعًا من إجازة ما اقتضى اللفظ جوازه من فعلها في نفسها. فإن قيل: يحتمل أن يكون المراد بقوله: {فيما فعلن في أنفسهن}: اختيار الأزواج. قيل له: عمومه يقتضي جواز الكل، ومن قصره على اختيار الزوج دون العقد، فهو تارك لحكم الآية بغير دلالة. وأيضًا: فاختيارها الزوج لا يحصل به فعل في نفسها، فلا يجوز أن تتأول الآية على معنى لا يقتضيه اللفظ، ولا يحصل به حكم. ودليل آخر: وهو قوله تعالى: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف}. وفيه الدلالة من وجهين على صحة قولنا: أحدهما: إضافته فعل العقد إليها بقوله: {أن ينكحن أزواجهن}، لأنه سواء قلت: نكحت أو عقدت، فاقتضى اللفظ جواز عقدها على نفسها. والوجه الثاني: نهيه الولي في عضلها إذا تراضوا بينهم بالمعروف،

فإذا عضلها، ومنعها العقد، وهي قد وضعت نفسها في كفؤ، لم يكن له ولاية فيما عضلها فيه؛ لأن أحدًا لا يستحق الولاية على غيره فيما عليه فيه ضرر. ألا ترى أن الأب لا ولاية له على الصغير في هبة المال وإتلافه، لما عليه فيه من الضرر. وإذا زالت ولايته في حال العضل، صار كالأجنبي، ولا يجوز للقاضي المنع من مثل هذا العقد، الذي صار الولي بعضله إياها عاصيًا، فجعل العقد جائزًا، لا حق لأحد في فسخه، فجاز. فإن قيل: إنما نهاه عن العضل إذا كان بالمعروف، فدل على أن عقدها بغير ولي، ليس من المعروف. قيل له: قد أجبت عن ذلك في صدر المسألة، مما فيه كفاية، فتأمله. وفساد هذا السؤال في هذا الدليل أوكد منه في الأول؛ لأنه قال: {أن ينكحن أزواجهن}، واختيار الزوج لا يسمى نكاحًا بحال، ولا يجوز أن يقال لمن اختارت أن تزوج من هذا، أنها قد نكحته. وأيضًا: قد ذكر في الآية الاختيار مع النكاح؛ لأنه قال: {أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا}، فانتظمت الآية ذكر العقد، والاختيار جميعًا، وكل ذلك مضاف إلى الزوجين، دون الأولياء. فإن قيل: لو جاز عقدها، لم يكن لنهي الولي عن العضل معنى، وكان ذلك بمنزلة الأجنبي، فدل على نهيه عن العضل، على أنه يملكه، وأن عقدها غير جائز مع عضله. قيل له: هذا كلام ساقط؛ لأنه لا يجوز أن يستدل بالنفي على إثبات

الحق له في العضل، وإنما يدل النهي على سقوط حقه في منعها عن العقد. وإنما خص الأولياء بالنهي، لجريان العادة بكونها في بيت الولي، أو تحت يده، فقد يمكنه أن يحبسها، ويمنعها الخروج للعقد، أو المراسلة فيه، فهذا وجه نهيه عن العضل إن كان الخطاب متوجهًا إلى الأولياء. وأيضًا: فلا دلالة في لفظ الآية على أن ذلك خطاب للأولياء، لأنه قال تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن}، فظاهر اللفظ، يدل على أنه خطاب للأزواج في النهي عن تطويل العدة عليها، بأن يراجعها في آخر عدتها، ثم يطلقها، ثم يراجعها في آخر عدتها، وهو كقوله: {ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا}. ومعنى قوله: {فبلغن أجلهن}: أي قاربن البلوغ، كما قال: {فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف}، ومعناه مقاربة البلوغ. فإن قيل: روي أن الآية نزلت في شأن معقل بن يسار حين عضل أخته أن يزوجها من زوج لها قد كان طلقها، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بتزويجها.

قيل له: لا يمتنع أن يكون قد كان من معقل بن يسار منع لأخته من التزويج، وأن النبي عليه الصلاة والسلام دعاه، وأمره بتزويجها. ولا دلالة في ذلك أن خطاب الآية متوجه إليه، لأنه ليس يمتنع أن تكون الآية قد نزلت في منع الزوج، وتطويل العدة عليها، ثم لما بانت خطبها، فعضلها أخوها معقل، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يزوجها. وعلى أنه لو صح أن الخطاب توجه إلى الآباء، فدلالتنا قائمة؛ لأن معقلاً عضلها، فنهاه النبي عليه الصلاة والسلام عن العضل، وأجاز عقدها. فإن قيل: فما معنى أمر النبي عليه الصلاة والسلام إياه بتزويجها؟ قيل له: لأنه لم يحب أن يبتذلها للحضور عند الرجال، والخطاب بالتزويج. ومن أولى بالحق من الفريقين، من اعتصم بحكم الآية، وما تضمنته من نهي معقل بن يسار عن العضل، أو من أقام على جواز العضل، ومنع النكاح به على ما كان فعله معقل، فنهي عنه؟ وأيضًا: ليس يمتنع أن يكون قوله: {فلا تعضلوهن}: خطابًا للناس كلهم، بأن لا يعتقدوا بطلان عقدها، ولا الحكم بفساد نكاحها؛ لأن العضل هو المنع، فيجوز أن يطلق على من اعتقد من حكمه بطلانه أن يقول: منع فلان الفقيه هذا العقد. * ودليلنا من جهة السنة: ما حدثنا محمد بن بكر قال: ثنا أبو داود قال: ثنا الحسن بن علي قال: ثنا عبد الرزاق قال: أنا معمر عن صالح بن كيسان عن نافع بن جبير بن مطعم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله

عليه وسلم قال: "ليس للولي مع الثيب أمر". قال أبو داود: وحدثنا القعنبي قال: ثنا مالك عن عبد الله بن الفضل عن نافع بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأيم أحق بنفسها من وليها". فمنع أن يكون له حق في منعها العقد على نفسها، كقوله عليه الصلاة والسلام "الجار أحق بسقبه"، وقوله لأم الصغير: "أنت أحق به ما لم تزوجي"، فنفى بذلك كله أن يكون له معها حق. ويدل عليه أيضًا: حديث الزهري عن سهل "في المرأة التي وهبت نفسها للنبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما لي في النساء حاجة، فقام رجل فسأله أن يزوجها، فزوجها". ولم يسألها: هل لها ولي؟ ولم يشترط الولي في جواز عقدها. وحديث النبي صلى الله عليه وسلم حين "خطب أم سلمة، فقالت: ما أحد من أوليائي شاهدًا.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحد من أوليائك شاهد ولا غائب يكرهني. فقالت لابنها، وهو غلام صغير: قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجها". فقد تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير ولي. فإن قيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان وليها، وولي المرأة التي وهبت نفسها، لقول الله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}. قيل له: هو أولى بهم فيما يلزمهم من اتباعه وطاعته فيما يأمرهم به، فأما أن يتصرف عليهم في أنفسهم وأموالهم، فلا. ألا ترى أنه لم يقل لها حين قالت: ليس أحد من أوليائي شاهدًا: وما عليك من أوليائك، وأنا أولى بك منهم، بل قال: ما أحد من أوليائك يكرهني. * قال أبو بكر: واحتج مخالفنا بأخبار ثلاثة رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما امرأةٍ نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها، فلها مهر مثلها بما استحل من فرجها، فإن

اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له". وبحديث يروى عن علي، وعن أبي موسى، وجابر، وعمران بن حصين وأنس بن مالك كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نكاح إلا بولي". والحديث الثالث: حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها". وهذه الأخبار كلها واهية ضعيفة. فأما حديث عائشة فأصح ما عندهم فيه حديث ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة.

وذكر ابن علية عن ابن جريج أنه قال: ثم لقيت الزهري فذكرت له حديث سليمان بن موسى، فلم يعرفه، فالزهري في حفظه وإتقانه لم يعرف هذا الحديث، فكيف تثبت به الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ أرأيت رجلين لو شهدا عند حاكم على شهادة شاهدين، فلم يحكم الحاكم بشهادتهما حتى حضر الأولان، فقالا: ما أشهدناهما على شهادتنا، وما نعرف هذه الشهادة، هل كان يجوز للحاكم الحكم بشهادة من شهد على شهادتهما، وهما حاضران لها؟ فإذا كان هذا غير جائز قبوله، فكذلك ما وصفنا. فإن قيل: يجوز أن يكون الزهري رواه ثم نسيه. قيل له: ويجوز أن يكون سليمان بن موسى نسي، فروى عن الزهري ما لم يسمعه، وسليمان أولى بذلك؛ لأنه شيخ غير موصوف بفقه ولا إتقان، والزهري أعلم أهل الحجاز في وقته، فالنسيان على سليمان أجوز منه على الزهري.

* ويدل على فساد هذا الحديث: أن عائشة قد كانت ترى النكاح جائزًا بغير ولي، ولذلك "زوجت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر المنذر بن الزبير، وعبد الرحمن غائب. فلما قدمت عبد الرحمن غضب، وقال: أمثلي يفتات عليه في بناته! فقالت عائشة للمنذر: اجعل أمرها في يده، ففعل، فقال: قد أجزت ما صنعتيه". فلو كان عندها عن النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك شيء، لما خالفته إلى غيره. ومن مذهب الزهري أيضًا جواز النكاح بغير ولي. وذكر محمد بن شجاع قال: حدثنا معلى عن عبد الأعلى عن معمر عن الزهري قال: "سألته عن المرأة تزوج بغير إذن وليها؟ قال: إن كان كفؤًا جاز".

وأيضًا: فلو صح هذا الحديث، كان معناه في الأمة تزوج نفسها بغير إذن المولى. كما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: ثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا محمد بن كثير قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها، فنكاحها باطل. ثلاث مرات، فإن دخل بها، فلها المهر بما أصاب منها، وإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له". وذكره: الموالي: يدل على أن المراد: الأمة تزوج بغير إذن مولاها؛ لأن المولى على الحقيقة هو مالك الرقبة، حتى يقوم الدليل على غيره. وقوله في الأخبار الأخر: بغير إذن وليها: لا يمنع ذلك؛ لأن المولى ولي إذا كان هو الذي يلي التصرف عليها، في عقد نكاح أو غيره. فإن قال قائل: وروى هذا الحديث مع سليمان بن موسى عن الزهري، جماعة منهم: جعفر بن ربيعة، وقرة بن عبد الرحمن،

والحجاج بن أرطأة، وعثمان بن عبد الرحمن. قيل له: كل هؤلاء دون سليمان بن موسى، فإذا لم تصح رواية سليمان، للعلة التي ذكرناها، فهؤلاء أولى بذلك. * وأما ما روي من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا نكاح إلا بولي": فأصح ما فيه عندهم حديث أبي موسى وهو عندهم مرسل، وإنما الصحيح منه عن أبي بردة عن النبي عليه الصلاة والسلام. وقد حدثنا أبو الحسن الكرخي قال: حدثنا أبو عون الفرائضي قال: ثنا العباس الدوري عن "يحيى بن معين قال: ثلاث لا يصح فيها حديث: أحدها: لا نكاح إلا بولي".

* وأما حديث علي، فرواه الشعبي عن الحارث عنه، وقد كان من مذهب علي جواز النكاح بغير ولي. وروى الشيباني عن عبد الرحمن بن مروان "أن امرأة زوجت ابنتها رجلاً بغير ولي، فارتفعوا إلى علي، فأجاز النكاح". وقد كان من مذهب الشعبي وهو راوي الحديث أيضًا جواز النكاح بغير ولي. على أنه لو صح الخبر عن النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، لما دل على موضع الخلاف بيننا؛ لأن تزوج المرأة البالغة نفسها: نكاح بولي؛ لأن الولي هو الذي يملك الولاية في العقد، فإذا قامت الدلالة على أن للمرأة ولاية في العقد، فنكاحها نكاح بولي. وإنما النكاح بغير ولي، نكاح الصغير، والأمة، والعبد، والمجنون، ونحوهم ممن لا ولاية لهم في أنفسهم.

ألا ترى أن قوله: "لا نكاح إلا بولي": لم يخص به المرأة دون الرجل، والرجل إذا عقد لنفسه عقد نكاح، كان نكاحه نكاحًا بولي؛ لأنه يلي على نفسه، ويتصرف عليها، وكذلك المرأة. ألا ترى أن ما احتيج فيه إلى الولي، لا يختلف فيه حكم الرجل والمرأة؛ لأن العبد، والمجنون، والصبي، لا يصح عقدهم إذا لم يكن عقدهم بولي. وقد يصح أن يجعل هذا الخبر أصلاً لصحة قولنا، وذلك لأنه قد أجاز النكاح بولي، والمرأة ولي؛ لأنها تلي أمر نفسها، فظاهر الخبر يقتضي جواز عقدها على نفسها. * وأما حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام: "لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها": فليس ذلك على وجه التحريم، وإفساد العقد، وإنما وجهه: أن عقد النكاح لما كان شرطه الشهود، وحضور الرجال، كره عليه الصلاة والسلام للمرأة أن تحضر ذلك، ولاسيما وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يأمر بإعلان النكاح، وجرت العادة بعقده في المحافل العظام، بمشهد من الجماعات، وحكم النساء أن يكن مصونات عن حضورها، فلذلك استحب عليه الصلاة والسلام للمرأة أن لا تحضر عقد النكاح. وأيضًا: قد روى الفضل بن موسى هذا الحديث عن هشام بن حسان بإسناده، وقال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا

بولي، أو سلطان". حدثنا به عبد الباقي قال: حدثنا حسين بن إسحاق قال: حدثنا هدية ابن عبد الوهاب قال: حدثنا الفضل بن موسى. فيجوز أن يكون هذا أصل الحديث، وأن من قال: "لا تزوج المرأة المرأة": إنما نقل المعنى من عنده. * وأما قوله: "فإن الزانية هي التي تزوج نفسها": فليس من قول النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هو من قول أبي هريرة، أدرجه في الحديث. ويدل على ذلك: ما حدثنا دعلج بن أحمد قال: ثنا موسى بن هارون قال: ثنا أبي قال: ثنا محمد بن سعيد الأصفهاني قال: ثنا عبد السلام بن حرب عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح نفسها". قال أبو هريرة: كان يقال: الزانية تنكح نفسها. وأبين من ذلك: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: ثنا عبيد بن يعيش قال: ثنا عبد الرحمن بن محمد البخاري قال: ثنا عبد السلام بن حرب عن هشام بن حسان بإسناده مثله، قال أبو هريرة: وكنا نقول: التي تزوج نفسها هي الزانية. فأخبر أن ذلك من قوله، لا من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم،

فأخبر في هذا الحديث أنه ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يمتنع أن يقول فيما قد حفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يقال. وعلى أنه لا خلاف بين المسلمين أن نفس النكاح ليس بزنى، محال لأسمائه مجازًا ولا حقيقة، وإنما يقع الوطء حينئذ محرمًا على قول من لا يجيزه. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الوطء، وإنما ذكر العقد، والعقد لا يكون زنى بوجه. وعلى أن الواجب حمل اللفظ لو ثبت على حقيقته، وحقيقة النكاح هي الوطء، فيكون حينئذ معنى اللفظ: الزانية هي التي تمكن من الوطء من غير عقد، وكذلك نقول، إذ ليس في اللفظ ذكر العقد. * وعلى أنه لو ثبت أن المراد العقد، كان معناه: أن تزوج نفسها بغير شهود، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الزانية التي تنكح نفسها بغير بينة. * وهذه المعاني كلها إنما نعتبرها، ونتكلم عليها، على تسليم الخبر،

فأما إذا اعتبرنا أصل الخبر ومخرجه، فإنا نجده ضعيفًا واهنًا، لو احتج على مخالف بمثله، لما قبله؛ لأن الذين يروونه عن هشام بن حسان قوم لا تثبت بهم حجة، وذكره يطول. ومثل هذا الخبر لا يجوز الاعتراض به على ظاهر الآي التي تلونا، ولا على السنن الثابتة التي قدمنا. فإن قيل: لو لم يكن للولي ولاية في العقد، لما كان له الاعتراض إذا زوجت نفسها من غير كفؤ. قيل له: لم يتعلق حقه بنفس العقد، وإنما تعلق حقه بما يدخل عليه من العضاضة في وضعها نفسها في غير كفؤ. وثبوت حقه بعد وقوع العقد على هذا الوجه، لا يدل على بطلان العقد في الأصل، ألا ترى أن الشفيع ثبت له الحق في العقد بعد وقوعه، ولا يوجب ذلك بطلان العقد بدءًا، وكذلك وجود العيب بالعبد يوجب للمشترى الخيار في الرد، ولا يدل ثبوت خياره في الفسخ بعد وقوعه على بطلان العقد. * والذي يدل من جهة النظر على صحة قولنا، اتفاق الجميع على جواز نكاح الرجل إذا كان جائز التصرف في ماله، كذلك المرأة، لما كانت جائزة التصرف في مالها، وجب أن يجوز عقد نكاحها. والدليل على أن العلة في جواز نكاح الرجل ما وصفنا: أن الرجل إذا كان مجنونًا، غير جائز التصرف في ماله، لم يجز نكاحه، فدل على صحة ما وصفنا. فإن قيل: الفرق بينهما أن الرجل وإن تزوج غير كفء، لم يكن للأولياء فسخ نكاحه.

قيل له: اختلافهما من هذا الوجه، لا يمنع الجمع بينهما من الوجه الذي ذكرنا، وإنما اختلفنا من قبل أن تزويج الرجل غير كفء، لا يدخل غضاضة على أوليائه، وتزويج المرأة غير كفء، تدخل الغضاضة على أوليائها. مسألة: [عدم انعقاد النكاح بشهادة عبدين] قال: (ومن تزوج بشهادة عبدين: لم ينعقد نكاحه). قال أحمد: الأصل في ذلك: أن كل من جاز أن يكون وليًا في عقد النكاح، جاز وقوع العقد بشهادته، وذلك لأن وجود الولي فيه بعض العقد، كالشهادة، فلما لم يجز أن يكون العبد وليًا في العقد، لم يجز أن يكون شاهدًا فيه. ولهذه العلة لم ينعقد بشهادة الصغيرين، والكافرين. وأما المحدود في القذف، والأعمى، والفاسق، فكل هؤلاء يصح أن يكون وليًا في العقد، فجاز أن يكون شاهدًا. وإن شئت قلت: إن كل من صح العقد بقبوله، جاز مثله أن يكون شاهدًا فيه، والعبد ممن لا يصح العقد بقبوله، وإنما يصح بالمولى. وكذلك الصبي والكافر في عقد المسلم، وإنما وجب أن تكون الشهادة معتبرة بالقبول، لأن العقد مفتقر في صحته إلى الشهادة والقبول. وأما المحدود في القذف والفاسق ونحوهم، فكل هؤلاء يصح العقد بقبولهم، فجاز أن يكونوا شهودًا فيه. فإن قيل: لما لم يصح إثبات العقد عن الحاكم بشهادة هؤلاء، وجب أن لا ينعقد بحضورهم.

قيل له: ليس حال تحمل الشهادة معتبرة بالأداء، والدليل على صحة ذلك: أنه قد يصح أن يتحمل الرجل شهادة في حال الكفر والرق، فيؤديها في حال الإسلام، والبلوغ، والحرية، وتكون شهادته مقبولة، فدل على أن التحمل غير معتبر بالأداء. ويدل على ذلك أيضًا: أنه لو تزوج امرأة بشهادة ابنيه منها: جاز العقد، ولم يقدح فيه امتناع إثبات هذا الحق بشهادتهما. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل". يروى ذلك في حديث عائشة، وعن عمران بن حصين، وجابر، وأنس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. قيل له: طريق هذه الأحاديث ضعيفة واهية جدًا، ولولا كراهة التطويل لبيناها. وعلى أنها لو ثبتت، لما جاز الاعتراض بها على ما قدمنا، ولا أوجب منع النكاح وفساده إذا لم يكن الشهود عدولاً، وذلك لأن سائر الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، توجب جواز النكاح بحضور الفاسقين؛ لأن قوله: "لا نكاح إلا بولي وشاهدين"، وقوله: "لا نكاح إلا بولي وشهود"، يقتضي جواز النكاح بحضور الفاسقين.

واللفظ الذي فيه ذكر العدالة، لو حملناه على نفي الأصل، كان فيه تخصيص اللفظ المطلق الذي ليس فيه شرط العدالة، فقد يمكننا استعمال اللفظ من غير تخصيص، بأن يجعل الخبر الذي فيه شرط العدالة، محمولاً على نفي الكمال، لا نفي الأصل، ويكون معناه: لا نكاح تام، إلا بشهادة عدلين، إذ لا يمكن أحدًا إثباته مع التجاحد عند الحاكم إلا بالشهود. وأيضًا: لا يجوز لنا تخصيص اللفظ بلفظ يحتمل التخصيص، ويحتمل غيره، ولأنا متى أمكننا استعمال اللفظين على فائدتين، لم يقتصر بهما على فائدة واحدة. مسألة: [صحة عقد الكافرين بشهادة كافرين] قال أبو جعفر: (فإن كان الزوجان كافرين، انعقد النكاح بحضور شاهدين كافرين). قال أحمد: وذلك لما بينا، أن كل من جاز أن يكون وليًا في العقد، جاز أن يكون شاهدًا فيه، والكافر يكون وليًا للكافر في عقد النكاح. وعلى العلة الأخرى، أن النكاح قد يصح بقبول الكافر، فجاز أن يكون مثله شاهدًا فيه. وأيضًا: فإن نكاح أهل الذمة يجوز عندنا بغير شهود، ولو أسلموا: لم يفرق بينهم. مسألة: [زواج المسلم من نصرانية بشهادة كافرين] قال: (وإذا تزوج المسلم نصرانية بشهادة كافرين: جاز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف). قال أحمد: وهذا صحيح لما قدمنا من الأصل، من أن كل من جاز

أن يكون وليًا في عقد، جاز أن يكون مثله شاهدًا فيه، والكافر يصح أن يكون وليًا في هذا العقد. وأيضًا: فإن هذا العقد قد صح بقبول الكافر، وهي المرأة، فجاز أن يكون الكافر شاهدًا فيه على النحو الذي بينا. وأيضًا: فقد أتى الرجل من الشهود بما يثبت به العقد على المرأة لو أراد إثباته عند الحاكم لو جحدته، فإذا جاء من الشهود من عليه إثبات العقد به عند الحاكم، صح العقد؛ لأن جحد المرأة لا تحتاج فيها إلى الشهود؛ لأن نكاح أهل الذمة جائز بغير شهود. * وقال محمد: لا يصح؛ لأن الشهود في هذه الحال، بمنزلة من [لم] يسمع لفظ الزوج بالعقد؛ لأن حضورهم في عقد المسلم، كلا حضور. قال أحمد: ليس حضورهم عقد المسلم، بمنزلة من لم يسمع قوله، والدليل على ذلك: أنه لو كان معها رجلان كافران، وحضرا العقد، ثم أسلما، فشهدا بالعقد، وقالا: كان معنا مسلمان، حكم بالعقد، ولم يكونا بمنزلة من لم يسمع لفظ المسلم بالعقد. مسألة: [استئذان البكر في زواجها] قال أبو جعفر: (ولا ينبغي للرجل أن يزوج ابنته البكر البالغ

الصحيحة للعقل حتى يستأذنها، فإن سكتت: كان ذلك كإذنها بالقول، وإن أبت: لم يجز تزويجه إياها). قال أحمد: يحتج فيه من جهة الظاهر بقوله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها}، وبقوله: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}. وجميع ما قدمنا في جواز النكاح بغير ولي، يدل على ذلك أيضًا؛ لأنها إذا جاز لها تزويج نفسها، لم يجز عقد الأب عليها بالاتفاق. ومن جهة السنة: ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أبو كامل قال: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثني محمد بن عمرو قال: أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت، فهو إذنها، وإن أبت، فلا جواز عليها". ومعلوم أن المراد باليتيمة في هذا الموضع البكر، لاتفاق الجميع على أن السكوت لا يكون إذنًا إلا في البكر خاصة.

ويدل لفظ الخبر على أنها بالغ؛ لأن الصغيرة لا اعتبار بإذنها. فإن قيل: معناه: اليتيمة التي لا أب لها، فيزوجها ولي غير الأب. قيل له: الكبيرة لا تسمى يتيمة من جهة فقد الأب، وإنما تسمى من جهة أنها مفردة عن زوج، كما أنشد أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب عن ابن الأعرابي: إن القبور تنكح الأيامى ... النسوة الأرامل اليتامى فسماهن يتامى وهن بالغات، إذ كن مفردات عن الأزواج. ويدل عليه أيضًا: ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا أبان قال: حدثنا يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح الثيب حتى

تستأمر، ولا البكر إلا بإذنها، قالوا: يا رسول الله! ما إذنها؟ قال: أن تسكت". ويدل عليه حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها". وفي بعض الألفاظ: "وصمتها إقرارها". وروت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استأمروا النساء في أبضاعهن قال: قلت: فإن البكر تستحيى فتسكت، قال: فهو إذنها". فهذه الأخبار كلها تدل على أن تزويج البكر لا يجوز بغير إذنها. وروى أبو إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فقد أذنت، وإن أنكرت، لم تزوج". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي

شيبة قال: حدثنا حسين بن محمد قال: حدثنا جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن جارية بكرًا أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوجها، وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو العباس علي بن محمد المروزي الطهماني قال: حدثنا عمر بن محمد البخاري قال: حدثنا أبي قال: حدثنا عبدان بن عثمان عن أبي حمزة عن سوار بن داود البصري عن ثابت عن أنس بن مالك قال: "جاءت جارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللهّ! إن أبواي زوجاني ولم يستأمراني، فهل لي من شيء؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتق الله في أبويك، مرتين يرددها، قالت: قد خرجت من عنده، ففرق بينهما النبي صلى الله عليه وسلم".

وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الحسن بن علي العمري قال: حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم – دحيم – قال: حدثنا الوليد بن مسلم عن ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر أن رجلاً زوج ابنته بكرًا، فكرهت، وأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فرد نكاحها. وروى محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزع النساء من أزواجهن ثيبات وأبكارًا إذا كرهن ذلك بعد ما يزوجهن آباؤهن وإخوتهن. حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن عمر الزئبقي قال: حدثنا عبدة بن عبد الله قال: حدثنا محمد بن الحارث الحارثي قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن البيلماني بذلك. قال أحمد: وقد اختلف في قصة خنساء بنت خدام فقال بعضهم: زوجها أبوها وهي ثيب بغير أمرها، فرد النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها حين كرهته. وقال بعضهم: زوجها وهي بكر.

وهو ما حدثنا عبد الباقي قال: حدثنا أحمد بن عنبسة بن لقيط بن أوفى الضبي قال: حدثنا عبد الله بن المبارك عن سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن عبد الله بن وديعة عن خنساء بنت خدام قالت: أنكحني أبي، وأنا بكر، فشكوت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تنكحها وهي كارهة". وقد يجوز أن يصح الخبران جميعًا، بأن يكون زوجها وهي بكر، فرد نكاحها، ثم تزوجت برضاها، وطلقها زوجها بعد الدخول، فزوجها وهي ثيب، فرد نكاحها. فقضت هذه الأخبار على صحة قولنا، وبطلان قول مخالفنا. فإن قيل: إنما أمر باستئمار البكر، تطييبًا لنفسها، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "استأمروا النساء في بناتهن". ولو زوجها الأب بغير إذن الأم: جاز، وكان أمره باستئمارهن على جهة تطييب أنفسهن.

قيل له: هذا خلف من القول، لا تحتمله الأخبار التي روينا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس، وأنس، وابن عمر، فرق بينهما، ولم يجز العقد عليها، فهذا تأويل ساقط في هذه الأخبار. وقال في حديث أبي هريرة، وأبي موسى: "وإن أبت، فلا جواز عليها". وأما لفظ حديث ابن عباس: "والبكر تستأمر في نفسها". وحديث عائشة: "استأمروا النساء في أبضاعهن". فإن ظاهرة يقتضي الوجوب، ولا يجوز حمله على الندب، وتطييب النفوس، إلا بدلالة. ولو ساغ هذا التأويل في البكر، ساغ في قوله: "والثيب تشاور" مثله. وعلى أن قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس: "الأيم أحق

بنفسها من وليها"، قد انتظم البكر والثيب؛ لأن الاسم يتناولهما، واستئنافه لذكر البكر، لا يمنع دخولهما في اللفظ الأول، لأنه استأنف ذكرها، لأجل الحكم الذي اختصت به، من كون سكوتها رضًا. وإذا كان كذلك امتنع احتمال التأويل في قوله: "الأيم أحق بنفسها من وليها": أن يكون المراد فيه استطابة نفسها. فإن قيل: لو كانت البكر ممن يعتبر إذنها، لما كان إذنها إلا بالقول، كالثيب. قيل له: الذي أوجب علينا اعتبار إذنها، والرجوع إلى قولها، هو الذي قال لنا: سكوتها رضاها، ولا يجوز لأحد الاعتراض على السنة بالنظر. وعلى أن ذلك إخلاف في كيفية الإذن، وذلك لا يقدح في وجوب اعتبار الإذن في الأصل. وقد يكون السكوت بمنزلة القول في كثير من الأصول. ألا ترى أن سكوت الشفيع بعد العلم بالبيع، بمنزلة قوله: قد سلمت الشفعة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لبريرة حين أعتقت وخيرها: "إن قربك زوجك، فلا خيار لك"، فجعل سكوتها عن الاختيار حتى يقربها، بمنزلة قولها: قد رضيتك.

وليس إذًا اختلاف البكر والثيب في كيفية الإذن من مسألتنا في شيء. ومن جهة النظر: اتفاق الجميع على امتناع جواز عقد نكاح الثيب البالغ عليها إلا بإذنها، والمعنى فيه: أنها تلي على نفسها التصرف في الشراء والبيع، وهذا المعنى موجود في البكر، فوجب أن يكون مثلها. ويدل عليه اتفاق الجميع على أن الأخ ونحوه لا يزوج البكر بغير إذنها؛ لأنها تلي أمر نفسها، فلا يستحق غيرها الولاية عليها. مسألة: [نكاح البكر بغير إذنها موقوف على إذنها] قال أبو جعفر: (فإن زوجها، ولم يستأذنها، فإن بلغها وسكتت: جاز عليها، وإن ردت: بطل). قال أحمد: يحتج في جواز النكاح الموقوف من جهة الظاهر بقوله: {وأنكحوا الأيامى منكم}، واقتضى ذلك جواز إيقاع العقد لكل أحد؛ لأن النكاح هو الإيجاب والقبول، فقد أباحت الآية ذلك، وتضمنت معنيين: وقوع العقد ونفاذه، فلما اتفق الجميع على أن من لا ولاية له في العقد لا ينفذ عقده على المعقود عليه، خصصنا ذلك من الآية، وبقي حكمها في وقوعه حتى تلحقه الإجازة من جهة المعقود عليه. ويدل عليه من جهة السنة: ما قدمنا من حديث جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس في البكر التي زوجها أبوها بغير أمرها،

فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك حديث أنس بن مالك، وقد تقدم ذكره. ويدل عليه حديث كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن عائشة - وذكر بعضهم عن ابن بريدة عن يحيى بن معمر عن عائشة – قالت: جاءت فتاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أبي – ونعم الأب – زوجنى ابن أخيه، يرفع من خسيسته بي. قال: فجعل الأمر إليها، قالت: فإني قد اخترت ما صنع أبي، ولكن أردت أن يعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء". فهذا كان عقدًا موقوفًا، جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر فيه إليها، في الإجازة أو الفسخ، فأجازته. ويدل عليه: ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن حاتم بن بزيع قال: حدثنا علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك عن يونس عن الزهري أن النجاشي زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم على صداق أربعة آلاف درهم، فكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل".

هذا عقد عقده النجاشي على النبي صلى الله عليه وسلم بغير أمره، ثم أجازه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان قد تقدم من النبي صلى الله عليه وسلم به أمر قبل ذلك، لما احتاج إلى القبول. وهذا الحديث يدل أيضًا على جواز النكاح بغير ولي، لأن أم حبيبة لم يكن لها ولي بأرض الحبشة فيما نعلم، إذ لا نعلم أحدًا من أهلها هاجر إلى أرض الحبشة. وفي بعض الأخبار: أن النجاشي أصدقها ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطاها إياه. وهذا يدل على جواز تبرع الرجل بقضاء دين غيره بغير أمره. وأيضًا: قد ثبت عندنا جواز البيع الموقوف، وقد بيناه في غير هذا الموضع. وهذا يدل أيضًا على جواز النكاح الموقوف، والمعنى الجامع بينهما: أن ذلك عقد له مجيز، فيقف على إجازة مجيزه. مسألة: [القول قول البكر عند الاختلاف في إجازتها النكاح] قال أبو جعفر: (في البكر إذا بلغها النكاح، ثم اختلفا، فقالت: رددته

حين بلغني، وقال الزوج: سكت: فالقول في ذلك قولها). قال أحمد: وقال زفر: القول قول الزوج؛ لأن النكاح يجوز عليها بالسكوت، والأصل أنها كانت سكتت، لأن الرد لا يكون إلا بالقول، وهو معنى حادث لا يعلم وجوده، فلذلك كان قول الزوج عنده. قال أحمد: ووجه القول الأول: أنها وإن كانت يجوز عليها النكاح بسكوتها عند البلاغ، وأن الأصل السكوت حتى يعلم حدوث الرد من جهتها، فإن الأصل أن البضع لم يملك عليها، ولا يصدق الزوج على أنه قد ملكه عليها، إلا أن تعلم بذلك. * واختلفوا أيضًا على هذا الوجه: في الرجل يقول: عبدي حر إن لم أدخل الدار اليوم، ثم مضى اليوم، فادعى العبد الدخول، وجحد المولى: أن القول قول المولى في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد؛ لأن الأصل بقاء الرق حتى يعلم زواله بالحنث، والحنث غير معلوم، فلا يزول رقه إلا بيقين. وقال زفر: القول قول العبد؛ لأنا لا نعلم الدخول، فلا يحكم به، وإذا لم يقع الحكم بالدخول، حصل العتق. مسألة: [استحلاف المرأة على ما ادعي على صمتها] قال أبو جعفر: (فإن طلب يمينها على ما ادعى من صمتها: لم تستخلف عند أبي حنيفة، وتستخلف في قول أبي يوسف ومحمد). قال أحمد: قد بينا هذه المسألة، ونظائرها في كتاب الدعوى. وكذلك مسألة النكول، والله أعلم.

مسألة: [استئذان الثيب في النكاح] قال أبو جعفر: (والثيب لا يجوز النكاح عليها إلا برضاها، ولا يكون ذلك إلا بالقول). لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "والثيب تشاور"، والمشاورة لا تكون إلا بالكلام. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل سكوت البنت رضًا؛ لأنها تستحيى، على ما روي في خبر عائشة رضي الله عنها، وهذه العلة منتفية من الثيب، فهي مقيسة على سائر من تعقد عليه سائر العقود بغير أمره، فلا تكون إجازتها إلا بالقول. مسألة: [تزويج الولي الصغيرة من كفؤ بدون صداق مثلها] قال أبو جعفر: (ومن زوج ابنته وهي صغيرة من كفؤ بدون صداق مثلها، أو زوج ابنه بأكثر من مهر مثلها: جاز في قول أبي حنيفة، ولا يجوز في قول أبي يوسف ومحمد). وجه قول أبي حنيفة: ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تغالوا بصداقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدق أحدًا

من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية ونش". قال أحمد: وذلك خمس مائة درهم، وقد كان النبي صلى الله علي وسلم تزوج عائشة وهي صغيرة، ومعلوم أنه لم يكن مهر مثلها خمس مائة درهم، بل أكثر بأضعاف ذلك. وقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المقدار من المهر أو بأقل، وقد كان زوجها إياه أبو بكر رضي الله عنه، فدل على جواز تزويج الأب الصغيرة بأقل من مهر مثلها. وأيضًا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم زوج فاطمة من علي رضي الله عنهما على أربعمائة درهم، ومعلوم أنه لم يكن ذلك مهر مثلها، بل أكثر منه بأضعاف أضعافه، ولا جائز لأحد أن يقول إنها قد بخست حظها حين زوجت بهذا القدر من المهر؛ لأن الذي حصل لها من الحظ بعلي رضي الله عنه، كان أكثر من الدنيا وما فيها. وهذا يدل على أنه ليس القصد من النكاح تحصيل الأعواض، وإنما المقصد منه أن يضعها في منصب حسن، وفيمن يحسن عشرتها ولا يشينها، ونحوها من المعاني المقصودة بعقد النكاح. وإذا كان كذلك، فجائز أن يستوفي لها من الحظ من جهة الزوج، ما

هو أجدى عليها، وأنفع لها من كثير من المال. وليس النكاح في هذا كالبيع، فلو باع أمة لها بأقل من قيمتها بما لا يتغابن فيه: لا يجوز، من قبل أن المقصد في عقود البياعات تحصيل الأعواض. وكذلك لا يجوز له تزويج أمتها بأقل من مهر مثلها، لهذه العلة، إذ لا نفع لها فيما يحصل للأمة من حظ الزوج، وإنما منفعتها في تحصيل عوض بضعها. * وأما أبو يوسف ومحمد، فلم يجيزا العقد عليها إلا أن يكون بمهر المثل، أو أقل أو أكثر مما لا يتغابن الناس فيه. وذكر هشام عنهما: أن النكاح باطل، لا يجوز إذا زوجها بأقل من مهر المثل بمثل ما لا يتغابن فيه. مسألة: [تزويج الأولياء الصغار] قال أبو جعفر: (ولسائر الأولياء تزويج الصغار، ويتوارثان بذلك). قال أحمد: أما الأب والجد، فلا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن لهما أن يزوجا الصغار، إلا شيء يحكى عن عثمان البتي، وابن

شبرمة، أنهما قالا: لا يزوج الأب الصغيرة، وهو قول شاذ في الأمة قد سبقهما بخلافه الصدر الأول. ودليل الكتاب يقضي ببطلانه، وهو قوله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللاتي لم يحضن}. فقضى بصحة طلاق الصغيرة، وأوجب عليها العدة إذا كانت مدخولاً بها، والطلاق لا يقع إلا في عقد صحيح. ومن جهة السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها، وهي صغيرة، زوجها إياه أبو بكر. فصل: [تزويج غير الأب والجد الصغار] قال أحمد: وأما تزويج غير الأب والجد من الأولياء، فهو على قسمين: فما كان من تزويج العصبات، فلا خلاف بين أصحابنا في جواز الأقرب فالأقرب، وإنما الخلاف في الخيار بعد البلوغ. (قال أبو حنيفة ومحمد: لهما الخيار إذا بلغا إذا زوجهما غير الأب والجد من الأولياء، نحو الأخ والعم، وقال أبو يوسف: لا خيار لهما).

وأما تزويج غير العصبات: فإن أبا حنيفة يجيزه إذا لم يكن عصبة، نحو الأم والأخت والخال، والرجل من عرض العشيرة. فأما الدليل على جواز تزويج العصبات، وإن لم يكن أبًا أو جدًا: ما روي عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} الآية. فالآية نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها، ويريد أن يتزوجها، ولا يقسط لها في صداقها، فنهوا أن ينكحوهن إلا بالقسط. قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله تعالى: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن}. قالت: هي رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره، حين تكون قليلة المال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط". فقد دلت هذه الآية على تزويج العصبات للصغار؛ لأن أقرب الأولياء إليها ممن يجوز له نكاحها ابن العم.

فإن قيل: يحتمل أن يريد الكبيرة، وهو قوله تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: {اليتيمة تستأمر في نفسها}، والمراد: الكبيرة. قيل له: روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتم بعد الحلم". فإن سميت الكبيرة يتيمة، فإنما تسمى به مجازًا لا حقيقة؛ لأن الاسم لو كان حقيقة فيها، لما انتفى عنها بحال، إذ من شأن الحقائق أن لا تنتفي عن مسمياتها بحال، وإذا كان كذلك، فحكم اللفظ أن يكون محمولاً على الحقيقة، حتى تقوم الدلالة على المجاز. وكذلك قوله تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم}: إنما سماهم يتامى على ما كان عليه حالهم قبل ذلك. كما "أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يرجع حين أذن قبل

الوقت فينادي: ألا إن العبد نام"، وكان حرًا حينئذ. وقال علي رضي الله عنه لشريح: "ما تقول أيها العبد الأبظر"، وقد كان حرًا في ذلك الوقت، إلا أنه قد كان جرى عليه رق في الجاهلية، فسماه به. وذلك كله مجاز لا حقيقة. وأيضًا: قد أخبرت عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها، فيرغب في مالها، ولا يقسط لها في صداقها، ومعلوم أن الكبيرة لا تكون في حجر وليها، ويكون الأمر في الصداق إليها، لا إلى الولي.

فهذا كله يبطل تأويل من تأول الآية على الكبيرة. فإن قيل: يحتمل أن تكون الآية في اليتيمة تكون في حجر الجد، فخوطب فيها بما خوطب به. قيل له: قد أخبرت عائشة رضي الله عنها عن سبب نزول الآية، وقالت: هي اليتيمة تكون في حجر وليها، فيريد أن يتزوجها، وذلك يمتنع في الجد. وأيضًا: فإن الذي هو في حجره، هو المخاطب في الآية بالنكاح على شرائط القسط في الصداق، وذلك لا يكون الجد. * ودليل آخر: وهو قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم}، والأيم اسم المرأة التي لا زوج لها، وذلك يتناول الصغار والكبار منهن، فاقتضى ظاهر الآية جواز تزويجهن للأب وغيره؛ لأن قوله: {وأنكحوا}: خطاب للجميع. وأيضًا: فإن العلة التي من أجلها جاز تزويج الأب موجودة في غيره من العصبات، وهي كونه من أهل ميراثه. والدليل على صحة هذه العلة: أن الأب إذا كان عبدًا أو كافرًا، وهي مسلمة: لم يزوجها إذا لم يكن من أهل الميراث، فدل ذلك على أن الولاية في النكاح مستحقة بالميراث، فاستحقها كل من كان من أهل الميراث.

فإن قيل: فأنتم تجيزون للقاضي تزويج الصغار، وليس هو من أهل الميراث. قيل له: إنما قلنا إن من كان من أهل الميراث جاز تزويجه، ومن لم يكن من أهل الميراث، فحكمه موقوف على الدلالة. وأيضًا: فإن القاضي قائم مقام جماعة المسلمين، وجماعة المسلمين من أهل ميراثه، إذا لم يكن وارث عنهم. وقد روي عن علي، وعمر، وابن مسعود رضي الله عنهم أن للولي أن يزوج الصغيرة من نفسه، ولا نعلم عن غيرهم من الصحابة خلافه. * فأما وجه قول أبي حنيفة ومحمد في وجوب الخيار لهما عند البلوغ إذا زوجهما غير الأب والجد، فهو أن عقد النكاح فيه مال، وغيرهما لا يملك التصرف عليه فيه من المال. فإن قيل: المال يثبت فيه على جهة البيع من طريق الحكم؛ لأنه يصح من غير تسمية، ولا يجوز إيجاب الخيار من أجله. قيل له: هذا غلط، لأن المال بدل البضع، ولا جائز أن يقال في أحد البدلين إنه تبع للآخر. فإن قيل: فلو زوجها العم، وهو وصي أبيها: كان لها الخيار عندك، وإن كانت تملك التصرف في البضع والمال.

قيل له: لأنه يملك التصرف في المال من غير الجهة التي يملك بها التصرف في البضع، فكان لها الخيار، إذ هو لا يملك التصرف في المال من جهة عقد النكاح. * ولأبي يوسف: أنه لما ثبتت له الولاية في النكاح، كان بمنزلة الأب، ولم تعتبر فيه جهة المال؛ لأنه يثبت بغير تسمية. * وإنما قال أبو حنيفة: إن لغير العصبات تزويج الصغار: لقول الله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم}، وذلك عموم في العصبات وغيرها، وأيضًا: قوله: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى}. وما روي عن عائشة رضي الله عنها فيه من سبب نزوله، لم تفرق فيه بين العصبات وغيرهم، وهو عام في جميع من هي في حجره من القرابات. وأيضًا: فإن هؤلاء من أهل الميراث، وإن لم يكونوا عصبات، وقد بينا أن الولاية في النكاح مستحقة بالميراث، فوجب أن تثبت لكل من كان من أهل الميراث. * وأبو يوسف ومحمد: اعتبرا العصبات؛ لأنهم الذين يثبت لهم حق الولاية في تزويج الكبار، ويثبت لهم حق الفسخ إذا زوجت نفسها غير كفؤ.

وكذلك هم الذين يزوجون الصغار، ولا يثبت هذا الحق لغيرهم. فإن قال قائل: يدل على أن غير الأب والجد لا يزوجان الصغيرين: ما روي "أن قدامة بن مظعون زوج بنت أخيه، فقال النبي صلى الله علي وسلم: هي يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها". قيل له: كانت كبيرة، ولم ترض بتزويجه إياها، وذلك لما حدثنا دعلج بن أحمد قال: ثنا محمد بن إبراهيم البوشنجي قال: ثنا أبو جعفر النفيلي قال: ثنا محمد بن سلمة قال: ثنا محمد بن إسحاق عن عمر بن حسين بن عبد الله مولى آل حاطب عن نافع عن ابن عمر قال: "توفي عثمان، فأوصى إلى أخيه قدامة، قال: فزوجني قدامة بنت عثمان، فدخل المغيرة بن شعبة على أمها، فأرغبها في المال، فحطت إليه، ورأى الجارية مع أمها، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لقدامة، ألحقها بهواها، فإنها أحق بنفسها، فانتزعها، وزوجها المغيرة بن شعبة". فأخبر أنها كانت كبيرة؛ لأنه قال: ألحقها بهواها، فأجاز نكاحها من المغيرة. واللفظ الذي ذكر فيه أنها يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها، يدل على ذلك أيضًا، لأنه جعل لها إذنًا في تلك الحال.

وقوله: يتيمة: سماها به مجازًا، لا حقيقة، كما قال تعالى} وءاتوا اليتامى أموالهم {، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تستأمر اليتيمة في نفسها". مسألة: قال: (ولا ولاية للوصي بحق الوصية في النكاح). وذلك لما وصفنا من أن الولاية في النكاح مستحقة بكونه من أهل الميراث، بدلالة أنه إذا كان من أهل الميراث استحق الولاية، وإذا لم يكن من أهل الميراث بل كان عبدًا أو كافرًا: لم يستحقها. فإن قيل: فالقاضي يزوج، وليس من أهل الميراث. قيل له: لأنه قائم مقام المسلمين، وجماعة المسلمين من أهل الميراث، إذ لم يكن أقرب منهم. فإن قيل: والوصي قائم مقام الأب، والأب كان من أهل الميراث. قيل له: في حال ثبوت الوصية وصحتها ليس الأب من أهل الميراث، لأنه ميت، والوصية إنما تصح بعد الموت. وأيضًا: فإن الولاية في النكاح مستحقة بالنسب، وما جرى مجراه من الولاء، وهذا المعنى لا يصح فيه النقل، فلم يستحقها الوصي؛ لأنه لو استحقها، لاستحقها من جهة انتقالها إليه من الأب.

فإن قيل: فالوكيل يزوج، وكذلك القاضي، وهم يتصرفون في ذلك بنسب، ولا ما قام مقامه من الولاية. قيل له: الوكيل لا يوجب نقل الولاية إليه؛ لأن ولاية الموكل قائمة، والوكيل والسفير عن الموكل لا يتصرف من جهة نقل الولاية إليه. وكيف تكون منتقلة إليه، وهي باقية في ملك الموكل، وكذلك القاضي يعبر عمن يستحق الولاية عليه، وهم كافة المسلمين، بمنزلة الوكيل. وليست الولاية في النكاح، كهي في الشراء والبيع، غير مقصور على النسب، وما قام مقامه. ألا ترى أنه قد استحق الولاية في النكاح، من لا يستحق التصرف في الشراء والبيع، نحو الأخ والعم، ويدل على الفرق بينهما: أن المتصرف في الشراء والبيع متصرف على نفسه، وبه تتعلق حقوقهما، ثم يلزم الآمر ضمانه بالأمر، والمتصرف في النكاح، متصرف على الزوجين، ويكون فيه بمنزلة السفير، وهذا المعنى لا يستحق إلا من الوجه الذي ذكرنا. مسألة: [ولاية القاضي في النكاح]. قال أبو جعفر: (وإن زوج القاضي صغيرًا أو صغيرة، فإن محمد بن الحسن قال: هو كتزويج غير الأب، ولهما الخيار بعد البلوغ. وروى هشام بن عبد الله عن خالد بن صبيح عن أبي حنيفة: أن عقد

القاضي، كعقد الأب، ولا خيار فيه بعد البلوغ). وجه قول محمد: أن القاضي لما قام في ذلك مقام كافة المسلمين، وجماعة المسلمين أكثر أحوالهم أن يكونوا في الولاية في ذلك بمنزلة العم والأخ، فيجب فيه الخيار بعد البلوغ. ووجه قول أبي حنيفة: أن القاضي له ولاية في التصرف في المال من حيث استحق الولاية في النكاح، فوجب أن يكون بمنزلة الأب. مسألة: [نكاح الفضولي] قال: (ومن زوج رجلًا بغير إذنه، ثم بلغه، فأجازه، لم يجز إلا أن يكون هناك مخاطب خاطب عنه في القبول، في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: النكاح واقع، وتجوز إجازته إذا بلغه). وجه قولهما: أن قوله: قد زوجت فلانًا فلانة، نصف عقد، ونصف العقد لا يقف على غائب عن المجلس. ألا ترى أنه لو خاطب أحد الزوجين بالنكاح، فلم يقبله، حتى قام من المجلس: بطل ما كان زوجه له، ولم يكن له أن يقبله بعد ذلك. وليس هذا كوليهما أو وكيلهما جميعًا إذا عقد النكاح عليهما، فيجوز في قولهم جميعًا، من قبل أن ذلك جميع العقد منه؛ لأنه يملك الإيجاب والقبول، ولا يقتضي إيجابه قبولًا من غيره، فكان ذلك منه جميع العقد فنفذ، ولم يقف. وأما إذا كان متبرعًا بالعقد، فهو غير مالك للعقد، ولا يصح منه إلا

الإيجاب أو القبول ممن أوجبه. * وجعله أبو يوسف بمنزلة وليهما أو وكيلهما. مسألة: [تزويج السيد العبيد والإماء]. قال أبو جعفر: (وجائز للرجل أن يزوج أمته وإن كانت كارهة، وأما عبده في ذلك فهو كأمته في قول أبي يوسف ومحمد. وقد اختلف عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، فروى عنه هذا القول، وروى عنه: أنه لا يزوجه إلا برضاه، أو أن يبلغه وقد زوجه بغير رضاه فيجيز ذلك). قال أحمد: الرواية الأولى صحيحة، وما ذكره من الرواية الثانية في العبد غير صحيح. وكان شيخنا أبو الحسن الكرخي رحمه الله لا ينكرها؛ لأن المشهور عن أصحابنا جميعًا أن العبد والأمة جميعًا سواء، فيجوز للمولى تزويجهما وإن كرها. وإنما كان العقد عليهما جائزًا وإن كرها: لقول الله تعالى:} وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم {. وظاهرة يقتضي جواز العقد على الجميع، إذ ليس في الآية شرط رضاهم، وخصصنا الأيامى البالغات من الحرائر في امتناع نفاذ العقد

عليهم بالاتفاق، وبقي حكم اللفظ في الأيامى الصغار والعبيد والإماء. وأيضًا: فلا خلاف أن العبد والأمة لا يملكان عقد النكاح لأنفسهما، وكل حق لا يملكه العبد من نفسه، فالمولى يملكه منه. ألا ترى أن العبد لما لم يملك التصرف من نفسه في البيع والإجازة ونحوهما، ملك المولى ذلك منه، وكذلك لما لم يملك الإقرار بالدين على نفسه، ملك المولى ذلك منه، وجاز إقراره عليه، رضي أو سخط، فكذلك عقد النكاح، لما لم يملكه العبد من نفسه، ملكه المولى منه. ألا ترى أن العبد لما ملك الإقرار بالزنى والقتل والسرقة، لم يملك المولى ذلك منه، ولم يجز إقراره عليه. مسألة: [تزويج الوليين للمرأة]. قال: (وإذا زوج المرأة ولياها بغير أمرها، فلها أن تجيز أيهما شاءت). لأنهما جميعًا موقوفان عليهما، إذ ليس يملك أحد الوليين فسخ عقد الآخر، فوقعا جميعًا. * قال: (وإن كان زوجاها بأمرها، وقد تقدم أحدهما: فالعقد الأول جائز والثاني فاسد، دخل بها الآخر، أو لم يدخل). وذلك لما روى الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"إذا نكح الوليان، فالأول أحق". ولأن العقد الأول صحيح بالاتفاق، والثاني فاسد، والدليل عليه أنه لو ارتفعا إلى القاضي حكم بصحة الأول، وفساد الثاني، فإذا دخل بها الثاني، فإنما كان دخوله على عقد فاسد، والدخول لا يصحح العقد الفاسد، ولا يبطل العقد الصحيح الذي للزوج الأول. وأيضًا: قد اتفق الجميع على أنه لو تزوج أختين، إحداهما قبل الأخرى، أن نكاح الثانية فاسد، ولا يصححه دخوله بها، دون الأولى، لأنه بها وقع الجمع، كذلك الزوجان إذا عقد لهما على امرأة واحدة. مسألة: [خيار الزوجة وأهلها في تدليس الزوج في نسبه]. قال أبو جعفر: (ومن انتسب إلى قوم، فزوجوه، ثم علم أنه ليس كما انتسب: فلهم إبطال نكاحه). قال أحمد: وهذا إذا كان النسب الذي كتمهم دون الذي أظهره، وإن كان مثله إذا وقع منه: فلا خيار لها، ولم يفصله أبو جعفر هذا التفصيل، وهو كذلك عندهم، وذلك لأنها لم ترض به زوجًا إلا بنسب شريف،

يشرف به ولدها، فإذا لم يوجد ذلك: كان لها الخيار في فسخ النكاح. ألا ترى أنه لو شطر لها أنه كفؤ، ثم تبين أنه ليس كذلك، كان لها الخيار، كذلك ما وصفنا. وليس ذلك مثل أن تنتسب إلى قوم، وتزوجها على ذلك، ثم علم أنها دونهم في النسب: فلا يكون للزوج خيار في فسخ العقد؛ لأنها لو شرطت له الكفاءة، ثم لم يكن كذلك، لم يكن له خيار؛ لأن عدم الكفاءة من جهتها لا يثبت به خيار في فسخ العقد، وعدم الكفاءة من جهته يثبت به الخيار للأولياء في الفسخ. مسألة: [تزوج امرأة على أنها حرة، ثم تبين أنها مملوكة] قال أبو جعفر: (ومن تزوج امرأة على أنها حرة، فولدت منه، ثم قامت البنية على أنها مملوكة، فقضي عليها بذلك، كان لمولاها أن يجيز نكاحها أو يبطله، وولدها حر، على أبيه قيمته يوم يختصمون بالمستحق، ويرجع الأب بتلك القيمة على من كان غره وزوجه على أنها حرة إن كان غرها، فإن كانت هي غرته: رجع عليها بذلك إذا أعتقت، وعلى المغرور عقرها لمستحقها، ولا يرجع به على أحد). قال أحمد: لا خلاف بين الصدر الأول وسائر فقهاء الأمصار أن ولد المغرور حر الأصل.

ولا خلاف أيضًا بين السلف أنه مضمون على الأب، إلا أن السلف اختلفوا في كيفيه ضمانه: فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يفك الغلام بغلام، والجارية بجارية، يعني إن كان الولد غلامًا: فعلى الأب غلام مثله، وإن كان جارية: فعليه جارية مثلها. وقال علي رضي الله عنه: عليه قيمته. وإليه ذهب أصحابنا؛ لأنهم جعلوه جميعًا بمنزلة الولد، وهو عبد فيغرم قيمته. وله أصل في السنة، وهو "حكم النبي صلى الله عليه وسلم في عبد بين رجلين أعنقه أحدهما وهو موسر: أنه يضمن نصف قيمته"، ولم يحكم عليه بنصف عبد مثله. ويرجع المغرور على الغار بقيمة الولد. وهو أيضًا اتفاق من الصحابة، وإنما هذا بمنزلة ضمان الدرك في الولد، ولهذا لم يرجع عليهما إلا بعد العتق؛ لأن ضمانها لا يجوز في حال الرق في رق المولى.

وإنما المعتبر قيمة الولد يوم الخصومة؛ لأنها بمنزلة المغضوب، ولا يصير مضمونًا على الغاضب إلا بالمنع بعد المطالبة برده، وحكم المنع إنما حصل في الولد حين خوصم فيه، وهو قائم. وكذلك قالوا: إنه لو مات الولد، ثم اختصما: لم يغرم الأب شيئًا، بمنزلة ولد المغضوب إذا مات قبل مجيء المغضوب منه. ويغرم الواطئ العقر؛ لأنه وطئ ملك الغير بشبهة، ولا يرجع بالعقر على الغار؛ لأن الوطء في هذا بمنزلة شيء أتلفه منها، وتناوله لنفسه، فلا يرجع به على غيره، كما لو قطع يدها، لم يرجع به على غيره. مسألة: [من أعتق الأمة على أن تزوجه نفسها] قال: (وإذا أعتق أمته على أن تزوجه نفسها، ثم تزوجه نفسها، فلها مهر مثلها). وذلك لأن العتق ليس بمال، فلا يستحق به تسليم مال، فلا يكون مالًا، ولا يكون مهرًا، لقول الله تعالى:} وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم {. فإن قيل: العتق مال لأنه يحصل لها به رقبتها. قيل له: لا يحصل لها به مال، ولا تستحق به تسليم مال؛ لأنه لو كان كذلك، لوجب أن ينتقل إليها الرق الذي كان يملكه المولى فيها قبل العتق، فتملك من نفسها ما كان المولى يملكها منها قبل العتق، فلما كان الذي يحصل لها بالعتق، سقوط الرق من غير أن تملك رق نفسها، دل

على أن الذي حصل لها ليس بمال. وكيف يكون مالًا وهي إنما جعل لها الحرية، ولا جائز أن تكون الحرية مالًا؛ لأنه لو كان كذلك، كانت رقاب الأحرار كلهم أموالًا. ويدل على صحة الأصل الذي ذكرنا: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل الشغار"، وهو أن يجعل المهر بضع امرأة أخرى؛ لأن البضع ليس بمال، ولا يستحق به تسليم مال، فلم يجز أن يكون مهرًا، كذلك ما وصفنا، كان في معناه. فإن قيل: روى "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها". قيل له: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان له أن يتزوج بغير مهر، وكان له أن يجعل ما ليس بمال صداقًا في العقد، ونحن لا يجوز لنا أن نملك البضع بغير بدل يستحق به تسليم مال، فلذلك اختلفا. * قال: (وروي عن أبي يوسف أنه لا صداق لها إذا أعتقها على أن تزوجه نفسها، فزوجته نفسها). وذلك لأنه جعل الرقبة مضمونة عليها بالعتق؛ لأنه قد شرط بدلها منفعة هي عقد النكاح، فصارت قيمة رقبتها تسمية في العقد.

* قال أبو جعفر: (وإن أبت أن تزوجه نفسها: كان عليها أن تسعى له في رقبتها في قولهم جميعًا). لأنه لو أعتقها على منفعة مشروطة للزوج من قبلها، وهي التزويج، فلما لم تف به: لم يجز أن يسلم لها الرقبة بغير شيء. قال: (ولا يجمع الحر بين أكثر من أربع زوجات) وذلك لقوله تعالى:} فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع {. فإن قيل: ظاهر اللفظ يقتضي جواز التسع؛ لأن الواو للجمع. قيل ليس كذلك؛ لأن قوله:} وثلاث {: يدخل فيه المثنى، و:} ورباع {، يدخل فيه الثلاث، إذ ليس في اللفظ دليل على أن الثلاث غير المثنى، والرباع غير الثلاث؛ لأن صفة الواو للجمع، حتى يقوم الدليل على غيره. ومن أثبت المثنى غير الثلاث، والثلاث غير الرباع، وقد ألق بالآية ما ليس فيها، وما لا دليل عليه. وهذا مثل قوله تعالى:} قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين {، ثم قال:} وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام {.

واليومان الأولان داخلان في الأربعة، لولا ذلك، لحصل العدد ستة أيام. ثم قال:} فقضاهن سبع سموات في يومين {، فكان يحصل خلق الجميع في ثمانية أيام، وقد أخبر الله في غير هذا الموضع أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، فثبت بذلك أن مقتضى اللفظ ومضمونه أن يكون العدد الأول داخلًا في الثاني، والثاني في الثالث، حتى تقوم الدلالة على أن المراد استئناف عدد غير الأول. وأيضًا: فإن الواو قد تكون بمعنى: "أو": في اللغة، وهو مشهور فيها، وكأنه قال: مثنى، أو ثلاث، أو رباع، وإذا كان هكذا، فلا

خلاف فيه مع ذلك بين الفقهاء. مسألة: قال: (ولا يتزوج العبد أكثر من اثنتين). وذلك لما روى ليث عن الحكم قال: "أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين". وروى سليمان بن سير عن عبد الله بن عتبة قال: "قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ينكح العبد اثنتين، وتعتد بحيضتين، وتطلق اثنتين". * ومن جهة النظر: إن العدد حق مقرر من حقوق النكاح، فيثبت له نصف ما يثبت للحر، بدلالة أن عدة الأمة على النصف من عدة الحرة، إذ كانت حقًا مقدرًا من حقوق النكاح. وكذلك قالوا في قسم الأمة على النصف من قسم الحرة، وليس

بمنزلة النفقة؛ لأنها غير مقدرة، ولا معلومة المقدار. فإن قيل: قوله:} فانكحوا ما طاب لكم {، يقتضي دخول العبد فيه. قيل له: العبد لم يدخل قط في هذا الخطاب، لاتفاق الجميع أنه لا يملك عقد النكاح، وأن المولى هو الذي يملك ذلك عليه. مسألة: [ليس للعبد أن يتسرى] (وليس للعبد أن يتسرى وإن أذن له مولاه). وذلك لأنه لا يملك، وقد قال تعالى:} والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم {. والدليل على أنه لا يملك: قول الله تعالى:} ضرب الله مثلًا عبدًا مملوكًا لا يقدر على شيء {، ولا يخلو المراد به من أحد وجهين. إما نفي قدرة العبد رأسًا، أو نفي الملك، ولا يجوز أن يكون المراد نفي القدرة؛ لأن العبد والحر جميعًا قادران لا يختلفان في القدرة من جهة الرق والحرية، فعلم أن المراد نفي الملك. وعلى أن ظاهره يقتضي نفي الجميع، إلا أن الدلالة قد قامت على أنه لم يرد القدرة، فبقي حكم اللفظ في نفي الملك.

فإن قيل: فقد قال:} وضرب الله مثلًا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء {، والبكم لا ينفي الملك ولا الرق. قيل له: ظاهرة يقتضي نفي الملك، إلا أنا صرفناه عن الظاهر بدلالة. وأيضًا: فإن المراد أبكم مملوك. [فإن قيل: إن الله تعالى يقول:} وانكحوا الأيمي منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله {: فأثبت للعبد الغنى والفقر، فدل على أنه يملك، إذ لو لم يملك، لكان أبدًا فقيرًا]. قيل له: المراد الغنى باستباحة البضع، لا بالمال؛ لأنه لو كان المراد الغنى بالمال، لاستغنى كل من تزوج، إذ غير جائز وقوع مخبر الله تعالى

على خلاف ما أخبر به. وأيضًا: فإنه راجع إلى الأيامى من الأحرار؛ لأنهم هم الذين يستغنون، ويملكون دون العبد، بالدلائل التي قدمنا. فإن قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من باع عبدًا، وله مال فماله للبيع إلا أن يشترطه المبتاع، فأضاف المال إلى العبد، فدل أنه يملك. قيل له: ليست هذه الإضافة إلا على وجه اليد أو النسبة، كما قال تعالى:} لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم {. وقال:} وقرن في بيوتكن {، فأضافها تارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة إليهن، ومعلوم أن الملك لأحدهما. وهو كقوله عليه الصلاة والسلام: "من باع نخلًا، وله ثمرة، فثمرته للبيع، إلا أن يشترط المبتاع". ولم يدل على أن النخل يملك الثمرة، وهو كقولك: هذا سرج الدابة ولجامها. * ومن وجه النظر: أن العبد لو كان ممن يملك، لوجب أن ينتقل ملك رقبته إليه بالكتابة؛ لأنه قد بذل عنها بدلًا، فكان يجب أن لا يكون

معتقًا على المولى، وأن لا يكون ولاؤه له، ومتى ملك رقبته انتقل إلى نفسه، فأعتق عليها، فلما اتفق الجميع على أن المكاتب حر على ملك المولى، دل على أن العبد لا يصح أن يملك؛ لأنه لو كان ممن يملك لملك رقبته. مسألة: [النهي عن تزوج امرأة في عدة أختها] قال: (ولا يتزوج المرأة في عدة أختها، ولا أربع سواها، بائنًا كانت أو غير بائن). وذلك لقول الله تعالى:} وأن تجمعوا بين الأختين {، ويحصل بتزويج أختها ضرر من الجمع؛ لأنه يستلحق نسبها، وتجب نفقتهما جميعًا وسكانهما، وذلك منفي بالعموم. وأيضًا: قد اتفقنا على أنه لا يجمع بين أختين بملك اليمين في الوطء، والمعنى فيه أن الوطء حكم من أحكام النكاح، فوجب على هذا

أن لا يجوز له الجمع بينهما في حكم من أحكام النكاح كلا، وهو استلحاق النسب، ووجوب النفقة، والسكنى، وكونها محبوسة عليه بحكم العقد. وأيضًا: وجدنا العدة تمنعه من الجمع ما يمنعه نفس عقد النكاح، والدليل عليه: أن المرأة لما كان محرمًا عليها الجمع بين زوجين في نكاح، كانت حال العدة كحال النكاح نفسه في باب المنع من زوج آخر، فوجب أن يكون كذلك حكم الزوج في أن تمنعه العدة من الجمع ما يمنعه نفس النكاح. فإن قيل: إنما منعت المرأة التزويج؛ لأنها معتدة، والرجل ليس عليه عدة، فلا يمنع. قيل له: والرجل ليس عليه عدة إذا كانت تحته، ومع ذلك هو ممنوع من تزويج أختها، فليس إذًا تحريم الجمع مقصورًا على كونها معتدة. وروي نحو قولنا عن علي، وابن عباس، وزيد بن ثابت، في آخرين من الصحابة رضوان الله عليهم. *****

باب ما يحرم نكاحه وما يحرم الجمع بنسب وغير ذلك

باب ما يحرم نكاحه وما يحرم الجمع بنسب وغير ذلك مسألة: [تحريم الزواج بالأمهات] قال: (وأم الرجل حرام عليه، وكذلك الجدات). وذلك لأن اسم الأم يجمعهن، وقال الله تعالى:} حرمت عليكم أمهاتكم {، وهو اتفاق من المسلمين. [يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب] قال: (والرضاع مثل النسب في ذلك) لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". قال أحمد: وروي عن ابن عباس في قول الله تعالى:} حرمت

عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت {قال: حرم الله تعالى هذا السبع من النسب، ومن الصهر سبع، يعني به قوله:} وأمهاتكم التي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم {،} وحلائل أبنائكم {،} وأن تجمعوا بين الأختين {، وقوله:} ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم {،} والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم {، فهذه سبعة من جهة النسب، وسبعة من جهة السبب. وجملة الأمر فيه أن النكاح يحرم لسبعة معاني: 1 - منها: ما يحرم بالوطء دون العقد، مثل الوطء بملك اليمين، وبالزنى. 2 - ومنها: ما يحرم بالوطء وإن لم يكن عقد، مثل حلائل الأبناء، وأمهات النساء. 3 - ومنها: ما يحرم بها جميعًا، كالربائب. 4 - ومنها: ما يحرم بالنسب. 5 - ومنها: وما يحرم بالرضاع. 6 -

ومنها: ما يحرم بجمع بين ذواتي رحم محرم. 7 - ومنها ما يحرم لأنها تحت زوج. * وإنما قلنا إن الربائب لا يحرمن إلا بالدخول، ولا يحرمن بالعقد وحده، لقول الله تعالى:} وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم {. * وأمهات النساء يحرمن بالعقد، لقول الله تعالى:} وأمهات نسائكم {، وذلك عموم في تحريمهن، ودخل بالبنت أو لم يدخل. وكذا روي عن ابن عباس أنه قال في ذلك: "أبهموا ما أبهم الله". فإن قيل: قوله} التي دخلتم بهن {، راجع إلى الأمهات، لرجوعه إلى الربائب. قيل له: ليس كذلك؛ لأن قوله:} التي دخلتم بهن {: تخصيص

وحكم، والتخصيص أن يكون موقوفًا على ما صل فيه اليقين، وقد صح رجوعه إلى الربائب، فلا نرده إلى الأمهات إلا بدلالة؛ لأنه لا يجوز تخصيص العموم بالاحتمال. وأيضًا: فإن شرط الدخول بمنزلة الاستثناء، وحكم الاستثناء أن يرجع إلى ما تقدمه إلا بدلالة. وأيضًا: فإنه لا يصح رجوعه إلى أمهات النساء؛ لأنه لو أظهرت في اللفظ ما أردت إضماره فيه، لم يستقم بالكلام؛ لأنه لا يجوز أن نقول: في أمهات نسائكم من نسائكم: لأن أمهات نسائنا، ليس من نسائنا، والربائب من نسائنا، وهذا اللفظ إنما يستقيم في الربائب، دون أمهات النساء. وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل قولنا في أمهات النساء والربائب جميعًا. وروي عن عمر، وعمان بن حصين، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم

من قولهم مثل ذلك. وروي عن علي وابن مسعود في قوله:} فإن لم تكونوا دخلتم بهن {: أنه على الربائب والأمهات، لا تحرم واحدة منهن إلا بالدخول. وروي إبراهيم عن شريح أن ابن مسعود كان يقول في ذلك بقول علي، ويفتي به، فلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذاكرهم، فكرهوا أن يتزوجها، فلما رجع ابن مسعود نهى من كان أفتاه بذلك، وقال: إني سألت أصحابي فكرهوا. وقال زيد: إن طلق فهو كما قال علي، وإن ماتت: لم تحل له أمها، وجعل الموت كالدخول؛ لأنه تستحق به المهر، فكذلك في التحريم.

مسألة: [حرمة أم وبنت المرأة الموطوءة بحرام] قال: (ومن وطئ امرأة حرامًا، حرمت عليه أمها وابنتها، وحرمت على أبيه وابنه). وذلك لقول الله تعالى:} ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء {، والنكاح اسم للوطء حقيقة، والعقد مجازًا؛ لأن حقيقة النكاح في اللغة هو الجمع بين الشيئين. أخبرنا بذلك أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب والمبرد جميعًا قالا: وتقول العرب: "أنكحنا الفرا فسنرى"، يعني جمعنا بين الحمار وأنثاه يضربونه مثلًا للأمر مجتمعون عليه، ثم ينتظرون ماذا يصدر عنه. وإذا كانت حقيقة النكاح الجمع، وكان الجمع إنما يقع بالوطء، دون العقد، دل على أنه حقيقة في الوطء، وأن العقد إنما سمي بذلك لأنه سبب الوطء، كما يسمى الشيء باسم غيره، إذا كان منه السبب. ويدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله ناكح البهيمة".

وقال الشاعر: ومن أيم قد أنكحتنا رماحنا وأخرى على عم وخال تلهف وقال الأعشى: ومنكوحة غير ممهورة وأخرى يقال له فادها يعني المسبية الموطوءة. ويدل على أن الحقيقة للوطء: أن عقد النكاح لما كان مخصوصًا بإباحة الوطء، سمي نكاحًا، إذ لم يكن مختصًا بإباحة الوطء.

وأيضًا: الوطء أكد في إيجاب التحريم من العقد؛ لأنه قد وجدنا عقدًا صحيحًا لا يوجب تحريم الربيبة، ولم نجد وطأ صحيحًا لا يوجب التحريم، ألا ترى أنه على أي وجه وقع الوطء بملك يمين أو نكاح أو شبهة أوجب التحريم، فعلمنا أن الوطء سبب لإيجاب التحريم على أي حال وقع، وأنه لا يختلف فيه حكم المباح والمحظور. ويدل عليه: أنه لو وطئ جارية له مجوسية، أو حائضًا: كان وطؤه إياها موجبًا لتحريم أمها وابنتها، وهو وطء محظور بالاتفاق. وكذلك لو تزوج امرأة نكاحًا فاسدًا، فوطئها: حرمت عليه أمها وابنتها. وهذا كله يدل على أن الوطء مراد بقوله:} ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم {. ويصح أيضًا أن يجعل ابتداء دليلا للمسألة، ويرد عليه موضع الخلاف. وروي نحو قولنا عن عمران بن حصين والحسن والشعبي وإبراهيم

* ويدل على ذلك من جهة السنة: ما روى جرير بن عبد الحميد عن حجاج عن أبي هاني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من نظر إلى فرج امرأة، لم تحل له أمها ولا ابنتها". فلم يفرق بين الحلال والحرام. فإذا كان التحريم واقعًا بالنظر، فبالوطء أحرى أن يقع؛ لأن أحدًا لم يفرق بينهما. فإن قيل: روى عبد الله بن نافع عن المغيرة بن إسماعيل عن عثمان بن عبد الرحمن الزهري عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يتبع المرأة حرامًا، أينكح ابنتها؟. أو يتبع البنت حرامًا، أينكح أمها؟ قال: لا يحرم الحرام الحلال، إنما يحرم ما كان نكاحًا حلالًا". فبين للسائل نفي التحريم لما سئل عنه.

وقوله: "لا يحرم الحرام الحلال": ينفي وقوع التحريم بالزنى. قيل له: ليس في سؤال السائل ذكر الوطء، وإنما فيه أنه يتبعها ويراودها عن نفسها، ولا يكون بينهما وطء، فإذا ليس في جوابه للسائل بيان موضع الخلاف. وأما قوله: "لا يحرم الحرام الحلال": فإنما عنى به ما سأله عنه السائل من إتباعها حرامًا. ويدل عليه: "إنما يحرم ما كان نكاحًا حلالًا": يعني العقد الحلال. وأن العقد الفاسد لا يحرم، وكذلك نقول. وأيضًا: فإن الحديث واه جدًا، وإسناده مضطرب مختلف فيه، ومداره على عثمان بن عبد الرحمن الزهري، وهو ضعيف. وأيضًا: فقد قيل في معنى: "لا يحرم الحرام الحلال": أنه الرجل يزني بامرأة، أنه جائز له أن يتزوجها، وإن وطئها حرامًا لا يمنع عقد نكاحها. وأيضًا: فلا خلاف أن الحرام يحرم الحلال، وهو وطء أمته في حال الحيض، ووطء الأمة المجوسية، والجارية بين رجلين إذا وطئها أحدهما، فهذا كله وطء حرام، وهو يوجب التحريم، وكذلك الزنى، والمعنى الجامع بينهما حصول الوطء. فإن قيل: إنما أوجب الوطء التحريم في المسائل التي ذكرت، لما تعلق به من ثبوت النسب، ووطء الزنى لا يتعلق به ثبوت النسب.

قيل له: هذا لا يعارض اعتلالنا؛ لأن المعنيين جميعًا يوجبان التحريم، فكيف يتنافيان. وأيضًا: فإن عقد النكاح يتعلق به ثبوت النسب، ولا يحرم البنت، فلا يجوز أن يكون السبب الموجب لإثبات النسب، إيجاب التحريم. وأيضًا: فإن وطء التي لم تبلغ، لا يتعلق به ثبوت النسب، ويوجب التحريم، فعلمنا أن اعتبارك ساقط. * واللمس، والنظر بشهوة يوجب من التحريم ما يوجبه الوطء. وروي نحوه عن عمر، وابن عمر، وعامر بن ربيعة، وعبد الله بن عمرو، ومسروق. ويدل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من نظر إلى فرج امرأة حرمت عليه أمها وابنتها". وكل من أوجب التحريم بوطء حرام، أوجبه باللمس بالشهوة أيضًا. مسألة: [الجمع بين أختين في عقدة واحدة] قال: (ومن تزوج أختين من نسب، أو رضاع في عقدة واحدة: فرق بينه وبينهما).

وذلك لقول الله تعالى:} وأن تجمعوا بين الأختين {، والجمع واقع بهما جميعًا، وليس أحدهما بأولى بفساد النكاح من الأخرى. مسألة: [لو تزوج أختين في عقدتين] قال: (وإن تزوجهما في عقدتين: جاز نكاح الأولى منهما، وبطل نكاح الثانية). وذلك لأن نكاح الأولى وقع صحيحًا، إذ كان مباحًا، ونكاح الثانية وقع فاسدًا؛ لأن الجمع بها وقع وكان محظورًا. مسألة: [تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها] قال: (وكذلك المرأة، وعمتها، وخالتها). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أخبار متواترة: "لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا على بنت أختها، ولا على بنت أخيها، لا الصغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى). والمعنى في ذلك عندنا: أن كل واحد منهما لو كان رجلًا، والآخر امرأة: لم يجز له أن يتزوج بها، فكذلك لا يجوز له الجمع بينهما. قال: (ولا يجوز له وطء الأختين بملك اليمين).

وذلك لقوله تعالى:} وأن تجمعوا بين الأختين {، وعمومه يقتضي النكاح والملك. وروي عن علي رضي الله عنه قال: "أحلتهما آية، وحرمتهما آية، والتحريم أولى". وقال: "يحرم عليك من الإماء ما يحرم عليك في كتاب الله من الحرائر إلا العدد". وعن عمار مثله. ويروى عن عثمان أنه قال: "أحلتهما آية، وحرمتهما آية، والتحليل أولى". يعني بالتحليل: قوله:} والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم { والصحيح هو الأول؛ لأن قوله:} إلا ما ملكت أيمانكم {: مبني على ما تقدم ذكره من وجوه التحريم، ألا ترى أنه لم يبح به حلائل الأبناء، ولا أمهات النساء بملك اليمين، فكذلك بين الأختين.

وإنما يقتضي قوله:} إلا ما ملكت أيمنكم {: يعني بالسبي، أبان عن الفرقة الواقعة بينها وبين زوجها بورود السبي عليها، وانقطاع العصمة بينهما باختلاف الدارين؛ لأن المراد بقوله:} والمحصنات {: ذوات الأزواج. وأيضًا: لو تعارضت الآيتان، وتساويتا فيما يقتضيانه، وفي الاحتمال، لكانت آية الحظر أولى؛ لأن مواقعة المحظور يستحق بها اللوم، وترك المباح لا يوجب اللوم. وأيضًا: فإن الحظر أصل، والإباحة واردة على الأصل، والحظر أولى. * قال أبو جعفر: (فإن وطئ إحدى الأختين: لم يطأ الأخرى حتى يحرم فرج ألأخرى بتزويج أو ملك). وذلك أنه إذا وطئ الثانية، فهو مالك لوطء الأولى، ومع الجمع بوطء الثانية، وذلك محرم. فإن زوج الأولى، أو ملكها غيره، حل له وطء الأخرى؛ لأنه لا يكون جامعًا، إذ لم يكن وطء الأولى في ملكه، ألا ترى أنه إذا طلق امرأته، وانقضت عدتها: حل أن يتزوج أختها؛ لأنه لا يقع به جمع. * قال: (وإن كاتبها: حلت له الأخرى). وذلك لأن وطأها قد خرج عن ملكه، ألا ترى أنه إذا وطئها: لزمه غفرها، وأنها إذا وطئت بشبهة أو نكاح: كانت أولى بمهرها من المولى.

* قال: (وروي عن أبي يوسف: أنه لا يحل له وطء الأخرى بمكاتبة الأولى). لأن وطأها لم يملكه عليه غيره. قال: (قال أيضًا في هذه الرواية: أنه إن ملك فرج الأولى غيره: لم يكن له أن يطأ الأخرى حتى تحيض الأولى حيضة بعد وطئها). لأنه جائز أن تكون حاملًا منه، فيكون جامعًا لمائة في رحمي أختين، فيستبرئها حتى يعلم أنها ليست بحامل. مسألة: [الجمع بين امرأة مع زوجة أبيها] قال: (ولا بأس بالجمع بين امرأة وبين زوجة أبيها). قال أحمد: وروي نحوه عن عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن صفوان. وروي عن الحسن كراهة ذلك، وهو قول ابن أبي ليلى.

فإن قيل: لو كنت رجلًا: لم يجز له أن يتزوج امرأة أبيه، فينبغي أن لا يجوز الجمع بينهما. قيل له: إنما قلنا إن كل واحد منهما لو كان رجلًا: لم يجز له تزويج الأخرى، وكذلك لا يجوز الجمع بينهما، وهذا الاعتبار غير موجود في مسألتنا، لأنا إذا جعلنا بنت الزوج رجلًا: لم يصح أن نجعل امرأة الأب رجلًا؛ لأن الأخرى لا تكون بنت الزوج. مسألة: [الزواج بنساء أهل الكتاب] قال: (ويحل تزويج نساء أهل الكتاب). لقوله تعالى:} والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم {، وروي إباحته عن جماعة من الصحابة، من غير خلاف من نظرائهم عليهم. فإن قيل: إنما أراد بقوله:} والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم {: من قد أسلم منهن، كما قال:} وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله {. قيل له: إطلاق لفظ أهل الكتاب يقتضي هذين الفريقين من اليهود

والنصارى، إلا أن يقرن بالأيمان، ولا يجوز لنا صرف اللفظ عن ظاهره إلى غيره إلا بدلالة. وعلى أنه لو كان كذلك، لم يكن في ذكرهن فائدة؛ لأنه قد ذكر المؤمنات قبلهن بقوله:} والمحصنات من المؤمنات {، وهذا ينتظم من كانت كتابية وأسلمت، ومن كانت مسلمة لم تزل، وكل تأويل أدى إلى إبطال حكم الأصل: فهو ساقط. مسألة: قال: (ولا يحل للمسلم تزوج المجوسية) لقول الله تعالى:} ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن {، ثم خص الكتابيات، فبقية المجوسيات على حكم الحظر. فإن قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". قيل له: هذا ورد في شأن الجزية، كذا روي في الخبر.

وهذا الخبر يدل على أنهم ليسوا من أهل كتاب. ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب: قوله تعالى:} أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا {، فلو كان المجوس من أهل الكتاب لكانوا ثلاث طوائف. ومن جهة النظر اتفاق الجميع على أن عبدة الأوثان لا تنكح نساؤهم، والمعنى فيه: أنهم ليسوا أهل كتاب، والمجوس مثلهم، لهذه العلة. وقد روي عن عبد الله الداناج عن معبد الجهني قال: "رأيت امرأة حذيفة مجوسية يقال لها سايرذخت"، وهذا يحتمل أن تكون كتابية حين كانت تحت حذيفة، ثم تحولت بعد موته إلى المجوسية. وأيضًا: فإن معبدا الجهني لم يدرك حذيفة. مسألة: [الزواج بنساء الصابئين] قال أبو جعفر: (ونساء الصابئين عند أبي حذيفة كسائر أهل الكتاب سواء هن، لا بأس بتزويجهن ووطئهن بملك اليمين، وتؤكل ذبائحهم. وقال أبو يوسف ومحمد: نساء الصابئين في ذلك كالمجوسيات). قال أحمد: كان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: لا خلاف بينهم

في المعنى، وإنما أجاب أبو حنيفة عن صنف من الصائبين ينتحلون دين المسيح، وهم فرقة من النصارى يقرون بالإنجيل في ناحية البطائح في عمل واسط، فهؤلاء حكمهم حكم النصارى وإن خالفوهم في أشياء من أمر دينهم. قال الله تعالى:} ومن يتول منكم فإنه منهم {، فهذا قولهم جميعًا فيمن كان هذا وصفه أنه من أهل الكتاب. وأجاب أبو يوسف ومحمد عن قوم آخرين، يسمون أيضًا صابئين في ناحية حران، يعبدون الأوثان والكواكب، ولا ينتحلون دين المسيح، فهؤلاء لا تجوز مناكحتهم، ولا يحل أكل ذبائحهم. وإنما جواب أبي حنيفة عن مسألة لا خلاف بينهم فيها، وأجاب أبو يوسف ومحمد عن مسألة أخرى لا خلاف بينهم فيها أيضًا.

مسألة: قال أبو جعفر: (ومن كان أحد أبويه كتابيًا، والآخر مجوسيًا: كان حكمه حكم أهل الكتاب). وذلك لأن الكتابي له بعض أحكام المسلمين، وهو المناكحة، وجواز الذبيحة، فثبت له هذا الحكم بأحدهما، كما ثبت له أحكام الإسلام إذا كان أحدهما مسلمًا. وإنما كان مسلمًا إذا كان أحد أبويه مسلمًا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه، حتى يعرب لسانه"، فأثبت له حكم الفطرة بنفسه، ونقله عنها بالأبوين جميعًا، فلما لم يجتمعا على الكفر: لم ينقلاه، وكذلك لا ينقلانه عما للكتابي من أحكام الإسلام إلا باجتماعهما على ذلك. مسألة: [ليس للزوج جبر زوجته الكتابية على الغسل من الحيض] قال: (ومن تزوج من المسلمين كتابية: لم يكن له جبرها على الغسل من الحيض). وذلك لأنه ليس عليها غسل، إذ كان الغسل إنما يتعلق وجوبه بوجوب الصلاة، وليست هي مؤاخذة بالصلاة في أحكام الدين. مسألة: [منع الزوجة الكتابية من الخروج إلى الكنائس] قال: (وله منعها من الخروج إلى كنائس النصارى، وأعيادهم).

وذلك لأنه يستحق عليها تسليم نفسها في بيته، فله أن يمنعها من الخروج كما يمنع المسلمة. مسألة: [تمجس الزوجة الكتابية] (ومن تزوج من المسلمين كتابية، فتمجست: حرمت عليه، وانفسخ نكاحها). وذلك لأنه قد طرأ على العقد ما يوجب التحريم، فصار كالردة. مسألة: [لو تهودت الزوجة النصرانية، أو تنصرت اليهودية] قال: (ولو كانت نصرانية، فتهودت: خلى بينها وبين ما اختارت من اليهودية، وكانت زوجته على حالها، وكذلك لو كانت يهودية فتنصرت). وذلك لأن ما صارت إليه من الدين لا يمنع ابتداء العقد، فأنه لا يمنع البقاء أولى. مسألة: [خطبة المخطوبة] (ومن خطب امرأة، فلم تركن إلى خطبته إياها: لم يكن على غيره بأس في خطبتها، وإنما يكره له خطبتها بعد خطبة غيره إذا كانت قد ركنت إلى خاطبها الأول). قال أحمد: إنما يكره له خطبتها إذا ركنت إلى غيره، لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا موسى بن الحسن بن أبي عباد قال: حدثنا عبد الله بن رجاء قال: حدثنا صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطب الرجل على خطبة أخيه،

حتى يترك الخاطب الأول، أو يأذن له، فيخطب". فإن هذا الحديث على معنيين: أحههما: النهي عن خطبته على خطبة غيره. والثاني: أن ذلك لحق الخاطب الأول، وأنه متى ترك الخطبة، أو أذن للثاني فيها: جاز وأما إذا لم تركن إليه، فإنما جاز له ذلك وإن لم يأذن الأول، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس: إذا انقضت عدتك فآذنيني، فلما انقضت عدتها أعلمته، وقالت: قد خطبني أبو الجهم، ومعاوية. فقال: أما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، يعني يضرب النساء، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، ولكن عليك بأسامة بن زيد، قالت فتزوجته، فجعل الله فيه خيرًا". فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة بعد ما أعلمته أن أبا الجهم، ومعاوية قد خطبها. وروى أنس بن مالك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم باع قبعًا وحلًا لرجل من الأنصار فيمن يزيد".

مسألة: [الخطبة في العدة] قال: (والتصريح بالخطبة في العدة مكروه، والتعريض بذلك مباح). لقول الله تعالى:} ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرًا {: يعني نكاحًا. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "إذا انقضت عدتك فآذنيني"، وذلك تعريض منه في العدة. قال ابن العباس: "التعريض أن يقول: إني أريد أن أتزوج". قال مجاهد: "يقول: إنك لحسناء، وإنك لجميلة" قال سعيد بن جبير في قوله:} إلا أن تقولوا قولًا معروفًا {، أن يقول إني فيك لراغب، وإني لأرجو أن نجتمع. *****

باب نكاح أهل الشرك

باب نكاح أهل الشرك مسألة: [أحكام الزواج فيما بين أهل الذمة والحرب] قال أبو جعفر: (وإذا تزوج الذميان أو الحربيان بغير مهر وذلك جائز في دينهم: فهو جائز، ولا مهر لها، وقال أبو يوسف ومحمد في الذميين لها المهر). قال أحمد: الأصل في ذلك: أن إثبات المهر في العقد حق لله تعالى، وفي التالي من العقد حق لها، وهم غير مؤاخذين بحقوق الله، فلم يثبت في العقد. والدليل عليه أنه في العقد حق لله تعالى، وفي التالي حق لآدمي: ألا ترى أن المسلمين لا يجوز لهما إسقاطه من العقد، ولها أن تبرئه بعد العقد. وأيضًا: لما لم يكن شرط العقد استصحاب بقاء المهر، صار كالنكاح بغير شهود، لما لم يكن شرط بقاء العقد استصحاب بقاء الشهود، جاز عقدهم بغير شهود، وإن ارتفعوا إلينا: لم تفسخه كذلك المهر. * ولأبي يوسف ومحمد: أن الذميين من أهل دارنا أحكامنا جارية عليهم، فيثبت المهر وإن لم يشترطاه، كالمسلمين. وليسا كالحربيين، لأنهما تعاقدا حيث لا تجرى عليهما أحكامنا، وقد

تراضيا بأن لا مهر، فلم يجب في العقد، ولا يجب بعده أيضًا. ألا ترى أن الحدود لما كانت حقًا لله تعالى، لم يجب على الحربيين إذا أسلموا بعد ذلك وقد أصابوه في حال الحرب؛ لأنه وجب حيث لابد للإمام فيه، كذلك المهر. وأما الذميان فهما تحت يد الإمام، وبحيث تجري عليهما الأحكام فتثبت كالحدود. * وليس ثبوت المهر كالحد عند أبي حنيفة؛ لأن الحدود عقوبات مستحقة بالإجرام، فلا يختلف فيها حكم أهل الدار، كما لا يختلف في القصاص والتعزيز، والمهر حق لله تعالى في العقد، لا على وجه العقوبة، فأشبه سائر العبادات، فلم يؤاخذوا بها. وأيضًا: فإن الحدود موضوعة لمنع الفساد، والزجر عنه، والذميون ممنوعون من الفساد في دار الإسلام كالمسلمين، لأن إظهار الفساد في دارنا ضرر علينا، فكان مصلحة لنا ونفعًا، فلما كان فيها حق: لم يختلف فيها المسلم والذمي. مسألة: [زواج الذمي بما هو محرم في الإسلام] قال أبو جعفر: (وإذا تزوج الذمي ذمية في عدة من ذمي: جاز نكاحه، وخلي بينه وبين ذلك إذا كانت ذلك من دينهم. وكذلك من تزوج منهم ذات محرم منه وذلك في دينهم جائز: خلي بينهم وبين ذلك. وكذلك لو تزوج خمس نسوة، أو أختين. ما لم يتراض في ذلك بأحكام المسلمين، فإذا تراضيا بها:

ردًا إليها، ولا يردان إليها برضا أحدهما، وهذا قول أبي حنيفة. قال: وقال أبو يوسف: لا يعترض لهما في شيء من ذلك، ما لم يرفعه أحدهما إلى حاكم المسلمين، فإذا رفعه أحدهما: حكم فيه بينهما بحكم المسلمين، رضي بذلك صاحبه أو كرهه). قال أحمد: مذهب أبي حنيفة في ذلك: أنهم يخلون وأحكامهم في المناكحات، حتى يجتمعا جميعًا على الرضا بحكم الإسلام، فإذا تراضيا بذلك، حملا على أحكام المسلمين، إلا في النكاح في العدة، والنكاح بغير شهود. وقال محمد مثل قول أبي حنيفة، أنهم يخلون وأحكامهم في النكاح، وليس لنا أن نعترض عليهم، إلا أنه يقول: إذا رضي أحدهما بأحكامنا حملا جميعًا على أحكام الإسلام في جميع ذلك، إلا في النكاح بغير شهود، فإنه لا يفسخه. ويخالفنا أبا حنيفة في النكاح في العدة، فيفسخه إذا رضي أحدهما حكمنا. وذكر أبو جعفر أن قول أبي يوسف أنهم يخلون في أحكامهم حتى يرضى أحدهما بحكمنا، فيحملا حينئذ على أحكام الإسلام، وهذا إنما هو قول محمد خاصة. وقول أبي يوسف: أنهم يحملون على أحكامنا، رضوا بها، أم لم يرضوا، إلا أنه لا يفسخ النكاح بغير شهود عليهم. قال أبو يوسف: لو أمكنني أن أتبعهم بأحكامنا في ديارهم فعلت،

لقول الله تعالى:} وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم {. * يحتج لأبي حنيفة في ذلك بقول الله:} فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم {. وروي أن قوله:} وأن حكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم {نزل بعد قوله:} فاحكم بينهم أو أعرض عنهم {. فصار التخيير الذي في الآية الأولى منسوخًا بالثانية، إلا أنه لم تقم الدلالة على أن شرط المجيء المذكور بالآية الأولى منسوخ، إذ ليس يمتنع أن تنتظم الآية معنيين، فينسخ أحدهما، ويبقى المعنى الآخر غير منسوخ، فإذا لم تقم الدلالة على أن شرط المجئ منسوخ بقيناه، وجمعنا بينه وبين الآية الثانية، فصار كقوله: فإن جاؤوك فاحكم بينهم بما أنزل الله. وأيضًا: فإنا أعطيناهم العهد على أن نخليهم وشرائعهم وأحكامهم، ما لم يكن فيه فساد على أهل الإسلام. والدليل عليه: أنهم يخلون وعبادة غير الله، وصلواتهم في بيعهم وكنائسهم، وهذا كله كفر وضلال، وقد أقروا عليه، فكذلك نكاح ذوات

المحارم، ليس بأعظم من ذلك. وأيضًا: فإنه معلوم "إقرار النبي صلى الله عليه وسلم قومًا من النصارى واليهود في دار الإسلام على ذمة"، وقد كان يعلم لا محالة أنهم يستبيحون من مناكحاتهم كثيرًا مما هو محظور في شريعة الإسلام، فلم يعترض عليهم في شيء منها، فدل على أنهم مقرون عليها، ما لم يرتفعوا إلينا. فإن قال قائل: فقد منعتهم الزنى والسرقة ونحوها. قيل له: أما الزنى فلا نعلم أحدًا يستبيحه من أهل الملل، وكذلك السرقة أيضًا، فإن فيه إظهار الفساد في دار الإسلام، وهم ممنوعون منه، لما فيه من الضرر على لمسلمين. فإن قيل: قد منعتهم الربا، وسائر البيوع الفاسدة. قيل له: لأن لذلك أصلًا آخر قد ثبت بالسنة، فرددناه إليه، وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كتب إلى نصارى نجران: إما أن تذروا الربا، وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله"، فصار ذلك أصلًا في البياعات. وقال الله تعالى:} فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم

وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا (160) وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه {. فأخبر الله تعالى أنهم منهيون عن الربا، ممنوعون منه بالشرع. والذي منعهم التعامل بالربا، هو الذي أقرهم على مناكحاتهم، مع علمه صلى الله عليه وسلم بمخالفة كثير منها أحكامنا، فصار كل واحد من ذلك أصلًا في نفسه، لا يعترض عليه بغيره. * وأما أبو يوسف، فذهب إلى ظاهر قوله:} وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم {. وروي عن عمر "أنه أمر أن يفرق بين المجوس وبين ذوات محارمهم" * وإنما اعتبر أبو حنيفة مجيئهما جميعًا، ورضاهما بحكمتنا، لقول الله تعالى:} فإن جاءوك فاحكم بينهم {، فشرط مجيئها جميعًا في إيجاب الحكم بينهما. وأيضًا: فإنهما إذا لم يكونا محمولين على حكم الإسلام لو لم يرتفعا إلينا، فغير جائز أن يلزم الذي لم يرض بحكمنا، لأجل رضا الآخر؛ لأن رضاه غير جائز على صحابه.

* وقال محمد: إذا رضي أحدهما بحكم الإسلام، صار كأنه مسلم فحمل الآخر على حكم الإسلام، كما لو أسلم أحدهما. والانفصال لأبي حنيفة: أن إسلام أحدهما، يوجب حملهما على حكم الإسلام، ولا يصح لهما التراضي على غيره، ورضا أحدهما لا يلزمهما ذلك. ألا ترى أنه لو قال بعد ما رضي: أنا لا أرضى: لم يحكم بينهما فلذلك اختلفا. * وأما النكاح في العدة: فإن أبا حنيفة لم يفسخه وإن رضيا بحكمنا أو أسلما جميعًا، وفرقه بينه وبين نكاح ذوات المحارم من وجهين. أحدهما: أن العدة إنما تمنع ابتداء العقد، ولا تمنع البقاء، ألا ترى أن المرأة إذا وطئت بشبهة، وهي تحت زوج، فوجبت عليها العدة، لم يمنع ذلك بقاء العقد. ولو أراد أن يبتدئ عليها عقدها في العدة: لم يصح، فلما كان كذلك، وقد وقع العقد بحيث لا اعتراض فيه، ولو فسخناه كنا إنما نمنع البقاء عليه لأجل العدة، وقد بينا أن العدة لا تمنع بقاء النكاح، وإنما تمنع الابتداء، فأشبه من هذا الوجه النكاح بغير شهود، أنه لما كان الشهود شرطًا في ابتداء العقد، لا في البقاء، لم يصح النكاح بعد الإسلام والتراضي بأحكامنا لأجل عدم الشهود في الحال. وفارق نكاح ذوات المحارم، والعقد على خمس نسوة، من جهة أن هذه العقوبة لا يختلف فيها حكم الابتداء والبقاء في الإفساد، فلذلك منع البقاء في هذا الحال. والوجه الآخر: أن مذهب أبي حنيفة: أنه لا يرى عليها عدة إذا لم يكن

في دينهم وجوب العدة؛ لأن العدة حق لله تعالى، لزومها متعلق بتقدم الإسلام، كالصلاة وسائر العبادات. * وأما أبو يوسف ومحمد جميعًا، فلم يفرقوا بينهما لأجل العدة على حسب اختلافهما في حال التفريق، وذلك لأن النكاح بغير شهود مختلف فيه، فمن الفقهاء من يجيزه، فصار ذلك عقدًا واقعًا، تلحقه الإجازة من قبل حاكم لو حكمه بصحته، وقد وقع في الابتداء غير معرض للفسخ عند الجميع، ما لم يتحاكموا إلينا؛ لأن المسلمين لو عقدا بغير شهود، لم يكن للحاكم أن يعترض عليهما، حتى يحتكما إليه، وإذا وقع في حال الكفر على هذا الوجه: لم يفسخه بعد الإسلام. وأما النكاح في العدة، فقد وقع على فساد لا تلحقه إجازة بحال، فصار بمنزلة نكاح ذوات المحارم. قال أحمد: وقال زفر: يفرق بينهما أيضًا في النكاح بغير شهود؛ لأن العقد وقع على فساد عنده. مسألة: [زواج الذمي ذمية في عدتها من مسلم] (وإذا تزوج ذمية في عدة مسلم، لم يجز نكاحها). لأن عدتها حق للمسلم، فلا سبيل لها إلى أن تدخل عليه فراشًا لغيره، مع بقاء حكم فراشه.

والدليل على أن فيها حقًا للزوج وإن كانت حقًا لله تعالى: قول الله} فما لكم عليهن من عدة تعتدونها {، فجعل العدة إذا وجبت حقًا له. مسألة: [مجوسي أسلم وعنده مجوسية] قال: (وإذا تزوج المجوسي امرأة مجوسية، ثم أسلم، عرض عليها الإسلام، فإن أسلمت: فهي امرأته على حالها، وإن أبت: فرق بينهما). وإنما لم يقرا على النكاح لقوله تعالى:} ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن {، وهي مشركة لا يجوز وطؤها. ويدلك عليه: أن ابتداء العقد عليها لا يصح في هذه الحال. * وإنما لم تقع الفرقة بإسلامه؛ لأن المعنى الموجب للتحريم وهو كفرها غير حادث على النكاح، وإسلامه هو الحادث، وليس الإسلام موجبًا للتحريم، ولابد لوقوع الفرقة من سبب حادث على النكاح، فلما لم يكن كفرها حادثًا على العقد، بل كان العقد موجودًا معه، احتجنا إلى سبب تقوية الفرقة، وهو إباؤها الإسلام بعد العرض عليها؛ لأنه لا يجوز لنا تبقيتها على النكاح. وليس إسلام أحد الزوجين فيما يتعلق به من الفرقة، كردة أحدهما؛ لأن الردة سبب موجب للتحريم، حادث على النكاح، فصار كالرضاع، ووطء أم المرأة، وسائر الأسباب الحادثة على العقد الموجبة للتحريم، فوقعت الفرقة عقيبها، فإذا عرضنا للإسلام، فأبت أن تسلم، صار إباؤها

سببا حادثا على العقد، يتعلق به إيجاب الفرقة، ففرق القاضي بينهما من أجله. مسألة: قال أبو جعفر: (فإن كان قد دخل بها: فلها الصداق الذي تزوجها عليه). وذلك لأن بطلان العقد من جهتها لا يسقط المهر المستحق بالدخول؛ لأن ذلك الدخول لا يرتفع بارتفاع العقد. ويدل عليه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها، فنكاحها باطل، فإن دخل بها: فلها مهر مثلها، بما استحل من فرجها". فحكم بفساد عقد الأمة إذا عقدت بغير إذن مولاها، ولم يحكم ببطلان مهرها. وقال عليه الصلاة والسلام لعويمر العجلاني حين لاعن بينه وبين امرأته، فقال عويمر: مالي مالي، يعني المهر الذي أعطاها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا مال لك، إن كنت صدقت عليها، فبما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها: فذلك أبعد لك". فأخبر عليه الصلاة والسلام بأنها مستحقة للمهر وإن كان الزوج صادقا، وهي كاذبة بما استحل من فرجها.

*قال: (وإن لم يكن دخل بها: لم يكن لها عليه صداق). وذلك لأن الفرقة جاءت من قبلها قبل الدخول، فصارت كالفرقة الحادثة بردتها، فيسقط مهرها. [مسألة:] ولو كانت المرأة هي التي أسلمت، وأبى الزوج الإسلام بعد عرض الحاكم عليه ذلك، ففرق بينهما: كان عليه نصف المهر، إذا كان ذلك قبل الدخول؛ لأن الفرقة جاءت من قبله قبل الدخول، وكل فرقة جاءت من قبل الزوج قبل الدخول: فعليه فيه نصف المهر، وإذا جاءت من قبل المرأة: سقط المهر. مسألة: [إذا تزوج الذمي أختين أو خمس نسوة ثم أسلمن] قال أبو جعفر: (وإذا تزوج أختين معا، أو خمس نسوة في دار الحرب، ثم أسلمن جميعا: فرق بينه وبينهن في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وكذلك لو تزوج أما وابنتها في عقدة. وقال محمد في الأختين: يختار أيتهما شاء، ويختار من الخمس أربعا، وفي الأم والبنت إن لم يدخل بواحدة: حرمت الأم، ويمسك البنت، وإن كان دخل بهما: فرق بينه وبينهما). قال أحمد: الأصل في ذلك عند أبي حنيفة وأبي يوسف: أن كل عقد لا يختلف فيه حكم الابتداء والبقاء للمسلم، فإنه لو عقده في حال الكفر: وقع فاسدا، فإذا أسلم: لم يقر عليه. وذلك نحو عقد الأختين، والخمس النسوة في عقدة، فهذا مما لا يختلف فيه حكم الابتداء والبقاء، ألا ترى انه لا يصح للمسلم البقاء على الأختين، ولا على الخمس النسوة، كما لا يصح له ابتداء العقد.

ولو تزوج رجل صبيتين ضيعتين، فأرضعتهما امرأة: وقعت الفرقة بينه وبينهما، ولم يصح البقاء على نكاحهما، كما لا يصح الابتداء. والدليل على صحة هذا الأصل، ووجوب اعتباره إذا وقع العقد في حال الكفر: اتفاق الجميع على أنه لو تزوج ذات محرم منه، ثم أسلم: فرق بينهما، وكان عقده في حال الكفر، كهو في حال الإسلام. كذلك العقد على الأختين، والخمس النسوة، والأم، والبنت، إذ كن سواء في تساوي حكم الابتداء والبقاء في حال الإسلام. ولا يلزم على ما ذكرنا: النكاح في العدة، وبغير شهود، من قبل أن حكم الابتداء أو البقاء يختلف في ذلك، إذ ليس شرط بقاء العقد استصحاب الشهود، وخلوها من العدة، ألا ترى أن من طرأت عليها عدة من وطء شبهة، وهي تحت زوج: لم يبطل ذلك نكاح الزوج. وكذلك موت الشهود، وعدمهم، لا يقدح في العقد بخلوها من العدة، ووجود الشهود، إنما هما شرط في صحة وقوع العقد، لا في بقائه، فلذلك اختلفا. *واحتج من خيره فيهن بحديث معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر "أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذ منهم أربعا".

وبحديث محمد بن عبد الله الثقفي عن عروة بن مسعود قال "أسلمت، وتحتي عشر نسوة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اختر منهم أربعا، وخل سائرهن". وبحديث ابن أبي ليلى عن حميضة بن الشمردل عن الحارث بن قيس "أنه أسلم وعنده ثمان نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اختر منهم أربعا". وبحديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال: "قلت: يا رسول الله! إني أسلمت وتحتي أختان قال: طلق أيتهما شئت". قال أحمد: فأما حديث الزهري فإنه يقال: إنه مما أخطأ فيه معمر، وذلك لأنه كان عندهم حديثان في قصة غيلان بن سلمة أحدهما: أن غيلان طلق نساءه، وقسم ماله بين ورثته، فقال له عمر: وايم الله لئن مت

قبل أن تراجع نساءك لأورثهن من مالك، ثم لأرجمن قبرك، كما رجم قبر أبي رغال. وإسناد هذا الحديث عن الزهري عن سالم عن أبيه قد رواه عنه جماعة. وكان عنده في قصة غيلان حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أسلم غيلان، وعنده عشر نسوة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا، ولكن إسناده عند الزهري ما ذكره معمر، فجعل معمر إسناد حديث عمر في قصة غيلان لحديث النبي صلى الله عليه وسلم في أمره إياه باختياره أربعا منهن. والدليل على ذلك: أن مالك بن أنس وعقيل بن خالد قد رويا عن الزهري أنه قال: بلغني عن عثمان بن محمد بن أبي سويد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن سلمة وقد أسلم، وتحته عشر نسوة: اختر منهن أربعا. فلو كان عند الزهري عن سالم عن أبيه في هذا شيء، لما لجأ إلى

البلاغ في الرواية، فهذا الذي يبين خطأ معمر في إسناده هذا الحديث. ولأن أحدا لم يتابع معمرا على هذا الإسناد، إلا انه قد روي عن سالم عن أبيه من غير طريق الزهري، رواه سيف بن عبيد الله الجرمي عن سرار بن مجشر العنزي أبو عبيد قال: حدثنا أيوب عن نافع، وسالم عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة، فأسلم وأسلمن معه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا. ولو ثبت هذا الحديث وسائر الأخبار المروية، لم تدل على موضع الخلاف، وذلك أنه لم يثبت أن عقد هؤلاء كان بعد تحريم الخمس، والجمع بين الأختين. وجائز أن يكون عقدهم كان قبل تحريم الجمع بين الخمس نسوة، والأختين، فإن كان كذلك، فقد كان العقد وقع صحيحا في حال الإباحة، ثم طرأ التحريم بعد، فيكون له الخيار. كما نقول في رجل طلق إحدى امرأتيه ثلاثا بغير عينها: أن ذلك لا يفسد عقدهما، ويكون له الخيار في إمساك إحداهما، ويعتبر الطلاق في الأخرى، وإن كان لو ابتدأ العقد عليهما معا، وقد كان طلق إحداهما ثلاثا، ولم يعرفها: لم يصح عقده عليهما، ثم إذا صح العقد لم يكن تحريم إحداهما بغير عينها موجبا لتحريم الأخرى. وإذا احتمل أن يكون العقد الذي أجاب فيه النبي صلى الله عليه وسلم كان في حال الإباحة، ولم يكن ذلك عموم لفظ من النبي صلى الله عليه

وسلم فيمن عقد على هذا الوصف في حال الشرك، فينتظر حال الإباحة والحظر، بل كان حكما في قضية بعينها محتملة لما وصفنا: سقط الاحتجاج به في موضع الخلاف، إذ ليس لأحد من الخصمين أن يدعي وقوعه بعد الحظر إلا ولخصمه أن يدعيه قبله. فإن قيل: ترك النبي صلى الله عليه وسلم سؤال السائل عن حال وقوع العقد، يدل على أن الحكم شامل للحالين؛ لأن الحكم لو كان مختلفا لسأله النبي صلى الله عليه وسلم. قيل له: يجوز أن يكون تركه المسألة عن ذلك لعلمه وقوع العقد والاحتمال على الوجه الذي ذكرنا. ويدل عليه أن العقد كان في حال الإباحة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم ذلك: قوله لفيروز الديلمي في الأختين: "طلق أيتهما شئت"، فهذا يدل على أن العقد كان في حال الإباحة، وأنه ملك بضع الأختين جميعا بالعقد، لولا ذلك لما صح طلاقه في المحرمة منهما. وأيضا: يحتمل أن يكون معني قوله: "اختر منهن أربعا"، و: "اختر أيتهما شئت": بنكاح مستقبل، وعقد جديد. وأيضا: يحتمل قوله: "اختر منهن أربعا" أن يكون مراده الأربع الأوائل. *وأما محمد فذهب إلى ظاهر هذه الأخبار، فإذا تزوج أما وبنتا: حرمت الأم عنده بتزويج البنت، فيفارقها بعد الإسلام، فإن دخل بالأم: حرمت البنت أيضا بوطء الأم. مسألة: قال: (وإذا فرق بين المرأة وزوجها لأجل إسلامها، وإبائه الإسلام:

فعليها العدة، كعدة المطلقة، ولها السكنى والنفقة على الزوج. وإن فرقنا بينهما لإسلامه، وإبائها الإسلام: فعليها العدة إن كان بعد الدخول، ولا نفقة لها في العدة، ولها السكنى). قال أحمد: الأصل في ذلك: أن كل فرقة جاءت من قبلها بمعصية، وقد دخل بها: فلا نفقة لها، ولها السكنى، والأصل فيه النشوز أنه يبطل النفقة؛ لأن المنع جاء من قبلها بمعصية، وأما السكنى فإنها حق لله تعالى، فلا يسقط بفعلها. ألا ترى أنها لو أبرأت منها: لم تصح. وأما إذا كانت الفرقة من جهة الزوج: فلها السكنى والنفقة، بمنزلة الطلاق، وإن كانت الفرقة من قبلها بغير معصية: فلها نفقة العدة والسكنى؛ لأنها غير عاصية فيه، فلم تسقط نفقتها. مسألة: [الردة سبب الفرقة بين الزوجين] قال: (وأي الزوجين ارتد: وقعت الفرقة بينهما بنفس الردة). وذلك لأن الردة سبب موجب للتحريم، حادث على العقد. والدليل على ذلك: أنها تمنع استئناف العقد عليها، فوجب أن تقع الفرقة عقيبها، كالرضاع، والطلاق الثلاث، ونحوها. وأيضا: لم يختلفوا أنها توجب الفرقة، إلا أن من الناس من يوجبها بمعنى ثلاث حيض، فكان وقوعها في الحال عندنا لما وصفنا.

وليست الردة كالطلاق الرجعي، لا يوجب التحريم، ولا يمنع صحة ملك البضع. مسألة: قال: (وإن ارتدا معا لم تقع الفرقة). قال أحمد: وهذا استحسان من قولهم، وكان القياس أن تقع الفرقة، وجهة القياس: أن السبب الموجب للتحريم، وهو الردة، حادث على النكاح على ما بينا، فكانت ردتهما معا، كردة أحدهما، ولكنهم تركوا القياس؛ لأن من أصلهم جواز تخصيص العلة، وترك حكمها مع وجودها، لقيام الدلالة عليه. والدلالة الموجبة لتخصيص علة القياس التي ذكرناها: أن أهل الردة لما أسلم من أسلم منهم في زمن الصحابة رضي الله عنهم، لم يفرقوا بينهم وبين نسائهم. فإن قال قائل: ومن أين لك أن ردتهم وإسلامهم جميعا كانا من الزوجين معا، ويمتنع مع ذلك في العادة أن يكون كل من ارتد منهم ارتدت امرأته معه في حال ارتداده، لم يسبق أحدهما به صاحبه. قيل له: هو كما قلت، إلا أن كل أمرين لا يعلم تقدم أحدهما على صاحبه، سقط حكم التاريخ فيه، وصارا كأنهما وقعا معا.

والدليل على ذلك: الغرقى، والقوم يقع عليهم البيت، أنا لا نعلم تقدم موت أحدهم على غيرهم: حكمنا بموتهم جميعا معا. وإن قيدت العلة في الأصل بما يلزمك عليه التخصيص، فقلت: إن الردة عند اختلاف الدينين لما كانت سببا موجبا للتحريم، ثم أشبهت سائر الأشياء الموجبة للتحريم، مثل الرضاع ونحوه، فوقعت الفرقة عقيبهما، فإذا ارتدا معا، فلم يختلف بهما الدينان، فلم يلزم على العلة، وإذا اختلف بهما الدينان، فحكمهما موقوف على دلالة أخرى، وقد قامت الدلالة من إقرار الصحابة من أسلم من أهل الردة على نسائهم، على أنهما لم يختلف بهما الدينان: لم توجب الفرقة. مسالة: [إن أسلم المرتدان كانا على نكاحهما] قال: (فإن أسلما معا: كانا على نكاحهما). لأنهما لم يختلفا في الدينين، ولأن ردتهما لما لم توجب الفرقة، فإسلامهما أحرى أن لا يوجبها. مسالة: [إن أسلم أحد المرتدين قبل الآخر وقعت الفرقة] قال: (وإن أسلم أحدهما قبل صاحبه، وقعت الفرقة). وذلك لأنهما اختلفا في الدينين، فصار كردة أحدهما قبل الآخر، إذا كانت الردة حادثة على النكاح، وقد اختلف بها الدينان، وليس إسلام من أسلم منهما هو الموجب للفرقة، ولكن الموجب لها هو الردة الحادثة على العقد عند اختلاف الدينين. ******

باب نكاح الشغار

باب نكاح الشغار مسألة: [نكاح الشغار جائز وفيه مهر المثل] قال: (وإذا زوجه أخته على أن يزوجه أخته، أو زوجه أمته على أن يزوجه أمته، ليس بينهما مهر غير ذلك: فالنكاح جائز، ولكل واحدة منهما مهر مثلها. قال: وهذا الشرط هو الشغار). قال أحمد: هذا العقد قد اشتمل على ثلاثة معان: أحدهما: تمليك البضع بعقد نكاح. والثاني: شرط بضع كل واحدة لولي الأخرى. والثالث: أن لا مهر لهما. وعقد النكاح لا تفسده الشروط، ولا فساد البدل، ولا عدمه. والدليل عليه: أنه لو تزوجها على خمر أو خنزير: جاز النكاح، وبطل الشرط. وكذلك لو تزوجها على أن لا مهر لها: كان لها المهر، وجاز النكاح، وبطل الشرط. وإذا صح ما وصفنا، ولم يكن في هذه المسألة إلا هذه المعاني، وكل

واحد منها لا تأثير له في فساد العقد، وجب أن يجوز العقد. فإن قيل: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح الشغار"، فينبغي أن يفسد العقد؛ لعموم النهي. قيل له: إذا ثبت أن نكاح الشغار وصفه ما قدمنا، وهو أن يزوجه أخته على أن يزوجه أخته، أو يزوجه أمته على أن يزوجه أمته، وكذلك روي تفسيره عن السلف، فهذا إنما هو عقد واقع على أحد وجهين: إما أن يكون لم يشرط لها فيه مهر رأسا، ويشرط لوليها منفعة، وهو بضع الأخرى، وذلك لا يفسد العقد؛ لأن عدم تسمية البدل في النكاح لا تأثير له في إفساد العقد. أو أن يكون جعل بضع كل واحدة بدلا لبضع الأخرى، وذلك إذا زوجه أمته على أن يزوجه أمته، فهذا إنما هو فساد في البدل، فلا يفسد العقد من أجله، كما لو تزوجها على خمر أو خنزير، ونحن إذا أجزنا نكاحهما بمهر المثل، فلم نحز الشغار؛ لأن النكاح بمهر المثل ليس بشغار. فإن قيل: فقد أجزت عقدا غير ما تعاقداه. قيل له: كما إذا عقد على نكاح بخمر أو خنزير، أجزنا عليهما عقدا بمهر المثل، وهو غير ما تعاقدا عليه، وكما إذا عقدا بغير مهر، أجزناه بالمهر. والأظهر من معني الشغار، أن يكون نكاحا عاريا من المهر، كما

يقال: بلد شاغر، إذا كان فارغا من الجند. فإن قيل: لا يشبه النكاح بالخمر أو الخنزير الشغار؛ لأنه جعل في الشغار بضع كل واحدة مهرا للأخرى، وقد أبطلناه أن يكون مهرا، فلا يصح عقد قد أبطلناه من أن يكون معقودا عليه عقدا صحيحا. قيل له: إنما أخرجنا البضع من أن يكون مهرا، ولم نخرجه من أن يكون بعقد النكاح، كما قلنا جميعا إذا تزوجها على خمر أنه قد جعل البضع بدلا من الخمر، فنخرجه من كونه بدلا من الخمر، ولا نخرجه من كونه معقودا عليه عقدا صحيحا، لا بدلا من الخمر. وعلى أن الشافعي رضي الله عنه قد قال: إنه لو زوجه أخته على ألف درهم، على أن يزوجه أخته: جاز النكاح، وكان لها مهر المثل، فقد أخرجنا البضع من أن يكون بدلا لبضع الأخرى، ولم نبطله أن يكون معقودا عليه في نفسه عقدا صحيحا. وهذه المسألة تنقض عليه سائر ما يحتج به في إفساد النكاح المعقود عليه بشغار. فإن قيل: قد قلتم في العبد إذا أذن له مولاه في تزوج حرة على رقبته، فتزوجها: أن النكاح فاسد، وهذا فساد في البدل، أفسدتم من أجله النكاح، فالشغار مثله وإن كان الفساد في البدل.

قيل له: لم يفسد النكاح لأجل فساد البدل؛ لأن البدل هو رقبة العبد، مما يصح تمليكه، ويجوز أن يكون بدلا للبضع، ومن أجل أنها بدل صحيح، فسد العقد فيه؛ لأنه حين دخل في العقد، وصار بدلا، أوجب أن تملكه المرأة بعقد النكاح، ولا يصح للمرأة بقاء النكاح مع حصول تملكها في رقبة الزوج، فامتنع من ها هنا جواز العقد من أجل صحة البدل، لا من أجل فساده، وليس ذلك من الشغار في شيء. فصل: [جواز عقد النكاح بشرط أن لا مهر] والدليل على جواز عقد النكاح وإن شرط أن لا مهر لها، ويجب لها مهر المثل: قول الله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن}. فحكم بصحة الطلاق على عقد لم يسم فيه مهرا، والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح، فثبت بذلك جواز عقد النكاح مع عدم تسمية المهر. فإن قيل: إنما دلت الآية على جوازه إذا سكت عن التسمية، فما الدليل على جوازه إذا شرط أن لا مهر لها؟ قيل له: الآية منتظمة للأمرين؛ لأن شرطه أن لا مهر لها، لا يخرجه من أن يكون عقدا لم يسم فيه مهرا، وقد حكمت الآية بجوازه، فمن خص منها حالا دون حال، لم يثبت له ذلك إلا بإقامة الدليل، وإذا جاز مع شرط أن لا مهر لها، جاز إذا جعل البدل خمرا أو خنزيرا، إذا كان لها مهر المثل، لأنه قد صح أن الشروط لا تفسده.

وأيضا: فإن فساد البدل ليس بأكثر من عدمه، فإذا كان عدم التسمية لا يقدح في العقد، ففساده كذلك. ومما يدل على أن عقد النكاح لا تفسده الشروط: أنه يصح على بدل مجهول، وهو مهر المثل، وكل عقد صحيح مع جهالة البدل، فإن الشروط لا تفسده، ألا ترى أن العتاق والصلح من دم العمد ونحوهما من العقود التي تصح مع جهالة الأبدال، لا تفسدها الشروط. مسألة: [إذا تزوج ذمي ذمية على خمر أو خنزير، ثم أسلما] (وإذا تزوج الذمي ذمية على خمر بعينها، أو خنزير بعينه، ثم أسلما، أو أسلم أحدهما قبل القبض: فلا شيء للمرأة غيرها). وذلك لان ضمان المهر في يد الزوج ضمان بعينه، لا يتعلق بهلاكه قبل القبض فساد العقد، فأشبه الغصب، ولو أن ذميا غصب ذميا خمرا أو خنزيرا، ثم أسلما أو أسلم أحدهما: لم يكن له غير العين، كذلك المهر. (وقال أبو يوسف: لها مهر المثل، سواء كان بعينه أو بغير عينه). وذلك لأن ما يحدث على العقد قبل القبض، بمنزلة الموجود في العقد. والدليل عليه: أنه لو اشترى منه خمرا بعينها، أو خنزيرا بعينه، ثم أسلم أحدهما قبل القبض: بطل العقد، وصار كأنه عقد عليه بعد الإسلام، كذلك حكم ما يطرأ على عقد النكاح قبل القبض، بمنزلة ما عقد عليه في تلك الحال. (وأما محمد: فإنه يسوي بين ما كان من ذلك بعينه أو بغير عينه أيضا). وجعل تعذر تسليمه بعد الإسلام، بمنزلة موت العبد المهر قبل القبض، فيرجع إلى القيمة.

(قال أبو حنيفة: لو تزوجها على خمر بغير عينها أو خنزير بغير عينه، ثم أسلما: فلها في الخنزير مهر المثل، وفي الخمر القيمة). وذلك لأن الثابت كان في ذمته إلى وقت الإسلام هو الخمر، وقد تعذر تسليمها بعد الإسلام؛ لأن المسلم لا يجوز له تمليك الخمر، فصار بمنزلة من غصب شيئا له مثل، نحو الرطب والعنب، فاستهلكه، ثم انقطع من أيدي الناس: أنه يغرم قيمته يوم الخصومة على أصله، وكذلك عنده أن الخمر كانت في الذمة إلى أن أسلم، فتعذر تسليمها، فنقلناها إلى القيمة. وأما الخنزير، فكان القياس فيه ذلك، إلا أنه ترك القياس، وجعل فيه مهر المثل، وذلك لأن ثبوت الخنزير في الذمة، ليس هو ثبوتا صحيحا، ألا ترى أنه لو جاء بالقيمة بدءا: قبلت منه، ولم يجبر على تسليم الخنزير، كمن تزوج منا امرأة على شاة بغير عينها، فله أن يعطيها القيمة، فلما لم يكن ثبوت الخنزير في الذمة ثبوتا صحيحا، ثم طرأ الإسلام، فأسقط التسمية: عاد إلى مهر المثل. وأيضا: فلو أوجبنا القيمة، لأوجبناها بالعقد، والعقد يوجب مهر المثل، ما لم يكن فيه تسمية صحيحة، فإذا اجتمع في العقد قيمة الخنزير، ومهر المثل، كان مهر المثل أولى بالثبات، إذ كان مهر المثل دينا صحيحا، وقيمة الخنزير ليست بدين صحيح، ألا ترى أن له أن يعدل عن الخنزير إلى القيمة، فكان ثبوت مهر المثل أولى، وبالله التوفيق.

مسألة: [نكاح المتعة] قال أبو جعفر: ونكاح المتعة غير جائز، وهو أن يتزوج الرجل المرأة وقتا معلوما). قال أحمد: المتعة المتفق عليها أن يقول: أعطيك كذا على أتمتع فيك يوما، أو نحو ذلك، وهذا لا خلاف بين الفقهاء في فساده. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنها في أخبار مستفيضة شائعة، وأنه حرمها بعد ما كان أباحها. ويدل على تحريمهما قول الله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون*إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم}. فحظر الوطء إلا من أحد الوجهين، والمتعة خارجة عنهما. فإن قيل: قد صحت إباحتها عن النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق، والحظر بعد الإباحة مختلف فيه، فلا يثبت باتفاق. قيل له: هذه قضية فاسدة؛ لأنها توجب أن لا يثبت شيء من الأحكام إلا من طريق الاتفاق، وهذا فاسد عند الجميع. وأيضا: لم تثبت الإباحة إلا من حيث يثبت الحظر؛ لأن كل خبر ورد في إباحتها، ففيه ذكر حظرها بعد الإباحة، فإن لم يثبت الحظر، لم تثبت الإباحة.

فإن قيل: قال الله تعالى: "فما استمتعتم به منهم فأتوهن أجورهن إلى أجل مسمى". قيل له: هو شاذ لم يثبت عندنا، ولو ثبت كان التأجيل مذكورا للبدل، أخبر أن عقد النكاح جائز على مهر مؤجل، وأنه متى حل الأجل لزمه تسليمه. وإما إذا قال: أتزوجك عشرة أيام، فإن زفر بن الهذيل بقول: هذا نكاح جائز، والشرط باطل، وقال سائر أصحابنا هو فاسد، وهي متعة، من قبل أن جعل النكاح مؤقتا، والمتعة كذا هي نكاح مؤقت. وأيضا: فإنه إذا عقد على عشرة أيام، لم يخل من أن يملك بضعها على التأبيد، ويبطل التوقيت، أو يملك بضعها ملكا مؤقتا يرتفع بمضي الوقت. فالأول فاسد؛ لأنه إذا عقد على عشرة أيام: لم يجز أن يملك بضعها بعد المدة، كما إذا عقد أجارة على نفسه عشرة أيام، لم يكن على ما بعد العشرة عقد، وكما لو قال: اشتريت منك قفيزا من هذه الصبرة، كان المعقود منها هو القفيز، وما عداه غير داخل في العقد. وكذلك النكاح المؤقت، يقتضي توقيته أن لا يكون هناك عقد على ما

بعد المدة، ولا جائز أن يستبيح وطأها فيها، وإن جعلنا النكاح مؤقتا كان متعة. ويدل على ذلك: أن عقد النكاح بمنزلة عقد تمليك الأعيان في جوازه غير مؤقت، وهو مفارق للعقد على المنافع، إذا لا يصح إلا مؤقتا، وهو الإجارات. ولما كان كذلك، ووجدنا تمليك عقود الأعيان يبطلها التوقيت، نحو أن يقول: قد بعتك هذا العبد عشرة أيام، وحب أن يكون النكاح مثله. فإن قال قائل: قوله تزوجتك: عقد صحيح، وذكر العشرة الأيام إنما هو شرط يلحق به، والشروط الفاسدة لا تقدح في عقد النكاح. قيل له: قد بينا أن التوقيت فيه يقضي وقوع العقد على المدة، وليس هو بمنزلة قوله: تزوجتك على أن أطلقك بعد عشرة أيام، فيجوز النكاح، ويبطل الشرط؛ لأن هذا عقد واقع على التأبيد، وشرط قطعه بالطلاق، فلذلك صح العقد. مسألة: [نكاح المحرم] قال: (ولا بأس بنكاح المحرم، ولا يطأ). وذلك لقول الله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم}، وقوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}، وقوله تعالى: {وانكحوا الأيامى منكم}،

وقال: {فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهم}، وقال: {حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا} ـ وعموم هذه الآيات يقتضي جواز نكاح المحرم. ومن جهة السنة: ما رواه سفيان عن عمرو بن دينار قال: أخبرني أبو الشعثاء جابر بن زيد قال: سمعت ابن عباس يقول: "تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم. قال عمرو: فقلت لجابر بن زيد: من تراها يا أبا الشعثاء؟ قال: ميمونة بنت الحارث، فقال له: إن ابن شهاب أخبرني عن يزيد بن الأصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال. فقال لي جابر بن زيد: إنها خالة ابن عباس، وهو أعلم بها، فقلت له: وهى خالة يزيد بن الأصم، فقال لي: وأين تجعل يزيد بن الأصم أعرابيا يبول على عقبيه إلى ابن عباس". فإن قيل: قد روى يزيد بن الأصم أنه تزوجها وهو حلال، فكيف جعلت حديث ابن عباس أولى؟

قيل له: من وجوه: أحدها: أن يزيد بن الأصم لا يقرب إلى ابن عباس، ولا يوازن به، كما قال جابر بن زيد. والثاني: أن من أخبر أنه تزوجها وهو حلال، إنما أخبر عن ظاهر ما كان علمه من حاله بدءا، ولم يعلم بحدوث الإحرام، ومن قال تزوجها وهو حرام، علم حدوث الإحرام، فكان أولى، ولم يقض عليه جهل من جهل حدوث إحرامه. وأيضا: فإن رواية من روى أنه تزوجها وهو حلال، لا يفيد حكما، ورواية من روى انه تزوجها وهو محرم، قد أفاد حكما، وأثبت فائدة، فكان أولى بالقبول. فإن قيل: قد روي في بعض أخبار يزيد بن الأصم عن ميمونة أنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف، ونحن حلالان. قيل له: لا فرق بين رواية ميمونة وغيرها؛ لأنه يجوز أن يكون لم تعلم بحدوث إحرامه قبل ذلك.

فإن قيل: روى نبيه بن وهب عن أبان بن عثمان بن عفان قال: لا ينكح الحرام ولا ينكح، ولا يخطب". قيل له: حقيقة النكاح في اللغة هو الوطء، فهو محمول عليها، كأنه قال: لا يطأ، ولا يوطئ، يعني لا يمكن من الوطء. ومن جهة النظر: إن الإحرام معني عارض في معني الوطء، فأشبه النفاس والحيض، يمنعان الوطء، ولا يمنعان العقد. وأيضا: كما جاز له أن يراجع امرأته وهو محرم، جاز له أن يتزوج، والعلة الجامعة بينهما أن الرجعة لاستباحة الوطء كالعقد. فإن قيل: لما كان ممنوعا من الاستمتاع، منع العقد، كذوات المحارم. قيل له: الأجنبي ممنوع من الاستمتاع بالأجنبية، ولا يمنع العقد عليها. وأيضا: المحرم ممنوع من الاستمتاع بالطيب، ولا يمنع العقد عليه في حال الإحرام، والصوم والصلاة يمنعان الاستمتاع، ولا يمنعان العقد، لو زوجها وكيله وهو في الصلاة: جاز. فإن قيل: لما كان ممنوعا من الطيب، وجب أن يمنع العقد، كالمعتدة لما كانت ممنوعة من الطيب، منعت عقد النكاح. قيل له: هذه علة منتقضة؛ لأن المعتدة من تطليقة ثانية ممنوعة من

الطيب، ويجوز لها أن تعقد على نفسها عقد نكاح لزوجها الذي طلقها، مع كونها ممنوعة من الطيب: يدل على فساد اعتلالك. مسألة: [فسخ عقد النكاح إذا كان بأحد الزوجين عيب] (ولا يفسخ النكاح بعيب في المرأة في قول أصحابنا جميعا) وروي نحوه عن علي رضي الله عنه. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "يرد من أربع: الجنون، والجذام، والبرص، والرتق، فيما أحسب". والحجة لقولنا: أن المعقود عليه من جهة المرأة هو التسليم، وهو موجود مع هذه العيوب، والدليل على صحة ذلك: جواز نكاح المجبوب، مع عدم الوطء رأسا، وفساد نكاح ذوات المحارم، لأجل عدم التسليم. فلما كان التسليم موجودا من جهتها مع العيوب التي ذكرناها، لم يكن له خيار فسخ العقد مع وجود ما تعلقت به صحة العقد.

وأيضا: قد اتفقوا على أنها لا ترد من الشمط، والبخر ونحوهما، فكذلك ما وصفنا. *وأما إذا كان ذلك بالرجل: فلا خيار لها أيضا، إلا فيما يمنع الوطء، مثل العنة، والجب في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: إذا كان به داء لا يمكنها المقام معه، مثل الجذام ونحوه: خيرت. وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: أن المعنى المستحق من جهة الرجل، هو تصحيح المهر لها، وهو موجود بوطئه إياها، ولا اعتبار بسائر العيوب معه، وذلك لأن البرص والجذام ونحوهما إنما هو الشيء تكرهه النفس، وينفر منه الطبع، كما تكرهه إذا كان قبيح المنظر، سيء الصورة، ومع ذلك لا يجب به خيار في فسخ العقد من أجل ذلك. قال أحمد: وليس وجوب خيار امرأة العنين والمجبوب متعلقا بعدم الوطء، وإنما وجب لأن عقد النكاح يقتضي تسليم كل واحد من البدلين اللذين تناولهما عقد النكاح الذي وقع له. فكما استحق الزوج عليها أن تسلم نفسها تسليما صحيحا، استحقت هي عليه تصحيح البدل لها، وهو المهر، وهي لا تستحقه استحقاقا صحيحا إلا بالوطء؛ لأن الخلوة وإن كانت عندنا تمنع سقوط شيء منه

بالطلاق بعدها، فإن من الناس من لا يرى استحقاق كمال المهر بالخلوة إذا وجد الطلاق بعدها، فلا بأس أن ترفع إلى قاض لا يرى استحقاق المهر بالخلوة، لا يوجب لها كمال المهر، فلما كان كذلك: وجب لها الخيار في فسخ العقد، إذ لم يسلم لها بدل ما تعلقت به صحة العقد من جهتها. والدليل على صحة ما قلنا: أنه لو وطئها مرة، ثم جب: لم يكن لها خيار فسخ العقد. مسألة: [أثر قتل الحرة نفسها قبل الدخول] قال: (وإذا قتلت الحرة نفسها قبل الدخول: فالصداق كله واجب لورثتها). وذلك لأنها في حال ما صارت مانعة من البضع بالموت، كان المهر لغيرها، وهم الورثة، فصار قتلها نفسها، وقتل أجنبي لها سواء، في أنه لا يسقط شيء من مهرها، إذ كان الموت بمنزلة الدخول في استحقاق كمال المهر. *قال: (ولو كانت أمة، فقتلها مولاها قبل الدخول: لم يكن لها مهر في قول أبي حنيفة). لأن الذي له المهر، وهو المولى منع البضع، فصار كردة المرأة قبل الدخول، أنه يسقط مهرها، وليست كالحرة، لما وصفنا، أن المانع من البضع غير الذي استحق المهر. قال أحمد: وقد حكى هشام عن محمد عن أبي حنيفة في الأمة إذا قتلت نفسها، أن مهرها يسقط. ووجه ذلك: أن جنايتها تلزم المولى في باب استحقاق رقبتها لها لو

كانت على أجنبي، فلم يختلف من أجل ذلك قتلها نفسها، وقتل مولاها إياها. وأما في قول أبي يوسف ومحمد: فالمهر في الأمة للمولى؛ لأن الموت على وجه وجد: كان بمنزلة الدخول. مسألة: [حق الأمة في فسخ نكاحها إذا أعتقت] قال: (وإذا أعتقت الأمة، ولها زوج: فلها الخيار في فسخ النكاح، حرا كان زوجها أو عبدا). وذلك لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن كثير قال: حدثنا سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة "أن زوج بريرة كان حرا حين أعتقت، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم". وروى عباد بن العوام قال: حدثنا سعيد عن أبي معشر عن إبراهيم عن الأسود قال: سألت عائشة عن زوج بريرة فقالت: كان حرا. فإن قيل: روى عكرمة عن ابن عباس" أن زوج بريرة كان عبدا". وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها "أن زوج بريرة كان عبدا، ولو

كان حرا لما خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم". قيل له: لم تختلف الرواية أن زوج بريرة كان عبدا في وقت، وإنما يحتاج إلى معرفة حاله عند عتق بريرة، ففي أخبارنا تاريخ حرية زوج بريرة، وليس في خبرهم ذكر تاريخها، فكان خبرنا أولى؛ لأن من قال: كان عبدا، إنما أخبر عما كانت عليه حاله بدءا، ومن قال: كان حرا حين أعتقت، فقد وقت، فهو أولى. وأيضا: لو تساوى الخبران في الاحتمال، كان خبر الحرية أولى، من قبل أن المخبر بالحرية، أخبر عن حال علم حدوثها بعد الرق، ومن أخبر بالرق، فإنما أخبر عما عهده من حاله بدءا، ولم يعلم حدوث الحرية، فلا يقضي على خبر من علم حدوثها. ألا ترى أن شاهدين لو شهدا أن هذا عبد زيد، وشهد آخران أن زيدا أعتقه: أن شهادة العتق أولى. وأما ما روي في خبر عروة عن عائشة أن زوج بريرة كان عبدا، فلا ينافي خبر الأسود عنها؛ لأن الأسود أخبر عن تاريخ الحرية, وعروة أخبر عن عبدة متقدمة للحرية، فلا يتعارضان. وأما قوله: "ولو كان حرا ما خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم": فإنا لا ندري من القائل لذلك، ويجوز أن يكون قائله عروة، ومن دونه، إذ ليس في اللفظ دلالة على أنه من قول عائشة، إذ قد وجدنا الرواة

يسندون الحديث إلى غيرهم، ثم يقطعون عليه كلامهم، ويدرجونه في الخبر، فإذا لم يثبت أن قوله: "ولو كان حرا ما خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم": من قول عائشة. وعلى أنه لو ثبت ذلك عن عائشة: لم يناف ما قلنا، إذ لا يمتنع أن تكون عائشة قد كانت علمت رق زوج بريرة، فأخبرت بذلك عما كانت علمته، وكان عندها أن المعنى الموجب لخيارها عند العتق كون زوجها عبدا، ثم ثبت عندها أنه كان قد أعتق قبل ذلك، فأخبرت عن صحة علمها بحدوث حريته قبل عتق بريرة، وليس يسوغ [رد] مثل هذا التأويل لمخالفنا؛ لأن الحرية الثابتة لا يطرأ عليها رق في دار الإسلام، وتطرأ الحرية على الرق. فإن قيل: روى القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها "أن بريرة كانت تحت عبد، فلما أعتقت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت تمكثين تحت هذا العبد، وإن شئت فارقيه". فأخبرت عائشة أنها كانت تحت عبد، ثم أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها بعد عتقها: إن شئت تمكثين تحت هذا العبد، فسماه

عبد بعد عتقها، وهذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم لم يعارضه شيء، فهو أولى من جميع ما روي فيه من حريته عند عقتها، إذ ليس في جميع ما رويتموه لفظ من النبي صلى الله عليه وسلم يوجب أن يكون حرا في وقت عتقها. قيل له: أما قول عائشة أنها كانت تحت عبد، فليس فيه دلالة على موضع الخلاف بيننا؛ لأنا نقول إنها قد كانت تحت عبد، والخلاف في وقت وقوع عتقها. وقد رواه الأسود على الوجه الذي ذكرنا بحيث لا يحتمل تأويلا. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شئت تمكثين تحت العبد": فإنما هو كأمره صلى الله عليه وسلم بلالا حين أذن قبل طلوع الفجر، يرجع فينادي: ألا إن العبد نام"، وقد كان بلال حرا في ذلك الوقت. وكما قال علي رضي الله عنه لشريح: "ما تقول أيها العبد الأبظر في قضية قضى بها". وشريح كان حرا في ذلك الوقت، وإنما سماه بذلك؛ لأنه قد كان جرى عليه رق في الجاهلية. وكما قال الله تعالى: {وأتوا اليتامى أموالهم}، ولا يؤتونها في حال اليتم، وسماهم يتامى لقرب عهدهم باليتم.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اليتيمة تستأمر في نفسها"، ومعلوم أنها لا تستأمر وهي صغيرة. فعلى هذا المعنى أجرى النبي صلى الله عليه وسلم لفظ العبودية على زوج بريرة إن صح الخبر. وأيضا: لو صح أنه كان عبدا حين أعتقت، كانت دلالة قائمة على وجوب الخيار إذا أعتقت وهو حر؛ لأن ذلك حكم وقع في شخص بحدوث معنى، وهو العتق، وهو موجود مع كون الزوج حرا، فالواجب أن لا يختلفا حتى تقول الدلالة على أن هناك معنى آخر، وهو شرط مع العتق في إيجاب الخيار؛ لأن كل حكم حكم به النبي صلى الله عليه وسلم في شخص بحدوث معني، فكذلك الحكم لازم في سائر الأشخاص، إلا أن تقوم الدلالة على وجوب الاقتصار به على بعض دون بعض. ألا ترى "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكم في فأرة ماتت في سمن: إن كان مائعا بالإراقة، وإن كان جامدا بإلقائها وما حولها"، علقنا

به حكم الزيت إذا مات فيه عصفور. وأنه لما "حكم في ماعز بالرجم حين زنى وهو محصن"، كان ذلك حكما لازما في غيره إذا وجد فيه مثل ذلك. وأيضا: فلما ثبت لها إذا أعتقت، وزوجها عبد، كذلك حكمها إذا كان زوجها حرا، والعلة الجامعة بينهما، أنها أعتقت وهي تحت زوج. فإن قيل: المعنى في العبد أنه غير كفؤ. قيل له: لا يعارض ذلك اعتلالنا؛ لأنك تصيبه لإيجاب الخيار، وكذلك اعتلالنا، فكيف يتعارضان وهما يوجبان حكما واحدا؟ لأن اعتلالنا أعم في إيجاب الحكم، ولم يرد عليه ما يعارضه. وعلى أن من اعتبر الكفاءة، فإنما يعتبرها في حال العقد، فلا اعتبار بزوال الكفاءة بعد العقد. وأيضا: روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة حين أعتقت: ملكت بضعك، فاختاري". فجعل العلة الموجبة لخيارها أنها ملكت بضعها، وهي موجودة في حال كون زوجها حرا، وكل علة عارضوا بها هذه العلة فهي ساقطة، وعلتنا أولى؛ لأنها منصوص عليها، واعتلالهم مستنبط، ولا يعارض

النص بالاستنباط. وأيضا: إنها لما لم تملك بدل بضعها بعقد النكاح، وجب أن يكون لها الخيار، كهي إذا كان زوجها عبدا، ألا ترى أن العقد لما اوجب للمرأة الوطء من جهة الزوج إذا كان مجبوبا، وكان الوطء من قبله معدوما، أن لها الخيار، كذلك إذا عدت ملك المهر بالعقد. فإن قيل: فالمكاتبة قد ملكت بضعها بالعقد إذا تزوج بإذن المولى، فينبغي أن لا يكون لها خيار في فسخ النكاح بعد العتق. قيل له: إنما عللنا المسألة بأنها لم تملك بدل بضعها، فلم تلزم علتها من ملكت بضعها، إذ لا يمتنع أن يتفق الحكم مع اختلاف العلتين. وأيضا: فإن المكاتبة لم تملك بدل بضعها بعد النكاح، وإنما ملكته بمعنى آخر، وهو عقد الكتابة، فعلة إيجاب الخيار موجودة. فإن قيل: روى القاسم عن عائشة قال: "كان عندي غلام وجارية زوج، فأردت أن أعتقهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ابدئي بالرجل قبل المرأة". وهذا يدل على أنه إنما أمرها بأن تبدأ بالرجل؛ لأنه لو بدأت بها، لوجب لها الخيار إذا كان زوجها عبدا، وإذا بدأت به: لم يكن له الخيار؛

لأنه حر، إذ لو لم يثبت هذا المعنى، لما كان في أمره بالابتداء بالرجل فائدة. قيل له: وأي غرض للنبي صلى الله عليه وسلم في التوصل إلى إسقاط خيراها، حتى يحمل معنى الخبر عليه. وعلى أنه لو كان المقصد فيه ما قلت، لقال لها: أعتقيهما معا، وكان لا يجب لها الخيار على قولك. فإن قيل: فما الفائدة؟ قيل له: يحتمل أن يكون أراد أن فضيلة الرجل في الابتداء على المرأة، اقتداء بقول الله تعالى: {وللرجال عليهن درجة}. مسألة: [حق المكاتبة في فسخ نكاحها إذا أعتقت} قال: (وإذا أعتقت المكاتبة، وقد كان مولاها زوجها بأمرها في حال كتابتها: فإن لها الخيار في ذلك، كخيار الأمة سواء). وذلك لما بينا من أنها ملكت بضعها بالعتق. وإن شئت قلت: لأن بدل البضع لم يحصل لها بعقد النكاح، وإنما حصل لها بغيره، فكانت كالأمة غير المكاتبة. ********

باب أجل العنين

باب أجل العنين مسألة: [أجل العنين] قال: (وإذا ادعت المرأة أنها لا يصل إليها، وصدقها الرجل بذلك، وطلبت الواجب لها فيه: فإنه يؤجل حولا، فإن وصل إليها، كانت زوجته على حالها، وإن لم يصل إليها: خيرت بين المقام معه، وبين فراقه). قال أحمد: روي تأجيل العنين سنة عن علي، وعمر، والمغيرة بن شعبة، وعامة التابعين، وذلك من يوم رافعته. ويروى عن الحارث بن أبي ربيعة عشرة أشهر، وروي نحوه عن إبراهيم النخعي ولا نعلم خلافا عن السلف في تأجيل العنين، وأن عجزه عن الوطء في المدة، يوجب للمرأة الخيار في فراقه. وإنما اختلفوا في مقدار مدة التأجيل على ما بينا. فإن قال قائل: روى الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "جاءت امرأة

رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! كنت عند رفاعة القرظي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ترتدين إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي من عسيلته، ويذوق من عسيلتك". ورواه مالك عن المسور بن رفاعة عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير أن رفاعة بن سموءل طلق امرأته في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، فنكحها عبد الرحمن بن الزبير، فاعترض عنها، فلم يستطع أن يغشاها، ففارقها، فأراد رفاعة أن ينكحها، وهو زوجها الأول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لك حتى تذوقي العسيلة". ولم يؤجل النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن الزبير، ولو كان ذلك حكما لأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بما لها من الحق في تأجيله، وإثبات الخيار لها عن عجزه عن الوصول إليها. قيل له: أما حديث مالك هذا، ففيه أنه فارقها. وهذا الحديث في سنن ابن قانع، وقد روى لنا أنه كان وصل إليها مرة. حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا يحيى بن محمد البختري قال:

حدثنا هدبة بن خالد قال: حدثنا وهب عن هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة "أن امرأة رفاعة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث إلى قوله: فلا تحلين له حتى يذوق من عسيلتك، وتذوقي من عسيلته، فقالت: يا رسول الله! قد جاء هنة واحدة. قال هشام: مرة واحدة". ففي هذا الحديث أنه قد وصل إليها مرة واحدة، وكذلك قولنا فيمن وصل إلى امرأته مرة واحدة، ثم عجز عن وطئها: أنه لا خيار لها. قال أحمد: وإنما لم تخير المرأة ي بدء ما تصادقنا أنه لم يصل إليها، من قبل أنه يعجز عن الوصول إليها لعلة عارضة، لا لعيب في العضو، وهذا المعنى لا يعلمه من نفسه، وإنما يعلمه باستبراء حاله في فصول السنة الأربعة، فإن كان لعلة عارضة، فتسترجع في بعض مدة الفصول، أو تخف، وإن كان عيبا في العضو لم ترتفع، فلذلك احتجنا فيه إلى التأجيل لاستبراء حاله على الوصف الذي ذكرنا. ولا معنى لاعتبار العشرة الأشهر؛ لأن المعنى إذا كان في التأجيل ما وصفنا، لم يتبين حاله إلا بمضي فصول السنة. وأيضا: فإنا لم نجد العشرة الأشهر يتعلق فيها حكم في الأصول، وقد يتعلق بالحول مثل الزكاة واللقطة.

فصل: [خيار زوجة العنين بالرضا أو الفراق] قال أبو جعفر: (فإن اختارت المقام معه: كانت زوجته على حالها، ولم يكن لها خيار بعد ذلك، وإن اختارت فراقه: فرق بينهما، وكانت تطليقة بائنة). وذلك أن عجزه عن الوصول إليها في المدة، بمنزلة عيب يجده المشتري بالمبيع، فيكون له الخيار في فسخ البيع فيه، فإن رضي به: لم يكن له بعد ذلك الرد، كذلك المرأة إذا اختارت المقام معه، ورضيت به: لم يكن لها بعد ذلك أن تفسخ النكاح. والمعنى في ثبوت خيارها هو الفرقة: أنها لما ملك عليها بضعها، وجب أن تملك هي المهر، وتستحقه استحقاقا صحيحا، ولا يحصل ذلك لها إلا بالوطء؛ لأن من الناس من لا يرى إيجاب كمال المهر مع الخلوة إذا طلق قبل الدخول. *وإنما كانت تطليقة بائنة، أما البينونة فلأنا لو جعلناها رجعية، لكان له أن يراجعها، فيبطل حقها في الفرقة، وقد بينا أن لها حق التفريق. وإنما كان طلاقا؛ لأن سببها من قبل الزوج، بمعنى يختص بعقد النكاح؛ لان ذلك صفة الطلاق. [مسألة: ادعاء العنين أنه وصل إليها] (وإن ادعى أنه وصل إليها، وكانت بكرا: رجع إلى قول النساء فيه). وذلك لأن كل معني لا يطلع عليه الرجال كالولادة، قبلت فيه شهادة

النساء، لتعذر حصول الرجال. *قال: (فإن قلن: هي بكر على حالها: خيرت) لما وصفنا من ثبوت عجزه عن الوصول إليها في المدة، وكون العضو معيبا بذلك. *قال: (وإن كانت ثيبا في الأصل: فالقول قول الزوج مع يمينه، أنه قد وصل إليها في المدة). لأن المرأة تدعي أنه معيب بذلك، فهي كالمشتري إذا ادعى عيبا باطنا لعبد، مثل الإباق والسرق ونحوه، فالقول قول البيع أنه غير معيب بذلك، وذلك لأن المشتري يدعي ثبوت الخيار في الفسخ بمعنى لا نعلمه، فلا يصدق إلا ببينة، كما لو ادعى شرط الخيار ثلاثا لما يصدق. كذلك المرأة في مسألتنا مدعية لثبوت حق الفسخ لسبب لا نعلمه، فلا تصدق. *قال: (ووصوله إلى امرأة أخرى لا يبطل حق هذه المرأة إذا لم يصل إليها). من قبل أنه وصوله إلى غيرها لا يوفيها حقها، إنما يجب لها. مسألة: [خيار زوجة المجبوب] قال: (لو وجدته مجبوبا: كان لها الخيار في الفرقة، ولا يؤجل). وذلك لأن العيب قد صح، فلا معنى للتأجيل، لأن تأجيل العنين

إنما هو لاستبراء حاله، هل هو عيب أم لا؟ مسألة: [التفريق للعنة بعد الخلوة] قال: (وإذا فرق فين العنين وبين امرأته بعد الخلوة: فلها الصداق كاملا، وعليها العدة). قال أحمد: وروي هذا القول عن علي، وعمر، وزيد بن ثابت، قالوا: إذا أغلق بابا، وأرخى سترا: فقد وجب المهر، ووجب العدة والصداق، دخل بها، أو لم يدخل. وقال الحسن: قال المسلمون: إذا أغلق بابا، وأرخى سترا فقد وجب المهر، ووجبت العدة ولو لم يجامعها. والحجة للقول الأول: قول الله تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وأتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا *وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض}. وهذه الآية تدل من وجهين على ما قلنا:

أحدهما: قوله: {فلا تأخذوا منه شيئا}، وعمومه يقتضي منع الأخذ في سائر الأحوال، إلا أن تقول الدلالة على خصوص شيء منه. والوجه الآخر: قوله تعالى: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض}. قال الفراء في كتابه معاني القرآن: "الإفضاء هو الخلوة وإن لم يجامعها"، والفراء إمام في اللغة غير مدافع، مقبول القول فيما قاله في اللغة". وكذلك ينبغي أن تكون حقيقته، لأنه مأخوذ من الفضاء، وهو الأرض التي ليس فيها ساتر ولا حاجز يمنع نفاذ البصر فيها، فسميت الخلوة التي ليس معها فيها حاجز ولا مانع يمنع الاستمتاع بها إفضاء. فتضمنت الآية منع أخذ شيء من مهرها بعد الخلوة والطلاق؛ لأن قوله تعالى: {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج}، بغير حال الفرقة.

ودليل آخر: وهو قوله تعالى: {وأتوا النساء صدقاتهن نحلة}، وهي عموم في سائر الأحوال، فلما قال: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم}، اقتضى ظاهره أنه متى مسها بيده استحق كمال المهر بعد الطلاق؛ لأن ذلك حقيقة المس، فإذا خلى بها، ومسها بيده، ثم طلق: لم يسقط شيء من مهرها. ثم ثبت ذلك لنا بثبوت الآيتين، ولم يفرق أحد بين الخلوة التي يكون معها المس، وبين الخلوة التي لا يوجد ذلك معها، ويصح في أحد الوجهين استحقاق كمال المهر بعد الطلاق، فكانت الأخرى مثلها؛ لأن أحدا لم يفرق بينهما. وأيضا: روى عوف زرارة بن أوفى قال: "قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق بابا، وأرخى سترا، فقد وجب عليه المهر، ووجبت العدة". وقال النبي صلى الله عليه وسلم "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، وعضوا عليها بالنواجذ".

فلم تجز مخالفتهم مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعهم. "قال الحسن: قال المسلمون: إذا أغلق بابا وأرخى سترا فقد وجب المهر، ووجبت العدة". فإن قال قائل: فقد حكي عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم خلاف ذلك، فكيف يثبت مع وجود الخلاف؟ قيل له: طريق هذه الرواية عنهما واهية ضعيفة، ولو ثبتت أيضا: كان ما ثبت عن الخلفاء الراشدين أولى بالاتباع، ولا يلتفت بعد اتفاقهم إلى خلاف من خالف. وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثننا محمد بن شاذان قال: أخبرنا معلى بن منصور قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا أبو الأسود عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كشف عن خمار امرأة، ونظر إليها: وجب الصداق، دخل بها أو لم يدخل".

*ومن جهة النظر: إن المعنى الذي تعلقت به صحة العقد من جهتها، هو وجود التسليم، والدليل على أن صحة العقد متعلقة بالتسليم دون الوطء: اتفاق الجميع على جواز نكاح المجبوب، مع عدم الوطء، فلو كانت صحة العقد متعلقة بالوطء، لما صح مع عدمه من المجبوب، فدل على أن صحته متعلقة بوجود التسليم من جهتها، فإذا حصل له ذلك: استحقت كمال المهر. كما أن المشتري متى حصل المبيع: استحق عليه الثمن، هلكت السلعة أم لم تهلك. وأيضا: لو استأجر دارا، كان المعنى الذي به يستحق الأجر هو التخلية وإن لم يسكنها المستأجر، كذلك الخلوة في النكاح. فإن قيل: فإذا خلا بها وهى حائض أو صائمة في شهر رمضان، أو هو محرم، أو صائم: لم تستحق كمال المهر مع وجود التسليم. قيل له: ليست الخلوة في هذه الحال تسليما؛ لأن هناك مانعا، والتسليم لا يصح مع وجود المانع، كما أنه لو قال: قد خليت بينك وبين الدار، وهي في يد غاصب يمنعها: لم يكن ذلك تسليما، وكذلك لو قال: قد خليت بينك وبين المبيع، وهو في يد غاصب: لم يكن ذلك تسليما وإن بحضرتهما، كذلك ما وصفنا

فإن قال قائل: قال الله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم}، والطلاق بعد الخلوة مثل الوطء يطلق. قيل: المسيس هو المس باليد، فلو خلا بها، ومسها بيده: استحقت كمال المهر بعد الطلاق بالظاهر، فتستحقه أيضا وإن لم يمس؛ لأن أحدا لم يفرق بينهما. وأيضا: روي عن علي وعمر رضي الله عنهما أن المراد بالمسيس: الخلوة، فكان المسيس عندهما اسما للخلوة، فلزم اعتبارهما؛ لأنهما حجة في اللغة. وأيضا: هو القرب مع ارتفاع الموانع، قال الله تعالى: {فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس}، يعني والله أعلم: لا قرب، وتقول: بيني وبين فلان رحم ماسة، يعني: قريبة. وأيضا: قد اتفق الجميع على أن المواد ليس هو حقيقة اللفظ؛ لأن قائلا يقول: الجماع، وآخر يقول: الخلوة، فصار اللفظ مجازا بالاتفاق، فاحتاج إلى دلالة من غيره في إيجاب الحكم؛ لأن المجاز لا يستعمل إلا في موضع تقوم الدلالة عليه.

وأيضا: ليس يمتنع أن يكون المراد المسيس، أو ما يقوم مقامه من الخلوة، كما قال تعالى: {فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا}، والمعنى الطلاق، أو ما يقوم مقامه من الفرقة. مسألة: [طلاق المجبوب امرأته بعد الخلوة] قال: (وإذا خلا المجبوب بامرأته، ثم طلقها قبل الدخول: فلها المهر كاملا في قول أبي حنيفة). لأن المعنى الذي تتعلق به صحة عقده هو وجود التسليم من جهتها على هذا الوجه، وقد وجد. والدليل على ذلك: أنه ليس هناك تسليم غيره فينتظر وجوده. وليس هذا كالمريض والصغير وغيرهما؛ لأن هناك تسليما صحيحا مستحقا في حالة الصحة والكبر، فلا تستحق كما المهر بعد الطلاق. فإن قيل: فإن خلا بها وهي رتقاء: لزم على قضيتك أن تستحق كمال المهر، إذ ليس هناك تسليم غيره. قيل: ليس كذلك؛ لأن الرتق قد يزول، فهناك تسليم منتظر غير موجود. وأيضا: فإن المجبوب قد ينزل ويواريه، فصار كالفحل، وقد اتفق الجميع على أن امرأة المجبوب لو ولدت: لزمه نسب ولدها،

واستحقت كمال المهر لو طلقها وإن لم يوجد منه وطء، لأجل وجود التسليم، كذلك إذا لم تلد. وجعله أبو يوسف ومحمد كالمريض والصغير. مسألة: [ليس لامرأة المجبوب خيار إذا وطئها مرة واحدة] قال: (وإذا وطئها مرة، ثم جب: لم يكن لها خيار). لأن الوطء مرة تستحق به كمال المهر استحقاقا صحيحا، حتى لا يرد عليه البطلان بورود الطلاق، وكان بمنزلة حدوث العيب بالسلعة بعد قبض المشتري، فلا يوجب للمشتري خيارا في الفسخ. *****

باب الأصدقة

باب الأصدقة مسألة: [لأولياء المرأة التفريق إن زوجت نفسها بأقل من مهر المثل] قال: (وإذا زوجت المرأة البالغة نفسها كفؤا، وقصرت في المهر: فللأولياء أن يفرقوا بينهما، أو يبلغ به مهر مثلها في قول أبي حنيفة, وقال أبو يوسف: ليس لهم ذلك). وجه قول أبي حنيفة: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أدوا العلائق، قيل: وما العلائق؟ قال: ما تراضى عليه الأهلون". فشرط رضا الأهلين مع رضا الزوجين، فدل على أن لهم حقا في استيفاء مهر المثل. وأيضا: فإن الأولياء تلحقهم غضاضة بتقصيرها في المهر، كما يلحقهم لو وضعت نفسها في غير كفؤ. وأيضا: فإن مهر نسائهم يعتبر بها، فيلحقهم ضرر بنقصان مهرها. *وقال أبو يوسف: ليس لهم ذلك؛ لأن المهر حق لها، لا حق لغيرها فيه، ألا ترى أن لها أن تبرئ من المهر بعد العقد.

وذكر أبو جعفر محمدا مع أبي يوسف، وهو غلط؛ لأن محمدا لا يجيز النكاح بغير ولي، وإذا كان بولي لم يعتبر سائر الأولياء الباقين، وإنما هو قول أبي يوسف الأول الذي كان يقول قديما في جواز النكاح بغير ولي، ثم رجع، فقال: لا يجوز النكاح بغير ولي. إلا أنه على قوله الثاني أيضا في امتناعه من تجويز النكاح بغير ولي، يصح جواب هذه المسألة؛ لأنه يقول إذا زوجها بعض الأولياء غير كفؤ: فللباقين أن يفرقوا بينهما، ورضا بعض الأولياء لا يجوز على الباقين، ولم يعتبر نقصان المهر في حق الباقين من الأولياء، فيكون معنى المسألة صحيحا على هذا القول في فرقه بين الكفاءة والتقصير في المهر وإن كان من أصله أن النكاح لا يجوز إلا بولي. مسألة: قال: (ولا صداق أقل من عشرة دراهم). لقول الله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم}، فأباح عقد النكاح بشرط أن يكون البدل أموالا، وما دون العشرة لا يتناوله اسم الأموال. فإن قيل: فالعشرة أيضا لا تسمى أموالا، فالواجب أن لا تكون العشرة مهرا على هذه القضية.

قيل له: كذلك هو، إلا أنا خصصنا العشرة بالإجماع، وإلا فالظاهر منعه. ومن جهة السنة: حديث حرام بن عثمان عن ابني جابر عن أبيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صداق أقل من عشرة دراهم". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حامد بن الشاذي الكشي قال: حدثنا على بن حجر قال: حدثنا بقية قال: حدثنا مبشر يعني ابن عبيد عن الحجاج عن عطاء وعمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا مهر دون عشرة دراهم". وأيضا: روي عن علي رضي الله عنه من قوله: "لا صداق أقل من عشرة دراهم". وهذا عندنا لم يقله إلا توقيفا؛ لأن هذا الضرب من المقادير لا سبيل إلى إثباته من طريق الاجتهاد والمقاييس، وإنما طريقها التوقيف؛ لأنها من الأمور المبتدأة التي هي حقوق لله تعالى. ومن هذا الضرب ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "إذا قعد الرجل في آخر صلاته مقدار التشهد، فقد تمت صلاته".

فكان ذلك توقيفا. وكذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه في الحيض: أن أقله ثلاثا، وأكثره عشرة. وما روي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي: أن أكثر النفاس أربعون. جميع ذلك عندنا توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضا: قد صح عندنا أن اليد لا تقطع في أقل من عشرة. والمعنى فيه: أنه عضو محظور لا يستباح إلا بمال، فكذلك البضع لما كان هذا المعنى موجودا فيه، وجب أن لا يستباح بأقل من عشرة. فإن قال قائل: قال الله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد

فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم}، فإذا فرض خمسة دراهم، لم تستحق بالطلاق قبل الدخول إلا نصفها بظاهر الكتاب. قيل له: لم يختلف في استحقاق نصف المسمى بالطلاق قبل الدخول، وإنما الخلاف فيما زاد، إذا كانت التسمية أقل من عشرة دراهم، وليس في الآية نفيه ولا إثباته، فحكمه موقوف على الدلالة، وقد قامت الدلالة على وجوبه، فصارت الآية موجبة لنصف المسمى، والدلالة موجبة للزيادة إلى تمام خمسة دراهم إذا طلق قبل الدخول. *فإن احتجوا من جهة الثار بحديث أبي حازم عن سهل بن سعد "أن امرأة قالت: يا رسول الله! إني وهبت نفسي لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لي في النساء من حاجة. فقام رجل فقال: زوجنيها يا رسول الله، فقال: ما عندك؟ قال: ما عندي شيء، قال: أعطها ولو خاتما من حديد، قال: ما عندي، قال: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم، قال: فإنا قد زوجناكها بما معك من القرآن". وبحديث عامر بن ربيعة "أن رجلا تزوج امرأة على نعلين، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم النكاح".

وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعطى في صداق ملء هذا برا، أو دقيقا، أو سويقا: استحل". وبحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على امرئ جناح أن يتزوج من ماله بقليل أو كثير، إذا أشهد". قيل له: أما حديث سهل بن سعد، فإنما أراه تعجيل شيء من المهر؛ لأنه لو كان مراده ما يصح العقد عليه، لزوجه مهر في ذمته. وقوله: "زوجناكها بما معك من القرآن": معناه: لأجل ما معك من القرآن؛ لأن ما معه من القرآن لا يكون مهرا. فإن قيل: إنما أراد: تعليمه إياها يكون مهرا لها. قيل له: ليس ذاك في الخبر، ولا فيه ما يدل عليه.

وأيضا: حديث عامر بن ربيعة في إجازة النجاح على نعلين، فإن "نعلين": قد تكونان قيمة عشرة أو أكثر، فلا دلالة فيه على قول المخالف. وأيضا: فإن فه إجازة النكاح بهذه التسمية، ونحن نجيزه أيضا، وليس في الخبر دلالة على أن الزيادة لا تجب إلى تمام العشرة إذا كانت قيمته أقل من ذلك. وأما حديث جابر، فلم يشر فيه إلى شيء بعينه يعرف مقداره، وقد روي في بعض الأخبار: ملء كف، وإن ثبت: فمعناه ما وصفنا. وأما حديث أبي سعيد: "ليس على امرئ جناح أن يتزوج من ماله بقليل أو كثير": فإنما هو إجازة النكاح بقليل التسمية، ونحن نجيزه، ولا دلالة فيه على ما يجب بالعقد وإن كان أقل من عشرة. وأيضا: فلقد كان النكاح جائزا بغير مهر إلى أن "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشغار". فيجوز أن يكون جميع ما روي في هذه الأخبار- وإن صح- أن المراد به التزويج على أقل من عشرة في حال جوازه بغير مهر، أو أن يكون المراد استحباب تعجيل شيء من قبل الدخول، كما "أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله وجهه أن يعجل لفاطمة عليها السلام درعه الحطمية."

مسألة: [جواز النكاح على غير صداق، ووجوب مهر المثل] قال: (وإذا تزوج امرأة على غير صداق: فالنكاح جائز، ولها مهر مثلها). لقول الله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة}. فحكم بصحة الطلاق في نكاح لا مهر فيه، والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح، فدل أن عدم التسمية لا يمنع صحة عقد النكاح. *ولها مهر مثل نسائها؛ لما روى علقمة عن ابن مسعود "أنه أتى في امرأة مات عنها زوجها، ولم يكن فرض لها شيئا، فقال عبد الله: لها مهر مثل نسائها، فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في تزويج بنت واشق بمثل ما قضيته، ففرح بذلك ابن مسعود". وأيضا: فإن البضع لا تجوز استباحته بغير مال، فإذا استباحه بغير بدل مسمى: وجب لها قيمة البضع، وهو مهر المثل.

*ومهر المثل معتبر بنسائها من قبل أبيها؛ لأنها من قوم الأب منسوبة إليهم، دون قوم الأم، ألا ترى أنها تشرف بشرف أبيها دون شرف أمها. *قال: (ويعتبر بنسائها من أهل بلدها). لأن ذلك تقويم للبضع، وتقويم الأشياء يقع في الموضع الذي يجب فيه البدل، كما في تقويم السلع المستهلكة. مسألة: [وجوب المتعة للمطلقة قبل الدخول ولم يسم لها مهر] (وإذا طلقها قبل الدخول، ولم يسم لها مهرا: فلها المتعة واجبة). قال أحمد: لا متعة واجبة عند أصحابنا غير هذه، وهي مستحبة لكل مطلقة غيرها. ولا خلاف بين الفقهاء أن المطلقة قبل الدخول إذا كان قد سمي لها في العقد: أنه لا متعة لها. وقال مالك بن أن: لا متعة واجبة بحال، وهي مستحبة.

وقال الشافعي: هي واجبة لكل مطلقة، إلا أن يسمى لها، وطلقت قبل الدخول. *فأما الدلالة على وجوب المتعة لمن طلقت قبل الدخول والتسمية: فقول الله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين}. فدلت الآية على وجوب المتعة لمن كانت حاله ما وصفنا من وجهين: أحدهما: قوله: {ومتعوهن}: والأمر للوجوب حتى تقوم الدلالة على غيره. والثاني: قوله: {حقا على المحسنين}، وها آكد ما يكون من ألفاظ الإيجاب. ألا ترى أن الشهادات لا يقبل فيها الألفاظ المحتملة للمعاني، ولو شهد شاهدان على رجل بمال فقالا: نشهد أن له حقا عليه، وهو ألف درهم، كان الشهادة مقبولة في إثبات المال.

ويدل عليه أيضا: قوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين}. فإن قيل: لما خص المتقين والمحسنين بالذكر في إيجاب المتعة عليهم، دل على أنها غير واجبة، وأنها ندب؛ لأن الواجبات لا يختلف فيها المتقون والمحسنون وغيرهم. قيل له: تخصيص المحسنين والمتقين: فإنما فيه إيجابها عليهما، فنحن نوجبها عليهما، ثم إذا وجبت على المحسنين والمتقين: وجبت على غيرهم، إذ لم يفرق واحد بينهم في وجوبها. وأيضا: قوله: حقا على المتقين والمحسنين: يدل على الوجوب؛ لأنه جعل شرط كونه محسنا أو متقيا: إعطاء المتعة، وعليه أن يكون متقيا محسنا. وهو كقوله تعالى فيما حكى عن مريم عليها السلام: {إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا}، يعني أن المتقي هو الذي يقبل الاستعاذة بالله تعالى. وهو كقوله تعالى: {هدى للمتقين}، وهو هدى لغيرهم أيضا.

ومن جهة النظر: إن البضع لا يخلو من بدل يجب عنه وإن ورد الطلاق قبل الدخول. والدليل عليه: أنه إذا سمى لها مهرا، ثم طلقها قبل الدخول: استحقت نصف المسمى، فوجب أن لا يخلو من أن يسمى لها من بدل تستحقه عند الطلاق، والمعنى الجامع بينهما: أن كل واحد منهما يتعلق حكمه بالطلاق قبل الدخول: فوجب أن يكونا جميعا واجبين، وأما إذا دخل بها، فإنها قد استحقت مهر المثل، فلا يجتمع عليه وجوب مهر ومتعة. والدليل على ذلك: على أنه إذا طلقها قبل الدخول، وقد سمى لها مهرا: أنها لا تستحق المتعة على الوجوب؛ لأنها قد استحقت شيئا من المهر، فكذلك إذا طلق. فإن قيل: عموم قوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف}: يوجب المتعة لسائر المطلقات. قيل له: يخصه ما ذكرنا من الدلالة. مسألة: [موت أحد الزوجين قبل الدخول ولم يسم المهر] قال: (وإن مات أحدهما قبل الدخول، ولم يسم لها مهرا: فلها مهر مثلها من نسائها). وذلك لما روي عن عبد الله بن مسعود "أنه سئل عن ذلك فقال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان: لها مثل مهر نسائها، وذلك بعد أن ردهم شهرا. فقام ناس من أشجع، منهم معقل بن يسار في بعض الأخبار، وفي

بعضها: أبو سنان وأبو الجراح، فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بذلك في امرأة منهم، يقال لها بروع بنت واشق. فسر عبد الله بذلك سرورا شديدا، حين وافق قضاؤه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه جماعة منهم علقمة ومسروق وعبد الله بن عتبة، والأسود بن يزيد في آخرين. فإن قال قائل: هؤلاء الأشجعيون الرواة لهذا الخبر قوم مجهولون، لا تثبت بمثلهم حجة في إثبات الأحكام. قيل له: كونهم مجهولين عندك لا يوجب رد خبرهم؛ لأن أخبار الآحاد مقبولة عندنا جميعا وإن وردت من جهة الأفراد الذين لم يرووا خبرا غيره، ولاسيما صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأصل فيهم الصحة والعدالة حتى يثبت غيرها. ومع ذلك فإنا لا نعرف عدالة من لم نشاهده إلا بتحمل الثقات عنه، وقد قبل عبد الله خبر هؤلاء وسر به، إذ وافق قضاؤه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قبل مخالفنا من أخبار الأفراد ما يكثر ذكره وتعداده. منها: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب عليكم

السعي فاسعوا"، وهو مما روته امرأة لم ترو غيره. وخبر: "الرطب بالتمر". رواه أبو عياش، ولا يدرى من هو؟ وخبر: "إفراد الإقامة" يرويه أبو جعفر مؤذن مسجد العريان عن أبي المثنى، وهما جميعا مجهولان. في أخبار من نحو ذلك، قد قبلها عن رواة مجهولين من التابعين وغيرهم، فكيف يرد خبر صحابيين قد شهدا عند عبد الله على النبي صلى الله عليه وسلم فأقنعه خبرهم؟

*ودليل آخر من طريق النظر: وهو أم مهر المثل لما كان واجبا بالعقد، وجب أن يؤكده الموت، كالمسمى لما وجب بالعقد، أكده الموت، ولم يسقط منه شيئا. والدلالة على أن مهر المثل يستحق بالعقد من وجوه: أحدهما: أن الزوج قد ملك البضع بالعقد لا محالة، وغير جائز استباحة البضع بغير بدل، فإذا قد ملك عليه البدل من ملك، هو المبدل عنه. وجهة أخرى: وهي أنهما لو ارتفعا إلى القاضي، لحكم لها بمهر المثل قبل الدخول، ولولا أنها قد استحقته، ما حكم لها به، لأن القاضي لا يبتدئ إثبات شيء لم يستحق إثباته قبل حكمه. وأيضا: فإن لها أن تمنعه نفسها حتى تستوفي مهر المثل، فلولا أنها قد استحقته، لما كان لها منع نفسها منه. وأيضا: لو دخل بها لاستحقته استحقاقا صحيحا، فمعلوم أن الدخول تصرف في بضع ملك استباحة قبل ذلك، وتصرف الإنسان فيما يملكه لا يوجب عليه البدل. ألا ترى أن قبض المشتري للمبيع، وتصرفه فيه لا يوجب عليه بدلا؛ لأنه تصرف في ملكه، وكذلك الدخول لا يوجب المهر في العقد الصحيح، فدل على أنها قد كانت استحقت المهر بالعقد، لا بالدخول. وإذا ثبت ذلك: لم يختلف حكمه وحكم المسمى في باب استحقاقهما جميعا بالموت، والمعنى الجامع بينهما: أن كل واحد منهما مستحق بالعقد، فالموت فيهما بمنزلة الدخول. فإن قال قائل: لو كان كذلك، لوجب أن لا يسقط مهر المثل بالطلاق

قبل الدخول، وكان يجب أن يكون لها نصف مهر المثل، كما كون لها نصف المسمى بالطلاق قبل الدخول، فلما كان ورود الطلاق قبل الدخول يسقط جميع مهر المثل، ولم يسقط جميع المسمى، دل ذلك على أنهما مختلفان في تعلق وجوبهما بالعقد. قيل له: لا فرق بينهما في باب سقوطهما بالطلاق قبل الدخول، وذلك لأن الطلاق قبل الدخول يسقط جميع المهر، مسمى كان الواجب أو مهر المثل؛ لأن الطلاق قبل الدخول بمنزلة هلاك المبيع قبل القبض في إسقاط الثمن. وإنما تجب المتعة إذا لم يكن مسمى حقا مبتدأ، وإذا كان هناك مسمى: سقط جميع المهر، ونصف المهر هو متعتها على وجه الابتداء، فأما ما وجب بالعقد، فقد سقط في الحالين، ثم تكون زيادة متعتها مقدرة بنصف المهر، وتارة غير مقدرة، والكلام في جهة اختلافهما ليس هو كلاما في أصل المسألة، وإنما هو كلام في كيفية المتعة في الحالين. وقد روي هذا المعنى عن إبراهيم أنه قال في الذي طلق قبل الدخول، وقد سمى لها: أن لها نصف المهر، وذلك متعتها. ويدل من جهة النظر أيضا: أن الموت بمنزلة الدخول في باب إيجاب العدة، فوجب أن يكون كالدخول في استحقاق كمال المهر، كالمسمى لها صار الموت فيه بمنزلة الدخول، لأجل ما وجب من العدة، فكان كذلك في استحقاق كمال المهر.

مسألة: [المتعة للمطلقة قبل الدخول وقد فرض لها القاضي مهرا] قال: (فإن تزوجها على غير مهر، ففرض لها القاضي مهر المثل، أو تراضيا به، ثم طلقها قبل الدخول: فلها المتعة، وبطل ما فرض لها). وذلك لأن هذه التسمية لم تكن موجودة في العقد، فكانت بمنزلة مهر المثل، لما لم يكن مسمى في العقد، أسقطه ورود الطلاق قبل الدخول، كذلك ما سمي بعد العقد. وأيضا: فإن المفروض بعد العقد هو تقدير لمهر المثل، لا على معنى البدل عنه، بل كأنه هو، ألا ترى أنه لو فرض لها دارا: لم يجب للشفيع فيها الشفعة، ولم تكن بمنزلة ما أخذ بدلا عن مهر المثل، فكان المسمى هو نفس مهر المثل، فلذلك سقط بالطلاق قبل الدخول. وأيضا: فإن فرض القاضي أو تراضيا عليه: ليس هو ابتداء إيجاب، بل هو الذي كان واجبا بالعقد من غير تسمية. وأيضا: فإن هذه التسمية ملحقة بالعقد، وقد بطل العقد، فيبطل ما أحلق به. مسألة: [مقدار المتعة] قال: (وأدنى المتعة درع، وخمار، وملحفة إلا أن يكون صداق مثل المرأة أقل من عشرة دراهم، فيكون لها خمسة دراهم). قال أحمد: أما تقدير المتعة فموكول إلى اجتهادنا، وقدرها ثلاثة

أثواب؛ لأنها أقل ما يسترها بين الناس. فأما قوله: "فإن كان صداق مثلها أقل من عشرة دراهم، فيكون لها خمسة دراهم": فإن الأصل عندهم في ذلك أن المتعة، إن كانت أكثر من نصف مهر المثل: لم يزد على نصف مهر مثلها؛ لأن مهر المثل ليس بآكد ي الوجوب من المسمى، فإذا لم تستحق في المسمى أكثر من نصفه إذا ورد الطلاق قبل الدخول على مهر المثل، أحرى أن لا تستحق أكثر من نصفه. فإذا كان مهر مثلها أقل من عشرة دراهم: أكمل لها خمسة دراهم؛ لأن العشرة مستحقة بالعقد لا محالة، إذ غير جائز استباحة البضع بأقل منها، فلا ينقص قبل الدخول من نصفها. مسألة: [اختلاف الزوجين في قدر الصداق والنكاح قائم بينهما] قال: (وإذا اختلف الزوجان في الصداق، والنكاح قائم بينهما، فإن أبا حنيفة ومحمدا قالا: القول قول المرأة إلى مهر مثلها، والقول قول الزوج فيما زاد. وقال أبو يوسف: القول قول الزوج في المهر، طلق أو لم يطلق، إلا أن يأتي بشيء مستنكر، فلا يصدق). لأن كل واحد منهما غير مصدق على صاحبه، ألا ترى المتبايعين إذا اختلفا في الثمن، كان اختلافهما فيه مانعا من صحة تسمية الثمن، ولذلك وجب فسخ البيع إذا تحالفا، فكذلك اختلافهما في المهر، إلا أن عقد النكاح إذا لم تكن فيه تسمية صحيحة، أوجب مهر المثل، فالظاهر أنها قد استحقت مهر المثل بالعقد، فالقول قول من يدعيه، لأن الظاهر معه، والآخر مدع بخلاف الظاهر.

وأيضا: لما لم تصدق المرأة على الزيادة، كذلك لا يصدق الزوج على أن يستحق بضعها بما يقول من النقصان؛ لأن كل واحد منهما ليس بأولى بالتصديق من صاحبه، فإذا لم يصدق واحد منهما: أوجبنا مهر المثل، كأنه لم يسم شيئا. وليس هذا بمنزلة اختلافهما في الجعل الذي وقع عليه الجعل، ولا كالعتق على مال، والصلح من دم العمد على مال إذا اختلفا فيه، فيكون القول قول من لزمه المال عندهم جميعا؛ لأن هذه العقود إذا عريت من التسمية: لم يجب بها شيء، وعقد النكاح إذا خلا من التسمية أوجب مهر المثل. فإن قال قائل: فهلا كان اختلافهما في المهر بعد صحة العقد، كاختلاف البيع والمشتري في الثمن بعد هلاك السلعة، وذلك لأنه لا يلحقه الفسخ بالاختلاف، كما لا يلحق الهالك. قيل له: البضع بمنزلة السلعة القائمة، لا المستهلكة، والدليل على ذلك: أن لها أن تمنع نفسها بالمهر، كما يمنع البيع السلعة لاستيفاء الثمن. وأيضا: فإن البضع بحيث يجوز أن يؤخذ عنه بدل في رده إلى ملكها في الخلع، فكان بمنزلة السلعة القائمة التي يجوز أخذ البدل عنها، فلذلك كان الأمر فيه على ما وصفنا. *وجعله أبو يوسف بمنزلة اختلاف البيع والمشتري في الثمن بعد هلاك السلعة، فكان القول قول المشتري في الثمن، كذلك النكاح. وقد روى هشام عن أبي يوسف أن المشتري لا يصدق أيضا بعد هلاك المبيع على شيء مستنكر من الثمن، كما قال في النكاح.

فصل: [اختلاف الزوجين في قدر المهر وقد طلقها قبل الدخول] قال: (وإن طلقها قبل الدخول، فالقول قول الزوج في نصف المهر في قولهم جميعا). وذلك لأن مهر المثل لا يثبت مع الطلاق قبل الدخول، فسقط اعتباره، وصارت المرأة مدعية للفضل، فالقول قول الزوج فيه كالخلع والعتق على مال. ولما لم يكن هناك مال واجب في الظاهر بالعقد، كان القول قول من لزمه المال، وكلف الآخر البينة على الفضل، إذ ليس هناك ظاهر يرجع إليه، فحصلا مدعيا ومدعية عليه. *قال: (والقول قول المرأة إلى متعة مثلها في هذا الحال، ولا يصدق عنها). لأنها في الظاهر مستحقة بهذا العقد بالطلاق قبل الدخول، كما تستحق مهر المثل قبل الطلاق. مسألة: [دخول الزوج بامرأته لا يكون إقرارا منها بقبض الصداق] قال: (ولا يكون دخول الزوج بامرأته إقرارا منها بقبض الصداق). وذلك لأن المهر قد ثبت في ذمة الزوج، ولا يبرأ منه، أو تقوم البينة على وقوع الاستيفاء والبراءة، والدليل على ذلك: أن قبض المشتري للسلعة لا يكون إقرارا من البيع بقبض الثمن.

مسألة: [ادعاء ورثة المرأة الصداق وقد مات الزوجان] قال: (وإذا مات الزوجان ثم ادعى ورثة المرأة الصداق، فإن أبا حنيفة لا يقضي بالمهر). قال أحمد: المسألة مبنية على أن الأمر قد تقادم، حتى لم يبق من نسائها من يعتبر به مهر مثلها، وكذلك كان يقول شيخنا أبو الحسن الكرخي رحمه الله. وإذا كان كذلك، واحتجنا إلى القضاء بمهر المثل، ولا سبيل إلى القضاء إلا من جهة نسائها، واعتبار مهورهن، فإذا لم يكن كذلك هناك منهن من يعتبر ذلك به: لم يمكن القضاء به، فلم يقض بشيء. فإن قال قائل: هلا حكت بعشرة دراهم، إذ هي متيقنة، لأن عقد النكاح لا يخلو من إيجاب عشرة وإن خلا من التسمية. قيل له: لا يجوز ذلك، وذلك لأن العشرة يختلف حكمها في ثبوتها من مهر المثل أو المسمى، ولا يجوز أن يحكم بها، أو يعلم من جهتها التي منها يثبت. وأما إذا كان أحد الزوجين باقيا، فقد علمنا أن الأمر لم يتقادم، وأنه قد بقي من النساء من يعتبر به مهرها. *وأما أبو يوسف ومحمد، فيوجبان لورثتها المهر وإن ماتا جميعا، وذلك لأنا قد تيقنا وجوب المهر، فيحكم لورثتها بالمقدار المتيقن. مسألة: قال: (ومن تزوج امرأة على أقل من عشرة دراهم: فلها عشرة دراهم).

وذلك لأن العشرة لا يتبعض ثبوتها في العقد، فتسميته لبعضها تسمية لجميعها، كسائر الأشياء التي لا تتبعض، مثل الطلاق، والعفو من دم العمد، ونحوهما، إذا وقع بعضه وقع جميعه. قال أحمد: وقال زفر: لها مهر المثل، وجعل تسمية ما دون العشرة، كلا تسمية؛ لأن مثله لا يكون مهرا، فصار كتسمية الخمر والخنزير. والانفصال لأبي حنيفة عن ذلك من وجهين: أحدهما: أن ما دون العشرة مما يصح أن يكون مهرا مع غيره، والخمر والخنزير لا يكونا مهرا للمسلمة بحال. والوجه الآخر: أن تسميته لبعضها تسمية لجميعها، ولا فرق بين تسمية الخمسة والعشرة، كما لا فرق بين إيقاع نصف تطليقه، وإيقاع تطليقة كاملة. مسألة: قال: (والذي بيده عقدة النكاح هو الزوج). قال أحمد: وروي عن علي وابن عباس وشريح ومجاهد في آخرين، أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج. وقال بعضهم: هو ولي البكر الذي يملك تزويجها، وهو قول مالك.

والحجة للقول الأول: قول الله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها}، وذلك يمنع جواز إبرائه لمالها. وأيضا: قال الله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}، فلا تجوز هبته لمهرها إلا برضاها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه". واتفق الجميع على أن هبة الولي غير جائزة، كسائر مالها، فكذلك المهر. وإذا صح ذلك، وجب أن يكون معنى الآية، وهو قوله تعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح}، محمولا على موافقة الأصول. ولأن أقل أحوال هذا اللفظ أن يكون متشابها، وحكم المتشابه أن

يرد إلى المحكم، ويحمل على معناه. قال الله تعالى: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات}، فجعل المحكم أما للمتشابه، كم حيث أوجب رده إليه، وحمله عليه، لأن أم الشيء ما منه ابتداؤه، وإليه مرجعه. وعلى أن في لفظ الآية ما يدل على أن المراد به الزوج؛ لأنه قال: {وإن تعفوا أقرب للتقوى}، والولي لا يستحق بعفوه عن مال الغير فضيلة ولا ثوابا. قال: {ولا تنسوا الفضل بينكم}، ولا يكون للولي متفضلا بهبة مالها. وأيضا: فإن الولي ليس بيده عقدة النكاح، ولا كانت بيده أيضا فيما سلف، وذلك لأن قول القائل: بيد فلان كذا، يقتضي أن يكون واقعا حاصلا في يده، وهذه صفة الزوج دون الولي. فإن قيل: فالزوج ليس بيده عقدة النكاح بعد الطلاق. قيل له: قد كان بيده، فيجوز أن يكون المراد: الذي كان بيده، ولو حملناه على الولي، لم يصح بحال؛ لأنه ليست العقدة في يده، ولا كانت

في يده قط، لأن عقدة النكاح بيد من ملك البضع، ويملك إبطاله، كما ملك عقده، والولي لا يملك شيئا من ذلك. وأيضا: قوله: {الذي بيده عقدة النكاح}: المراد به النكاح المتقدم، ودخول الألف واللام على النكاح يدل على أنه تعريف أراد به النكاح المتقدم، وهو الزوج، لا الولي. وأيضا: قد أجاز عفوها في حال إجازة عفو الذي بيده عقدة النكاح، وإذا أجازها عفوها، لم يجز عفو غيرها عليها، لأنها غير مولى عليها. فإن قيل: فما معنى عفو الزوج؟ قيل له: إن كان قد أعطاها المهر: فعفوه أن لا يأخذ منها، ويتركه لها، وإن لم يكن أعطاها: فعفوه إكمال الصداق لها، وقد سمى ذلك عفوا؛ لأن العفو هو الترك في مثل ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحفوا الشوارب، وأعفوا اللحى". وروي "أن جبير بن مطعم طلق امرأته ولم يمسها، وقد فرض لها صداقا، فأكمل لها الصداق، وقال: نحن أحق بالعفو"، فسمى إكمال الصداق لها عفوا. مسألة: قال: (وللمرأة أن تهب مهرها للزوج، دخل بها أو لم يدخل).

لقول الله تعالى: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا}. وكما جازت هبتها في سائر مالها، جازت في مهرها. مسألة: قال: (ولأبي البكر قبض صداقها، ويبرأ الزوج). قال أحمد: وهذا استحسان، وذلك لأنها لما كان من عادتها أنها تستحيي من المطالبة به، صار سكوتها فيه رضا بقبض الأب، كما كان سكوتها رضا بالنكاح؛ لأنها تستحيي أن تتكلم به. قال: (وكذلك الجد بمنزلة الأب، وليس سائر الأولياء كذلك). وذلك لأن سائر الأولياء لا يستحقون التصرف في المال بوجه، والأب والجد يستحقان التصرف في المال في حال الصغر، فبقيت ولا يتهما في التصرف بعد الكبر في قبض مهر البكر ما لم يتهما، لما وصفنا. مسألة: [ظهور العيب في العبد المهر] قال: (وإذا تزوجت المرأة على عبد، فوجدته معيبا، فإن كان عيبا فاحشا: ردته، وأخذت قيمته، وإن كان غير فاحش: لم ترده، ولم ترجع بشيء). وذلك لأن العيب إذا كان فاحشا، فقد علمنا أنه يستدرك بالرد حقا، وهو تمام قيمته صحيحا.

وإنما رجع بالقيمة بعد الرد؛ لأن العقد لم ينفسخ بالرد، بل هو قائم، فوجب تسليم العبد لما وصفنا، مثل العبد المغصوب، والمقبوض عن عقد فاسد، أن القبض الموجب لضمان القيمة لما كان قائما، لم يكن فوت العين مسقطا لضمان القيمة. وأما إذا كان عيبا غير فاحش: فإنها لا ترجع بشيء؛ لأن هذا القدر مما يدخل بين تقويم المقومين، فلا يعلم أنها تستدرك بالرد حقا، فكذلك لم يكن لها الرد إذا كانت العين أعدل من القيمة. *وإنما لم يكن لها أن تمسك العبد، وترجع بنقصان العيب إذا كان العيب فاحشا؛ لأن الأتباع لا تضمن بالعقود، وتضمن بالقبوض؛ لأنها لا يصح إقرارها بالعقد، وقد يصح إقرارها بالقبض. مسألة: [ظهور حرية العبد المهر] (ولو تزوجها على عبد بعينه، فوجدته حرا، ففي قول أبي حنيفة ومحمد: لها مهر مثلها). وذلك لأنه لا حظ للتسمية مع التعيين، والدليل على ذلك: أنه لو قال: تزوجتك على هذا الكلب، أو على هذا الحمار، وأشار إلى عبد بعينه: يصح العقد عليه، ولم تكن تسميته إياه بالكلب والحمار مانعة من صحة العقد عليه، وصار بمنزلة قوله: تزوجتك على هذا العبد. وقد قالوا جميعا: لو قال لها: تزوجتك على هذا الخمر، فإذا هو خل: أن العقد جائز على الخل، ولم يكن للتسمية حكم، فكذلك إذا كانت العين المشار إليها مما لا يصح دخوله تحت العقد بحال، لم تصح تسميته، ووجب لها مر المثل، كأن قال: تزوجتك على هذا الحر.

*وقال أبو يوسف: لها قيمته لو كان عبدا؛ لأنه لما لم يصح دخول العين تحت العقد، وكان عقد النكاح مما يصح على عبد بغير نفسه، صار كأنه قال: قد تزوجتك على عبد مثل ها الحر. مسألة: [لو استحق العبد المهر] قال: (ولو استحق، ولم يكن حرا: فلها القيمة في قولهم جميعا). من قبل أن ورود الاستحقاق لا يمنع دخوله تحت العقد، ألا ترى أن المالك لو أجازه: جاز، فلما صح العبد تسمية، ثم تعذر التسليم بالاستحقاق: وجبت القيمة، مثل موته في يد الزوج. قال أحمد: ولو تزوجها على هذا الدن الخل، فإذا هو خمر، وعلى هذه الشاة المذبوحة، فإذا هي ميتة: كان الجواب فيه كهو في الحر في قول أبي حنيفة. وفي قول أبي يوسف: لها مثل الدن خلا، ولها قيمة شاة مذبوحة. وأما محمد: فإنه فرق بين الخمر وبين الشاة والحر، فقال: إذا وجد الجن خمرا: فلها دن خل، وإذا وجد العبد حرا، أو الشاة ميتة: فلها مهر المثل. وأصله في ذلك: أن المشار إليه إذا كان من جنس المسمى، أسقط اعتبار التسمية، واعتبر العين، فإذا كانت العين مما لا يصح دخوله تحت العقد، أوجب مهر المثل، والحر من جنس العبد، وكذلك الميتة من جنس الذكية، وإنما اختلاف الحر والعبد والذكية من طريق

الحكم، لا لاختلافهما في أنفسهما، وإذا كان كذلك اعتبر العين، وألغيت التسمية، كأنه قال: تزوجتك على هذا الحر، وهذه الميتة. وأما إذا كان المشار إليه من غير جنس المسمى: فإنه يلغي العين، إذ لم يصح دخولها تحت العقد، ويعتبر التسمية، مثل الخمر والخل، لأن الخمر من غير جنس الخل، فعلق الحكم المسمى، وأغلى حكم العين، وصار أنه قال: تزوجتك على هذا الدن خلا. مسألة: [جواز كون المهر وصيفا] قال: (وإذا تزوج المرأة على وصيف: فهو جائز، ولها الوسط من ذلك). قال أحمد: الأصل في ذلك أن عقد النكاح جائز على مهر المثل، فهي تسمية صحيحة، وما كان جهالته أكثر من جهالة مهر المثل، فمهر المثل أولى منه؛ لأن الذي أجيز من الجهالة فيه، وإنما هو مقدار جهالة مهر المثل، فما كان فوق ذلك من الجهالة فهي منتفية. وهذا الضرب من الجهالة جائز في كل عقد لا يمنع فساد البدل من وقوعه، نحو العتق، والطلاق، ودم العمد، لأن هذه الأشياء ليست بمال، ولا حقا في مال، وفساد البدل لا يمنع صحة وقوعه، فجاز من أجل ذلك هذا الضرب من الجهالة فيه. وقد يمكن أن يرد ذلك إلى أصل قد ثبتت صحته، وهو النكاح، لما كان فساد البدل فيه غير قادح في صحته، جاز على مهر المثل، فقسنا عليه كل ما كان في معناه.

وإن شئت جعلت وجوب دية الخطأ، وهو مجهولة أيضا للصلح من دم العمد، والخلع، والنكاح، والعتق، وجمعت بينهما بالعلة التي ذكرنا، وهي أن فساد البدل لا يمنع صحة وقوعه؛ لأنه لو صالحه من دم العمد على خمر أو خنزير، لصح العفو، وكذلك العتق والطلاق والنكاح. فإذا صح هذا الأصل، قلنا: إن عقد النكاح جائز على وصيف؛ لأنه أقل جهالة من مهر المثل، لأن الواجب لها الوسط من ذلك، والوسط منه أقل جهالة من مهر المثل؛ لأن تقويم الأموال جهالة أيسر من تقويم الأبضاع. والأصل في إيجاب الوسط منه: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما امرأة نكحت بغير أذن مواليها، فنكاحها باطل، فإن دخل بها، فلها مهر مثل نسائها، لا وكس ولا شطط". "وقضى عليه الصلاة والسلام لبروع بنت واشق، وقد مات زوجها قبل أن يفرض لها، أن لا مهر مثل نسائها، لا وكس ولا شطط". فأوجب الوسط من ذلك، فلذلك قلنا في الوصيف إذا أطلق، أن لها الوسط منه. *قال: (وقيمة الوصيف الأبيض خمسون دينارا في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمد، على قدر الغلاء والرخص). قال أحمد: ليس هذا الذي ذكره اختلافا بينهم، قولهم جميعا في ذلك واحد، ولكن أبا حنيفة أجاب بما كانت عليه قيمة الوصيف في وقته،

ولم يقل لا يجوز غيرها إن زادت القيمة أو نقصت، وأجاب أبو يوسف ومحمد عن الواجب منه في سائر الأوقات. مسألة: [زواج المسلم امرأة على خمر أو خنزير] قال: (ومن تزوج وهو مسلم امرأة على خمر أو خنزير، فالنكاح جائز، ولها مهر المثل). وإنما جاز النكاح؛ لأن عدم البدل لا يقدح في عقد النكاح، ففساده أحرى أن لا يقدح فيه. وأيضا: النكاح لا تفسده الشروط الفاسدة، لأن كل عقد يصح على بدل مجهول: لا يفسده الشرط؛ لأن الشرط الفاسد ليس بأكثر غررا من جهالة البدل. ووجب مهر المثل؛ لأن عقد المسلم لا يصح على الخمر بحال، فلم تثبت تسمية، إذ لم بدخل تحت العقد، ألا ترى أنه لا يجوز أن تلحقه إجازة. مسألة: [لو تزوج امرأتين على مهر معين] (ومن تزوج امرأتين على ألف درهم: قسم على مهر مثلهما). وذلك لأنه جعل الألف بدلا من بضعيهما، فوجب أن يقسم على قيمتهما، وهو مهر المثل، كما لو اشترى عبدين بألف درهم: قسم الثمن على قيمتهما. مسألة: [إذا اختلف مهر السر والعلانية: أخذ بمهر السر] قال: (ومن تزوج امرأة على صداق في السر، وأسمع في العلانية أكثر منه، وانفقا على ذلك: فالمهر مهر السر، وما أظهراه في العلانية فهو

كذب ليس بتسمية، فإن اختلفا: أخذ بالعلانية). لأنا لا نعلم ما كان في السر. مسألة: [لو تصرفت المرأة في المهر باستغلال ونحوه] قال: (وإذا أغل العبد المهر عند المرأة، ثم طلقها قبل الدخول: فله نصف العبد، والغلة كلها للمرأة). لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قضى فيمن اشترى عبدا، فأغل عبده، ثم وجد به عيبا أنه يرده، وتكون الغلة له الضمان". [مسألة:] قال: (ولو نقص العبد عندها قبل الطلاق، ثم طلقها: فهو بالخيار، إن شاء أخذ نصفه ناقصا، ولا شيء له غيره، وإن شاء ضمنها نصف قيمته يوم القبض). وذلك لأنها قد لزمها رد نصفه إليه صحيحا كما قبضت، كما يلزم الزوج تسليمه إليها كما اقتضاه العقد من الصحة، فإذا نقص: فللزوج أن

يعدل إلى القيمة، ليستوفي القيمة التي استحق ردها إليه، وليس له أن يضمنها النقصان ويأخذ نصف العبد، من قبل أن النقصان حدث ولا حق فيه لأحد، فلم يكن مضمونا. [مسألة:] قال: (ولو أحدثت في الدار المهر بناء، ثم طلقها قبل الدخول: لم يكن له سبيل على الدار). وذلك لأنها بنت ولا حق لأحد فيها، فليس للزوج أن ينقضه، ولا يمكنه أخذ نصف الدار دون البناء؛ لأن فيه إيجاب نقض البناء، وقد بينا أنه لا سبيل له إلى نقضه، ولا يمكنه أخذها مع البناء؛ لأنه ملكها، فلما تعذر الرد من جميع الوجوه: ضمنت القيمة. وأيضا: فالبناء مع الأصل بمنزلة الولد. *ولو كان المهر جارية، فولدت في يدها، ثم طلقها قبل الدخول: كان له نصف قيمتها لا غير، وكان حدوث الولد مانعا من فسخ العقد في الأصل، كذلك البناء. مسألة: [زيادة الأمة الجارية المهر] قال: (وإذا زادت الجارية في بدنها في يد المرأة، ثم طلقها قبل الدخول: فلا سبيل على الجارية، ويأخذ نصف قيمتها يوم قبضت، في قول أبي حنيفة وأبي يوسف). وذلك لأن هذه الزيادة حادثة في ضمان المرأة، في حال لم يكن لأحد فيها حق، فصارت كالولد، ومنعت الرجوع في الأصل. ولم يفرق أبو حنيفة بين الزيادة المتصلة والمنفصلة؛ إذ كل واحدة

منهما حادثة في ضمان المرأة وملكها، من غير حق لأحد فيها. وأما محمد فإنه فرق بين الزيادة المتصلة والمنفصلة، فقال في الزيادة المنفصلة: إنها تمنع الرجوع في الأصل، كما قال أبو حنيفة. وقال في الزيادة المتصلة: إنها لا تمنعه؛ لأن المتصلة تابعة للأصل، لا حكم لها في نفسها، والمنفصلة منفرة بحكمها بعد مباينتها للأصل، ألا ترى أنها لو زادت في بدنها عند الزوج، ثم قبضها، ثم ارتفعت الزيادة، ثم طلق قبل الدخول: أنه يأخذ نصفها لا غير، ولو كانت ولدت في يده، ثم قبضها، فهلك الولد، ثم طلقها: أنه يضمنها نصف قيمة الولد، فاختلف حكم الزيادة المتصلة والمنفصلة. والولد الحادث في يدها يقطع حق الزوج في أخذها بالطلاق قبل الدخول، من قبل أن الولد غير داخل في العقد، وهو مع ذلك موجب بالعقد، على ما بينا في الرد بالعيب في أبواب البيوع. مسألة: [طلاق المرأة قبل الدخول وقد سلمها العبد المهر] قال: (ومن تزوج امرأة على عبد، وسلمه إليها، فقبضته منه، ثم طلقها قبل الدخول: فإن نصف العبد في يدها على حكم ملك فاسد، حتى تسلمه إلى الزوج، أو يقضي به القاضي له). وذلك لأن العقد الموجب كان للملك بدءا، وقد ارتفع بالطلاق، فوجب فسخ الملك في المهر، ولم ينفسخ ملكها بنفس الطلاق، من قبل أن التسليط الذي به صح لها الملك قائم مع القبض، والتسليط عن العقد متى اتصل به القبض: أوجب الملك مع فساد العقد، كالمقبوض عن بيع

فاسد، لما اتصل القبض بتسليط عن عقد، وقع به الملك مع فساد العقد، وكذلك ما وصفنا، لما كان التسليط الواقع عن العقد بدءا مع القبض، فإنما وجب أن يكون الملك باقيا حتى ينفسخ. مسألة: [للمرأة منع نفسها حتى تستوفي مهرها العاجل] قال: (ومن تزوج امرأة على صداق عاجل: فلها أن تمنعه نفسها حتى يوفيها جميع الصداق). كما للبيع منع المبيع حتى يستوفي الثمن، إذ كان المهر بدل البضع، كالثمن بدل المبيع. * (وإن دخل بها برضاها: فلها أن تمنعه نفسها أيضا حتى يوفيها المهر في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: إن دخل بها برضاها: فليس لها أن تمنعه نفسها بعد ذلك). وجه قول أبي حنيفة: أن المهر بدل عن كل وطء يقع في النكاح، ولا يجوز أن يقال إنه بدل عن بعض ما يقع من الوطء فيه دون بعض؛ لأنه لو كان كذلك، لكان مستبيحا للوطء الثاني بغير بدل، وهذا فاسد، فلما كان المهر بدلا عن الوطء الثاني، كهو الوطء الأول، وكان لها أن تمنعه الوطء الأول بالمهر، كذلك الثاني. وليس كالمبيع إذا رضي البيع بتسليمه إلى المشتري قبل قبض الثمن، فلا يكون له بعد ذلك حبسه، ولا أخذه من يد المشتري، من قبل أن المبيع ليس له إلا تسليم واحد، والنكاح تستحق به عن كل وطء يقع فيه. ويفارق الإجارة أيضا، من قبل أنه لا يستحق الأجر إلا بعد التسليم واستيفاء جميع المنافع.

ويدل على صحة ما ذكرنا أن المهر بدل عن كل وطء يقع في النكاح: أنه لو دخل بها وهي مكرهة، كان لها أن تمنعه وطأ آخر حتى تستوفي المهر، فدل على أن المهر بدل عن الوطء الثاني كهو عن الأول. مسألة: قال: (وتجوز الزيادة في المهر إذا تراضيا بها). لقول الله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة}، وظاهر هذا اللفظ يقتضي جواز الزيادة والنقصان. وأيضا: فإنهما يملكان العقد، فجاز أن يزيدا فيه، كما جاز أن يتساهلا فيه بدءا في حال وقوعه إذ كانا مالكين للعقد. والدليل على أنهما مالكان للعقد قبل وقوعه: أنه جائز للزوج أن يعاوضها على البضع، فيأخذ منها بدله بالخلع. مسألة: [بطلان الزيادة على المهر بالطلاق قبل الدخول] قال: (فإن طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة). وذلك لأنها تلحقه بالعقد، والعقد قد بطل، فبطل ما ألحق به. ولأن هذه الزيادة لم تكن مسماة بالعقد، وكل ما لم يكن مسمى في العقد، فإن ورود الطلاق قبل الدخول يبطله. والدليل على ذلك: أنه لو تزوجها على غير مهر: وجب لها مهر المثل، ويسقطه الطلاق قبل الدخول إذا لم يكن مسمى في العقد.

مسألة: [بطلان الزيادة في المهر إن كان مما يثبت في الذمة] قال: (ومن تزوج امرأة على دنانير أو دراهم بأعيانها: كان له أن يعطيها غيرها، وكذلك الفلوس النافقة، فأما ما سوى ذلك إذا عقد عليه بعينه: فليس له أن يعطيها غيره). وذلك لأن هذه الأصناف الثلاثة لما كانت أثمان الأشياء، وصح العقد عليها في البيوع على الإطلاق من غير ذكر صفة، دل على أن العقد يقتضي ثبوتها في الذمة، وتعيينها يمنع ثبوتها في الذمة، وقد بينا أن ثبوتها في الذمة من موجب العقد، فلا ينتفي موجبه مع وجوده، فلذلك ثبتت في الذمة مع التعيين، وإذا ثبتت في الذمة امتنع وقوع الملك في العين بالعقد؛ لأنه لا يجوز أن يستحق ملك العين، وما في الذمة. وأما ما سوى هذه الأصناف التي ذكرنا، فإنه لا يصح فيه عقود البياعات وإثباته في الذمة إلا مضبوطا بصفة، فعمل التعيين في استحقاق عينه، إذ ليس يقتضي العقد ثبوته في الذمة. فإن قال قائل: إنما جاز عقد البيع على دراهم في الذمة على الإطلاق، لجريان العادة فيها بنقد معلوم، فصار جريان العادة فيه بمنزلة اللفظ، وما سواها لم يجر من الناس به عادة في شيء موصوف معلوم، فعمل بإطلاق اللفظ عليه. قيل له: فلهذه العلة بعينها اختلف حكمها، وحكم غيرها من سائر العروض، إذ جاز أن تكون من الناس عادة تقتضي إثبات الدراهم والدنانير والفلوس في الذمة على الإطلاق، ولم يجر منهم عادة في

غيرها، وقد بينا هذه المسألة في غير هذا الموضع. مسألة: [طلاق المرأة قبل الدخول وقد وهبته مهرها] قال: (وإذا وهبت المرأة المهر للزوج قبل القبض، ثم طلقها قبل الدخول: فلا شيء له عليها). لأن الذي كان يستحقه الزوج بالطلاق قد رجع إليه بعقد لا يوجب ضمانا عليه، وهو عقد الهبة؛ لأن عقد الهبة لا يوجب ضمانا على الواهب. ولو قبضته، ثم وهبته له، ثم طلق فبل الدخول: فإن كان مما لم يكن يستحق الزوج عينه بالطلاق: فعليها فيه ضمان نصف المهر، وما كان يستحقه الزوج بعينه: فلا ضمان عليها فيه. فالدراهم والدنانير والمكيل والموزون إذا عقد عليها في الذمة، ثم سلمها إليها، ثم طلق قبل الدخول: فإن الزوج لا يستحق عينها، وإنما يستحق الزوج عليها نصفها في الذمة، كما استحقتها هي على الزوج بالعقد في الذمة، فلا تسقط عنها الهبة ضمان ما يستحقه الزوج في ذمتها. وأما الثياب والعبيد ونحوها، فإن الزوج كان يستحق نصفها بعينه في الطلاق قبل الدخول، وقد رجعت إليه بعقد لا يوجب ضمانا عليها، فلذلك لم تضمنها. مسألة: [من تزوج امرأة على مهر تقدره هي أو هو] قال: (وإذا تزوج المرأة على حكمه أو على حكمها: فهو بمنزلة من لم يسم مهرا). وذلك لأن جهالته أكثر من جهالة مهر المثل، وكان مهر المثل أعدل منه.

مسألة: [لا نفقة على الزوج للصغيرة] قال: (ولا نفقة على الزوج للصغيرة التي لا يدخل بمثلها). لأن النفقة إنما تستحق بتسليمها نفسها في بيت زوجها، بدلالة أن الناشز لا نفقة لها، لعدم التسليم، والصغيرة لا يصح منها التسليم. مسألة: [وجوب النفقة على الزوج الصغير للمرأة الكبيرة] (ولو كان الزوج صغيرا والمرأة كبيرة: فلها النفقة إذا انتقلت إلى بيته). لأن التسليم في بيت الزوج قد صح من جهتها، والله أعلم.

باب الوليمة وعشرة النساء

باب الوليمة وعشرة النساء مسألة: [حكم إجابة الدعوة إلى وليمة العرس] قال أبو جعفر: (ولا ينبغي التخلف عن إجابة الدعوة إلى وليمة العرس). وذلك لما روى مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها". وروى مالك عن ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: "شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها الأغنياء، ويترك المساكين، ومن لم يأت الدعوة فقد عصى الله ورسوله". وروى أبان بن طارق عن نافع قال: قال ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعي فلم يجب، فقد عصى الله ورسوله".

[مسألة: عدم لزوم الأكل في الوليمة:] قال أبو جعفر: (ومن أجاب إليها، فقد فعل ما عليه، أكل أو لم يأكل). لما روى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها، فإن كان مفطرا فليطعم، وإن كان صائما فليدع". مسألة: [حكم حضور الدعوة التي فيها لهو] قال: (وإن أجاب إليها فرأى هناك لهوا: لم يكن عليه أن ينصرف عنها لذلك). وذلك أن إجابة الدعوة سنة، فلا ينبغي أن يتركها لباطل هؤلاء. وقد روي أن الحسن وابن سيرين كانا في جنازة، وهناك نوح، فانصرف ابن سيرين، فقيل ذلك للحسن، فقال: إن كنا متى رأينا باطلا، تركنا حقا، أسرع ذلك في دينا".

مسألة: [نثار العروس] (ولا بأس بنثار العروس، وليس بنهبة، إنما النهبة ما انتهبه بغير طيب أنفس أهله). وذلك لما روى حماد بن زيد عن أيوب عن الحسن عن أبي هريرة قال: "شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دعي إلى وليمة رجل من الأنصار، فأجاب، وكان خاطبهم، فلما فرغ من خطبته قال: دففوا على رأس صاحبكم، فضرب بالدف على رأسه، ثم أتوا بنهب، فأنهب عليه، ونظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يزحم الناس، ويحثو ذلك النهب. فقلت: يا رسول الله! أو ما نهيتنا عن النهبة؟ قال: نهيتكم عن نهبة العساكر". وروى ثور عن يزيد عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل نحو هذه القصة: ونثر على الرجل فاكهة وسكر، وكف الناس أيديهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لكم لا تنتهبون؟

قالوا: يا رسول الله! ألم تنهنا عن النهبة؟ فقال: إنما نهيتكم عن نهبة العساكر، وأما العرسات فلا". مسألة: [العدل بين الزوجات في القسم] قال: (وإذا كان للرجل زوجتان حرتان: فعليه أن يعدل بينهما في القسم). لقول الله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم}، يعني في محبة القلب، ثم قال: {فلا تميلوا كل الميل}، يعني بأن تظهروا ذلك بالفعل. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعدل بين نسائه في القسم، ثم يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني يما تملك ولا

أملك"، يعني ميل القلب. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى، جاء يوم القيامة وشقه مائل". مسألة: [قسم الأمة مع الحرة] قال: (وإن كانت إحداهما أمة: فلها مثل نصف قسم الحرة). وذلك لما روى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تنكح الحرة على الأمة، وللحرة الثلثان من القسم، وللأمة الثلث".

وروي نحوه عن علي كرم الله وجهه. وأيضا: فإن القسم حق مقدر من حقوق النكاح، فللأمة منه نصف ما للحرة، كما أن عدتها على النصف من عدة الحرة. مسألة: [قسم المرأة الواحدة] قال أبو جعفر: (وإن كانت له زوجة واحدة، فطالبته بالقسم: فلها يوم وليلة، ثم ينصرف في أمر نفسه ثلاثة أيام وثلاث ليال). وذلك لما روي "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر كعب بن سور أن يقضي في ذلك، فقضى بأن لها يوما من أربعة أيام، قسم واحد من أربع، فاستحسن عمر قضاءه، وولاه قضاء البصرة". *قال أبو جعفر: (وإن كانت زوجته أمة، لا زوجة له غيرها: فلها يوم من سبعة أيام). لأن له أن يتزوج ثلاث حرائر، لكل واحدة يومان، فذلك ستة، ولها يوم واحد. [مسألة:] (والكافرة والمسلمة في القسم سواء)؛ لأنهما لا يختلفان في حقوق النكاح.

مسألة: [إباحة زوجة قسمها لغيرها] قال: (ومن أباحته منهن قسمها، وجعله لسائر أزواجه سواها أو لبعضهن: كان ذلك على ما جعلت عليه). وذلك لقول الله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا}، فإنها نزلت في مثل ذلك. "وسألت سودة بنت زمعة النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان طلقها أن يراجعها، ويجعل يومها لعائشة رضي الله عنها، ففعل ذلك". مسألة: [البكر والثيب والجديدة والعتيقة في القسم سواء] قال: (ومن نزوج بكرا أو ثيبا، فإنه إن أقام عندها وقتا: أقام عند غيرها مثل ذلك، لا يفضلها في ذلك على واحدة منهن). وذلك لقول الله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل}.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى، جاء يوم القيامة وشقه مائل". فلم تفرق الآية، ولا السنة بين المحدثة والقديمة. وأيضا: "قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة حين بنى عليها: ليس بك على أهلك هوان، إن شئت سبعت لك، وسبعت لهن، وإن شئت ثلثت، ودرت". فأخبر أنه إذا سبع لها: سبع لهن، ولو كانت مستحقة لشيء من القسم دونهن لاستثنى لها مقدار ما تستحقه، وأوجب الزيادة للباقيات منهن. ولو كانت مستحقة إذا كانت ثيبا أن يخصها بثلاث، ثم سبع لها، لا تسقط منها الثلاث التي تستحقها، وبقي لكل واحدة أربع، فلما سوى بينها وبينهن في السبع، دل على أنهن في الثلاث سواء أيضا، وأنها ليست تخص بقسم دون الباقيات. فإن قيل: قوله: "وإن شئت ثلثت لك، ودرت": يدل على أنها مستحقة الثلاث. قيل له: هي مستحقة الثلاث على شرط أن يقسم للباقية ثلاثا أيضا، كما قال في السبع.

مسألة: قال: (وله أن يسافر ببعض نسائه دون بعض). قال أحمد: وذلك لأنه ليس لهن حق القسم في السفر، ألا ترى أنه له أن يسافر دونهن. وأيضا: "روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها: أخرجها". *قال: (والأحسن أن يقرع بينهن). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان يقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها أخرجها". وأيضا: فإذا أخرجها بغير قرعة، كان فيه إظهار الميل إلى بعضهن دون بعض، وهو منهي عنه. مسألة: [حكم العزل] قال: (وليس للرجل أن يعزل عن زوجته الحرة إلا بإذنها، وإن كانت أمة: فالإذن في العزل إلى المولى). وذلك لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن سهل بن أيوب قال: حدثنا حميد بن عثمان قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثنا ابن لهيعة عن جعفر بن ربيعة عن الزهري عن المحرر بن أبي هريرة عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل

عن الحرة إلا بإذنها". وأيضا: قال الله تعالى: {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم}، قيل في التفسير: يعني من الولد. وأيضا: فإن الولد يكون لها إذا كانت حرة، فليس له أن يمنعها حقها من الولد. *وأما الزوجة الأمة، فالإذن في العزل إلى مولاها؛ لأنه هو المستحق للولد دونها. *قال: (وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف: أن الإذن في العزل عن الزوجة الأمة إليها دون مولاها كالحرة، وإذا كانت أمته بملك اليمين: فله أن يعزل عنها). وذلك لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل قال: حدثنا علي بن الجعد قال: حدثنا زهير عن أبي الزبير عن جابر قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية وهي خادمتنا، وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحبل. فقال: اعزل عنها إن شئت، فسيأتيها ما قدر لها، فلبث الرجل، ثم

أتاه، فقال: قد حبلت، فقال: قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها". مسألة: [حكم من تزوج حرة وأمة في عقدة واحدة] قال: (ومن تزوج حرة وأمة في عقدة واحدة، جاز نكاح الحرة، وبطل نكاح الأمة). قال أحمد: وذلك أنه إذا جمعهما في عقدة واحدة، صارت كل واحدة منهما منكوحة على الأخرى. فقلنا على هذا في مسألتنا: إن الأمة منكوحة على الحرة، فلا يصح نكاحها؛ لأن من كان تحته حرة: لم يجز أن يتزوج عليها أمة، والحرة أيضا منكوحة على الأمة، ويجوز نكاحها؛ لأن من كان تحته أمة جاز أن يتزوج عليها حرة. مسألة: [حكم الزواج من أمة في عدة حرة منه] قال أبو جعفر: (ومن تزوج أمة في عدة حرة منه من طلاق بائن: لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة، وجاز ذلك في قول أبي يوسف ومحمد). وجه قول أبي حنيفة: أن العدة تمنع من الجمع ما يمنعه نفس النكاح، والدليل على ذلك: أن حال العدة بمنزلة حال النكاح في منع نكاح أختها؛ لأن تحريمها من طريق الجمع، كذلك في نكاح الأمة؛ لأن نكاحها محرم مع الحرة من طريق الجمع.

فإن قيل: إنما يمنع من نكاح الأمة على الحرة؛ لأنه أدخل عليها في القسم من لا يساويها فيه، وهذا المعنى غير موجود بعد البينونة. قيل له: فهو لو تزوجهما معا لم يجز نكاح الأمة وإن لم يكن هناك للحرة قسم، فدل ذلك على أن تحريم جمع الأمة إلى الحرة غير مقصور على ما ذكرت في المعنى، وأنه قد يجوز تحريم جمعها إليها بمعنى سواه. *وذهب أبو يوسف ومحمد إلى منع تزويج الأمة على الحرة، لأجل إدخال الضرر عليها في القسم بمن لا يساويها فيه، وذلك غير موجود بعد بينونة الحرة. مسألة: قال أحمد: وإنما جاز تزويج الأمة، مع وجود الطول إلى الحرة لقول الله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}، إلى قوله: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم}، وهذه الآية تنتظم الدلالة على صحة قولنا من وجهين: أحدهما: عموم قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}. والثاني: قوله: {أو ما ملكت أيمانكم}، فاقتضى اللفظ التخيير بين تزويج الأمة والحرة؛ لأن ابتداء الخطاب وارد في جواز عقد النكاح، وهو

قوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}، وهو مضمر في قوله: {أو ما ملكت أيمانكم}، فكأنه فال: فاعقدوا عقد النكاح إن شئتم على حرة أو أمة؛ لأن قوله: {أو ملكت أيمانكم}: لا يقوم بنفسه في إيجاب الحكم، إذ لا يصح ابتداء الخطاب به، فلا محالة هو مضمر فيما تقدم ذكره من عقد النكاح. فإن قيل: ما ذكرت يحتمل أن يكون المراد التخيير بين تزويج الحرة، أو وطء ملك اليمين. قيل له: ليس في الآية ذكر الوطء، وإنما فيها ذكر العقد، فلا يجوز إضمار ما ليس بمذكور فيها، لأن كل مضمر فلا بد له من مظهر قد تقدم ذكره. فإن قيل: لما كان معلوما امتناع جواز عقده على ملك يمينه لنفسه، لاستحالة استباحة الوطء بملك يمينه والنكاح معا، علمنا أن الوطء مضمر في الآية. قيل له: لما أضاف ملك اليمين إلى الجماعة، كان المراد: أن يتزوج ملك يمين غيره، كما قال تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات}، والمراد أن ينكح بعضنا ملك يمين البعض. ودليل آخر: وهو قوله: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا

بأموالكم}، ولم يفرق بين الأمة والحرة، ولا بين حال الطول وغيرها. ودليل آخر: وهو قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم}، فضمنت الآية الندب إلى نكاح الأمة المؤمنة مع وجود الطول إلى الحرة المشركة؛ لأنه لا يصح أن يقال: وتزويج أمة مؤمنة خير من تزويج مشركة حرة، وهو غير قادر على تزويج المشركة. فلما كان ذلك كذلك، أفادت التخيير بين الأمة المؤمنة والحرة المشركة، ومعلوم أن واجد الطول إلى الحرة المشركة، فهو واجد إلى الحرة المسلمة؛ لأن وجود الطول إنما هو وجود المهر الذي يتزوج عليه، والمشركة والمسلمة لا يختلفان في مقادير المهر، فدلت الآية على جواز نكاح الأمة مع وجود الطول إلى الحرة. فإن قال قائل: قال الله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات}، فأباح نكاح الأمة عند عدم الطول إلى الحرة، فدل على حظر نكاحها إلى وجود الطول إلى الحرة. قيل له: ليس في الآية حظر شيء، وإنما فيها إباحة معقودة بالشرط المذكور، ولم يحظر بها ما عدا المذكور؛ لأن المخصوص بالذكر لا يدل

على أن ما عداه فحكمه بخلافه، فكيف تخص به الإباحة العامة التي في سائر الآية التي ذكرنا؟ وأيضا: قال: {أن ينكح المحصنات المؤمنات}، ولو وجد الطول إلى المشركة الحرة، لما جاز له عند خصمنا تزويج أمة مسلمة، ولم يكن تخصيصه المحصنات المؤمنات بالذكر دليلا على مخالفة حكم ما عداهن. وأيضا: لو كان هذا الشرط موجبا لحظر ما عداه، لم تدل الآية على موضع الخلاف بيننا، من قبل أنا نحمل لفظها على الحقيقة وهو الوطء، فكأنه قال: ومن لم يصل إلى وطء حرة، لأنها ليست زوجته، فليتزوج الإماء، وكذلك نقول: إذا كانت تحته حرة: لم يجز له أن يتزوج عليها أمة. فإن قيل: لم نمنع الإطعام مع إمكان الصيام، لقوله: {فمن لم يستطيع} فحسب، وإنما منعناه لأنه أوجب بدءا الصيام، وظاهر ذلك يمنع العدول عنه إلا على الشرط المذكور فيه، وليس معناه منع العقد على الأمة مع وجود الطول إلى الحرة. *ومن جهة النظر: لما اتفق الجميع على جواز نكاح الأمر عند عدم الطول إلى الحرة، وكان المعنى هو أنه غير مالك لفراش حرة، وهو

موجود في حال وجود الطول إلى الحرة: وجب أن يجوز تزويجها. مسألة: [تزوج الأمة الكتابية] قال أحمد: ولا يختلف عندنا حكم الأمة الكتابية والمسلمة، وذلك لقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}، وهو عموم في جواز نكاح الجميع. وقال تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم}، ولم يفرق بين الكتابية والمسلمة. وقال تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم}، وعمومه يقتضي جواز الجميع. وأيضا: قال الله تعالى: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}، والأمة تسمى محصنة إذا كانت عفيفة، ومتى حصلت لها صفة من صفات الإحصان: استحقت اسم إطلاق الإحصان عليها، فجاز العقد عليها بعموم الآية. ألا ترى أن قوله: {والمحصنات من المؤمنات}، قد تناول الحرائر والإماء، كذلك قوله: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}: يتناول الصنفين.

فإن قيل: قال الله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}، وهو عموم في حظر الجميع، ثم قال: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}، والمراد به الحرائر؛ لأن اسم الإحصان يتناول الحرة. قيل له: وقوع اسم الإحصان على الحرة، لا ينفي أن يكون غيرها إحصانا. قال الله تعالى في شأن الإماء: {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}، فسماها محصنة مع الرق، فإذا كان كذلك، دخلت في حكم الآية متى تناولها اسم الإحصان بحال. وأيضا: قوله: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}: لا يتناول إطلاقه الكتابيات؛ لأن المشرك اسم واقع في الشرع على عبدة الأوثان، ولا يتناول أهل الكتاب، قال الله تعالى: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم}. وقال: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين}، ففرق بين الفريقين في اللفظ، فدل على أن كل واحد من اللفظين يختص عند

الإطلاق بضرب دون غيره، وإن كان الجميع مشركين في الحقيقة وكفارا، كما اختص المنافقون باسم النفاق وإن كانوا مشركين، ولا يتناولهم مع ذلك إطلاق لفظ المشركين. فإن قيل: قال الله تعالى: {من فتياتكم المؤمنات}، فدل على أن جواز النكاح منهن مقصور عليهن. قيل له: قد بينا أن تخصيصه المؤمنات غير دال على حظر غيرهن في المسألة التي قبلها، بتخيير نكاح المؤمنات منهن بهذه الآية، وتخيير نكاح الكتابيات بالآيات الأخر. *ومن جهة النظر: اتفاق الجميع على جواز وطء الأمة الكتابية بملك اليمين، كما جاز وطء الأمة المسلمة، فدل على أن دينها لا يحظر نكاحها؛ لأن حظر النكاح إذا كان من طريق الدين: منع الوطء، كما يمنع النكاح، ألا ترى أن الأمة المجوسية والوثنية لما لم يجز عقد النكاح عليهما، لم يجز وطؤهما بملك اليمين، فدل وطؤهما بملك اليمين على جواز عقد النكاح عليهما، كالأمة المسلمة. فإن قيل: قد يجوز له الوطء بملك اليمين من غير عدد، ولا يجوز عقد النكاح إلا على أربع. قيل له: إنما يختلفان في باب العدد فحسب، فأما في سائر الأحكام فلا.

مسألة الخلع

ولذا قال علي وعمار بن ياسر رضي الله عنهما: "ما حرم الله من الحرائر شيئا إلا حرم من الإماء مثله، إلا رجل يجمعهن". ومن منع نكاح الأمة الكتابية فإنما منعه من جهة دينها، وقد بينا أن دينها من حيث لم يمنع الوطء، وجب أن لا يمنع النكاح كالمسلمة سواء. مسألة: [الخلع] قال أبو جعفر: (ومن وقع بينه وبين زوجته شقاق: فله أن يطلقها على جعل يأخذه منها، بعد أن لا يتجاوز به ما أعطاها، وإن كان النشوز من قبله: لم ينبغ له أن يأخذ منها شيئا، وجاز في القضاء إن فعل ذلك. وكذلك إن كان النشوز من قبلها، فأعطته أكثر مما أخذت: كره ذلك، وجاز في القضاء). قال أحمد: الأصل في ذلك: قول الله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به}. فاقتضى ظاهر الآية جواز خلعها عند الخوف أن لا يقيما حدود الله على الكثير والقليل، إلا أن الدلالة قد قامت على أن النشوز إذا كان من قبله: كره له أخذ شيء منها، وهو قول الله تعالى: {وإن أردتم استبدال

زوج مكان زوج وأتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا}. فمنع أخذ شيء منها إذا كان النشوز من قبله، وهو أن يريد استبدال زوج مكانها. ويدل عليه: قوله تعالى: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن}، فدل ذلك على أن قوله: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به}: المراد منه: حال كون النشوز من قبلها. ثم يكره له مع ذلك أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، لما روى سعيد بن أبي عروة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس "أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما أعبت على ثابت بن قيس في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضا. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته، ولا يزداده". وروى ابن جبير عن عطاء عن ابن عباس "أن رجلا وامرأة اختصما

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم وأزيده، قال: أما الزيادة فلا". فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الزيادة مع كون النشوز من قبلها، فعلمنا أن مراد الآية في قوله: {فيما افتدت به}: ما بينه وبين ما أعطاها من المهر. *وإنما جازت الزيادة في القضاء، وجاز جعلها وإن كان النشوز من قبله في الخلع، من قبل أن النهي عن أخذ الجعل في كونه ناشزا، وعن أخذه الزيادة إذا كانت هي الناشزة، لم يتناول معنى في نفس العقد، وإنما يتناول معنى في غيره، فلا يمنع صحة وقوعه. ألا ترى أنه لو كان تزوجها بدءا على هذا القدر: جاز له أن يأخذ منها، فعلمنا أن النهي إنما تناوله؛ لأنه لم يعطها ذلك، لا لمعنى في نفس العقد، فصار كالبيع عند أذان الجمعة، وكتلقي الجلب، وبيع الحاضر للبادي. مسألة: [ليس للحكمين في الشقاق التفريق إلا بالتفويض] قال: (وليس للحكمين في الشقاق أن يفرقا إلا أن يجعل ذلك إليهما الزوجان). قال أحمد: وروي عن علي رضي الله عنه مثل ذلك.

وقال ابن عباس في قوله تعالى: {فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها}: أن ما حكم به الحكمان جاز على الزوجين. والقول الأول أصح، وذلك لأنهما وكيلان، ولا يجوز تصرف الوكيل إلا في ما جعل إليه، ووكل به، فإذا لم يوكلا بالفرقة والخلع: لم يجز لهما فعل ذلك. مسألة: قال أبو جعفر: (والخلع تطليقة بائنة). وذلك لأنه مختص بالنكاح، موجب بإيجاب الزوج، لا بمعنى في العقد، ولا يوجب تحريما مؤبدا، وهذه صفة الطلاق. قال أحمد: وقال ابن عباس: ليس بطلاق، وهو فسخ، فإن الله تعالى أدخله بين طلاقين، ثم حكم بصحة الثالثة بعده بقوله: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد}.

قال أحمد: وهذا غير دال على ما قال؛ لأنه قال: {الطلاق مرتان}، بين به حكم التطليقتين على غير وجه الخلع، قال: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به} على التطليقتين، ثم قال: {فإن طلقها} وهي الثالثة، فلا دلالة فيه على جواز خلع بعد التطليقتين قبل تطليقة ثالثة. ويدل على صحة قولنا: أن الخلع كناية عن الطلاق، كالخلية، والبرية، وهو من جهة الزوج، فهو طلاق؛ لأنه لو لم يكن طلاقا لما وقعت به فرقة، لأن كل لفظ قصد به الفرقة، وليس بكناية عن الطلاق: أنه لا يقع به طلاق، نحو قوله: اسق ماء. وأيضا: لم يختلفوا أن الخلع إذا أريد به الطلاق كان طلاقا، فعلمنا أن الفرقة قد تعلقت من حيث كان طلاقا.

مسألة: [عدة الخلع كعدة الطلاق] قال أبو جعفر: (والعدة في الخلع، كهي في الطلاق). لقول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}، ولم يفرق بين الخلع وغيره. وقد روي عن عثمان بن عفان أن المختلعة تعتد بحيضة واحدة. قال أحمد: ولما ثبت أن ما على المختلعة من ذلك يمنعها التزوج، دل على أنها عدة، وليست باستبراء، فكانت كسائر العدد الواجبة عن الفرقة الواقعة في حال الحياة. *قال: (وللمرأة فيه النفقة والسكنى كسائر المطلقات). مسألة: [أثر الخلع في الحقوق التي بين الزوجين] قال: (وإن كان لواحد من الزوجين على صاحبه حق بسبب النكاح الذي كان بينهما، من صداق أو نفقة: فالخلع براءة منه في قول أبي حنيفة). قال أحمد: هي ثلاث مسائل: الخلع، والمبارأة، والطلاق على مال. ولا خلاف بينهم أنه إذا قال: قد طلقتك على ألف درهم: أنه لا يبرأ من سائر الحقوق التي كانت وجبت لها بسبب النكاح. وأما المبارأة: فإن أبا حنيفة وأبا يوسف اتفقا أنه توجب البراءة من

سائر الحقوق الواجبة بينهما بسبب النكاح. وأما الخلع على مال: فإن أبا حنيفة أوجب به البراءة، ولم يوجبها أبو يوسف، وجعله بمنزلة الطلاق على مال. وأما محمد: فإنه لا يوجب البراءة من شيء، وإنما يتناول ما وقع عليه من التسمية في عقد الخلع، والمبارأة كالطلاق على المال المتفق عليه. فأما وجه قول أبي حنيفة: فهو أن المبارأة تقتضي وقوع البراءة من كل واحد منهما لصاحبه فيما يتعلق بالنكاح من الحقوق؛ لأن المبارأة وقوع البراءة لكل واحد منهما، فهي شاملة لجميع الحقوق الواجبة بالنكاح. وإذا ثبت ذلك في المبارأة، جعل أبو حنيفة الخلع كهي؛ لأن لفظ الخلع تضمن البراءة هكذا بموضوعه، لأنه مأخوذ من: خلع الشيء من الشيء. ويدل عليه قول النبي عليه الصلاة والسلام: "من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"، يعني أنه قد برئ منه. ويقال: خلع الخليفة: إذا برئ من الخلافة، وخرج منها، ولا جائز

أن يكون مخلوعا، وقد بقي له شيء من أحكامه، فدل على أن لفظ الخلع يتضمن البراءة. وأما أبو يوسف فقال: المبارأة لفظ موضوع للبراءة، ولا يعقل به غيرها، فأوجبنا البراءة، والخلع بمنزلة الطلاق على مال. وأما محمد: فجعلهما جميعا كالطلاق على المال. * * * * *

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق مسألة: [طلاق المكره] قال أبو جعفر: (وطلاق المكره لازم له، كطلاق من ليس بمكره). قال أحمد: قد تكلمنا في هذه المسألة في غير هذا الموضع من هذا الكتاب من جهة الأثر والنظر، ولكني أحببت أن لا أخلي هذا الموضع من ذكر شيء من طريق الظاهر والأثر مما لم يوجد هناك. وقد روي نحو قولنا عن علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز والنخعي رضي الله عنهم. * وقال ابن عباس وابن عمر والحسن ومجاهد وطاوس رضي الله عنهم: لا يجوز طلاقه. * وقال الشعبي: إن أكرهه السلطان: فهو جائز، وإن أكرهه لص: فلا شيء.

فأما الدليل على صحة قولنا من جهة الظاهر: قوله تعالى: {الطلاق مرتان} إلى قوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد}، وعمومه يوجب وقوع طلاق المكره وغيره، إذ ليس في اللفظ دلالة على الفرق بينهما. فإن قال قائل: دل على أن المكره مطلق. قيل له: لا يمتنع أحد أن يقول: طلق مكرهًا، و: أكره على الطلاق، وإذا تناوله الاسم: لزم حكمه بعموم الآية. ويدل على صحة قولنا من الأثر: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا يعقوب بن يوسف المطوعي قال: حدثنا يحيى بن أيوب قال: حدثنا إسماعيل بن عياش قال: حدثنا الغازي بن جبلة الجيلاني عن صفوان بن عمران الطائي "أن رجلًا كان نائمًا مع امرأته، فأخذت سكينًا، فجلست على صدره، ووضعت السكين على حلقه، وقالت: طلقني ثلاثة ألبتة، أو لأذبحنك، فناشدها الله، فأبت عليه، فطلقها ثلاثًا، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا قيلولة في الطلاق".

وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا مطير قال: حدثنا حسين بن يوسف التميمي قال: حدثنا محمد بن مروان عن عطاء بن عجلان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله". ويدل عليه: حديث عبد الرحمن بن حبيب بن أزدك عن عطاء بن أبي رباح عن يوسف بن ماهك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح، والرجعة". فسوى عليه الصلاة والسلام بين حكم الجاد والهازل، مع اختلافهما في كون أحدهما قاصدًا لإيقاع حكم اللفظ، والآخر غير قاصد له، فدل ذلك على أن كل مكلف وجد إيقاع الطلاق في لفظه، فحكمه لازم له، وأن لا تأثير لعدم إرادته في ارتفاع حكم لفظه. * واحتج مخالفنا في ذلك بحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي

صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق في إغلاق". وبما روي عن ابن عباس وأبي الدرداء وثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه". وفي بعض الألفاظ: "عفا لكم عن ثلاث". وفي بعضها: "رفع عن أمتي". قالوا: فعموم هذه الألفاظ ينفي وقوع طلاق المكره. قال أبو بكر: أما قوله عليه الصلاة والسلام: "لا طلاق في إغلاق": فلا دلالة فيه على حكم طلاق المكره؛ لأن المكره غير مغلق عليه، وإنما المعني فيه المجنون؛ لأنه مغلق عليه في التصرف من سائر الوجوه. وهو مأخوذ من: أغلق عليه بابه، ومنع من التصرف من سائر الوجوه،

وهذا هو صفة المجنون. فأما المكره فتصرفه جائز في سائر ما يتصرف فيه في غير ما أكره عليه، فلا يقال: إنه مغلق عليه، كما لا يقال لمن أغلق عليه أحد أبواب البيت، وهو يمكنه الخروج من سائر الأبواب: إنه مغلق عليه ممنوع من الخروج. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "تجاوز الله عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه": فإنه غير صحيح عند أهل النقل. حدثنا أبو الحسين عبد الرحمن بن سيما المحسن قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي عن حديث رواه شيخ عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما استكرهوا عليه، وعن الخطأ، والنسيان". وعن الوليد عن مالك عن نافع عن ابن عمر مثله. فقال: إن هذا كذب وباطل، ليس يروى إلا عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومخالفونا لا يقبلون المراسيل، فسقط احتجاجهم به.

وعلى أنه لو ثبت الحديث وصح، لما دل على نفي طلاق المكره، وذلك لأن قوله عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي ما استكرهوا عليه"، و"تجاوز الله لأمتي عما استكرهوا عليه"، "وعفا لأمتي عن ذلك". لو استعمل على حقيقته: اقتضى نفي وقوع الفعل المكره عليه، ومعلوم وقوع الفعل بالمشاهدة والعيان، وأن ما صح وقوعه لا يصح رفعه؛ لأنه لا يصح أن يرفع المفعول حتى يصير غيره مفعولًا؛ لأن ذلك محال. فإذا كان كذلك، وكان مقتضى اللفظ رفع الفعل الواقع على الإكراه، وقد علم أنه لم يرده، ثبت أن هناك إضمارًا إياه أراد النبي صلى الله عليه وسلم، فاحتجنا إلى دلالة في إثبات المراد من وجهين: أحدهما: أن المضمر ليس بعموم، فيحتج فيه بظاهر اللفظ، إذ هو غير ملفوظ به، والعموم والخصوص إنما يكونان في الألفاظ. والثاني: أن اللفظ قد حصل مجازًا، والمجاز لا يجوز استعماله إلا في موضع يقوم الدليل عليه. وأيضًا: فإذا ثبت أن في اللفظ ضميرًا، والضمير يجوز أن يكون للحكم، ويجوز أن يكون للمأثم، لم يكن لأحد صرفه إلى أحد الوجهين دون الآخر إلا بدلالة من غيره.

ولا يجوز أن يقال فيه: إنه قد عنى الأمرين؛ لأن ذلك مما يسوغ فيما كان ملفوظًا به، فيستعمل فيه عموم اللفظ، فأما ما لم يكن ملفوظًا به: فلا يصح ذلك فيه. وعلى أن قوله عليه الصلاة والسلام: "تجاوز الله لأمتي عما استكرهوا عليه": لا يجوز استعماله في رفع الحكم؛ لأن هذا اللفظ إنما يستعمل في رفع المأثم، كقولك: غفر الله لفلان، وعفا الله عن فلان: بمعنى نفي حكم المأثم. ويدل على أن المراد رفع المأثم: أن الناسي والمخطئ بالطلاق يلزمهما طلاقهما. وقوله عليه الصلاة والسلام: "تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان": لم ينف طلاقهما، وكذلك المكره. ودل ذلك على أن المراد رفع المأثم، كما قال تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم}: يعني في المأثم، لا في حكم الفعل؛ لأن الله تعالى قد ألزمه حكم فعله إذا قتل خطأ.

مسألة: [طلاق الصبي والمجنون] قال أبو جعفر: (وطلاق الصبي والمجنون باطل). قال أبو بكر: يروى ذلك عن ابن عباس والحسن وابن سيرين رضي الله عنهم. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه"، وقد تقدم ذكر سنده. وروي عن علي بن أبي طالب نحو ذلك من قوله. * وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن طلاق الصبي جائز؛ لأن الله تعالى لم يستثنه. * وقال سعيد بن المسيب: إذا كان الصبي يعقل الصلاة: جاز طلاقه. والأصل فيه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن

الصبي حتى يحتلم". وهذا الظاهر ينفي وقوع طلاقه؛ لأن رفع القلم يقتضي رفع الحكم عنه، فلا تحرم عليه امرأته بطلاقه إياها. وأيضًا: لم يختلفوا في النائم أن طلاقه لا يجوز، وكذلك الصبي، والمجنون، لاستوائهم في زوال التكليف عنهم. فإن قيل: فقد يؤمر الصبي بالصلاة إذا بلغ سبعًا، ويضرب عليها إذا بلغ عشرًا. قيل له: إنما يؤمرون بها للاعتبار، لا على وجه التكليف. مسألة: [طلاق السكران] قال أبو جعفر: (وطلاق السكران جائز).

قال أحمد: يروى ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وابن عباس، وسليمان بن يسار، والحسن، وسعيد بن المسيب، وعامر، وإبراهيم، والضحاك، ومجاهد، والزهري رحمة الله عليهم. وروي عن علي بن أبي طالب قال: "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه". فهذا يدل على أنه يرى طلاق السكران جائزًا. ويروى عن عثمان، وعطاء، وطاوس، وجابر بن زيد، وعكرمة، والقاسم بن محمد: أنه لا يجوز طلاق السكران. والدليل على صحة قولنا من جهة الظاهر: قول الله تعالى: {الطلاق مرتان} إلى قوله سبحانه: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره}. وهو عام في السكران وغيره.

ومن جهة السنة: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا قيلولة في الطلاق"، وقد تقدم ذكر سنده. وقوله عليه الصلاة والسلام: "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه". وقوله عليه الصلاة والسلام: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد": يدل على ذلك أيضًا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام سوى بين الجاد والهازل، مع وجود الإرادة من أحدهما في إيقاع حكم اللفظ، وعدمها من الآخر، مع كونهما من أهل التكليف، وهذا المعنى موجود في السكران. ويدل عليه: ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أنه استشار الصحابة في حد الخمر، فقال علي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما: إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وإذا افترى وجب عليه الحد ثمانون". وكان ذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير من أحد منهم. فاقتضى ذلك وجود الاتفاق منهم على وجوب الحد عليه بالقذف، فإذا لزمه الحد الذي من شأنه أن يسقط بالشبهة في حال سكره، فالطلاق الذي لا تسقطه الشبهة أحرى أن يلزمه. وأيضًا: يلزمه الحد بنفس السكر، كما يلزم الزاني الحد بالزنى،

والسارق بالسرقة، فإذا لزمه حد السكر في حال سكره، فالطلاق أحرى أن يلزمه. فإن قال قائل: هو كالمجنون والمغمى عليه والنائم، لعلة فقد العقل. قيل له: فقد العقل لم يسقط عنه الحد، فكذلك لا يسقط حكم طلاقه، والنائم، والمجنون، والمغمى عليه، لا يلزمهم حد في هذه الأحوال، ولا يتعلق عليهم حكم التكليف بحال، ولذلك فارقوا السكران. قال أبو بكر: وكان شيخنا أبو الحسن الكرخي يخالف أصحابنا في هذه المسألة، ويذهب إلى أن طلاق السكران لا يقع، وأنه بمنزلة المجنون، والنائم؛ لأنهم متفقون جميعًا أنه لو شرب دواء، فذهب منه عقله أو أغمي عليه منه: أنه لا يقع طلاقه، وكذلك السكران من الشرب. ولا ينبغي أن يختلف حكمه لأجل كونه عاصيًا في شرب ما يوجب السكر، غير عاص في تناوله الدواء لمصلحة البدن؛ لأنهم لا يفرقون بين من أكره على شرب الشراب الموجب للسكر، وبين شربه مختارًا لشربه من غير إكراه في باب وقوع طلاقه، فعلمنا أن الحظر والإباحة لا تأثير لهما في ذلك. مسألة: [طلاق السنة] قال: (وطلاق السنة لمن تحيض، ودخل بها: أن يطلقها طاهرًا من غير جماع، واحدة).

وذلك لقول الله عز وجل: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}. "وطلق ابن عمر رضي الله عنهما امرأته وهي حائض، فسأل عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر من حيضتها هذه، ثم تحيض حيضة أخرى، فإذا طهرت فليطلقها قبل أن يجامعها، فإنها العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء". وفي بعض ألفاظ هذا الحديث: "طاهرًا من غير جماع، أو حاملًا قد استبان حملها"، تركت ذكر أسانيده خوف الإطالة. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن شاذان الجوهري قال: حدثنا معلى بن منصور قال: حدثنا شعيب بن رزيق أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن عمر "أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرءين الباقيين، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن عمر! ما هكذا أمرك الله، إنك قد أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق

لكل قرء، فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم مراجعتها، وقال: إذا هي طهرت فطلق عند ذلك، أو أمسك. فقلت: يا رسول الله! أرأيت لو كنت طلقتها ثلاثًا، أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: لا، كانت تبين منك، فتكون معصية". وقد انتظم هذا الخبر معاني: منها: أن الطلاق في الحيض لغير السنة. وأنه واقع كونه لغير السنة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أمره بمراجعتها، ولو لم يكن واقعًا، لما احتاج إلى رجعة. وأن من السنة فيمن طلق للحيض: أن يراجع حتى يبتدئ الطلاق للسنة. وأن الرجعة تصح بغير شهادة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أمره بالرجعة، ولم يأمره بالإشهاد. وأن من السنة طلاقها في الطهر قبل الجماع؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: "والسنة أن تستقبل الطهر": يعني في أول الطهر قبل الجماع.

وأن الثلاث قد تكون للسنة إذا فرقها في الأقراء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "فطلق لكل قرء". وأن من السنة تفريقها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: "فطلق لكل قرء". وأنه إذا طلق ثلاثًا في طهر واحد: كان طلاقه واقعًا؛ لأنه قال: "أرأيت لو طلقتها ثلاثًا أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: لا، كانت تبين". وأن جمع الثلاث معصية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "فتكون معصية". * ووجه الأمر بالمراجعة: أنه لما أوقع طلاقًا منهيًا عنه، والعدة موجبة عنه، أمره عليه الصلاة والسلام بإبطال العدة بالرجعة، إذ أمكنه إبطالها، ولم يكن إبطال الطلاق ليبتدئ طلاقًا مسنونًا، فيكون ابتداء العدة على الوجه المسنون. * ووجه أمره عليه الصلاة والسلام بالطلاق في الطهر قبل الجماع، ليعلم أنه مطلق حائلًا دون حامل، وإذا جامعها لا يدري لعلها قد حملت، فلا يدري ما طلاقها، أطلاق الحامل أم الحائل؟ وأيضًا: فعسى أن لا يريد طلاقها بعد الحبل فتطلق، ثم يندم إذا علم بالحبل.

وقد قيل: إنه أمر بالثاني فيه، وترك العجلة؛ لئلا تتبعها نفسه، وإذا جامعها كان أزهد له فيها، فلا يأمن أن يندم بعد ذلك، فأمر بطلاقها بعد استبراء أمرها، ولذلك أمرنا بالواحدة، وهو معنى قوله تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا}. فصل: [ألفاظ الطلاق الرجعي، وحكمه] قال أبو جعفر: (وإذا طلقها بأن قال لها: أنت طالق، أو: قد طلقتك: فإنه يملك رجعتها، فإن شاء راجعها قبل انقضاء العدة، وإن شاء تركها حتى تنقضي عدتها". وذلك لقول الله عز وجل: {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}، ثم قال تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك}. وقال تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}. وقال تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف}، ثم قال جل وعلا: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من

بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا}: يعني أن يندم فيراجع. ثم قال: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف}، فأثبت له الرجعة فيما دون الثلاث من الطلاق ما دامت في العدة. وقوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن}: معناه: فإذا قاربن من بلوغ الأجل؛ لأنه لا خلاف أنه لا رجعة له بعد انقضاء العدة. مسألة: [بانقضاء عدة الرجعية تحل للأزواج] قال: (فإذا انقضت عدتها: حلت للأزواج). وذلك لقوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف}، وقال تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله}، فأباح نكاحها بعد انقضاء العدة.

مسألة: [الإشهاد في الرجعة] قال: (والمراجعة بأن يشهد على رجعتها، كان ذلك برضاها أو بغير رضاها). وذلك لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك}، فلم يجعل لها حقًا معه إذا أراد رجعتها. وقال تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف}، فأجاز سبحانه له إمساكها ولم يشترط رضاها. * قال: (ولا ينبغي له أن يراجعها بما سوى ذلك من جماع أو قبلة). وذلك لأنه مندوب إلى الإشهاد على الرجعة، وهذه الأحوال يتعذر الإشهاد فيها. مسألة: [ما تتم به المراجعة من الأفعال] قال: (فإن جامعها، أو قبلها بشهوة، أو نظر إلى فرجها بشهوة: كان مراجعًا لها بذلك، وهو مسيء لتركه الإشهاد).

وذلك لقول الله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك}، والجماع رد منه لها إلى حال التبقية على النكاح؛ لأن عقد النكاح يختص بإباحة الوطء والاستمتاع، فصار ذلك ردًا لها إلى النكاح. وأيضًا: قوله سبحانه: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف}، وهذه الأفعال إمساك لها على النكاح، إذ كان عقد النكاح مختصًا باستباحة ذلك منها. وأيضًا: قال النبي صلى الله عليه وسلم لبريرة حين أعتقت، وخيَّرها في فراق زوجها: "إن وطئك فلا خيار لك"، فجعل رضاها بالوطء بمنزلة قولها: قد رضيت بالبقاء على النكاح، إذ كان الوطء مختصًا بالنكاح، لا يصح استباحته إلا من هذا الوجه، فدل ذلك على أن كل ما لا يصح من الزوج إلا مع البقاء على النكاح، هو بمنزلة قوله لها: قد اخترت مراجعتك في تبقيتك على النكاح. وأيضًا: قد اتفق الجميع على من اشترى جارية على أنه بالخيار ثلاثًا، فوطئها: أن ذلك اختيار منه لإجازة البيع؛ لأنه قد فعل ما لا يجوز له فعله إلا مع الإجازة، والتبقية على الملك، كذلك الوطء لما لم يصح للمطلقة إلا مع التبقية على النكاح، وجب أن

يعتبر كقوله: قد راجعتك. وأيضًا: فإن للوطء من التأثير في تبقية النكاح ما ليس للقول، والدليل على ذلك: أن الطلاق إذا ورد على العقد قبل الدخول أبطله، وإذا ورد بعد الدخول لم يبطله، وكان العقد باقيًا إلى انقضاء العدة، فكان للوطء من التأثير في تبقية النكاح ما ليس للقول، فكان وقوع الرجعة بالوطء أولى منه بالقول، إذ كانت الرجعة موضوعها لتبقية النكاح، ومنع الفرقة. فإن قال قائل: ما أنكرت أن يكون مراد الآية مقصورًا على الرجعة بالقول دون الوطء؛ لأنه قد عقب ذكر الرجعة بما لا يصح معه أن يكون الوطء مرادًا، وهو قوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم}، والوطء لا يصح الإشهاد عليه. قيل له: ليس في الآية دليل على أن الإشهاد حكمه أن يكون واقعًا في حال الرجعة، وليس يمنع أن يكون المراد القول والوطء جميعًا، فيكون الإشهاد بعدهما، ألا ترى أن قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}: عائد على الفراق كعوده على الرجعة، ولم يقتض وقوع الإشهاد في حال الفرقة غير متأخر عنها، كذلك في الرجعة؛ لأنه تعالى

قال: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف}، ثم قال سبحانه: {وأشهدوا}. وأيضًا: لو كان الإشهاد مندوبًا إليه في حال الرجعة، لم يمتنع أن يكون المراد الرجعة بالقول والفعل جميعًا، كما قال تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}، وذلك حكم عام في الرجعي، والبائن، والواحدة، والثلاثة، ثم قال تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك}، ومراده فيما دون الثلاث. كذلك قوله عز وجل: {فأمسكوهن}: لا يمنع أن يكون مراده الإمساك بالقول والفعل جميعًا، ثم قال: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}: فيما يصح الإشهاد عليه منهما. وقد روي وقوع الرجعة بالوطء عن عمران بن حصين من غير مخالف من الصحابة رضي الله عنهم، وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي وطاووس رحمة الله عليهم. * والنظر إلى الفرج واللمس بمنزلة الوطء في ذلك؛ لأن عموم الآية

ينتظم جميع ذلك، ولأن أحدًا لم يفرق بينهما وبين الوطء في وقوع الرجعة بها، فلما صح ذلك عندنا في الوطء: كان اللمس والنظر بمثابته بالاتفاق. وأيضًا: فلأنه يتعلق بهما من الحكم في إيجاب التحريم ما يتعلق بالوطء. مسألة: [ما لا تكون به الرجعة] قال: (ولا يكون النظر إلى غير الفرج من شهوة رجعة). وذلك لأنه لا يتعلق به حكم التحريم، فصار كالنظر إلى الوجه وسائر الأعضاء. مسألة: [طلاق السنة حال كونه بعد الجماع] قال أبو جعفر: (وإذا جامعها، ثم أراد أن يطلقها للسنة: فصل بين الجماع والطلاق بحيضة). وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فليطلقها طاهرًا من غير جماع أو حاملًا". ولأنه إذا جامعها: لا يدري لعلها قد حملت، فلا يدري أيطلقها طلاق الحائل أو طلاق الحامل؟

مسألة: [الطلاق في الحيض] قال: (ولو طلقها وهي حائض: وقع طلاقه، وكان مسيئًا في ذلك، ويراجعها). فأما وجه الإساءة: فلقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنهما حين طلق في الحيض: "ما هكذا أمرك الله". قال: "فتطلقها طاهرًا من غير جماع". وأما وجه وقوعه: فقول الله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد}، وعمومه يقتضي وقوعه، وثبوت حكمه في حال الطهر، والحيض، وكذلك قوله تعالى: {الطلاق مرتان}. فإن قيل: هو محمول على ما في الآية الأخرى، وهو قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن}. قيل له: نستعمل اللفظين، ولا نخص أحدهما دون الآخر مع إمكان الجمع، فنقول: قوله سبحانه: {فطلقوهن لعدتهن}: المندوب إليه، والمختار والمستحسن منه. وقوله تعالى: {الطلاق مرتان}، وقوله تعالى: {فإن طلقها}: وارد في حكمه إذا وقع للعدة، أو لغير العدة فينفذ عليه.

وأيضًا: من جهة السنة: ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه ذكر طلاقه لامرأته في الحيض، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بمراجعتها. قال أنس ومحمد بن سيرين وجابر الحذاء ويونس بن جبير: قلنا لابن عمر رضي الله عنهما: فاعتددت بتلك الطلقة؟ قال: نعم. أرأيت إن عجز واستحمق". وفي بعض الألفاظ: "فمة". وأيضًا: أمره عليه الصلاة والسلام إياه بمراجعتها، إخبار منه بوقوع طلاقها؛ لأن الرجعة لا تصح في غير مطلقة. فإن قال قائل: قد روى سعيد بن منصور وغيره عن خديج بن معاوية أخي زهير بن معاوية قال: حدثنا أبو إسحاق عن عبد الله بن مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما "أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس ذلك بشيء". قيل له: لم يرو عن أبي إسحاق غير خديج بن معاوية، وخديج:

ضعيف عند أهل النقل، وعبد الله بن مالك: مجهول لا يدرى من هو؟ ولم يرو عنه غير أبي إسحاق السبيعي. وعلى أنه لو ثبت، احتمل أن يريد: أنه ليس بشيء: يعني في قطع النكاح، وإيقاع البينونة، وأن له الرجعة معه. ويحتمل أن يريد: ليس بشيء صواب، كما قال الله تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء}: يعني على شيء هو حق وصواب. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا زكريا بن يحيى الشامي قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أمية الذراع قال: حدثنا حماد بن زيد عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلق في بدعة ألزمناه بدعته".

مسألة: [إذا راجعها في الحيض بعد طلاقه لها فيه] قال: (وقال أبو حنيفة: إذا راجعها بعد ما طلقها في الحيض: جاز له أن يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة). قال أبو بكر: قال محمد في كتاب الطلاق: وإذا طلقها في الحيض: راجعها، فإذا طهرت من حيضة أخرى: طلقها واحدة قبل أن يجامعها، ولم يذكر فيه خلافًا بين أصحابنا رحمهم الله. وروى أبو الحسن رحمه الله الخلاف بينهم على ما ذكرنا، إلا أنه ذكر أن محمدًا مع أبي يوسف في ذلك. * قال: "وقال أبو يوسف في الإملاء: لا يطلقها حتى يفصل بين الطلاق الأول والثاني بحيضة". وجه قول أبي حنيفة: أن العدة قد بطلت بالرجعة، ولا تحتاج إلى الفصل بين التطليقتين بحيضة، وإنما تحتاج إلى الفصل بينهما مع بقاء العدة.

والدليل على ذلك: أنه لو طلق امرأته قبل الدخول، ثم تزوجها في الحال: جاز له أن يطلقها أيضًا، إذ لم تكن هناك عدة باقية من التطليقة الأولى. وقد روى شعبة عن أنس بن سيرين، عن ابن عمر رضي الله عنهما "أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: "ليراجعها، فإذا طهرت فليطلقها". وكذلك روى قتادة عن يونس بن جبير عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يدل على صحة قول أبي حنيفة: لأنه أباح طلاقها بعد ما طهرت من الحيضة التي طلقها فيها. وروى عبد الله بن عمر، ومالك بن أنس، ومحمد بن إسحاق، وابن أبي ذئب، ويحيى بن سعيد، كلهم عن نافع عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره في هذه القصة أن يراجعها، ثم يدعها حتى تطهر، ثم تحيض حيضة مستقبلة سوى الحيضة التي طلقها فيها، ثم يطلقها إن شاء". ففي هذا الخبر إيجاب الفصل بين الطلاق الذي قد راجع فيه، وبين الطلاق الثاني بحيضة مستقلة، وفي الخبر الأول إباحة الطلاق في الطهر

الذي يلي الحيضة التي طلقها فيها، فنستعمل الخبرين جميعًا، ونقول أيهما فعل جاز. * وذهب أبو يوسف ومحمد إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "دعها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم طلقها إن شئت". مسألة: [طلاق الآيسة والحامل] قال: (وإذا كانت ممن لا تحيض: طلقها متى شاء وإن كان بعد الجماع، فلا يحتاج إلى الفصل بين الجماع والطلاق بحيضة، وكذلك الحامل". قال أبو بكر: وقال زفر: لا يطلقها حتى تحيض حيضة بعد الجماع، كما قالوا جميعًا في ذات الحيض إذا جامعها: أنه لا يطلقها حتى يفصل بين الجماع والطلاق بحيضة. ووجه القول الأول: أن الفصل بين الجماع والطلاق إنما يحتاج إليه ليعلم أهي حامل أم لا؟ فتطلق طلاق الحامل أو طلاق الحائل، ويدل على ذلك: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه أمر ابن عمر رضي الله عنهما أن يطلقها طاهرًا من غير جماع أو حاملًا". فلم يوجب الفصل بين الطلاق والجماع عند علمنا بالحمل، كذلك

إذا علمنا براءة رحمها من الحمل بالصغر أو الإياس، استغنينا عن اعتبار الحيضة في إيجاب الفصل. مسألة: [وقوع طلاق السنة بلفظ واحد] قال: (وإذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا للسنة: وقعن في ثلاثة أطهار). قال أبو بكر: وذلك لأن هذه صفة طلاق السنة. قال أبو بكر: من أصل أصحابنا أن الجمع بين تطليقتين أو ثلاث في طهر واحد مع بقاء العدة: ليس من السنة، وقد تكون الثلاث للسنة إذا فرقهن في ثلاثة أطهار. وقال مالك بن أنس: لا تطلق للسنة إلا واحدة، ثم يدعها إن شاء حتى تنقضي عدتها. وقال الشافعي: جمع ثلاث في كلمة واحدة من السنة. وأما الحجة في أن الثلاث قد تكون للسنة: فقول الله تعالى: {الطلاق مرتان}، وقد أفادت هذه اللفظة إباحة إيقاع الثنتين.

وقال سبحانه: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}، والأمر لا يختص بعدد دون عدد، وقد أفاد إباحة إيقاع الثلاث للعدة. ويدل عليه من جهة السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ابن عمر: "فليطلقها طاهرًا من غير جماع أو حاملًا"، وذلك يقتضي إباحة إيقاع الثلاث في كل طهر. ويدل عليه أيضًا: ما روي في حديث الحسن عن ابن عمر، وقد تقدم ذكر سنده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا ابن عمر! ما هكذا أمرك الله، إنك أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء". وقوله عليه الصلاة والسلام: "فتطلق لكل قرء": يقتضي إباحة الطلاق الثلاث في الأطهار المختلفة؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: "فتطلق لكل طهر": لا يجوز أن يكون مراده تطليقة واحدة؛ لأن: "كل": موضوعة للجمع. ومن جهة النظر: أنه لما جاز له أن يطلقها في الطهر الأول؛ لأنها طاهرة من غير جماع، كان كذلك حكم الطهر الثاني لوجود العلة. وأيضًا: لو راجعها جاز له أن يطلقها كذلك قبل الرجعة. فإن قيل: إيقاع الثانية قبل الرجعة لعب بآيات الله، قال الله تعالى:

{ولا تتخذوا آيات الله هزوا}، وذلك لأنه ليس في إيقاعها فائدة، فإن أراد البينونة تركها حتى تنقضي عدتها، وإن أراد الإمساك: راجعها، فلا معنى للثانية. قيل له: بلى، له في هذا فائدة، وهي أن الثانية والثالثة تبينها قبل انقضاء العدة، والأولى لا تبينها إلا بعد انقضاء العدة، فلما كان له في الثانية والثالثة فائدة حكم، وهي البينونة قبل انقضاء العدة، جاز له أن يطلق كالأولى. * وأما قول الشافعي في إيقاع الثلاث في كلمة واحدة أنه من السنة، فإنه خلاف الكتاب والسنة والإجماع. فأما مخالفته للكتاب: فقول الله تعالى: {الطلاق مرتان}، ومعلوم أن هذا أمر وإن كان في صورة الخبر، كقوله تعالى: {يتربصن بأنفسهن}، وكأنه سبحانه قال: طلقوهن مرتين، وهذا اللفظ يقتضي إيقاع الثنتين في دفعتين لا في دفعة واحدة؛ لأنه إن أوقعهما في كلمة واحدة، كان كأنما أوقع الثنتين في مرة واحدة، وذلك خلاف موجب الآية، ولما اقتضي اللفظ إيقاع الثنتين في دفعتين، وجب الفصل بينهما، وحظر جمعهما، وإذا وجب الفصل، كان الفصل واقعًا بحيضة، لأن أحدًا ممن أوجب الفصل بين التطليقتين لم يوجبه إلا بحيضة. فإن قال قائل: لما كان قول الله تعالى: {الطلاق مرتان}: يقتضي

إيقاعهما في دفعتين من غير فصل بينهما بحيضة، فقد تضمن ذلك إيقاعهما في طهر واحد، وإذا جاز ذلك، جاز له الجمع؛ لأن أحدًا لا يفصل بينهما. قيل له: كل تأويل يؤدي إلى رفع حكم اللفظ رأسًا فهو ساقط، وهذا المعنى يؤدي إلى إسقاط فائدة الأمر بالثنتين، حتى يكون وجوده وعدمه سواء فيما تضمنه من إيجاب الفصل بين التطليقتين. وأما إيجابنا الفصل بينهما بحيضة، فليس يؤدي إلى إسقاط حكم اللفظ؛ لأن إيجاب الفصل بين الثنتين قائم. وأيضًا: لم يبح الله تعالى طلاق المدخول بها ابتداء إلا مقرونًا بذكر الرجعة منه، فقد قال تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا} يعني أن يندم فيراجعها، ثم قال تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف}، وقال في موضع آخر: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}. ثم قال تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك}. وقال: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن

بمعروف}. فلما كانت إباحة الطلاق المبتدأ في المدخول بها مقرونة بذكر الرجعة في سائر ما ورد فيه ذلك، علمنا أن ذلك شرط الإباحة، وأنه غير جائز له إيقاع الثلاث ابتداء. فإن قيل: إنما دلت هذه الآيات على ثبوت الرجعة فيما دون الثلاث، فما الدلالة على حظر ما يوجب البينونة من الطلاق ابتداء؟ قيل له: لأنا إنما استفدنا إباحة الطلاق من هذه الآيات، وإلا فالأصل الحظر في الطلاق؛ لأنه يتعلق به إيجاب التحريم. وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم}، وظاهره يقتضي حظر الطلاق، لما فيه من إيجاب التحريم، ثم أباح تحريمها بالطلاق من الوجوه التي ذكرنا، فما عداه فهو باق على حكم الحظر. وهذه الآية يجوز الاحتجاج بعمومها في حظر الثلاث؛ لأن فيها تحريم ما أحل الله لنا. فإن قيل: قوله تعالى: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم}: لفظ مقصور

على المأكولات، كقوله تعالى: {والطيبات من الرزق}، و {كلوا من طيبات}. قيل له: المأكولات المباحة من الطيبات، وكذلك جميع ما أحل الله تعالى، وليس في تخصيصه المأكول المباح بذكر الطيبات نفي لغيره أن يكون من الطيبات لا محالة. وقال الله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}، وما طاب لنا فهو من الطيبات لا محالة. وقوله: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم}: ينتظم سائر المباحات. فإن قيل: فقد يجوز أن تكون الثالثة للسنة عندكم، إذا أوقعها في الطهر الثالث، أو راجعها في الثنتين، ثم أوقعها. قيل له: أخذنا ذلك بالاتفاق، والآيات التي ذكرنا إنما وردت في ابتداء الطلاق، لا فيمن طلق بعد ذلك. * ومن جهة السنة: حديث ابن عمر الذي قدمنا ذكره أنه قال: "يا رسول الله! أرأيت إن طلقتها ثلاثًا أكان لي أن أراجعها؟ فقال: لا، كانت تبين، وتكون معصية".

ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في قصة ابن عمر لعمر رضي الله عنه: "مره فليراجعها، ثم ليدعها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء"، وأمره عليه الصلاة والسلام أن يفصل بين التطليقتين بحيضة. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا يحيى بن عبد الباقي المنقري قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن القاسم الصنعاني قال: حدثنا عمرو بن عبد الله بن فلاح الصنعاني قال: حدثنا محمد بن عيينة أخو سفيان بن عيينة ثقة عن عبيد الله بن الوليد الوصافي، وصدقة بن أبي عمران عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده قال: "طلق بعض آبائي امرأته، فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إن أبانا طلق أمنا ألفًا، فهل له من مخرج؟ قال عليه الصلاة والسلام: "إن أباكم لم يتق الله فيجعل له من أمره مخرجًا، بانت منه بثلاث على غير السنة، وتسعمائة وسبع وتسعون إثم في عنقه". * وأما ما ذكرنا من طريق الإجماع، فهو ما روي عن عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وابن عباس وابن عمر وعمران بن حصين وأبي موسى، وغيرهم رضي الله عنهم من الصحابة، والتابعين النكير على موقع الثلاث معًا، في أخبار مشهورة، تركت أسانيدها، وسياقة متونها

خوف الإطالة. قال أنس بن مالك: "كان عمر رضي الله عنه إذا أتي برجل قد طلق امرأته ثلاثًا في مجلس: أوجعه ضربًا، وفرق بينهما". وقال علي بن أبي طالب: "لو أن الناس أخذوا بما أمر الله من الطلاق، ما تتبع رجل نفسه امرأة يطلقها تطليقة، فيتربص بينه وبين أن تنقضي عدتها ثلاث حيض، ثم راجعها متى شاء". وحدثنا محمد بن زكريا قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا حميد بن مسعدة قال: حدثنا إسماعيل قال: أخبرنا أيوب عن عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: "كنت عن ابن عباس، فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا. قال: فسكت حتى طننت أنه رادها إليه، ثم قال: يطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول: يا ابن عباس، وإن الله تعالى قال: {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا}، فإنك لم تتق الله، فلا أجد لك مخرجًا، عصيت ربك، وبانت منك". وقال أبو داود: روى هذا الحديث حميد الأعرج، وغيره عن مجاهد عن ابن عباس، ورواه شعبة عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن

عباس رضي الله عنهما، وروي عنه من طرق آخر. فإن قال قائل: قد روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن "أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها أبو حفص بن المغيرة ثلاثًا بكلمة واحدة، فلم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاب ذلك. وطلق عبد الرحمن بن عوف أم أبي سلمة، وهي تماضر ثلاثًا، فلم يبلغنا أن أحدًا عاب ذلك. قيل له: أما حديث فاطمة بنت قيس، فلم يشهده أبو سلمة، وهو مرسل؛ لأنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يصح لمخالف الاحتجاج به. وعلى أنه قد روي عن فاطمة بنت قيس أن زوجها قد طلقها آخر تطليقة بقيت لها، فهو أولى من قول أبي سلمة أنه طلقها في كلمة واحدة. حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا يزيد بن خالد

الرملي قال: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة وطلقها أخر ثلاث تطليقات، وذكر الحديث. قال أبو بكر: قال أبو داود: وكذلك رواه صالح بن كيسان، وابن جريج، وشعيب بن أبي حمزة كلهم عن الزهري. قال: حدثنا مخلد بن خالد قال: حدثنا عبد الرازق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله أن مروان أرسل إلى فاطمة. وفي غير هذا الحديث: "أرسل قبيصة بن ذؤيب، فسألها، فأخبرته أنها كانت عند أبي حفص، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليًّا عليه السلام على بعض اليمن، فخرج معها زوجها، فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها". فقد بين في هذه الأخبار عن فاطمة كيفية طلاقها. وقد روى الشعبي عن فاطمة: "أن زوجها طلقها ثلاثًا"، ولم يبين كيفيته، وهو على ما بين حكمه في الأخبار التي ذكرنا، أنها ثلاث متفرقات، وأن آخرها كانت الثالثة. وعلى أنه لو ثبت أنه كان طلقها ثلاثًا، لم تثبت حجته في إباحة الثلاث؛ لأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه طلقها ثلاثًا،

فترك النكير عليه؛ لأن في أكثر الأخبار: أنها قالت: "يا رسول الله! إن زوجي طلقني، فأبت طلاقي". وقد تكون: ألبتة: للسنة، وهي الثلاث، والواحدة إذا وقعت على وجه الخلع. وعلى أنه لو ثبت أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: "طلقني زوجي ثلاثًا"، لما كان يستحق النكير عليه؛ لأنه يجوز أن يطلقها في ثلاثة أطهار، ولا يستحق اللوم، ولا يجب النكير عليه. ولأنا لو سمعنا من يقول: طلقت امرأتي ثلاثًا، كان الواجب علينا أن نحمل أمره على ما يجوز من الطلاق، ولا نحمله على أنه واقع المحظور بجمع الثلاث؛ لأن أمور المسلمين محمولة على الصحة. وعلى أنه لو ثبت أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: طلقني ثلاثًا في كلمة واحدة _وإن لم يروه أحد_، لم يكن فيه دلالة على قولهم؛ لأن إيقاع الثلاث إذا كان محظورًا، لم يكن تصديق المرء عليه في مواقعة المحظور جائزًا، والزوج كان غائبًا باليمن ولم يكن حاضرًا فيسأله. * فأما قصة عبد الرحمن بن عوف، فإن الليث يروي عن ابن شهاب عن طلحة بن عبيد الله أن عثمان رضي الله عنه ورث تماضر من عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وكان عبد الرحمن طلقها تطليقة في آخر تطليقاتها الثلاث في مرضه.

فإن قيل: قد روي عن ابن سيرين إباحة الطلاق الثلاث. قيل له: يحتمل أن يكون أراد ثلاثًا متفرقة في أطهار. وعلى أنه لو ثبت ما ادعاه المخالف، لما كان قوله مخالفًا على الصدر الأول. فإن قال قائل: روي أن عويمر العجلاني لما لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين امرأته قال: كذبت عليها إن أمسكتها، هي طالق ثلاثًا". ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم طلاقه إياها ثلاثًا. قيل له: لا يصح لمخالفنا الاحتجاج به؛ لأنه يزعم أن الفرقة قد كانت وقعت بلعان الزوج قبل لعانها، وأن الطلاق الثلاث لم يقع عليها، لأنه صادفها وهي بائنة منه، والبائن لا يلحقها الطلاق، فكيف يدل على أن إيقاع الثلاث معًا من السنة بطلاق لم يقع؟ فإن قيل: فيلزمك ذلك على أصلك. قيل له: فيه وجهان: أحدهما: أنه جائز أن يكون قبل أن يبين الطلاق للعدة، ومنع الجمع بين الثلاث في الإيقاع.

ووجه آخر: أنها قد كانت استحقت الفرقة والبينونة باللعان الذي كان منها، فلما كانت البينونة مستحقة: جاز ترك النكير عليه في إبانتها بالثلاث. فإن قال قائل: لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنهما: "فإذا طهرت فطلقها"، ولم يقل: واحدة ولا ثلاثًا، اقتضى العموم الجميع. قيل له: هو مرتب على ما قدمه من إيقاع الفصل بين التطليقتين بحيضة؛ لأنه معلوم أنه لم يرد به فسخ الأول، لاستحالة جواز الفسخ قبل استقرار الحكم، ألا ترى أنه لم يبح بذلك إيقاع التطليقة الثانية في الحيض، بل كان مرتبًا على ما بينه في النهي عن إيقاعها في الحيض، كذلك في حكم التفريق بين التطليقات. مسألة: قال: (وإذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا للسنة: وقعن في ثلاثة أطهار). وذلك لأن هذه صفة لطلاق السنة، فإن أراد وقوعهن معًا: وقعن معًا"، وذلك لأن قوله: أنت طالق ثلاثًا: يقتضي وقوعهن معًا. وقوله: للسنة: كناية عن أوقات السنة. فإذا قال: لم أرد بقولي: للسنة: ما صار اللفظ كناية عنه: كان كما قال؛ لأن الواجب الرجوع إلى قوله في الكنايات. وأيضًا: فإن هذه "اللام": تدخل في الكلام لمعان مختلفة: تارة

للماضي، وتارة للمستقبل، فاحتمل أن يريد لسنة ماضية، كقوله عليه الصلاة والسلام: "صوموا لرؤيته"، يعني لرؤية ماضية. واحتمل أيضًا: لأجل السنة. فلما كان اللفظ محتملًا لهذه الوجوه، عملت نيته فيه. وأيضًا: السنة في الطلاق من وجهين: أحدهما: الوقت، والآخر العدد. وقد كانوا يطلقون أكثر من ثلاث، فقصر الله تعالى عدد الطلاق على ثلاث، فكان مصيبًا لوجه من السنة في اقتصاره على الثلاث، وإن خالف السنة في جمعها. فإذا أراده: صح معنى اللفظ، وكان كما أراد، ووقع الثلاث في الحال. مسألة: [طلاق السنة فيمن لا تحيض] (وإذا قال لها: أنت طالق ثلاثًا للسنة، وهي ممن لا تحيض: فإنها تطلق واحدة الساعة، وبعد شهر أخرى، وبعد شهر أخرى، إذا كانت مدخولًا بها". وذلك لأن عدتها لما كانت بالشهور، وقامت الشهور مقام الحيض، وجب أن يفصل بين كل تطليقتين بشهر، كما فصل لذوات الحيض بينهما

بحيضة، إذ ليس من السنة جمع الثلاث في الإيقاع. مسألة: [طلاق الحامل للسنة] قال: (وتطلق الحامل ثلاثًا بالشهور، في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال زفر ومحمد: لا تطلق الحامل للسنة إلا واحدة). وجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: قول الله تعالى: {الطلاق مرتان}، وهو عموم في الحامل والحائل. وقال تعالى: {إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}،وظاهره يقتضي الواحدة، والثلاث، إذ لم يختص اللفظ بعدد دون غيره. وأيضًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ابن عمر: "تطلقها طاهرًا من غير جماع أو حاملًا"، فأباح طلاقها حاملًا من غير ذكر عدد، فهو على جميع الأعداد. ومن جهة النظر: أن عدة الحامل لما كانت طهرًا واحدًا، أشبهت اليائسة والصغيرة، في أن عدتها لما كانت طهرًا واحدًا، طلقت بالشهور ثلاثًا، كذلك الحامل.

* ووجه قول محمد وزفر: أنه لابد من الفصل بين تطليقتين في إصابة السنة، وما يفعل به بين تطليقتين هو ما تنقضي به العدة، بدلالة أن ذوات الحيض يفصل بين تطليقاتها بالحيض، واليائسة يفصل بين تطليقاتها بالشهور، ولأن عدة ذات الحيض تنقضي بالحيض، وعدة اليائسة تنقضي بالشهور، وشهور الحامل لا تنقضي بها عدتها، فلم يجز أن يفصل بينها بالشهور، إذ لا تأثير لشهورها في انقضاء العدة. وإذا لم يكن هناك ما يفصل به بين التطليقتين، وكان جمعهما لغير السنة، وجب أن لا تطلق الحامل للسنة إلا واحدة. قال أحمد: والانفصال لأبي حنيفة رحمه الله من ذلك: أن هذه القاعدة منتقضة على أصل محمد؛ لأنه يقول: لو طلقها وهي حامل، ثم راجعها، ثم طلقها آخر للسنة، لم تطلق حتى تلد، وتطهر من نفاسها، ثم يطلقها متى شاء، ففصل بين التطليقتين بالنفاس، والنفاس ليس هو معنى تنقضي به العدة، ولذلك لو طلقها واحدة، ثم جامعها في ذلك الطهر، لم يطلقها في قول محمد تطليقة أخرى حتى تحيض حيضة، فإن هي حبلت من ذلك الجماع، جاز له أن يطلقها، لأجل حدوث الحمل، ففصل بين التطليقتين بحدوث الحمل، وذلك معنى لا يتعلق به انقضاء العدة.

مسألة: [طلاق غير المدخول بها] قال: (ويطلق غير المدخول بها متى شاء). لأنه ليس عليها عدة، فيعتبر طلاقها للعدة. مسألة: قال: (ومن طلق امرأته ثلاثًا للسنة، وهي مدخول بها، فطلقت واحدة، ثم راجعها: وقعت أخرى في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: حتى تحيض حيضة بعد الطلاق الأول). قال أبو بكر: ذكر أبو جعفر محمدًا مع أبي حنيفة، وهو مع أبي يوسف. فأما أبو حنيفة، فلأن من أصله أنه إذا بطلت العدة بالرجعة، جاز له أن يطلقها أخرى قبل الحيضة، ويكون للسنة، فتقع الثانية بقوله: أنت طالق ثلاثًا للسنة. ومن أصل يوسف ومحمد: أنه لا فرق بين أن يراجعها أو لا يراجعها، في أنه لا يجوز له أن يطلقها أخرى حتى يفصل بينهما بحيضة. قال أبو جعفر: (ولو كان راجعها بعد الطلاق الأول بالوطء: لم تقع

التطليقة الثانية بالمراجعة في قولهم جميعًا". لأنه يحتاج أن يفصل بين الجماع والطلاق بحيضة. مسألة: [قال: أنت طالق للبدعة] قال: (ومن قال لزوجته وهي في حال سنة، أو في حال بدعة: أنت طالق للبدعة، أو قال: أنت طالق، ولم يقل للبدعة ولا للسنة: فهي طالق ساعتئذ). وذلك أن ذكر البدعة لغو، إذ ليس للبدعة وقت معروف ينصرف الطلاق إليه، وليس كذلك قوله: أنت طالق للسنة؛ لأن قوله: أنت طالق للسنة، بمنزلة قوله: أنت طالق لأوقات السنة، فكأن الوقت ملفوظ به في اليمين. *****

باب صريح الطلاق

باب صريح الطلاق مسألة: [متعة المطلقة] قال أبو جعفر: (ونفتي المطلق لزوجته بعد دخولها أن يمتعها، ونحضه على ذلك، ولا نجبره عليه كما نجبر المطلق لها قبل الدخول ولم يسم لها صداقًا). قال أبو بكر: قد بينا وجه المسألتين فيما تقدم. مسألة: [ألفاظ صريح الطلاق] قال أبو جعفر: (ومن قال لزوجته وقد دخل بها: أنت طالق، أو: أنت واحدة، أو: اعتدي، أو: استبرئي رحمك، وأراد الطلاق في هذه الألفاظ الثلاثة، طلقت واحدة يملك فيها الرجعة، ولا يقع بهذا القول أكثر من واحدة وإن أراد ذلك". قال أبو بكر: الطلاق على أربعة أنحاء: أحدهما: صريح الطلاق، وهو قوله: أنت طالق، و: طلقتك، ونحوه

مما كان هذا وصفه من الألفاظ، فإن الإيقاع متعلق به بوجود اللفظ من مكلف. والثاني: وقوع الطلاق بالكنايات التي تصح أن تكون عبارة عن الطلاق، نحو قوله: أنت خلية، و: برية، و: بتة، و: بائن، و: حرام، ونحوها من الألفاظ التي هي كنايات عن الطلاق، من حيث كان اللفظ مفيدًا للبينونة، والتحريم، وقطع الزوجية، ونحو ذلك. والثالث: قوله: اعتدي، و: استبرئي رحمك، و: استري، و: تقنعي، وما جرى مجرى ذلك، فإن هذه الألفاظ ليست كناية عن الطلاق نفسه، وإنما الطلاق مدلول عليه باللفظ؛ لأن الطلاق لما تعلق به وجوب العدة، صار قوله: اعتدي: دلالة على الطلاق، لا أن العدة نفسها طلاق، ولا عبارة عنه، وكذلك استبراء الرحم، وكذلك الاستتار، والتقنع، والخروج، ونحوها، وإنما الطلاق مدلول عليه باللفظ، غير ملفوظ به، ولا بما هو كناية عنه. والرابع: ما ليس بكناية، ولا مدلول عليه باللفظ، وإنما يقع به من طريق الحكم، وهو قوله: اختاري؛ لأن التخيير ليس من ألفاظ الطلاق، ولا هو مدلول عليه به، ألا ترى أنه لو قال لها: اختاري، أو قال: قد خيرتك، ونوى به إيقاع الطلاق: لم يقع به شيء، ما لم تقل هي: قد اخترت نفسي، أو طلقتها، ومن أجل ذلك لم يوقعوا به الثلاث وإن أراد بها.

فهذه جملة ما تنصرف عليه ألفاظ الطلاق. * وأصل آخر يجب اعتباره في ذلك: وهو أنه لا يجوز إيقاع الطلاق بنية لا لفظ معها، وكذلك البينونة المتعلقة بالطلاق لا يجوز إيقاعها بنية عارية من لفظ يقتضيها ويوجبها. والدليل على صحة هذا الأصل: حديث قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل، أو تتكلم به". وأيضًا: فلا خلاف أن سائر العقود لا يصح إيقاعها بالنية دون اللفظ، كالنكاح والبيع والهبة والصدقة، ونحوها، فكذلك الطلاق. ومما يجب اعتباره: أن كنايات الطلاق الموجبة للبينونة، لا يصح إيقاع الطلاق فيها عاريًا من البينونة التي يقتضيها اللفظ، لما فيه من إسقاط اللفظ، وحصول الطلاق بنية عارية من اللفظ. وأصل آخر: وهو أن كل لفظ احتمل الطلاق، واحتمل غيره: لم يجز لنا إيقاع الطلاق به إلا باعترافه بنية الطلاق، أو بدلالة الحال عليه. وكذلك كل لفظ احتمل الثلاث والواحدة: لم نلزمه به الثلاث إلا بالنية. والأصل في ذلك: ما روي أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ألبتة،

فاستحلفه النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام: "ما أردت إلا واحدة؟ ". لما احتمل قوله: "ألبتة": الثلاث، واحتمل الواحدة، جعل النبي صلى الله عليه وسلم القول قوله فيما أراد، فصار ذلك أصلًا في نظائر ذلك من المسائل. وإذا صح ما وصفنا، قلنا في قوله: أنت طالق: إنه صريح الطلاق، واللفظ الموضوع في الشرع لإيقاع الطلاق، معلق وقوعه بوجود لفظه به. * وهو رجعي؛ لقوله الله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف}، وقال: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف}. وقال: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}، ثم قال: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك}. فأثبت تعالى الرجعة في إيقاع ما دون الثلاث، إذ كان موقعًا بصريح اللفظ. * وأما قوله: اعتدي، و: استبرئي رحمك: فإن الأصل في صحة إيقاع الطلاق به وبنظائره من الألفاظ: ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم

قال لسودة: اعتدي، ثم راجعها"، فدل ذلك على معنيين: أحدهما: أن قوله: اعتدي: ليس بكناية عن الطلاق، ولا عبارة عنه، وإنما الطلاق مدلول عليه باللفظ، فصار ذلك أصلًا في إيقاع الطلاق بالألفاظ الدالة عليه، نحو قوله: استبرئي رحمك، و: اخرجي، و: اذهبي، و: حبلك على عاتقك، ونظائرها من الألفاظ. والمعنى الثاني: أن اللفظ الذي ليس فيه دلالة على البينونة، لا يوجب البينونة؛ لأن لفظ العدة ليس من ألفاظ البينونة، ولا هو دلالة عليها؛ لأن العدة تجب في الطلاق الرجعي كوجوبها من البائن، فإذا لم يخص اللفظ بالبينونة، لم يجب إيقاع البينونة بها، فمن أجل ذلك قلنا في قوله: استبرئي رحمك: إنه رجعي؛ لأن استبراء الرحم، هو العدة في مثل ذلك، فصار كقوله: اعتدي. * وقوله: أنت واحدة: كناية عن الطلاق نفسه، والمعنى فيه: أنت طالق تطليقة واحدة، ومع ذلك فليس في اللفظ دلالة على البينونة. ولا يقع به إلا رجعيًا؛ لأن الواحدة لا تختص بالبينونة، ولا يدل عليها، لأن الواحدة تكون بائنًا، وتكون رجعيًا، فلم يجز إيقاع البينونة بها، فهو في هذا الوجه بمنزلة قوله: اعتدي وإن خالفه في موضوع معنى اللفظ؛ لأن الطلاق مدلول عليه في قوله: اعتدي، ويكنى عنه في قوله: أنت واحدة.

مسألة: [ألفاظ الطلاق البائن] قال أبو جعفر: (ومن قال لزوجته: أنت خلية، أو: برية، أو: بائن، أو: بتة، أو: حرام، أو: اعتدي، أو: أمرك بيدك، أو: اختاري، فقالت قد اخترت نفسي، فقال الزوج: لم أرد بذلك طلاقًا، فإن كان في ذكر طلاق: لم يقبل قوله، وكان ذلك طلاقًا بائنًا، غير اعتدي: فإنه رجعي". قال أبو بكر: إذا لم يكن في ذكر الطلاق: فالقول قوله؛ لأن اللفظ المحتمل للطلاق وغيره لا يوقع به الطلاق إلا بالنية، لما في حديث يزيد بن ركانة من الدلالة عليه، وقد بيناه. فإن كان في ذكر الطلاق: لم يصدق، نحو أن تقول له: طلقني، فأجابها بشيء من هذه الألفاظ. وذلك لأن دلالة الحال في مثل ذلك قائمة مقام النطق به، ألا ترى أن رجلًا لو قال لآخر: طلقت امرأتك؟ فقال: نعم، كان ذلك كقوله: نعم طلقتها، وإن كانت: "نعم": ليست عبارة عن الطلاق، ولا فيها دلالة عليه. وقال الله تعالى: {فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا قالوا نعم}، فقام ذلك مقام قولهم: وجدنا. * وإنما كان سائر الألفاظ التي ذكرنا بائنًا، غير: "اعتدي"؛ لأن الرجل يملك إبانتها، ويقطع ما بينه وبينها من الزوجية، والدليل على

ذلك: أنه يجوز أن يأخذ منها عوضًا، ولولا أنه يملك البينونة، لما جاز أخذ البدل عنها؛ لأنه لا يجوز أن يستحق بدل ما لا يملكه. فإن قال قائل: لو قال: أنت طالق، ونوى البينونة: لم تبن، ومع ذلك يجوز له أخذ البدل، بأن يقول لها: أنت طالق على ألف درهم، فيستحق عنه العوض، ومع ذلك لا يصح منه إيقاع البينونة بهذا اللفظ، إذ لم يعقده بشرط العوض. قيل له: إنما يقع الطلاق باللفظ المقتضي للبينونة، فأما اللفظ الذي لا دلالة له فيه على البينونة، فلا يصح إيقاع البينونة به. وقوله: أنت طالق: إذا أفرده عن ذكر المال: لم يدل على البينونة، فإذا عقده بالمال، فقد دل على البينونة بذكره البدل، وشرط استحقاق البدل، فصار كقوله: أنت طالق بائن إن حصل لي البدل، فإذا لم يحصل لي البدل لم تكن بائنًا. * وأما قوله: أنت بائن: ونظائره من الألفاظ المقتضية للبينونة، فإن البينونة موجودة في اللفظ، فوجب إيقاعها به. ودليل آخر: وهو أن قوله: أنت بائن، ونحوه: لا يقع بها الطلاق إلا بانضمام النية إلى اللفظ، ومتى انفرد أحدهما عن الآخر لم يقع به طلاق، ونحن فمتى لم نوقع البينونة بها، فقد أسقطنا اللفظ، ومتى عريت النية من اللفظ لم يقع بها طلاق. وأيضًا: فقد اتفق الجميع على أنه لو نوى بها ثلاثًا كانت ثلاثًا، من

حيث اقتضى اللفظ بينونة الثلاثة، ودل عليها، فينبغي أن تقع به واحدة بائنة من حيث دل اللفظ عليها. فصل: [أثر النية في ألفاظ الطلاق] قال أبو جعفر: (وإن أراد بهذه الألفاظ ثلاثًا: كانت ثلاثًا إلا في: اعتدي، واختاري، فإن قوله: اختاري: لا يقع به إلا واحدة بائنة). قال أبو بكر: أما قوله: اعتدي: فلما قلنا إنه ليس فيه دلالة على البينونة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسودة: "اعتدي، ثم راجعها". وأما: اختاري: فليس من ألفاظ الطلاق؛ لأن الزوج لا يمكنه إيقاع الطلاق بها لو قال لها: خيرتك، وأراد الإيقاع بنفس اللفظ: لم يقع، وإنما يقع به الطلاق من جهة الحكم تشبيهًا بسائر أنواع الخيارات الحادثة على الزوجية في إيجاب الفرقة، ولا يقع به أكثر من واحدة، نحو خيار امرأة المجبوب، والعنين. مسألة: [أثر النية في الفاظ الطلاق حال الغضب] قال أبو جعفر: (وإن كان ذلك منه في غضب، وقال: لم أرد به طلاقًا، لم يصدق في: اعتدي، و: اختاري، و: أمرك بيدك، وصدق في الخمس البواقي).

قال: (وروي عن أبي يوسف أن قوله: قد خليت سبيلك، و: لا ملك لي عليك، و: لا سبيل لي عليك: بمنزلة هذه الخمس التي أوقع أبو حنيفة الطلاق بها). قال: (وروي عن أبي يوسف أيضًا أنه قال: قد فارقتك، و: قد خلعتك: بمنزلتهن أيضًا). قال أبو بكر: أما قوله في الخمس البواقي، فإنه يحتمل وجهين: يحتمل الشتيمة والسب، ويحتمل الطلاق، وليست دلالة الحال بأظهر في الطلاق منها في الشتيمة، فصدق على ما نوى. وأما قوله: اعتدي، و: اختاري، و: أمرك بيدك: فلا يحتمل السب والشتيمة، وحال الغضب يدل على قصد الطلاق والبينونة بهذه الألفاظ، فكذلك لم يصدق على أنه لم يرد الطلاق. قال أبو بكر: وأما قوله لها: اذهبي، و: قومي، أو: استتري، أو: تقنعي، أو: تخمري: فإنه إن نوى بها الطلاق: كان طلاقًا بائنًا، إلا أن ينوي ثلاثًا: فيكون ثلاثًا، وسواء كان في ذكر غضب، أو طلاق، فهو مصدق في أنه لم يرد الطلاق. وهو مفارق لجميع ما قدمنا ذكره من الألفاظ، من قبل أن البينونة مدلول عليها بهذه الألفاظ، وليست الألفاظ كناية عنها، فهو مصدق

على ما نوى بها في الغضب وذكر الطلاق، وغيره. فإن قيل: فقوله: اعتدي: ليس من ألفاظ الطلاق، فلم لا نصدقه على نفي إرادة الطلاق في حال الغضب؟. قيل له: إنما اختلفنا من جهة أن قوله: اعتدي: فيما يتعلق به من حكم الطلاق، بمنزلة صريح الطلاق، ألا ترى أنه لا يقع به إلا رجعي، وليس كذلك سائر ما وصفنا. وأيضًا: فإن قوله: اعتدي: قد وردت به السنة في إيقاع الطلاق به، ولم ترد في سائر ما ذكرنا من الألفاظ. وأيضًا: فإن دلالة: اعتدي: على الطلاق، أظهر من دلالة اللفاظ التي ذكرنا؛ لأن العدة موجبة عن الفرقة، مختصة بها. والتقنع، والاختمار، والتستر، لا تدل بأنفسها على الطلاق، إذ ليست مختصة بها. وأيضًا: فإن هذه الألفاظ قد تحتمل معاني غير الطلاق مع ذكر الطلاق والغضب، وهو الإقصاء، والإعراض، بأن يقول لها: اخرجي: على جهة الطرد والإبانة، و: استتري: يريد به الإعراض عنها في ترك النظر إليه، فصدق من أجل احتمال اللفظ لذلك على ما أراد.

مسألة: [حكم طلاق الثلاث في كلمة واحدة] قال أبو جعفر: (ومن طلق امرأته ثلاثًا في كلمة واحدة، وقد دخل بها، أو لم يدخل: طلقت ثلاثًا، ولا تحل له إلا بعد زوج يدخل بها). قال أبو بكر: أما وقوع الثلاث معًا على المدخول بها، فهو إجماع السلف من الصدر الأول، ومن بعدهم من التابعين، وفقهاء الأمصار. ولم يجعل أصحابنا قول من نفى من وقوع الثلاث معًا خلافًا؛ لأنهم قالوا فيمن طلق امرأته ثلاثًا معًا، ثم وطئها في العدة: أن عليه الحد، ولم يجعلوا قول من نفى وقوعه بشبهة في سقوط الحد عنه. * وأما طلاق الثلاث معًا لغير المدخول بها، ففيه خلاف بين السلف. قال علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وابن مغفل، وأنس، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وسعيد بن المسيب: إنه تقع الثلاث معًا إذا قالهن في كلمة واحدة. وقال الحسن، وعطاء، وطاوس، وجابر بن زيد: إذا طلقها ثلاثًا قبل

الدخول: فهي واحدة، وروي عن ابن عباس مثله في إحدى الروايتين. * والدليل على وقوع الثلاث على المدخول بها في الطهر الواحد قول الله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}، وظاهره يقتضي وقوع الثلاث في الطهر الواحد، بأن تطلق ثنتين، ثم واحدة. فإن قيل: هذا محمول على قوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن}. قيل له: نستعمل الآيتين جميعًا، فنقول: إن المأمور به هو الإيقاع للعدة بهذه الآية، فإن لم يفعل وطلق لغير العدة، جاز بالآية الأخرى. ويدل عليه قوله تعالى في سياق الآية: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}، ولولا وقوع طلاقه لغير السنة، لما كان ظالمًا لنفسه، ولا متعديًا لحدود الله، وكان بمنزلة من تكلم بكلمة لغو، لا حكم لها، ولا يصير بها ظالمًا لنفسه. وأيضًا: كونها منهيًا عنها، لا يمنع وقوعها؛ لأن الله تعالى جعل الظهار منكرًا من القول وزورًا، وألزمه مع ذلك حكم التحريم. ويدل عليه من جهة السنة: قصة يزيد بن ركانة حين طلق امرأته ألبتة،

فحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد إلا واحدة، فلولا أن الثلاث كانت تقع بإرادته، ما كان لتحليفه عليها معنى. ويدل عليه حديث ابن عمر، وقد ذكرنا إسناده، أنه قال: "يا رسول الله! أرأيت إن طلقتها ثلاثًا؟ فقال: إذا عصيت ربك، وبانت منك امرأتك". وحديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من طلق امرأته للبدعة، ألزمناه بدعته". وأيضًا: في حديث عبادة الذي قدمناه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أباكم لم يتق الله، فلم يجعل له مخرجًا، بانت منه بثلاث على غير السنة". ومن جهة النظر: إن الزوج قد ملك الثلاث بعقد النكاح، فمن حيث ملك التفريق، وجب أن يملك الجمع، كما أن من له تزويج أربع نسوة متفرقات، جاز له أن يجمعهن في عقدة. فإن قال قائل: إنما ملك بعقد النكاح ثلاثًا يوقعهن في أطهار متفرقة، مثل الوكيل بإيقاع الثلاث في أطهار، ولا يجوز له جمعهن. قيل له: الوكيل لا يملك الطلاق بحال، وإنما هو معبر عن غيره، غير مطلق لنفسه، والزوج مالك للطلاق، ويطلق لنفسه، ألا ترى أن أحكام

الطلاق تتعلق به، ولا تتعلق بالوكيل، فدل أنه مالك يوقع ما أوقعه من الثلاث المملوكة بالعقد. فإن قال قائل: روي عن ابن عباس "أن الثلاث كن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر: واحدة، فلما رأى عمر الناس قد تتابعوا في الطلاق، أجاز ذلك عليهم". قيل له: هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون لما رأى الناس يطلقون ثلاثًا في أطهار متفرقة قال: هذه الثلاث التي توقعونها، كان الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر إنما يطلقون واحدة، ثم إن عمر أجاز عليهم، ولم ينكره؛ لأنه جائز لهم أن يطلقوا ثلاثًا للسنة. والوجه الآخر: أن يكون مراده في الطلاق الثلاث قبل الدخول، وقد روي ذلك عنه على هذا الوجه، وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عبد الملك بن مروان قال: حدثنا أبو النعمان قال: حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس عن ابن عباس قال: "كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها: جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرا من إمارة عمر، فلما رأى عمر الناس قد تتابعوا فيها، فقال: أجيزوهن عليهم". ووجه ذلك عندنا: أن يقول لها: أنت طالق، وطالق، وطالق، فتقع

الأولى، وتبين بها، ولا يقع ما بعدها؛ لأنه صادفها وهي أجنبية. فصل: وأما وجه إيقاع الطلاق الثلاث على غير مدخول بها: فهو أنه قد ملك الثلاث بعقد النكاح، وله إيقاعها مع بقاء الملك، إذ لا فرق بين الواحدة وبين الثلاث في أنه مالك للجميع، وإيقاعه صادف ملكا. والدليل على أنه قد ملك الثلاث بعقد النكاح: أنه لو طلقها واحدة فبانت منه، ثم تزوجها، ثم طلقها، ثم تزوجها فطلقها أخرى، أنها تبين بثلاث، فعلمنا أنه ملك الثلاث بالنكاح الأول، ألا ترى أنه لم يجعل الطلاق الثاني طلاقًا مستأنفًا، فدل ذلك على أنه قد ملك الثلاث بالنكاح الأول، ولا يختلف فيها حكم المدخول، وغير المدخول، كما لا يختلف حكمها في إيقاع الواحدة. وأيضًا: فإن الدخول لا يحدث له ملك طلاق، ولو دخل بها ثم طلق ثلاثًا معًا: وقعن كذلك قبل الدخول. فإن قيل: لما قال: أنت طالق: فقد بانت قبل أن يقول ثلاثًا، فلا يقع إلا واحدة. قيل له: هذا فاسدًا؛ لأن الكلام إنما يتعلق حكمه بآخره، ألا ترى أنه لو قال: أنت طالق على ألف درهم: لم يجز لنا إفراد الطلاق عن المال، وكذلك لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار، فإنا نعلق طلاقه بالشرط وإن لم يدخل بها، كذلك قوله: أنت طالق ثلاثًا.

مسألة: [خيار المجلس في الطلاق] قال: (ومن خير امرأته، أو جعل أمرها بيدها: فإن لها الخيار ما دامت في مجلسها وإن مكثت يومًا، ما لم يقم، أو يأخذ في عمل آخر). قال أبو بكر: الأصل في تعلق الخيار على المجلس: ما روي عن عمر، وعثمان، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، في آخرين من التابعين، ولم يرو عن أحد من نظرائهم خلافه من وجه صحيح، فصار إجماعًا من السلف، وصار ذلك أصلًا في نظائره من سائر ألفاظ التمليك أنها على المجلس. * وما جعل إلى المرأة من أمرها منه، فإنه سواء كان على وجه التمليك أو التوكيل: فهو على المجلس، ما لم يكن في اللفظ دليل على ما بعد المجلس. وذلك لأنها لا تكون وكيلًا في أمر نفسها، فسواء قال لها: أمرك بيدك، أو: طلقي نفسك إن شئت، أو: إن أحببت: فإن ذلك لا يختلف حكمه في تعلقه بالمجلس. والمعنى في جميع ذلك: أنه تمليك للطلاق يتعلق على المجلس، والأصل فيه ما ثبت عن السلف من تعلق الخيار على المجلس.

* ويجوز أن نرده إلى أصل آخر، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا"، فأوجب لكل واحد منهما خيار القبول في المجلس الذي أوجبه له فيه. والمعنى فيه: أن قوله: قد بعتك هذا العبد بألف درهم: يوجب له تمليك القبول، إذ لا يجوز أن يكون توكيلًا، فلما تعلق تمليك القبول على المجلس، اعتبرنا ذلك في سائر ألفاظ التمليك، كالذي يقول لامرأته: طلقي نفسك، أو: أمرك بيدك، و: اختاري، ونحو ذلك. * وقال أصحابنا في الرجل يقول للرجل: طلق امرأتي، أو: اعتق عبدي: أن له أن يطلق، ويعتق بعد القيام من المجلس وقبله، وذلك لأن هذا التوكيل، والوكالة لا تتعلق على المجلس، وفرقوا بينه، وبين قوله للمرأة: طلقي نفسك، وللعبد: أعتق نفسك، في تعلقه على المجلس، وبين قوله ذلك لأجنبي؛ لأنهما لا يكونان وكيلين فيما جعل إليهما من الطلاق والعتق، والأجنبي يكون وكيلًا في ذلك. وإنما يكونا وكيلين في ذلك؛ لأنهما يوقعان ذلك لأنفسهما، ولا يكون الإنسان وكيلًا لغيره فيما يوقعه لنفسه.

ألا ترى أن المشتري لا يكون وكيلًا فيما ملك من القبول؛ لأنه قبله لنفسه، كذلك المرأة والعبد فيما ملكا من العتق والطلاق، وأما إذا فوض ذلك إلى الأجنبي بألفاظ التمليك، فإنه يتعلق على المجلس أيضًا، نحو قوله: طلق امرأتي إن شئت، أو: أحببت، أو: هويت، أو نحو ذلك، أو قال له: أمرها بيدك، أو قد خيرتك في طلاقها، فإن جميع ذلك يتعلق على المجلس، لأنه من ألفاظ التمليك. [مسألة:] قال أبو جعفر: (فإن كانت قائمة فجلست: فهي على خيارها، وكذلك لو كانت متكئة فجلست، أو قاعدة فاتكأت، أو كانت تسير على دابة أو محمل فوقفت: فهي على خيارها). قال أبو بكر: الأصل فيه: أن كل ما دل من فعلها على الإعراض عن الجواب، وترك الإيقاع: فإنه ببطل الخيار، وما لم يدل على ذلك: فإنه لا يبطل الخيار. فقلنا على ذلك: إن جلوسها وهي قائمة لا يدل على الإعراض عن الجواب؛ لأنها يجوز أن تعقد لتتروى في أمر الخيار؛ لأن حال العقود أجمع للرأي والفهم. وكذلك لو كانت متكئة فقعدت، أو قاعدة فاتكأت؛ لأن الإنسان قد ينتقل إلى هذه الأحوال قاصدًا به اجتماع رأيه وفكره، ولينظر فيما جعل إليه من ذلك، فلم يكن في ذلك دليل على الإعراض عن الجواب.

* قال: "إن كانت راكبة، فسارت فلا خيار لها". وذلك لأن سيرها يدل على الإعراض عن الجواب، كالمشي. * (وأما السفينة فهي بمنزلة البيت): لا يبطل خيارها بسيرها، والفرق بينها وبين الدابة: أن راكب الدابة هو الذي يسيرها، وراكب السفينة ليس هو الذي يسيرها. * قال: (وإذا قالت: ادع أبي أستشيره، أو ادع لي شهودًا أشهدهم على اختيار نفسي: فهي على خيارها). وذلك لأن هذا من أمر الخيار، فلا دلالة فيه على ترك الجواب. مسألة: [ما يتضمنه تخيير الزوجة في الطلاق] قال أبو بكر: واختلف السلف فيما يتضمنه الخيار من الإيقاع. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وإبراهيم النخعي، وسليمان بن يسار: إذا اختارت نفسها: فواحدة رجعية، وإن اختارت زوجها: فلا شيء. وقال علي بن أبي طالب: إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، وإن اختارت زوجها: فواحدة رجعية. وقال زيد بن ثابت: إن اختارت نفسها: فثلاثًا، وإن اختارت زوجها:

فواحدة رجعية، وهو قول الحسن. قال أبو بكر: قالت عائشة: "خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاخترناه، فلم يعده طلاقًا"، فهذا هو الأصل في أن الخيار ليس بطلاق ما لم تختر نفسها. فإن قال قائل: تخيير النبيىي صلى الله عليه وسلم نساءه لم يكن في الطلاق، وإنما كان بين الدنيا والآخرة. قيل له: هذه خطأ، من قبل أن عائشة سئلت عن الرجل يخير امرأته؟ فقالت: "خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاخترناه، فلم يعده طلاقًا"، فأخبرت أن تخيير النبي صلى الله عليه وسلم كان في الطلاق. وأيضًا: فإن تخييره إياهن بين الدنيا والآخرة، كان تخييرًا في الطلاق، لقول الله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن}. فأخبر أن من اختارت الدنيا منهن، فقد اختارت الفراق. * ولو يوجب أصحابنا به أكثر من واحدة، لما ثبت أن التخيير ليس من ألفاظ الطلاق، وأن وقوع الطلاق به من طريق الحكم، تشبيه بسائر الخيارات الحادثة في الأصول، فدل على أن ما كان فيه خيار لا يكون أكثر

من واحدة. فإن قال قائل: قوله: أمرك بيدك: ليس من ألفاظ الطلاق؛ لأنه لو أراد به الإيقاع قبل اختيارها نفسها، لم يقع، فوجب على قضيتك أن لا يقع به أكثر من واحدة. قيل له: ليس كذلك، من قبل أن قوله: أمرك بيدك: كناية عن الطلاق، كقوله: طلاقك بيدك، والخيار ليس كذلك. وإنما لم يقع به طلاق إذا قال: أمرك بيدك؛ لأنه لم يوقع شيئًا، وإنما ملكها أمرها، ألا ترى أنه لو قال: طلاقك بيدك: لم يقع به شيء؛ لأنه لم يوقعه، وإنما ملكها الطلاق. ولو أنه قال: قد أوقعت أمرك، وأراد الطلاق: طلقت بذلك؛ لأنه من ألفاظ الإيقاع، ولو قال: قد أوقعت خيارك: لم يقع به شيء، فعلم أنه ليس من ألفاظ الطلاق. فصل: وإنما قلنا إن الذي يقع بالخيار بائن ليس برجعي، من قبل أن سائر الخيارات الحادثة في الأصول مما يوجب الطلاق، فإنه يوجبه بائنًا، وهذا شبيه بها. وأيضًا: فلو كان رجعيًا، لم يكن للخيار معنى؛ لأن التخيير إنما وقع في أن تملك نفسها به، والطلاق الرجعي لا تملك به نفسها.

مسألة: [ألفاظ لا يقع بها الطلاق] قال أبو جعفر: (ومن قال لامرأته: بارك الله فيك، أو: أطعميني، أو: اسقيني، ونوى به الطلاق: لم يقع). لأن الطلاق لا يقع بالنية دون اللفظ، وليس هذا القول من ألفاظ الطلاق، لا صريحًا ولا كناية. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا به أو يعلموا به". مسألة: [خيار المرأة في الطلاق] (ومن قال لامرأته: طلقي نفسك، أو قال: طلقي نفسك إن شئت: فهو سواء، وذلك على المجلس، وليس للزوج أن يرجع فيه). وذلك لما بينا من أن ذلك تمليك الطلاق على الوجهين، فتعلق على المجلس. وإنما لم يكن للزوج الرجوع فيه؛ لأنه بمنزلة الطلاق المتعلق بشرط، لأن ما كان تمليكًا، فإن وقوع الطلاق به متعلق بالمشيئة في المجلس، فصار كقوله: أنت طالق إن شئت، فلا يكون له الرجوع فيه، كما لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار، لم يكن له الرجوع فيه، كذلك كل ما كان

تمليكًا على المشيئة. مسألة: [التوكيل في الطلاق] قال: (ولو قال لأجنبي: طلق امرأتي: كان له أن يطلقها في المجلس وبعده ما لم ينهه، فإن نهاه قبل أن يطلق: لم يكن له أن يطلق). وذلك لأن هذه وكالة، والوكالة لا تتعلق بالمجلس، كالوكالة بالبيع، والعتق، ونحوهما، وله أن ينهاه؛ لأن له عزل الوكيل متى شاء. مسألة: [خيار المجلس في التوكيل] قال أبو جعفر: (ولو قال لأجنبي: طلق امرأتي إن شئت: كان ذلك على المجلس، وليس له أن ينهاه). لأن ذكر المشيئة دلالة التمليك، وجواب التمليك يتعلق بالمجلس، كخيار القبول في البيع، ونحوه على ما بينا فيما تقدم. ولا يصح نهيه عنه؛ لأن ما كان تمليكًا للطلاق، لا يصح فيه النهي، كالرجل يقول لامرأته: أنت طالق بألف درهم، فيتعلق قبولها

على المجلس، وليس للزوج الرجوع فيه قبل قبولها. وكقوله: هي طالق إن شئت في المجلس، وإن تكلمت في المجلس ونحوه من الكلام، وكذلك: هي مخيرة. فالتمليك يخالف التوكيل من وجهين: أحدهما: أن التمليك يتعلق بالمجلس، والوكالة ليس كذلك. والثاني: أنه لا يصح له الرجوع في التمليك، ويصح في الوكالة قبل الإيقاع. مسألة: [حكم اختيار نفسها] (ومن قال لامرأته: اختاري، فقالت: أنا اختار نفسي: كانت طالقًا). وذلك لأن قولها: أنا أختار نفسي، يصلح للحال وللاستقبال، والدليل على ذلك: قولك: أنا أعتقد الإسلام، معناه أنا معتقد له. وقال الله تعالى: {والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك}، والمعنى أنهم مؤمنون به. وأما احتماله للاستقبال، فهو كقولك: أنا أدخل الدار، وأنا أصلي،

ونحو ذلك، فلما احتمل اللفظ الأمرين جميعًا، كان قول الزوج مقتضيًا منها جوابًا في الحال، والاختيار لا يثبت حكمه إلا على وجه الجواب، فحملنا لفظه على الجواب، ليصح معناه، ونوفيه حظه من مقتضي الحال، فلذلك أوقعنا به الطلاق. مسألة: [لو قال: طلقي نفسك] قال أبو جعفر: (ولو قال لها: طلقي نفسك، فقال: أنا أطلق نفسي: لم تكن طالقًا). وذلك لأن قولها: أنا أطلق نفسي: مما يثبت حكمه على غير وجه الجواب؛ لأن لفظ الطلاق، وحكمه قائم بنفسه، لا يفتقر في صحة حكمه إلى كونه جوابًا، ألا ترى أنها إذا قالت: قد طلقت نفسي مبتدئة: صح حكمه، ووقف على إجازة الزوج، ولو قال لها الزوج: قد طلقتك: وقع به الطلاق. فلما كان لفظ الطلاق مما يثبت به حكمه بنفسه على غير وجه الجواب، لم نجعله جوابًا لاحتمال قولها: أنا أطلق نفسي، فلذلك لم يقع شيء. مسألة: [وصف الطلاق بصيغة المصدر] (وإذا قال لامرأته: أنت طالق طلاقًا: فإن نوى بواحدة فهي واحدة، يملك الرجعة، وإن نوى ثلاثًا فثلاث، وإن نوى ثنتين فواحدة، يملك

الرجعة). وذلك لأن قوله: طلاقًا: مصدر، والمصدر لا يختص بعدد دون عدد، ولا يصلح للواحد والجماعة، فهو في هذا الوجه يشبه لفظ الجنس والدليل على أن المصدر لا يختص بعدد: قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرًا}، فوصف الذكر بالكثرة، وهو مصدر، وإذا كان كذلك، صلح للواحد ولجميع عدد الطلاق. فإذا نوى واحدة: كانت واحدة، بمنزلة قوله: أنت طالق تطليقة. وإن نوى ثلاثًا: فثلاث؛ لأنه أراد جميع أعداد الطلاق. فإذا نوى اثنتين: فهي واحدة، من قبل أنه ليس في اللفظ عدد بعينه، وإنما فيه جملة عدد الطلاق أو أدناه، فأما عدد بعينه فليس يقتضيه اللفظ، فإذا لم ينو جملة الطلاق: كانت واحدة؛ لأن اللفظ محتمل لجماعة عدد الطلاق، وللواحدة، ولا يلزم به إلا واحدة؛ لأنها متيقنة، ولا نصرفه إلى الجماعة إلا بالنية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل ألبتة ثلاثًا إلا بالنية في قصة يزيد بن ركانة. وكذلك قوله: أنت طالق طلاق، وهو بهذه المنزلة؛ لأن قوله: الطلاق: اسم للجنس، والجنس لا يختص بعدد دون عدد، إنما يتناول

جميع ما يشتمل عليه الجنس أو على الواحد منه، كقوله: {لقد خلقنا الإنسان}، وقوله: {والسارق والسارقة}، ونحوهما من ألفاظ الأجناس، وقد بينا ذلك في الجامع الكبير عند قوله: إن تزوجت النساء. مسألة: [لو قال لها: أنت الطلاق] قال أبو جعفر: (ولو قال لها: أنت الطلاق: كان كذلك أيضًا". لأنه قد يعبر عن المفعول بالفعل، وعن الموصوف بالصفة، فيقام أحدهما مقام الآخر، كقول الشاعر: "خيل صيام وخيل غير صائمة". والصيام: فعل هو مصدر، كقولك: صمت صيامًا. وكما قال الآخر: ترتع ما رتعت حتى إذا ذكرت .... فإنما هي إقبال وإدبار

يعني مقبلة ومدبرة، وهو مشهور في اللغة. وأيضًا: يجوز أن يكون قوله: أنت الطلاق، معناه: أنت طالق الطلاق، فيكون قوله: أنت طالق، مضمرًا فيه، لدلالة اللفظ عليه. مسألة: [لو قال لها: أنت طالق] قال أبو جعفر: (ولو قال: أنت طلاق: لم يكن أكثر من واحدة). وفرق بينه وبين قوله: أنت الطلاق. قال أبو بكر: وهذا الذي ذكره أبو جعفر من الفرق بينهما، لا نعرفه إلا على رواية رواها بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في قوله: أنت طالق طلاقًا: أنه لا يكون إلا واحدة وإن نوى أكثر منها. وأما على الرواية المشهورة في التسوية بين قوله: أنت طالق الطلاق، وأنت طالق طلاقًا، فإنه لا يبين وجه الفرق بين قوله: أنت طلاق، وبين قوله: أنت الطلاق. وحكي لنا أن الكسائي سأل محمد بن الحسن عو قول الشاعر:

فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن .... وإن تخرقي يا هند فالخرق أشام فأنت طلاق والطلاق عزيمة .... ثلاث، ومن يخرق أعق وأظلم قال: فقال محمد: إن قال: والطلاق عزيمة ثلاث: طلقت واحدة بقوله: أنت طالق، وصار قوله: والطلاق عزيمة ثلاث: ابتداء وخبر غير متعلق بالأول، وإن قال: والطلاق عزيمة ثلاثًا: طلقت ثلاثًا، كأنه قال: فأنت طالق ثلاثًا، والطلاق عزيمة؛ لأن: "ثلاثًا": في هذه الحال تفير الموقع، فاستحسن الكسائي جوابه. مسألة: [تفويض الطلاق للزوجة بصيغة الأمر] قال: (وإذا قال لامرأته: طلقي نفسك، ينوي ثلاثًا، فطلقت نفسها: كانت طلاقًا ثلاثًا). وذلك لأن هذا أمر، والأمر لا يختص بعدد دون عدد، ألا ترى أمر الله إيانا بالصلاة، والصيام، وسائر الفروض لم يختص بعدد محصور، وجاز أن يريد به العدد الكثير، فصلح من أجل ذلك أن ينوي بقوله: "طلقي نفسك": ثلاثًا. مسألة: [قال: طلقي نفسك، فقالت: أبنت نفسي] (وإذا قال لامرأته: طلقي نفسك، فقال: قد أبنت نفسي: كانت طالقًا).

وذلك لأن البينونة تصح أن تكون طلاقًا؛ لأنه لو قال لها: قد أبنتك، ينوي الطلاق: طلقت، فجاز من أجل ذلك أن يكون قولها: قد أبنت نفسي: جوابا في إيقاع ما جعل إليها من الطلاق. * (ولو قالت: قد اخترت نفسي: لم يقع شيء). لأن الاختيار ليس من ألفاظ الطلاق. ألا ترى أنه لا يصح من الزوج إيقاع الطلاق بلفظ الخيار على ما بينا فيما سلف، ألا ترى أنه لو قال لها: قد خيرتك ونوى الإيقاع: لم يقع حتى تختار نفسها. مسألة: [تكرار لفظ الطلاق بلفظ الواو] (ولو قال لامرأته: أنت طالق، وطالق، وطالق، ولم يدخل بها: وقعت الأولى، ولم تقع غيرها). من قبل أنها قد بانت بالأولى قبل ذكر الثانية، فصادفتها الثانية وهي أجنبية، فلم تقع. وهذا هو عندنا معنى ما روي عن ابن عباس "أن طلاق الثلاث للتي لم يدخل بها: كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر: واحدة".

فإن قيل: هل وقفت حكم الكلام على آخره، كما لو قال: أنت طالق ثلاثًا. قيل له: لأن قوله: ثلاثًا: ليس بكلام مستقل، وإنما هو تفسير للفظ الأول، كقوله: أنت طالق بائن ونحوه، فوقف الكلام عليه. وقوله: "أنت طالق، وطالق، وطالق":الطلاق الثاني ليس بتفسير للأول، ولا هو مجموع إلى الأول في سبب جمعهما، فكان كلاما مستقلًا غير متعلق بالأول، فلم يقف أول الكلام عليه. مسألة: [تعليق الطلاق الثلاث بدخول الدار] قال أبو جعفر: (ولو قال: أنت طالق، وطالق، وطالق إن دخلت الدار، فدخلت الدار: طلقت ثلاثًا وإن لم يكن مدخولا بها). وذلك لأن الواو للجمع، وقد ذكر في آخر الكلام ما يوجب تعلق الجميع مجموعا به، وهو الشرط، فصار كقوله: أنت طالق ثلاثًا إن دخلت الدار، ولم تكن الواو للاستقبال في هذا الموضع، لما دل عليه بآخر الكلام. مسألة: قال: (ولو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، وطالق، وطالق، ولم يدخل بها، ثم دخلت الدار: طلقت واحدة بالدخول، ولا يقع مـ

بعدها في قول أبي حنيفة". لأنه يصير عند الدخول كالمتكلم بالجواب في ذلك الوقت، فتقع الأولى، وتبين بها، ولم يقع ما بعدها. "وفي قول أبي يوسف ومحمد يقع ثلاثًا". لأن الجميع متعلق بالدخول، والدخول شرط في وقوعهن، فصارت الثلاث مجموعة معلقة بالدخول. قال أبو بكر: قد قالوا جميعًا: إنه لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم طالق، ثم طالق: أنها إذا دخلت الدار وقعت الأولى قبل الثانية وإن كان الجميع معلقًا بالدخول، وجعلوه كأنها دخلت، ثم قال الزوج ذلك، وهذا يشهد لأبي حنيفة عليهما. * قال أبو جعفر: (والفاء مثل الواو في جميع ذلك). وذلك لأن: "الفاء": تقتضي الجمع، وهي كالواو من هذا الوجه وإن كانتا تختلفان من وجه آخر. مسألة: [استعمال لفظ: "ثم": في الطلاق] قال: (ولو قال: أنت طالق، ثم طالق، ثم طالق إن دخلت الدار،

وهي غير مدخول بها: فإنه تقع الأولى، وتبين في الحال، ويبطل ما بعدها في قول أبي حنيفة". لأن: "ثم": لما كانت للتراخي، فصلت بين الأولى والشرط، فوقعت في الحال، لأنه كالبادئ بإيقاعها. قال أبو بكر: وفي قول أبي يوسف ومحمد تتعلق الثلاث بالدخول، إلا أنها إذا دخلت: وقعت الأولى وبانت، ولم تقع الثانية والثالثة. فإن كانت مدخولًا بها: وقعت الثلاث واحدة بعد أخرى عندهما. وجه قول أبي حنيفة: أن: "ثم": للتراخي، وليست للجمع، فتقع الأولى وتبين، ويبطل ما بقي. وجعلها أبو يويف ومحمد للجمع، فتعلق الجميع بالدخول، إلا أنها وقعت على الترتيب. مسألة: [تعليق الطلاق بالشرط] قال أبو جعفر: (ولو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم طالق، ثم طالق: وقعت الثانية عند القول، وبانت، وبطلت الثالثة، ولا تقع أبدًا، والأولى معلقة بالدخول). وذلك لأن الأولى معلقة بالدخول، فلا تقع أو يوجد شرطها، والثانية مقطوعة عن الأولى: فتقع في الحال؛ لأنه طلاق مبتدأ، والثالثة

صادفتها وهي أجنبية، فلم تعمل. وفي قولهما: يتعلق الجميع بالدخول على وجه الترتيب، كأنه قال: إن دخلت الدار فأنت طالق تطليقة، وبعدها أخرى، وبعدها أخرى. مسألة: [اقتران الطلاق بلفظ بعد] قال أبو جعفر: (وإذا قال لها ولم يدخل بها: أنت طالق واحدة بعدها واحدة: وقعت الأولى وحدها). وذلك لأن المذكور أولًا هو الموقع أولًا، ألا ترى أنه لو قال: لقيت زيدا بعد عمر: أن زيدا هو المرئي أولًا. مسألة: قال أبو جعفر: (ولو قال: أنت طالق واحدة قبل واحدة: وقعت واحدة). للعلة التي ذكرناها، ألا ترى أنه لو قال: رأيت زيدًا قبل عمر: أن زيدًا هو المرئي أولًا. مسألة: قال: "ولو قال: أنت طالق واحدة قبلها واحدة: طلقت ثنتين". من قبل أن المذكور أولًا هو الموقع آخرًا، فيقع معه، ولا يقع قبله؛

لأنه لو قال: أنت طالق أمس، وقد تزوجها قبل أمس: طلقت الساعة، ولم تقع في الوقت الماضي، ألا ترى أنه لو قال: رأيت زيدا قبله عمرو: أن زيدا المذكور أولًا هو المرئي آخرًا. مسألة: قال: "ولو قال: أنت طالق واحدة مع واحدة: طلقت اثنتين". لأن: "مع": للمقارنة، حتى يقوم الدليل على غيرها، كقوله: لقيت زيدًا مع عمرو، وكذلك قوله: أنت طالق واحدة معها واحدة. مسألة: [تعليق الطلاق بالموت] قال: (ولو قال: أنت طالق مع موتي أو موتك: لم يقع شيء). لأن: "مع": في هذا الموضع للتعقيب، لدخولها على الشرط، وهي وإن كانت في الحقيقة للمقارنة، فإنها تدخل على الكلام، ويراد بها التعقيب. والدليل عليه: قول الله تعالى: {إن مع العسر يسرًا}، ومعلوم أنهما لا يكونان معًا، وإنما يكون أحدهما عقيب الآخر، فإذا دخلت على الشرط، كانت بمعنى: بعد، لدلالة اللفظ عليه، وذلك أن حكم الشرط أن يتقدم، فيكون الجواب بعده؛ لأنه جعله سببًا لوقوع الجواب، وحكم السبب أن

يتقدم المسبب. وإذا صح ذلك، صار قوله: أنت طالق مع موتي: بمنزلة قوله: أنت طالق بعد موتي. وكقوله: أنت طالق مع دخولك الدار، معناه: بعد دخولك الدار. مسألة: [تعليق الطلاق بشرط مستقبل] قال: (وإذا علق طلاقها بشرط مستقبل، سواء مما قد يكون، أو لا يكون: فإنه لا يقع شيء حتى يوجد الشرط، وليس عليه أن يعتزل امرأته". وذلك لأنه علق الطلاق بالشرط، ولم يوقعه في الحال، فلا يجوز إيقاعه دون وجود الشرط، كما لو قال: أنت طالق غدًا: لم يقع في الحال. وذلك لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}، وهذا عقد. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عند شروطهم". مسألة: [تعليق الطلاق على الغد] قال: (وإذا قال لامرأته: أنت طالق في غد: طلقت إذا طلع الفجر من

غد". وذلك لأن: "في": ظرف يجعل غدًا ظرفًا، لوقوع الطلاق فيه، فإذا وجد أول جزء منه: وقع، لوجود ما يقتضيه اللفظ. قال: "فإن قال: عنيت آخر النهار: دين في القضاء في قول أبي حنيفة". وذلك لأن لفظه مطابق لنيته، إذ كان وقوعه في آخر النهار، لا يخرج الوقت من أن يكون ظرفًا. وليس هذا بمنزلة قوله: أنت طالق غدًا؛ لأن هذا يقتضي أن تكون موصوفة بالطلاق في سائر أجزاء غد، لأن: "غدًا": اسم لجميع اليوم، وأما قوله: "في غد": فليس يقتضي ذلك، ألا ترى أنه لو قال: صمت شعبان: كان المعقول منه صوم جمعيه، ولو قال: صمت في شعبان: لم يعقل منه صوم جميع الشهر. مسألة: [تعليق الطلاق بمشيئة الله] قال أبو جعفر: (ومن قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله: لم يقع به شيء).

وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من خلف على يمين فقال: إن شاء الله، فقد استثنى". وفي بعض الأخبار: "فلا حنث عليه"، وقد بينا وجه ذلك فيما تقدم. مسألة: [تنصيف الطلاق] قال: (وإذا قال: أنت طالق نصف تطليقة: طلقت واحدة). وذلك لأن النصف يثبت حكمه في الأصول، كقولك: بعتك نصف هذا العبد، وأوصيت له بنصفه، فوجب أن يثبت النصف المذكور من التطليقة، ثم لما استحال وقوع النصف دون الباقي، وقع الجميع. ويحتج فيه أيضًا بعموم قوله تعالى: {الطلاق مرتان}، ولم يذكر نصفها الله تعالى ولا غيره، فعمومه يقتضي وقوع الجميع. وكذلك قوله: {فطلقوهن لعدتهن}، وسائر الآية الواردة في أحكام الطلاق.

مسألة: [لو قال: أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين] قال: (وإذا قال: أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين: طلقت ثلاث). لأن نصف التطليقتين واحدة، فصار كقوله: أنت طالق ثلاثًا. مسألة: [لو قال: أنت طالق قبل أن أتزوجك] قال أبو جعفر: (ومن قال لامرأته: أنت طالق قبل أن أتزوجك: لم يقع شيء). لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق قبل النكاح". * (وكذلك إذا قال: أنت طالق أمس، وإنما تزوجها اليوم). من قبل أن الوقت المضاف إليه الطلاق، لما لم يصح وقوع الطلاق فيه، لم يكن مطلقًا. * قال: "ولو كان تزوجها أول من أمس: وقع الطلاق الساعة". وذلك لأن الوقت المضاف إليه الطلاق، لما كان مما يصح أن يكون

مطلقًا فيه، فتكون طالقًا في الحال بطلاق موقع في ذلك الوقت، فتضمن هذا القول منه إيقاعًا في الحال. مسألة: [إضافة الطلاق إلى الأعضاء] قال: "ومن قال لزوجته: رأسك طالق: طلقت". قال أبو بكر: هذه المسائل على ثلاثة أنحاء: أحدها: إيقاع الطلاق بذكر عضو يعبر في العادة به عن سائر البدن: وقع به الطلاق، نحو قوله: رأسك طالق، أو: فرجك، أو: رقبتك، أو: وجهك. وذلك لأن الرأس يعبر به عن جميع البدن، كقولك: عندي كذا وكذا رأسًا من الرقيق، وعندي كذا وكذا فرجًا. وقال الله تعالى: {فتحرير رقبة}، وأراد الشخص. وقال تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه}، وأراد ذاته. فما كان بهذا الوصف من الألفاظ فهو بمنزلة قوله: أنت طالق. والثاني: ما كان عبارة عن جزء شائع في جميع البدن، مثل النصف، والربع: فيقع به الطلاق، وذلك لأن الجزء الشائع في الجميع يثبت حكمه

في الأصول، فوقع به الطلاق، ووقوعه في البعض، يقتضي وقوعه في الكل. والثالث: أن يذكر عضوًا بعينه لا يعبر به عن جميع البدن، مثل اليد، والرجل، والشعر: فلا يقع به شيء. لأن هذه الأعضاء لا يثبت حكمها في الأصول إلا على الوجه التبع، فلا يجوز إيقاع الطلاق فيه، ثم إلحاق الأصل به، لأنا لو فعلنا ذلك كنا قد أثبتنا حكمه لا على وجه التبع، وهذا لا يجوز. ألا ترى أنه ليس شيء من العقود يحتمل من الجهالة ما تحتمله الوصايا. ولا يصح مع ذلك في عضو بعينه من أعضاء الإنسان، فثبت أنه لا يتعلق به حكم في الأصول، فلم يتعلق به حكم فيما وصفنا. قال أبو بكر: وقال زفر: يقع الطلاق في قوله: يدك أو: رجلك طالق؛ لأن الطلاق في هذه الأعضاء لا يصح إلا بطلاق الأصل، فصار موقعا للطلاق في الأصل. قال أبو بكر: وهذا غير واجب؛ لأن الطلاق ينبغي أن يثبت في الموقع فيه، ثم يتبعه غيره، فأما أن يوقعه في الأصل الذي ليس بمذكور، ويتبعه المذكور، فهذا ضد مقتضي اللفظ.

مسألة: [الشك في الطلاق] قال: (ومن شك في طلاق امرأته: فهي امرأته حتى يتيقن). وذلك لأن أصل النكاح يقين، فلا يزول بالشك، ألا ترى أن من كان على يقين من الطهارة لم تزل طهارته بالشك، وكذلك من كان حدثه يقينه لم يرتفع إلا بيقين. مسألة: [قال لامرأتيه: إحداكما طالق] قال: (ومن قال لامرأتيه: إحداكما طالق ثلاثًا، ولم ينو واحدة بعينها: فإنه قد طلقت إحداهما بغير عينها، ويؤخذ بإيقاعها على إحداهما بعينها). وذلك لأن جهالة المطلقة لا يمنع صحة الإيقاع، كما أن جهالة القفيز المبيع من هذه الصبرة لا يمنع صحة البيع، ويكون الزوج مخيرا في تعيينه في أيتهما شاء، كما أنه لو باع قفيزًا من صبرة كان عليه تعيين قفيز منها من أي جوانبها شاء. ويدل عليه حديث الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه "أنه أسلم وتحته أختان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طلق أيتهما شئت". فلما لم يكن يد من فراق إحداهما: جعل الخيار إليه فيهما.

مسألة: قال أبو جعفر: (فإن مات الزوج قبل أن يبين، وهما غير مدخول بهما: فلهما جميعًا الصداق، ونصف بينهما نصفين، والميراث بينهما نصفين". وذلك لأن إحداهما قد طلقت، وسقط نصف مهرها، ولا نعرفها بعينها، فيدخل ضرره عليهما، فيكون المهر والنصف بينهما نصفين، لتساويهما فيه. وكذلك الميراث بينهما؛ لأن إحداهما امرأته مستحقة للميراث، والأخرى أجنبية لا شيء لها، فلما لم تعرف بعينها: تساويا جميعًا في دعوى الميراث، فكان بينهما. مسألة: [تشبيه الطلاق بالجبل] قال: (وإذا قال لها: أنت طالق مثل الجبل: طلقت تطليقة بائنة في قول أبي حنيفة). لأن تشبيهه إياها بالجبل يقتضي أن يكون المراد في عظم الجبل. ولم يختلفوا أنه لو قال: أنت طالق مثل عظم الجبل: أنها بائن. (وقال أبو يوسف ومحمد في قوله: أنت طالق مثل الجبل: أنه

رجعي". إذ ليس في اللفظ ما يقتضي البينونة. مسألة: [الطلاق بملء الكون] قال: (ولو قال: أنت طالق ملء هذا الكون: فهي تطليقة بائنة في قول أبي حنيفة". لأنه قد وصف الطلاق بضرب من العظم، وإذا وصفه بضرب من العظم كان بائنًا. وفي قولهما: هو رجعي، كقوله: أنت طالق من هاهنا إلى الشام، ونحوه؛ لأنه لم يصف الطلاق بشيء، وإنما جعله في موضع دون موضع. وفي قولهما أيضًا: إن أراد ثلاثًا: كان ثلاثًا؛ لأنه يصح أن يريد به صفة التطليقة، فيكون واصفًا لها بضرب من العظم، فيصح إرادة البينونة العظمى. * قال: "ولو قال: أنت طالق تطليقة تملأ الكون: كانت طالقًا تطليقة بائنة في قولهم جميعًا". لأن هذه صفة راجعة إلى التطليقة، يقتضي لها زيادة عظم، وتلك

الزيادة لا تكون إلا بينونة. مسألة: [من طلق كألف طلاق] قال: "ومن قال لامرأته: أنت طالق كألف: فهي واحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثًا". وذلك لأن: "الكاف": حرف تشبيه يقتضي المساواة بينهما من وجه دون وجه. ثم لا يخلو من أن يكون تشبيهه بالألف من طريق البينونة، أو العدد، فلو جعلنا من جهة العدد: لسقط معنى التشبيه، وصار كقوله: أنت طالق ألفًا، وفي وجوب إثبات حكم اللفظ ما يوجب أن يكون التشبيه واقعًا من جهة البينونة دون العدد. مسألة: [مشيئة المرأة في الطلاق] قال: (ولو قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، فقالت: قد شئت، إن كان كذا لشيء ماض: وقع). لأنه موقع في الحال؛ لأن الماضي لا تنعقد به اليمين، وإنما هو الإيقاع في الحال، إذ كانت الأيمان إنما تنعقد على شروط مستقبلة، وما علقه بفعل ماض فليس بيمين، وإنما هو إيقاع في الحال. ولو قالت ذلك لشيء مستقبل: لم يقع، وخرج الأمر عن يدها؛ لأن

ذلك عقد يمين، ولم يجعل إليها عقد اليمين، وإنما جعل إليها الإيقاع. مسألة: [التعبير عن الطلاق بالشديد والطويل وغيره] قال: (ومن طلق امرأته تطليقة شديدة، أو طويلة، أو عريضة: كانت طالقًا تطليقة بائنة). وذلك لأنه وصف التطليقة بضرب من العظم، وتلك الزيادة التي وصفها به ينبغي أن يكون بينونة، إذ لو لم تثبت البينونة كنا قد ألغينا الصفة مسألة: [الطلاق من ههنا إلى الشام] قال: (ولو قال أنت طالق من ههنا إلى الشام: كانت طالقًا تطليقة رجعية). لأنه لم يصف التطليقة بشيء، وإنما وصف المرأة بأنها طالق في مكان دون مكان، وهي متى طلقت في موضع: طلقت في سائر المواضع، وتخصيصه لبعض المواضع بكونها طالق فيه لغو لا معنى له. مسألة: [الطلاق بلفظ أقبح الطلاق] قال: "ولو قال: أنت طالق أقبح الطلاق: فهو بائن، إلا أن ينوي ثلاثًا".

وذلك لأن أقبح الطلاق: أن يكون لغير السنة، ويكون منهيًا عنه، وذلك قد يكون واحدة بائنة، ويكون ثلاثًا، فيلزمه الأقل، ولا يلزمه الأكثر إلا باعترافه. مسألة: [الطلاق بلفظ أحسن الطلاق] قال: (ولو قال: أنت طالق أحسن الطلاق: كان للسنة). لأن أحسنه أن يكون للسنة، وهذا إنما أقع ضربًا من الطلاق دون ضرب، فيقع على ما أوقع. مسألة: [الطلاق بلفظ حسنة وجميلة] قال: "ولو قال: أنت طالق تطليقة حسنة، أو جميلة: وقعت واحدة في الحال وإن كانت حائضًا". وذلك لأنه لم يصف الطلاق إلى وقت، ولم يعلقه بشرط، وما كان هذا وصفه من الطلاق: فهو واقع في الحال. وليس هذا كقوله: أحسن الطلاق؛ لأنه موقع في هذا ضربًا من الطلاق دون ضرب، وقوله: تطليقة حسنة: إيقاع في الحال؛ لأن التطليقة لا توصف بأنها حسنة. وجعل أبو يوسف قوله: تطليقة حسنة: بمنزلة قوله: أحسن الطلاق،

فتقع للسنة. مسألة: [طلاق المخيرة] قال: "إذا قال لامرأته: اختاري، اختاري، اختاري، فقالت: قد اخترت نفسي بالأولى، أو الوسطى، أو الأخرى: فهي طالق ثلاثًا، وقال أبو يوسف ومحمد: هي واحدة. ولو قالت: قد طلقت نفسي واحدة: كانت طالقًا واحدة بائنًا في قولهم جميعًا". مسألة: "ولو قالت: قد اخترت نفسي بواحدة، أو قالت: قد اخترت نفسي واحدة: كانت طالقًا ثلاثًا في قولهم جميعًا". قال أبو بكر: هاتان المسألتان لا خلاف فيهما، وذلك لأن قولها: قد اخترت نفسي بتطليقة، أو: طلقت نفسي واحدة: لا إشكال فيه أنه اختيار منها لتطليقة واحدة مما ملكت من التطليقات الثلاث بالتخييرات المختلفة، وقولها: قد اخترت نفسي بواحدة، بمنزلة قولها: بمرة واحدة. وكذلك قولها: قد اخترت نفسي واحدة، كأنها قالت: مرة واحدة،

وهي تكتفي باختيار واحدة في إيقاع الثلاث؛ لأنها لو قالت: قد اخترت نفسي: لوقع الثلاث في قولهم جميعًا، وكان ذلك جوابًا لجميع الكلام. وذلك لأن الجواب بالواحدة يجوز أن يحصل به اختيار الثلاث، بمنزلة الشرط الواحد، يجوز أن يحنث به في أيمان كثيرة. ألا ترى أنه لو قال لها: أنت طالق إن شئت، أنت طالق إن شئت، أنت طالق إن شئت، فقالت: قد شئت: أنها تطلق ثلاثًا، ويكون قولها: قد شئت: جوابا عن جميع ما ملكت من مشيئة الطلاق. وإذا صح هذا، قلنا في قوله: قد اخترت نفسي بالأولى التي ملكتها، يحتمل أن يكون راجعًا إلى الاختيار، ويحتمل أن يكون راجعًا إلى التطليقة الأولى، وكان صرفه إلى الاختيار أولى منه إلى التطليقة؛ لأن التخيير موجود في لفظ الزوج، والطلاق غير موجود فيه، وإنما يقع من جهة الحكم، فكان صرفه إلى ما اقتضاه لفظ الزوج من الاختيار أولى من صرفه إلى الطلاق. ومن جهة أخرى: إنها لو قالت: قد اخترت نفسي: كان ذلك جوابا للتخييرات الثلاث، فإذا قالت: بالأولى، واحتمل أن يكون راجعًا إلى التطليقة الأولى، واحتمل الاختيار الأول: لم يغير حكم قولها: اخترت نفسي بالاحتمال، ولم يخرجه عن حد الجواب لجميع الكلام بالجواب، فوقعت الثلاث، وأقل أحواله حين احتمل الأمرين جميعًا، أن يسقط حكمه، ويبقى قولها: اخترت نفسي، فيقع به الثلاث. * (وأبو يوسف ومحمد صرفاه إلى التطليقة).

لأنه لما احتمل صرفه إلى التطليقة، واحتمل صرفه إلى الاختيار لم يلزماه الثلاث بالشك. فصل: [صورة جديدة للمسألة السابقة المخيرة] قال: (ولو كان يشترط في الآخرة ألف درهم، فقالت: قد اخترت نفسي بالأولى: وقع الثلاث، ولزمها ألف في قول أبي حنيفة). لأن ذلك عنده اختيار الثلاث، فقد اختارت التطليقة الأخيرة المشروط فيها الألف. (وفي قول أبي يوسف ومحمد: يقع واحدة بغير مال). لأنهما رداه إلى التطليقة الأولى، وليس فيها مال. * وإن اختارت نفسها بالآخرة: لزمها ألف في قولهم جميعًا، ويقع الثلاث في قول أبي حنيفة، وفي قولهما: تقع الأخيرة فحسب. مسألة: [صورة جديدة لمسألة المخيرة] قال: (ولو قال: اختاري، واختاري، واختاري بألف درهم، فاختارت نفسها بالأولى: طلقت ثلاثًا، وعليها ألف درهم، في قول أبي حنيفة).

لأنه لما أدخل: "الواو": عليها، و"الواو" بابها الجمع، صار كقوله: اختاري ثلاثًا بألف درهم، واختيارها للأولى اختيار الثلاث في قول أبي حنيفة، فطلقت في قوله ثلاثًا بألف. "وأما قول أبي يوسف ومحمد: فإنها لا تطلق". لأن عندهما: أن اختيارها للأولى، إنما هو اختيار تطليقة واحدة من الثلاث، فلو جاز لوقعت بثلث الألف، وهو لم يرض بأن تملك بضعها إلا بحصول الألف له، فلا يجوز أن تملكه بثلث الألف، كرجل قال لامرأته: طلقي نفسك ثلاثًا بألف درهم، فطلقت نفسها واحدة: فلا يقع شيء. مسألة: [اقتران الطلاق بحرف: "الباء"] قال: " (إذا قالت له امرأته: طلقني ثلاثًا بألف درهم، فطلقها واحدة: طلقت واحدة بثلث الألف). لأن: "الباء": تصحب الأبدال، وليس فيها معنى الشرط، فجعلت الألف بدلا من الثلاث، لكل واحدة ثلث الألف، فلا يكون إيقاع الثلاث شرطًا في استحقاق المال؛ لأنه ليس في اللفظ ما يوجب أن يكون بعضها شرطًا في بعض، وقد رضي الزوج بأن يملكها نفسها بثلث اللف، فوقعت الواحدة. وليس ذلك مثل قول الزوج لها: طلقي نفسك ثلاثًا بألف، فتطلق نفسها واحدة؛ لأن الزوج لم يرض أن تملك بضعها إلا بالألف كلها، فلو

أوقعنا الواحدة: طلقت ثلاثًا بثلث الألف. [مسألة: اقتران الطلاق بحرف: "على"] * قال: (ولو قالت: طلقني ثلاثًا على ألف درهم، فطلقها واحدة طلقت واحدة بغير شيء في قول أبي حنيفة). وذلك لأن: "على": شرط، فقد جعلت وقوع الثلاث شرطًا في استحقاق المال. والدليل على أن: "على":شرط، أنك تقول: أعطيك هذا المال على أن تدخل الدار، و: على أن تكلم فلانا، فيكون ذلك شرطًا. وليس كذلك: "الباء"، لأن: "الباء": تصحب الأبدال في الأثمان، وليس فيها معنى الشرط. "وفي قول أبي يوسف ومحمد: تطلق واحدة بثلث الألف، كقولها: بألف". لأن الألف قد جعلت بدلا من الثلاث في المسألتين جميعًا. مسألة: [اقتران الطلاق بحرف: "من"، و: "إلى"]

(وإذا قال لها: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث: طلقت اثنتين قي قول أبي حنيفة). وذلك لأن الغاية لما كان من شأنها أنها تدخل في الكلام تارة، ولا تدخل أخرى، ولم يكن في اللفظ دلالة على دخولها وخروجها: لم نثبتها بالشك. فإذا كان أصل اليقين بقاء الزوجية، صارت الثلاثة مشكوكا فيها، فلم نوقعها بغير دلالة. (وفي قولهما: يقع ثلاثًا)؛ لوجودها في لفظ الإيقاع، ولا يخرج منه شيء بغير دلالة، وقد بينا هذه المسألة في مواضع. مسألة: [اقتران الطلاق بلفظ: "ما لم"] قال: (وإذا قال لامرأته: أنت طالق ما لم أطلقك، ثم سكت: طلقت). وذلك لأن: "ما": في هذا الموضع بمعنى الوقت، كأنه قال: أنت طالق وقتًا لم أطلقك، فإذا وجد بعد اليمين وقت لم يطلقها فيه: طلقت باليمين. [مسألة:] قال: (ولو قال: أنت طالق إذا لم أطلقك: لم تطلق باليمين حتى

يموت، ولم يطلقها قبل ذلك، فتطلق في آخر أجزاء حياته في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: تطلق إذا سكت بعد اليمين). قال أبو بكر: لم يختلفوا أنه إذا قال: أنت طالق إن لم أطلقك: أنه على المهلة، وعلى أنه لا يحكم بتطليقها حتى يموت. ولم يختلفوا أيضًا أنه لو قال: أنت طالق متى لم أطلقك: أنه على الفور، فإن سكت عقيب اليمين: طلقت. واختلفوا في: "إذا": على الوجه الذي قدمنا، فجعل أبو حنيفة: "إذا": بمعنى: "إن"، وجعلها أبو يوسف ومحمد بمعنى: "متى". والأصل في ذلك أن: "إن": شرط محض، ليس فيه وقت، وأن: "متى": وقت، و: "إذا": شرط فيه معنى الوقت. ألا ترى أنه لو أراد أن تكون: "إذا": على الفور، كانت على الفور عندهم جميعًا، وأنه لو أراد أن تكون على المهلة: كانت على المهلة في قولهم. * وإذا كانت: "إذا": واسطة بين: "متى"، و: "إن": يحتمل أن يراد بها كل واحد من المعنيين في الحال: حملها أبو حنيفة على المهلة، وذلك لأن وقوع الطلاق في الحال مشكوك فيه، فلم يوقع فيه الطلاق إلا بيقين، ولم يوقعه بالاحتمال.

ومما يدل على أن: "إذا": ليست بوقت محض: أنها لو كانت كذلك، لجاز أن تقوم مقام: "متى": في سائر الأحوال، إذ كانت مثل: "متى" وقتًا. وقد علمنا أنه قد يصح أن نقول: متى لقيت زيدًا؟ ولا يجوز أن نقول: إذا لقيت زيدًا؟ وهو يريد به استفهام الوقت. ولو كانت بمنزلة: "متى"، لجاز أن يستفهم بها الأوقات، فصح أنها مفارقة لـ: "متى": من هذا الوجه، وأن: "إذا": واسطة بين الوقت والشرط، فجاز أن تلحق بها تارة، وتفارقها تارة. ويدل على أن: "إذا": قد تكون بمعنى: "إن"، وهي شرط محض: قول الشاعر: وإذا تصبك خصاصة فتجمل معناه: "وإن تصبك"، ولولا ذلك لما جزم الفعل. * و: "إن": قد تكون بمعنى: "إذا": أيضًا، نحو قوله تعالى: {متاعًا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم}. معناه: إذا خرجن، يعني به مضي الوقت، وهو الحول المؤقت به للعدة، إذ لو كان المراد: الشرط، لكان جائزا لها أن تتزوج أي وقت خرجت فيه.

وأيضًا: فإن الناس لا يفرقون في العادة بين: "إذا"، و: "إن": في مثل ذلك، كقوله: أنت طالق إن دخلت الدار، و: إذا دخلت الدار. فإن قيل: فلو قال لها: أنت طالق إن شئت: كان على المجلس، وإذا شئت: على المجلس وبعده. قيل له: لأن: "إذا": لها حظ من الوقت، ومن الشرط، وليست هي شرطًا محضًا، ولا وقتًا محضًا، وإنما تكون تارة في معنى الشرط، وتارة في معنى الوقت، على حسب قيام الدلالة عليه، لما بينا، فلذلك كانت حالها على ما وصفنا. * وإذا قال: أنت طالق إذا شئت: فقد ثبتت لها المشيئة في الإيقاع، فلم نبطلها بالقيام عن المجلس إذا كانت: "إذا": محتملة للوقت والشرط؛ لأنه كما لا يجوز الإيقاع بالشك، لم يجز إبطال ما ثبت لها من حق الإيقاع بالاحتمال، فحملناه على سائر الأوقات، كما قلنا في قوله: أنت طالق إذا لم أطلقك: أنا لا نوقعه بالاحتمال. مسألة: [اقتران الطلاق بلفظ: "كم"، و: "ما"] قال: (ومن قال لامرأته: أنت طالق كم شئت، أو: ما شئت: لم تطلق إلا ما شاءت من الطلاق في مجلسها). لأن لفظ المشيئة يقتضي تعلقه بالمجلس، ما لم يكن فيه دلالة

على غيره. أما قوله: "كم": فهو للعدد، كقولك: كم معك من درهم؟ ومن ثوب؟ وأما: "ما": فإنها بمعنى: "الذي"، كأنه قال: الذي شئت من الطلاق، فيتناول الجميع. مسألة: [اقتران الطلاق بلفظ: "كلما"] قال: (ولو قال لها: طلقي نفسك كلما شئت: كان لها أن تطلق نفسها وإن قامت من مجلسها واحدة بعد واحدة حتى تبين منه بثلاث). وذلك لأن: "كلما": ينتظم معنيين: الوقت والتكرار، فلم يتعلق على المجلس، لما يتضمنه من معنى الأوقات، كقوله: أنت طالق أي وقت شئت، ولما كان فيها معنى الإحاطة والتكرار، كان لها إيقاع الثلاث واحدة بعد أخرى. مسألة: [اقتران الطلاق بلفظ: "كيف"] قال: (ولو قال لها: أنت طالق كيف شئت: وقعت واحدة رجعية، ولها أن تجعل الطلاق ثلاثًا، وأن تجعله بائنًا في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يقع الطلاق عليها حتى تطلق نفسها).

قال أبو بكر: أراد بقوله: "لها أن تجعل الطلاق ثلاثًا، وأن تجعله بائنًا": إذا نوى الزوج ذلك؛ لأن الزوج إن لم ينو ذلك: لم يكن لها أن توقع الثلاث والبائن، وذلك مروي عن أبي حنيفة. وجه قول أبي حنيفة في وقوع الواحدة قبل المشيئة: أن: "كيف": للصفة، فهذا قد أوقع الطلاق في الحال، وجعل إليها المشيئة في صفته، فاقتضي ذلك وقوع الطلاق. ويدل على أن: "كيف": للصفة: أنه يقع بها السؤال عن صفة الشيء بعد ثبات عينه، تقول: كيف فلان؟ فتستخبر عن صفته. * ثم المشيئة إليها في إيقاع البائن والثلاث إذا أراده الزوج؛ لأنه إذا احتمل الثلاث والواحدة البائن: وجب الرجوع إلى قوله، كما لو قال لها: أبيني نفسك، أو: أمرك بيدك: كان الرجوع إلى قول الزوج في إيقاع الثلاث، والواحدة البائنة. وجعل أبو يوسف ومحمد المشيئة مشروطة في أصل الطلاق وصفته. مسألة: [مسألة الهدم] قال: (ومن طلق امرأته تطليقة أو تطليقتين، ثم انقضت عدتها، وتزوجت بعده زوجًا، ودخل بها، ثم طلقها أو مات عنها، وانقضت عدتها، ثم رجعت إلى الأول، فإن أبا حنيفة وأبا يوسف قالا: ترجع إليه

على طلاق جديد، وهو ثلاث تطليقات. وقال محمد: ترجع إليه على ما بقي من الطلاق". قال أبو بكر: يروى قول أبي حنيفة عن ابن عباس، وابن عمر، وشريح وأصحاب عبد الله، وإبراهيم. ويروى نحو قول محمد عن علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وعمران بن الحصين، والحسن، وسعيد بن المسيب. وجه قول أبي حنيفة: أن الزواج الثاني لا يخلو بعد الثلاث من أن يؤثر في رفع العدد أو التحريم، فلو كان تأثيره في رفع التحريم، لوجب أن يرفع الثالثة؛ لأن التحريم بها يحصل، وكانت تعود إليه على ثنتين، وهذا فاسد، فدل أن الزواج الثاني يؤثر في رفع العدد والتحريم جميعًا. وإذا ثبت أنه يرفع العدد الذي يوجب التحريم، كما يرفع التحريم،

وجب أن يرفع ما دون الثلاث. فإن قال قائل: الزواج الثاني لا يرفع شيئًا، وإنما يبيحها للزوج الأول. قيل له: قد علمنا أن حكمها يختلف في عودها إليه على ثلاث مستقبلات، أو على بعض الثلاث. وتأثير الزواج الثاني إنما هو في عودها على ثلاث مستقبلات، سواء كان الأول طلق ثلاثًا أو ما دونها، بالدلالة التي ذكرنا، ثم إن شئت عبرت برفع العدد، وإن شئت فلا؛ لأنا نسلم لك العبارة بعد الموافقة على المعنى. فإن قال قائل: التحريم لم يتعلق بالثالثة دون ما قبلها من الثنتين، فلا معنى لقولك إن الزواج الثاني لو كان إنما يؤثر في رفع التحريم، لرفع الثالثة وحدها. قيل له: فإن كان التحريم متعلقًا بالثلاث، فوجب أن يرفع الثلاث؛ لأنه يرفع ما تعلق به التحريم. وأيضًا: لما كان للزواج الثاني تأثير في رفع الثلاث، فما دونها

أحرى بأن يرفعها، كما أن الحدث لما كان رافعًا لطهارة الأعضاء، كان رفعه لطهارة بعضها أولى. فإن قال قائل: إنما رفع الزواج الثاني الثلاث؛ لأنه يحتاج إليه في رفعها، وما دون الثلاث لا يفتقر إلى الزواج الثاني في إباحتها للأول، فلم يعمل، وكان وجوده وعدمه بمنزلة. قيل له: أول ما في هذا: أنه سؤال ساقط؛ لأنك نصبت علة في الثلاث لا تنافي اعتلالنا، لأنك علقت بها حكم الإباحة للزوج الأول، وعودها إليه على ثلاث، فليس ذلك بمعارضة. والثاني: أنها علة مقصورة الحكم على موضع النص والاتفاق، وما كان هذا سبيله من العلل فهو ساقط. وأيضًا: فإن كان الزواج الثاني مشروطًا لما يفتقر إليه في إباحتها للأول، فهو إنما يفتقر إليه في رفع الثالثة وعودها إليه على تطليقتين، فدل على سقوط هذا الاعتبار. وأيضًا: النجاسة اليسيرة لا يحتاج إلى غسلها في إباحة الصلاة، ولو غسلها صح غسله لها. فإن قيل: العاقلة تتحمل خمسمائة، ولا تتحمل ما دونها عندك،

فاختلف حكم القليل والكثير فيها. قيل له: فينبغي أن تسوي بين الثلاث وما دونها، من حيث لم يختلف حكم القليل والكثير فيما تحمله العاقلة عندك، فهذا السؤال لا يصح لك. وعلى أصلنا إنما افترقا من قبل أن العاقلة تحمل عن الجاني على وجه المواساة، وحمل الثقل عنه، والقليل قد يمكنه التحمل في العادة، فلم يلزم العاقلة، والكثير قد يعجز عنه في العادة، فأمرت العاقلة بالمواساة. وأما الطلاق فحكم القليل والكثير لا يختلف فيما يتعلق به من الحكم عند عوده إلى الأول بعد الزواج الثاني، لما بينا. مسألة: [تحويل الرجعية إلى الثلاث] قال أبو جعفر: (وإذا طلقها تطليقة رجعية، ثم قال لها قبل انقضاء العدة: قد جعلت تلك التطليقة ثلاثًا، أو بائنًا: كانت كما جعلها في قول أبي حنيفة). وذلك لأنه قد كان يملك إيقاعها بائنًا في الابتداء، فجاز أن يلحقها

بها؛ لأنه يملك البينونة في هذه الحال، كما كان يملكها في الابتداء. وأيضًا: فإن التطليقة الرجعية قد يجوز أن تلحقها البينونة بعد وقوعها رجعية، ألا ترى أنها تصير بائنة بانقضاء عدتها، فكذلك جائز له تعجيل البينونة فيها. وأما إذا جعلها ثلاثًا، فإنما ألحق بها تطليقتين أخريين، فيصح ذلك، وتكون طالقًا في الحال، كقوله: أنت طالق ثنتين قبل هذا الوقت، فتطلق في الحال، ولا تطلق قبل ذلك. * قال: (وقال أبو يوسف: إن جعلها ثلاثًا: لم تكن ثلاثًا). لأن الواحدة لا تكون ثلاثًا أبدًا، فصار كقوله: جعلتها ثلاثًا لغوًا. (وإن جعلها بائنًا: كانت بائنًا). لأن البينونة صفة لها، يصح إيقاعها معها، فجاز له أن يلحقها معها. * قال: (وقال زفر ومحمد: لا تكون ثلاثًا، ولا بائنًا). لأن الطلاق لا يلحقه الفسخ بعد وقوعه، فلا يتغير حكمه بما وصفه به بعد وقوعه. وهذا لا يلزم أبا حنيفة؛ لأن الرجعي يصير بائنًا بانقضاء العدة. فإن قال: فالواحدة لا تكون ثلاثًا أبدًا، فينبغي أن لا يصح إلحاقها بها. قيل له: إنما ألحق الثلاث على معنى: أنه جعل القول الأول، وهو

قوله: أنت طالق واحدة، بمنزلة قوله: أنت طالق ثلاثًا، وهذا معنى يصح إيقاعه ابتداء، فكذلك جائز إلحاقه به على هذا الوجه، ولا يحمل الأمر على أنه جعل الواحدة ثلاثًا؛ لأن الواحدة بعينها لا تكون ثلاثًا أبدًا، إلا أن يحمل على معنى: أنت طالق واحدة ثلاثًا، فتقع الثلاث، لأنه لو لفظ به ابتداء على هذا الوجه: صح، فكذلك يجوز إلحاقه به. مسألة: [طلاق الأجنبية قبل الزواج] قال: (وإذا قال لأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق: طلقت إذا تزوجها). وذلك لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن}، فحكم بصحة طلاقه بعد النكاح، ثم نظرنا في مسألتنا هل الطلاق فيها موقع بعد النكاح أو قبله؟ فلما اتفق الجميع على أنه لو قال لامرأته: إذا بنت مني فأنت طالق: لم يكن مطلقًا في النكاح وإن كان القول منه في حال النكاح، فتعلق الحكم فيه بحال الإضافة دون حال عقد اليمين، علمنا بذلك أن القائل للأجنبية: إذا تزوجتك فأنت طالق: أنه مطلق بعد النكاح، فوقع طلاقه بعموم الآية. ودليل آخر: وهو اتفاق الجميع على أن من شرط صحة النذر:

الملك، كما أن من شرط صحة الطلاق: النكاح، ثم اتفق الجميع على أنه لو قال: إن رزقني الله مالا فلله علي أن أتصدق ببعضه، ثم ملكه: لزمته الصدقة، وكان هذا ناذرا في ملك، وقد نص الله تعالى على وجوب ذلك بقوله: {ومنهم من عهد الله لن آتانا من فضله لنصدقن} الآية، فذمهم على ترك الوفاء بالنذر المضاف إلى الملك. فلما كان هذا ناذرا في الملك من أجل إضافته إلى الملك وإن لم يكن مالكا في الحال، كذلك مضيف الطلاق إلى النكاح، مطلق في الملك وغن كان غير مالك في الحال. * وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق قبل النكاح": فهو محمول عندنا على حقيقته، وهو الإيقاع قبل النكاح. وأما عقد طلاق قبل نكاح، فلم يتناوله اللفظ؛ لأن عقد الطلاق ليس بطلاق، وإنما يسمى عقد اليمين بالطلاق طلاقًا: على جهة المجاز، دون الحقيقة. وأيضًا: لو أوصى الرجل بثلث ماله، ولا مال له، ثم استفاد مالا، صحت الوصية فيه، وكان بمنزلة ما كان مالكه، لأجل إضافته إلى ملكه، كأنه قال: أوصيت له بثلث مالي عند الموت، ولو أوصى بمال غيره، لم

تصح الوصية، فصارت إضافته إلى ملكه كوجود الملك في حال الإيجاب، كذلك الطلاق. وأيضًا: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه في ماله بخيبر حين أراد أن يتصدق به: "حبس أصلها، وتصدق بثمرتها". فأجاز له الصدقة بثمرة ليست في ملكه إذا كانت في وقت وجوب الصدقة بها في ملكه، وكذلك الطلاق. وهكذا وجب أن يكون كذلك حكم قوله لأمته: إذا ولدت ولدا فهو حر، وإذا صح ذلك في ولد الأمة، صح في الطلاق إذا قال: إن تزوجتك فأنت طالق؛ لأن أحدا لم يفرق بينهما. وقد تكلمنا في هذه المسألة في غير هذا الموضع بأكثر من هذا. ويروى نحو قولنا عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن عمر، والقاسم بن محمد، وسليمان بن يسار، ومجاهد. وكان علي عليه السلام وابن عباس رضي الله عنهما يقولان: لا يقع. وقال الشعبي وإبراهيم: إن خص قبيلة وقع، وإن عم لم يقع.

مسألة: قال أبو جعفر: (فإن دخل بها بعد التزويج: فلها مهر ونصف). قال أبو بكر: يجب لها نصف مهر؛ لوقوع الطلاق قبل الدخول، ومهر بعد الدخول؛ لأنه دخل بها بعد وقوع البينونة، وارتفاع الزوجية على شبهة النكاح. مسألة: قال: (فإن تزوجها بعد ذلك: لم يقع عليها طلاق). وذلك لأن قوله: إن تزوجتك: شرط ليس فيه تكرار، وكذلك قوله: متى: ليس فيها ما يوجب التكرار، فوقع على مرة واحدة. مسألة: [الطلاق بلفظ: "كلما"] قال: (ولو قال: كلما تزوجت امرأة فهي طالق: طلقت كلما تزوج). لأن: كلما: تجمع الأفعال؛ لأن الذي يليها هو الفعل، والفعل الثاني غير الأول، فقد تناوله لفظ: كلما. مسألة: قال: (ولو طلقت ثلاثًا، ثم تزوجها بعد زوج آخر: طلقت أيضًا). لأن كل تزويج يوجد فقد اشتمل عليه: كلما، والطلاق مضاف إليه،

فوقع. ويدل على أن قوله: كلما: يتناول الفعل على وجه التكرار: قول الله تعالى: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها}. مسألة: قال: (ولو قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، فتزوج امرأة: طلقت، وإن تزوجها مرة أخرى: لم تطلق، وإن تزوج غيرها: طلقت). وذلك لأن: كل: تجمع الأسماء دون الأفعال؛ لأن الذي يليها هو الاسم، فإذا تزوجها مرة لم يدخل فيه التزويج الثاني، لأن: كل: لم يتناولا لفعل، وإنما يتناول الاسم على وجه الجمع، والاسم الثاني هو الأول، فاستحال أن يكون مجموعًا إليه؛ لأن الجمع إنما يكون بين الشيء وغيره، لا بين الشيء ونفسه. وأما امرأة أخرى، فإنها تدخل فيه؛ لأن هذا الاسم غير الأول، فجاز أن يكون مجموعًا إليه. مسألة: [الخلوة الصحيحة توجب المهر] (والخلوة الصحيحة تمنع سقوط شيء من المهر بالطلاق قبل الدخول).

وذلك لما بينا فيما سلف. [موانع الخلوة] فإن كان أحدهما محرمًا: لم تكن خلوة صحيحة؛ لأنه يصح معها التسليم، وإنما تكون الخلوة تسليمًا في الموضع الذي يصح معها التسليم. وكذلك إذا كانا صائمين في شهر رمضان، أو أحدهما. أو كانت رتقاء، وذلك لما بينا من امتناع وقوع التسليم معه، فصار كمن سلم الدار إلى المستأجر، وفيها غاصب يمنع السكنى، أو سلم السلعة إلى المشتري، وهناك حائل بينه وبينها من غاصب، أو غيره، وكذلك الرتقاء المنع من جهتها، فلا يكون تسليمًا. مسألة: [طلاق الثلاث في مرض الموت "مسألة الفرار"] قال: (وإذا طلق امرأته ثلاثًا في مرضه بغير سؤال منها، ثم مات، وهي في العدة: فلها الميراث). قال أبو بكر: روي توريث المطلقة ثلاثًا في المرض عن علي، وعمر، وعثمان، وأبي بن كعب، وعبد الرحمن بن عوف، وعائشة، وزيد بن ثابت، وشريح، والشعبي، وإبراهيم، ومحمد بن سيرين. ولا نعلم عن أحد من الصحابة خلافه، إلا أنهم اختلفوا في كيفية حال

التوريث. فقال عمر بن الخطاب: ترث ما دامت في العدة. وقال أبي بن كعب: ترث ما لم تتزوج. وقال بعضهم: ترث وإن تزوجت. فأما قائل من الصحابة بنفي الميراث رأسًا: فلا نعلمه إلا شيء يروى عن عروة بن الزبير، وهو قول ليس بخلاف على الصحابة، فيجوز الاحتجاج باتفاق السلف على صحة التوريث، وإبطال قول من نفاه رأسًا. * ومن جهة النظر: إن المرض يثبت لها ولسائر الورثة حق الميراث. والدليل عليه: أنه لا يجوز هبته وعتقه في المرض إلا من الثلث، لثبوت حقهم في ماله، فلا سبيل له في إسقاطه بفعله، وهو الطلاق، بدلالة أن طلاقه لا يسقط حقها في ماله من السكنى، والنفقة، فكذلك الميراث. فإن قيل: فلو تزوج ثلاثًا سواها: جاز، مع ما عليها من الضرر في إيجاب المشاركة في ميراثها.

قيل له: ليس فيه إسقاط حقها؛ لأن ميراثها قائم، وإنما فيه إثبات الشركة بمزاحمة من هي مثلها في استحقاقه. فإن قيل: ولو كان له أخ فأقر بابن في مرضه: صح ذلك، فاستحق الابن الميراث دون الأخ، فقد حرمه الميراث بقوله. قيل له: ليس هذا من مسألتنا في شيء، من قبل أنا حرمنا الأخ الميراث في هذه الحال، مع بقاء السبب الذي به كان يستحق الميراث وهو الأخوة، فلم يخرج بقوله من كونه من أهل الميراث، وإنما حدث ها هنا من هو أولى منه وهو الابن. فأما المرأة فلو حرمناها الميراث، كنا إنما نحرمها إياه؛ لأنه أخرجها بقوله من أهل الميراث، وهذا هو الذي أثبتناه. فإن قيل: فلو جاءت امرأته بولد، فنفاه في مرضه، فلاعنها، خرج من أن يكون من أهل الميراث بقوله. قيل له: لم يكن قط من أهل الميراث قبل اللعان؛ لأن حكم نسبه موقوف على اعترافه، أو ما يقوم مقامه، فإذا نفاه عند الولادة، فألحقه القاضي بالأم، علمنا أنه قط لم يكن ثابت النسب منه. * وإنما قلنا إنها لا ترثه بعد انقضاء العدة؛ لأنه قد حدث هناك ما يقطع الميراث من غير فعل الزوج، وهو انقضاء العدة، ولم يختلفوا أنها لو ماتت قبله: لم ترثه؛ لأن موتها ليس من فعله، كذلك انقضاء العدة مع

وجود الفرار من الزوج. وأيضًا: فلما كان انقضاء العدة مسقطا لحقها من ماله في النفقة والسكنى، وجب مثله في الميراث. فصل: [عدة من مات زوجها في عدة الطلاق منه] (وإذا مات وهي في العدة، فجعلنا لها الميراث: كانت عدتها أبعد الأجلين من أربعة أشهر وعشرًا، أو ثلاث حيض، في قول أبي حنيفة ومحمد). وذلك لأن حدوث الموت لا يبطل عدة المبتوتة الواجبة بالطلاق، وتجب عليها أيضًا عدة المتوفى عنها زوجها؛ لأنها قد صارت في حكم المتوفى عنها زوجها في باب استحقاق الميراث. فلما حكمنا لها من هذا الوجه بحكم الأزواج، وجب أن تكون عليها عدة الوفاة. "وقال أبو يوسف: عدتها ثلاث حيض لا غير". لأن الميراث مستحق بالفرار، لا بالزوجية في هذه الحال. مسألة: [تعليق الطلاق بالحيض] قال: (وإذا قال لزوجته أنت طالق إن حضت، فقالت حضت: صدقت).

لأن ذلك شيء يخصها من أمر نفسها لا يطلع عليه غيرها، فكان قولها فيه كالبينة فيما يخصها. والدليل عليه: أنها إذا قالت: أنا حائض، لم يحل لزوجها وطؤها، وإذا قالت: قد طهرت: حل له وطؤها. وكذلك لو قالت: قد انقضت عدتي: حلت للأزواج، وبطلت رجعة الزوج، فجعل قولها فيما يخصها كالبينة. [مسألة:] (ولو قال: إذا حضت فامرأتي الأخرى طالق، أو قال: فعبدي حر، فقالت: قد حضت، فإن صدقها: حنث، وإن لم يصدقها: لم يحنث). وذلك لأنها مخبرة عن نفسها، شاهدة في حق غيرها، ولا تقبل شهادتها وحدها في إيقاع العتق، وخيرها مقبول فيما يخصها، وهو طلاقها وما يتعلق بها من أحكامها. والقياس يمنع تصديقها في شيء من ذلك، إلا أنهم تركوا القياس فيما يخصها ويتعلق بها من ذلك، اعتبارًا بسائر الأصول التي ذكرنا من تصدقها على الحيض، وانقضاء العدة ونحوها، فإذا صرنا إلى حق غيرها: صار بمنزلة قولها: قد دخلت الدار، إذا علق الزوج عتقه بدخولها: فلا تصدق. مسألة: "وإذا قال: إذا حضت فأنت طالق: وقع الطلاق عليها برؤية الدم إذا

استمر بها مقدار أقل الحيض). وذلك لأن الحيض وجود الدم الذي هذه صفته، وقد وجد، فوقع. مسألة: (ولو قال: إذا حضت حيضة، فأنت طالق: لم تطلق حتى ترى الدم وتطهر). لأن الحيضة اسم لها بكمالها، ووجود الجزء منها لا يسمى حيضة. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في السبايا: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة". فعقل منه وجودها بكمالها إلى أن تطهر منها. مسألة: [تعليق طلاق امرأتين بالحيض والولادة] قال: (وإذا قال لامرأتيه: إذا حضتما فأنتما طالقًان، أو قال: إذا ولدتما ولدا فأنتما طالقًان: كان ذلك على حيضة، أو ولد يكون من إحداهما). وذلك لأنه لما استحال وجود حيضة واحدة، أو ولد واحد منهما، علمنا أن المراد وجوده من إحداهما، كقوله تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ

والمرجان}، وإنما يخرج من إحداهما. وكقوله: {يا معشر الجن والأنس ألم يأتكم رسل منكم}، والرسل من الإنس دون الجن. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث، ولابن عم له: "إذا سافرتما فأذنا وأقيما، وليؤمكما أحدكما"، وإنما يؤذن ويقيم أحدهما. فلما وجدنا للكلام وجها صحيحا نحمله عليه، لم تلغه. مسألة: [الطلاق عن طريق ضرب الأعداد والحساب] (ومن قال لامرأته: أنت طالق اثنتين في اثنتين، فإن نوى الضرب والحساب: فهي اثنتان). وذلك لأن الاثنتين لا يكون أبدًا أكثر من اثنتين وإن نوى ضربا في غيرهما. فإن قال قائل: اثنتان في اثنتين أربعة. قيل له: الزوج إنما أوقع الاثنتين الأوليين، وضربهما في أخريين لا

يخرجهما من أن يكونا اثنتين، فلذلك كان على ما وصفنا. * (فإن نوى اثنتين واثنتين: كانت ثلاثًا إذا كان مدخولًا بها). لأن: في: قد تقوم مقام: معًا: كقول الله تعالى: {فادخلي في عبدى}: معناه: مع عبادي. مسألة: [ما يعتبر في الطلاق والعدة حال اختلاف الزوجين رقُا وحرية] قال: (والطلاق بالنساء، والعدة بالنساء). قال أبو بكر: روي ذلك عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وابن عمر، وإحدى الروايتين عن ابن عباس. ومعناه: أن طلاق الأمة ثنتان، حرًا كان زوجها أو عبدًا، وعدتها حيضتان. * وقال عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وابن عباس في رواية: الطلاق بالرجال، والعدة بالنساء، يعني أن الزوج إذا كان عبدًا: فطلاقه تطليقتان، حرة كانت امرأته أو أمة، والعدة بالنساء، يعني أنها إذا كانت أمة: فعدتها على النصف من عدة الحرة. والعدة لا خلاف فيها أنها بالنساء، وإنما الخلاف في الطلاق. والحجة للقول الأول: ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود

قال: حدثنا محمد بن مسعود قال: حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن مظاهر بن أسلم عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طلاق الأمة تطليقتان، وقرؤها حيضتان". قال أبو عاصم: فحدثني مظاهر قال: حدثني به القاسم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، إلا أنه قال: "وعدتها حيضتنان". قال أبو بكر: سمعه أبو عاصم من ابن جريح، ثم رأى مظاهرًا فسمعه منه. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن شاذان قال: حدثنا معلى قال: حدثنا عمر بن شبيب عن عبد الله بن عيسى عن عطية عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تطليق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان". وذلك عموم في حكم طلاقها، حرًا كان زوجها أو عبدًا.

ومن جهة النظر: أن العدة لما كانت بالنساء بالاتفاق، وجب أن يكون الطلاق بهن، والمعنى الجامع بينهما: أن كل واحد منهما حكم يلحق المرأة، فتصير به مطلقة ومعتدة. وأيضًا: وجدنا للرق تأثيرًا في نقصان الحد، كهي في نقصان الطلاق، ثم اتفقنا على أن اعتبار الحد بمن يقع به، لا بمن يوقعه. ألا ترى أن القاذف إذا كان عبدًا، كان حده على النصف من حد الحر؛ لأنه هو الذي يقع به الحد، ولا نعتبر من يوقعه وهو الحاكم، فوجب أن يكون الاعتبار في الطلاق بمن يقع عليه، لا بمن يوقعه. والمعنى الجامع بينهما: أن الرق له تأثير في نقصان الطلاق، كما له تأثير في نقصان الحد. وأيضًا: وجدنا من يملك الثلاث، يملك جمعها وتفريقها في المدخول بها، فلما وجدنا الحد إذا كانت امرأته أمة، لا يملك تفريق الثلاث في الأطهار المتفرقة بحال متى أراد تفريقها للسنة، علمنا أنه لا يملك الجمع، كالأمة إذا كانت تحت عبد، لما لم يملك التفريق، لم يملك الجمع. فإن قيل: فالحامل تطلق ثلاثًا للسنة عندك، ولا يملك التفريق ولو وضعت قبل إيقاع الثلاث بالشهرين. قيل له: قد يملكه بحال، وهو أن يبقى حملها إلى مضي ثلاثة أشهر، والأمة لا يملك منها تفريق الثلاث بحال. مسألة: [تحليل الزوجة النصرانية] قال: (وجماع الزوج النصراني للمرأة النصرانية يحلها للزوج الأول

المسلم". لقوله تعالى: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره}، وهذا زوج بنكاح صحيح. وأيضًا: هو كالمسلم في صحة وقوع الطلاق عن نكاح صحيح، فوجب أن يكون حكمه كحكمه. وأيضًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى تذوقي عسليته، ويذوق عسيلتك". فكل من وجد ذلك منه بعقد نكاح: حلت للأول. مسألة: [لزوم النسب لو طلق قبل الدخول وجاءت بولد لأقل من سنة أشهر] قال: (ومن طلق امرأة قبل الدخول بها، فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر منذ يوم طلق: لزمه، وإن جاءت به لستة أشهر أو أكثر: لم يلزمه). وذلك لأنها إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر، فقد علمنا كون

العلوق في حال الفراش، وأنها طلقت وهي حامل، وكون العلوق في الفراش يوجب ثبوت النسب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش". وإذا جاءت به لستة أشهر، فهذا حمل قام بعد زوال الفراش، وبعدما صارت أجنبية: فلا يلحق نسبه بالزوج. مسألة: [لزوم النسب إذا طلق بعد الدخول وجاءت بالولد لأقل من سنتين] قال: (فإن كان دخل بها: لزمه ولدها ما بينهما وبين أقل من سنتين منذ طلق). وذلك لأن عليها عدة، فما لم تجيء بحمل يتيقن حدوثه بعد البينونة: فهو لازم له، فإذا جاءت به في السنتين فلم يتيقن حدوثه بعد البينونة: فيلزمه. وأما إذا جاءت به بعد سنتين، فقد علمنا أن الحمل حادث بعد البينونة، وزوال الفراش: فلا يلحق به، وذلك لأن أكثر الحمل عندنا سنتان، وذلك لأن الله تعالى غيب عنا علم ما في الأرحام بقوله تعالى {ويعلم ما في الأرحام}، فلا سبيل لنا إلى معرفة مدة بقاء الحمل في بطن

الأم إلا من طريق التوقيف والاتفاق، وقد حصل الاتفاق في السنتين، فأثبتناه فيهما. واختلفوا فيما زاد، ولم يرد به توقيف: فلم يثبت. مسألة: قال أبو جعفر: (فإن كانت قد أقرت بانقضاء العدة، ثم جاءت بولد لستة أشهر منذ يوم أقرب بذلك: لم يثبت النسب وإن كانت في السنتين). من قبل أنها لما أقرت بذلك، صارت أجنبية، وارتفع بذلك حكم فراشها، فلا يلحقه نسب ولدها. وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ يوم أقرت بانقضاء العدة: ثبت النسب إذا جاءت به في السنتين، وذلك لأنا قد تيقنا بطلان إقرارها بانقضاء عدتها، لكونها حاملًا وقت الإقرار. وهذا حكم كل معتدة بما يوجب الفرقة وقطع النكاح، كالمتوفى عنها زوجها، والمعتدة من النكاح الفاسد، وأم الولد إذا أعتقت. مسألة: [لو جاءت المطلقة الصغيرة بولد] قال أبو جعفر: (ومن طلق امرأته وهي ممن لا تحيض من صغر، ثم جاءت بولد ما بينه وبين أقل من تسعة أشهر: فإنه يلزمه النسب.

وإن كان تسعة أشهر أو أكثر: لم يلزمه في قول أبي حنيفة ومحمد، وهو قول أبي يوسف الذي رواه عنه محمد. وروى أصحاب الإملاء عنه: أنه يلزمه فيما بينه وبين أقل من سنتين، إلا أن تقر بانقضاء العدة قبل ذلك، فيلزمه فيما بينه وبين أقل من ستة أشهر بعد إقرارها بانقضاء العدة). قال أبو بكر: الذي رواه محمد في الأصول عن أبي يوسف هو الذي ذكره أبو جعفر عن أصحاب الإملاء، وعسى أن يكون الذي ذكر أن محمدًا روى عنه هو الذي روى عنه أصحاب الإملاء. وجه قول أبي حنيفة ومحمد: أنها لما كانت صغيرة، وكانت عدتها ثلاثة أشهر، فصار مضي ثلاثة أشهر كإقرار المعتدة الكبيرة بانقضاء العدة، فإذا جاءت بولد لستة أشهر: لم يلزمه؛ لأنها جاءت بحمل حادث بعد ما صارت أجنبية. وجعلها أبو يوسف كالكبيرة في اعتبار إقرارها، وذلك لأنها وإن كانت صغيرة في حال الطلاق، فجائز أن تبلغ في العدة فتنتقل عدتها إلى الحيض، فاعتبرنا من أجل ذلك إقرارها بانقضاء عدتها كالكبيرة. وأما أبو حنيفة فقال: هي مفارقة للكبيرة؛ لأنها باقية على حال الصغر حتى نعلم انتقالها إلى حال الكبر، فلا يجب اعتبار قولها، إذ هي صغيرة لا قول لها، وأما الكبيرة فلها قول صحيح، فلزم اعتبار قولها.

مسألة: [حكم ما جاءت به المطلقة بعد الزواج الثاني] قال أبو جعفر: (وهذا كله ما لم تتزوج المرأة، فإن كانت قد تزوجت رجلًا، ثم جاءت بولد بعد ذلك لستة أشهر فصاعدًا: كان من زوجها الثاني". وذلك لأن تزويجها إقرار منها بانقضاء العدة؛ لأن عقد نكاحها محمول على الصحة، ولا يكون صحيحًا إلا مع انقضاء عدتها، فتصير كأنها أقرب بانقضاء العدة، ثم تزوجت، فيجوز نكاحها، وقد جاءت بولد لحمل تام بعد النكاح، فليلحق بالزوج الثاني. [مسألة:] قال: (وإن كان لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني: لم يكن للثاني. ثم ينظر: فإن كانت جاءت به لأقل من سنتين منذ طلقها الأول: فهو من الأول). وذلك لأنا قد علمنا أنه تزوجها وهي حامل من غيره، فلم يثبت النسب منه، لكون العلوق في غير فراشه، ولم يكن للتزويج حكم بإقرارها بانقضاء العدة. ألا ترى أنها لو أقرت بانقضاء العدة، ثم جاءت بول لأقل من ستة أشهر منذ يوم أقرت: فإنه يلزم الزوج في السنتين؛ لأنا قد علمنا بطلان إقرارها بذلك حين كانت حاملًا وقت الإقرار، فكذلك ما وصفنا، لما حكمنا ببطلان نكاح الثاني، صارت كأنها لم تتزوج، فكانت عدتها من

الأول ثابتة. * قال: (وإن كانت لأكثر من سنتين منذ طلقها الأول: لم يكن ابن الأول، ولا ابن الآخر). لأنا قد علمنا أنه حمل حادث بعد طلاق الأول، وحدث قبل نكاح الثاني، فلم يلزم الأول؛ لأنه وضع بعد انقضاء الفراش، ولم يلزم الثاني لأنه قد كان ابتدأ حدوثه قبل نكاحه. قال أبو بكر: وهذا إذا كان الطلاق بائنًا، فإن كان الطلاق رجعيًا وجاءت به لأكثر من سنتين، ولم تقر بانقضاء العدة، ولم تتزوج: فإنه يلزم الزوج؛ لأن ذلك حكم بوطئه إياها بعد الطلاق، فتصير رجعية. مسألة: [الطلاق في عدة طلاق بائن] قال: (ومن طلق امرأته طلاقًا بائنًا بخلع أو غيره، ثم طلقها في العدة بصريح الطلاق: طلقت). قال أبو بكر: روي هذا القول عن ابن مسعود، وعمران بن حصين، وأبي الدرداء، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم، والزهري. وقال ابن عباس: وابن الزبير، وجابر بن زيد، والشعبي، وطاوس: لا

يلحقها طلاق وإن كانت في العدة. وقال الحسن، وعطاء، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وثوبان: إن طلقها في مجلسه: وقع، وإلا: لم يقع. والدليل على صحة القول الأول: قول الله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون (239) فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره}. ودلالتها على صحة قولنا من وجهين: أحدهما: أن قوله: {الطلاق مرتان}: ينتظم البائن والرجعي، وقوله: {فإن طلقها}: عائد عليهما. وذكره لحكم الرجعة، والفرقة، والإمساك في قوله: {فإمساك بمعروف}، لا ينفي اعتبار عموم اللفظ في البائن والرجعي؛ لأن ذلك

بعض ما انتظمه اللفظ، كقوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى}، وهو عموم في سائر القتلى، ثم قوله: {الحر بالحر}: لا ينفي اعتبار عموم اللفظ في غيره؛ لأن ذلك بعض ما اشتمل عليه اللفظ. وكقوله: {والمطلقات يتربص بأنفسهن ثلاثة}}: أنه عموم في البائن والرجعي، وقوله: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك}: أحد ما اشتمل عليه اللفظ الأول: فلا يوجب تخصيصه واقتصاره على حكمه دون غيره. والوجه الآخر من دلالة الآية: قوله: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به}، ومعلوم أن الخلع يوجب البينونة، وقال: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد}: فأجاز الطلاق بعد الخلع. فإن قال قائل: ذكر الخلع بعد التطليقتين، فلو كان قوله: {فإن طلقها}: بعد الخلع، لكانت رابعة؛ لأن الخلع أيضًا تطليقة. قيل له: ليس هو كما ظننت؛ لأن تقرير الآية: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف}، فذكر حكم الثنتين إذا ملك فيهما الرجعة، ثم قال: {فلا جناح عليهما فيما افتدت به}: يعني بأن تكون التطليقتان على وجه الخلع، ثم قال:

{فإن طلقها}: يعني بعد الفدا من الثنتين، {فلا تحل له من بعد}، فدل على وقوع الطلاق بعد الخلع. ومن جهة النظر: أنه ليس بشرط وقوع الطلاق إيجاب التحريم به؛ لأن الثانية بعد الأولى الرجعية واقعة ما دامت في العدة، وهي لا توجب تحريمًا، فلا اعتبار بجهة التحريم في صحة وقوعه، فدل ذلك على أن شرط وقوعه أن يصادفها صريح الطلاق وهي محبوسة عليه بحكم عقد صحيح: فيوقع ما بقي من طلاق الملك، بدلالة ما ذكرنا من وقوع الثانية بعد الطلاق الرجعي مع بقاء العدة. فإن قيل: لما كانت بائنة منه، أشبهت الأجنبية في أن الطلاق لا يلحقها. قيل له: الأجنبية ليست محبوسة عليه بحكم عقد، وهذه محبوسة عليه، وأحكام عقدها قائمة في لحاق النسب، وتحريم الأزواج، ووجوب السكنى، والنفقة. فإن قيل: لو قال: نسائي طوالق: لم تطلق هذه، وقال الله تعالى: {إذا طلقتم النساء}، فإذا لم تكن من نسائه: لم يلحقها طلاقه. قيل له: ليست هذه من نسائه على الإطلاق، فيتناوله إطلاق اللفظ، ولا يمنع ذلك وقوع طلاقها إذا قصدها به، ألا ترى أنه لو قال: عبيدي أحرار، لم يدخل مكاتبه في العتق، ولو قصده بالعتق: أعتق. وأما قوله عز وجل: {إذا طلقتم النساء}، وهي من النساء، ولو احتججنا بعموم ذلك في وقوع طلاقها: جاز وصح؛ لأنه لم يشرط أن

تكون النساء مضافات إلى المطلق. فصل: وأما الكنايات التي توجب البينونة: فإنها لا تلحق البائن، من قبل أن من شرطها أن لا تقع باجتماع اللفظ والنية في صحة الإيقاع. ألا ترى أنه لو وجد منه اللفظ من غير نية: لم يعمل، ولو نوى الإيقاع، ولم يلفظ به: لم يقع. فلما احتيج في إيقاعها إلى اجتماع الأمرين، ونحن متى أوقعناها لم نوجب بها بينونة، فقد ألغينا حكم اللفظ، ومتى سقط حكم اللفظ: لم يقع به طلاق؛ لأن النية إذا عريت من اللفظ: لم يقع بها سيء. وأما صريح الطلاق فليس يحتاج في إيقاع الطلاق به إلى نية، ومتى أوقعناه، فإن شرط إيقاعه نقصان العدد فيمن هي محبوسة عليه عن عقد صحيح، وقد نقص العدد بوقوعه، فلذلك صح إعماله. *****

باب الرجعة

باب الرجعة مسألة: [الرجعة في الطلاق الرجعي] قال: (ومن طلق امرأته طلاقًا رجعيًا: فله أن يراجعها في العدة، ويتوارثان ما بقيت العدة). لقول الله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك}، فأفادنا بذلك معنيين: أحدهما: أنه سماه بعلًا بعد الطلاق، وقال الله تعالى: {ولكم نصف ما ترك أزوجكم}. والثاني: أنه جعله أحق بها في العدة. وقال تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف}، فأجاز له الإمساك بعد الطلاق.

وقال: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف}، والمعنى مقاربة بلوغ الأجل، لا حقيقة بلوغه؛ لأنه لو أراد الحقيقة لمنع الرجعة، لقوله تعالى في آية أخرى: {فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزوجهن}، وذلك على بلوغه على الحقيقة. مسألة: [الإشهاد على الرجعة] قال: (ولا ينبغي أن يسافر بها حتى يشهد على رجعتها). قال أبو بكر: وإنما صحت الرجعة بغير إشهاد، لقول الله تعالى: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف}، وقال: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف}، وقال: {وبعولتهن أحق بردهن}. فأجاز الرجعة في هذه الوجوه من غير ذكر إشهاد، فوجب جوازها لعموم هذه الآيات. فإن قيل: فقد شرطه في آية أخرى، وهو قوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}. قيل له: لا دلالة فيه على وجوب الإشهاد عند الرجعة، وأنه شرط

فيها؛ لأن قوله: {وأشهدوا}: كلام مستأنف بعد ذكر الرجعة، فجائز أن يراجع، ثم يشهد، فيكون موافقًا لمعنى الآية. ويدل عليه قول الله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف}، ثم قال: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}، ومعلوم أن الإشهاد مأمور به في الأمرين جميعًا، من الإمساك أو الفراق، وليس الإشهاد مع ذلك شرطًا في وقوع الفرقة، فكذلك ليس بشرط في صحة الإمساك. وأيضًا: فإن الرجعة حق له، وليس في الأصول كون الإشهاد شرطًا في استيفاء حق الإنسان لنفسه. وأيضًا: لما صحت الفرقة بغير إشهاد، كانت الرجعة كذلك، إذ كل واحد منهما متعلق بفعله دون غيره. * وإنما كره له إخراجها حتى يشهد على رجعتها، لقول الله تعالى: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن}. فإن قال قائل: هلا جعلت إخراجه إياها إلى السفر رجعة منه، كالوطء والقبلة؛ لأنه لا يجوز أن يسافر بها حتى يراجع. قيل له: لو كان كذلك، لوجب أن يكون لو أخرجها من منزله أن يكون رجعة، لأنه ليس له إخراجها حتى يراجع، ولا خلاف أنه لو

أخرجها من منزله ولم يسافر بها: لم يكن مراجعًا. وأما الوطء والقبلة ونحوها، فإنما كان رجعة؛ لأنه يختص بالإمساك على النكاح، فصار تمسكًا بها. والإخراج إلى السفر ليس مخصوصًا بالنكاح، ألا ترى أن المرأة تسافر مع ذوي محرمها. مسألة: [اختلاف الزوجين في انقضاء العدة والجعة] قال أبو جعفر: (وإذا قال لها: قد راجعتك، فقالت: قد انقضت عدتي: لم تصدق، ولزمتها الرجعة). قال أبو بكر: هذا على وجهين: إن قالت مجيبة له عقيب كلامه: قد انقضت عدتي: فهو على الخلاف: قال أبو حنيفة: لا تثبت الرجعة، والقول قولها. وقال أبو يوسف ومحمد: تصح الرجعة. وإن سكتت عن ذلك، ثم قالت بعدما تراخى الوقت: قد انقضت عدتي: لم تصدق، وصحت الرجعة في قولهم جميعًا، ولم يذكر أبو جعفر هذا التفصيل. * وأما وجه قول أبي حنيفة في مسألة الخلاف: فهو أنها لما كانت مصدقة على انقضاء العدة، وكان معلوما أن قولها: قد انقضت عدتي، إنما هو إخبار عن حال ماضية غير موجودة في الوقت، صار حال انقضاء عدتها في التقدير متقدما لقول الزوج: قد راجعتك، فصار كأن المرأة

قالت: قد انقضت عدتي، ثم قال: راجعتك: فلا تصح الرجعة. وأما إذا تراخى الوقت، فقد صحت الرجعة من الزوج حين سكتت عن الإخبار بانقضاء العدة، فإذا قالت بعد ذلك: قد انقضت عدتي، فإنما قالته بعد حكمنا بصحة الرجعة، وبطلان العدة، فلا يلتفت إلى قولها. وأيضًا: يحتمل أن تكون عدتها انقضت بعد قول الزوج: قد راجعتك فيما بينه وبين قولها: قد انقضت عدتي، فلا تمنع صحة الرجعة. مسألة: قال: "ولو قالت المرأة: قد انقضت عدتي، فقال: قد راجعتك قبل ذلك: لم تصدق، وكانت بائنًا منه". وذلك لأنها لما قالت: قد انقضت عدتي: بانت وبطلت العدة، فقوله: قد راجعتك: إن أراد به إيقاع رجعة في الحال: لم تصح؛ لأن الرجعة لا تصح إلا مع بقاء العدة. وإن قال: كنت راجعتك قبل ذلك: لم يصدق؛ لأنه غير مالك للرجعة في حال الإقرار، وإقرار الإنسان بما لا يملكه لا يجوز. ألا ترى أن من باع عبدًا، ثم قال: قد كنت أعتقته قبل البيع: لم يصدق، لأنه أقر بما لا يملكه من العتق. وليس هذا مثل أن يقول وهي في العدة: كنت راجعتك أمس، فيصدق؛ لأنه كان مالكًا للرجعة في حال الإقرار، فإنما أقر بما يملكه،

فجاز إقراره. مسألة: [تصديق المرأة في انقضاء العدة] قال: "وإنما تصدق المرأة في انقضاء العدة فيما قد يجوز فيه ما قالت، فأما ما لا يجوز فيه ما قالت، فإنها غير مصدقة فيه. قال: وأقل المدة التي تصدق فيها في ذلك في قول أبي حنيفة: ستون يومًا، ويختلف عنه في تفسيرها. فأما أبو يوسف فذكر عنه أنه قال: اجعلها طاهرًا خمسة عشر يومًا، وحائضًا خمسة أيام، وطاهرًا خمسة عشر يومًا، وحائضًا خمسة أيام، وطاهرًا خمسة عشر يومًا، وحائضًا خمسة أيام. قال: وأما الحسن بن زياد فذكر عنه أنه قال: أجعلها حائضًا عشرة أيام، وطاهرًا خمسة عشر يومًا، وحائضًا عشرة أيام، وطاهرًا خمسة عشر يومًا، وحائضًا عشرة أيام". وإنما اعتبر أبو حنيفة شهرين في ذلك، ولم يعتبر أقل ما يكون من الطهر والحيض؛ لأنه خلاف العادة، فلا تصدق في انقضاء عدتها على خلاف المعتاد، وقد جعل الله تعالى عدة الآيسة والصغيرة ثلاثة أشهر، فأقام كل شهر مقام حيضة.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش: "تحيضي في علم الله ستا أو سبعا، كما تحيض النساء في كل شهر". فجعل الأشهر الأعم من عادة النساء وجود الحيضة في كل شهر، إلا أنه مع ذلك قد يتفق في العادة وجود ثلاث حيض في شهرين، فحمله على ذلك. ولأن الشهرين واسطة بين الأقل وبين الأكثر في العادة فاعتبرهما. * وأما اعتبار أبي حنيفة في رواية أبي يوسف: فإن وجهه أن من أراد أن يطلق للسنة، فإنه يقصد إلى الإيقاع بعد أن تطهر من حيضها، فيجعل الطلاق واقعًا في أول الطهر، ثم جعله خمسة عشر يومًا، وهو أقل الطهر، لأنه لا نهاية لأكثره، وجعل الحيض خمسة: نصف أكثر الحيض، وهو عشرة. * وأما اعتبار رواية الحسن بن زياد، فإنه جعلها كأنها حاضت عقيب الطلاق، فجعل حيضها عشرة، وطهرها بعد ذلك خمسة عشر يومًا؛ لأنه لا نهاية لأكثره. * وأما أبو يوسف ومحمد: فحملا الأمر فيه على الصحة على أقل ما يمكن أن يكون الحيض والطهر، وهو ثلاث حيض، وخمسة عشر طهرا، وثلاث حيض، وخمسة عشر طهرا، وثلاث حيض، فذلك تسعة وثلاثون يومًا.

[انقضاء العدة بعد الولادة والرجعة] قال أبو جعفر: (ولو كان طلقها عقيب الولادة، فإنها لا تصدق على انقضاء العدة في أقل من خمس وثمانين يومًا في رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة). قال أبو بكر: وذلك لأن من أصل أبي حنيفة: أن الطهر خمسة عشر يومًا في الأربعين التي هي مدة النفاس، لا يفصل بين الدمين، ويكون الجميع كأنه دم متصل. فلا يمكن على أصله أن يكون النفاس في هذا الموضع أقل من خمسة وعشرين يومًا، لأنه إن جعله أقل من ذلك، ثم طهرت خمسة عشر يومًا، ثم عاودها الدم في الأربعين: كان ذلك كله نفاسًا. فجعل النفاس خمسة عشر يومًا، ثم طهرت خمسة عشر يومًا إلى تمام الأربعين، فيكون الدم الموجود بعد الأربعين حيضًا. فقد علمت أن ما يحتسب به من العدة هو ما بعد الخمسة وعشرين يومًا، فيحسب شهرين من ذلك الوقت على ما بينا فيما تقدم من رواية أبي يوسف، فيكون جميع ذلك خمسة وثمانين يومًا. * وأما في تقدير رواية الحسن بن زياد على اعتبار الشهرين: فإنها لا

تصدق في أقل من مائة يوم؛ لأنها تكون نفساء خمسة وعشرين يومًا، وطاهرًا خمسة عشر يومًا، وحائضًا عشرة أيام، وطاهرًا خمسة عشر يومًا، وحائضًا عشرة أيام، وطاهرًا خمسة عشر يومًا، وحائضًا عشرة أيام، فذلك مائة يوم. * وأما أبو يوسف: فلا يصدقها في أقل من خمسة وستين يومًا، لأنها نفساء أحد عشر يومًا أكثر من الحيض؛ لأن مدة النفاس في العادة أكثر من مدة الحيض، وإن كان قد تكون ساعة، ثم جعلها طاهرًا خمسة عشر يومًا، وحائضًا ثلاثة أيام، وطاهرًا خمسة عشر يومًا، وحائضًا ثلاثة أيام، وطاهرًا خمسة عشر يومًا، وحائضًا ثلاثة أيام، فذلك خمسة وستون يومًا. * وأما محمد: فإنه قال: لا تصدق في أقل من أربعة وخمسين يومًا وساعة. وذلك لأن أقل النفاس ساعة، ثم طهرت خمسة عشر يومًا، وحاضت ثلاثة أيام، وطهرت خمسة عشر يومًا، وحاضت ثلاثة أيام. * ولا خلاف بينهم في أن أقل النفاس ساعة، وذلك لأن النفاس هو الدم الموجود عقيب الولادة، وقد يجوز أن يوجد ساعة فينقطع، فيكون ذلك الدم نفاسًا. *****

باب الإيلاء

باب الإيلاء مسألة: قال: "ومن حلف بالله لا يقرب زوجته أربعة أشهر فصاعدًا: فهو مول، فإن قربها في الأربعة الأشهر: حنث، وهو الفيء الذي ذكر الله تعالى في قوله: {فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم}، وكانت عليه كفارة يمين. وإن لم يقربها حتى مضى أربعة أشهر: بانت بتطليقة". قال أبو بكر: روى عن بعض التابعين: أنه إن حلف على أقل من أربعة أشهر: كان موليًا. وقال مالك بن أنس: إذا حلف على أربعة أشهر: فليس بمول حتى يحلف على أكثر منها. فأما من قال: إنه متى حلف على أقل من أربعة أشهر فهو مول: فإنه احتج فيه بظاهر قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم}: وهذا مول. قال أبو بكر: ولا خلاف بين أهل العلم أنه لو امتنع من جماعها من

غير يمين: لم يكسبه ذلك حكم الطلاق. فإذا حلف على أقل من أربعة أشهر: فقد بقي من مدة التربص ما لا يكسب حكم الطلاق بالامتناع من جماعها فيه، فوجب أن لا يتعلق حكم الطلاق بمضي المدة. ودل ذلك على أن المراد بقوله: {للذين يؤلون من نسائهم}: فيمن حلف على أربعة أشهر فصاعدًا. وقال ابن عباس: كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين، فوقت الله لهم أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه دون ذلك: فليس بإيلاء. وأما قول من قال: لا يكون موليًا بحلفه على أربعة أشهر: فقول ظاهر الفساد، يدفعه ظاهر الآية؛ لأن الله تعالى جعل هذه المدة تربصا له في الفيء فيها، ولم يجعل له التربص أكثر منها. فمتى امتنع من جماعها باليمين هذه المدة، أشبه ذلك حكم الطلاق، ولا فرق بين الأربعة أشهر وبين ما هو أكثر منها. فإن قال قائل: إذا حلف على أربعة أشهر: لم يصح تعلق حكم الطلاق بها، لأنك توقع الطلاق بمضيها، وليس هناك إيلاء. قيل له: لا يمتنع ذلك، لأن مضي المدة إذا كان سببًا للإيقاع، لم يجب اعتبار بقاء اليمين في حال وقوعه.

ألا ترى أن مضي الحول لما كان سببًا لوجوب الزكاة، لم يجب أن يكون الحول موجودًا في حال الوجوب، بل يكون معدومًا منقضيًا. وأن من قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، أن هذه يمين معقودة، وإن دخلت: طلقت في حال قد انحلت اليمين فيها وبطلت. كذلك مضي مدة الإيلاء، لما كان سببًا لوقوع الطلاق: لم يمتنع وقوعها واليمين غير موجودة. * وأما وقوع الطلاق بمضي المدة، فإنه روي عن علي، وابن مسعود، وعثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وابن عمر رواية أن الطلاق يقع بمضي المدة ما لم يفيء في المدة. وروي عن علي عليه السلام رواية أخرى، وأبي الدرداء، وابن عمر: أن المولي يوقف بعد مضي المدة. والدليل على صحة قولنا: قول الله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر}، كما قال: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}. فلما كانت البينونة واقعة بمضي المدة في تربص الإقراء، وجب أن

يكون كذلك حكم تربص الإيلاء، والمعنى الجامع بينهما: ذكر التربص في كل واحدة من المدتين. وإن شئت جمعت بينهما من جهة أن كل واحدة من المدتين موجبة عن قوله، فتعلق بها حكم البينونة، فلما تعلقت في إحداهما بمضيها، كانت الأخرى مثلها، للمعنى الذي ذكرنا. وأيضًا: لو وقفنا المولي، لحصل التربص أكثر من المدة المذكورة، وذلك خلاف الكتاب. فإن قال قائل: فأجل العنين حول، وتخير امرأته بعد ذلك في الفرقة إذا لم يصل إليها في المدة، ولا يوجب ذلك زيادة في الأجل، كذلك ذكر من حكم الإيلاء وقفة بعد المدة، لا توجب زيادة فيها. قيل له: ليس في الكتاب ولا في السنة ما يوجب تقدير أجل العنين، وإنما أخذ حكمه من قول السلف، والذين قالوا إنه يؤجل حولا، هم الذين خيروها بمضيه قبل الوصول إليها، ولم يوقعوا الطلاق بمضي المدة، ومدة الإيلاء موجبة بالكتاب من غير ذكر التخيير معها، فالزائد فيها مخالف لحكمه. وأيضًا: فإن أجل العنين إنما يوجب لها الخيار بمضيه، وأجل المولي عندك إنما يوجب عليه الفيء، فإن قال: أفيء: لم يفرق بينهما، فكيف يشتبهان؟

ودليل آخر: وهو قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءواا فإن الله غفور رحيم}، فجعل له بعد الإيلاء أحد الشيئين: إما الفيء، وإما الطلاق، فوجب أن يحصل الطلاق بفوات الفيء، إذ غير جائز له أن يوقع الفيء والطلاق جميعًا. والدليل على فوات الفيء بمضي المدة، وأنه مراد فيها: ظاهر قوله: {فإن فاءوا}، والفاء للتعقيب، فاقتضى أن يكون الفيء عقيب اليمين؛ لأنه جعله لمن له تربص أربعة أشهر، ومن أثبته بعد مضي المدة، فقد خالف ظاهر الآية. وأيضًا: فقد اتفق الجميع على صحة الفيء في المدة، فدل أنه مراد فيهما، فصار ذلك كقوله: "فإن فاؤوا فيهن"، وكذا روي في حرف عبد الله. فحصل الفيء مشروطا في المدة دون غيرها، وبمضي المدة يفوت الفيء، وإذا فات الفيء: حصل الطلاق لما وصفنا. فإن قيل: لما قال: {تربص أربعة أشهر فإن فاءوا}، فعطف بالفاء على

التربص في المدة، فدل على أن الفيء مشروط بعد مضي المدة، وأنه إذا فاء في المدة، فإنما ثبت حكمه من حيث عجل حقًا لم يكن عليه تعجيله، كمن عجل دينا هو مؤجل عليه. قيل له: ليس الأمر فيه على ما ظننت، لأن قوله: {فإن فاءوا}: فيه ضمير المولي المبتدئ بذكره في الآية، وهو الذي له تربص أربعة أشهر، فالذي يقتضيه الظاهر: إيجاب الفيء عقيب اليمين. فإن قيل: لما قال: {وإن عزموا الطلاق}: دل على أن وقوعه موقوف على قول يكون منه. قيل له: هذا يدل على صح قولنا؛ لأنه علق الطلاق فيه بعزيمة القلب، دون القول؛ لأن عزيمة القلب لا تكون قولًا، فلو كان يجب وقفه بمضي المدة لما تعلق بعزيمة القلب دون إيقاعه بالقول. وهذا يدل على أن المراد عزيمة ترك الفيء في المدة، والمضي عليها، وأن فواته يوجب الطلاق. فإن قيل: ليس الإيلاء صريح الطلاق، ولا كناية عنه، فالواجب أن لا يقع به طلاق. قيل له: وليس اللعان صريح الفرقة، ولا كناية، فيجب على المخالف أن لا يوقع الفرقة به حتى بفرق الحاكم. ولا يلزم على أصلنا أيضًا؛ لأن الإيلاء يجوز أن يكون كناية عن الفرقة من وجه، لأن قوله: لا أقربك: يشبه كناية الطلاق، إلا أنه أضعف حالًا من غيرها، فلا يقع الطلاق إلا بانضمام معنى آخر إليه، وهو مضي المدة على الوصف الذي يقوله، إذ قد وجدنا من الكنايات ما لا يقع به الطلاق

فيه بقول الزوج دون انضمام معنى آخر إليه، وهو قول الزوج لامرأته قد خيرتك، أو: أمرك بيدك، فلا يقع الطلاق فيه إلا باختيارها. فكذلك لا يمتنع أن يقال في الإيلاء إنه كناية، إلا أنه أضعف حالًا من سائر الكنايات، فلا يقع الطلاق فيه باللفظ دون انضمام معنى آخر إليه. وأما اللعان فلا دلالة فيه على معنى الكنايات؛ لأن قذفه إياها بالزنى وتلاعنهما، لا يصلح أن يكون عبارة عن البينونة بحال. وأيضًا: فإن اللعان مخالف للإيلاء، من جهة أن حكمه لا يثبت بغير الحاكم، فكذلك ما يتعلق به من حكم الفرقة، لا تقع إلا بحكم الحاكم، والإيلاء يثبت حكمه بغير الحاكم، فكذلك ما يتعلق به من الفرقة. وبهذا المعنى فارق العنين أيضًا؛ لأن تأجيله لا يثبت إلا بحاكم، كذلك ما يتعلق به حكم الفرقة. فإن قال قائل: لما قال تعالى: {وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم}: دل على أن هناك قولًا مسموعًا، وهو الطلاق. قيل له: هذا جهل مفرط من قائله، من قبل أن السميع لا يقتضي مسموعًا؛ لأن الله تعالى لم يزل سميعًا، ولا مسموع. وأيضًا: قال الله تعالى: {وقتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع

عليم}، والقتال لا يتعلق بمسموع. مسألة: [الإيلاء بالحلف بالعتق أو الحج ونحوها] قال: (وإذا حلف بعتق أو طلاق أو حج أو صيام: كان موليًا). لأن هذه أيمان يلزم بالحنث فيها ما أوجبه من العتق ونحوه، وكذلك يلزمه الصيام في ذمته، وقد تعارف الناس الحلف بهذه الأيمان. * قال: (وإن قال: إن قربتك فعلي صلاة: لم يكن موليًا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف). لأن الناس لا يتعارفون الحلف بالصلاة، كما تعارفوا الحلف بالحج والصدقة والصوم. ولو حمل الأمر على القياس، كان ينبغي أن لا يكون موليًا في جميع ذلك؛ لأن هذه ليست بأيمان على الحقيقة، وإنما اليمين ما كان قسمًا بالله تعالى دون غيره. وأيضًا: فإن وجوب الصلاة ليس له تعلق باليمين بحال؛ لأن كفارة اليمين ليس فيها صلاة، وفيها عتق، وصدقة، وصوم، فجاز أن يكون موليًا بإيجاب الصوم، وسائر ما انتظمته اليمين بالله من الكفارة. وأما الحج، وإن لم يكن من كفارة اليمين، فإنه حق في مال، فأشبه

الصدقة والعتق من حيث كانا حقًا في مال. (وقال محمد: ويكون موليًا بالصلاة)؛ لأنها تلزم بالنذر، كالصوم وغيره. مسألة: [مدة إيلاء الأمة] قال: (ومدة إيلاء الأمة شهران، كما أن عدتها على النصف من عدة الحرة). لأن هذه المدة تتعلق بها بينونة، كما تتعلق بالمدة في الطلاق الرجعي. مسأله: [كيفية فيء العاجز عن الوطء] قال: (وإذا آلى وهو لا يقدر على جماعها في المدة، إما لمرض، أو لبعد المسافة، أو كانت رتقاء: فإن فيئه أن يقول بلسانه: قد فئت إليها). وذلك لقول الله تعالى: {فإن فاءوا}، وهذا قد فاء؛ لأن الفيء الرجوع إلى الشيء، وهو قد كان ممتنعًا من وطئها بالقول، وهو اليمين، فإذا قال: قد فئت إليها، فقد رجع عن ذلك القول إلى ضده، فتناوله العموم. وأيضًا: لما تعذر جماعها، قام فيئه بالقول مقام الوطء في المنع من البينونة، كما أن المطلقة طلاقًا رجعيًا، لما منع جماعها بعد الطلاق، قام القول فيه مقام الوطء في المنع من البينونة.

* قال: (وإذا قال: قد فئت إليك، ودام العذر حتى انقضت المدة: لم يقع به طلاق، وإذا زال العذر في المدة، وقدر على الوطء فيها: لم يكن فيئه إلا الجماع). وذلك لأن الفيء بالقول قائم مقام الوطء عند عدمه، لئلا تقع البينونة بمضي المدة، فمتى قدر على الوطء في المدة: بطل الفيء بالقول. كما أن التيمم لما أقيم مقام الوضوء في إباحة الصلاة، كان متى وجد الماء قبل الفراغ منها: بطل تيممه، ولزمته الطهارة بالماء. والإحرام ليس بعذر في الفيء بالقول، لأن تحريم الوطء بفعله، وهو حق الله تعالى، فلا يسقط حقها من الوطء. مسألة: قال: (ومن حلف على قرب امرأته بعتق عبد له، ثم باعه: سقط الإيلاء). وذلك لأنه يصل إلى وطئها في هذه الحال بغير حنث يلزم، ومتى أمكنه وطؤها بغير حنث: لم يكن موليًا، كما لو حنث، فسقطت يمينه: بطل الإيلاء، لأنه يمكنه وطؤها بغير حنث.

* قال: (فإن ابتاعه: عاد الإيلاء)، لأن قربها أوجب عتق العبد. مسألة: [حكم الإيلاء بعد البينونة] قال: (وإذا بانت بالإيلاء، ثم تزوجها: عاد الإيلاء، فإن بانت أيضًا، ثم تزوجها: عاد الإيلاء). وذلك لأن حقيقة الإيلاء هي: كل يمين في زوجة تمنع جماع أربعة أشهر إلا بحنث، وذلك موجود بالجماع الثاني، من قبل أن اليمين التي كانت معقودة في النكاح الأول لم تسقط بزواله. والدليل على أن اليمين لا تسقط بزوال النكاح: أن زوال النكاح لا يمنع صحة عقد اليمين، ألا ترى أنه لو قال لأجنبية: إن تزوجتك فوالله لا أقربك، أن هذه يمين صحيحة، فإذا تزوجها كان موليًا، فدل على أن زوال النكاح لا ينفي بقاء اليمين. قال: (وإن بانت بثلاث، ثم تزوجها بعد زوج: لم يكن موليًا، وإن قربها: كفر يمينه). وذلك لأن الإيلاء له حكمان: حكم الحنث، وحكم الطلاق، وحكم الطلاق لا يثبت إلا في ملك، أو مضافًا إلى ملك، والطلاق الذي استفاده الأول بالزواج الثاني، لم يكن في ملكه وقت اليمين، ولا كانت اليمين مضافة إليه، فلم يقع به الطلاق.

ألا ترى أنه لو قال لامرأته: كلما دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت ثلاث مرات، فطلقت ثلاثًا، ثم تزوجها بعد زوج، فدخلت الدار: أنها لا تطلق، من قبل أن الطلاق الذي استفاد ملكه بعد الزوج الثاني، لم يكن مالكًا له يوم عقد اليمين، ولا كانت مضافة إليه، فكذلك ما وصفنا. مسألة: [الإيلاء بلفظ: علي حرام] قال: (ومن قال لامرأته: إن قربتك فأنت علي حرام، فإن نوى الطلاق: كان موليًا في قولهم جميعًا). لأنه بمنزلة من قال لامرأته: إن قربتك فأنت طالق. * (وإن نوى بالتحريم يمينًا: كان موليًا في قول أي حنيفة الذي رواه عنه أبو يوسف. قال: وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أنه لا يكون به موليًا، وهو قول أبي يوسف ومحمد). وجه القول الأول: أنه أوجب تحريمها بالقرب، فصار كقوله: إن قربتك فأنت علي كظهر أمي؛ لأن الظهار يوجب تحريمًا ترفعه الكفارة. كذلك قوله: إن قربتك فأنت علي حرام، إذا أراد به اليمين.

فإن قيل: لأن الظهار يلزم به تحريم لا ترفعه إلا الكفارة، وفي قوله أنت علي حرام، إنما يكفر بعد الجماع. قيل له: لزوم الكفارة بعد الجماع لا يدل على أن التحريم لم يلزم؛ لأن الصائم في رمضان قد لزمته حرمة الصوم وإن كانت الكفارة تجب بعد الجماع، وكذلك الإحرام، وكذلك قوله: إن قربتك فأنت علي حرام عند أبي حنيفة، إذا جامع: لزمته حرمة التحريم، فمن انتهكها لزمته الكفارة. فإن قيل: قوله: أنت علي حرام، لا يوجب تحريمًا إذا أراد به اليمين؛ لأنه يجوز له وطؤها، وقد قال الله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك}، ثم أوجب فيه الكفارة. قيل له: قد تعلق إيجاب التحريم باللفظ؛ لأن اللفظ موضوع له، وما تعلق به إيجاب التحريم من هذا الوجه، تعلق به حكم الإيلاء، لأن أقل أحوالها أن يتعلق به الإيلاء من طريق الحكم، من حيث اقتضاه اللفظ، ثم لا يصدق على إسقاط الإيلاء بقوله: أردت يمينًا، وكان له أن يستبيح وطأها ويكفر بعده.

ووجه رواية الحسن، وهو قول أبي يوسف ومحمد: أن قوله إن قربتك فأنت علي حرام، إذا أراد به اليمين، كان بمنزلة قوله: إن قربتك فوالله لا أقربك: فلا يكون موليًا به. مسألة: [الحلف على الشرى في الإيلاء] (وإذا قال لامرأته وهي أمة: والله لا أقربك حتى أشتريك: لم يكن موليًا؛ لأنه قد يشتريها لغيره، فلا يفسد النكاح. ولو قال: حتى أشتريك لنفسي: كان كذلك أيضًا؛ لأنه قد يشتريها شراء فاسدًا، ولا يقبضها، فيبقى النكاح على حاله. ولو قال: حتى أشتريك لنفسي وأقبضك: كان موليًا؛ لأنه إذا كان كذلك فسد نكاحها). فصار كقوله: لا أقربك ما دمت امرأتي، أو لا أقربك أبدًا. * قال: (ولو قال: حتى أملكك: كان موليًا)، لأن ملكه إياها يفسد نكاحها. [مسألة:] (ولو قال: حتى أعتق عبدي، أو: أطلق امرأتي الأخرى: كان موليًا في قول أبي حنيفة ومحمد). من قبل أنه لا ينفك من أحد معنيين: إما أن لا يطأها فيحنث، أو يريد أن لا يحنث بوطئها، فيحتاج أن

يطلق امرأته، أو يعتق عبده حتى يصل إلى وطئها بغير حنث، والعتق والطلاق مما يصح الحلف بهما، فكان موليًا، كما لو قال: إن قربتك فعبدي حر، أو قال: فامرأتي طالق. * وكذلك كلما جعله غاية مما يصح الحلف به، مثل الصدقة والصيام ونحوه. (وقال أبو يوسف: لا يكون موليًا) بالغاية، لأنه إذا أعتق العبد، قربها بغير حنث، وليس عتق العبد واقعًا باليمين. [مسألة:] قال: (ولو قال: والله لا أقربك حتى أقتل فلانا: لم يكن موليًا في قولهم جميعًا). من قبل أن قتل فلان مما لا يصح أن يكون جوابًا لليمين، ولا يصح الحلف به. ومن هذا الوجه فارق عتق العبد، والطلاق، والنذر، من قبل أن هذه الأشياء مما يصح الحلف بها، ويجوز أن تجعل جوابًا لليمين، فلذلك اختلفا.

مسألة: [الإيلاء بامرأتين بلفظ واحد] قال: (ومن قال لامرأتيه: والله لا أقربكما: كان موليًا منهما استحسانًا، وكان القياس أن لا يكون موليًا). وجه القياس: أنه لا يحنث بقرب إحداهما، ومتى وصل إلى وطئها بغير حنث، لم يكن موليًا منها. وكذلك قالوا: إنه لو قال لامرأته وأمته: والله لا أقربكما: أنه غير مول من امرأته حتى يقرب أمته؛ لأنه يصل إلى جماعها قبل قرب الأمة بغير حنث. ومن جهة الاستحسان: إن لجماع كل واحدة منهما تأثيرًا في طلاق الأخرى؛ لأنه إذا جامع إحداهما، ثم ترك الأخرى أربعة أشهر: طلقت، فلما كان كذلك صار موليًا. وليس كذلك الأمة والزوجة؛ لأن جماع الزوجة لا تأثير له في طلاق الأمة، لأن ملك اليمين لا يلحقها طلاق. [مسألة:] (وإن قال لامرأتيه: والله لا أقرب إحداكما: كان موليًا من واحدة منهما). من قبل أن قوله: إحداكما: لا يتناول إلا واحدة، ولا يتناولهما جميعًا، فكان موليًا من إحداهما. * (فإذا مضت أربعة أشهر: وقعت تطليقة، وقيل له: أوقعها على

أيتهما شئت). لأنه لما كان موليًا من إحداهما، كان مضي المدة موجبًا لتطليقة في إحداهما بغير عينها، بمنزلة قوله: إحداكما طالق، فيكون الخيار إليه في صرف التطليقة إلى إحداهما. فإن أراد أن يجعل اليمين في إحداهما بعينها قبل مضي المدة: لم يكن له ذلك، من قبل أن عقد اليمين لا يجوز أن يلحقه الفسخ عما وقع عليه، وقد علمنا أن اليمين لم تتناول في حال العقد إحداهما بعينها، فلو عينها في واحدة: كان فيه فسخ اليمين عما وقعت عليه. ألا ترى أنه لو قال: والله لا أدخل إحدى هاتين الدارين: أنه يحنث بدخول إحداهما أيتهما كانت، ولو أراد تعيين اليمين في إحداهما بعينها: لم يكن له ذلك، فكذلك ما وصفنا، حصل الطلاق في الأمة: كان مخيرًا في صرفه إلى أيتهما شاء. * قال: (فإن أوقع الطلاق على إحداهما، ثم مضت أربعة أشهر بعد الأربعة أشهر الأولى: بانت الأخرى أيضًا). وذلك لأن مضي المدة أوجب تطليقة في إحداهما وبانت، وحصل الإيلاء في الباقية، فلما مضت مدة أخرى بعد المدة الأولى: بانت الأخرى إذ لم يبق من يستحق الطلاق غيرها. وروي عن أبي يوسف: أنه إذا تعين الطلاق في إحداهما: تعين الإيلاء

فيها، كأنه آلى منها بعينها، فلا يكون موليًا من الباقية. وعند محمد: يكون موليًا من الباقية؛ لأن شرط اليمين يقتضي وقوع تطليقة لا في عين، فلا جائز فسخ شرطها بتعيينه الطلاق الأول في إحداهما بعينها، وإيجاب الطلاق في عين لم يقتضها شرطها. مسألة: [الإيلاء بامرأتين بحلف واحد] قال: (ومن قال لامرأتيه: والله لا أقرب واحدة منكما: كان موليًا منهما جميعًا). لأن قوله: واحدة منكما: يتناول كل واحدة منهما على حيالها؛ لأنها نكرة شائعة، ألا ترى أنه يصح دخول حرف الجمع عليها، بأن يقول: كل واحدة منكما، وكان القياس أن يكون موليًا من إحداهما؛ لأنه يحنث بوطء إحداهما. مسألة: [الاستثناء في الإيلاء] قال: (ومن قال لامرأته: والله لا أقربك سنة إلا يومًا: لم يكن موليًا حتى يقربها، وقد بقي من السنة أربعة أشهر). وذلك لأنه استثنى من المدة يومًا منكورًا، فلم يتناول يومًا بغينه، فجائز له أن يقربها أي يوم شاء من السنة، ويكون ذلك اليوم هو اليوم المستثنى؛ وليس يتناول ذلك يومًا من آخر السنة، ولا من أولها. ألا ترى أنه لو قال: ما نمت من الليل إلا ساعة، وما قعدت اليوم إلا

ساعة، وما صمت من شعبان إلا يومًا: أن ذلك لا يتناول وقتًا بعينه، بل جائز أن يكون من أوله، ومن آخره. وإذا كان كذلك، فهو يقدر على وطئها في المدة بغير حنث، فلا يكون موليًا، فإن وطئها في يوم وقد بقي من السنة أربعة أشهر، صار موليًا حينئذ، من قبل أنه لما وجد اليوم المستثنى، بقيت اليمين مطلقة بلا استثناء، كأنه قال: والله لا أقربك: فيكون موليًا منها. مسألة: قال: (وإذا آلى من امرأته، فبانت بمضي المدة، ثم مضت أربعة أشهر أخرى، وهي في العدة: لم يقع عليها شيء بالإيلاء. ولو آلى منها، ثم طلقها تطليقة بائنة قبل مضي المدة، ثم مضت المدة وهي في العدة: وقعت عليها تطليقة بالإيلاء). والأصل في ذلك: أنه لا يجوز أن يبتدئ مدة الإيلاء في حال البينونة، وذلك لأن ثبوت حكم المدة متعلق بثبوت حقها في الجماع، ولا حق لها بعد البينونة، فيتعلق به حكم المدة. وأما إذا كان الإيلاء في حال الزوجية، فثبت حكم المدة بثبوت حقها في الجماع، ثم طرو البينونة عليها، لا يقطع حكم المدة، من قبل أنه قد ثبت حقها في الجماع، ثم حدوث البينونة عليها لا يقطع حكم المدة، من قبل أنه قد بت حقها في الفيء، ومن أجله ثبت ابتداء المدة، فلا ينقطع

ذلك الحق بطلاقه إياها، إذ لا سبيل له إلى إسقاط حقها الذي تعلق بمضي المدة بفعله، فكذلك لم يبطل حكم مدة متقدمة، لورود البينونة. ووجه آخر: وهو أن الطلاق الواقع بمضي المدة، بمنزلة الطلاق الموقع بالكنايات، ومعلوم أن الكنايات الموجبة للطلاق، لا يصح ابتداؤها مع البينونة. ولو عقد اليمين بالطلاق بلفظ الكناية، فقال لها: أنت بائن إذا دخلت الدار، ثم أبانها، ثم دخلت الدار في العدة: طلقت، فكذلك ابتداء المدة لا يصح مع البينونة، وحدوث البينونة لا يقطع مدة متقدمة قد تعلق بها وقوع الطلاق. مسألة: [الإيلاء في مجلس واحد مرارًا] قال: "ولو آلى من امرأته ثلاث مرات في مجلس واحد، يريد به التغليظ والتشديد، ثم تركها أربعة أشهر: فإنها تبين منه بتطليقة واحدة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف استحسانا، وقال محمد وزفر: تطلق ثلاثًا). الأصل في ذلك: أن المدة إذا كانت واحدة وإن كثرت الأيمان: فإنها لا توجب إلا تطليقة واحدة، كما أن المدة الواحدة من العدة تنقضي بها العدة من رجلين وثلاثة. وهذا المعنى لا خلاف بينهم فيه؛ لأنه لو قال لها: لو جاء غد فوالله لا أقربك، ثم قال: إذا جاء غد فوالله لا أقربك، ثم قال لها ثالثًا، ثم جاء غد: كان موليًا إيلاء واحدًا، وإن وطئها: حنث في الجميع، ولا يتعلق مع ذلك

بمضي المدة إلا تطليقة واحدة. فقلنا في مسألتنا على هذا الأصل: إن هذه وإن كانت أيمانا مختلفة، فإن مدتها واحدة، وذلك لأنه لا يمكن ضبط الوقت الذي بين اليمينين عند مضي أربعة أشهر، فصارت مدة الأيمان كلها مدة واحدة. * والقياس أن يقع ثلاث تطليقات؛ لأن ما بين اليمينين من الوقت وإن كان غير معلوم عندنا مقداره، فإنه يوجب أن تكون كل واحد من الأيمان غير مدة الأخرى، فكان ينبغي أن يقع ثلاث تطليقات، إلا أنه ترك القياس لما وصفنا. وذهب زفر ومحمد إلى وجه القياس. مسألة: [إيلاء أهل الذمة] قال: (وإيلاء أهل الذمة كإيلاء أهل الإسلام في قول أبي حنيفة). قال أبو بكر: ليس يخلو إيلاؤه من أن يكون يمينًا بالله، أو أن يعلق العتق أو الطلاق بالوطء، أو إيجاب نذر في القرب، مثل الحج والصيام بالوطء. ولا خلاف بينهم أن إيلاء الذمي لا يصح بالحج والصيام والصدقة ونحوها؛ لأنه لا يلزمه بالوطء هذه القرب. ولا خلاف بينهم أيضًا: أنه يصح إيلاؤه بالعتق والطلاق. وإنما الخلاف في الحلف بالله، فقال أبو حنيفة: يكون موليًا به،

وذلك لقول الله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم}، وهو عموم في المسلم والذمي. وأيضًا: فإن الذمي يتعلق به حكم التسمية، كتعلقه بالمسلم، ألا ترى أن الكتابي إنما تؤكل ذبيحته إذا ذكر اسم الله عليها، وإن ترك التسمية يمنع أكل ذبيحته، فصار كالمسلم فيما يتعلق به من الحكم باسم الله تعالى، فوجب أن يكون كالمسلم فيما يتعلق به من الحكم بالحلف بالله في إيجاب الطلاق به بمضي المدة. وأما الصدقة ونحوها، فليس يتعلق بها حكم على الذمي؛ لأن قوله فيها وسكوته بمنزلة واحدة. * وقال أبو يوسف ومحمد: لا يكون موليًا؛ لأن حكم الإيلاء إنما يتعلق باليمين بالله، لما يتعلق بالوطء من لزوم الكفارة، فإذا لم يتعلق بيمينه وجوب الكفارة: لم يكن موليًا. *****

باب الظهار

باب الظهار مسألة: [العبد كالحر في الظهار] قال أبو جعفر: (والعبد في الظهار كالحر، غير أنه لا يجزيه في الكفارة إلا الصيام). قال أبو بكر: الأصل فيه قول الله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم} الآية، وهو عموم في الفريقين من الأحرار والعبيد. وقوله تعالى: {فتحرير رقبة}: لا ينفي دخول العبد في الظهار؛ لأن الرقبة مشروطة لمن وجدها، والعبد لا يجدها كالفقير. * وإنما لم يجزه العتق والإطعام؛ لأنه لا يملك، ولا يصح له حكم الملك، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "لا عتق فيما لا يملك ابن آدم".

ولا يجزيه الطعام أيضًا وإن أدى عنه مولاه؛ لأنه لا يحصل له حكم الملك. وليس كالفقير إذا أدى عنه غيره بأمره، فيجوز؛ لأن الفقير يحصل له حكم الملك في المؤدى، لأنه ممن يملك، والعبد لا يحصل له حكم الملك في المؤدى؛ لأنه لا يملك حقيقة، فكيف يجوز أن يثبت له حكم الملك؟. * قال: (وليس لمولاه أن يمنعه من صيام الظهار، كما لا يمنعه من صيام النذر، وكفارة اليمين). لأن كفارة الظهار بها يستبيح وطء الزوجة، وذلك حق لها، فليس له أن يمنعه مما قد استحقت من الوطء بعقد النكاح. مسألة: [تخصيص الظهار بالزوجات] قال أبو جعفر: (ولا ظهار إلا من زوجة حرة كانت أو أمة). وذلك لقول الله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم}، فالمعقول من ظاهر هذا اللفظ: الزوجات، لقوله: {وأمهات نسائكم}، {للذين

يؤلون من نسائهم}. وأيضًا: الظهار يوجب تحريمًا من جهة القول، فلا يصح تحريم ملك اليمين من جهة القول، والدليل عليه: أنه لو قال لها أنت علي حرام: لم تحرم. وروي" أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم مارية القبطية، فأنزل الله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك}، فلم يثبت حكم التحريم، وأوجب فيه كفارة يمين. فلما لم يصح تحريمها من جهة القول لو نص على تحريمها، صارت كالثوب والطعام ونحوهما إذا حرمهما، فلا يصح تحريمهما، كذلك حكم الأمة في الظهار. وليس كذلك الزوجة؛ لأنه يصح تحريمها من جهة القول لو قصدها بالتحريم فقال: أنت علي حرام، وأراد به الطلاق: طلقت وحرمت عليه.

وأيضًا: كان الظهار طلق أهل الجاهلية، فأبدل الله تعالى منه الطلاق، وجعله تحريمًا ترفعه الكفارة، فلما لم يصح طلاق ملك اليمين، لم يدخل فيما أبدل من الطلاق. مسألة: [صحة الظهار بامرأة تحرم عليه مؤبدا] قال أبو جعفر: (ويصح الظهار بكل امرأة هي محرمة عليه تحريمًا مؤبدًا). وذلك لأن الأم لما كان تحريمها مؤبدًا، وحكم الله بصحة الظهار منها، كان كل من تحريمها على وجه التأبيد بمنزلتها. مسألة: [الظهار بالرجال] قال: (ولا يصح الظهار بالرجال، إذا قال: أنت علي كظهر أبي). لأن ظهر الأب غير محرم عليه النظر إليه. * والظهار يصح ببطن الأم، وفخذها، وفرجها؛ لأن تحريم هذه الأعضاء عليه كتحريم الظهر. * ولا يصح الظهار بوجهها، ورأسها؛ أنه يجوز له النظر إلى وجهها ورأسها، فليس تشبيهها بهما إيجاب تحريم. [مسألة:] قال: (وإذا وقت الظهار فقال: أنت علي كظهر أمي شهرًا: كان كما

قال، ولم يكن مظاهرًا بها بعد شهر". وذلك لما روي في حديث سلمة بن صخر "أنه ظاهر من امرأته شهر رمضان، ثم جامع، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يبطل توقيته للظهار". وأيضًا: فإن الظهار يقع مؤقتًا في الأصل بأداء الكفارة، ألا ترى أنه إذا أدى الكفارة: سقط الظهار، فإذا وقته بوقت معلوم كان مؤقتًا، وليس كذلك الطلاق؛ لأن الطلاق لا يقع مؤقتًا، ولا يصح توقيته. مسألة: [موت المرأة المظاهر منها] قال: (وإذا ظاهر من امرأته، ثم ماتت: بطل الظهار). وذلك لأن الظهار يوجب تحريمًا لا يرفعه إلا الكفارة، فلا يحل له وطؤها حتى يكفر، فإذا ماتت، فقد امتنع وجود الوطء بالظهار، فليس يلزمه الكفارة، وإنما يمنعه الوطء حتى يكفره. مسألة: [المراد من العود في آية الظهار] قال أبو جعفر: (والعود المتأول في قول الله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا}: إنما هو إرادة القرب بعد التحريم، فلا يصل إلا بالكفارة التي

ذكرها الله". قال أبو بكر: وروي نحو قول أصحابنا عن الحسن، والزهري، وقتادة. وقال ابن عباس: إذا قال: أنت علي كظهر أمي: لم تحل له حتى يكفر، وهذا أيضًا مثل قولنا. وحكي عن الشافعي أنه إذا أمسكها بعد الظهار ساعة: لزمته الكفارة، ماتت أو عاشت، فإن طلقها عقيب الظهار: لم تكن عليه كفارة. وحكي عن بعض المتجاهلة: أنه على أن يعيد القول مرتين، وهذا

القول خارج عن قول السلف والخلف جميعًا. وعلى أنه لو كان مما يسوغ مثله بين أهل عصر، لم يكن هذا القول خلافًا على أهل عصره، إذ ليس من أهل النظر، فكيف بمخالفته على من تقدم؟. والدليل على صحة قولنا: أن قوله: {ثم يعودون لما قالوا}: يقتضي عودًا إلى معنى قد نفاه أو حرمه. ومعلوم أن الظهار غير موضوع لرفع النكاح، فيكون العود لما قال، إمساكا على النكاح، وأنه لما يؤثر في تحريم الوطء، فوجب أن يكون العود لما قال: هو القصد إلى استباحة وطئها الذي قصد إلى تحريمه بالظهار، فيقدم الكفارة قبله.

وقد يجوز أن يقول: {ثم يعودون لما قالوا}، وهو يريد المقول فيه، كما يقال: عاد في هبته، يعني في الموهوب، وكقولنا: اللهم أنت أملنا ورجاؤنا، يعني مأمولنا ومرجونا. وقال الله تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}: يعني الموقن به. وقال الشاعر: وإني لراجيكم على بطء سعيكم .... كما في بطون الحاملًات رجاء يعني: مرجوًا. وإذا كان كذلك، صح أن العود هو القصد إلى استباحة وطئها الذي قصد بالظهار إلى تحريمه. وفسد قول من حمله على بقاء النكاح بعد الظهار، إذ هو غير ملائم لمعنى الآية، إذ العود يقتضي عودًا إلى شيء قد سبق منه، وهو فلم يقصد إلى تحريم النكاح. وقد قيل: إن المعنى: ثم يعودون إلى ما قيل في الجاهلية مما نهى الله عنه، وجعله منكرًا من القول وزورًا، و"ثم": ها هنا: بمعنى: "الواو"، فكأنه قال: وهم عائدون بعد نزول الحكم إلى ما كانوا يقولونه قبل نزوله، فكأنه أخبر عن حكم الحال بعد نزول الآية. وهذا التأويل مواطئ لما روي في قصة الظهار، وذلك لأن خولة بنت

ثعلبة ظاهر منها أوس بن الصامت، ثم أراد وطأها، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. فصار ذلك إخبارًا عن الحال التي كان عليها المظاهر من قصده للعود إلى الوطء الذي حرمه بالظهار. قالوا: وقد يجوز أن تكون: "ثم": بمعنى: "الواو"، كما قال الله تعالى: {فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد}، ومعناه: والله شهيد، وجعلوا نفس الفعل عودًا، كما قال تعالى: {حتى عاد كالعرجون القديم}، معناه: صار كذلك. وكما قال الشاعر: تلك المكارم لا قعبان من لبن .... شيبًا بماء فعادا بعد أبوالا معناه: صارا كذلك؛ لأنهما لم يكونا في البدء كذلك، فهذا تأويل محتمل، وإذا احتمل ذلك، ثم قال: {فتحرير رقبة من قبل أن

يتماسا}، فقد منع المسيس إلا بعد التكفير، فصح أن الظهار يوجب تحريم الوطء. ومما يدل على بطلان قول المخالف أيضًا: أن قوله: {ثم يعودون لما قالوا}: يقتضي أن يكون العود متراخيًا عن القول؛ لأن: ثم: في لغة العرب للتراخي، وليست للمقارنة. وقوله يقتضي أن يكون العود عقيب الظهار، بترك طلاقها متصلًا به، وهذا خلاف حكم الآية، إذ ليس في قوله وجود عود يكون مواطئًا لحكم الآية بوجه، وهذا فاسد من القول. وقوله من جهة أخرى مخالف لظاهر الآية، وهو أن قوله: {ثم يعودون لما قالوا}: يقتضي إحداث معنى يكون به عائدًا، وترك الطلاق لا يسمى عودًا إلى الشيء بحال، وإنما هو بقاء على الحال الأولى، وبقاء الإنسان على حال كان عليها قبل القول لا يسمى عودًا إليه، فلم يجز حمل معنى الآية عليه. فإن قال قائل قوله: {فتحرير رقبة}: يقتضي وجوبها بعد العود، وأنت لا توجبها، وإنما تحرم الوطء حتى يؤدي الكفارة. قيل له: تأويلنا لمعنى الآية صحيح على الوجه الذي حملناه عليه،

كأنه قال: إذا أردت الوطء فكفر قبله، كما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدى نجواكم صدقة}. وكما قال: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم}، فلو أراد صلاة نافلة كان عليه تقديم الطهارة، وإن لم يردها: لم يكن عليه تقديمها. وكما قال تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله}، والاستعاذة متعلقة بالقصد إلى القراءة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من راح إلى الجمعة فليغتسل". ويقال للرجل: إذا أردت دخول مكة: فأحرم. فهذه معان صحيحة قد تعلقت بها الأوامر على شرائطها، كذلك لزوم كفارة الظهار هذا سبيله، وليس يخرجها ذلك من حكم الوجوب، إذا كان الوجوب معلقًا بشرط. ويدل على بطلان قول المخالف أيضًا: أن قوله: {ثم يعودون لما قالوا}: لو كان المراد به إمساكها على الزوجية، لوجبت الكفارة بنفس الظهار؛

لأنه قاصد إلى إمساكها على النكاح بنفس الظهار، إذ كان الظهار لا يصح إلا مع بقاء النكاح، فقصده إلى الظهار قصد منه إلى تبقية النكاح، ألا ترى أنه إذا أبانها لا يصح ظهاره منها. فإن قيل: شرط وجوب الكفارة إمساكها بعد الظهار؛ لأن: ثم: للترتيب، فأما إمساكها في حال الظهار، فلم تتناوله الآية. قيل له: هذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنك لم تستعمل: ثم: على حقيقتها؛ لأنها موضوعة للتراخي، ولم تجعلها كذلك؟ فمن حيث أسقطت حكمها من هذا الوجه، وصارت بغير الحقيقة عندك، سقط الاحتجاج بها، ونقول لك حينئذ أيها المخالف: لما لم تكن للترتيب، صارت بمعنى: الواو، كأنه قال:"وهم عائدون لما قالوا"، يعني: ما كانت عادتهم عليه قبل نزول الحكم على التأويل الذي قدمناه في المسألة. والوجه الآخر: أن المظاهر فاصد إلى إمساكها عقيب الظهار؛ لأنه لو أراد خلاف ذلك لأبانها وطلقها بدل الظهار. ويفسد هذا قوله من وجه آخر، وهو أن الطلاق الرجعي لا ينفي الزوجية، ولا يمنع إمساكها على النكاح؛ لأنها امرأته بحالها، فهو ممسك لها بعد الطلاق، إذ لم يقع منه عود لما قال. فإن قيل: إنما خرج من أن يكون ممسكًا لها على الحال الأول؛ لأن الطلاق الرجعي يوجب تحريمًا، وإن لم يرفع النكاح. قيل له: ينبغي أن يكون لو ظاهر منها ظهارًا ثانيًا، أن يكون غير عائد؛ لأن الظهار يوجب تحريمًا. وأيضًا: فإن كان الطلاق الرجعي يوجب تحريمًا، فيبغي أن يكون

عائدًا به لما قال، لأنه قصد إلى تحريمها بالظهار، ثم عاد لمثله في إحداث معنى يوجب تحريمها، فالواجب أن يكون العود هو الطلاق نفسه، وهذا قول ظاهر الإعلال، بين الإحالة. فإن قال: لأن الطلاق يوجب البينونة بعد انقضاء العدة. قيل له: فإلى أن تقع البينونة فالزوجية بسائر أحكامها قائمة، من نحو التوارث، وصحة إيجاب الظهار، واللعان ونحو ذلك، فينبغي أن يكون عائدًا به لما قال، ويلزمه الكفارة، وأن يكون العود طلاقًا يوجب البينونة لا غير، وليس هذا من قوله. * وأما قول من قال: إن العود أن يعيد القول مرة أخرى: فقول خارج عن اللغة، والإجماع. وذلك لأنه لا سبيل له إلى إعادة القول على الحقيقة؛ لأن القول الثاني ليس بإعادة للأول، وإنما هو قول مبتدأ مثل ما تقدم، فلم يقتض اللفظ إعادة القول مرتين. وأيضًا: قوله: {ثم يعودون لما قالوا}: ليس يقتضي قولًا ثانيًا بحال؛ لأنه قد يقال لمن حرم شيئًا على نفسه، ثم استباحه، أنه قد عاد لما قال ولما حرم، وإن كانت الاستباحة بالفعل دون القول. ويقال: عاد في عاريته، وفي قرضه: إذا أخذهما وإن لم يكن منه قول. وأيضًا: "فإن سلمة بن صخر ظاهر من امرأته، ثم وطئها، وسأل النبي

صلى الله عليه وسلم، فأمره بأن لا يطأها حتى يكفر"، ولم يسأله: هل أعدت القول مرتين؟ ولا: هل طلقتها؟ فدل على أن إعادة القول مرتين ليس من شرطه، ولا الطلاق بعده. وكذلك يدل عليه حديث أوس بن الصامت، حين ظاهر من امرأته خولة بنت ثعلبة، وفيهما نزلت آية الظهار، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة، ولم يسأله هل أعدت القول مرتين أم لا؟ ولا يحتاج إلى إفساد قول القائل بإعادة القول إلى كثير حجاج، لسقوطه وسقوط قائله، واتفاق الأمة على خلافه، إلا أنا أردنا التنبيه على جهله تقحمه مخالفة الإجماع، مع ما هو عليه من التهمة على دين الإسلام، والتلاعب بالشريعة والأحكام. وقد روي عن علي، والحسن البصري فيمن ظاهر من امرأته في مقاعد شتى، أن يكفر بكفارات شتى، وإن ظاهر منها في مقعد واحد: فعليه كفارة واحدة. وقال عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي وإبراهيم: عليه كفارة واحدة.

فلم يشترط واحد منهما إعادة القول مرتين. مسألة: [حكم الظهار بامرأتين] قال: (ومن ظاهر من امرأتيه: كان مظاهرًا من كل واحدة منهما ظهارًا على حدة). وذلك لأنه قد أوجب بهذا القول تحريم كل واحدة منهما على حيالها، وارتفاع ذلك التحريم يتعلق بالكفارة، ولا يجوز أن يرفع تحريم المرأتين جميعًا بكفارة واحدة، إذ كان هناك تحريمان. وأيضًا: لو ظاهر من كل واحدة ظهارًا مفردًا، لم يحلها له إلا كفارتان، كذلك بالقول الواحد. مسألة: [لو ظاهر من امرأته ثم طلقها ثلاثًا] قال: (ولو ظاهر من امرأته، ثم طلقها ثلاثًا، فحلت له بعد زوج: لم يطأها حتى يكفر). لقوله تعالى: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا}، لم يفرق بين حاله قبل الطلاق، وبعده. وأيضًا: فإن تحريم الظهار ليس يتعلق ببقاء الملك، وإنما يتعلق ببقاء الكفارة.

وأيضًا: فإن الطلاق الثلاث أوجب تحريمًا آخر، فلا يرتفع تحريم الظهار بتحريم آخر غيره، بل إن لم يؤكده، لم يرفعه، وليس يتعلق ارتفاع تحريم الظهار بالزواج الثاني، فيعتبر وجوده. مسألة: [تحريم كل مسيس قبل الكفارة] قال: (ولا يحل له وطء المظاهر منها، ولا اللمس، ولا القبلة). وذلك لقول الله تعالى: {من قبل أن يتماسا}، وذلك على كل مسيس: جماعًا كان أو غيره. وأيضًا: روي عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي ظاهر من امرأته: لا تقربها حتى تكفر". مسألة: قال: (وسواء كان من أهل الرقبة أو الصيام أو الإطعام لا يقربها حتى يكفر). لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي واقع امرأته بعد الظهار: "اعتزل امرأتك حتى تقضي ما عليك".

وفي بعض الأخبار: "حتى تكفر"، فلم يفرق بين الإطعام وغيره. وأيضًا: فإن الظهار يوجب تحريم الوطء حتى ترفعه الكفارة، وكونه غير واجد لبعض ما في الآية، لا يمنع بقاء التحريم حتى يكفر. مسألة: [إجزاء عتق الرقبة المؤمنة وغير المؤمنة في الظهار]. قال: (ويجزئ في الكفارة: الذكر والأنثى، والمؤمن والكافر". لقول الله تعالى: {فتحرير رقبة}، وذلك عموم يتناول الجميع. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأوس بن الصامت: "أعتق رقبة"، ولم يقل مؤمنة ولا غيرها، وكذلك قال لسلمة بن صخر. فإن قيل: لما ذكر في القتل رقبة مؤمنة، كان الظهار قياسًا عليه في شرط الإيمان. قيل له: لا يجوز عندنا قياس المنصوصات بعضها على بعض، فلما كانت الرقبة منصوصًا عليها في الموضعين: في أحدهما مقيدة، وفي الأخرى مطلقة، لم يجز حمل المطلق على المقيد، كما لا يجوز حمل المقيد على المطلق في إسقاط التقييد.

وأيضًا: فيه زيادة في النص، ولا يجوز عندنا الزيادة في النص. وأيضًا: كما لم يجز قياس القتل على الظهار، لم يجز أيضًا قياس الظهار على القتل في إثبات شرط الإيمان في رقبته. فإن قيل: فقد منعت جواز الرقبة العمياء، وشرطت فيها الصحة وإن لم يكن لها ذكر في الآية، فقد زدت فيها ما ليس منها، فهلا أجزت شرط الإيمان فيها؟ قيل له: من قبل أن الرقبة اسم لها بجميع أعضائها، فاقتضى عموم اللفظ رقبة بكمالها، كما أن قوله: {فاقتلوا المشركين}، اقتضى عموم الحكم في جميعهم، لا في أقل ما يتناوله الاسم منهم. وأما الإيمان فليس من الرقبة في شيء، ولا هو من أجزائها، فلم يشتمل عليه اللفظ، ولو شرطناه كنا زائدين في حكم الآية ما ليس منها. مسألة: [عدم جواز الرقبة الناقصة في كفارة الظهار] قال: (ولا يجزئ الرقبة العمياء، ولا المقعد، ولا المقطوع اليد والرجل من جانب واحد". قال أبو بكر: الأصل فيه: أن منفعة الجنس إذا كانت باقية فيما يبتغى من الرقاب: أجزأت، فإن كانت منفعة الجنس زائلة: لم يجز.

والدليل عليه: اتفاق الجميع على أنه لو كان مقطوع الأنملة: جاز، فعلمنا أن النقص اليسير لا يمنع الجواز، فقسنا على ذلك كل نقص يسير لا يبطل منفعة الجنس فيما يبتغى منها. وأما إذا زالت منفعة الجنس: فإنه لا يجزئ من وجهين: أحدهما: أن اسم الرقبة يتناول رقبة كاملة بجميع أجزائها؛ لأن اسم الرقبة يشتمل عليها، فجوزنا اليسير لما وصفنا، وحملنا الكثير على حكم الآية. والوجه الآخر: أن المقطوع اليدين والرجلين لا يجزئ بلا خلاف نعلمه بين الفقهاء، والمعنى فيه زوال منفعة جنس العضو، فكل ما كان مثله، فحكمه حكمه قياسا عليه. مسألة: [عدم جواز المدبر وأم الولد في كفارة الظهار] قال: "ولا يجزئ المدبر، ولا أم الولد". وذلك لأن المدبر قد استحق العتق بالتدبير، ومن أجله لم يجز بيعه، فإذا أعتقه فإنما عجل له العتق المستحق بغير الكفارة، فلم يجز. وأيضًا: قال النبي صلى الله عليه وسلم في أم الولد: "أعتقها ولدها"، فدل على أن العتق مستحق بالاستيلاد. وأيضًا: فإنها رقبة ناقصة، فهو كعتق بعض عبد.

مسألة: [جواز عتق المكاتب] قال: (ويجزئ فيه المكاتب إذا لم يكن قد أدى من كتابته شيئًا). وذلك لأن عتقه إياه يبطل الكتابة، وإذا سقط المال، جاز عتقه عن الكفارة، لأن الكتابة لم توجب له استحقاق العتق بها. ألا ترى أنه يجوز أن يعجز فيباع، وثبوت حق العتق يمنع جواز البيع على التأبيد، وامتناع جواز بيعه في حال كتابته لا يمنع جواز عتقه عن الكفارة، كالعبد الرهن، والمستأجر، والعبد المدبر. * قال: (وإن كان أدى شيئًا من كتابته: لم يجز عتقه عن الكفارة). من قبل أن ما تقدم من الأداء بدلا من الرقبة، لا ينفسخ بعتقه، وقد ملكه على وجه البدل، فلا يجزئ عن الكفارة، كمن أعتق عبده على مال عن كفارته، فلا يجزئ. مسألة: قال: (ولا يجزئ مقطوع الإبهامين). وذلك أن الإبهام من الكف يقوم مقام أكثر الأصابع بفضل قوتها، ولأن سائر الأصابع يستعين بها، فيقوم مقام أكثرها. * (ولا يجزئ المقطوع ثلاث أصابع غير الإبهام).

لذهاب أكثر منفعة العضو، فهو كذهاب جميعه. مسألة: [عدم جواز عتق العبد المشترك] قال: (ومن أعتق عبدًا بينه وبين آخر: لم يجزه من الكفارة في قول أبي حنيفة، موسرًا كان أو معسرًا). وذلك لأن من أصله: تبعيض العتق، فقد أعتق نصيبه، ونصيب الآخر باق على ملكه. فإن كان موسرًا فضمنه، فإنما انتقل إليه بالضمان نصيب ناقص بعتق النصف الآخر، ألا ترى أن الشريك لم يجز بيعه فيه قبل تضمينه إياه، فصار كالمدبر، فلا يجزئ عن الكفارة. وليس هذا مثل أن يكون له جميع العبد، فيعتق نصفه عن الكفارة، ثم يعتق النصف الآخر ينويها، فيجزيه، لأن النقص الداخل في النصف الباقي إنما كان من جهة عتقه عن الكفارة في ملكه، فلما أعتق النصف الآخر، فقد كمل ذلك العتق، فأجزأه. وأما العبد بين الرجلين، فإن النقص حصل في ذلك النصف، وهو في ملك الغير، والجزء الفائت بالعتق في ملك الغير لا يجزئ عن كفارته، ثم ملك بالضمان نصفًا ناقصًا، فلم يجزئ عن الكفارة. وأما إذا كان معسرًا، واختار الشريك السعاية، فإنه يعتق على الشريك، فلا يجزئ أيضًا. * فأما في قول أبي يوسف ومحمد: فإن كان موسرًا، فضمن:

أجزأه؛ لأن من أصلهما أن العتق لا يتبعض، وقد أعتق العبد كله عليه من غير بدل يستحق على العبد، لما حصل له من العتق به. وإن كان معسرًا: أعتق عليه كله أيضًا، إلا أنه لا يجزيه من الكفارة، من قبل ما استحق على العبد من بدل رقبة، فصار كعتق عبد أعتق على مال، فلا يجزئ عن الكفارة. مسألة: [الصيام في كفارة الظهار] قال: (ومن لا يقدر على الرقبة: صام شهرين متتابعين، ليس فيهما يوم النحر، والفطر، وأيام التشريق). وذلك لقول الله تعالى: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين}. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم هذه الأيام، فكان صومها ناقصًا، فلم يجزئ عن الفرض. * قال: (فإن قطع صومه من فرض أو غيره: كان عليه أن يستقبل). وذلك لأن الله تعالى أوجبها بصفة التتابع، فلا يجزئ أن يأتي بهما إلا على الصفة، كما لا يجزئ في القتل رقبة غير مؤمنة؛ لأن الله تعالى

أوجبها بشرط الإيمان. * قال: (فإن قدر على الرقبة قبل خروجه من الصوم: بطل ما مضى منه، ولا يجزيه إلا العتق). من قبل قول الله تعالى: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين}، فإنما أجاز صومهما بشريطة عدم الرقبة، فإذا وجدها قبل الفراغ منها: لزمته الرقبة، وبطل ما بقي من الصوم. وأيضًا: إذا بطل ما بقي من الصوم، بطل الماضي منه؛ لأنه لا يصح بعضه دون بعض، وقد بينا نظير هذه المسألة في المتيمم إذا رأى الماء في الصلاة. مسألة: [الإطعام في كفارة الظهار] قال: (ومن لا يقدر على الصيام: فعليه إطعام ستين مسكينًا، يجزيه فيه إطعام المؤمن والكافر). لقول الله تعالى: {فإطعام ستين مسكينًا}، ولم يخص بعضًا دون بعض. قال: (ويطعم كل مسكين نصف صاع حنطة، أو صاع تمر أو شعير).

وذلك لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن سليمان الأنباري قال: حدثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو عن عطاء عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر قال: (كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر رمضان، فوقعت عليها ليلة، ثم انطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: حرر رقبة. قلت: والذي بعثك بالحق! ما أملك رقبة غيرها، وضربت صفحة رقبتي. قال: فصم شهرين متتابعين. قال: وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام. قال: فأطعم وسقًا من تمر ستين مسكينًا. قال: والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين ما لنا طعام. قال: فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق، فليدفعها إليك، فأطعم ستين مسكينًا وسقا من تمر، وكل أنت وعيالك بقيتها". حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا يحيى بن آدم قال: حدثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن

معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت: "ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت، فذكرت قصة نزول آية الظهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعتق رقبة. قالت: لا يجد. قال: فليصم شهرين متتابعين. قالت: إنه شيخ كبير ما به من صيام. قال: فليطعم ستين مسكينًا. قالت: ما عنده شيء يتصدق به. قال: فأتي سأعينه بعرق من تمر. قلت: يا رسول الله، وأنا أعينه بعرق آخر. قال: قد أحسنت، اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكينًا، وارجعي إلى ابن عمك. قال: والعرق ستون صاعًا. قال أبو داود: في حديث الحسن بن علي قال: حدثنا عبد العزيز بن يحيى قال: حدثنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق بهذا الإسناد نحوه، إلا أنه قال: "والعرق مكتل يسع ثلاثين صاعًا".

قال أبو داود: وهذا أصح الحديثين. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن شاذان قال: حدثنا معلى الرازي قال: حدثنا ابن أبي زائدة قال: حدثنا محمد بن إسحاق عن معمر بن عبد الله عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: حدثتني خولة بنت مالك بن ثعلبة، وكانت تحت أوس بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعان زوجها حين ظاهر منها بعرق تمر، وأعانته هي بعرق آخر، فذلك ستون صاعًا، قالت: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدق بها". فثبت بهذه الأخبار أن مقدار ما يعطى كل مسكين في كفارة الظهار صاع تمر. وإذا ثبت ذلك في التمر، كان من البر نصف صاع؛ لأن كل من أوجب من التمر صاعًا، أوجب من البر نصفه، والشعير مثل التمر، لأن أحدًا لم يفرق بينهما. فإن قيل: قد روى إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة عن عطاء بن يسار أن خولة بنت ثعلبة ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت، وذكر الحديث إلى أن قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "مريه فليذهب إلى فلان، فقد أخبرني أن عنده شطر سويق، فليأخذه صدقة عليه، ثم ليتصدق به على ستين مسكينًا". وقد روي في بعض أحاديث محمد بن إسحاق عن معمر بن عبد الله

عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن خولة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر زوجها أن يتصدق بخمسة عشر صاعًا. قيل له: أما حديث عطاء، فمرسل؛ لأنه لم يدرك أوس بن الصامت، ولا خولة امرأته. وعلى أنه لو ثبت جميع ذلك لم يعارض ما ذكرنا؛ لأنا لم نقل إنه يجزئ من الكفارة، وإنما أعانه بما حضر في الوقت، وقد بين ذلك في الأخبار التي رويناها، أنه كانت معونة من النبي صلى الله عليه وسلم إياه، وأنها أعانته أيضًا بنصف وسق. وأيضًا: لو كانا متعارضين، كان خبرنا أولى، لما فيه من الزيادة. * قال أبو جعفر: (ومن الزبيب في رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة نصف صاع. وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة: صاعًا، وهو الصحيح على أصله، وهو قول أبي يوسف ومحمد من رأيهما). وجه رواية أبي يوسف: أن الزبيب عندهم كان أعز من التمر، وكان في معنى الحنطة في قيمته، فجعلها مثلها. وفي الرواية الأخرى: أنه قد روي في صدقة الفطر: صاعًا من تمر أو زبيب، فسوى بينهما، كذلك في الكفارة.

مسألة: [إطعام الغذاء والعشاء] قال: (وإن أطعمهم غذاء وعشاء: جاز). لأن الله تعالى قال: {فإطعام ستين مسكينًا}، والواجب منه وسط، وهو أكلتان في اليوم؛ لأن الأكثر في العادة ثلاث مرات، والأقل مرة. * قال: (فإن أطعم مسكينًا واحدًا ستين يومًا، كل يوم نصف صاع: أجزأه). وذلك لقول الله تعالى: {فإطعام ستين مسكينًا}، والعموم يقتضي جواز إعطائه في كل يوم، لشمول الاسم له، فإذا أعطيناه في يوم، ثم منعناه في اليوم الثاني، فقد عينا الطعام في بعض المساكين دون بعض، وذلك خلاف موجب اللفظ. وليس يمتنع إطلاق لفظ: إطعام ستين مسكينًا، ويكون المراد به: أعداد الفعل دون أعداد المساكين، كقول الله تعالى: {يسألونك عن الأهلة}، وإنما هو هلال واحد، ولتكرار الأوقات عليه سماه أهلة. "وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستنجاء بثلاثة أحجار"،

ويجزئ بحجر واحد له ثلاثة جوانب. وأمر بالرمي بسبع حصيات، وتجزئ حصاة واحدة لو رمى بها سبع مرات. مسألة: [عدم تكرار الكفارة لو جامع بعد الظهار] قال: (ومن جامع امرأته بعد الظهار قبل أن يكفر: لم يكن عليه إلا كفارة واحدة). وذلك لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن شاذان قال: حدثنا معلى قال: حدثنا يحيى بن حمزة عن إسحاق بن أبي مروة عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر "أنه ظاهر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وقع بامرأته قبل أن يكفر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فأمره أن يكفر تكفيرًا واحدًا". وروي نحو قولنا عن الحسن، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وإبراهيم. * وروي عن عمرو بن العاص، وسعيد بن جبير أن عليه كفارتين.

قال أبو بكر: والخبر الذي رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم قد دل على معنيين: أحدهما: أن الجماع لا يلزمه كفارة أخرى غير ما تعلق في الظهار. والثاني: أن الذي في الآية من الكفارة ما كان قبل المسيس، وليس فيها إيجابها بعد المسيس، فأفاد الخبر أن وقوع الجماع لا يسقطها. وقولنا أولى من جهة النظر؛ لأن كفارة الظهار متعلقة بإرادة الجماع بعد الظهار، وجماعه إياها ليس بظهار، فيتعلق به وجوب الكفارة، وإنما أكثر ما فيه أنه جامع جماعًا محظورًا، وحظر الجماع لا يوجب كفارة، ألا ترى أنه لو جامعها وهي حائض: لم يلزمه كفارة. وأيضًا: فلا سبيل إلى إثبات الكفارات إلا من طريق التوقيف أو الاتفاق، وذلك معدوم في الجماع. مسألة: [جماع المظاهر في ليل رمضان] قال: (ومن جامع امرأته في الصيام ليلًا، أو في النهار ناسيًا، والمجامعة هي المظاهر منها، فإن أبا حنيفة ومحمدًا قالا: يستقبل الصيام، وقال أبو يوسف: يمضي على صيامه ولا يستأنف". وجه قول أبي حنيفة ومحمد: قول الله تعالى: {فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا}، وذلك مشروط في كل جزء منه؛ لأن ذلك مقتضى اللفظ، إذ كان الشهران اسمًا لهما بكمالهما، وسائر

أجزائهما، إذا كان كذلك، فقد تضمنت الآية نفي المسيس في الشهرين، وقبل الشهرين، فصار من صفة الشهرين أن لا يكون قبلهما مسيس ولا فيهما. فإذا أوقع المسيس في الشهرين، فقد يمكنه أن يأتي بالشهرين على أحد الوصفين المشروطين، وهو أن لا يكون فيهما مسيس، وليس يمكنه أن يأتي بشهرين ليس قبلها مسيس، فوجب عليه أن يأتي بشهرين لا مسيس فيهما؛ لأنه متى أمكنه الوفاء بأحد الشرطين: لم يجزه أن يصومهما على غير ذلك. ولأبي يوسف: أنا لو أمرناه بالاستئناف، لحصل الشهران جميعًا بعد المسيس، ولأن يكون أحد الشهرين قبل المسيس، والآخر بعده، خير من أن يكون الشهران جميعًا بعد المسيس. مسألة: [إن أطعم المظاهر ثلثين مسكينًا ثم جامع] قال أبو جعفر: (وإن أطعم ثلاثين مسكينًا، ثم جامع: لم يستقبل، وأطعم البقية). وذلك لأنه ليس في الإطعام شرط تقديمه على المسيس في الآية؛ لأنه قال: {فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا}، ولم يقل: قبل المسيس، وشرط ذلك في الصيام والعتق.

مسألة: قال: (وإذا جماعها نهارًا متعمدًا في الشهرين: استقبل في قولهم). لأنه أفسد الصوم، فبطل التتابع. مسألة: [عدم صحة الظهار للذمي] قال: (ولا يصح ظهار الذمي). لأن الظهار يوجب تحريمًا ترفعه الكفارة، والذمي لا كفارة عليه، فلم يتعلق بقوله حكم التحريم، إذ لو حرمناها، لم يكن تحريمًا مؤقتًا بالكفارة. *****

باب اللعان

باب اللعان مسألة: [شروط اللعان] قال أبو جعفر: (وإذا قال الرجل لزوجته وهو حر، مسلم، بالغ، عاقل، غير محدود في قذف، وهي كذلك: زنيت، أو قال: يا زانية: كان عليه اللعان إذا طالبته بذلك، وأيهما لم يلتعن: حبس حتى يلتعن إذا طالب الآخر). قال أبو بكر: الأصل فيه: قول الله تعالى: {والذين يرمون أزوجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ...}. الآيات. * (وأيهما لم يلتعن: حبس حتى يلتعن، أو يقر الزوج بكذبه على المرأة). وذلك لأن القذف أوجب لها حق اللعان عليه، كما أوجب الجلد في الأجنبية، فلا يجب إلا بالمطالبة. فإذا أبى: أجبر عليه؛ لأن ذلك حق لها كسائر الحقوق إذا امتنع الذي

لزمه من الخروج منها. وكذلك إن أبت هي اللعان: أجبرت عليه؛ لأن ذلك حق للزوج عليها في قطع فراشها، ونفي ولدها إن كان هناك ولد. مسألة: [موانع اللعان] قال أبو جعفر: (فإن كان الزوج عبدًا، أو محدودًا في قذف: لم يجب اللعان، وعليه الحد). قال أبو بكر: يمنع اللعان بين الزوجين أحد معنيين: إما أن تكون المرأة ممن لا يحد قاذفها، أو الزوج لا حد عليه لو قذف أجنبيًا، فمتى امتنع اللعان من هذا الوجه فلا حد عليه، ولا لعان. والمعنى الآخر: أن يكون الزوج ممن يصح قذفه، والمرأة ممن تصح أن تكون مقذوفة، إلا أن اللعان يبطل، بمعنى: تبطل الشهادة. فإن كان ذلك من قبل الزوج أو من قبلها، فعلى الزوج الحد، نحو أن يكونا محدودين في قذف. وإن كان من قبل المرأة دون الزوج، فلا حد ولا لعان، نحو أن تكون المرأة محدودة في قذف، والزوج ليس كذلك. والأصل في اعتبار معنى الشهادة في المتلاعنين: قول الله تعالى: {فشهادة أحدهم أربع شهدت بالله}، وقال في المحدود في القذف: {ولا

تقبلوا لهم شهادة أبدًا}، فانتقى بذلك قبول شهادة المحدود في القذف على وجه من الوجوه، وقد سمى الله تعالى اللعان شهادة، فانتقى عن المحدود في القذف بعموم الآية. وإذا صح ذلك في المحدود في القذف، كان كذلك حكم سائر من ليس من أهل الشهادة من وجهين: أحدهما: اتفاق الجميع على أنه لا فرق بين المحدود في القذف وغيره ممن ليس من أهل الشهادة، وأنه متى انتقى اللعان من أحدهما، انتقى من الآخر. والوجه الثاني: قياس عليه بعلة أن الحد في القذف يخرجه من أن يكون من أهل الشهادة، ثم منع اللعان، فوجب أن يكو كل وصف يخرجه من أن يكون من أهل الشهادة بمثابته. وأيضًا: لما قال تعالى: {ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم}، فأثبتهم شهداء، ومعلوم أن الإنسان لا يكون شاهدًا لنفسه، فكانت فائدة ذكر الشهادة فيه اعتبار كونه من أهل الشهادة في إيجاب اللعان. فإن قال قائل: الأعمى، والفاسق ليسا من أهل الشهادة، ويلاعنان. قيل له: ليس كذلك؛ لأن الأعمى من أهل الشهادة، وإنما المانع

من قبولها ما يحجره عن رؤية المشهود عليه، كرجل أشهد على رجل من وراء الحجاب، فلا يخرجه ردها لشهادته من كونه من أهل الشهادة. وهذا المعنى غير معتبر في اللعان؛ لأنه لا يحتاج في وجوب اللعان بينهما أن يقول: رأيتها تزني، وإنما يقول: هي زانية، فلما لم يكن من شرط اللعان أن يقذفها بزنى بمعاينة منه، لم يعتبر الحائل بينه وبينها من عدم البصر. وأما الفاسق، فإنه من أهل الشهادة؛ لأنها لم ترد من طريق الحكم، وإنما ردت من جهة الاجتهاد. وأيضًا: فإن شهادته لم تبطل من طريق الحكم؛ لأن الحكم بإبطال شهادته من جهة الفسق لا يصح. وليس كذلك الكافر، والعبد، والمحدود في قذف؛ لأن بطلان شهادة هؤلاء من جهة الحكم؛ لأن الكفر يصح الحكم به، ويثبت بالبينة عند الحاكم، وكذلك الرق، والحد في القذف، ولا يصح إثبات الفسق بالبينة عند الحاكم، ولا يجوز الحكم به، فلذلك اختلفا. وأيضًا: فإن الفسق غير متيقن منه في حال الشهادة، إذ جائز أن يكون قد تاب في الحال من فسقه فيما بينه وبين الله تعالى، فتصح توبته، فليس فسقه في هذه الحال من جهة اليقين، والكفر يقين؛ لأنه لو تاب فيما بينه

وبين الله تعالى لم يكن مسلمًا حتى يظهره بلسانه، فكذلك الرق، والحد في القذف متيقن، فلذلك فارق هذه الأشياء الفسق. وأيضًا: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا لعان بين أهل الكفر وأهل الإسلام، ولا بين العبد وامرأته". حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن حمويه بن سنان التستري قال: حدثنا الحسن بن إسماعيل عن مجالد المصيصي قال: حدثنا حماد بن خالد عن معاوية بن صالح عن صدقة أبي توبة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع ليس بينهن ملاعنة: اليهودية، والنصرانية تحت المسلم، والمملوكة تحت الحر، والحرة تحت المملوك". فهذا الذي ذكرناه دليل في اعتبار كون الملاعن من أهل الشهادة. * وأما اعتبار المرأة في كونها ممن يحد قاذفها، فإن الأصل فيه: أن حد قاذف الزوجات والأجنبيات كان الجلد بقوله: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة}. والدليل على ذلك: حديث إبراهيم عن علقمة عن عبد الله "أن رجلًا من الأنصار أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: لو أن رجلًا

وجد مع امرأته رجلًا، فتكلم به جلدتموه، أو قتلتموه، أو سكت سكت على غيظ، فقال: اللهم افتح، وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان". وذكر الحديث. وروى هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس "أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: البينة أو حد في ظهرك. فقال هلال: والذي بعثك بالحق! إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الجلد، فنزلت: {والذين يرمون أزواجهم} ". وذكر الحديث. فثبت بذلك أن حد الزوج في قذفه للمرأة كان الجلد، كالجلد في قذفه للأجنبية، ثم أبدل الله تعالى الزوج من الجلد اللعان، فمن لا يجب على قاذفها الحد، لا يجب على زوجها اللعان بقذفه إياها، إذ كان اللعان أقيم مقام الجلد فيمن يجب على قذفها الجلد. ويدل على ذلك: أن من قذف امرأته، فأوجبنا عليه اللعان، ثم أكذب نفسه: وجب عليه الحد، وسقط اللعان، فحين سقط اللعان، عاد إلى الأصل الذي كان واجبًا عليه قبل وجوب اللعان.

مسألة: [حكم محدود القذف في اللعان] قال: (وإذا قذفها وهو محدود في قذف، أو عبد وهي حرة مسلمة: فعليه الحد). وذلك لأن اللعان سقط من جهته، فصار كإكذابه لنفسه في باب سقوط اللعان من جهته، فوجب عليه الحد. وأيضًا: لما لم يجب اللعان لأنه عبد، صار كقاذف الأجنبية. * قال: (وإن كانت هي محدودة في قذف، وهو حر مسلم غير محدود: فلا حد عليه). لأن اللعان سقط من جهتها، فهو كتصديقها إياه. * (ولو كانا جميعًا محدودين في قذف: فعليه الحد). لأنه هو الذي يبدأ باللعان، وقد امتنع ذلك من جهته، فيحد. مسألة: [الفرقة في اللعان] قال: (ولا يقع الفرقة بعد اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما). قال أبو بكر: وقال زفر: إذا فرغا من اللعان: وقعت الفرقة. وجه القول الأول: ما روى الزهري عن سهل بن سعد الساعدي "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لاعن بين العجلاني وامرأته قال: كذبت

عليها إن أمسكتها". وفي بعض ألفاظ هذا الحديث: "كذبت عليها إن لم أفارقها، هي طالق ثلاثًا، قال: ففارقها قبل أن يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما"، فكانت سنة المتلاعنين. وفي حديث آخر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين"، وأنه قال: "ذاكم التفريق بين كل متلاعنين". وهذه الألفاظ كلها دالة على أن الفرقة غير واقعة باللعان، وذلك لأن العجلاني لما قال: "كذبت عليها إن أمسكتها"، و: "إن لم أفارقها هي طالق ثلاثًا": فتضمن هذا القول إخبارًا منه بأنها امرأته، إلا إن طلقها، وترك النبي صلى الله عليه وسلم النكير عليه في إخباره بأنها امرأته، باقية معه على النكاح، مباحة له، ولا يجوز أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم النكير على من أخبر بإباحة فرج محظور، وببقاء نكاح قد بطل، ووقعت البينونة فيه، فلما ترك النبي عليه الصلاة والسلام النكير عليه، دل على أنها كانت امرأته على ما أخبر به إلى أن طلقها. ويدل عليه قوله: "ففارقها قبل أن يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما"، ولو كانت الفرقة واقعة بنفس اللعان، لم يصح قوله: "ففارقها".

وقد ذكر في حديث الزهري هذا لفظ آخر فيه تصريح بإبطال قول مخالفنا. وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح قال حدثنا ابن وهب عن عياض بن عبد الله الفهري وغيره عن ابن شهاب عن سهل بن سعد أنه ذكر قصة عويمر العجلاني، واللعان الذي كان بينهما فقال فيه: "فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ما صنع عند النبي صلى الله عليه وسلم. قال سهل: حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضت السنة بعد في المتلاعنين: أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعا أبدًا". فزعم بعض المخالفين أن الفرقة كانت واقعة بلعان الزوج، وأن البائنة لا يلحقها الطلاق، وفي هذا الخبر تصريح ببطلان قوله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفذ تطليقاته الثلاث، ولو كانت الفرقة واقعة باللعان

لما نفذت على قوله. ودلالته قائمة أيضًا على قولنا؛ لأن فرقة اللعان عندنا طلاق، فلو كانت واقعة لما نفذت التطليقات الثلاث، وإنما كان ينفذ منها اثنتان، وقد أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفذ التطليقات الثلاث. وأيضًا: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذاكم التفريق بين كل متلاعنين"، ومعناه: فرقوا بينهما، فدل على أن الفرقة لم تقع بنفس اللعان. ومن جهة النظر: أن اللعان ليس بصريح البينونة، ولا كناية عنها، فلا تقع الفرقة حتى يفرق الحاكم، كسائر الألفاظ التي ليست بكناية عن البينونة. وأيضًا: لما تعلق حكم اللعان بالحاكم، أشبه الشهادة التي تتعلق صحتها بالحاكم، ولا يقع موجبها من الفرقة حتى يقضي بها الحاكم، كما لا يثبت حكم الشهادة إلا بعد قضاء القاضي. وليس كالإيلاء، لأنه يصح بغير حكم حاكم، فكذلك ما يتعلق به من الفرقة. مسألة: [اللعان تطليقة بائنة] قال: (وفرقة اللعان تطليقة بائنة في قول أبي حنيفة ومحمد).

لأنها تعلقت بسبب من جهة الزوج، حكمه مقصور على النكاح، لا يوجب تحريمًا مؤبدًا، وهذا هو حقيقة الطلاق. "وفي قول أبي يوسف: ليس بطلاق"؛ لأن من أصله: أنه يوجب تحريمًا مؤبدًا، والطلاق لا يوجب تأبيدًا في التحريم. مسألة: [حكم المحدود في القذف في اللعان] (وإذا حد الزوج في قذف، أو المرأة، أو صارا بحيث لو اجتمعا ثم قذفها لم يجب اللعان: جاز له أن يتزوجها في قول أبي حنيفة ومحمد). وذلك لأن حدوث هذا المعنى يبطل حكم اللعان الماضي، والدليل على ذلك أنه يمنع وقوعه في المستقبل، ومتى بطل حكم اللعان: جاز له أن يتزوجها إذا كان تحريم النكاح متعلقًا ببقاء اللعان، ألا ترى أن هذا المعنى لو كان موجودا وقت الفرقة، لم يجب اللعان. فإن قيل: لو بطل حكم اللعان، لعادت زوجته كما كانت. قيل له: لا يجب ذلك، لأن من طلق امرأته ثلاثًا، ثم تزوجت زوجًا آخر، فدخل بها: ارتفع به التحريم الموجب بالطلاق الثلاث، ولا يعود العقد الأول بينهما، بل يحتاج إلى فراق الثاني وعقد مستقبل للأول، وكذلك حدوث ما ذكرنا، يرفع التحريم الواقع باللعان، ولا ترتفع مع ذلك البينونة إلا بنكاح مستقبل. ويدل على بطلان حكم اللعان بإكذابه نفسه، وجلد الحد: أن اللعان حد.

والدليل على ذلك ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن أحمد بن نصر الخراساني أبو جعفر قال: حدثنا عبد الرحمن بن موسى قال: حدثنا نوح بن دراج عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "لما لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المرأة وزوجها فرق بينهما، وقال: إن جاءت به أزج القدمين يشبه فلانًا، فهو منه. قال: فجاءت به يشبهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من الحد، لرجمتها"، فسمى اللعان حدا. وقد روي: "لولا ما مضى من الإيمان"، "ولولا ما مضى من كتاب الله". وكله صحيح يجوز أن يكون قال الجميع. فإذا أكذب نفسه وجلد الحد لذلك القذف: بطل حكم اللعان، لاستحالة اجتماع حدين عليه في قذف واحد. فدل ذلك على أن اللعان قد بطل حكمه، فبطل ما تعلق به من حكم التحريم، فجاز له تزويجها. ويدل على بطلان حكم اللعان: أنه لو لاعنها بولد، ثم أكذب نفسه: لحق به نسب الولد، وهذا يدل على إبطال حكم اللعان؛ لأن نفي الولد

كان أحد الأحكام المتعلقة باللعان. فإن قال قائل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا". قيل له: إن هذا كلام الزهري مدرج في الحديث، ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى محمد بن إسحاق عن الزهري عن سهل بن سعد في قصة المتلاعنين قال الزهري: "فمضت السنة أنهما إذا تلاعنا: فرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدًا". ولو ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدل على موضع الخلاف بيننا، وذلك لأنه علق الحكم بالصفة، فيكون بقاؤه موقوفًا على بقاء الصفة، لأنه قال: "المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا"، وهذا يقتضي منع الاجتماع ما داما على حال التلاعن، وما دام حكم اللعان باقيًا، فإذا أكذب نفسه، وجلد الحد: بطل حكم اللعان، وزوال حال التلاعن، وهذه الحال لم ينتظمها الخبر.

وهذا كقوله تعالى: {ما على المحسنين من سبيل}، وكقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}، وكقوله: {لا ينال عهدى الظالمين}، والمعنى في جميع ذلك: مراعاة الصفة التي علق بها الحكم، دون لزومه على التأبيد. ويدل على ذلك: ما روى ابن المبارك عن يونس عن الزهري في المتلاعنين لا يتراجعان أبدًا إلا أن يكذب نفسه، فيجلد الحد، فلا جناح عليهما أن يتراجعا. فعلمنا أن روايته: مضت السنة أن لا يجتمعا: يعني ما داما على حال التلاعن. وكذلك تأويل قول من روي عنه من الصحابة أنهما لا يجتمعان، وهم: علي وعمر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم. وروي عن إبراهيم وسعيد بن المسيب أنه إذا أكذب نفسه، وجلد

الحد: جاز له أن يتزوجها. ويروى عن سعيد بن جبير: أن فرقة اللعان لا تبنها منه، وأنه إذا أكذب نفسه: ردت إليه امرأته، ولم يوافقه على ذلك أحد. فإن قال قائل: روى سعيد بن جبير عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين: "حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها"، ولو كان تحريمها غير مؤبد لبينه، كما قال الله تعالى: {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره}. قيل له: أول ما في هذا أن قوله: "لا سبيل لك عليها": لا يدل على تحريم نكاحها، وإنما يفيد البينونة وقطع الزوجية، كما تقول: لا سبيل لك على الأجنبية، ولا على عبد زيد، ولا يفيد تحريم عقد النكاح والشراء. وعلى أنه لو كان يفيد منع العقد، لكانت الدلائل التي ذكرناها في جواز العقد مضمومة إليه، فيصير حينئذ كأنه قال: لا سبيل لك عليها دمتما على حال اللعان. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة لما قالت له: هل لك

في أختي أن تتزوجها؟ فقال: "إنها لا تحل لي"، ومعناه: ما كنت عندي، لا على التأبيد. ويدل من جهة النظر على جواز نكاحها: قول الله تعالى: {فأنكحوا ما طاب لكم من النساء}، وقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم}، وقوله: {فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن}، ونحو ذلك من الآي المتضمنة لإباحة عقد النكاح. مسألة: [نفي الولد بعد الولادة] (وإذا نفى ولدها بحضرة ولادتها إياه، أو بعد ذلك بيوم أو يومين: لاعنها، وانتفى ولدها، وإن لم ينفه في الوقت الذي ذكرنا: لم يكن له أن ينفيه بعد ذلك قول أبي حنيفة).

والأصل في نفي نسب الولد من الأب باللعان: ما رواه مالك وعبيد الله بن عمر وفليح بن سليمان عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين وألحق الولد بالمرأة. وفي حديث عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في ابن الملاعنة أن لا يدعى لأب". وأما وجه قول أبي حنيفة في اعتبار حال الولادة من غير توقيت: فهو أن الفقهاء متفقون على أنه لو سكت عن نفيه سنة أو سنتين: لم يكن له بعد ذلك أن ينفيه، وأن له نفيه بعد الولادة بالوقت اليسير، فجعل أبو حنيفة سكوته في الوقت الذي لو أراد نفيه نفاه: إقرارًا بالولد، ولم يؤقت فيه شيئًا؛ لأنه محمول على ما يظهر من قبول التهنئة ونحوها. (وقال أبو يوسف، ومحمد: له أن ينفيه ما بينه وبين أربعين يومًا)، لأن الأربعين مدة النفاس، ومدة النفاس هي حال الولادة، فلذلك اعتبر فيه هذه المدة. فصل: قال أبو جعفر: (وإن كان غائبًا في حال الولادة، فقدم فيما بينه وبين حولين: كان له أن ينفيه ما بينه وبين أربعين يومًا، ما كان ذلك في الحولين، فإن خرج الحولان: لم يكن له أن ينفيه بعد ذلك، فإن نفاه:

لاعن بالقذف، وكان ابنه على حاله). قال أبو بكر: لا نعرف تقدير هذين الحولين إلا فيما ذكره أبو جعفر، ويشبه أن يكون إن صح اعتبار الحولين عنهم: أن يكون على قول أبي يوسف ومحمد في وقت الرضاع. ولأنه معلوم أنه لو قدم بعد عشر سنين أو عشرين سنة: لم يكن له نفيه. كذلك إذا انتقل من حد الرضاع إلى حال الاغتذاء بالطعام: لم يكن له أن ينفيه. وأما اعتبار الأربعين في الحولين إذا قدم، فهو كما اعتبر بعد الولادة إذا كان حاضرًا. مسألة: [نفي الحمل] قال: "وإذا نفى حمل امرأته: لم يلاعن في قول أبي حنيفة في حال الحمل، ولا بعد الولادة". وذلك لأنا لا نثبت القذف بالاحتمال والجواز؛ لأنه مما يسقط حكمه بالشبهة، فإذا كان الحمل غير معلوم من جهة اليقين، لم يثبت اللعان في الحال؛ لأنه بمنزلة الحد. وإن ولدت لأقل من ستة أشهر: لم يلاعن أيضًا؛ لأنه لما لم يكن ذلك النفي قذفًا في الابتداء، لم يجز وقوفه على وضع الحمل، لأنه يصير قذفًا

معلقًا بشرط، فلا يجب به لعان. كما أنه لو قال: إذا جاء رأس الشهر فأنت زانية، أو قال: إذا وضعت ما في بطنك فأنت زانية: لم يكن قذفًا يجب به حد، ولا لعان. وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لاعن بالحمل، فإن الزوج كان قذفها بالزنى، وكذلك نقول: إذا قذفها بالزنى: لاعنها حاملًا كانت أو غير حامل، وإنما الموضع الذي لا يوجب فيه أبو حنيفة اللعان: إذا قال: إن هذا الحمل ليس مني، ولم يقل: أنت زانية. وقد روي في حديث عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس في قصة المتلاعنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بينهما، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب، وقال: إن جاءت به على صفة كيت وكيت، فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به على صفة أخرى ذكرها، فهو للذي رميته به. فذكر فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا يدعى الولد الذي هي حامل به لأب. وعباد بن منصور ضعيف جدًا، ومع ذلك فإن أهل المعرفة بذلك لا يشكون أن في حديث عباد بن منصور كلامًا كثيرًا، ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، مندرجًا في الحديث.

فإن قال قائل: الحمل محكوم عليه قبل الولادة. قال الله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}، وقال: {فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن}. ولو اشترى جارية، فقال النساء: إنها حامل: كان له ردها بالعيب، وإن كان كذلك، وجب أن يكون محكومًا به في صحة القذف إذا نفاه، ويجب به اللعان. قيل له: لأن هذه الأحكام التي ذكرتها يصح ثبوتها مع الشبهة، والحد لا يصح إثباته مع الشبهة، وأقل أحوال الشبهة: يجوز أن يكون ما ظنناه حملًا ريحًا أو داء، ومثله يمنع وجوب اللعان، إذ كان اللعان حدًا. * وقال أبو يوسف ومحمد: إذا نفى حمل امرأته، ثم وضعت لأقل من ستة أشهر منذ يوم قذفها: لاعن؛ لأنا قد تيقنا أنه كان قاذفًا يوم القول، وإذا جاءت به لستة أشهر: لم نتيقن أن الولد كان موجودًا يوم النفي، فلم يكن قاذفًا به. مسألة: [قذف المرأة وأمها] قال: (ومن قال لامرأته: يا زانية بنت الزانية: كان قاذفًا لها ولأمها، فإن اجتمعا على مطالبته: حددناه لأمها، وسقط اللعان).

وذلك لو بدأنا باللعان، لكان حد القذف قائمًا عليه للأم، وإذا بدأنا بحدها سقط اللعان، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ادرؤوا الحدود ما استطعتم"، واللعان حد، فإذا أمكننا أن نتوصل إلى إسقاطه فعلنا. ألا ترى أن رجلًا لو زنى، وسرق، وقتل، أنا نبدأ بالقتل، ويسقط حد الزنا والسرقة. * قال: (وإن لم تطالب الأم بحدها، وطالبته باللعان: لاعن؛ لأن حد القذف لا يقام إلا بمطالبة المقذوف، وما لم يحد: فاللعان واجب). ولا يجوز أيضًا أن يؤخر اللعان، لجواز أن تطالب الأم بحد القذف، لأن اللعان حق للمرأة لا يجوز تأخيره بشيء يجوز أن يقع، ويجوز أن لا يقع. قال أبو جعفر: (فإن لوعن بينه وبينها: لم يحد بعد ذلك لأمها إن طالبته بعد ذلك بالحد). قال أبو بكر: وليس هذا من مذهبهم، بل قول أصحابنا جميعًا: أنه يحد للأم إذا طالبته بحدها بعد لعانه للابنة.

مسألة: [ابتداء اللعان من الرجل] قال أبو جعفر: (ويبدأ في اللعان بالرجل). لقول الله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم}، والفاء للتعقيب، فاقتضى ذلك أن يكون لعانه عقيب القذف، فإذًا لعان المرأة بعد لعانه. وأيضًا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالرجل في اللعان. وأيضًا: فإن اللعان حق لها استحقته عليه بالقذف، فلا يجوز تأخيره عن الحال التي أوجبتها له. * قال: (فإن قذفها بولد: فإنه يلاعن عليه، فيقول: فيما رميتها به من الزنى في نفي ولدها هذا، وكذلك المرأة تقول: فيما رماني به من الزنى في نفي ولده هذا). وذلك لأنه يحتاج إلى نفيه باللعان، فينبغي أن يلاعن عليه، كما يذكرها في اللعان، ويشير إليها به، إذ كان لعانه إياها يتعلق به حكم التفريق، وإبطال النكاح، كما يتعلق به نفي الولد.

مسألة: [قذف المرأة قبل طلاق الثلاث] قال: (ومن قذف امرأته، ثم طلقها ثلاثًا: سقط اللعان، ولا حد عليه). وذلك لأن اللعان حكم يختص بحال الزوجية، لقول الله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم}، ثم قال: {فشهادة أحدهم}، يعني أحد الأزواج، فثبت أن حكم اللعان مقصور على حال الزوجية. وأيضًا: اتفقوا على أنه لو قذفها وهي أجنبية: لم يجب اللعان، فكذلك إذا صارت أجنبية بعد القذف. ولا يجب الحد؛ لأن الواجب بالقذف كان اللعان، فسقط من جهة الحكم، فهو كسقوطه بالموت، فلا يحد. * (ولو طلقها ثلاثًا، ثم قذفها بولد أو بغير ولد: فإنه يحد). لقول الله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة}، ثم خص منه الزوجات بقوله: {والذين يرمون أزواجهم}، وهذه ليست بزوجة. مسألة: [نفي التوءم] قال: (ومن ولدت امرأته توءمين، فأقر بالأول، ونفى الثاني: لاعن،

ولزماه جميعًا). وذلك لأن إقراره بدءًا بالابن الأول لا يمنع صحة اللعان بنفيه بعد ذلك؛ لأن صحة اللعان ليست موقوفة على نفي الولد، إذ قد يقطع الفراش من غير ولد، ولا يكون إقراره بدءًا إكذابًا لنفسه، لأنه لم يكن هناك قذف متقدم للإقرار، فيكون إكذابًا له. ألا ترى أن رجلًا لو قال لامرأته: لم تزن، ثم قال: قد زنيت: وجب اللعان، ولم يكن ذلك إكذابًا لنفسه؛ لأنه كان قبل القذف. * قال: (فإن نفى الأول، وأقر بالثاني: لزماه جميعًا، وحد). وذلك لأنه لما نفى الأول صار قاذفًا لها، ثم لما أقر بالثاني فقد أقر بهما، لأنهما في بطن واحد، فصار إكذابًا: فحد. *****

باب العدد والاستبراء

باب العدد والاستبراء مسألة: [مدة عدة الحرة] قال أبو جعفر: (وإذا طلق الرجل زوجته بعد دخوله بها وهي حرة: فعدتها ثلاثة قروء، كما قال الله تعالى، والأقراء: الحيض). قال أبو بكر: وهو قول عمر، علي، وعبد الله، وأبي موسى. وروي عن زيد بن ثابت، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، الأقراء: الأطهار. قال أبو بكر: قد تكلمنا في ذلك على الاستقصاء في مسألة أفردناها في غير هذا الكتاب، فأغنى عن إعادته هاهنا، إلا أني لا

أخلي هذا الموضع من جملة من القول ينتظم عمدة الحجاج فيها، فنقول وبالله التوفيق: إن أهل اللغة قد قالوا في أصل القرء أقوالًا، أنا ذاكرها ومعقبها بوجه دلالتها على صحة قولنا. قال قائلون منهم: إن القرء هو الوقت. حدثنا بذلك أبو عمر غلام ثعلب أنه كان إذا سئل عن معنى القروء، لم يزدهم على الوقت، وقد استشهد لذلك بقول الشاعر: له قروء كقروء الحائض ويقول الأعشى: لما ضاع فيها من قروء نسائكا فالأول عنى أن له وقتًا يهيج فيه عداوته كوقت الحائض، والثاني عنى وقت وطئه إياهن. وقال آخر: إذا هبت لقارئها الرياح، يعني لوقتها في الشتاء. وقال آخرون: هو الضم والتأليف، ومنه قوله تعالى: {فإذا قرأناه فاتبع

قرآنه}، أي: إذا جمعناه. وقال الشاعر: ذراعي عيطل أدماء بكر .... هجان اللون لم تقرأ جنينا وحكي عن بعضهم أنه قال: هو الخروج من شيء إلى شيء، وهذا القول ليس عليه شاهد من اللغة، ولا يثبت عمن يوثق به من أهلها. ثم نقول: إن كانت حقيقة في الوقت، فالحيض أولى به؛ لأن الوقت إنما يكون وقتًا لما يحدث فيه، والحيض هو الحادث، والطهر إنما هو عدم الحيض، وليس هو شيئًا حادثًا. وإن كان من الضم والتأليف، فالحيض أولى به أيضًا؛ لأن دم الحيض إنما يتألف وينضم من سائر أجزاء البدن في حال الحيض، فمعنى الحيض أولى بالاسم أيضًا. فإن قيل: إنما يتألف ويجتمع دم الحيض في أيام الطهر، ثم يسيل في أيام الحيض. قيل له: لو كان تألفه واجتماعه في أيام الطهر لسال، إذ ليس هناك مانع من السيلان، فعلمنا أن اجتماعه إنما يكون في الأوقات التي يوجد

فيها الخروج والسيلان، وإن كان القرء اسمًا للخروج من حال إلى حال، فإنه يرجع في المعنى إلى الضم والتأليف، وذلك لانضمام حال الطهر إلى الحيض، أو الحيض إلى الطهر، فيعود إلى المعنى الأول. ثم قد علمنا أن اسم القرء يتناول الحيض والطهر جميعًا، وذلك لأن الصحابة لما اختلفت، فتأوله بعضهم على الحيض، وبعضهم على الطهر، علمنا أن الاسم يتناول كل واحد من المعنيين، لولا ذلك لما جاز لهم تأويل الآية عليه، وإذا صح ذلك اعتبرنا فوجدنا الحقيقة للحيض دون الطهر، بدلالة ما قدمنا. ومما يدل على أن اسم القرء يلزم الحيض حيثما وجد، وقد يفارق الطهر، فلا يسمى قرءًا: وهو طهر الآيسة والصغيرة، فعلمنا أن اسم القرء يتناول الحيض حقيقة، والطهر مجازًا، لأن أسماء الحقائق لا تنتفي عن مسمياتها بحال، فدل على أن اسم القرء للطهر الذي بين الحيضين مجاز، سمي بذلك لمجاورته الحيض، كما يسمى الشيء باسم غيره إذا كان مجاورًا له. ويدل على أن المراد بالأقراء الحيض: أن الاسم لما تناولهما على ما ذكرناه، واتفق الجميع على أن المراد أحدهما، احتجنا إلى طلب

المراد، فوجدنا لغة النبي صلى الله عليه وسلم في الأقراء أنها الحيض، لقوله عليه الصلاة والسلام: "المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها". وقال لفاطمة بنت أبي حبيش: "فإذا أقبل قرؤك فدعي الصلاة، فإذا أدبر فاغتسلي وصلي ما بين القرء إلى القرء". فكانت لغة النبي صلى الله عليه وسلم في القروء أنه الحيض، فوجب أن يكون معنى الآية محمولًا عليه؛ لأن القرآن لا محالة نزل بلغة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله تعالى معنى الألفاظ المحتملة. وأيضًا: حديث ابن عمر، وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان"، وقد تقدم ذكر سندهما. وأيضًا: لما قال الله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر}، فأقام الشهور مقام الحيض عند عدمها، دل ذلك على أن الأصل هو الحيض، كما أنه لما قال: {فلم تجدوا ماء فتيمموا} علمنا أن الأصل الذي نقل عنه إلى الصعيد هو الماء.

ويدل عليه: أن الله تعالى حصر الأقراء بعدد يجب استيفاؤه في العدة، وهو قوله: {ثلاثة قروء}، واعتبار الطهر فيه يمنع استيفاء العدد بكماله، لأنه إذا أراد أن يطلقها للسنة، فلا بد أن يصادف طلاقه في الطهر قد مضى فيه من الطهر بعضه، ثم يجب عنده بعد ذلك طهران آخران، فهذان قرءان، وبعض الثالث، فلما تعذر استيفاء الثالث إذا أراد طلاق السنة، علمنا أن المراد هو الحيض الذي يمكن استيفاء العدد المذكور في الآية بكماله. وليس هذا كقوله تعالى: {الحج أشهر معلومات}، والمراد: شهران وبعض الثالث؛ لأنه لم يحصرها بعدد، وإنما ذكرها بلفظ الجمع. والأقراء محصورة بعدد وهو ثلاثة، ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: رأيت ثلاثة رجال، ومرادك رجلان، ويجوز أن تقول: رأيت رجالًا، والمراد رجلان. فصل: [انتهاء العدة] قال أبو جعفر: (فإذا طهرت من الحيضة الثالثة: فقد حلت لغيره). وذلك لأن عدتها قد انقضت، وقال الله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فلا

جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف}. * قال: "فإن أخرت الغسل من الحيضة الثالثة، وكان حيضها دون العشرة: كانت في العدة حتى تغتسل، أو يمضي عليها وقت الصلاة". قال أبو بكر: قد روي عن علي، وعبد الله في آخرين من الصحابة اعتبار الغسل من الحيضة الثالثة. ووجه ذلك: أن أيامها إذا كانت دون العشرة، فجائز أن يعاودها الدم، فتكون العدة باقية، فلم يكن في انقطاع الدم حكم بانقضاء الحيض، فإذا اغتسلت انقطع حكم الحيض بالاتفاق، فانقضت العدة. وإذا مضى عليها وقت صلاة، فقد لزمها فرض الوقت، ولزوم فرض الوقت ينافي بقاء حكم الحيض؛ لأن الحائض لا يلزمها فرض الصلاة، وأما إذا كانت أيامها عشرًا، فإنه قد ثبت عندنا أن الحيض لا يكون أكثر من عشرة أيام، ففي انقضاء العشرة انقضاء الحيض. * قال: (ولو كانت في سفر ولا ماء معها، فتيممت، فإن أبا حنيفة قال: هي في العدة على حالها حتى تصلي بتيممها). وذلك لأن التيمم لا يرفع الحدث عندنا، وإنما يبيح الصلاة، فحالها

بعد التيمم كهي قبله، فإذا صلت فقد تعلق به حكم لا يلحقه الفسخ بوجود الماء، فصارت في حكم الطاهرات، وانقضت به العدة. * قال أبو جعفر: (وقال أبو يوسف ومحمد: إذا تيممت فقد خرجت من العدة). قال أبو بكر: أبو يوسف مع أبي حنيفة في هذه المسألة، وهذا قول محمد وحده. ووجهه: أنه قد يستباح به فعل الصلاة، وقراءة القرآن، ودخول المسجد، ونحو ذلك مما هو محظور فعله على الحائض، فخرجت بذلك من حكم الحيض؛ لأن حكم الحيض لو كان باقيًا، لما جاز لها أن تستبيح هذه الأفعال. والانفصال من ذلك لأبي حنيفة: أن هذه الاستباحة تنفسخ بوجود الماء، وبطلان حكم التيمم. وليس كذلك الصلاة؛ لأنها لا تنفسخ برؤية الماء، وأما قراءة القرآن فإنها وإن وقعت على جهة الإباحة: لا تنفسخ، فليست صحة التلاوة معلقة بوجوب الطهارة؛ لأن التلاوة حاصلة سواء كانت طاهرًا أو حائضًا، فلم يجب أن تعتبر في صحة حكم التلاوة، وليس كذلك الصلاة؛ لأنها لا يصح حكمها إلا بعد الطهارة.

مسألة: [عدة الزوجة النصرانية] قال أبو جعفر: (ولو كانت الزوجة نصرانية: خرجت من العدة بانقطاع الدم عنها). وذلك لأنه ليس عليها غسل، فهي بمنزلة المسلمة إذا اغتسلت. مسألة: [عدة الأمة بعد الإعتاق] قال: (ومن طلق زوجته وهي أمة، ثم أعتقت وهي في العدة، فإن كان الطلاق رجعيًا: صارت عدتها ثلاث حيض، وإن كانت بائنًا: فعدتها عدة الأمة على ما كانت). قال أبو بكر: اعتبر انتقال عدتها عند العتق بالموت، فإذا انتقلت بالموت انتقلت بالعتق، وإذا لم تنتقل بالموت لم تنتقل بالعتق، والمعنى الجامع بينهما: أن كل واحد من السبيلين يوجب نقل العدة. ألا ترى أن عدة الحرة ثلاث حيض، كما أن عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا، فلو أن رجلًا طلق امرأته طلاقًا رجعيًا، ثم مات عنها وهي في العدة: صارت إلى عدة الوفاة، كذلك إذا أعتقت: وجب أن تنتقل عدتها إلى ثلاث حيض، ولو مات عنها وهي بائن: لم تنتقل عدتها، كذلك لا تنتقل بالعتق.

مسألة: [استئناف العدة بعد ارتفاع الحيض] قال: (وإذا كانت ممن تحيض، فارتفع حيضها من غير حمل: كانت في عدتها أبدًا حتى تحيض ثلاث حيض، أو تيأس من الحيض، فتستقبل عدة الآيسة من المحيض، وهي ثلاثة أشهر). قال أبو بكر: وهذا قول علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم. * وروي عن عمر بن الخطاب، وابن عباس: أنها تمكث تسعة أشهر، فإن لم تحض: اعتدت ثلاثة أشهر بعد ذلك. وهو قول مالك بن أنس. والحجة للقول الأول: قول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}، فالاعتداد بالأقراء واجب بظاهر الآية إلى أن يجيء ما ينقلها عنها. وقال الله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن

ثلاثة أشهر}، فنقل إلى الشهور عند اليأس من المحيض، وارتفاع الحيض للتشابه: ليس باليأس، فوجب اعتبار الأقراء إذا كان ذلك يرجى لها. فإن قال قائل: لما قال الله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر}، فنقلها عند الارتياب إلى الشهور، وارتفاع الحيض يوجب الارتياب، وجب أن تكون عدتها بالشهور. قيل له: ليس المراد: الارتياب في اليأس، وإنما هو ارتياب المخاطبين قبل نزول الآية فيما يجب من العدة على من كانت هذه حالها. وروي نحو هذا التأويل عن ابن مسعود قال: وذلك أن الله تعالى لما بين طلاق ذات الحيض، وطلاق الحامل، شكوا في اليائسة، فلم يدروا ما عدتها؟ فأنزل الله تعالى مخبرا عن الحال التي خرج عليها الخطاب قوله: {واللائي يئسن}. ويدل على صحة ذلك: أن اليأس لا يكون مع الارتياب، ورجاء الحيض، لأنه ضده. ويدل عليه أيضًا: اتفاق الجميع على أنها إذا لم ترتب، وعلم أنها لا تحيض، ولا تحبل أبدًا: كانت هذه عدتها، فعلمنا أن الارتياب في

اليأس ليس بشرط في الاعتداد بالشهور، وأن المعنى فيه حصول اليأس. فإن قال قائل: اليأس قد يجامعه الرجاء، كما قال الله تعالى: {قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور}. قال الشاعر: "والنفس بين طمع ويأس". قيل له: أما قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قومًا غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور}: فليس معهم طمع ولا رجاء للآخرة؛ لأنهم كانوا كفارًا لا يعتقدون البعث، وكانوا آيسين عند أنفسهم غير طامعين ولا راجين، وكيف يكون ذلك، وقد شبههم بيأس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم. وأما قول الشاعر: فإن كان ممن يحتج بقوله، فمعناه: فالنفس بين طمع، وخوف اليأس بانقطاع الطمع. وقال الله تعالى: {ولا تيئسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون}، ومعلوم أن المراد لا تقطع الرجاء من الله، فإنه لا يقطع الرجاء من الله إلا القوم الكافرون. فدل أن الرجاء والإياس ضدان لا يجتمعان، فلما قال الله تعالى: {واللائي يئسن من المحيض}: علمنا أن مراده انقطاع الرجاء من وجود الحيض.

مسألة: [عدة الصغيرة والآيسة] قال: (وعدة الصغيرة والآيسة الحرة: ثلاثة أشهر، وإن كانت أمة: فشهر ونصف). وذلك لقول الله تعالى: {واللائي لم يحضن}، وعدة الأمة على النصف من عدة الحرة، ولا خلاف بين المسلمين فيها. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان". وقال عمر بن الخطاب: "لو استطعت أن أجعلها حيضة ونصف، لفعلت"، يعني أن الحيضة لا تتبعض، فلذلك كانت عدتها حيضتين. * (وإذا حاضت الصغيرة قبل انقضاء العدة: استأنفت العدة بالحيض). وذلك لأن الله تعالى أوجب الشهور عند عدم الحيض، فإذا وجدت الحيض، بطل حكم الشهور، فانتقلت إلى الحيض.

مسألة: [عدة المتوفى عنها زوجها] قال: (وعدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا، سواء دخل بها أو لم يدخل بها، إذا كانت حرة). لقول الله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا}، وهو عام في المدخول بها وغيرها، ولا خلاف فيه بين أهل العلم. وقد كانت عدة المتوفى عنها زوجها سنة، لقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج}، فحكم فيها بثلاثة أشياء: أحدها: إيجاب العدة سنة. والآخر: نفقتها في الحول في مال الزوج. والثالث: منع الخروج. فنسخ منها ما عدا الأربعة الأشهر والعشر، ونسخ وجوب نفقتها في مال الزوج بما جعل لها من الربع والثمن في ماله، وبقي منع الخروج في الأربعة الأشهر والعشر.

مسألة: [عدة الأمة] قال: (وإن كانت أمة: فعدتها على النصف)، لما بيناه. مسألة: [عدة الحامل] قال: (وعدة الحامل في جميع هذه الوجوه أن تضع حملها). لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}، وذلك عموم في الجميع؛ لأنه لفظ مكتف بنفسه عن تضمينه لغيره. ويروى عن علي بن أبي طالب، وابن عباس رضي الله عنهما أن عدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملًا أبعد الأجلين، يعني وضع الحمل أو مضي أربعة أشهر وعشر. وقال عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وأبو مسعود البدري: عدتها أن تضع حملها. وقد روى إبراهيم عن الأسود عن أبي السنابل بن بعكك أن سبيعة بنت الحارث وضعت بعد وفاة زوجها بثلاث وعشرين، فتشوفت للنكاح، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن تفعل فقد حل

أجلها". وهشام بن عروة عن أبيه عن المسور بن مخرمة أن سبيعة ولدت بعد وفاة زوجها بيسير، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح. ومحمد بن إبراهيم التميمي عن أبي سلمة عن سبيعة مثله. وسليمان بن يسار عن كريب عن أم سلمة أن سبيعة وضعت بعد وفاة زوجها بأيام، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتزوج. وقال علقمة، ومسروق عن عبد الله: من شاء باهلته أن قوله: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}: نزلت بعد آية المتوفى عنها زوجها، يعني أنها قاضية عليها، لعمومها في كل معتدة. وهذا يدل على أنه كان من مذهب عبد الله بن مسعود: أن العام إذا

ورد بعد الخاص قضى عليه، وأنه لا يجب الترتيب، وكذلك قول من وافقه في عدة المتوفى عنها زوجها. ومن جهة النظر: اتفاق الجميع على أن لمضي الأربعة أشهر والعشر لا تنقضي عدتها حتى تضع، فعلمنا أنها مرادة لقوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}، ودل على سقوط الأشهر؛ لأن الآية لا تبيح النكاح إلا بوضع الحمل. مسألة: [عدة أم الولد] قال: (وعدة أم الولد إذا أعتقت بموت المولى إن كانت حاملًا: وضع حملها، وإن كانت غير حامل: فثلاث حيض). وذلك لأن عدتها واجبة عن الوطء دون العقد، فأشبهت النكاح الفاسد، وقد لزمتها وهي حرة، فتكون ثلاث حيض. مسألة: [عتق الأمة بعد الوطء] قال: (ومن أعتق أمته بعدما وطئها: لم تكن عليها عدة). لأن زوال الملك لا يوجب عدة، ألا ترى أنه لو باعها: لم تجب عليها عدة.

مسألة: [لا عدة على الزانية] قال: (ولا عدة على الزانية، حاملًا كانت أو غير حامل). لأن وطء الزنى لا يتعلق به ثبوت النسب، فأشبه الوطء بملك اليمين، والولد الذي في بطنها ليس فيه حق للغير، فلا يمنع النكاح، ولكن زوجها لا يدخل بها حتى تضع. وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى أن يسقي ماؤه زرع غيره"، يعني أن يطأ امرأة حاملًا من غيره. رواه رويفع بن ثابت الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم. * (وقال أبو يوسف: لا يجوز تزويج الحامل من زنى). كما لا يجوز تزويج الأمة الحامل من مولاها. قال: وكما لا يجوز له وطؤها: لم يجز له أن يتزوجها. والانفصال من ذلك: أن تزويج الحامل من المولى، إنما لم يجز من قبل أن هناك حملًا ثابتًا للنسب من الغير، فلأجل حقه لم يجز كالمعتدة، وأما الحامل من زنى، فليس في حملها حق للغير، فلذلك جاز. وأما منع الوطء: فإنه لا يمنع النكاح، إذ لم يكن فيه حق للغير، كما

يتزوج النفساء والحائض، وهو ممنوع من وطئها. مسألة: [وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها والمطلقة] قال: (وعلى المعتدة المسلمة من الوفاة والطلاق اجتناب الزينة، والطيب). وذلك لما روته أم حبيبة وأم سلمة وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوجها، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا"، فأوجب عليها الإحداد، والإحداد: الامتناع من الزينة والطيب. مسألة: [عدم الخروج من البيت للمتوفى عنها] (ولا ينبغي للمتوفى عنها أن تبيت في غير منزلها، ويجوز لها الخروج بالنهار). والأصل فيه: قول الله تعالى: {متاعًا إلى الحول غير إخراج}، فكانت عدة المتوفى عنها زوجها حولًا، لا تخرج فيه من منزلها، ثم نسخ ما عدا الأربعة أشهر والعشر بقوله: {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر

وعشرًا}، فكان حكم هذه المدة باقيًا على ما كان عليه في منع الخروج، ووجوب الاعتداد فيها؛ لأن النسخ لم يرد عليه إلا في حال قد قامت الدلالة عليه، وهو خروجها في حوائجها، فمنعها من غير أن تبيت في بيتها. وهو ما روي عن فريعة بنت مالك أنها جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم، وتستأذنه في النقلة وهي معتدة، وقد كان زوجها قتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا، حتى يبلغ الكتاب أجله"، فمنعها النقلة، ولم ينكر عليها خروجها من البيت. وروي نحوه عن ابن مسعود، وغيره من الصحابة. مسألة: [عدم الإحداد على الصبية] قال: (ولا إحداد على صبية، ولا كافرة). وذلك لأن الامتناع من الزينة والطيب عبادة، وحق الله تعالى يلزم من طريق الشرع، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج"، وهؤلاء لا تلزمهم حقوق الله من جهة الشرع.

* وأما الأمة: فإن عليها الإحداد؛ لأنه من العبادات. مسألة: قال: (ولا بأس بأن تخرج الأمة في حوائج مولاها). وذلك لأن الخدمة باقية في ملك المولى، لم تستحق عليه، فحالها في هذا الوجه في العدة، كحالها قبل الموت والفرقة. مسألة: [عدم الإحداد على المعتدة من نكاح فاسد] قال: (ولا إحداد على معتدة من نكاح فاسد، ولا على أم الولد إذا أعتقت بموت المولى، أو أعتقها). وذلك لأن وجوب الإحداد يختص بالأزواج، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج". فعلق وجوب الإحداد على فراق الزوج، ومن أجله أوجبناه على المطلقة؛ لأنها فارقت زوجها، وأما المعتدة من النكاح الفاسد، وأم الولد، فإنهما لم تفارقا زوجًا، فلم يكن عليهما إحداد، كالموطوءة بالشبهة. مسألة: [عدم إنشاء السفر للمتوفى عنها والمطلقة الثلاث] قال: (وإذا مات عنها زوجها، أو طلقها، وهما في سفر في مصر، وبينها وبين منزلها مسيرة ثلاث وبين البلد الذي تريده كذلك، فإنها لا

تخرج حتى تنقضي عدتها، ولا تخرج بعد انقضاء عدتها إلا مع ذي محرم، حجًا كان أو غيره في قول أبي حنيفة". وذلك لأن وجوب العدة عليها يلزمها الكون في الموضع، والدليل عليه: أنها لو طلقت وهي بالسواد، لكان عليها أن ترجع إلى مصرها، وتعتد، وكذلك لو طلقها أو مات عنها وهي في منزل أبيها زائرة: كان عليها أن ترجع إلى منزلها وتعتد فيه، فإذا كان لزوم العدة يلزمها الكون في منزل ثم كانت في بلد يمكنها المقام فيه: لزمها الكون هناك في العدة، وانقطع بذلك سفرها. * (وقال أبو يوسف ومحمد: لا بأس أن تخرج في عدتها مع ذي محرم). لأنها مسافرة، فلا ينقطع سفرها بموت الزوج عنها، وكان لها أن تمضي فيه. ولأنها لما لم تكن في منزله، لم يلزمها المقام فيه، كما أنها إذا طلقت وهي في السواد: لم يلزمها الكون في السواد؛ لأنه ليس بمنزلها، كذلك إذا كانت في بلد غير بلدها. مسألة: [عدم جواز سفر المعتدة من الوفاة إلا مع ذي محرم] قال: (ولا تخرج إلا مع ذي محرم في قولهم جميعًا).

لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق ثلاث إلا مع ذي محرم أو زوج". مسألة: قال: (وإن كان مات عنها في غير مصر من الأمصار: فإن شاءت رجعت إلى مصرها، وإن شاءت مضت في سفرها). لأنها لا يمكنها المقام هناك، فلم يلزمها الكون، ألا ترى أنها لو طلقت في المصر، ولم يمكن المقام في منزلها لخوف أو عذر: كان لها أن تنتقل، فإذا كانت في غير مصر، فهي أحرى، لا يلزمها الكون هناك. *قال: (وإن كان بينها وبين مصرها أقل من مسيرة ثلاثة أيام: فلا بأس عليها بالرجوع إليه بغير محرم). وذلك لأن للمرأة أن تسافر دون الثلاث بغير محرم. مسألة: [وقت ابتداء العدة] قال: (والعدة واجبة من يوم الطلاق، ويوم الموت). وذلك لقول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}، فأوجب الأقراء في وقت الطلاق.

وفال: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا}، فأوجبها من يوم الموت. وأما ما روي عن علي بن أبي طالب: أن عليها العدة من يوم يأتيها الخبر، فإن معناه عندنا: إذا لم تعلم وقت الموت، فأمرها بالأخذ باليقين، وقد روي عنه في الطلاق أنها من يوم طلق. مسألة: [لا سكنى ولا نفقة للمتوفى عنها زوجها] قال: (لا سكنى للمتوفى عنها زوجها، ولا نفقة في مال الزوج، حاملًا كانت أو غير حامل). قال أبو بكر: قد كانت نفقتها واجبة في مال الميت بقوله: {وصية لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج}، فنسخت هذه النفقة بالميراث، وبقوله: {يتربصن بأنفسهن}، فأوجب نفقتها على نفسها، وقطعها من مال الزوج. وأيضًا: فإن النفقة غير مستحقة بعقد النكاح، وإنما يتعلق وجوبها بمرور الأوقات، وتسليم نفسها في بيت الزوج، فإذا مات الزوج انتقل ملك الميراث إلى الورثة، فلا تجب عليه النفقة؛ لأنه معسر في هذه

الحال، لا مال له. مسألة: [المسلمة تخرج من دار الحرب إلى دار الإسلام] قال: (وإذا خرجت الحربية إلينا مسلمة، وخلفت زوجها هناك: بانت من زوجها، ولا عدة عليها). فأما البينونة: فلأجل اختلاف الدارين بهما، ومتى اختلفت بهما الداران وقعت الفرقة. والأصل فيه: قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن}، فدل ذلك على معنيين: أحدهما: وقوع الفرقة بخروجها إلى دارنا. والثاني: أن لا عدة عليها؛ لأنه أباح نكاحها من غير شرط العدة. * ومن الناس من لا يوقع الفرقة بخروجها مهاجرة إلينا وإن كان زوجها حربيًا في دار الحرب، ويحتجون فيه بما روي عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد زينب ابنته على أبي العاص بن الربيع بالنكاح

الأول". وهذا الحديث له وجهان صحيحان لا ينافي من أجلهما قولنا: أحدهما: أن ابن عباس لما لم يعلم حدوث نكاح آخر، أخبر عما كان الظاهر عنده، وقد علم ذلك غيره، فروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد زينب على أبي العاص بنكاح جديد"، فأخبر عن نكاح حادث قد علمه، فكان أولى. والوجه الآخر: أنه جائز أن يكون قبل نزول الآية التي تلوناها في حكم المهاجرات، وإيقاع البينونة، وسقوط العدة جميعًا، قوله في سباق الآية: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}، وذلك عموم في وقوع الفرقة باختلاف الدارين، وفي أنه لا عدة عليها؛ لأن العصمة هي المنع في اللغة، قال الله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} أي: لا مانع، فغير جائز أن نمتنع من نكاحها لأجل زوجها الحربي. فإن قال قائل: إنما المراد به الرجل إذا خرج إلينا مسلمًا، وخلف امرأته حربية هناك؛ لأن الكوافر اسم للإناث دون الذكور.

قيل له: لو سلمنا لك ما ادعيت من ذلك، كانت دلالة الآية قائمة على ما وصفنا؛ لأنه إذا ثبت أن خروج الزوج إلينا مسلمًا بقطع العصمة بينه وبينها من سائر الوجوه، فكذلك خروجها؛ لأن المعنى فيه اختلاف الدارين بهما. وعلى أن الكوافر يجوز أن يكون وصفا للذكور، ويدل عليه: أن أول الخطاب في المهاجرات اللاتي خلفن أزواجهن في دار الحرب. ومما يدل عليه من جهة اللغة على أن الفواعل يجوز أن يكون اسمًا للذكور قول الشاعر: وإذا الرجال رأوا يزيد: رأيتهم .... خضع الرقاب، نواكس الأبصار وقال غيره: إذ لا أبادر بالمضيق فوارسي .... ولا أوكل بالرعيل الأول فأطلقوا النواكس، والفوارس على الذكور، فليس يمتنع على هذا أن يكون الكوافر اسمًا للذكور. ومما يدل على أن اختلاف الدارين يقطع العصمة من الوجوه التي ذكرنا: اتفاق الجميع على وقوع الفرقة بين المسبية وبين زوجها الذي لها في دار الحرب، وأنه لا عدة عليها، وإنما على الذي يريد الوطء من

المالكين الاستبراء فحسب. مسألة: قال أبو جعفر: (وإذا كانت المهاجرة حاملًا: ففيها عن أبي حنيفة روايتان: إحداهما: أنه ليس لها أن تتزوج حتى تضع حملها، وهذه رواية محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة. قال: وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أن لها أن تتزوج، ولا يدخل بها زوجها حتى تضع حملها. قال أبو جعفر: هذا أولى القولين به). قال أبو بكر: الصحيح من قولي أبي حنيفة: أنه لا يجوز نكاحها، وهو أشبه بأصولهم، وذلك لأن ثبوت نسب الحمل من الغير يمنع عقد النكاح، سواء كانت معتدة أو غير معتدة، وليس يجب من حيث منعناها عقد النكاح أن يكون معتدة. ألا ترى أن للرجل أن يزوج أم ولده إذا لم تكن حاملًا منه، فإن كانت حاملًا منه: لم يكن له أن يزوجها ما دامت حاملًا، وليست مع ذلك بمعتدة، وكان ثبوت نسب الحمل هو المانع من عقد الغير. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس لها أن تتزوج حتى تنقضي عدتها، حاملًا كانت أو غير حامل".

وذلك لأنها بانت من زوجها بحصولها إلى دار الإسلام، فلما وقعت البينونة في دار الإسلام وهي مسلمة، لزمتها العدة. قال أبو بكر: ويلزمهما على هذا الاعتلال إيجاب العدة على المسبية؛ لأن الفرقة وقعت بينها وبين زوجها بحصولها في دار الإسلام. *****

باب الرضاع

باب الرضاع مسألة: [أحكام الرضاع] قال أبو جعفر: (وإذا حملت المرأة ممن يلحق نسب ولدها به، فصار لها لبن، فإن أرضعت به صبيًا رضعة واحدة فما فوقها في الحولين: حرمت عليه في قول أبي يوسف ومحمد، وفي قول أبي حنيفة إلى ثلاثين شهرًا، ويكون هذا الرضيع أخًا لأولاد الزوج من الرضاعة". قال أبو بكر: هذه الجملة التي ذكرناها تشتمل على مسائل: منها: إيجاب التحريم بلبن الفحل. ومنها: وقوع التحريم بالرضعة الواحدة، دون اعتبار العدد. ومنها: مدة الرضاع الموجب للتحريم. مسألة: [إيجاب التحريم بلبن الفحل] فأما القول في لبن الفحل، فإن السلف مختلفون فيه، فروي عن رافع بن خديج، وسعيد بن المسيب، وأبي سلمة، وعطاء بن يسار، وسليمان

بن يسار، أنه لا يحرم، وهو قول مالك. وقال ابن الزبير، وابن عباس، وزينب بنت أبي سلمة، ومجاهد، وجابر بن زيد: إنه يحرم. والأصل في إيجاب التحريم بلبن الفحل: ما روي عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: "استأذن علي أفلح أخو أبي القعيس، فلم آذن له، ثم سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "دعيه فليلج عليك، فإنه عمك. فقلت: إنما أرضعتني النساء، ولم يرضعني الرجال! فقال: فليلج عليك، فإنه عمك". وكانت امرأة أبي القعيس أرضعت عائشة. وأيضًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"، والنسب كله يكون من قبل الرجل وإن كانت المرأة هي التي ولدت، فكذلك الرضاع يكون من قبله وإن كانت هي التي أرضعت.

ومن جهة النظر: أن وطء الرجل لما كان منه الولادة، صار سببًا لنزول اللبن الموجب للتحريم، فوجب أن يتعلق حكم التحريم بالرجل، كهو في المرأة. والدليل على ذلك: أن الجد لما كان سببًا لحدوث الأب الذي منه كان الولد، كان الأب والجد سواء فيما يتعلق بهما من تحريم ولد الابن. فصل: [ثبوت التحريم بالرضعة الواحدة] وأما إيجاب التحريم بالرضعة الواحدة، فالأصل فيه: قول الله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة}، ومعنى الرضاع معقول في لغة العرب قبل ورود الشرع، غير مفتقر إلى ورود بيان فيه، فلما علق الحكم فيه بالاسم، وجب اعتبار عمومه فيما يتناوله. ويدل على أن الاسم يتناول القليل والكثير: أن ابن عمر لما قيل له: إن ابن الزبير يقول: "لا تحرم الرضعة والرضعتان"، قال: قضاء الله أولى من قضاء ابن الزبير. قال الله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة}. فأخبر وهو رجل من أهل اللسان أن إيجاب التحريم بقليل الرضاع

معقول من اللفظ. ويدل عليه أيضًا: قول ابن الزبير وروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان"، فأطلق الاسم على القليل، فتناوله عموم الآية. ولأن من خالف ابن الزبير في ذلك لم يخالفه من جهة امتناع إطلاق الاسم على القليل، وإنما خالفه في حكم دون الاسم. وتقول العرب: لئيم راضع: للذي يرتضع من الشاة لئلا يسمع بحلبه، فيطلب منه. فثبت أن الاسم معقول في اللغة على قليل الرضاع وكثيره. فإن قال قائل: إنما كان يصح الاحتجاج بالعموم لو قال: "واللاتي أرضعنكم أمهاتكم"، فأما قوله: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم}، فالواجب أن يثبت أنها أم، حتى يثبت الرضاع. قيل له: هذا جهل من قائله بموضوع اللفظ، وذلك لأنه لا فرق بين قوله: "واللاتي أرضعنكم أمهاتكم"، وبين قوله: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم}، إذ كان كونها أما في هذا الوجه، ليس هو معنى غير الرضاع، وإنما كان يجب ما يقول لو كانت الأمومة بمعنى غير الرضاع، وأما إذا

كان هذا اسمًا مستفادا من الرضاع، وليس هو شيئًا غيره، فلا فرق بين تقديم الأم في اللفظ، وبين تقديم ذكر الرضاع. فإن قيل: هذا كقوله: وأمهاتكم اللاتي كسوتكم، وأمهاتكم اللاتي أعطينكم، فيحتاج أن يثبت الإعطاء والكسوة حتى تعلم به الأم. قيل له: ليس كذلك، لأنها لا تصير أما بالكسوة والإعطاء، ولا يكتسب هذا الاسم بهما؛ لأن الأمومة شيء غيرهما، فاحتيج من أجل ذلك أن تثبت الأمومة بثبات ما علق بها من الفعل. وأما الأم من الرضاع، فليست شيئًا أكثر من وجود الرضاع، وتعلقه به، فوجب اعتبار عموم اللفظ في كونها أما. ويدل عليه: أن ابن عمر من أهل اللسان، وقد عقل من عموم اللفظ حصول معنى الأمومة بالرضاع اليسير. ومن جهة السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاع من المجاعة". وقوله: "إنما الرضاع ما أنبت اللحم، وأنشز العظم". والقليل من الرضاع يسد الجوعة بقسطه، فكذلك نأخذ بقسطه من إنبات اللحم، وإنشاز العظم، فوجب أن يحرم بعموم اللفظ.

ومن جهة النظر: اتفاق الجميع على أن النسب لما كان سببًا لإيجاب التحريم مؤبدًا، تعلق حكمه بوجوده، كذلك الرضاع. ووجب أن لا يعتبر تكرار الرضاع، كما لا يعتبر في إيجاب التحريم بالنسب ثبوته من جهات كثيرة. وأيضًا: الجماع الذي تعلق به حكم التحريم، يستوي فيه قليله وكثيره، كذلك الرضاع، إذ كل واحد منهما سبب لإيجاب تحريم مؤبد. فإن قيل: فالطلاق سبب للتحريم، ولا يتعلق التحريم فيه بالواحدة والثنتين. قيل له: والطلاق لا يوجب تحريمًا مؤبدًا، وقد قيدنا العلة بدءًا بما كان سببًا لإيجاب تحريم مؤبد. * وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان"، فإن هذا لمخالفنا ألزم منه لنا؛ لأن من أصله: أن دليل هذا اللفظ يقتضي إيجاب التحريم بالثلاث، فلزم إيجاب التحريم بالثلاث، وإذا ثبت التحريم بالثلاث، ثبت بالثنتين، لاتفاقنا جميعًا على أنه لا فرق بين الثانية والثالثة. ولا يلزمنا على أصلنا أيضًا، وذلك لأنه يحتمل أن يكون النبي

صلى الله عليه وسلم سئل عن صبي ارتضع رضعة أو رضعتين، ولم يعلموا حصول اللبن في جوفه، فقال: مثل هذا لا يحرم حتى يحصل اليقين بوصوله إلى جوفه، فنقل الراوي الحكم، ولم ينقل السبب الذي خرج عليه الخطاب، كقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ربا إلا في النسيئة"، ومعلوم أنه كلام خارج عن سبب مقصور الحكم عليه، وهو أنه سئل عن النوعين بعضه ببعض، فقال: "لا ربا إلا في النسيئة" في مثل ذلك. وأيضًا: فقد اختلف الصحابة في قبوله واستعماله، وأنكره جماعة منهم، وما كان هذا سبيله من أخبار الآحاد لا يعترض به على ظاهر القرآن. وأيضًا: فإنه روي عن ابن عباس أنه قيل له: فيما روي أنه "لا تحرم الرضعة، ولا الرضعتان"، فقال: قد كان ذلك، ثم نسخ، فأخبر أنه منسوخ، فهو أولى؛ لأنه علم التاريخ، وأخبر به. وأيضًا: يحتمل أن يكون ذلك كان في رضاع الكبير في حال ما كان يحرم رضاع الكبير، وهو الآن منسوخ بالاتفاق، فسقط حكم العدد

فيه. * وأما ما روي عن عائشة "أنه كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات، فنسخن بخمس، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مما يتلى". "وكان في صحيفة تحت السرير، فلما اشتغلنا بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت داجن فأكلتها". قيل له: لا يجوز الاعتراض بمثله على ظاهر القرآن. ولأنه غير جائز أن يقال إن شيئًا من القرآن فقد حتى لم ينقل، ولا يجوز أن تذهب تلاوته والعلم به على الأمة. ولأنه لا يجوز أن يكون القرآن معرضًا لأكل الشاة، حتى لا يصل من أجله إلى الأمة، وقد قال الله تعالى: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}. فإن قيل: ليس يمتنع نسخ التلاوة، مع بقاء الحكم. قيل له: لو سلمنا ذلك، لم تكن لك فيه درك، من قبل أن عائشة قالت: "توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مما يتلى". فأخبرت أنه لم ينسخ إلى أن مات النبي صلى الله عليه وسلم، ولا

يجوز النسخ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. على أنه يحتمل أن يكون في رضاع الكبير، فنسخ بنسخ رضاع الكبير. وأيضًا: فليس كل ما يتلى فهو ثابت الحكم، إذ جائز نسخ الحكم مع بقاء التلاوة. فصل: [مدة الرضاع] وأما القول في مدة الرضاع فإن الكلام فيه من وجهين: أحدهم: مع أبي يوسف ومحمد في جواز الزيادة على الحولين. والآخر: مع زفر في الزيادة على الثلاثين شهرًا. فالدليل على سقوط اعتبار الحولين في نفي التحريم، فهو قول الله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة}، فاسم الرضاع تناوله بعد الحولين من جهة اللغة، فوجب أن يدخل في العموم. والدليل على أن الاسم لا يختص بالحولين دون غيره: ما روي من اختلاف السلف في وقوع التحريم برضاع الكبير، وأن عائشة كانت إذا

أرادت أن تأذن في الدخول عليها، أمرت أختها بأن ترضعه عشر رضعات، فأطلقوا اسم الرضاع على الكبير. وتقول العرب: لئيم راضع، لمن رضع من الشاة. فثبت أن ما فوق الحولين يسمى رضاعًا من طريق اللغة، فوجب دخوله في حكم الآية. ويدل عليه أيضًا: قول الله تعالى: {والوالدات يرضعن أولدهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة}. وقال في سياق الآية: {فإن أرادا فصالًا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم}. فدلت هذه الآية على وقوع الرضاع بعد الحولين من وجوه أربعة: أحدها: قوله: {فإن أرادا فصالًا}، والفاء للتعقيب، فجعل إرادة الفصال بعد الحولين، وهذا يقتضي أن يكون حكم الرضاع باقيًا بعد الحولين حتى يريدا الفصال، ثم يفطمانه. والوجه الثاني: أنه ذكر فصالًا منكورًا، ولو كان متعلقًا بمضي الحولين، لعاد إليه الكلام بلفظ التعريف، فيقول: "الفصال"، فلما ذكر

بلفظ النكره، دل على أنه لم يتناول الحولين. والوجه الثالث: أنه علقه بإرادتهما، ومشاورتهما، ولو كان مقصورًا على الحولين لما كان للإرادة والمشاورة فيه مدخل. والوجه الرابع: قوله: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم}: فأجاز لهما الاسترضاع بعد الحولين، فدل على أن الاسم يتناوله. فإن قيل: هذه الآية تدل على أن حكم الرضاع مقصور على الحولين؛ لأنه قال: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة}، فأخبر أن الحولين تمام الرضاع. قيل له: قد يجوز إطلاق لفظ التمام عليه، والمراد به مقاربة التمام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك عرفة فقد تم حجه"، والمراد به مقاربة التمام؛ لأن عليه طواف الزيارة، وهو فرض من فروض الحج.

وكما قال الله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف}،والمعنى مقاربة البلوغ. وأيضًا: جائز أن يكون تقدير الحولين لما يلزم الأب من نفقة الرضاع، وما يجبر عليه منها، وأنه لا يجبر على نفقة الرضاع أكثر من الحولين متى أراد نقله إلى غذاء الطعام، فيكون تقدير الحولين مستعملًا في هذا الوجه دون ما يتعلق به حكم التحريم من الرضاع. ودليل آخر: وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الرضاعة من المجاعة". وقوله: "الرضاعة ما أنبت اللحم، وأنشز العظم". فمتى كان للبن تأثير في سد الجوعة وإنشاز العظم، وإنبات اللحم بعد الحولين: وجب أن يتعلق به حكم التحريم بعموم اللفظ. فصل: [وجه تحريم الرضاع إلى سنتين ونصف] وأما وجه تقدير ستة أشهر بعد الحولين، فإن طريقه الاجتهاد، وذلك لأنه قد ثبت أن رضاع الكبير لا يحرم، وأن الزيادة على الحولين تحرم للدلائل التي قدمنا. ثم تقدير الستة أشهر دون السنة التي اعتبرها زفر، فإنما هو اجتهاد؛ لأن المقادير لا تؤخذ من طريق المقاييس، وإنما طريقها التوقيف

والاجتهاد، فلما عدمنا فيه التوقيف، وحصلنا على الاجتهاد في إثبات مقدار المدة، لم يتوجه علينا فيه سؤال، كتقويم المستهلكات، وأروش الجراحات، ومهر المثل، ونحوها من المقادير، إذا غلب في رأي المجتهد مقدار منها، لم يتوجه عليه سؤال في إثبات ذلك المقدار، دون غيره من المقادير. لأنه لا يقال لمن قال: عندي أن هذا الثواب يساوي عشرة دراهم، أقم الدلالة على أن قيمته عشرة دون أن يكون تسعة ونصف، أو عشرة ونصف، فكذلك ما كان هذا سبيله من المقادير. وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله، يحتج لجهة تغليب الرأي في الستة أشهر دون غيرها: بأنه لما كان المعتاد من الرضاع حولين، ثم قامت الدلالة على جواز الزيادة عليهما بما وصفنا، كان أولى المقادير باعتبار المدة التي ينتقل بها الصبي من حال كونه نطفة إلى غذاء اللبن، وهي ستة أشهر؛ لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فاعتبرنا ذلك في نقله من غذاء اللبن بعد الحولين إلى غذاء الطعام، فجعلنا ستة أشهر. قال أبو بكر: ووجه آخر: وهو أن الله تعالى لما قال: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا}، فاشتملت هذه الجملة على ذكر مدتين للحمل والرضاع،

ثم لما قال: {وفصاله في عامين}: حصلت مدة الحمل ستة أشهر، فصار كقوله: حمله ستة أشهر، وفصاله في عامين. ثم لما ثبت عندنا أنه لا تجاوز زيادة مدة الحمل أكثر المدة، وهي الحولان، وجب ألا يجاوز بالزيادة على المدة المذكورة للرضاع أكثر من المدة التي تضمنتها الآية للحمل، وهي ستة أشهر. قال أبو بكر: وهذا ما ذكرناه عن أبي الحسن، فإنما هو جهة لتغليب الرأي، وجواز الاجتهاد في إثبات هذه المدة دون غيرها، لا أنه دليل يوجب القطع، وليس نحتاج في مسائل الاجتهاد إلى أكثر من هذا. مسألة: [رضاع الكبير] وأما القول في رضاع الكبير، فإنه يروى عن عائشة، وأبي موسى أن رضاع الكبير يحرم. وهو قول الليث بن سعد. وقد روي فيه حديث سالم مولى أبي حذيفة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسهلة بنت سهيل بن عمرو، وهي امرأة أبي حذيفة: أرضعيه خمس رضعات، ثم يدخل عليك".

فأخذت عائشة بذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم. وقال سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم: لعل هذه الرخصة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم وحده. وقد روي في هذه القصة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسهلة: أرضعي سالمًا ليذهب ما في وجه أبي حذيفة من الكراهة". لأنها رأت في وجه أبي حذيفة من الكراهة، ولم يذكر فيه التحريم. ويحتمل أن يكون أراد به التحريم، وكان خاصًا لسالم، كما خص أبا بردة بن نيار بالجذعة، وأنها لا تجزئ عن أحد بعده، ولا يكون الإجزاء إلا من واجب، لأنه لو لم يكن واجبًا لأجزأه الترك، وكانت الجذعة زيادة على الأجزاء. وقد روى الأشعت بن سليم عن أبيه عن مسروق عن عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها، وعندها رجل، قالت: فكأنه تغير لونه، قالت: فقلت: يا رسول الله إنه أخي –يعني– من الرضاعة. فقال: "انظرن ما من إخوانكن، فإنما الرضاع من المجاعة".

وسببه أن تكون عائشة قد رجعت عن قولها في رضاع الكبير؛ لأن حمادًا روى عن الحجاج عن أبي الشعتاء عن عائشة قالت: "لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم والدم". وروى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه "أن عائشة كانت تأمر بنت عبد الرحمن بن أبي بكر أن ترضع الصبيان، حتى يدخلوا عليها إذا صاروا رجالًا". وقد روي عن علي، وعمر، وابن مسعود، وابن عباس: "لا رضاع بعد الحولين". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا رضاع بعد فصال". و"الرضاعة ما أنبت اللحم وأنشز العظم". فصل: قال: (ولو كان حمل هذه المرأة المرضعة ممن لا يلحق نسب ولدها به: كانت هي أمه من الرضاع، وأولادها إخوة لأم).

لأنه لا نسب له من جهة أب، ولا يتعلق التحريم إلا بمن كان من جهة الأم؛ لأنه إنما يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. مسألة: [لو تزوج زوجتين فأرضعت إحداهما الأخرى] قال: (ولو تزوج صغيرة وكبيرة، فلم يدخل بالكبيرة حتى أرضعت الكبيرة الصغيرة: بطل نكاحهما، ولا صداق للكبيرة). وذلك لأن فساد النكاح كان من جهتها قبل الدخول، ولا يختلف في سقوط مهرها أن تكون تعمدت الفساد أو لم تتعمد، ألا ترى أنه لا فرق في سقوط مهرها بين أن ترتد قبل الدخول، وبين أن تختار نفسها بخيار البلوغ، وخيار العتق قبل الدخول، والمعنى في جميع ذلك: أنها استحقت البضع لنفسها بفعلها قبل الدخول، فلا يجوز أن تستحق بدله مع استحقاقها للمبدل عنه، وهو البضع. * وأما الصغيرة: فلها الصداق؛ لأنها لم تستحق البضع قبل الدخول، ولا يجوز أن يكون فعل غيرها مسقطا لصداقها، كما لا يسقطه طلاق الزوج، فوجب لها نصف المهر. ثم ينظر: فإن كانت الكبيرة تعمدت الفساد: رجع عليها الزوج بما غرمه من نصف الصداق، وذلك لأن الرضاع نفسه ليس بجناية، وإنما هو سبب لوقوع الفرقة واستحقاق البضع على الزوج، فإن كان متعديًا في السبب: ضمن ما تولد عنه، مثل حافر البئر في ملك الغير بغير أمره، أو في طريق المسلمين، لما كان متعديًا في السبب، ضمن ما حدث عنه.

وأما إذا لم تتعمد الفساد: فإنها غير متعدية في السبب، فلا تضمن ما حدث عنه من الضمان، كحافر البئر في ملك نفسه يضمن ما يحدث عنه. ونظير تعمد الفساد: شهادة الشهود بالطلاق قبل الدخول، ثم رجوعهم عنها بعدما غرم الزوج نصف المهر: أنهم يضمنونه للزواج من حيث كانوا متعدين في السبب. فإن قال قائل: لا ينبغي أن يغرم واحد من هؤلاء للزواج شيئًا، لأن نصف المهر الذي غرمه الزوج، هو بعض ما كان عليه قبل الفرقة، فهم لم يلزموه شيئًا بالفرقة. قيل له: ليس كذلك عندنا؛ لأن ورود الفرقة، واستحقاق البضع على الزوج قبل الدخول، يسقط جميع المهر، كما يسقط جميع الثمن بهلاك المبيع قبل القبض. وإنما يجب عندنا نصف المهر: على جهة الاستئناف، كما تجب المتعة على جهة الاستئناف إذا لم يكن هناك مسمى. * قال: (وليس للزواج بعد هذا أن يتزوج الكبيرة أبدًا). وذلك لأنها صارت أم امرأته. * (وله أن يتزوج الصغيرة؛ لأنه لم يدخل بالأم، ولو كان دخل بالكبيرة: لم يتزوج الصغيرة أبدًا).

مسألة: [أثر السعوط والوجور في الرضاع] قال: (السعوط والوجور يحرمان كما يحرم الرضاع). وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الرضاعة من المجاعة" وقوله: "الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم"، وهذا المعنى يحصل بالسعوط والوجور؛ لأن السعوط يحصل إلى الدماغ، وينزل إلى الجوف، فيغذي ويسد الجوعة، والوجور يصل إلى الجوف فيغذي. مسألة: [أثر الحقنة في الرضاع] (وأما الحقنة فلا تحرم شيئًا). وذلك لأنه لم يصل إلى موضع الغذاء، ولا تأثير له في إنبات اللحم، ولا إنشاز العظم، إذ لا يصل إلى المعدة، وهي موضع الغذاء. مسألة: [إقرار الزوج بأن زوجته هي أخته من الرضاع] (ومن تزوج امرأة، ثم قال قبل الدخول بها: هي أختي من الرضاع: انفسخ النكاح بينهما، فإن صدقته: فلا صداق لها، وإن كذبته حلفت

عليه: كان لها نصف الصداق). وذلك لأن تحت قوله هذا معنيين: أحدهما: اعترافه بفساد النكاح، وهو يملك فسخه وإبطاله، فيصدق فيه على نفسه. والثاني: عليهما، وهو سقوط مهرها، فلا يصدق عليها إلا أن تصدقه. * " ولا يقبل في ذلك من البينة إلا رجلان عدلان، أو رجل وامرأتان". لأن ذلك معنى يشهده الرجال، ولا تسقطه الشبهة، فهو كسائر الحقوق التي لا تسقط بالشبهة. مسألة: [من أرضعت صبيًا من لبن زوجها الأول وقد تزوجت بغيره] قال: (ومن طلق امرأته، ولها لبن من ولد كانت ولدته منه، وتزوجت آخر وهي كذلك، فأرضعت صبيًا: كان ابنًا وابن زوجها الأول). وذلك لأن اللبن نزل من الأول بدءًا، فلا يرتفع حكمه بارتفاع النكاح، كما لا يرتفع بالموت، وكما لو حلب منها لبن، ثم ماتت: لم يبطل حكم الرضاع عن لبنها.

[مسألة:] قال: (ولو حملت من الثاني، ثم أرضعت صبيًا، فهو ابن الأول دون الثاني حتى تضع). وذلك لأن الولادة لما كانت سببًا لنزول اللبن، وجب بقاء حكمها إلى أن تحدث ولادة أخرى، كما أن من قطع يد رجل من الزند: كان حكم جنايته قائمًا ما بقيت الجراحة، فإن جاء آخر فقطع ذراعه من المرفق، سقط حكم الجناية الأولى فيما يحدث من السراية، وتعلقت بالثانية، فكذلك ما وصفنا. (وقال أبو يوسف: إذا عرف أن هذا اللبن الذي أرضعت به الصبي من الثاني: كان الصبي ابن الثاني). وذلك لأن زيادة اللبن وحدثه عند الحمل: دليل على أنه من الثاني. ولأبي حنيفة: أن اللبن قد يزيد لأجل الغذاء والوقت من غير حمل، فلا يجوز الحكم بأن الزيادة من الثاني بالشك، بل حكم الأصل أبدًا قائم في كونه من الأول حتى تحدث ولادة أخرى، فيصير من الثاني. وقال محمد: هو منهما جميعًا، وجعله بمنزلة لبن امرأتين امتزجا في قدح واحد، فيقع الرضاع منهما.

مسألة: [حكم لبن المرأة الميتة في الرضاع] قال: (ولبن الميتة كلبن الحية في التحريم). وذلك لأن البن لا يلحقه حكم الموت؛ لأنه لا حياة فيه، وما لا حياة فيه فحاله بعد الموت كهي قبله. والدليل على أنه لا حياة فيه: أنه يؤخذ من الحيوان في حال حياته من غير إيلام له، ولو كان فيه حياة لألم الحيوان بأخذه كاللحم، وسائر أعضائه لما كان فيها حياة ألم الحيوان بأخذها منه. مسألة: [خلط لبن المرضعة مع الماء] قال: (وإذا صب لبن في ماء، ثم أوجره صبي: فإن كان اللبن هو الغالب: أو جب التحريم). لأن قوته باقية في تغذية الصبي، وسد جوعته، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الرضاعة من المجاعة"، "والرضاعة ما أنبت اللحم". قال أبو بكر: وهذا الجواب ينبغي أن يكون على قول أبي يوسف ومحمد. وينبغي على قول أبي حنيفة أن لا يحرم؛ لأنه يقول: لو أن لبنا جعل فيه طعام: لم يحرم، سواء كان هو الغالب أو الطعام، وينبغي أن

يكون الماء مثله. ووجه ذلك: أن اختلاطه بالطعام والماء، يسلبه قوته، حتى لا يمكن الصبي الاقتصار عليه في الغذاء، ولا يقوم عليه بدنه لو دام عليه، فلذلك لم يحرم. * قال: (وإن كان الماء هو الغالب: لم يحرم). وذلك لأن قوته زائلة، ولا يمكن الاقتصار عليه في تغذية الصبي. مسألة: [خلط لبن امرأتين] قال: (ولو خلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى: فالحكم للغالب منهما. ويسقط حكم القليل في قول أبي يوسف)، وجعله بمنزلة الماء، والطعام إذا غلبا على اللبن، أو غلب اللبن عليهما. (وقال محمد: يقع التحريم منهما). وذلك لأنهما من جنس واحد، فلا يصير القليل مستهلكًا في الكثير، وكل واحد منهما يأخذ بقسطه من التغذية، وسد الجوعة؛ لأن كل واحد منهما لا تأثير له في سلب قوة الآخر. والدليل على ذلك: أن رجلًا لو غصب من رجل زيتًا، فخلطه بزيت آخر، اشتركا فيه في قولهما جميعًا.

ولو خلطه بشيرج أو دهن من غير جنسه: اعتبر الغالب، فإن كان الغالب هو المغصوب: كان لصاحبه أن يأخذه، ويعطيه بقط ما اختلط بزيته، وإن كان الغالب غير المغصوب: صار المغصوب مستهلكًا فيه، ولم يكن له أن يشاركه، ولكن الغاصب يغرم له مثل ما غصبه، فدل ذلك على اختلاف حكم الجنس الواحد، والجنسين. مسألة: [لبن البكر] قال: (وإذا نزل للمرأة البكر لبن، فأرضعت به صبيًا: حرمت). لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الرضاعة من المجاعة"، و"الرضاعة ما أنبت اللحم"، وذلك موجود في لبن البكر. وقول الله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة}: يدل عل ذلك أيضًا. مسألة: [نكاح صغيرتين أرضعتهما امرأة واحدة] قال: (وإذا تزوج صغيرتين، فأرضعتهما امرأة إحداهما بعد الأخرى: صارتا أختين، وبانتا من زوجهما).

وذلك لأنهما صارتا أختين برضاع الثانية في حال واحدة. * وقد حكي عن بعض الأغفال: أن الأولى تبين دون الثانية، وهذه جهالة مفرطة، من قبل أنهما صارتا أختين معًا، إذ قد يستحيل أن تكون الأولى قد صارت أختًا للثانية، والثانية ليست بأخت لها، وإذا صارتا أختين معًا: وجب أن تبينا. مسألة: قال: (ولو تزوج ثلاث صبايا، فأرضعتهن أجنبية واحدة قبل الأخرى: حرمت الأوليان؛ لأنهما قد صارتا أختين، فبانتا، ولم تبن الثالثة؛ لأنها صارت أختا لهما، وليستا تحته). مسالة: [لبن غير المرأة] قال: (ولا يحرم من الألبان شيء إلا لبن بنات آدم). وذلك لأن لبن غيرهن لا يتعلق به حرمة، ألا ترى أنه لا يصح نسبة ما يتعلق بالرضاع من الأمومة والأخوة إليه. *********

باب النفقة على الأقارب والزوجات والمطلقات

باب النفقة على الأقارب والزوجات والمطلقات مسألة: [نفقة الزوجة] قال أبو جعفر: (على الزوج نفقة زوجته، وكسوتها بالمعروف". والأصل فيه قول الله تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم}. وقال تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته المشهورة: "لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف". وعلى ذلك اتفاق أهل العلم. قال: (على الموسر قدره وعلى المقتر قدره) متاعًا بالمعروف.

وبذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم. وليس من المعروف إلزام المعسر من نفقة زوجته ما يجحف به، ولا إلزام الموسر النزر اليسير الذي لا يكتفى به. مسألة: [نفقة خادم الزوجة] قال: (وعلى الزوج أن ينفق على خادم واحد لها). ذلك لأن عليه أن يقيم لها من يصلح لها الطعام والكسوة؛ لأن الله تعالى لما قال: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن}، والرزق ما يؤكل: علمنا أن عليه إيصاله إليها على حال يتأتى فيها الأكل. قال: (وروي عن أبي يوسف: أنها إذا كانت ممن يجل قدرها عن الخادم الواحد، أنفق على من لا بد لها منه من الخدم اثنين أو أكثر من ذلك). وحمل الأمر فيه على العادة، ولأن هذا من المعروف لمثلها.

مسألة: [على العبد نفقة زوجته] قال: (وعلى العبد نفقة زوجته، تكون دينًا عليه يباع فيه). وذلك لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"، ولم يخصص حرًا من عبد. وأيضًا: فإن النفقة تستحق بالتسليم عن العقد، كالمهر يستحق بملك البضع، فلما لم يختلف الحر والعبد في لزوم المهر، كان كذلك في النفقة. * قال: (وليس عليه نفقة ولده). وذلك إن كان من حرة: فهو حر، فلا يجوز أن تلزم العبد نفقة حر، ألا ترى أنه لا يلزمه نفقة ابنه وسائر ذوي الرحم المحرم، وإن كان من أمة: فهو عبد لغيره، ولا تلزمه نفقة عبد غيره. مسألة: [من عجز عن نفقة زوجته] قال: (ومن عجز عن نفقة امرأته: استدين عليه، وأنفق على زوجته، فإن لم يقدر على ذلك: فرض لها عليه نفقة، وكانت دينًا لها عليه). قال أبو بكر: لا يفرق بينهما لأجل النفقة، وذلك لقول الله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد

عسر يسرًا}. فدلت هذه الآية على أن العجز عن الفقه: لا يوجب التفريق، وذلك لأنه أفادنا وجوب النفقة فيما يقدر عليه، ويمكنه إنفاقه، فدل أنها غير واجبة على من لا يقدر عليها. وقوله: {لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها}: يدل على ذلك أيضًا؛ لأن فيه إخبارًا أن من لا يقدر عليها لا يكلفها، وإذا لم يكلف الإنفاق في هذه الحالة لإخبار الله تعالى بزوال تكليفها عنه: لم يجز أن يفرق بينهما من أجل ما ليس عليه إنفاقه. ويدل عليه أيضًا: قول الله تعالى: {سيجعل الله بعد عسر يسرًا}: يعني –والله أعلم- أنه إن لم ينفق في هذه الحال، فإنه سينفق في حال اليسار، ويلزمه ذلك فيها. ومن جهة النظر: أن الأبضاع لا تستحق بالأموال، والدليل على ذلك:

أن عجزه عن مهرها: لا يوجب التفريق. فإن ألزموا ذلك، وقالوا: يفرق بينهما إذا عجز عن المهر. قيل لهم: هذا خلاف الاتفاق، فإن فقهاء الأمطار متفقون على أن العجز عن المهر لا يوجب التفرق. وعلى أن جهة استدلالنا مع ذلك صحيحة، لأن الجميع متفقون على أنها لو كان لها عليه دين من غير المهر، فعجز عنه: لم يفرق بينهما من أجله، فكذلك المهر، والنفقة. والمعنى في ذلك كله: أنه مال، فلا يستحق البضع من أجله. ودليل آخر: وهو أنه لا يخلو وجوب التفريق من أن يكون متعلقا بالماضي، أو بالحال، أو بالمستقبل: فإن كان للماضي: فقد اتفقوا على أنه لو عجز عما لزمه للماضي، وهو قادر على نفقة الحال، لم يفرق بينهما، ولأن الماضي كسائر الديون، فلا يستحق البضع من أجله. ولا يجوز أن يكون للمستقبل؛ لأنها لم تجب بعد، فإذا لم يفرق للواجب الماضي، فللمستقبل أحرى أن لا يجب. وأما الحال: فليست تخلو من أن تكون في حكم الماضي أو المستقبل؛ لأنه لا يخلو من أن يكون واجبًا أو غير واجب، فلما لم يفرق للماضي، والمستقبل، وكانت الحال في حكم أحدهما، لم يجب التفريق.

ووجه آخر: وهو أنه معلوم أنه كان في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قوم فقراء من المهاجرين والأنصار، ولهم نساء، ولم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم لهن الخيار في الفرقة، ولو كان لهن الخيار لأعلمهن ذلك، ولو أعلمهن لنقل، فلما لم ينقل مع عموم الحاجة إليه، لكثرة الفقراء هناك، علمنا أن عجز الزواج عن النفقة لا يوجب لها الخيار. فإن قال قائل: قال الله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان}، فإنما جعل للزوج أحد شيئين، فإذا لم يقدر على الإمساك بالمعروف: وجب التسريح، فإذا لم يفارقها: فرق القاضي بينهما؛ لأن الله تعالى قد جعل لها ذلك، لأن من خير بين شيئين ثم عجز عن أحدهما، تعين عليه لزوم الآخر. قيل له: ومن قال لك أن العاجز عن نفقة امرأته غير ممسك لها بالمعروف حتى يوجب لها حق التسريح؟ ولو كان ذلك، لوجب أن يكون أصحاب الصفة فقراء الصحابة غير ممسكين لنسائهم بالمعروف، وحاشاهم من ذلك؛ لأن هذه صفة ذم، ولا يجوز وصفهم بها. وعلى أنهم متفقون على أنه لو قدر على نفقتها، وامتنع مع ذلك من الإنفاق عليها، وأساء عشرتها: كان غير ممسك لها بالمعروف، ولم تستحق مع ذلك التفريق، وإنما يكون غير ممسك بمعروف إذا امتنع من حق قد لزمه لها.

فأما إذا لم ينفق للعجز، فهو ممن قال الله: {لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها}، فإذا لم يكن مكلفًا للإنفاق في حال العجز، لم يجز أن يكون غير ممسك لها بمعروف. فإن قال قائل: لما خير الله النبي صلى الله عليه وسلم بين الدنيا والآخرة، فاختار الفقر، خير نسائه، فدل على أن عجز الزوج يوجب لها الخيار. قيل له: هذا غلط من وجوه: أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عاجزًا عن نفقة نسائه، وقد كان يدخر لهن قوت سنة. وأيضًا: فإنه كان متبرعًا بالتخيير؛ لأن فعله لا يقتضي الوجوب. وأيضًا: فإنما خيرهن لقول الله تعالى: {إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن}، فشرط في تخييرهن إرادة الحياة الدنيا وزينتها، ولا خلاف بين الفقهاء أن امرأة لو أرادت الحياة الدنيا وزينتها: لم يجب لها خيار من أجل إرادتها لذلك. فإن قال قائل: لما كانت النفقة من موجب العقد، كالوطء، ثم كان عجزه عن الوطء يوجب لها الخيار في الفرقة، وجب أن يكون كذلك

حكم عجزه عن النفقة. قيل له: لا خلاف أنه وطئ مرة، ثم عجز، لم يكن لها الخيار، ومخالفنا يزعم أنه لو أنفق، ثم عجز عن الإنفاق: كان لها الخيار، فلم يكن العجز عن النفقة بعد القدرة عليها، كالعجز عن الوطء بعد وجوده، فبطل أن يكون أحدهما أصلًا للآخر. وعلى أنه إعلال منتقض؛ لأن العجز عن الوطء إن كان علة لوجوب الخيار، لوجب اعتباره في إيجاب الخيار حيثما وجد، فلما وجدناه قد يعجز عن الوطء بعد الوطء الأول، فلا يجب لها خيار، دل على فساد اعتلالك. وأيضًا: فإنما وجب الخيار لها عند العجز عن الوطء الأول؛ لأنه حق وجب لها، لا يرجع منه إلى بدل عند الفرات، والنفقة لا تسقط بالعجز، ولا يفوت به حقها، لأنها تفرض عليه، فتكون دينا في ذمته، يؤخذ به إذا أيسر. وبهذا المعنى فارق العاجز عن نفقة عبده في أمرنا إياه بالبيع؛ لأنه لا يرجع عما يفوته منه إلى بدل لا يثبت له على مولاه النفقة في ذمته. وأيضًا: فإن الموجب لخيارها عند العجز عن الوطء عندنا، هو أنها لا نستحق المهر استحقاقًا صحيحًا إلا بالوطء، والمهر بدل البضع، فمن حيث استحق عليها بضعها استحقاقًا صحيحًا، لزمه أن يملكها بدله تمليكًا صحيحًا، وأما النفقة فليست بدلًا من البضع، فلا يجب من أجلها الخيار.

وأيضًا: فإن العاجز عن النفقة امرأته: يفرض القاضي لها نفقتها من بيت المال، ولا يمكنه إيصاله إلى الوطء بوجه. وأيضًا: فقد تصل إلى النفقة من جهة غيره، ولا تصل إلى الوطء من جهة غيره، فلذلك افترقا. مسألة: [النفقة لا تصير دينًا إلا بحكم القاضي] قال: (والنفقة لا تصير دينًا إلا بالفرض، وإنما أن يفرضها القاضي، أو يتراضيا على الفرض). وذلك لأنها تجري مجرى الصلة، والدليل عليه: أنها ليست بدلا عن البضع، لأنها لو كانت كذلك لوجبت بحذاء ملك البضع، وليست بدلا من الاستمتاع؛ لأنه واقع في ملك نفسه، فلا يستحق عليه بدله، لأن من تصرف في ملك نفسه لم يلزمه عنه بدل لغيره. فلما خلت النفقة من أن تكون بلا من شيء، علمنا أن موضوعها موضوع الصلة، فلا تصير دينًا إلا بالتراضي، أو بفرض القاضي، فتصير حينئذ دينًا بالاتفاق. والقياس يمنع أن تصير دينًا بالفرض، إلا أنهم تركوا القياس للاتفاق. فإن قيل: فإن كانت صلة، فالواجب أن لا تصير دينًا بحال، ولا تحصل في حكم الواجب. قيل له: لا يجب ذلك؛ لأن كثيرًا من الواجبًات قد يجب لا على معنى الأبدال، لأسباب توجبها، كما تعقل العاقلة الدية عن القاتل، لا على

جهة بدل عن شيء ملكوه، وكما تجب الصدقات، والزكوات. ومن أجل وجوبها على وجه الصلة قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لو أعطاها نفقة سنه، ثم مات أو ماتت: أنها لا تضمن ما قبضته للمستقبل. وكذلك لو وجبت لسنين بفرض الحاكم، ثم مات أحدهما: سقطت؛ لأن وجوبها لما كان على وجه الصلة، صار كأنه وهب لها مالًا، ثم مات أحدهما: فلا يصح الرجوع فيه. وكذلك إذا مات أحدهما: سقط ما وجب للماضي؛ لأن معنى الصلة لا يصح بعد الموت، وكان كمن وهب مالًا، ولم يقبضه إياه حتى مات: فيبطل. مسألة: [لزوم النفقة والسكنى للمطلقة ثلاثًا] قال: (وللمطلقة ثلاثًا السكنى والنفقة، حاملًا كانت أو غير حامل حتى تنقضي عدتها).

والدليل عليه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أنكر على فاطمة بنت قيس روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، فقال عمر: "لا ندع كتاب ربنا، وسنة نبينا لقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها". فأخبر أن وجوب النفقة والسكنى مأخوذ من الكتاب والسنة. فلما لم نجد في الكتاب ذكر النفقة منصوصًا للمبتوتة، ووجدنا ذكر السكنى، علمنا أن ما ذكره من السنة إنما هي في النفقة، وعلى أن عمومه يقتضي أن يكون في الأمرين جميعًا الكتاب والسنة. وقد وجدنا في الكتاب لفظًا يجوز أن يكون المراد به النفقة، وهو قوله تعالى: {وللمطلقات متع بالمعروف}. وعلى أنه قد روى حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي أن عمر قال: "لا ندع كتاب ربنا، وسنة نبينا لقول امرأة

سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لها السكنى والنفقة". فعزى وجوبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم سماعًا، ونصًا. ودليل آخر: وهو قول الله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}. وذلك ينتظم الثلاث وما دونها، ثم قال نسق الخطاب: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن}، ومعلوم أن ذلك راجع إلى ما دخل تحت اللفظ من البينونة وغيرها، فلما لم يكن الحمل شرطًا في غير المبتوتة في استحقاق النفقة، وإنما استحقتها لأجل كونها معتدة من طلاق، كان كذلك المبتونة. وأيضًا: لا تخلو الحامل المبتوتة من أن تستحق النفقة لأجل الحمل، أو لأجل كونها معتدة من الطلاق، فلو كانت استحقتها لأجل الحمل، لوجب أن يكون إذا كان للحمل مال، أن تكون النفقة في مال الحمل، فلما اتفق الجميع على أنها لا تستحق النفقة من مال الحمل، دل على أنها لم تستحقها لأجل الحمل، وإنما تستحقها لأنها معتدة من طلاق.

ودليل آخر: وهو اتفاقنا جميعًا على وجوب السكى، وهو حق في مال، فوجبت النفقة أيضًا، قياسًا عليها، ومن حيث هي حق في مال، فجرت مجرى السكنى. وأيضًا: المعنى الذي به تستحق النفقة في حال الزوجية، هو تسليم نفسها في بيت الزوج، والدليل عليه أن الناشزة لا نفقة لها، لعدم التسليم، فالتي سلمت نفسها في بيت الزوج لها النفقة لوجوده، فلما كان التسليم الذي به استحقت النفقة في حال النكاح موجودًا في حال العدة، وجب أن تستحق النفقة. فإن قال قائل: إن السكنى مفارقة للنفقة في الوجوب، وليس تجب النفقة من حيث وجبت السكنى، لأن براءتها من النفقة جائزة، ولا تجوز البراءة من السكنى عندكم في حال العدة. قيل له: يوجب السكنى معنيان: أحدهما: كونها في المنزل. والآخر: ما يلزم الزوج من الإسكان واستئجار الموضع إن لم يكن مالكًا. فأما براءتها من الكون في المنزل: فغير جائز؛ لأنه حق الله تعالى. وأما من جهة المال: فجائز لها إسقاطه عن الزوج، بأن تعطي هي الأجرة، ولا ترجع بها على الزوج، ونحن فإن كلامنا فيما يلزم الزوج من

النفقة، والسكنى وإن كان في أحدهما حق لله تعالى ليس في الآخر مثله. فإن قيل: السكنى التي تجب في حال البينونة، غير السكنى الواجبة في حال الزوجية. والدليل على ذلك: أنه يجوز تراضيهما في حال الزوجية على النقلة، والخروج من المنزل، ولا يجوز خروجها في حال العدة. قيل له: فهذا يؤكد أمر السكنى في حال العدة على حال الزوجية؛ لأنها مع ما لزم الزوج من الإسكان، لزم فيه حق لله تعالى في منع الخروج، وما تأكد به أمر السكنى في العدة من حق الله تعالى، لم يمنع لزومها الزوج في ماله، كذلك لا يمنع لزوم النفقة. فإن فيل: روت فاطمة بيت قيس أن وزجها طلقها ثلاثًا، فلم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم لها السكنى ولا النفقة. قيل له: أحد شرائط قبول أخبار الآحاد عندنا: تعريها من نكير السلف على راويها، ومتى كان من السلف نكير على راويها: لم يجز لنا قبولها. وحديث فاطمة بنت قيس قد أنكره عمر بن الخطاب، وعائشة، وأسامة بن زيد، وغيرهم من علماء السلف. قال عمر: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لعلها نسيت أو شبه

لها، لها السكنى والنفقة". وقالت عائشة: "لا خير لفاطمة بنت قيس في ذكر هذا الحديث". وكان أسامة بن زيد إذا سمعها تذكر ذلك، رماها بكل شيء في يده إنكارًا عليها. وقال سعيد بن المسيب: تلك امرأة فتنت الناس –يعني- بروايتها لهذا الحديث. وذكر أبو إسحاق أن الأسود بن يزيد سمع الشعبي يحدث بمثل هذا، وقد أنكره عمر عليها. وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله أن فاطمة بنت قيس أفتت ابنة أختها، وقد طلقها زوجها ألبتة بالانتقال من بيت زوجها، وأنكر ذلك مروان، وأرسل إلى فاطمة يسألها عن ذلك، فذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتاها بذلك، فأنكر ذلك مروان وقال: ما سمعت بهذا الحديث من أحد قبلك، وسآخذ بالعصمة التي وجدت الناس عليها فأخبر مروان أن العصمة التي كان الناس عليها خلاف ما روت فاطمة

بنت قيس من ذلك. فإن قال قائل: إنما أنكر هؤلاء عليها روايتها في نفسي السكنى؛ لأنها في كتاب الله، وهو قوله: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم}، وقوله: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن}. قيل له: أما عمر فلم يفرق بين السكنى، والنفقة فيما أنكر عليها، وأخبر مع ذلك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يوجبها. وأما عائشة، وأسامة، وغيرهما، فإنهم أنكروا جملة الخبر، ولم يفرقوا فيما أنكروا بين السكنى والنفقة. وعلى أنها لا يخلو من أن يكون إخبارها عما أخبرت به من نفي السكنى والنفقة صحيحًا، أو هما: فإن كانت أوهمت في ذكر السكنى: فالنفقة مثلها، وإن كانت لم توهم فيه، وإنما أسقطت سكناها لعلة: فتلك العلة بعينها هي المسقطة للنفقة. والذي عندنا في ذلك أن خبرها فيما أخبرت به عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح، وإنما أخطأت في معنى الخبر، وهو الذي أنكره عمر، ومعنى الخبر عندنا: أن سبب إخراجها من بيت الزوج كان من جهتها، فصارت بمنزلة الناشزة التي تخرج من بيت الزوج، فلا تستحق

سكنى، ولا نفقة. وقد روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم لسوء خلقها. وقال سعيد بن المسبب: إنها استطالت على بيت أحمائها بلسانها، فأمرها بالانتقال. وروي عن عروة بن الزبير أن فاطمة بن قيس قالت: يا رسول الله! إن زوجي طلقني ثلاثًا، فأخاف أن يقتحم علي، فأمرها بالتحول". فهذه الأخبار تدل على أن سبب النقلة كان من جهتها لسوء خلقها، واستطالتها بلسانها على أحمائها، فصارت كالناشز، إذ كان سبب الخروج من جهتها، فلذلك سقطت نفقتها، وكذلك نقول فيمن خرجت من بيت زوجها في عدتها، أو كان منها سبب أوجب الخروج، لأنها لا تستحق النفقة ما دامت في غير بيت الزوج. فإن قال قائل: فما وجه النكير عليها في روايتها عن الصحابة مع صحة هذا المعنى عندكم؟ قيل له: إنما وقع النكير عليها من جهة أنها ظنت أن لا سكنى للمبتوتة ولا نفقة، لأجل أنها مبتوتة، لا لمعنى غيره، وتأولت قصتها على

هذا الوجه، فوقع النكير عليها من هذه الجهة. فإن قال قائل: تخصيص الله تعالى الحامل بالذكر في إيجاب النفقة لها، فيه دلالة على أن لا نفقة لغير الحامل في قوله تعالى: {وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن}. قيل له: ليس في تخصيه الحامل بالذكر في أيجاب النفقة لها ما ينفي وجوبها لغير الحامل؛ لأن الآية متضمنة للطلاق البائن والرجعي، وذكر الحمل راجع إليهما، ولم يوجب ذلك كون الحمل شرطًا في استحقاق النفقة في حال العدة من الطلاق الرجعي، فكذلك الثلاث، والبائن. وأيضًا: فإن المخصوص بالذكر، لا يدل على أن ما عداه حكمه بخلافه، نحو قوله: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق}: لا يدل على أن لنا أن نقتله إذا لم نخش الإملاق. ومع ذلك فإن لذكر الحامل فائدة ليست في غيره، سوى ما ادعيت من إسقاط النفقة لغير الحامل، وهي أنه لما كان جائزًا أن يكون الحمل ذا مال، فيشتبه علينا أمر نفقتها في حال الحمل: هل هي من مال الحمل أو على الزوج؟ أفادنا تعالى بذلك أن الحمل وإن كان ذا مال، فإن نفقة الأم على الزوج، وليست في مال الحمل.

وأيضًا: لما كانت مدة الحمل قد تطول وتقصر، وقد كان يجوز أن يتوهم أن لا نفقة لها إلا في مقدار مدة ثلاث حيض في العادة وإن كانت حاملًا، أزال الله تعالى هذا الإلباس عنا، وأبان أن نفقة الحامل مستحقة على الزوج مع بقاء العدة، وإن طالت مدة الحمل. قال أبو بكر: وهذا الذي قدمناه من الحجاج فإن عظمه على مالك والشافعي، في إيجابهما السكنى للمبتوتة، دون النفقة. * فأما ابن أبي ليلى: فإنه يقول لا سكنى لها ولا نفقة. وروى نحو ذلك الحجاج بن أرطاة عن عطاء عن ابن عباس، وهو ضعيف السند. ويحتج فيه أيضًا بجملة حديث فاطمة بيت قيس، ويتأول في قوله: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن} وقوله: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم}: أنه على الطلاق الرجعي؛ لأنه قال: {فإذا بلغن أجلهن

فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف}، وقال تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا}. قال أبو بكر: ذكر الرجعة في هذا الموضوع لا يدل على أن الحكم مقصور على الرجعى دون البائن؛ لأن قوله: {فطلقوهن لعدتهن} ينتظم الأمرين جميعًا، من البائن والرجعي، وذكره للرجعي عقيبه هو بعض ما انتظمته الجملة، كقوله: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}، فذلك في الرجعي، والبائن، ثم قوله: {ويعولتهن أحق بردهن}: في الرجعي. وكقوله: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنًا}، وهو عموم في المسلمين والكافرين دون المسلمين، ولم يوجب ذلك تخصيص اللفظ بدءًا في هذا الصنف دون غيره، فكذلك ما وصفنا.

مسألة: [نفقة الأمة المطلقة] قال أبو جعفر: (ومن طلق زوجته وهي أمة طلاقًا بائنًا، فإن كان مولاها بوأها بيتًا: فلها النفقة، وإن لم يبوئها بيتًا: فلا نفقة لها). قال أبو بكر: قد بينا أن النفقة في هذا الباب مستحقة بتسليمها في بيت الزوج، فإذا بوأها المولى معه بيتا، فقد وجد التسليم، فاستحقت النفقة، وإن لم يبوئها: لم تستحق، لعدم التسليم. ألا ترى أن الناشز لا نفقة لها، ولذلك لو غصبها غاصب، فمنعها من الزوج: لم يكن لها نفقة. ولا فرق بين حال الزوجية، وحال العدة، لأن المعنى الذي به تستحق النفقة في الحالين جميعًا معنى واحد، وهو تسليمها في بيت الزوج. وإنما لم يجبر المولى على التبوئة في حال النكاح ولا بعده، من قبل أنه مالك لخدمتها، وتلك الخدمة لم تستحق عليها بعقد النكاح، لأن الزوج لا يملك استخدامها، فإذا كانت الخدمة باقية في ملك المولى لم تستحق عليه بالنكاح: كان له أن يستخدمها، وفي استخدامه إياها منع التبوئة، وفي إيجاب التبوئة إبطال الخدمة على المولى، وذلك غير جائز. مسألة: [لزوم نفقة الأبوين على الولد] قال: (ويجبر الرجل على نفقة أبويه إذا كانا محتاجين وإن لم يكونا

زمنين". وذلك لقول الله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفًا}، وليس من المعروف تركهما جائعين مع القدرة على سد جوعتهما. وأيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"، وعمومه يقضي جواز أخذ مال الابن في حال اليسار والإعسار، إلا أن الفقهاء متفقون على أنه لا يجوز له أخذه بغير رضاه في حال اليسار، فخصصناه، وبقي حكم العموم في حال الإعسار في مقدار الحاجة. مسألة: [لزوم نفقة الأولاد الصغار على الأب] قال: (ويجبر على نفقة أولاده الصغار إذا كانوا فقراء). ذلك لقول الله تعالى: {والوالدات يرضعن أولدهن حولين كاملين}، ثم قال: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}، فأوجب على الأب نفقة الرضاع.

وقال في الآية الأخرى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن}، فخص الأب بإيجاب النفقة دون أحد سواه. مسألة: [نفقة الأب على البنات المحتاجات، والذكور الكبار الزمنى] قال أبو جعفر: (وإن كانوا كبارًا محتاجين: أجبر على نفقة الإناث منهم، ولم يجبر على نفقة الذكور، إلا أن يكون منهم زمانة أو عمى أو نحوه، فيجبر على نفقته). وذلك لأنه لما ثبت وجوب نفقة الصغار عليه لعجزهم عن الكسب والتصوف، وكان الكبار الزمنى، والإناث بهذا المنزلة لعجزهم عن الكسب، صاروا في معنى الصغار. ألا ترى أن الصغار لو كان لهم مال: لم يجبر الأب على نفقتهم، لاستغنائهم عنه، فدل على أن نفقة الصغير ليست مستحقة لأجل الصغر، وإنما هي للحاجة، والعجز عن التصرف، وإذا كانوا فقراء لزمته نفقتهم لحاجتهم إليه مع العجز عن الكسب، فالكبار الزمنى والإناث بهذه المنزلة. مسألة: [النفقة على كل ذي رحم محرم] (ويجبر الرجل على نفقة كل ذي رحم محرم إذا كانوا ممن يرثهم، فيراعي في صغارهم الفقر، وفي كبارهم الفقر والزمانة، وفي إناث الكبار الفقر دون الزمانة).

قال أبو بكر: الأصل في ذلك: قول الله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك}. فاقتضى عمومه إيجاب نفقة الولد على كل وارث؛ لأن الوارث في هذا الموضوع اسم للجنس، لدخول الألف واللام عليه. فإن قال قائل: المعنى في قوله: {وعلى الوارث مثل ذلك}: يعني به في أن لا يضارهما؛ لأنه تعالى قال: {لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده} ثم قال تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك}، يعني في النهي عن المضارة. قيل له: هو على الأمرين جميعًا، ولا يخرج شيء منه إلا بدليل؛ لأن لفظ العموم يقتضيه. وعلى أن معنى الكلام لا يستقيم لو كان المراد المضارة فحسب؛ لأنه لا مدخل للوارث مع الأبوين في المضارة، والوارث والأجنبي في ذلك سواء. وأوجب أن يكون لذكره الوراث واختصاصه به فائدة ليست في غيره، وقد ذكر الله تعالى الأبوين جميعًا في الآية، وبين حكم كل واحد منهما في أنه لا يضار بالولد. والمعنى فيه: أنه ليس للأب أخذه من الأم وتسليمه إلى غيرها، ولا

للأم أن تغيبه عنه وتمنعه من رؤيته، والوقوف على أمره، والإشراف عليه، فحال المضارة إنما هي مع بقاء الأبوين، فلا معنى لذكر الوارث فيها إلا إيجاب النفقة عليه في حال فقد الأب. وأيضًا: فإن كان المراد في حال موت الأب، فلم يخص الوارث بالنهي عن المضارة إلا وهو ممن تلزمه النفقة، فنهى عن المضارة فيما، ولولا ذلك لكان هو والأجنبي سواء. فإن قال قائل: فأوجبها عن ابن العم إذا كان وارثًا. قيل له: خصصناه بدلالة، وإلا فالعموم يقتضيه. فإن قيل: فلا توجبها على الخال مع ابن العم؛ لأن ابن العم هو الوارث، والخال غير وارث. قيل له: الخال من أهل الميراث، وإن كان هناك وارث أولى منه، فلم يخرج هو من أن يكون من أهل الميراث. والمعنى الموجب للاقتصار بالنفقة على ذي الرحم المحرم إذا كان من أهل الميراث، دون من كان بخلاف هذه الصفة: اتفاق فقهاء الأمصار على أن مولى النعمة ليس عليه نفقة مولاه وإن كان وارثًا، فكذلك الزوجة ليس عليها نفقة الزوج الصغير وإن كانت وارثته، فعلمنا أن كونه ذا رحم محرم شرط مع كونه من أهل الميراث في استحقاق النفقة. ومن جهة النظر: أن الأب إذا كان عبدًا، لم تجب عليه النفقة، وكذلك الكافر ليس عليه نفقة أخيه المسلم، وأن الوالد المسلم تجب عليه

نفقة ولده، فعلمنا أن وجوب النفقة متعلق بكونه ذا رحم محرم من أهل الميراث بما دللنا عليه من سقوطها عن مولى النعمة والمرأة. مسألة: [نفقة الأقارب مع اختلاف الأديان] قال أبو جعفر: (وإن اختلفت الأديان لم يجبر أحد منهم على نفقة أحد سواه، إلا الزوج المسلم على امرأته الكتابية، والأب الكافر على أولاده الصغار الذين صاروا مسلمين بإسلام أمهم، والرجل على أبيه الفقير المخالف له في دينه، وأمه الفقيرة مثله في القياس). قال أبو بكر: أما وجوب النفقة عليه لزوجته الكافرة: فهو عموم الآي والسنن التي قدمناها، لأنه لم يفرق بين الكافرة والمسلمة. ولأن المعنى الذي به استحقت المسلمة النفقة موجودة في الكافرة، وهو تسليم نفسها بحق النكاح في بيت الزوج. ولأن النفقة لما كانت مستحقة بالتسليم، كالمهر مستحق بالعقد، وهما من موجب النكاح، ثم لم تختلف الكافرة والمسلمة في استحقاق المهر، وجب أن لا تختلفا في استحقاق النفقة. وأيضًا: فإنها لما كانت حقًا في مال مستحقًا بسبب الزوجية: يجب في حال الغنى والفقر، وصار كالمهر. * وأما وجوبها على الكافر للولد الصغير المسلم: فلقوله تعالى:

{وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}، وقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن}. ولم يفرق في ظاهر الخطاب بين الكافر والمسلم، فهو عليهما. وأيضًا: فإن نفقة الرضاع، لما أشبهت النفقة المستحقة بالنكاح، من جهة وجوبها للمرأة، وجب أن تجب على الكافر للصغير المسلم، كما وجب على المسلم للمرأة الكتابية، وأن لا يمنع اختلاف الدينين من وجوبها، كما لم يمنع اختلاف الدينين من وجوب نفقة النكاح. * وأما الأب الكافر، فإنما وجبت نفقته على ابنه المسلم، لقوله تعالى: {وإن جهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا}، فأمر بمصاحبتهما بالمعروف في حال كفرهما، وليس من المعروف تركهما جائعين مع إمكان سد جوعتهما. وأيضًا: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: "إنما أولادكم من كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم"، والدلالة فيه على ما وصفنا من وجهين:

أحدهما: عموم اللفظ في الفريقين من الكفار والمسلمين، إذ ليس معه دلالة التخصيص. والثاني: أن المعنى الذي من أجله جعله كسبًا للمسلم، وهو ثبوت نسبه منه بالأبوة، موجود في الكافر. مسألة: [لا يشارك الأب أحد في نفقته على ولده] قال: (ولا يشارك الرجل في النفقة على ولده أحد، ولا يشارك الولد أيضًا في النفقة على والده أحد). فأما الأب، فإنما لم يشارك في النفقة على ولده، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}، وقال: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن}، فأوجب عليه النفقة دونها، با أوجب لها لأجل الولد، فدل على أنه لا يشارك فيها، إذ لو شورك فيها لكان بعضها عليه، وبعضها عليها. * وإنما لم يشارك الولد غيره في النفقة على والده، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"، فأضاف المال إليه. وكما لم تجب نفقته على غيره إذا كان له مال، كذلك مال ابنه كماله، فلا تجب نفقته على غيره.

مسألة: [وجوب نفقة الصغار على أبيهم ولو كان فقيرًا] قال: (ولا يجبر فقير على نفقة أحد إلا الأب على ولده الصغار، وعلى زوجته، وأمه الفقيرة). فأما نفقته على ولده الصغار، فإنها تشبه نفقة الزوجة من الوجه الذي ذكرنا، وهو أن الله تعالى أوجب نفقة الرضاع لها عليه، كما أوجب لها نفقة الزوجية. فلما كان الفقير مجبرًا على نفقة زوجته، وجب أن يجبر على نفقة ولده الصغار، ويجبر على نفقة الزوجة مع الفقر؛ لأن ذلك بمنزلة الدين، وسائر حقوق الآدميين، التي لا تختلف فيها حال الإعسار واليسار، ألا ترى أنه يجبر على نفقتها وإن كانت موسرة. ولقول الله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله}، وهذا يدل على وجوب نفقة الزوجة والولد الصغير في حال الفقر؛ لأن هذه نفقة الرضاع، وهي لها. وقوله: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن}: يدل أيضًا على نفقة الولد الصغير في حال الفقر؛ لأنه لم يفرق بين الغنى والفقر. ويدل على وجوبها للزوجة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولهن

عليكم نفقتهن وكسوتهن بالمعروف"، ولم يفرق بين حال الإعسار واليسار. [وجوب نفقة الأم على ولدها ولو كان فقيرًا] وأما نفقة الأم، فإنها لزمته في حال الفقر، لقوله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفًا}، ولم يفرق بين حال الفقر والغنى، فإذا أمكنه سد جوعتها، لزمه ذلك. [وجوب نفقة الأب الزمن على ولده ولو كان فقيرًا] وأما الابن، فإنه لا يجبر في حال الفقر على نفقة أبيه إذا كان سليمًا لا زمانة به؛ لأنه يمكنه السعي للكسب والنفقة على نفسه، كما يسعى الابن الكبير، والأم ليست كذلك، إذ ليس لها نهوض لكسب. فإن كان الأب زمنًا لا يقدر على الكسب: أجبر الابن على أن يدخله في نفقته وكسبه، كما قلنا في الأم. مسألة: [لزوم نفقة الصبي والأب المعسرين على الأم الموسرة] قال: (وإن كان الصبي معسرًا وأبوه معسرًا، وأمه موسرة: فإن الأم تؤمر بالنفقة عليه، ويكون ذلك دينًا لها على الأب). وذلك لأن الأب لما لم يشارك في النفقة، لم تجب نفقته على غيره؛

لأن الأب تلزمه نفقة الصغير في حال الإعسار واليسار، فإذا لم يقدر عليها، لم تسقط عنه، كما لا تسقط نفقة الزوجة بالإعسار، بل تفرض عليه، وتستدين عليه، فتنفق على نفسها. وإنما أمرت هي بالنفقة، لأنها موسرة، وهي التي تلزمها نفقته إذا لم يكن أب. [مسألة: نفقة الصبي الفقير وأمه موسرة وأبوه ميت وجده موسر] قال: (وإذا كان الصبي فقيرًا، وله أم موسرة، وأبوه ميت، وجده موسر: فإن النفقة عليهما على قدر موارثتهما منه لو توفي). قال أبو بكر: وذلك لقول الله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك}، فلما كانت النفقة مستحقة بالميراث، كانت على قدر المواريث، ألا ترى أن من ليس من أهل الميراث: لا تلزمه النفقة. * قال: (وكذلك يشاركها في نفقة الصغير العم، وسائر العصبات سواء معها، وليس أحد منهم كالأب). لأن الله تعالى أفرد الأب بإيجاب النفقة عليه دون سائر الورَّاث. قال: (وإن كان له خال وابن عم: فالنفقة على الخال؛ لأنه من أهل

الميراث ذو رحم محرم، وابن العم وإن كان وارثًا في هذه الحال، فإنه ليس بذي رحم محرم". وقد بينا قبل ذلك أنها لا تستحق بالميراث وحده، دون كونه ذا رحم محرم. مسألة: [لزوم نفقة الرجل الزمن على أخيه إن لم يكن ولد] قال: (وإذا كان الرجل زمنًا معسرًا، وله ابنه معسرة، وله ثلاثة إخوة متفرقين: فإن نفقته على أخيه لأبيه وأمه خاصة، دون إخوته الآخرين". قال أبو بكر: وذلك لأنه لو مات: ورثه أخوه لأبيه وأمه مع ابنته، دون الأخوين. والابنة المعسرة ليس عليها نفقة الأب؛ لأنها معسرة، ولا تقدر على الكسب، وليست في هذا الوجه كالابن الفقير يجبر على نفقة أبيه الزمن إذا كان ممن يكتسب. فإن كان الابن زمنًا لم يجبر عليها. * قال: (ونفقة الابنة في مسألتنا على عمها أخي أبيها لأبيه وأمه خاصة، دون عميها الآخرين).

وذلك لأن الأب لما كان معسرًا، كان بمنزلة الميت، ولو كان ميت كان الذي يرثها عمها لأبيها وأمها، دون الآخرين. [مسألة:] قال أبو جعفر: (ولو كان مكان الابنة ابن زمن فقير: كانت نفقة الأب على أخيه لأبيه وأمه، وعلى أخيه لأمه، على ستة أسهم: على أخيه لأبيه وأمه من ذلك خمسة، وعلى أخيه لأمه واحد". وذلك لأن الابن لما حجبهم جميعًا عن الميراث، جعل كالميت، ولو كان الابن ميتًا: كان ميراث الأب بين أخويه اللذين ذكرنا على سنة. [مسألة:] قال: (ونفقة الابن على عمه أخي أبيه وأمه خاصة، دون عميه الآخرين". وذلك لأن الابن لما كان يحجبهم: كان كالميت، ولو كان ميتًا: لاستحق ميراث الابن عمه لأبيه وأمه، دون الآخرين. مسألة: [وجوب نفقة الرجل على الابن الموسر دون الأب الموسر] قال: (وإذا كان الرجل زمنًا فقيرًا، وله أب موسر، وابن موسر:

فنفقته على الابن، دون الأب". وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك". فإذا كان مال الابن كمال الأب، صار الأب غنيًا بمال الابن، فلا تجب نفقته على أبيه. *******

باب أحكام المطلقات في عدتهن في النفقة والسكنى

باب أحكام المطلقات في عدتهن في النفقة والسكنى مسألة: [وجوب النفقة والسكنى للمطلقة في العدة] قال أبو جعفر: (وللمطلقة السكنى والنفقة ما دامت في العدة، حاملًا كانت أو غير حامل). وقال أبو بكر: قد بينا هذه المسألة فيما سلف. * قال: (وسواء كانت مسلمة أو كافرة). وذلك لأن جميع ما قدمنا من الدلائل في إيجاب نفقة العدة، لا يفرق بين نفقة الكافرة والمسلمة، وكما لم تختلف الكافرة والمسلمة في نفقة النكاح، وجب أن لا تختلفا في نفقة العدة؛ لأنها مستحقة في الحالين بعقد النكاح. مسألة: [نفقة المفارقة لزوجها بحق] قال: (وكل فرقة جاءت من قبلها بغير معصية، نحو خيار البلوغ، واختيار المخيرة نفسها، وخيار العتق: فإنها لا تبطل نفقتها". لأنها منعت نفسها منه بحق، فأشبهت المرأة تمنع نفسها من الزوج

لاستيفاء المهر، فلا تسقط نفقتها. مسألة: [نفقة المفارقة لزوجها بغير حق] قال: (وكل فرقة جاءت من قبلها بمعصية: فلا نفقة لها فيها). والأصل فيه: الناشزة لما كان منع نفسها بمعصية: لم تستحق النفقة، كذلك كل فرقة إذا كانت من قبلها بمعصية، نحو الردة، وتقبيل ابن الزوج لشهوة. * قال: (ولها السكنى في جميع ذلك حتى تنقضي عدتها). وذلك لأن السكنى في العدة حق الله تعالى، لا تصح البراءة منه، فلا تسقط بمنعها نفسها من الزوج. مسألة: [لا نفقة ولا سكنى للمعتدة من نكاح فاسد] قال: (وكل عدة وجبت من نكاح فاسد: فلا سكنى لها ولا نفقة. وكذلك أم الولد إذا أعتقها مولاها، أو عتقت بموته). وذلك لما بينا أن النفقة مستحقة بتسليم نفسها في بيت الزوج، وأن وجوبها متعلق بوجوب السكنى، فإذا لم تجب السكنى لم تجب النفقة، والنكاح الفاسد لم يستحق به تسليم نفسها في بيته، ولا استحقت به السكنى، كذلك في العدة؛ لأن حال العدة ليست بآكد من حال النكاح في استحقاق النفقة، فإذا لم تستحقها في حال النكاح، لم تستحقها في حال العدة. فإن قال قائل: قولك إن استحقاق النفقة متعلق بوجوب السكنى،

منتقض على أصلك؛ لأنك توجب السكنى للتي جاءت الفرقة من قبلها بمعصية، نحو تقبيل ابن الزوج، والردة، ولا توجب لها النفقة. قيل له: هذا غلظ؛ لأنا قلنا إن وجوب النفقة متعلق بوجوب السكنى، والتي جاءت الفرقة من جهتها بمعصية، قد وجبت لها النفقة، إلا أنها أسقطتها بمنعها نفسها، وهي مما تصح البراءة منها، فصارت كأنها وجبت لها، فأبرأته منها. وأما السكنى، فلا تصح البراءة منها، فلذلك ثبتت، ولم تسقط بمنعها نفسها. فصل: [نفقة أم الولد بعد العتق] قال أحمد: وأما أم الولد إذا أعتقت، فإنما لم تجب لها نفقة من قبل أن عدتها واجبة عن الوطء، فأشبهت العدة من النكاح الفاسد، إذ كانت واجبة عن الوطء، فلم تجب لها نفقة، كما لم تجب للمعتدة من نكاح فاسد. وأيضًا: فإنها إذا لم تستحق السكنى، لم تستحق النفقة، إذ كان وجوب النفقة متعلقًا بوجوب السكنى. وأيضًا: فإن فراش الملك لم تستحق به النفقة، فالعدة منه أحرى أن لا تستحق بها. فإن قيل: فراش الملك تستحق به النفقة؛ لأن نفقة أم الولد واجبة على

مولاها في حال بقاء فراشها. قيل له: لم تستحقها بالفراش، وإنما استحقتها بالملك، ألا ترى أنها لو لم يكن لها فراش الاستيلاد، وكانت أمة غير أم الولد: لا تستحق النفقة. وليست هذه من نفقة العدة في شيء، ألا ترى أن نفقة النكاح من نفقة العدة، فتستحقها المرأة على جهة إيجاب فرضها على الزوج، وتصير دينًا عليه بعد الفرض بمرور الأوقات، وأن الأمة لا يثبت لها ذلك على جهة الفرض، ولا تصير دينًا على المولى بحال، فعلم أن النفقة المستحقة في حال الملك، ليست هي النفقة المستحقة بالفراش والزوجية، والعدة. مسألة: [لا نفقة ولا سكنى للمتوفى عنها زوجها] قال أبو جعفر: (ولا سكنى ولا نفقة للمتوفى عنها زوجها في مال الزوج، حاملًا كانت أو غير حامل). قال أبو بكر: أما إذا كانت غير حامل، فلا خلاف أنه لا نفقة لها في مال الزوج، قال الله تعالى: {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرًا}، فجعل نفقتها على نفسها. * واختلف السلف في نفقتها إذا كانت حاملًا:

فقال ابن مسعود، وابن عمر، وشريح، وأبو العالية، وإبراهيم، والشعبي: نفقتها من جميع الميراث. وقال ابن عباس، وابن الزبير، وجابر، وسعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء: لا نفقة لها في مال الزوج، بل نفقتها على نفسها. والنظر يدل على ذلك؛ لأنهم اتفقوا على أن غير الحامل لا نفقة لها، فالحامل مثلها؛ لأن حكم الحامل والحائل لا يختلف عندنا في وجوب النفقة. وأيضًا: فإن النفقة الواجبة في المستقبل غير مستحقة بعقد النكاح، وإنما تستحق حالًا فحالًا، وقد زال ملك الميت بالموت إلى ورثته، فلا تجب لها نفقة في مال غير الزوج. وليست النفقة كالديون الواجبة في حال الحياة؛ لأن وجوب الدين يمنع الميراث، والنفقة لم تكن واجبة في حال الحياة، فتمنع الميراث، إنما نريد إيجابها بعد الموت في حال قد استحقه غيره. وأيضًا: لا تخلو هذه النفقة من أن يتعلق وجوبها بالحمل، لأجل العدة، أو لأجل الولد: فإن كان لأجل الولد: فالواجب أن تكون في نصيب الولد، ولا تكون في جميع الميراث، كما تجب بعد الوضع.

وإن كانت واجبة لأجل العدة: فالواجب أن تستحقها وإن لك تكن حاملًا بوجود العدة، فلما بطل ذلك، صح قولنا، وبطل ما سواه. مسألة: قال: (ومن طلق امرأته، فأنفق عليها في عدتها حتى مصى أكثر من حولين، ثم جاءت بولد فإن أبا حنيفة ومحمد قالا: ترد على الزوج نفقة ستة أشهر مما كانت أخذت، وقال أبو يوسف: لا ترد شيئًا". فأما أبو حنيفة، فإنه ذهب في ذلك إلى أنا قد علمنا أن هذا الولد من غير الزوج؛ لأنه عن حمل حادث بعد البينونة، فلا يلحق الزوج، إذ لم تكن فراشًا في تلك الحال، فحمل أبو حنيفة أمرها على الصحة والجواز، ولم يحمل أمرها على أنها جاءت به من الزنى، ولكنه جعلها كأنها تزوجت منذ ستة أشهر، وحملت من ستة أشهر. وحكمنا عليها بذلك إقرار منها بأن عدتها قد كانت انقضت قبل ذلك بستة أشهر؛ لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وذلك يتضمن إقرارًا منها، فإنها قد أخذت نفقة ستة أشهر بغير استحقاق، فعليها أن تردها. * والمسألة مبنية على أن الطلاق بائن، ولو كان الطلاق رجعيًا، لكان حدوث الحمل في العدة رجعة؛ لأنه محكوم بأن الولد من وطئه؛ لبقاء الفراش. * وذهب أبو يوسف إلى أنه لما لم نعلمها تزوجت، ولم يحصل منها إقرار قبل ذلك بانقضاء العدة، والعدة كانت باقية إلى أن وضعت: فلم

يكن عليها رد شيء مما أخذت. ************

باب الحضانة

باب الحضانة مسألة: [الأم أحق بالحضانة] قال أبو جعفر: (وإذا بانت المرأة من زوجها، ولها منه ولد صغير: فإن الأم أحق بحضانته). قال أبو بكر: والأصل فيه: قول الله تعالى: {والوالدات يرضعن أولدهن حولين كاملين}، ثم قال: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}، فأوجب على الزوج لهن النفقة، وجعلهن أولى بإمساكهم منه. وقال الله تعالى في آية أخرى: {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن}. وقال النبي الله عليه وسلم للأم: "أنت أحق به ما لم تزوجي"، يعني: بالولد الصغير. ومن جهة النظر: أن أحدًا لا يستحق الولاية على الصغير فيما يضر بالصغير، ألا ترى أن الأب لا تجوز هبته لمال الصغير، ولا بيع ماله بأقل

من القيمة بما لا يتغابن الناس فيه. وإذا كان كذلك، فالأحوط للصغير، والأنفع له أن يكون عند الأم؛ لأنها أحنى عليه، وأرفق به، وأحرى بأن تشفق عليه، وفي التفريق بينه وبين الأم ضرر عليه. وإذا كان كذلك لم يكن للأب ولاية في إمساكه وحضانته مع الأم، وكانت الأم أولى به لحق الصغير. مسألة: [ترتيب الأحق بالحضانة] قال أبو جعفر: (ثم الجدة التي من قبل الأم، ثم الجدة من قبل الأب، ثم الأخت من الأب والأم، ثم الأخت من قبل الأم، ثم الخالة، ثم الأخت من الأب، ثم العمة). قال أبو بكر: وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أن الأخت من الأب أولى من الخالة، وهو أيضًا قول زفر. ووجهه: أنها أقرب إلى الصبي من الخالة. والأصل في هذه المسائل: أن الأم لما كانت أولى بولاية الحضانة من الأب، وجب أن يكون من كان جهة الأم أقرب إلى الصبي، فهو أولى بالولاية منه، فكانت الجدة من قبل الأم أولى من الجدة من قبل الأب، لأن لها ولادًا من جهة الأم، فكانت أولى.

ثم الجدة من قبل الأب أولى من الأخت؛ لأن لها ولادًا، وهذه الولاية مستحقة بالولاد في الأصل، فمن لها ولاد فهي أحق بالحضانة ممن لا ولاد له. وأيضًا: فإن الجدة بمنزلة الأم، كما أن الجد بمنزلة الأب في الولاية على الصغير. ولا حق للأخ والأخت في الولاية مع الجد، ولأن الجدة أحنى على الصبي، وأشفق عليه من الأخت فيما جرت به العادة. ثم بعد الجدتين: الأخت من الأب والأم؛ لأنها أقرب إلى الصغيرة، ولها قرابة من وجهين: من أب وأم جميعًا. ثم الأخت من قبل الأم؛ لأن هذه الولاية مستحقة من جهة الأم، فمن كانت قرابتها من جهة الأم، فهي أولى. ثم الخالة أولى من الأخت من الأب؛ لأن قرابتها من جهة الأم وإن كانت أبعد من الأب، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخالة والدة". وجعلها أحق بالولد في قضية ابنة حمزة رضي الله عنه، لما اختصم علي، وجعفر، وزيد بن حارثة في بيت حمزة بن عبد المطلب، فقال علي: هي ابنة عمي، وقال جعفر: هي بيت عمي، وخالتها عندي، وقال زيد: هي ابنة أخي، آخيت بيني وبين حمزة، فقال النبي صلى الله عليه

وسلم: "ادفعوها إلى خالتها، فإن الخالة بمنزلة الأم". *وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أن الأخت من الأب أولى من الخالة، وهو أيضًا قول زفر. ثم الأخت من الأب أولى من العمة؛ لأن قربهما جميعًا من قبل الأب، والأخت أقرب. مسألة: [مدة حضانة الأم والجدة بالنسبة للصبي والجارية] قال: (والأم والجدتان أحق بالغلام حتى يستغني ويأكل وحده، ويشرب وحده، ويلبس وحده، وبالجارية حتى تحيض). قال أبو بكر: الأصل في ذلك أن الولاية المستحقة بالولاد على الصغير لا تزول إلا بالبلوغ، إلا فيما كان فيه ضرر على الصغير، فلا تستحق حينئذ إلا بعد الولاية عليه. فأما الأم والجدتان فقد استحققن هذه الولاية بالولاد، فوجب أن لا تزول إلا بالبلوغ، كالأب والجد لما استحقا الولاية على الصغير بالولاد، لم تزل ولايتهما إلا بالبلوغ، فكذلك قلنا إن حق الحضانة ثابت للأم والجدتين في الجارية إلى أن تحيض.

وأما الغلام فإن في بقائه عندهن ضررًا عليه إذا عقل؛ لأنه يتخلق بأخلاق النساء، وينشأ على آدابهن، فلم يكن لهن عليه ولاية إذا بلغ أن يأكل وحده ويشرب وحده، لأنه قد بلغ حال قبول التأديب، فكان الأب أولى به لتأديبه وتعليمه، وقد بينا أنه لا ولاية لأحد على الصغير فيما فيه ضرر عليه، فلذلك زالت ولايتهن. فإن قال قائل: هلا خيرت الغلام؟ لما روى زياد بن سعد عن هلال بن أسامة عن سليم أبي ميمونة عن أبي هريرة أن رجلًا طلق امرأته، واختصما في ابنها منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا غلام هذه أمك، وهذا أبوك، فاختر أيهما شئت، فأخذ الغلام بيد أمه". قيل له: يجوز أن يكون الغلام قد كان بلغ، ويدل عليه ما ذكر في هذا الحديث أنها قالت: يا رسول الله! إنه يريد أن ينزع ابني مني، وقد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة. وقد روى أن عليًا خير غلامًا قد بلغ، وقال لأخ له صغير: لو قد بلغ هذا أيضًا خيرناه. وروي أن عمر بن الخطاب خاصم أم عاصم في عاصم إلى أبي بكر، فقال أبو بكر: هو لها ما لم تتزوج، أو يكبر فيختار لنفسه، وقال: هي

أعطف عليه وأحنى وأرحم. مسألة: [مدة حضانة الأخوات والخالات] قال: (وأما الأخوات والخالات والعمات فهن أحق بالغلام والجارية حتى يستغنيا، فيأكلا وحدهما ويلبسا وحدهما). لأن كل واحدة من هؤلاء لم تستحق الولاية من جهة الولاد، وإنما ثبت لها ذلك ما دام الصغير يحتاج إلى الحضانة، فإذا استغنى عنها، فلا ولاية لها. مسألة: [حضانة المجوسية، والنصرانية واليهودية] قال: (والمجوسية، واليهودية، والنصرانية في ذلك بمنزلة المسلمة). وذلك لأن هذا لا يخلو من أن يكون من حق المرأة، أو من حق الصغير، وأيهما كان، لم يختلف فيه حكم المسلم، والذمي. مسألة: [حق أم الولد في الحضانة] قال: (وأم الولد إذا مات عنها سيدها بمنزلة الحرة المسلمة).

وذلك لأنها قد ملكت أمر نفسها بالحرية، فلم تختلف وسائر الحرائر في حق الحضانة. مسألة: [حق الحضانة بعد الزوج] قال: (ومن تزوجت من هؤلاء: فلا حق لها في الحضانة، وكانت بمنزلة الميتة). وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال الأم الصغير حين خاصمت زوجها: "أنت أحق به ما لم تزوجي". رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن جهة النظر: إن في كونه عند الأم ضررًا عليه إذا كان لها زوج؛ لأنه يكون في جفاء، وقلة نظر، ولا ولاية لها عليه فيما يضر به. مسألة: [الأب أحق بالأولاد بعد مدة الحضانة] قال: (وإذا استغنى الغلام أو الجارية، وخرجا من الحضانة: فالأب أحق بهما بغير تخيير للغلام والجارية). وذلك لأنه لا قول لهما في حال الصغر، واختيارهما كلا اختيار، ألا ترى أنهما لا قول لهما في سائر الأحكام، فكذلك في اختيار أحد الأبوين.

وأما ما رواه زياد بن سعد عن هلال بن أسامة عن سليم أبي ميمونة عن أبي هريرة أن امرأة قالت: يا رسول الله! زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد نفعني، وسقاني من بئر أبي عنبة، فخير النبي صلى الله عليه وسلم الغلام، فاختار أمه. فإن معناه عندنا: أن الغلام كان بالغًا، ودل عليه أنها قالت: قد نفعني وسقاني من بئر أبي عنبة. وروي عن أبي بكر الصديق أنه قال: "هو لها ما لم تتزوج، أو يكبر فيختار لنفسه، وقال: هي أعطف عليه، وأحنى وأرحم. مسألة: [زواج الأم من ذي رحم محرم من الصبي] قال أبو جعفر: (ولا يحرم أحد ممن ذكرنا الحضانة بزوج ذي رحم محرم من الصبي والصبية في شيء مما ذكرناه). قال أبو بكر: هذا لا نعرفه من مذهب القوم، بل المشهور من قولهم، وما دونوه في كتبهم: أن كل واحدة من هؤلاء، إذا كان لها زوج، فلا حق لها في الحضانة إلا الجدة، فإن لها حق الحضانة إذا كان زوجها جد الصبي، ولم يذكروا معه سائر ذوي الرحم المحرم إذا كان زوج من لها الحضانة. وعسى أن يكون أبو جعفر قاس ذوي الرحم المحرم على جد

الصبي إذا كان زوج الجدة. مسألة: [انتقال الولد إلى بلد آخر في الحضانة] قال أبو جعفر: (وإن أرادت المطلقة الحرة أن تنتقل بولدها إلى بلد غير البلد الذي طلقت فيه، فتحضن الولد هناك، فإن كان عقد نكاحها هناك: كان لها ذلك، وإن وقع النكاح في بلد آخر: فليس لها ذلك، وإنما ننظر في هذا إلى عقدة النكاح أين وقعت، لا إلى ما سوى ذلك). قال أبو بكر: هذا الإطلاق في اعتبار عقدة النكاح غير صحيح، وقد أطلق محمد في الجامع الصغير لفظا يشبه هذا، وربما أشكل على من حمله على ظاهره. والصحيح من قولهم: ما ذكره محمد في كتاب الطلاق، وهو: أنه ليس لها أن تخرجهم من البلد الذي طلقها فيه، إلا إلى بلدها إذا كانت عقدة النكاح فيه، وليس لها أن تخرجهم إلى بلد غير بلدها وإن وقعت فيه عقدة النكاح، ولا إلى بلدها إذا لم تقع فيه عقدة النكاح. والأصل في ذلك: أن في الاغتراب بالأولاد ضررًا عليهم، فليس لها أن تفعل ذلك، إلا أن يكون عقد النكاح وقع في بلدها، فلها أن تخرج بهم إليه، وذلك لأن وطنها في ذلك الموضع إنما استحق عليها بعقد النكاح، فمتى ارتفع العقد عاد حكم وطنها الذي كانت فيه على ما كان عليه؛ لأن الزوج إنما استحق إخراجها عن وطنها بالعقد، فإذا ارتفع

العقد، فها أن ترجع إلى بلدها بالأولاد، لزوال المنى الذي من أجله استحق عليها الكون هناك. كما أنها لو أخرجت الأولاد بعد الطلاق من بلدها، كان لها أن تردهم إلى بلدها، لأن فيه ردًا للأولاد إلى وطنها، وليس فيه اغتراب بالأولاد. * وأما إذا لم يكن عقد النكاح في بلدها: فليس لها أن تخرجهم إلى بلدها، ولا إلى غيره؛ لأنها لم تستحق عليه الكون في بلدها بعقد النكاح، إذ قد كانت في غير بلدها قبل العقد، فصار بلدها وغير بلدها سواء في حق الأولاد، ومنعها إخراجهم إلى شيء من البلدان. مسألة: [انتقال الأم بالولد إلى قرية أخرى] قال أبو جعفر: (وإن كان تزوجها في قرية، فأرادت أن تنقلهم إلى قرية أخرى، فإن أمكن أباهم أن يلم بهم، ويرجع من يومه إلى قريته: فلها ذلك، وإن كان على خلاف ذلك: فليس لها ذلك). وذلك لأن القريتين إذا كان بينهما ما لا يمنع الأب عن رؤية الصبي في كل يوم، صارتا بمنزلة محلتين في بلد واحد، أو جانبين في مصر واحد، فلها أن تمسكهم في أي موضع منها شاءت. وأما إذا لم يكن بينهما ما وصفنا، وهو بمنزلة السفر والاغتراب بالأولاد: فليس لها ذلك.

* قال: (وكذلك إن أرادت أن تنقلهم من قرية إلى مصر). قال أبو بكر: وهذا مبني على أن المصر ليس بمصرها، ولم يقع النكاح فيه، لأنه إذا كان مصرها، وكان عقد النكاح فيه: فلها أن ترجع إليه. [مسألة:] قال: (وإن أرادت أن تنقلهم من مصر إلى قرية: لم يكن لها ذلك على الوجوه كلها). قال أبو بكر: والمسألة على أن عقد النكاح لم يكن في القرية، فإن كان عقد النكاح في القرية، وهي من أهلها: فلها أن تردهم إليها، على ما بينا في إخراجها إياهم إلى مصر آخر. وإنما لم يكن لها أن تخرجهم من المصر إلى القرية وإن أمكن لأبيهم رؤيتهم في كل يوم: من قبل أن مقام الأولاد هناك ضررًا عليهم، لأنهم ينشؤون على أخلاق أهل السواد، ويبعدون من مواضع العلوم والآداب. *********

باب نفقة المماليك والبهائم

باب نفقة المماليك والبهائم مسألة: [نفقة المملوك] قال أبو جعفر: (وعلى مالك المملوك نفقته وكسوته بالمعروف). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المماليك: "إنهم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تكسون". وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة سيء الملكة". ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم. * قال أبو جعفر: (فإن أبى: أوجروا، وأنفق عليهم من أجرهم). وذلك لأنه يمكننا التوصل إلى الإنفاق عليه من مال مولاه ببذل منافعه.

* قال: (فإن كانت جارية لا يؤاجر مثلها، أو غلامًا زمنًا: أجبر على الإنفاق عليه، أو بيعه إن رأى ذلك القاضي). وذلك لأن هذا حق له على المولى، يلزمه الخروج إليه منه، فيجبر عليه كما يجبر على أداء سائر حقوق الآدميين. * وأما البيع: فإن ينبغي أن يكون في قول أبي يوسف ومحمد؛ لأنهما يريان البيع على الحر البالغ لأجل حق الغير. وأما أبو حنيفة، فإنه لا يرى جواز البيع على الحر، ولكن يحبس حتى يبيع إذا استحق عليه البيع. فإن قيل: ما الفرق بين هذا، وبين العاجز عن نفقة امرأته؟ هلا فرقت بينهما، كما أجبرته على بيع العبد إذا عجز عن نفقته. قيل له: لأنه ليس في ترك التفريق بينهما فوات حقها إذا كانت ذمته صحيحة تثبت النفقة فيها على مرور الأوقات، وفي ترك بيع العبد فوات حقه؛ لأنه لا يثبت له حق النفقة في ذمة المولى، ولا يصير دينًا عليه. مسألة: [الإنفاق على البهائم] قال أبو جعفر: (وأما البائهم: فإنه يؤمر مالكوها بالإنفاق عليها فيما بينهم وبين الله تعالى، ولا يجبرون عليها فيما رواه محمد عن أصحابه). وإنما لم يجبر على ذلك؛ لأن البهائم لا تثبت لها حقوق الأداء، ولا

يصح ذلك لها، والإجبار على النفقة إنما وجب لأنه حق يثبت للمملوك على المولى، كسائر حقوق الناس، ولكنه يفتى فيما بينه وبين الله تعالى، لأن فيه تعذيب الحيوان، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "نهى عن تعذيب البهائم، وأن يتخذ شيء من الروح غرضًا". وأيضًا: فيه إتلاف ماله، وقد "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال". وكما "نهى عن ترك سقي زرعه ونحله حتى يتلف". ولا يجبر عليه في القضاء. * قال أبو جعفر: (وقد روى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف، ولم يحك فيه خلافًا: أنه يجبر أرباب البهائم على النفقة عليها، أو على بيعها). ويشبه أن يكون ذهب فيه إلى ما روي من الآثار في النهي عن تعذيب الحيوان. ********

باب الزوجين يختلفان في متاع البيت

باب الزوجين يختلفان في متاع البيت مسألة: [اختلاف الزوجين في متاع البيت] قال أبو جعفر: (وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال: ما كان من متاع الرجال: فهو للرجل، وما كان من متاع النساء: فهو للمرأة، وما كان للرجال والنساء: فهو للرجل). قال أبو بكر: الأصل في ذلك: أن للرجل يدًا في المنزل، وكذلك المرأة والدليل على أن للمرأة يدًا في المنزل: أن المرأة وأجنبيًا لو تنازعا متاعًا في منزل الزوج، والزوج لا يدعيه: أنا نجعل اليد للمرأة منه، دون الأجنبي، فدل ذلك على أن للمرأة يدًا في المنزل كما للزوج، إلا أن يد كل واحد منهما في المنزل من طريق الحكم، لا من طريق المشاهدة والحقيقة. وإذا كان كذلك: اعتبرنا أظهر اليدين تصرفا، وآكدهما حالًا، فقلنا: ما كان للرجال: فهو للرجل؛ لأن الظاهر أنه هو المتصرف فيه دون المرأة، وما كان للنساء: فهو للمرأة؛ لأن الظاهر أنها هي المتصرفة فيه. ألا ترى أن هذا الصنف من هيئة المتاع من نحو تقطيع الثوب،

ونسجه، إنما يفعل لأجل المرأة، فإذا لم نعلم من قاطع الثوب على هذه الصفة: حكمنا بأن المرأة هي التي قطعته على هذا الوجه، إذ ليس هناك متصرف فيه على هذا الوجه، ولا من يقطع له ذلك على هذه الصفة غيرها، فكانت هي أظهر يدًا فيه، وأكثر تصرفًا. وليس هذا كالبزاز، والإسكاف إذا اختلفا في قالب خف هو في أيديهما، فلا يكون الإسكاف أولى به من البزاز وإن كان الظاهر أن الغالب مما يتصرف فيه الإسكاف دون الآخر، وذلك لأن يد كل واحد منهما في هذه الحال من طريق المشاهدة إذا كانا متعلقين به، فهو في أيديهما نصفان، والنصف الذي في يد كل واحد منهما ليس في يد صاحبه منه شيء، فلا يستحقه. كما أن الغالب لو كان كله في يد البزاز، وادعاه إسكاف ليس في يده منه شيء: لم يحكم به له، وكان صاحب اليد أولى، فكذلك إذا كان في أيديهما، فإن يد كل واحد منهما ثابتة في نصف القالب، دون النصف الآخر الذي في يد صاحبه. وأما المرأة والزوج، فإن لكل واحد منهما يدا في جميع ما في المنزل، فوجب اعتبار آكد اليدين، وأظهرهما تصرفا. ونظير الزوج والمرأة: ما قال أصحابنا في المستأجر والمؤاجر إذا اختلفا في باب موضوع في الدار، أو جذوع موضوعة في غير البناء، فادعاه كل واحد منهما: أنا ننظر: فإن كان هذا الباب المقلوع مصراعًا لباب آخر في البناء، ووفقًا له: فالقول قول رب الدار، وإن لم يكن

كذلك: فهو للمستأجر. وكذلك الجذع إن كان في السقف أجذاع منقوشة، أو مصورة مثل صورتها ونقشها، وإذا جمع بينهما كان بعضها وفقًا لبعض: قرب الدار أولى بها، ولا يصدق المستأجر أنه له، وإن كان على غير ذلك: فالقول قول المستأجر. وكذلك لو أن خياطًا في دار رجل يخيط قميصًا، واختلفا فيه: فإن صاحب الدار أولى بالقميص، ولو اختلفا في المقراض والإبرة: كان الخياط أولى بهما. وكذلك قربة السقاء، وما جرى مجرى ذلك. * وإنما جعل ما كان للرجال والنساء للرجل خاصة: من قبل أنهما لما تساويا في ظهور يدهما في الشيء المدعى، ثم كان المنزل للرجل: وجب أن يكون أولى به؛ لأنه آكدهما يدًا. ألا ترى أن رجلًا لو كان راكبًا لدابة، وآخر متعلق بلجامها، فتنازعاها: أن الراكب أولى باليد وإن كان المتعلق باللجام يوجب له اليد لو انفرد، إلا أنه لما كان الراكب أظهر تصرفًا، وآكد يدًا: كان أولى. وكذلك لو أن رجلًا كان لابس ثوب، وآخر متعلق به: كان اللابس أولاهما باليد.

مسألة: قال: (وإن كان أحدهما ميتًا: فالجواب كذلك، إلا أن ما كان منه للرجال والنساء: فهي للحي منهما في قول أبي حنيفة). وذلك لأن يد الميت زائلة، ويد الآخر باقية، فإذا لم يكن هناك تصرف ظاهر يوجب كون الميت أولى: كان الحي أولى، لبقاء يده. (وقال محمد: الموت والحياة سواء، لا يكون الحي أولى). لعلمنا أن جميع ذلك قد كان في أيديهما، فاستحقاه قبل الموت على ما وصفنا، فلا يتغير حكمه بالموت. (وقال أبو يوسف: الحياة والموت سواء، وتعطى المرأة مقدار ما يجهز به مثلها، والباقى للزوج). وذلك لأن المنزل للزوج، والمرأة في يده أيضًا، ألا ترى أن رجلين لو ادعيا نكاح امرأة، وأقاما بينة: أن المرأة للذي المرأة في يده أولى بالنكاح. إلا أن الظاهر مع ذلك أن المرأة تنتقل إلى بيت الزوج بجهاز مثلها، فالظاهر أنها قد استحقت ذلك، وأنها أولى به من الزوج، كما يكون الخياط أولى بالمقراض والإبرة من صاحب الدار وإن كان في بيته.

مسألة: [اختلاف الذمية مع زوجها المسلم في متاع البيت] قال: (والذميان في ذلك، والذمية تحت المسلم: كالزوجين المسلمين في جميع ما وصفنا". وذلك أن اختلاف الدينين لا يوجب اختلافًا في الحقوق والأيدي، فلذلك كان المسلم والكافر فيه سواء، ألا ترى أن المسلم والكافر لا يختلفان في سائر الحقوق التي هي حقوق للآدميين. مسألة: [حكم متاع البيت حال اختلاف الزوجين وأحدهما عبد] قال: (وإن كان أحد الزوجين عبدًا، فإن أبا حنيفة قال: المتاع للحر منهما في حياته، ولورثته بعد وفاته). وذلك لأن العبد لا يد له؛ لأنه لا يملك، ولا تثبت له خصومة ولا حق إذا كان محجورًا عليه. قال: (وقال أبو يوسف ومحمد: العبد المأذون له في التجارة، والمكاتب بمنزلة الحر في ذلك). وليس ذلك بخلاف منهما لأبي حنيفة، وهذا ينبغي أن يكون قولهم جميعًا، لأن المأذون والكاتب لهما أيد صحيحة، ولهما حق الخصومة

والإمساك، فكانا بمنزلة الحر في ذلك. وما تقدم من أن الحر أولى من العبد: إنما هو في العبد المحجور عليه، لأنه لا يد له في حال الحجر. *******

كتاب القصاص والديات في الجراحات

كتاب القصاص والديات في الجراحات مسألة: [الدية في جناية الصبي والمجنون على العائلة] قال أبو جعفر: (وإذا جنى الصبي الذي لم يبلغ، أو المجنون في حال جنونه على رجل، فقتله: كانت ديته على عاقلته). قال أبو بكر: وذلك لأن قصد الصبي لا حكم له، فصار عمده وخطؤه سواء. والدليل على أنه لا حكم لقصده: أنه لا قصاص عليه في جنايته، ولا يستحق المأثم بفعله وإن عمد إليه وقصده، ولو كان لقصده حكم، للزمه القصاص إذا تعمد كما يلزمه البالغ، وإذا كان كذلك: صارت جنايته وإن قصدها في حكم الخطأ، فلزمت العاقلة. فإن قال قائل: لما لم يكن الصبي من أهل التكليف، وجب أن لا يثبت عليه حكم جنايته، كالبهيمة.

قيل له: ليس حكم الجناية مقصورًا على صحة التكليف؛ لأن الناسي والمخطئ لا تكليف عليهما فيما نسيا أو أخطآ فيه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان". ثم لم يسقط عن المخطئ حكم جنايته من أجل زوال التكليف عنه. قال الله تعالى: {ومن قتل مؤمنًا خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله}، فالدية حكم جنايته وإن كان مخطئًا غير مكلف لما أخطأه. وكذلك الصبي هو بمنزلة المخطئ؛ لأنه ممن تثبت عليه الحقوق، وله، وليس كالبهيمة، لأنها ليست ممن تثبت عليها الحقوق، ولا لها، فلذلك اختلف حكم الصبي وحكمها. ألا ترى أن الصبي إذا استهلك مالًا لغيره ضمنه، كما يضمن البالغ، وأن البهيمة لا يتعلق عليها ضمان جنايتها في المال، وذلك لما وصفنا أنها

بمنزلة جناية الخطأ. فصل: [جناية الصبي فيما دون النفس] قال أبو بكر: (وكذلك كل جناية تكون منه فيما دون النفس: فديتها على العاقلة). وذلك لما وصفنا أنها بمنزلة جناية الخطأ. مسألة: [الدية في الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين] قال: (وما وجب فيه الدية: فهو على عاقلته في ثلاث سنين). قال أبو بكر: الأصل فيه: أن عمر بن الخطاب قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين بحضرة الصحابة من غير نكير من واحد منهم عليه، ولا مخالف له، فصار ذلك أصلًا يجب الرجوع إليه، كسائر العقود التي عقدها لكافة أهل الإسلام بحضرة الصحابة، فلم يختلف عليه منهم أحد فصارت أصولًا لا يسع خلافها. نحو عقده مع بني تغلب في مضاعفة العشر عليهم في أموالهم، ووضع الخراج على أهل سواد العراق، وأهل الشام، وتصنيف

طبقات أهل المذمة في الجزية، وتقدير الدية ألف دينار، وقد كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل. فهذه أمور عقدها عمر بحضرة الصحابة من غير نكير من أحد منهم عليه، فثبت حكمها من وجهين: أحدهما: أن مثل هذا إذا استفاض وظهر، ولم يغيره أحد من الخلفاء الراشدين بعده فهو اتفاق، واتفاق الصدر الأول حجة لا يجوز خلافه. والوجه الآخر: إن كل عقد عقده إمام من أئمة العدل لكافة الأمة، فهو لازم لأول الأمة وآخرها. والأصل فيه: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ويعقد عليهم أولهم".

فمعنى قوله: بعقد عليهم أولهم: أن ما يعقده الإمام للكافة، فهو لازم لمن جاء بعده، وعمومه يقتضي ذلك، إذ كان هذا أصلًا صحيحًا. ثم جعل عمر رضي الله عنه الدية على العاقلة في ثلاث سنين، ويثبت أن قيمة دية النفس الواجبة بنفس القتل إنما تجب مؤجلة في ثلاث سنين، الثلث وما دونه في سنة، وما زاد على الثلث إلى الثلثين في سنة أخرى، ثم الثلث الباقي وما دونه في سنة أخرى. مسألة: قال أبو جعفر: (وما كان فيه نصف الدية: فهو في سنتين، ثلث الدية في سنة، والسدس الباقي في سنة أخرى). وإنما كانت هذه الزيادة في سنة أخرى، ولم تكن في نصف سنة: من قبل أن الغرة، وهي خمسة مائة درهم على العاقلة في سنة، وهو ما دون الثلث، فدل ذلك على أن الثلث وما دونه واجب في سنة. وما ذكرناه من هذا الأصل الذي قدمنا أفادنا معنيين: أحدهما: وجوب الدية على العاقلة، والثاني: أنها مؤجلة. وفي إيجاب الدية على العاقلة وإن لم يذكر فيها التأجيل سنتين، قد رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها أخبار، منها:

ما رواه جرير وشعبة عن منصور عن إبراهيم عن عبيد بن فضيلة عن المغيرة بن شعبة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة، وجعله على عاقلة المرأة". وروى مسدد عن عبد الواحد بن زياد عن خالد عن الشعبي عن جابر "أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة". وروى ابن المبارك عن معمر عن الزهري قال المغيرة بن شعبة: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المرأة يعقل عنها عصبتها، ويرثها بنوها". وروى إبراهيم بن موسى الرازي قال: حدثنا معمر الرقي عن خصيف عن زياد بن أبي مريم "أن امرأة أعتقت عبدًا لها، ثم توفيت، وتركت ابنًا لها وأخاها، ثم توفي مولاها بعد، فأتى أخوها وابنها النبي صلى الله عليه وسلم في ميراثه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ميراثه لابن المرأة. فقال أخوها: يا رسول الله! لو جر جريرة على من كانت؟ قال: عليك. قال: يا رسول الله! لو أنه جر جريرة كانت علي، ويكون ميراثها

لهذا؟ قال: نعم". قال أبو بكر: أفادنا هذا الخبر معنيين، أحدهما: هو وجوب الدية على العاقلة. والثاني: أن العاقلة ليست من أهل ميراث الجاني فحسب، وأنه قد يجوز أن يعقل من لا يحوز الميراث. مسألة: [ما تحمله عاقلة الجاني من الدية] قال أبو جعفر: (وما كان مقداره دون نصف عشر الدية: فهو على الجاني في ماله، لا تحمله العاقلة عنه). قال أبو بكر: القياس أن لا يلزم العاقلة من جنايته شيء، كما لا يلزمها جنايته في الأموال. والعموم أيضًا ينفيه، لقول الله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل رأى معه آخر، فقال: "هذا ابنك؟ قال: بلي، قال: أما إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه". فهذا العموم ينفي لزوم العاقلة حكم جنايته.

وفي الأصل أيضًا: أن الجناية على الأموال لا تلزم غير الجاني، وكان القياس أن لا يلزم العاقلة شيء من جناية الجاني، إلا أنه لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إيجاب الدية في الغرة على العاقلة، وكانت قيمة الغرة خمسمائة درهم، نصف عشر الدية، تركوا له ظواهر الآية والقياس معه، وخصوها بما وردت به السنة، واتفق عليها علماء السلف. والمعنى في لزوم الدية العاقلة: أن العقل في الأصل مبني على التناصر، وكانوا يتناصرون بالقبائل، ثم صارت النصرة في أيام عمر رضي الله عنه بالدواوين والرايات، فلذلك جعلها عمر على ذلك، فأمر أهل نصرته بمواساته إذا كانت جنايته واقعة على وجه الخطأ، ولم يكن عمدًا يوجب القصاص، لئلا يجحف بالقاتل في لزومه جميع الدية. ولهذا المعنى فرق فيه بين القليل والكثير؛ لأنه قد يمكنه في العادة أن ينهض بالقليل وإن عجز عن الكثير، ولأجل التخفيف جعلت مؤجلة. ثم جعل الفصل بين القليل والكثير على ما وردت به السنة، وهو نصف عشر الدية.

ويدل عليه من جهة النظر: أن ما دون الموضحة ليس له أرش مقدر بنفسه، فأشبه ضمان الأموال، لما لم يكن لها تقدير في أنفسها، لزمه في ماله دون عاقلته، وما كان له أرش مقدر في نفسه، فهو مشبه بالنفس، لكونه مقدرًا في نفسه، وكان على العاقلة. فإن قال قائل: فإن أرش الأنملة مقدر، وهو ثلث دية الأصبع، فينبغي أن تحمله العاقلة. قيل له: ليس أرشها مقدرًا بنفسها، بل هو مقدر بغيرها، وهو الأصبع، ونحن إنما شبهنا ما دون الموضحة بالأموال من حيث لم يكن له أرش مقدار بنفسه. فإن قيل: المعنى في تحمل العاقلة، ما كان في عمده قصاص. قيل له: لا اعتبار بالقصاص؛ لأنه اعتبار ساقط عند الجميع، لأن مخالفنا لا يوجب القصاص في الباضعة، والمتلاحمة، ويجعلها على العاقلة.

ولأنه لو قطعت يده من نصف الساعد عمدًا: لم يجب فيه القصاص، وخطؤه تحمله العاقلة، فعلمنا أن القصاص لا تأثير له في ذلك. فإن قال قائل: إذا غرمت العاقلة خمسمائة، فقد غرمت ما دونها، وكل جزء منها، فيجب أن تغرمه على الانفراد. قيل له: القصاص يجب في الكل، ولا يجب في البعض، وكذلك [القطع يجب في سرقة عشرة دراهم فيها مجتمعة، ولا يجب في بعضها]. وكذلك الزكوات، والطلاق الثلاث يتعلق الحكم فيها بمقدار ما، ولا يتعلق بما دونه. مسألة: [وجوب القصاص بين المسلم والكافر] قال أبو جعفر: (والقصاص بين الرجال والأحرار العقلاء البالغين في الأنفس وما دونها، مسلمين كانوا أو كفارًا، غير الحربيين). قال أبو بكر: أما الحجة في وجوب القصاص بين المسلم والكافر

الذمي، فهو قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى}، وفيه دلالة من وجهين على ما قلنا: أحدهما: عموم قوله: {كتب عليكم القصاص في القتلى}، وذلك ينتظم الكافر والمسلم، لشمول الاسم لهم. وافتتاح الخطاب بذكر المؤمن لا يوجب الاقتصار بحكم الآية على إيجاب القصاص للمسلم دون الكافر؛ لأن الخطاب توجه على المؤمنين بوجوب القصاص عليهم في القتلى، ولم يقيد القتلى بذكر الإيمان، فكان مقتضى اللفظ وجوب القصاص على المؤمن لسائر القتلى. وأيضًا: لا ينفي وجوب القصاص للذمي على الذمي؛ لأنه خاطبهم بوجوب القصاص عليهم، ولم يصف المقتول بالإيمان، بل أطلق ذكره تسمية القتل من غير تقييد له بشرط الإيمان، فقال: {كتب عليكم القصاص في القتلى}، ولم يقل في قتلى المؤمنين. والوجه الآخر من الدلالة: قوله: {الحر بالحر}، وذلك عموم أيضًا في إيجاب القصاص بينهما. فإن قال قائل: قوله في نسق التلاوة: {فمن عفي له من أخيه شيء}: ينفي أن يكون الكفار داخلين فيه؛ لأن الكافر ليس بأخ للمسلم. قيل له: لو سلمنا ذلك أن المراد الأخوة في الدين: لم يوجب ذلك

تخصيص العموم المذكور في ابتداء الآية، إذ لا يمتنع أن يطلق لفظ عام ينتظم مسميات، ثم يعطف عليه بعض من دخل في الجملة بحكم يختص ببعض ما انتظمته الجملة، ثم لا يوجب ذلك تخصيص ما ورد مطلقا في ابتداء الخطاب. كقوله تعالى: {ووصينا الإنسان بولديه إحسانًا}، وهو عموم في الكافرين والمسلمين، ثم قال: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما}، وهذا لا محالة في الأبوين الكافرين. وكقوله: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}، وعمومه في المبتوتة والرجعية، ثم قال: {وبعولتهن أحق بردهن}، وهو حكم خاص في بعض من شمله عموم اللفظ الأول، ولم يوجب كون ابتداء الخطاب جاء مطلقا أن يكون مقصورًا على من كان حكمه في الطلاق دون جميعهن، وقد بينا ذلك في مواضع. وأيضًا: فإنه لم يثبت أن المراد الأخوة من جهة الدين، وليس يمنع إطلاق لفظ الأخوة بينهما، من حيث كان جنسه، وإن كان مخالفا له في دينه، كقوله تعالى: {كذبت عاد المرسلين (123) إذ قال لهم أخوهم هود ألا

تتقون}، ولم يرد الأخوة من جهة الدين. * ودليل آخر: وهو قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس}، وشريعة من كان قبلنا من الأنبياء لازمة حتى يثبت نسخها على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}. * ودليل آخر: قوله تعالى: {ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا}، وقوله: {سلطانًا}: وإن كان لفظًا مجملًا، فإن الأمة متفقة على أنه قد أريد به القود في المسلمين، وإذا صح أن القصاص مراد، صارت مفسرة به، فصار كقوله: فقد جعلنا لوليه قودًا. * ومن جهة السنة: ما روى الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال: "ألا ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: أن يقتص، أو يأخذ الدية". وروى ابن أبي ذؤيب عن سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي قال:

قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم فتح مكة: "من قتل قتيلًا فأهله بين خيرتين: بين أن يأخذوا العقل، وبين أن يقتلوا". ولم يفرق بين المسلم والكافر، فهو على عمومه في الفريقين جميعًا. * ويدل عليه أيضًا: حديث عثمان وابن مسعود وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، وكفر بعد إيمان، وقتل نفس بغير نفس". وروى إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمد قود إلا أن يعفو ولي المقتول". وروي قتل المسلم بالكافر عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب. وروى ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن البيلماني "أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد مسلمًا بذمي، وقال: أنا أحق من

أوفى بذمته". فهذا خبر مفسر مبين لما أجملته الأخبار الأخر، وهو وإن كان مرسلًا، فإن إرساله عندنا لا يضره. * فإن قيل: روى الشعبي عن أبي جحيفة عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقتل مؤمن بكافر". وروى الحسن عن قيس بن عباد عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده". قيل له: نجمع بينه وبين سائر الأخبار، وظواهر الآي التي ذكرناها، فتقول: لا يقتل مؤمن بكافر معاهد لا ذمة له، وهو الحربي المستأمن، ويجعل سائر ما وصفنا من الظواهر في سائر الكفار، ما خلا المعاهد. وأيضًا: في فحوى هذا الخبر ما يوجب أن يكون الحكم مقصورًا على الحربي دون غيره، وذلك لأنه عطف عليه قوله: "ولا ذو عهد في عهده"، ومعلوم أن قوله: "ولا ذو عهد في عهده":كلام غير مستقل بنفسه، بل هو مفتقر إلى إضمار؛ لأنه لا يصح ابتداء الخطاب به، وكل كلام هذا سبيله: فهو مفتقر إلى ضمير، وضميره ما تقدم ذكره من نفي القتل على وجه القصاص، إذ لم يتقدم في الخبر ذكر القتل إلا على هذا الوصف.

فصار تقديره: لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده بالكافر الذي تقدم ذكره، والكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الكافر الحربي المستأمن، فثبت أن المراد مقصور على الحربي. فإن قيل: الضمير في: "ذي العهد": قيل: مطلق، ويصح الخطاب به، كأنه قال: لا يقتل مؤمن بكافر، ولا يقتل ذو عهد في عهده، فأفادنا أن عهده يحظر دمه. قيل له: قد بينا أن الكلام المفتقر إلى الإضمار: سبيله أن يكون ضميره ما تقدم ذكره في أول الخطاب، ومعلوم أن الذي جرى ذكره في ابتداء الخطاب ليس هو قتلًا على الإطلاق، فيضمر في النسق، وإنما المذكور بدءًا قتل مخصوص، وهو القتل على وجه القصاص، فكأنه قال: "ولا يقتص من ذي عهد في عهده بالكافر"، ولو أضمرنا فيه قتلًا مطلقًا، كنا قد أضمرنا فيه غير ما أظهره بدءًا، وهذا لا يجوز. وأيضًا: فحكم كل كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل على فائدة مجددة، ولو حملناه على ما قلت، لسقطت فائدته؛ لأنه يكون مقصورًا على النهي عن بعض العهد، وخفر الأمان، وقتل من لا يستحق القتل، وهذا معنى قد علمناه بغير هذا الخبر، فاقتضى الخبر فائدة غيره، ولا فائدة فيه إلا ما وصفنا. فإن قيل: لو سلمنا أن المراد نفي القصاص عن ذي العهد، لم يكن فيه دلالة على أن أول الخطاب مقصور على كافر حربي؛ لأن تقديره: لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده بكافر، فأقل أحواله أن يقتل ذو العهد بكافر أي كافر كان، وهذا هو مقتضي اللفظ، إلا أن تقوم الدلالة على أن ذا العهد يقتل ببعض الكفار، وهم الذميون، وليس في ذلك ما ينفي أن

يكون قوله: "لا يقتل مؤمن بكافر": عمومًا في نفي قتل المؤمن بسائر الكفار. قيل له: هذا غلط من قبل أن اللفظ الثاني إذا اقتضى أن يكون عائدًا على ما تقدم ذكره من الخطاب، صار كقوله: لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده بالكافر الذي تقدم ذكره، فيرجع اللفظ إلى المعهود والمبدوء ذكره. ولو حملناه على ما قلت، لكان ذلك خطابًا مبتدأ غير عائد على اللفظ المتقدم، ولو كان كذلك لاستغنى بنفسه عن عوده إليه، وقد بينا أن اللفظ غير مستقبل بنفسه، بل عائد إلى ما تقدم ذكره، وأنه مضر بما قبله. ألا ترى أنك إذا قلت: لقيت رجلًا، ثم عطفت عليه كلامًا آخر، قلت: قال لي الرجل، ولا يجوز أن تقول: قال لي رجل، لأنه يصير غير الأول. ونظير هذا من الكلام: قوله تعالى: {والحافظين فروجهم والحافظات}، فمعناه: والحافظات فروجهن، لأنه غير مستغن بنفسه، فصارت الفروج مضمرة في ذكرهن، كأنه قال: والحافظين فروجهم والحافظات فروجهن. ونحو قوله: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء}، ثم قال في آية أخرى: {فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون}، يعني من

تقدم ذكر عددهم في الآية الأخرى. فإن قال قائل: روي في بعض حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مؤمن بكافر"، ولم يذكر فيه: "ولا ذو عهد في عهده"، وإطلاق ذلك يقتضي نفي القصاص بينهما، إذ ليس في الحديث ما يخصه. قيل له: هما جميعًا حديث واحد، وروي فيهما جميعًا أنه أخبر عما في صحيفة عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما إسقاط ذي العهد من جهة بعض الرواة، فأما أصل الحديث فهو ما وصفنا؛ لأن كلام الرواة عزاه إلى الصحيفة. وأيضًا: لو لم يكن في الخبر دليل على أنه حديث واحد، لكان الواجب حملهما جميعًا على أنهما وردا معًا، وذلك لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في وقتين، مرة مطلقًا من غير ذكر ذي العهد، وتارة مع ذكر ذي العهد. * وأيضًا: في بعض الأخبار ما يدل على أن الحكم مقصور على الكافر الحربي، وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع حين طالبوا بدخول الجاهلية: "ألا إن كل دم كان في الجاهلية، فهو موضوع تحت قدمي هاتين، وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده".

فكأنه قال: لا يقتل بكافر قتل في الجاهلية، لأن الخطاب عليه خرج. فإن قيل: خروج الخطاب على سبب، لا يوجب أن يكون الحكم مقصورًا عليه، بل يعتبرون اللفظ إذا كان أعم من السبب. قيل له: كذلك هو، إلا أنا نقصره عليه بدلالة، ودلالته ما وصفنا. * ومن جهة النظر: أن الذمي محقون الدم حقنًا لا يرفعه مضي الوقت، وليس ببعض للقاتل ولا ملكه، فأشبه المسلم من هذا الوجه. ولا يلزم عليه الحربي، لأن حقن دم الحربي محصور بوقت؛ لأنه لا يترك في دار الإسلام، ويرد إلى دار الحرب، فيستباح دمه. ولا يلزم عليه الأب؛ لأنه بعضه، ولا عبده؛ لأنه ملكه. * وأيضًا: قد اتفقنا جميعًا على أن ذميًا لو قتل ذميًا، ثم أسلم: قتل به، وهو مسلم بذمي، فلو كان الإسلام مما يمنع القصاص في الابتداء، لمنعه إذا طرأ بعد وجوبه قبل استيفائه، ألا ترى أنه لما لم يجب القصاص بين الأب والابن إذا قتله، كان كذلك حكمه إذا ورث ابنه القود عن غيره، فمنع ما عرض من ذلك استيفاؤه، كما منع من ابتداء وجوبه. قال أبو جعفر: (وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف: أن المسلم

يقتل بالحربي المستأمن، وشبهه بالذمي، لأجل الأمان". وعندهما: لا يقاد من المسلم. له: لأن الحربي مباح الدم، إلا أن إباحته مؤجلة بالأمان، ومتى رجع إلى داره: عاد إلى حكم الإباحة، وهو كالدين المؤجل، وجود الأجل فيه لا يخرجه عن وجوبه، كذلك وجود الأجل في الإباحة، لا يسلبه حكم الإباحة من الوجه الذي ذكرنا. مسألة: [القصاص بين العبيد والأحرار] قال أبو جعفر: (والعبيد والأحرار في القصاص في الأنفس سواء". قال أبو بكر: الدليل على ذلك: قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى}، وذلك عموم في الكل. فإن قال قائل: قد بين المراد بقوله: {الحر بالحر والعبد بالعبد}. قيل له: لا يوجب ذلك تخصيص العموم؛ لأنه تفسير لبعض ما انتظمته الجملة، وقد بينا نظائر ذلك فيما سلف، كقوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنًا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولولديك

إلى المصير (14) وإن جاهداك على أن تشرك بي}، فلم يدل على خصوص قوله: {ووصينا الإنسان}. وكما فسر النبي صلى الله عليه وسلم الربا في ستة أشياء، وهي بعض ما دخل في آية الربا. وليس في استعمال عموم اللفظ إسقاط فائدة قوله تعالى: {الحر بالحر}؛ لأنه كلام خرج على سبب، وهو ما روي أنه كان بين حيين من العرب قتال، ولأحدهما طول على الآخر، فأبوا أن يقتلوا بالعبد منهم، إلا الحر من غيرهم، وبالأنثى منهم الذكر، فنهاهم عن ذلك بقوله: {الحر بالحر والعبد بالعبد}. وأيضًا: قد اتفق الجميع على قتل الأنثى بالذكر، والعبد بالحر، ولم يوجب ذلك إسقاط فائدة اللفظ، كذلك قتل الحر بالعبد. ودليل آخر: وهو قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس

والعين بالعين}، وهذا الحكم وإن كان مكتوبًا على بني إسرائيل، فهو لازم لنا حتى يثبت نسخه. ويدل عليه أيضًا: قوله: {ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا فلا يسرف في القتل}، وقد بينا أن المراد به القود، فكل مقتول ظلمًا فهذا حكمه بحق العموم، إلا ما قام الدليل على خصوصه. ومن جهة السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم"، وعمومه يقتضي دخول العبد فيه. وأيضًا: قد اتفق الجميع على دخول العبد فيه إذا قتل حرًا، فدل أن اللفظ قد انتظمه، فوجب أن يكون عامًا في الجميع. فإن قيل: التكافؤ يقتضي المماثلة، وليس العبد بمثل الحر. قيل له: قد جعله النبي صلى الله عليه وسلم مثله حين جعل كل مسلم كفؤ المسلم في باب القصاص. وروى إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "العمد قود إلا أن يعفو ولي المقتول"، ولم يفرق بين الحر والعبد.

ومن جهة النظر: أن اعتبار المساواة ساقط في الأنفس، والدليل عليه اتفاقنا جميعًا على قتل العشرة بالواحد. فإن قيل: النفس الواحدة مكافئة لعشرة أنفس. قيل له: والعبد مكافئ للحر. على أن صاحبهم قد نقض هذا، فقال: إذا قتل واحد عشرة: قتل، وأخذ منه تسع ديات، فلم يجعل النفس الواحدة مكافئة لعشرة. فإن قال قائل: العبد مال، فلا تتلف به نفس ليست بمال. قيل له: ولا نتلف نفسًا هو مال، فلا نوجب القصاص بين العبيد في الأنفس، كما قال إبراهيم، والشعبي، وإياس بن معاوية، وجعلوه كالبهيمة.

ومن حيث اتفقا على وجوب القصاص فيما بين العبيد في الأنفس، وعلى قتل العبد بالحر، وجب مثله فيما بينهم وبين الأحرار، وصح بذلك أن جهة المال غير معتبرة. وأيضًا: فقد اتفقوا أيضًا على لزوم الكفارة في قتل العبد خطأ، ولم يكن بمنزلة من قتل دابة. ودليل آخر: وهو أن العبد محقون الدم حقنًا لا يرفعه مضي الوقت، وليس ببعض للقاتل، ولا ملكه، فأشبه الحر. فإن قيل: لما لم تقطع يد الحر بيد العبد، لم يقتل به، كما لم تقطع يد المسلم بيد الحربي، لم يقتل به. قيل له: هذا اعتلال فاسد؛ لأنه لو قطع يد رجل شلاء: لم تقطع يده بها، ولو قتله، قتل به. وأيضًا: فإن اعتبار المساواة واجبة في الأعضاء، غير واجبة في الأنفس، بدلالة أن اليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء، ويقتل الصحيح البالغ بالصبي، والمجنون، والزمن، وناقص الأعضاء، ويقتل عشرة بواحد، ولا تؤخذ عشر أيد بيد. وأيضًا: روى ليث عن الحكم أن عليًا وابن مسعود قالا: "من قتل عبدًا متعمدًا: فهو قود".

ولا نعلم عن أحد من الصحابة خلافهما، فثبتت حجته. مسألة: [لا قصاص بين الأحرار والعبيد فيما دون النفس] قال أبو جعفر: (ولا قصاص بين الأحرار والعبيد فيما دون النفس). قال أبو بكر: وذلك لوجوب اعتبار المساواة فيما دون النفس، لاتفاق الجميع على أن اليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء. مسألة: [جناية العبد فيما دون النفس] قال أبو جعفر: (والواجب فيما جناه العبد على الحر أن يدفعه مولاه، أو يفديه منه بالأرش). وذلك أن الجناية ثبتت في رقبة العبد إذا كانت مما لا يجب فيما القصاص، كما ثبتت في رقبته إذا وجب فيها القصاص، وتستحق بها الرقبة، فكذلك في الخطأ، يثبت في الموضوع الذي يثبت فيه العمد، إلا أن العمد يستحق به إتلاف الرقبة بالقصاص، والخطأ تستحق به الرقبة لولي الجناية إلا أن يفديه الولي؛ لأنه إذا حصل لولي الجناية أرش جنايته، فقد استوفى حقه.

مسألة: [جناية الحر على العبد فيما دون النفس] قال أبو جعفر: (وجناية الحر على العبد فيما دون النفس توجب عليه ما نقصه لمولاه في ماله، لا على عاقلته). وإنما لم يلزم العاقلة ما جنى على العبد فيما دون النفس، من قبل أن حكم ما دون النفس من الجناية عليه حكم الأموال، والدليل عليه: أنه لا قصاص في عمده، فصار كالجناية على الدابة ونحوها. مسألة: (فإن فقأ عينيه، ففي قول أبي حنيفة: مولاه بالخيار: إن شاء أمسكه، ولا شيء له، وإن شاء سلمه إلى الجاني، وأخذ جميع قيمته). وذلك لأن موجب الجناية هو جميع القيمة، والدليل عليه أن العين من العبد نصفه، ولا خلاف بينهم أنه لو فقأ إحدى عينيه: كان عليه نصف قيمته، فوجب أن يكون أرش العينين جميع القيمة. ثم إذا لزمه جميع القيمة فأداها، لم يجز بقاء العبد على ملكه مع أخذ القيمة، لأنه لا يجوز اجتماع الشيء وبدله في ملكه فيما يصح تمليكه، فلذلك لم يكن له شيء إذا لم يسلم إليه العبد. * وأما في قولهما: فالمولى بالخيار: إن شاء ضمن الفاقئ نقصان الفقء، وأمسك العبد، وإن شاء سلمه العبد، وأخذ القيمة.

وشبهاه برجل خرق ثوب رجل خرقًا، فأتى على أكثره: فصاحب الثوب بالخيار عندهم جميعًا: إن شاء أخذ النقصان، وأمسك الثوب، وإن شاء أخذ القيمة وسلم إليه الثوب. وفرق أبو حنيفة بينهما من جهة أن أرش العينين مقدر، وهو القيمة، كما أن أرش إحداهما مقدر وهو نصف القيمة، فلم يكن له أن يعدل عن موجب الجناية إلى غيرها، وليس نقصان الخرق مقدرًا، فلذلك كان له الخيار في تضمين القيمة مع تسليم الثوب، وإن شاء ضمن النقصان. مسألة: [جناية الحر على العبد] قال أبو جعفر: (وقال أبو حنيفة فيما جناه الحر على العبد من قطع عضو، أو فقء عين: فعليه فيه جزء من قيمته إلا حصته من عشرة دراهم من قيمته). قال أبو بكر: هذا الإطلاق في النقصان غير صحيح في قول أبي حنيفة؛ لأن أبا حنيفة إنما يعتبر ذلك فيما زاد على دية الحر، أو أرش عضو يده، أو كان أرشه مثل أرش الحر، فينقص منه، فإذا لم يبلغ دية الحر: فإنه لا ينقص منه شيئًا. نحو أن يقطع يد عبد قيمته خمسة آلاف، فيجب عليه ألفان وخمس مائة، لا ينقص منها شيء، فإن كان قيمة العبد عشرة آلاف أو أكثر، فعلى الجاني خمسة آلاف إلا خمسة دراهم، وكذلك لو قتله: كان عليه عشرة آلاف إلا عشرة دراهم في قول أبي حنيفة ومحمد.

* وقال أبو يوسف: عليه قيمته بالغة ما بلغت. وروي نحو قول أبي يوسف عن عمر، وعلي، وابن عباس. وروي مثل قول أبي حنيفة عن عبد الله بن مسعود، وإبراهيم وعطاء، وسعيد بن المسيب، والشعبي. * والكلام في هذه المسألة من وجهين: أحدهما: في منع ضمان قيمته بأكثر من الدية، والآخر في النقصان عن الدية. فأما الدليل على امتناع مجاوزته الدية: فهو أن قيمة النفس في الجناية لم تجعل أكثر من الدية، والدليل عليه: أن من قتل من الأحرار لم يجاوز به الدية، مع تفاضل الأنفس، وتفاوت ما بينهما، فثبت أن قيمة النفس في الجناية لا يجوز أن تكون أكثر من الدية، وضمان العبد بالقتل من طريق الجناية، ولا يجوز أن يضمن بأكثر من الدية. والدليل على أن ضمانه من طريق الجناية: أن العاقلة تتحمله، وتجب فيه الكفارة في الخطأ، والقود في العمد. ولا يشبه الغصب، فيضمن الغاصب قيمته بالغة ما بلغت، من قبل أن ضمان الغصب ضمان الأموال، وله أصل متفق عليه، فهو مردود إليه. وأما ضمانه بالقتل، فهو من طريق الجناية، فكان مردودًا إلى أنفس

الأحرار، في أن قيمتها ليست بأكثر من الدية. فإن قال قائل: لما اتفق الجميع على حطها عن دية الحر إذا كانت القيمة ناقصة، وجب مثله في الزيادة، لأنها قد أشبهت الأموال في جواز النقصان. قيل له: وجوب النقصان لا يخرجه من ضمان الجنايات؛ لأنه دية المرأة أنقص من دية الرجل، وضمانه ضمان الجنايات، ولا يجوز أن تزاد ديتها مع ذلك على دية الرجل الحر. وكذلك دية الجنين أنقص من دية الحي، ولم ينف أن يكون ضمانه ضمان الجنايات، ولا يزاد على الدية من حيث نقص منها. فإن قيل: لما لم يعتبر فيه قدر معلوم، وكان حكم التقويم قائمًا مع إتلافه بالجناية، صح أن حكمه حكم الأموال، دون الجنايات على الأحرار. قيل له: وجوب التقويم، وكون بدله غير مقدر، لا يخرجه من حكم الجناية، ألا ترى أن ما تجب فيه الحكومة من الجنايات على الأحرار غير مقدر، بل هو مقوم، ولا يخرجه ذلك من أن يكون ضمانه ضمان الجناية، وأنه ليس بمال.

وكذلك تقوم العبد بالقتل، لم يمنع لزوم قيمته العاقلة، ووجوب الكفارة في الخطأ، والقود في العمد، وكذلك لا يسلبه حكم ضمان الجناية في المنع من المجاوزة به الدية. * وإذا ثبت أنه لا يجاوز بقيمته دية الحر: وجب النقصان؛ لأن الناس فيه على قولين: منهم من يجاوز بها الدية، فيوجبها بالغًا ما بلغ، ومنهم من لا يجاوز بها الدية، وكل من لم يجاوز بها الدية: نقص عنها، فلما صح عندنا بما ذكرنا أنه لا يجاوز بها الدية: وجب أن ينقص عنها. * وإنما كان النقصان عشرة دراهم؛ لأن كل من أوجب النقصان، لم يقدر بغير ذلك. مسألة: [دية أعضاء العبيد] قال أبو جعفر: (وفي أذن العبد إذا قطعت، وحاجبه إذا نتف فلم ينبت: النقصان). قال أبو بكر: وروى محمد في إملائه عن أبي حنيفة: أن في إحدى أذني العبد، أو إحدى حاجبيه: نصف القيمة، كما يجب في الحر نصف الدية. وهذا الذي حكيناه عن أبي حنيفة من رواية محمد، هو مرجوع عنه، وحاصل الجواب فيه ما ذكره أبو جعفر.

روى الرجوع أبو يوسف. وفي قول أبي يوسف ومحمد في ذلك مثل قول أبي حنيفة الآخر. والأصل في ذلك: أن الجنايات على الأحرار يعتبر فيما ذهاب الزينة على حيالها، والنفع على حياله. والدليل على صحة ذلك: اتفاق الجميع من فقهاء الأمطار أن في إحدى أذني الحر: نصف الدية، وعظم ما يراد منها الزينة، فقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام "أن في الأذن نصف الدية"، رواه محمد بن إسحاق عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. وكذلك الأنف: فيه الدية، والمبتغى منه الجمال، وفي اليدين: الدية، وكذلك العين إذا ذهب ضوؤها، والأسنان، وسائر الأعضاء التي فيها المنافع. وكذلك في ذهاب العقل، أو ماء الصلب من ضربة: ففيه الدية، وإنما أبطل المنفعة، فثبت بذلك أن الجنايات على الأحرار يعتبر فيها الجمال على حياله، والنفع على حياله.

وأما الجنايات على العبيد: فإنما يعتبر فيها المنفعة فحسب؛ لأن ذلك عظم ما يراد منها، وشعر الحاجب واللحية والأذن إنما أعظم ما يراد منها الجمال، فلا يجب فيها أرش مقدر، وإنما يجب النقصان، كما يجب في الدابة وسائر الحيوان التي هي أموال. وأيضًا: فإن الجناية فيما دون النفس على العبيد، لما كان حكمها حكم ضمان الأموال، من جهة سقوط القصاص في عمدها، أشبهت الجناية على سائر الأموال من غير بني آدم، إذ كان عظم ما يراد منها وجود النفع. مسألة: [لا قصاص بين العبيد فيما دون النفس] قال أبو جعفر: (ولا قصاص بين العبيد فيما دون النفس، ولا بين الأحرار والعبيد). قال أبو بكر: وذلك لوجود اعتبار المساواة فيما دون النفس، فلا تؤخذ يد الحر بيد العبد، لعدم المساواة. ولا تؤخذ يد العبد بيد الحر، لمعنى آخر، وهو أن حكم اليدين مختلف في باب تقويم إحداهما، وعدم تقويم الأخرى، فلم تؤخذ إحداهما بالأخرى وإن كانت يد القاطع أنقص، كما لم تؤخذ يد اليسرى باليمنى، لاختلافهما فيما يتعلق بهما من الحكم. ألا ترى أن اليمنى تقطع في السرقة وقطع الطريق، ولا تقطع اليسرى

عندنا، فلما اختلف حكمها، لم تؤخذ إحداهما بالأخرى. وكذلك يد الحر والعبد، ويد الرجل والمرأة. ولا تؤخذ يد العبد بيد العبد؛ لأن المساواة بينهما إنما تعلم من طريق التقويم والاجتهاد، ولا يجوز إيجاب القصاص على هذا الوجه. والدليل على صحة ذلك: أن من قطع يد رجل من نصف الساعد: لم يقتص منه؛ لأن المساواة فيه لا تعلم إلا من طريق الاجتهاد، فصار ذلك أصلًا في امتناع إيجاب القصاص من جهة الاجتهاد. مسألة: [القصاص بين النساء] قال: (والقصاص واجب بين النساء الحرائر في الأنفس وما دونها). وذلك لتساويهن في الأعضاء، لأن أروشها مقدرة، ولسن كالعبيد فيما بينهم فيما دون النفس؛ لأن أرش يد كل واحد منهم لا يعلم إلا من طريق التقويم. مسألة: [القصاص بين الرجال والنساء] قال: (ولا قصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس، والقصاص بينهن وبين الرجال في النفس). وإنما لم تجب فيما دون النفس، لما بينا من اختلاف حكم يد المرأة والرجل، والتساوى معتبر فيما دون النفس، ولا اعتبار به في النفس،

فلذلك وجب القصاص في الأنفس. وقد روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس"أن النبي صلى الله عليه وسلم: قتل رجلًا بامرأة"، وروي عن أنس من طرق. وقد روي موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة قال: أخبرنا يونس عن الحسن "أن رجلًا جرح امرأته، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: القصاص مرتين، فأنزل الله تعالى: {الرجال قوامون على النساء}، الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أردنا أمرًا، وأراد الله غيره". فصار أصلًا في نفي القصاص فيما بين الرجل والمرأة فيما دون النفس. مسألة: [قتل الجماعة بالواحد] قال أبو جعفر: (وتقتل الجماعة بالواحد، ولا تؤخذ يدان بيد). قال أبو بكر: روي عن عمر أنه قتل جماعة بواحد من أهل اليمن،

وقال: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به"، وذلك بحضرة الصحابة، من غير خلاف ظهر من أحد منهم عليه، فصار إجماعًا. وأيضًا: قال الله تعالى: {من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا}، فجعل قاتل الواحد كقاتل جماعة، فإذا اشترك جماعة في قتل رجل، فصاروا كلهم في حكم من قتلوا الناس جميعًا، فيقتلون كلهم. وأيضًا: قوله: {ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا}، ولم يفرق بين من قتله واحد أو اثنان، وقد ثبت أن السلطان المذكور هو القود، فيجب أن يثبت له على جماعتهم. وأيضًا: النفس لا تتبعض في الإتلاف، وكل واحد منهم في الحكم كأنه أخذ بجميعها، فوجب عليه القود، ألا ترى أن التطليقة لما لم تتبعض، كان إيقاعه لبعضها إيقاعًا لجميعها، كذلك مشاركته لغيره في أخذ النفس، وهي لا تتبعض كأخذ جميعها، فلزمه القود.

ويدل عليه أيضًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "العمد قود". فإن قال قائل: روى يزيد بن هارون عن جويبر عن الضحاك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتل اثنان بواحد". قيل له: يحتمل أن يكون في رجلين قتلا، وأحدهما من لا يجب عليه القصاص، وتكون دلالته ما قدمنا. فإن قال قائل: قوله تعالى: {النفس بالنفس} ينفي أخذ النفسين بالنفس. قيل له: إنما أوجب أخذ النفس بالنفس، والنفسان بالنفس لا ذكر له في الآية، فهو موقوف على دليله. وإن قيل: قوله: {كتب عليكم القصاص في القتلى}: ينفي قتل الأنفس بالواحد، لأن القصاص يقتضي المماثلة والمساواة، والنفس الواحدة غير مساوية للجماعة. قيل له: لا دلالة فيها على ما ذكرت؛ لأن القصاص ليس هو أن يستوفي مثل ما أتلف عليه في مقادير أجزائه، لأن الكبير يقتل بالصغير، وإنما معنى القصاص: أن يتلف عليه نفسه، كما أتلف نفس المقتول، وقد قلنا إن كل واحد من هؤلاء متلف للنفس في الحكم.

وكذلك إن احتج بقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}. قلنا له: إن هذا إنما أتلفنا عليه مثل ما تناول؛ لأنه متناول لجميع النفس في الحكم، إذ كانت النفس لا تتبعض في الإتلاف، فيستحق عليه مثل ما أتلف. * وأما اليدان فلا تؤخذان بيد واحد؛ لأن اعتبار المساواة واجب فيما دون النفس، بدلالة أن اليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء بالاتفاق، فكذلك لا تؤخذ يدان بيد. مسألة: [القصاص بين الوالد والولد] قال: (ولا قصاص بين والد وولده فيما جناه الوالد في النفس، ولا فيما دونها). وذلك لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن حده قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقتل والد بولده".

ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"، فأضافه إليه كما أضاف إليه مال، وإطلاق هذه الإضافة ينفي القود، كما لم يقتل المولى بالعبد؛ لإضافته إليه بالملك. وكون الأب غير مالك لابنه، لا ينفي استدلالنا من الوجه الذي قلنا؛ لأن القود تسقطه الشبهة، وصحة إطلاق الإضافة كإضافة الملك شبهة في سقوطه. ويدل عليه: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أولادكم من كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم"، فأضاف الولد إليه، وسماه كسبًا، كما أن عبده كسبه، فصار ذلك شبهة في سقوط القود. وأيضًا: لا خلاف بين الفقهاء في أنه لو حذفه بسيفه، فقتله: لم يقتل به، فكذلك إذا ذبحه. كما لم يختلف حكم القود في الأجنبي في حذفه إياه بالسيف، أو ذبحه، فلما انتفى القود في أحدهما: دل على أنه إنما لم يقتل في حذفه إياه بالسيف، لأنه ممن لا يقتل به بحال.

فإن قال قائل: لأنه يملك تأديب ابنه، وحذفه إياه بالسيف على وجه التأديب. قيل له: لا يجوز له تأديبه بالسيف بلا خلاف، فلا فرق في هذا بينه وبين الأجنبي. فإن قيل: فأوجب القود عليه إذا قتل ابنه وهو عبد لحق المولى. قيل له: لا يجوز ذلك، من قبل أن المولى لا يملك هذا المعنى من عبده، ألا ترى أنه لا يجوز له قتله، ولا يجوز إقراره أيضًا عليه بالقتل، فلا فرق بين أن يكون حرًا أو عبدًا في نفي القصاص عن الأب. وأيضًا: فإن أحدًا لم يفرق بينهما. ويدل على صحة قولنا: أن الابن لو ورث قودًا على الأب من جهة غيره: لم يكن له أن يقتله، فدل على أنه لا يملك القود عليه بحال. مسألة: [قطع يمين رجلين عمدًا] قال: (وإذا قطع يمين رجلين عمدًا: كان لهما أن يقطعا يده اليمنى، ويضمناه دية يد بينهما. ولو قتل رجل رجلين: قتل بهما، ولا شيء عليه لهما غير ذلك). قال أبو بكر: وإنما كان هذا هكذا، من قبل أنهما إذا أخذا اليد بينهما، فكل واحد منهما مستوف لنصفها، واعتبار المساواة واجب فيما دون النفس، فلم يجز أن نجعله مستوفيًا لجميع حقه، وهو إنما استوفى نصفه، فبقي له إلى تمام حقه النصف، فيستوفيه من المال؛ لأن القاطع

ممسك لذلك لنفسه، لأنه قضى به حقًا عليه، فانتقل حق المقطوع إلى المال. * وأما النفس: فلما سقط فيها اعتبار المساواة: جاز أن يكون مستوفيًا لحقه بأخذ بعض النفس مع صاحبه، كما لو اقتص منه وهو مريض، كان مستوفيًا لحقه، ولم يكن له خيار في العدول عنه إلى المال قبل القتل. ولو قطع يده، ويد القاطع شلاء: كان له أن يعدل عن القصاص إلى المال، لأجل نقصان يده عن يده. وأيضًا: فلما كانت اليد قد يجب فيها مال من غير شبهة، أشبهت الجناية على الأموال من هذا الوجه. والدليل على أنه قد يجب فيها المال من غير شبهة: أن يد القاطع إذا كانت شلاء: كان للمقطوع يده أخذ الدية، ولا يجب مثله في النفس إذا كان القاتل ناقصًا عن المقتول. ويدل على الفرق بينهما: ما قد مناه من أنه لا يجوز أخذ اليدين باليد الواحدة، ويجوز أخذ النفسين بالنفس الواحدة. ومن أجل ذلك قال أصحابنا فيمن قتل رجلين عمدًا، ثم حضر ولي أحدهما، فاستوفى القصاص لنفسه: أنه لا شيء للآخر. ولو قطع يديهما، فحضر أحدهما، واستوفى اليد بالقصاص: كان للآخر دية اليد؛ لأنه قد ثبت بما قدمناه أن استحقاق بعض اليد يوجب

المال، فكذلك استحقاق جميعها. ولما كان استحقاق بعض النفس لا يوجب المال، كذلك كان استحقاق جميعها، فثبت بما وصفنا إيجاب الفرق بين من قطع يد رجلين فقطع لهما، وبين قتل رجلين إذا قتل لهما. مسألة: [اجتمع في الجناية من لو تفرد بها وجب القصاص مع من لو تفرد بها يجب القصاص] قال: (وإذا اجتمع في الجناية من لو تفرد بها وجب القصاص فيها، ومن لو تفرد بها لم يلزمه القصاص: لم يكن عليهما فيما قصاص. وكان عليهما الدية: على الذي لو تفرد بها كان عليه القصاص: في ماله، وعلى الآخر: على عاقلته). قال أبو بكر: الأصل فيه: أن النفس لما لم تتبعض في الإتلاف، وكانت محظورة في الأصل، ثم اجتمع فيها سبب الإباحة، وهو قتل من يجب عليه القود، وسبب الحظر، وهو قتل من لا قود عليه: كان سقوط الفرد لوجود جهة الحظر أولى من وجوبه، لوجود جهة الإباحة، أعني إباحة دم القاتل. والدليل على صحة ذلك: اتفاق الجميع على أن أحدهما لو كان مخطئًا، والأخر عامدًا: لم يقتل العامد، وكذلك إذا كان أحدهما مجنونًا، والأخر صحيحًا، أو أحدهما بسيف، والآخر بعصا: وجب

أن يكون وجود فعل من لا يستحق عليه القود بفعله مسقطًا للقود عن الآخر. ويدل عليه: الجارية بين رجلين، إذا وطئها أحدهما: لم يجب عليه حد؛ لأن ظهره محظور، فلا يستباح مع وجود سبب الإباحة والحظر معًا، وكان اعتبار جهة الحظر أولى. ووجه آخر في أن سقوط القود فيما وصفنا أولى من وجوبه: وهو أن القود قد يتحول مالًا بعد ثبوته، والمال لا يتحول قصاصا بوجه، فكان ما لا ينفسخ إلى غيره، أولى بالإثبات مما ينفسخ. وليس هذا كرجلين قتلا رجلًا عمدًا، وعفا الولي عن أحدهما: فيقتل الآخر، من قبل أنهما قد استحقا القود بدءًا، وسقوطه عن الآخر بالعفو، ليس بشبهة في سقوطه عن الآخر، ولو كان هذا موجبًا للقصاص في مسألتنا، لأوجبه إذا كان أحدهما مخطئًا، والآخر عامدًا، فلما لم يدل ذلك على وجوب القصاص على العامد فيما إذا كان الآخر مخطئًا، كذلك فيما وصفناه. وأيضًا: فإنه إذا عفا عن أحدهما، فقد سقط حكم قتله، وصار بمنزلة من لم يشارك فيه، فلذلك وجب القود على الآخر. وأما المجنون، فحكم فعله ثابت على وجه الخطأ، وذلك موجب لحظر الدم، فلذلك اختلفا.

وأيضًا: فإن كلامنا فيما يتعلق حكمه بالفعل من الإيجاب، فلا يجوز أن يلزم عليه البقاء، لأن البقاء غير الوجوب بدءًا، وقد يختلف حكم الابتداء والبقاء في كثير من الأصول، نحو العدة تمنع ابتداء عقد النكاح، وإذا طرأت عليه لم تمنع بقاءه، وإباق العبد يمنع ابتداء العقد، ولو أبق بعد البيع، لم يفسد العقد. فإن احتجوا بظواهر الآي والسنن الموجبة للقود على العامد. قيل لهم: ما وصفنا من الدلالة يخصه. وأيضًا: فإن الظواهر إنما أوجبت القود في العمد، وهذا في حكم الخطأ بما وصفنا. وأيضًا: كما لا تلزمك ظواهر الآي والسنن في إسقاطك القود عن العامد مع المخطئ، كذلك لا تلزمنا في العاقل مع المجنون. * قال أبو بكر: وأما قوله: إنما يلزم العامد الذي لو انفرد لزمه القصاص: في ماله، وما لزم الآخر: فعلى عاقلته: فمن قبل أن فعل العامد لا شبهة فيه، وهو يوجب القصاص لو انفرد، وإنما سقط بفعل الآخر، فصار كأحد وليي الدم إذا عفا: فيلزم القاتل نصيب الآخر في ماله. وأما فعل الآخر: فإنه لم يكن مما يوجب القود لو انفرد، فصار خطأ، فلزم عاقلته. ولهذا المعنى قال أصحابنا في الأب إذا قتل ابنه عمدًا: أن عليه الدية

في ماله؛ لأن فعله عمد لا شبهة فيه، فاستحق به القصاص، وسقط في الثاني حين تعذر استيفاؤه. كذلك إن قطع رجل يد رجل من نصف الساعد عمدًا: فعليه الأرش في ماله؛ لأن فعله عمد لا شبهة فيه، وسقوط القود لتعذر استيفائه. ******

باب كيفيات القتل والجراحات

باب كيفيات القتل والجراحات قال أبو جعفر: (والقتل على ثلاثة أوجه: عمد، وخطأ، وشيبه عمد. فأما العمد: فهو ما تعمده بسلاح، أو بغيره مما يجرح، فقتله به: ففيه القود، وهو القصاص بالسيف، لا بما سواه، ولا دية فيه، إلا أن يصطلح على ذلك الجاني وولي المجنى عليه، فيبطل القود، ويكون ما اصطلحا عليه على الجاني في ماله حالًا، إلا أن يكون وقع الصلح بينهما على أنه إلى أجل، فيكون إلى ذلك الأجل). قال أبو بكر: قد جمع عدة مسائل في هذا الفصل قبل استيفاء أحكام وجود القتل الذي بدأ بذكرها، فالوجه أن نتكلم في كل مسألة منها، ثم نرجع إلى باقي أقسام القتل التي ابتدأ بها. فمنها: حقيقة قتل العمد الموجب للقود باتفاق من أصحابنا. ومنها: أن قتل العمد لا يوجب الدية إلا بتراضيهما عليها، وهذه المسألة قد اختلف فيها فقهاء الأمطار، فقال بعضهم: للولي أن يختار

الدية بغير رضا القاتل. ومنها: جواز الصلح من قتل العمد على مال. ومنها: أن ما يقع عليه الصلح من مال، فهو حال في ماله ما لم يشترط فيه الأجل. * فأما حقيقة العمد الذي وصفه، فلا خلاف في وجوب القود به، ويقتضيه عموم قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى}، وقوله: {ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا}، وقوله: {النفس بالنفس}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "العمد قود". وأما الدليل على أن القتل العمد لا تستحق به إلا الدية إلا بتراضيهما: فقوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى}. فأوجب القصاص بالآية، ولم يذكر المال، فلا يجوز إثبات المال

فيه؛ لأنه زيادة في النص، ولا يجوز عندنا الزيادة في النص إلا بمثل ما يجوز به النسخ. وقوله: {ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا}، وقد ثبت باتفاق الجميع أن القود مراد، فصار القود كالمنطوق به في اللفظ، إذ كان مرادًا بالاتفاق، فصار تقديره: ومن قتل مظلومًا، فقد جعلنا لوليه قودًا، فيكون هو الواجب دون غيره. ويدل عليه قوله: {النفس بالنفس}. ومن جهة السنة: حديث إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمد قود إلا أن يعفو ولي المقتول"، فلم يجعل للولي إلا أحد شيئين: القود، أو العفو، وموجب الدية مخالف للخبر. وروى سليمان بن كثير عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل في عميًّا، أو رميًا يكون بينهم بحجر أو بسوط أو بعصا، فعقله عقل خطأ، ومن قتل عمدًا فقود به، فمن حال بينه وبينه، فعليه لعنة الله والملائكة

والناس أجمعين". فأوجب في العمد القود، لا غير، ولعن من منع منه، فانتقى به الخيار في أخذ الدية من ثلاثة أوجه: أحدها: أن في إثبات الخيار زيادة في النص، ولا يجوز ذلك عندنا إلا مثل ما يجوز به النسخ. والثاني: أن في الأصول: أن كل من ثبت له حق على غيره، فليس له نقله إلى البدل إلا بتراضيهما، ألا ترى أن من كان له على آخر دراهم، فليس له نقلها إلى الدنانير إلا برضاه، وكذلك سائر الحقوق لا تنتقل إلى الأبدال إلا بالرضا. والثالث: أن قوله: "من قتل عمدا فقود به": يقتضي وجوب القود أبدًا، إلا حال يقوم الدليل على جواز إسقاطه. فإن قال قائل: قوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} بعد قوله: {كتب عليكم القصاص في القتلى}: يدل على أن للولي أخذ الدية بغير رضا القاتل؛ لأنه قد أوجب المال بعد العفو عن القصاص، وألزم الآخر الأداء إليه بإحسان، وقد أثبت المال مع القصاص على وجه التخيير.

قيل له: ليس في الآية دليل على ما ادعيت؛ لأن اسم العفو في اللغة يقع على التسهيل والتوسعة والفصل، كقوله: {فتاب عليكم وعفا عنكم}، معناه: سهل عليكم، وكقوله: {خذ العفو}: يعني الفضل. فاحتمل أن يكون عفوًا من جهة القاتل، بأن يسهل ويسمح بإعطاء الدية برضا الولي، فندب الولي إلى اتباعه بالمعروف، وأمر القاتل بأدائه إليه بإحسان، وتكون فائدته: تسهيله علينا، وتخفيفه عنا في إباحة أخذ المال عن القصاص. وقد روي عن ابن عباس أنه لم يكن في بني إسرائيل غير القصاص في العمد، ولم يكن بينهم الدية، فقال الله تعالى لهذه الأمة: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} الآية. قال ابن عباس: فالعفو أن يقبل الولي الدية في العمد، فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان. قال: على هذا أن يتبع بالمعروف، وعلى هذا أن يؤدي بإحسان {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} فيما كان كتب على من قبلكم. رواه مجاهد وغيره عن ابن عباس.

وقال فيه جابر بن زيد: "العفو": أن يقبل الدية في العمد برضا أهله. فأطلق ابن عباس اسم العفو على إعطاء القاتل الدية، وأبان فائدة الآية في تخفيفه عنا ما كان مغلظًا على بني إسرائيل من وجوب القصاص لا غير. فإن قبل: العفو في اللغة هو: ترك حق له إلى بدل. قيل له: إن العفو يقع على ما ذكرت، وعلى ما قلنا أيضًا، ولولا أن اسم العفو يحتمل ما وصفنا، لما تأوله ابن عباس عليه، إذ غير جائز لأحد أن يتأول الآية على معنى لا يصلح أن يكون اللفظ عبارة عنه بحال. وعلى أن ابن عباس حين قال: إن العفو يقع على بذل القائل الدية، فليس يخلو من أن يكون قاله من طريق اللغة أو الشرع، فإن قاله من جهة اللغة، فهو حجة فيها، إذ كان من أهلها، وإن قاله من جهة الشرع، لم يقله إلا توقيفًا؛ لأن أسماء الشرع لا تؤخذ إلا توقيفًا. وعلى أنه إن كان اسم العفو يقع على ما ذكرت من إسقاط حق إلى بدل، فقد هدمت أصلك ونقضته على لسانك؛ لأنك إذا جعلت له الدية، فإنما أسقطت القود إلى بدل آخر غيره، وذلك خلاف ما يقضيه اللفظ، فيدل على أن المراد ما وصفنا، وأنه لو كان الأمر على ما زعم لقال: {فمن عفي عنه}، ولم يكن يقول: {فمن عفي له}، ومعناه صحيح؛ لأنه

قال: فمن سهل له بإعطاه المال، فليأخذه. ويعضد هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه"، وقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}. فحظر أخذ مال الغير إلا بالتراضي، فوجب أن يحمل معنى ما اختلفنا فيه على موافقة هذه الألفاظ، وهو مع ذلك عموم يصح الاحتجاج به ابتداء في المسألة. ووجه آخر في تأويل الآية: وهو أنه يحتمل أن يكون المراد عفو بعض الأولياء، فيتبع من لم يعف بحصته من الدية، ودلالة هذا التأويل ظاهرة في فحوى الآية من وجهين: أحدهما: قوله {فمن عفي له من أخيه}، و "من" للتبعيض. والآخر: قوله: {شيء}: لم يقل: "الكل". ويصححه أيضًا: أن الذي أمر بالاتباع هو غير العافي، فدل أن المال ثبت له بعفو غيره. ودليل آخر: وهو أن النفس مما له مثل يستحقه الولي، وهو القود، فوجب أن يكون القود هو الواجب، لقوله: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه

بمثل ما اعتدى عليكم}. ويدل على صحة ذلك أيضًا: اتفاق الجميع على أن من استهلك ما له مثل، كان المثل هو الواجب دون القيمة، فوجب أن يكون المستحق بالقتل هو القود لا غير، وأن لا ينقل إلى القيمة إلا بالتراضي. ويدل عليه أيضًا: أن ما دون النفس لما كان له مثل، لم يجز نقله إلى القيمة إلا بالتراضي. وأما ما روى أبو شريح الكعبي وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن من قتل قتيلًا فأهله بين خيرتين: بين أن يأخذوا العقل، وبين أن يقتلوا"، فإن معناه عندنا: إباحة الدية برضا القاتل. والدليل عليه: ما ذكر في حديث محمد بن إسحاق عن الحارث بن الفضيل عن سفيان بن أبي العوجاء عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصيب بقتل، أو بخبل، فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية". فسوى بين القتل وبين الخبل، والخبل: والجراح.

وقد اتفق الجميع أنه لا يأخذ الأرش فيما دون النفس إلا برضا الجارح كذلك النفس. فإن قيل: العموم يقتضي إيجاب الخيار فيهما جميعًا، وإنما خصصنا ما دون النفس بدلالة، وبفي حكم العموم في النفس. قيل له: وجميع ما قدمناه دليل على أن رضا القاتل شرط في استحقاق الدية. ويدل على صحة تأويلنا: ما روي في بعض ألفاظ الحديث: "إما أن يقتل، وإما أن يفادي"، والمفاداة تكون من اثنين، وهو كقول الله تعالى: {فإما منًّا بعد وإما فداء}، فكان رضا الأسير شرطًا في الفداء، وإن لم يكن مذكورًا في اللفظ، إذ كان لفظ المفاداة يقتضيه. فإن احتجوا من جهة النظر بإن في دفع الدية إحياء نفسه، ومن قدر على إحياء نفسه كان عليه إحياؤها، فتلزمه الدية شاء أو أبى. قيل له: الموضع الذي يلزم فيه إحياء النفس لا يختلف فيه حكم الجاني وحكم غيره، في أن على كل واحد منهم إحياء نفس من قد أشرف على التلف، كالمضطر إلى الطعام والشراب، فيلزم على ذلك أن يجبر الولي على أخذ الدية لإحياء نفس القاتل.

وأيضًا: كان ينبغي أن لا يختلف حكم الدية وما فوقها، لأن من كان عليه إحياء نفسه لم يختلف فيه حكم الدية وما فوقها. وأيضًا: كما يلزمه إحياء نفسه، فعليه إحياء أعضائه، وقد اتفقوا أنه لا يؤخذ منه الأرش إلا برضاه. فإن قيل: لما جاز الصلح من الدم على مال، دل على أن القتل يوجب المال باختيار الولي، كما يوجب القود. قيل له: يجوز إيقاع الطلاق بمال برضا المرأة، ولا يدل على أنه له أن يلزمها المال بغير رضاها. فصل: وأما جواز الصلح من قتل العمد على مال، فالأصل فيه: قول الله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل له قتيل فأهله بالخيار: أن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية". ونسخ بذلك ما كان على بني إسرائيل من وجوب القصاص لا غير،

تخفيفًا من الله عنا. فصل: وأما قوله: إن ما وجب من المال بالصلح من دم العمد، فهو في ماله حال: من قبل أن هذا مال يستحقه بعقد، وكل مال وجب عن عقد، فهو حال حتى يشترط الأجل، كأئمان البياعات، والمهور، وسائر الأبدال، لا تثبت الآجال فيها إلا بالشرط، كذلك ما وصفنا. وليس هذا كقتل الخطأ، ومن قتل ابنه عمدًا، فتكون الدية في ثلاث سنين، من قبل أن المال في هذا الوجه وجب بنفس القتل لا بعقد، وقيمة النفس الواجبة بالقتل لا تجب إلا مؤجلة. مسألة: [لا كفارة في القتل العمد على الجاني] قال أبو جعفر: (ولا كفارة في ذلك على الجاني). قال أبو بكر: والأصل في ذلك عندنا: أن المنصوص لا يقاس على غيره، ولا تصلح الزيادة فيه إلا بمثل ما يجوز به نسخه، لأن الزيادة في النص الذي يمكن استعماله على ظاهره، يوجب النسخ، فلما نص الله

تعالى على قتل العمد بإيجاب القود، دون الكفارة، كما قضى على حكم الخطأ بإيجاب الكفارة والدية: وجب علينا إجراه حكم كل واحد من القتلين على ما ورد به التوقيف، دون قياسه على صاحبه في زيادة فيه، أو نقصان منه. كما أنه لما نص على حكم الوضوء في أربعة أعضاء، وعلى حكم التيمم في عضوين، لم يرد أحدهما على الآخر في إكمال الأعضاء. وكما أنه لما نص على قطع يد السارق، ونص على قطع يد قاطع الطريق ورجله، لم يحمل أحدهما على الآخر، إذ كان كل واحد منهما منصوصا على حكمه. فإن قال قائل: ليس قياس العامد على المخطئ قياس المنصوص على المسكوت؛ لأن الكفارة في العمد غير منصوص عليها. قيل له: حكم قتل العمد منصوص عليه من غير إيجاب الكفارة، فلا تلحق به الكفارة مع القود؛ لأنه لا يخرجه ذلك من أن يكون قد قاس المنصوص على المنصوص، كما أن العضوين في التيمم، وقطع الرجل في السرقة وإن لم يكن مذكورًا في الآية، لم يجز إيجابها قياسًا على المذكور في الوضوء، إذ كل واحد منهما منصوص على حكمه. فإن قيل: لما ذكر الشهادة في بعض المواضع مقيدة بوصف العدالة، ثم أطلقها في موضع غير مقيدة بشرط العدالة، كانت العدالة مشروطة في الجميع، وكان المسكوت عنه من صفة العدالة، محمولًا على

المنصوص عليه فيها. قيل له: ليس كذلك، لأنا إنما شرطنا العدالة في الجميع بعموم لفظ ينتظم سائر الشهادات، وهو قوله: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا}. فإ قيل: حملتم خطأ قتل الصيد على عمده، وإن كان المنصوص عليه هو العمد. قيل له: لأن الخطأ غير منصوص على حكمه في الكتاب. فإن قيل: قستم الآكل والشارب في شهر رمضان على المجامع في إيجاب الكفارة. قيل له: ليس كما ظننت، بل بعموم لفظ يقتضيها، وهو ما روي أن رجلًا قال: يا رسول الله! أفطرت في شهر رمضان، فأجابه عن الجميع بإيجاب الكفارة، فصار ذلك كعموم لفظ من النبي صلى الله عليه وسلم في إيجابها على كل مفطر، إلا ما قام دليله. وأيضًا: قد اتفق الجميع على أن كفارة شهر رمضان غير مقصورة على ما ورد به الأثر، ألا ترى أن هناك معنى مطلوبا به تعلق وجوب الكفارة، فساغ الاجتهاد في طلب المعنى. فإن قيل: حملتم التيمم على الوضوء في استيعاب اليدين إلى المرفقين.

قيل له: ليس كذلك، بل لأخبار رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في استيعابهما إلى المرفقين، منها: ما روي في حديث عمار، وفي حديث الأسلع، وحديث ابن عباس. وأيضًا: فإن من أصلنا: أنه لا يجوز إثبات الكفارات قياسا، وإنما طريقها التوقيف. فإن احتجوا بما روى ضمرة بن ربيعة عن إبراهيم بن أبي عبلة عن الغريف بن الديلمي عن واثلة بن الأسقع قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب –يعني النار- بالقتل، قال: "أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوًا منه من النار". قيل له: هذا الحديث لا يصححه أهل المعرفة بالحديث، وذلك لأن الغريف بن الديلمي مجهول لا يدرى من هو؟ ولا يعرف إلا من هذا الحديث. وعلى أنه لو صح، لم تثبت الزيادة المذكورة في رواية ضمرة، وهو قوله: "أوجب –يعني النار- بالقتل": من قبل أن ابن المبارك، وهاني بن

عبد الرحمن بن أخي إبراهيم بن أبي عبلة، قد رويا هذا الحديث عن ابن أبي عبلة، فلم يذكروا أنه أوجب بالقتل، وأكثر ما قالوا: "في صاحب لنا أوجب"، وهؤلاء أثبت من ضمرة فيما تفرد به من هذا اللفظ. وعلى أنه لو ثبت، وسلم لهم لفظ الحديث، لم يصح الاحتجاج به، لما في لفظه من الدلالة على أنه تأويل من الراوي؛ لأنه قال: أوجب –يعني النار- بالقتل. فإن قيل: إنما قال: يعني في النار خاصة دون القتل. قيل له: بل هو عليهما جميعًا. وعلى أنه لو ثبت اللفظ على ما ادعوه، لم يكن فيه دلالة على موضع الخلاف، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: "أعتقوا عنه"، ولم يقل: عليه أن يعتق عن نفسه، ولا خلاف أن السائلين لم يكن عليهم أن يعتقوا عنه إلا بعد سماعهم ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، لا قبل ذلك، فأين موضع الدلالة من الخبر على وجوبها على القاتل؟ وليس له ذكر في الخبر، وما في الخبر فغير واجب بالاتفاق، وكيف يدل على وجوبها في غيرها؟. فإن راموا إثباتها من طريق القياس، فقد بينا أنه لا تثبت الكفارات بالقياس.

وعلى أنا مع ذلك نبين لهم فساد قياسهم في إثبات هذه الكفارات، بأن نقول لهم: بينوا وجه القياس فيها. فإن قال: أقيسه على الخطأ بمعنى: أنه أتلف نفسا محظورة، وذلك موجود في العمد. قيل له: هذا غلط؛ لأن الحظر لا يتناول فعل الخطأ، قال الله تعالى: {إن نسينا أو أخطانا}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان". فإن قيل: لما قال: {من قتل بغير نفسن}، كان كالمخطئ. قيل له: فيجب إيجابها على من قتل مرتدا أوحربيا؛ لأنه قتل نفسا بغير نفس. فإن قيل: المعنى في المخطئ: أنه قتل نفسا لم يؤمر بقتلها. قيل له: اعتبار الحظر والإباحة، وعدم الأمر ووجود النهي، ساقط في المخطئ، لأنه لا يلحقه حكم الحظر فيما تناول، كالناس والنائم، فإذا لم يكن الوصف الذي جعلته علة للعامد موجودا في المخطئ، لم يصح للقياس وجه. وأيضًا: الواقف في صف المشركين من المسلمين، لنا قتله إذا لم

نعلمه مسلمًا، ومع ذلك تجب الكفار، فعلمنا أن وجوب الكفارة لا يتعلق بالأمر والنهي. فإن قيل: لما وجبت على المخطئ، مع عدم المأثم، فالعدمد أولى بها، مع اكتسابه المأثم بالقتل. قيل له: هذا الذي ذكرت بعينه، يمنع قياسها على المخطئ؛ لأنا قد بينا أن موضوعها لا لمأثم، إذ لا مأثم على المخطئ، فلو أوجبناها على العامد قياسًا على المخطئ، لوجب أن يكون وجوبها متعلقا بالمأثم، وليس ذلك موضوعها في الأصل. وعلى أن سجود السهو وجب في الأصل على الساهي، ولم يجب على العامد وإن كان أغلظ من السهو فيما يتعلق به من الإساءة. وعلى أن سجود السهو وجب في الأصل على الساهي، ولم يجب على العامد وإن كان أغلظ من السهو فيما يتعلق به من الإساءة. وعلى أن قياسهم لو ساغ في إثبات الكفارة، أو سلمناه لهم: كان معارضًا بقياس مثله في نفيها، وهو اتفاق الجميع على أن من قتل رجلًا قودًا: لم يكن عليه كفارة، والمعنى فيه: أنه قتله غير مخطئ في قتله، فكل من باشر قتلًا هو غير مخطئ فيه، فلا كفارة عليه. ويستدل على المسألة من جهة العموم: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه"، فلا يجوز إثبات الكفارة في ماله إلا بطيبة من نفسه بحق العموم.

فصل: [قتل الخطأ] قال أبو جعفر: (وأما الخطأ فهو ما أصابه فقتله مما لم يرده، وإنما أراد غيره، ففي ذلك الدية على العاقلة في ثلاث سنين). قال أبو بكر: الخطأ ضربان: أحدهما ما قال، والآخر: أن يقصده بعينه بالضرب والقتل، إلا أنه يظنه ممن يجوز له قتله، كالذي يرمي رجلًا في صف الكفار يظنه كافرًا، فإذا هو مسلم، فهذا أيضًا خطأ. وقد روي "أن المسلمين قتلوا يوم أحد أبا حذيفة بن اليمان ظنوه مشركًا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم فيه الدية". ونظيره: ما ذكره أبو جعفر: أن يرمي صيدًا أو كافرًا، فيصيب مسلمًا،

فهذا أيضًا خطأ، والدية فيه على العاقلة، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الدية على العاقلة. وهي عليهم في ثلاث سنين، لما بيناه فيما سلف، وهو ما روي في ذلك عن همر بحضرة الصحابة، من غير نكير من أحد منهم عليه، ولا ظهور خلاف منهم إياه. فصل: [دية الخطأ] (ودية الخطأ أخماسًا: عشرون ابن مخاض، وعشرون ابنة مخاض، وعشرون ابنة لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة). قال أبو بكر: هي أسنان الإبل في الصدقات، وزادت سن، وهو ابن مخاض، وهذا قول أصحابنا جميعًا، وهو قول عمر بن الخطاب،

وعبد الله بن مسعود. وروى عاصم بن ضمرة وإبراهيم عن علي في دية الخطأ أرباعًا خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمسون وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، أربعة أسنان مثل أسنان الزكاة. وروي عن عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت في الخطأ: ثلاثون جذعة، وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنو لبون، وعشرون بنت مخاض. وروي عنهما مكان الجذع الحقاق. فأما الحجة لقول أصحابنا: فهي ما رواه الحجاج بن أرطاة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك الطائي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في دية الخطأ: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنو مخاض ذكورًا".

وقال بعض من وافق أصحابنا في الأخماس، عشرون ابن لبون مكان بني مخاض، وهذا الحديث قد نص على بني مخاض، وأبان عن خطأ قوله. وأيضًا: في حديث الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث به مع عمرو بن حزم إلى اليمن "أن في النفس مائة من الإبل". وعمومه يقتضي أدنى ما يقع عليه الاسم، فلما اتفق الجميع على أن ما دون الأخماس على الوجه الذي ذكرناه لا يؤخذ في الدية، ثبت هذا القدر من الأسنان، وما فوقها لم نثبته إلا بدليل، وفي إيجاب ابن لبون مكان بني مخاض، زيادة سن، فلا نثبتها إلا بدليل. وأيضًا: فابن لبون مساو لابنة مخاض، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فإن لم تجد بنت مخاض فابن لبون". ذكر في الصدقة، فيصير في معنى إيجاب أربعين بنت مخاض، وهذا فاسد بالاتفاق. فإن قيل: ابن اللبون له أصل في الوجوب في الزكاة، ولا يؤخذ ابن

مخاض فيها، فكان ابن اللبون أولى. قيل له: إنما يؤخذ ابن اللبون على وجه البدل، فهو بمنزلة الشاتين لما أخذنا على وجه البدل في الزكاة، لم نوجب في الدية. وأيضًا: لما كانت دية الخطأ في الأصل موضوعة على التخفيف، فجعلت في ثلاث سنين، وعلى العاقلة، وألزم كل واحد ثلاث دراهم أو أربعة، كانت أخف من الزكاة، لأنها تلزم وقت الوجوب، فلما كان في الزكاة أربعة أسنان، وجب تخفيف دية الخطأ عنها، فيزداد فيها سن آخر تخفيفًا. فصل: [مقدار الدية من الفضة] قال أبو جعفر: (ومن الورق: عشرة آلاف درهم، ومن الذهب: ألف دينار، ولا يؤخذ في الدية شيء غير هذه الأصناف الثلاث). فأما الحجة في أنها من الدراهم عشرة آلاف درهم: فهي ما روى الشعبي عن عبيدة السلماني "أن عمر بن الخطاب جعل الدية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم". وذلك بمحضر من الصحابة، فصار ذلك أصلًا كسائر العقود التي عقدها على كافة الأمة، وقد بيناها فيما تقدم.

وأيضًا: كما ثبت تقديره للدنانير، ولم تجز الزيادة عليها بالاتفاق، كذلك الدراهم. فإن قيل: في هذا الحديث أنه جعل على أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة الشاة، وعلى أهل الحلل الحلل. وأبو حنيفة لا يرى أخذ شيء من ذلك في الديات إلا بالتراضي، ولم يكن محجوبًا بقضية عمر، كذلك الزيادة على عشرة آلاف. قيل له: لأن تقديره الدية من الدراهم على وجه تقويم الإبل، كتقديرها من الدنانير، إذ هما أثمان الأشياء، وبهما تقوم المستهلكات. وأما الشاة والبقر والحلل، فغير جائز أن يكون على جهة التقدير لقيمة الإبل، لأن هذه الأصناف لا تقوم بها المستهلكات، فدل على أنه أخذها برضا العاقلة عن الدراهم والدنانير، كمن له على آخر درهم فيأخذ عنها عروضًا. فإن قيل: فقد روي عن عمر أنه جعل الدية اثني عشر ألفًا. قيل له: لم يبين في الخبر من أي الأوزان أوجبها: اثني عشر ألفًا، وتصحيح الخبر يوجب أن يكون اثني عشر ألفا وزن ستة، فيكون عشرة آلاف وزن سبعة، لأن الدراهم كانت مختلفة، بعضها: وزن ستة،

وبعضها: وزن سبعة. وأيضًا: لما اتفقوا على أنها من الذهب ألف دينار، ثم اختلفوا في تقويم ذلك، كانت العشرة آلاف أولى بأن تكون هي القيمة، لأن قيمة الدينار حينئذ كانت عشرة، والدليل على ذلك: أن كل دينار عدله عشرة دراهم في الزكاة. وعن علي رضي الله عنه: "لا قطع في أقل من دينار، أو عشرة دراهم". وهن علي أيضًا: في خطبته حين قال لأصحابه: "وددت أن لي بكل عشرة منكم رجلًا من بني فراس بن غنم، وصرف الدينار بالدراهم، فجعل العشرة بأداء الدينار". و"ضرب عمر رضي الله عنه الجزية على من بلغ الحلم أربعين درهمًا، أو أربعة دنانير". فثبت بذلك أن قيمة الدينار كانت يومئذ عشرة دراهم. وقد اتفق الجميع على أنه لا يجوز أن يتعدى بالدية القيمة التي كانت في الصدر الأول من أجل زيادة قيمة الإبل، فثبتت العشرة آلاف على ما

قلنا، ولم نثبت الزيادة. وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أن الدية كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مئة بعير، كل بعير أوقية، فذلك أربعة آلاف، فلما كان زمن عمر غلت الإبل، ورخص الورق، فجعل عمر أوقية ونصفًا، ثم غلت الإبل، فجعل عمر أوقيتين، ثم لم تزل تغلو ويرخص الورق، حتى جعلها عمر اثني عشر ألفًا، ومن العين ألف دينار. فدل ذلك على أن الورق قيمة الإبل، واتفق الجميع على أن تقويمها غير جائز الآن، وأن الدية قد استقرت من الدراهم والدنانير على مقدار معلوم، لا تجوز الزيادة فيه ولا النقصان، فلما روي عن عمر المقداران جميعًا، وجب التوفيق بينهما، فقلنا: اثنا عشر ألفًا وزن ستة. وأيضًا: لو اختلف الخبران، وتعذر الجمع بينهما، لكان الواجب إثبات ما اتفقوا عليه، وإسقاط ما اختلفوا فيه، فثبت العشرة آلاف، ويسقط ما عداها. وقد روى محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس: "أن رجلًا قتل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفًا". هذا حديث واهي السند، لأن محمد بن مسلم الطائفي ضعيف

جدًا، وقد روى هذا الحديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة ولم يذكر فيه ابن عباس. وعلى أنه لو صح، لم يكن فيه بيان موضع الخلاف، لأنه لم يبين من أي الأوزان كانت، وجائز أن تكون كانت وزن ستة على ما قدمنا. فصل: ولم يجعل أبو حنيفة الدية في شيء من غير هذه الأصناف، وذلك لأن سبيل إثباتها التوقيف، لاتفاق الفقهاء على أنه لا يجوز إثباهتها من سائر العروض والحيوان، ولا توقيف معنا فيما عدا ما وصفنا، ولا اتفاق، فلم نثبته. وأيضًا: لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدية مائة من الإبل"، ثم نقلت عن الإبل إلى غيرها على وجه التقويم، وكان التقويم إنما يقع في الأصول بالدراهم والدنانير، دون ما عداها، وجب أن تكون الدية مقصورة عليها دون غيرها.

فإن قيل: إذا لم يكن طريقه الاجتهاد، ثم روي عن عمر أنه جعلها من الحلل والشاة والبقر، على أنه قال توقيفًا، إذ لا يظن به أنه قاله تظننًا وتخمينًا. قيل له: لو لم يكن فيه وجه غير ما ذكرت، للزم ما قلت، إلا أنه لا يمنع أن يكون فعل ذلك تخفيفًا على من لزمه ذلك، لأن تلك كانت من أموال من أوجبها عليهم، فتراضى الجميع به. كما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر معاذًا أن يأخذ من من كل حالم دينارًا، أو عدله معافر في الجزية". وكما قال معاذ لأهل اليمن: "ايتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم في الصدقة مكان الذرة والشعير، فإنه أيسر عليكم، وخير لمن بالمدينة من المهاجرين والأنصار". لا على معنى أن ذلك هو الواجب عليهم شاؤوا أو أبوا، لكنه أخذه على معنى تحري المصلحة للفريقين، فكذلك فعل عمر في ذلك، فلما احتمل ما وصفناه: لم يجز أن نثبته توقيفًا. * وقال أبو يوسف ومحمد: الدية من الشاة ألفا شاة مسنة قنية،

ومن البقر مائتا بقرة، ومن الحلل مائتا حلة، ومن الأصناف الثلاثة على ما قال أبو حنيفة، وذهبا فيه إلى ما روي عن عمر بن الخطاب في ذلك، من غير خلاف من أحد من الصحابة. فصل: [كفارة قتل الخطأ] قال أبو جعفر: (والكفارة: تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم يجد: فصيام شهرين متتابعين). لقول الله تعالى: {ومن قتل مؤمنًا خطئًا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين}، وهذا هو المتفق عليه. مسألة: [تعريف العاقلة] قال أبو جعفر: (والعاقلة هم: أهل الديوان الذين يأخذون الأعطية، ولا يدخل فيهم النساء والصبيان ولا المماليك، ولا من لا عطاء له في ديوان).

قال أبو بكر: موضوع الدية في الأصل على العاقلة على التناصر، وقد كانوا يتناصرون بالأنساب والقبائل، فكانت الدية عليهم، ثم لما كان عمر فرض الأعطية، ودون الدواوين، صار التناصر بالدواوين، فجعلها على أهل الديوان في أعطياتهم، ولذلك جعلها في ثلاث سنين؛ لأنه جعل في كل عطاء الثلث منها، فصارت الدية كلها في ثلاث سنين، وكان ذلك منه بحضرة الصحابة من غير نكير من أحد منهم عليه، فصار إجماعًا. ومما يدل على أن موضوع الدية على التناصر، لا على النسب فحسب: أن النساء والصبيان لا يدخلان في العقل؛ لأنهم لا نصرة فيهم. ويدل عليه أيضًا: أنها حين كانت على القبائل، كان الحليف يدخل معهم في العقل مع عدم النسب، لأنه من أهل النصرة. فإن قال قائل: المسلمون كلهم يد واحدة على من سواهم، وعلى

بعضهم نصر بعض إذا احتاج إليه، فما معنى قولكم: إن العقل على التناصر؟ قيل له: إن عمر لما دون الدواوين، جعل أهل كل ديوان يدًا واحدًا في نصرة بعضهم لبعض في القتال والغزو، وحفظ الحريم، وسد الثغر، ونحو ذلك من الأمور التي تدهمهم، فيحتاجون فيها إلى التناصر، فكان الرجل من أهل الديوان أخص بنصرة أهل ديوانه ممن لا ديوان له: معه قرابة كان، أو غير قرابة. ألا ترى أنهم تميزوا بالدواوين، فقيل: تميم الكوفة، وتميم البصرة، وضبة الكوفة، وضبة البصرة، فكانت تميم قبيلة واحدة في الأصل، ثم تميزوا باختلاف دواوينهم وأعطياتهم، فكان أهل ديوان البصرة بعضهم أولى بنصرة بعض من غيرهم، وكذلك أهل سائر الدواوين. مسألة: [اشتراك الجاني مع العاقلة في الدية] قال أبو جعفر: (ويعقل الجاني مع عاقلته جناية نفسه إذا كان رجلًا حرًا صحيح العقل). قال أبو بكر: وذلك لما روى يحيى بن زكريا عن سعد بن طارق عن نعيم بن أبي هند عن سلمة بن نعيم قال: "شهدت مع خالد بن الوليد يوم اليمامة، فضربت رجلًا بالسيف، فقال: إني مسلم بريء مما عليه مسيلمة.

قال: فذكرته لعمر بن الخطاب فقال: عليك وعلى قومك الدية". وروي نحوه عن عمر بن عبد العزيز، ولم يرو عن أحد من السلف خلافهما. وأيضًا: فإن العاقلة إنما تعقل عنه على جهة النصرة، وهذا أولى بنصرة نفسه. وأيضًا: فإنها تعقل عنه على جهة المواساة والتخفيف عنه، فينبغي أن يدخل فيها معهم؛ لأنه لا أقل من أن يكون كواحد منهم. مسألة: [دفع الدية حال عدم وجود أهل الديوان] قال أبو جعفر: (فإن لم يكن ديوان: عادت الدية على القبائل، على ما كانت عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ردها عمر إلى الدواوين). قال أبو بكر: وذلك لما بيناه أن التناصر كان بالقبائل، ثم صار بالديوان، فانتقل العقل إلى أهل الديوان، فإذا ارتفع الديوان: صار التناصر بالقبائل، فصارت الدية عليهم. مسألة: [مقدار الواجب من الدية على كل رجل من العاقلة] قال أبو جعفر: (والذي يغرمه كل رجل من الدية: ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم، لا أكثر من ذلك، فإن تجاوز ذلك في التقسيط إلى ما هو أكثر، ضم إلى العاقلة أقرب القبائل إليها في النسب، حتى يصيب كل

رجل ما ذكرنا). وذلك لأنها موضوعة على التخفيف، فلا يلزم كل رجل منهم ما يجحف به، وإنما يلزم كل رجل منها ما يخفف به عليه، ألا ترى أن العاقلة إنما تحملها عن الجاني تخفيفًا عنه، فلأن يخفف عنهم، وليسوا جناة أولى. ويضم إليهم أقرب القبائل؛ لأنهم أهل نصرته عند عدم الآخرين. مسألة: [دفع الدية حال عدم وجود العاقلة] قال أبو جعفر: (وإن كان الجاني لا عاقلة له، فقد روى محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أن الدية عليه في ماله، ولم يحك في ذلك خلافًا، والمشهور عنه ما ذكره في غير موضع من كتبه: أن الدية في بيت مال المسلمين) ز قال أبو بكر: كان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: إن الصحيح من قولهم: إن الدية في بيت مال المسلمين، وأن رواية من روى في ماله شاذة. ووجه إيجابها في بيت المال: أن جماعة المسلمين هم أهل نصرته، إلا أنه ليس بعضهم أخص به من بعض، فوجب أن يكون في مالهم، وهو بيت المال.

ويدل على ذلك: أنه لو مات، لكان ماله لبيت المال. مسألة: [دية الخطأ إن كان القاتل ذميًا] وقال أصحابنا في الذمي إذا لم يكن له عاقلة: إن الدية عليه في ماله إذا قتل رجلًا خطأ، وليس فيه اختلاف رواية، وذلك لأنه لا ولاية بينه وبين المسلمين، ولا توارث، ولا يعقل عنهم بيت المال؛ لأنه مال المسلمين. فإن قيل: فلو مات الذمي، ولا وارث له: كان ماله لبيت المال، فوجب أن يكون عقله عليهم. قيل له: لا يستحقه بيت المال من جهة الولاية، وإنما يستحقه من جهة أنه مال في دار الإسلام، لا مالك له، مثل مال المعادن، وكنوز المشركين إذا ظهر عليها الإمام. ولأن مال الكفار مغنوم في الأصل، وإنما ترك في أيديهم بالذمة، فإذا زالت الذمة، ولم يكن هناك مستحق له من جهته: عاد إلى حكم الغنيمة. وأما المسلم إذا مات، فإنما كان ماله لبيت المال على جهة الموالاة التي بينهم، كما قال الله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}. مسألة: [قتل شبه العمد] قال: (وأما شبه العمد: فهو ما تعمد ضربه بغير سلاح، سواء كان

مما يقتل مثله أو لا يقتل، بعد أن لا يكون له حد يجرح ويقطع، مثل الحجر، والعصا، ونحوهما، ففيه الدية مغلظة في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: ما كان الغالب من ذلك أن يقتل: فهو عمد، وفيه القود). والحجة لقول أبي حنيفة: ما رواه سفيان وشعبة وزهير وقيس عن جابر الجعفي عن أبي عازب عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء خطأ إلا السيف". وقال زهير وقيس: "سوى الحديد، وفي كل خطأ أرش". فإن طعنوا فيه من جابر الجعفي، وأنه قد تكلم فيه. قيل له: قد وثقه سفيان الثوري، وحمل عنه قوم ثقات جلة. وحدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن علي قال: حدثنا قبيصة قال: حدثنا سفيان عن جابر عن أبي عازب قال: سمعت النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء خطأ إلا السيف، ولكل خطأ أرش". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن محمد العسكري قال: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا يوسف بن

يعقوب الضبيعي قال: حدثنا سفيان الثوري وشعبة عن جابر الجعفي عن أبي عازب عن النعمان بن بشير قال: قال ريول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء خطأ إلا السيف، ولكل خطأ أرش". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا عقبة بن مكرم قال: حدثنا يونس بن بكير قال: حدثنا قيس بن الربيع عن أبي حسين بن بنت النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء سوى الحديدة خطأ، ولكل خطأ أرش". ودليل آخر: وهو ما روى سفيان عن علي بن زيد عن جدعان عن القاسم بن ربيعة عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: "ألا إن قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل". وروى أبو معاوية عن حجاج عن قتادة عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قتيل السوط والعصا شبه عمد". وروى سليمان بن كثير عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل في عميا أو رميا يكون بينهم بحجر أو بسوط أو بعصا، فعقله عقل خطأ، ومن قتل عمدا فقود به". قال أبو بكر: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "قتيل عمد الخطأ قتيل

الوسط والعصا": فيه دلالة من وجهين على صحة قولنا: أحدهما: عموم قوله: "في العصا": فهو على ما يقتل في العادة، وما لا يقتل، بحق العموم. الثاني: جمعه بين السوط والعصا، معلوم أن السوط مما لا يقتل في الغالب، والعصا الكبير مما يقتل في الغالب، وفائدة جمعه بينهما إعلامنا بتساوي حكمهما وأن كان أحدهما مما لا يقتل، والآخر مما يقتل. دليل آخر: هو ما روى يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة قال: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فقتلت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على العاقلة". وروى سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عبيد بن نضلة عن المغيرة بن شعبة "أن امرأتين ضربت إحداهما الأخرى بعمود الفسطاط، فقتلها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على عاقلة القاتلة، وقضى فيما في بطنها بالغرة". ومعلوم أن عمود الفسطاط يقتل في الغالب، ولم يوجب به قودًا. وقد روى ابن جريح عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن عمر نشد الناس قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين، فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: "إني بين امرأتين، وإن أحدهما ضربت

الأخرى بمسطح، فقتلها وجنينها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة، وأن تقتل مكانها". قال أبو بكر: وليس هذا مضادًا للحديث الأول، لأنا نصححهما جميعًا، فنقول إنهما خبران كل واحد منهما في امرأة على حدة. فأما الأولى فإنها قتلت بعمود الخشب، فلم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم فيه القود، وأما الأخرى فإن من الأعمدة ما يكون في رأسها حديدة، فجائز أن تكون قتلتها بحديد العمود، فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم فيه القود، وكذلك قولنا. ويحتمل أن يكون في رأس العمود حدة، فبعجتها به، كالرمح، فهذا عندنا فيه القود. وإن كان الخبران وردا في قصة واحدة، فجائز أن يكونوا أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم أنها قتلتها بالعمود ضربًا، فلم يوجب فيه قودًا، ثم أخبر أنها بعجتها به، فأوجب فيه القود، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم على حسب ما ظهر من سؤال القوم. وأيضًا: روى سفيان عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: "شبه العمد الضربة بالخشبة، والقذفة بالحجر العظيم، وفيه الدية أثلاثًا".

ورواه أيضًا سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه. ومعلوم أن شبه العمد اسم شرعي مفهوم المعنى من جهة اللغة قبل مجيء الشرع، وأسماء الشرع لا تؤخذ إلا توقيفًا، فعلمنا أن عليًا إنما قال ذلك توقيفًا. فإن قال قائل: إذا كان مثله يقتل، فهو عمد محض، وليس شبه عمد. قيل له: لا يجوز فيه غير ما قلنا؛ لأنه لو كان مثله لا يقتل، مثل اللطمة ونحوها، لسقطت فيه جهة العمد، وكان خطأ محضًا، إذ هو غير عامد به إلى القتل، وما قلناه صحيح موافق لمعنى الخبر؛ لأنه جمع فيه العمد والخطأ، فهو عمد في الفعل، خطأ في الحكم. ويدل على ذلك: أن العمد واخطأ إنما هو صفة الفعل؛ لأنه قال: "قتيل خطأ العمد"، فينبغي أن يكون القصد إلى القتل موجودًا مع الفعل، حتى يصح وصفه بأنه عمد، ويكون خطأ مع ذلك من طريق الحكم، حتى يسقط القود عنه. ومما يدل على أن للآلة تأثيرًا في وجوب القود وسقوطه، وأن الحكم متعلق به دون القصد إلى القتل: اتفاق الجميع على أن السكين الصغيرة التي لا تقتل مثلها في الغالب، والكبيرة التي تقتل، لا يختلفان في وجوب القود بهما، وأن السوط واللطمة ونحوهما لا يجب بهما القود وإن عمد بهما إلى الضرب.

وليس هاهنا معنى يفرق بينهما غير اختلاف الآلة، فوجب أن يكون الحكم متعلقًا بها، ولزم اعتبارها فيما اختلفنا فيه، وأن لا يعتبر ما يقتل مثله أو لا يقتل، إذ كان الحكم لا يتعلق به، ولا تأثير له فيه، وبمثل هذا المعنى يعتبر تصحيح العلل، وهو كا يوجد من تأثيرها في الأصول، وتعلق الأحكام بها. فإن قال قائل: فأنت تقيد بالحجر والعصا إذا كان لهما حد. قيل له: لأنه قد صار في معنى السلاح والحديد، فلأجل أن الآلة نفسها قد صارت في معنى الحديد: وجب القود بها، فلم يتعلق الحكم في هذه الحال أيضًا إلا بالآلة. فإن احتجوا بعموم الآيات الموجبة للقود، نحو قوله: {كتب عليكم القصاص في القتلى}، وقوله: {النفس بالنفس}، وقوله تعالى: {ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا}. قيل له: قد اتفق الجميع على أن هذه الآيات واردة في حكم العمد دون الخطأ، وما ذكرناه خطأ لا يطلق عليه اسم العمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن قتيل الخطأ العمد". وأيضًا خبرنا متأخر عن الآيات؛ لأن فيه بيان حكم القود، والخطأ،

وشبه العمد، وذلك بعد استقرار حكم وجوب القود في العمد والخطأ، فذكر شبه العمد، وهو قتل بينهما، لا عمد محض، ولا خطأ محض. فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قتل قتيلًا فأهله بين خيرتين: إن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا العقل". وهو عام في سائر وجوه القتل إلا ما قام دليله. وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العمد قود". قيل لهم: أما قوله: "العمد قود": فإنما يتناول عمدًا محضًا، ولم يدخل فيه ما لا يسمى عمدًا على الإطلاق، وفي هذا الخبر بعينه، وهو خبر ابن عباس –الذي تقدم ذكر سنده ومتنه- وذكر القتل بالعصا والحجر، وأن فيه الدية، فعلمنا أن العمد المطلق المذكور في هذا الخبر، غير داخل في شبه العمد. وأما قوله: "من قتل قتيلًا فأهله بين خيرتين": فإنما ذكر فيه حكم ما يجب عن القتل العمد، وليس فيه ذكر السبب الذي يقع به القتل. وفي خبرنا ذكر الآلة التي يقع بها القتل، وكل واحد من الخبرين وارد في معنى غير ما ورد فيه الآخر، فلا يتعارضان؛ لأن التعارض إنما يقع إذا وردا في معنى واحد. وهذا أصل صحيح يعتبره أصحابنا في اختلاف الأخبار، ونظيره ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نام عن صلاة أو نسيها

فليصلها إذا ذكرها". فهذا حكم وارد في إيجاب القضاء على تارك الصلاة في وقتها، وليس فيه بيان حكم الأوقات التي تجوز فيها الصلاة، من التي تحظر فيها. ثم روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند الغروب"، فكان ذلك واردًا في بيان حكم الأوقات التي تحظر فيها الصلاة، فلم يكن قوله: "فليصلها إذا ذكرها": معارضًا له، لورود كل واحد منهما في معنى، غير ما ورد فيه الخبر الآخر. وأيضًا: قد اتفقنا جميعًا أن قوله: "من قتل له قتيل، فأهله بين خيرتين": في العمد، وكذلك قوله: "العمد قود": فلا يدخل فيه ما سماه النبي صلى الله عليه وسلم خطأ. فإن احتجوا بحديث أنس: "أن يهوديًا قتل جارية من الأنصار على أوضاح لها بحجر، فأقاده النبي صلى الله عليه وسلم منها". قيل له: ليس فيه بيان موضع الخلاف؛ لأنه لم ينقل إلينا صفة الحجر الذي به قتلها، وجائز أن يكون كان له حد. وليس فيه عموم لفظ من النبي صلى الله عليه وسلم فيجرى على ظاهره، وإنما فيه حكاية فعل من القاتل وقع على وصف لا يدرى كيف

هو، وإيجاب قود من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا احتمل أن يكون كما قلنا، واحتمل غيره: سقط الاحتجاج به. وأيضًا: يحتمل أن يكون اليهودي نقض العهد، فقتله النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك، ويدل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رجمه، وليس هذا حكم من يقتل قودًا. فإن قال قائل: عندكم ذا العهد لا ينتقض عهده لقتل المسلم، حتى يرجع إلى دار الحرب. قيل له: قد كانت حول المدينة قرى اليهود، وهي كانت دار حرب، فليس يمتنع أن يكون اليهودي لما قتل الجارية هرب، فأخذ في حدود دار الحرب، ومن كان كذلك، فهو ناقض للعهد، يجب قتله إذا ظفر به. فإن قيل: فأنت تقتل الخانق إذا كثر منه ذلك، وقاطع الطريق إذا قتل بعصا. قيل له: إنما أقتلهم حدًا، لا قودًا، وقد يقتل قاطع الطريق وإن لم يقتل إذا كان ردءًا لمن قتل. قال أبو بكر: وقد أقاد أبو حنيفة ممن أحرق رجلً بالنار، لأن تأثيرها في تفريق الأجزاء أكثر من تأثير السلاح، فكان حكمها حكمه.

ووجه آخر: وهو أن القود لما كان مما يسقط بالشبهة، وجب أن يكون اختلاف الناس في نفس القتل: هل هو عمد أو غير عمد؟ شبهة في سقوطه، كما كان اختلافهم في الوطء: هل هو زنى أو ليس بزنى؟ شبهة في سقوط الحد، ألا ترى أن عمر بن الخطاب لما قال في المتعة: "إنها زنى، وإني لو تقدمت فيها لرجمت". وقال غيره: "ليس بزنى: كان اختلافهم في الفعل على هذا الوجه شبهة في سقوط الحد عن الواطئ على وجه المتعة. فصل: قال أبو بكر: ويحكى عن بعض أهل المدينة أن القتل خطأ، أو عمد، وأنه لا يعرف شبه العمد: وفيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حكم خطأ العمد، واختلاف الصحابة بعده في كيفية أسباب شبه العمد، ووجوب تغليظها على دية الخطأ، ما يقضي بفساد قول من أباه. فصل: [وجوب الكفارة في قتل شبه العمد] قال أبو جعفر: (وفي شبه العمد كفارة). قال أبو بكر: وذلك لأن الدية وجبت فيه بنفس القتل، كقتل الخطأ، وليس ذلك كالعمد إذا دخلت فيه شبهة، فأوجبت الدية؛ لأن الدية هاهنا لم تجب بنفس القتل، وإنما وجبت لدخول الشبهة.

فصل: [صفة الدية في شبه العمد] قال: (والدية في شبه العمد مغلظة إذا كانت من الإبل –دون سائر الأصناف- أرباعًا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة. وفي قول محمد: أثلاثًا: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون ما بين ثنية إلى باذل عامها، كلها خلفة في بطونها أولادها). قال أبو بكر: اختلف السلف من الصدر الأول في دية شبه العمد، مع اتفاقهم على تغليظها على دية الخطأ في الأسنان: فروي عن عبد الله بن مسعود أرباعًا، نحو ما حكيناه عن أبي حنيفة. وقال عمر، وعلي وأبو موسى والمغيرة بن شعبة نحو ما حكيناه من قول محمد. ويروى عن علي أيضًا في شبه العمد رواية أخرى: ثلاث وثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربع وثلاثون ما بين ثنية إلى باذل عامها في بطونها وأولادها.

وجه قول أبي حنيفة: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الدية مائة من الإبل". اقتضى عمومه كل ما يقع عليه الاسم، فأوجبناها أرباعًا، لاتفاق الجميع على وجوب هذا القدر، ولم نوجب الزيادة؛ لأن العموم ينفيها. ومن جهة النظر: أن الأسنان لما كانت متساوية في الخطأ، وجب مثله في شبه العمد، وإذا كانت الأسنان متساوية: وجبت أرباعًا، لأن كل من قال بتساوي الأسنان أوجبها أرباعًا. وأما ما روي: "في قتيل خطأ العمد: أربعون منها خلفة، في بطونها أولادها": فإن أمر الدية كان مشهورًا، والحاجة إلى معرفتها ماسة لعموم البلوى بها، فلو كان ذلك محفوظًا عن النبي صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك المشهد الذي حكوا فيه، وهو فتح مكة، لما اختلف الصحابة في اسنانها هذا الاختلاف، كما لم يختلف في عددها. فلما لم نجد النقل فيه مستفيضًا، وكان رواية القاسم بن ربيعة عن ابن عمر، وإسناده مع ذلك مضطرب؛ لأن خالدًا الحذاء يرويه عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه

وسلم، ولا نعلمه روي من غير هذا الوجه: دل ذلك على أنه غير محفوظ عنه على حسب ما رواه. وأيضًا: فإن ما كان هذا سبيله، فإنه لا يقبل فيه أخبار الآحاد، ولا سبيل إليه من طريق الاجتهاد، فأثبتنا منه ما اتفقوا عليه، وأسقطنا الزيادة المختلف فيها، إذ لا دليل عليها. مسألة: [شبه العمد فيما دون النفس] قال أبو جعفر: (وكل ما ذكرنا في النفس أنه شبه العمد، فهو فيما دون النفس عمد). قال أبو بكر: وهذا الذي ذكره في نفي حكم شبه العمد عما دون النفس، فإنما هو في حكم القصاص خاصة؛ لأن رجلً لو ضرب رجلًا بعصا أو بحجر، فأوضح عن رأسه، أو لطمه، فكسر سنه: كان القصاص قائمًا بينهما. والأصل فيه: ما روى أنس "أن الربيع لطمت جارية، فكسرت ثنيتها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص. فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع!! لا، والذي بعثك بالحق نبيًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كتاب الله: القصاص.

ثم تراضوا على الأرش". فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم القصاص في السن باللطمة، ومثله إذا حدث عنه القتل: لم يقتص منه. ويدل عليه أيضًا: عموم قوله: {والسن بالسن والجروح قصاص}. * فأما حكم شبه العمد فيما دون النفس: فهو ثابت عندهم في تغليظ الأرش فيما لا يستطاع فيه القصاص، مثل أن يقطع يده من نصف الذراع عمدًا، فيكون عليه الأرش مغلظًا، وكذلك الجائفة والآمة، ويكون مع ذلك في ماله، ولا يكةن على العاقلة. ولا يكون بمنزلة النفس؛ لأن النفس في شبه العمد تحملها العاقلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "أوجب دية المرأة التي قتلت بمسطح على عاقلة القاتلة"، وكان القياس في النفس أيضًا أن يكون في ماله، إذ هو عمد في الفعل، كالأب إذا قتل ابنه عمدًا، فتكون الدية في ماله، إلا أنهم

تركوا القياس في النفس، للأثر، وحملوا أمر ما دونها على القياس، كأحد الورثة إذا عفا عن نصيبه من الدم: يكون للباقين حصتهم من الدية في مال القاتل. *******

باب أحكام العمد

باب أحكام العمد مسألة: [الاشتراك في القتل] قال أبو جعفر رحمه الله: (وإذا عدا رجل على رجل فشق بطنه، وأخرج حشوته، ثم ضرب رجل عنقه بالسيف عمدًا: فالقود على الذي ضرب عنقه بالسيف، وعلى الأول الأرش). قال أبو بكر أيده الله: الأصل في ذلك: اتفاق الجميع من فقهاء الأمصار أن من جرح رجلً جراحة أشرف منها على التلف، إلا أنه يرجى بقاؤه يومًا ونحو ذلك، ثم قتله آخر: أن القود على الثاني. ولو لم يجب على الثاني القود: لكان لو كان ممن يبقى شهرًا أو سنة، لوجب أن لا يقاد من الثاني، وهذا لا خلاف فيه. فقلنا على هذا: إنه إذا كان في الغالب: أنه لو لم يقتل: يبقى يومًا أو بعض يوم: لم يكن الأول قاتلًا، وكان الثاني هو القاتل. وأما إذا كانت الجراحة الأولى بحيث تأتي على نفسه، ولم يبق منها

إلا اضطراب للموت كما يبقى المذبوح: فالأول هو القاتل دون الثاني. ألا ترى أن رجلًا لو ذبح شاة وسمى: كان ذلك ذكاة صحيحة إذا لم يبق هناك من الحياة إلا الاضطراب للموت، ولو وقعت بعد ذلك في ماء أو ذبحها مجوسي: لم يبطل ذلك ذكاته، ولو لم يكن ذلك ذبحًا: لما كانت مذكاة بالذبح. مسألة: [القصاص في الجراح] قال: (وإذا قطع رجل يدي رجل ورجليه عمدًا، فإن بريء: كان عليه القصاص في جميع ذلك). وذلك لأن استيفاء القصاص ممكن، والذي حصل من الجناية هو القطع فحسب، قال الله تعالى: {والجروح قصاص}. مسألة: [موت المجروح] قال: (وإن مات من ذلك كله: قتل، وبطل القطع). وذلك لأن حكم الجناية موقوف على ما يؤول إليه، والدليل على ذلك: أن من قطع يد رجل من نصف الذراع، أو شجه مأمومة أو جائفة: لم يكن عليه قصاص، فإن صارت نفسًا: قتل وبطل حكم الشجة والجراحة، فدل ذلك على أن حكم الجناية معتبر بما ينتهي إليه، فإذا آلت إلى النفس: كانت الجناية هي النفس، فوجب عليه القصاص في

النفس، وبطل حكم ما دونها، لقول الله تعالى: {النفس بالنفس}. فإن قال قائل: قال الله تعال: {والجروح قصاص}، فينبغي أن يستوفى منه القصاص فيما دون النفس إذا كان استيفاؤه ممكنًا. قيل له: لو أوجبنا القصاص فيما دون النفس، ثم لم يمت: احتجنا أن نقتله بعد ذلك فليس هذا بقصاص، لأن القصاص أن تجرحه مثل جراحته، ولا تزيد عليها، وإذا جرحته مثل جراحته، ثم قتلته، فليس هذا بقصاص، فلما لم ينفك من وجوب القتل في جميع الأحوال، علمنا أن الواجب هو النفس، وأن حكم ما دونها ساقط في هذه الحال. وعلى أن هذا لو كان اعتبارًا صحيحًا، لوجب أن يكون ما دون النفس لو كانت آمة أو جائفة فمات منها، أن تقتله، وتوجب في الآمة والجائفة أرشهما، كما اقتصصت منه فيما أمكن فيه القصاص مما دون النفس وقتله، فلما لم يجب أرش المأمومة والجائفة مع القتل المتولد منهما، دل ذلك على سقوط حكم ما دون النفس فيما وصفنا.

مسألة: [حكم من قطع يد رجل ثم قتله قبل برء اليد] قال أبو جعفر: (ومن قطع يد رجل عمدًا، ثم قتله بعد ذلك عمدًا بالسيف، فإن كان لم يبرأ من القطع حتى قتله: فعليه القصاص في النفس خاصة، ولا قصاص عليه في اليد). قال أبو بكر: هذا قول أبي يوسف ومحمد، وأما قول أبي حنيفة: فللولي أن يقطع يده، ثم يقتله. وجه قول أبي حنيفة: عموم قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}، وقال: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}، وقال الله تعال: {والجروح قصاص}، فكان له القصاص في جميع ذلك، لعموم هذه الآيات. وليس ذلك مثل أن يقطع يده، فيؤول إلى النفس، فلا يكون له قطع اليد، بل يقتله فحسب: من قبل أن القطع قد صار نفسًا، وقد بينا أن حكم الجناية موقوف على ما يؤول إليه، وفي مسألتنا حكم القطع ثابت لم يصر نفسًا، وإنما حدثت النفس من جناية أخرى. يدل على هذا: أن إحداهما لو كانت خطأ، والأخرى عمدًا: وجب القصاص في العمد، والدية في الخطأ، فدل على أن إحداهما غير متعلقة

بالأخرى. * وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أنهما لو كانتا جميعًا خطأ، لوجبت دية النفس، وسقط حكم ما دونها؛ لأنهما جميعًا كانتا قبل البرء، فكذلك إذا كانتا جميعًا عمدًا، تعلق الحكم بالنفس، وسقط حكم ما دونها. مسألة: قال أبو جعفر: وإن بريء من اليد، ثم قتله: كان عليه القصاص في اليد والنفس). قال أبو بكر أيده الله: وهذا قولهم جميعًا، وذلك لأن وقوع البرء منهما يوجب إفراد كل واحدة منهما بحكمها دون الأخرى، وإذا لم يقع البرء: فكأنهما جناية واحدة، ألا ترى أنه لو شج رجلًا عشرين موضحة، واحدة بعد أخرى قبل البرء، ثم برأ منها كلها، كان عليه الدية في ثلاث سنين إذا كانت خطأ، وكان جميعها جناية واحدة، ولو شجه موضحة، فبرأ منها، ثم لا يزال يشجه موضحة بعد البرء حتى شجه عشرين مواضح، كانت عليه الدية في سنة واحدة، ولم يتعلق حكم واحدة منهن بغيرها. مسألة: [اعتبار السبب في القتل] قال أبو جعفر: (ومن رمى رجلًا مسلمًا بسهم، فارتد المرمي، ثم وقع به السهم، فقتله: فإن عليه الدية في قول أبي حنيفة، ولا شيء عليه

في قول أبي يوسف ومحمد). قال أبو بكر: أبو حنيفة يعتبر في مسائل الرمي حال السبب، ويجعل ما يتولد عنه كأنه حادث عند وجود السبب، وذلك لأن الرمي لما كان سببًا يوجب الوقوع لا محالة، ثم حصل الوقوع في النفس، صار كأنه قتله بنفس الرمي. فإن كان مسلمًا حينئذ: وجبت الدية، ولم يجب القصاص للشبهة، وحدوث الرد لا يرفع حكم السبب، إذ كان الوقوع موجبًا بالرمي لا محالة، وما تولد عنه: فمن فعله، كأنه أوقعه عند السبب. وعلى هذا قال في محرم رمى صيدًا، ثم حل، ثم وقع السهم بالصيد: أنه يضمنه، وإن رماه وهو حلال، ثم أحرم، ثم وقع السهم: لم يضمنه، اعتبارًا لحال السبب. * وأما أبا يوسف ومحمد، فإنهما قالا: لما حصل الوقوع في مرتد، وهو مباح الدم، صار كوقوعه في حائط، أو فيما لا يكون به جانيًا. مسألة: قال أبو جعفر: (ولو رماه وهو مرتد، ثم أسلم، ثم وقع به السهم، فقتله وهو مسلم: فلا شيء عليه في قولهم جميعًا).

قال أبو بكر: أما على أصل أبي حنيفة، فهو صحيح، لأنه علق الحكم بالسبب، والسبب وجد وهو مباح الدم، فكأنه قتله وهو مرتد. وهذا يشهد لأبي حنيفة عليهما في المسألة الأولى، حين علقا الحكم في هذه بالسبب، ولم يعتبرا الوقوع به بحال السبب. مسألة: قال أبو جعفر: (ومن رمى عبدًا، فأعتقه مولاه، ثم وقع به السهم، فقتله، ففي قول أبي حنيفة: عليه قيمة لمولاه). قال أبو بكر أيده الله: وهذا مستمر على ما بينا من أصله، لأنه اعتبر السبب، فكأنه قتله وهو عبد. (وفي قول محمد: على الرامي لمولى العبد ما بين قيمته مرميًا إلى غير مرمي، ولا شيء له غير ذلك). وذلك لأنه ذهب إلى أن العبد صار ناقصًا بالرمي في ملك مولاه قبل وقوع السهم به، فوجب على الرامي النقصان، إذ كان النقصان حادثًا من فعله، ثم لما عتق، فوقع به السهم، وكان من أصل محمد اعتبار حال الوقوع: لم يكن عليه بالوقوع شيء؛ لأن ابتداء الرمي كان وهو في ملك المولى، وسقط حكم وقوعه بالعتق. ألا ترى أنه لو قطع يد عبد، فأعتقه مولاه، ثم مات: أن عليه أرش اليد وما نقصته جنايته إلى أن أعتقه، ولا شيء عليه بعد ذلك؛ لأن العتق يبطل حكم السراية الحادثة بعد ذلك.

مسألة: [موت المرتد بعد قطع يده] قال أبو جعفر: (ومن قطع يد مرتد، فأسلم، ثم مات: فلا شيء على القاطع). قال أبو بكر أيده الله: الأصل في ذلك أن الجناية إذا لم تكن مضمونة، فالسراية غير مضمونة، والدليل عليه: أن من قطع يد حربي، ثم أسلم، ثم مات: لم يضمن السراية، لأن الجناية لم تكن مضمةنة، وكذلك لو قطع يد عبده، ثم أعتقه، ثم مات: لم يضمن السراية، لأن الجناية لم تكن مضمونة. فصل: قال: (وإن قطعها وهو مسلم، ثم ارتد، ثم مات: فعلى القاطع دية اليد، لا غير). وذلك لأنه لما ارتد صار مباح الدم، بحيث لو ابتدأ الجناية عليه، لم يضمنها، فصارت الردة بمنزلة البراءة من السراية، إذ كانت السراية حادثة بعد الردة. * قال: (وإن رجع إلى الإسلام، ثم مات منها: فإن على القاطع دية النفس في قول أبي حنيفة وأبي يوسف). قال أبو بكر أيده الله: وذلك لأن الجناية إنما يتعلق حكمها بالابتداء أو الانتهاء، وما بينهما لا يتعلق به حكم، والدليل على ذلك: أن رجلًا لو قطع يد رجل من نصف الذراع: لم يجب عليه فيه القصاص، فإن آلت إلى

النفس: وجب عليه القصاص في النفس، فتعلق الحكم بما انتهت إليه الجناية. وكذلك لو قطع يده من المفصل، فتآكلت إلى نصف الذراع: لم يجب القصاص، فإن مات منها: قتل به، فصار حكم الجناية موقوفًا على ما تؤول إليه. فلما كانت الجناية في مسألتنا مضمونة في الابتداء، وكانت نهايتها في حال يجوز أن تكون النفس مضمونة فيها، سقط حكم ما بينهما من الردة الحادثة. * (وقال محمد: لا شيء عليه غير دية اليد)، وجعل الردة بمنزلة البراءة من الجناية. والانفصال في ذلك لأبي حنيفة: أن الردة لا تكون بمنزلة البراءة حتى يموت عليها؛ لأن حكم الردة موقوف على الإسلام والموت، وقد كانت الجناية مضمونة، فوقف حكم السراية أيضًا على حكم الردة. مسألة: قال أبو جعفر: (ولو كان ارتد، ولحق بدار الحرب، ثم رجع إلى دار الإسلام مسلمًا، ثم مات من القطع: فلا شيء على القاطع غير دية يده في قولهم جميعًا). وذلك لأن لحاقه بدار الحرب مرتدًا، يقطع حقوقه، ألا ترى أنا نقسم ماله بين ورثته بعد لحاقه، ولا نفعل ذلك قبل اللحاق، فصار كالبراءة من السراية.

مسألة: قال أبو جعفر: (ومن قطع يد عبد خطأ، فأعتقه مولاه، ثم مات منها: فلا شيء على القاطع غير أرش اليد). وذلك لأن حكم السراية تابع للجناية، ولا يجوز أن ينفرد بحكم دونها، والدليل عليه: أن من قطع يد حربي، ثم أسلم، ثم مات: لم يكن على القاطع شيء، من قبل أن ابتداء الجناية لما لم يكن مضمونًا، لم يجز أن تكون سرايتها مضمونة، فقلنا على هذا: إن الجناية كانت مضمونة على الجاني للمولى، فلما أعتقه لم تخل السراية لو كانت مضمونة من أن تكون مضمونة للمولى أو للعبد، ولا يجوز أن تكون مضمونة للولى؛ لأنه غير مالك له بعد العتق. وكما أنه لو ابتدأ الجناية عليه في هذه الحال، لم يستحقها المولى، كذلك لا يجوز أن يستحق ضمان السراية. ولا يجوز أن تكون مضمونة للعبد، لأنا قد بينا أن حكم السراية أن يكون تابعًا للجناية، فلما لم تكن الجناية مضمونة للعبد، لم يجز أن تكون سرايتها مضمونة له. فلما لم يصح ضمانها للمولى، ولا للعبد لما وصفنا، لم يبق هناك وجه آخر للضمان، فبطل. ولهذه العلة بعينها قالوا: إذا باعه المولى بعد القطع، سقط حكم السراية. وليس قطع اليد في هذا، مثل الرمي في قول أبي حنيفة حين أوجب عليه بالرمي جميع القيمة وإن أعتقه المولى، ثم وقع به السهم، فمات، ولم يوجب في القطع إلا أرش اليد: من قبل أن الرمي سبب يوجب الوقوع

لا محالة، لاستحالة وجود رمي لا يحصل عنه الوقوع، فمتى حصل الوقوع في شخص تلفت به نفسه: صار جانيًا به يوم الرمي، إذ كان موجبه من الوقوع متولدًا من فعله، لأن ما تولد من رميه من فعله. وأما القطع فليس بموجب للسراية لا محالة، إذ لا يمتنع وجود القطع مع عدم السراية. مسألة: قال أبو جعفر: (ولو كان قطع يد العبد عمدًا، فأعتقه مولاه، ثم مات، فإن أبا حنيفة وأبا يوسف قالا: إن كان المولى هو وارثه، لا وارث له غيره: فله أن يقتل الجاني، وإن كان له وارث غيره يحجبه عن ميراثه، أو يدخل معه في ميراثه: فلا قصاص على الجاني، وعليه أرش اليد للمولى، ولا شيء له غيره). قال أبو بكر أيده الله: وذلك لأنه لم يكن له وارث غير المولى، فإن الجناية ابتداؤها كان مضمونًا للمولى، وكذلك انتهاؤها؛ لأن المولى هو المستحق في هذه الحال لضمان السراية، فلما كان المستحق لضمان الجناية والسراية جميعًا هو المولى، كان له القصاص في النفس، كأنه مات في ملك المولى قبل أن يعتقه. فإن قال قائل: السبب الذي به استحق الجناية كان الملك، وقد زال، فينبغي أن يبطل حكم السراية، كما يسقط لو كان وارثه غير المولى.

قيل له: لا يجب ذلك، من قبل أنه لا اعتبار بزوال ملكه، إذ كان هو المستحق له في الحالين، فلا يجوز أن نبطله، ثم نوجبه له، لأنه لا يجوز أن يستحق ذلك على نفسه، وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن لزوال ملكه حكم في سقوط حكم الجناية. * (وقال محمد لا قصاص عليه في الوجهين جميعًا، وعليه أرش اليد للمولى، ولا شيء عليه غير ذلك). وذهب في ذلك إلى أن المولى لم يستحق السراية بالسبب الذي كان به يستحق الجناية؛ لأنه استحق ضمان الجناية بدءًا بالملك، وقد زال، والعبد لم يستحق لنفسه ضمان السراية بعد العتق، فتنتقل منه إلى المولى بالميراث، فلا يجوز أن يثبت حكم السراية للمولى، إذ لو ثبت ذلك له، لكان ثبوته من جهة الميراث، والعبد لم يستحق ذلك فيورث عنه، ألا ترى أن سائر ورثته لا يستحقون ضمان السراية، فكذلك المولى. مسألة: [لا قصاص في الأعضاء إلا بعد البرء] قال: (وإذا قطع يد رجل أو غيرها من الأعضاء: لم يقتص منه حتى يبرأ).

وذلك لما روى أيوب عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله أن النبي عليه الصلاة والسلام: "نهى أن يستقاد من الجراح حتى تبرأ". ورواه حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة عن النبي عليه الصلاة والسلام، ويجوز أن يكونا قد روياه. ولأنه لا يؤمن أن يؤول إلى النفس، أو إلى موضع يسقط معه القصاص، فيسقط حكم القطع، ويتعلق حكم الجناية بما يؤول إليه. مسألة: (ومن قطع يد رجل من نصف ذراعه عمدًا: فلا قصاص عليه فيه، وعليه دية والحكومة). وذلك لأن الذراع عضو غير اليد، فينفرد بحكمه في إيجاب الحكومة، ألا ترى أن القطع في السرقة يتعلق باليد دون الذراع، فقد أتلف بذلك عضوًا، ونقص آخر، فيجب في اليد الدية، وفي بعض الذراع الحكومة؛ لأنه ليس له أرش مقدر. * (وقال أبو يوسف في الإملاء: عليه دية اليد لا غير). وجعل الذراع تبعًا لليد غير مقدر، كما كانت الكف تابعة للأصابع، والمعنى فيهما: أن أرش اليد مقدر، وأرش الذراع غير مقدر، فتتبعها

الذراع، كما تبعت الكف الأصابع، إذ كان أرش الأصابع مقدرًا، وأرش الكف غير مقدر. والانفصال للقول الأول من هذا: أن الذراع عضو على حياله، منفرد عن اليد، ألا ترى أنها لا تقطع مع اليد في السرقة، وأما الكف فهي من جملة اليد، غير منفرد عنها بحكم، فكانت تبعًا. مسألة: [مقدار الدية في قطع الأصابع] قال: (ولو قطع أصابع يد رجل كلها خطأ، فبرأ منها: فعليه في كل أصبع منها عشر الدية، وفي جميع ذلك نصف الدية على عاقلته، في السنتين: في السنة الأولى: ثلثان، وفي السنة الثانية: ثلث). قال أبو بكر: وهذا إذا قطعها قبل البرء من الآخر، فتكون كجناية واحدة، كأنه قطع يده، فيكون عليه أرشها في سنتين، لما بينا فيما سلف. ولو كان قطع كل أصبع بعد البرء من الأولى: كان ذلك كله في سنة، من قبل أن حكم كل واحدة منفردة بنفسها بها، كأنه لم يقطع غيرها فيما يتعلق به من التأجيل. مسألة: قال: (ولا قصاص في عظم ما خلا السن). وذلك لأن القصاص استيفاء المثل، وذلك غير ممكن في العظم المكسور؛ لأنه لا يوقف على الموضع بعينه.

وأما السن فإنما وجب فيها القصاص، لقول الله تعالى: {والسن بالسن}. وفي حديث أنس حين كسرت الربيع سن جارية من الأنصار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص". ولأنه يمكن استيفاء المثل: إن كان قلع جميع السن: قلعت سنه، وإن كسر البعض: فإنه يبرد منه بمقداره. مسألة: قال: (ولا قصاص في جائفة ولا في آمة). قال أبو بكر أيده الله: الأصل في ذلك كله: أن كل ما لا يوقف على حده إلا من طريق الاجتهاد: لم يجب فيه قصاص، لأن المجتهد يخطئ ويصيب، والقصاص مما تسقطه الشبهة، فلا يجوز إثباته إلا مع حصول اليقين باستيفاء المثل. قال أبو بكر: وما ذكره أبو جعفر من أروش الشجاج والموضحات فما فوقها، ففيها كلها نص عن النبي صلى الله عليه وسلم. بعضها في حديث الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه

لعمرو بن حزم، وبعضها من غير هذا الطريق، وكرهت الإطالة بذكر أسانيدها، ولأنها أخبار مشهورة. وما دون الموضحة من الشجاج: ففيها حكومة عدل، ولا تكون الموضحة إلا في الرأس والوجه، ولا يكون أرشها في سائر البدن إلا حكومة عدل، ولا يكون فيها مثل ما في الوجه والرأس، وذلك لأن اسم الموضحة في الإطلاق إنما يتناول ما كان منه في الرأس والوجه، وفيها وردت السنة بإيجاب خمس من الإبل. وما في سائر البدن من الجراحات وإن أوضحت العظم، فإنها لا تلحق بها من الشين ما يلحقه بها إذا كانت في الرأس والوجه، فلذلك كان فيها الحكومة، إذ ليس في مقدار أرشه توقيف. مسألة: [عدم القصاص بين اليد السليمة والشلاء] قال أبو جعفر: (ولا قصاص في يد سليمة بيد شلاء). وذلك لما وصفنا من اعتبار المساواة فيما دون النفس. * قال: (ومن قطع يمين رجل صحيحة، ويمين القاطع شلاء: فالمقطوع بالخيار: إن شاء أخذ يد القاطع الشلاء، ولا شيء له غيرها،

وإن شاء ضمن القاطع دية يده الصحيحة) ز وذلك لأنه لما وجب اعتبار المساواة فيما دون النفس، كان للمقطوع أن يعدل عن القصاص إلى الدية ليستوفي بدل ما أخذ منه سواء، إذ لم يمكنه استيفاء المثل بالقصاص، كرجل اشترى عبدًا فاستحق صحة العبد على البائع، فإن وجده ناقصًا، فلم يمكنه استيفاؤه صحيحًا على حسب ما اقتضاه العقد: كان له أن يعدل عنه إلى البدل الذي هو الثمن، فيفسخ البيع ويسترجع الثمن. * (قال: (فإن لم يختر شيئًا من ذلك، حتى ذهبت اليد الشلاء من السماء، أو قطعها إنسان بغير حق: بطل حق المقطوع الأول). وذلك لأن الواجب في الأصل كان القصاص حتى ينقله إلى البدل، كما أن المشتري إذا وجد العبد معيبًا، والذي في ملكه الآن العبد دون الثمن، فإن هلك العبد، وتعذر رده: لم يكن له الرجوع بالثمن، كذلك ذهاب يده من الوجه الذي ذكرنا يسقط حق المجني عليه الأول، إذ لم يكن قد وجب عليه المال قبل ذلك. مسألة: [لا قصاص في الشجاج] قال أبو جعفر: (ولا قصاص في شيء من الشجاج غير الموضحة). قال أبو بكر أيده الله: قال محمد في الأصل: إن القصاص يجب في

الموضحة والسمحاق والباضعة والدامية. وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: لا قصاص في الشجاج إلا في الموضحة والسمحاق إن أمكن القصاص في السمحاق. قال أبو بكر: وجملة القول فيها: إن أمكن استيفاء القصاص فيه، بأن يجرح مثل جراحته سواء، حتى يبلغ الحد الذي بلغت جراحة الجاني اقتص منه، وما تعذر فيه ذلك: لم يقتص منه. وإذا كان كذلك، فالصحيح ما روى الحسن عن أبي حنيفة؛ لأن الباضعة والدامية لا يمكن استيفاء القصاص فيها إلا اجتهادًا. وقد اتفقوا في الآمة والجائفة والمتلاحمة، أنه لا قصاص فيها، إذ لا يوصل إلى استيفاء المثل إلا اجتهادًا. وأما السمحاق، فإنها هي التي بينها وبين العظم جلدة رقيقة، فإن أمكن بلوغ ذلك الموضع بالقصاص، لا يتعدى إلى غيرها: ففيها القصاص، كالموضحة نفسها. * قال: (واختلف أبو يوسف ومحمد في المتلاحمة: فقال محمد: هي التي يلتحم فيها الدم، وبالتحامه فيها سميت متلاحمة). قال: (وقال أبو يوسف في الإملاء: إنها هي التي تشق الجلد، ولا تأخذ من اللحم شيئًا). قال أبو بكر: هذا ما ذكره أبو جعفر من وصف قولهما، وقد روي عن أبي يوسف أن المتلاحمة دون السمحاق، وفوق الباضعة.

قال أبو بكر: وهذا اختلاف في العبارة، ولم يختلفوا أن الجراحة كلما كانت أعظم، فحكومتها فيها أكثر. مسألة: [تعريف الحكومة] قال أبو جعفر: (والحكومة في كل ما ذكرنا: أن يقوم المجني عليه حين وقعت به الجناية لو كان عبدًا، ثم يقوم لو كان عبدًا ليس به الجناية، فينظر: كم بينهما من القيمة؟ فيكون عليه ما يقابله من الدية). قال أبو بكر: وقد حكى ذلك عن أصحابنا، وكان أبو الحسن رحمه الله يأبى هذا الاعتبار في الجنايات على الأحرار، ويقول: إن الاعتبار فيها: أن يقرب إلى أدنى الشجاج التي فيها أرش معلوم، فينظر كم مقدارها منها في قلة الجراحة أو كثرتها؟ فيوجب من الأرش بمقداره من أرش الجراحة المقدرة. مسألة: [حضور أولياء القتيل القصاص] قال: (ولا يقتص من القاتل إلا بحضرة جميع أولياء القتيل إذا كانوا كبارًا). وذلك لأن الغائب لا يولى عليه لأجل غيبته، ولا يجوز للحضور استيفاء حقه، ولا يمكنهم استيفاء حقوقهم دون حضور الغائب، فلذلك لم يقتص حتى يحضروا جميعًا. [مسألة:] قال: (فإن قتل رجل له وليان: كبير وصغير، فللكبير أن يقتص قبل أن

يكبر الصغير في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يقتص حتى يكبر الصغير فيقتصا جميعًا). وجه قول أبي حنيفة: أن الحسن بن علي رضي الله عنهما اقتص من ابن ملجم قاتل علي رضي الله عنه، وله ورثة صغار غيره، وذلك بحضرة الصحابة من غير نكير من أحدهم عليه، فصار إجماعًا من السلف. فإن قال قائل: إنما اقتص؛ لأنه كان إمامًا، أو لأنه كان وصي علي رضي الله عنهما. قيل له: عند مخالفنا: إن الإمام والوصي لا يقتص للصغير في النفس، فعلم أنه لم يقتص من حيث هو إمام، وإنما اقتص من جهة أن الصغير

ممن يولى عليه، والنفس لا تتبعض في الإتلاف. وأيضًا من جهة النظر: إن الصغير لما كان ممن يولى عليه، وكانت النفس لا تتبعض في الإطلاق، صار الكبير مستحقًا للقصاص من حيث لم يتبعض القصاص، وكان الصغير ممن يولى عليه، فصار وليًا عليه في استيفاء القصاص، ألا ترى أن النكاح لما لم يتبعض، كان لأحد الوليين تزويج الصغير بحق الولاية، ولأن هذا مما لا يتبعض، وليس كذلك الكبير الغائب، لأن الغائب لا يستحق الولاية عليه لغيبته، والصغير تستحق عليه الولاية لصغره. مسألة: [عفو بعض الورثة عن القصاص] قال: (ومن عفا من ورثة المقتول عن القصاص، من رجل أو امرأة: بطل القصاص، وكان للآخرين حصتهم من الدية). وذلك لأن الدم موروث عن الميت كسائر ماله، والدليل عليه قول الله تعالى: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم}، والدم مما ترك الميت؛ لأن الميت قد يترك ما هو مال، ويترك أيضًا حقًا ليس بمال. فإن قيل: قال الله تعالى: {ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا}، والمرأة ليست بولي، فلا ترث الدم.

قيل له: بل هي ولي للدم ولغيره، قال الله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض}، ولم يفرق بين الرجال والنساء، ألا ترى أنه لو قتل عبد لها: كان لها أن تقتل القاتل، ولو قطعت امرأة يدها: كان لها أن تقتص، فعلمنا أن الولاية في القصاص لا يختص بها الذكور دون الإناث. فإذا كان لها نصيب من الدم: جاز عفوها، وسقط القصاص، لتعذر استيفائه للباقين، إذ لا يمكنهم استيفاؤه في بعض النفس، وانتقل حقهم إلى الدية، كالعمد إذا دخلت فيه شبهة، فتجب الدية. وهو معنى قول الله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}، يعني والله أعلم: إن عفا بعض أولياء الدم. وقد روي فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الحسن بن يسار الخياط قال: حدثنا داود بن أبي سيد قال: حدثنا الوليد عن الأوزاعي أن حصينًا حدثه أنه سمع أبا سلمة بن عبد الرحمن يخبر عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول، وإن كانت امرأة". قال الوليد: وتفسير هذا: أن لكل ذي سهم عفوًا.

مسألة: [حكم السراية في الجنايات بعد العفو] قال: (ومن قطع يد رجل عمدًا، فعفا له عن اليد، ثم مات منها فعليه الدية في قول أبي حنيفة). لأنا قد بينا أنه قد عفا عما ليس بحقه؛ لأن حكم الجناية يتعلق بما تؤول إليه، فإذا آلت إلى النفس، علمنا أن حقه كان النفس، فعفا هو عن غير حقه. * (وقال أبو يوسف ومحمد: لما عفا عن اليد: سقط ضمان اليد، فلم يضمن السراية). ألا ترى أنه لو أمره بقطع يده ابتداء، فقطعها: لم يضمن ما تولد عنها من السراية؛ لأن اليد لم تكن مضمونة، فكذلك ما تولد منها. ولأبي حنيفة: أنه إذا أمره بقطعها ابتداء: لم تكن اليد مضمونة قط، فلم يضمن السراية، كمن قطع يد حربي أو مرتد، وفي مسألتنا قد كانت اليد مضمونة، ثم اختلفا في سقوط الضمان بعفوه عن اليد، فلم يسقط الضمان، لأنه عفا عن غير حقه، فلم يسقط ضمان السراية، وكان القياس أن يجب القصاص في النفس، إلا أنه أسقطه للشبهة، وأوجب الدية. مسألة: [حكم العفو عن الجناية وما يحدث منها] قال: (ولو عفا عن اليد وما يحدث منها، أو عن الجناية، ثم مات المقطوع: لم يكن على القاطع شيء في قولهم جميعًا).

وذلك لأنه لأنه أبرأ من النفس، وتصح براءته، لوجود سبب الإتلاف، كما يجوز تعجيل الزكاة لوجود سبب الإيجاب، وهو النصاب، وكما جاز تعجيل الأجرة لوجود العقد الذي هو سبب لاستحقاقها عند استيفاء المنافع. وإنما كان عفوه عن الجناية عفوًا عن النفس، من قبل أن الجناية اسم لليد ولما يحدث منها بالقطع، فإذا مات منه: كانت الجناية هي النفس، فصحت البراءة منها. مسألة: [الصلح في الجنايات] قال: (وإذا صالحه عن قطع اليد عمدًا وما يحدث منها، على قليل أو كثير: جاز وإن كان صاحب فراش، فإذا مات أو بريء: فالصلح ماض؛ لأن الدم ليس بمال). والدليل عليه: أنه يستوفى من رقبة الحر، وليست بالمال. ويدل عليه أيضًا: أن الموصى له لا يثبت له فيه حق، ولا يثبت فيه حق الغرماء. ولو كان مالًا، لثبت حق هؤلاء فيه، وإذا لم يكن مالًا، فأخرجه: جازت براءته في المرض من جمع المال، ألا ترى أن البضع لما لم يكن مالًا، فأخرجه عن ملكه بالطلاق في المرض، لم يتقوم عليها، وكان من جميع المال، فجازت براءته، وإذا صح أنه ليس بمال: جاز ما أخذ عنه

من بدل قليل أو كثير، كما جاز له اسقاطه بغير بدل. مسألة: [موت المقتص منه بقطع يد بعد إيفاء القصاص] قال: (ومن قطع يد رجل عمدًا، فاقتص له منه الإمام، ثم مات المقتص منه من القصاص، فإن أبا حنيفة قال: دية نفس المقتص منه على المقتص له. وقال أبو يوسف ومحمد: لا شيء عليه). قال أبو بكر أيده الله: قد روي فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أبو زرعة في كتابه عن إبراهيم بن موسى الرازي قال: حدثنا أبو ثور عن معمر عن عمرو بن شعيب يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استقاد من آخر، ثم مات المستقاد منه، غرم المستقاد ديته). فإن ثبت هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم سقط معه قول

كل قائل. وأيضًا لأبي حنيفة: أن الجنايات معتبرة بما يؤول إليه، ويسقط معها حكم الابتداء، ألا ترى أنه لو قطع يده من نصف الساعد، فمات: كان عليه القصاص من النفس، وصار قاتلًا، وبطل حكم الجراحة، فلما تناول المقتص له اليد على أنها حقه، ثم سرت إلى النفس: علمنا أنه تناول غير حقه، فلزمه ضمانه. ولا يشبه هذا الرجل يأذن للرجل في قطع يده، فيقطعها، ثم يموت المقطوع، فلا ضمان على القاطع؛ لأن هذه الجناية لما كانت بأمره، كان كأنه هو الفاعل لها، فلا يتعلق ضمان سرايتها عل القاطع. ولا يشبه أيضًا القطع في السرقة؛ لأن القطع هناك يقع للسارق، ولأنه ردع له، وزجر عن العود إلى مثله بقوله تعالى: {جزاء بما كسبا}، فأشبه الإذن في قطع اليد. فإن قيل: فهل يختلف عندكم حكم ضمان النفس في إذن المقتص منه في القطع، أو عدم إذنه. قيل له: لا يختلف؛ لأنه لم يستحق القصاص من جهة إذنه، ووجود إذنه وعدمه فيه سواء. وكذلك كان يحكي أبو الحسن رحمه الله. ودليل آخر: وهو أن المقتص له، أخذ اليد على وجه البدل عن يده، وفي الأصول: أن الأشياء المأخوذة على وجه الأبدال، تكون مضمونة

على أخذها، كالمقبوض على وجه البيع والقرض ونحوهما. وإذا كانت اليد مضمونة على المقتص له، وجب أن يضمن ما تولد منها من السراية، كما أن قاطع يد غيره بغير حق، لما أخذها مضمونة، ضمن ما سرى إليه القطع. وأيضًا: فكل ما تناولها، وجب أن يكون ما سرت إليه اليد مضمونًا، ألا ترى أن من ضرب امرأته للتأديب، كان ما تولد منه مضمونًا عليه وإن كان الضرب مباحًا؛ لأنه تناول ذلك لنفسه. ووجه قولهما: أنه قطعها، وله القطع، فلا يضمن ما تولد منه، إذ لم يكن متعديًا فيه. مسألة: قال: (ومن قتل رجلًا عمدًا، وللمقتول ولي، فقطع الولي يد القاتل، ثم عفا عنه: فعلى الولي دية يده في ماله في قول أبي حنيفة). وذلك لأنه قد استوفى حقه بالعفو؛ لأن حقه كان النفس لا غير، فحصلت اليد مقطوعة بغير حق، ولها قيمة مع العفو، فإذا أتلف ماله قيمة من جهة التعدي: ضمن. وأما إذا قطع اليد، ثم قتله: فلا شيء عليه؛ لأن اليد لا قيمة لها مع إتلاف النفس بالقصاص، فإذا أتلف ما لا قيمة له: لم يضمن، وإن تعدى فيه، ألا ترى أنه لو قطع يد مرتد: كان مسيئًا، ولا يضمنها مع ذلك.

* (وقال أبو يوسف ومحمد: لا ضمان عليه). لأنه قد كان مستحقًا لإتلاف النفس، فتتلف به اليد، فلما استحق إتلاف اليد بوجه، لم يضمنها، وصار كمن أخذ بعض حقه، وعفا عن الباقي. ولأبي حنيفة: أن إتلاف اليد ليس بحق له بوجه، وله قيمة مع العفو، فيضمنها. ومعنى آخر لأبي حنيفة: وهو أنه لا يخلو من أن يكون عافيًا عن بعض حقه، أو عن جميعه، فإن كان عافيًا عن جميعه: صارت اليد مضمونة، لأنه أخذها مع سقوط حقه، وإن كان عافيًا عن بعض حقه: فالعفو عن بعض الدم عفو عن الجميع، فتحصل اليد مضمونة أيضًا.

باب الديات في الأنفس وما دونها

باب الديات في الأنفس وما دونها مسألة: [دية المسلمين وأهل الذمة] قال أبو جعفر: (وديات المسلمين، وديات أهل الذمة سواء). قال أبو بكر أيده الله: وذلك أن لفظ الدية لما كانت مجملا في كتابه،

وهو قوله تعالي:} ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبةٍ مؤمنه ودية مسلمة إلى أهله {، وقال:} وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله {، وكان مفتقرًا إلى البيان، إذ لم يكن في ظاهر اللفظ دلالة على مقدارٍ بعينه دون غيره. ثم روى الحكم عن مقسم عن ابن عباس "أن عمرو بن أمية الضمري قتل رجلين من المشركين لهما أمانٌ، ولم يعلم بذلك، فوداهما رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى قومهما دية الحرين المسلمين". فكان فعله ذلك عليه الصلاة والسلام واردًا مورد البيان، فكان على الوجوب؛ لأن فعل النبي عليه الصلاة والسلام إذا ورد على وجه البيان: فهو على الوجوب. فإن قيل: فيجب على هذا الأصل أن يكون إعطاء النبي صلي الله عليه وسلم الدية من عنده على الوجوب أيضًا، لوروده مورد البيان، فيوجب ذلك أن تكون دية الكافر على الإمام، أو في بيت المال. قيل له: لولا قيام الدلالة لوجب ذلك، ولكن الدلالة قد قامت على أن النبي صلي الله عليه وسلم كان متبرعًا في أدائها عن القاتل. وأيضًا: في كتاب عمرو بن حزم: أن النبي صلي الله عليه وسلم قال:

"وفي النفس مائة من الإبل". وهو عام في المسلم والكافر؛ لأنه لم يفرق بينهما. وأيضًا: روى إبراهيم بن سعد عن الزهري قال: "كان أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم يجعلون دية اليهودي والنصراني إذا كانا معاهدين مثل دية المسلم". وروى سعيد بن أبي أيوب قال: حدثنا يزيد بن أبي حبيب أن جعفر بن عبد الله بن الحكم أخبره "أن رفاعة بن الموأل اليهودي قُتل بالشام، فجعل عمر ديته ألف دينار". وقال الزهري: كانت دية المسلم والمعاهد على عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان واحدًا، حتى جاء معاوية، فجعل لهم النصف، والنصف على بيت المال. ومن جهة النظر: إنه لما كان المسلم والذمي متساويين في وجوب القصاص، وتقويم الدية، وجب أن يتساويا في المقدار. ولا يلزم عليه العبد؛ لأنه غير مقدر القيمة، ولا المرأة، لأنه لا قصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس. فإن قيل: روى سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن

جده أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "عقل أهل الكتاب على النصف من عقل المسلمين". ورواه محمد بن إسحاق عن عمرو بإسناده، وقال فيه: "دية الكافر نصف دية المسلم". قيل له: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرسل، فكيف يحتجون به في إثبات مقدار الدية؟ وأيضًا: قد روى: "أنه قضى في الكافر بثلث دية المسلم". فتعارض كل واحد منهما من هذين الخبرين، فيسقطان، ويبقي لنا ما قدمناه من الدلائل. فإن احتجوا بما روى عبد الله بن صالح قال: حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "دية المجوسي ثمانمائة". قيل له: هذا حديث ساقط، لا يُحتج بمثله؛ لأن عبد الله بن لهيعة ضعيف، لاسيما من رواية عبد الله بن صالح عنه.

ولو ثبت: احتمل أن يكون المراد عبدًا مجوسيًا قتل، وكان قيمته ثمانمائة، فأوجبها النبي صلي الله عليه ولسم، فنقل الراوي الحكم دون السبب، ويكون قوله: "دية المجوسي ثمانمائة": إشارة إلى عينٍ وتعريف لها، كما قال عليه الصلاة والسلام: "أفطر الحاجم والمحجوم"، وكقوله: ولد الزنى شر الثلاثة". وكذلك ما روي في أن "دية الكافر على النصف من دية المسلم، أو الثلث من ديته": فهو محمول على ذلك لو ثبت الخبر. فإن قيل: لما نقصت دية المرأة عن دية الرجل، لأجل نقصان دينها، لقول النبي صلي الله عليه وسلم: "ما رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لعقول ذوي العقول منكن"، وكان نقصان الدين موجودًا في الكافر، وجب أن تنقص ديته. قيل له: فينبغي أن لا يكون له دية بتة؛ لأنه لا دين له رأسًا، ولأنه جعل نقصان دين المرأة من جهة تركها الصلاة في حال الحيض، لأنه لما قيل له: "ما نقصان دينهنٍ؟ قال: تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي، ونقصان عقلها: أن شهادة امرأتين شهادة رجل".

والذمي لا يصح منه وقوع الصلاة، ولا شهادة له، فواجب على هذا أن لا تكون له دية رأسًا. مسألة: [دية المرأة في النفس وما دونها] قال: (ودية المرأة على النصف من دية الرجل في النفس وما دونها). وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال أبو بكر: أما النفس وما فوق الثلث فيما دون النفس، فلا خلاف فيه بين الفقهاء. وقال أهل المدينة: عقلها مثل عقل الرجل في الثلث وما دونه، فإذا زاد على الثلث، كان على النصف من عقل الرجل. وحُكي "عن ربيعة الرأي أنه سأل سعيد بن المسيب: عمن قطع أصبع امرأة؟ فقال: فيها عشر من الإبل، قال: فأصبعين؟ قال: عشرون، قال: فثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون من الإبل، قال: فأربعًا؟ قال: عشرون من الإبل. قال: فقلت: لما كثرت جروحها، وعظمت مصيبتها: نقص أرشها؟ فقال: أعراقي أنت! هكذا السنة". والحجة لقولنا: اتفاق الجميع فيما جاوز الثلث أنه على النصف من

دية الرجل، فوجب أن يكون كذلك الثلث، إذ ليس للثلث اختصاص في التقويم ليس لغيره، ألا ترى أن سائر المتلفات يستوي فيها حكم الثلث وما فوقه، في أنه بمقدار من الكل، فكذلك ما دونه. وأيضًا: لما أدت مقالتهم إلى نقصان الأرش مع زيادة الجرح، كان ذلك خلاف الأصول، وما عدم فيه التوقيف، ونفاه الأصول: فهو ساقط. فإن قال قائل: هذا كما تقولون فيمن شج رجلاً موضحة، فيكون فيها خمسمائة درهم، فإن شجه موضحة أخرى بالقرب منها: كان فيها خمسمائة أخرى، فإن شجة أخرى بينهما، حتى اتصلت الأولي بالثانية: كانت كلها بمنزلة الموضحة الواحدة: كان فيها خمسمائة، فقد نقص الأرش مع زيادة الجرح. قيل له: هذا غلط علينا، لأن من قولنا: الأرش الأول قائم لكل واحدة منها، واتصال الأولي بالثانية لا يُسقط من الأرش. مسألة: [ما تحمله العاقلة من دية الرجل والمرأة] قال أبو جعفر: (والذي تحمله العاقلة من دية الرجل والمرأة نصف عشرها فصاعدًا). وذلك لما بينا فيما تقدم. والأصل فيما ذكر من الأعضاء: أن كل عضو في البدن منه واحد: ففيه جميع الدية، نحو الأنف، والذكر، واللحية، وشعر الرأس. وكل شيء في البدن منه اثنان: ففيهما جميع الدية، وفي أحدهما

نصف الدية، نحو اليدين، والرجلين، والأثنيين، والأذنين. وكل ما كان في البدن منه أربعة: ففي جميعه الدية، وفي كل واحد: ربعٌ الدية، نحو أشفار العينين. وفي حديث الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "في الأنف إذا أوعب جدعه: الدية، وفي العينين: الدية، وفي الشفتين: الدية، وفي اللسان: الدية، وفي السن: خمس من الإبل، وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل: عشر من الإبل، وفي البيضتين: الدية". وروي شعبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "هذه وهذه سواء، وقال بخنصره وإبهامه". وروي سعد عن غالب التمار عن مسروق بن أوس عن أبي موسي الأشعري قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "الأصابع سواء". وروي أشعث عن الزهري قال: "قضى رسول الله صلي الله عليه وسلم في الذكر إذا استؤصل، أو قطعت حتفته الدية". "وقضى النبي صلي الله عليه وسلم في الصلب بالدية".

مسألة: [دية قطع الذكر والأنثيين] قال أبو جعفر: (وإذا قطع الذكر، ثم الأنثيين طولا أو عرضًا، ففيهما ديتان، ولو قطعت الأنثيان أولا، ثم الذكر: كان فيه دية وحكومة). قال أبو بكر: أما إذا بدأ بالذكر، فقد وجبت الدية في الذكر، ولم يتغير حال الأنثيين بقطع الذكر، فإذا قطعهما: وجبت دية أخرى. وإذا بدأ بقطع الأنثيين: فقد وجبت الدية في الأنثيين، وزالت منفعة الذكر، لأن نفعه بالأنثيين؛ لأن نسل الإنسان يكون بهما، فصار كاليد الشلاء، فوجبت فيه حكومة. فصل: [دية مفاصل الأصابع] قال: (وفي كل مفصل من مفاصل الأصابع قسطه من دية الأصبع، فإذا كان له مفصلان، مثل الإبهام: ففيه نصف دية الأصبع، وإن كانت ثلاثة مفاصل: ففيها ثلث دية الأصبع، كما أن في كل أصبع من أصابع اليد خمس دية اليد، ولم يختلف فيها حكم الإبهام وغيرها، كذلك يجب أن لا يختلف حكم المفاصل). مسألة: [دية قلع الأسنان] "من ضرب رجلاً ضربة، فألقى أسنانه كلها: فعليه دية وثلاثة أخماس دية، وذلك لأن في كل سن نصف عشر الدية، والأسنان اثنان وثلاثون، فيكون فيها ستة عشر ألفًا، وهي دية وثلاثة أخماس دية، على الجاني من

ذلك في السنة الأولي ثلثا الدية). وذلك لأن الدية كلها تجب في ثلاث سنين، في كل سنة الثلث وثلاثة أخماس الدية، وهي ستة آلاف في سنتين، في السنة الأولي منها ثلث الدية، والباقي في السنة الثانية، فكذلك لزم الجاني في السنة الأولي ثلثا الدية في ذلك من العشرة آلاف، التي هي كمال الدية، وثلث الدية من الستة آلاف، وعليه في السنة الثانية من الدية ثلث الدية وما بقي من ثلاثة أخماس الدية، وعليه في السنة الثالث ثلث الدية، وهو ما بقي عليه. مسألة: [دية ثدي المرأة] قال: (وفي ثديي المرأة الدية، وفي أحدهما نصف الدية). وذلك لأن لثدييها منفعة الرضاع واللبن، فكان كاليدين والرجلين والأنثيين ونحوهما. * (وفي حلمتي ثدييها الدية، وفي إحداهما نصف الدية). لأن منفعة الثدي في الحلمتين، كمنفعة الذكر في الحشفة، ومنفعة اليدين في الأصابع. مسألة: [دية قطع ثدي الرجل] قال: (وفي ثديي الرجل حكومة عدل).

وذلك لأنه لا نفع فيهما من جهة الرضاع ونحوه، ففارق ثديه ثدي المرأة، وصار كقطعة لحم قطعها من جسده، ففيها حكومة عدل. مسألة: [دية قطع اليد فيها أصبع أو أصبعان] قال: (ومن قطعت يده، وليس فيها إلا أصبع أو أصبعان: ففيها دية ما فيها من الأصابع، ولا شيء في الكف في قول أبي حنيفة). وذلك لأن الأصبع مقدرة في نفسها، والكف غير مقدرة، وهي متصلة بالأصبع، فوجب أن تكون تابعة لها، كما كانت تابعة للأصابع كلها. وليس بقاء الأصبع مثل بقاء المفصل الواحد مع الكف، في أنها لا تتبعه، من قبل أن المفصل غير مقدر بنفسه، وإنما هو مقدر بغيره، وهو الأصبع، ألا ترى أن الأصبع التي فيها مفصلان: ففي أحدهما نصف دية الأصبع، وإن كان فيها ثلاث مفاصل: ففيه ثلث دية الأصبع، فعلمت أ، هـ مقدر بغيره، فلذلك لم تتبعه الكف، وأما الأصبع، فليست تابعة لغيرها، فتتبعها الكف. ولا يلزم على ما قلنا أيضًا، أن تكون الذراع تابعة لليد، وذلك من قبل أن الذراع غير متصلة بعضو مقدر؛ لأنها متصلة بالكف، فأرش الكف غير مقدر، والمقدر هو الأصابع، فلما كان بينهما وبين المقدر عضو غيرها، وهو الكف، لم يجز أن تكون تابعة لغيرها؛ لأنها لو كانت تابعة

لتبعت الكف دون الأصابع، والكف غير مقدرة، فلا تتبعها الذراع. * (وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: ينظر إلى أرش الكف، وغلى أرش ما بقي من الأصبع أو الأصبعين، فيدخل القليل في الكثير). وذلك لأن الكف لا تكون تابعة للأصبع إذا كان أرشها أكثر من أرش الأصبع؛ لأن الأكثر لا تتبع الأقل في أحكام الجنايات. * (فإن كان فيها ثلاث أصابع: فالكف تابعةٌ للأصابع في قولهم جميعًا). لأنه معلوم أن الكف لا يكون أكثر أرشًا من ثلاث أصابع، إذ كان الأرش إنما يقل ويكثر على حسب منافع العضو، ومعلوم أن منفعة ثلاث أصابع أكثر من منفعة الكف. مسألة: [دية قتل العبد خطأ] قال: (وإذا قتل الحر عبدًا خطأ: فعليه قيمته على عاقلته في ثلاث سنين، وينقص من الدية عشرة دراهم). وقد بينا ذلك فيما تقدم. * (وقال أبو يوسف: قيمته على العاقلة بالغةً ما بلغت). فأوجب كمال القيمة وألزمها العاقلة؛ لأنها قيمة النفس، وقيم النفوس مختلفة، واختلافها لا يُخرجها من أن تكون بدلاً للنفس، كالجنين ديته

خمسمائة، والمرأة ديتها خمسة آلاف، فلم يكن النقصان ما يسلبه حكم أبدال النفوس في لزومها العاقلة، كذلك زيادتها لا تخرجها من حكم أبدال النفوس، وإلزامها العاقلة. (قال: وروي أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أن عليه قيمته في ماله بالغة ما بلغت، ولا تحملها العاقلة). وذلك لأنه إذا ضمنه من طريق المال حين جاوز بها الدية، صار بمنزلة استهلاك الدواب وسائر الحيوان، والثياب ونحوها، ولا تحمله العاقلة. * قال: (وما جني على العبد فيما دون النفس: لا تحمله العاقلة في قولهم جميعًا). وذلك لأن ضمانه ضمان الأموال، ألا ترى أنه لا يجب فيها قصاص، ولا كفارة بحال، وكان كاستهلاك سائر الأموال يلزمه في ماله. مسألة: [دية الجنين] قال: (ومن ضرب بطن امرأةٍ، فألقت جنينًا ميتًا، ففيه غرة: عبد أو أمة). قال أبو بكر أيده الله: روى وجوب الغرة في الجنين عن النبي صلي الله عليه

عليه وسلم جابر بن عبد الله والمغيرة بن شعبة، وأبو هريرة، وحمل بن مالك بن النابغة. وهو اتفاق من الأمة واتفقوا أيضًا أنها نصف عشر الدية، إلا أنهم اختلفوا في قيمتها من الدراهم، فمن جعل الدية عشرة آلاف، جعل قيمة الغرة خمسمائة، ومن جعلها اثني عشرة ألفًا، جعل قيمتها ستمائة درهم. وهي على العاقلة في سنة. وأما كونها على العاقلة، فقد روي عن النبي صلي الله عليه وسلم. وأما كونها في سنة: فهو اتفاق من الفقهاء. مسألة: [دية الجنين إذا خرج حيًا، ثم مات] قال: (وإن خرج حيًا ثم مات: كانت فيه الدية كاملة، وذلك كله على العاقلة، وكان على القاتل كفارة في هذا الوجه، ولا كفارة عليه في الوجه الأول). وإنما وجبت الدية كاملة إذا خرج حيًا؛ لأنه قد أتلف نفسًا كاملة، فوجب فيها ما يجب في سائر نفوس الأحرار الأحياء. ووجبت فيه الكفارة؛ لأنه قد باشره بالقتل، لأن الضربة قد لحقته،

وأثرت فيه، فمن أجلها سقط. وليس بمنزلة حافر البئر في سقوط الكفارة عنه، من قبل أنه لم يباشر القتل، وإنما فعل السبب من غير مباشرة. * قال: (وإن خرج ميتًا: فلا كفارة فيه). من قبل أن الكفارة في الأصل إنما وجبت في النفس الكاملة، ولم يحكم له بحكم النفس الكاملة في باب إيجاب الدية، فلم يجز إيجاب الكفارة فيه، كما لم يجب في الأعضاء. وأيضًا: لما كان موضوع الكفارة في الأصل في النفس التامة، ولم تكن هذه نفسًا تامة: لم يجز إيجابها فيها، إذ غير جائز إثبات الكفارة بالقياس. مسألة: [توريث الغرة] قال: (والغرة موروثة عن الجنين على فرائض الله عز وجل). وذلك لما في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن المرأة التي ضربت: ألفت جنينًا ميتًا، ثم ماتت، "فقضى رسول الله صلي الله عليه وسلم عاقلتها بالدية، وفي الجنين بغرة". فأفردها عن حكم الأم في باب إيجاب الغرة منه، مع وجوب دية الأم، فثبت أن حكمه في باب البدل حكم النفس، فوجب أن يكون

لورثته، ولو كان محكومًا له بحكم الأعضاء، لدخلت الغرة في الدية، كما لو قطع يدها، ثم ماتت من القطع، دخلت دية اليد في النفس. ويدل على ذلك: أن النبي صلي الله عليه وسلم لما أوجب في الجنين الغرة، قال حمل بن مالك بن النابغة: "كيف ندي من لا أكل ولا شرب ولا صاح، واستهل؟! فمثل ذلك يطل". فقال النبي صلي الله عليه وسلم: "أسجع كسجع الأعراب، فيه غرة: عبد أو أمة". فلم ينكر النبي عليه الصلاة والسلام قول حمل بن مالك، أن ذلك دية الجنين، ولم يقل: إن ذلك وجب بجنايته على المرأة. فثبت أن الغرة واجبةٌ بجنايته على الجنين، دونها، وأنه بمنزلة نفس مباينة لها في حكم الغرة. وأيضًا: فقد اتفقوا على أنه لو خرج حيًا، ثم مات: كانت ديته لورثته، كذلك إذا خرج ميتًا. فإن قيل: إذا خرج حيًا، صار حكمه حكم النفس الكاملة في باب وجوب الدية، وإذا خرج ميتًا، لم تجب فيه الدية، فدل على أن حكمه حكم أمه، كعضو من أعضائها، فينبغي أن تكون الغرة للأم.

قيل له: ما كان بمنزلة عضوها، لا يتغير حكمه بالانفصال، لأن أعضاءها لا يجوز أن تصير في حكم النفس بالانفصال والمباينة. وأيضًا مخالفة الجنين بغرة في نقصان الدية، لا تخرجه من حكم النفس؛ لأن الأنفس مختلفة الديات، كالمرأة والرجل، والعبد والحر، وعند مخالفنا الكافر والمسلم، فلم يخرجهم من حكم النفوس اختلاف مقادير ديانهم. فإن قيل: فأوجب فيه الكفارة، إذ كان في حكم النفس. قيل له: ليست علة وجوب الميراث وجوب الكفارة؛ لأنه قد يورث عنه بدل نفسه من لا تجب عليه الكفارة، مثل من يقتله صبي، أو يقع في بئر حفرها في الطريق. فلا يجوز أن يكون وجوب الميراث في بدل النفس علة لوجوب الكفارة، وإنما الكفارة لها شرط آخر، وهو أن يكون المقتول على حال يصح وصفه معها بالإيمان أو الكفر، إما عن طريق الحكم، أو من جهة الحقيقة، لقول الله تعالي:} ومن قتل مؤمنًا خطئا فتحرير رقبةٍ ... {قال:} وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله. وتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ {، فأوجب الكفارة على قاتل المؤمن والكافر، وليست هذه صفة الجنين.

مسألة: [خروج الجنين ميتًا بعد موت الأم] قال: (ولو قتلت امرأة، ثم خرج من بطنها جنين ميت: فلا شيء في جنينها). وذلك لأنه غير معلوم حدوث موت الجنين من الضربة، وجائز أن يكون مات بموت الأم، لا بالضربة. وأيضًا: فإنها ماتت، وهو بمنزلة عضو منها، ثم باينها، فلا يجب فيه شيء. *قال: (وإن خرج قبل موتها، ثم ماتت: كان فيه غرة). لأنه قد انفصل منها في الحياة، ووجبت فيه الغرة، فلا يتغير حكمه بعد ذلك بموت الأم؛ لأنها ماتت وهو منفصل منها. [مسألة:] قال: (والغرة في الذكر والأنثى سواء). وذلك لأن النبي صلي الله عليه وسلم لم يسأل عن الجنين: أذكر أم أنثى؟ فأوجب فيه الغرة، فدل أنهما سواء فيهما. وأيضًا: هو اتفاق من الأمة. مسألة: [دية جنين غير المسلمة] قال: (وجنين الكافرة كجنين المسلمة).

لأنهما لا يختلفان في بدل النفس وما دونها عندنا. مسألة: [دية جنين الأمة من مولاها] قال: (في جنين الأمة من مولاها كما في جنين الحرة). لأن الجنين حر، وهذا اتفاق من الفقهاء، وهذا يدل على أن الجنين ليس بمنزلة عضو من أعضائها إذا باينها وهي حية؛ لأنه لو كان كذلك، لما كان فيه غرة، لأنه لا يجوز أن يكون عضو من أعضائها حرًا، وسائرها أمة. مسألة: [دية جنين الأمة من غير مولاها] قال: (وفي جنين الأمة من غير مولاها إذا خرج حيًا، ثم مات: قيمته، وإن خرج ميتًا: فإن كان ذكرًا ففيه نصف عشر قيمته لو كان حيًا، وإن كان أنثى: ففيها عشر قيمتها لو كانت حية). وذلك لأن الغرة من دية الرجل: نصف عشرها، ومن دية المرأة: عشرها، وكذلك جنين الأمة يجب أن يكون هذا اعتباره، فينقص من قيمة الأنثى تسعة أعشارها، ومن قيمة الذكر تسعة أعشار ونصف، كما نقصنا من دية الحر الذكر تسعة أعشار ونصفًا، ومن دية الأنثى تسعة أعشار. ومن الدليل على سقوط اعتباره بقيمة الأم: أن الجنين لو كان من مولى الأمة، لكان فيه الغرة، ولم يعتبر بالأم، كذلك إذا كان رقيقًا، الواجب اعتباره بنفسه، دون أمه. وأيضًا: لما كانت هذه جناية على الجنين، ولم تكن جناية على الأم.

وجب اعتبار أرشه بنفسه دون أمه. * قال: (وروي أصحاب الإملاء عن أبي يوسف رحمه الله: أن في جنين الأمة: ما نقص أمه، كجنين البهيمة). وذلك لأنه مال، وهو مستمر على أصله، لأنه يوجب في الرقيق القيمة وإن جاوزت الدية بالغًة ما بلغت. مسألة: [الجناية على الجنين] (وكل جناية جنيت على مولود: من فقء عين، أو قطع عضو: ففيه حكومة حتى تعلم سلامته). وذلك لأنا لما لم نعلم صحة العضو، لم نحكم فيه بكمال الأرش إلا بيقين. وأيضًا: فإن الأصل أنه غير سليم الأعضاء، حتى تعلم سلامتها، لأن الأصل: النطفة، والمضغة، والعلقة، أو نحو ذلك، فلما لم تعلم صحة العضو، فهو على الأصل. مسألة: [ذهاب البصر ونحوه بالجناية] قال: (وفي ذهاب البصر بالضربة، وسواد العين، وشلل اليد: الدية كاملة). وذلك لما وصفنا من أن جهة النفع معتبرة على الانفراد وإن لم يذهب

به الجمال، ألا ترى أن العقل أو السمع إذا فقدا بالضربة: وجب في كل واحدة منهما الدية. * قال: (وأرش ذلك في ماله إذا كان عمدًا). وذلك لأنه عمد سقط القصاص فيه، لتعذر استيفائه. مسألة: [الجناية على السن] قال: (ومن ضرب سن رجل، فتحركت: استؤني فيها حولا). قال أبو بكر أيده الله: وقد روي ذلك عن جماعة من السلف. ويدل عليه ما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه "نهي أن يتقاد من الجراح حتى تبرأ". * قال: (فإن استوت وعادت كما كانت، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه قال: لا شيء فيها). وذلك لأن الأرش إما يجب للأثر، ولا أثر هناك، ألا ترى أن من لطم رجلاً: لم يجب عليه أرش؛ لأنه لم يؤثر فيه، ولا يجب عليه للألم أرش. قال: (وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله: أن فيها حكومة للألم). * قال: (وإن سقطت، أو اسودت: كان فيها ديتها). قال أبو بكر: أما إذا سقطت: فلتلف العضو، وإذا اسودت: فلذهاب

الجمال، وقد بينا أن الجمال معتبر في الأحرار على حياله. مسألة: [اختلاف الضارب والمضروب في الجناية] قال: (فإن اختلف الضارب والمضروب وقد سقطت، أو اسودت، فقال الضارب: حدث من غير جنايتي، وقال المضروب: من جنايتك، فالقول في ذلك قول المضروب استحسانًا، والقياس أن القول قول الضارب. ولو اختلفا في الموضحة، وقد صارت منقلة على هذا الوجه: كان القول قول الشاج). قال أبو بكر: أما وجه القياس في السن: فهو أنه لما كان جائزًا أن يكون سقوطها من الضربة، وجائز أن يكون من غيرها: كان القياس أن لا يلزمه الضمان بالشك. ووجه الاستحسان: أن الضربة سبب لإتلاف السن، فصارت كالجراحة في كونها سببًا لتلف النفس، فلو جرحه فلم يزل صاحب فراش، حتى مات، حكمنا بحدوث الموت عن الجراحة، كذلك يجب أن يحكم بحدوث السقوط والسواد في السن عن الضربة، لكونها سببًا لذلك. وليس كذلك الشجة الموضحة إذا صارت منقلة، لأن المنقلة ليست هي نفس الموضحة، وإنما هي ذهاب عضو آخر غير المشجوج، فالقول قول الشاج في أنه لم يتلف هذا العضو، والضربة تلفت بها نفس السن المضروبة الحادث فيها الجناية، كما تلفت بالجراحة النفس الحادثة فيها الجراحة.

ووجه آخر: وهو أنه لما قيل في السن يستأني بها حولا، فجعل الحول نهاية لحصول حكم الضربة، علمنا أن حكمها متعلق بما يوجد في آخر الحول من أمر الضربة، لولا ذلك لم يكن للاستيناء بها معني، وأما الشجة فلم يقدر في انتظارها وقت، فيحصل فيه حكم الضربة، فكان القول قول الشاج في مقدار ما تناوله. فإن قيل: هلا جعلت القول قول المشجوج، كما لو لم يزل مريضًا صاحب فراش حتى مات، كان محكومًا بحدوث الموت عن الجراحة. قيل له: لا فصل بينهما من هذه الجهة؛ لأنه لو علم في الموضحة أنه لم يزل مريضًا من الموضحة، حتى صارت منقلة: كان القول قول المشجوج. ونظير مسألتنا من المنقلة: أن تعلم الجراحة، ولا نعلم أنه كان مريضًا من ذلك، ثم مات المجروح: فالقول قول الجارح أنه لم يمت من جراحته. فإن قيل: فاعتبر ذلك في السن أيضًا. قيل له: المسألة في السن على أنها تحركت بالضربة، وكونها متحركة إلى أن سقطت أو اسودت، بمنزلة كون الرجل مريضًا من الجراحة حتى يموت. فإن قيل: فعلى هذا لا معنى لتخصيصه السن بالاستحسان، وترك القياس فيها، إذ كان الحكم في جميع ذلك على وجه واحد. قيل له: الاستحسان في السن أنه جعل تحركها بمنزلة المرض من الجراحة.

مسألة: [نبات السن بعد القلع] قال: (ومن قلع سن رجلٍ، فنبتت كما كانت: فلا شيء على القانع في قول أبي حنيفة ومحمد). وذلك لأن أرش الجنايات إنما يتعلق حكمها بحصول الأثر، والدليل عليه: أنه لو لطم رجلاً: لم يجب عليه أرش إذ لم يحصل بها أثر، وكذلك قالوا في الموضحة إذا التأمت، ونبت عليها الشعر: أنه لا شيء فيها، وكذلك السن إذا نبتت، فقد عاد النفع والجمال على ما كان، ولم يبق هناك أثر، فلم يجب شيء. * قال: (وروي عن أبي يوسف رحمه الله: أن عليه حكومة للألم). مسألة: [الجناية على الظفر] قال: (ومن قطع ظفر رجل، فنبت متغيرًا: ففيه حكومة عدل). وذلك لأنه نبت معيبًا، والعيب اليسير في العضو يوجب الحكومة، ولا يجب به أرش جميع العضو إذا لم يأت على عامة منفعته، أو يذهب بجماله. وليس تغير الظفر كتغير السن إلى السواد ونحوه، من قبل أن سواد السن يذهب بجمالها، وليس كذلك الظفر. [مسألة:] قال: (ومن قلع سن رجلٍ، فأخذها المقلوعة سنه، فأثبتها في

مكانها، فثبتت، وقد كان القلع خطأ: فعلى القالع أرشها كاملاً، وكذلك الأذن). قال: (وقد روى عن محمد أنه قال في ذلك: على الجاني مقدار أجر علاج مثل ذلك). قال أبو بكر: السن إذا أثبتت في مكانها: لم تثبت، ولم تتصل بالعروق والأعصاب، فهو بمنزلة لو أخذ قطعة عظم فوضعها في موضع السن، فلا يسقط أرشها، وكذلك الأذن. وما حكاه أبو جعفر عن محمد في وجوب نفقة العلاج، فإنما هذا ينبغي أن يكون في السن إذا ثبتت، والجراحة إذا اندملت وذهب أثرها، فأما في موضع السن المقلوعة في موضعها، فليس ينبغي أن يكون هذا جوابه؛ لأن وضعها هناك وتركها سواء. مسألة: [دية ذهاب شعر الرأس من الشجاج] قال أبو جعفر: (ومن شج رجلاً موضحًة خطأ، فذهب منها شعر رأسه: فعلى عاقلته الدية، ويدخل أرش الموضحة فيها، وإن ذهب بعض الشعر: نظر في أرشه وارش الموضحة، فيدخل القليل في الكثير). قال أبو بكر: وذلك لأن الرأس كله عضو واحد، والدية واجبة فيه لأجل التأثير، لا للألم، والدليل عليه: أن الموضحة لو اندملت، ونبت عليها الشعر حتى لم يبق لها أثر لم يجب فيها أرش، فلما صار الأثر في

جميع الرأس، وهو عضو واحد: دخل أرش الموضحة في الدية، لأنه قد ضمن أرش جميع الشعر. فما قد ضمن من تأثير الموضحة من وجه، لا يجوز أن يضمنه من وجه آخر، ألا ترى أن ضمانها جميعًا من جهة سقوط الشعر وحصول الأثر، ولا جائز أن يضمن ذلك الجزء مرتين، ولا يكون الشعر تبعًا للموضحة، كما كانت الكف تبعًا للأصبع عند أبي حنيفة؛ لأن الشعر مقدر الأرش، وأرش الكف غير مقدرة. مسألة: [تداخل الأرش في الدية] وقال أبو جعفر: (ولو لم يذهب الشعر منها، ولكن ذهب منها عقله: دخل أرشها في دية العقل). قال أبو بكر أيده الله: وذلك لأن العقل ليس بعضو من البدن، بل هو كالنفس، فلو أن الموضحة صارت نفسًا، لدخلت فيها، كذلك في العقل. * قال: (ولو ذهب منها السمع أو البصر: كان في كل واحد منهما الدية، ولم يدخل أرش الموضحة في ذلك). قال أبو بكر: وذلك لأنها أعضاء مختلف أرش كل واحد منها، فيجب بغير المعنى الذي يجب به أرش صاحبه. وليس كذلك الموضحة وشعر الرأس، لأن ضمانهما جميعًا وجب

بمعنى واحد، هو الأثر، وهو الشين اللاحق بذهاب الشعر، وليسا كالعقل، لأنهما عضوان كاليد والرجل ونحوهما، والعقل ليس بعضو من البدن، فهو كالنفس. ووجه آخر: وهو أنه لا ينتفع بسائر الأعضاء إلا مع وجود العقل، كما لا ينتفع بها إلا مع وجود النفس والروح، فأشبه العقل الروح من هذا الوجه، وكما دخل أرش الموضحة في دية النفس، فكذلك يدخل في العقل. ومما يبين لك الفصل بين شعر الرأس والسمع والبصر في دخول الموضحة في الشعر دونها: أن أرش الموضحة يتعلق بذهاب الجمال من الشعر، وكذلك ذهاب شعر الرأس، وضمان السمع والبصر لأجل المنفعة، فلا يدخل أحدهما في الآخر. فإن قيل: فضمان العقل لأجل المنفعة، وضمان الشعر لأجل الجمال، فيجب أن لا تدخل الموضحة في العقل. قيل له: إنما قلنا ذلك في أعضاء البدن، فأما ما ليس بعضو من البدن، فله أصل آخر وهو النفس، فرددناه إليها. قال أبو بكر: وفي أصل أبي حنيفة: أن أرش الموضحة لا يدخل إلا في شيئين: في شعر الرأس، وفي العقل، ولا يدخل في غيرهما، وهو قول محمد وإحدى الروايتين عن أبي يوسف. وروي عن أبي يوسف: أن أرش الموضحة يدخل في الشعر والعقل والسمع والكلام، ولا يدخل في البصر؛ لأنه ظاهر، والسمع والكلام والعقل ليست بظاهرة.

مسألة: [الدية في ذهاب قوة الشم وماء الظهر] قال أبو جعفر: (وإذا ضربه، فذهب شمه، أو ماء ظهره: فعليه الدية). وذلك لأن هذا العضو ليس له نظير في البدن، كالأنف والذكر ونحوهما. مسألة: [دية عدم استمساك البول من الضرب] قال أبو جعفر: (ومن رمي امرأة بحجر، فأفضاها به، فإن كانت يستمسك البول: فعليه ثلث الدية)، لأنها بمنزلة الجائفة. قال: (وإن كانت لا تستمسك البول: فعليه دية كاملة). وذلك لأنه قد أبطل عليها منفعة العضو، كقطع الذكر والأنف ونحوهما. مسألة: [من قطع أصبعًا فشلت أخرى] قال: (ومن قطع أصبع رجلٍ، فشلت أصبع أخرى إلى جانبها: فعليه الأرش في الأصبعين، ولا قصاص عليه في واحدة منهما في قول أبي حنيفة). وذلك لأن هذه جناية واحدة، قد وجب بها مال، فلا يجب بها قصاص؛ لأن وجوب المال له شبهة في نفي القصاص، ألا ترى أنه لو

قطع أصبعه، فشلت اليد: لم يجب القصاص عندهم جميعًا، والمعني في ذلك: أن جميع ذلك حادث عن فعل واحد، وقد وجب به مال، فيفي وجوب القصاص؛ لأن وجوب المال يكسبه حكم الخطأ. ويدل عليه: أن رجلين لو قتلا رجلاً، أحدهما مخطئًا والآخر عامدًا لم يجب القصاص على واحد منهما؛ لأن هذه النفس قد وجب بها مال في إتلافها، وهي لا تتبعض، فكذلك حكم الفعل الذي لا يتبعض، لما وجب به المال، انتفى وجوب القصاص. * (وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: عليه القصاص في الأصبع المقطوعة، وفي التي شلت الأرش). وذهبا في ذلك إلى أن العضوين إذا لم يكن أحدهما تابعًا للآخر: لم يمنع وجوب المال في أحدهما من وجوب القصاص في الآخر وإن حدث من جنايته على الأول، فالأصبعان ليست إحداهما تابعة للأخرى، ألا ترى أن أرش إحداهما لا يدخل في الأخرى، وأما الأصبع إذا قطعت، فشلت بها اليد، فإن الأصبع من جملة اليد، وتابعة لها، ويدخل أرشها فيها، فيسقط القصاص بوجوب المال به. مسألة: [سراية الجناية] قال: (ومن قطع أصبع رجلٍ، فسقطت كفه من المفصل، فإن أبا حنيفة وأبا يوسف قالا: لا قصاص عليه في ذلك، وعليه دية اليد، وقال محمد: عليه القصاص في اليد).

وجه قول أبي حنيفة: أن الله تعالي قال:} والجروح قصاص {، وهو لم يجرح موضع المفصل من اليد، وإنما قطع الأصبع، فلم يجب القصاص في اليد؛ لأنه لم يقطعها، وإنما صار قطعة للأصبع سببًا لتلفها، فوجب المال في اليد، وإذا وجب المال: سقط القصاص في الأصبع. وأما محمد: فإنه ذهب إلى أن الجناية إنما يتعلق حكمها بما يؤول إليه، والدليل عليه: أنه لو قطع يده، ثم مات منها: وجب القصاص في النفس، وسقط حكم اليد، وكذلك الأصبع إذا سقط منها اليد: وجب القصاص في اليد، وسقط حكم الأصبع. ولأبي حنيفة: أن هذا الاعتبار صحيح في النفس، غير واجب فيما دونها، لاتفاقهم جميعًا أنه لو قطع يده خطأ، فشلت اليد الأخرى أو الرجل: لم يدخل أرش إحداهما في الأخرى، ولو مات منها: دخل أرش اليد في النفس. مسألة: [كيفية القصاص في الشجاج] قال أبو جعفر: (وإذا شجه موضحة، فأخذت ما بين قرني المشجوج، وهي لا تأخذ ما بين قرني الشاج، فإن المشجوج بالخيار: بين الأرش، وبين القصاص بمقدار طول الشجة فحسب).

وذلك لأنه لا يجوز له أن يستوفى ما بين قرني الشاج كله بالقصاص؛ لأن ذلك أكثر من حقه، وقال الله تعالي:} والجروح قصاص {، والقصاص استيفاء المثل، ومعلوم إذا كان هكذا، أنه قد لحقه من الشين بالشجة أكثر مما يلحق الشاج بالقصاص، فصار كالعضو الناقص عن عضو المشجوج، مثل أن تكون يد القاطع شلاء، ويد المقطوع صحيحة، فيكون للمقطوعة يده الخيار: في أخذ الأرش، أو القصاص. * قال: (ويبدأ المشجوج من أي الجانبين أحب). وذلك لأن القصاص حق قد ثبت له في هذا الموضع من رأسه، فله أن يبدأ من أي موضع منه شاء. * (حتى يبلغ منها مقدار شجته في طولها). * قال: (وإن كانت الشجة لا تأخذ ما بين قرني المشجوج، وهي تأخذ ما بين قرني الشاج ويفضل، فإن المشجوج بالخيار: إن شاء أخذ الأرش، وإن شاء اقتص له ما بين قرني الشاج لا يزاد عليه شيء). قال أبو بكر: قال في الكتاب: "لا تأخذ ما بين قرني المشجوج"، وفي النسخ الصحيحة: "أن الشجة ما بين قرني المشجوج، وتفضل عن قرني الشاج"، وهو الصحيح؛ لأنها إذا كانت لا تأخذ بين قرني المشجوج، فليس يجوز أن يستوعب بالقصاص ما بين قرني الشاج كله وإن كان مقدار جراحته أو بعضها، كما لا يجوز أن يستوفى له بمقدار

جراحته فيما يفضل عن قرني الشاج. والمسألة في كتبنا على ما ذكرناه، وعسى أن يكون الذي في كتاب أبي جعفر غلطًا من الكاتب. ووجه المسألة على ما قلنا: أنه إذا شج ما بين قرني المشجوج: فغير جائز أن يقتص له في أكثر مما بين قرني الشاج؛ لأنه يلحقه بذلك من الشين أكثر مما لحق المشجوج بشجته، وله الخيار، لتعذر استيفاء مثل شجته في مقدارها. فصل: قال: (وإذا كانت الشجة في طول رأس المشجوج، وهي تأخذ من رأس الشاج من جبهته إلى قفاه، فإنه بخير المشجوج: فإن شاء أخذ الأرش، وإن شاء اقتص منه مقدار شجته إلى مثل موضعها في رأسه، لا يزاد على ذلك). وهذا ما بينا في الشجة واعتبار الشين اللاحق به، وامتناع استيفاء أكثر من مقدار الشجة على الحد الذي بينا. *********************

باب القسامة

باب القسامة مسألة: [حكم القسامة، وبيان من الذي يحلف] قال أبو جعفر: (وإذا وجد قتيل في محلة قوم، فعليهم أن يقسم منهم خمسون رجلاً: بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا، ثم يغرمون الدية). قال أبو بكر أيده الله: والأصل في ذلك أنه لا يجوز أن يستحق أحد بيمينه على غيره شيئًا بدلائل الكتاب والسنة. قال الله تعالي:} إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة {، فمنع أن يستحق أحدٌ بيمينه على غيره حقًا. وقال النبي صلي الله عليه وسلم: "لو أعطى الناس بدعاويهم، لا دعي

ناس دماء قومٍ وأموالهم، لكن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه". وفي هذا الخبر ضروب من الدلائل على صحة ما قلنا: أحدهما: أنه منع أن يعطي أحد بدعواه شيئًا، ويمينه دعواه؛ لأن اليمين لا تخرج خبره المحلوف عليه من أن يكون دعوى، فالمستحق بيمينه مستحق بدعواه. والثاني: أن دعواه قوله، ويمينه قوله، فمن حيث منع أن يستحق بدعواه، وجب أن يمنع الاستحقاق باليمين، إذ كلاهما قوله. فإن قال قائل: فقد جاز أن يبرأ المدعى عليه من حق المدعى بيمينه، ولا يبرأ بجحوده دون الحلف عليه، فكذلك المدعي. قيل له: إنما منع النبي صلي الله عليه وسلم أن يستحق بالدعوى بقوله، فوقفنا عند ذلك، وما عداه: فحكمه موقوف على الدليل. ولم نقل: إن اليمين لا حكم لها في الأصول حتى يلزمنا ما قلت. وما قلت من إن المدعى عليه يبرأ من حق المدعي: فهو خطأ، إذ اليمين لا تبرئه من الحق، وإنما تفصل بينهما، وتقطع الخصومة في الحال من غير استحقاق لأحدهما على صاحبه شيئًا، ألا ترى أن المدعى لو جاء بالبينة بعد ذلك: قبلت بينته. والوجه الثالث من دلالة الخبر: قوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعى، واليمين على المدعى عليه"، والأولياء غير مدعى عليهم، فلا

تجب عليهم اليمين. فإن قيل: أكثر ما فيه إيجاب اليمين على المدعى عليه، وليس فيه نفيها عن غيره. قيل له: هذا غلط من قبل أن قوله: "اليمين": اسم للجنس، فما من يمين إلا وهي التي على المدعى عليه، وإذا استغرق المدعى عليه جنس اليمين، لم يبق هناك يمين تكون على المدعى. وهذا مثل ما قلنا في قوله تعالي:} إنما الصدقات للفقراء {، أنه ينفي وجوب الصدقات للأغنياء؛ لأن الصدقة لما كانت اسما للجنس، فاستوعبها الفقراء، فلم يبق هناك صدقة قد تكون لغيرهم. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الصدقة عن ظهر غني"، هو بهذه المنزلة، ونظائر ذلك كثيرة. وليس هو من جنس ما ظنه مخالفونا، من أن المخصوص بالذكر: يدل على أن ما عداه فحكمه بخلافه، هذا عندنا قول مردود وساقط، والأول صحيح. وإذا ثبت ما وصفنا، بطل أن تكون الإيمان على أولياء المقتول، ووجب أن تكون على أهل المحلة إذ قد اتفقوا أنه لابد في القامة من خمسين يمينًا، وانتفت الأيمان على المدعين، ووجبت أن تكون على

المدعى عليهم. * قال أبو بكر: ووجود القتيل يلزم أهل المحلة شيئين: الأيمان، والدية جميعًا، وهما جميعًا حقان لأولياء القتيل، لا يسقط أحدهما بالآخر، بل يجبرون عليهما جميعًا. ويدل على صحة قولنا: ما روي ابن أبي ذئب عن الزهري أن رسول الله صلي الله عليه وسلم "قضى بالقسامة على المدعى عليهم". وروي إسماعيل بن عياش قال: أخبرنا محمد بن عبد الله عن مكحول عن عمرو بن أبي خزاعة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم "قضى بالقسامة على المدعى عليهم". فإن قيل: روي "أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، إلا في القسامة". قيل له: معناه: إلا في القسامة، فإنه يحلف من لم يدعى عليه القتل بعينه. ويحتمل: "إلا في القسامة": بأنه لا يبرأ باليمين من الخصومة؛ لأن الدية تجب فيها مع اليمين. وقد روي أبو إسرائيل عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال:

"وجد قتيل بين قريتين، فأمر النبي صلي الله عليه وسلم، فذرع ما بينهما، فوجدت إحداهما أقرب، فألقاه على أقربهما". فهذا الخبر يوجب الدية على أهل المحلة، وأوحينا اليمين بالأخبار الأخر. وقد روي مثل ذلك عن علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، من قولهما. * وأما حديث القسامة في حديث قتيل خيبر: فإن أحد من يرويه سهل بن أبي حثمة، ويدل اضطراب ألفاظه، واختلاف الرواة في متنه، على أن الذي روي فيه غير مضبوط في الأصل. هذا مع ظهور النكير من السلف لما روي فيه من الألفاظ، التي يردها ظاهر الكتاب والسنة الثابتة، واتفاق الأمة، ويحيلها حجة العقل، ويمنع مجئ العبارة بمثلها. فأما اضطراب ألفاظه: فمن جهة أن بعضهم يروي "أن النبي صلي الله عليه وسلم بدأ بالأنصار، فعرض عليهم اليمين، وقال لهم: أتحلفون،

وتستحقون دم صاحبكم؟ فقالوا: كيف نحلف على ما لم نشاهد، ولم نحضر؟ قال: فتحلف لكم يهود؟ قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود". وفي بعضها: "أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: يُقسم خمسون منكم على رجل، فيدفع بديته، وهم قد كانوا قالوا حين ادعوا القتل: إن اليهود قتلوه، ولم يكن يخبر منهم أحد غير عبد الرحمن بن سهل وأخيه المقتول عبد الله بن سهل". ثم روي في بعض ألفاظ هذا الحديث: "أن النبي عليه الصلاة والسلام بدأ فعرض الأيمان على اليهود أنهم يحلفون خمسين يمينًا: ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً، وكتبوا إليه: إنا نحلف. فقالت الأنصار: لا نرضى بأيمان اليهود. فقال للأنصار: أتحلفون، وتستحقون دم صاحبكم؟ وذلك كله بعد مطالبة النبي صلي الله عليه وسلم للأنصار بالبينة على ما ادعوا. فقالوا: ومن أين نصيب شاهدين، وإنما أصبح قتيلاً على أبوابهم، ولم يكن بخيبر غير أخيه عبد الرحمن بن سهل. فقد أعلموا النبي صلي الله عليه وسلم بدءًا، أنه لم يحضر هناك من شهد على قتله، ثم قالوا مع ذلك: إنهم قتلوه، مع إخبارهم بأنهم لم يشهدوا ذلك. فكيف يجوز أن يقول النبي صلي الله عليه وسلم لهم بعد ذلك:

"أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم"، وقد قال الله تعالي:} ولا تقف ما ليس لك به علم {وقال:} إلا من شهد بالحق وهم يعلمون {وقال:} إن الظن لا يغني من الحق شيئا {. * ففي هذا الفصل معنيان تردهما الأصول: أحدهما: أنهم قد قالوا: لم يشهد هناك منا احد، ثم قالوا: هم قتلوه، ظنًا منهم بأنهم القاتلون. ولو كان هذا الخبر صحيحًا لما ترك النبي صلي الله عليه وسلم النكير عليهم، وقال لهم: "لا تدعوا عليهم القتل بالظن والحسبان". والثاني: وهو أشنعهما، أنه عرض عليهم الأيمان على أنهم قتلوه، مع علمه بأنهم لم يشهدوا ذلك، ولم يعلموه، فكيف يجوز أن يبيح لهم الإخبار عن الشيء بما لا يؤمن أن يكونوا كاذبين فيه، ثم الحلف عليه؟

وعلى أن الأنصار قد استنكرت ذلك لأنفسها، بأن تحلف على ما لا تعلم، والنبي صلي الله عليه وسلم أشد نكرة له. وهذان المعنيان يردهما ظاهر الكتاب، ويحيلهما العقل، ويمنع جوازهما على النبي صلي الله عليه وسلمن فانتفي بذلك أن يكون ذلك حكمًا للنبي صلي الله عليه وسلم، وشريعًة له. وقد ذكر محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن عبد الرحمن بن بجيد قال محمد بن إبراهيم: وايم الله. ما كان سهل بأكثر علمًا منه، ولكنه كان أسن منه، إنه قال له: والله ما هكذا كان الشأن ولكن سهلاً أوهم ما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "احلفوا على ما لا علم لكم به، ولكنه كتب إلى اليهود حين كلمه الأنصار، أنه وجد فيكم قتيل بين أبياتكم فدوه، فكتبوا إليه يحلفون بالله: ما قتلوه، ولا يعلمون له قاتلاً، فوداه رسول الله صلي الله عليه وسلم من عنده". قال محمد بن إسحاق: حدثني عمرو بن شعيب – وحلف بالله – أن ما قال سهل لباطل، مثل حديث عبد الرحمن بن بجيد. فبطل ما روي عن سهل على ما ذهب إليه مخالفنا، وأن النبي صلي الله عليه وسلم أمر الأنصار بالأيمان على الوجه الأول الذي ادعوه،

لمخالفته لهذه الأصول التي وصفنا. * ووجه آخر مما خالف فيه الأصول: وهو أن الأنصار ادعوا القتل على جماعتهم، لا على رجل بعينه منهم، فكيف يجوز أن يستحقوا الدم بأيمانهم على غير معروف؟ وروي فيه: "أنهم قالوا: لا نرضي بأيمان اليهود، قال: فيقم منكم خمسون رجلاً أنهم قتلوه". فرد اليمين عليهم حين لم يرضوا بأيمان المدعى عليهم. ولا تأثير في الأصول لرضا المدعى بيمين المدعى عليه، ولا لعدم رضاه بها، وأنه لا فرق بين اليهود والمسلمين في الأيمان. وفيه: أن اليهود بذلوا الأيمان، فردها النبي صلي الله عليه وسلم على الأنصار مع بذلهم لها، فإن كانت اليمين عليهم بدءًا، فلا خلاف أنه لا يرد على المدعى مع بذل المدعى عليه لها وإن كانت على المدعين، فكيف عرضها على المدعى عليهم؟ وفي بعض ألفاظه: أنه بدأ بالمدعين، ثم باليهود. وفي بعضها: أنه بدأ باليهود ثم بالمدعين. وأحد هذين اللفظين خطأ لا محالة: إن كان بدأ بالأنصار ثم باليهود، فغير جائز أن يكون عاد إلى الأنصار، فعرض عليهم الأيمان بعد إخبارهم أنهم لا يحلفون على ذلك، وأنه لا علم لهم به.

وإن كان بدأ باليهود ثم بالأنصار، فغير جائز أن يكون عاد إلى اليهود بعد إباء الأنصار اليمين، لأن ذلك يوجب أن تكون اليمين كانت على اليهود ابتداء دون الأنصار، وبذلهم إياهم يمنع ردها على الأنصار. فدل جميع ما وصفنا على اضطراب حديث سهل بن أبي حثمة في القسامة، وأنه غير مضبوط في الأصل على نحو الذي روى فيه. * وقد روي ذلك غير سهل بن أبي حثمة، فلم يذكر فيه: رد اليمين على الأنصار. فمنه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن عمر القريعي قال: حدثنا الحسن بن علي بن راشد قال: حدثنا هشيم عن أبي حيان التيمي عن عباية بن رافع بن خديج قال: "أصبح رجل من الأنصار مقتولاً بخيبر، فانطلق أولياؤه إلى النبي صلي الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له. فقال: ألكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم؟ فقالوا: يا رسول الله، لم يكن ثم أحد من المسلمين، وإنما هم يهود، وقد يجترئون على ما هو أعظم من هذا. قال: فاختاروا منهم خمسين رجلاً، فأستحلفهم، فأبوا، ووداه النبي صلي الله عليه وسلم من عنده". فلم يذكر في هذا الحديث شيئًا من التخليط الذي في حديث سهل بن أبي حثمة؛ لأنه ليس فيه أن الأنصار قالوا: إن اليهود قتلوه، تظننًا منهم

وحسبانًا، وإنما فيه: أنهم قد يجترئون على ما هو أعظم من هذا. وليس فيه: أنه قال: "أتحلفون، وتستحقون دم صاحبكم"، وإنما طالبهم بالبينة، فلما لم يكن لهم بينة، ذكر لهم يمين اليهود، وهو موافق للأصول، ليس فيه لفظ منكر، ولا معني ممتنع. * ولو صح اللفظ المذكور في حديث سهل من قوله: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم"؟، كان ذلك القول منه على وجه النكير عليهم، حين قالوا: "لا نرضي بأيمان اليهود"، قال: "أفتريدون أن تحلفوا أنتم إذ لم ترضوا بأيمانهم؟ ". كما قال الله تعالي:} أفحكم الجاهلية يبغون {. وكقول النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة التي شكت أن زوجها لا يصل غليها. فقال: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟! لا، حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك". وكان ذلك منه على جهة الإنكار عليها في إرادتها الرجوع إلى زوجها الأول قبل دخول الثاني بها. وقد حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قتيل وجد بين قريتين، فألقاه على أقربهم، وألزم أهل القرية القسامة والدية.

وقال الحارث بن الأرفع: يا أمير المؤمنين أنعطي أيماننا وأموالنا، فقال: نعم، فبم نبطل دم هذا. وكان ذلك منه بمحضر من الصحابة، من غير نكير من أحد منهم عليه، ولا مخالف له. ولو كان ما رواه سهل بن أبي حثمة إحلاف أولياء الدم خمسين يمينًا صحيحًا، لما خفي مثله على عمر ومن حضره من الصحابة، حتى يقضى بخلافه بين أظهرهم. ولو كان محفوظًا عند واحد منهم قصة قتيل خيبر على ما رواه سهل، لذكره لعمر ونبه عليه، ولم يكن ليقره على ما أمضى الحكم بخلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: القسامة على المدعى عليهم ورواه محمد بن شجاع عن موسى بن داود عن معتمر بن سليمان عن حصيف عن زياد بن أبي مريم قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني وجدت أخي قتيلاً في بني فلان، فقال: اجمع منهم خمسين، فيحلفون بالله ما قتلوه، ولا علموا قاتلاً. قال: يا رسول الله ما لي من أخي إلا هذا؟ قال: بلى، لك مائة من الإبل".

وهذا الحديث قد أفادنا معنيين: أحدهما: وجوب القسامة على أهل المحلة دون المدعي، والآخر: غرامة الدية مع الأيمان. * ويدل على أن الدية تلزم أهل المحلة بوجود القتيل: ما روي في حديث قتيل خيبر، "أن النبي عليه الصلاة والسلام كتب إلى اليهود: إما أن تدوا صاحبكم، وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله". وفي بعضه: "أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: "وجد قتيل بين أظهركم: فدوه". وقد روي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلي الله عليه وسلم فرق ديته عليهم، يعني اليهود، وأعانهم بنصفها". فصل: [إذا لم يتم العدد في القسامة خمسين] قال أبو جعفر: (فإن لم يكمل العدد خمسين رجلاً: كررت عليهم الأيمان حتى تكمل خمسين يمينًا). وذلك لأن هذه الأيمان حق للولي، كالمال، فله أن يستوفي ممن يمكنه استيفاؤها منهم، وفي حديث رافع بن خديج الذي قدمنا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اختاروا منهم خمسين رجلاً، فاستحلهم"، فجعل الخيار إليهم فيمن يُستحلف، وإذا لم يكمل عدد الرجال خمسين،

كررت عليهم الأيمان، ليستوفي عددها ممن أمكن منهم. مسألة: [إذا وجد قتيل بين قريتين] قال: (وإذا وجد قتيل بين قريتين: كان على أقربهما إليه القسامة والدية). لحديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلي الله عليه وسلم، وقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمحضر من الصحابة. مسألة: [وجوب الحبس عند النكول عن اليمين] قال أبو جعفر: (وإن نكلوا عن اليمين: حبسوا حتى يحلفوا). وذلك لأن اليمين لما كانت حقًا للأولياء، أجبروا عليها كما يجبرون على أداء المال إذا امتنعوا منه. وليست اليمين في القسامة كهي في غيرها من الحقوق؛ لأن اليمين على الانفراد لا تكون حقًا للمدعى في سائر الحقوق إلا في القسامة، ألا ترى أنهم إذا حلفوا: لم يبرأوا من الدية، وفي سائر الحقوق إذا حلف المدعى عليه: لم يغرم شيئًا. مسألة: [الكافر والمسلم في القسامة سواء] قال: (والمسلم والكافر في ذلك سواء).

وذلك لأن هذا من حقوق العباد، فلا يختلفان فيه، كما لا يختلفان في الأيمان في سائر الدعاوي. مسألة: [القسامة على أهل الخطة] قال: (والقسامة على أهل الخطة، دون السكان والمشترين، إلا أن لا يبقي أحد من أهل الخطة، فيكون على المشترين). وذلك لأن أهل الخطة قد ثبت لهم اختصاص وولاية في الموضع دون الناس كلهم، بإحيائهم إياه، وإخطاطهم له، فكانوا أولى بالعقل قبل ملك المشترين، فلا ينتقل هذا الحق عنهم ما بقي منهم أحد. كما أن أهل المسجد هم أولى بعمارته والإمامة فيه من غيرهم، مع اشتراكهم جميعًا في إباحة الصلاة فيه، إلا أن أهله لما كان لهم هذا الضرب من الاختصاص، كانوا أولى به، كذلك أهل الخطة أولي من المشترين. وأيضًا: فإن أهل الخطة صاروا عاقلًة للموضع، لما لزمهم بدءًا من نصرة الموضع، فلا ينتقل ذلك عنهم ما بقي منهم أحد، كالعاقلة من جهة الأب، ومن جهة الأم، ما دام هناك عاقلة من جهة الأب: لم تعقل عنه عاقلة الأم، حتى إذا انقرضوا: صار العقل على عاقلة الأم، كذلك ما وصفنا. ولا يجب اعتبار الملك في ذلك فحسب، دون ما وصفنا؛ لأنه لو كان كذلك، لوجب إسقاط الدية رأسًا؛ لأنه لا ملك لأحد منهم في طرق

المحلة وشوارعها، ولا في مساجدها، ومع ذلك تلزم به الدية. * ولو وجد في ملك رجل: لم تلزم أهل المحلة القسامة، وإنما تلزم مالك الموضع وعاقلته، فدل على سقوط اعتبار الملك فيه. * (فإذا لم يبق أحدٌ من أهل الخطة، فهي على المشترين). لأن حق أهل الخطة قد بطل عن المحلة، فهو كعدم العاقلة من جهة الأب، فينتقل العقل إلى عاقلة الأم. * (وروي عن أبي يوسف: أن القسامة على الملاك والسكان، لتساويهم جميعًا في اليد في الموضع). مسألة: قال: (ومن وجد ميتًا في قبيلة لا أثر به: لم يكن فيه قسامة، ولا دية). وذلك لأن هذا ميت، وليس بقتيل، والقسامة في الأصل إنما وجبت في القتيل، ولو وجبت في الموتى، لما خلت المحال من القسامة، ومن الدية، لوجود الموتى فيه. * قال أبو جعفر: (والمسجد في جميع ما ذكرنا كالمحلة). وذلك لأن أهل المحلة لهم اختصاص بالمسجد، كاختصاصهم في المحلة نفسها، فوجب أن يكون بمنزلة المحلة.

مسألة: [إذا وجد قتيلاً في داره] قال: (ومن وجد قتيلاً في دار نفسه: فديته على عاقلته في قول أبي حنيفة). وذلك لأن الدية الواجبة في هذه الحال لغيره وهم الورثة، وهو قد كان أخص بالموضع إلى أن قتل، فصار بمنزلة غيره لو وجد قتيلاً في داره. * وقال أبو يوسف ومحمد: لو وجبت الدية على عاقلته: لكانت له، تقضى منه ديونه، وتنفذ فيه وصاياه، فكيف يجوز أن تعقل عنه عاقلته له؟ والدليل على أن وجود القتيل في داره بمنزلة مباشرته للقتل: أن المكاتب إذا وجد في داره قتيل: غرمه كأنه باشر قتله، ولو قتل رجل نفسه خطأ: لم تغرم عاقلته ديته، كذلك إذا وجد قتيلاً في دار نفسه. مسألة: [إذا وجد قتيل في السوق أو في المسجد] قال: (ومن وجد قتيلاً في سوق من أسواق المسلمين، أو في مسجد جماعتهم: فديته على بيت المال، وليس فيه قسامة). وذلك لأنه ليس أحد أخص بالموضع من غيره، والجماعة متساوون في ثبوت الحق فيه، فكانت الدية على جماعتهم، والذي يلزم كافة المسلمين يؤخذ من بيت مالهم.

مسألة: [إذا وجد قتيل في القبيلة] قال: (ومن وجد قتيلاً في قبيلة، فادعى الأولياء على رجل من غير القبيلة، وشهد له رجلان من القبيلة: لم تجز شهادتهما، ولا شيء عليهم في قول أبي حنيفة). وذلك لأن وجود القتيل فيما بينهم، قد ألزمهم القسامة والدية، لما بينا فيما سلف، ولزوم ذلك يمنع قبول شهادتهم على غيرهم في إسقاط ذلك عنهم. ويجوز أن يكون الولي إنما ادعي على غيرهم، لتجوز شهادتهم، والشهادة متى دخلت فيها التهمة: منعت قبولها. * (وفي قول أبي يوسف ومحمد: شهادتهم جائزة). وذلك لأنهم قد أبرؤوا من القسامة والدية بدعوى الولي القتل على غيرهم، فلا نفع لهم في هذه الشهادة، فجازت. مسألة: [وجود نصف القتيل ومعه الرأس] قال: (وإذا وجد من القتيل نصفه ومعه الرأس: ففيه القسامة والدية، وإن لم يكن معه رأس: فلا قسامة ولا دية، وإن وجد نصف البدن مشقوقا بالطول: فلا شيء فيه، وكذلك إن وجد عضو من أعضائه: رأس، أو يدٌ أو نحوها: فلا شيء فيه). قال أبو بكر: الأصل في ذلك اتفاق المسلمين على أن قتيلاً واحدًا لا

يجب فيه قسامتان وديتان. * فإذا وجدنا الأكثر من البدن: وجبت الدية والقسامة، كما لو وجدوا أصبعًا مقطوعةً: لم يكن فقد الأصبع مانعًا من القسامة والدية، كذلك وجود الأقل من البدن. * وإذا وجد النصف، ومعه الرأس: فهذا مع الرأس أكثر من نصفه. * وإن لم يكن معه رأس: فليس يخلو من أن يكون المفقود منه النصف سواء، أو أكثر من النصف. فإن كان النصف سواء: فغير جائز إيجاب القسامة والدية؛ لأنه لو وجب ذلك، لوجب في النصف الآخر مثله، فكان يكون فيه إيجاب قسامتين وديتين في قتيل واحد، وذلك خلاف الاتفاق. أو أن يكون المفقود هو الأكثر، والموجود هو الأقل، وقد قلنا إن الأقل لا حكم له، ولو وجب ذلك، لوجب في اليد والرجل، فكان يجب في قتيل واحد عشر قسامات، وعشر ديات، وهذا خطأ بالاتفاق. * وإن كان مشقوقًا بالطول، فوجد أحد النصفين: لم يجب فيه شيء، لما وصفنا. مسألة: [إذا وُجد بهيمة مذبوحة في المحلة] قال: (ولا قسامة في بهيمة، ولا غرم إذا وجدت في محلة). ولا نعلم فيه خلافًا، وهو بمنزلة الثوب وسائر الأموال.

مسألة: [حكم العبد في القسامة] قال: (وفي العبد القسامة والقيمة). قال أبو بكر: وذلك لأن العاقلة تغرمها، ويجب فيه القصاص في العمد، والكفارة في الخطأ. قال أبو جعفر: (ولا قسامة فيه في قول أبي يوسف). قال أبو بكر: لأنه جعله بمنزلة البهيمة، وهو سديد على ما روي عنه في أن العاقلة لا تحمله، ويجاوز به الدية. مسألة: [إذا وُجد قتيل في دار مكاتب] قال: (وإذا وجد قتيل في دار مكاتب: فعليه أن يسعى في الأقل من قيمته، ومن دية القتيل، إلا عشرة دراهم). وذلك لأن وجود القتيل في الدار بمنزلة مباشرة القتل من صاحب الدار، فكأن المكاتب باشر قتله، فيلزم الأقل من قيمته، ومن الدية إلا عشرة دراهم؛ لأن قيمة العبد لا تكون في الجناية أكثر من ذلك، ألا ترى أنه لو قتل وقيمته عشرون ألفًا، غرم قاتله عشرة آلاف إلا عشرة دراهم. وإنما كان وجود القتيل في الدار بمنزلة مباشرة القتل؛ لأنه هو المالك لها، ولا حق لأحد من أهل المحلة فيها، فلا يلزم أهل المحلة منه شيء، إذ ليس لهم حق في داره بوجه، فلما اختص هو بلزوم ذلك، أشبه قتل المباشرة من هذا الوجه.

وليس كذلك للقتيل الموجود في المحلة، لأن حق جماعتهم في المحلة سواء، وهم أخص بها من سائر الناس، فلزمت أهلها. مسألة: [إذا وُجد قتيل في دار عبدٍ مأذون] قال: (وإذا وُجد في دار عبد مأذون له، وعليه دين أو لا دين عليه: فالدية والقسامة على عاقلة مولاه). وذلك لأن المولى هو المالك للدار، والعبد لا يملكها بوجه، وليس العبد كالمكاتب؛ لأن ملك المكاتب له دون مولاه، وملك العبد للمولي. فإن قيل: فإذا كان على العبد دين يحيط بقيمته وما في يده، لم يملك المولى الدار في قول أبي حنيفة، فينبغي أن يكون عليه كالمكاتب. قيل له: إنه وإن كان كذلك، فإن ذلك من أجل حق الغرماء، لا لأجل أن العبد أحق به من مولاه، ولا يستحق به ملكًا حقيقة أبدًا، والغرماء أيضًا لا يستحقون ملك الدار، لأجل دينهم، أما المكاتب فإن له ضربًا من الملك، ومتى عتق تم ملكه، كملك الحر، فلذلك اختلفا. * قال: (وقال أبو يوسف في الإملاء: إذا كان عليه دين: دفعه المولى أو فداه). قال أبو بكر: جعله بمنزلة جنايته بيده، كالقتيل الموجود في دار المكاتب.

مسألة: [لا يدخل في القسامة امرأة ولا صبي ولا عبد] قال أبو جعفر: (ولا يدخل فيمن يقسم امرأة، ولا صبي، ولا عبد). يعني في المحلة، وذلك لأن القسامة تلزم بوجود القتيل على وجه النصرة والولاية، كما تلزم الدية، وليس هؤلاء من أهل النصرة والعقل والولاية. مسألة: [إذا وُجد قتيل في دار امرأة] قال: (وإن وُجد قتيل في دار امرأة في مصر لا عشيرة لها فيه: فالأيمان تكرر عليها في هذا الموضع في قول أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف الأول، ثم رجع أبو يوسف فقال: يضم إليها أقرب القبائل منها، فيقسمون ويغرمون الدية لهم). وإنما لزمها الأيمان كما يلزمها في سائر الدعاوي، والفرق بينها وبين الأيمان في الدعاوى، أن سائر الدعاوى فيها يمين واحدة، وهذه خمسون يمينًا، ولا يخرجها ذلك من أن تكون بمثابة الأيمان في الدعاوى، وليس لزومها متعلقًا بالعقل والولاية، فلذلك لم يمتنع لزومها المرأة، ألا ترى أن المكاتب لا يدخل في قسامة أهل المحلة وغرمهم، وتلزمه القسامة إذا وُجد قتيل في داره، فكذلك المرأة.

* ولأبي يوسف: أنها لو كانت بمنزلة الأيمان في الدعاوي، لاكتفى فيها بيمين واحدة، فلما استحلفت فيها خمسين يمينًا، دل على أنها من جهة العقل والولاية دون الدعاوي. مسألة: [حكم الذمي في القسامة] قال: (وعلى الذمي القسامة والدية في القتيل الموجود في داره، تكرر عليه الأيمان). لأنه أخص بملك الدار من غيره، ولأن الذمي والمسلم لا يختلفان في حقوق الآدميين. مسألة: [وجود القتيل في دار اليتامي] قال: (ومن وجد قتيلاً في قريةٍ ليتامى، ولا عشيرة لهم فيها: فعلى عاقلتهم القسامة والدية). قال أبو بكر: أما الصغار فلا قسامة عليهم؛ لأن قولهم كلا قول، وكما لا يُستحلفون في سائر الدعاوى، لكن القسامة والدية على عواقلهم؛ لأنهم أهل نصرتهم والولاية عليهم. قال أبو بكر: قد ذكر محمد مسائل في القتيل الموجود في الدار، فقال في بعضها: الدية والقسامة على صاحب الدار وعاقلته. وقال في بعضها: القسامة على صاحب الدار خاصة، والدية على العاقلة.

وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: المسائل التي أوجب فيها القسامة والدية جميعًا على العاقلة: هي إذا كانت العاقلة معهم في المصر. والمسائل التي أوجب فيها القسامة على صاحب الدار خاصة، والدية على العاقلة: هي إذا كانت في غير المصر الذي وجد فيه القتيل في الدار، لأنها إذا كانت غائبة عن الموضع، لم يصلح إحلافهم مع العلم بغيبتهم، إذا كان صاحب الدار والقرية ممن يصح إحلافه. فأما إذا كان صاحب الدار ممن لا يصح إحلافه، نحو الصبي والمجنون: فإن القسامة والدية على العاقلة في الوجهين جميعًا، أقرب القبائل منه؛ لأنهم يستحقون ولايته ونصرته، وليس هو ممن يحلف، فقاموا عنه فيها. مسألة: [سراية الجراحة] قال: (ومن أصابه حجر أو جراحة في قبيلة، فلم يزل صاحب فراش حتى مات: فعلى أهل القبيلة الذي أصابه ذلك فيهم القسامة والدية). وذلك لأن السبب الذي حدث عنه القتل، كان هناك، فصار كالقتل الموجود فيه، ألا ترى أن رجلاً لو جرح رجلاً، فمات منه: كان قاتلاً، لوجود السبب من جهته. مسألة: [وجود القتيل في السفينة] قال: (وإذا وُجد قتيل في سفينة: فالقسامة والدية على من فيها من

الركاب وغيرهم من أهلها الذين هم فيها). لأنهم في هذه الحال أخص بالموضع وبنصرته من كل أحد، فصاروا أولى بالقسامة والدية، ألا ترى أنه لو وُجد قتيل على دابة يسوقها رجل: كانت الدية والقسامة على السائق. مسألة: [وجود القتيل في نهر عظيم] قال: (وإن وُجد قتيل في نهر عظيم يجرى فيه الماء: فلا شيء فيه). وذلك لأن ذلك الموضع لا يد عليه لأحدٍ، فهو بمنزلة القتيل الموجود في البحر، وفي المفازة.\ * قال: (وإن كان محتبسًا إلى جانب الشط: فهو على أقرب الأرضين إليه، وفيهم القسامة). لأنه إذا كان واقفًا، فهو بمنزلة الموجود في الشط، لأن الموضع الذي احتبس فيه القتيل مما يلي الشط: تثبت فيه اليد لأهل القرية، كالشارع، والمسنيات ونحوها. مسألة: [وجود القتيل في نهر صغير] قال: (وإن كان في نهر صغير لقوم معروفين: فهو عليهم).

وذلك لأنهم أخص بالموضع من سائر الناس، ألا ترى أنهم يستحقون به الشفعة. مسألة: [وجود القتيل على عنق رجل أو على دابة] قال: (وإن وُجد على عنق رجل يحمله، أو على دابة هو سائقها، أو راكبها أو قائدها: فهو عليه). لأن الدابة إذا كانت في يده، فهو أحق بها من غيره، فكأن القتيل في يده. * قال: (وإن كانت الدابة مخلاة، ليس معها أحد: فهو على أهل المحلة الذين وجد فيهم). لأنهم إذا لم يكن في يد أحد، فكأنه قتيل وجد في الموضع. مسألة: [وجود قتيل في قبيلة اختلف في ادعاء قاتله] قال: (ومن وجد قتيلاً في قبيلة، فزعم أهل القبيلة أن رجلاً منهم قتله، وأنكر ذلك ولي القتيل، ولم يدع قتله على واحدٍ منهم بعينه: فإن فيه القسامة والدية على أهل تلك القبيلة. ويحلفهم أبو يوسف بالله: ما قتلناه، ويرفع عنهم، ولا علمنا قاتلاً؛ لأنهم قد ذكروا أنهم علموا قاتلاً). قال أبو بكر: إنكار الولي لما ذكره أهل القبيلة، لا يسقط عنهم

القسامة والدية، من قبل أنه لم يبرئهم من ذلك. وأما وجه قول أبي يوسف، في أنهم لا يحلفون: ما علمنا قاتلاً، فمن قبل أنهم قد قالوا: نعرف القائل، فلا يجوز أن يحملوا على الحلف على الكذب في الظاهر عندنا، إذ قد قالوا: نعرف القاتل. قال: (وقال محمد: يحلفون بالله: ما قتلناه، ولا علمنا قاتلاً غير فلان بن فلان). وذلك لأن هذه اليمين ليست في الأصل إلا على هذا الوصف، فقد يمكننا أن نستوفى شرط اليمين من غير حمله على الكذب، باستثناء ذلك الغير من الجملة. فإن قال قائل: فما وجه إحلافهم: "ما قتلناه، ولا علمنا قاتلاً"، وهم لو قالوا: "قد علمنا قاتله": لم يلتفت إلى قولهم؟ قيل له: الأصل فيه ما وردت به السنة. * وأما فائدته: فإن من شيوخنا من قال: إنه قد كان جائزًا أن يكون القاتل عبدًا لواحد منهم، فاستظهر عليهم بذلك؛ لأنه لو أقر به: جاز إقراره، وقيل له: ادفعه أو افده، فحلفوا في الأصل على هذا، ثم جرت اليمين عليه وإن لم يكن لواحد منهم عبد. كما أن النبي صلي الله عليه وسلم رمل في الطواف إظهارًا للجلد

والقوة مراءاةً للمشركين، وصار سنة، مع عدم السبب الذي من أجله فعل. ووجه آخر: وهو أن وجود القتيل يوجب تهمة أهل المجلة في قتله، أو الأمر به، فحلفوا: ما قتلوه ولا علموا قاتلاً، ليزيلوا التهمة عن أنفسهم في قتله أو الأمر به، ألا ترى أن الشاهد الواحد في القتل يوجب الحبس عند أبي حنيفة للتهمة، فاستظهروا في إزالة التهمة عن أنفسهم بقولهم: ما قتلنا، ولا علمنا قاتله. وأيضًا: فغير ممتنع أن يكون واحد منهم قد أمر صبيًا أو مجنونًا أو عبدًا محجورًا عليه بذلك، فإذا أقر به: لزمه في ماله، فحلفوا: ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً؛ لأنه لو قال: قد علمت قاتلاً، وهو الصبي الذي أمرته بقتله: كان حاصل الضمان عليه، والله أعلم. *********************

باب جناية الراكب والقائد والسائق ونحوهم

باب جناية الراكب والقائد والسائق ونحوهم مسألة: [جناية الراكب وحكم ضمانها] قال أبو جعفر رحمه الله: (وإذا سار الرجل على دابة في طريق، ضمن ما أصابت بيدها أو رجلها، أو كدمت، أو خبطت، إلا النفحة بالرجل، أو النفحة بالذنب: فإنه لا يضمنها). قال أبو بكر: الأصل فيه: ما روى عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "الرجل جبار". وروى سفيان عن أبي قيس عن الهذيل عن النبي صلي الله عليه وسلم مثله.

والمراد به: النفحة بالرجل، لاتفاق الجميع على أنها إذا وطئت برجلها: ضمن، والمعني فيه: أنه مباح له السير في الطريق، ولا يستطيع التحفظ من النفحة بالرجل. فكل ما كان بمثابتها: فحكمه حكمها، وهو النفحة بالذنب، ونظيره الدابة إذا أثارت غبارًا أو نواة أو نحوها، فأفسدت متاعًا، أو فقأت عينًا: أنه لا يضمن، لهذه العلة بعينها، وكذلك إذا سقط منه إزاره في الطريق، فعطب به إنسان، فهو في معنى ذلك. * ولا خلاف بين الفقهاء في تضمين الراكب ما أصابت بيدها، أو وطئت برجلها، والمعنى في ذلك: أنه إنما أبيح له السير في الطريق على شرط السلامة، على أن لا يعطب به إنسان؛ لأنه وإن كان له حق استطراق في الموضع، فإن سائر الناس يساوونه في الحق، فلما كان سائرًا في حق الغير، كان من شرط ذلك: أن لا يضر بإنسانٍ فيما يمكنه التحفظ منه على ما وصفنا. [مسألة:] قال: (والسائق والقائد كذلك، إلا أن الكفارة على الراكب، دون السائق والقائد). وذلك لأنه قد أصابه من ثقل الراكب، ومن حمله عليه أيضًا، فصارت الدابة كالآلة في قتله، نحو أن يرمى بها عليه، فيكون ذلك قتل مباشرة، فتلزمه الكفارة.

وأما السائق فلم يباشر القتل، وإنما فعل السبب، فصار كحافز البئر في الطريق، ولا تلزمه الكفارة. [مسألة:] قال: (وإن راثت أو بالت، فعطب به إنسان: لم يضمن). وذلك لأن مثل هذا لا يمكنه التحفظ منه، فصار كالنفحة بالرجل مسألة: [سقوط سرج الدابة على إنسان] (وإن سقط سرج الدابة، فعطب به إنسان: فالدية على السائق أو القائد). وذلك لأنه يمكن التحفظ من وقوع السرج، ومن أجل ذلك شد على الدابة. وكذلك في حامل المتاع إذا وقع منه، فعطب به إنسان: ضمنه؛ لأن حامل المتاع لا يحمله إلا وهو متحفظ من سقوطه، ومن أجله بشدة بالحبل. [مسألة:] قال: (وإن أثارت الدابة حجرًا كبيرًا: ضمن الراكب). لأن ذلك غير معتاد حدوثه إلا من حمل شديد على الدابة، وعنف عليها في السير، فصار ذلك من جنايته، ولأنه يمكن التحفظ منه، بأن

يسير بها على مهل. مسألة: [من قعد في مسجد فعطب به إنسان] قال: (ومن قعد في مسجد في غير صلاة، فعطب به إنسان: ضمن، وإن كان في صلاة: لم يضمن). وذلك لأن المسجد مبني للصلاة دون الجلوس فيه لغير الصلاة، ألا ترى أنه إذا احتيج إلى موضعه للصلاة: لم يجز له القعود، فقعوده فيه مباح على شرط السلامة؛ لأنه في حق الغير، فصار كالقعود في الطريق للاستراحة، فيضمن ما يعطب به، لأنه جالس في حق الغير، وأما جلوسه فيه للصلاة، فهو جلوس في حقه، كالجالس في منزله وفي ملكه، فلا يضمن ما عطب به. * (وقال أبو يوسف ومحمد: لا يضمن في الوجهين جميعًا). لأنه له أن يجلس فيه منتظرًا للصلاة ولغيرها، وليس ذلك بمنزلة جلوسه في الطريق؛ لأن الطريق إنما هو للمرور فيه لا للجلوس، فهو بجلوسه مانعٌ لغيره من الاستطراق، فأبيح له ذلك على شرط السلامة. ولأبي حنيفة: أن المسجد كذلك؛ لأنه بجلوسه فيه مانع لغيره من الصلاة في موضعه، فصار كالجلوس في الطريق. فصل: [تعليق القنديل في المسجد] قال: (وإن علق فيه قنديلاً، وهو من العشيرة: لم يضمن ما عطب

به، وإن كان من غيرهم: ضمن في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يضمن). لأبي حنيفة: أن أهل المسجد أولى بعمارته، كما أنهم أولى بالإمامة فيه، ولهم أن يمنعوا غيره من عمارته، ويعمروه هم، فأما الأجنبي فإنما يفعل ذلك في حق الغير على شرط السلامة، كالجلوس في الطريق للاستراحة، فإذا عطب به إنسان: ضمن، وأما أهل المسجد، فلأنهم فعلوا ذلك في حقهم، كفعلهم في أملاكهم. وفي قول أبي يوسف ومحمد: لا يضمن؛ لأن في ذلك قربة إلى الله عز وجل، وله فعله، قال الله تعالي:} إنما يعمر مساجد الله من أمن بالله {، وقال الله تعالي:} ما على المحسنين من سبيل {. ولأبي حنيفة: أن كونه قربة لا يسقط حق الآدمي، إذ كان شرطه أن يفعله على شرط السلامة؛ لأن من رمي المشركين، فهو متقرب إلى الله برميه إياهم، ويضمن مع ذلك إن أصاب مسلمًا. مسألة: [إرسال البهيمة وضمان جنايتها] قال: (ومن أرسل بهيمة فأصابت في فورها: ضمن).

لأنه سائق لها، بمنزلة سائق الدابة، وتصير البهيمة حينئذٍ كالآلة له في الإتلاف. * قال: (وإن أرسلها وزال عنها، فلم يكن لها سائقًا ولا قائدًا، ولا زاجرًا، فما أصابت: كان صامنًا، إلا أن تعدل عن الطريق التي أمامها إلى طريق غيرها: فلا يضمن بعد ذلك ما حدث منها). قال أبو بكر أيده الله: ما أصابت من فور الإرسال، فهو بمنزلة ما أصابت الحجر والسهم في ذهابه بالرمي، فإذا عدل عن ذلك السنن، فقد انقطع حكم الإرسال، كما لو رد إنسان السهم عن سننه إلى جهة أخرى برئ الرامي من ضمانه. * قال: (فإن لم يكن لها طريق إلا ما عدلت إليه: كان ضامنًا). لن ذهابها في ذلك الطريق كان كالإرسال، إذ ليس في عدولها إليه دلالة على ترك السنن الذي أرسل فيه. [مسألة:] قال: (ومن أرسل طائرًا، فأصاب في فوره شيئًا: لم يضمن). وذلك أن الطير يخرج عن تصرفه ويده بالإرسال، ويكون متصرفًا لنفسه، ولا يكون المرسل سائقًا له ولا قائدًا، فصار كالعجماء، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "جرح العجماء جبار".

مسألة: [إغراء الكلب] قال أبو جعفر: (ومن أغرى كلبًا، فأصاب شيئًا من إنسان لم يضمنه). قال أبو بكر: المشهور من قولهم: أنه بمنزلة الدابة، يضمن المرسل ما أصاب من فوره، ولا أدري من أين وقعت إليه هذه الرواية؟! قال: (وقال أبو يوسف: عليه ضمانه، وقال محمد: يضمن إن كان سائقًا له، ولا يضمن إن لم يكن سائقًا له). مسألة: [سقوط الإنسان على الإنسان] قال: (ومن سقط على رجلٍ فقتله: كانت ديته على عاقلته). لأن سقوطه عليه فعله، وهو بمنزلة قتل الخطأ. * قال: (وإن مات الساقط، فإن كان المسقوط عليه في دار نفسه: كان هدرًا). لأنه متصرف في ملكه، بحيث لا حق للغير فيه، ألا ترى أنه لو وضع حجرًا في ملكه، فعثر به إنسان، فعطب: لم يضمن. قال: (وإن كان في موضعٍ جلوسه فيه جناية: كانت دية الساقط على عاقلته). بمنزلة حجر وضعه في ملك غيره، فعطب به إنسان.

مسألة: [ضرب دابته فأصابت أحدًا] قال: (ومن كان راكبًا فضرب دابته، أو كبحها باللجام، فأصبت برجلها أو بذنبها: فلا شيء عليه). لأنه غير متعد في ضربها، ولا يمكنه التحفظ من الرجل، وقد روى عن النبي صلي الله عليه وسلم: "الرجل جبار". مسألة: (ولو نخسها إنسان، فنفحت رجلاً، فقتله: فالدية على الناخس دون الراكب)، لأنه متعد في نخسها، فيضمن ما تولد منه. * (وكذلك لو ألقت راكبها: كان ضمانه على الناخس). مسألة: [حكم ضمان قائد قطار الإبل] قال: (ومن قادر قطارًا في طريق، فما أوطأ أول القطار أو آخره بيد أو برجل، أو صدم إنسانًا: كان ضامنًا لذلك، ولا كفارة عليه، وكذلك إن كان معه سائق). وذلك لأنه فاعل للسبب الذي به وقع التلف، كواضع الحجر في الطريق، وحافر البئر.

وليست النفحة بالرجل كالوطء، لأنه إن كان سائقًا أو قائدًا، فقد يمكنه التحفظ من أن يوطئها إنسانًا، وليس يملك من النفحة بالرجل شيئًا، ولا سبب له فيها. وأيضًا: فإن قوده في ذلك الموضع الذي فيه الإنسان، أو سوقه إياها هو الموجب للوطء، فيضمن، وليس قوده إياها سببًا للنفحة. * ويستوي القائد والسائق في الضمان، لتساويهما في فعل السبب الموجب للإتلاف، ولا كفارة عليهما لأنهما لم يباشرا فعل القتل. * قال: (فإن كان السائق من وسط القطار: كان ضمان الجميع عليهما أيضًا). لأن القائد يقود الجميع؛ لأن بعضها مربوط ببعض، وأما السائق فإنه ساق لما بين يديه، قائد لما خلفه. * قال: (فإن كان السائق على بعير وسط القطار، راكب لا يسوق منه شيئًا: كان ضمان ما بين يديه على القائد، وضمان ما خلفه عليهما جميعًا). وذلك لأنه غير سائق لما بين يديه؛ لأن ركوبه لهذا البعير لا يكون به سائقًا لما بين يديه، كما أن مشيه إلى جانب البعير، لا يوجب أن يكون سائقًا له إذا لم يسقه، وكذلك كونه خلفه، ولكنه لا محالة سائق لما هو راكبه؛ لأن البعير يسير بركوب الراكب وحثه، وإذا كان سائقًا له، فهو قائد لما خلفه، فلذلك كان ضمانه عليهما. مسألة: [من دخل دار قوم فعقره كلب حراستهم] قال: (ومن دخل دار قوم بإذنهم أو بغير إذنهم، فعقره كلبهم: فلا

ضمان عليهم). وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "العجماء جبارة" مسألة: [إيقاف الدابة في الطريق] قال: (ومن أوقف دابة في الطريق، مربوطة أو غير مربوطة: ضمن ما أصابت بأي وجهٍ أصابت). وذلك لأنه متعد في إيقافه إياها في الطريق، فهو بمنزلة واضع الحجر في الطريق، وحافر البئر فيها. وليست هذه بمنزلة النفحة بالرجل للسائق؛ لأنه غير متعد في السير. * قال: (وإن كانت مربوطة، فجالت في رباطها: فهو كذلك)؛ لأن التعدي باق. * قال: (وإن كانت غير مربوطة، فزالت عن موضعها: لم يضمن ما أصابت بعد ذلك). لأنها صارت منفلته بزوالها عن الموضع، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم: "العجماء جبار"، والعجماء هي البهيمة المنفلتة. * وكذلك جميع الهوام وغيرها، إذا ألقاها رجل في الطريق، فهي

كالدابة فيما وصفنا. مسألة: (وإذا بني في الطريق، أو وضع فيها حجرًا: ضمن ما عطب به) لأنه متعد فيه، ولا نعلم فيه خلافًا بين الفقهاء. مسألة: [خروج الميزاب إلى الطريق] قال: (ومن أخرج من داره ميزابًا إلى الطريق، فسقط على رجلٍ، فقتله، فإن أصابه ما كان في الحائط منه: لم يضمن). * (وإن أصابه ما كان خارج الحائط: ضمن). لأنه في غير ملكه، كحجر وضعه في الطريق. * (وإن لم يعلم ما أصابه منهما: لم يضمن في القياس، ويضمن في الاستحسان النصف). لأنا إذا لم نعلم من أيهما مات، وقد علم وقوعه عليه، حكمنا بموته منهما جميعًا، وهو متعد في البعض، غير متعد في البعض، فيضمن النصف. مسألة: [حكم الأجير في الضمان] (وإذا استأجر رجلاً على شيء يحدثه في فنائه، فعطب به إنسان: ضمن المستأجر).

وذلك لأن له أن ينتفع بفنائه على شرط السلامة، كالقعود في الطريق للاستراحة على شرط السلامة، فلم يكن الأجير متعديًا، وكان أمر المستأجر إياه بذلك أمرًا صحيحًا، فانتقل حكم فعل الأجير إليه؛ لأنه قد استحق عليه البدل، فصار كأن المؤجر فعله، فالضمان عليه خاصة. وليس هذا كأمره إياه بالحفر ونحوه في غير فنائه، فيضمن الأجير؛ لأن أمره فيه كلا أمر، إذ ليس له أن يحدث في غير ملكه وفنائه شيئًا. مسألة: [عدم وجوب الكفارة في قتل الخطأ على الصبي والمجنون] قال: (ولا كفارة على الصبي والمجنون في شيء مما أوجبنا فيه الكفارة على العاقل البالغ). وذلك لأن الكفارة عبادة لله تعالي، والصغار والمجانين لا تلزمهم العبادات، كالصوم والصلاة والحج، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم". مسألة: [عدم توريث من وجبت عليه الكفارة] قال: (وكل من أوجبنا عليه الكفارة: حرم الميراث، ومن لم نوجب عليه الكفارة في غير العمد: لم يحرم الميراث). قال أبو بكر: وذلك لأن واضع الحجر في الطريق لما لم تلزمه الكفارة: لم يحرم الميراث، والقاتل بيده لما لزمته الكفارة: حرم الميراث،

فعلمنا أن حرمان الميراث في غير العمد متعلق بوجوب الكفارة مسألة: [حرمان الميراث يوجب حرمان الوصية] قال: (ومن حرم الميراث لأجل القتل: حرم الوصية). وذلك لأن الميراث آكد في وجوبه من الوصية، بدلالة أنه يدخل في ملك الوارث بغير قبوله، والوصية لا يصح دخولها في ملكه إلا بقبوله، فلما حرم الميراث لأجل القتل، كان حرمان الوصية أولي. ********************

باب حكم الحائط المائل

باب حكم الحائط المائل مسألة: [الحائط المائل وضمان ما يحدث عنه] قال أبو جعفر: (ومن مال حائطه إلى الطريق، أو إلى دار رجلٍ، فعطب به عاطب: فلا ضمان عليه). وذلك لأن ميل الحائط ليس من فعله، ولم يكن متعديًا ببنائه في ملكه، فلم يضمن ما عطب به، ألا ترى أن الريح لو طرحت حائطًا لرجل إلى الطريق، فوقع على إنسان، أو عطب بترابه: لم يضمنه؛ لأنه لم يكن الوقوع من فعله، ولم يكن متعديًا في بنائه. * قال: (فإن أشهد عليه في نقضه، فأمكنه، ولم يفعل: ضمن ما عطب به). لأنه قد صار في هواء الطريق، فشغله، فلما تقدم إليه في رفعه، فلم يرفعه: كان متعديًا، كما أن ثوبًا لو ألقته الريح في دار رجل، وأمره صاحب الدار برفعه، فلم يرفعه ضمن ما عطب به، فكذلك لو وقع الحائط إلى الطريق، فأمر برفع التراب، فلم يرفعه: ضمن ما يعطب به؛ لأنه ليس له أن يشغل حق الغير بحائطه.

وما لم يتقدم إليه، فلم يكن من جنايته. والواحد من الناس إذا تقدم إليه: لزمه رفعه؛ لأن ذلك حق للكافة، فإذا قام به بعضهم، صار خصمًا عن الباقين. * قال: (فإن كان ما عطب به نفس: فهي على العاقلة، وما كان من مالٍ: فهو في ماله). وذلك لأنه بمنزلة واضع الحجر في الطريق. مسألة: [الإشهاد على ميل الحائط] قال: (ويصح الإشهاد من المستأجر، والمستغير، أو من مالكٍ إذا كان الميل إلى داره). وذلك لأن الميل قد شغل ذلك القدر من الدار، فله أن يأمره برفعه، كما لو وضع شيئًا في الدار: كان له أن يأمره برفعه. * قال: (وإن كان الحائط لجماعة، فتقدم إلى بعضهم، فلم يهدمه حتى سقط، فعطب به عاطب: فإنه لا يضمن أحد منهم شيئًا). لأنه لا يستطيع بعضهم هدمه دون بقيتهم. "ولكن أبا حنيفة استحسن، فجعل على المتقدم إليه من الدية بمقدار حصته من الحائط). ووجه الاستحسان فيه: ما حكاه أبو الحسن الكرخي رحمه الله عن محمد أنه قال: إذا أشهد عليه، ينبغي له أن يرفعه إلى الحاكم حتى يأمره

الحاكم بالنقض، وإن كان شركاؤه غائبين، من قبل أن فيه حقًا لجماعة المسلمين، والإمام يتولى ذلك لهم، فيأمر الحاضر بنقض نصيبه ونصيب الغائبين. وإذا أمكن المشهد عليه نقض نصيبه من هذا الوجه، فلم يفعل: كان مفرطًا فيه، ولحقه ضمان ما حدث منه. * وإنما ضمن بمقدار حصته من الحائط؛ لأن الموت هاهنا حادث من الثقل، وليس ذلك معنى مختلفًا في نفسه، فوجب أن يضمن مقدار نصيبه، كما أن رجلاً لو استأجر دابة ليحمل عليها قفيزين من حنطة إلى موضع معلوم، فحمل عليها ثلاثة أقفزة: ضمن ثلث قيمتها، وهو مقدار الزيادة؛ لأنها عطبت من الثقل، فضمن بقسطه. * (وفي قول أبي يوسف ومحمد: عليه ضمان النصف). وذلك لأن أنصباء الآخرين كنصيب واحد؛ لأنه لم يجب به ضمان، فهو مثل أن يجرح رجلاً، ويعقره سبع، وتنهشه حية، فيموت من جميع ذلك: فعلى الجارح النصف؛ لن عقر السبع، ونهش الحية لما لم يتعلق بهما ضمان، صار كالشيء الواحد، كذلك أنصباء الآخرين. [مسألة:] * قال: (وإذا خرج الحائط المائل من ملكه بعد الإشهاد: لم يضمن ما عطب به). لأن ميل الحائط لما لم يكن من فعله، ولم تكن جناية من جهته،

وإنما تصير جنايته بالإشهاد والتقدم، والإشهاد إنما يتعلق حكمه ببفء الملك، بدلالة أنه لو أشهد عليه بعد خروجه من ملكه لم يكن للإشهاد حكم، ووجب أن يكون زوال الملك بعد الإشهاد مسقطًا لحكم الجناية. وليس ذلك مثل ساجة وضعها رجل في الطريق، ثم باعها، فغضب بها إنسان قبل النقل: فيضمن الواضع؛ لأن تلك كانت جناية صحيحة قبل البيع بغير الإشهاد، فلا يرتفع حكمها إلا بزوالها عن الموضع. مسألة: [وقوع الحائط المائل بعد الإشهاد عليه] قال: (وإذا وقع الحائط المائل بعد الإشهاد، فعطب إنسان بترابه، فإن أبا يوسف قال في الإملاء: لا يضمن). لأنه قد زال عن المكان الذي كان فيه وقت الإشهاد، كرجل وضع حجرًا في الطريق، فنقله آخر عن موضعه. (وقال محمد: يضمن). لأن الإشهاد إنما صح حكمه بما يخاف من سقوطه، ولولا ذلك لم يكن للإشهاد معنى، ألا ترى أنه إذا وقع على إنسان: ضمن وإن كان زائلاً عن الموضع، كذلك إذا عطب بترابه. قال أبو بكر أيده الله: وكل ما ذكر فيه الإشهاد، فإن المعني فيه وقوع

العلم بالتقدم إليه في الرفع؛ لأنه إذا كان جاحدًا: لا يثبت عندنا التقدم إلا بشاهدين. ولو اعترف صاحب الحائط أنه قد تقدم إليه في رفعه: ضمنه وإن لم يكن هناك إشهاد؛ لن المعنى فيه أن يتقدم إليه، ويأمره بإزالة الخلل الذي صار في هواء داره، أو في الطريق، فيصير حينئذٍ جانيًا بترك النقض. **************************

باب جنايات العبيد والمدبرين

باب جنايات العبيد والمدبرين مسألة: [جناية العبد] قال أبو جعفر رحمه الله: (وإذا قتل العبد رجلاً خطأ، قبل لمولاه: ادفعه إلى ولي الجناية، أو افده بالدية). قال أبو بكر: الأصل في ذلك عندنا: أن جناية العبد في رقبته ورقه، فيقال للمولي: إن فديته بالدية، فليس لولي الجناية من الحق أكثر من استيفاء أرش الجناية في الرقبة، فليس له مطالبتك بتسليم العبد إليه، وإن أبيت الفداء: فسلم العبد إليه. وإنما قلنا إن جنايته في رقه ورقبته: من قبل أن من شأن الجنايات أن تستحق بها الرقاب، والدليل عليه أنها لو كانت عمدًا: لاستحق بها رقبته بالعمد، فإذا كانت خطأ ثبت في الموضع الذي ثبت فيه العمد؛ لأن القود والدية جميعًا بدل من النفس، فينبغي أن يكون ثبوتها في موضع واحد من رقبة القاتل، وأن لا يختلف في ذلك العمد والخطأ في باب ثبوتها في الرقبة؛ لأن رقبة العبد مال يجوز أن يستحق بالجناية الخطأ. فإن قيل: فجناية الحر إذا كان عمدًا تستحق بها رقبته، ولو كانت خطأ

لم يكن ثبوتها في الموضع الذي ثبت فيه العمد، ولم تستحق بها رقبته: قيل له: من قبل أن رقبة الحر لا يجوز أن تستحق بالمال، فلذلك لم يثبت فيها الخطأ، ورقبة العبد يجوز استحقاقها بالمال، فلذلك ثبت الخطأ في الرقبة. وقد قيل فيه: إنه لما كان من شأن جناية الخطأ أنها تلزم العاقلة، وكان عاقلة العبد مولاه، لأنه أولى الناس به وبنصرته: وجب أن يلزمه حكم جنايته، إما أن يفديه، أو يدفعه فيبرأ من ضمان الجناية، ويكون ذلك عليه حالاً، كما يستحق عليه دفع العبد حالاً، والمعنى الذي قدمناه أصح عندنا، وعليه كان يعتمد أبو الحسن رحمه الله. * قال: (فإن اختار فداه بالدية: لزمته، فإن ثبت إعساره بعد ذلك، فإن أبا حنيفة قال: لا سبيل على العبد، والدية دين على المولى). وذلك لأن المولى لما كان مخيرًا بين الدفع والفداء، كان له أن يسقط الجناية عن رقبة عبده، ويجعلها في ذمة نفسه، لولا ذلك لما كان للتخيير معنى، ألا ترى أنه لو أعتقه: نفذ عتقه، وثبتت الدية في ذمته. * (وقال أبو يوسف: إذا لم يكن للمولي مال مقدار الدية وقت الاختيار، كان اختياره باطلاً، وكان حق ولي الجناية في رقبة العبد). لأنه إنما جعل له إسقاط الجناية من رقبة العبد، على شريطة تسليم الدية إلى ولي الجناية بدلاً من الرقبة، ولا يجوز له أن ينقل الجناية عن الرقبة التي استحقها ولي الجناية حالة، إلى دية ثاوية في ذمته إذا كان

معسرًا غير قادر على الأداء. * قال: (وقال محمد: الاختيار جائز: معسرًا كان المولى أو موسرًا، وتكون الدية في عنق العبد دينًا لولي الجناية، فيباع لولي الجناية). وذهب في ذلك إلى أن المولى مخير في إسقاط الجناية من رقبة العبد، إلا أنه إذا أسقطها من الرقبة، صارت في ذمة العبد، فيصير بمنزلة العبد إذا استهلك مالاً، فيباع فيه، إذ لا سبيل للمولي إلى إسقاط حق ولي الجناية من العبد رأسًا، وجعله إياه في ذمة نفسه وهو معسر، لما يدخل به من الضرر على ولي الجناية. مسألة: [حكم العتق بعد الجناية] قال أبو جعفر رحمه الله: (ولو أعتقه وهو يعلم بالجناية: كان مختارًا للدية). وذلك لأن منع الدفع مع العلم بالجناية، هو آكد في بابه من قوله: قد اخترت الفداء؛ لأن العتق الذي أوقع لا يلحقه الفسخ. * قال: (وإن لم يعلم بالجناية: كان عليه الأقل من قيمته ومن أرش الجناية). لأنه لما لم يعلم بالجناية: لم يكن مختارًا للفداء، إلا أنه مع ذلك قد استهلك رقبةً قد تعلق بها حق ولي الجناية في استحقاق دفعها إن لم يفده، فيغرم القيمة، إلا أن يكون الأرش أقل، فلا يكون لولي الجناية أكثر من الأرش، ألا ترى أن غير المولى لو استهلكه: لم يلزمه

إلا القيمة، كذلك هو. * قال أبو جعفر: (وكذلك لو دبره، أو باعه، أو كاتبه، أو آجره، أو رهنه، أو كانت أمه فزوجها). قال أبو بكر: الأصل فيه: أنه متى منع الدفع بفعله، فإنه ينظر: فإن علم بالجناية: كان مختارًا للدية، وإن لم يعلم: فعليه الأقل من قيمته ومن أرش الجناية، فالبيع والتدبير والكتابة كل ذلك يمنع الدفع. قال أبو بكر: وأما قوله في الرهن والإجارة والتزويج، وجمعه بينها وبين البيع والتدبير ونحوها: فليس هو المشهور من قولهم، بل المشهور من قولهم في هذه الأشياء الثلاثة: أنه لا يكون بها مختارًا. ذكره محمد في كتاب الديات. وإنما كان كذلك: من قبل أن الرهن لا يمنع الدفع؛ لأنه يفكه ويدفعه، وأما ألإجارة فإنها تنقض؛ لأن من شأنها أن تنقض بالأعذار، وهذا عذر متى أراد الدفع، وأما التزويج فغير مانع من الدفع، وما حدث فيها من العيب بالتزويج، لا يكون بمنزلة جراحته إياها؛ لأن ذلك عيب من جهة الحكم، لم يتلف به شيء من أجزائها، والتزويج بمنزلة الوطء والاستخدام. وليس ذلك بمنزلة المشتري أو البائع إذا كان بالخيار في المبيع، ففعل شيئًا من ذلك: فيكون اختيارًا للبيع، أو لفسخه إن كان الخيار للبائع ففعل ذلك، من قبل أن العبد في هذه الحال باق على ملكه، لم يستحقه غيره، وإنما ثبت لولي الجناية حق في دفعه إليه، فإن كان الدفع ممكنًا: لم يكن

فعله لشيء من ذلك اختيارًا للفداء. وأما خيار البيع، فإنه خيار في إجازة عقد أو فسخه، فإذا فعل ما لا يصح بقاء العقد معه، أو ما لا يصح إلا مع الإجازة: تعلق به الحكم على هذا الوجه. * قال: (ولو استخدمه: لم يكن مختارًا). وذلك لما بينا من أن الاستخدام لا يمنع الدفع. * قال: (ولو جرحه: كان مختارًا إذا علم بالجناية). وذلك لأنه قد منع الجزء المتلف، فصار مانعًا للجميع؛ لأنه لا يمكنه دفع بعضه دون بعض، ألا ترى أنه لو كان قائمًا فأراد دفع بعضه وفداء البعض: لم يكن له ذلك؛ لأن الجناية أوجبت أحد شيئين: إما دفع الجميع، أو فداء الجميع. مسألة: قال: (ولو جرح العبد رجلاً، فأعتقه المولى، وهو يعلم بها قبل البرء، ثم انتقضت الجراحة، فمات منها: كان هذا اختيارًا، وكانت عليه الدية). وذلك لأنه أعتقه مع وجود سبب التلف، فمنع الدفع بالعتق، مع العلم بالجناية، والعتق لا يلحقه الفسخ، فيخاطب فيه بالدفع. قال: (ولو لم يعتقه، ولكن المجني عليه برئ، فاختار المولى أن

يعطي الأرش، ويمسك العبد، ثم انتقضت الجناية، فمات المجني عليه، والعبد على حاله عند مولاه، فإن أبا حنيفة قال: ينبغي في القياس أن يكون هذا منه اختيارًا، ولكن أدع القياس، وأخيره الآن خيارًا مستقبلاً. وقال أبو يوسف بعد ذلك: آخذ بالقياس، فإن شاء دفعه، وأخذ ما أعطى، وإن شاء فداه بتمام الدية). قال أبو بكر: الصحيح من قول أبي يوسف: أن عليه الدية، ولا خيار له، والذي ذكره أبو جعفر من قول أبي يوسف أنه قال: آخذ بالقياس، فإن شاء دفعه: غلط، ويشبه أن يكون من غلط الكاتب؛ لأن قول أبي يوسف الآخر: أنه يلزمه الدية بلا خيار. والذي ذكره من قول أبي حنيفة: غير مذكور في كتبهم، وإنما قال محمد في كتاب الديات: كأنه ينبغي في القياس أن يكون هذا منه اختيارًا، لكنا ندع القياس، ونخيره الآن خيارًا مستقبلاً، فإن شاء دفعه وأخذ ما أعطاه، وإن شاء فداه بتمام الدية، وهذا قول أبي يوسف الأول ومحمد. * قال: (وقال أبو يوسف بعد ذلك: عليه الدية). فحصل ما ذكر محمد أن الاستحسان قول أبي يوسف الأول، وقول محمد القياس هو قول أبي يوسف الآخر، ولم يعز محمد شيئًا من هذين القولين إلى أبي حنيفة. وجه القياس، وهو قول أبي يوسف الآخر: أنه لما اختار الأرش:

سقطت الجناية من رقبة العبد، وصار الأرش في ضمان المولى، فلا يعود بعد ذلك في الرقبة، وجاز أن يكون مختارًا للدية قبل وجوبها؛ لأنه اختارها بعد وجود السبب، كما يجوز عفوه عن النفس بعد وجود السبب، وهو الجراحة. ووجه الاستحسان، وهو قول محمد في تخييره إياه خيارًا مستقبلاً هو أن العبد مما يمكن دفعه في الحال، وجائز أن يكون إنما اختار الأرش بدءًا؛ لأنه أقل من قيمة العبد، فلما صارت نفسًا، وكثر الأرش: لم يكن اختياره الأول اختيارًا للدية. ولا يلزمه ما قال أبو يوسف، من سقوط الجناية من رقبة العبد بالاختيار الأول؛ لأن أمر الجنايات مراعى بما تؤول إليه، فيكون الحكم لنهاياتها، لا لابتدائها، فكذلك أمر الاختيار فيها مراعى بما تؤول إليه، وليس كذلك العتق؛ لأنه يمنع الدفع، ولا يلحقه الفسخ. مسألة: [ضمان جناية العبد الجاني] قال: (وإن قتل العبد الجاني عبدًا لرجلٍ، فدفع به: قيل للمولى: ادفعه أو افده؛ لأنه قام مقام الأول، فإن غرم قيمته دراهم، دفعها إلى ولي الجناية، ولم يقل له: افدها، ولا يكون مختارًا لو أنفق الدراهم؛ لأن الدراهم لا تفدى. ولو قتله عبد آخر للمولى: قيل له: ادفع هذا العبد الثاني إلى ولي الجناية التي جناها العبد الأول، وافده منه بقيمة الأول). وذلك لأن حق ولي الجناية كان متعلقًا برقبة الأول، فإذا قتله عبد آخر للمولى: قيل له: إن شئت أقمت الثاني مقام الأول فدفعته، وإن شئت فديته بقيمة الأول، فأقمت القيمة مقامه، كما لو قتله عبدً لأجنبي: قيل

لمولاه: ادفعه أو افده بقيمة المقتول. مسألة: (وإذا قتل العبد رجلاً عمدًا، فأعتقه مولاه: كان لولي الجناية قتله). وذلك لأن وجوب القصاص لا تتعلق صحته بالرق، والدليل عليه: أن المولى لا يملك الإقرار عليه بقتل العمد، فالقصاص عليه بعد العتق كهو قبله. وليس ذلك مثل قتل الخطأ، فيسقط عن رقبته بالعتق، من قبل أن المولى فيه مخير بين الدفع والفداء، فإذا أعتقه: فقد اختار الفداء، وأما العمد فلا سبيل له إلى إسقاطه عنه بحال. مسألة: قال أبو جعفر: (وإن كان للمقتول وليان، فعفا أحدهما بعد العتق: كان للآخر أن يستسغي العبد المعتق في نصف قيمته عبدًا). قال أبو بكر: وذلك لأن الدم كان بينهما نصفان، فلما عفا أحدهما: سقط حقه، وهو النصف من نصف الرقبة، وثبت للآخر نصف الدم في رقبته، فيغرمه من قيمته؛ لأن الجناية كانت في حال الرق، وجناية الرقيق إذا تحولت مالاً: استحق بها القيمة ما لم يكن المولى فيها مختارًا للفداء. مسألة: [جناية العبد في القتل والمال] قال أبو جعفر: (وإذا قتل العبد رجلاً خطأ، واستهلك لآخر مالاً:

دفع إلى ولي الجناية، واتبعه الدين، فيباع فيه). قال أبو بكر أيده الله: الأصل في ذلك: أن الجناية تثبت في الرق، وتستحق بها الرقبة، والدين يثبت في الذمة، ويستحق به الثمن والكسب، ويبين لك الفصل بينهما: أن المولى لو أعتقه وفي رقبته جناية: بطلت الجناية من رقبته، ولم يلزمه منها شيء، وكانت على المولى؛ لأنها كانت ثابتة في الرق، وقد بطل الرق. ولو كان عليه دين، فأعتقه المولى: كان الدين باقيًا عليه في ذمته، وذلك لأن الديون لا تستحق بها الرقاب في الأصول، وإنما تثبت في الذمم، وتستوفى من الاكتساب، والجنايات تستحق بها الرقاب على النحو الذي بيناه فيما سلف. وإذا كان الأصل في الدين والجناية ما وصفنا، ثم اجتمع في عنقه دين وجناية قيل للمولى: ادفعه إلى ولي الجناية، فإذا دفعه: اتبعه الدين؛ لأن ولي الجناية لم يستحق إلا عبدًا معيبًا بالدين، فيتبعه الدين، ولو لم يتبعه الدين، لكان قد استحق عبدًا غير معيب بالدين. وأيضًا: فلما لم يجز سقوط حق الغرماء رأسًا، إذ ليس ولي الجناية بأولى بالعبد من الغريم، ولم يجز أن يقع بينهما مزاحمة في استحقاقه، لما وصفنا من أن الدين في الذمة، والجناية في الرقبة: وجب أن يكون ثبوت حق الغرماء غير مانع لولي الجناية من استحقاقه، ولا يكون حق ولي الجناية أيضًا مسقطًا للدين من ذمته، فوجب أن يباع فيه.

[مسألة:] * قال أبو جعفر: (ولو حضر صاحب الدين أولاً: باعه القاضي له في دينه). لأنه لا يجوز لنا تأخير دينه لأجل الجناية، إذ كان هو يستحق ذلك على ولي الجناية لو صار في يده، كذلك ثبوت حقه فيه ليس بآكد من حصول ملكه فيه في باب المنع من استحقاقه بالدين. * قال:) فإن حضر بعد ذلك ولي الجناية: لم يكن له شيء). وذلك لأنا لو فسخنا البيع، ودفعناه إليه، لاحتجنا إلى بيعه ثانيًا للغرماء، ولا معنى لفسخ بيع يحتاج بعد فسخه إلى إعادته. ولأن الدين الموجب لبيعه، قائم مع الفسخ، فلا يجوز فسخ البيع مع وجود ما يوجبه. مسألة: [قتل المدبر رجلاً خطأ] قال أبو جعفر: (وإذا قتل المدبر رجلاً خطأ: فعلى مولاه الأقل من قيمته، ومن الدية إلا عشرة دراهم). قال أبو بكر: وذلك لأن رق المدبر باق، فثبتت الجناية فيه في الحكم، لما بينا من أن شأن جنايات الرقيق ثبوتها في الرق، فلما ثبت فيه وامتنع تسليمه إليه بفعل المولى للتدبير، وهو مع ذلك في يده وتصرفه: وجبت عليه قيمته لمنعه تسليم الرقبة، ولم يكن مختارًا للفداء؛ لأن حكم

الاختيار لا يلزم إلا مع العلم بالجناية، وهو لم يكن عالمًا بها وقت التدبير؛ لأنه لم يكن هناك جناية منه، فلذلك لزمته القيمة دون الدية، إلا أن تبلغ الدية، فينقص منها عشرة دراهم، وذلك لأن ضمان الرقيق من جهة الجناية لا يجوز أن يبلغ به الدية، لما بينا فيما سلف. * قال: (وكذلك لو قتل جماعة: لم يكن على المولى غير ما ذكرنا). لأن حكم المنع لما استند إلى حال التدبير، وهي قبل الجنايات، صار كأنه جني جنايات كثيرة، ثم دبره مولاه، وهو لا يعلم بالجنايات، فيلزمه قيمة واحدة يشتركون جميعًا فيها. [مسألة:] * قال: (ولو دفع القيمة إلى ولي الجناية الأولي بغير قضاء قاض، ثم قتل آخر: كان ولي الجناية الثانية بالخيار: إن شاء اتبع المولى بنصف القيمة، وإن شاء اتبع ولي الجناية الأولي في قول أبي حنيفة). وذلك لأن حق الثاني لما تعلق بالقيمة المدفوعة بالسبب المتقدم، وهو التدبير، صار في هذا الوجه بمنزلة لو قتل قتيلين، ودفع المولى جميع القيمة إلى أحدهما، فللآخر أن يضمن المولى نصيبه. (وقال أبو يوسف ومحمد: دفعه القيمة بقضاء القاضي وغير قضائه سواء ولا ضمان للثاني على المولى، ولكن يتبع الأول). وذلك لأنه دفع القيمة، ولا حق لأحدٍ غيره فيها، وإنما حدث حق الثاني بعد ذلك، فلا يوجب ذلك ضمانًا على المولى.

قالا: وليس ذلك بمنزلة أن يقتل قتيلين، فيدفع المولى القيمة إلى أحدهما: فهاهنا له أن يضمن المولى نصيبه). لأنه دفع القيمة وهي بينهما بمنزلة دين بين رجلين دفعه إلى أحدهما، فإذا دفعها بغير قضاء في مسألة الخلاف، ففي قول أبي حنيفة: ولي الثاني بالخيار: إن شاء ضمن المولى لما وصفنا، وإن شاء ضمن ولي الجناية الأولي؛ لأن حق الثاني ثبت في تلك القيمة بعينها، كما لو أن ألف درهم بين رجلين مودعة عند رجل، أو غصبًا، فسلمها الذي في يديه كلها إلى أحدهما، فاستهلكه: فللشريك إذا جاء أن يضمن الذي كان عنده المال إن شاء، وإن شاء ضمن القابض؛ لأنه قبض مالاً هو شريكه فيه بغير إذنه. * قال: (فإن ضمن المولى: رجع على القابض، وإن ضمن القابض: لم يرجع على المولى). وذلك لأنه لما كان لولي الثاني الخيار في تضمين أيهما شاء، فضمن المولي، قام المولى مقامه فيما كان ثبت له من الضمان على ولي الأول، وأشبه هذا الغاصب وغاصب الغاصب إذا ضمن المغصوب منه الغاصب الأول: رجع على الثاني، وإن ضمن الثاني: لم يرجع على الأول. مسألة: [جناية المدبر في غير بني آدم] (وما جناه المدبر في غير بني آدم: فعليه أن يسعى في قيمته لمالكه، بالغةً ما بلغت، ولا شيء على مولاه فيها، وكذلك أم الولد). قال أبو بكر: قوله: يسعى في قيمته: لا معنى له؛ لأنه يسعى في الدين بالغاً ما بلغ، ولا تعتبر القيمة، وإنما كان كذلك من قبل أن الدين

في ذمته، ويستحق به كسبه، وذلك لأن المولى إنما يملك كسب العبد من جهة العبد، كما يملك الوارث الميراث من جهة الميت، فإذا كان هناك دين، كان الغريم أحق بالميراث من الوارث، حتى يستوفى دينه، كذلك الغرماء في مسألتنا أحق بكسبه من المولى حتى يستوفوا ديونهم. مسألة: [جناية المكاتب] قال أبو جعفر: (وإذا جني المكاتب على رجل، فقلته خطأ: فعلى المكاتب أن يسعى في الأقل من قيمته، ومن الدية، إلا عشرة دراهم). وذلك لأن المكاتب رقيق، فثبتت جنايته في رقه، على ما بينا فيما سلف، وهو في يد نفسه، بدلالة أن كسبه له دون المولى، وأنه لو جني عليه: كان هو المستحق لأرشه دون مولاه، فلما كانت جنايته في رقبته، وتعذر دفعها لأجل الكتابة، وجب أن يقضي عليه بقيمة الرقبة التي هي في يده، كما يقضي على المولى بقيمة المدبر إذا جني، إذا كان في يده، والمولى مالك لتصرفه. ووجب الأقل؛ لأنه رقيق، والرقيق لا يضمن في الجناية بأكثر من ذلك. مسألة: [قتل المكاتب جماعة] قال أبو جعفر رحمه الله: (فإن قتل المكاتب جماعة، ثم اختصموا إلى القاضي: قضى عليه بقيمة واحدة. وذلك لأن الجنايات كلها كانت ثابتة في الرق، ولو عجز المكاتب

قبل القضاء عليه بالقيمة: لم يستحقوا إلا رقبة واحدة، فكذلك لما تعذر دفع الرقبة، وكان في يد نفسه، لم يكن عليه إلا قيمة واحدة، ألا ترى أن جنايات المدبر وإن كثرت: لم يلزم المولى إلا قيمة واحدة؛ لأنه لو كان عبدًا لم يستحق أولياء الجناية إلا دفع رقبة واحدة. * قال: (فإن قضى عليه بالقيمة لولي الجناية، ثم قتل آخر خطأ: قضى عليه القاضي بقيمة أخرى). وذلك لأن القاضي قد نقل الجناية التي كانت في رقبته إلى ذمته، فصارت دينًا، وفرغت الرقبة نمها، فصادفت الجناية الثانية رقبة فارغة من الجناية، فثبتت في جميعها. وليست جنايته بمنزلة جنايات المدبر من هذا الوجه، من قبل أن جناية المدبر إنما يلزم المولي فيها قيمة واحدة في ذمته لجميع أولياء الجناية، وجناية المكاتب ثبتت في رقبته، فإذا قضى بها، تحولت من الرقبة إلى الذمة. مسألة: [جناية المكاتب في المال] قال أبو جعفر: (وما جناه المكاتب على رجل في ماله: سعى في قيمته بالغةً ما بلغت). قال أبو بكر: قوله: يسعى في قيمته: عبارة فيها خلل، من قبل أنه لا اعتبار بالقيمة فيما يلزمه من الدين، بل يسعى في الدين بالغاً ما بلغ.

مسألة: [قتل المكاتب خطأ] قال: (وإذا قتل المكاتب رجلاً خطأ، فلم يقض عليه القاضي بشيء حتى عجز: خوطب المولى فيه بالدفع أو الفداء). وذلك لما وصفنا من أن جنايته كانت ثابتة في رقه، إلا أنهم إذا اختصموا وهو مكاتب، تعذر دفع الرقبة، فقضينا عليه بالقيمة، فإذا عجز قبل القضاء: لم تبطل الجناية التي هي ثابتة في الرق، والدفع ممكن، فخوطب المولى فيه بالدفع أو الفداء. * قال: (وإن كان القاضي قضى عليه بالعجز بالواجب عليه، ثم عجز: كان دينًا في عنقه يباع فيه). قال أبو بكر: وذلك لأنها لما قضى بها، صارت دينًا في الذمة، وبطلت من الرقبة، فاستحق ولي الجناية بيعه، إذ كان ذلك ممكنًا بعد العجز. ******************

كتاب قتال أهل البغي

كتاب قتال أهل البغي مسألة: [تعريف أهل البغي] قال أبو جعفر رحمه الله: (وإذا أظهرت جماعة من أهل القبلة رأيًا، وقاتلت عليه، وصار لها منعة: سئلت عما دعاها إلى الخروج، فإن ذكرت ظلمًا: أنصفت من ظالمها، وإلا: دعيت إلى الرجوع إلى الجماعة). قال أبو بكر أيده الله: وإنما سئلت عن ذلك: لجواز أن يكون خروجها للامتناع من ظلمٍ جرى عليها أو على غيرها، فإن كانوا ممتنعين من الظلم: فهم محقون لا يجب قتالهم؛ لأنهم حينئذٍ خرجوا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا علم أن خروجهم لم يكن لظلمٍ لحقهم، أو لحق غيرهم، وأنه للقتال على رأيهم الفاسد الذي اعتقدوه: دعوا إلى الجماعة، والدخول

في طاعة الإمام والأصل فيه: قول الله تعالي:} وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله {. فاستفدنا من هذه الآية حكمين: أحدهما: أنه ما كان لنا طمع في استصلاحهم ورجوعهم، فعلينا أن ندعوهم ونستصلحهم لقوله تعالي:} فأصلحوا بينهما {. والثاني: أنهم إذا لم يجيبوا إلى الصلح والرجوع، وأظهروا البغي، وجب علينا قتالهم، وقد روي عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقسم تبرًا يوم حنين، فقال رجل: اعدل يا محمد، فقال: "ويحك من يعدل إذا لم أعدل". ثم قال: "يوشك أن يأتي مثل هذا يشكون كتاب الله وهم أعداؤه، فإذا خرجوا فاضربوا رقابهم". فهذا يدل على أن قتالهم يجب بعد الخروج، وبهذا النحو سار على بن أبي طالب في البغاة من الخوارج وغيرهم، وذلك أنه لم يبدأهم بالقتال أول ما خرجوا وتحزبوا، وبعث إليهم عبد الله بن عباس، حتى

حاجهم، ورجع منهم نحو ستة آلاف، فما زال علي رضي الله عنه يحاجهم ويستصلحهم، حتى بقيت منهم البقية التي خرجت إلى النهروان، فخرج إليهم، ولم يبدأهم بالقتال، حتى أرسل إليهم، ودعاهم طمعًا في صلاحهم ورجوعهم، إلى أن قتلوا عبد الله بن خباب، فبعث إليهم: أن أقديونا من قاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كيف نقيدك وكلنا قتله، فقال علي رضي الله عنه: الله أكبر، انهضوا إليهم على بركة الله، فسار إليهم وأبادهم. وروي أن عليًا رضي الله عنه كان يخطب يومًا في المجد على المنبر، فنادى الخوارج بالتحكيم في نواحي المسجد يقولون: لا حكم إلا لله، فقطع علي رضي الله عنه خطبته، ثم قال: كلمة حق يراد بها باطل، أما إن لهم عندنا ثلاثًا: أن لا نمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيها اسمه، وأن لا نمنعهم الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا، وأن لا نبدأهم بالقتال حتى يبدؤونا، ثم مضى في خطبته. فكانت هذه السيرة موافقة لما دل عليه ظاهر الكتاب، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم كان ذلك منه بحضرة الصاحبة من غير نكير من

أحد منهم، فدل على موافقتهم إياه. وأيضًا: لما كان من السنة في قتال أهل الشرك تقدمة الدعاء إليهم قبل القتال، كانت البغاة أولى بذلك، لأن تقدمة الدعاء أبلغ في استصلاحهم واستجابتهم. * قال أبو جعفر: (فإن رجعت إلى الجماعة والدخول في طاعة الإمام، وإلا: قوتلت)، وقد بينا وجه ذلك. [مسألة:] قال أبو جعفر: (ولا يقتل منها مدبر، ولا أسير، ولا يجهز على جريحهم، ولا يغنم لها مال، ولا تسبى لها ذرية). قوله في المدبر والأسير والجريح هو على وجهين: إن كان لهم فئة يرجعون إليها، فإن محمد بن الحسن قال في "السير الصغير": إنه يقتل أسيرهم ما دامت الحرب قائمة بينهم وبين الإمام، ولم يذكر فيه خلافًا. وإذا لم يبق لهم فئة: لم يقتل أسيرهم، ولا يتبع مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم. وقال الحسن عن أبي حنيفة: إن الإمام مخير في الأسير ما دامت الحرب قائمة: إن شاء قتله، وإن شاء حبسه حتى تضع الحرب أوزارها، وإن شاء أطلقه. فإما وجه ما ذكره محمد بن الحسن: فهو أن علي بن أبي طالب رضي

الله عنه أسر ابن يثربي يوم الجمل، فأمر بضرب عنقه، وذلك قبل انقضاء الحرب، فدل ذلك على صحة ما قاله محمد بن الحسن رحمه الله تعالى. * ولا فرق أيضًا بين قتله بعد الأسر وقبله، فلما كان واجبًا قتله قبل الأسر ما دامت الحرب قائمة، وجب مثله بعد الأسر. وكذلك حكم المدبر والجريح؛ لأن إدباره غير دال على تركه المحاربة؛ لأنه يجوز أن يكون أراد الرجوع إلى فئته. وأيضًا: فلما كان المدبر عن المشركين إلى فئة المسلمين غير مستحق لوعيد الفار من الزحف بقوله تعالى:} أو متحيزا إلى فئة {، فكان بمنزلة من هو قائم على حال القتال. وفارق المولي إلى غير فئة، كذلك المولي من البغاة، لا ينبغي أن يكون بمنزلة تارك القتال، ما دام لهم فئة، حتى إذا لم يبق لهم فئة، كانت هزيمة على جهة ترك الحرب، فلا يتبع، كما لم نقتله في الابتداء قبل خروجه إلى القتال. وأما وجه رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: فهو ما روي أن علي بن أبي طالب كان إذا أتي بالأسير، أخذ سلاحه، واستحلفه أن لا يعين عليه، ولا يمالئ عدوه، ثم أطلقه.

قال أبو بكر: وهذا غير مخالف لما ذكره محمد، لاحتمال أن يكن بعد انقضاء الحرب، وفي الحال التي لم يبق للعدو فيها فئة. فإن قيل: يدل على أن فئة العدو كانت باقية: أنه قال: ولا يعين عليه، ولا يمالئ عدوه. قيل له: يجوز أن يكون المراد عدوًا إن خرج، فليس إذًا فيه دلالة على أن الحرب كانت قائمة. * وإنما لم يغنم لها مال، ولا تسبى لها ذرية: من قبل أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يغنم مال البغاة والخوارج، وقد كانوا سألوه في حرب الجمل أن يغنموا المال والذرية، فقال: "من يأخذ أمكم عائشة بسهمه". وأيضًا: فإن هؤلاء لم يستحقوا القتل باعتقادهم، وإنما قاتلناهم على جهة الدفع عن قتالنا، وإلا فهم في حكم سائر أهل ملتنا، وكانوا بمنزلة من استحق الرجم للزني، أو القتل والصلب لقطع الطريق، أو استحق القتل قودًا، فلم يستحق بذلك غنيمة المال، وسبي الذرية، ولم يخرج بذلك من حكم أهل الملة في سائر أحكامه، كذلك الخوارج. مسألة: [صلاة الجنازة على المحاربين] (ولا يصلى على من قتل منها).

قال أبو بكر: وذلك لأن عليًا رضي الله عنه لم يصل على من قتل منهم. وأيضًا: فإنهم لما قتلوا على وجه المباينة لأهل العدل بالمنعة التي حصلت لهم، أشبهوا في هذا الوجه أهل الحرب، إذ كانوا قد صاروا حربًا لنا بالمنعة والخروج، فوجب أن لا نصلي عليهم كما لا نصلي على أهل الحرب. وأيضًا: قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام:} وصلِ عليهم إن صلواتك سكن لهم {، وهؤلاء قتلوا على حال لا يجوز أن يعطوا الأمان عليها، فلا يجوز أن نصلي عليهم؛ لأن ذلك كالأمان لقوله تعالى:} إن صلواتك سكن لهم {. مسألة: [من أخذ منه المحاربون الزكاة] قال أبو جعفر: (وما أخذوه من زكاة في حال امتناعهم ممن غلبوا عليه: لم يعد على أحدٍ منهم). ذلك لأن التفريط في أمرهم جاء من قبل الإمام، إذ كان عليه دفعهم، وحكم أخذهم حكم الأخذ الصحيح في باب سقوط الضمان عنهم، فلم

يجز أن يثنى على المأخوذين منهم الصدقة. وليس ذلك بمنزلة من مر على عاشرهم، فأخذوا منه نقدًا: قلنا تثنى عليه الصدقة؛ لأن صاحبه هو الذي عرضه للتلف بمروره عليهم، ولم يكن من قبل الإمام تفريط في ذلك. * قال: (والأفضل لصاحب الصدقة أن يعيدها فيما بينه وبين الله عز وجل). وذلك لأن البغاة مأمورون بعد التوبة بردها على أربابها فيما بينهم وبين الله عز وجل، وكذلك أرباب الأموال. مسألة: [ما فعله المحاربون مما يوجب القصاص ونحوه] قال أبو جعفر رحمه الله: (وما أصابوه في حربهم من جراح أو نفسٍ أو مال: لم يؤخذوا به، إلا ان يوجد مال رجلٍ بعينه، فيرد عليه). قال أبو بكر: وذلك لما روي عن الزهري قال: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا أن كل دم أريق على وجه التأويل، أو مالٍ أتلف على وجه التأويل: أنه هدر. وأيضًا: فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يضمن من تاب منهم ما أتلفه في حربه.

* وأما ما كان قائمًا بعينه: فإنه يؤخذ منه، ولا خلاف في ذلك، وكما يرد عليهم ما صار في أيدينا من أموالهم. مسألة: [توريث المحارب] قال أبو جعفر: (ومن قتلناه منهم ورثناه). وذلك لأنا قتلناه بحق، والقتل إذا وقع بحق: لا يمنع الميراث، ألا ترى أنه لو قتل رجل بقصاصٍ وجب له قتله: لم يحرم الميراث بقتله. * (وأما قتلهم إيانا، فإن قالوا: قتلناه ونحن نرى أنا على حق: فإنه لا يحرم الميراث في قول أبي حنيفة ومحمد). ولأن قتله إياه على وجه التأويل قد صار في حكم القتل المستحق في باب سقوط حكمه عنه. وإن قالوا: قتلناه ونحن نعلم أنا على باطل: فهذا قد اعترف أنه قتل بغير تأويل، فيحرم الميراث. * (وقال أبو يوسف: لا يرث الباغي من العادل إذا قتله)؛ لأنه قتله بغير حق. مسألة: [من شهر سلاحًا على مسلم فقتله المشهور عليه] قال: (ومن شهر من الأصحاء على رجل سلاحًا ليقتله به، فقتله المشهور عليه: فلا شيء عليه).

قال أبو بكر: وذلك لأنه قد أباح دمه، والأصل فيه: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قُتِل دون نفسه فهو شهيد"، وهو لا يكون شهيدًا في قتاله دون نفسه إلا وذلك مباح له، بل قد استحق عليه الثواب من الله تعالى. وروى سليمان بن بلال عن علقمة عن أمه عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أشار بحديدٍ إلى رجل المسلمين يريد قتله، فقد وجب قتله". وأيضًا: فلو قتله استحق القود، فكذلك له قتله بدءًا، لئلا يقتله. * قال: (ولو كان الذي شهر السلاح مجنونًا، فقتله المشهور عليه وهو صحيح عمدًا: فعليه الدية في ماله). قال أبو بكر: لأن المجنون لا يملك إباحة دمه، لأن قصده كلا قصد، ألا ترى أنه لو قتله: لم يقتل به، وليس كذلك الصحيح؛ لأنه يملك إباحة دمه، بحيث لو قتله قُتِل به. وأيضًا: فإن الصحيح يملك إباحة دمه بالردة ونحوها، والمجنون لا يملك ذلك، فكان حكم الحظر قائمًا في المجنون في باب ضمان النفس. وعلى القاتل الدية في ماله؛ لأنه قتل عمدًا لا شبهة فيه في نفس الفعل، كمن قتله ابنه.

مسألة: قال: (ومن شهر على رجل سلاحًا، فضربه به، فقتله الآخر بعد ذلك، ثم برئ المضروب الأول: فعلى القاتل القصاص). وذلك لأن الأول لما انصرف عنه بعد الضرب: لم يجز قتله، وإنما كان له المطالبة بحكم جراحته، وقد علمنا أنه لم يستحق القتل بما فعله، فعلى قاتله القصاص. مسألة: [صيال البعير على الإنسان وضمانه لو قتله] قال: (ومن صال عليه بعير لرجل، فقتله: فعليه قيمته لمالكه في قول ابي حنيفة ومحمد). قال أبو بكر: الأصل في ذلك: أن صحة الإباحة إنما تتعلق بمن إليه الحظر في باب سقوط ضمان التلف، فإذا كان حظر إتلاف البعير من جهة مالكه، بدلالة أنه لو أباحه له: صحت إباحته، وكان له إتلافه، علمنا أن حكم حظره في باب الضمان متعلق به دون غيره، وحظر الله إياه، إنما هو لحق الآدمي، لا من طريق حق الله تعالى؛ لأن ما كان حظره من جهة حق الله، لم تبحه إباحة الآدمي، نحو الخمر والميتة. وإذا كان هذا على ما وصفنا، وكان الحظر قائمًا من جهة الآدمي، مع جواز استباحة قتله من قبل الله تعالى: وجب أن يكون حق الآدمي قائمًا في ضمانه عند إتلافه بغير إذنه.

ويدل على صحة ذلك: ما اتفق عليه الجميع، أن من اضطر إلى أكل مال غيره: كان له أكله لدفع الضرر عن نفسه، ومع ذلك يضمنه لصاحبه، لبقاء الحظر من جهته، ولم تكن إباحة الله تعالي إياه مزيلة لحكم الضمان، من أجل بقاء حق الآدمي في حظر أكله. وقال أصحابنا في المحرم إذا ابتدأه السبع: إنه يقتله ولا شيء عليه؛ لأن حظر ذلك كان حقا لله تعالى لا غير، فلما زال الحظر من جهة من إليه الحظر، زال ذلك الضمان. وقالوا فيمن شهر عليه عبد رجلٍ سلاحًا، فقتله المشهور عليه: أنه لا ضمان عليه. والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن حظر قتله لم يتعلق بحق المولى، والدليل على ذلك: أنه لو أباحه له: لم يكن له قتله؛ لأن المولى لا يملك ذلك منه، فلا يجوز له أن يبيحه لغيره، فلما لم تصح الإباحة من جهته، لم يعتبر بقاء الحظر من جهته في إيجاب ضمانه إذا فعل العبد ما أباح به دمه، ألا ترى أن الحر إذا فعل مثل ذلك: أباح دمه، كذلك العبد. والوجه الآخر: أن العبد ممن يملك إباحة دمه، ألا ترى أنه لو ارتد عن الإسلام: قتل، وكذلك لو قتل رجلاً عمدًا: قُتِل، فلما كان مالكًا لإباحة دمه من هذه الوجوه، كان كذلك في حمله على غيره بالسلاح. فإن قال قائل: قال النبي عليه الصلاة والسلام: "لا يحل مال امرئ

مسلم إلا بطيبةٍ من نفسه"، فلا يجوز إثبات الضمان على قاتل الجمل، ولا أخذ ماله بغير طيبة من نفسه، لعموم اللفظ. قيل له: قد صح باتفاق الجميع أن مراده: فيمن لم يفعل شيئًا مما يوجب عليه استحقاق ماله، فإذا فعل السبب الذي به استحق عليه، فذلك مستحق عليه بطيبةٍ من نفسه، كالبيع والغصب وسائر أسباب الضمان. وأيضًا: فإن هذا لنا؛ لأنا نقول: لا يحل له الإقدام على إتلاف بعير غيره إلا بشريطة ضمانه إذا أتلفه، ومتى لم يعتقد ضمانه، لم يكن له إتلافه، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه". * قال أبو جعفر: (وقال أبو يوسف: أستقبح في هذا أن أضمنه قيمته)، وذهب فيه إلى أنه مباح القتل في هذه الحال. *****************************

كتاب المرتد

كتاب المرتد مسألة: [حكم المرتد] قال أبو جعفر: (ومن كفر بعد إيمانه من الرجال الأحرار البالغين العقلاء: استتيب، فإن تاب، وإلا: قتل). قال أحمد: والأصل فيه: قول الله تعالى:} فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم {، والمرتد مشرك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، وكفر بعد إيمان، وقتل نفس بغير نفس".

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه". * وأما استتابته قبل قتله: فمن جهة دعاء المشركين إلى الإسلام قبل قتالهم، وروي عن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم: "أنه يستتاب ثلاثة أيام، ويحبس". وعن علي رضي الله عنه: أنه صوب قول ابن عباس في ذلك. وروى عن معاذ: "أنه قتل مرتدًا قبل أن يستتيبه"، والمعنى فيه عندنا: أنه قد كان استتابه غيره، فاكتفى بها. ويدل على ذلك: قول الله تعالى:} قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف {، ثم قال:} وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة {، فاستفدنا من ذلك معنيين: أحدهما: الاستتابة؛ لأن قوله تعالى:} قل للذين كفروا إن ينتهوا {: دعاؤهم إلى الإسلام. وقال:} وقاتلوهم {: يعني إن لم يجيبوا إلى الإسلام، فاستفدنا بذلك وجوب القتل إذا لم يسلموا.

مسألة: [حكم مال المرتد إن قتل] قال أبو جعفر: (وإذا قُتِل: كان ماله لورثته من المسلمين على فرائض الله تعالى). قال أحمد: وذلك لقول الله تعالى:} يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين {، ولم يفرق بين أن يكون الميت مرتدًا أو ملسمًا فإن قيل: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يرث كافر من مسلم". قيل له: نورثه في آخر أجزاء الإسلام؛ لأن من مذهب أبي حنيفة أن الردة لا تزيل ملكه، فليس فيه توريث المسلم من كافر، بل من مسلم. وأيضًا: إنما قول: "لا يتوارث أهل ملتين"، و"لا يرث المسلم الكافر"، فهذا في الكافر الذي له ملة يقر عليها، لأن ما لا يقر عليه من الأديان، فليس بملة يتعلق بها حكم. فإن قيل: روي: "لا يرث المسلم الكافر": مطلقًا، ولم يذكر فيه: لا يتوارث أهل ملتين.

قيل له: الخبران واحد، اختصره بعضهم، وساقه بعضهم على وجهه. وأيضًا: سائر المسلمين يأخذونه بالإسلام، والورثة لهم إسلام وقرب، فهم أولى؛ لأن ذا السببين أولى من ذي السبب الواحد، بدلالة أن الأخ من الأب والأم: أحق بالميراث من الأخ من الأب، لاجتماع السببين له. وأيضًا: روي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس، من غير خلاف من أحد من نظرائهم عليه، فصار إجماعًا. مسألة: [عدم حل ذبيحة المرتد، وكذا نكاحه] قال: (ولا تؤكل ذبيحة المرتد، ولا يجوز نكاحه). وذلك لأنه كافر، غير كتابي؛ لأنه لا يقر على دينه الذي انتقل إليه، وذبيحة الكافر غير الكتابي محرمة، ولا يجوز نكاحه بلا خلاف نعلمه بين الفقهاء. مسألة: [ارتداد الزوجين] قال: (وإذا ارتد الزوجان معًا: كانا على النكاح). قال أحمد: وهذا استحسان من قولهم، وكان القياس عندهم أن تقع

الفرقة؛ لأن المعنى الموجب للتحريم، وهو الردة حادث على النكاح، فصار كردة أحدهما، وكالطلاق الثلاث، وسائر الأسباب الموجبة للتحريم، إلا أنهم تركوا القياس، فلم يوقعوا الفرقة بردنهما معًا. والأصل فيه: شأن أهل الردة في زمن الصحابة رضي الله عنهم، لما ارتدوا، ثم أسلم منهم قوم، ولم يقل أحد من الصحابة بإيجاب التفريق بينهم وبين نسائهم، ولا أمروهم باستئناف العقد. فإن قيل: فمن أين لك أن ردتهم وإسلامهم كان معًا، مع امتناع وقوع ذلك في العادة؟ قيل له: هو كما قلت، إلا أن من حكم الشيئين إذا وقعا ولم يعلم تقدم أحدهما على الآخر، أن يحكم بوقوعهما معًا، مثل الغرقى، والذين يموتون تحت الهدم يحكم بموت جميعهم معًا في باب المواريث، كذلك حكم هؤلاء المرتدين مع نسائهم. وإذا صح ذلك، فإنما خص من القياس بأنهما لم يختلفا في الدين، ففارق من أجل ذلك ردة أحدهما قبل الآخر، وإسلام أحدهما قبل الآخر. مسألة: [ارتداد أحد الزوجين قبل الآخر] قال: (وأيهما ارتد قبل صاحبه: وقعت الفرقة بينهما). وذلك لأن الردة سبب يوجب التحريم، ويمنع العقد ابتداء بلا خلاف، فلما حدث ذلك من جهة أحدهما، صار كسائر الأسباب الموجبة

للتحريم الحادثة على نكاح من جهة أحدهما دون الآخر، نحو الطلاق الثلاث، ووطء أم المرأة، ونحوهما من الأسباب الموجبة للتحريم الطارئة على العقد في إفسادها النكاح عقيب حدوثها. * قال: (فإن كانت المرأة هي المرتدة: فالفرقة واقعة بغير طلاق) وذلك لأن المرأة لا تملك الطلاق، فكل فرقة من قبلها: فليست بطلاق. وفرقة امرأة العنين وإن كانت باختيارها، فهي طلاق؛ لأن سببها من جهة الزوج، وهو منعها حقها من الوطء المستحق عليه بعقد النكاح، فصار كقوله لها: اختاري نفسك، فإن الفرقة وإن لم تقع إلا باختيارها، فإنها طلاق، إذ كان سببها من جهة الزوج. * قال: (وإن كان الرجل هو المرتد، فإن أبا حنيفة وأبا يوسف قالا: ليست بطلاق، وقال محمد: هو فرقة بطلاق). قال أحمد: والأصل في ذلك أن كل سبب يتعلق به فرقة من جهة الزوج، فما كان حكمه مقصورًا على النكاح: فهو طلاق، وما لم يكن حكمه مقصورًا على النكاح، بل يثبت حكمه في النكاح وفي غيره: فليست الفرقة الحادثة عنه طلاقًا. وفرقة اللعان طلاق؛ لأن حكم اللعان مقصور على النكاح، وسببه من جهة الزوج، ألا ترى أن اللعان لا يثبت حكمه في غير النكاح. * (وإباء الزوج الإسلام طلاق عند أبي حنيفة أيضًا)؛ لأن حكم

الإباء إنما يتعلق بالنكاح؛ لأنه لولا عقد النكاح ما عرضنا عليه الإسلام، لأجل إسلام المرأة، وإنما كان كذلك من قبل أن الطلاق حكمه مقصور على النكاح، وهي فرقة من قبل الزوج، فكل ما كان بهذه المثابة، فحكمه حكمه. وأما الردة فليس حكمها مقصورًا على النكاح؛ لأن حكمها ثابت، سواء كان هناك نكاح أو لم يكن، وكذلك وطء أم المرأة، ونظائره من الأسباب الموجبة للتحريم بما يثبت حكمه في النكاح وغيره. وأما محمد: فإنه قال: ردة الزوج طلاق؛ لأنها سبب من قبل الزوج، لا يوجد تحريمًا مؤبدًا، وهذه صفة الطلاق. وأما أبو يوسف: فإنه قال ي إباء الزوج الإسلام: إنه ليس بطلاق، كما أن الردة ليس بطلاق، والمعنى الجامع بينهما: أن الفرقة وقعت من جهة الكفر. مسألة: [لحوق المرتد بدار الحرب وسبيه] قال أبو جعفر: (وإن لحق الزوجان المرتدان بدار الحرب، ثم سبيا: فإن الزوج يستتاب، فإن تاب، وإلا: قتل، ولا يسترق، والمرأة تسترق وتجبر على الإسلام). أما الزوج فلا يقر على الردة ويقتل، لقوله عليه الصلاة والسلام: "من بدل دينه فاقتلوه". ولا يسترق؛ لأنه لما لم يقبل منه إلا الإسلام أو السيف، أشبه مشركي

العرب الذين لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلا الإسلام أو السيف، ولم يسترق من لم يسلم منهم من الرجال. وأما المرأة فإنها تسترق: من قبل أنها لا تقتل، بمنزلة نساء مشركي العرب استرقهن النبي عليه الصلاة والسلام، وأجبرهن على الإسلام. فصل: والحجة في أن المرتدة لا تقتل: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن قتل النساء والولدان"، وهو عام في جميعهن. فإن قيل: إنما نهى عن قتلهن في الحرب، أو إذا كن حربيات؛ لأن الكلام عليه خرج. قيل له: قد روى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بعض أسفاره امرأة مقتولة، فنهى عن قتل النساء والصبيان". وروي في بعض الأخبار: "أنه نهى عن قتل النساء والصبيان"، من غير ذكر سببٍ، فنستعملها جميعًا، ولا نقتلها إذا كانت حربية، ولا إذا ارتدت بالخبر الآخر. وعلى أن خروج الكلام على سببٍ، لا يوجب اعتبار السبب عندنا إذا كان اللفظ أعم من السبب. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بدل دينه

فاقتلوه"، وهو عام في المرأة والرجال. قيل له: ابن عباس هو راوي الخبر، وكان يقول: "الرتدة لا تقتل"، فعلمنا أن قوله: "من بدل دينه فاقتلوه": في الرجال. وأيضًا: فإن قوله: "من بدل دينه فاقتلوه": لا يجوز الاعتراض به على نهيه عن قتل النساء، وذلك لأن الجميع متفقون على أن قتل المرتد غير مستحقا لتبديل الدين، لاستحقه وإن أسلم، كما أن الرجم لما كان مستحقًا للزنى، لم تكن توبته مسقطة له، وكما أن القصاص المستحق بقتل الغير، لا ستقطه التوبة. فلما اتفق الجميع على أن المرتد لا يستحق القتل إذا أسلم، علمنا أن القتل غير مستحق للتبديل فحسب، بل بمعنى آخر مع التبديل، مضموم إليه، فاحتيج إلى طلب المعنى الذي هو شرط في استحقاق القتل مع التبديل، ويسقط حينئذٍ اعتبار اللفظ وحده. وأما نهيه عليه الصلاة والسلام عن قتل النساء: فهو عموم، حكمه متعلق بلفظه، فوجب علينا استعماله على حسب ما اقتضاه لفظه. فإن قيل: فما المعنى الذي هو شرط في استحقاق القتل مع التبديل؟ قيل له: ليس علينا بيان ذلك؛ لأنا إنما بينا إسقاط اعتبار العموم في خبرك. وعلى أن نقول مع ذلك متبرعين وإن لم يلزمنا بحق النظر: أن المعنى

الذي به استحق القتل مع التبديل، هو الإقامة على الكفر، والمرأة لا تستحق القتل بالإقامة على الكفر بدءًا إذا كانت حربية، فكذلك بعد الردة؛ لأن تبديل الدين إنما يوجب القتل مع الإقامة التي انفردت بدءًا لاستحق بها القتل وإن لم يكن مبدلاً به لدينه، فأما من لم تكن لإقامته بدءًا تأثير في استحقاق القتل، فكذلك مع تبديله الدين. ودليل آخر: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم"، فعلق عصمة الدم بإظهار التوحيد، فلما كانت المرأة محقونه الدم قبل الإسلام بغير إظهار التوحيد، وجب أن يكون كذلك حكمها بعد الإسلام إذا عادت إلى الكفر، إذ لم تحقن دمها بالإسلام، فيكون زواله موجبًا لقتلها. وأما الرجل، فإنه لم يحقن دمه بدءًا إلا بالإسلام؛ لأنه كان مباح القتل قبل الإسلام، فلما حقن دمه بالإسلام، ثم ارتفع المعنى الذي من أجله حقن دمه، وهو الإسلام، عاد إلى حال الإباحة. فإن قيل: هذا ينتقض عليكم بالشيخ القاني والرهبان، وأهل الصوامع والزمني، لأنك لا تقتلهم إذا كانوا حربيين، ونقتلهم إذا أسلموا ثم ارتدوا. قيل له: أما الشيخ الفاني، فإنا نقتله إذا كان ذا رأي في الحرب، أو كان كامل العقل، ومثله نقتله إذا ارتد، وقد قتل ابن

الدغنة دريد بن الصمة يوم حنين، وكان شيخًا فانيًا، فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم. وإنما الذي لا نقتله هو الشيخ الفاني الذي خرف وزال عن حدود العقلاء والمميزين، فهذا حينئذٍ يكون بمنزلة المجنون والصبي، فلا يقتل إذا كان حربيًا، ولا إذا ارتد. وأما الزمني فهم بمنزلة الشيوخ، يجوز قتلهم إذا رأى الإمام ذلك، كما يقتل سائر الناس بعد أن يكونوا عقلاء، ويقتلهم أيضًا إذا ارتدوا. وأما الرهبان وأهل الصوامع، فإن سؤالك فيهم محال، من قبل أنه يستحيل بعد الإسلام أن يعود راهبًا؛ لأن ذلك اسم للنصارى إذا ترهبوا، والمرتد لا يكون نصرانيًا وإن اعتقده، ولا يكون راهبًا، فالسؤال فيهم محال. فإن قيل: قوله تعالى:} فاقتلوا المشركين {: عام في النساء والرجال. قيل له: حقيقة اللفظ في الذكران، وإنما يدخل الإناث فيه بدليل، كذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى

ثلاث: كفر بعد إيمان": حقيقة اللفظ فيه في الذكران: قال: (وكان أبو يوسف يقول بقتل المرتدة، ثم رجع إلى قول أبي حنيفة). مسألة: [أولاد المرتد] قال أبو جعفر: (وما ولد لهما في الردة من ولد في دار الإسلام أو دار الحرب: فإنه يجبر على الإسلام، ولا يقتل). وذلك لأن أبويه مرتدان، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه"، فانتقل إلى حكم الأبوين، فصار مرتدًا، فلذلك أجبر على الإسلام. ولا يقتل لأنه لم يكن له إسلام بنفسه فتركه، ولا يجوز قتله لأجل فعل أبويه. [مسألة:] * (والولد الذي ولداه في دار الحرب إذا سبي: كان فيئًا: كولد أهل الحرب، وليس كالولد الذي في دار الإسلام). كما أن المرأة المرتدة ما دامت في دار الإسلام: لا تسترق، فإذا

لحقت بدار الحرب، ثم سبيبت: كانت فيئًا، كذلك ولد المرتدين. * قال أبو جعفر: (وما ولد لأولادهما في دار الحرب، فسبي: كان فيئًا، ولم يجبر على الإسلام). وذلك لأنا لو جعلناه بمنزلة المرتد، كنا ألحقناه بحكم جده في الدين، والولد لا يتبع الجد في الدين، وإنما يتبع الأبوين؛ لأنه لو كان كذلك، لوجب أن يكون الناس كلهم مسلمين، لأجل أن أصل آبائهم الإسلام، وهم آدم وحواء عليهما السلام. فإن قيل: فأبواهما مجبران على الإسلام، وهما في حكم المرتدين. قيل له: لو كان كذلك لقتلا، فلما لم يجب قتلهما، علمنا أنهما ليسا في حكم المرتدين، وإنما دخلا في حكم أبويهما؛ لأنه قد كان لأبويهما إسلام بأنفسهما فارتدا عنه، وأما هما فلم يكن لهما في أنفسهما إسلام فيدخل أولادهما في حكمهما. مسألة: [توريث المرأة المرتدة] قال أبو جعفر: (وإذا ارتدت المرأة: لم يرثها زوجها، وليست كالزوج إذا ارتد). قال أحمد: وذلك لأن المرأة لا تقتل، فلا تكون بمنزلة الفارة من الميراث، بل هي بمنزلتها لو قبلت ابن زوجها بشهوة وهي صحيحة، فلا يرثها زوجها، وأما الزوج فإنه يقتل، فكان بمنزلة الفار من الميراث، وبمنزلة المريض إذا طلق امرأته، وقد قالوا: إن المرأة إذا ارتدت وهي

مريضة، ورثها زوجها إن ماتت في العدة. مسألة: [إنكار الارتداد] قال أبو جعفر: (ومن شهد عليه بالردة، وهو يجحد: كان ذلك منه توبة). لأنه مخبر عن نفسه بالتوحيد في الحال، وقد قال الله تعالى:} قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف {، وهذا قد انتهى عن الكفر. فإن قيل: جائز أن يكون مضمرًا بخلاف ما أظهر. قيل له: وإذا أظهر الكفر بدءًا وأعلنه، ثم أظهر الإسلام، قبل منه عند الجميع وإن كان جائزًا أن يكون مضمرًا للكفر، مظهرًا للإيمان، كذلك ما وصفنا. فإن قيل: لما كان كفر هذا سرًا، لم يكن في ظاهر حاله دلالة على الرجوع عما أسره من الكفر. قيل له: ليس علينا اعتبار ما يجوز أن يكون عليه ضميره واعتقاده، وإنما علينا الحكم عليه بما يظهر من أمره، وقد قال الله تعالى:} إن الذين امنوا ثم كفروا ثم امنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا {فحكم لهم بالإيمان، ثم

بالكفر، ثم بالإيمان بعد الكفر. وقال الله تعالى:} فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار {، وهذا العلم إنما يحصل لنا بما يظهر لنا من قولهن، دون ضميرهن. وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافقون قد أطلع الله تعالى عليهم نبيه، قال الله تعالى:} وإذا لقوا الذين امنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم {، فزال عنهم حكم القتل بإظهارهم الإيمان وإن كان اعتقادهم خلافه. وقال الله تعالى:} يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين {، ومعلوم أن هؤلاء كانوا قومًا معروفين قد حلفوا لهم، وأخبر أنهم كفار؛ لأنه قال:} يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين {. وقال:} يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا

تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم {، فأخبر أنهم كفار، وزال عنهم القتل بإظهارهم الإيمان، وهذا كله لابد أن يكون في قوم معروفين بأعيانهم. وكذلك الذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا، كانوا يسرون الكفر فيما بينهم في ذلك المسجد، فأمر الله تعالى بهدم مسجدهم، ولم يأمر بقتلهم. فهذا كله يقضي ببطلان قوله من يقول: إن من سمع يكفر سرًا: أنه لا تقبل توبته ظاهرًا. مسألة: [ارتداد السكران] قال أبو جعفر: (ومن ارتد وهو سكران: لم يقتل بذلك، ولم تبن منه امرأته في قول أبي حنيفة ومحمد). وذلك لأن من شرط حصول الكفر بالقول: أن يكون قاصدًا إلى القول مع الطوع، والدليل عليه: أنه لو كان مكرهًا: لم يكفر، لعدم الطوع، ولو سبق لفظه بالكفر من غير قصد: لم يكفر، فعلمنا أن شرطه ما وصفنا. ويدل عليه أيضًا: قوله عز وجل:} ولكن من شرح بالكفر صدرًا {، والقصد معدوم من السكران، فصار كالمجنون، والذي يسبق لسانه بالكفر. وإذا لم يجعل كافرًا: لم تبن منه امرأته؛ لأن لفظ الكفر ليس بطلاق

ولا كناية عنه، وإنما تحصل الفرقة إذا حكم بردته، فإذا لم يحكم بردته، لم بتن منه امرأته. وليس هذا مثل السكران إذا طلق، فيقع طلاقه، لأن شرط وقوع الطلاق وجوده في لفظ مكلف، والسكر لم يبطل عنه حكم التكليف، للزوم الحد بالسكر، وليس شرطه القصد ولا الطوع، والدليل عليه: أنه لو سبق لفظه بالطلاق ناسيًا من غير قصد: وقع. قال: (وقال أبو يوسف: تبين منه امرأته)، وجعله كالسكران إذا طلق، لأن هذا القول، أعني: كلمة الكفر، قد تضمن معنيين: أحدهما: وقوع الفرقة بينه وبينها، والثاني: الحكم عليه بالردة، وإباحة الدم، فأشبه الطلاق من حيث تعلق به الفرقة. مسألة: [ارتداد الصبي] قال أبو جعفر: (وارتداد الصبي الذي يعقل: ارتداد، وإسلامه: إسلام، وقال أبو يوسف: ارتداده ليس بارتداد). قال أحمد: الأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، حتى يعرب عنه لسانه، فإما شاكرًا وإما كفورًا".

فعلق حكم الكفر والإيمان بإعراب اللسان، فتضمن هذا الخبر الحكم بإسلامه وكفره جميعًا عند ظهور ذلك منه. فإن قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يبلغ". قيل له: نستعمل الخبرين جميعًا، فنقول ذلك في سائر الحقوق سوى الدين، فأما حكم الدين فمعتبر بصحة إعرابه عن نفسه بالخبر الذي رويناه، ولو حملناه على ما قلت، سقطت فائدة خبرنا رأسًا، فيصير وجوده وعدمه سواء، وليس يجوز لنا أن نفعل ذلك في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضًا: روي "أن علي بن أبي طالب كان أول من أسلم، وكان صغيرًا"، ولولا أن إسلامه كان إسلامًا صحيحًا، لما نقوله وأضافوه إليه. فإن قيل: إن علمًا رضي الله عنه لم يشرك بالله قط. قيل له: صدقت إلا أنه عند بعثه النبي صلى الله عليه وسلم لزمه تصديقه، فكان تصديقه تصديقًا صحيحًا، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرك بالله قط، ولزمه عندما أوحى إليه أن يصدق بنبوة نفسه. وأيضًا: فإن لزوم التوحيد متعلق بالعقل، فكل من أمكنه المعرفة، فعليه النظر والوصول إليها، وليس ذلك يتعلق بالبلوغ ولا غيره، وإنما يتعلق بالبلوغ الأحكام الظاهرة، وما يلزم من طريق السمع مما ليس في العقل إيجابه؛ لأنه لو جاز أن يخلي الله أحدًا من تكليف المعرفة، وهو

يحتملها، لكان قد أباح الجهل به، وهذا لا يجوز على الله تعالى: وأيضًا: فلما جاز أن يلحق بحكم أبويه في الدين، فثبوت ذلك له باعتقاده أحرى، وبهذا المعنى فارق سائر الأحكام أنه لا يتبع أبويه في سائر الأحكام إلا في الدين. فإن قيل: كما لم يجز إقراره وطلاقه وعتقه، وكان قوله كلا قول، وجب أن يكون كذلك حكمه في إسلامه وكفره. قيل له: قد بينا الفصل بينهما فيما قدمنا، وكما جاز أن يلحق بأبويه في حكم الدين، فكان قول الأبوين كقوله في كفره وإسلامه، ولم يجز أن يكون قول أبويه كقوله في جواز إقراره عليه، وعتق عبده وطلاق امرأته، كذلك هو يجوز أن يكون مسلمًا بإسلام نفسه، ولا يجب أن يجوز عليه قوله في إيقاع طلاقه ونحوه. قال أحمد: وهذا على قول من قال: إن إسلامه ليس بإسلام، وهو قول زفر بن الهذيل. * وأما الكلام على أبي يوسف: فمن جهة ظاهر الخبر، وهو قوله: "حتى يعرب عنه لسانه، فإما شاكرًا وإما كفورًا"، فأثبت له حكم الكفر إذا عقل، كما أثبت له حكم الإسلام. وأيضًا: لما صح له الإسلام باعتقاده، وجب أن يكون ترك ذلك الاعتقاد كفرًا، كالبالغ العاقل. وأيضًا: لما جاز أن يكون مسلمًا بإسلام الأبوين، ومرتدًا بردتهما، وجب أن يكون من حيث جاز أن يكون مسلمًا بإسلام نفسه، أن يكون

مرتدًا بتركه. وذهب أبو يوسف إلى أن الصبي ليس ممن تلزمه الأحكام بقوله، بدلالة امتناع جواز إقراره وطلاقه وعتقه. وأيضًا: جعلنا إسلامه إسلامًا، لما له فيه من النفع، كما جوزنا قبوله للهبة، لما فيه من النفع بلا ضرر، فلما كان عليه في الارتداد ضرر، لم يثبت عليه حكمه بقوله، كما لو وهب ماله لغيره، أو أقر به له. قال أحمد: وليس هذا نظير ما ذكر، من قبل أنه جاز أن يكون مرتدًا بردة الأبوين عنده، ويلحقه حكم كفرهما، ومع ذلك لا يجوز لهما هبة ماله. مسألة: [توريث الصبي المرتد] قال: (وقال أبو حنيفة ومحمد: إذا ارتد الصبي: لا يرث أبويه، ويجبر على الإسلام، ولم يقتل). قال أحمد: لما ثبت عليه حكم الردة، أجبر على الإسلام، ولم يقتل للشبهة، وهو أن من الناس من لا يرى هذا القول منه ردة، فصار ذلك كاختلاف الناس في فعل ما هو زنى أم لا، فيكون ذلك شبهة في درء الحد، ولا يرث أبويه؛ لأنه مرتد، والمرتد لا يرث أحداً. مسألة: [مال المرتد في دار الحرب] قال: (ومن ارتد عن الإسلام، ولحق بدار الحرب بمالٍ له، ثم ظهرنا

على ذلك المال: كان فيئًا، ولم يكن لورثته). وذلك لأن ملكه وإن كان زائلاً عن المال بنفس الردة في قبول أبي حنيفة، فإنه موقوف لم يستحقه الورثة بعد حتى يلحق بدار الحرب، فإذا لحق بها، والمال معه: لم يجز أن يثبت للورثة فيه حق في مال في دار الحرب؛ لأن اختلاف الدارين يوجب قطع الحقوق. والدليل عليه: أن المسلمين يملكون الغنيمة بإحرازهم إياها في دار الإسلام، فكذلك أهل الحرب يملكون علينا من أموالنا ما أحرزوه في دارهم، فلو كان يثبت فيه مع اختلاف الدارين، لما ملكوا علينا بعد إحرازهم إياها في دارهم، لثبوت حقنا فيها، كما لا يملكونها في دار الإسلام. وكان يجب أيضًا: أن لا يثبت ملكنا على أموالهم إذا غنمناها وإن أحرزناها في دارنا، كما لا نملكها ما دامت في دارهم، فثبت بذلك أن اختلاف الدارين يمنع ثبوت حق أحدٍ فيما صار من المال في غير داره، وإذا كان كذلك، صار ذلك المال كمال الحربي يكون فيئًا بالأخذ. [مسألة:] قال أبو جعفر: (وإن كان لحق بدار الحرب، ثم رجع إلى دار الإسلام، فأخذ مالاً، ثم لحق بدار الحرب، ثم ظهرنا على ذلك المال: رددناه على ورثته، كما يرد على غيرهم). قال أحمد: وذلك لأنه لما لحق بالدار، استحق الورثة ميراه.

لانقطاع حقوقه عما في دارنا، لما بينا من أن اختلاف الدارين يقطع الحقوق، فصار لحاقه بمنزلة موته أو قتله؛ لأن الموت يقطع الحقوق أيضًا، ويوجب نقل ماله إلى غيره. فإذا جاء وأخذه، صار بمنزلته لو أخذ مال غيره، فلحق به إلى دار الحرب، فإذا ظهرنا عليه: رددناه إلى صاحبه قبل القسمة بغير شيء، وبعد القسمة بالقيمة، وهذا معنى قوله: يرد إلى ورثته، كما يرد على غيرهم. مسألة: [نقض العهد من أهل الذمة] قال: (ومن نقض العهد من أهل الذمة، ولحق بدار الحرب: كان بمنزلة المرتد في جميع الأشياء، إلا أنه إن سبي: استرق). وذلك لأن الذي حظر دمه كان العهد الذي أعطيناه، فإذا نقض العهد، وعاد إلى دار الحرب، صار بمنزلة سائر أهل الحرب في سائر أحكامه، ولو لم يلحق بدار الحرب: كان باقيًا على الذمة؛ لأنه مقهور مغلوب في أيدينا، فهو باق على ما كان يمكنه، إذ لم يخرج عن المعنى الذي حصل به بدءًا من أهل العهد. مسألة: [حكم ولد جارية المرتد] ومن ارتد عن الإسلام، فأتت جارية له نصرانية كانت في مكله في حال الإسلام بولدٍ، فادعاه، وقد جاءت به لأكثر من ستة أشهر منذ يوم ارتد: كان حرًا، وكانت أم ولد له، ولم يرث أباه). قال أحمد: وذلك لأن ملكه موقوف عليه وعلى غيره، وثبوت حق

الغير فيه لا يمنع صحة دعوته، ألا ترى أن ثبوت حق الورثة بالمرض في مال المريض، لا يمنع صحة دعوته، وكذلك حق الغرماء، فثبت نسبه، ويكون حرًا، والأم أم ولد. كذلك ثبوت حق ورثته في ماله بزوال ملكه بالردة، لا يمنع صحة دعوته وإن كان غير جائز التصرف فيه على قول أبي حنيفة، ألا ترى أن نسب ولد المغرور ثابت، وهو حر الأصل، مع عدم الملك رأسًا، فالمرتد أولى بجواز الدعوة، إذ كان الملك موقوفًا عليه، ومتى أسلم كانت باقية على ملكه على ما كانت. * وإنما لم يرث أباه، من قبل أن أبويه جميعًا كافران، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فأبواه يهودانه أو ينصرانه". ثم لا يخلو حينئذٍ من أن يلحق بحكم أبيه أو أمه، فإن لحق بحكم الأم: فهو نصراني، والنصراني لا يرث المرتد، وإن لحق بحكم أبيه: فهو مرتد، والمرتد لا يرث المرتد، وعندنا هو بمنزلة المرتد يلحق بأبيه؛ لأن المرتد غير مقر على ردته، فيجبر على الإسلام. مسألة: [توريث ولد الجارية المسلمة] قال أبو جعفر: (وإن كانت الأم مسلمة: ورثه الابن). وذلك لأن الولد حينئذٍ يكون مسلمًا؛ لأن شرط كفر الولد أن ينتقل إليه بالأبوين، فإذا لم يجتمع أبواه على الكفر، فإسلامه ثابت بنفسه،

لقوله: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه". مسألة: [مال المرتد بعد لحوقه بدار الحرب] قال: (وإذا لحق المرتد بدار الحرب، فقضى القاضي بلحاقه: فإنه يقضي بعتق مدبريه، وأمهات أولاده، ويقسم ماله بين ورثته). قال أحمد: إذا قضى القاضي بلحاقه: صار كالميت، فنحكم في ماله كحكمنا في مال الموتى؛ لأن لحاقه بدار الحرب يقطع حقوقه عما في دارنا، كما يقطعه الموت. * قال أبو جعفر: (فإن جاء مسلمًا بعد ذلك: أخذ من ماله ما كان قائمًا بعينه في أيدي ورثته، ولا ضمان عليهم فيما استهلكوه). قال أحمد: وذلك لأن الورثة يخلفونه في ملكه، كما يخلفون الميت في ملكه، وليس ملكهم على جهة الاستئناف، ألا ترى أنهم يردون على بيع الميت بالعيب. فإذا جاء مسلمًا أخذ ما وجد قائمًا بعينه؛ لأنهم إنما قاموا فيه مقامه، فإذا أسلم كان أولى به، كالذي يوكل رجلاً ببيع ماله، أو التصرف فيه، ثم حضر قبل التصرف: فله أن يأخذه، ويعزل الوكيل عنه. وأما ما استهلكوه: فلا ضمان عليهم فيه؛ لأنهم لما خلفوه في الملك، وقاموا فيه مقامه، صاروا كأنهم تصرفوا بأمره، كالوكيل إذا تصرف، ليس للموكل فسخ تصرفه.

مسألة: [ارتداد العبد] قال: (وردة العبد كردة الحر)، لقوله عليه الصلاة والسلام: "من بدل دينه فاقتلوه". مسألة: [ارتداد الأمة] (وردة الأمة كردة الحرة)؛ لما وصفنا. * (وترد إلى مولاها، ليجبرها على الإسلام). لأنا متى أمكننا أن نتوصل إلى إجبارها على الإسلام من غير إزالة يده عن ملكه فعلنا، بأن نأمره بإجبارها على الإسلام، فيقوم فيه مقام الإمام. مسألة: [كسب المرتد في حال الردة] (وما اكتسبه المرتد في حال ردته، ثم قتل أو مات عليها: فهو في قول أبي حنيفة رضي الله عنه فيء). من قبل أنه اكتسبه وهو مباح الدم. وأيضًا: إن حكم المال حكم الدم في العصمة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". فعلق عصمة المال بالمعني الذي علق به عصمة الدم، فإذا زالت

عصمة دمه، زالت عصمة ماله، فمن أجل ذلك قال أبو حنيفة: إنه لا يجوز تصرف المرتد في المال الذي كان له في حال الإسلام، لزوال ملكه عنه، كزوال ملكه عن دمه. وأما ما اكتسبه في حال الردة: فإنه لا يقع كسبه قط إلا مباحًا، كمال الحربي، فلذلك كان فيئًا. وأما ما كان اكتسبه في حال الإسلام، فقد كان مالا محظوراً، فزالت عصمته، واستحقه ورثته، كمال الموتى. * (وقال أبو يوسف ومحمد: هو لورثته). لأن من أصلهما: أن المرتد في حكم ماله كغير المرتد، ومن أجل ذلك يجيزان تصرفه في المال الذي كان له في حال الإسلام وحال الردة. مسألة: [حكم من قتل مرتدًا قبل استتابته أو حني عليه] قال: (ولا شيء على من قتل مرتدًا قبل استتابته، أو قطع عضوًا منه، لكنه يؤدب). وذلك لأن عصمة دمه زائلة بنفس الردة، ولكن الأحسن تقديم الاستتابة، والدعاء إلى الإسلام قبل قتله، فمن قتله قبل ذلك: لم يكن عليه ضمان دمه، وكان مسيئًا في إقدامه، كمن قتل حربيًا قبل الدعاء إلى الإسلام.

مسألة: [من ارتد من النصرانية إلى غيرها من ملل الكفر] قال أبو جعفر: (ومن ارتد عن نصرانية إلى يهودية أو مجوسية: فإنه يخلى بينه وبين ذلك). وذلك لأن الكفر كله ملة واحدة في الحكم، قال الله تعالى:} والذين كفروا بعضهم أولياء بعض {، وقال تعالى:} لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض {، وقال تعالى:} لكم دينكم ولي دين {. فخاطب جميع الكفار بأن جعل كفر جميعهم دينًا واحدًا. وأيضًا: قال الله تعالى:} لا إكراه في الدين {: اقتضى الظاهر أن لا يكره على دينٍ غير ما هو عليه. وأيضًا: لا يخلو من أن يجبر على رجوعه إلى دينه الأول، أو على الإسلام، فإن أكرهناه على الرجوع إلى كفره الأول، فهذا إكراه على الكفر، واعتقاد جواز ذلك كفر من معتقده وقائله، وإن أجبرناه على الإسلام، فكيف يجوز أن نجبره عليه، وهو لم يلتزمه، ولم يختر الدخول فيه؟ ولو جاز ذلك لجاز إجبار سائر أهل الذمة على الإسلام.

فإن قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"، فهو عام. قيل له: معلوم أن المراد: من بدل دين الإسلام إلى غيره، لا: من بدل الكفر، ولو كان تبديله الكفر إلى كفر آخر يوجب قتله، لوجب أن يكون الحربي النصراني إذا تهود، ثم صار ذميًا، أن يجبر على الإسلام، كما أنه لو أسلم ثم ارتد، ثم ظهرنا عليه، لم يجز لنا إقراره على كفره. وأيضًا: قد بينا فيما سلف أن القتل غير مستحق بتبديل الدين، بل به وبالإقامة على الكفر، وإقامة النصراني واليهودي على كفرهما، لا يوجب قتلهما. مسألة: [لا يجب قضاء الصلاة والصوم والزكاة بعد توبة المرتد] قال: (ولا يجب على المرتد إذا أسلم قضاء ما تركه من الصلوات والصيام والزكاة في حال ردته). وذلك لقول الله تعالى:} قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف {. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام يجب ما قبله".

وقال تعالى:} لئن أشركت ليحبطن عملك {، فأخبر أن الردة تحبط سائر أعماله المفعولة في حال إسلامه، ثم لم يجب عليه قضاء ما أحبطه بردته، لأجل كفره، كذلك ما تركه في حال الكفر، وقد بينا هذه في كتاب الصلاة من هذا الكتاب. وأيضًا: قد اتفقوا أنه ليس عليه قضاء الصيام المتروك في حال الردة، كذلك الصلاة؛ لأنها عبادة تتعلق صحتها بوجود الإيمان، فإذا أسلم بعد الردة، كان بمنزلة من لم يزل كافرًا أسلم في الحال، فتلزمه صلاة الوقت والحج. مسألة: [حكم من سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو تنقصه] قال أبو جعفر: (ومن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تنقصه: كان بذلك مرتدًا). وذلك لقوله تعالى:} لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه {. وقال تعالى:} لا ترفعوا أصوتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون {، فلما جعل تعالى تعظيم الرسول من شرائط الإيمان، كان من لم يعظمه كافرًا.

وأحبط عمل من جهر له بالقول، فكيف من سبه؟! ولما روى أن رجلاً أغلظ لأبي بكر الصديق، فقال له أبو بردة: "دعني أضرب عنقه، فقال: ما كان ذلك لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم". وروي أن رجلاً كانت له أم ولدٍ، تشتم النبي صلي الله عليه وسلم، فقتلها، فأهدر النبي صلي الله عليه وسلم دمها. فدل على أن شتم النبي صلي الله عليه وسلم يوجب الردة. فصل: [حكم أهل الذمة في سب الرسول صلى الله عليه وسلم] قال أبو جعفر: (ومن كان من ذلك من أهل الذمة: فإنه يؤدب ولا يقتل). لأنهم قد أقروا على دينهم، ومن دينهم عبادة غير الله، وتكذيب الرسول. ويدل عليه: ما روي "أن اليهود دخلوا على النبي عليه الصلاة والسلام، فقالوا: السام عليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وعليكم"، ولم يوجب عليهم قتلاً. *******************

كتاب الحدود

كتاب الحدود مسألة: [حد الزاني المحصن] قال أبو جعفر: (وإذا زنى المحصن والمحصنة رجما حتى يموتا، ثم غسلا، وكفنا، وصلي عليهما، ودفنا). قال أحمد: الذي في كتاب الله تعالى من حد الزانيين ضربان: أحدهما منسوخ الحكم، والآخر ثابت، فأما الأول، فهو قوله تعالي:} والتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا {، وقال:} والذان يأتينها منكم فأذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما {، فكان حد المرأة الحبس والتعبير، والسب، وحد الرجل الإيذاء بالتعبير والسب.

وكذلك روي في التفسير عن ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم، فكان ذلك حد الزانيين في بدء الأمر، محصنين كانا أو غير محصنين، ثم نسخ ذلك في غير المحصنين بالجلد المذكور في قوله تعالى:} الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدةٍ {، وبقى حكمه في المحصنين، فنسخ بسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجم المحصن. روى ابن عباس وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وأبو ذر وأبو هريرة ونعيم بن هزال وبريدة وأبو بردة "أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعز بن مالك". وروى مالك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمر قال: "فيما أنزل إلينا الرجم، ووعيناه، وأن الرجم في كتاب الله على من زنى". ومعناه: عندنا فيما أنزل الله من وحي الله، وقوله: في كتاب الله: يعني في فرضه، كقوله:} كتب عليكم {: يعني فُرض عليكم، وقال:} كتب الله عليكم {: يعني فرضه عليكم.

وثبوت الرجم وارد من طريق الاستفاضة والتواتر، وبمثله يجوز عندنا نسخ القرآن. * فإذا رُجم: غسل وكفن، وصلي عليه. * وأما الغسل والتكفين: فلما في حديث خالد بن اللجلال عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم رجل، فجاء أبوه فأعانه على غسله وتكفينه ودفنه". * وأما الصلاة عليه: فلما في حديث أبي بريدة عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على الجهينة بعد ما رجمها". وقد قيل في بعض أخبار ماعز: "إنه لم يصل عليه". وجائز أن يكون أمر غيره بالصلاة عليه؛ لأنه لم يرجم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضًا: فإن المرجوم بمنزلة سائر الأموات، باقٍ على حكم الإسلام، فوجب أن يكون حكمُه في دفنه والصلاة عليه حكم سائر المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الجهينة: "لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس، لغفر له". وفي حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ماعز

بعد رجمه: إنه لفي أنهار الجنة ينغمس فيها". [الجلد مع الرجم] قال أبو جعفر رحمه الله: (ولا جلد عليه مع الرجم). قال أحمد: والحجة فيه: ما روي في قصة ماعز "أن النبي صلى الله عليه وسلم رجمه، ولم يجلده". وكذلك في قصة الجهينة، ذكر الرجم، ولم يذكر فيها الجلد، ولو كان قد جلدها مع الرجم لنقل. وكذلك في حديث خالد بن اللجلاج عن أبيه في الرجل الذي اعترف عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنى، فرجمه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر جلدًا، ولو كان قد جلده لنقل كما نقل ما دون الجلد من الغسل والتكفين والصلاة. وأيضًا: لو كان الجلد واجبًا مع الرجم، لكانا جميعًا حده، وكان أحدهما بعض الحد دون كماله. وغير جائز للراوي الاقتصار على نقل بعض الحد دون جميعه؛ لأن ذلك يقتضي أن يكون المنقول هو جميع الحد، كما أنه لو رأي النبي صلى الله عليه وسلم وقد جلد رجلاً من الزنى مائة، لم يجز له الاقتصار في

النقل على ما دونها، وكما أن من رأي النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر أربعًا، فغير جائزٌ له أن ينقل أنه صلى ثلاثًا، وإن كان صادقًا في قوله: صلى ثلاثًا؛ لأن ذلك يوجب أن يكون الفرض هو الثلاث، كذلك نقلهم للرجم دون الجلد يقتضي كمال الحد في نفسه. ويدل عليه أيضًا: حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني "في قصة العسيف، فقال أبو الزاني للنبي صلى الله عليه وسلم: وإني سألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة، وتغريب عام، وإنما الرجم على المرأة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أ/اغنمك وجاريتك فرد عليك، وجلد ابنه مائة، وغربه عامًا، وأمر أنيسًا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر، فإن اعترفت رجمها، فاعترفت فرجمها"، سمعناه في سنن أبي داود حدثنا القعنبي عن مالك عن الزهري. ودلالة هذا الخبر على صحة قولنا من وجوه ثلاثة: أحدها: قول الرجل: "إني سألت أهل العلم، فقالوا: على امرأته الرجم"، ولم يذكروا الجلد، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم اقتصاره على ذرك الرجم دون الجلد، ولو كان الجلد حدًا معه، لأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.

والوجه الآخر: قوله لأنيس: "أغد على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها"، فاقتصر في أمره إياه على ذكر الرجم دون الجلد. والثالث: ما ذكر فيه أنه رجمها، ولم يذكر فيه جلدًا. * فإن احتجوا بحديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد والرجم". فإن الجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن الثيب قد يكون من حدة الرجم تارة، والجلد تارة، لا على جهة الجمع بينهما، كقول القائل: الدراهم والدنانير أثمان الأشياء، وبهما تقوم المستهلكات، والمراد كل واحد على الانفراد، لا على وجه الجمع. وكقوله تعالى:} ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله {، وليس المراد جمع الأمرين في الوقتين جميعًا، كذلك ما ذكر في البكرين والثيبين. والوجه الآخر: أنه منسوخٌ بقصة ماعز والجهينة، وحديث أبي هريرة في قصة العسيف؛ لأن هذه القصص متأخرة لا محالة عن خبر عبادة. والدليل عليه: أن حد الزانيين في بدء الأمر كان الحبس والأذى،

بقوله تعالى:} فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا والذان يأتينها منكم فأذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما {، فكانت هذه الآية منذرة بسيل يكون لهن، حكمه موقوف على ورود البيان فيه، فقال في حديث عبادة مخبرًا عن السبيل المذكور في الآية: "خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر: جلد مائة، وتغريب عام". فعلم أنه لم يكن بين الآية وبين هذا الخبر واسطة حكم غير ما ذكر فيه، والدلالة على صحة ذلك من وجهين: أحدهما: قوله: "خذوا عني"، وأخبر أن الجلد الذي ذكره مأخوذ عنه، ودل على أنه لم يكن الجلد المذكور في سورة النور قد نزل. والثاني: إخباره بأن السبيل هو الذي قصد إلى بيانه، فعلمنا أنه لم يكن هناك حد قبله غير الحبس والأذي اللذين في الآية، فثبت أن رجم ماعز والجهينة وقصة أنيس لم يكن حدث بعد؛ لأنها لو كانت قد حدثت، لكان السبيل معلومًا قبل قوله: "خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلاً". ومما يدل على أن حديث أبي هريرة في قصة العسف متأخر عن حديث عبادة أيضًا: أنه ذكر فيه الفرق بين البكر والثيب، فيما أخبر به عن أهل العلم، وخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم، مع ترك النبي عليه الصلاة والسلام النكير عليه، فعلمت الصحابة قبل حدوث هذه الحادثة

الحكم المذكور في حديث عبادة، ثم أمر النبي عليه الصلاة والسلام أنيسا بالرجم دون الجلد، فثبت به نسخ ما في حديث عبادة. فإن قيل: روي عن علي رضي الله عنه أنه جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل له: يحتمل أن يكون جلدها لأنه لم يكن ثبت عنده إحصانها، ثم لما ثبت إحصانها رجمها، وقال: "جلدتها بكتاب الله"، وهو قوله:} الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدةٍ {، ورجمتها بالسنة، حين ثبت الإحصان. وجائز أن لا يكون قد استكمل الجلد مائة، ثم رجمها، وهو قولنا إذا لم يستكمل الجلد حتى ثبت الإحصان. وقد روى نحو ذلك جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر فيه مقدار الجلد، وأنه لما أخبر بإحصانه رجمه، وذلك محمول عندنا على أنه لم يستكمل الجلد. وقد روي عن عمر أنه رجم، ولم يجلد.

مسألة: [شروط الإحصان] قال أبو جعفر: (ولا يكون الرجل محصنًا بامرأته، ولا المرأة محصنة بزوجها حتى يكونا حرين مسلمين بالغين عاقلين، قد جامعها وهما كذلك. وقد روي عن أبي يوسف: أن النصارى يحصن بعضهم بعضًا، وأن المسلم يحصن النصرانية، وأنها لا تحصنه). قال أحمد: الإحصان اسم شرعي، وهو على وجهين: أحدهما: يتعلق بوجوب الحد على القاذف بقوله تعالى:} والذين يرمون المحصنات {، ومن شرطه العفة والحرية والإسلام، لاتفاق أهل العلم أن قاذف العبد والكافر ومن ثبت زناه مرة لا حد عليه. والضرب الآخر من الإحصان: هو ما يتعلق به وجوب الرجم على الزاني، ومن شرائطه: الحرية والإسلام والعقل والبلوغ والدخول بالزوجة بنكاح صحيح، وأن يكونا جميعًا على صفة الإحصان في حال الدخول في قول أبي حنيفة ومحمد. وابو يوسف لم يجعل الإسلام من شرائط الإحصان، وأوجب الرجم على الذميين.

فأما الحرية والبلوغ والعقل والنكاح والدخول، فلا خلاف فيها بين الفقهاء أنها من شرائط الإحصان. وقد روي في تأويل قول الله تعالى:} فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب {وجهان: قيل: إذا أسلمن، وقيل: إذا تزوجن، وأيهما كان، فقد ثبت أن اسم الإحصان يتناولهما، إما من طريق الشرع أو اللغة، لولا ذلك لما ساغ تأويل الآية عليه. وقد روى الدراوردي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أشرك بالله فليس بمحصن". قال أبو بكر الجعابي رواه إسحاق بن راهويه عن الدراوردي بهذا الإسناد مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد رواه غير عبيد الله أيضًا عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا. ورواه أيضًا موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر موقوفًا عليه. وليس بممتنع أن يكون قد رفعه تارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أفتى به، فهذا مما يقوي الرفع؛ لأن الراوي إذا روى حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم استعمله وأفتى به، فهو دليل صحته.

وروي أن كعب بن مالك أراد أن يتزوج يهودية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها لا تحصنك". فثبت بما ذكرنا أن الإسلام من شرائط الإحصان، وأن عدمه يمنع من صحة إطلاق لفظ الإحصان عليه من جهة الشرع، لقوله: "من أشرك بالله فليس بمحصن"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك في اليهودية: "إنها لا تحصنك". رواه ابن أبي شيبة عن عيسى بن أبي يونس عن أبي بكر بن عبيد الله ابن أبي مريم عن علي بن أبي طلحة عن كعب بن مالك بذلك. فإن قيل: في حديث كعب بن مالك أنه مرسل، وحديث ابن عمر موقوف عليه. قيل له: إرساله لا يضره عندنا، وقد بينا أن فتوى الراوي بما رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يبطل رفعه، بل يؤكده ويقويه. وعلى أنه لو كان موقوفًا على ابن عمر، كانت دلالته قائمة على ما ذكرنا، من قبل أن هذا لما كان اسمًا شرعيًا، ومن شأن الأسماء الشرعية أنها لا تؤخذ إلا توقيفًا، علمنا أنه أخذه تلقينًا وسماعًا من النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا ثبت ما وصفنا من انتفاء اسم الإحصان عن الكافر على الإطلاق، وشرط النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب الرجم الإحصان بقوله لماعز:

"أحصنت"، وقال عمر بن الخطاب: "إن فيما أنزل الله الرجم على من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصنًا"، واتفقت الأمة أن من شرائط الرجم الإحصان: وجب أن يكون انتفاء اسم الإحصان عنه بالكفر مانعًا من رجمه. فإن قال قائل: بل الواجب إيجاب الرجم بوجود ما يتناوله اسم الإحصان بحال، وهو وإن كان كافرًا فلم يمنعه كفره من كونه محصنًا: بالبلوغ والعقل والحرية والنكاح والدخول، وسمة الكفر لم تلبه اسم الإحصان من هذه الوجوه، فالواجب عليه الرجم لوجوده على صفة الإحصان، ولا يجعل الإسلام شرطًا إلا بدلالة. قيل له: لما ثبت بما وصفنا انتفاء اسم الإحصان عنه على الإطلاق، امتنع إطلاقه عليه بوجود ما وصفت، لاستحالة أن يكون مستحقًا لاسم الإحصان على الإطلاق، وغير مستحق له في حال واحدة، فغير جائز إطلاق اسم الإحصان عليه بما وصفت، مع نفي النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عنه على الإطلاق. ووجه آخر: وهو أن الإحصان لما كان اسمًا شرعيًا يتناول معاني مختلفة على حسب ما وصفنا، وكان وجوب الرجم متعلقًا به، لم يجز لنا إيجاب الرجم إلا في الموضع الذي حصل الاتفاق بإيجابه. * وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "في رجم اليهودي

واليهودية"، فغير معارض لما قلنا، من قبل أنه لما ثبت أن من شرائط الرجم حينئذٍ كان الإحصان على الأوصاف التي قدمنا، ولأن الإحصان لما كان اسمًا شرعيًا حادثًا بعد ورود الشرع على الحد الذي وصفنا، ولم يكن معنا تاريخ في شرط ذلك الإحصان حين رجم اليهوديين، لم يجز لنا إيجاب الرجم عليهما مع انتفاء اسم الإحصان عنهما لأجل خبر رجم اليهوديين، لما في ذلك من إسقاط حكم ما تضمنه قوله: "من أشرك بالله فليس بمحصن"، وقوله لكعب بن مالك: "إنها لا تحصنك". وليس يمتنع أن يكون قد كان الإحصان بالإسلام والحرية والنكاح والدخول غير مشروط بدءًا في إيجاب الرجم، ثم شرط فيه. ويدل عليه أن الحبس والأذى اللذين كانا حد الزانيين بدءًا، لم يفرق فيه بين المحصن وغيره. ويدل عليه حديث عبادة في قوله: "الثيب بالثيب الجلد والرجم"، ليس فيه ذكر الإحصان؛ لأن الثيوبة ليست عبارة عن الحرية والنكاح والدخول، إذ ليس يمتنع أن تكون ثيبًا بزنى، ويكونا عبدين أيضًا. ويدل عليه ما روي: "إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة"،

وليست الشيخوخة عبارة عن شيء من شرائط الإحصان، فدل ذلك على أنه لم يكن الإحصان شرطًا في إيجاب الرجم بدءًا، وأن هذا الشرط إنما زيد فيه بعد ذلك. ويدل عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين بحكم التوراة، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه"، فأخبر أنه رجمهما بما كان في التوراة من إيجاب الرجم. قال الزهري: وبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم:} إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذي أسلموا للذين هادوا {: كان النبي صلى الله عليه وسلم منهم. فدلت هذه الآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام عليهما الرجم بحكم التوراة، وأنه لم يكن صار شريعة له إذ فعله قبل ذلك. فإن قيل: إقامته الرجم عليهما بحكم التوراة، لا يمنع أن يصير شريعة له إذا فعله. قيل له: ليس كذلك؛ لأنه جائز أن يقيمه على أنه من شريعة التوراة، وأن حكمه قائم على اليهود مع بعثته، من غير أن يبتدئه شريعةً لنفسه. ويدل عليه: أنه لا يخلو من أن يكون قد كان شريعة له قبل رجمهما، أو في حال رجمهما، ولو كان شريعة له قبل الرجم، لما أخبر أنه اتبع فيه

حكم التوراة، وكان ذلك يؤدي إلى بطلان دلالة الآية، وهو قوله:} يحكم بها النبيون الذين أسلموا {، فصح أنه لم يكن له شريعة قبل ذلك. ولا يجوز أيضًا أن يكون قد صار شريعة له بفعله الرجم؛ لأنه لو كان كذلك، لانتفى به الحبس والأذى اللذان كانا حد الزانيين، وقد بينا فيما سلف أن ذلك إنما نُسخ بما في حديث عبادة بن الصامت في قوله: "خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلاً". وأنه لم يكن بين حكم الآية الموجبة للحبس والأذى، وبين حديث عبادة واسطة حكم، فثبت أن رجمه إياهما كان بحكم التوراة؛ لأنهم كانوا معتقدين للزومه، مقرين بصحته، فأجرى عليهم حكمه. وأن حكمه عليه الصلاة والسلام في الزانيين، لم يخل في ذلك الوقت من أحد وجهين: إما أن يكون الحبس والأذى المذكور في الآية، أو لم يكن قد تعبد فيهما بشيء. وإذا ثبت له رجمهما بحكم التوراة، وأن الرجم لم يكن حينئذٍ قد صار من شريعته، ولم يثبت أن الإحصان حينئذٍ كان من شرط الرجم، ثم حين أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الرجم أوجبه مقرونًا بشرط الإحصان، وجب أن يكون الإسلام من شرائطه، إذ كان الاسم يتناوله من جهة الشرع. فإن قيل: ليس في رجمه إياهما بحكم التوراة ما ينفي وجوبه علينا؛ لأن من أصلك: أن شريعة من كان قبلنا من الأنبياء لازمه لنا، حتى يثبت

نسخها على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام. قيل له: هو كذلك، إلا أنه لم يثبت أن الإحصان كان شرطًا في شريعة التوراة، وقد ثبت شرطًا في شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام، فقد صار ذلك الحكم منسوخًا بشريعتنا. فإن قيل: قد كان الإحصان شرطًا في الرجم في شريعة التوراة، بدلالة ما روى الزهري عن رجل من مزينة عن أبي هريرة "أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنه زنى صاحب لنا قد أحصن، فما ترى عليه من العقوبة؟ وأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: "ما تجدون في التوراة على من زنى، وقد أحصن من العقوبة؟ ". ففي هذا الحديث أن الإحصان كان شرطًا في الرجم. قيل له: لم يذكر لفظ الإحصان إلا في هذا الحديث، وراويه رجل من مزينة مجهول لا يدرى من هو. ولو ثبت كان معناه: النكاح والدخول، دون الإسلام، واسم الإحصان صار يتناول الإسلام في شريعتنا بما قدمنا، فوجب أن يكون شرطًا فيه. * وإنما قالوا: إنه لا يكون محصنًا حتى يقع الوطء، وهما على صفة الإحصان: من قبل أن الوطء في النكاح لما كان من شرائط الإحصان، واستحال وجوده إلا بهما، ولم يكن معنى يتبعض، وجب أن لا يقع به إحصان إلا بوطء منهما جميعًا موجب لذلك، ألا ترى أنه لو وطئ أمة

بملك اليمين، لم يكن به محصنا، لأن الأمة لا تكون محصنة بهذا الوطء، كذلك كل وطء لا يصير أحدهما به محصنًا، كذلك الآخر. وأيضًا: لما كان الأصل في حد الزنى هو الجلد، لقول الله تعالي:} الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة {، واختلفوا في صفات الإحصان، لم ننقله عن حكم الجلد إلى الرجم إلا بالاتفاق، والاتفاق إنما حصل فيما ذكرنا، وما عداه مختلف فيه، فهو على الأصل. مسألة: [حكم التغريب في حد الزاني غير المحصن] قال: (وإذا زنى الحر البكر: جلد مائة جلدة، ولا تغريب عليه). قال أحمد: الأصل في ذلك قوله تعالى:} الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة {، فجعل حدهما الجلد المذكور في الآية، فعلمنا بذلك أن هذا هو كمال الحد، فانتفى بذلك أن يكون من حكمه التغريب. فإن قيل: إن الذي في الآية إنما هو إيجاب الجلد، وليس فيها نفي لغيره، فكيف حكمت بإسقاط التغريب لأجل ذكر الجلد؟ قيل له: لأنا قد عقلنا من الآية كمال الحد، وأنه متى أوقعناه كنا مستوفين للحد، وإيجابنا التغريب معه حدًا، يقتضي أن يكون الجلد بعض حده، وأنه غير واقع موقع الجواز، كما أنه إذا قيل لنا: صلوا الظهر أربعًا،

عقلنا أن هذا الفعل هو الذي يقع أداء الفرض بفعله، فلو قيل لنا بعد ذلك: صلوا الظهر خمسًا، لم تكن الأربع المتقدمة فريضة، لأن وجودها لا يوجب سقوط الفرض. وهذا هو عندنا حقيقة النسخ؛ لأن الآية إذا كانت مقتضية لوقوع الجلد حدًا، سقط به الفرض الذي لزمنا إقامته عليه، ثم قلنا إنه بعضً الحد، كان غير واقع موقع الجواز، فقد نسخنا به حكم الآية. فمن أجل ذلك أبينا أن نثبت ما ذكر في حديث عبادة بن الصامت: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام": حدًا مع الجلد المذكور في الآية: لأنه من أخبار الآحاد، ولا يجوز عندنا الزيادة في نص القرآن بخبر الواحد، كما لا يجوز نسخه بخبر الواحد. فإن قيل: لا تكون الزيادة في النص نسخًا؛ لأن كل شيئين يصح اجتماعهما في الإيجاب، لا يكون أحدهما ناسخًا للآخر، وليس يمتنع اجتماع الجلد والنفي في كونهما حدًا، وكما أن ورود عبارة أخرى وإيجابها، لا يكون نسخًا لفرض قد تعبدنا به قبلها، مثل إيجاب الزكاة بعد الصلاة والحج والصوم ونحو ذلك، كذلك الزيادة فيما ذكرنا. قيل له: ليس وقوع النسخ مقصورًا على ما لا يصح اجتماعهما؛ لأنه كان يصح اجتماع الجلد مع الحبس والأذى. ثم قد قيل: إن الحبس والأذى منسوخان بالجلد، وقيل: إن صوم

عاشوراء نسخ بصوم شهر رمضان، وأن سائر الصدقات نسخت بالزكاة، وقد يصح اجتماع جميع ذلك في خطاب واحد. وعلى أنا لو سلمنا ذلك، أن النسخ إنما يقع في الشيئين اللذين لا يصح اجتماعهما، كان سؤالك عنا ساقطًا فيما وصفنا، من قبل أن الآية إذا كانت موجبة لكون الجلد حدًا، امتنع انضمام النفي إليه في كونه معه حدًا؛ لأن الجلد إذا انفرد كان حدًا بكماله، وإذا ضم إليه النفي كان الجلد بعض الحد، وغير جائز أن يكون هو الكمال الحد، وهو بعض الحد في حال واحدة. وأما الفرضان المختلفان، فليس كذلك، من أجل أن وجوب أحدهما وعدمه لا تأثير له في حكم الفرض الآخر، لا في الجواز ولا في البطلان؛ لأن ترك الزكاة لا يؤثر في صحة الصلاة وكمالها، وعدم بعض الحد يمنع كون الباقي حدًا، كما أن ترك بعض أعضاء الوضوء في الطهارة يمنع الباقي أن تكون طهارة، وكما أن من ترك ركعة من الصلاة يمنع الباقي أن يكون فرضًا. وأيضًا: فإن الزيادة في هذا الباب تجري مجرى النقصان، لا فرق بينهما، فلو قال قائل: إن حد الزاني ثمانون، كان مخالفًا للنص، كذلك إذا قال: إن جلد المائة هو بعض الحد، فهو مخالف للنص. ألا ترى أن عدة الوفاة لما جعلت أربعة أشهر وعشرًا بعد أن كانت حولاً: كان ذلك نسخًا، كذلك إذا قيل بعد إيجاب العدة أربعة أشهر وعشرًا: إن العدة حول: كان نسخًا للعدة الأولى، وإنما كانت الزيادة في معنى النقصان، من قبل أن الزيادة تخرج الأول من أن يكون حدًا، وتجعله بعض الحد، كما أن النقصان يجعل ما كان بعض الحد جميعه، فلا فرق

بين ما يجعل البعض كلاً أو الكل بعضًا. ووجه آخر في حديث عبادة: وهو قوله: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام": وهو أن حديث عبادة كان قبل نزول آية الجلد، لأنا قد بينا أنه لم يكن بين الحبس والأذى، وبين خبر عبادة واسطة حكم، فإذا كانت الآية بعده، وقد وردت مطلقة، فهي إذاً ناسخة للنفي المذكور فيه، لأنها تقتضي أن يكون ما فيها من الجلد هو الحد لا غير، وينفي أن يكون هو بعض الحد. فإن احتجوا بما في حديث أبي هريرة في قصة العسيف، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لأقضين بينكما بكتاب الله: على ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها". قيل له: قد بينا أنه لا يجوز الزيادة في نص القرآن بخبر الواحد، وهذا من أخبار الآحاد. [النفي مع الجلد راجع لما يراه الإمام] وأيضًا: فإنا نوجب النفي مع الجلد، لا على معنى أنه حد، بل على ما يرى الإمام من المصلحة فيه، وما يؤديه إليه اجتهاده، وإنما المتنكر منه عندنا أن يكون حدًا مع الجلد. وقد روي "أن عمر ضرب رجلاً ونفاه، فارتد ولحق بدار الحرب، فقال عمر: لا أنفي بعده أحدًا أبداً".

وقال علي رضي الله عنه: "كفي بالنفي فتنة". فلم يروا النفي حدًا مع الجلد، وإنما رأوه على جهة الاجتهاد والمصلحة، ولو كان النفي حدًا مع الجلد، لما خفي على هؤلاء، كما لم يخف عليهم أمر الجلد، ولكانت شهرته عندهم كشهرة الجلد. وقد ثبت النفي في الأصول على جهة الاجتهاد. وقد روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى مخنثا". "ونفى عمر رجلاً بالتهمة". وليس يمتنع أن يكون حديث عبادة وأبي هريرة في العسيف على هذا المعنى. فإن قيل: لو كان على طريق المصلحة، وموكلاً إلى رأي الإمام، لما أطلق اللفظ بإيجابه في هذين الخبرين، كإيجاب الجلد. قيل له: ليس يمتنع أن تكون المصلحة في ذلك الوقت نفي جميع الزناة مع الجلد، تغليظًا وزجرًا، لقرب عهدهم باستباحتهم، ولقطعهم عن العادة فيه، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشق الراوية حين حرم الخمر، وليس شق الراوية واجبًا الآن، وكما كسرت الأنصاب الأواني والدنان حين بلغهم تحريمها. ومما يدل على أن النفي ليس بحد: أن الحدود معلومة المقادير،

وليس للنفي مقدار معلوم في المسافة والبلدان، وقد يكون النفي إلى بعضها أشق، وإلى بعضها أيسر، ولو كان حدًا، لكان مقداره معلومًا كسائر الحدود. فإن قيل: هو معلوم؛ لأنه نفي سنة. قيل له: الوقت لعمري معلوم، وكان يجب أن تكون المسافة إلى الموضع الذي ينفي إليه معلومة، ويكون البلد أيضًا معروفًا؛ لأن ذلك يختلف في المسافة بالبلدان، كما يختلف في المدد. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى أحد الزانيين إلى خيبر، والآخر إلى فدك، ونفى عمر إلى هجر، ونفى عثمان إلى مصر، وهذه مسافات مختلفة، مثلها لا يكون حدًا، وتدل على أنه اجتهاد، وأنه على حسب ما رأوا من التغليظ أو التخفيف. وأيضًا: قال الله تعالى في شأن الإماء:} فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب {، واتفقت الأمة على استعمال هذا الحكم فيهن في الجلد، فإن كان النفي حدًا معه، فلا يخلو من أن يكون واجبًا فيها، أو غير واجب. فإن كان غير واجب فيها مع قوله تعالى:} فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب {، ثبت أن الذي على المحصنات هو الجلد، لأنه كمال النصف الذي على الأمة.

وإن أوجب على الأمة نفي نصف سنة مع الجلد، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها"، حتى ذكر ثلاث مرات، ثم قال في الرابعة: "فليبعها ولو بضفير". فدل هذا الخبر من وجهين على سقوط النفي: أحدهما: قوله: "فليجلدها": من غير ذكر النفي، ولو كان النفي حدًا لذكره؛ لأن كلامه عليه الصلاة والسلام خرج مخرج تعليم الحكم. والثاني: قوله: "فليبعها"، والنفي يضاد البيع؛ لأنه يمنع التسليم، فدل على أن النفي ليس بحد. * ومما يدل على أن النفي ليس بحد: ما روى الليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام "أنه قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عامٍ، مع إقامة الحد عليه". فإن قال قائل: على ما قدمنا: قد أوجب الله صيام ثلاثة أيام في كفارة اليمين مطلقًا، غير منوطٍ، بشرط التتابع، ثم لم يمتنع عندك إيجاب التتابع فيه؛ لما في قراءة عبد الله: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، وفي ذلك زيادة في حكم النص على النحو الذي أبيتموه.

قيل له: نحن لا نمنع الزيادة في نص القرآن بقرآن مثله، أو بخبر التواتر، وإنما أنكرناها بخبر الواحد والقياس. فإن قيل: فكيف يجوز إثبات القرآن بخبر الواحد، وعلى أنه قد روي في حرف أبي: "فعدة من أيام أخر متتابعات"، ولم تثبتوه. قيل له: أما حرف عبد الله، فقد كان مشهورًا متعالمًا عند أهل الكوفة في عصر أبي حنيفة، يقرؤون به، كما يقرؤون بحرف زيد. وقد كان سعيد بن جبير يصلي بهم في شهر رمضان، فيقرأ ليلة بحرف زيد، وليلة بحرف عبد الله. وقال إبراهيم النخعي: كانوا يعلموننا في الكتاتيب حرف عبد الله، كما يعلموننا حرف زيد. وقال سفيان بن عيينه: كان أبي يقرئني قراءة عبد الله. فدل على أن شهرة حرف عبد الله كانت عندهم كشهرة حروف حمزة والكسائي عندنا، وكان ذلك تواترًا عندنا، فجاز أن يثبت به القرآن. وأما حرف أبي فكان شاذًا عندهم، غير معروف، فلم يجز من أجل

ذلك إثبات التتابع به في قضاء شهر رمضان. فإن قيل: فإن كان هذا سبيل حرف عبد الله عندكم، فجوزوا القراءة به، وأثبتوا في المصحف: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات". قيل له: إنما تكلمنا على مذهب أبي حنيفة، وعلى ما كان عليه حكم هذه القراءة في عصره، لم يكن يمتنع على ما ذكرنا أن يكونوا قد كانوا يقرؤون بهذه القراءة، فأما نحن فإنا لم نشاهد حرف عبد الله مستفيضًا، ولم ينقل إلينا إلا من جهة الآحاد؛ لترك الناس له، وإعراضهم عنه، فلذلك لم تثبت التلاوة. مسألة: [حد العبد والأمة إذا زنيا] قال أبو جعفر: (وإذا زنى العبد أو الأمة: جلد خمسين جلدة). قال أحمد: أما حد الأمة إذا أحصنت، فمنصوص عليه في الكتاب: قال الله تعالى:} فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب {، ومعلوم أن المراد الجلد؛ لأن الرجم لا يتنصف. وأما حد العبد وإن لم يكن مذكورًا في اللفظ، فهو معقول من جهة المعنى، لاتفاق الأمة على أن حكمهما واحد. وقد روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة في قوله:} فإذا

أحصن {: إذا تزوجن. وقال عبد الله، وإبراهيم: إحصانها: إسلامها. * وجعل ابن عباس ومن تابعه إحصانها شرطًا في وجوب الحد عليها، وأنها إذا لم تكن محصنة: فلا حد عليها؛ لأن الله تعالى علق حدها بشرط الإحصان. وليس الأمر فيها على ما ذهبوا إليه، وإنما فائدة شرط الإحصان أنه لما اختلف حكم المحصن وغير المحصن من الأحرار، فوجب على المحصن الرجم، وعلى غير المحصن الجلد، أخبر أن حدها الجلد دون الرجم وإن أحصنت، وذلك لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأخبارٍ متواترة إيجاب الجلد على الأمة من غير شرط الإحصان. وقد روى الحميدي عن سفيان عن الزهري قال: أخبرنا عبيد الله قال: سمعت أبا هريرة وزيد بن خالد – وقد سئلا – يقولون: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فسئل عن الأمة تزني قبل أن تحصن؟ فقال: إذا زنت فاجلدوها، فإن زنت فاجلدوها، وقال في الثالثة أو الرابعة: فبيعوها". فنص على وجوب الحد على الأمة قبل إحصانها، فثبت أن الإحصان ليس بشرط فيها. ولأن النظر يدل عليه أيضًا: وهو أنه لما لم يكن الرجم عليها بحال،

كانت كالحرة التي ليست بمحصنة، فلم يختلف فيها حكم وجود التزويج أو الإسلام أو عدمهما، فالذي ثبت من حد الأمة بالكتاب هو الجلد في حال الإحصان، وغير المحصنة حكمها مأخوذ من السنة. مسألة: [شرط ثبوت الزنى] قال أبو جعفر: (والزنى الذي يوجب الحد: هو الزنى في الفرج، كالمرود في المكحلة). وذلك لما في قصة ماعز من أن النبي صلى الله عليه وسلم استثبته، حتى أقر بالزنى على هذا الوجه، ثم أمر بجمه. مسألة: [عقوبة من عمل عمل قوم لوط] قال أبو جعفر: (فأما من عمل عمل قوم لوط، فإن أبا حنيفة قال: يعزر ويحبس، ولا يحد، وقال أبو يوسف ومحمد: عليه حد الزاني). الحجة لأبي حنيفة: ما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفسٍ بغير نفس". فنفي القتل عن غير الزاني، وفاعل ذلك لا يسمى زانيًا في لغة العرب، ولا في الشرع؛ لأن الزاني عندنا اسم معقول المعنى، وهو الجماع في فرج المرأة بغير عقد ولا ملك، والحدود موضوعة على

استحقاق الأسماء التي علقت بها، لا على المأثم. ألا ترى أن الكفر أعظم من الزنى في المأثم، ولا يوجب الحد، وأن شارب الخمر عليه الحد، وأكل الميتة ولحم الخنزير لا حد عليه، والقاذف بالزني عليه الحد، ولا حد على القاذف بالكفر. ومما يدل على أن هذا الفعل ليس بزنى: اتفاق الجميع على أنه لو عرضت هناك شبهة، فأسقط الحد: لم يجب عنه مهر، ومن شأن الزنى أنه متى ما سقط فيه الحد، وجب المهر. وأيضًا: لما لم يصح أن يستحق به المهر في عقد النكاح، أشبه الجماع فيما دون الفرج، فلا يبج به حد. وأيضًا: لما لم يجز أن يملك بعقد النكاح، صار كالجماع فيما دون الفرج من الذكران، وأشبه إتيان البهيمة، أن ذلك لما لم يجز أن يملك بعقد النكاح لم يجب فيه حد. وأيضًا: فلما لم يصح إطلاق اسم الزنى عليه، فلو أوجبنا الحد فيه أوجبناه قياسًا، ولا سبيل إلى إثبات الحدود قياسًا. فإن قيل: لما كان حكمه حكم الجماع في الفرج في باب وجوب الغسل به مع عدم الإنزال، ثبت أن حكمه حكم الإيلاج في الفرج. قيل له: هذا إثبات حد بقياس، وليس ذلك من أصلنا. وأيضًا: فليس وجوب الغسل مقصورًا على حقيقة الجماع، أو ما يكون مثله زنى إذا عري من الشبهة؛ لأن الغسل قد يجب بالإنزال من غير إيلاج، ولا يجب حد. وأيضًا: فإن الغسل مما يصح إثباته من طريق القياس، ولا يجوز مثله في الحد.

فإن قيل: روى عبد الله بن نافع عن عاصم بن عمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الذي يعمل عمل قوم لوط فارجموا الأعلى والأسفل، ارجموهما جميعًا". وروى سعيد بن منصور عن الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به". ورواه عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا. قيل له: إن عاصم بن عمر، وعمرو بن أبي عمرو، وعباد بن منصور، كلهم ضعاف، لا يحتج بحديثهم. وعلى أنهم لو كانوا مساوين في الثبات لمن روى قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث"، لم يكن يجوز أن يعترض به عليه ولا يوجب تخصيصه. وذلك لأن من أصلنا: أن الخبرين إذا رويا ينفي أحدهما بعض ما أثبته

الآخر: فإنا نعتبر فيه استعمال الفقهاء، فإن استعملوها على أن أحدهما مرتب على الآخر، استعملناها على ذلك، وإن اتفقوا على استعمال أحدهما، واختلفوا في استعمال الآخر، كان الذي اتفقوا على استعماله أولى عندنا بالثبات، ويصير قاضيًا على المختلف في استعماله، عامًا كان أو خاصًا. فلما اتفقت الأمة على استعمال قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث"، واختلفوا في استعمال حديث عمرو بن أبي عمرو، كان ما ذكرناه من قوله: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث": قاضيًا عليه. وعلى أن هذا حديث لم يفصل بين المحصن وغيره في إيجاب القتل، فعلمنا أنه لم يوجب قتله من طريق حد الزنى؛ لأن العقوبة المستحقة بالزنى يختلف حكمها في المحصن وغير المحصن من الأحرار. فإن قيل: روي في بعض ألفاظ أبي هريرة: "إن هذا الفعل زنى"، فيجب أن يكون فيه حد الزنى". قيل له: ما يعرف هذا في شيء من الأخبار، ولو ثبت لكان على جهة التشبيه بالزنى في إيجاب التحريم، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أما عبد تزوج بغير إذن مولاه، فهو عاهر"، ولم يقل أحدٌ من الفقهاء إن ذلك زنى يوجب الحد، وكما قال: "زنى العين النظر، وزنى الرجل المشي"، ونحو ذلك من الألفاظ التي يراد بها التشبيه، وكما قال

عليه الصلاة والسلام: "سباب المؤمن فسق، وقتاله كفر". فإن قيل: روى داود بن بكر عن محمد بن المنكدر "أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر: إني وجدت رجلاًَ في بعض ضواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، فجمع أبو بكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أشدهم فيه قولاً علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فاجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أنه يحرق بالنار، فأمر به أبو بكر فأحرق بالنار". وعن ابن عباس "أنه يلقى من أعلى بناء في القرية". وعن علي رضي الله عنه: "أنه يلقى عليه حائط". وهذا يوجب أن يكون ذلك اتفاقًا من السلف. قيل له: أول ما في هذا حديث أنه مرسل؛ لأن محمد بن المنكدر لم يشاهد هؤلاء، فلا يصح للمخالف الاحتجاج به. والثاني: أن إحراقه بالنار ليس هو قول أحد من الفقهاء ولا إلقاءه من البناء، فسقط الاحتجاج به من هذا الوجه. ولأن الفقهاء في حكم هذا الفعل على ثلاثة أقاويل:

إما قائل يقول بالتعزير فحسب دون الحد. وإما قائل قال فيه بحد الزاني، فيفرق بين المحصن وغير المحصن، وهو قول أبي يوسف ومحمد والحسن بن صالح، ويروى مثله عن الحسن وعطاء. وإما قائل يقول: عليهما الرجم، أحصنا أو لم يحصنا، وهو قول مالك والليث. وأما الإحراق وإلقاؤه من أعلى البناء، فليس هو قول لأحد. وقد روي عن إبراهيم والحكم مثل قول أبي حنيفة. وقد يحتمل: أن الرجل الذي وجده خالد بن الوليد كان حربيًا، أو من أهل الردة، فأحرقوه وزادوا في عقوبته الإحراق، لا لأجل هذا الفعل، وأن استحقاق القتل كان بالكفر فحسب. وليس يمتنع أن يكون معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الفاعل والمفعول به – لو ثبت – أنه إن فعله على وجه الاستحلال فاقتلوه، أو يكون كان في شخصين قد علم النبي صلى الله عليه وسلم منهما استحقاق القتل بغير ذلك، فأمر بقتلهما، فنقل الراوي قول النبي

صلى الله عليه وسلم، ولم يأت بالقصة على وجهها، كما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل السارق في الخامسة بعد ما قطع يديه ورجليه"، وكما روي "أفطر الحاجم والمحجوم"، لا على أن الحجامة تفطرهما، وقال في ولد الزنى: "إنه بشر الثلاثة"، لا لأنه ولد الزنى، بل لمعنى غيره، فكذلك ما وصفنا. ووجه آخر للمسألة: وهو أن من أصلنا: أن اختلاف الناس في الفعل هو هو زنى أو ليس بزنى؟ شبهة في سقوط الحد، كالذي يطأ على وجه المتعة، وعلى نكاح فاسد، ونحو ذلك من الأفعال المختلف فيها، هل هو زنى أو غير زنى؟ فكذلك الإيلاج في غير الفرج، لما كان مختلفًا في كونه زنى أو غير زنى؟، فأقل أحواله أن يكون ذلك شبهة في سقوط الحد، وهذا معنى صحيح تستمر عليه المسائل. مسألة: [لا حد على من أتى بهيمة] قال: (ولا حد على من أتي بهيمة). وذلك لما وصفنا من أن هذا الفعل ليس بزنى، ولا يجوز قياسه على الزنى في إيجاب الحد؛ لأنه لا يجوز إثبات الحدود بالقياس. فإن قيل: روى عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس عن

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه" قيل له: روى عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس قال: "ليس على الذي يأتي بهيمة حد"، وهو أصح إسنادًا من الأول. ولو كان ذلك ثابتًا عن النبي صلى الله عليه وسلم عند ابن عباس، لما خالفه إلى غيره إلا قد علم نسخه. ويجوز أن يكون منسوخًا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث". ويحتمل أن يكون معنى حديث عمرو بن أبي عمرو: إذا أتاها على جهة الاستحلال لذلك. * قال أبو جعفر: (ويعزر)، يعني من أتي بهيمة. * (فإن كانت البهيمة له: ذبحت ولم تؤكل). وإنما عزر؛ لأنه قد أتى فعلاً منكرًا استحق عليه العقوبة. وتذبح البهيمة ولا تؤكل إذا كانت له؛ لما في الحديث من الأمر بقتلها، قال: "فقلت: ما شأن البهيمة؟ قال: ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أن يؤكل لحمها، وقد عمل بها ذلك الفعل". قال أبو يوسف: أريد أن لا تبقي فيعير بها، ويجري ذكره إذا رآها.

مسألة: [اشتراط أربعة شهود لإثبات حد الزنا] قال أبو جعفر: (ولا يقبل في شهادة الزنى إلا أربعة، يشهدون على معاينه ذلك). لقول الله تعالى:} فاستشهدوا عليهن أربعة منكم {، وقال:} والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم {. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية حين قذف امرأته: "ايتني بأربعةٍ يشهدون، وإلا: فحد في ظهرك"، وهذا ما لا خلاف فيه. مسألة: [عدم قبول شهادة النساء في الحدود والقصاص] قال أبو جعفر: (ولا يجوز في ذلك شهادة النساء مع الرجال، ولا شهادة على شهادة). وذلك لما روى الزهري قال: "مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة النساء في حدود ولا قصاص".

ولا خلاف بين فقهاء الأمصار فيه. وأما الشهادة على الشهادة، فإنها قائمة مقام شهادة الأصل، ولا يستحق بها الحد، كما أن شهادة النساء لما قامت مقام شهادة الرجال، لم يجز إثبات الحد بها. مسألة: [وصف الشهود الأمر بالتصريح لا بالكناية، وكذا الإقرار] قال: (ولا تقبل الشهادة حتى يصفوا الأمر وصفًا مصرحًا لا كناية فيه، أو يقر به من فعل ذلك عند الحاكم في مجلس أربع مرات في مجالس مختلفة). وذلك لما روي من استثبات النبي صلى الله عليه وسلم ماعزًا حين أقر به إقرارًا مصرحًا، لا كناية فيه، ثم حينئذٍ أمر برجمه، وإذا وجب ذلك في الإقرار، فالشهادة بذلك أحرى؛ لأن الشهادة تسقط بالشبهة، والإقرار لا يسقط بالشبهة في سائر الحقوق. وأيضًا: فإن الحدود لما استظهر بدرئها بالشبهة، وبتلقين المقر ما يسقط إقراره، وجب أن يحتاط فيها، بأن لا يقام الحد فيها بلفظٍ يحتمل المعاني. * وإنما اعتبروا الإقرار أربع مرات: لما حدثنا عن أبي داود قال: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري قال: حدثنا وكيع عن هشام بن سعد أخبرني يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه ذكر قصة ماعز، وأنه جاء، فقال: "يا رسول الله! إني زنيت، فأقم على كتاب الله، فأعرض عنه، فعاد حتى

قالها أربع مرات، فقال صلى الله عليه وسلم: إنك قد قلت أربع مرات، فبمن؟ قال: بفلانه"، وذكر الحديث. وسمعناه أيضًا في كتاب أبي داود قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا أبو عوانة عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة "أن ماعزًا شهد على نفسه أربع مرات أنه قد زنى". وروى أيضًا سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "جاء ماعز إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاعترف بالزنا مرتين، فطرده، ثم جاء فاعترف بالزنى مرتين، فقال: شهدت على نفسك أربع مرات، فاذهبوا به فارجموه". وفي حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن عبد الرحمن بن الصامت عن أبي هريرة "أن ماعزًا شهد على نفسه أنه أصاب امرأة حرامًا أربع مرات، كل ذلك يعرض عنه". وفي حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله: "أن الأسلمي شهد على نفسه أربع شهادات، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فقال: أبك جنون؟ " قال: لا، قال: أحصنت؟ " قال: نعم، فأمر به فرجم".

وفي حديث بشير بن المهاجر عن أبن بريدة عن أبيه قال: "كنا نتحدث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما، لم يطلبهما، وإنما رجمهما عند الرابعة". وروي "أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لماعز: إنك إن اعترفت الرابعة رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم". فلو لم يرد في ذلك إلا خبر واحدٌ من هذه الأخبار لكان كافيًا في اعتبار عدد الإقرار، فكيف بها وقد جاءت مجئ الاستفاضة والتواتر؟ ولو كان الإقرار مرة واحدة يوجب الحد، لما أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ما ينبغي لولي أمرٍ أن يؤتي بحد إلا أقامه". وقال: "تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب". رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضًا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "شهدت على نفسك أربع مرات، فاذهبوا به فارجموه". وقال: "إنك قلت أربع مرات، فبمن؟ ". فأخبر أن وجوب الحد إنما تعلق بإقراره أربع مرات، وأن كل إقرار

من ذلك كان صحيحًا معتبًرا به في جملة الأربعة. * وإنما احتجنا إلى ذلك؛ لأن من المخالفين من يقول: عسى أن لا يكون إقراره المتقدم بصريح الزنى، أو عسى أن يكون أخبره؛ لأنه لم يكن ثبت عنده إحصانه أو صحة عقله، فقلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد صحح حكم إقراره أربع مرات، ولو كان كما زعمتم، لما كان ما تقدم إقرارًا بالزنى، ولو كان لأجل ما ظن به من الجنون، وتغير العقل، لسأل عنه في أول مرة. وعلى أنه قد روي إقراره أربع مرات بالزنى مصرحًا؛ لأنه قال في كل مرة: "زنيت". وقال أبو بكر رضي الله عنه: "إنك إن اعترفت الرابعة رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقول بريدة: "إنا كنا نتحدث أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام أنه لو رجع بعد الثالثة، لما طلبه، وأنه إنما رجمه عند الرابعة". فدل على أن ذلك قد كان مشهورًا متعارفًا بينهم، قد عرفوه من حكم الإقرار بالزنى قبل مجئ ماعز. وقد استعمل ذلك علي رضي الله عنه في شراحة الهمدانية، ولا نعلم عن أحدٍ من الصحابة خلاف ذلك. ويدل على ذلك: أن في حديث بريدة: "أن الغامدية قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما ردها: لعلك تردني كما رددت ماعزًا".

فإن قيل: في حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد في قصة العسيف "واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها"، ولم يذكر فيه عدد الإقرار. قيل له: ويحتمل أن يكون متقدمًا لخبر ماعز، فيكون خبر ماعز ناسخًا له، وإن كان بعده: فهو محمول على ما في خبر ماعز، كما هو محمول في الإحصان وإن لم يبينه في الحال، اكتفاء منه بعلم أنيس بذلك. وأيضًا: فينبغي أن تثبت أن الإقرار مرة واحدة يكون اعترافًا حتى يصح لك ما تدعيه في معنى الخبر. وأيضًا: فخبر ماعز مفسر، وخبر أنيس مجمل، فيلزم مخالفنا ان يثبته على ما فسر في خبر ماعز. * وإنما شرطنا أن يكون الإقرار في مجالس مختلفة، لما ذكر في قصة ماعز: "أنه أتاه من الغد، ثم أتاه من الغد"، فذكر الإقرار في مجالس مختلفة. مسألة: [الذي يبدأ برجم المحدود] (وإذا ثبت الحد بالشهود: بدأ الشهود، ثم الإمام، ثم الناس). وذلك لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "إذا كان الحد بشهادة: بدأ الشهود، ثم الإمام، ثم الناس، وإذا كان بإقرارٍ: بدأ الإمام، ثم الناس".

ووجه ذلك: أنا قد أمرنا بدرء الحدود بالشبهات، والاستظهار فيهان فيكون أمرهم بالرجم بدءًا امتحانًا لهم، وتحقيقًا لشهادتهم، ولأنه عسى أن يعرض فيها ما يوجب إسقاط الحد. وقد قال عمر حين شهد عنده ثلاثة على المغيرة بن شعبة، وجاء زياد فشهد: أني أرى وجه رجل: أرجو أن لا يخزى الله رجلاً من أصحاب محمد على يديه، طمعًا في أن لا تتم الشهادة عليه بالزنا، فيرجم. * (وأما إذا كان بإقرار: فإن الإمام هو الذي يبدأ). وذلك لما حدثنا عن أبي داود عن عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثنا زكريا بن سليمان قال: سمعت شيخًا يحدث عن أبي بكرة عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة، فحفر لها إلى الثندوة، ثم رماها بحصاة مثل الحمصة، ثم قال: ارموا، واتقوا الوجه، فلما طفئت: أخرجها وصلى عليها". ولأنه هو الحاكم عليه بالرجم، والأمر به، فالاستظهار فيه أن يبدأ الإمام به إذا كان حاضرًا. مسألة: [كيفية الرجم] قال: (ويصفون صفوفًا كصفوف الصلاة إذا رجموه). وذلك أنهم إن أحاطوا به: لم يؤمن أن يصيب بعضهم بعضًا.

[مسألة: الحفر للمرجوم] قال: (وإن رأى الإمام أن يحفر للمرجوم: فعل، وإن رأي أن لا يحفر له عند الرجم: فعل، وأما المرجومة فإنه يحفر لها إلى صدرها). قال أحمد: المشهور من قولهم: أن المرجوم لا يحقر له ولا يربط، وذلك لما حدثناه عن أبي داود قال: حدثنا أحمد بن منيع عن يحيي بن زكريا، وهذا لفظه عن داود عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: "لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجم ماعز بن مالك، خرجنا به إلى البقيع، فوالله ما أوثقناه، ولا حفرنا له، ولكنه قام لنا فرميناه". وفي سائر الأخبار: "إنه لما أصابته الحجارة: اشتد". وهذا يدل على أنه لم يكن قد أوثق، ولا حفر له. وقد روى عبد الله بن المقدام عن ابن شداد عن أبي ذر قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأقر رجل عنده بالزنى، فردة أربعًا، ثم أمر فحفر له حفرة، ليست بالطويلة، فرجم". وفي حديث خالد بن اللجلاج عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر برجم الرجل الذي أقر عنده بالزنى، خرجنا فحفرنا له". والذي روى في قصة ماعز أولى، لصحة سنده، وتواتر الأخبار به.

وسند هذين الحديثين ليس مما تثبت به حجة، ولا يعارض به أحاديث ماعز. * والذي قال أبو جعفر: "إن المرأة يحفر لها": فإن محمدًا قال في الأصل: "إن شاء حفر لها، وإن شاء لم يحفر لها". أما الحفر: فلما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فحفر للغامدية حين أمر برجمها". وحدثنا عن أبي داود قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوراث قال: حدثنا زكريا بن سليمان قال: سمعت شيخًا يحدث عن ابن أبي بكرة عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم امرأة، فحفر لها إلى الثندوة، ثم رماها بحصاة مثل الحمصة، ثم قال: ارموها واتقو الوجه، فلما طفئت: أخرجها وصلى عليها". قال أحمد: هذا الحديث يشتمل على عدة معان: منها أن المرجومة يحفر لها. وأن الإمام هو الذي يبدأ بالرجم إذا كان بإقرار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرجم أحدًا من المسلمين إلا بإقرار، منهم ماعز والجهنية. ومنها أن الوجه لا يضرب في الحدود. وأن المرجومة يصلى عليها.

* وأما وجه قوله: "وإن شاء لم يحفر لها": فلما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في رجم اليهوديين من الدلالة على أنه لم يحفر لهما، وذلك أنه قال: "فرأيت رجلاً يحني عليها عند الرجم، ويقيها الحجارة". فهذا يدل على معنيين: أحدهما: أنهما لم يكونا في حفرة؛ لأنه لو حفر، لكان ينبغي أن يكون لكل واحد منهما حفيرة على حيالها، فلم يكن يمكنه حينئذٍ أن يقيها الحجارة، ويحني عليها. ويدل أيضًا: على أن الرجل كان قائمًا؛ لأنه لو كان قاعدًا، لما أمكنه أن يحني عليها. * والفرق بين الرجل والمرأة من طريق النظر: أن المرأة مخصوصة بالستر، دون الرجل في سائر الأحوال؛ لأنها عورة، منها: حال الإحرام على الصلاة، والجنازة، وعند وضعها في القبر. وكما يُضرب الرجل عريانًا عليه سراويل، والمرأة عليها ثيابها، كذلك في حال الرجم. ثم يجوز حينئذٍ الاكتفاء بسترها بالثياب في حال الرجم، وترك الحفر. مسألة: [الرجوع عن الإقرار في الزنى] قال أبو جعفر: (وإذا رجع عن إقراره بالزنى، أو هرب قبل رجوعه: لم يتبع).

أما صحة رجوعه عن الإقرار، فلما روى إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبي المنذر مولى أبي ذر عن أبي أمية المخزومي رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلص قد اعترف اعترافًا، ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما إخالك سرقت"، قال: بلى، وأعاد عليه مرتين أو ثلاثًا، وأمر به، فقطع يده". فدل هذا الحديث على صحة رجوعه عن الإقرار، لولا ذلك لما لقنه النبي صلى الله عليه وسلم الرجوع عنه بعد اعترافه. ويدل عليه: ما روي في قصة ماعز، أنه لما وجد مس الحجارة جزع، فاشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس، وقد أعجز أصحابه، فرماه بوظيف بعير، فقتله، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "هلا تركتموه، لعله أن يتوب، فيتوب الله عليه". رواه هشام بن سعد عن يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه، وذكر القصة على وجهها. فلما منع نفسه مما بذلها له بدءًا، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتركه، فإذا كان هربه يوجب تركه، فرجوعه عن الإقرار أولى بذلك. فإن قال قائل: كيف يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "هلا تركتموه"، وهم لو تركوه بعد أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمه كانوا عصاة، لتركهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

قيل له: أراد أن يفيدهم الحكم في مثله إن عرض في المستأنف. فإن قيل: ليس في قوله: "هلا تركتموه": دلالة على ما ذكرت؛ لأن جابر بن عبد الله سئل عن ذلك، فقال إنما معناه: هلا تركتموه من الرجم، وجئتموني به، ليستثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما لترك حد فلا. قيل له: هذا ظن من جابر، ولم يعزه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيحمل عليه. فإن قيل: قوله عليه الصلاة والسلام: "ما بلغني من حد فقد وجب" ينفي ما ذكرت في هذا الحديث. قيل له: ليس كذلك؛ لأن الحد بعد وجوبه يجوز أن يسقط، وإذا سقط لشبهة تعرض فيه، لم تجز إقامته، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: ما وجب من حد فلا يسقط، فيكون كما قلت. فقد دلت قصة ماعز على الوجه الذي ذكرنا على جواز الرجوع عن الإقرار، وعلى أنه إذا هرب بعد الإقرار لم يتبع. وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه أمر بضرب عبدٍ أقر بالزنى، وقال: اضرب حتى يقول لك: أمسك. وليس الإقرار فيه كالشهادة إذا هرب وقد ثبت الزنى عليه بشهادة

الشهود: اتبع، ولم يخل وإن هرب، وذلك لأنه لو وجب ذلك، لوجب أن يكون إنكاره بدءًا مانعًا من صحة الشهادة عليه والخصومة، لأنه لا تصح الشهادة إلا وهو منكر لها، ممتنع مما يقتضيه حكمها. مسألة: [تأجيل المرأة الحامل] قال أبو جعفر: (ولا ترجم المرأة إذا كانت حاملاً). لما روي في قصة الجهنية أنها أقرت بالزنى وهي حبلى، فلم يرجمها النبي صلى الله عليه وسلم حتى وضعت، فلما وضعت رجمها. وروي أن عمر رضي الله عنه أراد أن يرجم حبلى، فقال له معاذ بن جبل: إن يكن لك عليها سبيل، فلا سبيل لك على ما في بطنها، فقال: لولا معاذ لهلك عمر. مسألة: [المرض لا يمنع الرجم] قال أبو جعفر: (ومرض الزاني لا يمنع رجمه). وذلك لأن الرجم يأتي عليه صحيحًا كان أو مريضًا، فلا معنى لانتظار البرء فيه. مسألة: [عدم الجلد أثناء المرض] قال: (وإن كان حده الجلد: لم يجلد حتى يبرأ).

والأصل فيه: ما روى إسرائيل عن عبد الأعلى عن أبي جميلة عن علي رضي الله عنه قال: "فجرت جارية لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا علي! انطلق فأقم عليها الحد، قال: فانطلقت، فإذا بها دم يسيل لم ينقطع، فأتيته فأخبرته، فقال: دعها حتى ينقطع دمها، ثم أقم عليها الحد". فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتأخير الحد؛ لما يخاف من ضرره عليها لأجل النفاس. فإن قيل: روى أبو أمامة بن سهل بن جنيف عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "أن رجلاً مريضًا زنى، وخيف عليه من الجلد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ، فيضربوه بها ضربة واحدة". قيل له: هذا يدل على ما قلنا؛ لأنه ضرب ضربًا لا يخاف منه. ويدل عليه أيضًا: ما روى فضالة بن عبيد وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بسارق، فقطع يده، ثم حسمه"، والمعنى فيه عندنا: لئلا يلحقه من الضرر أكثر مما هو مستحق عليه بالحد. ومن جهة النظر: إن المستحق عليه من العقوبة إنما هو الجلد، فإذا

كان مريضًا أو كان حر، أو برد يخاف منه، فلو أقمنا عليه الحد كنا قد ألحقنا به من الضرر في بدنه أكثر من المستحق بالحد، فلذلك لم نقم عليه الحد في هذه الحال. مسألة: [ضرب الزاني قائمًا] قال أبو جعفر: (ويضرب الزاني قائمًا غير ممدود مجردًا). أما ضربه قائمًا، فلما روي في حديث أبي نضرة عن أبي سعيد أنه قال: "لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز، خرجنا إلى البقيع، فوالله ما أوثقناه ولا حفرنا له، ولكنه قام لنا فرميناه". وفي حديث ابن عمر في رجم اليهوديين قال: "رأيت الرجل يحني عليها يقيها الحجارة". وهذا يدل على أنه كان قائمًا. وروى عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب رجلاً حدا، فأتي بسوط فكره شدته، فأتي بسوط لين فكره لينه، فأتي بسوط بين السوطين، فقال: اضرب ولا ترين إبطك، وأعط كل عضو حقه".

فهذا يدل على أنه كان قائماً، ويدل أيضًا على تفريق الضرب. وروي "عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه جلد رجلاً قائمًا في القذف". * وأما قوله: "غير ممدود": فلأن فيه زيادة في إيلامه، وذلك غير مستحق بالفعل. * وأما قوله: "مجردًا": ليصل إليه الألم، لقوله تعالى:} ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله {. مسألة: [عدم ضرب الرأس والوجه والفرج في الحدود] قال أبو جعفر: (ولا يضرب الرأس والوجه والفرج، في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: يضرب الرأس). وحكي ابن أبي عمران عن أصحاب أبي يوسف أنه قال: يضرب الرأس سوطًا واحدًا. وأما الوجه، فلما في حديث ابن أبي بكرة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر برجم المرأة قال لهم: "اتقوا الوجه"، وقد ذكرناه فيما سلف. وروى ابن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي

صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه". وروي أن عليًا رضي الله عنه قال لرجل أمره بجلد رجل في الخمر: "اتق وجهه ومذاكيره". وأما الرأس، فلأنه مقتل، فلا يضرب، كما لا يضرب الفرج. وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله لهلال بن أمية حين قذف امرأته: "اتيني بأربعة يشهدون، وغلا فحد في ظهرك": فلأن معظمه يقع في الظهر، كقوله تعالى:} حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير {، وليس الحكم مقصورًا على اللحم، بل الشحم مثله في التحريم، ولكن ذكر اللحم لأنه أعظم ما يبتغى فيه. ولأن عظم ما يحمل، إنما يحمل على الظهر، كقوله تعالى:} وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم {. مسألة: [كيفية ضرب المرأة في الحد] قال أبو جعفر: (وتضرب المرأة قاعدة عليها ثيابها، وينزع عنها الجلد والفرو والحشو).

فأما ضربها قاعدة في ثيابها، فلأن ذلك أستر لها، وكما روي في رجم الجهنية "أنه حفر لها، وشدت عليها ثيابها". * ونزع الحشو والجلد، ليصل الألم إليها. مسألة: [أثر التقادم على الإقرار] قال أبو جعفر: (ومن أقر بزنى بعد حين: أقيم عليه الحد). لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزًا لما أقر بالزنى أربع مرات، ولم يسأله عن الوقت، ولو كان تراخي المدة يمنع من صحة الإقرار، لبحث عنه، ورجم الجهينة بعد سنتين في بعض الأخبار. وكما يصح الإقرار بسائر الحقوق بعد حين. مسألة: [أثر التقادم على الشهادة] قال: (ولو شهدت عليه بينة بعد حين: لم يُقم عليه). وذلك لأن الشهود كان عليهم حين علموا منه أحد شيئين: إما الستر، وإما إقامة الشهادة في الحال، فإذا لم يقيموها في الوقت، لم يخل من أحد شيئين: إما أن يكونوا لم يقيموها تضييعًا للشهادة، واستخفافًا بأمر الحد،

أو لأنهم اختاروا الستر. فإن لم يقيموها للوجه الأول، فذلك يُسقط شهادتهم، وإن اختاروا الستر بدءًا – ولهم ذلك – فلم يقيموها في الثاني إلا لشيء هاجهم عليه، من ضغن أو عداوة، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إيما شهود شهدوا بحد، فلم يشهدوا بحضرته، فإنما هم شهود ضغن". * قال: (وكان أبو حنيفة رضي الله عنه لا يؤقت في ذلك، ويقول: هو على ما يرى الإمام). وذلك لأن المقادير لا تؤخذ من طريق المقاييس، وإنما تؤخذ من أحد وجهين: إما الاجتهاد، أو التوقيف، فإذا عدمنا التوقيف: فبالاجتهاد. * (وأبو يوسف ومحمد يؤقتان شهرًا) اجتهادًا، كما قالوا فيمن حلف: ليقضين فلانًا ماله عاجلاً، ولا نية له: أنه على أقل من شهر. وقال محمد في كتاب الشفعة: إذا سكت عن المطالبة بها بعد الطلب شهرًا، بطلت شفعته، وذلك كله اجتهاد. مسألة: [تعمد النظر في الزنى لأجل الشهادة] قال أبو جعفر: (ومن شهد عليه أربعة بالزنى، وقالوا: تعمدنا النظر، لم يضر ذلك بشهادتهم).

وذلك لقوله تعالى:} والتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم {، والاستشهاد على الزنى لا يكون إلا مع تعمد النظر. فإن قيل: إنما المراد إقامة الشهادة عند الحاكم، لا على حضور الفعل. قيل له: اللفظ ينطوى على الأمرين جميعًا، فهو عليهما. وروى مالك بن أنس عن سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله! أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: نعم". فقد أباح له استشهاد أربعة على معاينة ذلك. وأيضًا: الذين شهدوا على المغيرة، قد كانوا قبل ذلك اتهموا المغيرة، فاجتمعوا بعد ذلك، وتعمدوا النظر، ثم أقاموا الشهادة عند عمر بحضرة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فلم يبطل أحد منهم شهادتهم لأجل أنهم تعمدوا النظر، وإنما حدهم لأن زيادًا لم يصرح بالزنى في الشهادة. وأيضًا: فإنه إذا لم يصل إلى إقامة حق الله إلا بتعمد النظر، جاز له ذلك، كما يجوز للطبيب والقابلة النظر إلى العورة.

مسألة: [جهل الشهود بالمزني بها] قال: (ومن شهد عليه أربعة أنه زنى بامرأة لا يعرفونها: لم يحد). وذلك لأن هذه ليست بشهادة على الزنى؛ لأنه غير جائز لهم أن يقولوا هو زانٍ إلا أن يعرفوا أن المرأة أجنبية، مع خلو الفعل من الشبهة، فإذا لم يفعلوا ذلك، لم يسعهم إقامة الشهادة على الزنى. فإذا قالوا: نعم نعرف المرأة: فقد نقضوا قولهم بدءًا أنه زنى. وليس هذا كالإقرار إذا أقر أنه زنى بامرأة، ولا نعرفها نحن؛ لأن جهلنا بأنها امرأته لا ينفي صحة إقراره، وهو قد أخبر عن نفسه حين أقر بالزنى بها أنه عالم بأنها ليست بامرأته. وأيضًا: فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الجهنية عمن زنى بها، وحكم عليها بصحة إقرارها. مسألة: [أثر موت الشاهد أو غيابه أو امتناعه على إقامة الحد] قال أبو جعفر: (وإذا غاب الشهود، أو ماتوا: لم يرجم). وذلك لأن من حكم الرجم أن يبدأ به الشهود، ولو كانوا حضورًا، فامتنعوا من رجمه: لم يرجم، وكان ذلك تهمة في الشهادة، كذلك إذا غابوا، أو ماتوا.

قال: (وقال أبو يوسف: يرجم وإن غابوا)؛ لأن أمرنا للشهود بالابتداء بالرجم، إنما هو على وجه الاستظهار، لا على أن ذلك شرط في صحة الرجم. مسألة: [الإقرار بعد الإشهاد] قال: (ومن شهد عليه أربعة بالزنى، فقضي عليه بذلك، ولم يقم عليه الحد حتى أقر بالزنى، فإن أبا يوسف قال: قد بطلت الشهادة عليه بذلك، فلا يحد حتى يقر أربع مرات في مجالس مختلفة. وأما محمد فكان يقول: الشهادة على حالها، ويحد بها بعد إقراره، كما يحد بها قبل إقراره، إلا أن يقر بتتمة أربع مرات في مجالس مختلفة، فيحد بالإقرار حينئذٍ، وتبطل الشهادة). وجه قول أبي يوسف: أن الشهادة على الزنى موقوفة الحكم على استيفاء الحد، فمتى عرض فيها قبل استيفائها ما يمنع قبولها ابتداء، فإنه يبطلها، والدليل على صحة ذلك: أن الشهود لو رجعوا بعد حكم الحاكم بالحد بشهادتهم، لبطل الحد، كذلك إذا أقر، وجب أن يبطل حكم الشهادة مع الإقرار، كما أنه لو أقر بدءًا: لم يصح للشهادة حكم مع الإقرار. ووجه قول محمد: إن الإقرار بالزنى مرة واحدة لا حكم له، والدليل عليه: أنه لا يجب به حد، ومن حيث سقط الحد، لم يجب المهر أيضًا، فصار وجوده وعدمه سواء. ألا ترى أنه لو أقر أربع مرات، ثم سقط الحد بضربٍ من الشبهة،

وجب المهر بصحة الإقرار، فإذا أقر أربع مرات، ثبت حكم الإقرار، وانتفى حكم الشهادة، لاستحالة أن يكون محكومًا عليه بالإقرار وبالشهادة جميعًا، لأنهما يتنافيان، ولا يصح اجتماعهما، ألا ترى أن حكم الشهادة مما لا يصح مع الإقرار. ***********************

باب الحد في القذف

باب الحد في القذف مسألة: [شروط حد القذف] قال أبو جعفر: (وإذا قذف رجل رجلاً لم يحد القاذف حتى تثبت حرية المقذوف). قال أبو بكر: وذلك لقول الله تعالى:} والذين يرمون المحصنات {، فأوجب سبحانه الحد على قاذف المحصنة، والرق يمنع الإحصان، والدليل عليه قوله تعالى:} فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب {، فجعلها عز وجل غير محصنة. ولا خلاف بين الفقهاء أيضًا في أن لا حد على قاذف الرقيق، فإذا اختلفا في الرق والحرية، فالقول قول من يدعي الرق؛ لأن الله تعالى علق

وجوب الحد بصفة الإحصان، فلذلك لم يجز لنا إيجابه إلا مع وجود الصفة. فإن قيل: فالناس أحرار حتى يثبت الرق، فهلا حكمت بحريته من جهة الظاهر. قيل له: لأن الظاهر لا يستحق به على الغير، وإنما تدفع به الدعوى، ومن أجل ذلك قال أصحابنا: الناس أحرار إلا في أربعة أشياء: الحدود، والقصاص، والشهادة، والعقل. فإذا قطع يد رجل، وادعى القاطع أن المقطوع عبد، فالقول قوله، ولا يقتص منه حتى تثبت حرية المقطوع. وكذلك لو جني عليه خطأ فيما دون النفس، لم تعقلها عاقلة الجاني حتى تثبت حرية المجني عليه. وكذلك لو شهد شاهد على رجل بحق، فقال المشهود عليه: هما عبدان، لم يُمض القاضي القضاء بشهادتهما حتى يثبت أنهما حران. والمعنى في ذلك كله: أن الحكم بالحرية في الناس إنما هو من طريق الظاهر، والظاهر لا يستحق به على الغير، وهذا أصل صحيح يستمر على الفروع. ومن نظائره: دار في يدي رجل، بيعت دار إلى جنبها، فأراد الذي في يده الدار أخذ الدار المبيعة بالشفعة: لم يكن له ذلك حتى يقيم البينة أنه مالك للدار التي في يده؛ لأن حكمنا له بالملك من أجل اليد إنما هو من جهة الظاهر، والظاهر لا يستحق به على الغير. ولو ادعى هذه الدار رجل، حكمنا للذي هي في يده إنها حتى يستحقها غيره لأجل ظهور اليد، فصارت كأنها ملكه فيما يدفع به من

دعوى المدعي، ولم يحكم بأنها له فيما يستحق به على الغير. فإن قال قائل: ينبغي أن يكون القول قول المقذوف أنه محصن بالحرية، كما أن القول قوله في أنه عفيف لم يكن منه من الوطء الحرام ما يُسقط الحد عن قاذفه؛ لأن من شرائط وجوب الحد على القاذف عفة المقذوف، كما أن من شرائطه حريته. قيل له: الفصل بينهما: أن الوطء الحرام طارئ على الإحصان لا محالة؛ لأنه متيقن عندنا أنه لم يكن واطئًا، وليس معنى يقين بأنه كان حرًا إلا من جهة الظاهر. وأيضًا: البينة لا تقبل على أنه لم يطأ، فلا معنى لتكليفه إياها، لأنها تكون بينه على النفي، والبينات إنما تقبل على الإثبات دون النفي، والحرية معنى يصح قيام البينة عليها وإثباتها. مسألة: قال: (والقول قول القاذف أيضًا إنه عبد). فلا نضربه حد الحر،؛ لأن هذه الزيادة لا يجوز إثباتها عليه من طريق الظاهر. مسألة: [حد القذف ثمانون جلدة، وكيفية إقامته] قال: (والحد ثمانون جلدة، قائمًا غير ممدود، وعليه ثيابه، وينزع عنه الحشو والجلد).

* فأما مقدار الحد، فلقول الله تعالى:} فاجلدوهم ثمانين جلدة {. * ويحد قائمًا غير ممدود؛ لما بيناه في حد الزنى، والمرأة جالسة؛ لما بيناه أيضًا. * ولا يجرد في حد القذف، كما يجرد في حد الزنى؛ لما روي عن علي رضي الله عنه "أنه ضرب رجلاً حدًا وعليه قباء أو قرطف". ولأن حد القاذف أخف من حد الزاني، لجواز أن يكون صادقًا في قذفه، وقد كان يسع الشهود الستر على المقذوف، وترك إقامة الشهادة عليهما بالزنى، فوجب أن يخفف عن الزنى. ولأن الله تعالى قال في الزنى:} ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله {. ولأن القاذف قد عوقب من جهة أخرى غير الجلد، وهي بطلان الشهادة. فإن قيل: ذكر سفيان بن عيينة قال: سمعت سعد بن إبراهيم يقول

للزهري: "إن أهل العراق يقولون: إن القاذف لا يضرب ضربًا شديدًا"، ولقد حدثني أبي: أن أمة أم كلثوم أمرت بشاة فسلخت حين جلد أبو بكرة، فألبسته مسكها". فهل ذلك إلا من ضرب شديد؟ قيل له: يجوز أن تكون لآثار يسيرة حصلت في بدنه، ففعلت ذلك إشفاقًا عليه. مسألة: [عدم ثبوت حد القذف بالتعريض] قال: (ولا يجب حد القذف بالكناية). وذلك لأن الله تعالى أوجب الحد بقذف المحصنات بقوله تعالى:} والذين يرمون المحصنات {، فغير جائز إثباته بالتعريض بالرمي، لما فيه من إثبات حد بقياس. وأيضًا: لما كان التعريض يحتمل القذف ويحتمل غيره، كان كالشهادة على الزنى أو الإقرار به، فلا يثبت حكمه إلا بالتصريح، كما لا يثبت حكم الشهادة والإقرار إلا بالتصريح. وأيضًا: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ادرؤوا الحدود

بالشبهات"، و"ادرؤوا الحدود ما استطعتم"، ولا شبهة أكثر من احتمال اللفظ بغير القذف. وأيضًا: فإن التعريض كناية، والكنايات لا حكم لها بأنفسها، والدليل عليه: أن كنايات الطلاق لا حكم لها إلا بانضمام النية إليها. وأيضًا: جعل الله التعريض بالخطبة كإضمارها بقوله تعالى:} ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم {، وفرق بينه وبين التصريح بها بقوله سبحانه:} ولكن لا تواعدوهن سرا {. فلما اتفق الجميع على أن لا حد في إضمار القذف، كذلك يجب أن يكون حكم التعريض. وأيضًا: فإن التعريض في الحقيقة، دون التصريح في نفس اللفظ، فلا جائز أن تكون عقوبته عقوبة التصريح، ألا ترى أن الحد لما وجب في الجماع في الفرج، لم يكن فيما دونه بمنزلته. فإن قيل: روى مالك عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن عن عمه عن عمرة بنت عبد الرحمن أن رجلين استبا، فقال أحدهما للآخر: والله ما

أبي بزان، ولا أمي بزانية، فاستشار في ذلك عمر بن الخطاب، فقال قائل: مدح أباه وأمه، وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا، سرى أن تجلده الحد، فجلده عمر ثمانين. قيل له: إن عمر لم يستشر إلا من يكون قوله خلافًا، فإذا خالف، وقد قال له بعضهم: لا حد عليه، وإذا وقع الخلاف بين السلف، وجب الاستدلال على صحة المقالة بغيرها. مسألة: [مقدار التعزير] قال أبو جعفر: (وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يلغ بالتعزير أربعين سوطًا). وذلك لما حدثنا ابن قانع قال: حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن عبد الله عن سليمان بن يسار عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله عن أبي بردة بن نيار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله تعالى". فانتفى بذلك أن يبلغ بالتعزير الحد. فإن قيل: في هذا الخبر أنه لا يجلد فوق عشر جلدات في غير حد، فأنت تبلغ بالتعزير فوق العشرة.

قيل له: اقتضى الخبر معنيين: أن لا يبلغ به الحد، وأن لا يجاوز به العشر، وقامت الدلالة على مجاوزة العشر، فبقي حكم اللفظ في نفسي بلوغ الحد. وأيضًا: حدثنا ابن قانع قال: حدثنا ابن ناحية قال: حدثنا محمد بن الحصين الأصبحي قال: حدثنا عمر بن علي المقدمي قال: حدثنا مسعر عن خاله الوليد بن عثمان عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ضرب حدًا في غير حد، فهو من المعتدين". ورواه أبو نعيم عن مسعر عن الوليد عن عثمان عن الضحاك عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. فإن قيل: قال الله تعالى:} فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله {، فدل على أن التعزير على قدر ما يرى الإمام من المصلحة فيه وإن زاد على الحد، كما أوجب الله سبحانه قتال الفئة الباغية وقتلهم حتى يفيئوا إلى أمر الله. قيل له: ليس التعزير من قتال البغاة في شيء؛ لأن البغاة إنما يقاتلون على وجه الدفع إذا قاتلوا، ألا ترى أنهم لو قعدوا في بيوتهم لم يقاتلوا، وأما التعزير فهو مستحق بفعل فعله، قد استقر عليه حكمه، فيشبه الحد من هذا الوجه، فوجب أن لا يبلغ به الحد، لما ورد به التوقيف، كما لا يجلد في الزنى والقذف بأكثر مما ورد به التوقيف. * قال: (وروي عن أبي يوسف فيه روايتان: إحداهما: أنه ينقص من

أقل حدود الأحرار، وهو ثمانون جلدة، وينقص من ذلك جلدة واحدة، أو ما رآه الإمام مما هو أكثر منها، وروي عنه: أنه على ما يراه الإمام بلا توقيت). قال أبو بكر: في الأصل: خمسة وسبعون سوطًا على قول أبي يوسف، وذهب فيه إلى أنه يجب أن ينقص من أقل حد الحر، وهو ثمانون، وجعل النقصان خمسة أسواط، لما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في التعزير أنه خمسة وسبعون سوطًا، فأخذ بقوله في نقصان الخمسة الأسواط، وخالفه في الحد الذي ينقص منه. مسألة: [حد العبد القاذف] قال أبو جعفر: (وحد العبد أربعون في قذفه الحر). قال أبو بكر: روى الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "يجلد العبد في القرية أربعين". وروى الثوري أيضًا عن أبي ذكوان عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أدركت أبا بكر، وعمر، وعثمان، ومن بعدهم من الخلفاء، فلم أرهم يضربون المملوك في القذف إلا أربعين.

وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه من قوله. ويحكى عن الأوزاعي أنه يضرب ثمانين. وروي نحوه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ومحمد بن أبي بكر. والحجة لقولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، وعضوا عليها بالنوجذ"، وقد ثبت عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أن حده أربعون، فلزم إتباعهم. وأيضًا: لما اتفق الجميع على أن حده في الزنى على النصف من حد الحر، وجب أن يكون كذلك حد القذف، والمعنى الجامع بينهما: أن كل واحد منهما عقوبة تنصف، وتسقطها الشبهة. فإن قيل: فأنتم لا تثبتون الحدود بالقياس. قيل له: لم نثبت الأربعين بالقياس، بل بالاتفاق، وإنما أسقطنا ما عداها، وجائز عندنا إسقاط الحدود بالقياس، وليس ذلك كالقطع في السرقة، لأن القطع لا يتبغض، ألا ترى أن عدة الأمة لما كانت على النصف من عدة الحرة، كانت عدتها بالشهور، شهر ونصف: نصف عدة

الحرة؛ لأنها تتبعض، وعدتها بالحيض حيضتان؛ لأنها لا تتبعض. مسألة: [العفو في حد القذف] قال أبو جعفر: (ولا يجوز عفو المقذوف عن القاذف، وله مطالبته بالحد بعد ذلك، وقال أبو يوسف: عفوه جائز). وقد أطلق محمد في بعض المواضع أنه من حقوق الناس، وأطلق في بعضها أنه من حقوق الله تعالى، والعبارتان جميعًا صحيحتان. أما قوله: إنه من حقوق الناس، فإنما أراد أن المطالبة به من حقه، لما لحقه من الشين بقذفه، وتناوله من عرضه، ولو لم يطالب لم يحد.

وقوله: إنه من حقوق الله تعالى: أراد به نفس الحد، لا المطالبة به، إذ ليس يمتنع أن يكون الحق لواحد، والمطالبة به لآخر، كالوكيل بالبيع يطالب، وملك الثمن للآمر، وكذلك المشتري إذا كان وكيلاً، فإن قبض العبد إليه، والملك للآمر، والقطع في السرقة حق الله تعالى، والمطالبة للآدمي، لأنه لو لم يخاصم فيه: لم يقطع. والدليل على أن نفس الحد من حقوق الله عز وجل، ولا يصح العفو فيه: أن عدد الضرب المستحق بالقذف مقدر لا تجوز الزيادة عليه، ولا النقصان منه، فأشبه حد الزنى وشرب الخمر والسرقة، ألا ترى أن ما كان من حقوق الناس مثل التعزير وغرامة المتلفات، تختلف مقاديرها على حسب ما يوجبه الرأي والاجتهاد فيها، وعلى حسب اختلاف المتلف في نفسه. وليس في تعلق إقامته بخصومة الآدمي ومطالبته ما ينفي أن يكون حقًا لله تعالى، لا يجوز العفو فيه؛ لأن القطع في السرقة لا يثبت إلا بخصومة الآدمي، ولم يدل على أنه من حق الآدمي، وعلى جواز العفو فيه. فإن قيل: قد فرقتم بينهما من جهة إسقاطكم القطع في السرقة بالتقادم، وإيجابكم حد القذف مع التقادم إذا طالب به المقذوف. قيل له: اختلافهما من هذا الوجه، لا يمنع إسقاط سؤال السائل في تعلق إقامته بمطالبة الآدمي، واتفاقهما من الوجه الذي ذكرنا. وإنما اختلف حكمهما من الوجه الذي ذكرت، من قبل أن حق المقذوف هو المطالبة بالحد، لا غير، لما تناوله من عرضه بقذفه، وأما القطع في السرقة فليس حق المسروق هو المطالبة بالقطع، وإنما حقه المطالبة بالمال، ألا ترى أنه لو رد عليه المال قبل الخصومة، لم يكن له

أن يخاصمه في القطع، إلا أنهما مع ذلك قد تعلقنا بمطالبة الآدمي وخصومته فيه، وإن اختلفا من وجه آخر. ومما يدل على أنه من حقوق الله سبحانه وتعالى: أن الإباحة لا تسقط حكمه، ألا ترى أنه لو قال له: اقذفني، فقذفه: وجب عليه الحد، وليس كالقصاص؛ لأن الإباحة تسقطه، ألا ترى أنه لو قال له: اقطع يدي، فقطعها: لم يكن عليه شيء. ودليل آخر: وهو اتفاق مخالفينا على أن حد العبد في القذف على النصف من حد الحر، كحد الزنى، فلو كان من حق الآدمي ما اختلف الحر والعبد فيما يثبت عليه، كما لا يختلفان في سائر حقوق الناس، ألا ترى أن العبد إذا قتل: كان الذي يثبت عليه من القصاص أو الدية في الرقبة مثل ما يثبت على الحر بجنايته. فإن قيل: فالحر والعبد يستويان في قطع السرقة، فقل: إن حد السرقة من حقوق الآدميين. قيل له: إن ما يستوي العبد والحر فيه، فهو من حقوق الآدميين، فيلزم ما ذكرت، وإنما قلنا إن من شأن حقوق الآدميين أن لا يختلف حكم الجناية فيما يثبت عليهم بها، فلما وجدنا الحر والعبد يختلفان في ذلك، علمنا أنه ليس بحق الآدمي، وليس يمتنع مع ذلك أن يتفقا في بعض حقوق الله عز وجل مما لا يتبعض، والقطع في السرقة لا يتبعض. وإن شئت قلت في الابتداء: إن الجلد لما اختلف فيه الحر والعبد، وكان مما يتبعض من الحدود، أشبه حد الزنى، ولا يلزم عليه حد

السرقة، لأنه لا يتبعض. فإن قيل: فقد سقط حد القذف بتصديق المقذوف، فدل على أنه حقه، لولا ذلك ما سقط بقوله. قيل له: ولو قال المسروق منه للسارق: هو مالك، لم يجب فيه القطع، ولم يدل على أن القطع حق له. وأيضًا: فإن سقوطه في هذا الوجه من جهة الحكم، لا يدل على أنه يملك العفو فيه، كما أنه لو طلق امرأته قبل الدخول، سقط نصف مهرها، ولا يدل على أنه له إسقاطه عن نفسه بغير طلاق، وكما لو ارتدت المرأة: حرمت عليه، ولو أرادت تحريم نفسها عليه بقولها: قد حرمت نفسي، لم تحرم، ولو وطئ أمها أو بنتها: حرمت عليه تحريمًا مؤبدًا، ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى في الأصول. ويروى نحو قولنا عن الزهري، وهو قول الثوري والحسن بن صالح، والأوزاعي. وروي نحو قول أبي يوسف عن عمر بن عبد العزيز. مسألة: [حد القذف غير موروث بموت المقذوف] (ومن قذف رجلاً فمات المقذوف: سقط الحد، ولم يورث عنه). قال أبو بكر: وذلك لأنه لما ثبت أنه حق الله تعالى بما قدمنا، والله

تعالى حي باقٍ، لم يورث حقه، فإذا لم يورث، وقد مات من كانت له المطالبة، بقي الحد لا مطالب به فسقط. وأيضًا: لو كان الحد موروثًا عنه، لجرى فيه سهام المواريث، فترثه أخته وزوجته وسائر من يرث ماله، فلما اتفق الجميع على أن لا حق لهؤلاء في المطالبة به بعد الموت، صح أنه غير موروث. فإن قيل: إذا قذفه بعد موته، فللولد والوالد أخذه بحده، وفارق الأخت والزوجة، كذلك إذا وجب له الحد، ثم مات. قيل له: إنما يطالبه بالحد عن نفسه، لا عن الميت؛ لأنه قد قدح في نسبه. فإن قيل: فينبغي أن يأخذه به الابن قبل الموت، لحصول القدح في نسبه. قيل له: قد ثبت له ذلك، إلا أن هناك من هو أولى منه، وهو المقذوف فسقط حقه، كما أن ابن الابن من أهل الميراث، إلا أنه إذا كان هناك ابن: كان أحق به، فحجبه، ولم يخرجه من أن يكون من أهل الميراث. مسألة: [قذف الميت] قال أبو جعفر: (ومن قذف رجلاً وهو ميت: فإنه لا يأخذه بحده إلا الوالد، والجد، والولد، وولد الولد). قال أبو بكر: قال محمد في إملائه: لا يأخذ بحد الميت إلا الولد، أو

الوالد ممن يرث ويورث وإن بعدوا. فإن فقد إحدى هاتين الخصلتين: لم يأخذ بالحد أحد، لا بنت الابنة، ولا أم لأم الأب، وتأخذ بنت الابن، والجدة أم الأب. قال أبو يوسف: ويأخذ بحد الميت ابن الابن، وقال زفر: لا يأخذ به مع الابن. قال أبو بكر: ويحكى عن الحسن بن صالح: أنه يأخذ بحده من طالبه، وقام به من الناس وإن كان غيره أولى به. فأما قول الحسن بن صالح، فخارج عن أقاويل الفقهاء، ويبطله النظر أيضًا، من قبل أن هذا لو كان غير مستحق بالميراث، أو بما حصل به من القدح في نسبه، لوجب أن يكون لكل واحد أن يطالب بحد المقذوف وإن كان حيًا. ويدل على فساده: ما روي أن ماعزًا أقر عند النبي صلى الله عليه وسلم أنه زنى بمولاة بني فلان، فأرسل إليها، فأنكرت، فخلى سبيلها، وأخذه بما أقر على نفسه، ولم يذلك أنه جلده حد الفرية فيها، ولو كان

لكل واحد أن يطالب بحد المقذوف، لما أسقط النبي صلى الله عليه وسلم ما وجب لها من الحد، ولإقامة عليه من غير مطالبة منها. ولم يجلد هلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء؛ لأنه لم يطالب به، ولو كان جائزًا إقامة حد المقذوف بغير مطالبة المقذوف، أو من يحصل بقذفه قدح في نسبه، لحده النبي صلى الله عليه وسلم له، فصح بذلك أنه لا يجوز لكل أحد المطالبة بحد القذف، فلم يبق إلا أحد قولين. أما من يقول إن لعصبة الميت وولده الأخذ بحده، أو قولنا: إنه لا يأخذ به إلا الولد والوالد، فلما ثبت أنه غير مستحق على وجه الميراث، لاتفاق الجميع على أنه لاحظ للزوج والزوجة والأخت في المطالبة به بطلب جهة الميراث أيضًا، فوجب أن يأخذ من حصل به القدح في نسبه وهو الولد؛ لأنه إذا كان أبوه زانيًا، لم يتصل به نسب ولد الابن، ومن عدا هؤلاء فلو استحقوه، استحقوه بالميراث، وقد بينا فساد ذلك. مسألة: [قذف الذمية والأمة] قال أبو جعفر: (ولا حد على من قذف ذمية، ولا أمة، ولا أم الولد، ولكنه يعزر). وذلك لأن الذمية ليست بمحصنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم:

"من أشرك بالله فليس بمحصن"، ومن شرائط الإحصان: الحرية أيضًا، ولا نعلم في ذلك خلافًا. مسألة: [قذف الزانية والموطوءة بالشبهة] قال: (ولا حد على من قذف امرأة وطئت بشبهة، أو بزنى، أو على نكاح فاسد). وذلك لأن من شرائط حد القذف إحصان المقذوف بالعفة، والوطء الواقع على هذا الوجه يزيل الإحصان. ويدل على أن الإحصان في هذا الموضع يراد به العفة: قول الله تعالى:} إن الذين يرمون المحصنات الغافلات {قيل: يعني العفائف. وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه في عائشة رضي الله عنها: حصان رزان ما تزن بريبةٍ .... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل فإن قيل: الوطء بشبهة ليس بزنى، فينبغي أن لا يزيل الإحصان. قيل له: أقل أحواله أن يكون إذا كان مشبهًا للزنى من وجه، وهو وقوعه في غير ملك ولا نكاح، أن يصير شبهة في درء الحد عن القاذف؛ لأن معنى الشبهة أن يشبه الفعل الحلال من وجه، والحرام من وجه.

مسألة: [عدم قبول شهادة القاذف بعد الحد أبدًا] قال أبو جعفر: (من حد في قذف: سقطت بذلك شهادته أبدًا، تاب أو لم يتب). قال أبو بكر: وقال مالك، وعثمان البتي: تقبل شهادة كل محدود إذ تاب. ويحكي عن الحسن بن حي والأوزاعي أن كل من حد في الإسلام في قذف أو غيره، لم تقبل شهادته أبدًا. وقبل أصحابنا شهادة كل محدود إذا تاب، إلا المحدود في القذف، والأصل في بطلان شهادة المحدود في القذف: قول الله تعالى:} والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون {. والدلالة من هذه الآية على صحة مقالتنا من وجوه: أحدها: قوله تعالى:} ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا {، وذلك لفظ يقتضي بطلان شهادته على وجه التأييد، لعموم اللفظ. ووجه آخر: وهو أنه تعالى لما قرنه بالتأييد، ولم يقتصر فيه على لفظ

العموم فقط، وجب أن يكون لذلك فائدة، وهو أن لا تقبل بعد التوبة، ولولا ذلك كان وجود ذكر التأبيد وعدمه سواء. ووجه آخر: وهو أن الآية مشتملة على معنيين: تسميته بالفسق، وبطلان شهادته جميعًا، ومعلوم أن لزوم سمة الفسق إياه، يمنع قبول شهادته، فلم يكن لذكره بطلان الشهادة وجه مع ذلك، إلا ليبين أنها لا تقبل أبدًا، وأن بطلانها ليس من جهة بطلانها بالفسق، فترفعه التوبة، كما ترفع بطلان الشهادة إذا كان من طريق الفسق. ولو قبلنا شهادته بعد التوبة، لأخلينا قوله تعالى:} ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا {: من فائدة، وجعلنا وجوده وعدمه سواء، وذلك ما لا يجوز أن تحمل عليه معاني كتاب الله عز وجل. فإن قال قائل: لو لم يكن في نسق الخطاب استثناء التائب، لكان القول ما قلت، لكنه قال:} إلا الذين تابوا {، فوجب أن يرجع الاستثناء إلى جميع الكلام إلا ما قام دليله. قيل له: الجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن حكم الاستثناء أن يرجع إلى ما يليه، ولا يرجع إلى ما تقدم إلا بدلالة، لأن الاستثناء تخصيص بعض ما انتظمه اللفظ، فحكمه أن يكون مقصورًا على ما يتقرر رجوعه إليه، ولا يخص به ما تقدم بالاحتمال، لامتناع تخصيص العموم بالاحتمال.

فلما كان قد صح رجوع الاستثناء إلى زوال سمة الفسق، وهو الذي يليه، لم يجز لنا أن نرده إلى ما تقدمه إلا بدلالة، وكذلك قال أهل اللغة في حكم الاستثناء. ويدل عليه قوله تعالى:} إلا أل لوطٍ إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته {، وكانت المرأة مستثناه من المنجين دون من يليها في الخطاب ممن تقدم ذكرهم. ويدل عليه: أن قائلاً لو قال: لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهمًا، أن الدرهم مستثنى من الثلاثة، لأنه هو الذي يليها، والثلاثة مستثناه من العشرة. وأيضًا: لو رددنا الاستثناء إلى ذكر بطلان الشهادة، لبطلت فائدة ذكر التأبيد، ومتى أمكننا استعمال اللفظ على فائدته، لم يجز لنا إسقاطها. وأيضًا: فإن هذا يؤدي إلى إسقاط فائدة ذكر بطلان الشهادة رأسًا، إذ كان بطلانها موقوفًا على التوبة، كما وقفه لزوم سمة الفسق على التوبة، ومعلوم أن لزوم هذه السمة يبطل الشهادة حتى يتوب. وأيضًا: فإن قوله تعالى:} ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا {: أمر، وقوله سبحانه:} وأولئك هم الفاسقون {: خبر مستأنف، لا يجوز دخوله في الأمر الأول، فوجب أن لا يرجع الاستثناء إليه، ألا ترى أنه لو قال: أعظ زيدًا درهمًا، وعبدي حر إن شاء الله تعالى، أن الاستثناء راجع إلى الحرية دون الأمر بإعطاء زيد، كذلك ما وصفنا.

ويدل عليه من جهة السنة: ما حدثناه "ابن قانع قال: حدثنا حامد بن محمد قال: حدثنا شريح يعني ابن النعمان قال: حدثنا مروان بن معاوية عن يزيد بن أبي خالد عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. "لا تجوز في الإسلام شهادة مجرب عليه شهادة زور، ولا مجلود حدًا، ولا ذي غمر على أخيه"، وذكر الحديث. وروى عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن هلال بن أمية لما قذف امرأته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجلد هلال بن أمية، وتبطل شهادته في المسلمين". وروى بعضهم في هذا الحديث: أن الأنصار قالت هذا القول، ويجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله، وقالته الأنصار أيضًا. وعموم هذه الأخبار تبطل شهادة القاذف على التأبيد. فإن قيل: عموم هذه الأخبار يوجب بطلان شهادة كل محدود، في قذفٍ كان أو غيره. قيل له: هو كذلك، ولولا دلالة قامت على قبولها في غير القاذف بعد التوبة، لقلنا بها. * ومن جهة النظر: اتفاق الجميع على أن التوبة لا تأثير لها في إسقاط

الحد لما تعلق به من حقوق الآدميين، وليس كذلك سمة الفسق، لأنه لا يتعلق به حق الآدمي، وهو حق الله تعالى خالصًا. * وأما ما رواه سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكرة: "إن تبت، قبلت شهادتك". فإن هذا لا يصح، من جهة أن سعيد بن المسيب لا يصح له سماع من عمر، ولأن سفيان بن عيينة شك فيه حتى استعمله عن عمر بن قيس، وعمر بن قيس هذا مطعون عليه في حديثه، وقد روى قتادة عن الحسن وسعيد بن المسيب أنهما قال: "لا تقبل شهادته بعد التوبة". * وأما الفصل بين حد القذف وسائر الحدود، فهو أن حد القذف به يتعلق بطلان الشهادة، لأنا نجيز شهادته قبل أن يحد، فلما لم يجز ارتفاع الحد الذي به يتعلق بطلان الشهادة، وجب أن لا يرتفع موجبه من بطلانها. وأما حد السرقة والزنى وشرب الخمر، فلم يتعلق شيء منه ببطلان الشهادة، وإنما تعلق بطلان الشهادة فيها بالفعل الذي استحق به الحد قبل إقامته، فأشبه سائر الأفعال الموجبة لإسقاط الشهادة مما لا يتعلق به إيجاب حد، فوجب أن يسقط حكمها بالتوبة، إذ كان ما يتعلق من ذلك بحصول سمة الفسق يرتفع بارتفاع سمة الفسق. فإن قال قائل: جميع ما استدللت به من الآية، ينتقض عليك بقولك:

إن النصراني إذا حد في قذف، ثم أسلم، قبلت شهادته. قيل له: ليس كذلك، لأن الكافر لم يدخل قط في حكم الآية عندنا من جهة اللفظ؛ لأن الله تعالى إنما حكم بهذا الحكم فيمن لزمتهم سمة الفسق بوقوع حد القذف بقوله تعالى:} ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون {، والكافر قد كان مستحقًا لاسم الفسق قبل القذف، وقبل الحد، فلم تتناوله الآية، وإنما حددنا الكافر بغير الآية. مسألة: [قبول شهادة النصراني بعد الإسلام] قال أبو جعفر: (ومن حد في قذف وهو نصراني: لم تجز شهادته في حال كفره، وإن أسلم بعد ذلك: جازت شهادته على أهل الذمة وأهل الإسلام). قال أبو بكر: وذلك لأن وقوع الحد به أسقط عدالته التي يتعلق بها قبول الشهادة، فلم تجز شهادته في حال كفره، فإن أسلم: جازت شهادته، وذلك لأن الشهادة تفتقر في صحة قبولها إلى معنيين: عدالة الدين، وعدالة الفعل؛ لأن من كان معتقدًا للإسلام يحتاج مع إسلامه إلى عدالة الأفعال؛ لأن الفاسق غير مقبول الشهادة وإن كان من أهل الإسلام. وإذا كان كذلك، فالمسلم إذا حد في قذف: أبطل وقوع الحد به عدالته من جهة الدين والفعل جميعًا، فإذا تاب، فإن توبته إنما أحدثت له

عدالة من طريق الفعل دون الدين؛ لأن دينه هو الذي كان يعتقده، وقد أبطلت عدالته فيه. وأما النصراني إذا حد، فإنما بطلت عدالته من جهة دينه الذي يعتقده، ومن جهة الفعل أيضًا، فإذا أسلم وتاب، حصلت له عدالة الدين والفعل جميعًا، وهذه عدالة مستحدثة من هذين الوجهين، لم يبطلها الحد، إذ لم تكن موجودة في حال وقوع الحد به. مسألة: [فيمن قذف وهو نصراني ثم أسلم وقد ضرب بعض الحد] قال أبو جعفر: (وإن قذف وهو نصراني، فضرب بعض الحد، ثم أسلم، فضرب بقيته وهو مسلم: جازت شهادته). قال أبو بكر: وذلك لأنه إنما ضرب بعض الحد وهو مسلم، وبعض الحد لا يُبطل عدالة الإسلام، فمن أجل ذلك جازت شهادته. مسألة: [قذف الكافر بعد إسلامه] قال: (ومن زنى من النصارى، ثم أسلم: فلا حد على قاذفه). وذلك لأن من شرط حد القذف: إحصان المقذوف بالعفة، والزاني قد زالت عفته، فلا حد على قاذفه. وأيضًا: فإنه صادق في قوله: "يا زاني"؛ لأن لزوم هذه السمة غير مقصور على حال الفعل، بل قد يجوز تسميته بها بعد انقضاء الفعل، قال الله تعالى:} الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما {، ومعلوم أنه لم يرد جلدهما في

حال الفعل؛ لأن ذلك ممتنع، فإذا كان صادقًا في قذفه، لم يجب عليه الحد؛ لأن وقوع الحد به حكم كذبه، قال الله تعالى:} فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون {، وغير جائز إيجاب الحكم بكذبه، مع صحة العلم بكونه صادقًا. مسألة: [قذف الجماعة أو الرجل مرارًا] قال: (ومن قذف رجلاً مرارًا، أو قذف جماعة: فليس عليه إلا حد واحد). وذلك لقوله تعالى:} والذين يرمون المحصنات {، وذلك يتناول قذف الجماعة والواحد، ثم قال:} فاجلدوهم ثمانين جلدة {، فاقتضى عمومها الاقتصار على حد واحد. لما روى محمد بن كثير قال: حدثنا مخلد بن الحسين عن هشام عن ابن سيرين عن أنس بن مالك "أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ائت بأربعة شهداء، وإلا فحد في ظهرك، قال: والله يا رسول الله إن الله ليعلم أني لصادق، قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أربعة وإلا فحد في

ظهرك"، يقول عليه الصلاة والسلام ذلك مراراً، فنزلت آية اللعان. فثبت بذلك أن قذف الجماعة لا يوجب إلا حدًا واحدًا؛ لأنه قذف شخصين، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عليه حدًا واحدًا، وقد كان قذف الزوجات حينئذٍ يوجب الحد، ثم نسخ باللعان. وأيضًا: أجمعوا أن من قذف امرأته مرارًا: أنه لا يجب عليه إلا لعان واحد، واللعان حد الأزواج في قذف الزوجات، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في امرأة هلال بن أمية حين جاءت بالولد على الصفة المكروهة: "لولا ما مضى من الحد، لكان لي ولها شأن". فوجب أن يكون كذلك حكم الجلد إذا قذف الأجنبي مرارًا. وأيضًا: حد القذف عندنا حق الله عز وجل، لما بيناه فيما سلف، كحد الزنى والشرب ونحوه، فلا يجب إلا حد واحد. مسألة: [حكم القذف أثناء الحد] قال أبو جعفر: (ومن قذف رجلاً، فضرب بعض الحد، ثم قذف آخر: فلا شيء عليه إلا ما بقي من الحد الأول). وذلك لأن اجتماع هذه الحدود لما كان شبهة في سقوطها، ووجوب

الاقتصار على واحد منها، كان بقاء بعض الحد مثل بقاء جميعه؛ لأن ما كان شبهة كان وجود بعضه كوجود جميعه في كونه شبهة، ألا ترى أن الأب لما كان له شبهة ملك في جارية ابنه، لم يختلف الحكم في ملكه لبعضها أو لجميعها في باب سقوط الحد عن الأب بوطئها. وكذلك وقوع كمال الحد بعد قذف الثاني، وجب أن يكون كوقوع جميعه في استيفاء حده. وليس هذا مثل النصراني إذا حد بعض الحد، ثم أسلم فحد بقيته في حال الإسلام، فلم يمنع ذلك جواز شهادته، من قبل أن شرط بطلان الشهادة استيفاء الحد بكماله في حال الإسلام، وليس وجود بعضه موجبًا لإسقاطها. مسألة: [عتق العبد القاذف قبل أن يحد] (وإذا قذف العبد رجلاً، فلم يحد حتى أعتق: فإن عليه حد العبد). وذلك لأن وجوب الحد يتعلق بالقذف، وقد استقر عليه أربعون جلدة، والعتق ليس بموجب، فلا يغير حكم ما وجب. مسألة: [قذف الحربي المستأمن المسلم] قال أبو جعفر: (وعلى الحربي المستأمن الحد إذا قذف مسلمًا، وإن زنى: لم يحد في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: يحد).

أما حد القذف فإن المطالبة به حق لآدمي، لما تناول من عرضه، فهو كسائر الحقوق الواجبة للآدميين، فيؤخذ به، لأنا لم نعطه الأمان على أن يتناول عرضنا، كما لم نعطه الأمان على تناول مالنا. فإن قيل: المطالبة بحد السرقة حق لآدمي، ومع هذا لا يُقطع الحربي إذا سرق. قيل له: ليس كما ظننت، لأن المسروق منه لا حق له في المطالبة بالقطع، وإنما حقه المطالبة بالمال، ألا ترى أنه لو رد المال قبل الخصومة، سقطت مطالبته، وأنه لو ثبتت السرقة عند الحاكم، ورد المال عليه، فغاب وترك المطالبة بالقطع: قطع. وأما حد القذف فإن حق الآدمي فيه المطالبة بإقامته لا بشيء غيره، ألا ترى أنه لا يحد إلا بحضوره ومطالبته، وأنه لو غاب: لم يحد. وأما حد الزنى، فهو حق الله تعالى، لا حق لآدمي فيه، وهو لم نعطه الأمان على أن نجري عليه أحكامنا، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يصير ذميًا داخلاً في أحكامنا، وذلك خلاف ما يقتضيه الأمان. * وأما أبو يوسف، فإنه يقيم عليه حد الزنى، لقول الله تعالى:} وأن أحكم بينهم بما أنزل الله {قال: فلو أمكنني أن أتبعهم في ديارهم بأحكامنا فعلت. مسألة: [الإقرار بالزنى بغائبة] قال أبو جعفر: (ومن أقر أنه زنى بامرأة غائبة: فإنه يحد).

كما حد النبي صلى الله عليه وسلم ماعزًا والجهنية وغيرهما. * قال: (فإن حضرت وأقرت بمثل ذلك: أقيم عليها الحد أيضًا بإقرارها). * قال: (فإن حضرت قبل أن يحد الرجل، فكذبته وطالبت بحدها: حد لها في القذف، ولم يحد في الزنى). وذلك لأنه حين حددناه في القذف، فقد حكمنا بكذبه في إقراره بوطئه إياها. * قال: (ولو للزنى، ثم حضرت، فكذبته، وطالبت بحدها: لم يحد لها؛ لحصول اليقين أنه لا يجوز اجتماع الحدين عليه للفعل المقر به). لأنه لا يخلو من أن يكون صادقًا أو كاذبًا، فإن كان صادقًا: فعليه حد الزنى دون حد القذف، وإن كان كاذبًا: فعليه حد القذف، وإذا حكم عليه بأحدهما: انتفى الآخر. وأيضًا: فإن حكمنا عليه بحد الزنى: حكم بصدقه في إقراره به، وإذا صار محكومًا بصدقه: لم يحد للمرأة. مسألة: [رجوع أحد الشهود الأربع في قضية الزنى] قال أبو جعفر: (ومن شهد عليه أربعة بالزنى، فلم يقض بشهادتهم حتى رجع أحدهم: حدوا جميعًا للقذف). قال أبو بكر: وذلك لأنهم صاروا قذفه قبل أن تتم شهادتهم، لأن

الشهادة يتعلق حكمها بالقضاء، وإمضاء الحكم بها. [مسألة:] قال: (وإن قضى القاضي بشهادتهم، ثم رجم، ثم رجع أحدهم: فإن عليه ربع دية المشهود عليه، وعليه الحد في قذفه إياه). وذلك لأن الشهادة قد تمت بإمضاء الرجم، وسقطت المراعاة فيها، فإذا رجع أحدهم: صدق على نفسه خاصة في إيجاب الضمان والحد، ولم يصدق على فسخ شهادة الآخرين، وقد تلفت النفس بشهادة الأربعة، وقد رجع واحد، فعليه ضمان ما أتلفه بشهادته، وهو ربع النفس، وعليه الحد؛ لأن ذلك القول صار قذفًا منه الآن فلزمه الجد، كمن قذف رجلاً بعد الموت. وليس هذا بمنزلة من قذف رجلاً في حياته، ثم يموت المقذوف: فيسقط الحد عن القاذف، من قبل أن هذه كانت شهادة صحيحة إلى وقت الرجوع، وإنما صارت قذفًا عند الرجوع، فصار كقاذف الميت. وذهب زفر على أن هذا قاذف قبل الموت، فلا حد عليه. [مسألة:] قال أبو جعفر: (وإن رجع أحدهم بعد قضاء القاضي بشهادتهم، وقبل إقامة الحد على المشهود عليه، فإن أبا حنيفة قال: يحدون جميعًا، وقال أبو يوسف ومحمد: يحد الراجع، ولا يحد الباقون). قال أبو بكر: أبو يوسف مع أبي حنيفة في هذه المسألة، والذي ذكره

هو قول محمد وحده. وجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف: أن هذه الشهادة حكمها مراعي، ما لم يستوف الحد بها، ألا ترى أن الشهود هم الذين يبدؤون بالرجم امتحانًا لهم، وليعلم أنهم ثابتون على الشهادة أم لا. ويدل عليه: اتفاق الجميع على سقوط الحد عن المشهود عليه برجوع الراجع منهم، فوجب أن يكون حالها بعد قضاء الحكم بها قبل استيفاء الحد، كهي قبله. وليست هذه كرجوع الشاهد بعد إمضاء الحكم بشهادته في إثبات الأموال وسائر الحقوق، في أنه لا تأثير لرجوعه إلا في إيجاب الضمان عليه؛ لأن رجوعهم قبل استيفاء المال لا يؤثر في الحكم الذي أمضاه الحاكم، ورجوعهم في الحد قبل استيفائه يبطله. وأيضًا: فلما كانت الشبهة العارضة في الحد قبل استيفائه، بمنزلة الشبهة الموجودة في حال الفعل في باب سقوط الحد، وجب أن يكون الرجوع عن الشهادة قبل استيفاء الحد، بمنزلة الرجوع عنها قبل الحكم. *وذهب محمد إلى أنه لما لم يبطل المال برجوع الشاهد بعد الحكم، وبطل قبل الحكم، وجب مثله في الحد، فلا ينفسخ الحكم الواقع من الحاكم، والحد والمال وإن كانا مفترقين من جهة سقوط الحد بالرجوع بعد إمضاء الحكم، وامتناع سقوط المال، فإن اختلافهما إنما كان من جهة أن من شأن الحدود إسقاطها بالشبهة، فغير جائز إيجاب الحد على الشهود الباقين بالشبهة التي بها أسقطنا الحد عن المشهود عليه.

مسألة: [اشتراط حضور الشهود الأربعة في إثبات الزنى] (وإذا شهد أربعة على رجل بالزنى، وجاءوا متفرقين، حدوا جميعًا، إلا أن يقيموا الشهادة وهم حضور في مجلس الحكم). وذلك لقول الله تعالى:} والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء {، فشرط في زوال الحد أن يأتي القاذف بأربعة شهداء، فإذا جاء بثلاثة معه، فالحد واجب. ويدل عليه أيضًا: حديث أنس بن مالك أن هلال بن أمية لما قذف امرأته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ايتيني بأربعة يشهدون، وإلا فحد في ظهرك"، ولو جاز أن يكون شاهدًا، قال: "ايتيني بثلاثة يشهدون". وأيضًا: لما جاء وحده كان قاذفًا، ولزمه الحد إلا أن يقيم البينة على الزنى، فلا يبرأ إلا بأربعة غيره بشهدون؛ لأنه لا يجوز أن يبرأ بشهادة نفسه، وهذا لمخالفنا ألزم، لأنهم يزعمون أنه فاسق بالقذف، فكيف يكون شاهدًا فيه؟ مسألة: [حكم من صدق القاذف] قال: (ومن قذف رجلاًَ بالزنى، فقال له رجل: صدقت: حد الأول، ولم يحد الثاني). وذلك لأن قوله: صدقت: يحتمل تصديقه في القذف وفي غيره، ولا

يكون قاذفًا بالاحتمال. * (ولو قال له: صدقت هو كما قلت: حدًا جميعًا). وذلك لأن قوله: هو كما قلت: تصديق له في نفس القذف بلا احتمال لغيره، فصار كقوله: هو زان؛ لأنا قد عقلنا به ما نعقل بصريح القذف. وليس هذا إيجاب حد بكناية؛ لأن هذه الكناية بمنزلة الصريح، إذ كان المعقول منها ما يعقل من الصريح. مسألة: قال: (ومن كان له عبد، وللعبد أم حرة مسلمة قد ماتت، فقذفها مولاه: فليس للعبد أن يأخذ مولاه بحدها). لأن العبد لا يملك ذلك على المولى، كما لا يملك عليه سائر الحقوق، ألا ترى أنه لو قتله: لم يقتل به. مسألة: [قذف الأب أم ابنه] قال: (وكذلك الابن لا يأخذ أباه بحد أمه). لأن الابن لا يملك ذلك على أبيه، والدليل عليه: أنه لو قذفه لم يحد مع كونه محصنا، ولو قتله: لم يُقتل به، فما دونه أحرى أن لا يملكه منه. مسالة: [قذف أم النصراني المسلمين] قال: (وإذا قذف أم النصراني، أو العبد، وهي حرة مسلمة قد ماتت:

فلهما أن يأخذا بحدها). وذلك لأن هذا قذف صحيح، قد حصل به القدح في نسبهما، وكان لهما أن يأخذاه بالحد كالحر المسلم. ولا يشبه هذا قذفه لهما، فلا يجب الحد، من قبل أن هذا ليس بقذف صحيح، لأنه لم يقذف محصنًا. مسألة: [قذف امرأة غريبة معها أولاد لا يُعرف لهم أب] قال أبو جعفر: (وإذا قدمت المرأة من بعض البلدان، ومعها أولاد لا يُعرف لهم أب، فقذفها رجل: فلا حد عليه). وذلك لأنه لما لم يعرف لأولادها أب، أشبهت الزانية، والزانية لا نسب لأولادها من جهة الأب، فلما أشبهت الزانية من هذا الوجه، سقط الحد عن قاذفها، لأن الحد يسقط بالشبهات. مسألة: [شهادة الأعمى والمحدود في القذف] قال: (ومن شهد عليه أربعة بالزنى، وهم عميان، أو محدودون في قذف: حدوا جميعًا). وذلك لأن بطلان شهادتهم من جهة اليقين، أما الأعمى فإنه لا يشاهد المشهود عليه، فصار بمنزلة من قال: رأيته زنى، ثم قال: لم أره زنى، فيكون مكذبًا لنفسه.

وأما المحدود في القذف، فقد حكم ببطلان شهادته بالحد الواقع به، فلما بطلت شهادته من طريق الحكم، خرج من أن يكون من أهل الشهادة. مسألة: [شهادة غير العدول في الزنى] قال: (ولو شهد عليه أربعة فساق أحرار مسلمون، لم يحد واحد منهم). وذلك لأنهم من أهل الشهادة؛ لأنه لا يقع الحكم ببطلان شهادتهم، لأن الفسق المانع من قبولها لا يصح إثباته عند الحاكم، ولا الخصومة في إثباته، فلم يخرج من أن يكون من أهل الشهادة. ووجه آخر: وهو أن الفسق إنما يمنع قبول الشهادة من جهة ما ظهر منه، وجائز أن يكون تائبًا في حال إقامة الشهادة، فلم يحصل معنى يقين ببقائه على الفسق، ولا وقع الحكم ببطلان شهادته، فلذلك لم يحدوا. مسألة: [من قال لشخص: لست بابن فلان] قال أبو جعفر: (ومن قال لرجلٍ في غضب: لست بابن فلانٍ الذي يدعى له: ضرب الحد). وذلك لأن كلامه خرج مخرج السب والشتم، ولا وجه له فيما يقتضيه الحال غير نفي نسبه عن أبيه.

وقد روى ابن وهب عن عبد الله بن يزيد عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لا حد إلا في اثنتين: قذف محصنة، أو بنفي رجل عن أبيه". قال أبو بكر: وهذا إذا كانت أمه محصنة؛ لأنه قاذف لها، فإن كانت حية، فهي التي تأخذ بالحد، وإن كانت ميتة، فلابن أن يأخذ بحدها. وإن كانت الأم غير محصنة، فلا حد على قائل ذلك. * قال: (وإن قال في غير غضب: فلا حد عليه). وذلك لأن اللفظ في هذه الحال يحتمل وجهين في العادة: أحدهما: أنه لا يشبه أباه في أخلاقه وأفعاله، ويحتمل أيضًا: نفي نسبه من أبيه، وإذا احتمال اللفظ غير القذف: لم يحد؛ لأنه لا يجوز إقامة الحد بالشبهة، وهو من شأنه أن يسقط بالشبهة. مسألة: [نسبة الولد إلى الجد أو العم أو الخال] قال: (ولو قال: لست بابن فلانٍ لجده: لم يحد). لأنه صادق، ليس هو ابنه على الحقيقة. * (ولو قال: أنت ابن فلان لعمه أو خاله أو زوج أمه: لم يحد).

وذلك لأن الله تعالى قد سمى العم أبا بقوله:} نعبد إلهك وإله أبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق {. وأما الخال، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخالة والدة"، فإذا كانت الخالة والدة، فالخال والد. وروي في تأويل قوله عز وجل:} ورفع أبويه على العرش {قال: كانت خالته وأبوه. وأما زوج الأم، فقد روي في تفسير قوله تعالى:} بابني اركب معنا {: أنه كان ابن امرأته، فمتى نسبه إلى من يجوز إطلاق الاسم الذي نسبه إليه بحال: لم يحد. مسألة: [من قال لرجل: يا زاني، فرد عليه نفس القول] قال أبو جعفر: (ومن قال لرجل: يا زاني، فقال: لا، بل أنت: يحد

كل واحد منهما لصاحبه). لأن قوله: "لا": نفي لما قذفه به، وقوله: "بل" كلمة استدراك وإثبات لما نفاه عن نفسه له، وهذا المعنى معقول من لفظه وإن كان كناية، كما يعقل من الصريح. مسألة: [من قال لامرأته: يا زانية، فردت عليه بمثل قوله] قال: (ومن قال لامرأته: يا زانية، فقالت: لا، بل أنت: فإنها تحد، ولا تلاعن). وذلك لأنا متى أمكننا أن نتوصل إلى إسقاط الحد، وجب علينا أن نفعل، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ادرؤوا الحدود ما استطعتم"، ولو بدأنا باللعان: كان حدها باقيًا، فإذا بدأنا بحدها سقط اللعان، لأن المحدود في القذف لا يلاعن، فوجب أن نبدأ بحدها. مسألة: قال: (ومن قال لامرأته: يا زانية، فقالت: زنيت بك: فلا حد، ولا لعان). وذلك لأن تحت هذه الكلمة معنيان: أحدهما: الاعتراف منها بالزنى، وذلك يُسقط اللعان، والآخر: قذفها إياه، بأنه زنى بها، والمرأة لا تكون زانية بزوجها، فلم يكن عليها حد من أجل ذلك.

فإن قيل: فإذا لم تكن المرأة زانية بزوجها، فلا ينبغي أن يكون ذلك اعترافًا منها بالزنى، فالواجب أن يكون بينهما اللعان. قيل له: قد يصح في حال أن تكون زانية به قبل النكاح، واحتمال اللفظ لذلك يسقط اللعان، والحال يقتضي أن لا تكون زانية به، ولم يضف القذف إلى حال قبل النكاح، فيثبت القذف، فلذلك كان الأمر فيه على ما وصفنا. مسألة: [إقرار الرجل أو المرأة بالزنى، ونفي الآخر] قال: (وإذا أقر أربع مرات أنه زنى بامرأة، وقالت: تزوجتني، أو أقرت هي أربع مرات، وقال هو: تزوجتها: سقط الحد، وعليه المهر). وذلك لأن دعوى النكاح يوجب الخصومة في إثباته، وإذا حصلت فيه الخصومة، صار ذلك شبهة في سقوط الحد؛ لأن الحد لا يثبت بالخصومات. وأيضًا: على أصل أبي يوسف ومحمد: أن المدعى عليه منهما، يُستحلف على دعوى الآخر، فإذا وقفنا الحد على حصول اليمين، أوجب ذلك إسقاطه، من قبل أنه يوجب أخذ الحد بالنكول أو اليمين، وإذا سقط الحد وجب المهر، لأن الوطء في غير ملك لا يخلو من إيجاب حد أو مهر. مسألة: قال: (وإذا تزوج المجوسي ذات محرمه ووطئها، ثم أسلم، فقذفه.

رجل: فعليه الحد في قول أبي حنيفة). لأنه قد كان مقرًا على ذلك النكاح، فكان حكمه حكم النكاح الصحيح، فوجب على قاذفه الحد بعد الإسلام. * (وقال أبو يوسف ومحمد: لا يحد قاذفه). لأنا قد علمنا أنه وطئ وطئًا حرامًا في غير ملك، فأقل أحواله أن يكون بمنزلة من وطئ على نكاح فاسد. مسألة: [من قال لمسلم: يا فاسق أو يا خبيث] قال: (ومن قال لمسلم: يا فاسق، أو يا سارق، أو يا خبيث: عزر). وذلك لأنه قد نال من عرضه، وذلك محظور عليه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دماؤكم وأموالكم وأعرضكم عليكم حرام"، فيجب أن يُزجر عن ذلك بالتعزير، كما يزجر عن القذف بالحد، ولا يبلغ به الحد، لأنه دون القذف، كما لا يبلغ بالجماع فيما دون الفرج الحد، وقد بينا قبل ذلك أن التعريض بالقذف لا حد فيه. * وقال مالك في قوله: "يا خبيث": يُحلف بالله ما أراد القذف، ثم يعزر. وهذا القول ظاهر الفساد؛ لأن الله عز وجل قد نهى عن التجسس

بقوله:} ولا تجسسوا {، ونهى عن الظن فقال عز اسمه:} إن بعض الظن إثم {، فكيف يجوز أن يسأل عن ظن لا يجوز لنا أن نعتقده فيه؟! * وقال مالك: عليه الحد في قوله: "يا مخنث"، وقال في قوله: "يا فاسق" عليه التعزير. قال أبو بكر: ولا فرق بين ذلك في قوله: "يا فاسق"، أو " يا مخنث"، من قبل أن قوله: "يا مخنث": إن كان إثما أوجب فيه الحد، لاحتماله القذف، فالفاسق مثله. وقد روى ابن أبي فديك قال: حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبية الأشهلي عن داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل للرجل: يا مخنث: فاجلدوه عشرين، وإذا قال له: يا يهودي: فاجلدوه عشرين". مسألة: [القذف بأي لسان كان يوجب الحد] قال أبو جعفر: (ومن قال لرجل: زنأت في الجبل، ثم قال: عنيت

الصعود، فإنه يحد في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يحد). لأبي حنيفة: أنه لا فرق في معقول خطاب الناس، وما جرت به عادتهم بين قوله: زنأت، وبين قوله: زنيت، فصار اللفظان جميعًا عبارة عن الزنى نفسه، وإن كانا مفترقين في حقيقة اللغة، فواجب أن لا يختلفا في الحكم، إذ كانت العبارتان تنبئان عن معنى واحد، كما لو قذفه بالفارسية حد؛ لأن اللفظ ينبئ عن معنى الزنى بالعربية. وحمل محمد اللفظ على حقيقته، فلم يجعله قذفًا من أجل ذلك، ولأن أقل أحواله أن يكون محتملاً للزنى ولغيره، فلا يحد ..... ولأبي حنيفة: أن هذا اللفظ في العرف لا يحتمل معنى غير القذف، فحمله على المعقول منه في العرف. مسألة: [حكم من قال لرجل: يا زانية] قال أبو جعفر: (ومن قال لرجل: يا زانية: لم يحد). قال أبو بكر: وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو استحسان من قولهم، ذكره أبو يوسف. وقال محمد يحد. لأبي حنيفة: أن هذه الهاء تدخل في وصف المذكر على جهة المبالغة في الوصف له بالعلم، يقال: فلان علامة، ونسابة، ومنه: قول الله تعالى:

} بل الإنسان على نفسه بصيره {، فصار كقوله: أنت أزنى الناس، وأنت أعلم الناس بالزنى، وليس ذلك بقذف؛ لأن العلم بالزنى لا يقتضي وقوع الفعل. مسألة: [من قال لامرأته: يا زاني] (وأما إذا قال لامرأته: يا زاني، فإنه يحد). في قولهم جميعًا، من قبل أن صفة المؤنث قد تسقط عنها الهاء في حال، ولا يتغير حكم الكلام، كقولك: امرأةٌ حائض، وطاهر، وطالق، وخصم، ورسول، ونحوها من الأسماء التي قد أسقطت منها الهاء عن صفات المؤنث. ولأن الهاء زائدة، ليست من أصل الكلمة، وإنما دخلت للفرق بين المؤنث والمذكر لا غير، كما كسروا تاء المخاطبة والكاف في المؤنث. فلو أن رجلاً قال لامرأته: زنيت، فنصب التاء: كان عليه الحد وإن كان من حُكمها في اللغة كسرها في خطاب المؤنث. مسألة: [لا حد على من قال لعربي: يا نبطي] قال أبو جعفر: (ومن قال لعربي: يا نبطي، فلا حد عليه). وذلك لأن هذه النسبة قد تقع إلى البلد، كما يقال: مكي، ومدني، فلا يكون قذفًا إذا احتمال ما وصفنا.

وقد روي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما. مسألة: [لا حد على من نسبه لغير صنعته] قال: (ومن قال لرجل: يا ابن الخياط، وأبوه ليس كذلك: لم يكن هذا قذفًا). وذلك لأن من قال لرجل ليس بخياط: أنت خياط: لم يلزمه شيء، وكما لو قال له: يا ابن الأعور، ويا ابن الأعمى، وأبوه ليس كذلك: لم يكن قذفًا؛ لأنه إنما وصف أباه بصفة ليس هو عليها. مسألة: [لا حد على من قال لعربي: لست بعربي وهو منهم] (ومن قال لرجل: لست من العرب، وهو منهم: لم يحد). لأنه يجوز أن يريد به قذف الأم العليا، ولا حد على قاذفها؛ لأنا لا نعلم إحصانها. ****************************

كتاب السرقة وقطع الطريق

كتاب السرقة وقطع الطريق مسألة: [نصاب السرقة] قال أبو جعفر: (ولا تقطع يد السارق في السرقة حتى يكون عشرة دراهم فصاعدًا، أو ما يساويها، بعد أن يخرجها من حرزها). قال أبو بكر: الكلام في هذا الفصل من وجهين: أحدهما: في مقدار ما يقطع به السارق، والآخر: في اعتبار الحرز. فأما اعتبار المقدار، فلا خلاف فيه بين الأمة، وإنما اختلفوا في تقديره ومبلغه، فاعتبر أصحابنا فيه عشرة دراهم، وإيجاب القطع في العشرة اتفاق من فقهاء الأمصار، وإنما الخلاف فيما دونها. والأصل فيه: أن ما كان من هذا النوع من المقادير، لا سبيل إلى إثباته إلا من أحد وجهين: التوقيف أو الاتفاق، فلما لم يثبت التوقيف فيما دون

العشرة، لما سنذكره فيما بعد، وثبت الاتفاق في العشرة: أثبتناها، ولم نثبت ما دونها لعد التوقيف أو الاتفاق فيه. قال أبو بكر: ولا يصح الاحتجاج بعموم قوله تعالى:} والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما {؛ لوجوهٍ أنا ذاكرها: أحدها: أنها في معنى المجمل الذي لا يصح الاحتجاج بعمومه، وحكمه موقوف على بيانٍ من غيره، بدلالة السنة واتفاق السلف. * فأما دلالة السنة على ما ذكرنا: فهو ما حدثنا ابن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك قال: حدثنا وهيب عن أبي واقد قال: حدثني عامر بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُقطع يد السارق إلا في ثمن المجن". وروي ابن لهيعة عن أبي النضر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقطع السارق إلا فيما بلغ ثمن المجن فما فوقه". وروى سفيان عن منصور عن مجاهد عن عطاء عن أيمن الحبشي قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن". وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقطع السارق فيما دون ثمن المجن". فثبت بهذه الأخبار أن حكم الآية في إيجاب القطاع موقوف على ثمن المجن، فصار ذلك كوروده مع الآية، مضمومًا إليها، كأنه قال تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما إذا بلغت سرقته فيها ثمن المجن. وهذا اللفظ مفتقر إلى البيان، غير مكتف بنفسه في إيجاب الحكم، وما كان هذا سبيله، لم يصح الاحتجاج بعمومه. * وأما ما يدل على ذلك من جهة اتفاق السلف رضي الله عنهم: فهو ما روي عن السلف في تقويم المجن: فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعبد الله بن عمر، وأيمن الحبشي، وأبي جعفر، وعطاء وإبراهيم في آخرين، أن قيمته كانت عشرة دراهم. وقال ابن عمر رضي الله عنه: قيمته ثلاثة دراهم. وقال أنس وعروة والزهري وسليمان بن يسار: قيمته خمسة دراهم. وقالت عائشة رضي الله عنها: ربع دينار.

ومعلوم أن ذلك لم يكن تقويمًا منهم لسائر المجان؛ لأنهما تختلف كاختلاف الثياب وسائر العروض، فيكون فيها الجيد والوسط والدون، ولا محالة أن ذلك كان تقويمًا منهم للمجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أيضًا: أنهم لم يحتاجوا إلى تقويمه من حيث قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس في قطع النبي صلى الله عليه وسلم في شيء بعينه دلالة على أن القطع غير واجب فيما دونه، كما أن قطعه عليه الصلاة والسلام السارق في ثمن المجن غير دال على أن غير المجن لا قطع فيه. فإذًا لا مجالة قد كان من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف لهم حين قطع السارق، أن القطع لا يجب فيما دونه، فدل ذلك على إجمال حكم الآية، كدلالة الأخبار التي قدمناها عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظًا في نفي القطع عما دون قيمة المجن، فسقط الاحتجاج بعمومها في إثبات المقدار، ووجب معرفة قيمة المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه سلم من غيرها. فهذه الجملة التي ذكرنا تدلنا على أن حكم الآية الكريمة مجمل، ويدلنا أيضًا على أن القطع غير واجب فيما دون العشرة، من قبل أن المقومين إذا اختلفوا في قيمة شيء، فتقويم الزائد أولى، كما أن رجلاً لو استهلك لرجل ثوبًا، فقومه عدلان بتسعة، وآخران بعشرة: أن الذي ثبت

من ذلك هو العشرة، لوجود الزيادة فيها، فوجب مثله في تقويم ثمن المجن. ومن أصحابنا من يأبي اعتبار عموم اللفظ في مثل ذلك، من جهة تعلق الحكم فيه بمعنى لا ينتظمه الاسم، ولا يصح أن يكون عبارة عنه، وهو الحرز والمقدار، والاقتصار به على نوع من المسروقات دون نوع. قال: وما كان هذا سبيله من العموم، فهو في معنى المجمل، يحتاج فيه إلى دلالة من غيره في إيجاب الحكم. ومن شيوخنا من قال في العموم إذا ثبت خصوصه بالاتفاق، سقطت دلالة الاسم في إيجاب الحكم به؛ لأنه حينئذٍ يكون في معنى من قال: اقطعوا بعض ما يتناوله هذا الاسم، ولو كان اللفظ ورادًا هذا المورد، امتنع إيجاب الحكم به إلا بدلالة من غيره. كذلك إذا حصل الاتفاق في خصوصه، وهو مذهب محمد بن شجاع، وقد أشار إليه عيسى بن أبان أيضًا، وإليه كان يذهب شيخنا

أبو الحسن رحمه الله تعالى. والذي عندي فيه: أن مذهب أصحابنا في هذا الفصل الأخير بخلاف ما ذهبوا إليه، لما دلت عليه أقاويلهم واحتجاجهم بكثير من لعموم المنتظم لهذا الوصف. فأما الفصل الذي قبله، من تعلق الحكم فيه بغير الاسم من المقدار والحرز ونحوهما، فليس يمتنع فيه عندي ما قالوا، من قبل أن الاسم الذي علق به القطع يكون حينئذٍ اسمًا شرعيًا، إذ ليس معقولاً في اسم اللغة اعتبار المقدار والحرز، وإنما ذلك شيء عقل من طريق الشرع. فأما موضوع الاسم في اللغة، فهو لمن أخذ الشيء على جهة الاستخفاء، ومنه: قيل سارق اللسان، وسارق الصلاة. روى ليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله عن أبي درهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسرق السارق الذي يسرق لسان الأمير". وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته. قالوا: يا رسول الله، كيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها".

فكان الاسم في اللغة موضوعًا لما وصفنا، ثم اشتق منه سارق اللسان، وسارق الصلاة، ثم زيد في الشرع معانٍ لا ينتظمها الاسم في اللغة، وما كان هذا سبيله من الأسماء، فهو بمنزلة أسماء المجاز، فلا يُستعمل إلا في موضع يقوم الدليل عليه. * ومما يحتج به لقولنا من طريق السنة: ما حدثنا ابن قانع قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا أبي قال: حدثنا نصر بن باب عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع فيما دون عشرة دراهم". وقد سمعنا أيضًا في سنن ابن قانع: حدثنا روي عن زحر بن ربيعة عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم". قال عمرو بن شعيب: قلت لسعيد بن المسيب: إن عروة والزهري وسليمان بن يسار يقولون: "لا تقطع اليد إلا في خمسة دراهم" فقال: أما هذا، فقد مضت فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم. وقال ابن عباس، وأيمن الحبشي وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم: كان ثمن المجن عشرة دراهم. وروي نحو قولنا عن عمر، وعثمان، وابن مسعود، وابن عباس،

وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم. فإن احتجوا بما روي عن ابن عمر وأنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم". وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا". قيل له: أما حديث ابن عمر، وحديث أنس رضي الله عنهما، فليس فيهما موضع حجاج، من قبل أنهما قوماه بثلاثة دراهم، وقد قومه غيرهما بعشرة، فكان تقديم الزائد أولى، لما بيناه فيما سلف. * وأما حديث عائشة رضي الله عنها، فإنه قد قيل: إن الصحيح منه أنه موقوف عليها، غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الإثبات من الرواة رووه عنها موقوفًا. وروى يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقطع اليد إلا في ثمن المجن ثلث دينار، أو نصف دينار فصاعدًا".

وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها "أن يد السارق لم تكن تُقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن المجن، وكان المجن يومئذٍ له ثمن، ولم يكن يقطع في الشيء التافه". فهذا يدل على أن الذي كان عند عائشة رضي الله عنها من ذلك القطع في ثمن المجن، وأنه لم يكن عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم غير ذلك، إذ لو كان عندها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء معلوم المقدار من الذهب أو الفضة، لم يكن بها حاجة إلى ذكر ثمن المجن، إذ كان ذلك مدركًا من جهة الاجتهاد، والاجتهاد ساقط مع النص. وهذا يدل أيضًا على أن ما روى عنها مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن ثبت، فإنما هو تقدير لثمن المجن باجتهادها. وقد روى حماد بن زيد عن أيوب عن عبد الرحمن بن القاسم عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدًا". قال أيوب: وحدث به يحيي عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها، ورفعه، فقال له عبد الرحمن بن القاسم: إنها كانت لا ترفعه، فترك يحيي رفعه.

فهذا يدل على أن من رواه مرفوعًا فإنما سمعه من يحيي قبل تركه الرفع. ثم لو ثبت هذا الحديث، لعارضه ما قدمناه من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم في نفي القطع عن سارقٍ ما دون العشرة، وكان يكون حينئذٍ خبرنا أولى، لما فيه من حظر القطع فيما دونها، وخبرهم يبيح القطع، فكان خبر الحظر أولى من خبر الإباحة. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله السارق يسرق الحبل فيقطع فيه، ويسرق البيضة فيقطع فيها". فربما ظن بعض من لا دراية له أنه يدل على أن ما دون العشرة يقطع فيه، لذكره عليه الصلاة والسلام البيضة والحبل، وهما في العادة أقل قيمة من عشرة، وليس ذلك على ما ظنه؛ لأن المراد بيضة الحديد، وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في بيضة من حديد، قيمتها واحد وعشرون درهمًا". وأما الحبل الذي يكون منه ما يساوي العشرة، والعشرين، وأكثر من ذلك. فصل: [اعتبار الحرز في السرقة] وأما اعتبار الحرز فالأصل فيه: ما روى عن النبي صلى الله عليه

وسلم أنه قال: "لا قطع على خائن". رواه ابن عباس، وجابر رضي الله عنهم. وهو يشتمل على نفي القطع في جميع ما ائتمن فيه الإنسان، منها: أن الرجل إذا ائتمن آخر على دخول بيته، ولم يحرز منه ماله: لم يجب عليه القطع إذا خانه فيه، لعموم لفظ الخبر. ويشتمل على الودائع والعواري، والمضاربات ونحوها إذا جحدها المؤتمن عليها، وخانه فيها، أنه لا قطع عليه. ويبطل به قول من يوجب القطع على المستعير إذا جحده. وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "قطع المرأة التي كانت تستعير المتاع وتجحده": فلا دلالة فيه على وجوب القطع على المستعير إذا خان؛ لأنه ليس فيه أنه عليه الصلاة والسلام قطعها لأجل العارية، وإنما وجه ذكر العارية تعريف المرأة؛ لأن ذلك كان معتادًا منها، حتى عرفت به، فذكر ذلك على وجه التعريف. وقد روي في الأخبار الصحيحة أن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، وهي هذه التي ذكر في الخبر الآخر أنها كانت

تستعير المتاع، فبين في هذه الأخبار علة وجوب قطعها، وهي أنها سرقت. ويدل على اعتبار الحرز أيضًا: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن حرية الجبل، فقال: "فيها غرامة مثلها، وجلدات نكال، فإذا آواه المراح؛ وبلغ ثمن المجن: ففيه القطع". قال: "وليس في الثمر المعلق قطع حتى يؤويه الجرين، فإذا آواه الجرين: ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن". ودلالة هذا الخبر على وجوب اعتبار الحرز أظهر من دلالة الخبر الأول، وإن كان كل واحد منهما مكتفيصا بنفسه في إيجاب ما وصفنا. وقد اتفق فقهاء الأمصار على أن الحرز شرط في القطع، إلا أنا أردنا أن نبين أصله من السنة. مسألة: [حرز الدار حدودها] قال أبو جعفر: (وحرزها الدار التي يسرق منها إذا كانت منزلاً واحدًا، فإن كانت منازل مختلفة: فحتى يخرجها إلى ساحتها). قال أبو بكر: الحرز عندهم: ما بني للسكنى وحفظ الأموال، فالدار الواحدة حرز واحد، ولا يجب القطع حتى يخرجها منها. ويفرق بينها وبين حرزها، كما لو أخذها من الصندوق، ولم يخرجها

من البيت: لم يقطع. وأما إذا كان في الدار منازل مختلفة، فإن كل منزل حرز على حدة، بمنزلة زقاق فيه دور وحجر. مسألة: [لا قطع حتى تكون قيمة المسروق عشرة دراهم مضروبة] قال أبو جعفر: (ولا يقطع حتى تكون قيمة السرقة عشرة دراهم مضروبة). قال أبو بكر: كذا ذكر أبو يوسف ومحمد جميعًا، وقال الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: إذا سرق ما يساوي عشرة دراهم مما يحوز بين الناس: قطع. والصحيح اعتبار عشرة مضروبة؛ لأنها عشرة كاملة، والمكسرة ناقصة عن ذلك في المعنى، فصار كنقصان الوزن. وأيضًا: المتفق على وجوب القطع فيه عشرة مضروبة، وما عداها مختلف فيه، فوقفنا عند الاتفاق، ولم نثبت ما دونها مقدارًا في إيجاب القطع، لعد التوقيف والاتفاق فيه. مسألة: [من شروط القطع خصومة صاحب السرقة] قال أبو جعفر: (ولا يقطع في شيء مما ذكرنا إلا بحضور صاحب السرقة، وخصومته فيها).

والأصل فيه: ما روى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري عن أبيه "أن عمرو بن سمرة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني سرقت جملاً لبني فلان، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا فقدنا جملاً لنا، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فقطعت يده". فهذا يدل على أن القطع لا يجب إلا بحضور من سرق منه، وادعائه السرقة، ولولا ذلك لقطعه النبي صلى الله عليه وسلم بإقراره، ولم ينتظر مجئ المسروق منه، وادعاؤه السرقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ينبغي لولي أمرٍ أن يوتى بحد إلا أقامه". وقال عليه الصلاة والسلام: "تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب". ومن طريق النظر: إن إقرار السارق لا يثبت ذلك في الحال إلا بتصديقه، لأن كل من في يده شيء فالظاهر أنه مالكه، فلا ينتقل ملكه إلى الغير بقوله، ألا ترى أنهم قالوا: من كان في يده عبد، فأقر به لغائب، ثم أقر به لحاضر، فصدقه: أنه يدفع إلى الحاضر، وإن جاء الغائب، فصدقه: أخذه، وإلا: فهو للثاني، فلم يسقطوا حق الثاني في أخذه قبل تصديق الأول.

فلما كان ذلك على ما وصفنا، لم يجز أن يقطع السارق إلا بحضور الغائب وتصديقه؛ لأنه قد صار في هذا الوجه كأنه باقٍ في ملكه، لجواز إقراره به لغيره، فكان أقل أحواله أن تكون شبهة في امتناع إيجاب الحد إلا بحضوره. وليس ذلك مثل إقراره بالزنى بامرأة غائبة، فلا ينتظر بإقامة الحد عليه حضورها، من قبل أنه ليس يتعلق بإقراره بذلك لها ملك ولا يد، وصحة قطع السارق تتعلق بانتهاك حرز الغير، وأخذ ما في يده. وقد روي أن النبي صلى الله ليه وسلم: "رجم ماعزًا، ولم يسأل المرأة المزنى بها". "ورجم الغامدية، ولم يسألها من زنى بها"، ولم ينتظر مجيئه وتصديقه إياها، فصار ذلك أصلا في إقامة حد الزنى قبل حضور المزني بها، وصار خبر ثعلبة الأنصاري الذي قدمناه أصلاً في امتناع إقامة حد السرقة بإقراره دون حضور المقر له. فإن قيل: لو لم يصح الإقرار إلا بتصديق المقر له، لما انتقل إلى وارثه قبل تصديقه، فلما كان المال المقر به موروثًا عن المقر له قبل تصديقه، دل ذلك على صحة الإقرار قبل التصديق. قيل له: لم نقل إن الإقرار لم يصح إلا بتصديق المقر له، بل الإقرار صحيح، وإنما قلنا إن المقر له لا يثبت له الملك إلا بتصديقه. وإنما انتقل إلى الوارث قبل التصديق؛ لأن الوارث قام مقام المقر له،

وقد تضمن إقرار المقر صحة الملك للوارث بعد الموت، كما تضمنه المقر له، فالوارث في ذلك بمنزلة المورث إن صدقه ثبت له الملك، وإن كذبه: لم يثبت. مسألة: [عدم اجتماع القطع والضمان] قال: (ولا ضمان على السارق فيما قطع فيه إذا كان قد استهلكه، أو هلك في يده، فإن كان قائمًا بعينه: أخذه المسروق منه). قال أبو بكر: أما إذا كان قائمًا بعينه: فلا خلاف أنه يرد على صاحبه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قطع سارق رداء صفوان، ورد الرداء على صفوان، فقال صفوان: وهبته له يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: "هلا قبل أن تأتيني به". * وأما إذا استهلكه غيره: فلا خلاف في وجوب ضمانه على المستهلك. * واختلف فقهاء الأمصار في تضمين السارق، فقال أصحابنا، لا ضمان عليه بعد القطع، وهو قول الشعبي.

وقال مالك فيما يُحكى عنه: إنه يضمنه إن كان موسرًا، ولا يضمنه في حال الإعسار. وقال بعضهم: يضمن في حال اليسار والإعسار. والأصل في ذلك: قول الله تعالى:} والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا {، والجزاء اسم لما استحق بالفعل، فإذا كان الله تعالى جعل جميع ما يستحق عليه بالفعل هو القطع، لم يجز لنا إيجاب شيء غيره؛ لأن فيه زيادة في حكم المنصوص، ولا يجوز ذلك عندنا إلا بمثل ما يجوز به النسخ. * ومن جهة السنة: حديث المسور بن إبراهيم، وقد اختلف في سنده، فروى عبد الله بن صالح قال: حدثني المفضل بن فضالة عن يونس بن يزيد قال: سمعت سعد بن إبراهيم يحدث عن أخيه المسور بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقيم على السارق الحد، فلا غرم عليه". وهذا إسناد منقطع، لأن المسور بن إبراهيم لم يسمع من عبد الرحمن بن عوف، إلا أن سعيد بن كثير بن عفير رواه عن المفضل بن فضالة عن يونس بن يزيد عن سعد بن إبراهيم عن أخيه المسور بن إبراهيم عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا

أقيم على السارق الحد، فلا غرم عليه". فهذا الإسناد إن صح فهو متصل ليس فيه مطعن. ورواه يحيي بن عثمان بن صالح عن عبد الغفار بن داود الحراني قال حدثنا المفضل بن فضالة عن يونس بن يزيد عن سعيد بن إبراهيم عن المسور بن إبراهيم بإسناده مثله. قال يحي بن عثمان: هكذا رأيته في أصل الحراني سعيد بن إبراهيم. قال أبو بكر: وهو غلط من الكاتب، الصحيح: سعد بن إبراهيم. ورواه إسحاق بن الفرات قاضي مصر قال: حدثنا المفضل بن فضالة عن يونس عن الزهري عن سعد بن إبراهيم عن المسور بن سعد عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. وفي هذا الحديث إدخال الزهري بين يونس وبين سعد بن إبراهيم. والصحيح أن ذكر الزهري فيه غلط؛ لأن عبد الله بن صالح ذكر عن يونس أنه سمع سعد بن إبراهيم، وقال فيه: المسور بن سعد. وقال لي بعض أهل الإتقان من حفاظ الحديث: إن الصحيح: المسور بن إبراهيم، وإن ذكر المسور بن سعد غلط. فاختلف في سند حديث المفضل على هذه الوجوه.

وقد رواه عمرو بن خالد عن يونس بن يزيد عن سعد بن إبراهيم عن أخيه المسور بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغرم صاحب الحد إذا أقيم عليه الحد". فلم يذكر فيه عبد الرحمن بن عوف. وقد قيل: إن هذا الحديث في أصل عمرو بن خالد عن ابن لهيعة عن يونس بن يزيد عن الحكم بن عبد الله الأيلي عن سعد بن إبراهيم. والحكم بن عبد الله مشهور بوضع الحديث، إلا أن ذكر الحكم ههنا غلط؛ لأن يونس قد صح عنه أنه سمعه من سعد بن إبراهيم، ولأن ابن لهيعة كثير الخطأ. فهذا الحديث يحصل مرسلاًَ على مذهب أصحاب الحديث، وعندنا هو موصول؛ لأن سعيد بن كثير رواه بإسنادٍ متصل قد قدمنا ذكره، وإرسال من أرسله بعد ذلك: لا يوجب أن يكون الحديث الأخر مرسلاً، إذ ليس يمتنع أن يروي الراوي الحديث مرسلاً تارة، وموصولاً تارة، وهو متصل في الأصل. وعلى أنه لو كان مرسلاً، لم يضر إرساله عندنا؛ لأن المرسل والموصول عندنا واحد في إيجاب الحكم.

وإذا صح هذا الخبر: لم يجب الضمان مع القطع لعموم لفظه. * ومن جهة النظر: إنه لا يجوز أن يجب بفعل واحد: مال، وحد، والدليل عليه: أن وجوب المال بالقتل يمنع وجوب القصاص، وكذلك وجوب المهر بالوطء يمنع وجوب الحد بالوطء الذي به وجب المال. فثبت بذلك أن وجوب القطع ينفي ضمان المال إذا كان فعلاً واحداً، لا يجوز أن يجب به مال وحد، كما لا يجب به قصاص ومال وحد. وجهة أخرى: وهي أن من أصلنا: أن الضمان سبب للملك، فلو ضمناه لملكه بالتناول، فيكون حينئذٍ مقطوعًا في ملك نفسه، وذلك ممتنع، فلما لم يكن لنا سبيل إلى رفع القطع، وكان في إيجاب الضمان إسقاط القطع، امتنع وجوب الضمان. وإذا استهلكه السارق بعد القطع، فلا ضمان عليه أيضًا؛ لأنه لما ثبت أنه غير مضمون عليه بالهلاك، للدلائل التي قدمنا، وجب أن لا نضمنه بالاستهلاك، لأن أحدًا لم يفرق بينهما في إيجاب الضمان أو سقوطه، لأن الناس فيه على قولين: فمن قائل يوجب ضمانه في الحالتين، ومن آخر لا يوجب ضمانه في الحالتين، فلما ثبت عندنا انتفاء ضمانه بالهلاك، وجب أن يكون ذلك حكمه في الاستهلاك، وإذا استهلكه غير السارق، ضمنه باتفاقٍ من الفقهاء. مسألة: [هلاك المسروق في يد المودع أو المستأجر] قال أبو جعفر: (وإن هلك في يد مودع قد أودعه السارق، أو في يد مستأجر استأجره منه: فلا ضمان عليه).

وذلك لأن حاصل هذا الضمان يكون على السارق؛ لأن المودع والمستأجر إذا ضمنا: رجعا به عليه. وأما إذا هلك في يد مستعير من السارق أو الغاصب، فإنهما يضمنان؛ لأنهما لا يرجعان به على السارق، وقد تناولا ثوب المسروق منه بغير أمره، فهما غاصبان في حقه. وكذلك المشتري يضمن؛ لأنه إنما يرجع على البائع بالثمن، لا بقيمة المقبوض. مسألة: [ضمان السارق عند درء الحد] قال: (ومن درئ عنه القطع: ضمن المسروق). وذلك لأنه لما سقط القطع، صار غاصبًا. مسألة: [سرقة أحد الزوجين من الآخر] قال: (ولا قطع فيما سرق أحد الزوجين من الآخر). وذلك لأن كل واحد منهما يتبسط في مال الآخر في العادة، فصار ماله غير محرز منه، فكان كالخائن وكالمأذون له في دخول الدار، لا قطع عليه فيما يأخذه. ويدل عليه: قوله عليه الصلاة والسلام: "والمرأة راعية على مال

زوجها، والزوج راع على مال زوجته"، فدل أن كل واحد منهما أمين في مال الآخر، فلا قطع عليه كالمودع. مسألة: [عدم القطع في السرقة من ذي الرحم المحرم] قال أبو جعفر: (ولا قطع على من سرق من ذي رحم محرم منه). وذلك لقول الله تعالى:} ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت أبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخولكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم {، فأباح الله سبحانه الأكل من بيوت هؤلاء، ومعلوم أن ذلك يقتضي إباحة دخول منازلهم بغير إذنهم، فإذا جاز لهم دخول منازلهم بغير إذنهم، لم يكن مالهم محرزًا منهم، ولا يجب القطع إلا في سرقةٍ من حرز. وأيضًا: إباحة أكل أموالهم، تمنع وجوب القطع، لما لهم فيه من الحق كالشريك ونحوه. فإن قيل: قد قال تعالى:} أو صديقكم {: ويقطع مع ذلك إذا سرق من صديقه. قيل له: ظاهر الآية تنفي وجوبه في الصديق أيضًا، إلا أنا خصصناه

منها بالاتفاق، وحكم اللفظ ودلالته باقيان فيما عداه. وعلى أنه لا يكون صديقًا إذا قصد السرقة. ووجه آخر: وهو أن له حقًا في ماله، يستحقه عليه عند الحاجة إليه بغير بدل، فأشبه السارق من بيت المال، للعلة التي ذكرناها. فإن قيل: قد ثبت الحق له في مال الغير عند الضرورة. قيل له: يأخذه ببدل. وأيضًا: فلما استحق عليه إحياء نفسه وأعضائه عند الحاجة إليه بالاتفاق عليه، لإحياء نفسه أو بعض أعضائه. مسألة: [وجوب القطع على من سرق من أمه من الرضاعة] قال: (ويُقطع من سرق من أمه من الرضاعة). لأنه ليس بينهما أكثر من التحريم، فصارت كامرأة وطئها أبوه أو ابنه، فلا يمنع التحريم الذي بينهما وجوب القطع، إذ ليس هناك شبهة. مسألة: [فيمن سرق سرقات مختلفات] قال أبو جعفر: (ومن سرق سرقات مختلفات، فرفعه أحدهم فقطع له، كان ذلك القطع للسرقات كلها، ولا يضمن منها شيئًا في قول أبي

حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: يضمن للآخرين). وجه قولهما: أن القطع حق لله تعالى، والمسروق منه خصم في إقامته، فإذا قام به أحدهم: تاب عن الباقين، فصار كأن جميعهم حضروا، فخاصموا في قطعه. ونظيره: أحد الورثة إذا أقام بينه على دين الميت، أن ذلك يثبت لجميعهم؛ لأن الوارث خصم في إثباته للميت، وكل واحد منهم خصم فيه، فكان حضور بعضهم في ذلك كحضور جماعتهم، كذلك القطع لما كان حقًا لله تعالى، يقوم به الآدمي، كانت خصومة أحدهم في إثباته، كخصومة جماعتهم، فصار مقطوعًا للسرقات كلها، وإذا قطع في السرقة سقط الضمان. ويدل على صحة ما ذكرنا أيضًا: أنه لو قذف جماعةً، فحضر أحدهم، وطالب بالحد، أن ذلك يكون لسائرهم، وليس لواحد منهم بعد ذلك إقامته. وذهب أبو يوسف إلى أن إثبات القطع في السرقة متعلق بصحة الخصومة في المال، وليس أحدهم خصمًا عن الآخر في إثبات المال، ويدل على صحة ذلك: أنه لو رد المال إلى أحدهم، سقطت خصومته في إثبات القطع، فإذا كان كذلك، لم تثبت خصومة أحدهم عن الآخر في إثبات القطع، فوقع القطع لسرقته خاصة دون السرقات، فوجب ضمان ما لم يقطع فيه.

مسألة: [عدم القطع على جماعة إذا لم يكمل نصاب السرقة] قال: (ولا قطع على جماعة فيما سرقوا حتى يكون ما سرقه كل واحد منهم عشرة دراهم فصاعدًا). وذلك لأن كل واحد منهم سارق ما دون العشرة، ألا ترى أن حد القطع متى سقط فوجب الضمان، ضمن كل واحد دون العشرة، فعلمت أن كل واحد منهم غير سارق للعشرة. مسألة: [السرقة من رجلين فيما يبلغ عشرة دراهم] قال: (ومن سرق من رجلين عشرة دراهم سرقة واحدة: قطع فيها). قال أبو بكر: وذلك إذا كانت السرقة من حرز واحد، فلا يختلف حينئذ حكمها؛ لأجل تفرق المال؛ لأنه لو سرقه من مودع أو غاصب: قطع وإن لم يكونا مالكين. مسألة: [السرقة من الغنيمة، ومن بيت المال] قال: (ولا قطع على من سرق من الغنائم، ومن بيت المال المسلمين). وذلك لأن حقه وحق سائر المسلمين سواء، فصار كسرقته مالاً بينه

وبين غيره. مسألة: [عدم القطع في سرقة من الحمام] قال: (ولا قطع على من سرق من حمام). وذلك لأنه لما كان مأذونًا في دخوله: لم يكن الموضع محرزًا منه، فصار كالخائن، وكجاحد الوديعة، والعارية. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا قطع على خائن"، ولأنه حينئذٍ يصير كالسارق من غير حرز. مسألة: [السرقة من تحت رأس رجل في المسجد] قال: (ومن سرق من مسجد جماعةٍ شيئًا من تحت رأس رجل، أو من حيث يكون حافظًا له: قطع). وذلك لأن المسجد وإن لم يكن حرزًا في نفسه، فقد صار الشيء محرزًا بحفظ الرجل إياه، ولم تتعلق إباحة دخول المسجد بإذن المسروق منه، فيخرج من أن يكون حرزًا، فلذلك قطع. والأصل في ذلك: ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع سارق رداء صفوان بن أمية، وكان نائمًا في المسجد، ورداؤه تحت رأسه". وهذا هو الأصل في أن حصول الحافظ يجعل الشيء محرزًا به.

وليس المسجد في هذا مثل الحمام والدار المأذون في دخولهما، فلا يقطع السارق منهما وإن كان هناك حافظ، من قبل أن الإذن في الدخول هو من جهة مالك الدار والحمام، فخرج الشيء من أن يكون محرزًا من المأذون له في الدخول، ألا ترى أن من أذن لرجل في دخول داره، أن الدار لم تخرج من أن يكون حرزًا، ولا يقطع مع ذلك المأذون له في الدخول؛ لأنه حين أذن له في الدخول، فقد ائتمنه، ولم يحرز ماله عنه، كذلك كل موضع يُستباح دخوله بإذن المالك، وأما المسجد فلم تتعلق إباحة دخوله بإذن الآدمي، فصار كالصحراء والمفازة، فإذا سرق من حيث يكون له حافظ: قطع. مسألة: [عدم قطع الخائن والمنتهب والمختلس] قال: (ولا قطع على خائن، ولا منتهب، ولا مختلس). وذلك لما روى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على الخائن، ولا المختلس، ولا

المنتهب قطع". فإن قيل: روي معمر عن الزهري "أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد امرأة كانت تستعير المتاع، وتجحده". قيل له: ليس فيه أنه قطعها بجحودها العارية، وإنما ذكر العارية في هذا الموضع تعريفٌ لها، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفطر الحاجم والمحجوم"، وليس فيه أنه أفطر بالحجامة، وإنما ذكر الحجامة تعريفًا لهما، وإشارة إليهما، كما نقول: أفطر القائم، وأفطر القاعد، لا لأجل القيام، ولا لأجل القعود، كذلك ذكر العارية في هذا الموضع على جهة التعريف، لا أنها سبب إيجاب القطع، كما لو قال: قطع المرأة السوداء، أو المرأة المخزومية، لم يدل على أن القطع واقع للصفة المذكورة. وقد روى هذا الحديث يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها "أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الفتح، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُقطع، وكلمه فيها أسامة، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتشفع في حد

من حدود الله تعالى، فلما كان بالعشي قطعت يدها". وهي هذه المرأة التي في حديث معمر؛ لأن القصة فيها واحدة، فأخبر في هذا الحديث أنه قطعها للسرقة، لا للعارية. وأيضًا: فإن المختلس والمنتهب لا يتناولهما اسم السارق؛ لأن السرقة إنما هي اسم لما يؤخذ على جهة الاستخفاء، والمختلس مجاهر بفعله غير مستخف به، والخائن سارق من غير حرز؛ لأنه حين ائتمنه عليه، أخرجه من أن يكن محرزًا منه، ولا خلاف أن لا قطع على السارق من غير حرز. مسألة: [سرقة العبد من بيت مولاه] قال: (ولا قطع على عبد رجلٍ في سرقته من مال زوجة مولاه، ولا على عبد امرأة في سرقته من مال زوجها). وذلك لما روى الزهري عن السائب بن يزيد عن عبد الله بن عمرو الخضرمي قال: "أتيت بغلامي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين اقطع هذا، فإنه سرق مرآة لامرأتي خير من ستين درهمًا. فقال: خادمكم أخذ متاعكم، لا قطع عليه". فقد روي هذا عن عمر من غير خلاف من أحد من نظرائه، فثبتت حجيته.

وأيضًا: فكما لو سرق من مال مولاه: لم يقطع، كذلك من مال امرأته، ألا ترى أن العبد كأنه أخذ مال نفسه فيما سرقه من مولاه، فصار في سرقته من امرأة مولاه بمنزلة المولى نفسه لو سرقها. وأيضًا: فإنه مأذون له بالدخول في أكثر الحال، ومالهم غير محرز منه، فلم يقطع. مسألة: [الاشتراك في السرقة] قال: (وإذا سرق الرجلان سرقة، فقال أحدهما: هي لي: درئ القطع عنهما جميعًا، وضمنا السرقة). وذلك لأنهما لما كانا مشتركين في السرقة، ثم سقط القطع عن أحدهما بدعواه المال، وجب أن يسقط عن الآخر؛ لأنه لا يجوز أن يجب القطع على بعض السارق دون البعض في سرقة واحدة. ويدلك على أن لاشتراكهما في الفعل حكمًا فيما يتعلق به من إيجاب القطع: أن أحدهما لو ولي أخذ المتاع دون الآخر بعد أن دخلا جميعًا، وصار فعل أحدهما كفعل الآخر فيما يتعلق به وجوب القطع، كذلك يجب أن يكون سقوط القطع عن أحدهما مسقطًا له عن الآخر. ونظير ذلك: رجلان قتلا رجلاً، أحدهما عامد، والآخر مخطئ: أنه لا يُقتل واحد منهما. فإن قيل: هلا كان ذلك كرجلين قتلا رجلاً عمدًا، ثم عفى عن أحدهما، أو صولح عن مال.

قيل له: من قبل أن دعوى أحدهما المال يصير شبهة في نفس الفعل، فكان بما وصفناه أشبه، وأما العفو عن أحد القاتلين بعد وجوب القصاص عليهما، فلا تأثير له في نفس الفعل، فلذلك لم يسقط القود عن الآخر. وإنما كان دعواه المال شبهة في سقوط القطع، من قبل أن القطع حينئذٍ يكون موقوفًا على يمين المسروق منه في نفي ملك السارق عما أخذه، لأنه لا يجوز لنا أن نقطعه حينئذٍ حتى نسألة المسروق منه عن دعوى السارق، ونستحلفه عليه، ألا ترى أنه لو أقر به له: سقط القطع، ومتى حصل القطع موقوفًا على يمين المسروق منه: سقط، إذ غير جائز أخذ القطع باليمين. مسألة: [لو هرب أحد المشتركين في السرقة] قال: (فإن لم يدعها واحد منهما، ولكن هرب أحدهما، قطع الحاضر). وذلك لأن القطع قد وجب عليهما جميعًا، وليست غيبة أحدهما شبهة في نفس الفعل فيسقط القطع، ألا ترى أن موت أحدهما لا يكون شبهة في سقوط القطع عن الآخر. فإن قيل: جائز أن يدعيه الغائب لنفسه، فيكون ذلك شبهة في سقوط القطع عن الحاضر. قيل له: حصول الدعوى هو الشبهة في سقوطه، وجواز الشبهة لا يسقط القطع، لأن جواز الشبهة لو كان مسقطًا للقطع، لما قطع سارق أبدًا، وإنما الذي يُسقطع القطع حصول الشبهة.

مسألة: [رد السارق المسروق إلى المسروق منه قبل القطع] قال: (ومن سرق سرقة، فلم يخاصم فيها حتى ردها إلى المسروق منه، أو وهبها له المسروق منه، فملكها: لم يقطع. وكذلك إن قضي عليه بالقطع، ثم ملكها السارق). قال أبو بكر: أما إذا ردها قبل الخصومة: فلا قطع فيه؛ لأن صحة القطع تتعلق بخصومة المسروق منه، لما قدمناه فيما سلف، فلما سقطت الخصومة في المال برد السرقة: لم يثبت القطع. وأما إذا ملكها السارق بعد الحكم بالقطع أو قبله: فلا قطع فيه أيضًا، والأصل فيه: أن كل ما يعرض في الحد قبل إقامته، مما لو كان موجودًا في حال الفعل، كان مانعًا له من القطع، كذلك حدوثه قبل استيفاء الحد بشبهة في سقوطه، بمنزلته لو كان موجودًا في حال الفعل. والدليل على صحة ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم في ماعز حين هرب، فامتنع مما بذل نفسه له بدءًا: "هلا خليتموه". فكان ما عرض من ذلك شبهةً في سقوطه، كما لو كان موجودًا في الابتداء، أعني نفي الإقرار، وما بذل نفسه له بدءاً، ومن أجله قلنا في المقر بالزنى والسرقة: إذا رجعا قبل إقامة الحد: قبل رجوعهما، وبطل حكم إقرارهما، وصار كأن الجحود والامتناع من الإقرار كان موجودًا في أول مرة.

كذلك حصول الملك للسارق قبل القطع، ينبغي أن يعتبر بمنزلة وجوده في حال الفعل، ويمنع القطع، إذ لو كانت صحة القطع متعلقة بغير المسروق: لم يسقط الحد، بدلالة أن سقوطه، يوجب ضمان العين، فمتى ملك المسروق: لم يجز قطعه في ملكه. ونظير ذلك أيضًا: أن رجلاً لو وجب له قبل رجل قصاص، فمات الولي، وورثه ابن القاتل: أنه لا يثبت له القصاص على أبيه، وصار ما عرض من ذلك قبل استيفاء القصاص بمنزلة وجوده في الابتداء؛ لأن رجلاً لو قتل ابنه: لم يجب عليه قصاص. ومن نظائره أيضًا: الشهادة في باب ما يعرض فيها من الشبهة قبل إنفاذ الحكم بها يُسقطها، كالشبهة الموجودة فيها في حال إقامتها وسماعها. ألا ترى أنهما إذا شهدا وهما عدلان، فلم يُقض بها حتى ارتدا: أن شهادتهما تبطل، كما لو شهدا وهما مرتدان. والمعنى الجامع بينهما وبين الحد: أن الشبهة لها تأثير في إسقاط الحدود، كهي في إسقاط الشهادة، فلما كان ما يعرض منها بعد السماع قبل إمضاء الحكم مانعًا من إمضائها، وكان في حكم الموجود عند السماع، كان كذلك ما يعرض من الشبهة قبل استيفاء الحد، بمنزلة ما كان موجودًا في حال وجوده، فيمنع من إقامته. فإن قيل: فلو زنى بجارية، ثم اشتراها: لم يسقط الحد في قول أبي حنيفة ومحمد مع حصول ملكه فيها، ولم يكن حدوث ملكه قبل الحد

بمنزلة الملك الموجود في حال الوطء في باب سقوط الحد، فهلاً كان كذلك حكم السرقة إذا ملكها قبل القطع. قيل له: الفصل بينهما: ما تقدم ذكره فيما عللنا به السرقة، وهو حصول ملكه فيما تعلق وجوب القطع بعينه، ووجوب القطع متعلق بعين الشيء المسروق، بدلالة أن سقوط القطع يوجب ضمان العين، وليس وجوب حد الزنى متعلقًا بعين الجارية، بدلالة أن سقوط الحد لا يوجب ضمان العقر، وليس العقر بدلاً من العين، فإذا حصل ملكه فيما يتعلق وجوب الحد بعينه: لم يسقط الحد. وعلى هذا المعنى قالوا في الحرة إذا زنى بها، ثم تزوجها: أن الحد لا يسقط؛ لأنه لم يملك بذلك ما تعلق به وجوب الحد، ألا ترى أنه لو عرضت شبهة أسقطت الحد، وكان العقر لها، فعلمنا أن المعنى الذي تعلق به وجوب الحد لم يحصل في ملك الواطئ. فإن قيل: روي أن رجلاً سرق رداء صفوان بن أمية، وهو تحت رأسه في المسجد، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطعه، فقال صفوان: "قد وهبته له يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا قبل أن تأتيني به، فقطعه". قيل له: ألفاظ حديث صفوان مختلف فيها، فذكر بعضهم أنه قال: "هبة لي"، وقال بعضهم: قال: "لا تقطعه يا رسول الله"، وفي بعض

الروايات: "أنا أعفو عنه"، وفي بعضها: "أنا أبيعه منه"، وليس في شيء من ذلك ما يسقط القطع عندنا، وإنما الذي يسقط عندنا حصول ملك السرقة للسارق، وليس في هذا الخبر بيان موضع الخلاف بيننا. وأي وجه ثبت من وجوه ألفاظ هذا الحديث، لم يسقط القطع عندنا بمثله؛ لأن المسروق منه لو قال للسارق: قد وهبت لك السرقة، أو عفوت عنك، أو أبيعك: لم يسقط القطع بذلك، وإنما يسقط القطع إذا وهبه له، فقبله السارق، وقبضه، أو يقبل البيع فيملكه، وهذا ليس له ذكر في الخبر. ويدل عليه أنه روي في بعض أخبار صفوان: أنه أخذ رداءه وانصرف، فهذا يدل على أن السارق لم يملك. فإن قيل: فما وجه قوله عليه الصلاة والسلام: "فهلا قبل أن تأتيني به"، إن لم تكن الهبة صحيحة، والملك واقعًا للسارق. قيل له: معناه عندنا: هلا إذا لم ترد الخصومة في القطع، أن تستر عليه، فلا ترفعه ولا تفضحه، وذلك مندوب إليه للمسروق منه عندنا. * وحكي أبو جعفر أن أبا يوسف قال في الإملاء: إنه يقطع إذا كانت بعد الحكم بالقطع. والمهشور عن أبي يوسف أنه لا يقطع، وقد قال أبو يوسف في الجارية إذا زنى بها، ثم ملكها قبل الحكم: أن الحد يسقط، وخالف أبا حنيفة ومحمدًا في ذلك.

مسألة: [السرقة من المودع والغاصب] قال: "وللمودع والغاصب أن يقطعا السارق منهما، وكذلك لرب السرقة أن يقطعه". وذلك لقول الله تعالى:} والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما {، فوجب قطعه بعموم الآية ثم الذي له إثبات ذلك، هو الذي له الخصومة في إثبات السرقة، والمودع والغاصب ورب المال كل واحد منهم خصم في إثباته، إذ كان خصمًا في رده إلى يده. وأيضًا: لما كان السارق منتهكًا لحرز المودع والغاصب، كان لهما أن يقطعاه وإن كان الملك لغيرهما، إذ كان صحة القطع في السرقة متعلقة بانتهاك الحرز بأخذ السرقة عاريًا من الشبهة. مسألة: [السرقة من السارق] (وأما إذا سرقة من سارق قد قُطع فيه: لم يكن على الثاني قطع). وذلك لأن السارق لا يد له صحيحة، والدليل على ذلك: أن الأيدي في الأصول على وجهين: يد أمانة، ويد ضمان، ويد السارق بعد القطع

خارجه عن هذين المعنيين، فلم تكن يده صحيحة، ألا ترى أن السارق لو استهلكه بعد ما قطع: لم يضمنه، فعلمت أنها ليست بيد ضمان، وليست بيد أمانة؛ لأن المسروق منه لم يأتمنه عليها، وقد أخذها من يده بغير إذنه، فلما كان كذل، كان كأنه سرق من غير يد، فلم يقطع. وأيضًا: إن السارق عندنا إذا قُطع، ليس له أن يخاصم المسروق منه في رده إلى يده، وكذلك لو غصبه منه غاصب، لم تكن له الخصومة في رده إلى يده، فلما لم يكن خصمًا في إثبات السرقة، لم يقطع سارقه. مسألة: [لو سُرق المسروق نفسه مرة ثانية] (ومن سرق ثوبًا، فقطع فيه، ثم سرق مرة أخرى: لم يقطع). والأصل في ذلك: أنه لا يجوز عندنا إثبات الحدود بالقياس، وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق، فلما عدمناهما فيما وصفنا، لم يبق في إثباته إلا القياس، ولا يجوز ذلك عندنا. فإن قيل: هلا قطعته بعموم قوله تعالى:} والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما {، قيل له: السرقة الثانية لم يتناولها العموم قط؛ لأنها توجب قطع الرجل، والقطع الذي توجبه الآية إنما هو قطع اليد. وأيضًا: فإن وجوب القطع يتعلق بالفعل والعين جميعًا، والدليل على

ذلك: أنه متى سقط القطع، وجب ضمان العين، كما أن حد الزنى لما تعلق بالوطء، كان متى سقط الحد، وجب ضمان الوطء، وكما أنه لما تعلق وجوب القصاص بقتل النفس، كان متى سقط القصاص، وجب ضمان النفس. وكذلك وجوب ضمان العين في السرقة عند سقوط القطع، يوجب اعتبار العين في ذلك، فلما كان فع لواحدٍ في عينين لا يوجب إلا قطعًا واحدًا، كان كذلك حكم الفعلين في عين واحدة ينبغي ألا يوجب إلا قطعًا، إذ إن لكل واحد من المعنيين – أعنى الفعل والعين – تأثيرًا في إيجاب القطع. فإن قيل: فلو زنى بامرأة، فحد، ثم زنى بها مرة أخرى: حد ثانيًا، مع وقوع الفعلين على عين واحدة. قيل له: لأنه لا تأثير ههنا لعين المرأة في تعلق الحد بها، وإنما وجوب حد الزنى تعلق بالوطء، ولا تأثير لعين المرأة فيه. والدليل على ذلك: أنه متى سقط الحد، ضمن الوطء، ولم يضمن عين المرأة، وفي السرقة متى سقط القطع، صارت عين السرقة مضمونه عليه. وأيضًا: فقد صارت السرقة في يده بعد القطع في حكم المباح التافه، بدلالة أن استهلاكه لا يوجب عليه ضمانه، فوجب أن لا يقطع فيها بعد ذلك، كما لا يقطع في سائر المباحات التافهة في الأصل، وإن حصلت ملكًا للناس، كالطين والخشب والحشيش والماء. ومن أجله قالوا: لو كان غزلاً، فنسجه ثوبًا بعد ما قطع، ثم سرقه مرة

أخرى: قطع فيه؛ لأن حدوث هذا الفعل فيه يبطل حكم الإباحة المانعة من وجوب القطع. كما أنه لو سرق خشبًا: لم يقطع فيه، ولو كان جعل منه بابًا، فحدث فيه من الصنعة ما يُخرجه عن الحالة الأولي، ثم سرقه: قطع فيه. وأيضًا: لما كان حصول القطع فيه يوجب إبراءه من استهلاكه، قام القطع فيه مقام دفع قيمته، فصار كأنه عوضه عنه، فأشبه حصول الملك له في المسروق؛ لأن استحقاق البدل عليه يوجب له الملك، فلما أشبه الملك من هذا الوجه: سقط القطع؛ لأن القطع تسقطه الشبهة، والشبهة أن يشبه المباح من وجه. مسألة: [سرقة المسروق بعد تغيير هيئة الشيء المسروق] قال أبو جعفر: (ولو سرق غزلاً قيمته عشرة دراهم، فقطع فيه، ثم نسج ذلك الغزل ثوبًا، فسرقه مرة أخرى: قطع). قال أبو بكر: وذلك لأن هذه عين غير الأولى في الحكم، من قبل أن مستحق الغزل لا يستحق الثوب بملكه الغزل، والدليل عليه: أن من غصب من رجل غزلاً، فنسجه ثوبًا: لم يستحق مالك الغزل الثوب، وكان الثوب للغاصب عندنا، فلما كان ذلك في حكم عين أخرى، وجب أن يُقطع، كما لو سرق ثوبًا آخر: قُطع فيه. ولا يلزم هذه المسألة على شيء مما قدمنا من حجاج المسألة، أما

الحجاج الأول، فإنها كانت من جهة نفي القطع إلا بتوقيف أو اتفاق، والقطع في الثوب باتفاق وإن كان قد قطع في غزله مرة. وعلى العلة الثانية لا تلزم أيضًا؛ لأن هذه غير الأولى في الحكم، لما بينا، وقد كانت العلة أن حكم القطع متعلق بالعين، وليست هذه تلك العين في الحكم. وعلى علة الإباحة أيضًا لا تلزم؛ لأن حدوث هذا الضرب من الصنعة يقطع عنه حكم الإباحة على ما بينا. ولا يلزم أيضًا على علة إقامة القطع مقام أخذ البدل؛ لأن هذا لما كان في الحكم عينًا أخرى، لم يثبت فيها حكم الملك بأخذ البدل على عين غيرها. مسألة: [حكم الطرار] قال أبو جعفر: (ومن طر من رجل دراهم كانت معه يجب في مثلها القطع، فإن أبا حنيفة كان يقول: إن طرها من خارج الكم: لم يقطع، وإن طرها من داخله: قطع، وقال أبو يوسف: قطع في الوجهين). الأصل فيه: أن وجوب القطع متعلق بانتهاك الحرز بأخذه على وجه الاستسرار، والكم حرز لما فيه، ولا يمكن انتهاكه إلا بإدخال يده فيه، فوجب القطع، إذ هو سارق منتهك للحرز بسرقته، وهذا هو شريطة

وجوب قطع السارق. وأما إذا طرها من خارج الكم، فإن خارج الكم ليس بحرز، فلا يكون ما كان خارج الكم محرزًا بالكم، كما لا يكون خارج الدار حرزًا، ولا يكون باب الدار حرزًا بالدار. وليس أخذ الصرة من الكم كأخذ المتاع من البيت إذا لم يدخله، فلا يجب القطع؛ لأن انتهاك حرز البيت إنما يكون بدخوله، وأخذ المال منه، ولا يمكن انتهاك حرز الكم بدخوله، وإنما ينتهك بإدخال اليد وأخذه. مسألة: [تغيير هيئة الذهب والفضة المسروق] قال: (ومن سرق فضة أو ذهبًا يساوي عشرة دراهم فقطع فيه، وقد عمل الفضة دراهم، أو الذهب دنانير، فإن أبا حنيفة قال: يردان الدراهم والدنانير على المسروق منه، وقال أبو يوسف ومحمد: لا سبيل عليهما). قال أبو بكر: هذه المسألة مبنية على أصله: في أن الصنعة لا تأثير لها في إسقاط حق المغصوب منه، ألا ترى أنه يقول فيمن غصب فضة، فضربها دارهم، أو صاغها حليًا: أن للمغصوب منه أخذها بعينها، ولا يمنع ما أحدث فيها من الصياغة من أخذ عينها. وقال أبو يوسف ومحمد: لا سبيل للمغصوب منه عليها، ولكن يضمن الغاصب المثل أو القيمة. فلذلك قال أبو حنيفة: له أخذها في السرقة، وقال أبو يوسف

ومحمد: قد انقطع حقه عنها، وصار ما أحدث فيها مستهلكًا لها، ولا يضمن شيئًا؛ لأن حصول القطع ينفي الضمان. وإنما لم يكن للصنعة تأثير فيمها؛ لأنهما لا تخرجها عن حكمها في كونهما موزونة، ولا يخرج عن حال الوزن، ولا يجوز التفاضل فيه، والعين مع ذلك باقية؛ لأن اسم الفضة لم يُزل عنها. وليست كالحنطة إذا طحنها؛ لأن عين الحنطة معدومة مع زوال المنافع، إذ لا تسمى حنطة بعد الطحن، وإن كان اعتبار المساواة واجبًا فيها. ووجه آخر: وهو أن حق المغصوب إنما ينقطع بالصنعة إذا أزال عظم منافع العين، كالحنطة إذا طحنت ونحوها، وعظم منافع الذهب والفضة باق مع وجود الصنعة؛ لأن المبتغي منهما أعيانهما، لا الصنعة، فلم ينقطع حق صاحبها بحدوث الصنعة. وليست كالحديد إذا ضربه سيفًا، أو إناءً من وجهين: أحدهما: أن الحديد يخرج بالصنعة عن حكمه الأول، حتى يصير غير موزون بعد أن كان موزونًا، وليس كذلك الذهب والفضة. والوجه الآخر: أن عظم منافع الحديد ونحوه إنما هو في الصنعة الموجودة فيه، لا في عينه، لأنه لا ينتفع بهما إلا بالصنعة، ألا ترى أن الصنعة فيه قد يجوز أن تأتي على قيمة الأصل، وأما الذهب والفضة فالمبتغى منهما اقتناؤهما وادخارهما، لا الصنعة، وذلك موجود مع عدم الصنعة. [تغيير هيئة الحديد المسروق] قال: (ومن سرق حديدًا، فعمله كوزًا، ثم قطع فيه: لم يكن

للمسروق منه على الكوز سبيل في قولهم). وذلك لما بينا أن حدوث الصنعة فيه يقطع حق صاحبه عن العين، ولا يضمن شيئًا لأجل حصول القطع. مسألة: [تكرار الإقرار في السرقة] قال: (ومن أقر بالسرقة عند الإمام مرة واحدة: قطع في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لم يقطع حتى يقر مرتين). وجه قولهما: ما روى عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أتي بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! هذا سرق. فقال عليه الصلاة والسلام: ما إخاله سرق، فقال السارق: بلى يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: اذهبوا به فاقطعوه، فقطع". ورواه غير الدراوردي عن يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكروا فيه أبا هريرة، منهم: الثوري، وابن جريج، ومحمد بن إسحاق. قال أبو بكر: على أي وجه حصلت الرواية، فحكمه ثابت؛ لأن

إرسال من أرسله لا يمنع صحة وصل من وصله. وعلى أنه لو حصل مرسلاً، كان حكمه ثابتًا؛ لأن المرسل والموصول عندنا سواء فيما يوجبان من الحكم، فقد قطعه النبي صلى الله عليه وسلم بإقراره مرة واحدة. فإن قيل: إنما قطعه بالشهادة؛ لأنهم قالوا: سرق. قيل له: ليس كذلك؛ لأنه لو كان كذلك، لاقتصر عليها، ولم يرجع إليه في مسألته وتلقينه الجحود، فلما قال عليه الصلاة والسلام بعد ما قالوا سرق: "ما إخاله سرق"، ولم يقطعه حتى أقر، ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قطعه بإقراره دون الشهادة. فإن قيل: روى حماد بن سلمة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبي المنذر مولى أبي ذر عن أبي أمية المخزومي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بلص اعترف اعترافًا، ولم يجد معه المتاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما إخالك سرقت: قال: بلى يا رسول الله، فأعادها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثًا، قال: بلى، فأمر به فقطع". ففي هذا الحديث أنه لم يقطعه بإقراره مرة واحدة، وهو أقوى إسنادًا من الأول. قيل له: ليس في الخبر بيان موضع الخلاف بيننا، وذلك لأنه ليس فيه

إقرار السارق مرتين، وإنما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد عليه القول مرتين أو ثلاثًا، وليس يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أعاد عليه القول مرتين أو ثلاثًا قبل أن يقر، ثم أقر. فإن قيل: فقد قال: اعترف اعترافًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما إخالك سرقت"، فأعاد مرتين أو ثلاثًا. قيل له: يحتمل أن يريد به اعترف بعد ما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مرتين أو ثلاثًا. وأيضًا: لو ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد ذلك عليه بعد الإقرار الأول، لم يكن فيه دلالة على أن الإقرار الأول لم يتعلق به وجوب القطع، إذ ليس يمتنع أن يكون حد القطع وجب، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوصل إلى إسقاطه بتلقينه الرجوع عنه. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما ينبغي لولي أمر أن يؤتي بحد إلا أقامه"، فلو كان القطع واجبًا بإقراره بدءًا، لما اشتغل عليه الصلاة والسلام بتلقينه الرجوع عنه، ولسارع إلى إقامته. قيل له: ليس وجوب القطع مانعًا من استثبات الإمام في أمره، ولا موجبًا عليه قطعه في الحال؛ لأن ماعزًا قد أقر عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنى أربع مرات، فلم يرجمه حتى اصتثبته، وقال: "لعلك لمست، أو قبلت"، وقال لأهله: "ابه جنة"، ولم يدل ذلك على أن الرجم لم يكن قد وجب بالإقرار أربع مرات.

ولا يعترض حكم هذا الخبر على ما رويناه من خبر أبي هريرة؛ لأن فيه أمرًا بقطعه حين أقر مرة واحدة، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقدم على إقامة حد لم يجب بعد، وليس يمتنع أن يؤخر إقامة حد قد وجب، للاستثبات والأخذ بالثقة. ويدل على صحة ما ذكرنا: ما روى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري عن أبيه "أن عمرو بن سمرة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني سرقت جملاً لبني فلان، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا فقدنا جملاً لنا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يده". ففي هذا الخبر أيضًا أنه قطعه بإقراره مرة واحدة. * ووجهه من طريق النظر: أن السرقة المقر بها لا تخلو من أن تكون عينًا أو غير عين، فإن كانت عينًا، ولم يجب القطع بالإقرار الأول، فقد وجب ضمانها لا محالة، من قبل أن صحة الملك للآدمي تثبت بالإقرار الأول، ولا تتوقف على الإقرار الثاني، وإذا ثبت له الملك، ولم يثبت القطع، صارت مضمونه عليه، وحصول الضمان ينفي القطع. وإن كانت السرقة المقر بها ليست بعين، فقد صارت دينًا بالإقرار الأول، وحصولها في ذمته، ينفي القطع على ما وصفنا. فإن قيل: إذا جاز أن يكون حكم تناوله على وجه السرقة بدءًا موقوفًا غير موجب للضمان إلا على شريطة نفي القطع، فهلا جعلت حكم إقراره موقوفًا في تعلق الضمان به على سقوط القطع أو وجوبه.

قيل له: لأن نفس الأخذ يوجب القطع إذا ثبت بشهادة، وليس هو بموقوف، وإنما يجب الضمان بعد سقوط القطع، وأما الإقرار فإن لم يكن أوجب القطع بدءًا، فينبغي أن يوجب الضمان، ووجوب الضان ينفي القطع؛ لأن الإقرار الثاني لا ينفي ما قد حصل عليه من الضمان النافي للقطع بإقراره الأول. فإن قيل: هذا اعتلال منتقض بالإقرار بالزنى؛ لأن إقراره الأول بالزنى إذا لم يوجب حدًا، فلابد من إيجاب المهر به؛ لأن الوطء لا يخلو من إيجاب حد أو مهر، وإذا انتفى الحد، ثبت المهر، وإقراره الثاني والثالث والرابع لا يسقط المهر الواجب بدءًا، وهذا يؤدي إلى سقوط اعتبار عدد الإقرار في الزنى، ولما صح وجوب اعتبار عدد الإقرار في الزنى مع وجود العلة التي من أجلها منعت اعتبار عدد الإقرار في السرقة، دل ذلك على فساد اعتلالك. قيل له: ليس الأمر على ما ظننت، وذلك أن سقوط الحد في الزنى لا على معنى الشبهة لا يجب به مهر؛ لأن البضع لا قيمة له إلا من جهة العقد أو شبهة عقد، فإذا عري من ذلك، لم يجب مهر. ويدل على ذلك: اتفاقهم جميعًا على أنه لو أقر بالزنى مرة واحدة، ثم مات، أو قامت عليه البينة بالزنى، ومات قبل أن يحد: لم يجب عليه المهر في ماله، ولو مات بعد إقراره مرة واحدة بالسرقة، لكانت السرقة مضمونة عليه باتفاق منهم جميعًا. فقد حصل من قولهم جميعًا إيجاب الضمان بإقراره مرة واحدة بالسرقة، وسقوط المهر مع الإقرار بالزنى وإن لم يحصل به حد, * ومما يحتج به لأبي يوسف: ما روى الأعمش عن القاسم بن عبد

الرحمن عن أبيه "عن علي رضي الله عنه أن رجلاً أقر عنده بسرقة مرتين، فقال: قد شهدت على نفسك شهادتين، فأمر به فقطع، وعلقها في عنقه". وليس في هذا الحديث أيضًا دلالة على أنه كان من مذهب علي رضي الله عنه أنه لا يقطع إلا بالإقرار مرتين؛ لأنه إنما قال: شهدت على نفسك شهادتين، ولم يقل: لو أقررت مرة واحدة لم أقطعك، ولا أنه لم يقطعه حين أقر مرة واحدة، حتى أقر مرتين. * ومما يحتج به لأبي يوسف من طريق النظر: أن هذا لما كان حدًا تسقطه الشبهة، وجب أن يكون أقل ما يصح به إقراره مرتين، كالزنى اعتبر فيه عدد الإقرار بعدد الشهادة. ويلزمه على هذا الاعتبار الإقرار بشرب الخمر بالشهادة عليه؛ لأنه حد تسقطه الشبهة، إلا أن في غالب ظني إني سمعت أبا الحسن الكرخي رحمه الله أنه قد وجد عن أبي يوسف في شرب الخمر أنه لا يحد حتى يقر مرتين كعدد الشهود في إثباته. ولا يلزمه عليه حد القذف؛ لأن المطالبة به حق لآدمي، وليس كذلك سائر الحدود، لأنه لا حق لآدمي فيها، وإنما حق لله تعالى فيها. وهذا الضرب من القياس مدفوع عندنا؛ لأن المقادير لا تؤخذ من طريق المقاييس فيما كان هذا وصفه، وإنما طريقها التوقيف.

مسألة: [شهادة النساء في الحدود والقصاص] قال: (ولا تقبل شهادة النساء في حد، ولا قصاص، ولا شهادة على شهادة). قال أبو بكر: الأصل في ذلك: ما روى الزهري أنه قال: "مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده ألا تقبل شهادة النساء في الحدود، ولا في القصاص". ولأن النساء قائمات في الشهادة مقام الرجل، قال الله تعالى:} فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان {، فلم يجز أن يثبت بهن حد، كالشهادة على الشهادة، ولا نعلم خلافًا في أن الشهادة على الشهادة غير جائزة في الزنى، وكذلك شهادة النساء، وإذا لم يجز في الزنى، كانت سائر الحدود بمثابته، لمشاركتها إياه في كونه حدًا حتى يسقط بالشبهة، ولهذه العلة لم يجز كتاب القاضي إلى القاضي في إثبات الحد؛ لأنه قائم مقام الغير. مسألة: [سرقة المصحف] قال: (ولا قطع على من سرق مصحفًا وإن كان مفضضًا). وذلك لأنه لما كان له حق التعلم منه إذا احتاج إليه، صار ذلك شبهة في درء الحد عن سارقه، ألا ترى أنه لا يسعه منعه إذا احتاج إليه.

ليتعلم منه، فلما ثبت له حق الأخذ من وجه، صار بمنزلة السارق مس بيت المال. ولا يجب القطع لأجل الفضة التي عليه؛ لأنها تبع، ألا ترى أنه لو باع المصحف دخلت فيه الفضة، كما يدخل الجلد والدفتان. مسألة: (ولا قطع في طيرٍ، ولا صيدٍ). وذلك لما روي عن عثمان وعلي رضي الله عنهما من نحو ذلك، من غير خلاف من أحد من الصحابة رضي الله عنهم. وأيضًا: فإنه تافه مباح الأصل، فأشبه الحشيش والحطب، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا قطع في ثمر ولا كثر"، والكثر: قيل فيه: إنه النخل الصغار، وقيل: إنه الجمار، وكلاهما لا قطع فيه عندنا، إلا أن ذلك قد دلنا على أن لا قطع في الحطب، والمعنى فيه: أنه تافه في الأصل مباح، فإذا صار مملوكًا لم يقطع سارقه، وكل ما كان هذا وصفه لم يقطع فيه سارقه. فإن قيل: الطير قد لا يكون تافهًا، بل يكون مالاً مرغوبًا فيه جليلاً. قيل له: أما في حال الإباحة إذا كان فرخًا، فهو تافه، وإنما تكثر قيمته بعدما يصير مملوكًا بالتعليم.

مسألة: [لا قطع في الطعام، ولا فيما يتسارع إليه الفساد] قال: (ولا قطع فيما يفسد من نحو الفاكهة واللحم والطعام الذي هو كذلك). قال أبو بكر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا قطع في طعام"، رواه الحسن. وعمومه يقتضي نفي القطع عن الجميع، إلا أن الاتفاق خص ما كان مستحكمًا لا يسرع إليه الفساد، وبقي حكم العموم فيما يُسرع إليه الفساد. وأيضًا: قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رافع بن خديج: "لا قطع في ثمر ولا كثر". وعمومه يقتضي نفي القطع عن جميع الثمر، مستحكمًا كان أو غير مستحكم، إلا أن الاتفاق قد حصل على وجوب القطع فيما استحكم منه، وبقي حكم العموم فيما يُسرع فيه الفساد قبل حال الاستحكام. وإذا صح ذلك في الثمر، كان كذلك حكم جميع ما يُسرع إليه الفساد، كاللحم وغيره من وجهين: أحدهما: أن أحدًا لم يفرق بينه وبين الثمرة الرطبة، فإذا صح لنا نفي القطع في الثمرة بالعموم، كان هذا مثله. والوجه الآخر: أن المعنى في الثمرة: أنها مما يُسرع إليها الفساد،

فكل ما كان في معناها، فهذا حكمه. ويدل عليه أيضًا: ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا قطع في الثمر المعلق حتى يؤويه الجرين". فهذا الخبر يدل على مثل ما دل عليه حديث رافع بن خديج. وفيه الدلالة على ما ذكرنا من وجه آخر: وهو أنه نفى القطع فيها حتى يؤويه الجرين. والجرين: هو الموضع الذي يُجفف فيه التمر في الصحراء، وليس بحرزٍ، وهو الذي يسميه أهل البصرة: الجوخان، وغيره يسميه البيدر، ولا فائدة في ذكر الجرين إلا بلوغه حال الاستحكام، وامتناع إسراع الفساد إليه. وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: "في خمسٍ وعشرين من الإبل بنت مخاض، وفي ستٍ وثلاثين بنت ليون"، وليس المعنى: وجود المخاض واللين للأم، وإنما المعنى بلوغ هذا المقدار من السن، وكقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقبل صلاة حائض إلا بخمار". فإن قيل: أراد بذلك نفي القطع إلا عمن يسرق من حرز. فإن قيل: أراد بذلك نفي القطع إلا عمن يسرق من حرز. قيل له: قد بينا أن الجرين ليس بحرز، ولا ذكره مفيد لاعتبار الحرز في إيجاب القطع من غير هذا الخبر، فالواجب أن يكون لذلك فائدة مجددة غير الحرز، وهي ما وصفنا.

مسألة: [سرقة الخشب] قال: (ولا قطع في شيء من الخشب إلا في الساج). قال: (وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن القنا في ذلك كالساج، ويقطع فيه. وقال أبو يوسف: يقطع في الخشب كله إذا بلغ المقدار الذي يُقطع فيه). قال أبو بكر: الأصل في ذلك عند أبي حنيفة رضي الله عنه: أن كل خشب غير مباح الأصل في دار الإسلام، فإنه يقطع فيه؛ لأنه لا يوجد في دار الإسلام إلا مالاً، وهو كسائر الأموال. وكذا يجئ على قوله الآبنوس والصندل وسائر الخشب الذي لا يوجد في دار الإسلام. وإنما اعتبر ما يوجد منه في دار الإسلام مالاً، من قبل أن الأملاك الصحيحة هي التي توجد في دار الإسلام، وما كان في دار الحرب، فليس بملك صحيح؛ لأنها دار إباحة، وأملاك أهلها مباحة، فلا يختلف فيها حكم ما كان مملوكًا، أو ما كان مباحًا، فلذلك سقط حكمها في اعتبار ما يكون مالاً، ووجب اعتبار كونه مالاً في دار الإسلام، فإذا لم يكن مباح الأصل هاهنا، كان كسائر الأموال، فلذلك وجب فيه القطع. وأما سائر الخشب، فإنه لا يقطع فيه قياسًا على الكثر، وقد روي عن

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا قطع في ثمر ولا كثر". وقيل في الكثر قولان: أحدهما: أنه الجمار، والآخر: النخل الصغار، وهو عندنا على الأمرين، والجمار لا قطع فيه، وهو الأصل في سقوط القطع عما يسرع إليه الفساد، والكثر لا قطع فيه، وهو الأصل في نفي القطع عن كل خشب يوجد أصله مباحًا في دار الإسلام. فإن قيل: النخل غير مباح الأصل. قيل له: إنه مباح الأصل في كثير من المواضع، كسائر الشجر المباح الأصل وإن كان بعضها مملوكًا بالأخذ والنقل من موضع إلى موضع. * وأما أبو يوسف: فإن من قوله: أنه يقطع في كل شيء إلا في التراب والسرجين، والطين. مسألة: [سرقة الأحجار الكريمة وغيرها] قال: (ولا يقطع في زرنيخٍ، ولا مغرة، ولا نورة.

ويقطع في الياقوت والزبرجد ونحوهما). قال أبو بكر: الأصل فيه ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنه "لم يكن يقطع السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه"، يعني الحقير، فكل ما كان تافهًا مباح الأصل فلا قطع فيه، والزرنيخ، والنورة، والحص تافه مباح الأصل، ألا ترى أن أكثر الناس يتركونه في موضعه مع القدرة على أخذه. وأما الياقوت، فإنه غير تافه، بل هو ثمين رفيع، فيقطع فيه وإن كان مباح الأصل، كما قطع في سائر الأموال، لأن شريطة زوال القطع اجتماع المعنيين جميعًا، وهو أن يكون تافهًا في نفسه، ومباح الأصل. وأيضًا: فإنها أموال ليست للتبقية، بل للإتلاف، فهو كالخبز واللحم والماء ونحو ذلك، وأما الياقوت فهو مال مراد للتبقية والقنية، كالذهب والفضة. ويدلك على الفصل بينهما: أن الياقوت حيثما وجد مال مرغوب فيه، لا يترك مع القدرة عليه في أغلب الحال، والنورة ونحوها يتركها الناس مع القدرة عليها. مسألة: [الاشتراك في السرقة بين رجل في الحرز مع آخر خارج عنه] قال: (ومن سرق شيئًا، فلما انتهى به إلى باب البيت الذي سرقه منه، رماه إلى غيره، فأخذه، ثم خرج، فذهبا جميعًا: لم يقطع واحد منهما،

وإن رمى به خارجًا من البيت، ثم اتبعه فأخذه: قطع). قال أبو بكر: قال في الجامع الصغير: إذا ناوله صاحبًا له خارج الدار: لم يقطع، فإن رمي به ثم اتبعه، فأخذه: قطع، والذي ذكره أبو جعفر صحيح أيضًا، يروى ذلك عنهم في غير هذا الموضع. والأصل: أنه متى حصلت عليه يد أخرى غير يد الداخل قبل خروجه من الحرز: لم يقطع واحد منهما. فأما العلة في سقوط القطع إذا ناوله صاحبًا له خارج الدار: فهي أنهما قد اشتركا جميعًا في إخراجه من الحرز، والخارج لا قطع عليه؛ لأنه لم ينتهك الحرز، إذا لم يدخله، فصار ذلك شبهة في سقوطه عن الداخل؛ لأنه قد شاركه في الفعل من لا يجب عليه القطع، كرجلين قتلا رجلاً عمدًا، وأحدهما أبوه، أو كان أحدهما عامدًا، والآخر مخطئًا، وكمجوسي ومسلم ذبحا شاة، فلا يُقتص من واحد منهما، ولا تؤكل الذبيحة. وأما إذا رمى به خارج الدار، فأخذه صاحبه قبل أن يخرج هو من الدار، فإن المعنى في سقوط القطع: أنه قد حصلت عليه يد أخرى قبل خروجه من الحرز، فخرج من الحرز وليس الشيء في يده، وإنما يتعلق وجوب القطع أيضًا بخروجه من الحرز والشيء معه؛ لأنه لو أخذ قبل أن يخرج من الحرز: لم يقطع، فوجب اعتبار حال خروجه من الحرز، فإن كان الشيء في يده: قطع، وإلا: لم يقطع.

وهذه العلة تنتظم صحة المسألتين جميعًا، أعني: إذا ناوله إياه، أو رمي به فأخذه الآخر. وأما إذا رمى به خارجًا، فلم يأخذه أحد، حتى خرج هو، فأخذه: فعليه القطع؛ لأن رميه به خارجًا لا يخرجه عن يده، ألا ترى أن من كان في يده شيء، فوضعه بين يديه أن ذلك لا يخرجه عن يده، ألا ترى أن رجلاً لو وضع ثوبًا بين يديه، فسرقه سارق: أنه يقطع، ولولا أن يده ثابتة عليه ما قطع سارقه، لأن السارق من غير يد لا قطع عليه. * (وقال أبو يوسف: يقطع الداخل إذا ناوله الخارج، ولا يقطع الخارج إذا لم يدخل يده إلى الحرز، فإن أدخل يده إلى الحرز: قطعا جميعًا). مسألة: [نقصان سعر المسروق عن نصاب السرقة قبل قطع السارق] قال: (ومن سرق ما يجب فيه القطع، فلم يقطع فيه حتى نقصت قيمته، فصارت دون ما يجب فيه القطع: قطع). قال أبو بكر: هذا عندهم على وجهين: إن كان النقصان لعيب حادث، أو تلف بعض أجزائه: فإنه يقطع. وإن كان نقصان سعر من غير تلف شيء من أجزائه: لم يقطع فيه، وذلك لأن إتلاف جميع أجزائه واستهلاكه إياه، لا يسقط القطع، فكذلك ذهاب بعضها، ولأن الجزء التالف في حكم الباقي في باب أنه متى سقط القطع لشبهة ضمنه.

وإذا كان النقصان من سعر، فإنما لم يقطع لأن ما يعرض قبل القطع في معنى ما كن موجودًا في حال الفعل، فلما كان المسروق لو كانت قيمته وقت الأخذ هذا المقدار، لم يقطع فيه، كذلك إذا صار إليها قبل القطع، وقد بينا هذا الأصل فيما تقدم. وأيضًا: فإن نقصان السعر غير مضمون عليه عند سقوط القطع، فلم يكن الحادث من النقصان بمنزلة ما هو باق في الحكم، فلذلك سقط القطع. مسألة: [اشتراك جماعة في دخول الحرز، ثم قيام أحدهم بالأخذ والحمل] قال: (ومن دخل عليه جماعة، فولي رجل منهم أخذ متاعه وحمله: قطعوا جميعًا). وذلك لاشتراكهم جميعًا في السبب الذي يتعلق به وجوب القطع، وهو انتهاك الحرز، فأشبه قطاع الطريق إذا ولي بعضهم أحد المتاع أو القتل، والباقون قيام، فيجري الحكم عليهم جميعًا، لاشتراكهم جميعًا في السبب الموجب لإجراء حكم قطاع الطريق عليهم، وهو الاجتماع والمنعة، وكالجيش يدخلون دار الحرب، فيلي بعضهم القتال، وبعضهم أخذ الغنائم، فيشتركون جميعًا، لاشتراكهم في السبب الذي به حصلت الغنيمة، وهو المنعة والاجتماع. وليس هذا كالرجل يمسكه قوم، ويقتله أحدهم، أو يتظاهرون على امرأة فيزني بعضهم، فيقتل القاتل، ويحد الزاني دون المعين والظهير؛

لأن صحة الزنى إنما تتعلق بفعل الزاني، دون حضور المعين والظهير، وكذلك صحة القتل تتعلق بفعل القاتل، دون معاونة الغير عليه، ولا سبب في ذلك دون وجود الفعل، وأما السرقة وقطع الطريق، فهما يتعلقان بوجود أسباب غير الأخذ، وهو انتهاك الحرز، ووجود المنعة، فلما تساووا في السبب، تساووا فيما استحقوا من الجزاء. مسألة: [السرقة من النائم في الطريق] قال: (ومن كان نائمًا في طريق، ومعه متاع، وكان بحيث يكون حافظًا له، فسرقه سارق: قطع). وذلك لأنه حرز للمتاع بحضوره، والأصل فيه: "قصة صفوان بن أمية حين سرق رداؤه من تحت رأسه، وهو نائم في المسجد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع السارق". مسألة: [السرقة من فوق الدابة] قال: (ومن سرق من إبلٍ قيامٍ عليها أحمالها، أو كانت تسير، فشق جوالقًا، فسرق ما فيها: قطع، وإن سرق الجوالق نفسه: لم يقطع). وذلك لأن ما في الجوالق محرز بالجوالق، كما يكون محرزًا بالكم وبالصندوق وبالبيت، فلذلك قطع.

وأما الجوالق نفسه، فليس بمحرز بشيء، فلا قطع على سارقه، إذ لم يأخذه من حرز، وهذا مثل الفسطاط يكون ما فيه محرزًا به، ويقطع سارقه، ولا يقطع سارق الفسطاط نفسه، وكما يكون المتاع محرزًا بحافظه، ويقطع سارق المتاع، ولو احتمل الحافظ نفسه، وذهب به: لم يقطع. مسألة: [حكم النباش] قال: (ولا يقطع النباش في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: يُقطع كما يقطع فيما سرق من الحرز). لأبي حنيفة رضي الله عنه: أن القبر ليس بحرز، والدليل عليه: اتفاق الجميع على أنه لو كان هناك دراهم مدفونة، فسرقها: لم يقطع، لعدم الحرز، كذلك الكفن. فإن قيل: فالأحراز تختلف، فمنها ما يكون مثل شريجة البقال لما في الحانوت، والإصطبل للدواب، والدور للأموال، وقد يكون الرجل حرزًا لما هو حافظ له، وكل شيء من ذلك حرز لما يُحفظ به ذلك الشيء في العادة، ولا يكون حرزًا لغيره، فلذلك لو سرق الدراهم من إصطبل: لم يكن سارقًا من حرز، وكذلك القبر لما لم يكن حرزًا للدراهم، وكان حرزًا للكفن، لم يقطع في الدراهم، وقُطع في الكفن؛ لأنه حرز مثله.

قيل له: هذا كلام فاسد من وجهين: أحدهما: أن الأحراز وإن كانت مختلفة في أنفسها، فليست مختلفة في كونها حرزًا لجميع ما يجعل فيها، لن الإصطبل لما كان حرزًا للدواب، فهو حرز للدراهم والثياب، ويقطع فيما يسرقه منه، وكذلك حانوت البقال لو سرق منه ثيابًا، أو شاة أو دراهم: قطع. وقولك: إن الإصطبل حرز للدواب، ولا يُقطع من سرق منه دراهم: غلط. والوجه الآخر: أن قضيتك هذه لو كانت صحيحة، لكانت مانعة من وجوب القطع في الكفن، وذلك لأن الكفن لا يجعل في القبر ليحرز به، ولا يحفر القبر لتحفظ به الأكفان، وإنما هو لدفن الميت فيه، وإخفائه عن عيون الناس، وأما الكفن فإنما جُعل هناك للبلى والهلاك. وجهة أخرى: وهو أن الكفن لا مالك له، والدليل عليه: أنه من جميع المال، فدل أنه ليس في ملك أحد، ولا موقوف على أحد، فلما صح أنه من جميع المال، وجب أن لا يملكه الورثة، كما لا يملكون ما صُرف في الدين الذي هو من جميع المال. ويدل عليه أيضًا: أن الكفن يبدأ به على الديون، فإذا لم يملك الوارث ما يقضي به الدين، فلأن لا يملكون الكفن أحرى، وإذا لم يملكه الوارث، واستحال أن يكون الميت مالكًا، وجب أن لا يقطع سارقه، كما لا يقطع السارق من بيت المال، وأخذ الأشياء المباحة؛ لأنه لا مالك لها. فإن قيل: جواز مخاصمة الورثة في المطالبة بالكفن، دال على أنه في ملكهم. قيل له: كما يطالب الإمام بما يسرق من بيت المال ولا يملكه.

ووجه آخر: وهو أن الكفن يجعل هناك للبلى، لا للقنية والتبقية، فصار بمنزلة الخبز واللحم والماء، الذي للإتلاف لا للقنية. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه ومكحول مثل قبول أبي حنيفة رضي الله عنه. وقال الزهري: "أجمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمنٍ كان مروان أميرًا على المدينة أن النباش لا يُقطع، ويعزر، وكان الصحابة رضي الله عنهم متوافرين يوميئذٍ". قال أبو بكر: وهذا يوجب أن يكون ذلك إجماعًا منهم، لا يسع من بعدهم خلافه. * وقال إبراهيم ومسروق والشعبي وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، وحماد، وابن أبي ليلى: يُقطع. فإن قيل: إن القبر حرز للكفن، لما روى عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنت إذا أصاب الناس موت، يكون البيت فيه بالوصيف، يعني القبر. قلت: الله ورسوله أعلم. قال: عليك بالصبر"، فسمى القبر بيتًا.

قال: حماد بن أبي سليمان: يُقطع النباش؛ لأنه دخل على الميت بيته. قيل له: إنما سماه بيتًا على طريق المجاز؛ لأن البيت في الحقيقة في لغة العرب: اسم موضوع لما كان مبنيًا ظاهرًا على وجه الأرض، وإنما سمى القبر بيتًا تشبيهًا بالبيت المبني. وعلى أن قطع السرقة ليس متعلقًا بكونه سارقًا من بيتٍ فيه المال، إلا على شريطة أن يكون ذلك البيت حرزًا لما يُجعل فيه، وقد بينا أن القبر ليس بحرز، ألا ترى أن المسجد يسمى بيتًا، قال تعالى:} في بيوتٍ أذن الله أن ترفع {، ولو سرق من المسجد: لم يُقطع إذا لم يكن له حافظ. وأيضًا: فلا خلافٍ أنه لو كان في القبر صرة دراهم مدفونه، فسرقها: لم يُقطع وإن كان بيتًا، فعلمنا أن القطع في السرقة غير متعلق بكونه بيتًا. مسألة: [السرقة من الحانوت] قال: (ومن سرق من حانوت تاجرٍ مأذونٍ في دخوله: لم يُقطع). وذلك لأن الإذن في دخوله يُخرجه من أن يكون ما فيه محرزًا منه، فصار كالخائن، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا قطع

على خائن". مسألة: [لا فرق في حكم السرقة بين الذكر والأنثى] قال: (والنساء في السرقة كالرجال). لقول الله تعالى:} والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما {. مسألة: [حكم الصبي والمجنون في السرقة] قال: (ولا يُقطع صبي، ولا مجنون فيما سرقاه). وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق". ويضمنان؛ لأن سقوط القطع يوجب ضمان ما أخذا، وهو حق آدمي، ولا يتعلق حكمه بصحة التكليف. مسألة: [سرقة الدف والمزمار، والفهد ونحوها] قال: "ولا قطع في سرقة دف ولا طبل ولا مزمار، ولا فهدٍ، ولا كلب".

أما الدف والطبل والمزمار، فلأن من الفقهاء من يرى أخذه بغير أمر مالكه، وكسره، فصار ذلك شبهة في نفس الفعل، هل هو سرقة أم مباح؟ فصار كالقتل إذا اختلف فيه: هل هو عمد أو خطأ؟ فلا يجب القود به، وكالوطء المختلف في كونه زنى أو غير زنى؟ فلا يوجب الحد، كذلك ما وصفنا. وأما الكلب والفهد، فلأنهما من التافه المباح الأصل، كالطير وسائر الصيد. مسألة: [السرقة من رؤوس الأشجار] قال: (ولا قطع في سرقة تمر من رؤوس النخل، ولا حنطة وهي سنبلٍ في منبتها، ولا ثمر، ولا كثر، فإن أحرز الثمر، وجعل في حظيرة، وأغلق عليه باب، أو حصدت الحنطة، ففعل فيها مثل ذلك: كان على من سرق منهما القطع إذا بلغ المقدار). قال أبو بكر: وأما الثمر في رؤوس النخل، والحنطة في سنبلها أو في منبتها، فلا قطع فيها، سواء كان محرزًا أو غير محرز، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا قطع في ثمر وكثر"، في حديث رافع بن خديج.

وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الثمر المعلق إذا سرق، فقال: فيه جلدات نكال، فإذا آواه الجرين ففيه القطع". ولم يفرق عليه الصلاة والسلام في ذلك بين ما كان محرزًا أو غير محرز. مسألة: [من سرق صبيًا حرًا] قال: (ومن سرق صبيًا حرًا: لم يقطع: كان عليه حلي أو لم يكن). وذلك لأنه ليس بمال، فلا يتقوم، ووجوب القطع في السرقة يتعلق بمالٍ له مقدار، فلما لم يتقوم الحر، لم يكن في سرقته قطع. ولا يقطع أيضًا إن كان عليه حلي؛ لأن المقصود هو الشخص، دون ما عليه. مسألة: [سرقة المملوك] قال: (ومن سرق مملوكًا: قطع). قال أبو بكر: هذا إذا كان صغيرًا لا يتكلم ولا يعقل، هكذا رواه هشام، وروى ابن سماعة: إذا كان لا يتكلم، ولم يقل: لا يعقل. فأما إذا كان كبيرًا: فإنه لا يقطع؛ لأنه حينئذٍ لا يخلو من أحد وجهين:

إما أن يكون خدعة، فخرج معه، فهذا ليس بسرقة، أو يكون احتمله وقهره، فهذا بمنزلة المختلس، فلا يجب فيه القطع. وأما إذا كان صغيرًا لا يعقل: فهو بمنزلة البهيمة، فيقطع سارقه. * وأما أبو يوسف فإنه قال: لا يقطع في المملوك وإن كان صغيرًا. مسألة: [من سرق ثوبًا وشقه نصفين قبل إخراجه من الحرز] قال: (ومن سرق ثوبًا، ولم يخرجه من حرزه حتى شقه نصفين، وهو يساوي بعد شقه عشرة دراهم: قطع إذا طلب ذلك رب الثوب، ولم يكن عليه فيما شق من ثوبه ضمان). قال أبو بكر: وذلك لن القطع في السرقة متعلق بإخراجه من الحرز، وقد أخرجه من الحرز، وهو يساوي عشرة دراهم، فكأنه سرق وهو مشقوق. قيل له: إنما تعلق به الضمان على حسب تعلقه بنفس الأخذ، وهو على شريطة أن لا يقطع فيه، فمتى وجب القطع، سقط الضمان. * وأما قوله: وليس عليه ضمان النقصان الحادث بالشق، فإن عمرو بن أبي عمرو وغيره قد رووا عن محمد عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن له أن يضمنه النقصان مع القطع؛ لأن الجزء الفائت قبل إخراجه من الدار

لم يثبت فيه حكم السرقة، فيكون القطع واقعًا له، فمن أجل ذلك يجب أن يضمن النقصان بالشق. وليس ذلك كاختياره تضمين قيمة الثوب؛ لأنه يملك جميع الثوب بالتضمين، وملكه له يمنع القطع. ولا أدري من أين وقع إلى أبي جعفر أنه لا يضمن النقصان؟ * قال أبو جعفر: (وإن كان لا يساوي عشرة حين أخرجه: لم يقطع) وذلك لما وصفنا من تعلق القطع بإخراجه من الحرز، وقد أخرجه من الحرز، وهو لا يساوي ذلك، فلا يقطع فيه. (ولكن رب الثوب بالخيار: إن شاء أخذ ثوبه مشقوقًا، وضمنه النقصان)، لأن باقي الثوب يمكن الانتفاع به، كمن قطع يد عبد رجلٍ، فيضمن أرشها. (وإن شاء سلم إليه الثوب، وأخذ قيمته منه)، وذلك لأن شقة على هذا الوجه يأتي على عامة منافع الثوب، فله أن يضمنه جميع القيمة، كمن فقأ عيني عبد رجلٍ، فله أن يسلم إليه العبد، ويضمنه جميع القيمة. * قال أبو جعفر: (وإن قال رب الثوب: أنا أضمن الجاني قيمة ثوبي صحيحًا، وأسلم إليه ثوبي، وقيمته مشقوقًا عشرة دراهم: فله ذلك، ورفع بذلك القطع عن السارق، وهذا كله قول أبي حنيفة رضي الله عنه). وذلك لأن شق الثوب على هذا الوجه يوجب له الخيار في التضمين، ومتى اختار تضمينه استتم ملكه الثوب إلى حال وجوب الضمان، فلم يجز قطعه في ملكه. * قال أبو جعفر: (وأما في قول أبي يوسف، وقياس قول محمد:

فإن لا يقطع في شيء من ذلك؛ لأن السارق لم يخرج السرقة من حرزها وجب ضمانها). قال أبو بكر: أما محمد، فلا خلاف عنه أن قوله في ذلك مثل قول أبي حنيفة، ولا أدري على أي أصل قاس أبو جعفر هذه المسألة من أصول محمد؟ وأما قول أبي يوسف، فقد روى ابن سماعة عن أبي يوسف: أنه يقطع في الثوب إذا شقه قبل إخراجه، وفي الشاة أيضًا إذا ذبحها قبل أن يخرجها. وحكي ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه لا يقطع في الثوب، ولا في الشاة إذا ذبحها. والمشهور من قول أبي حنيفة: قطعه في الثوب، ولا يقطع في الشاة إذا ذبحها قبل إخراجها؛ لأنه أخرجها وهي لحم، ولا قطع في سرقة اللحم. وقول أبي يوسف سديد في الشاة أيضًا؛ لأن من أصله: أنه يقطع في اللحم إذا سرقه، وهو قوله الأخير. وأما وجه ما روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لا يقطع في الثوب أيضًا، فلأن ضمان جميع الثوب قد تعلق عليه بالتخريق قبل الإخراج، فلو قطعناه كان القطع موقوفًا على اختيار رب الثوب لقطعه، وإبرائه من ضمان القيمة، ولا يجوز أن يكون القطع موقوفًا على اختياره؛ لأن وجوب القطع

يتعلق باختيار المسروق منه. وما ذكره أبو جعفر من قول أبي يوسف: إنه لا يقطع في شيء من ذلك، فإنه رواية قد رويت عن أبي يوسف. مسألة: [مكان القطع وكيفيته] قال أبو جعفر: (والواجب على السارق إذا وجب عليه القطع: قطع يده اليمنى من المفصل، فإن كانت اليمنى مقطوعة قبل ذلك: قطعت رجله اليسرى من المفصل، فإن كانت اليسرى قد قطعت قبل ذلك: لم يقطع منه بعد ذلك شيء، وضمن السرقة، واستودع السجن حتى يحدث توبة). قال أبو بكر: أما وجوب قطع اليمنى بدءًا، فلا خلاف فيه بين الأمة، وفي حرف عبد الله:} والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما {. * وقطعهما من مفصل الزند لا خلاف بين أهل العلم فيه. ويحكى عن قومٍ من الخوارج أنهم يقطعون من المنكب، وهو قول شاذ؛ لأنهم لا يعتد بهم في الخلاف. * وأما قوله: إنه لا يقطع بعد قطع الرجل اليسرى، وهو قول مشهور عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم. وروى عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مكحول أن عمر رضي الله

عنه قال: "لا تقطعوا يده بعد اليد والرجل، ولكن احبسوه عن المسلمين". وروى سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر رضي الله عنه أراد أن يقطع الرجل بعد اليد والرجل، فقال له عمر: السنة اليد. وقال الزهري: انتهى أبو بكر رضي الله عنه في قطع السارق إلى اليد والرجل. وهذا الذي ذكرناه يقتضي أن يكون ذلك اتفاقًا من جميع من ذكرنا من قوله، أنه لا يقطع بعد الرجل اليسرى. وقد روى أبو خالد الأحمر عن حجاج عن سماك عن بعض أصحابه "أن عمر رضي الله عنه استشارهم في السارق، فأجمعوا على أنه تقطع يده اليمنى، فإن عاد فرجله اليسرى، ثم لا يقطع أكثر من ذلك". وهذا يقتضى أن يكون ذلك إجماعًا لا يسع خلافه؛ لأن الذين يستشيرهم عمر رضي الله عنهم هم الذين ينعقد بهم الإجماع. وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قطع اليد بعد قطع اليد

والرجل في قصة الأسود الذي نزل بأبي بكر رضي الله عنه ثم سرق حلي أسماء. رواه سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم وهو مرسل، وأصله حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً خدم أبا بكر رضي الله عنه، فبعثه مع مصدق، وأوصاه به، فلبث قريبا من شهر، ثم جاء وقد قطعه المصدق، فلما رآه أبو بكر رضي الله عنه قال: مالك؟ قال: وجدين خنت فريضة فقطع يدي. فقال أبو بكر رضي الله عنه: إني لأراه يخون أكثر من ثلاثين فريضة، والذي نفسي بيده لئن كنت صادقًا لأقيدنك منه، ثم سرق حلي أسماء بنت عميس، فقطعه أبو بكر. فأخبرت عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر قطعه بعد قطع المصدق يده، وذلك لا يكون إلا قطع الرجل اليسرى. وهو حديث صحيح لا يعارض بحديث القاسم. وعلى أنه لو تعارضا لسقطا جميعًا، ولم يثبت بهذا الحديث عن أبي بكر رضي الله عنه شيء، وبقيت لنا الأخبار الأخر التي ذكرناها عن أبي بكر في الاقتصار على الرجل اليسرى. فإن قيل: روى خالد الحذاء عن محمد بن حاطب أن أبا بكر قطع يدًا.

بعد يد ورجل. قيل له: لم يقل في السرقة، ويجوز أن يكون في قصاص. فإن قيل: روى عثمان رضي الله عنه أنه ضرب عنق رجل بعد ما قطع أربعة. قيل له: ليس فيه أنه قطعه في السرقة، ويجوز أن يكون في قصاص، ويدل عليه نفس الحديث، لأنه ضرب عنقه، والسرقة لا يستحق بها ضرب العنق. فلم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف لما ذكرنا قوله ممن رأي الاقتصار على اليد والرجل، فثبت حجته من هذا الوجه. * ومن جهة أخرى: إنا قد حكينا عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم هذا القول، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي". * ودليل آخر لأصحابنا رضي الله عنهم: وهو قول الله تعالى:} فاقطعوا أيديهما {، فأضافها إليهما بلفظ الجمع، فثبت أن المراد بالآية من كل واحد منهما يد واحدة؛ لأنه لو كان المراد اليدين، لقال: يديهما، إذ من شأن العرب أنها إذا أضافت إلى شخصين عضوًا واحدًا من كل واحد منهما، أضافته بلفظ الجمع، كقول الله تعالى:} إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما {؛ لأن لكل واحد منهما قلبًا واحدًا، وكذلك لما أضاف

تعالى الأيدي إليهما بلفظ الجمع، علم أن المراد: أن اليد التي لكل واحد منهما واحدة، وهي اليمنى. ويدل عليه حرف عبد الله رضي الله عنه:} فاقطعوا أيمانهما {، وكذلك هو في حرف ابن عباس رضي الله عنه، والحسن وإبراهيم. وإذا ثبت أن الذي تناولته الآية يد واحدة، ولا يجوز الزيادة عليها إلا من جهة التوقيف أو الاتفاق، وقد ثبت الاتفاق في الرجل اليسرى، واختلفوا بعد ذلك في اليد اليسرى، فلم نقطعها مع عدم التوقيف والاتفاق، إذ لا يجوز إثبات الحدود إلا من أحد هذين الوجهين، وكذلك الزيادة عليها، ولأن الزيادة على ذلك كالزيادة في حد الزنى، وذلك يوجب نسخ الأصل، ولا يجوز الزيادة فيه إلا بمثل ما يجوز به النسخ. فإن قيل: قوله:} فاقطعوا أيديهما {: يقتضي قطع اليد اليسرى، ولولا الاتفاق لما عدلنا عنها إلى الرجل اليسرى قبلها. قيل له: أما قولك إن الآية مقتضية لقطع اليد اليسرى، فليس ذلك عندنا؛ لأنها إنما اقتضت يدًا واحدة، لما وصفنا من إضافتها إلى الأثنين بلفظ الجمع دون التثنية، وإن ما كان هذا وصفه يقتضي يدًا واحدة من كل واحد منهما. ثم قد اتفقوا أن اليمين مرادة، فانتفى أن تكون اليسرى مرادة باللفظ، لما وصفنا من قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنه:} فاقطعوا أيمانهما {.

وعلى أنه لو كان لفظ الآية محتملاً لما وصفت، لكان لاتفاق الأمة على قطع الرجل بعد اليمنى دون اليد اليسرى، دلالة على أن اليسرى غير مرادة، إذ لا جائز ترك المنصوص والعدول عنها إلى غيرها. * ووجه آخر: وهو أن اتفاق الأمة على قطع الرجل بعد اليد، دلالة على أن اليسرى غير مقطوعة رأسًا، لأن العلة في ترك قطع اليد اليسرى بعد اليمنى، أن في قطعها على هذا الوجه إبطال منفعة الجنس، وهذه العلة موجودة بعد قطع الرجل اليسرى. ومن جهة أخرى: إنه لم يقطع بعد يده اليمنى ورجله اليمنى، لما فيه من بطلان منفعة المشي رأسًا، كذلك لا تقطع اليد اليسرى بعد اليمنى، لما فيه من بطلان منفعة البطش، وهو من منافع اليد، كالمشي من منافع الرجل. * ودليل آخر: وهو اتفاق الجميع على أن المحارب وإن عظم جرمه في أخذ المال، لا يزاد على قطع اليد والرجل، لئلا تبطل منفعة جنس الأطراف، كذلك السارق وإن كثر الفعل منه، فإن عظم جرمه لا يوجب الزيادة على قطع اليد والرجل. * فإن احتجوا بما رواه عبد الله بن نافع قال: أخبرني حماد بن أبي حميد عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق، فأمر به أن تقطع يده، ثم أتي به مرة أخرى قد سرق، فأمر به أن تقطع رجله، ثم أتي به مرة أخرى قد سرق، فأمر به أن تقطع يده، ثم سرق، فأمر به أن تقطع رجله، حتى

قطعت أطرافه كلها". قيل له: رواية حماد بن أبي حميد وهو ممن يضعف. وعلى أن هذا حديث مختصر، وأصله: ما حدثنا به عن أبي داود السجستاني قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل الهلالي قال: حدثني جدي قال: حدثني مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: "جئ بسارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقتلوه. قالوا: يا رسول الله! إنما سرق، قال: اقطعوه، قال: فقطع، ثم جئ به الثانية، قال: اقتلوه، قالوا: يا رسول الله! إنما سرق، قال: اقطعوه فقال: فقطع. ثم جئ به الثالثة، فقال: اقتلوه، قالوا: يا رسول الله! إنما سرق، قال: اقطعوه. ثم أتي به الرابعة، فقال: اقتلوه، فقالوا يا رسول الله! إنما سرق، قال: اقطعوه. فأتي به الخامسة، فقال: اقتلوه، قال جابر: فانطلقنا، فقتلناه، ثم اجتررناه، فألقيناه في بئر ورمينا عليه الحجارة". ورواه أبو معشر عن مصعب بن ثابت مثله بإسناده، وقال: "فخرجنا به إلى مربد النعم، فحملنا عليه النعم، فأشار بيديه ورجليه، فنفرت الإبل

عنه، فتلقيناه بالحجارة حتى قتلناه". ورواه يزيد بن سنان قال: حدثني هشام بن عروة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق، فقطع يده، ثم أتي به قد سرق، فقطع رجله، ثم أتي به قد سرقن فأمر بقتله". وروى حماد بن سلمة عن يوسف بن سعد عن الحارث بن حاطب "أن رجلاً سرق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقتلوه، فقال القوم: إنما سرق. قال: اقطعوه، فقطعوه. ثم سرق على عهد أبي بكر فقطعه، ثم سرق فقطعه، حتى قطعت قوائمه كلها، ثم سرق الخامسة، فقال أبو بكر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم به حين أمر بقتله، فأمر به فقتل". فالذي ذكرناه من حديث مصعب بن ثابت هو أصل الحديث الذي رواه حماد بن أبي حميد، وفيه الأمر بقتله بدءًا، ومعلوم أن السرقة لا يستحق بها القتل، فثبت أن قطع هذه الأعضاء لم يكن على جهة الحد المستحق بالسرقة، وإنما كان على جهة تغليظ العقوبة والمثلة، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في "قصة العرنيين: أنه قطع أيديهم وأرجلهم وسملهم"، وليس السمل حدًا في قطاع الطريق، فلما نسخت

المثلة، نُسخ بها هذا الضرب من العقوبة، فوجب الاقتصار على اليد والرجل لا غير. ويدل على أن قطع الأربع كان على وجده المثلة، لا على وجه الحد: أن في حديث جابر: "أنهم حملوا عليه النعم، ثم قتلوه بالحجارة"، وذلك لا يكون حدًا في السرقة بوجه. مسألة: [إذا كان السارق أشل اليمنى] قال أبو جعفر: (وإن كان أشل اليد اليمنى، صحيح اليسرى: قطعت يمينه الشلاء). قال أبو بكر: وذلك لأن نقصان اليمنى لا يمنع قطعها، إذ لو كانت صحيحة مستحقة للإتلاف بالقطع، فيقطع ما بقى. مسألة: [إذا كانت شماله شلاء] قال: (وإن كانت يمينه صحيحة، وشماله شلاء: لم يقطع) قال أبو بكر: وذلك لما بينا أنه لا يجوز أن يستحق بالسرقة قطعًا يوجب عليه إتلاف منافعه، كما لا تقطع اليسرى عندنا بعد قطع اليمنى، لهذه العلة بعينها. ووجهة أخرى: وهي أن المستحق عليه بالسرقة قطع اليمنى فحسب، فإذا كانت شماله شلاء، لحقه من الضرر بقطع اليمنى أكثر مما هو مستحق عليه بالسرقة، فلم يقطع. والأصل فيه: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه أمر بقطع

السارق، ثم حسمه، لئلا يلحقه من الضرر أكثر مما هو مستحق بالسرقة. وحديث علي رضي الله عنه حين "أمره النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد على جارية زنت، فلما رآها نفساء، وخشي عليها من إقامة الحد عليها، تركها، ثم ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فرضيه". ولاتفاق الجميع على أن المريض، ومن يخشى عليه الحر والبرد أنه لا يقطع، لئلا يلحقه من الضرر أكثر مما هو مستحق بالسرقة. كذلك إذا كانت اليسرى شلاء أو مقطوعة: لا يقطع لما وصفنا. * قال: (وكذلك إذا كانت الرجل اليمنى شلاء: لم تقطع)؛ للعلة التي وصفناها. مسألة: [لو قطعت يد السارق قبل حكم الحاكم] قال: (ومن وجب عليه القطع في السرقة، فلم يُقطع، حتى قطع قاطع يمينه: كان له القصاص على القاطع، ولم يقطع بعد ذلك في تلك السرقة). وذلك لأن سرقته لم تبح قطع يمينه مالم يأمر الحاكم بقطعه؛ لأن إقامة الحدود على الأئمة، ومن أمروه بإقامتها، فإذا لم تكن السرقة مبيحة لقطع يمينه لسائر الناس، وكانت محظورة بعد السرقة كهي قبلها، وجب

على قاطعها القصاص، كوجوبه عليه لو لم يكن سرق، ألا ترى أن من زنى وهو محصن، ثم قتله رجل: وجب عليه القصاص؛ لأن حظر دمه لم يزل بوقوع الزنى منه. * وإنما لم يقطع بعد ذلك في السرقة؛ لأن وجوب القطع كان متعينًا في اليمنى بالسرقة، فلا ينتقل إلى غيرها، كما أن من وجب له قصاص في يمنى رجل، لم ينتقل إلى اليسرى بتعذر استيفائه من اليمنى. مسألة: (ومن سرق وإبهامه اليسرى أو أصبعان غيرها مقطوعة منها: لم تقطع يده). قال أبو بكر: قد بينا أن عدم اليد اليسرى يمنع قطع اليمنى في السرقة، فما أتى على عموم منافع اليسرى يمنع أيضًا القطع في اليمنى، ومعلوم أن النقص اليسير في اليسرى لا يمنع قطع اليمنى، مثل أن يكون أنملة من أصابع اليسرى مقطوعة، أو تكون فيها أصبع زائدة، وإذا ثبت أن قليل النقص لا يمنع، والكثير يمنع، جعلوا ذهاب الإبهام نقصانًا كثيرًا؛ لأن بها قوة اليد. ألا ترى أنها تشارك سائر الأصابع في القبض والبسط، وتقويها وتعينها على أعمالها، فكان بذهابها عامة منافع اليد، فصارت اليسرى كأنها معدومة، وكذلك إذا كانت أصبعان من اليسرى مقطوعة، ضعفت قوى باقي الأصابع، فكان نقصانًا كثيرًا مانعًا من قطع اليمنى.

فإن قيل: فقد جعلت الإبهام مساوية لغيرها في الأرش، فهلا كانت مساوية لغيرها فيما وصفت؟. قيل له: كما كانت العين مساوية لليد ي أرشها، ولم يجز أن تقوم عنها في استيفاء حق السرقة فيها، وكما لا يمنع ذهاب العين من القطع في السرقة، ويمنع ذهاب اليد اليسرى. وأما إذا كانت أصبع واحدة مقطوعة من اليسرى سوى الإبهام، فإنهم جعلوا ذلك نقصانًا يسيرًا، بمنزلة قطع الأنملة والأصبع الزائدة؛ لأن ذهابها لا يأتي على عامة منافع اليد. مسألة: [سرقة الخمر من نصراني] قال: (ومن سرق من نصراني خمرًا: لم يقطع فيها). وذلك لأنها ليست بمال لنا، وإنما أقر هؤلاء على أن تترك مالاً لهم بالعهد والذمة التي أعطوها، فلم يقطع سارقها؛ لأن ما كان مالاً من وجه، غير مال من وجه آخر، كان أقل أحواله أن يكون ذلك شبهة في درء القطع عن سارقه. كما أن من وطئ جارية بينه وبين غيره: لم يجب عليه الحد وإن كان واطئًا لملك غيره؛ لأن له فيها ملكًا من وجه، كذلك الخمر لما لم تكن مالاً لنا: لم يقطع فيها وإن كانت مالاً لهم. مسألة: [إذا قطع منفذ الحد اليد اليسرى خطأ أو عمدًا] قال: (ومن سرق، فأمر الإمام بقطع يده المينى، فقطع المأمور يده

اليسرى عمدًا أو خطأ، فإن أبا حنيفة قال: لا ضمان عليه، وقال أبو يوسف، ومحمد: إن كان فعل ذلك خطأ: فلا شيء عليه، وإن كان عمدًا ضمن). وجه قول أبي حنيفة رحمه الله في العمد: أنه قد حصل للمقطوع عوض اليسار، وهي اليمين؛ لأنها قد كانت مستحقة بالسرقة، فلما قطع اليسار، سقط القطع به عن اليمين، وحصل ما هو خير له من المقطوعة، فلم يضمنها: عمدًا كان أو خطأ. ومن جهة أخرى: وهي أن حكم الحاكم بذلك يبيح قطع اليمنى، واستيفاء الحد منها، واستيفاؤه يوجب إسقاطه عنها، فلما كان مسقطًا للحد عن اليمنى بقطع اليسرى، وجب أن يكون مستوفيًا للحد الواجب فيها، فكان كقطع اليمنى، إذ كان مستوفيًا للحد في الحالين. فإن قيل: كيف يكون مستوفيًا للحد به، وهو منهي عن ذلك؟ قيل له: كونه منهيًا عنه لا يمنع وقوع استيفاء الحد به على الوجه الذي ذكرنا، والدليل عليه: أن الإمام لو حكم عليه بالرجم، فضرب رجل عنقه: لم يكن عليه شيء، وكان مستوفيًا للحد من حيث كان مسقطًا له، فكذلك ما وصفنا. * ووجه قول أبي يوسف ومحمد: أن قطع السارق واقع له، لما فيه من زجره عن العود إلى مثل هذا الفعل، قال الله تعالى:} والسارق

والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله {، فإذا أخطأ فيه، لم يلزمه الضمان؛ لأنا لو ضمناه، لوجب له الرجوع به على السارق، ومن أجل ذلك لم يضمن النفس إذا تولدت من القطع، إذ لو ضمنها، لكان حاصل الضمان على من قطع له، وهو السارق، فمن حيث يجب فيسقط. وأما إذا قطعها عمدًا، فلم يأخذها السارق، لأن اليسرى لا تستحق بالسرقة، فلزمه الضمان عندهما، إذ كان متعمدًا في أخذها. مسألة: [إقرار العبد المأذون له بالسرقة] قال أبو جعفر: (وما أقر به العبد من سرقة مال، أو قتل عمد، أو قذف محصنة: صدق عليه، وأقيم عليه الواجب فيه، والمال للمقر له إذا كان العبد مأذونًا له، والمال قائم بعينه). قال أبو بكر: الأصل في ذلك: أن كل ما لا يملكه المولى من عبده، فإن العبد يملكه من نفسه، ويكون فيه بمنزلة الحر؛ لأن العبد مكلف جائز القول على نفسه، إلا فيما يملكه المولى، فلا ينفذ عليه في حال الرق، لأنه إقرار على الغير، ولا يجوز إقرار الإنسان على غيره. فقلنا من أجل ذلك: إن المولى لما لم يجز إقراره على عبده بما يوجب عليه الحد، أو القصاص باتفاق المسلمين: علمنا أن المولى لا يملك ذلك من عبده، ألا ترى أن المولى لما ملك رق العبد، وكان جائز التصرف، جاز إقراره على العبد بالدين الذي استحق به رقه.

وإذا ثبت ما وصفنا، وجب أن يجوز إقرار العبد على نفسه بما يوجب الحد أو القصاص، إذ لم يملكه المولى منه. وليس ذلك كإقرار بالمال وهو محجور عليه، فلا يجوز في حق المولى؛ لأن المولى يملك ذلك من عبده، وكذلك لا يجوز إقراره برقبة نفسه لغيره، لأن المولى يملك الإقرار به لغيره. فإن قيل: لما كان في إقراره بما يوجب الحد أو القصاص إدخال ضرر على المولى بالحد، واستحقاق رقبته بالقصاص، وهي ملك لغيره، وجب أن لا يجوز إقراره. قيل له: لا يمتنع ذلك إذا كان مالكًا لما أقر به، ولم يملكه المولى منه، فيستحق حينئذٍ رقبته بالقصاص من جهة الحكم، ألا ترى أنه لو ارتد عن الإسلام: قتلناه، وفي ذلك استحقاق رقبته على المولى بقوله، وإذا كان العبد مأذونًا له في التجارة، فأقر بمال بعينه في يده أنه سرقه من هذا الرجل: فإنه يقطع، وإقراره جائز بالمال أيضًا في قول أصحابنا جميعًا، لأن إقرار المأذون جائز بما في يده لغيره، سواء أقر من جهته السرقة أو غيرها. فصل: [إقرار العبد المحجور عليه بالسرقة] (وأما إذا كان محجورًا عليه، فأقر بسرقة عشرة دراهم في يده من رجل، وصدقه الرجل، وكذبه مولاه، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال: أقطعه، وأدفع الدراهم إلى المقر له. وقال أبو يوسف: أقطعه، وأدفع الدراهم إلى مولاه.

وقال محمد: ادفع الدراهم إلى مولاه، ولا أقطعه). وجه قول أبي حنيفة: ما قدمنا من جواز إقرار العبد بما يوجب الحد إذا كان المولى لا يملك ذلك من عبده، ولا يلتفت إلى ما يلحق المولى به من الضرر، ألا ترى أنه لو أقر أنه سرق دراهم، وقد استهلكها: أنه يقطع في قولهم جميعًا، فلما وجب عليه القطع لصحة إقراره، وجب أن يحكم بأن الدراهم للمقر له بها، إذ لا جائز أن يكون مقطوعًا في دراهم محكوم بها ملكًا للمولى. فإن قيل: فإذا كان إقراره بالمال الذي في يده على الانفراد غير جائز إذا لم يكن من جهة السرقة، وإقراره بالقطع جائز إذا انفرد عن مالٍ بعينه في يده، فلم غلبت جنبة وجوب القطع على إسقاطه، وهلا غلبت جنبة المال، فيحكم به للمولى، ويسقط القطع؟ قيل له: لأن جنبة القطع آكد في هذا الوجه من جنبة المال، والدليل على ذلك: أن إقرار المولى عليه بما وجب القطع لا يجوز في حال، ويجوز إقراره على نفسه بذلك إذا لم يتعلق بمال في يده باتفاق، فصار في باب ما يوجب القطع بمنزلة الحر، ولا تأثير لتصديق المولى، ولا لتكذيبه فيه. وأما المال، فقد يجوز إقراره العبد فيه بحال إذا كان مأذونًا له في التجارة، فيستحقه المقر له، فلما كان لجهة المال حالان: أحدهما: يجوز إقراره فيه، والآخر: لا يجوز، ويكون لإذن المولى تأثير في جوازه مرة،

وفي إبطاله أخرى، ولم يكن لإقراره بما يوجب الحد إلا جهة واحدة، ولا تأثير لقول المولى فيه: فجاز في كل حال كان جنبة القطع من هذا الوجه آكد، فلذلك كانت جنبة القطع في باب ثبوته آكد. ألا ترى أنه لا توجد له حال لا يجوز إقراره فيها بما يوجب الحد، وقد توجد حال يجوز إقراره فيها بالمال لغيره. فإن قيل: هلا كانت جنبة سقوط الحد أولى من إثباته، لأن الحدود تسقط بالشبهة. قيل له: لا شبهة هاهنا، وليس كون المسألة مشبهة لأصلين: أحدهما يوجب الحد، والآخر يسقطه، شبهة في سقوطه، وإنما يحتاج أن نتبع حينئذٍ ما يوجبه النظر، ولا يلتفت إلى جهة سقوط الحد إن كان النظر يوجبه. ألا ترى أنهم قد أجروا الحد على جماعة سرقوا، وولي بعضهم أخذ المتاع، وهو استحسان من قولهم، فتركوا القياس في إسقاطه عمن لا يلي أخذه إذا كان النظر يوجب خلافه، وليست الشبهة المسقطة للحد هي أن تكون للمسألة شبه من أصل يوجب سقوط الحد. * وأما أبو يوسف: فإنه ذهب إلى أن إقراره قد انطوى على معنيين: القطع، والمال، فهو مصدق على نفسه في وجوب قطعه، غير مصدق على مولاه في استحقاق ما في يده، كإقرار أحد الابنين بأخ، أنه مقر بشيئين: النسب، والمال، فيعطيه المال، ولا يثبت النسب، وكإقراره أن امرأته أخته من أبيه وأمه، وهو مجهول النسب، فيفرق بينهما، ويبطل النكاح، ولا يثبت النسب. قال أبو بكر: وهذا قول واهٍ، وذلك لأنه لا يخلو من أن يقطعه في

هذا المال، أو في غيره، فغن قطعه في هذا المال بعينه، فهذا المال بعينه محكوم به لمولاه، ولا يجوز قطعه في مال مولاه، وإن قطعه في غيره، فهو لم يقر بمال غيره، فكيف يجوز قطعه فيما لم يقر به؟ وإنما هو مقطوع من جهة إقراره. ولا يشبه هذا ما ذكرناه من الإقرار بالنسب في صحة استحقاق المال، وفساد النكاح، مع عدم ثبوت النسب، من قبل أن المقر هناك يملك بدل المال من غير جهة الإقرار، ويملك الفرقة من غير جهة النسب الذي أقر به، ألا ترى أنه يملك إبطال نكاحها بالطلاق، وسائر ما يملك من وجوه الفرق، ويملك هبة المال وبدله وإن لم يكن هناك نسب، ولا يملك بدل يده للحد في السرقة، فلا يصح إقراره به إلا من الوجه الموجب لاستحقاقه. * وأما محمد: فإنه ذهب إلى أنه لما لم يجز إقراره بالمال على الانفراد، وصار المال محكومًا به للمولى، فإذا حكمنا به للمولى، سقط القطع، فأتبع القطع المال، ولم يتبع المال القطع. *******************

باب حد قطع الطريق

باب حد قطع الطريق مسألة: [حكم قطاع الطريق إذا لم يأخذوا مالاً، ولم يقتلوا أحدًا] قال أبو جعفر: (وإذا قطع قوم من أهل الإسلام، أو من أهل الذمة الطريق على قوم من أهل الذمة، أو من أهل الإسلام، فلم يأخذوا مالاً، ولم يقتلوا أحدًا، ثم ظهر عليهم الإمام: نفاهم، والنفي جبسهم حتى يحدثوا توبة). قال أبو بكر: لا خلاف بين فقهاء الأمصار أن قطاع الطريق قد يكونون من أهل الإسلام، وأهل الذمة، وأن حكم الآية المذكورة في المحاربين جار عليهم، وهو قوله تعالى:} إنما جزؤا الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا {إلى آخر القصة. وقال بعض المتأخرين ممن لا يعتد بخلافهم: إن ذلك مخصوص في المرتدين. وقد اختلف في قصة العرنيين الذي أسلموا واجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى الإبل، فيشربوا من ألبانها، ثم

قتلوا الراعي، وساقوا الإبل. فروي عن أنس رضي الله عنه: أنهم ارتدوا، وأن ذلك كان سبب نزول الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا. وروي عن عكرمة عن ابن عباس: أنها نزلت في المشركين، ولم يذكر هذه القصة. وروي ابن عمر أنها نزلت في العرنيين، ولم يذكر ردة. وكيفما جرت الحال في ثبوت ردتهم أو عدمها، فلا دلالة فيه أن حكم الآية مقصور على المرتدين؛ لأن نزولها على سبب لا يوجب أن يكون حكمها مقصورًا عليه، بل يجب إتباع لفظ الآية عندنا، دون السبب الذي نزل عليه. فإذا كان عمومها يوجب إجراء الحكم في الجميع، لم يكن لنا تخصيصه بغير دلالة. وعلى أن ظاهر حالهم، وما استحقوه من التنكيل والحد، يدل على أن الآية لم تنزل فيهم؛ لأن فيها ذكر القتل والصلب، وليس فيها ذكر سمل الأعين، وغير جائز أن تكون الآية نزلت قبل إجراء الحكم عليهم وكانوا مرادين بها؛ لأنه لو كان كذلك، لأجرى النبي صلى الله عليه وسلم حكمها عليهم، فلا لم يصلبهم النبي صلى الله عليه وسملهم، دل على أن حكم الآية لم يكن ثابتًا في وقت ما حكم فيهم بما حكم به، فلا

محالة أن الآية نزلت بعد ما أجرى هذا الحكم عليهم. ولا يجوز أن يكون ذلك نازلاً فيهم، لاستحالة إمكان إجرائه عليهم، فثبت أن الذي في الآية حكم مبتدأ، غير متعلق بسبب، فاوجب ظاهرها إجراء الحكم على كل من تضمنته الآية، من مسلم أو كافر. فإن قال قائل: لفظ الآية يوجب أن يكون الحكم خاصًا في المشركين، لأن المحارب لله ولرسوله لا يكون إلا كافرًا. قيل له: قد يصح إطلاق هذا اللفظ على من كان من أهل الملة، والدليل على ذلك: ما روى زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه رأي معاذًا يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن اليسير من الرياء شرك، ومن عادي أولياء الله عز وجل فقد بارز الله بالمحاربة". فأطلق عليه اسم المحاربة، ولم يذكر الردة، ومن قتل مسلمًا وحاربه على أخذ ماله، فهو معادٍ لأولياء الله تعالى، ومحارب لله سبحانه. وروى أسباط عن السدي عن صبيح مولى أم سلمة عن زيد بن أرقم "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم: أنا حرب لمن حاربتم، وسلم لمن سالمتم". فاستحق من حاربهم اسم المحارب لله ورسوله وإن لم يكن مشركًا.

ويدل على أن المراد بالآية أهل الإسلام: أنه تعالى قال:} إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم {، ومعلوم أن المرتدين وأهل الحرب إذا تابوا: سقط عنهم ما لزمهم بالكفر وإن كان بعد القدرة. وأيضًا: الإسلام لا يُسقط الحد عمن وجب عليه، فوجب أن يكون من حيث لزم الكفار، أن يلزم المسلمين مثله. وأيضًا: فإن المرتد يستحق القتل بنفس الردة، دون المحاربة، والمذكور في الآية من استحق القتل بالمحاربة، فعلمنا أنه لم يرد المرتد. وأيضًا: ذكر في الآية النفي قبل التوبة، والمرتد لا ينفي، فعلمنا أن حكم الآية ليس في المرتد خاصة. فصل: [العقوبة المذكورة في الآية على الترتيب بحسب الفعل] واتفق فقهاء الأمصار على أن في الآية وما يستحق من حكمها ضميرًا يتعلق حكمها به، فروي عن علي بن أبي طالب، وعن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وإبراهيم والضحاك رضي الله عنهم أجمعين أنها على الترتيب، كأنه قال: أن يقتلوا: إن قتلوا. أو يصلبوا: إن قتلوا وأخذوا المال. أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف: إن أخذوا المال، ولم يقتلوا.

أو ينفوا من الأرض: إن خرجوا ولم يحدثوا شيئًَا من ذلك حتى أخذوا. وهو قول أصحابنا رضي الله عنهم، على اختلاف بينهم فيما نبدأ بذكره فيما بعد. * ويروى عن الحسن وعطاء ومجاهد أن الإمام مخير إذا ظهر عليهم قبل التوبة: بين أن يقتل، أو يصلب، أو يقطع، أو ينفي. * وقال مالك بن أنس: هو على قدر اجتهاد الإمام، فإن كان قد صار لهم شوكة: فله أن يفعل بهم أي ذلك شاء، وإن كان وحده وأخذه في الفور: نفاه وحبسه، وقد شرط فيه مالك اجتهاد رأي الإمام، ويجري المصلحة فيما يأتيه فيهم، فأثبت في هذه الآية ضميرًا لا يقتضيه ظاهر لفظها. والدليل على أنها على الترتيب على النحو الذي شرطه من ذكرنا قوله بدءًا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس". فنفى عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث قتل من لم يقتل، ولم يخصص قاطع الطريق من غيره، وإذا انتفى قتل من لم يقتل، وجب قطع يده ورجله إذا أخذ المال، وهذا لا خلاف فيه. فإن قيل: روى إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن رفيع عن عبيد بن

عمير عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زان بعد إحصانه، ورجل قتل فقُتل به، ورجل خرج محاربًا لله ورسوله، فيقتل أو يصلب، أو ينفي من الأرض". قيل له: قد روي هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها من وجوه صحاح، فلم يذكر فيها قتل المحارب. ورواه عثمان وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكرا قتل المحارب. والصحيح منها ما لم يذكر ذلك فيه، إذ المرتد لا محالة مستحق للقتل بالاتفاق، وهو أحد الثلاثة المذكورين في خبر هؤلاء، فلم يبق من الثلاثة غيرهم، ويكون المحارب إذا لم يقتل خارجًا منهم، وإن صح ذكر المحارب فيه، فالمعنى فيه: إذا قتل، حتى يكون موافقًا للأخبار الأخر، فتكون فائدته أنه يجوز قتله على وجه الصلب. فإن قيل: فقد ذكر فيه: "أو ينفى من الأرض". قيل له: لا يمتنع أن يكون مبتدأ قد أضمر فيه: إن لم يقتل. فإن قيل: فأنت تقتل الباغي وإن لم يقتل، وهو خارج من الثلاثة المذكورين في الخبر. قيل له: ظاهر الخبر ينفي قتله، وإنما قتلناه بدلالة الاتفاق، وبقي حكم الخبر في نفي قتل المحارب، إلا أن يقتل على العموم.

وأيضًا: فإن الخبر إنما ورد فيمن استحق القتل بفعل سبق منه، واستقر حكمه عليه، كالزاني، والمرتد، والقاتل، والباغي لا يستحق القتل على هذا الوجه، وإنما يقتل على وجه الدفع، ألا ترى أنه لو قعد في بيته، فلم يقتل: لم يقتل وإن لم يكن تابعًا من البغي. فثبت بما وصفنا أن حكم الآية على الترتيب على الوجه الذي بينا، وليس على التخيير. * وأما الذي روي في خبر العرنيين، من سمل العيون، فهو منسوخ عندنا، ودلالة ذلك من وجهين. أحدهما: أنا قد بينا أن الآية نزلت بعده، وليس فيها السمل، وجميع ما في الآية هو حد المحاربين، فصارت ناسخة لما في حديث أنس في قصة العرنيين. والوجه الآخر: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن المثلة". روى الحسن عن سمرة قال: "ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمرنا فيها بالصدقة، ونهانا فيها عن المثلة". وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا شيئًا من الروح غرضًا".

فكان النهي عن المثلة متأخرًا عن قصة العرنيين، فصار ناسخًا لما فيها من سمل العيون. فصل: [المراد من النفي المذكور في آية قطاع الطريق] وقد اختلف في النفي المذكور في الآية: فروى مجاهد وغيره أن يطلبه الإمام أبدًا لإقامة الحد عليه حتى يخرج عن دار الإسلام. وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: نفيه حبسه، وهو قول أصحابنا. وقال مالك: ينفي إلى بلد آخر غير البلد الذي استحق فيه العقوبة، فيحبس هناك. ط فأما قول مجاهد في طلبه ليقام عليه الحد: فليس مما يقتضيه ظاهر الآية؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون الحبس إحدى العقوبات التي استحقها كالقتل، لقوله عز وجل:} أو ينفوا من الأرض {، ولو كان طلبه لإقامة الحد، لقال والله أعلم: "وينفوا من الأرض"، يعني يطلبوا لقيام الحد عليهم. وأما نفيه عن بلده بغير حبس: فلا معنى له؛ لأنه معلوم أن المراد بما ذكره زجره عن إخافة السبيل، وكف أذاه عن المسلمين، وهو إذا صار إلى بلد آخر وكان مطلقًا هناك، كانت معرته قائمة على المسلمين، إذ كان تصرفه هناك كتصرفه في بلده، فلا معنى لذلك.

وأما قول من قال: إنه ينفى إلى بلد آخر، ويحبس فيه: فلا معنى له أيضًا؛ لأن الحبس يستوي في بلده وغير بلده، وإنما معنى النفي هو نفيه عن سائر الأرض، إلا موضع الحبس الذي لا يمكنه فيه العبث والفساد، فصح بذلك ما قال أصحابنا. فصل: [حكم قطاع الطريق إذا خرجوا فأخذوا المال .....] ولم يختلف أصحابنا أنهم إذا خرجوا، فأخذوا المال: قطعت أيديهم وأرجلهم فحسب، وذلك لما وصفنا أن القتل لا يستحق بغير ما ذكر في الخبر من الأشياء الثلاثة، فوجب قطع اليد والرجل حينئذٍ بقوله سبحانه:} أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف {. ولأن في الأصول: أن أخذ المال لا يستحق به القتل، وقد يستحق به قطع اليد والرجل، ألا ترى أن السارق تقطع يده، فإن سرق ثانية: قطعت رجله. * وإن قتلوا ولم يأخذوا المال: قتلوا، لقوله تعالى:} أن يقتلوا {: معناه: إن قتلوا، لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث"، وذكر فيه: "أو قتل نفس بغير نفس". وهذان الفعلان لا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله فيهما. * وإن قتلوا وأخذوا المال: فإن أبا حنيفة رحمه الله قال في الجامع الصغير: الإمام بالخيار: إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم، وقتلهم.

وإن شاء صلبهم. وإن شاء قتلهم وترك القطع. ولم يرو عنه خلاف ذلك في موضعٍ آخر فيما نعلم: وذلك لأنه استحق هذه العقوبة بأخذ المال والقتل، وصار جميع ذلك حدًا واحدًا. كما استحق قطع اليد والرجل بأخذ المال، ويكون ذلك حدًا واحدًا. كذلك لما استحق القتل والقطع بأخذ المال والقتل على وجه المحاربة، صار جميع ذلك حدًا واحدًا. ألا ترى أن القتل في هذا الموضع مستحق على وجه الحد، كالقطع، وأن الأولياء لو عفوا: لم يصح عفوهم، فدل ذلك على أنهما جميعًا كالحد الواحد، فلذلك كان للإمام أن يجمعهما جميعًا عليه. وله أن يقتلهم، فيدخل فيه قطع اليد والرجل، وذلك لأنه لم يؤخذ على الإمام الترتيب في الابتداء ببعض ذلك دون بعض، فله أن يبدأ بالقتل، فيسقط القطع. فإن قيل: هلا كان قتله مانعًا من قطعه، كما لو سرق وقتل: قتل ولم يقطع. قيل له: لما بينا من أن جميع ذلك حد واحد، مستحق بسبب واحد، وهو القتل، وأخذ المال على وجه المحاربة، وأما السرقة والقتل، فكل

واحد منهما مستحق بسبب غير السبب الذي استحق به الآخر، وقد أمرنا بدرء الحدود ما استطعنا، فلذلك بدأنا بالقتل لندرأ الحد، ولما كان هذا حدًا واحدًا في قطاع الطريق، لم يلزمنا إسقاط بعضه وإيجاب بعضه، وهو مخير مع ذلك بين القتل والصلب، لقوله تعالى:} أن يقتلوا أو يصلبوا {. مسألة: [إذا أخذوا المال وقتلوا] وذكر أبو جعفر: (أنهم إذا أخذوا المال وقتلوا: قتلهم الإمام، ولم يقطع لهم يدًا ولا رجلاً، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد). قال أبو بكر: وهذا قول محمد، ولا أعلمه روي عن أبي حنيفة رحمه الله في موضع. وقول أبي حنيفة المشهور هو ما قدمناه، وهو أن له أن يجمع بين القتل والقطع، وله أن يبدأ بالقتل، فيسقط القطع. وروى محمد عن أبي يوسف في ذلك مثل قول نفسه سواء. (وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أنه قال: إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم، وصلبهم، وأما الصلب فلا أعفيه منه). فكان الخلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف في رواية أصحاب الإملاء

إنما هو في ترك الصلب، فقال أبو حنيفة رحمه الله: له أن يقتلهم، ولا يصلبهم، وقال أبو يوسف: لابد من صلبهم. مسألة: [الصلب يكون بعد القتل أم قبله؟] قال أبو جعفر: (والصلب المذكور في آية المحاربة هو الصلب بعد القتل في قول أبي حنيفة). قال أبو بكر: كان أبو الحسن الكرخي يحكي عن أبي يوسف أنه يصلب، ثم يقتل، يبعج برمح أو غيره، وكان أبو الحسن رحمه الله يقول: هذا هو الصحيح، وصلبه بعد القتل لا معنى له؛ لأن الصلب عقوبة، وذلك غير ممكن في الميت. قيل لأبي الحسن رحمه الله: لم لا يجوز أن يصلب بعد القتل ردعًا لغيره؟ فقال: لأن الصلب إذا كان موضوعًا للتعذيب والعقوبة، لم يجز فعله إلا على الوجه الموضوع في الشريعة. مسألة: [عدم الجمع بين القتل والضمان] قال أبو جعفر: (ومتى وجب القطع أو القتل: سقط ضمان المال والجراحات).

قال أبو بكر: الأصل في ذلك: أن الحد متى وجب: سقط ضمان ما تعلق به الحد من حق الآدمي، كالسارق إذا قطع: لم يضمن السرقة، وكالزاني إذا وجب عليه الحد: لم يلزمه المهر، وكالقاتل إذا وجب عليه القود: لم يجب معه مال، فكذلك ما وصفنا. وإذا سقط القطع أو القتل على وجه الحد، وجب ضمان ما تناوله من مال ونفس، كالسارق إذا ردئ عنه القطع: وجب عليه ضمان المال، وكالزاني إذا سقط عنه الحد: لزمه المهر. مسألة: [توبة قطاع الطريق] قال أبو جعفر: (وإن لم يقدر الإمام على قطاع الطريق حتى جاؤوه تائبين: سقط عنهم ما كان وجب من طريق الحد، ووجب حقوق الآدميين من القتل، والجراحات، وضمان المال). قال أبو بكر: أما وجه سقوط الحد المذكور في الآية، فلقول الله تعالى:} إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم {. فأخرجهم من جملة من أوجب عليهم الحد بالاستثناء؛ لأن موضوع الاستثناء لإخراج بعض ما دخل في الجملة، كقوله تعالى:} إلا أل لوطٍ إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته {، فأخرج آل لوط من جملة

المهلكين، وأخرج امرأته من جملة المنجين، وكقوله عز وجل:} فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس {، فكان إبليس خارجًا من جملة الساجدين، فكذلك لما استثناهم من جملة من أوجب عليهم الحد إذا تابوا قبل القدرة عليهم، فقد نفى وجوب الحد عليهم. فإن قيل: فقد قال في السرقة:} فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح {، ولم تكن توبة السارق مسقطة للحد عنه. قيل له: لأنه لم يستثنهم من جملة من أوجب عليهم الحد، وإنما أخبر أن الله غفور رحيم لمن تاب منهم، ولا دلالة في ذلك على إسقاط الحد، وفي آية المحاربين استثناء يوجب إخراجهم من الجملة. وأيضًا: فإن قوله عز وجل:} فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح {: يصلح أن يكون كلامًا مبتدأ، مستغنيًا بنفسه عن تضمينه بغيره، وكل كلام استغنى بنفسه في إيجاب الفائدة، لم نجعله مضمنًا بغيره، وأما قوله تعالى:} إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم {: فمفتقر في صحته إلى ما قبله، فمن أجل ذلك كان مضمنًا به. وقد روى الشعبي أن حارثه بن زيد حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض بالفساد، ثم تاب من قبل أن يقدر عليه، فكتب علي رضي الله عنه إلى عامله بالبصرة: أن حارثة بن زيد ممن حارب الله ورسوله، ثم تاب من

قبل أن يقدر عليه، فلا تعرض له إلا بخير. مسألة: [قطاع الطريق في المصر والمدينة] قال: (ولا يكون قطع الطريق في مصر من الأمصار، ولا مدينة من المدائن، ولا بقربهما، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. قال: روى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف: أنهم إذا كابروا أهل مدينة من المدائن ليلاً: كانوا في حكم قطاع الطريق). قال أبو بكر: قال أبو يوسف: إذا شهروا السلاح نهارًا على أهل مصر أو قرية: فهم المحاربون، وكذلك إذا فعلوه ليلاً بسلاح أو عصي، وإن كابروا بالنهار بغير سلاح: فليسوا بمحاربين. والأصل في ذلك: أن المعنى الذي باين السارق به قطاع الطريق، هو أن قاطع الطريق أخذ المال على وجه الامتناع والمحاربة، والسارق أخذه على وجه الاستخفاء، فوجب عليه القطع، وغلظت العقوبة على المحارب لما باين السارق المحارب، فالمحاربة على جهة الامتناع. وها هنا قسم ثالث لا يقطع رأسًا، وهو المختلس الذي أخذ المال لا على وجه الاستخفاء ولا المحاربة، فأسقط النبي صلى الله عليه وسلم عنه القطع بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا قطع على مختلس". ومعلوم أن قطاع الطريق لا منعة لهم في الأمصار، ولا في المواضع القريبة منها؛ لأن من أرادوا قطع الطريق عليه يلحقه الغوث من جهة أهل

المصر، وإن كان في موضع لا يلحقه الغوث من أهل مصر: فهم قطاع الطريق، فثبت أنهم في المصر بمنزلة المختلس والمنتهب، لا تجري عليهم أحكام قطاع الطريق، لعدم المنعة فيه. ووجب أن لا يختلف في المنتهب حكم الليل والنهار، كما لا يختلف في المختلس حكم الليل والنهار. وأيضًا: فإنه إذا ثبت أنهم غير محاربين في المصر نهارًا لما وصفنا، وجب أن يكون الليل كذلك؛ لأنهم لم يحصل لهم امتناع بالليل، وإنما أكثر ما فيه غفلة الناس عنهم بنومهم، والنوم لا يوجب لهم امتناعًا، ألا ترى أن من أخذ ثوب إنسانٍ نائم: لم يجز أن يقال: إنه ممتنع لغفلته عنه بالنوم، فلم يكن بمنزلة قطاع الطريق. فإن قيل: فيجب أن يكون: لو أن عشرة اعترضوا قافلة فيها ألف رجل ألا يكونوا محاربين. قيل له: هم محاربون؛ لأن عشرة قد يجوز أن يمتنعوا على ألف رجل حتى لا يقدروا عليهم إذا لم يكونوا في المصر، كالأعراب والأكراد ونحوهم، ولو كانوا في المصر لم يمكنهم أن يمتنعوا على أهل المصر، فلذلك اختلف حكمهم في المصر وغيره. وأيضًا: فإن الموضع الذي خرجوا فيه هم فيه ممتنعون، وحضور القافلة والجمع العظيم هناك شاذ نادر، ولا تقيم القافلة أيضًا هناك، وإنما هي مجتازة، فلا يخرجهم من حكم قطاع الطريق باجتيازها هناك. * وأما أبو يوسف: فإنه لم يعتبر المصر، وإنما اعتبر إمكان معاملتهم إياه بالقتل وأخذ المال قبل غياث الناس إياه، فإذا كانوا بهذه الصفة: كانوا قطاع الطريق، وأجرى عليهم حكم المحاربين، ومتى أمكن المقصود

بذلك أن يستغيث بالناس قبل أن يعاجلوه بالقتل وأخذ المال، لم يكونوا محاربين. ومعلوم أنهم إذا حملوا عليه بالسلاح في مصر أو غيره نهارًا، فقد يمكنهم أن يقتوله قبل غوث الناس، فكانوا محاربين، وكذلك إذا قصدوه بعصي وغيره ليلاً في المصر لهذه العلة. فأما إذا قصدوا بالعصي نهارًا، فقد يمكنه أن يستغيث بالناس قبل أن يأتوا عليه ويأخذوا المال، فلم يكونوا من أجل ذلك محاربين، ألا ترى أنهم لو هددوه بغير عصي ولا سلاح، لم يكونوا محاربين، وكذلك لو أخذوا ماله على هذا الوجه، فالحكم إنما تعلق عنده بحصول هذه الحال التي وصفنا دون الأماكن. مسألة: [الاشتراك في قطع الطريق] قال أبو جعفر: (وإن كان الذي ولي القتل من قطاع الطريق بعضهم: كان حكمهم في ذلك كحكمهم لو ولوه كلهم). قال أبو بكر: وهذا لا نعلم فيه خلافًا بين الفقهاء. والمعنى فيه أيضًا: أن حكم المحاربة والمنعة لم يحصل إلا باجتماعهم جميعًا، فلما حصل السبب الذي به تعلق حكم المحاربة باجتماعهم، وجب أن لا يختلف فيه حكم من ولي القتل، ومن كان منهم ردءًا وظهيرًا وعونًا، ألا ترى أن الجيش إذا غنموا من أهل الحرب لم يختلف فيه حكم من ولي القتال ومن كان منهم ردءًا وظهيرًا.

* قال أبو جعفر: (وسواء قتلوا بحجر أو بعصا أو بسيف في ذلك). وذلك لأنا نجري الحكم على من لم يلي القتل، فمن ولي ذلك بعصا أحرى بذلك. مسألة: [قطع الطرق على ذي رحم محرم] قال: (وإن كان من قطاع الطريق ذو رحم محرم من المقطوع عليهم الطريق: لم تقم عليهم الحدود، وقتل الذين ولوا القتل، وكان ذلك إلى الأولياء، دون الإمام). وذلك لأن مشاركة ذوي الرحم المحرم إياهم في ذلك، يمنع وجوب الحد عليهم؛ لأنه ممن لو تفرد لم يجب عليه الحد، كما لو سرقوا وفيهم ذو رحم محرم: لم يقطع واحد منهم، وكما لو قتل رجلان رجلاً عمدًا، وأحدهما أبوه أو مجنون: لم يجب القود على واحد منهما، وإذا سقط الحد ثبت حقوق الآدميين في القصاص، والمال، كما أن سقوط القطع في السرقة يوجب ضمان المال. مسألة: قال: (والحكم في قطاع الطريق فيما يُقطع من أيديهم وأرجلهم كحكم السارق في جميع ما وصفنا، من شلل أيديهم، ومن ذهاب بعضها).

وذلك للعلة التي وصفناها في السرقة، وهي أنه لا يجوز أن يلحقهم من الضرر بالقطع أكثر مما هو مستحق بالسرقة. مسألة: [حكم النساء والصبيان في قطع الطريق] قال أبو جعفر: (والنساء والعبيد في قطع الطريق، كالرجال وكالأحرار في جميع ما وصفنا). قال أبو بكر: قوله في النساء إنهن بمنزلة الرجال في قطع الطريق: خلاف المشهور من مذهب أصحابنا، ولا خلاف بين أصحابنا أن المرأة لا يجري عليها أحكام قطاع الطريق والمحاربين وإن حضرت معهم. وإنما اختلفوا في الرجال المحاربين إذا كانت معهم امرأة، وشاركتهم في المحاربة، فقال أبو حنيفة وزفر ومحمد: لا يجب الحد على واحد منهم، وتجب حقوق الآدميين، من ضمان المال والقصاص، سواء كان الذي ولي القتل المرأة أو الرجال. وقال أبو يوسف: أقتل الرجال البالغين العقلاء، ولا أحد المرأة، ولا أضمنها شيئًا؛ لأن الحد أقيم على الرجال، سواء كان الذي ولي ذلك المرأة أو الرجال. وقال محمد: لا أحد الرجال إذا كان فيهم امرأة، وأضمنهم حقوق الآدميين، فإن كانت المرأة هي التي وليت القتل وأخذ المال: قتلتها

وضمنتها المال، ولم أحد الرجال، ولا أضمنهم شيئًا. * وأما العبيد البالغون، فهم بمنزلة الأحرار في قولهم جميعًا. [مشاركة الصبي لقطاع الطريق] وإذا شاركهم صبي أو مجنون: لم يحد منهم أحد في قول أبي حنيفة ومحمد، سواء كان الذي ولي القتل وأخذ المال الصبي، أو المجنون، أو الرجال العقلاء. وقال أبو يوسف: إن كان الذي ولي القتل وأخذ المال الرجال البالغون: أجري عليهم أحكام قطاع الطريق، وإن وليه الصبي أو المجنون: لم يجب على أحد منهم قطع ولا قتل. وفرق أبو يوسف بين المرأة إذا وليت القتل وأخذت المال، وبين الصبي والمجنون إذا وليا ذلك. وجهة الفرق بينهما: أن فعل المرأة صحيح يتعلق عليه الأحكام، ألا ترى أنها إذا سرقت: قطعت، وإذا قتلت: فلا يلبهم حضورها حكم قطاع الطريق، ويكون فعلها في ذلك كفعلهم؛ لأن فعل أحدهم كفعل جميعهم فيما يستحق به من حكم المحاربة، فلذلك لم يختلف حكم فعلها وفعلهم. ولا تجرى عليها عنده حكم المحاربين؛ لأنها ليست من أهل القتال والمحاربة، ولا يحصل بها امتناع، ألا ترى أنها إذا حضرت قتال المشركين: لم يسهم لها، إلا أنها مع ذلك حضورها ليس بشبهة في سقوط الحد عن الباقين، فكانت في ذلك بمنزلة من لم يحضر.

وأما الصبي والمجنون فإن حضورهما عنده كلا حضور، فإن قتلا أو أخذا المال: لم تجر أحكام المحاربين إلا على الرجال العقلاء؛ لأن فعلهما ليس بفعل صحيح في السرقة والقتل ونحوه مما يتعلق به حد أو قصاص. وفارقا المرأة من هذا الوجه، إلا أنهما والمرأة سواء في أن حضورهما ليس بشبهة في سقوط الحد عن الرجال. * وأما أصل أبي حنيفة ومحمد في ذلك: فهو أن المرأة والصبي والمجنون، لما لم يكونوا من أهل المحاربة، ثم شاركوا المحاربين في الخروج والاجتماع، وهو السبب الذي به حصل الامتناع وحكم المحاربة: وجب أن يكون ذلك شبهة في سقوط الحد عن الباقين، كما لو كان معهم ذو رحم محرم من المقطوع عليهم، كانت مشاركته إياهم شبهة في سقوط الحد عن الباقين؛ لأنه لو انفرد بذلك لم يحد، كذلك إذا شارك الآخرين، فكان ذلك حكم المرأة والمجنون والصبي. ألا ترى أن النساء لو انفردن بالخروج، وقطع الطريق: لم تجر عليهن أحكام قطاع الطريق في قولهم جميعًا، كذلك إذا شاركن الرجال، وكما لو شاركهم في السرقة من لا يجب عليه القطع: كان ذلك شبهة في سقوط القطع عن الآخرين، وكالرجلين إذا قتلا رجلاً، وأحدهما أبوه، أو مخطئ، أو مجنون. مسألة: [اشتراط نصاب السرقة في قطع الطريق] قال أبو جعفر: (ولا يكون على قطاع الطريق فيما أخذوا من الأموال ما يوجبه أخذ الأموال في ذلك من العقوبة، حتى يكون الذي يصيب كل واحد منهم من ذلك المال إذا قسم على عددهم: عشرة

دراهم فصاعدًا، أو قيمتها). وذلك لأن قطعهم لما تعلق بأخذ المال، وجب اعتبار المقدار فيه، كاعتباره في السرقة حين تعلق القطع فيها بأخذ المال، وعلى أنه إذا ثبت أن حكم القطع يتعلق فيه بأخذ المال، فلا خلاف في اعتبار المقدار فيه؛ لأن كل من أوجبه لأجل المال، اعتبر فيه المقدار. وإنما لم يعتبر مالك بن أنس في ذلك مقدار المال المأخوذ؛ لأن من أصله: أنهم يستحقون أحكام المحاربين من غير أخذ المال، والله أعلم. *********************

كتاب الأشربة وأحكامها

كتاب الأشربة وأحكامها مسألة: [نقيع الزبيب] قال أبو جعفر: (ونقيع الزبيب إذا لم يطبخ لا بأس به ما لم يغل ويشتد، فإذا على واشتد: فلا خير فيه). قال أبو بكر: أما إذا لم يغل: فلا خلاف بين الأمة في إباحة شربه، وكذلك نقيع العنب، ونقيع التمر، وأما إذا على: فهو محرم عندنا، وكذلك نقيع التمر وهو السكر. والأصل فيهما: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة، والعنبة".

وهذا اللفظ يتناول أول خارجٍ منهما من الشراب، وهو النيء منه قبل انتقاله إلى حال أخرى بالطبخ. وأيضًا: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا أيوب اليمامي قال: حدثنا عمر بن حفص قال: حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه "أنه كان وصيفًا يدير الكأس على ناسٍ من الأنصار في ناحية فيهم أبو طلحة، وما بالمدينة يومئذٍ خمر إلا البسر والتمر، فكانوا يشربونه، وأنا أدير عليهم الكأس، فأتينا، فقيل: إن الله عز وجل قد حرم الخمر. فأهراقوا ما بقي من شرابهم، وانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا معهم، فجاء رجل من الأنصار، يا رسول الله! إني كنت أبيع خمرًا من التمر والبسر في خابيةٍ ليتيم في حجري؟ قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى يديه على الأخرى، وقال: "قاتل الله اليهود: حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها، أهرقه". وقد ذرك في بعض ألفاظ الحديث عن أنس: "وكان خمرهم يومئذٍ الفضيخ".

ودلالة هذا الخبر على تحريم نقيع التمر من وجوه: أحدها: قوله: "وكان خمرهم يومئذٍ البسر والتمر"، وفي بعضه: "الفضيح"، وهو نقيع البسر، ثم أخبر أن الأنصار الذي كان يقيهم اهراقوها حين بلغهم تحريم الخمر، فدل ذلك على تحريمه عندهم من وجهين: أحدهما: إطلاق اسم الخمر عليه، وأنهم علقوا تحريمه بتحريم الخمر. والآخر: اتفاقهم على تحريمه، مع ما روي في تحريمه عن عمر، وابن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم في آخرين من الصحابة، فصار ذلك إجماعًا من السلف عليه. والوجه الآخر من الدلالة على ذلك: قول الأنصاري: يا رسول الله! إني كنت أبيع خمرًا من التمر والبسر في خابية ليتيم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإراقته، فلم ينكر عليه الصلاة والسلام تسميته إياه خمرًا، فاقتضى ذلك تحريمه، ثم أمره بإراقته، واقتضى ذلك أيضًا تحريمه. مسألة: [حكم الأنبذة] قال أبو جعفر: (وكل شيء من الأنبذة – سوى نبيذ الزبيب – النقيع من العسل والذرة والزبيب والتمر وما سواهن، عتق أو لم يعتق، خلط بعضه ببعض أو لم يخلط، بعد أن يطبخ: فلا بأس به، وإنما المكروه نبيذ الزبيب المعتق إذا على، وهذا كله قول أبي حنيفة رضي الله عنه الذي رواه

محمد عن أبي يوسف في كتاب الأشربة من الأصول). قال أبو بكر: لا فرق بين المعتق وغير المعتق من نبيذ الزبيب والتمر بعد أن يكون مطبوخًا عند أبي حنيفة، والذي ذكره أبو جعفر عن أبي حنيفة من كراهة نبيذ الزبيب المعتق غير معروف، والأصل الذي يجمع مذهب أبي حنيفة في ذلك: ما رواه ابن رستم عن محمد قال: قال أبو حنيفة: الأنبذة كلها حلال إلا أربعة أشياء: الخمر، والمطبوخ إذا لم يذهب ثلثاه ويبقي ثلثه – قال أبو بكر: يعني مطبوخ العنب -، ونقيع التمر- فإنه سكر-، ونقيع الزبيب. وأما أبو يوسف: فإنه كان يقول في سائر الأشربة إذا بقيت بعد البلوغ عشرة أيام: فلا خير فيها، ثم رجع إلى قول أبي حنيفة، روى ذلك ابن سماعة عنه. وحكي ابن شجاع عن الحسن بن أبي مالك أن أبا يوسف قيل له: هل في نفسك من النبيذ شيء؟ فقال أبو يوسف: وكيف لا يكون؟ في نفسي منه شيء، وقد اختلف فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، في نفسي منه مثل الجبال. وأما محمد بن الحسن: فإن هشامًا ذكر أنه سأله عن النبيذ ما أسكر كثيره؟ فقال: أحب إلى أن لا أشربه، ولا أحرمه. وقال في كتاب الأشربة من الأصل: وقال أبو يوسف: يكره كل شراب من الأنبذة يزداد جودة على طول الترك، ولا أجيز بيعه، ووقته عشرة

أيام، فإذا بقي أكثر من عشرة أيام: فهو مكروه، وإن كان يحمض في عشرة أيام، أو أقل: فلا بأس به. وهو قول محمد، ثم رجع أبو يوسف وحده، وقال: لا بأس بذلك كله. والذي ذكره أبو جعفر من قول أبي يوسف في كراهة المعتق، هو مرجوع عنه من قول أبي يوسف إلى قول أبي حنيفة، قد روى رجوعه جماعة. * فأما الحجة لما قدمنا ذكره من قول أبي حنيفة في إباحة ما خلا الأربعة الأشربة التي ذكرناها: فهي من جهة ظاهر الكتاب، والسنة، واتفاق السلف، والنظر. [دليل الإباحة من القرآن الكريم] فأما جهة الظاهر، فقوله تعالى:} وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصًا سائغًا للشاربين ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرًا ورزقًا حسنًا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون {. وكان المفهوم من ظاهر هذا الخطاب إباحة جميع ما ذكر في هذه الآيات، إذ كانت واردة مورد الامتنان بها، وبين موضع النعمة بإباحة منافعها. والسكر: اسم يتناول النبيذ على الإطلاق، لما حدثنا عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال: حدثنا حجاج بن محمد بن جريج عن عطاء

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "السكر النبيذ". وروى مندل بن علي عن أبي روق عن الشعبي قال: "هو ما يصنع منه من النبيذ، والرزق الحسن: ما كانوا يصنعونه من الزبيب والتمر". وإذا تناوله الاسم على الإطلاق، دخل في الإباحة، فلم يخرج منها شيء إلا بدلالة. وقد روي عن بعض السلف: "أن السكر الخمر". وقال بعضهم: نقيع التمر. وهو عندنا يتناول جميع ذلك، وظاهر الآية يقتضي إباحة الكل، إلا أن الدلالة قد قامت على تحريم الخمر، ونقيع التمر، فأخرجناهما من الجملة، وبقي حكم اللفظ فيما عداهما. * وأخرى من جهة الظاهر: وهو قوله تعالى:} وكلوا واشربوا ولا تسرفوا {. فتضمن ظاهره إباحة جميع المشروب ما دون السرف، والسرف هو مجاوزة الحد عن مقدار ما أبيح منه. وقال تعالى:} وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من

الفجر {. وهذا مثل الأولى في دلالتها على ما دلت عليه. وقال سبحانه:} قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق {، وقال:} فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه {. فكل مأكول ومشروب، فهو داخل تحت هذا العموم، لانطوائه تحت اللفظ، إلا ما قام دليله. * وضرب آخر من دليل هذا العموم: وهو قوله تعالى:} وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض {. ومقتضى هذا اللفظ ومضمونه إباحة جميع ما فيهما، حتى تقوم الدلالة على حظر شيء منها. وقال تعالى:} لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسئلوا عنها حين ينزل القرءان تبدلكم عفا الله عنها {. فأخبر أن ما لم يقم الدليل على حظره، فهو في حيز المعفو عنه. * وبهذا المعنى ورد الأثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه

داود بن أبي هند عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها". وقال سليمان التيمي أخبرنا أبو عثمان النهدي قال: سمعت سلمان الفارسي يقول: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفراء والجبن والسمن، فقال: "الحلال ما أحل الله عز وجل في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه: فهو ما عفا الله عنه". فاقتضى ظاهر هذه الآثار مع ما تقدمها من الآيات إباحة جميع الأشياء، إلا ما قام الدليل على حظره. [دليل إباحة النبيذ من السنة] وأما الحجة من طريق السنة: فهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حسين بن جعفر القتاب الكوفي قال: حدثنا يزيد بن مهران قال: حدثنا أبو بكر بن عياش عن يزيد عن أبي زياد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنبيذ، فلما شمه قطب، وناوله الغلام، فلما كاد إن يقطع الأبطح، قالوا: يا رسول الله! أحلال أم حرام؟ قال: ردوه، فلما ردوه، دعا بكوزٍ من ماء، فصبه عليه، وقال: إذا اشتد

عليكم، فاكسروه بالماء". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح قال: حدثنا ابن أبي زائدة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قرة العجلي عن عبد الملك ابن أخي القعقاع ابن شور عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له شراب، فأتي بقدح منه، فلما قربه إلى فيه: كرهه، فرده، فقال له بعض القوم: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: ردوه، فأخذه منه، ودعا بماء فصبه عليه، ثم قال: أنظروا هذه الأسقية إذا اغتلمت، فاقطعوا متونها بالماء". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا معاذ قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا أبو الأحوص قال: حدثنا سماك بن حرب عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بردة بن نيار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اشربوا في الظروف، ولا تسكروا". قال: وحدثنا أحمد بن الوليد الكرابيسي قال: حدثنا أبو داود المباركي

قال: حدثنا ابن شهاب عن الأعمش عن أبي صالح عن المطلب عن أبي وداعة قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح من نبيذ، فصب عليه الماء حتى تدفق، ثم شربه". قال: وحدثنا علي بن الصقر قال: حدثنا محمد بن عمر بن حيان الحمصي قال: حدثنا ضمرة قال: حدثنا عثمان بن عطاء عن أبيه عن عبد اله بن بريدة عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أحل نبيذ الجر بعد أن حرمه". والآثار الموجبة لتحيل النبيذ كثيرة كرهت إطالة الكتاب بذكرها، وقد ذكرتُ طرفًا منها في المسألة التي عملتها في الأشربة، واستقصيت الكلام فيها لأصحابنا والمخالفين، من جهة الأثر والنظر، إلا أني أحببت أن لا أخلى هذا الكتاب من ذكر شيء منها على جهة الإيجاز والاختصار. ومما يدل على ما ذكرنا من طريق الأثر: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن زكريا قال: حدثنا العباس بن بكار قال:

حدثنا عبد الرحمن بن بشير الغطفاني عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأشربة عام حجة الوداع، فقال: حرام الخمر لعينها، والسكر من كل شراب". قال: حدثنا محمد بن زكريا العلائي قال: حدثنا شعيب بن واقد قال: حدثنا قيس عن قطب عن منذر عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنه نحوه. وقد روى عبد الله بن عبد العزيز البغوي قال: حدثنا محمد بن عبد الوهاب الحارثي قال: حدثنا سوار بن مصعب عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم الخمر لعينها، قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا حسين بن إسحاق قال: حدثنا عياش

بن الوليد قال: حدثنا علي بن عباس قال: حدثنا سعيد بن عمارة قال: حدثنا الحارث بن النعمان قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخمر لعينها حرام، والسكر من كل شراب". وقد روى هذا الحديث محمد بن عبيد الله الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس رضي الله عنه موقوفًا عليه، إلا أن فتيا ابن عباس بذلك لا تنفي صحة رواية من رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الآثار تدل أيضًا على إباحة النبيذ الذي يسكر كثيره؛ لأنه علق تحريم الخمر لعينها، قبل حدوث السكر منها، وعلق تحريم ما عداها بما يحدث عن السكر. * وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "كل مسكر حرام، فإنه خبر لا يصححه أهل النقل لاختلاف الرواة في رفعه. ولو صح رفعه، واستقام سنده، لم يكن معارضًا لما قدمنا مما يوجب الإباحة؛ لأن الذي يقتضيه حقيقة اللفظ، هو ما يحدث السكر عنه،

ويوجد عقيبه؛ لأن ما لا يحدث السكر عقيبه لا يقال له: مسكر، كما لا يقال للقمة من الطعام: هذا طعام مشبع، ولا للجرعة من الماء هذا شراب مرو، وإنما يطلق ذلك فيما يقع الشبع والري عقيبه. ويدل على أن المراد ذلك: ما حدثنا عبد الباقي قال: حدثنا محمد بن علي بن عتاب الجلاب المخزومي قال: حدثنا أبو إبراهيم الترجماني قال: حدثنا مشعل بن ملجان عن النضر بن عبد الرحمن عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام". قال: "اشرب، فإذا خفت: فدع". ويدل عليه أيضًا ما روي في بعض الأخبار: "كل شراب أسكر فهو حرام". ولا يصح أن يقال للقليل منه إنه شراب قد أسكر ولما يحدث السكر عنه. وعلى هذا المعنى حمله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، روى حماد عن إبراهيم عن علقمة قال: سألت ابن مسعود عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسكر قال: الشربة الأخيرة. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله. ويدل عليه أيضًا: ما حدثنا به بشر بن موسى قال: حدثنا هوذة قال:

حدثنا عوف عن سيار عن أبي الحكم عن بعض الأشعريين عن الأشعري قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذًا إلى اليمن فقلت: يا رسول الله! تبعثنا إلى أرض بها أشربة منها البتع والمزر يشتد حتى يسكر قال: - وأعطي رسول الله جوامع الكلم – فقال: "إنما أحرم المسكر الذي يسكر عن الصلاة". ومعلوم أن القليل منه لا يسكر عن الصلاة. * وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر كثيره: فقليله حرام". " وما أسكر الفرق منه: فملء الكف منه حرام": فإنا متى حملنا قوله: "ما أسكر كثيره فقليله حرام": على ما يقتضيه ظاهره، حصل من ذلك أن القليل مما يحدث عنه السكر هو المحرم، فيكون قد وفينا اللفظ حقه من مقتضاه وموجبه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقل: ما أسكر كثيره، فالقليل مما لم يسكر حرام، وإنما حرم به القليل مما يسكر، وكذلك نقول. ومن حمله على ما أسكر كثيره، فالقليل مما لم يسكر حرام: فقد زال معنى اللفظ عن وجهه، وصرفه إلى غير حقيقته.

فهذا الخبر لأن يكون لنا أولى من أن يكون علينا. * ووجه آخر: وهو أنه لو صح أنه أراد تحريم القليل مما لم يسكر إذا كان مما يسكر كثيره، كان المعنى فيه: أنه متى قصد عند ابتداء شربه إلى بلوغ حد السكر: فكله عليه حرام؛ لأنه قصد بالشرب معصية، وأرادها بالشرب كله، كما أنه إذا نوى بمشيه أن يمشي إلى سرقة، أو إلى زنى: كان مشيه ذلك معصية، كذلك إذا شرب وهو يريد بذلك أن يشرب حتى يسكر: كان القليل محرمًا. وقد حدثنا ابن قانع قال: حدثنا محمود بن محمد قال: حدثنا رحموية قال: حدثنا سوار بن مصعب عن المفضل عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شرب شرابًا ينوي فيه السكر، فقد عصى الله ورسوله". * ووجه آخر: وهو أن الشراب إذا كان عنه السكر، فكله عامل فيه، وعن جميعه وقع، فصار جميعه مؤثرًا فيه، كما أن الجراح الكثيرة إذا قتلت، كان جميعها موجبًا للقتل، وكجماعة جرحوا رجلاً، وكل واحدة من الجراحات لو انفردت لم توجب الموت، ثم إذا اجتمعت فقتلت، كان القتل حادثًا عن جميعها، وكذلك حال السكر، وعلى هذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أسكر الفرق منه، فالجرعة منه حرام"، إذ كان جميعه مؤثرًا في إيجاب السكر، وعلى الوجه الآخر، إذا قصد بها السكر.

* فأما ما روي في ذلك عن الصحابة والتابعين، فهو أشهر من أن يحتاج إلى الإكثار في ذكرها. فممن روي عنه بالأخبار المتواترة شرب النبيذ الشديد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، تركت ذكر أسانيدها اكتفاء باستفاضتها وشهرتها عند أهل العلم. وكذلك قد تواتر عنه الخبر بإباحة ما ذهب ثلثاه، ويبقي ثلثه، فيما كتب به إلى أمراء الأمصار بعد مشاورة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإشارتهم عليه بذلك. وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يشرب نبيذًا صلبًا آخره يسكر. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أشهد على البدريين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يشربون النبيذ في الحرار الخضر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حرمت الخمرة لعينها، والسكر من كل شراب. وروي عن ابن عمر، وأبي ذر، وأبي عبيدة، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وعبد الله بن أبي أوفى، وزيد بن أرقم،

وعمران بن حصين، وأبي بكرة، وجرير بن عبد الله، في آخرين من الصحابة شرب النبيذ، وإباحته بألفاظٍ مختلفة، وأسانيد صحيحة، تركت ذكرها كراهة الإطالة. وقد روي ذلك أيضًا عن عامة علماء التابعين، منهم شريح، عطاء، والحسن، وعمرو بن ميمون، وأبو عبيدة بن عبد الله، وعمرو بن شرحبيل، والضحاك بن مزاحم، وعامة أصحاب عبد الله، وسعيد بن جبير، والشعبي، وماهان الحنفي، والربيع بن خثيم. روي عن أبي حازم الثوري قال: بعثني الربيع بن خثيم أشتري له طلاء، فاشتريته، وفيه بعض الحلاوة، فقال: رده، واشتر لي ما هو أشد منه. وقد حدثنا ابن قانع عن إبراهيم بن شريك الأسدي قال: حدثنا شهاب بن عباد العبدي قال: حدثنا حماد بن يزيد عن عاصم بن بهدلة قال: أدركت أقواما يتخذون هذا الليل جملا، يلبسون المعصفر، ويشربون نبيذ الجر، لا يرون به بأسًا، منهم: أبو وائل، وزر بن حبيش. فقد استفاض عن عامة الصحابة والتابعين شرب النبيذ الشديد، وليس

يوجد عن أحدٍ من السلف تحريم ما يبيحه أصحابنا من الأنبذة نصًا. ومن روى عنه كراهة شيء من ذلك، فإنما روى ذلك عنه في نقيع التمر والزبيب، والمنصف، وما لم يرد إلى الثلث، فأما تحريم ما أبحتاه، فغير موجود عن أحد منهم نصًا. [دليل إباحة النبيذ من طريق النظر] وأما وجه إباحته من طريق النظر: فهو أنه لما كانت بلوى أهل المدينة عامة بشرب نبيذ التمر والبسر، وسائر ما يخرج من النخل، ثم حرمت الخمر، وليس بالمدينة منها شيء على ما روي عن جماعة من السلف، فلو كان التحريم شاملاً لما ذكرنا من الأنبذة، لكان من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف لهم عليه، لعلمه عليه الصلاة والسلام بظهور شربهم إياها، وعموم بلواهم بها. ولو وقفهم عليه، لورد النقل به متواترًا مستفيضًا، كوروده في تحريم الخمر، إذ كانت الحاجة إلى معرفة حكم هذه الأشربة، أمس منها إلى معرفة حكم الخمر، لقلة الخمر عندهم، وكثرة سائر الأنبذة المتخذة من النخل عندهم، فثبت بذلك أنها لم تدخل في تحريم الخمر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقفهم على تحريمها. ألا ترى أن نقيع التمر والبسر لما كانا محرمين، ورد النقل بتحريمهما من جهة التواتر والاستفاضة عن الصحابة والتابعين على النحو الذي قدمنا.

وأيضًا: فقد صح عندنا أن الأشياء على أصل الإباحة، حتى يقوم الدليل من عقل أو سمع على الحظر، وليس في العقل حظر ما أبحنا من الأشربة، ولا ثبت السمع بتحريمها، فهي باقية على أصل الإباحة. فصل: [حكم الأنبذة من غير النخل والكرم] وأما ما عدا الخارج من النخل والكرم من الأنبذة، فإن أبا حنيفة رحمه الله يبيحه بغير طبخ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصر حكم التحريم على الخارج منهما بقوله صلى الله عليه وسلم: "الخمر من هاتين الشجرتين". فاحتاج الخارج منهما إلى طبخ ينقلهما عن الحال التي كانا عليها، والنار قد تغير العصير والدبس، حتى تحيله إلى الناطف والبختج، وغيرهما من الأشياء التي يستحيل أن تكون خمرًا بعد مصيرها إليها. وما عدا الخارج منهما من نبيذ العسل وغيره، لا يجئ منه خمر على الحقيقة بحال، فلذلك لم يعتبر فيه الطبخ، ولم يحد من سكر منه، وكان السكر منه كالسكر من الأدوية المسكرة، فلا توجب حدًا، ولا يكون قليلها محرمًا. وأيضًا: لما قصر حكم التحريم على العدد المذكور، وجب أن يكون

هذا الحكم مقصورًا عليها دون غيرها، ومنع أن يكون غيرهما في حكمهما؛ حتى يكون لحصره إياه بالعدد فائدة. وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام: "أحلت لنا ميتتان ودما": بمنع أن يكون غيرهما من الدم والميتة لاحقًا بحكمهما. وكقوله صلى الله عليه وسلم: "خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم": يمنع أن يكون غير الخمس داخلاً في حكم الخمس. مسألة: [حكم صلاة من في ثوبه ما يسكر كثيره] قال أبو جعفر: "قال هشام: وكان محمد يقول: من صلى وفي ثوبه مما يسكر كثيره أكثر من مقدار الدرهم: أعاد الصلاة". قال أبو بكر: وذلك لأنه محرم عنده؛ لأن كل شراب محرم، فهو نجس كالخمر. والدليل على نجاسة الخمر: قول الله تعالى:} إنما الخمر والميسر والأنصاب

والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه {. فلزم اجتنابها بظاهر الآية في سائر الأحوال، فهو إذًا مأمور بإزالتها عن ثوبه وبدنه كسائر النجاسات. فإن قيل: فقد جمع في الآية إلى الخمر الأنصاب والأزلام، ولو صلى ومعه شيء من الأنصاب والأزلام: لم تفسد عليه صلاته. قيل له: ظاهر الآية يقتضي ذلك، إلا أن الدلالة قد قامت على جواز الصلاة معه، فخصصناه منها. مسألة: [السكر من النبيذ] قال أبو جعفر: (ومن سكر من النبيذ: حد في قولهم جميعًا). وذلك لما رواه ابن عليه عن محمد بن إسحاق قال: حدثني عبد الله ابن عتبة بن عروة بن مسعود الثقفي عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سكر أحدكم فاضربوه، ثم إن عاد فاضربوه، ثم إن عاد فاضربوه، ثم إن عاد الرابعة فاقتلوه".

ورواه ابن أبي ذئب عن خاله الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سكر فاجلدوه، ثم إذا سكر فاجلدوه، ثم إذا سكر فاجلدوه، ثم إذا سكر فاضربوا عنقه". فأوجب الحد بالسكر، فدل على أنه أراد النبيذ؛ لأنه لو أراد الخمر، لكان وجوب الحد فيه متعلقًا بشرب القليل منها، كما روي في خبر عبد الله بن عمرو: "إذا شرب الخمر فاجلدوه". فثبت بذلك أن شرب النبيذ يوجب الحد إذا بلغ السكر. وهو يدل أيضًا على أن ما لا يحدث منه السكر من النبيذ لا يوجب الحد؛ لأنه علق الحد بوجود السكر، دون غيره. مسألة: [السكر الذي يتعلق به الحد] قال أبو جعفر: (ثم يختلفون – يعني أصحابنا – في السكر الذي يوجب هذا الحد، فكان أبو حنيفة يقول: هو الذي لا يعقل صاحبه الأرض من السماء، ولا المرأة من الرجل، وقال أبو يوسف في الإملاء: إذا كان أكثر كلامه الاختلاط: حد، وهو قول محمد). قال أبو بكر: وجه قول أبي حنيفة: أن السكر الموجب للحد لما كان مختلفًا في حده، لم يوجب الحد إلا بيقين، وهو السكر المتفق عليه، وحيثما شككنا فيما أنه يوجب الحد أو لا يوجبه: أسقطنا الحد فيه، من

قبل أن لا نوجب الحد بالشك، ولأن الفعل إذا كان مختلفًا فيه: هل هو من الفعل الذي يتعلق به وجوب الحد أم لا؟ لم يجب به الحد، كالقتل المختلف فيه: هل هو عمد أو خطأ؟ وكالوطء المختلف فيه: هل هو زنى أم لا؟ فلا يجب القصاص والحد. مسألة: [مقدار حد شرب الخمر] قال: (وحد الخمر في قولهم جميعًا ثمانون جلدة). وذلك لما روى الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أن رجلاً من كلب يقال له: ابن وبرة، أخبره "أن أبا بكر رضي الله عنه جلد في الشراب أربعين، وكان عمر رضي الله عنه يجلد فيها أربعين، فبعثني خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى عمر أن الناس قد انهمكوا في الخمر، فقال عمر رضي الله عنه لمن حوله: ما ترون؟ فقال علي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين أرى ثمانين جلدة، وذلك أنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون". وروى مسلم بن إبراهيم عن هشام عن قتادة عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، فاستشار عمر الناس، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أرى أن

تجعله كأخف الحدود ثمانين". فحصل بذلك اتفاق الصحابة على الثمانين في زمان عمر، وثبتت حجته؛ لأن عمر لا يشاور إلا من إذا قالوا كان قولهم حجة إذا أجمعوا عليه. وقد روى ربيعة عن السائب بن يزيد "أن عمر رضي الله عنه جلد ابنه ثمانين". وروى أبو نعيم قال: حدثنا سفيان عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه قال: "أتي علي رضي الله عنه بالنجاشي قد شرب الخمر في شهر رمضان، فضربه ثمانين، ثم أمر به إلى السجن، ثم أخرجه نم الغد، فضربة عشرين، ثم قال: إنما جلدتك هذه العشرين لإفطارك في شهر رمضان، وجرأتك على الله". فصار ذلك إجماعًا منهم، كاتفاقهم على حزر بيع أم الولد. فإن قيل: قد روي عن علي رضي الله عنه "أنه أشار على عثمان رضي الله عنه بان يضرب الوليد بن عقبة في الخمر أربعين، وقال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة".

وروى سعيد بن أبي عروبة عن الداناج عن حصين بن المنذر الرقاشي أبي ساسان عن علي رضي الله عنه قال: "جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر أربعين، وأبو بكر أربعين، وكملها عمر ثمانين، وكل سنة". ففي هذا الحديث وجهان من جهة الدلالة على بطلان الاحتجاج بما ذكرت: أحدهما: حصول الخلاف من الصحابة رضي الله عنهم في المقدار بعد موت عمر رضي الله عنه، والثاني روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعين. قيل له: أما إثبات الأربعين حدًا عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: فلا يصح؛ لأن ذلك لو كان حدًا ثابتًا عند علي رضي الله عنه، لأشار به على عمر حين استشاره في مقدار الحد، فلما لم يذكر له ذلك عند مشاورته إياه، دل على أنه لم يكن عنده في مقدار الأربعين سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه أنه أشار على عمر بأن يضرب الذين شربوا الخمر بالشام – وقالوا هي حلال، لقوله تعالى:} ليس على الذين امنوا وعملوا الصالحات {الآية – ثمانين، بعد أن

يستتابوا". وكيف اشتهر عن علي أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في حد الخمر أربعين مع إشارته على عمر مرة بعد أخرى بأن يجلد في الخمر ثمانين. * وأما ما روي في قصة الوليد بن عقبة قال سفيان: روي عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي "أن عليًا رضي الله عنه جلد الوليد أربعين بسوط له طرفان". وروى ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن علي رضي الله عنه مثله. فهذا يوجب أن يكون ثمانين؛ لأن كل ضربة بمنزلة سوطين، ولا ينافي ذلك رواية من روى أربعين؛ لأنه يكون أربعين ضربة بطرفي السوط، فيكون ثمانين. وقد روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه ضرب في الخمر ثمانين، رواه إسحاق ابن أبي إسرائيل قال: حدثنا هشام بن يوسف عن عبد الرحمن بن صخر الأفريقي عن جميل بن كريب عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بشارب الخمر فجلده ثمانين".

وروى ابن لهيعة عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن يزيد بن وهب عن محمد بن علي بن أبي طالب عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه جلد رجلاً في الخمر ثمانين". فإن قال قائل: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم إثبات حد الخمر، لما روى الخصيب بن ناصح عن عبد العزيز بن مسلم عن مطرف فجلدناه، فمات وديناه، لأنه شيء صنعناه". وبما روى شريك عن أبي حصين عن عمير بن سعيد عن علي رضي الله عنه قال: "ما حددت أحدًا، فمات منه، فوجدت في نفسي شيئًا إلا الخمر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبين فيها شيئًا". فهذا الحديث يفسد سائر ما رويته عن النبي صلى الله عليه وسلم في حد الخمر، ويبطل أصلكم أيضًا في أن الحدود لا يجوز إثباتها قياسًا. قيل له: ليس في هذا ما ينفي ما رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حد الخمر ثمانين، وذلك لأن شعبة روى عن قتادة عن أنس رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر، فأمر به، فضرب بنعلين أربعين، ثم أتي ابو بكر رضي الله عنه برجل قد شرب الخمر فصنع به مثل ذلك، ثم أتي عمر رضي الله عنه برجل قد شرب الخمر، فاستشار الناس في ذلك، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله

عنه: أقل الحدود ثمانون، فضربه عمر رضي الله عنه ثمانين". فأخبر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بضربه بنعلين أربعين، وذلك يكون ثمانين. كما روى عن علي رضي الله عنه "أنه ضرب الوليد بن عقبة بسوط له طرفان أربعين"، وذلك يكون ثمانين جلدة. وأما قول علي رضي الله عنه: "أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يبين لنا فيه شيئًا"، وقوله: "شيء صنعناه نحن": فإن معناه: أنه لم يبين مقدار حده قولاً ولا أمرًا، وإنما ورد ذلك عنه فعلاً، ولم يقل: اضربوه ثمانين، وإنما اتفق ضربه ثمانين، فلم يكن في ذلك مقدار الحد، إلا أنهم مع ذلك استدلوا أن هذا الفعل كان منه عليه الصلاة والسلام على جهة الحد، لا على جهة التعزير؛ لأنه قد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام بغير هذا الخبر أنه قال: "إذا شرب الخمر فاجلدوه" ولم يذكر المقدار، ثم لما وجدوا المقدار في هذا الخبر، استدلوا به على أنه هو الحد المأمور به، فهذا معنى قوله رضي الله عنه: "صنعناه"، والله أعلم. وأيضًا: فجائز أن يكون استعمال الرأي كان في نقله عن الجريد والنعال إلى السوط، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم روي عنه أنه أمر بضربه بالجريد والنعال. وأيضًا: لما اختلفوا بدءًا في مقداره، فقال بعضهم: أربيه، وقال

بعضهم: ثمانين، وذلك قبل أن يجمعوا، احتذوا بعد ذلك ضربه بالنعال ثمانين، لاحتمال أن يكون ضرب بنعلين جلدة، واحتمال إن يكون جلدين، فكان في اجتهادهم أن كل ضربة كجلدتين إذ كانت بنعلين، كما قال الله تعالى:} وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث {، فكانت الضربة الواحدة في معنى الأعداد الكثيرة على حسب عدد الأغصان، أو الخشب. فليس في ذلك إثبات حد بقياس، وإنما فيه استعمال الاجتهاد في احتذاء فعل النبي صلى الله عليه وسلم، كما يجتهد الجلاد في الضرب فيما يضرب به، ولا يفرط ولا يقصر في سائر الحدود المقدرة. فإن قيل: ردهم إياه إلى حد الفرية، يدل على أن اجتهادهم كان في إثباته. قيل له: ليس كذلك؛ لأن هذا الضرب من الاجتهاد، لم يكن منهم إلا مع تقرره عندهم من ضرب النبي صلى الله عليه وسلم للسكران على الوجه الذي بينا. مسألة: [مقدار حد المملوك في الشرب] قال: (وحد المملوك في ذلك، وفي جميع الحدود مثل نصف حد الحر). وذلك لقول الله تعالى:} فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما

على المحصنات من العذاب {. ولم يختلف أهل العلم أن حد العبد كذلك، فثبت أن المعنى الموجب لنقصان حده هو الرق، فوجب أن يكون كذلك حكم سائر الحدود، لوجود الرق. مسألة: [النساء كالرجال في حد شرب الخمر] قال: (والنساء في ذلك كالرجال). لقول الله تعالى:} الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدةٍ {، فسوى بينهما في مقدار الحد. مسألة: [كيفية ضرب النساء] قال: (ولا تضرب النساء قيامًا، وإنما يضربن قعودًا). وذلك لأن أستر لهن. وقد روى "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يحفر للغامدية، وأن تشد عليها ثيابها".

مسألة: [حكم عصير العنب ونحوه] قال: (والعصير حلال شربه ما لم يغل ويقذف بالزبد، فإذا صار كذلك: كان خمرًا، وقال أبو يوسف: وإذا على ولم يقذف بالزبد: فهو خمر). قال ابو بكر: وهو قول محمد، وروي نحو قول أبي حنيفة عن سعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد، وهو قول الثوري. فذهب أبو حنيفة إلى أن اسم الخمر لا يتناوله حتى يقذف بالزبد؛ لأنه مختلف فيه قبل ذلك، فلا يحرم ما لم يحصل له اسم الخمر بالاتفاق، إذ لا سبيل إلى إثبات الاسم إلا من طريق اللغة أو التوقيف والاتفاق. مسألة: [حكم الانتفاع بالخمر] قال أبو جعفر: (ولا يحل الانتفاع بالخمر للرجال ولا للنساء ولا للصبيان في حال من الأحوال، لدواءٍ ولا غيره). قال أبو بكر: وذلك لقول الله تعالى:} إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه {. فدلت الآية على تحريم الانتفاع بها من سائر الوجوه من وجهين:

أحدهما: قوله: "رجس"، والرجس ما يجب اجتنابه. والآخر: قوله: "فاجتنبوه"، وذلك يقتضي تحريم سائر وجوه الانتفاع. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في الأخبار المتواترة: "إن الله حرم الخمر، وحرم بيعها وأكل ثمنها". وإطلاق لفظ التحريم يتناول انتفاعنا بها، وفعلنا فيها، لأن عين الخمر على الحقيقة لا تكون محرمة، إذ كانت فعل الله سبحانه، وإنما يتناول التحريم أفعالنا فيها، دون فعل الله عز وجل، فامتنع بذلك سائر وجوه الانتفاع. ويدل عليه أيضًا: تحريم النبي صلى الله عليه وسلم بيعها، وأكل ثمنها، وذلك ضرب من ضربو الانتفاع. وقال عليه الصلاة والسلام: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها". فأبان عليه الصلاة والسلام أن التحريم إذا ورد مطلقًا، تناول سائر وجوه الانتفاع، ومن أجل ذلك قال أصحابنا، لا يجوز أن يسقيها البهائم، ولا يبل بها طينًا، ولا ينظر إليها للتلهي، ولا يطعم كلابه الميتة؛ لأن كل ذلك من ضربو الانتفاع، وإطلاق لفظ التحريم يتناول حظره. وقد حدثنا عن أحمد بن علي الخزاز قال: حدثنا الحكم بن أسلم قال: حدثنا شعبة عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل عن أبيه "أن

رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها داء وليست دواء". مسألة: [تخليل الخمر] قال أبو جعفر: (فإن صارت خلاً: جاز بيعه، وحل الانتفاع به، سواء صارت بذاتها خلاً أو بعلاج). قال أبو بكر: أما إذا صارت خلاً بذاتها، فلا خلاف بين السلف رضي الله عنهم في جواز الانتفاع به وشربه، قد روي ذلك عن جماعة منهم من غير خلاف عن أحد من نظرائهم. وأما إذا خللها هو، فقد روي عن بعض السلف رضي الله عنهم كراهته. وقال أصحابنا: هو حلال، وذلك لقول الله تعالى:} ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرًا ورزقًا حسنًا {. روي في التفسير عن بعض السلف أن الرزق الحسن: هو الخل.

وإذا صح أن الخل مراد بما تضمنته الآية من الإباحة، كان ذلك عمومًا في كل حل، إلا أن يقوم الدليل على تخصيص شيء منه. وأيضًا: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نعم الإدام الخل". ولم يفرق بين الخل المتخذ نم الخمر وغيره، فهو على عمومه في الجميع. وأيضًا: فإن المعنى الموجب لتحريم الخمر، حدوث الاسم عندنا، وعند مخالفنا حدوث الشدة، بدلالة إباحته في حال كونه عصيرًا، فإذا خلل فقد زال المعنى الذي من أجله حرم، فيزول التحريم، ويكون حينئذٍ بمنزلة الخل الذي يستحيل إليه الخمر من غير تخليل آدمي. فإن احتجوا بما حدثنا ابن قانع عن بشر بن موسى قال: حدثنا عبد الصمد بن حسان قال: حدثنا سفيان الثوري عن إسماعيل السدي عن أبي هريرة عن أنس: "أنه كان عنده مال ليتيم، فاشترى به خمرًا، فلما حرمت الخمر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أجعله خلاً؟ قال: لا، أهرقه". قيل لهم: وما في هذا من الدلالة على أنه إذا جعلها خلاً مع النهي عن التخليل، منع ذلك إباحة أكله، والانتفاع به، وليس يمتنع أن يقول لنا: لا تجعلوها خلاً، فإن جعلتموه خلاً، جاز لكم الانتفاع به بعد ذلك، كما لا يمتنع عندنا وعند مخالفينا جميعًا أن يقول: لا تذبحوا الشاة بسكين

مغصوبة: فإن فعلتموه: جاز لكم أكلها، ألا ترى أنه منهي عن أن يجعل عصير غيره خلاً، ولو فعل ذلك كان خلاً مباحًا. فإن قيل: فما وجه النهي عن تخليله؟ قيل له: على وجه التغليظ، لتحريم الخمر، ولقطع عادتهم التي كانت لهم في الانتفاع، كما أمر عليه الصلاة والسلام بشق الراوية. وكسر أبو طلحة والأنصار معه الأواني، ولم يكن شق الراوية واجبًا، ولا كسر الأواني، لكن على جهة تغليظ حكم التحريم في تلك الحال. فإن قيل: لما كان منهيًا عن الانتفاع بالخمر، وكان في تخليلها ضرب من الانتفاع، وجب أن يكون ممنوعًا منه. قيل له: ليس في التخليل شيء من الانتفاع بالخمر، وإنما يقع بعد ذلك الانتفاع بالخل، والخل ليس بخمر، ألا ترى أنه يجوز له أن يدبغ جلد الميتة، فيصل إلى الانتفاع به بعد الدباغ، وليس ذلك انتفاعًا بالميتة، إذ كان ذلك الدباغ يخرجه من أن يكون ميتة، كذلك لما كان التخليل يخرجه من أن يكون خمرًا، لم يمتنع جواز الانتفاع به. وجواز دباغ جلد الميتة، والتوصل إلى جهة استباحة الانتفاع به يجوز أن يكون أصلاً لإباحة تخليل الخمر؛ لأن الدباغ لما ذكاه، أخرجه من حكم الميتة، وكذلك التخليل يخرجه من إن يكون خمرًا، فجاز له التوصل إلى ذلك بالتخليل.

مسألة: [طرح السمك أو الملح في الخمر] قال أبو جعفر: (ومن كانت عنده خمر، فطرح فيها سمكًا وملحًا حتى صارت مربي: فلا بأس به في قول أبي حنيفة). وذلك لأنها تصير خلا، فتحل بالاستحالة. قال: (وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف: أن الخمر إن كانت هي الغالبة: فكما قال أبو حنيفة رحمه الله، وإن كان ما جعل فيها هو الغالب عليها: فلا خير في ذلك). وكأن أبا يوسف ذهب إلى أن الخمر إذا كانت هي الغالبة، فهذا ضرب من تخليلها، ويجوز له تخليل الخمر، وإن كان ما جعل فيها هو الغالب: فهو بمنزلة قطرة خمر خالطت ماء أو عجينًا أو نحو ذلك، فتنجسه وتفسده. إلا أن ذلك لا يلزم أبا حنيفة؛ لأن الملح من شأنه أن يحيلها خلاً، وقليل الخمر أولى بذلك من كثيرها. مسألة: [صب الخمر في الحنطة] قال: (ومن صب خمرًا في حنطة: فقد أفسدها، فإن غسلت وطحنت، ولا يوجد للخمر فيها طعم ولا رائحة: فلا بأس بأكلها).

وذلك لأن الخمر نجسة، فنجست الحنطة، فإذا غسلت: طهرها الغسل، كما تطهر سائر النجاسات. مسألة: [بيع عصير العنب ممن يجعله خمرًا] قال: (ولا بأس ببيع العصير من كل أحد: خاف البائع أن يتخذه المشتري خمرًا، أو أمن ذلك). وذلك لأن العصير مباح جائز التصرف فيه، وإنما المأثم على من يتخذه خمرًا لشربها، فأما البائع فلا شيء عليه في ذلك، كبيع الحرير والحلي من الرجال: فهو جائز مباح وإن لم يأمن أن يلبسه الرجل، أو يستعمله فيما لا يجوز. فإن قيل: فقد كرهتم بيع السلاح في الفتنة، وفي عساكر الفتنة، فهلا كان كذلك بيع العصير ممن يتخذه خمرًا؟ قيل له: الفصل بينهما: أن السلاح على هيئته هذه يستعان به على القتال، فإذا كان زمان الفتنة: كره بيعه ممن يستعين به عليها، كما يكره إعطاء صاحب الفتنة من الخوارج وأهل الحرب، وأما العصير فلا بأس بالانتفاع به على هيئته كيف شاء صاحبه، وإنما المحظور منه بعد استحالته خمرًا، وليست هي المعقود عليها في الحال. فإن قيل: فينبغي أن يكره بيع الحرير والحلي من الرجال؛ لأنهما على هيئتهما ينتفع بهما في الجهة المحظورة. قيل له: لم نقل إن بيع السلاح مكروه، لأجل إمكان الانتفاع به على هذه الهيئة في الوجه المحظور، دون أن تكون الحال دالة عليه، وهو إن

يكون في عسكر الفتنة، أو زمان الفتنة مع ما وصفنا من حاله. وأما الحرير والحلي، فليس لهما حال ظاهرة يمنع ببيعهما وإن كان الانتفاع بهما ممكنًا على الوجه المحظور، وبيع العصير يشبه من هذه الجهة بيع الحرير والحلي من الرجال، إذ ليست ها هنا حال ظاهرة يقتضي أن يكون شراء العصير لأن يتخذ خمرًا، فوجب أن لا يمنع بيعه. وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، وبيعها": فما ذكر في الخبر فلا دلالة عليه على مسألتنا؛ لأن ذلك وارد في الخمر، وكلامنا في عصير ليس بخمر. فإن قيل: إنما عنى عاصر العنب للخمر، فينبغي أن يكون بائع العصير للخمر مثله. قيل له: قولك إنه عنى عاصر العنب للخمر: دعوى لا دلالة عليه من الخبر، لأن الخمر نفسه قد يجوز أن يعتصر، بأن يطرح العنب في الإناء حتى ينشي ويغلي، ثم يعصر، فيكون عاصرًا للخمر، وهذا الذي اقتضاه ظاهر الخبر؛ لأنه لعن عاصر الخمر، فينبغي أن يكون خمرًا في حال العصير. وعلى أنا ننهى أيضًا عن عصير العنب للخمر، ومن فعل ذلك فهو عاصر، وإنما مسألتنا فيمن باع ولم يعصره، وإنما خاف أن يعصره المشتري، فلا يكون البائع منهيًا عنه لأجل فعلٍ يحدث بعده من غيره.

مسألة: [حكم لحم الحيوان إذا شرب خمرًا] قال: (ومن كانت له شاة، فشربت خمرًا، ثم ذبحها ساعتئذ: لم يحرم بذلك لحمها). لأنها بمنزلة نجاسة جاوزتها، أو جاوزت أمعاءها، فلا يفسد بذلك لحمها، كما لو شربت ماء نجسًا، وكما لا ينجس لحمها ولبنها بمجاورة الدم والفرث، قال الله تعالى:} من بين فرث ودمٍ لبنا خالصًا سآئغًا للشاربين {. مسألة: [الاضطرار لشرب الخمر] (وللمضطر أن يشرب من الخمر مقدار ما يمسك رمقه، وكذلك الميتة والدم، ولا يتناول أكثر من ذلك). وذلك لقول الله تعالى:} إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه {. فأباح الأكل منها عند الضرورة، وهو عند الخوف على النفس، فإذا تناول منها ما أمسك الرمق، فقد زال الخوف في هذه الحال، فيعود على حكم التحريم، لزوال الضرورة المبيحة لها. والخمر وإن لم تكن مذكورة في الآية، فحكمها حكم ما هو مذكور فيها، لوجود الضرورة، وخوف التلف على النفس.

مسألة: [كيفية الضرب في التعزير] قال أبو جعفر: (والتعزير أشد الضرب). قال أبو بكر: يعني إذا رأى الإمام ذلك؛ لأنه موضوع للزجر والردع، فإذا لم يكن للإمام فيه بلوغ الحد، لورود الأثر في منعه، وجب عليه المبالغة في ردعه بشدة الضرب. مسألة: [ضرب الزاني أشد من ضرب الشارب] قال: (وضرب الزاني أشد من ضرب الشارب). وذلك لوجوه: أحدها: قول الله عز وجل في قصة الزاني:} ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله {. والآخر: أنه منصوص في كتاب الله تعالى، وضرب الشارب أخذ من جهة السنة. والثالث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب الشارب بالجريد والنعال"، وهذا يدل على التخفيف. مسألة: [ضرب الشارب أشد من ضرب القاذف] قال: (وضرب الشارب أشد من ضرب القاذف).

وذلك لوجهين: أحدهما: أن القاذف قد غلظ عليه من جهة أخرى، وهي بطلان الشهادة، فلا يجوز أن يجمع عليه التغليظ من وجهين. والثاني: أن القاذف جائز أن يكون صادقًا في قذفه، وأن له شهودًا قعدوا عن إقامة الشهادة، لقصدهم الستر على الزاني، وهم في سعة من ذلك، فوجب تخفيف ضربه، وقد تقدم ذكر هذه المسائل في الحدود، وتكلمنا فيها بما يغني عن الإعادة. مسألة: [حكم من وجدت منه ريح الخمر] قال: (ولا يحد من وجد منه ريح خمر، ولا من قاء خمرًا، لجواز أن يكون أوجر مكرهًا). مسألة: [طلاق السكران] وقد تقدمت مسألة طلاق السكران في كتاب الطلاق. مسألة: [شرب ما نبذ في الأوعية والظروف] قال: (ولا بأس بشرب ما انتبذ في الدباء والنقير والمزفت).

وذلك للأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إباحته بعد حظره. مسألة: [حكم أهل الذمة في شرب الخمر] قال: (ومن شرب من أهل الذمة خمرًا أو ما سواها مما يسكر كثيره: فلا حد عليه في ذلك وإن سكر). قال أبو بكر: وذلك أنهم غير ممنوعين من شرب الخمر، لأنهم أعطوا الذمة على أن يخلى بينهم وبين ذلك، كما أعطوا على أن يخلى بينهم وبين عبادة غير الله عز وجل، فلا يجوز أن يجب عليهم الحد فيما أطلق لهم شربه. وأيضًا: فكما خلينا بينهم وبين شربها، فالتخلية واقعة بينهم وبين ما يوجب السكر منها، فينبغي أن لا يحدوا. فإن قيل: هلا كانوا في ذلك بمنزلة المسلم الذي يشرب المباح من نبيذ التمر وغيره، ويحد إذا سكر؟ قيل له: لأن المسلم ممنوع من شرب ما يوجب السكر، وهؤلاء غير ممنوعين من ذلك، كما ليسوا ممنوعين من تمولها وبيعها وشرائها. قال أبو جعفر: (وقال الحسن بن زياد: لا حد عليه في ذلك إلا أن يسكر، فإن سكر: حد في ذلك، كما يحد المسلم).

ويشبه أن يكون ذهب إلى الوجه الذي ذكرناه في السؤال، وهو أن يكون كالمسلم إذا شرب النبيذ المباح، وسكر منه. *******************

كتاب السير والجهاد

كتاب السير والجهاد مسألة: [فرضية الجهاد] قال أبو جعفر: (الجهاد واجب، إلا أن المسلمين في سعة ما لم يحتج إليهم). قال أحمد: الجهاد عند أصحابنا فرض على الكفاية، إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين، وليس بفرض على أحد في نفسه، وهو مثل غسل الموتى، والصلاة عليهم، ودفنهم، ومثل طلب علم الدين، والقيام به وتعليمه. * ويحكى عن ابن شبرمة، والثوري أن الجهاد تطوع، وليس بواجب

والدليل على وجوبه في الجملة: قول الله تعال:} كتب عليكم القتال وهو كره لكم {. ومعناه: فرض عليكم، كقوله تعالى:} كتب عليكم الصيام {. وقال:} وقتلوا المشركين كافة {، وقال:} قتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر {الآية، وقال تعالى:} مالكم إذا قيل لكم أنفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض {، إلى قوله تعالى:} إلا تنفروا يعذكم عذابًا أليمًا {. والوعيد لا يلزم في ترك غير الواجبات. وقال:} انفروا خفافا وثقالا وجهدوا بأموالكم وأنفكم في سبيل الله {. وظاهر هذه الآي أوامر تقتضي الإيجاب، ولا يجوز صرفها عن الوجوب إلى الندب إلا بدلالة، ولا دلالة من السنة، ولا من إجماع الأمة على أنها ليست على الإيجاب.

بل وردت آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم موجبة لمثل ما اقتضته هذه الآيات من فرض الجهاد، منها: حديث جبلة بن سحيم عن أبي المثنى العبدي عن ابن الخصاصية السدوسي "أن النبي عليه الصلاة والسلام اشترط عليه في البيعة: أن أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وتصلي الخمس، وتصوم شهر رمضان، وتحج حجة الإسلام، وتؤدي الزكاة، وتجاهد في سبيل الله تعالى. قال: قلت: يا رسول الله اثنتان ما أطيقهما: الزكاة، والله مالي إلا عشرة ذود؛ وهن رسل أهلي وحمولتهن، وأما الجهاد: فإنهم يزعمون أن من ولى الدبر: فقد باء بغضب من الله، فأخاف إن أحضر القتال: كرهت الموت، وخشيت على نفسي. قال: فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، ثم حركها، فقال: لا صدقة ولا جهاد، فبم تدخل الجنة؟!. ثم قلت: أبايعك يا رسول الله، قال: فبايعني عليهن كلهن". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:

لا إله إلا الله، فإذا قالوها: عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". وروى سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من نفاق". وروى القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يغز، أو يجهز غازيًا، أو يخلف غازيًا في أهله بخير: أصابه الله تعالى بقارعة". قال يزيد بن عبد ربه في حديثه: قبل يوم القيامة. والآثار الواردة في فرض الجهاد أكثر من أن يحتمل ذكرها هذا الكتاب. * وإنما قلنا إنه فرض على الكفاية، وليس هو على كل أحد في عينه، لقول الله تعالى:} وما كان المؤمنون لينفروا كافة {. فدل على أن فرض الجهاد على الكفاية، فهذه الآية قد تضمنت لزوم الجهاد، وانه على الكفاية. ويدل عليه أيضًا: قوله عز وجل:} لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى

الضرر والمجتهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلًا وعد الله الحسنى وفضل الله المجهدين على القاعدين أجرا عظيمًا { فمدح الجميع، وفضل المجاهدين، ولو كان فرضًا على كل واحد في نفسه، لكان مستحقًا للوم بالقعود. * ويدل عليه من جهة السنة: حديث يزيد بن أبي حبيب عن يزيد بن أبي سعيد مولى المهري عن أبيه عن أبي سعيد الخدري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني لحيان، وقال: ليخرج من كل رجلين رجل، ثم قال للقاعد: أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير: كان له مثل نصف أجر الخارج". ويدل عليه أيضًا: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي تريد أن تحج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حج مع امرأتك". فأباح له ترك الغزو من غير فرض انصرف إليه،؛ لأنه لم يكن عليه الخروج مع امرأته، فدل ذلك على أن فرض الجهاد غير متعين على كل احد بنفسه.

وأيضًا: فإن الله تعالى غنما فرض الجهاد لإقامة الدين، قال الله تعالى:} وقتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله { وفي إلزام فرض الجهاد الكافة في وقت واحد: ذهاب للدين، وهلاك للناس؛ لأنهم يشتغلون عن معايشهم وأرضهم، ويخلون أهليهم وأولادهم، وفي ذلك بوارهم وهلاكهم، وفي هلاكهم اعتلاء الكفار عليهم، وذهاب دينهم، فدل على أن فرض الجهاد على الكفاية. مسألة: [استئذان الأبوين للجهاد] قال أبو جعفر: (ومن كان له أبوان لم يجاهد إلا بإذنهما له في ذلك). وذلك لما حدثنا به عن أبي داود قال: حدثنا محمد بن كثير قال اخبرنا سفيان قال: حدثنا عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان. قال: ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما". وروى حبيب بن أبي ثابت عن أبي العباس عن عبد الله بن عمرو قال:

"جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أجاهد؟ قال ألك أبوان؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد". وحدثنا عن أبي داود قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجًا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أن رجلًا هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن، فقال: هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي. قال: أذنا لك؟ قال: لا. قال: فارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما. مسألة: [من تؤخذ منه الجزية، ومن لا تقبل منه] قال أبو جعفر: (ونقاتل أهل الكتاب عربهم وعجمهم، والمجوس ممن سوى العرب حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ونقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا). قال أبو بكر: قوله في أهل الكتاب: تقبل منهم الجزية عربًا كانوا أو

عجمًا، والمجوس، فهو كما قال الله تعالى. وأما قوله: "ونقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا": فليس هذا الإطلاق بسديد على مذهب أصحابنا؛ لأن من مذهبهم: قبول الجزية من سائر أصناف مشركي العجم، سواء كانوا من عبدة الأوثان أو غيرهم. وإنما لا تقبل من مشركي العرب خاصة، ومن المرتدين، هذان الصنفان لا يقبل من رجالهم إلا الإسلام أو السيف، وسائر الكفار يقرون على كفرهم بالجزية، وذلك منصوص عنهم، ذكره محمد بن الحسن في "السير الكبيرة". فأما قبول الجزية من أهل الكتاب، فالأصل فيه: قول الله تعالى:} قتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون {. فهذا عام في سائر أهل الكتاب عربهم وعجمهم.

[لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف] * وأما مشركو العرب: فلا لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، والأصل فيه: قول الله تعالى:} فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم {. وهذا في مشركي العرب، لقوله تعالى:} فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم {، والعهد إنما كان بين النبي عليه الصلاة والسلام، وبين مشركي العرب. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وكان ذلك حكمًا جاريًا فيهم. فإن قيل: آية الجزية قاضية عليه؛ لأن أهل الكتاب مشركون. قيل له: لا خلاف أن حكم آية الجزية ثابت في أهل الكتاب من العرب والعجم، وإنما الخلاف في مشركي العرب وغيرهم، ممن ليس من أهل الكتاب، هل تقبل منهم الجزية أم لا؟ وقد دللنا بظاهر الآيات التي قدمنا على أنهم لا يقرون على الكفر بالجزية، وأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. * وأما الدلالة على قبول الجزية من مشركي العجم: فهو ما روى علي

بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من المجوس". وليس المجوس بأهل كتاب، لقوله تعالى:} أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا {: يعني به اليهود والنصارى، ولو كان المجوس أهل كتاب لصاروا ثلاث طوائف. وأيضًا: في حديث عبد الرحمن بن عوف "أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أخذ الجزية من المجوس قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب". فدل ذلك على أنهم ليسوا أهل كتاب. وقد تلقت الصحابة رضي الله عنهم هذا الخبر بالقبول، واستعملوه في مجوس العراق حين فتحوه، ولما ثبت ذلك في المجوس، وليسوا أهل كتاب: دل على جواز من ساتر مشركي العجم. وأيضًا: ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه:} وأنذر عشيرتك الأقربين {، وأمره الله تعالى بالدعاء، عرض نفسه على القبائل، وقال لهم: هل لكم أن تجيبوني إلى كلمة تدين لكم بها العرب، وتؤدي إليكم بها الجزية العجم".

فعم جميع العجم بأداء الجزية، وأخبر أن العرب تدين لهم بها، فدل على انه لا تقبل منهم الجزية، إلا أن أهل الكتاب منهم مخصوصون من هذه اللفظة لقيام الدلالة. وأيضًا: ما رواه أبو حنيفة والثوري وغيرهما عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على جيش أو سرية، وذكر الحديث إلى قوله: وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال، فآيتهن ما أجابوك إليها فأقبل منهم، وكف عنهم، إلى قوله: فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك: فأقبل منهم، وكف عنهم". فعم جواز أخذ الجزية من سائر المشركين، ولما قامت الدلالة على أن مشركي العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، خصصناه من هذه الجملة، واستعملناه باقي اللفظ على العموم في مشركي العجم. فإن قيل: هلا استعملت قوله تعالى:} فاقتلوا المشركين {،: في سائر المشركين، ولم كان ما في الخبر من جواز أخذ الجزية من المشركين أولى بالاستعمال من عموم لفظ الآية في إيجاب القتل دون الجزية؟ قيل له: من قبل أن وجوب الجزية متأخر عن الأمر بالقتل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد كان مأمورًا بالقتال بعد الهجرة، ولم يكن وجوب الجزية إلا في آخر أيامه عليه الصلاة والسلام، فوجب أن يكون خبر

ذكر الجزية قاضيًا على حكم الآية الواردة في وجوب القتال مخصصًا لها. مسألة: [تبليغ الدعوة للعدو قبل قتاله] قال أبو جعفر: (ولا ينبغي قتال أحٍد من العدو ممن لم تبلغه الدعوة ...) إلى آخر ما ذكره. قال أحمد: الأصل في الدعاء قبل القتال: قول الله تعالى ذكره:} وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا {. ومن جهة الأثر: ما روي في حديث علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر رجلًا على سرية قال له: ادعهم إلى الإسلام"، وذكر الحديث. وروى أبو حازم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم لما

وجه عليًا رضي الله عنه إلى خبير قال: "ادعهم إلى الإسلام". وفي حديث أنس قال: "لا تقاتلهم حتى تدعوهم". وروى سفيان وحجاج عن أبي نجيح عن أبيه عن ابن عباس قال: "ما قاتل رسول الله عليه الصلاة والسلام قومًا حتى يدعوهم". فهذا حكم مستعمل فيمن لم تبلغه الدعوة. * وسائر ما ذكره أبو جعفر من كلامه، فإنه احتذى فيه حديث علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه في سياقه ألفاظه. مسألة: [استحباب دعاء من بلغته الدعوة أيضًا] قال أبو جعفر: (وإن كانوا ممن قد بلغته الدعوة، ورأى الإمام أن يدعوهم: دعاهم كما ذكرنا، وإن رأى أن لا يدعوهم: لم يدعهم). قال أحمد: دعاء من بلغته الدعوة حسن أيضًا، لما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليًا رضي الله عنه بدعاء أهل خيبر، وقد كانوا ممن بلغتهم الدعوة".

وإن ترك الدعوة، واقتصر على ما قد حصل لهم من العلم بدعوة النبي عليه الصلاة والسلام: جاز. وذلك لما روى الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: "أغر على أبنى صباحًا، وحرق". وروى حماد عن ثابت عن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير على العدو عند صلاة الصبح، فيستمع: فإن سمع أذانًا: أمسك، وإلا: أغار". وعن جندب الجهني: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية، وأمرهم بشن الغارة". وقد حدثنا ابو بكر محمد بن بكر بن عبد الرازق البصيري قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: أخبرنا ابن عون قال: "كتبت إلى نافع أسأله عن دعاء المشركين عند القتال، فكتب إلى: أن ذلك كان في أول الإسلام، وقد أغار نبي الله

صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى سبيهم، وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث". حدثني بذلك عبد الله، وكان في ذلك الجيش. قال أبو داود: "هذا حديث نبيل، رواه ابن عون عن نافع، ولم يشركه فيه أحد". فثبت بهذه الأخبار جواز ترك الدعاء لمن بلغته الدعوة. مسألة: [تبييت العدو والإغارة عليهم] قال أبو جعفر: (وللإمام إذا لم يحتج إلى الدعوة فيما وصفنا أن يبيت من نزل بساحته من العدو، ويقتل مقاتلتهم، ويسبي ذراريهم ونساءهم، ويغنم أموالهم، ويقطع أشجارهم المثمرة غير المثمرة). وذلك لما وصفنا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بالغارة والتحريق. وحديث جندب الجهني "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية وأمرهم بشن الغارة".

وحديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما في قصة بني المصطلق. * وأما غنيمة الأموال، وسبي الذراري، فلقول الله عز وجل} واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه {. وما نقلته الأمة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في المشركين إذا غلبهم بالسيف. * وأما قطع الشجر المثمر: فلقول الله تعالى:} ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين {. فأباح تعالى القطع والترك، وصب الجميع من الفريقين. وقطع النبي صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير، وقال فيه حسان بن ثابت:

وهان على سراة بني لؤي ... حريق البويرة مستطير * وقد كره الأوزاعي قطع الشجرة المثمرة، واحتج بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه نهى الجيش الذي أنفذه إلى الشام عن قطع الشجرة المثمرة. والمعنى في ذلك عندنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان وعدهم فتحها، وأنها تصير للمسلمين، فلذلك كرهه لما بيناه. ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة: "أغر على أبني صباحًا، وحرق". مسألة: [تحريق حصون العدو، وإغراقها بالماء] قال ابو جعفر: (وله أن يرميهم بالمنجنيقات، وأن يحرق حصونهم

بالنيران، ويغرقها بالماء، ولا يمتنع من ذلك لأجل من في أيديهم من الأسرى، ومن لا يجوز لنا قتله). وذلك لما حدثنا عن أبي داود قال: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح قال: حدثنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما عن الصعب بن جثامة "أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يبيتون، فيصاب من ذراريهم ونسائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم منهم". فقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيتوا مع إخبار السائل بما يصاب من الذراري، فلم ينهه من أجل ذلك. وقد "رمي النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف حين حاصرهم"، مع علمه بمن فيهم من الذراري الذين لا يتعمدون بالقتل. قال أحمد: ولا يوجب أصحابنا لمن أصيب من الأسرى وغيرهم على هذا الوجه دية ولا كقارة؛ لأنهم مأمورون برمي الكفار مع العلم بمن فيهم من الأسرى، وجواز إصابتهم به، فصاروا في حكم المأمور برميه

وقتله، فلا يجب فيه شيء. مسألة: [موضع قسمة الغنائم] قال أبو جعفر: (ولا ينبغي للإمام إذا غنم غنيمة أن يقسمها في دار الحرب حتى يخرجها إلى دار الإسلام). وذلك لأن المسلمين لا يثبت لهم فيها حق إلا بحيازتهم في دار الإسلام، ومن أجل ذلك قال أصحابنا: إن من مات من الجند قبل إحراز الغنيمة في دار الإسلام: لم يكن لورثته منها شيء، وإذا مات بعد إحرازها: كان نصيبه منها لورثته.

ولذلك قالوا أيضًا: إذا لحقهم جيش آخر قبل أن يخرجوها إلى دار الإسلام: شركوهم فيها. والدليل على أن حقهم لا يثبت في الغنيمة إلا بالحيازة والإحراز: أن الموضع الذي حصلوا فيه من دار الحرب لا يصير من دار الإسلام بحصول الجيش فيه، ولو ثبت حقهم فيه دون الحيازة، لصار من دار الإسلام، ولو كان كذلك: كان يجب أن تكون أحكام تلك البقعة حكم دار الإسلام، حتى تنقطع العصمة بين من حصل هناك وبين أهل الحرب في عتق العبيد إذا خرجوا، فحصلوا في ذلك الموضع، ووقوع الفرقة بين المهاجرة المسلمة إذا حصلت هناك وبين زوجها. وكان ينبغي أن يكون لو لحقهم جيش قبل أن يظهروا على دار الحرب أن لا يشاركهم في البقعة التي كان الجيش الأول اجتازوا بها، ووطؤوها، ولا خلاف أن جيشًا لو لحقهم، ثم ظهروا على دار الحرب جميعًا: أن الأول والثاني شركاء في جميع الدار، فدل أن حق الأولين لم يثبت فيها بظهورهم عليها دون حيازتها وإحرازها، وكذلك الأموال. فإن قيل: "إن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بني المصطلق قبل رجوعه إلى المدينة". قيل له: قسمها بعد ما صار الموضع من دار الإسلام، ولم يقسمها قبل ذلك، ونحن كذلك نقول: إذا صارت الدار دار الإسلام، لظهور المسلمين عليها، وحيازتهم لها: قسم فيها الغنائم.

ويدل على ما ذكرنا: أنه يجوز له أن يأكل من الطعام الذي غنموه في دار الحرب، ولا يأكل منه إذا خرج إلى دار الإسلام. ويدل عليه أن من باع حصته منها: لم يجز بيعه. مسألة: [أخذ ما يحتاجه الإنسان من طعام وعلف الغنيمة] قال أبو جعفر: (وما كان في الغنيمة من طعام أو علف: لم يكن على من احتاج إلى ذلك جناح أن يأخذ منه بمقدار حاجته وإن لم يستأذن الإمام في ذلك). لما حدثنا عن أبي داود قال: حدثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري قال: حدثنا أنس بن عياض عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر "أن جيشًا غنموا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا وعسلًا، فلم يؤخذ منهم الخميس". وهذا يدل على أنهم أكلوه في دار الحرب قبل أن يخرجوه إلى دار الإسلام؛ لأنهم لو أخرجوه: لم يختلف الفقهاء أن الخمس واجب فيه. وثبت بذلك جواز الأكل بغير إذن الإمام، ما لم يحرز في دار الإسلام، ويكون حينئذ بمنزلة المباحات من الصيد والثمار، فلا يجب فيه شيء. ويدل عليه أيضًا: ما حدثنا عن أبي داود قال: حدثنا موسى بن

إسماعيل والقعنبي قالا: حدثنا سليمان عن حميد- يعني ابن هلال- عن عبد الله بن مغفل قال: "دلي جراب من شحم يوم خيبر، قال: فأتيته، فالتزمته، قال: ثم قلت: لا أعطي من هذا أحدًا اليوم شيئًا، قال: فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم إلى". فلم ينكر عليه النبي عليه الصلاة والسلام قوله: "لا أعطي اليوم أحدًا منه شيئًا، فدل على جواز أكله من غير استئذان الإمام. وقد روي إباحة ذلك عن جماعة من السلف، منهم ابن عمر وسلمان وإبراهيم والحسن وعطية بن قيس في آخرين منهم، من غير خلاف يحكى عن أحد من نظرائهم. مسألة: [أخذ المجاهد السلاح وغيره من الغنيمة عند الحاجة] قال أبو جعفر: (وكذلك إن كان فيها سلاح، فلا بأس أن يقاتل به من احتاج إليه، ثم يرده في الغنيمة، وكذلك ثياب اللبس، وأداة الركوب، ولا يأخذ شيئًا من ذلك بغير حاجة إليه).

وذلك لما روى أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، "أنه قتل أبا جهل بن هشام بسيفه". وروي "أن ابن الدغنة قتل دريد بن الصمة بسيفه". ولم ينكر النبي عليه الصلاة والسلام ذلك عليهما. ألا ترى أنه لو رماه المشرك بسهم: كان له أن يرميه به، ولا خلاف في ذلك نعلمه. [مسألة] (ولا ينتفع بشيء من ذلك لغير حاجة). لما حدثنا عن أبي داود قال: حدثنا سعيد بن منصور وعثمان بن أبي شيبة- واللفظ له- قال أبو داود: وأنا لحديثه أتقن، قالا: حدثنا أبو معاوية عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي مرزوق

مولى تجيب عن حنش الصنعناني عن رويفع بن ثابت الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين، حتى إذا أعجفها: ردها فيه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبًا من فيء المسلمين، حتى إذا أخلقه: ردة فيه". مسألة: [الغنائم التي عجز المسلمون عن حملها إلى دار الإسلام]. قال: (وما أصاب المسلمون في دار الحرب من الغنائم، وعجزوا عن حمله من غير الحيوان: أحرقوه بالنار، وما كان من ماشية: ذبحوها، ثم احرقوها بالنار). وذلك لوجهين: أحدهما: ما يلحق الكفار من ذلك من الغيظ والأسف. والثاني: لئلا يقووا به على قتال المسلمين. وقد "قطع النبي صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وحرقها". و"قطع من كروم الطائف".

و"أمر أسامة بن زيد أن يغير ويحرق". إلا أن الحيوان يذبح، ثم يحرق؛ لأن إحراقها مثله، وفيه زيادة في إيلامها من غير نفع، وقد "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صبر الحيوان، وأن يتخذ شيء من الروح غرضًا، وهى أن يمثل بالحيوان". مسألة: [قتل النساء والصبيان والرهبان ونحوهم] قال: (ولا يقتل المسلمون في دار الحرب صبيًا، ولا معتوهًا، ولا أعمى، ولا مقعدًا، ولا الرهبان، ولا أصحاب الصوامع، ولا النساء، إلا أن يقاتلوهم، فيكون لهم قتل من قاتلهم منهم). قال أبو بكر: قال محمد بن الحسن: ولا يقتل من الرهبان، والسائحين من لم يخالط الناس من أصحاب الصوامع، ممن قد طين الباب على نفسه، ولا يؤسرون، ولا تؤخذ منهم الجزية، ومن خالط الناس منهم: كان بمنزلة سائر رجالهم المقاتلين، فيقتلون، ويؤسرون، وتؤخذ منهم الجزية. والأصل في حظر قتل من ذكرنا: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عمر بن حفص السدوسي قال: حدثنا عاصم بن علي قال: حدثنا

قيس بن الربيع عن عمر مولى عنبسة عن زيد بن علي عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشًا من المسلمين إلى المشركين قال: انطلق باسم الله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله، لا تقاتلوا القوم حتى تحتجوا عليهم، فادع القوم إلى شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله، فإن أجابوكم: فإخوانكم، وإن أبوا: فناصبوهم حربًا، واستعينوا بالله تعالى، ولا تقتلوا وليدًا، ولا طفلًا ولا امرأة، ولا شيخًا كبيرًا، ولا تغورن عينًا، ولا تعقرن شجرًا إلا شجرًا يضر بكم- يعني: تغدروا يمنعكم قتالًا- ولا تمثلوا بآدمي ولا بهيمة، ولا تغلوا، ولا". وحدثنا عن أبي داود قال: حدثنا أبو صالح الأنطاكي محبوب بن موسى أخبرنا أبو إسحاق الفزاري عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا، ولا تغلوا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا".

وحدثنا عن أبي داود قال: حدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا وكيع عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه، وبمن معه من المسلمين خيرًا، وقال: إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال، فأيتها أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك: فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول م دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك: أن لهم ما للمهاجرين، وأن عليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا واختاروا دارهم: فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء ولا الغنيمة نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا: فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا: فأقبل منهم، وكف عنهم. فإن أبوا: فاستعن بالله تعالى، وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله تعالى: فلا تنزلهم، فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم، ولكن أنزلوهم على حكمكم، ثم اقضوا فيهم بعد ما شئتم". قال سفيان بن عيينه: قال علقمة: فذكرت هذا الحديث لمقاتل بن حيان، فقال: حدثني مسلم قال أبو داود: هو ابن هيضم عن النعمان بن

مقرن عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حديث سلمان بن بريدة. قال أحمد: وروى أبو حنيفة هذا الحديث عن علقمة بن مرثد كنحو رواية الثوري، وزاد فيه: "وإذا أرادوا منكم أن تعطوهم ذمة الله تعالى: فلا تعطوهم، ولكن أعطوهم ذمتكم وذمة آبائكم، فإنكم إن تخفروا ذمتكم خير من أن تخفروا ذمة الله". وفي حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال: حدثنا عبد الرحمن بن حماد قال: حدثنا سفيان عن سعيد عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه، وذكر الحديث بطوله، وقال فيه: "إذا حاصرت أهل حصن فإن أرادوك أن تجعل لهم ذمة الله، وذمة نبيك: فلا تجعل لهم ذلك"، وذكر معنى حديث أبي حنيفة. قال أحمد: قال لي أبو كر الجعابي قدر رواه الثوري كرواية أبي حنيفة، الإسناد والمتن جميعًا متساويان. ورواه أيضًا عن علقمة شعبة والمسعودي وإدريس الأودي وغيلان بن جامع ويحيى بن أبي أنيسة وزيد بن أبي أنيسة. وحدثنا عن أبي داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا يحيى بن آدم وعبيد الله عن الحسن بن صالح عن خالد بن الفرز قال: حدثني

أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انطلقوا باسم الله، وبالله، وعلى ملة رسول الله، لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلًا، ولا صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغلو، وضمنوا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن النضر بن بحر قال: حدثنا عباس بن الوليد بن صبح قال: حدثنا زيد بن يحيى قال: حدثنا هشيم عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان إلا من عدا بالسيف". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا سعيد قال حدثنا هشيم عن جوبير عن الضحاك قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان إلا من عدا بالسيف". قال: حدثنا دعلج بن أحمد قال: حدثنا يوسف بن يعقوب قال: حدثنا عبد الواحد بن غيات قال: حدثنا حماد بن سلمة قال: حدثنا أيوب قال: حدثني، شيخ بمنى عن أبيه. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

"ينهى عن قتل العسفاء، والوصفاء". وقد روى عن حنظلة الكاتب، وقيل: إن أخاه رباح بن الربيع رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه أمر رجلًا أن يلحق خالد بن الوليد، فقال: قل له: لا يقتلن ذرية، ولا عسيفًا". وقيل: إن الثوري وهم فيه حين رواه عن أبي الزناد عن المرقع عن حنظلة؛ لأن أصحاب أبي الزناد رووه عن المرقع بن صيفي عن رباح بن الربيع أخي حنظلة الكاتب أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث. وحدثنا دعلج بن أحمد قال: حدثنا محمد بن أيوب الرازي قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه كان إذا بعث جيوشه قال: اخرجوا باسم الله،

تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تغلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع. قال أحمد: وإنما جمعنا بين هذه الآثار لما تنتظمه من أصول مسائل السير وأحكامها، لننبه على معانيها مجموعة، ليكون أقرب إلى فهم قارئه، وأحضر متناولًا لطالبيه، فنقول: * أما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث علي الذي قدمنا: "باسم الله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله": فإنه ابتدأ فيه باسم الله تبركًا بذكره تعالى؛ لأن كل أحٍد مندوب إلى أن يجعل افتتاح أموره بسم الله. * وقوله: "في سبيل الله، وعلى ملة رسول الله": أمر منه بأن يكون قتالهم لله تعالى خالصًا، لا يشوبه رياء، ولا طلب شيء من أعراض الدنيا. كما قال تعالى:} وقتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم {،} وقتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله {. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". * وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقاتلوا القوم حتى تحتجوا

عليهم": فإن هذه اللفظة لم نجدها في غير هذا الحديث، وفيها فائدة عظيمة، وهي أن لا يقتصر على الدعاء دون الاحتجاج عليهم لصحة قولنا، وبطلان قولهم، كما قال تعالى:} وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا {، وقال سبحانه:} لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل {: يعني حتى يقيم عليهم الحجة بالرسل فيما طريقه السمع. [ما يقوله الكافر ليحكم بإسلامه:] * وقال عليه الصلاة والسلام: "وادع القوم إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله: فإن معناه عندنا: أن عظم من كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعوهم كانوا مشركين جاحدين للتوحيد، ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أعطى منهم الإقرار بهذين داخلًا في الإسلام، ومن كان من المشركين الجاحدين للتوحيد والرسالة إذا قال: لا إله إلا الله، أو قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، أو قال: أنا مسلم: فهو عند أصحابنا مسلم، كذا قال محمد بن الحسن في السير. وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "أمرت أن أقاتل

الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها: عصموا متى دمائهم وأموالهم إلا بحقها". وقال انس عبد النبي عليه الصلاة والسلام: "أمرت أن أقاتل المشركين حتى يقولوا لا إله إلا الله". وقال النبي عليه الصلاة والسلام لأسامة حين قتل الرجل الذي حين أراده قال: لا إله إلا الله: "من لك بلا إله إلا الله؟ فقلت: إنما قالها مخافة السلاح. قال: فهلا شققت عن قلبه. قال: فما زال يقول: من لك بلا إله إلا الله؟ حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذ". فهذه الآثار تدل على صحة قولهم: في أن المشركين الذين يقاتلون على التوحيد، إذا قالوا: "لا إله إلا الله": صاروا بذلك مسلمين. * وأما قوله: في أن من قال من هؤلاء: إني مسلم، فإنه يقبل منه: فلما روى ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن عبيد الله بن عدي الخيار عن المقداد بن الأسود أنه أخبره "أنه قال: يا رسول الله! أرأيت إن لقيت

رجلًا من الكفار فقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله: لا تقتله. فقلت: غنه قطع يدي؟ قال رسول الله: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال". حدثنا بذلك محمد بن بكر البصري قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا الليث عن ابن شهاب. ويدل عليه أيضًا: ما حدثنا عن أبي داود قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن محبب أبو همام الدلال حدثنا سفيان بن سعيد عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضر عن فرات بن حيان "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتله، وكان عينًا لأبي سفيان، وكان حليفًا لرجل من الأنصار، فمر بحلقة من الأنصار فقال إني مسلم، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله! إنه يقول: إني مسلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن منكم رجالًا نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حيان". فجعله النبي صلى الله عليه وسلم مسلمًا بقوله: "إني مسلم"؛ لأنهم

كانوا ينكرون ذلك، ويرون أن من قاله دخل في دين النبي عليه الصلاة والسلام. ولذلك قال أصحابنا في المشركين الجاحدين للتوحيد إنه يقبل منهم قول: "لا أله إلا الله"، ويكف عنهم. وكذلك إن قالوا: "محمد رسول الله"، وكذلك إن قال: "إني مسلم"؛ لأن ظاهر هذا القول يقتضي أن يكون مسلمًا. وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم لقوم بظاهر الإسلام لأجل سجودهم فحسب. فيما حدثنا عن أبي داود حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بنصف العقل، وقال: إني بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين". فحكم عليه الصلاة والسلام لهم بالإسلام لظهور السجود منهم؛ لأنهم كانوا يأبون ذلك في حال الشرك.

فإن قيل: لو كان حكم لهم بالإسلام لمر لهم بجميع العقل. قيل له: لم يسقط نصف العقل لأجل أنه لم يحكم بحكم الإسلام، وإنما أسقطه- والله أعلم- لأنه لم يثبت عنده أن قتلهم كان في دار الحرب أو في دار الإسلام. وجائز أن يكون ذلك في موضع يجوز أن يكون من دار الحرب، ويجوز أن يكون من دار الإسلام، فإن كان في دار الحرب لم يجب شيء وإن كان مسلمًا، ولأجله قال علي الصلاة والسلام: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"، وإن كان في دار الإسلام: وجب جميع العقل، فلما وجب في حٍال الجميع، ولم يجب في حٍال أخرى: أوجب النصف. وهذا أصل عندنا في اعتبار الأحوال، على حسب ما يقوله أصحابنا في مسائلهم. فإن قيل: فالنبي عليه الصلاة والسلام أمر في خبر علي رضي الله عنه أن يدعو إلى ثلاثة أشياء: التوحيد، والنبوة، والإقرار بما جاء من عند الله. قيل له: كذلك نقول، ندعوهم إلى جميع ذلك، إلا أنهم إذا أظهروا قبول أحد هذه الأشياء، فالظاهر أنهم قابلون لجميعها، ما لم ينكروا شيئًا منها مما دعوا إليه، استلالًا بسائر الآثار التي ذكرنا. [عدم الحكم بإسلام اليهود والنصارى لو نطقوا بالشهادتين] * قال محمد بن الحسن رحمه الله: وأما اليهود والنصارى الذين

بين ظهراني المسلمين عندنا، فمن قال منهم: "أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله": فإنه لا يكون بهذا مسلمًا؛ لأنهم جميعًا يقولون هذا عندنا في بلدهم، ليس من نصراني ولا يهودي نسأله إلا قال ذلك، فإذا فسر قوله: قال: رسول الله إليكم. قال: وكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: لا يكون هذا منهم إسلامًا حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقروا بما جاء به من عند الله، فإن كان نصرانيًا: قال: وأبرأ من النصرانية، وإن كان يهوديًا: قال: وأبرأ من اليهودية، فإذا قال هذا: كان مسلمًا. [وجوب قتال جميع الكفار، ومنهم القرامطة والباطنبة] * وأما قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريدة، وحديث ابن عباس: "قاتلوا من كفر بالله": فإنه يدل على وجوب قتال جميع أصناف الكفار وقتلهم، وأن أحدًا منهم لا يقر على ما هو عليه من الكفر إلا بالجزية ممن يجوز أخذ الجزية منهم، وإلا: فالإسلام أو السيف، كنحو من يعطي الإقرار بجملة التوحيد وتصديق النبي عليه الصلاة والسلام، وينقصه برد النصوص، مثل القرامطة المتسمية بالباطنية، فإن استحقاق

القتل لا يزوال عنهم بزعمهم أنهم مقرون بجملة التوحيد والنبوة؛ لأنهم ينقصون ذلك في الحال بقولهم: إن للشريعة باطنًا مرادًا غير ما نقلته الأمة، وكذلك أشباههم من سائر الملحدين. ويدل عليه أيضًا: شرط النبي عليه الصلاة والسلام في حديث علي رضي الله عنه الإقرار بما جاء به من عند الله تعالى، مع ما تقدم من الإقرار بالتوحيد، وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه الطوائف من الملحدين، غير مقرين بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله، لردهم الشريعة المنصوص عليها، وإنما إقرارهم بدءًا بالجملة تلاعبًا بالدين، وتخوفًا من أن يحملوا على إظهار ما أسروه من الإلحاد. وليس سبيل هؤلاء المنافقين الذين أقرهم النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يقتلهم، مع علمه بكفرهم؛ لأنهم كانوا يظهرون للنبي عليه الصلاة والسلام الإسلام، ولا يظهرون له الكفر، وإنما يظهرونه لأصحابهم،

كما ذكر الله تعالى:} وإذا لقوا الذين امنوا قالوا أمنا {الآية. وهؤلاء مع إظهارهم التوحيد، يظهرون نقضه بقولهم: إن له باطنًا غير الظاهر المعقول منه. والذي عندي من مذهب أبي حنيفة: أن هذه الفرقة- أعني القرامطة، المتسمية بالباطنية- لا تقبل منهم التوبة بعد أن وقف على اعتقاد الواحد منهم، وأنه مباٍح الدم بذلك؛ لأن أبا حنيفة قد كان قال في الساحر: إنه لا يستناب، واعتل في ذلك بأنه جمع إلى الكفر السعي في الأرض بالفساد، وفساد هذه الطائفة في الأرض على الملة والنفوس أعظم من فساد الساحر. وإنما لم يتكلم أصحابنا في حكم هذه الطائفة وغيرهم من الملحدين؛ لأنهم لم يكونوا حدثوا في ذلك الزمان، وإنما حدثوا بعدهم، فأردنا أن نبين حكمهم، لكي إن اتفق في مستقبل الزمان إمام للمسلمين يغضب لدين الله تعالى، أن يتلاعب به الملحدون، أو يسعوا في إطفاء نوره: أجرى عليهم حكم الله وإن كان وجود ذلك بعيدًا في عصرنا، والله تعالى ولي دينه، وناصر شريعته. * وفي حديث علي رضي الله عنه وغيره: "ولا تقتلوا وليدًا، ولا طفلًا، ولا امرأة، ولا شيخًا كبيرًا": وكذلك قال أصحابنا، فأما الشيخ الكبير إذا كان ذا رأي، فإنه يقتل،

لما روي أن دريد بن الصمة قتله ابن الدغنة في حرب حنين، وكان شيخً كبيرًا، ولم ينكر النبي عليه الصلاة والسلام قتله، لأنه كان ذا رأي. وقد روى الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم": فاستعملنا الحديثين جميعًا، وقلنا: إذا كان ذا رأي يقتل؛ لحديث سمرة، وقصة دريد بن الصمة. وإذا كان شيخًا فانيًا لا رأي له، ولا ينهض لقتال: لم يقتل؛ للأحاديث الأخر التي ذكرنا، إذ يكون الشيخ حينئذ بمنزلة الطفل والمجنون، إلا أن يقاتل، فيجوز أن يقتل، على ما روينا في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان إلا من عدا بالسيف". * وأما قوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي رضي الله عنه: "ولا تغورن عينًا، ولا تعقرن شجرًا": فإن هذا عندنا على معنى ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه في وصيته للأمراء: "أن لا تعقروا شجرة مثمرة لما كان النبي صلى الله عليه وسلم وعدهم بأن الله سيغنمهم إياها".

[النهي عن المثلة:] * وقوله: "ولا تمثلوا بآدمي ولا بهيمة": قد أفادنا النهي عن المثلة بالكفار وبهائمهم إذا لم يقدروا على إخراجها؛ لأن النهي عن المثلة قد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام شائعًا مستفيضًا على الإطلاق في غير هذه الأخبار. وفائدة ذكره في وصايا الأمراء: أنه قد كان يجوز أن يتوهم أن أهل الحرب إذا كانت دماؤهم مباحة: أن المثلة بهم مباحة، فأبان النبي صلى الله عليه وسلم أن النهي عن المثلة عام فيهم وفي غيرهم. وأفادنا النهي عن المثلة بالبهيمة، أنا متى لم نقدر على إخراجها: لا يجوز لنا أن نعقرها، أو نتركها، أو نبتدئ فنحرقها، ولكن نذبحها، لئلا يكون مثلة، ثم نحرقها. [النهي عن الغلول والغدر:] * وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث علقمة بن مرثد: "زى تغلوا ولا تغدروا": فإن الغلول هو الخيانة في المغنم، وهو اسم مخصوص بذلك، ليس يكاد يسمى به الخيانة في غير الغنيمة، قال تعالى:} وما

كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة {. وأما الغدر: فإنه وإن كان محظورًا من طريق العقل قبل السمع، فإن النبي عليه الصلاة والسلام زاده توكيدًا، لئلا يظن جوازه في أهل الحرب. * وأما قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريدة: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خلال: أحدها: إعطاء الجزية": فإنه يدل على جواز أخذ الجزية من سائر مشركي العجم، لعموم اللفظ، وقد بينا ذلك فيما تقدم. [التحول من دار الكفر إلى دار الإسلام] قال عليه الصلاة والسلام: "فإن أجابوك إلى الإسلام فأقبل منهم، وادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك، فإن لهم ما للمهاجرين، وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم، فأعلمهم أنهم يكونون مثل أعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في القيء والغنيمة نصيب، إلا أن يجاهدوا": فإن سقوط حقهم من الفيء بترك الهجرة يحتمل معنيين: أحدهما: أن ذلك كان في وقت ما كانت الهجرة إلى المدينة فرضًا، وكذا كان يقول أبو الحسن الكرخي رحمه الله تعالى. والثاني: أن يكون المراد الانضمام إلى جيوش المسلمين، والدخول في جملتهم، ليكونوا يدًا واحدة على أعدائهم، ويتناصروا باجتماعهم

على مخالفيهم، كما قال الله تعالى:} والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر {، فإذا لم ينضموا معهم في أمصارهم، وانقطعت نصرتهم عنهم، فلم يستحقوا شيئًا من فيثهم، وكانوا بمنزلة سائر العلوم الذين لا نصرة فيهم: فلا يستحقون شيئًا من الفيء والغنيمة. ويحتمل أن يكون ذلك خطابًا لمن أسلم من أهل الحرب قبل لأن تصير داره دار الإسلام، وتكون باقية على حكم الحرب، فلا تجري حينئذ عليه أحكامنا مادام هناك، كما قال صلى الله عليه وسلم في خبر آخر: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين. قالوا: يا رسول الله لم؟ قال: لا تراءى ناراهما"، ويكون ذلك أصلًا في أن أحكامنا لا تجري على كل من أسلم من أهل الحرب قبل أن يخرج إلينا، وأنه يكون

باقيًا على حكم الحرب حتى لا يكون لدمه قيمة على من قتله. [محاصرة أهل الحصن وطلبهم النزول على حكم الله] وأما قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريدة: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله: فلا تنزلهم على حكم الله، فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم، ولكن أنزلوهم على حكمكم، ثم اقضوا فيهم بعد ما شئتم": فإن ذلك يحتمل معنيين: أحدهما: أنهم إذا غابوا عن حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، جوزوا أن يكون الحكم الأول قد نسخ، وحدث آخر خلاف ما علموه، فقال: "لا تنزلوهم على حكم الله"، وهم لا يدرون في ذلك الوقت ما حكم الله تعالى فيهم، أهو الأول، أو حكم حادث غير الأول؟ فلا تقدموا على إنزالهم على حكم الله إلا على بصيرة منكم، ويقين بحكم الله تعالى. ومن أجل ذلك قال أبو يوسف: إنه جائز لنا أن ننزلهم على حكم الله تعالى؛ لأن حكم الله تعالى قد استقر في الكفار، ولا يجوز ورود النسخ عليه بعد النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا نزلوا على حكم الله تعالى، حكم الإمام فيهم بحكمه فيمن غلبوا عنوة: إن شاء قتلهم، وإن شاء استرقهم، وإن شاء من عليهم، وأقرهم على أرضهم. والوجه الثاني: انه لما كان في شريعة النبي عليه الصلاة والسلام إباحة الاجتهاد في إدراك أحكام الله تعالى، وكان جائزًا أن يكون حكم الله تعالى

فيهم من طريق الاجتهاد، وهم لا يعلمون ذلك من ديننا، كان في إنزالهم على حكمه ضرب من التعزيز لهم، مما لو علموه حقيقة، عسى أن لا ينزلوا عليه، ومن اجل ذلك قال محمد بن الحسن: لا ينبغي لنا أن ننزلهم الآن على حكم الله تعالى. ووجه آخر: وهو انه لو كان حكم الله فيهم عند نزولهم عليه موكولًا إلى رأينا واختيارنا، إما بالقتل أو السبي أو المن- كما قال أبو يوسف- كان ذلك بمنزلة نزولهم على حكمنا، وهم لم يرضوا بالنزول على حكمنا، فلذلك لم يجز أن ننزلهم على حكم الله الآن، إذا كان ذلك بمنزلة النزول على حكمنا، وهم لم يرضوا بذلك منا". * وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن أرادوا منكم أن تعطوهم ذمة الله، فلا تعطوهم ذمة الله، ولكن أعطوهم ذممكم وذمم آبائكم": فإن وجهة تعظيم حرمة ذمة الله، وهو وإن كان لا يجوز أن يخفروا ذممكم أيسر من أن تخفروا عهد الله"، ألا ترى أن اليمين بالله هي الموجبة للكفارة، دون اليمين بعيره، تعظيمًا لحرمة عهد الله. [النهي عن قتل الأجير ما لم يكن من أهل الحرب]. وأما قوله في حديث رباح بن الربيع أخي حنظلة الكاتب: "ولا تقتلوا

ذرية ولا عسيفًا": فإن العسيف: الأجير، والمعنى فيه، إذا لم يكن من أهل حربنا، وإنما هو أجير من غيرهم استأجروه لبعض الأعمال: فلا يقتل، فأما إن كان من أهل الحرب: فإنه يقتل، ولا فرق بين أن يكون أجيرًا أو غيره بعد أن يكون من أهل القتال. * وفي حديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع": فهو حجة لما قال محمد في أن أصحاب الصوامع الذين لا يخالطون الناس لا يقتلون. وقد ذكر أبو جعفر رحمه الله مسائل قد مر الكلام فيها في عرض ما تقدم من المسائل، فكرهت إعادتها خوف الإطالة. مسألة: [السلب واستحقاقه] قال: (ومن قتل من المسلمين قتيلًا من العدو: لم يكن له سلبه، وكان سلبه كسائر الغنيمة، إلا ان يكون الإمام قد قال قبل ذلك بعد ما حضر لقتال العدو: من قتل قتيلًا فله سلبه: فإنه يستحق

القاتل سلب المقتول). قال أحمد: قال الله تعالى: {واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه}. ويقتضي ظاهر ذلك معنيين: أحدهما: أن ما حصل غنيمة: كان لسائر الجند بعد الخمس. والآخر: وجوب الخمس في سائر الغنائم، والسلب غنيمة، ولا يختص به بعضهم دون بعض؛ لأن الله تعالى جعله لجميعهم بقوله: {غنمتم}، ولما أوجب فيه الخمس: دل على أن أربعة أخماسه للجند؛ لأن ذلك حكم الغنائم. فإن قال قائل: هذا فيه غنمته الجماعة، وأما ما غنمه الواحد منهم: فلم يدخل في الآية. قيل له: ليس كذلك؛ لأن لفظ الآية يتضمن ما غنمه الجماعة، وما انفرد به الواحد من الجماعة، كقوله عز وجل: {ولا تقتلوا أنفسكم}: تضمن النهي لكل أحد أن يقتل نفسه، وللجماعة أن يقتل بعضهم بعضًا. وأيضًا: لم يختلفوا أن ما غنمه الواحد إذا لم يقتل صاحبه، فهو

والجماعة فيه سواء، وذلك بالآية، لأنها تقتضيه، فثبت أن المراد: الواحد والجماعة إذا غنموا. ثم قتله إياه، لا يخرجه من أن يكون سلبه غنيمة، فوجب أن يكون للجماعة بدلالة ظاهر الآية. * ويدل على ذلك من جهة السنة: ما حدثنا دعلج بن أحمد قال: حدثنا الحسن بن المثني قال: حدثنا عفان بن مسلم حدثنا يوسف بن يعقوب الماجشون حدثنا صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن جده عبد الرحمن بن عوف، ذكر قصة قتل أبي جهل يوم بدر، وأن معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فاخبراه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا، فنظر في سيفيهما، فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. فلو كان القاتل مستحقًا للسلب بقتله دون غيره من الناس، لاستحقَا جميعًا للسلب، لقوله عليه الصلاة والسلام لهما: "كلاكما قتله"، ثم قضى مع ذلك بسلبه لأحدهما، فدل ذلك على أنه لا يستحق بالقتل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يجعل ما استحقه أحدهما من نصيبه من السلب لصاحبه إلا باستئذانه ورضاه.

* ويدل عليه أيضًا: ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثني صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال: خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة، فرافقني مددي من أهل اليمن، وذكر الحديث إلى أن قال: "فقتل المددي الرومي، وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله عز وجل للمسلمين، بعث إليه خالد بن الوليد، فأخذ منه السلب. قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته. قلت: لتردنه عليه، أو لأعرفنكها عند رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأبى أن يرد عليه. قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقصصت عليه قصة المددي، وما فعل خالد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خالد! ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله استكثرته.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خالد، رد عليه ما أخذت منه. قال عوف: فقلت له: دونك يا خالد. ألم أف لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ فأخبرته: قال: فغضب رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال: يا خالد! لا ترد عليه، هل أنتم تاركون لي امرأتي، لكم صفوة أمرهم، وعليهم كدره". فهذا الحديث يدل على أن القاتل لم يستحق السلب، وأن أمره إياه كان بإعطائه على جهة الاستحباب، لأنه لو كان مستحقًا له، لما قال عليه الصلاة والسلام لخالد: "لا ترد عليه". * ويدل عليه أيضًا: ما روى حماد بن زيد عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن رجل من بلقين، قال: "قلت: يا رسول الله: هل أحد أحق بشيء من المغنم من أحد؟ قال: لا، حتى السهم يأخذه أحدكم من جنبه، فليس بأحق به من أخيه".

وذلك عموم في سائر المغانم؛ لان النبي عليه الصلاة والسلام لم يفرق بين أن يكون قاتلًا وغير قاتل. ويدل عليه أيضًا: حديث مكحول عن أبي سلام عن أبي أمامة الباهلي عن عبادة بن الصامت في قصة بدر لما اختصم الذين قاتلوا، والذين حرسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فادعاه كلا الفريقين لنفسه، فأنزل الله تعالى: {يسئلونك عن الأنفال}، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم على فواق". وذكر هذه القصة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقال فيها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم". وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما. * ويدل عليه أيضًا: ما حدثنا أحمد بن خالد الحروري شيخ ثقة من

أهل الري قال: حدثنا محمد بن يحيى الذهلي قال: حدثنا محمد بن المبارك وهشام بن عمار قالا: حدثنا عمرو بن واقد عن موسى بن يسار عن مكحول عن جنادة بن أبي أمية قال: نزلنا دابق وعلينا أبو عبيدة بن الجراح فبلغ حبيب بن مسلمة أن ابن صاحب قبرس يريد طريق أذربيجان، ومعه زبرجد وياقوت ولؤلؤ وديباج، فخرج في جند حتى قتله في الدرب، وجاء بما كان معه إلى أبي عبيدة، فأراد أن يخمسه، فقال حبيب: يا أبا عبيدة، لا تحرمني رزقًا رزقنيه الله تعالى، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل السلب للقاتل. فقال معاذ بن جبل: مهلًا يا حبيب، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه. وعموم هذا الخبر ينفي أن يكون السلب للقاتل إلا بطيبة نفس الإمام، فدل على أنه لا يستحقه بالقتل إلا بتقدمه من الإمام بذلك قبل القتل، أو

أن يجعله له من الخمس. [أدلة المخالفين القائلين بأن السلب للقاتل، ومناقشتها] * فإن احتج من جعل السلب للقاتل في سائر الأحوال بما روى أبو قتادة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال يوم حنين: "من قتل قتيلًا له عليه بينة: فله سلبه". وذلك بعد انقضاء الحرب. وبما روى أنس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال يوم حنين: "من قتل كافرًا فله سلبه، فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلًا، وأخذ أسلابهم". وبما روى عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في السلب للقاتل ولم يخمس السلب". وروى سمرة بن جندب أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من قتل قتيلًا فله سلبه".

وروى شريك عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس رصي الله عنهما قال: انتدب رجل من المشركين يوم بدر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام للزبير: يا زبير بارزة، فقتله الزبير، فنفله النبي عليه الصلاة والسلام سلبه". وروى أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: "نفلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر سيف أبي جهل، كان قتله". وقد روينا قبل ذلك أن معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمر قتلاه، ومعناه أنهما أثخناه حتى صار ميئوسًا من حياته، وأدركه عبد الله بن مسعود وبه رمق، فأجهز عليه، وكذا روي في المغازي. * قيل له: ليس في شيء من هذه الأخبار ما ينافي ما قلناه، وذلك لأن

ما أعطاه النبي عليه الصلاة والسلام القتل من السلب، لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون باستحقاق، لتقدم القول من النبي عليه الصلاة والسلام عند حضور القتال بأن من قتل قتيلًا فله سلبه، وكذلك نقول في أمير الجيش إذا قال: من قتل قتيلًا فله سلبه: استحق القاتل السلب، وكان أخص به من سائر الناس. أو أن يكون لم يتقدم من النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك قول عند حضور الحرب، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام أن يعطيه إياه من الخمس، تحريضًا منه لهم على القتال، وتضريه على العدو. فإن قيل: لو كان أعطاه من الخمس لبين في الخبر. قيل له: ولو كان أعطاهم من جملة الغنيمة لبين، فإذا لم يكن نفل بيان أحد الوجهين بأولى من نفل الآخر: سقط الاحتجاج به، وعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أعطى المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين، ولم يذكر في شيء من الأخبار أنه أعطاهم من الخمس، ولكنه لما كان معلومًا أنه لم يكن يعطيهم من غنيمة الجيش، إذ لو كان كذلك لاستأذنهم، كما استأذنهم في إطلاق سباياهم، علمنا أنه أعطاهم من الخمس الذي كان له صرفه في الوجوه التي يراها، مما هو أرد على

المسلمين وأنفع لهم. فإن قيل: هلا جعلت قوله عليه الصلاة والسلام: "من قتل قتيلًا، فله سلبه": عامًا في سائر الأحوال والأزمان. قيل له: لأنا متى أمكننا استعمال حكم الأخبار التي قدمناها في أن السلب غير مستحق للقاتل بالقتل دون تقدمة الإمام، جمعنا بينها وبين هذه الأخبار، فقلنا: إن هذا القول مقصور الحكم على الحال التي خرج عليها الخطاب. كما روى حبيب بن مسلمة الفهري عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه "كان ينفل الثلث بعد الخمس". وكان ذلك حكمًا مقصورًا عند الجميع على الحال، دون أن يكون عامًا في سائر الأزمان بغير تقدمة من الإمام قبل القتال. "وكما قال عليه الصلاة والسلام يوم الفتح: "من ألقى سلاحه: فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه: فهو آمن".

وكان حكمًا مخصوصًا بالحال التي خرج الكلام عليها، دون سائر الأحوال. كما حدثنا أحمد بن خالد قال: حدثنا محمد بن علي الذهلي قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا غالب بن حجرة قال: حدثتني أم عبد الله، وهي بنت الملقام بن التلب عن أبيها عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى بمول: فله سلبه". ومعلوم أن من أتى بمول، لا يستحق سلبه إذا لم يشترط ذلك له أمير الجيش. وأيضًا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق في قوله: "من قتل قتيلًا: فله سلبه": بين حال الإقبال والإدبار، وقد وافقنا مخالفنا على أنه إذا قتله في حال الإدبار: لم يستحق سلبه، فعلمنا أنه كلام مقصور الحكم على حال قول الإمام للجند في وقت القتال دون غيرها. فإن قيل: ما رويتم من الأخبار التي استدللتم بها على أن السلب لا يستحق بالقتل، إنما هي في قصص في يوم بدر، قبل حنين، وقوله: "من قتل قتيلًا: فله سلبه": كان في يوم حنين، فكان ناسخًا له. قيل له: ليس كذلك؛ لأن قصة المددي مع خالد بن الوليد رضي الله

عنه كانت بعد حنين، ولم يجعله النبي عليه الصلاة والسلام مستحقًا للسلب بالقتل. وأيضًا: فمتى أمكننا الجمع بين هذه الأخبار من غير نسخ لبعضها ببعض، لم يجز لنا إيجاب النسخ مع إمكان الجمع، وجهة الجمع بينهما صحيح من الوجه الذي ذكرنا، فلا يجوز حملها على النسخ. فإن قيل: لا يصح لكم الاحتجاج بقصة بدر، وتركه إعطاء السلب للقاتل، لأن داود بن أبي هند قد روى عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "من قتل كذا، فله كذا، فذهب شبان الرجال، وجلست الشيوخ تحت الرايات، ثم طلب الشبان نفلهم، وأبى عليه الشيوخ، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {يسألونك عن الأنفال}، فقسم بينهم بالسواء". ففي هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعطهم ما وعدهم من النفل بقوله: "من قتل كذا: فله كذا"، ولم يدل ذلك على أن الإمام إذا قال: "من قتل قتيلًا: فله سلبه": أن القاتل لا يستحق السلب، فكذلك لا يدل على أن السلب في الأصل غير مستحق للقاتل. قيل له: هذا الحديث فاسد المعنى من وجهين:

أحدهما: أنه قد روى أبو زميل عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن الغنائم لم تكن قد أجلت حين حارب النبي عليه الصلاة والسلام ببدر، وإنما أحلت بعد القتال". وكذا روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه. والثاني: أن النبي عليه الصلاة والسلام لو كان وعدهم شيئًا، لم يكن يجوز منه إلا الوفاء، ولا يجوز عليه خلف الوعد، فثبت بذلك فساد حديث عكرمة هذا. * ومن الدليل على صحة قولنا من طريق النظر: اتفاق الجميع على أن سلب القتيل الذي لا يعرف قاتله في حكم سائر الغنيمة، ولو كان القاتل مستحقًا للسلب بقتله، لوجب أن يكون بمنزلة اللقطة، وأن يعرف، فإن لم يعرف صاحبه: لم يقسم، وتصدق به، كما يتصدق باللقطة، فلما اتفق

الجميع على أنه يكون غنيمة، دل على أن القاتل لم يستحقه بالقتل. فإن قيل: فيلزمك هذا في سلب القتيل الموجود بعد قول الإمام: من قتل قتيلًا فله سلبه: إذا لم يعرف قاتله، أن يجعل سلبه بمنزلة اللقطة، فإنه قد ملكه بقتله إياه. قيل له: لسنا نعرف الرواية عن أصحابنا في هذه المسألة بعينها، وقد يحتمل أن يقال: أنه بمنزلة اللقطة تعرف، وإذا احتمل أن ذلك قولهم، سقط سؤالك. ودليل آخر: وهو اتفاق الجميع على أن الردء والمقاتل سواء في استحقاق سائر المغنم، فوجب أن يكون القاتل وغيره سواء في استحقاق سائر السلب، لأن المعنى في ذلك: أن القاتل والغانم كل واحد منهما إنما نال ما نال بظهر الآخر ومعونته، ومن أجله استوي الجيش مع السرية فيما غنمته؛ لأنها غنمت بظهر الجيش وبمعونتهم، فكذلك القاتل لما كان قتله بمعونة الآخرين وقوتهم، وجب أن يساووه في استحقاق سلب قتيله. فصل: [تعريف السلب] قال أبو جعفر: (وسلبه: دابته التي هو راكبها، وما كان معه من سلاح

مما هو حامله، ومن كسوة مما هو لابسها، ولا يكون ما سوى ذلك سلبًا). قال أحمد: السلب: ما يسلبه مما هو مستعمله وفي يده، فأما ما كان في يد غيره من بهيمة أو خيمة أو عبد أو نحو ذلك: فليس بسلب، كما أن ما في بيته، وفي رجله: ليس بسلب. ويدل على أن فرسه من سلبه: ما روي في قصة المددي، وقد ذكرناها قبل، أنه حاز فرسه وسلاحه، ولم ينكر عليه خالد إلا من جهة أنه استكثره، لا من جهة أن الفرس ليس بسلبه. قال أحمد: ومن الناس من يخمس السلب، ثم يجعل الباقي للقاتل، وقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سلب مرزبان الزارة؛ لأنه استكثره، وإذا ثبت أنه مخموس، صح أنه كسائر الغنائم، فالواجب أن يكون حكمه حكمها. مسألة: [استحقاق الإمام السلب أيضًا] قال أبو جعفر: (وإذا قال الإمام هذا القول، كان هو فيه كسائر الناس، فإن قتل قتيلًا: فله سلبه).

لأن: "من": ينتظم سائر العقلاء، وهو أحدهم. فإن قيل: ينبغي أن يكون القاتل خارجًا منه، كما لو قال رجل: إن دخل داري هذه رجل فعبدي حر: كان هو خارجًا من اليمين؛ لأنه هو المخاطب بذلك. قيل له: لم يخرج من اليمين من أجل أنه مخاطب، دون أن يكون أضاف الدار إلى نفسه بالكناية؛ لأنه لو قال: إن دخل هذه الدار أحد، ولم يضفها إلى نفسه، كان هو أيضًا داخلًا في اليمين. وهذا نظير الإمام إذا قال: "من قتل قتيلًا، فله سلبه"؛ لأنه لم يضف إلى نفسه شيئًا. قال: (ولو كان الإمام قال: "من قتل منكم قتيلًا فله سلبه": لم يستحق هو سلبًا إن قتل قتيلًا). لأن قوله: "منكم": لا يجوز أن يدخل هو فيه؛ لأن هذه الكاف، كناية عن غيره، ولا يصح أن يكون كناية عن نفسه؛ لأن الكناية عن نفسه لا تكون بالكاف فصار كقوله: "إن قتل غيري رجلًا، فله سلبه": فلا يدخل هو فيه. مسألة: [استحقاق القاتل أسلاب جميع من قتلهم] قال أبو جعفر: (إذا قال الإمام: من قتل قتيلًا فله سلبه، فقتل رجل قتلى: استحق أسلابهم جميعًا).

وذلك لما روى أنس أن أبا طلحة قتل يوم حنين عشرين رجلًا، وأخذ أسلابهم. ولأن المعنى في قوله: "من قتل قتيلًا فله سلبه": أن ذلك مستحق له بالقتل على أي وجه وقع من غير شرط عدد بعينه. وهو كقول الله تعالى: {ومن قتل مؤمنًا خطئًا فتحرير رقبة مؤمنة}، فلو قتل رجلين: لزمته كفارتان؛ لأن المعنى فيه تعظيم حرمة الدم، كما أن المعنى في جعل السالب: التضربة له على القتال، والتحريض له على قتل العدو. فإن قيل: قوله: "من": لا يقتضي التكرار؛ لأنه لو قال: "من دخل من نسائي الدار، فهي طالق": فدخلت امرأة منهن، فطلقت، ثم دخلتها مرة أخرى: لم تطلق أخرى. قيل له: لعمري أن قوله: "من": لا يقتضي التكرار، ولم يعلق حكم التكرار في قوله: "من قتل قتيلًا، فله سلبه": باللفظ، بل بالمعنى، وكذلك في قوله تعالى: {ومن قتل مؤمنًا خطئًا فتحرير رقبة مؤمنة}، إنما

تعلق فيه وجوب الرقبة الثانية بالمعنى، لا باللفظ؛ لأن المعنى لما كان مفهومًا، تعلق الحكم به على أي وجه وقع، وأما الطلاق فحكمه مقصور على اللفظ، ولا يقع بالمعنى دون اللفظ. مسألة: قال أبو جعفر: (وإن قتل رجلان أو أكثر قتيلًا: فلهم سلبه، إلا أن يكون الأغلب عجز المقتول عنهم، وقوتهم عليه، فإنهم إذا قتلوه كذلك: لم يستحقوا سلبه). قال أحمد: إذا كان الأغلب أن مثل المقتول لا يقاوم القاتلين: فهو بمنزلة الأسير يأخذه الجيش أو السرية: فلا يستحقون سلبه، إلا إذا قتلوه. مسألة: [تصرفات الإمام فيما يظهر عليه من أرض العدو] قال أبو جعفر: (وإذا ظهر الإمام على أرض من أرض العدو، كان فيها بالخيار: إن شاء خمسها، وقسم أربعة أخماسها بيت الذين افتتحوها، وإن شاء تركها كما ترك عمر أرض السواد، فيكون أهلها يملكونها، ويكونون ذمة للمسلمين، ويؤدون الخراج عن رقابهم وعنها).

قال أحمد: قال الله تعالى: {واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه ....} الآية، فاقتضى ظاهر الآية معنيين: أحدهما: أن الغانمين يستحقون أربعة أخماس الغنيمة. والثاني: أن الخمس مصروف في الوجوه المذكورة فيها، فلو أن خلينا وظاهرها: أجريناها على حسب مقتضاها وموجبها، إلا أنه لما ثبت بالآثار المتواترة التي لا ينساغ الشك فيها بنقل أهل السير والمغازي، وبدلائل الكتاب والسنة، أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة عنوة بالسيف، ومن على أهلها، وأقرهم على أملاكهم فيها. وصح عندنا أن النبي عليه الصلاة والسلام فتح عظم حصون خيبر بالسيف، وقسم بعضها، ولم يقسم بعضًا. وأقر عمر بن الخطاب أهل سواد العراق على أملاكهم بموافقة جل الصحابة: صار ما ثبت من ذلك مجموعًا إلى حكم الآية الواردة في حكم الغنائم، فقلنا: إن الغمام مخير بين أن يخمسها، ويقسم أربعة أخماسها بين

الغانمين على ما في الآية. وإن شاء أقر أهلها على أملاكهم، على حسب ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام في أهل مكة، وعلى حسب ما روي في قصة خيبر أن النبي عليه الصلاة والسلام وقف بعضها، ولم يقسمه، وعلى سبيل ما فعله عمر رضي الله تعالى عنه بالسواد بحضرة الصحابة رضي الله عنهم. * وأما ما ذكرناه من فتح النبي عليه الصلاة والسلام مكة عنوة بالسيف، فعسى أن نفرد لها مسألة نبين فيها مخالفة من خالف فيها الأخبار المتواترة، والنقل الشائع، ودلائل الكتاب والسنة. * وأما ما ذكرناه من قسمة النبي عليه الصلاة والسلام بعض خيبر، وتركه قسمة بعضها: فمن جهة ما روى الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: "أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بالشطر، ثم أرسل ابن رواحة فقاسمهم". وعبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: "أن النبي عليه الصلاة والسلام عامل أهل خيبر على شطر ما خرج من الزرع".

وروى إبراهيم بن طهمان عن أبي الزبير عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام نحوه. ثم روى ابن وهب وابن مبارك عن هشام بن سعد عن ويد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: "لولا أن يكون الناس بيانًا، ليس لهم شيء، لما فتح الله علي قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبير". فدل ذلك على أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن قسم خيبر بكمالها، ولكنه قسم طائفة منها. وقد بين في حديٍث آخر مقدار ما قسم وما ترك، فروى سفيان عن

يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة قال. "قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين: نصفًا لنوائه وحاجته، ونصفًا بين المسلمين، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهمًا". فينيغي أن يكون الذي دفعه إلى اليهود مزارعة ومعاملة، هو النصف الذي وقفه ولم يقسمه، على ما روي في حديث ابن عباس وابن عمر وجابر رضي الله عنهم: "ثم تولى عمر قسمه بين المسلمين في خلافته، لما أحلى اليهود عن خبير". ولو لم يكن الإمام مخيرًا بين القسمة وتركها، لما ترك النبي عليه الصلاة والسلام قسمتها، ولم يكن يقفها على نوائبه، فدل ذلك على خيار الإمام فيما يغلب عليه من الأرضين على الوجه الذي ذكرنا. فإن قيل: قد روى محمد بن إسحاق عن ابن لمحمد بن مسلمة عمن أدركه من أهله: "أن النبي عليه الصلاة والسلام حاز حصون خيبر وأموالهم إلا حصنين: الوطيح، والسلالم، فسألوا رسول الله عليه الصلاة والسلام

أن يسيرهم، ويحقن دمائهم، ففعل، فلما سمع بهما أهل فدك، صنعوا ذلك، فسألوه مثل ذلك. ثم إن أهل خيبر سألوا النبي عليه الصلاة والسلام أن يعاملهم على النصف، فصالحهم على أنا إذا شئتا أن نخرجكم أخرجناكم، فصالحهم أهل فدك على مثل ذلك، فكانت أموال خير فيئًا بين المسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب. فقد يجوز أن يكون ما لم يقسمه النبي عليه الصلاة والسلام من خيبر هو هذان الحصنان، لأنه عليه الصلاة والسلام صالحهم على الجلاء، ولم يوجف المسلمون عليه، فكانت لرسول الله عليه الصلاة والسلام، يفعل فيهما ما يشاء، كالنضير وفدك. قيل له: هذا غلط؛ لأنهم أجلوا عنها بعدما أقام النبي عليه الصلاة والسلام عليهم لقتالهم وحاصرهم، وما كان ها سبيله فهو للغانمين، إذا أراد الإمام قسمته كسائر ما أوجفوا عليه، وقهروا أهله بالسيف. ألا ترى أنه فرق في هذا الحديث بين حكم مال فدك، وبين حكم ما أجلوا عنه، وحصون خيبر كانت فيئًا بين المسلمين، وكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لم يجلبوا عليها بخيٍل ولا ركاب.

وأما النضير فكان سبيلها سبيل فدك، أعطوا بأيديهم، وسلموها إلى النبي عليه الصلاة والسلام قبل أن ينهض لقتالهم. ويحتمل أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقسم شيئًا من أرض خيبر بين الغانمين، وأن تكون رواية من روى أنه عليه الصلاة والسلام قسم خيبر على معنيين: قسمة الثمرة التي فارق اليهود عليها، كما قيل في قصة خيبر. ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس الكتيبة، وهي حصن هناك بين قرابته ونسائه، وبين رجاٍل ونساٍء من المسلمين، ومعلوم أنه لم يقسم الرقبة، وإنما قسم الثمرة. ويدل عليه: قول ابن عمر في قسمة عمر خيبر: إنه خير أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، فمنهن من اختارت الأرضين، ومنهن من اختارت الوساق التي كن يأخذنها. فهذا يدل على أن رواية من روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قسم خيبر، إنما المعنى فيه قسمة الغلة. ويدل عليه أيضًا: "أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث عبد الله بن

رواحة رضي الله عنه خارصًا". فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتولى قسمة ما يؤخذ منهم بين المسلمين، ولو كان قد قسم الأرضين، لطالب كل واحد لنفسه بالخرص. فإن قيل: روى محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال: "خرجت أنا والزبير والمقداد بن الأسود إلى أموالنا بخيبر نتعاهدها، فلما قدمناها، تفرقنا في أموالنا، فعدي علي تحت الليل وأنا نائم على فراشي، ففدعت يداي من مرفقي، فلما أصبحت استصرخ علي صاحباي، فأتياني، فقالا: من فعل بك هذا؟ فقلت: لا أدري. فأصلحا من يدي، ثم قدموا بي على عمر، فقال: هذا عمل يهود، ثم خطب، فقال: يا أيها الناس إن رسول الله عليه الصلاة والسلام عامل يهود خيبر على أنا إن شئنا أخرجناهم، ثم إنهم عدوا على عبد الله، ففعلوا به ما قد بلغكم، فمن كان له مال بخيبر، فليلحق به، فإني مخرج يهود، فأخرجهم".

فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان قسم رقبة الأرضين بينهم. قيل له: ليس فيما ذكرت دليل على ما وصفت، إذ ليس يمتنع أن يكون المراد ما سمي له من الأوساق، دون رقبة الأرضين، وكما سمى لأزواج النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام أوساقًا، ثم خيرهن عمر بين أن يأخذنها، أو يقسم لهن من الأرضين بقسطها. ويحتمل أن يكون سمى لكل واحدة موضع رقبة بعينه، تأخذ عنه الأوساق، وأضاف ذلك إلى نفسه، لما ثبت له من الحق في ثمرته. * ومما يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقسم رقاب الأرضين، وأنه أقر اليهود على أملاكهم التي كانت لهم فيها قديمًا: أن ملك الأرضين لو حصل للغانمين، لم يجز أن يعطاها هؤلاء إلا على جهة المزارعة، أو الإجارة، وهما عقدان لا يصحان بالاتفاق إلا على مدة معلومة، ولم يشترط النبي عليه الصلاة والسلام لهم مدة معلومة. ويدل عليه أيضًا: قوله لهم: "إنا متى شئنا أخرجناكم"، ولو كانت أملاكهم قد زالت من أيديهم إلى الغانمين، لما احتاج إلى هذا الشرط؛ لأن المؤاجر لا يحتاج إلى ذلك.

ويدل عليه: أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأخذ من الغانمين الذين كان لهم قسط من ثمرة خيبر العشر، ولا نصف العشر، ولو كانت الأرضون ملكًا لهم، وكانت في يد اليهود على وجه الإجارة أو المزارعة، لما خلا من إيجاب عشر، أو نصف عشر؛ لأن أرض المسلم لا تخلو من ذلك. وأي الوجهين ثبت مما وصفنا: من ترك النبي عليه الصلاة والسلام قسمة جميع خير، أو قسمة بعضها، فدلالته قائمة على صحة ما وصفنا، من أن غلبة الجيش على الأرض لا توجب نقل ملكها إليهم إلا باختيار الإمام تملكيهم إياها، وأن له إسقاط حقهم عن رقبتها، كما وقف النبي عليه الصلاة والسلام بعض أرض خيبر على نوائبه. منها: الكتيبة الخمس، ولطعام أزواجه، وطعام رجال سعوا في الصلح بينه وبين أهل فدك وهذه نوائب ثابتة على ما روي في الأخبار. ومنها: الوطيح والسلالم، على ما بينا فيما تقدم، جعلها النبي عليه الصلاة والسلام محبوسة على وجوه، ولم يقسمها بين المقاتلة. فإذا جاز أن يوقف بعض الغنيمة، وتصرف غلته في مصالح المسلمين، ويمنع تمليكه من حضر فتحه، دل ذلك على أن المقاتلة لا يستحقون ملك الأرضين إلا باختيار الإمام ذلك لهم، على الوجه الذي وصفناه. فإن قيل: يجوز أن يكون إلي حبسه النبي عليه الصلاة والسلام من خيبر على نوائبه، وطعام أواجه، كان من الخمس الذي لا حق للمقاتلة فيه.

قيل له: هذا غلط؛ لأن سهل بن أبي حثمة ذكر أن النبي عليه الصلاة والسلام قسم خيبر نصفين: نصفًا لنوائبه وحاجته، ونصفًا بين المسلمين قسمة بينهم على ثمانية عشر سهمًا، فهذا يسقط ظن من توهم أن ما وقفه كان من الخمس. فإن قيل: فقد قسمها عمر رضي الله عنه بين الغانمين من حين أجلى عنها اليهود، فدل ذلك على معنيين: أحدهما: أنه لم يسقط حق الغانمين من رقابهما. والثاني: أنه لو كان أقرهم عليها على أنها ملكهم على ما كانت عليه قبل الفتح، لما جاز له أن يجليهم عنها. قيل له: دلالة فعل النبي عليه الصلاة والسلام فيها على النحو الذي قدمنا قائمة على ما وصفنا، وذلك لأن المقاتلة لو كانوا مستحقيها، لما وقف نصفها وقتًا من الزمان لنوائبه وحاجاته، وهي ملك لغيره، ولما سلمها أيضًا إلى اليهود معاملة ومزارعة إلا بإذنهم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يتصرف في أموال المسلمين بغير رضاهم، فلما دفعها إليهم من غير استئذان منه لهم، دل على أنه قد كان له إقرارهم فيها على أملاكهم، على حسب ما كانوا مالكيها فيما قبل. وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه أخرجهم عنها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرط عليهم: "إن لنا أن نخرجكم متى شئنا"، فلما كان إقراره إياها على هذا الشرط، كان له أن يخرجهم. ولمعنى آخر: وهو ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "لا

يجتمع دينان في جزيرة العرب"، فكان ذلك عرًا في إخراجهم، وكذلك نقول في أهل بلد إذا فتحنا"، وأقررنا أهله على أملاكهم: إن لنا إخراجهم عنه لعذر، كما أخرج عمر رضي الله عنه أهل نجران، لما بلغه عنهم كثرة خيلهم وسلاحهم، وخاف على أهل المدينة منهم، ولما جاز له إخراجهم من أملاكهم للوجوه التي ذكرنا، كان له حينئذ أن يجعلها للغانمين، ويقسمها بينهم، كما له أن يفعل ذلك بدءًا في حال قهرهم، وفتح بلدهم. وإما فعل عمر رضي الله تعالى عنه في السواد: فقد قال إسماعيل بن جعفر روى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن عمر رضي الله تعالى عنه: "أنه أراد أن يقسم السواد بين المسلمين، وأمر بهم أن يحصوا، فوجد الرجل يصيبه اثنين وثلاثة من الفلاحين، فشاور في ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال علي رضي الله عنه وعنهم: دعهم يكونون مادة للمسلمين". وفي الأخبار: أن عليًا رضي الله عنه قال له: إنك إن قسمتهم بين هؤلاء، لم تصب من بعدهم شيئًا، فتركهم عمر رضي الله عنه، وبعث عليهم عثمان بن حنيف، فوضع عليهم ثمانية وأربعين، وأربعة وعشرين،

واثني عشر. وهذا فعل مشهور عن عمر، قد ورد به النقل من جهة الاستفاضة، بحيث لا يعتري فيه ريب، وكذلك في مقدار الخراج من درهم وقفيز على كل جريب يصلح للزرع. واعترض مخالفونا على احتجاجنا بذلك من وجهين: أحدهما: أن عمر لم يقرهم عليها على أنها ملكهم، بل على أنها ملك للمسلمين، وجعلها في أيديهم على وجه الإجازة". والثاني: أن عمر وإن رأي ذلك، فقد خالفه فيه غيره من الصحابة،

وإذا وقع الخلاف لم يصح الاحتجاج بقول بعضهم إلا بدلالة من غيره. [أدلة من قال بأن السواد في العراق كان موقوفًا] واستدل من قال إنها موقوفة على ملك المسلمين: بما روى قيس بن مسلم عن طارق ابن شهاب قال: "أسلمت امرأة من أهل نهر الملك، فقال عمر: إن اختارت أرضها؛ وأدت ما على أرضها، فخلوا بينها وبين أرضها، وإلا فخلوا بين المسلمين وبين أرضهم". وبما روى المسعودي عن أبي عون الثقفي قال: أسلم دهقان على عهد علي رضي الله عنه، فقال له علي: أما أنت، فلا جزية عليك، وأما أرضك فلنا. وبما روى جماعة من السلف من كراهة شراء أرض الخراج، وادعوا أن كراهتهم لذلك كانت من جهة أن أهلها غير مالكين لها، وأنها موقوفة على ملك من فتحها.

قالوا: والأجرة تسمى خراجًا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان"، يعني الغلة، "وأن النبي عليه الصلاة والسلام لما حجمه أبو طيبة، سأل أهله أن يضعوا من خراجه". * قال أحمد: وأما قولهم إن السواد في أيدي أهله على وجه الإجارة، وأنها باقية على ملك المسلمين موقوفة عليهم: فإنه قول بين الاستحالة، ظاهر الفساد، ومع ذلك، فدلالته قائمة على صحة قولنا وإن سلمنا لهم دعواهم هذه، وسنبين ذلك بعد إيضاحنا لفساد دعواهم هذه، فنقول: [أولًا: إبطال القول بأن السواد كان إجارة] إن الإجارة لها شرائط لا تصح إلا بها باتفاٍق من الفقهاء، وأنها متى عدمت شرائطها: لم تصح، منها: أنها تحتاج إلى مدة معلومة فيما تتعلق به الإجارة بالوقت، ومعلوم أنه لم يكن في توظيف عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدة لا معلومة، ولا مجهولة.

وأيضًا: الإجارة لا تنعقد غلا برضا المتعاقدين، وعمر رضي اله عنه فإنما بعث عثمان بن حنيف وحذيفة، فوضعا على أراضيهم شيئًا، وعلى رؤوسهم شيئًا، ولم يناظروهم، ولم يعاقدوهم عليها، فكيف يكون ذلك إجازة؟. وأيضًا: فإجازة المولى على عبده لا تصح، ولا يثبت له عليه دين، فإن كانت الأرضون مبقاة على حكم الفيء، وكذلك الرقاب، ينبغي أن يكونوا عبيدًا، فلا يصح حينئذ بيعهم؛ لأن مالك الأرضين هو مالك الرقاب. وأيضًا: وضع الجزية على رؤوسهم، فدل على أنهم أحرار؛ لأن العبد لا جزية عليه. وأيضًا: فإن سبيل ما يؤخذ من الأرضين سبيل الجزية المأخوذة من الرقاب، ومعلوم أن من أسلم منهم: سقطت عنه الجزية، ولو كان بمنزلة الأجرة، وكان هو باقيًا على حكم الفيء: لم يسقط ذلك عنه بإسلامه؛ لأن الإسلام لا يسقط الجرة، ولا يزيل الرق، فكذلك ما يؤخذ من الأرضين، ليس على وجه الأجرة. وأيضًا: فلا خلاف في بطلان إجارة النخل والشجر، فدل على أنها لم تكن إجارة. وأيضًا: لو كانت إجارة، لوجب أن تكون أجرتها للغانمين، ولم يختلف الناي أن عمر رضي الله عنه لم يصرف خراج السواد إلى الغانمين خاصة دون غيرهم من المسلمين، بل كان حكمه حكم سائر الفيء الذي لم يفتتحه المقاتلة.

وأيضًا: لو كان المأخوذ من أهل السواد على جهة الجرة، لما اختلف الرجال والنساء، ولا الصغار ولا الكبار فيما يؤخذ من جزية الرأس؛ لأنهم لا يختلفون في أجرة ما ينتفعون به، فلما لم يجب على النساء والصغار جزية الرؤوس، علمنا أنها ليست بمنزلة الأجرة. وأيضًا: فإذا وضح ما احتج به عمر على من خالفه من الصحابة، فد إجماعهم على ذلك، أنه خرج إليهم يومًا بعد طول المنازعة، فقال فيما روى هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: "قد قرأت الآيات من كتاب الله تعالى عز وجل، واستغنيت بهن، قال الله تعالى:} ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ... {الآية، والله ما لهؤلاء وحدهم، ثم قال تعالى:} والذين جاءو من بعدهم ... {الآية، ثم قرأ قوله تعالى:} للفقراء المهاجرين ... {الآية، فوالله ما لهؤلاء وحدهم، ولئن بقيت إلى قابل لألحقن آخر الناس بأولهم، ولأجعلنهم ببانًا، يعني بابًا واحدًا. قال أسلم: فجاءه ابن له، وهو يقسم، يقال له: عبد الرحمن، قال: اكسني خاتمًا، قال: الحق بأمك تسقيك شربة من سويق، وما أعطاه شيئًا".

فعمر رضي الله عنه تلا عليهم الآية، واحتج بها عليهم استغناه بها، وبدلالتها عن موافقتهم إياه، وأخبر أن الجميع متساوون في هذا الحق، من باشر الحرب والفتح، ومن جاء من بعدهم ممن لم يباشر ذلك، فكيف يجوز أن يتوهم عليه أنه قصد إلى وقفها على الغانمين، وإجارتها عليهم، وهو يقول لهم: إني إنما فعلت ذلك ليشارككم من بعدكم فيها فهذا يوضح بطلان دعوى من ذكرنا قوله. وعلى أن القوم لم ينازعوه في الإجارة لو تركها، وإنما نازعوه في قسمتها، وإزالة ملك أهلها، فاتفق معه جل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، مثل علي رضي الله عنه، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، والأكابر ذوي الفقه والعقول والعلم منهم، فثبت باتفاقهم على ذلك مع ما أورد من الآثار صحة ما قلنا. [ثانيًا: إبطال القول بأن السواد موقوف] وأما ما احتجوا به من أمر الدهقان الذي أسلم على عهد عمر، والذي أسلم على عهد عمر، والذي أسلم على عهد علي، فقالا له: "إن تركت أرضك فهي لنا": فإن معناه عندنا: أن لنا أن نزرعها، ونؤدي خراجها، ونؤاجرها، وكذلك نقول في الذي يعجز عن زراعة أرض الخراج.

ويدل عليه: ما روى هشام قال: حدثنا شيبان عن الزبير بن عدي "أن دهقانًا أسلم على عهد علي رضي الله عنه، فقال له علي: إن أقمت في أرضك رفعنا الجزية عن رأسك، وأخذناها من أرضك، وإن تحولت عنها، فنحن أحق بها". * وعلى أنه لو ثبت أن عمر إنما جعل الأرضين في أيديهم موقوفة على المسلمين، لا على أنها ملك لهم، لكانت دلالة فعله على صحة ما ذكرنا قائمة، وذلك لأن الغانمين في هذه الحال ممنوعون من ملكها، والتصرف فيها حسب تصرف المالكين في أموالهم، وإذا صح ذلك، وجاز للإمام فعله، علمنا أن صحة ملك الغانمين في الأرضين موقوفة على اختيار الإمام، فكان للإمام حينئذ تبقيتها على ملك أهلها، إذ لا ملك لأهلها الذين أقرهم الإمام فيها، ولا حق لهم يومئذ في كونها موقوفة دون أن تكون ملكًا لأهلها الذين أقرهم الإمام فيها. وأيضًا: فلما ثبت أن الغانمين وغيرهم سواء فيما يؤدونه من خراج هذه الأرضين، علمنا أنه ليس للغانمين مزية على غيرهم فيما يتعلق بحكم الأرضين، وإذا كان كذلك، فمعلوم أن حق الجميع إنما هو في الخراج الموظف عليهم، وأنهم لا يستحقون في حاٍل من الأحوال تمليك رقبة الأرضين، وقسمتها بينهم.

وإذا لم يستحق المسلمون ملك رقبة الأرضين، فلا حق لهم في أن تكون موقوفة، دون أن تكون ملكًا لأهلها، لما كان الحق الذي يستحقه المسلمون قائمًا، سواء كانت ملكًا لأهلها، أو كانت موقوفة، فثبت أن الذي فعل عمر في أرض السواد على جهة تبقية ملك أهلها عليها. فإن قيل: فائدة كونها موقوفة دون أن تكون مملوكة، لفائدة وقوف الأرضين من جهة ملاكها. قيل له: إنما صح أن تكون أرضو الملاك موقوفة على وجوه القرب، فيمنع ذلك من انتقال الأملاك فيها، من قبل أن وجوب تلك الحقوق كانت من جهة الملاك، وانتقال الملك إلى غيره يمنع نفاذ شرطه، وما أوجبه من الحق فيها، وحق الخراج لم يتعلق بإيجاب آدمي، فيكون حكمه مقصورًا على ملكه، دون ملك غيره، فلا يمنع انتقال الملك فيه من بقاء الحق، كالزكاة والعشر وسائر الحقوق التي تجب لله تعالى في الأموال، فلا يمنع انتقال الملك. [ثالثًا: إبطال قول المخالفين بأن كراهة شراء السواد دليل الملكية] وأما كراهة من كره شراء أرض السواد من السلف: فلم يكن ذلك لأنهم يرونها ملكًا لأهلها، لكن لأن الخراج قد يوضع موضع الجزية، فكرهوا أن يدخل المسلم نفسه فيما يلزمه له حكم الفيء. وأما من زعم منهم أن فعل عمر رضي الله عنه في ذلك لا تقوم به حجة، لمخالفة بعض الصحابة إياه فيه، وذكر في ذلك ما روي عن بلال

ونفر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أنهم سألوه قسمة السواد، وأن عمر رضي الله عنه كان أعطى بجيلة ربع السواد ثلاث سنين، ثم قال عمر لجرير بن عبد الله رضي الله عنهم: لولا أني قاسم مسؤول، لكنت على ما قسم لكم، فأرى أن ترده على المسلمين، ففعل، فأجازه عمر بثمانين دينارًا. "وأن امرأة من بجيلة قالت لعمر: إني لا أرضى حتى تملأ كفي ذهبًا، وتحملني على جمٍل ذلول، وتعطيني قطيفة حمراء، ففعل"، قالوا: فدل ذلك على وجهين: أحدهما: وجود الخلاف من بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم عليه فيما فعله. والثاني: أنه فعل ذلك برضا من له فيها الحق من الغانمين. وبما روي "أن عمرو بن العاص لما فتح مصر، استشار من كان معه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في قسمة أرضها، كما قسم غنائمهم، وكما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بين من شهدها. فقال الزبير: ما ذاك إليك، ولا إلى عمر، هي أرض أو جفنا عليها بخيلنا، وحوينا ما فيها. فكتبوا إلى عمر رضي الله عنه، فكتب عمر: إني إن قسمتها بينكم، لم

يكن بعدكم مادة، فأوقفوها فيثًا على من بقي من المسلمين، حتى يفرض آخر عصابة من يغزو من المؤمنين". فهذا زبير قد خالف عمر رضي الله عنهما في جواز قسمة الأرضين. وبما روى حبيب بن أبي ثابت عن ثعلبة بن يزيد الحمالي قال: قال علي رضي الله عنه "لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض لقسمت السواد بينكم". [الجواب عما تقدم من الآثار التي أوردها المخالفون] فإنا نقول في ذلك: إن بلالًا ومن خالف من الصحابة في قسمة السواد، فإنهم قد وافقوه بعد ذلك على رأيه حين احتج عليهم بدلالة الآيات التي تلاها عليهم، ولم يثبت عن أحد منهم انه نازعه فيها بعد ذلك، فحصل منهم إجماع بعد الاختلاف، فارتفع الاختلاف المتقدم. وكذلك الزبير قد كان خالفه بدءًا، ثم لم يظهر منه خلاف بعد ما عرف صحة رأي عمر رضي الله تعالى عنه، وجهة وجه المصلحة فيه. وأيضًا: فلو كان خلافهم إياه باقيًا على الجهة التي ذكرت، لم يكن فيه دلالة على موضع الخلاف بيننا وبينهم؛ لأنا نقول إنه تجوز القسمة، ويجوز تبقية أهلها على أملاكهم فيها، إلا أن ذلك موقوف علة اجتهاد الإمام، وما يرى من المصلحة فيه، فجائز أن يكون خلافهم إياه كان في

جهة المصلحة: أهي القسمة أو التبقية على ملك أهلها؟ فرأى هؤلاء أن المصلحة في القسمة، ورأى هؤلاء أن المصلحة في تبقيتها على ملك أهلها، فلا يكون في هذا الخلاف دلالة على أنهم لم يكونوا يرون ما فعله عمر رضي الله عنه صوابًا، بل جائز أن يكون من رأيهم جميعًا، وأنهم خالفوه في جهة المصلحة في الحال. وأيضًا: لو ثبت إقامتهم على الخلاف على الوجه الذي ادعاء المخالف، لم يمتنع أن يقال: إن خلاف من خالفه من الصحابة في ذلك لا يكون خلافًا، بل يكون شذوذًا، لاتفاق الأئمة الراشدين عليه، وهم عمر وعثمان وعلي، وكبراء الصحابة معهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ"، فلا يكون غيرهم إذا اتفقوا خلافًا عليهم. * وأما ما روي عن ثعلبة بن يزيد الحماني أن عليًا رضي الله عنه قال: لولا أن يضرب بعضكم وجوه بعض بالسيف لقسمت السواد بينكم": فإنه قول لا يصح عن علي من جهة السند، وكيف يصح ذلك عن علي وهو أول من أشار على عمر بأن لا يقسم السواد بينهم، وأن يقر أهلها عليها، ليؤدوا الخراج. وعلى أن قسمته لو كانت عنده واجبة، لما ترك الحق عنده خشية أن

يضرب بعضهم وجوه بعض، ولم يأخذه في الله لومة لائم، فلما لم يقسمها، وأمضاها على ما كان عمر أمضاها عليه، ثبت أن رأيه كان موافقًا لرأي عمر. ومما يدل على صحة رأي عمر رضي الله تعالى عنه في ذلك: ما احتج به عليهم من الآيات. ويدل عليه أيضًا: ما روى زهير قال: حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منعت العراق قفيزها، ودرهمها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر أردبها ودينارها، وعدتكم كما بدأتم، قالها ثلاثًا، شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه".

فهذا يدل على صحة فعل عمر رضي الله عنه في السواد، لأنه لو قسمها بين الغانمين، لم يجب فيها درهم ولا قفيز، وإنما كان يجب العشر أو نصف العشر. فقول النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أن يكون الدرهم والقفيز هما الواجبان؛ لأنه أخبر عن فساد الزمان في ذلك الوقت، ومنع حقوق الله تعالى، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "وعدتكم كما بدأتم". * وأما قولهم: إنه جائز أن يكون فعل ذلك برضا من له الحق فيها من الغانمين: فإنه قول جاهل بما جرى عليه أمر القوم، وذلك أنهم لما نازعوه، لم يلتفت إلى قولهم، وامتنع من القسمة، حتى لما ظهرت له دلالة الآيات لم يلتفت إلى قولهم، وامتنع من القسمة، حتى لما ظهرت له دلالة الآيات التي ذكرها قال: إني قد قرأت الآيات من كتاب الله تعالى، فاستغنيت بهن، فتلا عليهم الآيات، ثم أمضى الحكم على ما رأى، ولم يلتفت إلى رضاهم أو كرامتهم. وأيضًا لو كان فعله في السواد برضاهم؛ لوجب أن يعزل الخمس الذي لا يعمل رضاهم فيه، فلما لم يخمسها، دل على سقوط هذا القول.

فتح مكة شرفها الله تعالى: قال أحمد: لم يختلف أهل السير ونقلة المغازي والآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة بالسيف قهرًا. ولا ينكر فتح مكة على هذا الوجه الذي قلنا إلا أحد رجلين: إما رجل جاهل بالأخبار، إذ كان طريق ما ذكرنا العلم بالأخبار، وسماع الآثار، أو رجل مكابر مباهت بعد سماعه للأخبار الواردة في فتح مكة. وذلك لأن الأخبار التي بها علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة بها، علمنا يقينًا أنه فتحها عنوة بالسيف، وأنه قاتل فيها، وقتل فيها رجالًا، فمن جحد القتال، وادعى الصلح، فهو كجاحد الفتح رأسًا، لا فرق بينهما، ونحن قائلون في ذلك بما نبين به عن بطلان قول من ادعى أنها فتحت صلحًا، ومبتدؤون فيه بما دل عليه ظاهر كتاب الله تعالى، ثم الآثار الصحيحة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ما ورد به النقل من جهة نقلة المغازي، ورواة السير، ثم اتفاق الأمة ودلائل النظر، فنقول وبالله التوفيق. [الأدلة على أن مكة فتحت عنوة] إنه لم تختلف الأمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة يوم الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم، وفي أكثر الأخبار أن مدته

كانت عشر سنين، وذلك كان قبل الفتح. ثم روي في أخبار متواترة من جهة أهل المغازي، أن أهل مكة نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي عليه الصلاة والسلام، بقتالهم خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم مع بني بكر، وهم خلفاء قريش، ثم سألوا أبا سفيان أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، ويجدد الحلف. فجاء أبو سفيان إلى أبي بكر رضي الله عنه، فسأله أن يصلح بين الناس، فقال أبو بكر: الأمر إلى الله وإلى رسوله. فأتى عمر، فسأله، فقال له عمر: أنقضتم ما كان منه جديدًا فأبلاه الله، وما كان منه متينًا، فقطعه الله. فأتى فاطمة رضي الله عنها، فلم تجبه. فأتى عليًا رضي الله عنه، فقال له علي: أصلح أنت بين الناس؟ فضرب أبو سفيان بإحدى يديه على الأخرى، وقال: قد أخذت الناس بعضهم من بعض، فذهب وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام قال: "قد جاءكم أبو سفيان، وسيرجع راضيًا بغير حاجة.

ثم قدم أبو سفيان مكة، فأخبرهم بما صنع، فقالوا: والله ما رأينا اليوم كوافد قوم، ما أتيتنا بحرب فنحذر، ولا أتيتنا بصلح فنأمن، ارجع. قالوا: وقدم بعد ذلك وافد خزاعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم إني ناشد محمدًا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا إن قريشًا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا وهم أتونا بالوتير هجدا ... فقتلونا ركعًا وسجدا قال: فقاله له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد نصرت يا عمرو بن سالم. قال: ورأى سحابة، فقال: إن هذه السحابة لتشهد بنصر بني كعب، وأنشد في ذلك شعرًا لحسان يقول فيه: أتاني ولم أشهد ببطحاء مكة ... رجال بني كعب تحز رقابها

وقيل: إن النبي لما بلغه ذلك قال: "والله لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي". وإن أبا سقيان لما استقبل النبي عليه الصلاة والسلام في مر الظهران، وأجازه العباس، جاء عمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: هذا أبو سفيان قد جاءك يا رسول الله بلا عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه. فثبت بما ذكر في هذه الأخبار أن قريشًا نقضت العهد الذي كان بينها وبين النبي عليه الصلاة والسلام، وأنهم عادوا حربًا، ثم غزاهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك. فإن قيل: فلو كان الصلح منتقضًا لقتل أبا سفيان. قيل له: لم يقتله لأنه كان رسولًا لقريش، والرسل لا تقتل، كذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لرسول مسيلمة عبد الله بن النواحة: "لولا أنك رسول: قتلتك". وإذا ثبت ما ذكرنا من انتقاض الصلح، كان ظاهر كتاب الله تعالى

موجبًا لقتالهم، وهو قوله تعالى:} وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أين لهم لعلهم ينتهون * ألا تقتلون قوما نكثوا أيمانهم وهنوا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين* قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين* ويذهب غيظ قلوبهم {. فأفادتنا هذه الآية معاني: أحدها: أنهم لما نكثوا أيمانهم، وجب على المسلمين قتالهم. وأفادتنا أيضًا: أنهم نكثوها بقوله تعالى:} ألا تقاتلون قومًا نكثوا أيمانهم {. وأفادت أيضًا: أنهم إذا قاتلوهم، نصرهم الله تعالى عليهم، وشفى صدورهم، ويعذب عدوهم، ويخزيهم بأيديهم. فروي عن مجاهد في قوله تعالى:} ألا تقاتلون قومًا نكثوا

أيمانهم {: قال: عهدهم. } وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة {. قال: قريش إلى قوله:} ويشف صدور قوم مؤمنين {، قال: خزاعة حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عكرمة: نزلت في خزاعة:} قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين {. وقال الحسن في قوله:} ويشف صدور قوم مؤمنين {: قال: خزاعة. وقد علمنا لا محالة أن النبي صلى الله عليه وسلم من أشد الناس مسارعة إلى أمر الله تعالى، فلا جائز أن يكون الله قد أخبره بنكث القوم أيمانهم، وأمره بقتالهم، ووعده النصر عليهم، فيتخلف عن ذلك بإيقاع عقد صلٍح بينه وبينهم. وإذا لم يجز ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان من النبي

صلى الله عليه وسلم من القتال ما يوجب تنجيز موعود الله تعالى له. من النصرة، وشفاء صدور المؤمنين، وإذهاب غيظ قلبوهم. ومن ادعى الصلح، فهو مخالف لمضمون هذه الآيات؛ لأن الصلح ينفي القتال والعذاب الذي وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ لأن الفريقين يكونان متساويين في عقد الصلح، ولا ينال احدهما فيه غضاضة، ولا عار ولا نصر على أصحابه، ولا شفاء صدور واحد منهما من صاحبه، والصلح إنما هو ترك لما كانوا عليه من القتال، وهدنة فيما يستقبل، ليس فيه مزية لأحد الفريقين على الآخر. * وأيضًا: قال الله تعالى:} فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم {: فهي الله تعالى عن الصلح إذا كانوا مستعلين عليهم بالقوة والعزة. وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام كذلك في فتح مكة، فلا جائز أن يكون قد صالح مع نهي الله تعالى عن الصلح لمن كان بالوصف الذي كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام. * ويحتمل أن يكون قول الله تعالى:} وأنتم الأعلون والله معكم {: إخبارًا منه عن حالهم، ونهاهم عن الصلح من أجل ذلك، فيكون النهي

حينئذ بيانًا غير معلق بالشرط. والوجه الأول على أن يكون النهي معلقًا بشرط أن يكونوا هم الأعلون، فيصير تقدير الكلام: فلا تهنوا إلى السلم إذا كنتم الأعلون. وكلا الوجهين دال على أن الحال التي كان النبي عليه الصلاة والسلام عليها عنده قصده مكة مانعة من الصلح. * وقوله تعالى:} وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم {: يوجب أن يكون دخلها عنوة؛ لأنه أخبره أنه أظفره عليهم، ولو كان صلحًا، ما كان النبي عليه الصلاة والسلام ظافرًا بهم، ولم يكن هو أولى بأن يوصف بذلك منهم؛ لأن عقد الصلح يتم بهم جميعًا. فإن قيل: المراد به القوم الذين نزلوا عليه بالحديبية من جبل التنعيم من قريش، فظفر بهم وأطلقهم. قيل له: ما قلناه أولى بظاهر الآية؛ لأنه قال:} ببطن مكة {، والحديبية ليست ببطن مكة، بل هي خارج الحرم. * وقوله تعالى:} إذا جاء نصر الله والفتح {: يوجب ذلك،

لما روى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد، وقاتل بمن معه صفوف قريش بأسفل مكة، حتى هزمهم الله، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح، فرفع عنهم، فدخلوا في الدين، فأنزل الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح}، حتى فتحها. [أدلة من السنة على أن مكة فتحت عنوة] وأما ما روي في ذلك من جهة السنة: فما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام من جهات مختلفة- كرهت ذكر أسانيدها خوف الإطالة- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "إن مكة حرام، حرمها الله تعالى، لم يحل فيها القتال لأحد قبلي، ولا يحل لأحد من بعدي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار". رواه ابن عباس وأبو شريح الخزاعي وأبو هريرة. وقد أجاز لي أحمد بن محمد يعقوب بن شيبة قال: حدثنا جدي قال: حدثنا زهير بن حرب حدثنا وهب بن جرير قال: حدثنا أبي قال: سمعت يونس يحدث عن الزهري عن مسلم بن يزيد حدثني سعد بن بكر أنه سمع أبا شريح الخزاعي ثم الكعبي يقول: "أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في قتال بني بكر، حتى أصبنا منهم مارا بمكة، ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم برفع

السيف". وذكر الحديث. قال أحمد: وحدثنا جدي يعقوب بن شيبة قال: حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا محمد بن عبيد الله العرزمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال يعقوب: وحدثنا عبد الوهاب بن عطاء الجعابي وروح بن عبادة قالا: حدثنا حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وساق الحديث عن روح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قال: "كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر، فإذن لهم حتى صلوا العصر، ثم قال لهم: كفوا السلاح". وذكر الحديث. وذكر يعقوب أيضا عن سويد بن سعيد حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن عثمان الجزري عن مقسم عن ابن عباس، ذكر قصة الفتح، وقال فيها: "أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل مكة، وأمر أصحابه بالكف، فقال: كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر ساعة، ثم أمرهم فكفوا، فأمن الناس كلهم إلا أربعة: ابن أبي سرح، وابن خطل، ومقيس بن

صبابة، وامرأة أخرى وذكر غيره: "أنه أمر بقتل قينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولو وجدوهم متعلقين بأستار الكعبة. فقتل ابن خطل، ومقيس، وإحدى المرأتين، واستأمن عثمان لعبد الله بن سعد بن أبي سرح، فلم يجبه النبي عليه الصلاة والسلام، حتى سأله ثلاثا فأجابه وبايعه، ثم قال: ألم يكن منكم رجل رشيد يقوم إلى هذا فيقتله حين رآني أمسكت عن بيعته؟

فقالوا: هلا أومأت إلينا يا رسول الله. قال: ما ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين. وفي بعضها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ينبغي لنبي أن يقتل بالإشارة"، وأنه قال بعد ذلك: "لا تغزي مكة بعد اليوم أبدا"، "ولا يقتل قرشي بعد اليوم صبرا". *وما روي في سائر الأخبار الشائعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن": فهذا ضرب من الأخبار المروية في نص قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر بالقتل وبالقتال. وقد وردت من جهات مختلفة، ونقلتها الأمة بحيث لا يحتمل التواطؤ والاتفاق، ولا يجوز فيها الوهم والغلط، ولا مساغ للشك معها. ومنها: ما روي في أخبار ثابتة بأسانيد صحيحة، ورواه أهل المغازي

جميعا "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الفتح: أترون أوباش قريش؟ احصدوهم حصدا، وأمر إحدى يديه على الأخرى، حتى ظنوا أن السيف لا يرفع عنهم، فجاء أبو سفيان فقال: أبيدت خضراء قريش، فلا قريش بعد اليوم، فحينئذ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن". وأنه بعث خالد بن الوليد في المجنبة اليمنى، والزبير في المجنبة اليسرى، وأن خالدا قتل رجالا بالخندمة، ثم انهزموا، فقال قائلهم: إنك لو شهدت يوم الخندمة ... إذ فرد صفوان وفر عكرمة فلو كان هناك صلح، كيف يخفى على خالد بن الوليد، وعلى صفوان وعكرمة، وهما من رؤساء قريش. *وضرب آخر من الأخبار يقتضي ذلك من فحواها وإن لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم قول منصوص فيها:

فمنها: حديث بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: "لما كان يوم أحد قتل من الأنصار أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة، ومثلوا بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن كان لنا مثل هذا لنربين عليهم. فلما كان يوم فتح مكة، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة، فقال رجل لا يعرف: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأسود والأبيض آمن، إلا مقيس بن صبابة، وابن خطل، وقينتي فلان قد سماه، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وإن عاقبهم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصبر ولا نعاقب" فهذا الخبر يوجب أنها فتحت بالسيف من وجوه: أحدها: قوله دخلها عنوة. والآخر: قول القائل: "لا قريش بعد اليوم". والآخر: قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: "الأسود والأبيض آمن إلا فلان وفلان وفلان"، ولو كان صلحا، لم يحتج إلى ذلك، ولدخل مقيس ومن ذكر معه في الصلح، فلم يجز قتلهم.

والآخر: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصبر ولا نعاقب" فدل على أنه لو شاء لعاقب، قوله تعالى: {وإن عاقبتم بمثل ما عوقبتم به}. *فإن قال قائل: ليس في ذكر العنوة دلالة على القهر؛ لأن العنوة قد تكون صلحا، كما أنشدنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب أنه أنشد: وما أخذوها عنوة عن مودة ... ولكن بحد المشرفي استقالها وزعم أن معنى العنوة في هذا الموضع: الصلح فيقال له: إن هذا غلط فاحش على اللغة؛ لأن العنوة: من عنا، يعنو: إذا ذل وخضع، وصار أسيرا. ومنه قول الله تعالى: {وعنت الوجوه للحى القيوم}، معناه: خضعت وذلت. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان"، يعني: أسراء، والعاني: الأسير في لغة العرب. فاقتضى قوله:

"فتحها عنوة": أنه غلبهم، فصاروا أسرى في يده. وأما قول الشاعر: "فما أخذوها عنوة عن مودة": فلا دلالة فيه أنه أراد الصلح؛ لأن المعني: أنهم لم يأخذوه أسراء عن مودة تقدمت بينهم، ثم صارت عداوة، لكن لم تزل العداوة التي كانت بينهم قائمة فأخذوها على هذا الوجه، ليكون أغيظ لهم. ويحتمل أنهم لم يأخذوها، بأن أطهروا لهم مودة وعهدا، ثم نكثوا أو غدروا، فأخذوها على وجه الغدر والمخادعة، لكن أخذوها جهدا بحد السيف. *وعلى أنه ليس بنا حاجة إلى ما يحتمل التأويل من الألفاظ، لأن الأخبار المتواترة المنصوص فيها ذكر القتال، أشهر من أن تخفى. ومن نحو ما وصفنا من الأخبار: ما روي "أن أم هانئ أجارت يوم الفتح حموين لها، وأن عليا رضي الله عنه أراد قتلهما، فأغلقت عليهما الباب، وجاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقالت: يا رسول الله! إني أجرت حموين لي، وإن عليا يريد قتلهما. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت".

وقد نقلت الأمة هذا الخبر، واحتجت به في جواز أمن النساء؛ ودلالته على ما ذكرنا من وجهين: أحدهما: أنه لو كان هناك صلح، لما خفي على رضي الله عنه مع محله من النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن صلح الحديبية جرى على يده، وهو الذي كتبه، فكيف كان يقتل حموي أم هانئ، مع علمه بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمنهم بالصلح. والوجه الآخر: قوله عليه الصلاة والسلام: "قد أمنا من أمنت، وأجرنا من أجرت": فأخبر أن أمانها حصل بأن أمنتهما، ولو كانا آمنين قبل ذلك بالصلح، ما كان لأمانها تأثير ولا حكم. *ونوع آخر: وهو ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، صعد إلى باب الكعبة، وأخذ بعضادتي الباب، ثم قال: ما تقولون معاشر قريش؟ قالوا: نقول: أخ كريم، وابن عم، ملكت، فاصنع ما شئت. قال: فإني أقول كما قال أخي يوسف: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}، وقد أجرتكم، إلا ما كان من ابن خطل، وذكر الآخرين معه.

وفي بعضها: قال لهم: "أنتم الطلقاء": فدل ذلك على ما قلنا من وجوه: أحدها: "قد ملكت فاصنع ما شئت": فدل أنه لم يكن صلح. والثاني: قوله: "قد أجرتكم"، ولو كانوا آمنين بالصلح، لم يكن لهذا القول وجه. والثالث: قوله: "أنتم الطلقاء"، وبلغ من استفاضة ذلك في الأمة، أن الصحابة كانوا يسمون قريشا الذين أطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة: الطلقاء، مثل سهيل بن عمرو، ومعاوية، وأشباههما من الناس، حتى كانوا يسمون أبناءهم: أبناء الطلقاء. وقال عمر: إن هذا الأمر- يعني الخلافة- لا يصلح للطلقاء، ولا لأبناء الطلقاء. فكانت هذه سمة لهم ولأبنائهم، حتى صارت كالنسب، لشهرتها واستفاضتها، ولو كان دخلها صلحا، ما كان هؤلاء طلقاء، كما لم يكونوا طلقاء حين دخلها النبي صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء عن صلح الحديبية. *ونوع آخر: وهو ما ذكره أهل المغازي، فيما عدوا من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قاتل، فعدوا فيها فتح مكة. قال الواقدي: "حدثني نيف وعشرون رجلا من أهل المدينة، فكل قد

حدثني بطائفة من هذا، وبعضهم أوعى من بعض قال: وكانت مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي غزا بنفسه سبعا وعشرين غزوة، وكان ما قاتل فيها تسعا: بدر القتال، وأحد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف". *ونوع آخر: وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح، وعلى رأسه مغفر. وقال جابر: "وعلى رأسه عمامة سوداء"، ولو دخلها صلحا لدخلها حراما، كما دخلها في عمرة القضاء، إذ كان دخوله إياها عن صلح، فدل على أن تركه الإحرام كان لأجل القتال. *فهذه أخبار متواترة، قد وردت من جهات مختلفة في فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة عنوة بالسيف، مثلها يوجب العلم لسامعيها، لاستفاضتها وانتشارها، وامتناع التواطؤ على ناقليها، ولا يحكى على أحد من السلف والخلف رد شيء من ذلك ولا إنكاره، ولا معارضته بخبر شائع أو شاذ على وجه من الوجوه، ولا شك فيه أحد منهم غير الشافعي

رحمه الله تعالى، فإنه زعم أن مكة فتحت صلحا، من غير خبر رواه فيه، ولا حكاية عن أحد من السلف فيما ادعاه. ولئن لم يوجب مثل هذا الخبر العلم الحقيقي، لم يكن لنا سبيل إلى إثبات شرع من الشرع من جهة خبر التواتر، ولئن لم يثبت خبر التواتر، فخبر الواحد أحرى أن لا يثبت، وهذا يؤدي إلى بطلان الأخبار رأسا، والانسلاخ من الدين بواحدة. *ومما يدل على بطلان دعواه الصلح من جهة النظر: أنه لو كان فتحها صلحا، لوجب أن يرد النقل به متواترا، لكثرة من حضره من الناس، ولحاجة الجميع إلى معرفته من الفريقين جميعا، من أهل مكة، ومن عسكر النبي صلى الله عليه وسلم، لما في الصلح من حقن الدماء، وحظر الأموال، فكانت حاجة الفريقين ماسة إلى معرفته، فكيف يجوز أن يخفى مثله ولم يعلموه؟ ولو علموه لنقلوه. وقد علمنا أن صلح الحديبية كان أيسر أمرا من فتح مكة، وقد ورد به النقل متواترا؛ لأن مثل ذلك بحضرة تلك الجماعة لا يجوز خفاؤه، ولا

كتمانه؛ لأن مثل تلك الجماعة لو جاز وقوع الاتفاق منهم على كتمانه وإخفائه، لجاز منهم الاتفاق والتواطؤ على نقل خبر لا أصل له، وتجويز ذلك يؤدي إلى بطلان خبر التواتر. *وأيضا: فإنه يقال للقائل بذلك: خبرنا عن صلح النبي صلى الله عليه وسلم قريشا حين قصد مكة عام الفتح على أي وجه كان؟ وقد علمنا انتفاض صلح الحديبية بينه وبينهم، أصالحهم على إقرارهم على كفرهم، وقد علمنا أنه كسر أصنامهم حين دخلها؟. أو صالحهم على جزية، أو على خراج معلوم، يؤدونه إليه عن أنفسهم وبلادهم، وقد علمنا أنه لم يكن يقر أحدا من مشركي العرب على جزية وخراج، ولم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف؟. أو صالحهم على إقرارهم بغير جزية؟ فهذا أبعد من الجواز مع القوة والعدة. أو دخلها وقد أسلموا؟ فإن كان كذلك، لم يحتج بعد ذلك معهم إلى صلح؛ لأنهم قد عصموا دماءهم وأموالهم بالإسلام، فلا يكون دخوله بعد ذلك على وجه الصلح. *ولا يجوز أيضا أن يقال: إنه فتحها؛ لأن أهل بلد لو أسلموا من غير قتال: لم يجز أن يقال: إن الإمام قد فتحه.

فالقول بالصلح في فتح مكة منتقض من جميع جوانبه، سوى ما ترده من الأخبار المتواترة. *فإن قال قائل: إنما دفعنا أن تكون مكة فتحت عنوة بظاهر كتاب الله تعالى في حكم الغنائم، وبدلالة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل مكة حين دخلها. فأما ظاهر الكتاب: فبقول الله تعالى: {وأعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى} الآية. فلو كان فتحها عنوة لقسمها بين الغانمين. وبقوله تعالى: {وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها}. فأخبر أن ما غلبنا عليه فهو لنا وفي ملكنا، فلما أقر النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة على أرضهم وأموالهم، ولم يقسمها بين الغانمين، ولم يسترق أحدا من أهلها، علمنا أنها فتحت صلحا؛ لأنه لو فتحها عنوة، لما كان يسقط حق الغانمين على استحقوه لقاتلهم، ولما أسقط حق الله تعالى في الخمس عن أرضهم وأموالهم. *فإنه يقال لهذا القائل: خبرنا عن خبر التواتر إذا ورد من الجهات التي يمتنع فيها التواطؤ والاتفاق هل يوجب العلم؟

فإن قال: يوجب العلم. قيل له: فهلا جمعت بينه وبين ظاهر الكتاب في حكم الغنائم، فقلت إن الإمام مخير في إقرار أهل البلد على أرضهم وأموالهم، وقسمتها بين الغانمين، فتستعمل الخبر مع الآية. وخبرني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسائر الصحابة الذين اتفقوا معه على إقرار السواد على أرضهم من غير إخراج الخمس، ولا قسمتها بين الغائمين، هل خالفوا حكم الكتاب؟ فإن قال: نعم: طعن في الصحابة الذين تثبت الحجة باتفاقهم. وإن قال: لا، ولكن استدللنا بفعلهم على أن للإمام أن لا يقسم، ويوقفها على المسلمين، وأنه إن شاء قسمها، كما قال الله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه}، فجمعنا بين فعل عمر مع الصحابة، وبين الآية. قيل له: فهلا جمعت بين الآية وبين تصحيح الأخبار الواردة في فتح مكة عنوة، واستدللت بذلك على أن الإمام مخير في الأرضين على الوجه الذي قلنا. *أما قوله تعالى: {وأورثكم أرضهم ودايرهم وأموالهم}: فلا دلالة

فيه على شيء من ذلك؛ لأن ظاهر قوله: {وأورثكم}: لا يوجب الملك، قال الله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا}. ولأنا قد اتفقنا أن نفس الغلبة لا توجب ملك الأرضين، ورقاب أهلها للغانمين، ألا ترى أن للإمام أن يقتلهم قبل القسمة، ولو ملكهم بنفس الغلبة لما جاز قتلهم بعد ذلك، وقد من النبي صلى الله عليه وسلم على الزبير بن باطا اليهودي، وسوغه ماله، وهو من بني قريظة الذين حكم فيهم سعد بن معاذ بقتل الرجال، وسبي الذرية، وغنيمة الأموال، بمسألة ثابت بن قيس، وقال: له عندي يد، أريد أن أجزيه بها، فأبى الزبير أن يقبل ذلك، وقال: ألحقوني بأصحابي، فقتل فيمن قتل منهم. ولو كان ماله قد ملكه الغانمون بنفس حكم سعد، لما وهبه النبي صلى الله عليه وسلم بمسألة ثابت.

وقد قال مخالفنا: إن الغانمين لا يملكونه بنفس الغلبة، فكيف يستدل بقوله: {وأورثكم أرضهم وديارهم}:على أن نفس الغلبة توجب لهم الملك؟ وأيضا: فإن هذه الآية نزلت في شأن بني قريظة وخيبر، وسائر قرى اليهود، التي فتحها النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلها للغانمين. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم}. فإنما أخبر أنه أورثهم هذه الأرضين المذكورة لهؤلاء، فما في هذا من الدليل على أن ذلك من حكم سائر الأرضين، أمن جهة الظاهر أو القياس؟ فإن قال: من جهة الظاهر. قيل له: حكم الظاهر مقصور على ما ورد فيه؛ لأن غيره لم يدخل في اللفظ وأما الظاهر: فإنما هو ما يقتضيه اللفظ، ويشتمل عليه، فإما ما لا يتناوله اللفظ، فلا يقال فيه إنه الظاهر. وإن قال: من جهة القياس.

قيل له: فكأنك إنما اعترضت على الأخبار التي رويناها، وما نقلته الأمة من فتح مكة عنوة بالقياس، وهذا ظاهر البطلان. فإن قيل: لما "قيل للنبي عليه الصلاة والسلام حين فتح مكة: ألا تنزل دارك؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع"؟. دل على أنه فتحها صلحا، لأنه لو فتحها عنوة، لأخذ داره. قيل له: فوقع الصلح على أن لا يرد على النبي عليه الصلاة والسلام ملكه الذي كان له في الدار؟ فإن قال: نعم. قيل له: من أين لك هذا؟ فإن قال: لأنه لا وجه للحديث غير ذا. قيل له: لم قلت هذا؟، وما أنكرت أن يكون المعنى فيه: ما روي أن عقيلا باع دورهم لما هاجر للنبي عليه الصلاة والسلام، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن عقيلا لم يترك له دارا ينزلها، لأنه احتوى عليها، وملكها بذلك، وجاز يبيعه فيها. ودلنا ذلك على أن أهل الحرب إذا غلبوا على أموالنا ملكوها؛

لأن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أنه لم يبق له ملك، لأجل ما فعله عقيل. ثم يقال له: أليس كان ملك النبي عليه الصلاة والسلام باقيا في الدار التي أخذها عقيل، وتصرف فيها عندك؟ فإذا قال: نعم. قيل له: فما الذي منع النبي عليه الصلاة والسلام من أخذها؟ وقد أسلم أهل مكة في اليوم الذي فتحها النبي عليه الصلاة والسلام إلا نفرا يسيرا منهم هربوا، مثل صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وأنت تقول: إن ملك النبي عليه الصلاة والسلام كان باقيا في الدار، وإسلامهم يوجب رد ملكه عليه على أصلك، فما فائدة قوله على أصلك: "وهل ترك لنا عقيل من دار؟ "، وما معنى امتناعه من نزول داره، وليس هناك مانع يمنعه؟ *وإن من اعترض على الأخبار الواردة في فتح مكة عنوة بمثل هذا لضعيف العقل، والعجب ممن قبل أخبار الآحاد، ولا يلتفت معها إلى معارضتها للكتاب والسنة الثابتة، ويقضي بها على ظاهر الكتاب، ثم يعترض على الأخبار المتواترة بمثل هذه الاعتراضات الواهية.

[قسمة الغنيمة] قال أبو جعفر: (وإذا قسم الإمام الغنيمة ضرب للفارس سهمين، وللراجل سهما واحدا، وهو قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف محمد: للفرس سهمين). والأصل في ذلك: قول الله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه}. فأضاف الغنيمة إلى جماعتهم بعد إخراج الخمس، وإطلاق إضافة الغنيمة إليهم، يقتضي المساواة بينهم، كقوله تعالى: {فلهما الثلثان مما ترك}، وكقوله: {فهم شركاء في الثلث}، وكقول القائل: هذه الألف لهؤلاء العشرة: أنهم يستحقونها على المساواة. فلما كان إطلاقا اللفظ على هذا الوجه يقتضي المساواة، قلنا: إن مقتضى اللفظ إيجاب التسوية بين الفارس والراجل، إلا فيما يقوم الدليل على تخصيصه، فلما اتفق الجميع على تفضيله بسهم واحد، خصصناه في الظاهر، وبقي حكم العموم في إيجاب التسوية فيما عداه.

ومن جهة السنة: ما حدثنا أبو بكر محمد بن بكر البصري حدثنا أبو داود حدثنا محمد بن عيسى حدثنا مجمع بن يعقوب بن مجمع بن يزيد الأنصاري قال: سمعت أبا يعقوب بن المجمع يذكر عن عمه عبد الرحمن بن زيد الأنصاري عن عمه مجمع بن جاري- وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن- قال: شهدنا الحديبية وذكر الحديث: "قسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما، وكان الجيش ألفا وخمسمائة، فيهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطي الراجل سهما". حدثنا ابن قانع قائلا: حدثنا الحسن بن الكميت الموصلي حدثنا صبح بن دينار حدثنا عفيف بن سالم عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم يوم بدر للفارس سهمين، وللراجل سهما". قال أحمد: قال لي بعض أهل المعرفة: عفيف: ثقة مأمون، وكذلك

صبح بن دينار. حدثنا ابن قانع قال: حدثنا يعقوب بن غيلان العماني حدثنا محمد بن الصباح الجرجرائي: ثقة قال: حدثنا عبد الله بن رجاء عن سفيان الثوري عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للفارس سهمين، وللراجل سهما". قال عبد الباقي بن قانع: لم يجئ به عن الثوري غير محمد بن الصباح، قال أبو بكر بن الجعابي: حديث صحيح. فإن قيل: روى الفزاري عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: "قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم للفارس سهمين، وللراجل سهما". فهذا يعارض حديث عفيف بن سالم عن عبيد الله، وهو مع ذلك أولى، لما فيه من إثبات زيادة سهم. وقد روى عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للفارس ثلاثة أسهم: سهمان له وسهم لفرسه". قيل له: حديث عبيد الله معارض بما قدمنا من رواية سفيان عنه: "أنه

جعل للفارس سهمين". وأيضا: في خبرنا زيادة حظ الراجل؛ لأن كل ما نقص من سهم الفارس، ففيه زيادة في سهم الراجل، فلم تكن أنت أولى بإثباتك زيادة سهم للفارس منا بإثبات زيادة حظ الراجل. وأيضا: في خبرنا أن للراجل نصف حظ الفارس، وفي خبركم الثلث، فخبرنا زائد من هذا الوجه، ولو ثبتت الزيادة من غير معارض، لم يجز الاعتراض به على عموم الآية، ولا على خبر عبيد الله الذي ذكر فيه للفارس سهمين. وذلك لان فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يقتضي عندنا الوجوب، فلا دلالة في على أن السهم الزائد كان على جهة الاستحقاق، فلا يخص به العموم الذي ذكرنا. ولا يعارض به حديث عبيد الله الذي ذكر فيه السهمين للفارس، وذلك لأنه معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع حقا واجبا، وقد يجوز أن يعطي ما ليس بمستحق على جهة النفل، فوجب من أجل ذلك أن تكون دلالة العموم قائمة على ما وصفنا، وأن يكون حكم خبر السهمين ثابتا، والزيادة منتفية على وجه الاستحقاق. فإن قيل: فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يعطي من سهم الغانمين من لا يستحق؛ لأن ذلك حق للغير، فإذا لم يعط زيادة السهم إلا على جهة الاستحقاق. قيل له: لم نقل إنه أعطى من جملة الغنيمة، وإنما أعطى عندنا

من الخمس. كما أعطى سلمة بن الأكوع في غزوة ذي قرد سهم الفارس والراجل، وكان راجلا. وكما "أسهم لأبي موسى وأصحابه من غنائم خيبر، وإنما جاؤوا بعد الفتح". و"أسهم لعثمان بن عفان، ولم يشهد بدرا". وكما قال ابن عمر: "أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية بعثها اثني عشر بعيرا سهامنا، ونفلنا بعيرا بعيرا". وكما "أعطى الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وأمثالهما يوم حنين

عطايا جزيلة، وكانت من الخمس"، وإن لم يذكر في الخبر؛ لأنه كان معلوما أنه لا يعطي من غنائم الجند. *ومن جهة النظر: أن غناء الراجل في الحرب أكثر من غناء الفرس، لا يجوز أن يفضل عليه، ألا ترى أن تفضيل الفارس على الراجل إنما هو لأجل ما له من الغناء في الحرب ما ليس للراجل، فكما لم يفضل راجل على راجل؛ لأنه لا فضيلة له في الغناء، وجب أن لا نفضل فرسا على راجل، إذ لا فضيلة له عليه في الغناء في الحرب. فإن قيل: فلا يسوى بينهما؟ قيل له: إذا نصبنا علة للتفضيل، لا يلزمنا عليه التسوية؛ لأن علة واحدة لا يجوز أن توجب حكمين مختلفين، وهذا الإلزام ونحوه لا يكون إلا من جاهل بالنظر. *ووجه آخر من النظر: وهو أن القياس يمنع أن يسهم للفرس، لأنه آلة لا غناء له بنفسه، كما لا يسهم لجماعة أفراس، وكما لا يسهم للبغل والحمير، إلا أنه لما اتفق الجميع على سهم واحد، تركنا القياس فيه، والباقي محمول على القياس. مسألة: [الدواب التي يسهم لها من الغنيمة] قال أبو جعفر: (والبرذون، والفرس في ذلك سواء).

وذلك لأن غناءهما واحد؛ لأن الفرس وإن كان أجرى من البرذون، فالبرذون أقوى وأحمل للسلاح. *قال: (ولا يسهم لبعير ولا بغل ولا حمار). وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام في غزواته قد كان يكون مع أصحابه الجمال والحمير والبغال، فلا يسهم لشيء منها، ولو أسهم لكان نقله أظهر من نقل الإسهام للفرس، لأنها كانت أكثر من الأفراس. [حكم الإسهام لأكثر من فرس] قال أبو جعفر: (ولا يسهم إلا لفرس واحد في قول أبي حنيفة ومحمد، وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف: أنه يسهم لفرسين، ولا يسهم لأكثر منهما). وجه قول أبي حنيفة: أنه لم يرو عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه أسهم لأكثر من فرس واحد، وقد علمنا أن الجيوش العظام لا يخلو من أن يكون فيها من له فرسان وأكثر. وقد حاز النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين، وكان معه فيها

اثنا عشر ألف رجل، ومعه من رؤساء العرب مثل عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس في آخرين من الرؤساء الذين لا يخلون إذا حضروا الحرب من أن يكون معهم عدة أفراس، ولم يسهم النبي صلى الله عليه وسلم لأكثر من فرس واحد، لأنه لو أسهم لأكثر من واحد لنقل، لكثرة من كان معه. ولأن مثله يكاد يخفى علي أحد من أهل السهام، لأن ما زاد في سهام غيرهم، نقص من سهامهم، فثبت أنه لا يسهم لأكثر من فرس. وأيضا: كان القياس أن لا يسهم للفرس رأسا، فلما وردت السنة بالإسهام للواحد، تركنا القياس فيها، وحملنا الزيادة على القياس كسائر الآلات التي تحضر الحرب. *وذهب أبو يوسف إلى أنه قد يقاتل بهما جميعا في الحرب، بأن يكون أحدهما جنيبة يقاتل بها تارة، وبالأخرى تارة. مسألة: [الضابط الذي يستحق به الفارس سهمه] قال: (ومن دخل دار الحرب فارسا، ثم نفق فرسه: فله سهم

فارس، ومن دخلها راجلا، ثم اشترى فرسا: فله سهم الراجل). قال أحمد: ذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أنه إن باع فرسه بعد دخوله دار الحرب، فله سهم فارس، وكذلك لو وهبه، وقاتل راجلا. وقال محمد بن الحسب في السير الكبير: إنه إن باع فرسه بعد دخوله دار الحرب: فله سهم راجل، ولم يذكر فيه خلافا، وذكر المسألة في الجامع الصغير: إذا نفق الفرس بعد الدخول: أن له سهم فارس، وإذا اشترى فرسا بعد الدخول: فله سهم راجل، وقال: إنما أنظر إليهم يوم يدخلون. والدليل على أن الاعتبار بيوم الدخول في استحقاق السهام: قول الله تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب}. فدل أن السهم مستحق بالإيجاف، وظاهره يقتضي استحقاقه بخروجه على الخيل نحو دار الحرب، إلا أن الجميع متفقون على أنه لا اعتبار به ما دام في دار الإسلام، فوجب اعتبار الإيجاف بالخيل في دار الحرب، لما تضمنه ظاهر اللفظ.

ويدل عليه أيضا: قول الله تعالى: {ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح}. فجميع بين ما ينال من أنفسهم من جراح أو قتل، وبين وطء أرضهم فيما يستحقانه من الأجر، فدل على أنهما سواء فيما يستحق به من السهم. وأيضا: وطء بلادهم هو أول الظهور والغلبة، بدلالة ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا". فوجب اعتبار أول الظهور، لاتفاق الجميع على أن فرسه لو نفق في حومة الحرب: لم يبطل سهمه وإن نفق قبل حيازة الغنائم، ولو كان الاعتبار لوقت الحرب، لوجب أن يكون وجوده معه شرطا في استحقاق سهمه إلى أن تحاز الغنائم، فلما سقط هذا، علم أن العبرة لحال الدخول لا غير. وأيضا: لو قاتل راجلا، لاستحق سهم الفارس إذا كان فرسه باقيا معه، فعلم أنه لا اعتبار ببقاء الفرس إذ كان إنما يحتاج إليه للغناء في الحرب، والفرس لا يغني عن الراجل.

فإن قيل: لأنه لو احتاج إليه لركبه فانتفع به. قيل له: إنما قلنا فيمن لم يحتج إلى فرس بعد حضوره، أليس قد استحق سهم الفارس مع استغنائه عن الفرس؟ فكذلك إذا نفق بعد الدخول. وأيضا: فلا اعتبار بالقتال؛ لأن من قاتل ومن لم يقاتل سواء في استحقاق السهام، فلا اعتبار بأن يكون الفرس معه وقت القتال، وهو غير مستحق للسهم بالقتال. وأيضا: الجيش يستحقون السهمان فيما غنمته السرية ولم يحضروا الحرب، لأجل أنهم في دار الحرب ظهراء لهم، فكذلك يستحق سهم الفرس بعد ما نفق، لوجود القوة والظهور بأول الدخول. فإن قيل: فلو مات هو بعد الدخول: لم يستحق سهما، كذلك فرسه. قيل له: ولو مات في الحرب، أو قبل إحراز الغنيمة: لم يستحق سهما، ولا يدل على أن فرسه لو نفق في الحرب أو بعد انقضائها قبل إحراز الغنيمة، بطل سهم فرسه. وأيضا: فإن الفرس لا يستحق شيئا، فإذا كان الرجل حيا وقت الحيازة، استحق سهم الفارس لحصول الغلبة والظهور له، وهو ممن يثبت له الحق في الحال، وإذا كان ميتا وقت حيازة الغنيمة، لم يجز أن يستحق شيئا، لأن الميت لا يثبت له حق، والحق عندنا إنما يثبت بإحراز الغنيمة وحيازتها، لأجل السبب المتقدم، وهو الظهور والغلبة بدءا، وهو دخول دار الحرب. فإذا بقي الرجل حيا حتى أحرزت الغنيمة: استحق السهم، وإذا مات قبل ذلك: لم يستحق شيئا، ولا يمنع ذلك اعتبار حال الدخول في

استحقاق السهم. ونظير ذلك ما نقول في الرجل يموت، ويترك امرأة حبلى: أن الولد إن خرج حيا: استحق الميراث بالسبب المتقدم وهو الموت، لأن الميراث لا يستحق بالولادة، وإنما يستحق بالموت، وإن خرج ميتا: علمنا أنه لم يكن له حق رأسا. وكما نقول في الشفيع: إنه إن بقي ملكه في الجار التي بها استحق الشفعة إلى وقت الأخذ: استحق الأخذ، لأجل العقد المتقدم، وإن زال ملكه عن الدار: سقط حقه في الأخذ، ولم يدل ذلك على بطلان حكم السبب الذي به استحق الأخذ بدءا. وكما نقول في الجارح: إن حكم جراحته مراعى، فإن سرت إلى النفس: كان قاتلا بالجراحة، وإن لم تسر: لم يثبت لجراحته حكم النفس. ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى، فكذلك إذا دخل دار الحرب فارسا، فحكمه مراعى في استحقاق السهم، فإن بقي حيا إلى وقت حيازة الغنيمة: ثبت حقه فيها، واعتبر حكمه يوم الدخول، وإن مات قبل ذلك: علمنا أنه لم يستحق شيئا، فسقط حكم الدخول. *وأما إذا باع الفرس في دار الحرب، فإن الحسن بن زياد قد مر على

القياس فيما رواه من استحقاق سهم الفارس. وأما محمد: فإنه أبطل سهمه، من قبل أنه قد انتفع به من وجه غير وجه الحرب، فمنع ذلك اعتبار حكمه في استحقاق سهمه. وليس ذلك كالموت، لأن ذلك يختلف حكمه في الأصول، ألا ترى أن البائع إذا قتل ولد المبيعة قبل القبض: سقط عن المشتري حصته من الثمن، لأنه قد استوفاه لنفسه من جهة، فلا يستوفي بدله، ولو مات الولد موتا: لم يسقط عن المشتري حصته في الثمن. مسألة: [الوقت الذي تملك فيه الغنيمة] قال أبو جعفر: (ومن مات في دار الحرب قبل خروجه إلى دار الإسلام: لم يكن له في الغنيمة شيء، وإن مات بعد خروجه إلى دار الإسلام: ضرب له فيها بسهمه). قال أحمد: هي على ثلاثة أحوال: حال الغلبة والظهور قبل الحيازة: فلا يثبت للغانمين عندنا فيها ملك ولا حق. وحال الحيازة والإحراز: يثبت لهم فيها حق، ولا يملكون. وحال القسمة: يملكون بها ما وقع في قسم كل واحد منهم. والدليل على أن الحق لا يثبت لهم في الغنيمة بنفس الغلبة، وأخذها

دون إحرازها: أن الموضع الذي وطئوه من بلاد العدو، لا يثبت لهم فيه حق وإن غلبوا عليه، ولا يصير من دار الإسلام، وأن جيشا لو لحقهم، لم يكن الأولون أولى بالموضع إذا ظهر على الدار من الآخرين، والمعنى فيه عدم حيازته وإحرازه، فكذلك الأموال، لما كان هذا المعنى موجودا فيها، وجب أن يكون حكمها حكمه. وكما أن السرية إذا غنمت لا تكون أحق بها من الجيش، دل على أن نفس الأخذ لا يوجب الحق إلا بالحيازة والإحراز، فوجب من أجل ذلك: أن جيشا لو لحقهم قبل إخراجها إلى دار الإسلام: أن يشاركوهم فيها، فإذا صح أن الجيش اللاحق قبل الإخراج يشاركونهم، ثبت أن الحق لم يثبت فيها بنفس الأخذ دون الإحراز. ألا ترى أن الجيش لو لحقهم بعد إحراز الغنيمة في دارنا: لم يشركوهم فيها، فدل على أن الحق إنما يثبت في الغنيمة بإحرازها في دارنا دون غلبتنا عليها، وأما إذا أحرزوها في دارنا، فقد ثبت الحق، فينتقل حق كل واحد منهم إلى ورثته إذا مات بالدلالة التي وصفنا. ويدل عليه أيضا: ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسهم لمن لم يشهد خيبر ممن حضر بعد الفتح إلا لأبي موسى وأصحابه". لأن الغنائم صارت محوزة بكون الموضع من دار الإسلام؛ لأن خيبر صارت دار إسلام بظهور النبي صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على ثبوت حق الغانمين فيها بالحيازة والإحراز، من أجل ذلك لم يسهم النبي صلى الله عليه وسلم لمن لحق بعد الفتح إلا لنفر مخصوصين.

وإذا ثبت الحق فيها، انتقل إلى الوارث بالموت؛ لأنه حق مستقر وإن لم يتعين، كما ينتقل حق ولي الجناية في مخاطبة مولى العبد الجاني بالدفع أو الفداء إلى ورثته، إذ كانت الحقوق الثابتة المستقرة قد تنتقل إلى الوارث بالموت. ويدل على أنهم لا يملكون بالإحراز حتى يقسموا: أن للإمام قتل الأسرى قبل القسمة، ولا يقتلهم بعد القسمة، ولو كانوا ملكوا لما جاز قتلهم، كما لا يجوز قتلهم بعد القسمة. ولا يشبه هذا الحق حق الشفعة في بطلانها بموت الشفيع، من قبل أن من شرط هذا الحق بقاء الملك فيما استحق الشفعة من أجله، بدلالة أنه لو باع الدار التي بها استحق الشفعة: بطلت شفعته، وملك الميت قد زال بالموت لا محالة إلى غيره، فبطلت شفعته، والوارث لا يستحقها لعدم ملكه وقت العقد، وحدوث ملكه بعد البيع لا يوجب شفعته في المبيع. وأما حق الغنيمة فلم يعرض فيه ما يبطله، فلذلك انتقل إلى الوارث، كحق ولي الجناية، فإذا قسمت الغنيمة ملك كل واحد ما حصل له، كما يملك ولي الجناية العبد إذا اختار المولى دفعه إليه بها، ولو أعتق واحد من الجند نصيبه من السبي قبل القسمة: لم يعتق، كما لو أعتق ولي الجناية

العبد الجاني لم يعتق وإن دفعه مولاه بالجناية. ويدل على أنهم لا يملكون بالإحراز قبل القسمة: ما روي عن ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام: "أنه نهى عن بيع المغانم قبل أن تقسم". وحديث رويفع بن ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبع نصيبا من المغنم حتى يقبضه". ولو كان مملوكا كان شريكا، فكان يجوز بيعه كالشريك. فصل: [مشاركة من لحق بالجيش في الغنيمة] قال أبو جعفر: (ومن لحق الجيش قبل إخراج الغنيمة إلى دار الإسلام شركهم في الغنيمة). وذلك لم وصفنا من أن الحق لم يثبت بنفس الأخذ. *قال أبو جعفر: (إلا أن يكون الإمام قد قسم الغنائم بينهم أو باعها، فلا يشركهم حينئذ من لحقهم بعد ذلك). قال أحمد: يكره عندنا قسمة الغنائم في دار الحرب، وقد تقدم القول

في ذبك فيما سلف، إلا أنه إذا قسمه الإمام: صحت القسمة، لأن ذلك مما اختلف فيه الفقهاء، ويسوغ فيه اجتهاد الرأي، فإذا أمضاه من يجوز حكمه: نفذ وصح، فإذا صحت القسمة: ملك كل واحد منهم ما حصل في قسمته، وما صح ملكه فيه لا يشاركه فيه اللاحقون من الجيش. والبيع كذلك أيضا؛ لأن البيع يخرجه من بقائه على حكم الغنيمة الأولى، إذا كان الثمن المأخوذ عنها غير مأخوذ على وجه الغنيمة، فثبت حينئذ حق الغانمين فيه، ولا يشاركه فيه اللاحقون، وصار ذلك كالقسمة، لأن كل من حصل له منهم بالقسمة شيء، فإنما حصل بعضه على معنى المعاوضة، كذا سبيل القسمة إذا وقعت بالقيمة. [مسألة:] قال: (وإن فتح الإمام الدار، حتى صارت دار الإسلام: لم يشركهم في الغنيمة من لحقهم بعد ذلك). وذلك لما وصنفا من أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقسم لمن لحق بعد فتح خيبر إلا لمن ذكرنا، وجائز أن يكون من قسم له ممن لم يشهد الفتح أعطاه من الخمس.

مسألة: [فيمن يعطى من الغنيمة من غير إسهام] قال أبو جعفر: (ولا يسهم لامرأة ولا عبد، ويرضخ لهما). وذلك لما روى ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام أن العبيد والنساء كانوا يحضرون مع النبي عليه الصلاة والسلام الحرب، فلا يسهم لهم، ويرضخ لهم. مسألة: [الإسهام لمن مرض من الجيش وعجز عن القتال] قال: (ومن مرض من الجيش، فعجز عن القتال، أو جرح فصار كذلك: أسهم له كما يسهم لمن سواه). وذلك لما حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا محمد بن أحمد بن النضر حدثنا معاوية بن عمرو، عن الفزاري عن ابن أبي أنيسة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "لما كان يوم الفتح، خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسند ظهره إلى جدار الكعبة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: المؤمنون يد على من سواهم، تكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويعقد عليهم أولهم، ويرد عليهم أقصاهم، ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهد، ولا يتوارث أهل ملتين".

قال: وزاد في الحديث ابن جريج عن عمرو بن شعيب: "ويرد أدناهم على أقصاهم، والمتسري على القاعد، والقوي على الضعيف". فسوى عليه الصلاة والسلام بين القوي والضعيف، فدخل فيه الضعيف من جهة المرض، ومن جهة السن وغيرها. وإنما ذكرنا الحديث على وجهه وإن كان موضع الدلالة منه على مسألتنا هذا الحرف، لما ينتظمه من أحكام السير، لكن إذا احتجنا إلى حرف منه في موضع غيره، لم نحتج إلى إعادته بطوله، وذكر إسناده. وأيضا: ما رواه جبير بن نفير الحضرمي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أبغوني الضعفاء، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم". وحديث عمرو بن شعيب الذي قدمنا يدل على المسألة من وجه آخر، وهو قول: "ويرد عليهم أقصاهم، ومتسريهم على قاعدهم"، فسوى بين من قاتل ومن لم يقاتل، بعد أن يكون حاضر الجيش، فلا فرق حينئذ بين المريض والصحيح.

قال أحمد: وقد تقدم ذكر ما يجوز فيه التفريق بين الشيئين، وبين ما لا يجوز في كتاب البيوع. مسألة: [إقامة الحدود في دار الحرب] قال أبو جعفر: (ولا تقام الحدود في دار الحرب). قال أحمد: قال محمد بن الحسن: إذا أتى ما يوجب الحد في دار الحرب في عسكر الخليفة، أو عسكر أمير قد كان يقيم الحدود في دار الإسلام، فإن هذا يقيم الحدود في عسكره، كما كان يقيمها في بلاده، وإذا كان ممن لا يقيم الحدود في دار الإسلام في عمله، مثل أمير السرية ونحوها: فإنه لا يقيم الحد. والأصل في ذلك عندهم: أن الحدود تتعلق إقامتها بالإمام، أو بمن يقوم مقامه فيها، وليس للإمام يد في دار الحرب، ولا تجري فيها أحكامه، فإذا أتى الرجل في دار الحرب ما يوجب الحد، لم يقمه عليه الإمام بعد خروجه إلى دار الإسلام، لأنه لما لم يكن له يد في حال وجوبه في موضع الفعل، لم يصح إقامته من جهته، فلم يجب الحد في تلك الحال، وإذا لم يجب في حال الفعل، لم يجب بالخروج إلى دار الإسلام، لأن الخروج إلى دار الإسلام ليس هو سببا موجبا للحد. وأيضا: لما لم يبطل النبي صلى الله عليه وسلم ما كان من عقود الربا بعد الفتح، مما قد حصل فيها القبض، دل ذلك على أن ما وقع في دار

الحرب مما كان من حقوق الله تعالى، لم يؤاخذ به بعد الإسلام، فدل على أن من أتى ما يوجب الحد في دار الحرب، لا يقام عليه بعد خروجه إلى دار الإسلام. وإذا ثبت ذلك، قلنا فيمن أتى ما يوجب عليه الحد في عسكر المسلمين، فإن كان هناك من تصح منه إقامة الحدود التي أقام الحد عليه؛ لأن يده ثابتة عليه في الموضع، ويمكنه إقامة الحد عليه، فلزم الحد. وأما إذا لم يكن أمير الجيش ممن يقيم الحد في دار الإسلام، فلا يد له في دار الحرب، وصار بمنزلة من فعل ذلك في دار الحرب بحيث لا عسكر للإمام فيه، ثم خرج إلى دار الإسلام، فلا يقام عليه الحد. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة الذي قدمناه، يدل على ذلك أيضا، لأنه قال: "ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن فعلوا ذلك، فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما عليهم". فلم يجر عليهم أحكام المسلمين إلا بالهجرة من دار الحرب إلينا، فدل على أن أحكامنا غير جارية على أهل دار الحرب ومن كان فيها. مسألة: [حكم نكاح من سبيت أولا ثم سبي زوجها] قال أبو جعفر: (ومن سبي من النساء ولها زوج في دار الحرب، ثم سبي زوجها بعد ذلك: كانا على نكاحهما، ما لم يكن الإمام قسم الغنائم في دار الحرب، وما لم يكن أخرجها إلى دار الإسلام). قال أحمد: وذلك لما بينا من أن الغنيمة لا تملك ولا يثبت فيها حق

الغانمين إلا بالحيازة في دار الإسلام، أو بالقسمة أو البيع؛ فلما كانت هذه المسبية باقية على حكم أهل الحرب، لم تبن من زوجها، فإذا سبي زوجها بعد: كانا على النكاح كأنهما سبيا معا، وقد بينا هذه المسألة فيما تقدم من أبواب النكاح. وأما إذا قسم الغنيمة أو باعها: فقد بانت من زوجها، من قبل أن ذلك بمنزلة الحيازة والإحراز في دار الإسلام، فتنقطع به العصمة بينها وبين زوجها. فإن قيل: إنما كانت علتك في وقوع الفرقة بسبي أحد الزوجين اختلاف الدارين، ومنعت أن يكون حدوث الملك موجبا للبينونة، على حسب ما يقوله مخالفوك في إيقاع البينونة بين الزوجين لورود الملك عليها بالسبي، فقد أوقعت الفرقة في دار الحرب، لأجل حدوث الملك بالقسمة والبيع من غير اختلاف الدارين، فدل على أن حدوث الملك بالسبي على في إيجاب الفرقة، لبطلان كون اختلاف الدارين علة في قطع العصمة وإيقاع البينونة. قيل له: علتنا في قطع العصمة باختلاف الدارين صحيحة، لم يرد عليها ما ينقضها، وقولك إنا أوقعنا الفرقة بالقسمة والبيع لأجل حدوث الملك عليها بالسبي: فليس كذلك، من قبل أنا أوجبنا الفرقة في هذا الوجه من قبل أن القسمة والبيع يصيران في معنى حيازتها وإحرازها في دار الإسلام من جهة الحكم. ألا ترى أنها تمنع ثبوت حق جيش آخر فيها لو لحقهم، وأنهم لو كانوا رجالا لم يجز له بعد ذلك أن يقتلهم، فلما كان ذلك في حكم الحيازة في دار الإسلام، صار الزوجان في هذا الوجه، كأنهما قد اختلفت

بهما الداران، فانقطعت العصمة بينهما، وبانت. مسألة: [إذا هرب عبد المسلم إلى دار الحرب ثم غنمه المسلمون] قال أبو جعفر: (ومن لحق بدار الحرب من عبيد المسلمين آبقا إليهم، ثم غنمه المسلمون، فاقتسموه أو لم يقتسموه: فإنه يرد إلى مولاه في قول أبي حنيفة بغير شيء، وقال أبو يوسف ومحمد: يأخذه مولاه قبل القسمة بغير شيء، وبعدها بالقيمة). قال أحمد: من أصل أصحابنا: أن العدو إذا غلبوا على أموالنا التي يصح تمليكها فيما بيننا ملكوها، ثم قال أبو حنيفة في العبد إذا أبق إليهم، فأسروه: لم يملكوه، فمتى وجده مولاه أخذه بغير شيء. ووجه ذلك: أن حصول العبد في دار الحرب، يوجب زوال يد المولى عنه؛ لأن من كان في دار الإسلام لا يد له على ما في دار الحرب، لأجل اختلاف الدارين، فلما زالت عنه يد المولى: صار في يد نفسه، لأنه ممن يصح أن يثبت له يد في نفسه، فصار بمنزلة المكاتب، لما كان في يد نفسه، منع ذلك من وقوع يد أهل الحرب عليه، وملكهم إياه بالغلبة،

ألا ترى أنه لا يصير مضمونا على الغاصب بالغصب. ومما يدل على أن حصوله في دار الحرب يمنع بقاء يد مولاه عليه: أن أهل الحرب لا يملكون علينا ما يغلبون عليه من أموالنا إلا بحيازتها في دار الحرب، وكذلك نحن لا نملك عليهم أموالهم إلا بحيازتها في دارنا، فلو كانت أيديهم وأيدينا باقية بعد حصولها في الدار الأخرى، لما وقع الملك بالحيازة فيها، كما لا يقع قبل الحيازة، لبقاء حكم يد المالك الأول فيها. ويدل عليه أيضا: أن عبيدهم لو خرجوا إلينا مسلمين: عتقوا، ولو كان حكم أيديهم باقية لما عتقوا، كما لا يعتقون بنفس الإسلام، لأجل بقاء أيديهم عليهم. وليس العبد عنده كالبعير إذا ند إليهم وأخذوه، فيملكونه، من قبل أن البعير لا يصح أن يثبت له يد في نفسها، فلما زالت يد المالك عنه، ولم تحصل عليه يد غير أيدي أهل الحرب، ملكوه. *ولأبي يوسف ومحمد: أن العبد ممن يصح تمليكه، وانتقال الملك فيه بعد حصوله في دار الحرب، فملكه أهل الحرب بالغلبة، كسائر الأموال إذا غلبوا عليها، ألا ترى أن المولى لو مات، انتقل ملكه إلى الوارث عن أبي حنيفة وإن كان في دار الحرب، وليس كالمكاتب؛ لأنه لا يصح نقل الملك فيه بحال مع بقاء الكتابة.

مسألة: [أموال المسلمين التي أخذها العدو، ثم غنمها المسلمون] قال: (وما أوجف العدو عليه من أموال المسلمين، فأحرزوه في دارهم، ثم غنمه المسلمون، فإن وجده صاحبه قبل القسمة: أخذه بغير شيء، وإن وجده بعد القسم: أخذه بالقيمة إن شاء). قال أحمد: دليلنا على صحة وقوع ملك أهل الحرب على أموالنا بالغلبة من جهة الكتاب، والسنة، واتفاق السلف، والنظر. فأما دليل الكتاب: فقول الله تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا}. فأخبر أنهم كانوا ذوي أموال، وأطلق اسم الفقر عليهم، لغلبة أهل الحرب عليها، فثبت ذلك أن أملاكهم زالت عنهم بغلبة عدوهم عليها، لولا ذلك لما صح إطلاق اسم الفقر عليهم؛ لأن هذا الاسم على الحقيقة إنما يتناول من لا يملك شيئا، أو يملك شيئا يسيرا. فإن قيل: إنما أطلق عليهم اسم الفقر لانقطاعهم عن أموالهم. قيل له: انقطاع الإنسان عن ماله، لا يستحق به إطلاق اسم الفقر عليه حقيقة وإن جاز له أخذ الزكاة، وإنما يسمى في هذه الحال ابن سبيل.

والدليل عليه: ما حدثنا عن أبي داود السجستاني قال: حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا الفريابي حدثنا سفيان عن عمران البارقي عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني، إلا في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو جار فقير يتصدق عليه، فيهدي لك أو يدعوك". قال أبو داود: رواه فراس وابن أبي ليلى عن عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. فسمى النبي عليه الصلاة والسلام ابن السبيل المنقطع عن ماله: غنيا، فانتفى بذلك عنه اسم الفقر على الإطلاق، فثبت أن إطلاق اسم الفقر على المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم إنما هو من أجل زوال أملاكهم، لغلبة العدو عليها. *وأما جهة السنة: فما حدثنا أبو بكر محمد بن عمر المعروف بابن الجعابي قال: حدثنا محمد بن الحارث الواسطي حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان حدثنا عبد الرحيم بن سليمان الثوري عن سماك بن حرب عن تميم بن طرفة قال: "أصاب العدو ناقة رجل من المسلمين، فاشتراها رجل من المسلمين، فعرفها صاحبها، فأتى النبي عليه الصلاة والسلام، فأمره أن يأخذها بالثمن الذي اشتراها به من العدو، وإلا خلى بينه وبينها".

وحدثنا أبو بكر قال: حدثنا يحيى بن محمد حدثنا أحمد بن عبد الله بن زياد الدباج حدثنا سهل بن عثمان حدثنا عبد الرحيم عن شفيق عن سماك بن حرب عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة عن النبي عليه الصلاة والسلام نحوه، رواه سهل بن عثمان موصولا. ورواه أيضا ياسين الزيات موصولا حدثنا أبو بكر حدثنا محمد بن الحارث الواسطي حدثنا عبد الله بن عمر. حدثنا عبد الرحيم عن ياسين الزيات، عن سماك بن حرب عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة عن النبي عليه الصلاة والسلام مثله. وحدثنا أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني حدثنا عبد الرحمن بن سلم الرازي حدثنا سهل بن عثمان حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن ياسين الزيات عن سماك بن حرب عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة عن النبي عليه السلام مثله. وروي هذا الحديث عن جابر بن سمرة بإسناد آخر: حدثنا أبو القاسم الطبراني حدثنا عبد الرحمن بن سلم الرازي حدثنا سهل بن عثمان حدثنا إبراهيم بن محمد الهمداني عن زياد بن علاقة عن جابر بن سمرة عن النبي عليه الصلاة والسلام مثله. وحدثنا أبو بكر الجعابي حدثنا يحيى بن محمد حدثنا أحمد بن

عبد الله بن زياد الدباج حدثنا سهل بن عثمان حدثنا إبراهيم بن محمد بن مالك الأنباري عن زياد بن علاقة عن جابر بن سمرة عن النبي عليه الصلاة والسلام مثله. وروى أبو يوسف وغيره عن الحسن بن عمارة عن عبد الملك بن ميسرة عن طاووس عن ابن عباس "أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في بعير أحرزه العدو، ثم غلب عليه المسلمون: إن وجدته قبل القسمة: فأنت أحق به بغير شيء، وإن وجدته بعد القسمة: فأنت أحق بالثمن إن شئت". وحدثنا صالح بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا علي بن المديني قال: سألت يحيى القطان عن حديث الحسن بن عمارة هذا؟ فقال يحيى: حدثنا مسعر عن عبد الملك بن ميسرة بهذا الحديث، فقال أبو بكر بن الجعابي: رواه أيضا أحمد بن حنبل عن إسحاق الأزرق عن مسعر بإسناده ومتنه. *وأيضا: روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من أسلم على مال: فهو له".

وهذا عام فيمن أسلم على مال أخذه من مسلم، أو كان له. *وأيضا: روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام لما دخل مكة يوم الفتح، قيل له: ألا تنزل دارك؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من ربع؟ ". وروي "أن عقيلا باع دار النبي صلى الله عليه وسلم ودور أهل بيته لما هاجروا"، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه لم يبق له ملك فيها، لأجل غلبة عقيل عليها قبل الفتح. فإن قيل: يحتمل أن يكون خربها، فلم يمكن نزولها، فلذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام ما قال. قيل له: ما ذكر أحد أنه خربها، وقد ذكر أنه باعها، فهذا تأويل خطأ. وأيضا: لو كان خربها، كيف كان يقال له: "ألا تنزل دارك؟ ". قال أحمد: فهذه أحاديث قد رويت في ذلك من جهات مختلفة، كلها توجب صحة ما ذكرنا. *وأما ما ذكرنا من اتفاق السلف، فإنا لا نعلم أحدا من السلف روي عنه خلاف قولنا، في أنهم يملكون علينا. وقد روي عن أئمة السلف فيه مثل قولنا، منهم عمر بن الخطاب،

وعلي بن أبي طالب، وأبو عبيدة بن الجراح، وزيد بن ثابت، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن المسيب، والحسن، والزهري رضي الله عنهم، كرهنا ذكر أسانيدها خوف الإطالة، ولأنها أخبار مشهورة مستغنى عن ذكر أسانيدها لاستفاضتها، كلها يوجب وقوع ملك أهل الحرب فيما يغلبون عليه من أموالنا. *وإنما الخلاف بين السلف من وجه آخر، وهو أن بعضهم يقول: لا يرد منه شيء إلى صاحبه الأول، وهو فيء للمسلمين إذا أخذناه بعد ذلك من أهل الحرب، وهو مذهب الحسن، والزهري. ويروى عن زيد بن ثابت أنه قال: يأخذه صاحبه قبل القسمة، ولا سبيل له عليه بعد القسمة. ومعنى ذلك عندنا: أنه لا سبيل له عليه في أن يأخذه بغير شيء، ولا دلالة فيه على أنه لا يأخذه بالقيمة. وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يرد على صاحبه، قسم أو لم يقسم إذا قامت البينة. وهو موافق لقولنا؛ لأنه لم يقل: يرد عليه بغير شيء، ونحن نقول: يرد عليه في الوجهين جميعا: قسم أو لم يقسم، إلا أنه بعد القسمة يأخذ بالقيمة، وأقل أحوال حديث أبي بكر هذا، إذ احتمل ما وصفنا، واحتمل غيره، ولا دلالة لنا في ظاهر لفظه على أحد الوجهين دون الآخر أن يسقط الاحتجاج به في إثبات الخلاف بين السلف في وقوع ملك أهل

الحرب على ما غلبوا عليه من أموالنا. *فالذي حصل من الخلاف بين السلف على وجوه ثلاثة بعد اتفاق الجميع منهم على صحة وقوع ملك أهل الحرب فيما غلبوا عليه: أحدها: ما روي عن عمر وعلي وأبي عبيدة: في أن صاحبه يأخذه قبل القسمة بغير شيء، وبعد القسمة بالقيمة. والثاني: قول زيد: إنه يأخذه قبل القسمة بغير شيء، ولا سبيل له عليه بعد القسمة. والثالث: قول الحسن والزهري: إنه لا سبيل لصاحبه عليه، لا قبل القسمة ولا بعدها. فإذا حصلت أقاويل السلف على هذه الوجوه الثلاثة، وكانت مع اختلافها موجبة لوقوع ملك أهل الحرب فيما غلبوا عليه من أموالنا، ثبت حجته في إيجاب الملك، ولم يسغ خلافه؛ لأن القول بنفي الملك رأسا خارج عن أقاويلهم، والخروج عن أقاويلهم كالمخالفة لإجماعهم، لأنهم لما اختلفوا في المسألة على هذه الوجوه الثلاثة، فقد اتفقوا على أن ما خرج عنها هو خطأ، إذ لا جائز أن يخرج الحق عن أقاويلهم جميعا، لأنه لو جاز ذلك، لجاز أن يجمعوا على خطأ، وهذا فاسد قد علم بطلانه بقيام دلالة صحة إجماع السلف، ومثل هذه الأقاويل يثبت بها إجماع عندنا. *وأما وجهه من طريق النظر: فهو أن أهل الحرب إذا غلب بعضهم على مال بعض: ملكوه، والمعنى فيه: حصول الغلبة فيما يجوز أن يملك مع اختلاف الدارين، وذلك موجود في أموالنا إذا أخذوها، فوجب على ذلك أن يملكوا علينا.

فإن قيل: فهم يملك بعضهم على بعض رقابهم، ولا يملكون رقابنا إذا أسرونا، فلا يجوز أن يكون ذلك أصلا في وقوع ملكهم على أموالنا، إذا غلبوا عليها. قيل له: قلنا إنهم يملكون علينا ما يجوز أن نملكه عليهم، ويملكه بعضهم على بعض، ورقابنا مما لا نملكه نحن فيما بيننا، ونملك رقابهم، فملكوا أولئك مثلها، وأما رقابنا، فإنه لا يصح أن يملكها بعضنا على بعض، فلا يملكوها علينا. والأموال لما جاز أن يملكها بعضنا على بعض، جاز أن يملكوها علينا، قياسا على ملك بعضهم على بعض، ويجوز أن نقيس المسألة بهذه العلة بعينها على ملكنا بأموالهم بالغلبة. فإن قيل: إنما جاز أن نملكها نحن عليهم، وأن يملك بعضهم على بعض؛ لأن أموالهم مباحة، وأموالنا لما كانت محظورة، لم يجز أن يملكوها علينا. قيل له: ليست هذه معارضة على اعتلالنا، لأنك نصبت في أهل الحرب علة لوقوع الملك لا تعارض اعتلالنا؛ لأنهما جميعا علة لوقوع الملك، فلا تتنافيان، إلا أن إحداهما أعم من الأخرى، وذلك لا يوجب تضادا في الاعتلال ولا تعارضا،. وهو اعتلال فاسد أيضا، من جهة أنه مقصور الحكم على موضع الاتفاق. فإن قال قائل: أقيس غلبتهم على أموالنا على اتفاقنا في الغاصب والباغي إذا غلبا على مالنا، أن ذلك لما كان محظورا لم يوجب الملك. قيل له: هذا فاسد؛ لأن أموال أهل الحرب ورقابهم محظورة من

بعضهم على بعض قبل الإسلام، ثم قد كانت الغلبة موجبة للملك في الرقاب والأموال. والدليل عليه: أن زيد بن حارثة قد كان ممن سبي في الجاهلية واسترق، فاشتراه حكيم بن حزام، وأهداه إلى خديجة بنت خويلد، فوهبته لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فأعتقته، فلو لم يكن قد ثبت ملكه عليه، لما صح عتقه، فدل ذلك على صحة ملك أهل الحرب بعضهم على بعض قبل الإسلام أموالهم ورقابهم مع كونها محظورة عليهم، لأن إباحة الغنائم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أحلت الغنائم لقوم سود الرؤوس غيركم". وقال: "أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: منها: أنها أحلت لي الغنائم". وأيضا: فإن أموال أهل الحرب غير مباحة لبعضهم من بعض، من قبل أن استباحة الغنائم متعلقة بالدعاء إلى الدين، ومن أخذها على غير هذا الوجه: فهو عاص لا يجوز له أخذها، ألا ترى أن قتال بعضهم لبعض معصية؛ لأنه ليس هو للدعاء إلى دين الله تعالى. وأيضا: الداخل إلى دار الحرب بأمان، محظور عليه أخذ أموالهم،

ولو أخذها وأخرجها إلى دار الإسلام: ملكها مع كونها محظورة عليه. وقد كان المغيرة بن شعبة صحب رفقة قبل أن يسلم، فقتلهم، وأخذ أموالهم، وأسلم، فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الإسلام: فقد قبلنا، وأما المال: فإنه مال غدر، لا حاجة لنا فيه". فأخبره أنه مال غدر، ولم يأمره برده إلى ورثة الملاك. ولو أن رجلا قصد إلى أن ينحل بعض ولده دون الباقين، كان ذلك محظورا عليه، ولو فعل صح التمليك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي النعمان بن بشير حين أراد أن ينحله دون غيره من بنيه: هل نحلت سائر ولدك مثل هذا؟ فقال: أشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور". فأخبره أنه جور، ولم يبطله، لأنه قال: "أشهد عليه غيري"، ولو كان باطلا، ما أمره بأن يشهد عليه غيره، فسقط بذلك اعتبار جهة الحظر. فإن قيل: لو ملكوه علينا، لم يكن لصاحبه أخذه قبل القسمة بغير شيء.

قيل له: ثبوت حق الأخذ فيه بغير بدل، لا ينفي صحة ملكهم، ألا ترى أن الواهب يرجع في الهبة لغير ذي الرحم المحرم عندنا، ويرجع عند مخالفنا الأب فيما وهب لابنه، ولا يدل ذلك على نفي ملكه. وللإمام أن يأخذ صدقة المواشي من مال رب المال إذا امتنع عن دفعها، ولا يدل ذلك على نفي ملكه بدءا، وإنما اختلف حكمه قبل القسمة وبعدها، كما اختلف في باب جواز قتل الأسرى قبل القسمة، وامتناع ذلك فيهم بعدها، ولا يجوز لواحد من الغانمين بيع نصيبه قبل القسمة، ويجوز بعدها. *فإن احتجوا بحديث عمران بن حصين "في العضباء، حين أخذها المشركون في سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعها امرأة من المسلمين، فركبت العضباء، وتوجهت قبل المدينة، ونذرت لئن نجاها الله عليها لتنحرنها، فلما قدمت، عرفت الناقة، فأتوا بها رسول الله، فأخبرته المرأة بنذرها فقال: بئس ما جزيتها، لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم". قالوا: فلو كان أهل الحرب يملكون علينا بالغلبة، لوجب أن يصح

نذرها، لأنها ملكتها عليهم. قيل له: لا تخلو المرأة في حال ركوبها العضباء من أن تكون في دار الحرب، أو في دار الإسلام، فإن كانت في دار الحرب: فقد نذرت قبل الإحراز، والغنيمة إنما تملك عندنا بالإحراز. وإن كانت في دار الإسلام: فأهل الحرب لم يملكوها؛ لأنهم لا يملكون علينا إلا بإحراز ما يأخذونه في دارهم، فلا دلالة في هذا الحديث لمخالفنا. بل فيه الدلالة من وجه على صحة قولنا، وذلك أنها لو لم تكن عندها أنهم قد ملكوها، وأنها تملكها علليهم بأخذها، ما كانت نذرت نحرها. *وأما قول من قال: إنه لا سبيل لصاحبه عليه قبل القسمة ولا بعدها: فإنه يبطله ما روى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر"أن غلاما له أبق إلى العدو، فظهر عليه المسلمون، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمر، ولم يقسمه". وذهب فرس له فأخذها العدو، فظهر عليه المسلمون، فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد اختلف في لفظ هذا الحديث، إلا أنه قد روي على الوجه الذي ذكرنا.

مسألة: [شراء المسلم في دار الحرب عبدا مأسورا وتصرفه فيه] قال أبو جعفر: (ولو دخل رجل من المسلمين دار الحرب، فاشترى منهم العبد المأسور، أو وهبوه له، فأعتقه المشتري، والموهوب له: فعتقه جائز، وما لم يعتقه: فلمولاه الأول أخذه بالثمن في الشراء، وفي الهبة بقيمته). قال أبو بكر: يأخذ في الشراء بالثمن؛ لأنه حصل على المشتري، كما أوجب النبي عليه الصلاة والسلام له أخذه بعد القسمة بالقيمة، بحصوله له للمقسوم له بالقيمة. وأما في الهبة، فإنه يأخذه بالقيمة، إذ ليس هناك بدل غيرها، ولا يجوز له أخذه بغير شيء، وعتق المشتري جائز فيه، لأنه مالك. وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عتق إلا فيما يملك ابن آدم". فأنفذ عتق المالك، وهذا مالك، فوجب نفذ عتقه. *قال: (وكذلك لو أسلم أهل الحرب عليه: كان لهم، ولم يكن لمولاه عليه سبيل). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أسلم

على مال: فهو له". مسألة: [هبة المسلم للعبد المأسور الذي حصل في ملكه] قال أبو جعفر: (ولو لم يعتقه المشتري منهم، أو الموهوب له، ولكنه وهبه لآخر، أو باعه: فإن محمدا قال ولم يحك خلافا: إنه ليس للمولى نقض ما صنع، ولكنه في الهبة يأخذه بقيمته من الموهوب له، وفي البيع بثمنه الذي حصل على المشتري الثاني). قال أحمد: ليس للمولى الأول نقض تصرف المشتري، كما لم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم للمولى الأول نقض القسمة وأخذه من يدي المقسوم له بغير شيء، لأنه لو كان له نقض القسمة، عاد إلى حاله قبل القسمة، فكان يأخذه بغير شيء، فثبت بذلك جواز تصرف المشتري. *قال أبو جعفر: (وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف: أن له نقض تصرف المشتري، والموهوب له، وإن شاء أخذه بالعقد الثاني الذي عقده المشتري). قال أحمد: هذا الذي حكاه عن أبي يوسف غير معروف، ويجوز أن يكون من رواية وقعت إليه، وقد روى هذا القول ابن سماعة عن محمد وحده في نوادره، وقال: جعله محمد بمنزلة الشفيع، له نقض بيع المشتري، وإن شاء أخذه بالبيع الثاني كذلك هذا. قال أحمد: لو كان كذلك، لكان له نقض القسمة أيضا، وأخذه بغير

شيء، كما له نقض بيع المشتري. مسألة: [سبي أهل الحرب مدبرا ونحوه، ثم ظفر المسلمين به] قال أبو جعفر: (وإنما سبى أهل الحرب مدبرا أو أم ولد، فأحرزوه في دارهم، ثم ظفر به المسلمون: رد على مولاه، قسم أو لم يقسم). قال أحمد: إنما يملك أهل الحرب علينا ما يجوز أن يملكه بعضهم على بعض، ألا ترى أنهم لا يملكون علينا رقابنا بالأسر، فكذلك كل من لا يجوز نقل الملك فيه فيما بيننا لم يملكوه علينا، لأن الغلبة جهة يملك بها، كالعقود والموت هي جهات الملك، فما لا يجوز أن يملك بهذه الأسباب، لم يصح ملكه بالغلبة. مسألة: [مفاداة أسرى المسلمين] قال أبو جعفر: (واختلف عن أبي حنيفة في الفداء بمن نسبيه من أهل الحرب، بمن في أيدي الحربيين من المسلمين، فروي عنه أنه لا يفادى بهم، ولا يردون إلى حربيتهم؛ لأن فيه قوة لأهل الحرب، قال: ولكن يفادى بمن في أيدي أهل الحرب من المسلمين بمال غير السلاح. وقد روي عنه أنه قال: لا بأس بأن يفادى بالمشركين أسرى المسلمين، وهو قول أبي يوسف ومحمد). قال أحمد: المشهور من قول أبي حنيفة أن أسرى أهل الحرب لا يفادون بشيء، ولا يردون إلى دار الحرب، فإما أم يقتلوا، أو يسترقوا إن

كانوا يقرون على دينهم، وإن كانوا ممن لا يقر على دينه: فليس يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل. والحجة لهذا القول: قول الله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر} إلى آخر الآية. فحكم فيهم بأحد حكمين: إما القتل أو الجزية، وفي إثبات ردهم إلى دار الحرب، إسقاط حكم الآية. وقال تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}. يعني حتى لا يكون كفر، ولا جائز أن يردهم إلى بلادهم لتكون فتنة، وهو ضد ما في الآيةـ، ولا يجوز أن نردهم لنستنقذ المسلمين؛ لأن علينا الاجتهاد في قتالهم لاستنقاذ من هناك من المسلمين. والأسرى من المسلمين هناك في منزلة شريفة، بصبرهم على احتمال الأذى في حياطة أديانهم، مشاقين لأعداء الله الكفرة، مراغمين لهم، مستهزئين بما هم فيه جنب ما يرجون من ثواب الله تعالى، فذلك ضرب من الجهاد، ولما فيه من غيظ الكفار، فلا يجوز لنا رد أسارى الكفار إلى دارهم، لأجل حال أسرانا هناك؛ لأن في ردهم إليها معاونة على سائر

أهل الإسلام، وتقوية للكفر وأهله. ألا ترى أنهم لو قالوا لنا: اتركوا صلاة واحدة من فروضكم لنطلق لكم أسراكم، لم يسعنا إجابتهم إلى ذلك وإن كان فيه حقن دماء الأسرى، ووصولهم إلى دار الإسلام، فكذلك لا يجوز ترك قتل المشركين، وهو فرض علينا لأجل الأسرى. ويدل عليه قول الله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}. فلم يبح تخليتهم إلا بشريطة الإيمان بعد أسرهم، فلا تجوز مفاداتهم؛ لأنها تنفي ما في الآية. فإن قيل: قال الله تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء}.

فأباح الله تعالى الفداء بعد الأسر. وفدى النبي صلى الله عليه وسلم أسرى قريش يوم بدر. قيل له: قد روي عن ابن عباس والبراء بن عازب أن سورة براءة من آخر ما نزل من السور، وفيها الأمر بالقتل على ما بينا، فهي ناسخة لما تقدم من جواز الفداء. *وأما أبو يوسف ومحمد: فإنهما أجازا ذلك، وجمعا بين آية الفداء وآية القتل، فكأنه قال: إن احتجتم إلى الفداء، فافدوا، وإن شئتم فاقتلوا. وكذلك جمعوا بين آية القتل، وبين فداء النبي صلى الله عليه وسلم أهل بدر حين كان محتاجا إلى المال. وقد روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام بعث بنصف سبي بني قريظة، فبيع بالشام، واشتري له به السلاح والكراع، وكانت الشام يومئذ دار حرب". *ويفدى المسلمون الذين في أيدي الحرب بمال غير السلاح؛ لأن في السلاح معونة لهم على حربنا، ومن أجل ذلك يمنع من يدخل إلى

دار الحرب من السلاح للبيع. مسألة: [إذا أسلمت امرأة الحربي في دار الحرب] قال أبو جعفر: (ومن أسلمت امرأته في دار الحرب: كانت امرأته على حالها حتى تحيض ثلاث مرات، فإن حاضتها: بانت، ووجبت عليها العدة بعد ذلك). وذلك لأنها لا تقر تحته أبدا. فلو كان في دار الإسلام ذميين: عرض عليه الإسلام، لامتناع إقرارها وهي مسلمة تحت كافر، فلما تعذر ذلك، لكونه في دار الحرب، ولم يكن بد من التفريق، ولا بد أن يكون السبب الموجب للفرقة معنى حادثا، وليس الكفر حادثا فتقع به الفرقة، وإسلام المرأة وإن كان حادثا، فليس هو سبب التحريم: احتيج إلى معنى حادث يتعلق به وقوع الفرقة، فجعلوه مضي ثلاث حيض، اعتبارا بالمطلقة طلاقا رجعيا، لما تعلق به حكم الفرقة، كان الموجب لها مضي ثلاث حيض. فإن قال: هلا اعتبرتها بمدة الإيلاء أربعة أشهر. قيل له: هي بما يتعلق من المدة بالطلاق الرجعي أشبه؛ لأن هذه المدة لم يوجبها الزوج، كما لم يوجب مدة الطلاق الرجعي، وهي العدة، وأما مدة الإيلاء فمتعلقة بإيجابه، ألا ترى انه لو سمى مدة أقل منها، كان كما سمى، ولم يكن لها حكم في إيقاع البينونة.

وأيضا فمدة الإيلاء مذكورة في اللفظ، ومدة العدة من الطلاق غير مذكورة، وكذلك المدة في مسألتنا، فكانت هذه المدة بمدة العدة في الطلاق الرجعي أشبه. *فإذا وقعت الفرقة بمضي ثلاث حيض: كان عليها العدة من وقت وقوع الفرقة ثلاث حيض أخر. مسألة: [متى تبين المسلمة المهاجرة من دار الحرب] قال: (ومن خرج إلينا من نساء أهل الحرب مسلمة أو ذمية، فصارت في دار الإسلام: بانت من زوجها، ولا عدة عليها إذا لم تكن حاملا. واختلف عنه فيها إذا كانت حاملا: فروى محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أن عليها العدة، وهي وضع حملها، وأنها لا تتزوج قبل ذلك. وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه لا عدة عليها أيضا، وأنه لا بأس بأن تتزوج، ولا يدخل بها زوجها حتى تضع حملها. وقال أبو يوسف ومحمد في رأيهما: إن عليها العدة حاملا كانت أو غير حامل). قال أحمد: قوله: إن عليها العدة إذا كانت حاملا في قول أبي حنيفة: ليس هو عبارة صحيحة؛ لأن من أصل أبي حنيفة: أنه لا عدة عليها حاملا كانت أو غير حامل. والذي ذكر أنه ليس لها أن تتزوج ما دامت حاملا: فهو صحيح في رواية الأصول، ومع ذلك فإن هذا الحمل ليس بعدة عنده، وقد بينه محمد بن الحسن في السير الكبير، فقال:

ليس لها أن تتزوج حتى تضع حملها، ولكن لزوجها عند أبي حنيفة أن يتزوج أختها قبل أن تضع، يعني إذا أسلم الزوج بعد ذلك، وخرج إلينا، ولكن كره له أن يقربها حتى تضع الأولى حملها. والأصل في ذلك: قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن}. ثم قال: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر}. فانتظمت هذه الآية الدلالة على وقوع الفرقة بين المهاجرة وبين زوجها من أربعة أوجه، وعلى أن لا عدة عليها من وجهين: *فأما دلالتها على وقوع الفرقة: [الأول]: فمن جهة قوله تعالى: {فلا ترجعوهن إلى الكفار}، ولو كان النكاح باقيا، لردت إليه؛ لأن الزوج أولى بإمساك امرأته حيث كان.

والثاني: {لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن}. والثالث: قوله: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن}، ولو كان نكاح الأولى باقيا، ما جاز لنا نكاحها. والرابع: قوله: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}، فأوجب قطع العصمة بينها وبين زوجها بخروجها إلينا، والعصمة: المنع، فدلت على أنها ليس عليها أن تمتنع من الأزواج لأجل الزوج الذي كان لها في دار الحرب. فإن قيل: {الكوافر}: اسم للنساء دون الرجال، فكأنه أمر للرجال الذين أسلموا وهاجروا أن لا يتمسكوا بعصمة الزوجة الكافرة. قيل له: ليس الاسم مخصوصا بالنساء دون الرجال، لما نبينه إن شاء الله. وعلى أنه لو كان كذلك، لكانت دلالتها قائمة على ما ذكرنا، وذلك لأنه لما أمر الرجال أن لا يمسكوا بعصم الزوجات الكافرات في دار الحرب، وكان المعنى فيه اختلاف الدارين بهما بعد الإسلام، وذلك موجود في المهاجرة إذا خلفت زوجها كافرا في دار الحرب، فوجب أن تنقطع العصمة فيما بينهما.

وعلى أن ظاهر الخطاب يقتضي أن يكون المراد الأزواج الحربيين، لأن أول الخطاب ورد في شأن الزوجة إذا هاجرت إلينا مسلمة، فالظاهر أن قوله: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}: راجع إلى ما تقدم ذكره في الخطاب. وأما قوله: {الكوافر}: جمع يختص بالنساء دون الرجال، فإنه غلط من قائله؛ لأن الفواعل اسم يشترك فيه الرجال والنساء في كثير من الأشياء، يقولون: "فوارس": للرجال كما قال عنترة: إذ لا أبادر في المضيق فوارسي ... ولا أوكل بالرعيل الأول وقال الفرزدق: وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصار فقال: "نواكس"، وأراد به الرجال، وتلك صفة يشترك فيها الرجال والنساء. وإذا كان كذلك، جاز أن يقال: إن "الكوافر" اسم للفريقين من المؤنث والمذكر، فوجب إجراء الحكم عليهما بعموم الاسم. *وأما ما روي عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول، وقد كانت زينب هاجرت، ثم جاء أبو العاص بعد ذلك بزمان فأسلم":

فإن عمرو بن شعيب روى عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها عليه بنكاح جديد"، وكان هذا عندنا أولى؛ لأنه أخبر عن عقد حادث عرفه، وابن عباس إنما أخبر عن العقد الأول، ولم يعلم حدوث عقد ثان، فكان جائزا له الإخبار بأنه ردها بالنكاح الأول، إذا لم يعلم حدوث عقد. وأيضا: من أخبر أنه ردها بنكاح ثان، علم نزول قوله تعالى: {لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن}: قبل إسلام زوجها، ومن قال ردها بالنكاح الأول، لم يعلم فساد النكاح بالآية، وتقدمها عليه، فأخبر عن الحال الأولى. ومن جهة النظر: اتفاق الجميع على وقوع الفرقة بينها وبين زوجها إذا سيبت كافرة، والمعنى فيه حصول اختلاف الدارين، إذ لا يخلو من أن

يكون المعنى فيه ما ذكرنا، أو حدوث الملك عليها، وحدوث الملك لا يقدح في النكاح، بدلالة اتفاقنا جميعا على أن بيع الأمة وهبتها، لا يفسخ نكاح زوجها مع حدوث الملك عليها، فلما بطل المعنى الثاني، صح الأول. فصل: [عدم وجوب العدة على المهاجرة] وأما دلالة الآية على نفي وجوب العدة على المهاجرة من الوجهين اللذين ذكرنا: فأحدهما: قوله تعال: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن}، فأباح نكاحها من غير شرط العدة. والثاني: قوله {ولا تمسكوا بعصم الكوافر}، والعصمة المنع، قال الله تعالى {لا عاصم اليوم من أمر الله}: يعني لا مانع، وقد دللنا أن الكوافر اسم يتناول الرجال، فأوجب علينا بظاهر الآية أن لا يمتنع من نكاحها لأجل زوجها الذي كان لها في دار الحرب. ومن جهة النظر: اتفاق جميع أصحابنا أن المسبية لا عدة عليها، والمعنى فيه: حصول الفرقة باختلاف الدارين، والاستبراء الذي يجب في

المسبية ليس بعدة؛ لأن العدة يتعلق حكمها بالفراش، والاستبراء لا يتعلق حكمه بالفراش، لأنها لو سبيت وهي غير ذات زوج في دار الحرب، لوجب الاستبراء، والاستبراء يجب على المشتري في الجارية المشتراة وإن اشتريت من امرأة. ولو أن رجلا باع جارية: لم يجب عليها عدة بالبيع، فثبت أن الاستبراء ليس بعدة. *وأما قول أبي حنيفة في رواية الأصول: أن المهاجرة لا تتزوج إذا كانت حاملا: فهو أصح قوليه، وذلك لأن هناك نسبا ثابتا من الغير، وذلك من أحكام النكاح، فلا يصح عقد غيره عليها، إذ لا جائز أن يجتمع بين حكم من أحكام النكاح لزوجين، وليس في منع نكاحها في هذه الحال ما يوجب أن تكون مقيدة؛ لأن أم الولد إذا كانت حاملا من مولاها، فليست بمعتدة، ومع ذلك لا يجوز تزويجها، وإنما منع تزويجها لأن في بطنها ولدا ثابت النسب من غيره، فمنع ذلك عقده، كذلك ما وصفنا. *وقال أبو يوسف ومحمد: عليها العدة؛ لأن الفرقة وقعت بعد حصولها في دار الإسلام، فلما وقعت الفرقة في دار الإسلام وهي مسلمة، لزمتها العدة، ولم تسقط لأجل كون زوجها في دار الحرب، كما أن رجلا لو ارتد عن الإسلام بانت منه امرأته، وكانت عليها العدة، ثم لو لحق الزوج بدار الحرب، لم تسقط عنها العدة.

قال أحمد: وهذا الاعتلال ينتقض عليهما في المسبية؛ لأن الفرقة وقعت بينها وبين زوجها بعد إخراجها إلى دار الإسلام، ولم يوجب ذلك عليها العدة. مسألة: [الأطفال المسبيون تبع لوالديهما فيما يدينان به] قال أبو جعفر: (ومن سبي من دار الحرب من الأطفال ومعه أبواه، أو أحدهما: لم يصل عليه إذا مات، وكان على حكم الكفر حتى يقر بالإسلام وهو يعقل، وإن لم يسب معه واحد من أبويه: كان مسلما، وصلي عليه إذا مات). قال أبو بكر: الأصل في ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه". فإذا ثبت له حكم الأبوين في الكفر، لم يزل عنه ببقاء أحدهما في دار الحرب، ولا يوجب حصوله في دار الإسلام زوال حكمهما عنه، كما أنهما جميعا لو سبيا معه، لم يكن للدار تأثير في زوال حكمهما عنه، فكذلك إذا سبي أحدهما، لأن حكم أحدهما في هذا الباب آكد من حكم الدار. والدليل عليه: أن الذمية إذا زنت، فجاءت بولد: أن ولدها ذمي، لأجل كفرها، لأنه لا أب له، فثبت أن حكم أحد أبويه آكد من حكم الدار.

فإن قيل: هلا كان حصوله في يد المسلمين موجبا لقطع حكم أبويه عنه. قيل له: لا تأثير لليد في حكم الدين؛ لأن المشركين لو أسروا صبيا رضيعا من المسلمين، وأدخلوه دارهم: لم يصر حكمهم بثبوت يدهم عليه، فثبت بذلك أن اليد لا تأثير لها في زوال حكم الدين. *وأما إذا سبي الصبي وحده دون أبويه: فهو مسلم، لانقطاع حكم أبويه جميعا عنه، وهذا مما لا نعلم فيه خلافا بين الفقهاء، وفيه دلالة على اعتبار اختلاف الدارين في الأصول. مسألة: [إسلام الحربي وحكم ماله وأهله بعد ظهور المسلمين عليهم] قال: (ومن أسلم من أهل الحرب في دار الحرب، ثم ظهر المسلمون على الدار التي هو منها: ترك له ما كان في يده من ماله ورقيقه، وأولاده الصغار مسلمون لا يسبون، وأولاده الكبار على حكم أنفسهم، يسبون، ويكونون فيئا، وأرضوه كلها فيء، وامرأته وما في بطنها فيء). قال أبو بكر: لما ظهرنا على الدار، وصارت دار إسلام: أحرز من ماله ما كان في يده، كما لو كان أدخله دار الإسلام، وكذلك ما كان له هناك في يد ذمي أو مسلم؛ لأن أيدي هؤلاء بعد الظهور أيد صحيحة، ويد المودع كيد المودع، فكأنه في يده. *وأولاده الصغار أحرار؛ لأنهم مسلمون بإسلامه، وكونه في دار الحرب لا يمنعهم حكم الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نقل المولود عن حكم الإسلام إلى حكم الكفر بكفر الأبوين، بقوله: "كل

مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه"، ولم يفرق بين دار الحرب ودار السلام. *وأما أولاده الكبار: فلهم حكم أنفسهم؛ لأنهم إذا صار لهم اعتقاد لم يتبعوا آباءهم في حكم الدين. *وأما أراضيه: فكلها فيء من وجهين: أحدهما: أنها لا تثبت فيها يد على الحقيقة، لأنها لا تحول ولا تنتقل، وإنما تثبت فيها اليد من طريق الحكم، وقد ظهر المسلمون عليها، فصارت فيئا، كسائر أمواله التي ليست في يده. والوجه الآخر: أن إسلامه بدءا لم يخرج تلك البقعة من أن تكون من دار الحرب وإن كانت في يده، فلما كانت باقية على حكم دار الحرب، وجب أن يقع الظهور عليها، كوقوعه على سائر أراضي الحرب، فتصير فيئا؛ لأن حكم دار الحرب إذا ظهر عليها: أن تكون فيئا ما لم يقر أهلها عليها. ولو رددنا هذه الأرض إلى مالكها المسلم، لصارت هي وحدها في حكم أرض دار الإسلام، دون سائر أراضي أهل الحرب، وذلك محال، فامتنع لذلك أن يكون بعضها مغنوما، وبعضها غير مغنوم، كما امتنع أن يكون بعضها دار الإسلام، وبعضها دار حرب مع ظهور الإمام وغلبته عليها. *وامرأته وما في بطنها فيء، من قبل أنها حربية يصح استرقاقها، وإذا حصلت رقيقة، تبعها ولدها في الرق؛ لأن الولد يتبع الأم في الرق

والحرية، دون الأب. فإن قيل: الولد الذي في بطنها مسلم، فلا يجوز ورود الرق عليه. قيل له: لا يمتنع ذلك بالأم؛ لأنه في حكمها، وتبع لها، كما أن ولد الحر حكمه أن يكون حرا، ثم ينتقل بالأم إذا كانت أمة. *قال: (وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف: أن العقار والأرضين اللاتي له في دار الحرب: له، لا تكون فيئا). قال أبو بكر: ذهب أبو يوسف في ذلك إلى ما ورد في المغازي: "أن ناسا من بني قريظة أسلموا قبل أن تفتح بليلة، فأحرزوا أموالهم، وكان جل أموالهم الدور والأرضين". [أسلم في دار الإسلام وله أموال وأولاد في دار الحرب] قال أبو جعفر: (وإن كان هذا الحربي خرج إلى دار الإسلام، فأسلم هاهنا، ثم ظهر على الدار، كانت جميع أمواله التي له بها وأهله وأولاده الصغار والكبار فيئا أجمعين). وذلك لأن ماله باق على حكم أموال أهل الحرب، لم يحرزه بإسلامه؛ لأن اختلاف الدارين يمنع ثبوت يده على ماله الذي له في دار الحرب، فبقي على حكم الحرب. وليس هذا بمنزلة من أسلم في دار الحرب، ثم ظهرنا على الدار، فيكون ما في يده، وما أودعه ذميا أو مسلما له؛ لأن هذا مال قد أحرزه

بكونه في يده، وهو مسلم بعد ظهورنا، فكان بمنزلته لو دخل دار الإسلام مسلما، والمال في يده، فيكون له، وما أودعه ذميا أو مسلما: فكأنه في يده. وأما إذا أسلم هاهنا، فالمال الذي له في دار الحرب لم تحصل عليه يد بعد الإسلام، فيكون محرزا بها، فكان جميعه فيئا وإن كان في يد ذمي أو مسلم؛ لأنه يحتاج أن تثبت له عليه يد تحرز المال، حتى تثبت بعد ذلك يد المودع من جهته. والدليل على أن إسلامه لا يجعل ماله محرزا دون أن تحصل يده عليه بعد الظهور على الدار: أن مستهلكه لا ضمان عليه فيه، فصار في الحكم باقيا على حكم أموال أهل الحرب. فإن قيل: قد صار ماله محظورا بالإسلام، فينبغي أن يفارق حكم أموال أهل الحرب التي هي مباحة. قيل له: كونه محظورا في الدين، لم يخرجه من أن يكون في حكم المباح في باب سقوط الضمان عن مستهلكه قبل إحرازه بدار الإسلام. *وأولاده الصغار فيء أيضا، من قبل أن اختلاف الدارين يمنع لحاقهم بحكم آبائهم في الإسلام، ألا ترى أن الصبي المسبىي من دار الحرب إذا لم يسب معه أبواه: كان مسلما، ولم يبق عليه حكم الأبوين، لأجل اختلاف الدارين، فكذلك ولد الحربي إذا أسلم أبوه عندنا، والولد في دار الحرب.

مسألة: [أسلم بدار الحرب، ثم دخل دار الإسلام، ثم ظهر على دار الحرب] قال أبو جعفر: (وإن كان أسلم في دار الحرب، ثم دخل دار الإسلام، ثم ظهرنا على الدار، وهو في دار الإسلام: كان ماله وأهله فيئا أجمعين، إلا أولاده الصغار: فإنهم أحرار مسلمون، لا سبيل عليهم). قال أبو بكر: وما أودعه مسلما أو ذميا: فهو له أيضا. وإنما كان سائر ماله فيئا إلا ما ذكرنا؛ لأنا ظهرنا على الدار، وماله ليس في يد أحد، فلم يصر محرزا في الدار، فكان باقيا على حكم أموال أهل الحرب، واليد الأولى التي كانت له بدءا قد زالت بخروجه إلى دار الإسلام. وأما ما أودعه مسلما أو ذميا: فإنه بمنزلة ما في يده؛ لأن يد هؤلاء يد صحيحة، فصار محرزا باليد بعد ما صارت الدار دار الإسلام. وما كان في يد الحربي فهو فيء أيضا؛ لأن الحربي لا يد له صحيحة، ولأنها زالت بنفس الظهور، لأنه صار فيئا بنفسه، فصارت الدار دار الإسلام، ولا يد لأحد في هذا المال، فصار فيئا. *وأما أولاده الصغار: فأحرار مسلمون؛ لأنهم صاروا مسلمين بإسلام أبيهم هناك، ثم خروج أبيهم إلى دار الإسلام لا ينقلهم إلى حكم الكفر، فبقوا على حكم الإسلام إلى أن ظهرنا على الدار، فلا يجوز استرقاقهم بعد الإسلام. وليس هؤلاء بمنزلة ما في بطن امرأته من ولد، فيكون فيئا، وإن كان مسلما؛ لأن الإسلام يمنع سبي من هو مسلم، ولا يمنع جريان الرق في الولد من قبل الأم، ألا ترى أن الحر إذا تزوج أمة كان ولده رقيقا برق الأم.

مسألة: [دخول الحربي دار الإسلام بأمان وحكم أمواله ونحوها] قال أبو جعفر: (ولو أن حربيا دخل إلينا بأمان، فأودع رجلا مالا، وأقرض آخر، ثم اسر، أو ظهر على الدار، وقتل: فإن وديعته فيء للمسلمين، وبطل قرضه عن الذي كان عليه). قال أبو بكر: إذا ظهر على الدار، فقتل، أو اسر: فقد صار فيئا، وزال ملكه عن ماله، وصار ماله الذي له في دار الإسلام أيضا فيئا، كسائر أمواله التي في دار الحرب إذا ظهرنا على الدار، وإذا صار فيئا: أخذت الوديعة، فجعلت في بيت المال. وأما القرض، فإنما بطل عن الذي هو عليه، ولم يصر فيئا لجماعة المسلمين، من قبل أن حكم الغنيمة أن تملك بالغلبة والحيازة، وقد زال ملك الحربي عنه بالأسر، فبقي لا مطالب له، وإذا حصل الدين بلا مطالب: سقط. [مسألة:] قال: (وإن قتل ولم يظهر على الدار: كان القرض والوديعة لورثته). وذلك لأن قتله لم يوجب أن يكون فيئا إذا لم يظهر على الدار، ولم يؤسر، فصار قتله في هذا الوجه بمنزلة موته سواء، فأوجب انتقال ملكه

إلى ورثته، فقاموا فيه مقامه؛ لأن لحاقه بدار الحرب لم يزل حكم الأمان عن ماله. ألا ترى أنه لو عاد: أخذه؛ لأن الأمان ينتظم ماله ودمه، ألا ترى أنه لا يجوز لنا أخذ ماله في حال كونه في دارنا، فلا يرتفع حكم ذلك الأمان من ماله ما لم يخرجه من دار الإسلام، ويرده إلى دار الحرب، أو يصر هو فيئا، كما لا يرتفع حكم الأمان عن نفسه إلا برجوعه إلى دار الحرب. مسألة: [مداينة المسلم للحربي في دار الحرب وخروجهما إلينا، والحربي مستأمن] قال أبو جعفر: (وإذا دخل المسلم دار الحرب، فادان حربيا دينا، أو أدانه الحربي، ثم خرجا إلينا، والحربي مستأمن: لم يقض لأحدهما على صاحبه بشيء). وكذلك هذا في الحربيين إذا تداينا في دار الحرب، ثم خرجا إلينا مستأمنين؛ للعلة التي وصفنا *قال: (ولو خرجا مسلمين: قضي لأحدهما على الآخر).

لأن الدين كان ثابتا في ذمة المدين، وإنما منع القضاء عليه به، بقاؤه على حكم الحرب، فإذا أسلما: فقد التزما حكم الإسلام، وخرجا عن أحكام أهل الحرب، فصارا كمسلمين تداينا، فيقضى لأحدهما على صاحبه. مسألة: قال أبو جعفر: (وإن غصب أحدهما صاحبه شيئا في دار الحرب، ثم خرجا مسلمين: لم يقض للمغصوب منه على الغاصب في ذلك بشيء). وذلك لأن دار الحرب يملك فيها بالغلبة، فلما أخذه على وجه الغلبة: ملكه، والإسلام لا يزيل ملكه، ودخوله إليهم بأمان: لا يمنع صحة ملكه فيما يغصب منهم. والأصل فيه: قصة المغيرة بن شعبة، حين صحب قوما في الجاهلية، فقتلهم، وأخذ أموالهم، وهاجر إلى المدينة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "أما الإسلام فقد قبلناه، وأما المال فهو مال غدر، لا حاجة لنا فيه". فأخبر أنه مال غدر، ولم يرده مع ذلك على ورثة المقتولين. ولأن كونه محظورا بالأمان، لا يمنع صحة الملك لمن أخذه على وجه الغلبة؛ لأن أموالنا محظورة عليهم، ويملكونها بالغلبة، ويفتى

المسلم فيما بينه وبين الله تعالى أن يرد عليه ما غصبه منهم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأخذه من المغيرة، لأنه مال غدر، فكذلك الآخذ لا ينبغي له أن ينتفع به، ولكن يرده على صاحبه. ووجه آخر: وهو أنه لما حصل له ذلك من وجه محظور، لم يسعه الانتفاع به، كما منع النبي صلى الله عليه وسلم الانتفاع بالشاة المشوية التي قدمت إليه، وأخبروه أنهم غصبوها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "أطعموها الأسرى"، فمنعهم الانتفاع بها، إذ حصلت لهم من وجه محظور. مسألة: [من أسلم من عبيد المشركين قبل الظهور على دراهم] قال أبو جعفر: (ومن أسلم من عبيد أهل الحرب في دار الحرب، ثم ظهرنا على الدار، أو خرج إلينا: فهو حر). وذلك لما روي أن أبا بكرة- وكان من عبيد أهل الطائف- خرج في جماعة من عبيدهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام مسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هؤلاء عتقاء الله".

وأيضا: فلما خرج إلى دار الإسلام، زال ملك مولاه عنه؛ لأنه لا يجوز أن يثبت لهم يد فيما حصل في دارنا على جهة المباينة والغلبة؛ لأنه لو جاز ذلك، لما صح أن تملك عليهم أموالهم، لبقاء أيديهم عليها بعد إحرازها في دار الإسلام. فلما بطل ذلك: صح وثبت أن حصول العبد المسلم في دارنا يزيل ملكهم عنه، كما زالت أيديهم عنه؛ لأن أملاكهم إنما هي ثابتة من طريق اليد، ففي زوال أيديهم بالغلبة والمراغمة: زوال ملكهم، وإذا زال ملكه عن العبد: عتق؛ لأنه لا يجوز لنا أن نسترقه وهو مسلم، وكذلك إذا ظهرنا على الدار، زال ملك المولى عن عبده، فلم يجز استرقاقه وهو مسلم. مسألة: [إذا اشترى المستأمن عبدا مسلما] قال أبو جعفر: (وإذا دخل الحربي إلينا بأمان، فاشترى عبدا مسلما: جاز شراؤه، وبعناه عليه من مسلم، فإن لم نعلم به حتى أدخله دار الحرب: فإنه يعتق عليه في قول أبي حنيفة، ولا يعتق في قول أبي يوسف ومحمد). قال أحمد: يجبر على بيعه ما دام في دار الإسلام، كما يجبر الذمي عليه، لما فيه من استذلال المسلم بالاستخدام على وجه الرق، ولا خلاف في ذلك نعلمه. وأما وجه قول أبي حنيفة في إيجاب عتقه بدخوله معه دار الحرب: فهو أن ملك الحربي المستأمن ملك صحيح في دار الإسلام، ولحاقه بدار

الحرب مع ملكه: يزيل صحة ملكه؛ لأن ملكه هناك ملك مباح، ولا جائز أن يكون الملك المباح موجبا بالعقد الذي كان في دار الإسلام، فلما زال ملكه بدخوله دار الحرب لا إلى مالك: عتق. فإن قيل: ورود الإباحة على الملك الصحيح، لا ينفي صحته، ولا يزيله، كمن أباح طعامه لغيره، لا يزول عنه ملكه بنفس الإباحة. قيل له: لأن لمبيح الطعام حظره بعد إباحته، ولا يمكن للحربي أن يحظر ملكه وهو في دار الحرب؛ لأن الإباحة ليست من جهته فيكون الحظر إليه. فإن قيل: فهلا بقيت ملكه عليه بالغلبة، وثبوت يده عليه بعد دخوله دار الحرب كسائر أمواله، وكعبيده الذين أدخلهم إلينا من دار الحرب، ثم ردهم إليها. قيل له: قد بينا أن الملك المباح لا يجوز أن يكون مستحقا بالعقد الذي عقده في دار الإسلام؛ لأن العقد في دار الإسلام إنما يوجب ملكا صحيحا غير مباح، وبدخوله دار الحرب يزول ذلك الملك، وزوال الملك إلى غير مالك: يوجب العتق، وثبوت يده عليه بالغلبة بعد اللحاق بدار الحرب: لا يمنع العتق؛ لأن ثبوت اليد بالغلبة معنى يجوز أن يلحقه الفسخ، والعتق لا يلحقه الفسخ بعد وقوعه، ومتى اجتمع ما يلحقه الفسخ، مع ما لا يلحقه الفسخ: كان الذي يلحقه الفسخ أولى بالبطلان، وما لا يلحقه الفسخ أولى بالثبوت. وقد بينا هذا المعنى في مواضع، فلذلك وجب أن يكون العتق المستحق به زوال ملكه لا إلى مالك: أولى من الملك المباح الذي يستحقه باليد والغلبة.

ومن أجل ذلك قال أبو حنيفة في الحربي في دار الحرب إذا أسلم عبده، ثم باعه وسلمه: أنه يعتق بالتسليم، ولا يعتق بنفس العقد؛ لأن الحربي يملك بالغلبة، فإذا زالت يده عن العبد، وقد أسلم: لم يملكه المشتري، لأن المسلم لا يملك بالغلبة، ويبيعه إياه لا يوجب للمشتري ملكا صحيحا، فلذلك اعتبرنا التسليم الذي به حصلت اليد التي هي سبب إيجاب الملك في دار الحرب. *وأما سائر أمواله، والعبد الحربي الذي أدخله معه: فإنما جاز ثبوت ملكه عليه بعد زوال ملكه الذي كان له في دار الإسلام، من جهة بقاء يده عليه بالغلبة، وذلك معنى يوجب الملك في إحراز أهل الحرب وأموالهم، فكيف به في عبيدهم؟ ألا ترى أنا لو غلبناهم: ملكناهم وأموالهم، ولو كان لهم هناك عبد مسلم، فغلبنا على الدار: صار حرا، ولم يجز لنا أن نسترقه. فإن قيل: ولم قلت: إن خروج العبد من ملك مالكه لا إلى مالك يوجب العتق، ونحن قد وجدنا من يخرج من ملك مالكه لا إلى مالك لا يعتق، وهو العبد يشتريه الإمام لخدمة الكعبة، والميت إذا كان عليه دين وله عبد. قيل له: لأنه خرج من ملك مالكه في هذه الوجوه، فحصل موقوفا، والعبد المسلم إذا أدخله الحربي دار الحرب، زال ملكه عنه، ولم يصر موقوفا؛ لأن الناس فيه على قولين: فمن قال يقول: هو ملكه على ما كان عليه، وآخر يقول: قد عتق.

فأما أن يكون موقوفا: فليس هو قول أحد، وخروج العبد من ملك مالكه لا إلى مالك، ولا إلى حال الوقوف: يوجب عتقه؛ لأن ذلك حقيقة العتق. فإن قيل: لو أن مسلما دخل دار الحرب بأمان، ثم ارتد هناك، وله عبد مسلم: لم يعتق عليه، مع زوال الحظر عن ملكه بردته، وحصول الإباحة فيه، فدل ذلك على انتقاض اعتلالك. قيل له: الفرق بينهما: أن ملك المرتد يثبت فيه حق الورثة، وهم مسلمون، وثبوت حق المسلم في رقبته، يمنع زوال ملكه لا إلى مالك، كالمسلم إذا دخل دار الحرب مستأمنا بعبد له مسلم: فلا يعتق عليه، لثبوت حقه وصحة ملكه، كذلك حق الورثة في ملك المرتد، لما كان ثابتا بعد الردة، منع ثبوت ذلك من عتقه بزوال ملك المرتد. فإن قيل: لو كان حق الورثة ثابتا في المال الذي معه في دار الحرب، لمنع ذلك من أن يكون فيئا إذا غلبت على الدار. قيل له: هذا لا يمنع ثبوت حق الورثة فيه بدءا بنفس الردة، إلا أن ذلك الحق لا يتأكد إلا بالموت، أو ما يقوم مقامه، ألا ترى أن من ارتد في دار الإسلام: ثبت الحق للورثة في ماله بنفس الردة، ومن أجل ذلك لم يجز عند أبي حنيفة تصرفه فيه إذا لم يسلم. ومع ذلك، فلو كان لحق بما له معه إلى دار الحرب، ثم ظهرنا

عليه: كان فيئا. ووجه آخر في الفرق بينهما: وهو أن ملك الحربي لما زال بحصوله في دار الحرب من الوجه الذي ذكرنا، ثبت للعبد الحق أيضا في استرقاق المولى، لأنه لو غلبه، ملكه، ولا جائز أن يثبت هذا الحق إلا لحر، وأما عبد المرتد، فإنه لم يثبت له حق استرقاق المولى، فلم يحصل له معنى يوجب العتق. فإن قيل: فيجب على هذا أن يكون عبد الحربي إذا أسلم في دار الحرب، أن يعتق بنفس الإسلام لوجود العلة. قيل له: لا يجب ذلك؛ لأن إسلامه لم يوجب زوال ملك المولى، ولم يتعلق ثبوت هذا الحق للعبد بزوال الملك، فمن أجله لم يعتق، وأما رجوع الحربي إلى دار الحرب، فإنه يوجب زوال الملك الذي كان له في دار الإسلام، وأوجب ذلك العبد حق استرقاقه لو قهره، فلذلك افترقا. فإن قيل: فما الفرق بينه وبين العبد المسلم إذا أسره المشركون، فملكوه، فلم يكن زوال ملك مولاه الأول موجبا لعتقه، ولم يمنع وقوع الملك المباح لأهل الحرب فيه بعد زوال ملك المسلم، كذلك عبد الحربي؟ قيل له: لأنه لو امتنع وقوع ملك أهل الحرب عليه، لو يوجب ذلك عتقه؛ لأنه يبقى على ملك مولاه المسلم حينئذ، وكان يكون بمنزلة العبد الآبق، وعبد الحربي إذا رجع به إلى دار الحرب، فزوال ملكه لم يمنع حصول عتقه من الوجه الذي وصفنا. وأيضا: لأن حق المولى المسلم، لم ينقطع بأسر المشركين إياه، ألا ترى أنه إذا غنمه المسلمون: كان له أن يأخذه قبل القسمة بغير شيء، وبعد القسمة بالقيمة، وكان ثبوت حق المولى فيه من هذا الوجه مانعا من

عتقه، وأما الحربي فإن ملكه الأول قد زال بدخوله دار الحرب، ولم يبق هنا حق في رقبة العبد يمنع عتقه. ووجه آخر لأصل المسألة: وهو أن الحربي لما لحق بعبده المسلم إلى دار الحرب، وزال الحظر عن رقبته وماله: جاز للمسلمين أن يتملكوه، فكذلك العبد ملك رقبة نفسه بإحرازه لها، ومصيره في يد نفسه وهو مسلم، فملك من رقبته ما كان المولى مالكا منه، كما ملك المسلمون ما غلبوا عليه من ماله بعد لحاقه، وكما لو قهر العبد مولاه: ملكه، وليس كذلك عبد الحربي إذا أسلم في دار الحرب، لأن إسلامه هناك لا يوجب له إحراز رقبته، ولا يصير به في حكم أهل دارنا. ألا ترى أن من قتله، أو أخذ ماله قبل هجرته إلينا: لم نغرمه، كما لا نضمن نفس الحربي وماله، فهو باق مع الإسلام على ما كان عليه، وأما من كان مسلما في دارنا، فقد أحرز رقبته بدارنا، وصار في منعتنا، كالحربي المسلم بعد خروجه إلينا، فلذلك اختلفا. *ووجه قول أبي يوسف ومحمد: أن الحربي له ضرب من الملك، فلا يمتنع بقاء ملكه على العبد المسلم إذا أدخله دار الحرب، كما لو أسلم عبده هناك: لم يعتق. مسألة: [حكم بقاء الحربي بأرض الإسلام بعد انتهاء مدة أمانه] قال أبو جعفر: (ومن دخل إلينا من دار الحرب بأمان، فتجاوز المدة التي يقيمها مثله: تقدم إليه الإمام في الخروج أو الإقامة، فإن خرج بعد ذلك قبل أن يمضي عليه حول: رجع إلى حربيته، وإن أقام حتى يمضي عليه حول: جعله الإمام ذمة، وجعل عليه الخراج، ومنعه من الرجوع إلى دار الحرب إن حاول ذلك).

قال أحمد: الأصل في ذلك أن الكافر لا يجوز إقراره في دار الإسلام أبدا بغير جزية ولا رق، لقول الله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر}، إلى قوله: {وهم صاغرون}. وقال: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}، إلى قوله: {فخلوا سبيلهم}. إلا أنه مع ذلك قد يجوز إقراره بأمان في دار الإسلام وقتا يسيرا؛ لقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه}، فأباح لنا إقراره في دارنا هذه المدة. وقال: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا}، إلى قوله: {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم}.

وقد كانت رسل المشركين ووفودهم ترد على النبي عليه الصلاة والسلام المدينة فيتركهم والمقام فيها إلى وقت رجوعهم، فثبت بذلك جواز إقرارهم في دارنا مدة. فإذا دخل إلينا حربي بأمان، وأقام في دارنا مدة لم تجر العادة بمثله أن يقيم فيها: تقدم إليه الإمام بالرجوع إلى داره، أو اختيار الذمة؛ لأنه لا يجوز تركه أبدا في دارنا. *فإن بقي بعد التقدم إليه سنة: صار ذميا من قبل أن حكم لزوم الجزية متعلق بمرور الحول، فصار مختارا لها، كما أن المشتري إذا اشترى على أنه بالخيار ثلاثا، يكون بسكوته في الثلاث مختارا لإتمام البيع، وبوطئه للجارية في الثلاث، وكما يصير المتصرف في السلعة بعد روية العيب، راضيا بالعيب، ونظائر هذا كثيرة في الأصول. *وأما إقامته بعد التقدم أقل من سنة: فإنه لا يجعله مختارا للذمة، ولزوم الجزية؛ لأنه لا يتعلق به حكم فيما وصفنا، فصار كسكوت المشتري على أنه بالخيار ثلاثا بعض الثلاث: فلا يدل على اختياره لإجازة البيع. مسألة: [ما يترتب على شراء الحربي لأرض الخراج] قال: (ومن دخل إلينا من الحربيين، فابتاع أرض خراج، فإنه إذا وضع عليه الخراج: صار ذميا). قال أحمد: وذلك لأن الخراج لا يلزم أهل الحرب، كما لا تلزمهم

جزية الرؤوس، فلما لزمه الخراج: صار من أهل الذمة، إذ كان لزوم ذلك في الأصل من أحكام الذمة. وأيضا: فقد جرى عليه حكم أهل الدار بوضع الخراج عليه، فصار من أهلها؛ لأن حكم الدار لا يتعلق إلا بأهلها، وإذا كان من أهلها صار ذميا. وأيضا: فلا يجوز تسليم منافع هذه الأرضين إلى أهل الحرب، إذ لا حق لهم في دارنا، بدلالة أنهم لا يعطون من الغنيمة شيئا؛ لأنهم لو أخذوها، لكان فيه إبطال الغنيمة، وإخراج لها من أن تكون غنيمة، لعودها إلى ما كان عليه حاله قبل أن يغنمه. وإذا ثبت أنهم لا يجوز لهم ثبوت الحق في دارنا، ثم سلمنا إليه منافع الأرض، وجب أن يكون في ذلك إلحاقه بحكم أهل الدار، وإذا صار من أهل الدار وهو كافر، لزمته الجزية، وصار ذميا. ويجوز أن يرد حكم الخراج إلى حكم الجزية في إلزامه إياه به حكم الذمة، لأن الخراج والجزية جميعا مأخوذان من أهل الذمة بحصول حمايتنا لهم، فلما كان وضع الجزية عليه مكسبة حكم الذمة، كان كذلك حكم الخراج. وأيضا: فليس في الأصول ثبوت الخراج على أرض كافر، مع خلو رقبته من الجزية، فلما امتنع وجود ذلك في الأصول، لم يصح إثباته، ووجب إلزام رقبته الجزية، كما ألزم أرضه الخراج.

مسألة: [ما يترتب على زواج المستأمن بذمية أو العكس] (وإذا تزوج الحربي مستأمن ذمية: لم يصر ذميا، وإن كانت حربية فتزوجت ذميا: صارت ذمية). وذلك لأن الزوج لا يلزمه المقام في دارها، فلم يتعلق بتزويجه حكم الذمة، وأما المرأة فإنه يلزمها المقام في دار الزوج بعقد النكاح، فلما فعلت ما يلزمها الكون في دارنا: صارت ذمية. مسألة: [أثر اختلاف الدارين في الميراث] قال: (ولا يتوارث أهل الذمة وأهل الحرب). قال أحمد: وذلك لأن اختلاف الدارين يوجب قطع الحقوق فيما بينهما، لدلائل قد ذكرناها فيما سلف من هذا الكتاب. ألا ترى أن اختلاف الدارين يوجب قطع العصمة في النكاح، ويمنع ثبوت النكاح فيما بينهما. مسألة: [حكم ابتداء المسلم أباه الكافر بالقتال] قال أبو جعفر: (ولا ينبغي للمسلم أن يبتدئ أباه الحربي بالقتل، وإن أراده الأب: امتنع عليه، وكان له قتله على ذلك). وذلك لقول الله تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به

علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا}. وليس من الصحبة بالمعروف قتله. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم حنظلة بن أبي عامر عن قتل أبيه، وكان مشركا. *فإذا أراده الأب: جاز له قتله على جهة الدفع عن نفسه، كما يجوز له قتل أبيه المسلم على وجه الدفع عن نفسه إذا قصده بالقتل. مسألة: [حكم الخروج إلى أرض العدو بالمصحف والنساء] قال: (ولا بأس على المسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، وقال محمد في السير: إذا كان في عسكر عظيم مأمون عليه، فإن كان على ما سوى ذلك: لم ينبغ له أن يسافر به إلى دار الحرب. قال: وكذلك حكم النساء في السفر بهن إلى دار الحرب). قال أحمد: لا خلاف أنه يجوز إمساك المصحف في الثغور العظام التي يؤمن فيها عليه العدو في غالب الحال، فكذلك العساكر العظام هي بمنزلة الأمصار؛ لأن غالب حالها السلامة. *وأما إذا كانت سرية أو نحوها: فإنه يكره أن يسافر به.

لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه "نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العرب، مخافة أن يناله العدو". وذلك في السرايا والعدة القليلة، وقد بين المعنى المانع من ذلك بقوله: "مخافة أن يناله العدو". ويدل على اعتبار غلبة الرأي فيما وصفنا: أن السرية إذا لقيت عدوا، فإن كان في غالب ظنها مقاومته: لم يجز لهم أن ينصرفوا عنه، وإن كان في غالب ظنها أنها لا تقاومه: جاز لها أن تنحاز عنه. وكذلك لو أن رجلا رأى رجلا قد شهر عليه سيفا حمل عليه، فإنه يستعمل غالب ظنه، فإن غلب فيه أنه مازح غير جاد، أو أنه لا يقصد ضربه: لم يجز له قتله، وإن غلب في ظنه أنه قاصد لقلته: حل له قتله، فكذلك ما وصفنا من اعتبار غالب الظن في حفظ المصحف، وصيانته عن العدو. *والنساء بهذه المنزلة؛ لأنهن ليس فيهن دفع عن أنفسهن، فيجوز إخراجهن في الجيوش العظام؛ لأن غالب أمرها السلامة، وقد كان النبي

عليه الصلاة والسلام يخرج بعض نسائه في كثير من الغزوات. مسألة: [استعانة المسلمين بالمشركين في الحرب] قال أبو جعفر: (ولا ينبغي للمسلمين الاستعانة بالكفار على قتال الكفار، إلا أن يكون حكم الإسلام هو الغالب، فإن كان كذلك واحتيج إليهم: فلا بأس بذلك). وذلك لأن حكم الكفر إذا كان هو الغالب، فالقهر والغلبة إذا حصلا، كان حكم الكفر هو الظاهر، فصار ذلك قتالا لإظهار حكم الكفر، ولا يجوز للمسلم القتال على إظهار حكم الكفر، وإنما يجوز للمسلمين القتال لإظهار دين الإسلام، ولتكون كلمة الله العليا، فلذلك لم يجز للمسلمين أن يقاتلوا مع الكفار. وأما إذا كان حكم الإسلام هو الظاهر، فإنما جازت الاستعانة بالكفار، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه مجيء أبي سفيان مع الأحزاب، خرج إلى يهود بني قريظة، وقال لهم: "إما قاتلتم معنا، وإما أعرتمونا سلاحكم".

وقد "كان عيينة بن حصن في آخرين من مشركي العرب يقاتلون مع النبي عليه الصلاة والسلام، ويعطيهم النبي عطايا جزيلة، تأليفا لهم على الإسلام". ويدل على أن عيينة قد كان يقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر، أنه قال يوم الطائف: "ما جئت لأنصر محمدا، وإنما جئت لأصيب جارية من ثقيف، فأستولدها، فإنهم قوم نكر". وقد كان المنافقون يخرجون مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزواته، منهم عبد الله بن أبي وأصحابه، وهم كفار، وعلم النبي عليه الصلاة والسلام نفاقهم وكفرهم، ولم يمنعهم من القتال معه، إذ كانت غلبتهم حينئذ توجب إظهار حكم الإسلام. وقد حدثنا عن أبي مسلم الكجي حدثنا حجاج حدثنا حماد عن محمد ابن إسحاق عن الزهري أن ناسا من اليهود غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقسم لهم كما قسم للمسلمين.

وأما ما روي عن عبد الله بن دينار عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تستعينوا بمشرك": فإنه يحتمل أن يكون في حال قلة المسلمين، بحيث لم يأمن غدرهم وكيدهم. مسألة: [حكم إعطاء الأمان للعدو، ومن يصح منه ذلك] قال أبو جعفر: (وأمان الرجال والنساء من المسلمين لأهل الحرب جائز، غير العبد المسلم، فإن أبا حنيفة قال: إن كان يقاتل: فأمانه جائز، وإن كان لا يقاتل: فأمانه باطل). وأما أمان الرجل الحر: فالأصل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ويسعى بذمتهم أدناهم": يعني أقلهم عددا، وهو واحد. ويقتضي أيضا جواز أمان المرأة؛ لأنها من أدناهم.

والأصل أيضا في جواز أمان المرأة: "أن زينب بنت النبي عليه الصلاة والسلام أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم أمانها". "وأجارت أم هانئ حموين لها يوم فتح مكة، وقد كان علي رضي الله عنه أراد أن يقتلهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أمنا من أمنت، وأجرنا من أجرت". *وأما وجه قول أبي حنيفة في إبطاله أمان العبد، إلا أن يكون مأذونا له في القتال، فالذي يدل عليه من جهة العموم: قول الله تعالى: {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء}. ومعلوم أنه لم يرد به نفي القدرة؛ لأن الرق لا تأثير له في حقيقة القدرة، فثبت أنه أراد نفي الملك، فوجب بحق العموم أن لا يملك الأمان. وأيضا: فإن الأمان تصرف على المسلمين بالولاية، والعبد لا ولاية له، فلا يملك الأمان. والدليل على صحة ذلك: أن المجنون والصبي والكافر لا يجوز

أمانهم، لعدم الولاية، فكذلك العبد لما لم يملك الولاية على الغير، لم يجز أمانه. وأما المرأة فلها ولاية على الغير، ألا ترى أنها يجوز تزويجها للصغير بحق الولاية، ويجوز تصرفها في سائر العقود، كما يجوز تصرف الرجل، والعبد لا يملك شيئا من ذلك، كالصغير والمجنون. وأيضا: فالأمان يمنع القتال، والعبد لا يملك القتال بنفسه، فلا يملك المنع منه، ألا ترى أن العبد لما لم يملك الشراء بنفسه، لم يملك البيع، وأما إن أذن له في القتال: جاز أمانه، لأن الإذن في القتال: إذن في الأمان، كما أن الإذن للعبد في الشراء: إذن له في البيع. ولأن من يملك القتال، يملك تركه، وفي الأمان ترك القتال. فإن قيل: لو كان حكم الأمان متعلقا بالقتال، لوجب أن لا يجوز أمان المرأة، لأنها لا تملك القتال. قيل له: ليس كذلك، هي تملك القتال، ولها أن تقاتل إذا قدرت عليه، والعبد لا يملك القتال؛ لأن المولى أولى باستخدامه، والزوج لا يملك استخدام المرأة، فيمنعها بذلك أن تكون ممن

يملك القتال، فلذلك اختلفا. وأيضا: فإن المرأة ممن يملك في الأصل العقود والتصرف، فتملك القتال، وإن كانت ممنوعة منه في بعض الأحوال، فملكت الأمان، والعبد ليس ممن يملك شيئا، وعقوده وتصرفه موقوفة على إذن غيره، فكذلك الأمان. مسألة: [حكم الأمان من الأسير] قال أبو جعفر: (ولا يجوز أمان الأسير المسلم، ولا التاجر المسلم اللذين في دار الحرب). وذلك لأنهما مقهوران في دار الحرب في أيدي أهلها، وأحكام أهل الحرب جارية عليهما، فلم يجز عقدهما على المسلمين، ألا ترى أنهما لا يملكان القتال في هذه الحال، لكونهما مغلوبين هناك. مسألة: [دخول حربي إلى دار الإسلام بغير أمان، وأخذ مسلم له] قال أبو جعفر: (ومن دخل من أهل الحرب دار الإسلام، فأخذه رجل من المسلمين، فإن أبا حنيفة كان يقول: هو فيء لجميع المسلمين. وقال أبو يوسف ومحمد: هو فيء لمن أخذه خاصة، ولا خمس عليه فيه، وروي عنهما: أن فيه الخمس). قال أحمد: روي عن أبي حنيفة أيضا روايتان في وجوب الخمس

فيه، فأوجبه في إحداهما، ولم يوجبه في الأخرى. وكان أبو الحسن الكرخي رضي الله عنه يقول: إن الصحيح من مذهب أبي حنيفة: أن لا خمس فيه، والصحيح من مذهب أبي يوسف ومحمد: أن فيه الخمس. فأما وجه قول أبي حنيفة أنه فيء لكافة المسلمين: فهو أنه قد صار مظهورا عليه بدخوله دارنا، كما يصر مظهورا عليه لو غلبنا على دار الحرب، فكما يكون فيئا إذا ظهرنا على دار الحرب، كذلك بدخوله دارنا. وليس يقتضي صحة الظهور عليه أن يكون في يد إنسان بعينه، ألا ترى أن الظهور على دار الحري يوجب أن يكون جميع ما فيها فيئا وإن لم تحصل عليه يد، فكذلك هذا الحربي ينبغي أن يصير فيئا، بكونه مظهورا عليه بدخوله دارنا وإن لم يحصل في يد. وعن أبي يوسف ومحمد: لا يصير مظهور عليه بحصوله في دارنا حتى تحصل عليه يد، فيكون صاحب اليد أولى به، كالركاز غير مظهور عليه بكونه في دارنا، حتى إذا حصلت عليه يد لإنسان بعينه: كان أولى به، وفيه الخمس، كذلك حكم هذا الحربي. *وأما وجه قول أبي حنيفة في إسقاطه الخمس عنه: فهو أن الخمس إنما يجب فيما تثبت فيه سهام المقاتلة، فيكون لهم فيه أربعة أخماس، فإذا لم يجب فيه ذلك: لم يجب فيه الخمس. يدل على ذلك: الجزية وخراج الأرضين، أنه فيء ولا خمس فيه؛ لأن الأربعة الأخماس لم يستحقها المقاتلة.

*ووجه الرواية الأخرى في إيجابه: أنه مظهور عليه، كما أنا إذا ظهرنا على دارهم: وجب فيه الخمس. مسألة: [ما غنمه فرد مسلم خرج إلى دار الحرب بغير إذن الإمام] قال أبو جعفر: (ومن دخل دار الحرب وحده بغير إذن الإمام، فغنم غنيمة: فهي له، ولا خمس فيه). قال أحمد: الأصل في ذلك: قول الله تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب}. فلم يجعل للجيش حقا فيما لم يغنم بظهورهم وقوتهم، وجعل الحكم فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فما غنمه الرجل الداخل دار الحرب، مغيرا بغير إذن الإمام: فلا حق لسائر الناس فيه، ولا خمس فيه أيضا، لأنه غنمه بغير قوة الإمام والمسلمين، فلا يستحقون منه شيئا، ويكون هو أولى به، وذلك لأن الحق في الغنيمة إنما يجب بأحد وجهين: أحدهما: مباشرة القتال. والآخر: بأن يكون ردءا للمقاتلة، وكذلك حكم حق الخمس إنما يتعلق بذلك. *والواحد والاثنان إذا دخلا دار الحرب بغير إذن الإمام: فإنهما خارجان عن نصرة الإمام، فلم يستحق الخمس فيما غنماه.

فإن قيل: يجب بعموم قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه}. قيل له: ما يؤخذ على وجه التلصص ليس بغنيمة، إنما الغنيمة من أوجف عليه بالمنعة، وما أخذ على غير هذا الوجه، فهو بمنزلة أخذ المباحات من الصيد وغيره. *وليس كذلك إذا دخلها بإذن الإمام: فإنه يخمس ما غنمه، والباقي فهو له، لأن الإمام في هذه الحالة ردء له، فهو بمنزلة السرية، لأنه إذا أمره بذلك فعليه نصرته، وإذا خرج بغير إذنه فهو عاص، خارج عن نصرة الإمام له، ومعونته إياه. وقد روى محمد بن الحسن في السير عن سفيان الثوري عن عمال الدهني عن سالم بن أبي الجعد قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فشكا إليه الحاجة فقال: اصبر، فرجع إلى قومه، فقال: قال: اصبر. قال: فذهب، فأصاب من العدو غنيمة، فأتى بها النبي عليه الصلاة والسلام فأخبره، فطيبها له، فأنزل الله: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا*

ويرزقه من حيث لا يحتسب {. فلم يخمسه النبي صلى الله عليه وسلم حين غنمه وحده بغير إذن النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضًا: فإنه إذا دخلها بغير إذن الإمام ولا منعة له، صار ما يأخذه من دار الحرب بمنزلة سائر المباحات المأخوذة من دار الحرب، أو دار الإسلام، كالصيد والحطب، فيكون له خاصة، ولذلك قال أصحابنا: إن كانوا جماعة لا منعة لهم: اشتركوا فيما أخذوا بالسواء، لا يفضل الفارس منهم على الراجل، كما يشتركون بالسواء في صيد لو صادوه. مسألة: قال أبو جعفر: (وكذلك الاثنان والثلاثة حتى يكون الداخلون لهم منعة، فيكونون بذلك في حكم السرية: فيُخمس ما أصابوا، كذلك قال محمد، ولم يحك خلافًا. وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف: أنهم كالواحد، ولا يُخمَّس ما أصابوا، حتى يكون عددهم تسعة فصاعدًا، فيكونون بذلك في حكم السرية، ويخمَّس ما أصابوا).

قال أحمد: إذا صار لهم منعة: لم يعتبر فيه إذن الإمام في باب وجوب حق الخمس، وذلك أن ما أخذ على هذا الوجه فهو غنيمة؛ لأنه أوجف عليه بالمنعة، يدل عليه قوله تعالى:} فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب {، فصاروا بمنزلة السرية والجيش العظيم إذا دخلوا دار الحرب بغير إذن الإمام، فيخمَّس ما أصابوا. وأما محمد: فلم يذكر عددًا في ذلك، وإنما اعتبر أن يكون لهم منعة، وأبو يوسف اعتبر تسعة فصاعدًا، وطريق إثبات الأعداد والمقادير في مثل ذلك: الاجتهاد أو التوقيف، ولا سبيل إلى إثباتها من طريق المقاييس، ومتى عدمنا التوقيف، وصار الأمر إلى الاجتهاد، سقط السؤال عنا في إقامة الدلالة على إثبات هذا المقدار بعينه دون غيره، لأن رجوعه حينئذ يكون إلى غالب الظن، وأكبر الرأي، كتقويم المستهلكات، وتقدير النفقات، ومهر المثل ونحوها. فإن قيل: فينبغي أن يكون لاعتبار التسعة دون غيرها جهة من الاجتهاد، لا بدَّ للقائل بها من إظهارها، والإبانة عنها. قيل له: جهة الاجتهاد فيه، أنَّ السرية التي يحصل بها امتناع في أكثر الحال، لا بد من أن تكون جماعة تدخل في حد الكثرة، والتسعة لها من المزية في ذلك ما ليس لغيرها، وهي أنَّ أقل الجمع الصحيح ثلاثة، والتسعة هي جمع الجمع، فيحصل بها معنى الكثرة التي يتعلق حكم

الامتناع بها، فكانت هذه جهة يسوغ اعتبارها فيما وصفنا. مسألة: [كيفية تصرف الذين في السفينة إذا رماها العدوُّ بالنار] قال: (ومن كان من المسلمين في السفينة في البحر، فرماها العدو بالنار، فعملت فيها: فإن المسلم الذي فيها بالخيار: إن شاء صبر على النار حتى تحرقه، وإن شاء ألقى نفسه في الماء وإن كان يعلم أنه يموت فيه غرقًا. هكذا كان أبو حنيفة يقول. قال: وقال محمد: إن أيقن بالهلاك في الماء أو النار، لم يلق نفسه في الماء؛ لأنه يصير قاتلاً لنفسه بفعله، وهلاكه في السفينة ليس من فعله). قال أحمد: وذكر محمد جواب هذه المسألة في السير الكبير عن أبي حنيفة مجملاً، لم يفصل فيه وجوهها، فقال: قال أبو حنيفة: إذا أحرق المشركون سفينة من سفن المسلمين، فإن صبر المسلم على النار حتى تحرقه كان في سعة، وإن سقط في البحر فغرق كان في سعة، ولم يفصل وجوه المسألة في غلبة الظن في الرجاء، أو خوف الهلاك. وذكر محمد عن نفسه وجوه المسألة على أربعة أنحاء: إما أن يرجو النجاة في الماء، ولا يرجوها في السفينة: فيطرح نفسه إلى الماء. أو يرجوها في البقاء في السفينة، ولا يرجوها في إلقاء نفسه في الماء: فيثبت في السفينة، لا يسعه غير ذلك.

أو يعتدل الرجاء والخوف في الثبات في السفينة أو إلقاء نفسه في الماء: فهو كما قال أبو حنيفة، هو بالخيار: إن شاء ثبت، وإن شاء ألقى نفسه في الماء. قال: وإن أيقن بالهلاك فيهما جميعًا، ثبت في السفينة، ولم يلق نفسه في الماء؛ لأن التغريق يكون من فعله، والإحراق من فعل غيره. قال أحمد: فحاصل موضع الخلاف بينهما: إذا حصل اليقين أو غلبة الظن في الهلاك، غرق نفسه، أو ثبت في السفينة: فقال أبو حنيفة: إن شاء ثبت، وإن شاء ألقى نفسه في الماء. وقال محمد: لا يسعه إلقاء نفسه في الماء إذا لم يرجُ به نجاة. فوجه قول أبي حنيفة: أن هلاكه بالماء أيسر عليه منه بالنار، فله أن يلقي نفسه في الماء، وقد قال أصحابنا جميعًا: لو قال له: لنعذبنَّك بالنار، أو لتلقين نفسك في الماء: أنه في سعة من إلقاء نفسه في الماء؛ لأن هلاكه على هذا الوجه، أيسر من هلاكه بالنار، وفيه دفع ضرر النار وما يلحق بها من الآلام عن نفسه. وأما إذا اعتدل الرجاء والخوف في الخلاص: فله أن يلقي نفسه في الماء عندهم جميعًا؛ لأنه يرجو الخلاص بإلقاء نفسه في الماء، فلم يكن فيه إعانة على قتل نفسه.

مسألة: [حكم الإسهام لمن قاتل في البحر ومعه دابته] قال: (ومن غزا في البحر ومعه دابة: أسهم لها وإن كان لا يحتاج إلى القتال عليها فيه). وذلك لأنهم لو كانوا في البر فقاتلوا رجالة: استحق سهم الفارس من كان منهم معه فرس، لأن النزال أشد ما يكون في الحرب. قال عنترة: ودعوا نزالاً فكنت أول نازل .... وعلام أركبه إذا لم أنزل وقال آخر: لم يطيقوا أن ينزلوا منزلنا .... وأخو الحرب من أطاق النزالا فكما لم يبطل سهم الفارس بالنزول، كذلك إذا كانوا في البحر؛ لأن الحاجة إلى الفرس قائمة لو أنهم صاروا إلى الساحل. مسألة: [الذين تلزمهم الجزية] قال أبو جعفر: (ولا تجب الجزية إلا على الرجال الأحرار البالغين المعتملين).

قال أحمد: والأصل فيه أن الجزية واجبة على من كان منهم من أهل القتال، لقول الله تعالى:} قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر {الآية. فإنما أمر بأخذ الجزية ممن يقاتل، وليست المرأة ولا الصبيان والزمنى والشيوخ الضعفى من أهل القتال. وأيضًا: فلا خلاف بين الفقهاء أن الصبيان والنساء لا جزية عليهم، والمعنى فيهم: أنهم ليسوا من أهل القتال، فكل من كان بمثابتهم من الزمنى- والشيوخ منهم- حكمه حكمهم. وما روي أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام: "أمر أن تؤخذ من كل حالم وحالمة دينار": فإنه كان على جهة الصلح.

[مسألة: قدر الجزية] قال أبو جعفر: (ويؤخذ من الغني منهم ثمانية وأربعون درهمًا، ومن الوسط منهم أربعة وعشرون درهمًا، ومن الفقير اثنا عشر درهمًا). والأصل فيه: ما روي عن عمر بن الخطاب أنه وضع الجزية على أهل السواد، وجعلهم ثلاث طبقات على نحو ما ذكرنا، وذلك بمحضر الصحابة، من غير نكير من أحد منهم عليه، ولا إظهار خلاف، فصار ذلك إجماعًا منهم، لا يسع خلافه. كما صالح بني تغلب على تضعيف الحق الذي يجب على المسلمين في مواشيهم. وكما وضع الخراج على أراضي السواد، وأقر أهلها عليها. ونظائر ذلك من الأمور التي عقدها لكافة الأمة على أصناف من الناس، فلم يختلف عليه فيها في عصره، ولا من بعده من الأئمة،

فصار إجماعًا. وأيضًا: فكل عقد عقده إمام من أئمة العدل على كافة المسلمين، فهو لازم لأول الأمة وآخرها، لقول عليه الصلاة والسلام: "ويعقد عليهم أولهم". فإن قيل: فقد روى مسروق عن معاذ "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم دينارًا". قيل له: كان ذلك على وجه الصلح، ويدل عليه: ما روى محمد بن جعفر عن عوف عن الحسن قال: بلغني "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض على أهل اليمن في كل عام على كل حالم: ذكرٍ أو أنثى، عبدٍ أو حرٍّ: دينارًا أو قيمته من المعافر". ومعلوم أنَّ المرأة لا يؤخذ ذلك منها إلا على وجه الصلح. مسألة: [حكم من لم يؤخذ منه الخراج حتى دخلت عليه سنة أخرى] قال: (ومن وجب عليه خراج رأسه، فلم يؤخذ منه حتى مضت السنة

التي وجب فيها، ودخلت سنة أخرى: لم يؤخذ منه شيء لما مضى في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: يؤخذ منه). وجه قول أبي حنيفة: أنَّ الجزية مأخوذة على وجه العقوبة؛ لقول الله تعالى:} حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون {، فلا يجوز أن يجتمع ذلك عليه لسنتين، كما لا يجوز أن يجتمع عليه إيجاب حدين من جنس واحد، لأن الحدود أيضًا عقوبات. وإنما اعتبر دخول السنة الثانية، لا مُضيُّها: من قبل أنَّ الخراج إنما يجب عليه في أول السنة، وفي حال ما أقررناه في دارنا بالذمة. ويدل عليه: قوله تعالى:} قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر {إلى قوله:} حتى يعطوا الجزية عن يد {. فأوجب قتالهم إلى وقت إعطاء الجزية، فصح أنَّ وجوبها متعلق بزوال القتال، والقتال لا محالة زائل عنهم بدخولهم في الذمة، فوجب أن تلزم الجزية في تلك الحال، ثم إذا مضت سنة وجبت أيضًا، فوجب الاقتصار على إحداهما على النحو الذي وصفنا في الحد. ويدل عليه: موافقة أبي يوسف ومحمد لأبي حنيفة: أنَّ موته يسقطها، والمعنى فيه: أنَّ موضوعها لما كان موضوع الصغار والذلة، وكان ذلك

معنى لا يتأتى بعد الموت: لم يجز أخذها؛ لأنها حينئذ تكون مأخوذة على غير وجهها، وإذا صح الاعتبار في الموت، صح أيضًا في دخول سنة أخرى، من حيث امتنع اجتماع عقوبتين عليه من جنس واحد. فإن قيل: الجزية لما كانت مأخوذة لأجل إقراره في دارنا، أشبهت الإجارة، فوجب أن لا يسقطها الموت، ولا دخول سنة في أخرى. قيل له: ليس موضوع الجزية موضوع الإجارة؛ لأن الإجارة بدل من منافع الشيء المستأجر، وليست الجزية بدلاً من شيء من المنافع، وإنما هي لأجل ترك قتاله فحسب، لقوله تعالى:} قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله {إلى قوله:} حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون {، فأخبر أن الجزية مأخوذة بزوال القتال عنهم. وأيضًا: فالذمي متصرف في دارنا في ملكه، فكيف يجب عليه أجرة ملكه؟ وأيضًا: فالأجرة ليست بصغار، والجزية صغار، فإذًا ليست بأجرة، وموضوعها موضوع الصغار، فلا يصح أخذها إلا على هذا الوجه، ومن أجل ذلك قالوا في الذمي إذا أسلم: إنه يسقط عنه خراج رأسه لما

مضى إن لم يكن قد أداه، لأن أخذها في هذه الحال لا يجوز على جهة الذل والصغار، لأنه مسلم، فإذًا الجزية الواجبة على وجه الذل والصغار قد سقطت، والإسلام لا يُلزمه جزية أخرى. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا جزية على مسلم"، وذلك يقتضي سقوط ما كان وجب عليه في الكفر بالإسلام. ولهذا المعنى قالوا فيمن وجبت عليه زكاة ماله ثم مات: إنها تسقط بالموت، ولا تؤخذ من ماله، إلا أن يوصي بها، فتؤخذ من جهة الوصية، لأن الزكاة عبادة، فيجب إخراجها على هذا الوجه، وذلك معنى يمنع إخراجها عنه بعد الموت، لأن الميت لا يجوز أن تبقى عليه عبادة، ولو أخذناها بعد الموت، لم تكن زكاة، إذ موضوع الزكاة أنها عبادة، فلا يصح أخذها إلا على هذا الوجه. وكذلك قال أبو حنيفة فيمن لزمته نفقة امرأته، ثم مات قبل أن يعطيها، أو ماتت هي: إنها تسقط. وكذلك لو أسلفها نفقة سنة، ثم مات أحدهما في الحال: لم يرجع في شيء مما أعطاها، وذلك لأن النفقة موضوعها موضوع الصِّلات، لأنها ليست ببدل عن شيء، لأن الاستمتاع وحبسها في بيته معنى مستحق عليها

بعقد النكاح، فهو واقع في ملكه، وتصرف الإنسان في ملك نفسه لا يوجب عليه البدل، فدل أنَّ النفقة ليست ببدل عن شيء، وأن حكمها حكم الصلة والهبة، وذلك معنى يمتنع وقوعه بعد الموت، فلهذا سقط الماضي، ولم يرجع فيما أسلف، لأن الموت يقطع صحة الرجوع في الصلة، ولأنه لا يرجع فيما وهبه لامرأته. مسألة: [بيان قدر الخراج الذي فُرض على السواد] قال أبو جعفر: (وفي أرض السواد على كل جريب يصلح للزرع درهم وقفيز، وعلى كل جريب الكرم عشرة دراهم، وعلى جريب الرطبة خمسة دراهم). قال أحمد: الأصل فيه: ما فعله عمر في أرض السواد، حين بعث حذيفة وعثمان بن حنيف لمساحتها، ووضع الخراج عليها، فلما رجعا أخبراه بذلك، وذكرا أنهما قد وضعا عليها الخراج على الوجه الذي ذكرنا، فقال: لعلكما حملتما أهل الأرض ما لا يطيقون؟

فقالا: تركنا لهم فضلاً. فأقرَّ ذلك عمر بحضرة الصحابة، فثبتت حجته من جهة ما هو إجماع، ومن جهة أنَّ الخلفاء بعده لم يغيروه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، وقد مضى حكم الخلفاء الراشدين بذلك، فأوجب ذلك صحته. ومن جهة قوله صلى الله عليه وسلم: "ويعقد عليهم أولهم". ويدل على صحة فعل عمر ذلك في السواد: ما روى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر أردبها ودينارها، وعدتم كما بدأتم". فأخبر عليه الصلاة والسلام عن مجيء الزمان الذي يمنع الناس فيه حقوق الله الواجبة، وأخبر أنَّ الحق الممنوع من أهل العراق الدرهم والقفيز، ألا ترى إلى قوله: "وعدتم كما بدأتم"، فثبت وجوب الدرهم والقفيز، اللذين وضعهما عمر على أرض السواد، فإنه كان حقًا وصوابًا، وإذا ثبت ذلك في الدرهم والقفيز، ثبت أيضًا في وضعه

على الكرم والرطبة. [مسألة:] قال أبو جعفر: (وما كان من أرض السواد قد صنع للزعفران والفواكه، لا يصلح للزرع: وُضع عليه من الخراج بقدر ما يطيق). وذلك لما روي عن عمر حين قال لعثمان بن حنيف وحذيفة: "لعلكما حملتما أهل الأرض ما لا يطيقون؟ فقالا: بل تركنا لهم فضلاً"، فأخبرا أن هذا الحق موضوع على قدر الطاقة. مسألة: [وضع الجزية على العبد النصراني إذا عتق] قال: (ومن أعتق من المسلمين عبدًا نصرانيًا: وُضع عليه الخراج كما يوضع على النصراني النبطي). وذلك لقوله تعالى:} قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله {إلى قوله:} حتى يعطوا الجزية

عن يدٍ وهم صاغرون {. فعم جميع أهل الكتاب بأخذ الجزية، ولم يفرق بين مولى المسلم وغيره. فإن قيل: روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "مولى القوم منهم". قيل له: معلوم أنه لم يرد به أنه منهم في حكم الإسلام والكفر، لأن مولى المسلم لا يكون مسلمًا بإسلام معتقه، وكذلك مولى الكافر لا يكون كافرًا بكفر معتقه، وإذا لم يلحق به في حكم الإسلام والكفر، وكانت الجزية من أحكام الكفار: لم تسقط عنه لأجل إسلام مولاه المعتق. مسألة: [بيان المراد بدار الحرب ودار الإسلام] قال: (وإذا ارتد أهل بلد وقد جرى فيه حكمهم: فإنه يصير دار حرب، اتصلت بدار الحرب أم لم تتصل، في قول أبي يوسف ومحمد). قال أحمد: ولا تصير دار حرب عند أبي حنيفة حتى يجتمع فيها ثلاثة أشياء: أن تكون متاخمة لأرض الحرب، لا يكون بينها وبين دار الحرب شيء من دار الإسلام. والثاني: أن يجري حكم أهل الكفر فيها.

والثالث: أن لا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمنًا. فإذا اجتمع فيها هذه الخلال الثلاث: صارت أرض حرب، ومتى قصر عن شيء منها: لم تكن دار حرب. قال أحمد: وذلك في نحو بلد القرمطي، أنه دار حرب وإن كان حواليه دار الإسلام في قولهما؛ لأن حكم الكفر قد ظهر فيه، لما أظهروا فيه من دين المجوس، وعبادة النيران، وشتم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فلو أن إمامًا عادلاً ظهر عليهم: جاز له استغراق أهله بالقتل، وسبي النساء والذرية، بمنزلة سائر دور الحرب. ووجه هذا القول: أنَّ حكم الدار إنما يتعلق بالظهور والغلبة، وإجراء حكم الدين بها، والدليل على صحة ذلك: أنا متى غلبنا على دار الحرب،

وأجرينا أحكامنا فيها: صارت دار الإسلام، سواء كانت متاخمة لدار الإسلام أو لم تكن، فكذلك البلد من دار الإسلام، إذا غلب عليه أهل الكفر، وجرى فيه حكمهم: ووجب أن يكون من دار الحرب. ولا معنى لاعتبار بقاء ذمي أو مسلم آمنًا على نفسه؛ لأن المسلم قد يأمن في دار الحرب، ولا يسلبه ذلك حكم دار الحرب، ولا يوجب أن يكون من دار الإسلام. * وأما وجه قول أبي حنيفة في اعتباره ما وصفنا من الخلال الثلاث: فهو أنها إذا لم تكن متاخمة لأرض الحرب، وحواليها دار الإسلام، فلا حكم لتلك الغلبة، لأنها بعدُ في منعة المسلمين، فهو بمنزلة سرية من أهل الحرب، لو التجؤوا إلى حصن من حصون المسلمين، وأحاط به جيش المسلمين، فلا يوجب حصولهم في الحصن، أن يصير الحصن من دار الحرب مع إحاطة جيوش الإسلام، فكذلك المدينة العظيمة إذا ارتد أهلها، أو غلب عليها أهلها، وحواليها مدن الإسلام، فمعلوم أنَّ منعة الإسلام باقية هناك، لإحاطتهم بها. * واعتبر أيضًا جريان الحكم، لأن الموضع الذي تحصل فيه السرية من بقاع دار الإسلام وإن كانت متصلة بأرض الحرب، لا تصير من دار الحرب، لأنهم غير متمكنين لإجراء الحكم، وكذلك سرية المسلمين إذا دخلت دار الحرب، لا تصير البقاع التي حصلوا فيها من دار الإسلام، ما لم يتمكنوا فيها لإجراء أحكامهم. * واعتبر أيضًا: أن لا يكون هناك مسلم أو ذمي آمنًا على نفسه، لأن

كونه آمنًا على نفسه، يبقي الموضع في حكم دار الإسلام على ما كان عليه، وذلك يمنع من انتقاله إلى حكم دار الحرب. قال أحمد: والذي أظن أنَّ أبا حنيفة إنما قال ذلك على حسب الحال التي كانت في زمانه من جهاد المسلمين أهل الشرك، فامتنع عنده أن تكون دار حرب في وسط دار المسلمين، يرتد أهلها فيبقون ممتنعين دون إحاطة الجيوش بهم من جهة السلطان، ومطوعة الرعية. فأما لو شاهد ما قد حدث في هذا الزمان، من تقاعد الناس عن الجهاد، وتخاذلهم، وفساد من يتولى أمورهم، وعداوته للإسلام وأهله، واستهانته بأمر الجهاد، وما يجب فيه، لقال في مثل بلد القرمطي بمثل قول أبي يوسف ومحمد، بل في كثير من البلدان التي هذه سبيلها، مما نكره ذكره في هذا الموضع. مسألة: [حكم ديار المسلمين التي استعادها المسلمون بعد أن ارتدت وصارت دار حرب] قال أبو جعفر: (وإن افتتح المسلمون ما قد صار من دور أهل الإسلام دار حرب، فجاء أهله قبل أن يقسم: ردَّه عليهم، وعاد على حكمه الأول من الخراج والعشر، وإن جاؤوا بعد ما قُسم: لم يأخذوه إلا بالقيمة، فإذا أخذوه بها، عاد إلى حكمه الأول أيضًا، إلا أن يكون الإمام قد جعل عليه الخراج قبل ذلك، فإنه إن كان ذلك، فإنه لا يزول عنه الخراج بعد ذلك). قال أحمد: من أصلهم: أنَّ المالك الأول إذا أخذ ما غلب عليه أهل الحرب نحو ملكه المتقدم، أنه يعود إليه على حكم الملك الأول، ويفسخ صك الذي أخذه منه، كأنه لم يكن، وإذا عاد إليه على حكم الملك

المتقدم، عادت الأرض إلى حكمها بدءًا، فإن كانت من أرض الخراج أو العشر، عادت إليه على ما كانت عليه، ويسقط حكم ما يثبت عليها في الملك الثاني. وهو بمنزلة ذمي اشترى أرض عشر شراء فاسدًا، فجعل عليه الخراج، ثم إن البائع فسخ البيع فيها، فتعود إليه على ما كانت عليه من العشر، ويسقط حكم ملك المشتري، كأنه لم يكن. وكذلك قالوا: لو اشتراها الذمي شراء صحيحًا، فجُعل عليه فيها الخراج، ثم أخذها مسلم بالشفعة: أنها تعود إلى العُشر، ويسقط ما كان جُعل عليه من الخراج، والمعنى في ذلك: أنَّ المالك الأول إنما يثبت له الحق في فسخ ملك المشتري، وإعادته إلى ملكه على ما كانت عليه، كما ثبت ذلك للبائع بيعًا فاسدًا، فإذا عادت إليه على الملك الأول، عادت إليه بحقوقها، وسقط الحق الذي يتعلق بها في ملك الثاني. والشفيع أيضًا بهذه المنزلة، لأن حقه سابق لحقِّ المشتري، لأن حقه يجب بخروج الشيء من ملك البائع قبل دخوله في ملك المشتري، لأن حقه يجب بخروج الشيء من ملك البائع قبل دخوله في ملك المشتؤي، ألا ترى أنَّ حقه يجب مع شرط الخيار للمشتري وإن لم يدخل في ملكه بخروجه من ملك البائع. قال أحمد: وذكر أبو جعفر أنَّ الإمام إذا كان قد جعل عليها الخراج قبل مجيء المالك الأول، ثم جاء الأول فأخذها، أنَّ الخراج لا يزول

عنها، ولا أدري من أين وقعت إليه هذه الرواية؟ وقد قال محمد في الزيادات: إنها إذا كانت عشرية في الأصل، فغلب عليها العدو، ثم ظهر عليها الإمام، وأقر أهلها عليها، وجعلها أرض خراج، ثم جاء المالك الأول: أنه يأخذها بالقيمة، وتعود إلى ما كانت عليه من العشر، ويبطل الخراج الذي وضعه عليها الإمام. مسألة: [إذا عجز شخص عن عمارة أرضه الخراجية] قال: (ومن كانت له من المسلمين أرض خراج، فعجز عن عمارتها: أجرها الإمام عليه، وأخذ من أجرتها الواجب عليه من خراجها، ثم دفع باقي فضلها إليه). قال أحمد: وهذا ينبغي أن يكون قول أبي يوسف ومحمد، دون قول أبي حنيفة، لأن أبا حنيفة لا يرى جواز الحجر على الحر البالغ، ولا بيعه وإجارته عليه، ولكنه يأمره بذلك من غير أن يعقد الإمام عليه عقد إجارة بغير أمره. وفي قولهما قد يجوز الحجر على الحر لأسباب توجيه، وحقوق المسلمين ثابتة في الأرض، إذا أمكن الإمام أن يتوصل إليها بالإجارة: فعل ذلك. وقد روي "عن علي رضي الله عنه في رجل أسلم من أهل السواد: أنه

إن أقام على أرضه، وإلا فنحن أحق بها". ومعناه: بإجارتها، واستيفاء حق الخراج منها. وروي نحوه عن عمر في دهقانة نهر الملك حين أسلمت. * ... * ... * ... *

كتاب الصيد والذبائح

كتاب الصيد والذبائح مسألة: [ما يجوز الذبح به] قال أبو جعفر: (وكل ما ذبح به، فأنهر الدم، وقطع الأوداج، فإنه يؤكل المذبوح به، إلا أن يكون المذبوح به سنًّا قائمة في صاحبها، أو ظفرًا قائمًا في صاحبه: فإنه لا يؤكل ما ذبح بهما). قال أحمد: أما جواز الذبيحة بسائر ما ذكرنا، فإن الأصل فيه: ما حدثونا به عن أبي داود عن موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن مري بن قطري عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت إن أحدنا أصاب صيدًا، وليس معه سكين، أيذبح بالمروة، وشقة العصا؟ قال: أمرر الدم بما شئت، واذكر اسم

الله عز وجل". وروى زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني حارثة "أنه كان يرعى لفحة بشعب من شعاب أحد، فأخذها الموت، فلم يجد شيئًا ينحرها به، فأخذ وتدًا، فوجأ به في لبتها حتى أهريق دمها، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فأمره بأكلها". فعموم هذه الأخبار يقتضي جواز الذبيحة بسائر الآلات، فلولا ما روي في استثناء الظفر والسن، لأجزنا الذبيحة بهما. وذلك ما رواه سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة عن أبيه عن جده رافع بن خديج قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إنا نلقى العدو غدًا، وليس معنا مُدَى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنهر الدم، وذكرت اسم الله: فكل، ما لم يكن سن أو ظفر،

وسأحدثكم بذلك، أما السن: فعظم، وأما الظفر: فمدى الحبشة". فخصصنا السن والظفر من جملة الآلات التي يقع بها الذبح بهذا الخبر، وجمعنا بينه وبين سائر الأخبار المتقدمة في الاستعمال. وإنما أجزنا الذبيحة بالظفر أو السن المنزوعين: من قبل وجود دلالة اللفظ على أنَّ المراد غير المنزوعين؛ لأنه قال في الظفر: إنه مدى الحبشة، وأولئك إنما يذبحون به وهو قائم في الإصبع. وأيضًا: فإنه قال: "أنهر الدم بما شئت غير مثرد"، والتثريد: التقطيع من غير فري، وذلك يكون في السن أو الظفر القائمين غير المنزوعين، فأما إذا كانا منزوعين، فهما بمنزلة شقة العصا، والمروة ونحوهما. مسألة: [حكم التسمية على الذبيحة] قال أبو جعفر: (من ترك التسمية على ذبيحته، أو على إرسال جارحة متعمدًا: لو تؤكل ذبيحته ولا صيده، وإن ترك ذلك ناسيًا: أكلت ذبيحته وصيده).

أما إذا تركها متعمدًا، فإن الأصل في امتناع جواز أكلها: قول الله تعالى:} ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق {، فاقتضى عمومه تحريم جميع ما تركت التسمية عليه. فإن قيل: إن حكم هذه الآية مقصور على السبب الذي نزلت عليه، وذلك لأن المشركين جادلوا المسلمين، فقالوا: تأكلون مما قتلتم، ولا تأكلون مما قتل الله؟! فأنزل الله تعالى ذلك. فيدل على أنها نازلة على سبب قوله تعالى في سياق التلاوة:} وإن

الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم {، وإنما أنزل الله ذلك ردًا لقولهم، وحظرًا لأكل ذبائح المشركين، لأنهم يهلون به لغير الله. وهو نظير قول الله تعالى:} وما أهل لغير الله به {، وهو ذبائح المشركين. قيل له: نزول الآية على سببٍ، لا يوجب الاقتصار بحكمها على ما نزلت فيه، بل الحكم عندنا للفظ إذا كان أعم من السبب. وعلى أنه إن كان المراد بها ما ذكرت من تحريم ذبائح المشركين: فليس فيه ما يوجب تخصيص حكمه فيما وصفت، دون ما اقتضاه اللفظ؛ لأنه جعل ترك التسمية عليه علمًا لكونه ميتًا، فصار ذلك عبارة عنها، ولا فرق حينئذ بين ما تُرك عليه التسمية وبين الموت، فدلالتها قائمة مع نزولها على السبب من الجهة التي وصفنا. فإن قيل: هذا يقتضي تحريم أكله مع ترك التسمية عليه ناسيًا. قيل: هو كذلك، إلا أنا خصصناه بدلالة. وأيضًا: فإن سياق الآية ما يدل على أنَّ المراد حال العمد دون النسيان، لأنه قال:} وإنه لفسق {، والناسي لا يلحقه حكم التفسيق فيما هو ناسٍ له.

فإن قيل: قوله:} وإنه لفسق {: يدل على أنَّ المراد ذبيحة المشرك، لاتفاق الجميع على أن مستبيح أكله مع ترك التسمية عامدًا: لا يلحقه حكم التفسيق. قيل له: قد يلحقه حكم التفسيق عندنا من وجه، وهو أن يعتقد تحريمه على الوجه الذي قلنا، ثم يأكله، وإنما لم يفسق من لم يعتقد تحريمه؛ لأنه ذهب عن ظاهر الآية بضربٍ من التأويل. وأيضًا: فإن قوله:} وإنه لفسقٌ {: عمومه يوجب تفسيق آكله على جميع الوجوه، إلا أنَّ الدلالة قد قامت في بعض المواضع على زوال سمة الفسق عنه، فخصصناه بالدلالة، وبقي حكم العموم فيما اقتضاه اللفظ. وأيضًا: قوله:} وإنه لفسقٌ {: لا يقتضي أن يكون تحريم الأكل فيما لم تذكر عليه التسمية مقصورًا فيما يلحق متناوله سمة الفسق، إذ لا يمتنع إجراء حكم على عموم لفظ، ثم عطفه عليه ببعض ما يتناوله اللفظ، ولا يقتضي ذلك الاقتصار بحكم اللفظ العام على ما تناوله حكم المعطوف. كقوله:} ووصينا الإنسان بوالديه حسنًا {، وذلك عام في الأبوين المسلمين والكافرين، وقوله:} وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به

علمٌ {، حكم خاص في الكافرين، ولم يقتض ذلك خصوص حكم ابتداء الخطاب، ونظائره كثيرة. * ومن جهة الأثر: ما حدثنا عن أبي داود قال: حدثنا محمد بن كثير قال: أخبرنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي قال: قال عدي بن حاتم: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المعراض، فقال: إذا أصاب بحَدِّه فكل، وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل، فإنه وقيذ. قلت: أرسل كلبي؟ قال: إذا سمَّيت فكل، وإلا فلا تأكل، وإن أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه. وقال: أرسل كلبي فأجد كلبًا عليه آخر؟ فقال: لا تأكل؛ لأنك إنما سميت على كلبك". وقد رُوي هذا الخبر عن عدي بن حاتم من وجوه، في جميعها: "إذا أرسلت كلبك، وذكرت اسم الله تعالى عليه، فكل". فجعل التسمية شرطًا في إباحة أكله، لأن عديًّا سأله عما يحل أكله من الصيد، فأجابه عن جميع ما يحلُّ، وجعل شرط إحلاله وجود التسمية. * وأما خبر عبد الله بن أبي السفر الذي ذكرناه بدءًا، ففيه نص من

وجهين على تحريم أكله إذا ترك التسمية: أحدهما: قوله: "إذا سميت فكل، وإلا فلا تأكل" فنهاه عن الأكل عند ترك التسمية. الوجه الثاني: وقال: "إذا وجدت عليه كلبًا، فلا تأكل؛ لأنك إنما سميت على كلبك"، وأخبر أنَّ ترك التسمية، هو الموجب لتحريمه. فإن قال قائل: ذكر اسم الله تعالى على وجهين: أحدهما: باللسان، والآخر: بالقلب والاعتقاد، وهو الدين، وتسمية المسلم في قلبه، فاستغنى بها عن التسمية بالقول. كما روي: "إن خير الذكر: الخفي". قيل له: إذا قيل:} فاذكروا اسم الله {، فإن ذكر التسمية لا يكون إلا بالقول؛ لأن الاسم هو ما يوجد مقولاً مذكورًا، فأما اعتقاد الإنسان للإيمان، فليس يسمى ذكر اسم الله. وأيضًا: قد اتفقنا على جواز ذبيحة النصراني واليهودي عند وجود التسمية بالقول، ولو كان معنى التسمية من طريق اعتقاد الديانة، لما جازت ذبيحة الكتابي، لعدم اعتقاد الإيمان معه.

وأيضًا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم: "وإن لم تسم، فلا تأكل"، وكان هو مسلمًا، وقال: "لا تأكل صيد الكلب الآخر، لأنك لم تسم عليه". فإن قيل: لو كانت التسمية شرطًا في الذبيحة، لوجب أن لا يختلف فيها حكم العمد والسهو، كما أن فري الأوداج والحلقوم لما كان شرطًا فيها، لم يختلف حكم السهو والعمد في امتناع جوازها عند تركه. قيل له: ليس يمتنع اختلاف حكم السهو والعمد في بعض شرائط الذبيحة دون بعض، كما قلنا جميعًا في أنَّ ترك الكلام من شرائط الصلاة، ثم اختلف فيه حكم السهو والعمد عندك، وترك الجماع أيضًا من شرائطها، ثم استوى حكم السهو والعمد في إفسادها. وكذلك الأكل والمشي، وقلنا جميعًا إن ترك الأكل في الصوم من شرائط صحته، واختلف السهو والعمد. ووجود النية من شرائط صحته أيضًا، واستوى حكم السهو والعمد في امتناع جوازه عند عدمها. فليس يمنع أيضًا أن تكون التسمية من شرائط جواز الذبيحة، ويختلف حكم السهو والعمد فيه. فإن احتجوا: بما روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنهم "قالوا: يا رسول الله! إن قومنا حديثو عهدٍ بالجاهلية، يأتون بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليه أو لم يذكروا، أفنأكل منها؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سموا وكلوا". فأباح عليه الصلاة والسلام أكله، وإن لم يعلموا بوجود التسمية عليه قيل له: لولا أنَّ التسمية شرط في إباحته، لأخبرهم عليه الصلاة والسلام بأنه لا بأس بأكله مع ترك التسمية، ولأعلمهم فساد اعتقادهم في أنَّ ترك التسمية مانع من أكله، فلما لم ينكر عليهم ذلك، دل ذلك على صحة ما وصفنا. وإنما أباح لهم أكله؛ لأنه حمل أمور المسلمين على الصحة، وعلى ما يجوز دون المحظور، وكذلك نقول في ذبائح المسلمين أنها تؤكل ما لم نعلم أنه ترك التسمية عليها عامدًا. فصل: [حكم ترك التسمية نسيانًا] وأما إذا ترك التسمية عليها ناسيًا: فإنه يؤكل عند أصحابنا، وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنه، والحسن وعطاء وسعيد بن جبير. * وروي عن ابن عمر وإبراهيم النخعي وابن سيرين: أنه لا يؤكل، ويروى نحوه عن عبد الله بن يزيد الخطمي. والحجة لقولنا: ما روى بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عطاء بن أبي

رباح عن عبيد بن عمير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجاوز الله لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه". فأسقط عنه حكم لزوم التسمية في حال النسيان، فوجب أن لا يفسد بتركها. وأيضًا: فهو غير مكلَّف للتسمية في حال النسيان؛ لأن الناسي لا يصح تكليفه، وإذا كان كذلك، فقد حصلت الذبيحة على الوجه المباح، فيجوز أكلها. فإن قيل: النسيان لا يسقط بقاء حكم التكليف، كما لو نسي صلاة، لزمه قضاؤها. قيل له: هذه الصلاة التي تلزمه في حال الذكر، إنما هي فرضٌ لزم في الحال، وليست هي صلاة الوقت المنسية، وهو فلم يكن مكلفًا للصلاة في حال النسيان، وليس بعد وقوع الذبح على الوجه المباح ذبيحة أخرى يتعلق بها حكم الوجوب، فلذلك لم يلزمه شيء بعد الذكر. مسألة: [جواز الصيد بكل ذي ناب أو مخلب] قال أبو جعفر: (ولا بأس بالصيد بكل ذي نابٍ من السباع، وذي مخلب من الطير).

والأصل في ذلك: قول الله تعالى:} وما علمتم من الجوارح مكلبين {، فاحتمل قوله:} الجوارح {: معنيين: أحدهما: الكواسب التي تكسب على نفسها بالاصطياد، على معنى قوله تعالى:} ويعلم ما جرحتم بالنهار {، يعني ما كسبتم، وذلك إنما يكون في ذي الناب من السباع، وذي المخلب من الطير؛ لأن ما عداهما لا يكسب على نفسه باصطياد الحيوان. والمعنى الآخر: أن يكون الجوارح من الجارحة نفسها، وهو ما يجرح بنابٍ أو مخلب، فيكون المراد أيضًا: ذا الناب من السباع، وذا المخلب من الطير، فكان الوصفان جميعًا يرجعان إلى شيء واحد. الوجه الثاني: يقتضي أن تكون الإباحة معقودة بشرط وجود الجراحة في المصيد.

وأما قوله:} مكلبين {: فقد ذكر أنَّ معناه: مضرون، يعني التضرية على الصيد، ومعناه: التعليم. فالآية أفادت ثلاثة معانٍ: أحدها: جواز الاصطياد بكل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير. والثاني: أن يكون من شرط ذلك أن يكون معلَّمًا بقوله:} وما علمتم من الجوارح مكلبين {، وبقوله:} تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم {. والثالث: أن يكون قتل الصيد بجارحة تحصل فيه. ويدل على أن معنى الآية منتظم للسباع والطير: ما رواه جماعة عن عبد العزيز بن مسلم عن مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله! إن هذا الحي من طيء يتصيدون بهذا الكلب والطير، فما يحل لنا منها؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:} وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله {الآية"، فأجابه عن الطير والكلب جميعًا بالآية، فدل على أنَّ المراد بهذا الأمران جميعًا. مسألة: [ذبيحة من قطع الأكثر من الأوداج والحلقوم والمريء] قال: (ومن ذبح ذبيحة، فقطع الأكثر من الأوداج ومن الحلقوم والمريء قبل أن تموت، ثم ماتت: أكلها). وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنهر الدم بما شئت". وقوله: "إذا أنهرت الدم غير مثرد: فكل". وقال: "إذا أنهرت الدم وفريت الأوداج: فكل" وفي حديث عطاء بن يسار الذي قدَّمنا في أول الباب: "أنَّ رجلاً أخذ وتدًا وجأَ به في لبة شاة، حتى أهريق دمها، ثم أخبر رسول الله صلى الله

عليه وسلم بذلك، فأمره بأكلها". فأباح له أكلها وإن لم يقطع الأوداج والحلقوم كلها. فإن قيل: فلم يفرق في هذه الأخبار بين قطع النصف أو أقل، وقد قلت: إنه إذا بقي من هذه الأشياء النصف أو أكثر: لم يؤكل. قيل له: إنه وإن لم يذكر في الخبر، فقد قامت الدلالة من الأصول على أنَّ المراد قطع الأكثر، وأن بقاء الشيء اليسير منه لا حكم له. وجه الدلالة على ذلك: أنا وجدنا بقاء الأكثر من الأذن والذنب بمنزلة بقاء الجميع في باب جوازه من الأضحية، وذهاب الأكثر أو النصف منه بمنزلة ذهاب الجميع، لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه: "نهى أن يُضحَّى بالعضباء"، وقال سعيد بن المسيب:

"هي التي قد قُطع الأكثر من أذنها". فلما تعلق الحكم في باب جوازه عن الأضحية بالأكثر، وسقط حكم الأقل، قلنا في باب جواز الذكاة: يقطع الأكثر منه، وأسقطنا حكم الأقل؛ لأن ذلك حكم يتعلق بالذبيحة في الحالين. وأيضًا: فإنه إذا قطع الأكثر منها، لم يبق فيه من الحياة إلا بمقدار اضطراب المذبوح بعد قطع جميعها، فصار الجميع كأنه مقطوع. ولاتفاق الفقهاء على أنه إن بقيت من واحد من هذه الأشياء شظية: لم يمنع ذلك صحة الذكاة، فعلمنا أنَّ اليسير من ذلك معفو عنه، ولا حكم لبقائه. مسألة: [الذبح من أي موضع من الحلق] قال: (ولا بأس بالذبح في الحلق: أسفله ووسطه وأعلاه). وذلك لما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أنهرت الدم، وفريت الأوداج: فكل" وقال: "الذكاة في النحر واللَّبة"، ولم يخص منه موضعًا بعينه.

مسألة: [حكم من ذبح فقطع رأس البهيمة] قال: (ومن ذبح ذبيحة، فقطع رأسها: لم تحرم بذلك عليه إذا كان قد قطع الأكثر من أوداجها ومن حلقومها ومن مريئها قبل موتها). وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا أنهرت الدم، وفريت الأوداج: فكل"، وقال: "أنهر الدم بما شئت" مسألة: [الإبل تنحر والبقر والغنم تذبح] قال: (والإبل تنحر ولا تذبح، والبقرة والغنم تذبح ولا تنحر، وإن ذبح الجميع، أو نحر الجميع: كان مسيئًا، ولم تحرم بذلك). قال أحمد: الأصل في ذلك: ما حدثنا عن أبي داود حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا". قال غير مسلم: يقول: فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْح، وليُحِدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته". فندب عليه الصلاة والسلام إلى الوجه الذي هو أيسر على البهيمة،

ونحر البعير أيسر من ذبحه؛ لأنه إذا ذبح احتاج إلى قطع أجزاء كثيرة من اللحم إلى أن يبلغ الحلقوم والمريء، فكان النحر أوحى لإراحته، وفي الذبح زيادة في إيلامه من غير فائدة. وأما البقرة والشاة، فذبحهما أيسر عليهما؛ لأنه ليس على مذبحهما من اللحم ما يمنع سرعة الوصول إلى موضع الذكاة، فكانت ذكاتهما على هذا الوجه أوحى وأيسر. فإذا ذبح ما ينحر، أو نحر ما حكمه أن يذبح: كان مذكَّى؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "الذكاة في النحر واللبة"، وقوله: "إذا أنهرت الدم، وفريت الأوداج، فكل". ولأن هذا بمنزلة ما لو ذبح بسكين كالَّة، أو ذبح من القفا: فلا يمنع ذلك صحة الذكاة، ويكره لزيادة الإيلام الذي يقع فيها. مسألة: [حكم ذبائح أهل الكتاب وصيدهم] قال: (وذبائح أهل الكتاب وصيدهم جائزٌ حلالٌ للمسلمين). وذلك لقول الله تعالى:} وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم {

وهو عام في سائر الأطعمة من الذبائح وغيرها. وروي عن مجاهد وإبراهيم في تأويل هذه الآية: أنه الذبائح، وهذا لا خلاف فيه بين السلف، ولا بين فقهاء الأمصار. فإن قيل: هذا في غير الذبائح. قيل له: لا يجوز إخراج الذبائح منه، بدلالة أنَّ العموم يقتضيه. وعلى أنا لو أخرجنا الذبائح منه، لخلت الآية من الفائدة؛ لأن ما عدا الذبائح لا يختلف فيه حكم جميع الناس مسلمهم وكافرهم، فالظاهر يقتضي أن يكون ذلك في الذبائح خاصة. فإن قال: المراد أهل الكتاب الذين قد أسلموا. قيل له: إذا أسلموا: لم يكونوا أهل الكتاب، ويكونون مسلمين من أهل القرآن. فإن قال: هذا كقوله:} وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله {. قيل له: المراد الذين كانوا من أهل الكتاب، فآمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام. وعلى أنه لو كان هذا هو المراد: سقطت فائدة الآية؛ لأنه معلوم جواز

ذبائح المسلمين بغير هذه الآية. مسألة: [تحريم ما ذبح باسم المسيح] قال: (ومن سمى على ذبيحته باسم المسيح: لم تؤكل ذبيحته) وذلك لقول الله تعالى:} حرمت عليكم الميتة والدم {إلى قوله:} وما أهل لغير الله به {وهذا مما قد أهل به لغير الله. مسألة: [حل ما غاب عنا من طريقة ذبحهم] قال أبو جعفر: (ومن غاب عنه ما كان منهم في ذبائحهم: لم يكن عليه ترك شيء منها، وكان له أكلها). وذلك لأنا نحمل أمرهم على الصحة، وعلى ما يجوز، حتى يظهر خلافه، كما يُحمل أمر أهل الملة في ذبائحهم على الصحة والجواز، حتى يظهر خلافه من تركه التسمية عامدًا، وترك قطع الأوداج والحلقوم. وجائز أن يكون الذابح معتقدًا في الباطن للإلحاد، وللمعاني التي تمنع جواز ذبيحته، ثم حملنا أمرهم مع ذلك على الجواز، كذلك ما وصفنا، وعموم الآية أيضًا يدل على ذلك.

مسألة: [ذبائح نصارى العرب] قال أبو جعفر: (وذبائح نصارى العرب وصيدهم كذبائح سواهم وصيدهم). وذلك لعموم قوله تعالى:} وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم {. ولأن المعنى في العرب وغيرهم: أنهم أهل كتاب، فلا يختلف حكمهم بالأنساب. * وقد روي محمد بن سيرين عن عبيدة قال: سألت عليًا رضي الله عنه عن ذبائح نصارى العرب، فقال لا تحل ذبائحهم، فإنهم لم يتعلقوا من دينهم بشيء إلا بشرب الخمر. وروي عن ابن عباس أنه قال: "كلوا من ذبائح بني تغلب، وتزوجوا من نسائهم، فإن الله تعالى قال في كتابه العزيز:} يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم {. فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية: كانوا منهم". رواه حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس.

وروي عن عمر بن الخطاب تجويز ذبائح أهل الكتاب، من غير فرق بين العرب وغيرهم. وعموم اللفظ يقتضي دخول الجميع فيه. وقوله تعالى:} ومن يتولهم منكم فإنه منهم {: يقتضي ذلك أيضًا. وقد روى هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي عبيدة بن حذيفة "عن عدي بن حاتم أنه لما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال له أسلم تسلم، فقلت له: إن لي دينًا، فقال: أنا أعلم بدينك منك. قلت: أنت أعلم بديني مني؟! قال: نعم، ألست ركوسيًا؟ قلت: بلى، قال: ألست ترأس قومك؟ قال: قلت: بلى، قال: ألست تأخذ المرباع؟ قال: قلت: بلى، قال: ولا يحل لك في دينك" فدل هذا الخبر من وجوه على صحة ما ذكرنا:

أحدها: أنَّ عدي بن حاتم كان رجلاً عربيًا ينتحل النصرانية، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن لي دينًا"، فلم ينكر ذلك عليه، فدل على أنَّ كونه عربيًا، لم يمنع صحة كونه من أهل الكتاب. وأخرى: وهو أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال له: "ألست ركوسيًا، وأنت تأخذ المرباع" يعني: ربع الغنيمة، وذلك محرم في دين النصرانية. والركوسية: فرقة من النصارى، فأثبت له ذلك، مع إخباره بأنه غير متمسك بشريعته، لأخذه المرباع، ولم يخرجه ذلك من حكم النصرانية. وقد روى عبد السلام بن حرب عن غطيف عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عنقي صليب ذهب، فقال: ألق هذا الوثن عنك، ثم قرأ:} اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله {. قلت: يا رسول الله، ما كنا نعبدهم. قال: أليس كانوا يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون عليكم ما أحل الله، فتحرمونه؟ قال: نعم. قال: فتلك عبادتهم".

فجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من متخذي الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله، وهم اليهود والنصارى، فدل ذلك على أنَّ كونه عربيًا لا يمنع أن يكون حكمه حكم أهل الكتاب إذا انتحل دينهم وملتهم وإن لم يتمسك بجميع شرائعهم. ويشبه أن يكون قول علي رضي الله عنه في ذلك على وجه الكراهة لذبائحهم، دون التحريم. مسألة: [ذبائح المجوس] (وذبائح المجوس وصيدهم حرامٌ لا يؤكل). وذلك لأنهم من غير أهل الكتاب، ولا خلاف بين الفقهاء أنَّ ذبيحة غير أهل الكتاب والمسلمين لا تحل. والدليل على أنهم ليسوا أهل الكتاب: قول الله تعالى:} أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا {، يعني اليهود والنصارى، ولو كان المجوس أهل كتاب، لصاروا ثلاث طوائف. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المجوس:

"سنوا بهم سنة أهل الكتاب". قيل له: إنما ذلك في الجزية خاصة. وقد روي "أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى سعد رضي الله عنه في مجوس السواد: أن لا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم"، وذلك بحضرة الصحابة من غير خلافٍ من أحدٍ منهم عليه. مسألة: [ذبائح الصابئين] (وتؤكل ذبائح الصابئين في قول أبي حنيفة، ولا تؤكل في قول أبي يوسف ومحمد). قال أحمد: لا خلاف بينهم في المعنى في هذه المسألتين، وذلك لأن الصابئين طائفتان: طائفةٌ ينتحلون دين المسيح، ويقرُّون بالإنجيل، وهم في ناحية البطيحة من عمل واسط، فهؤلاء في قولهم جميعًا تؤكل ذبائحهم. وفرقةٌ أخرى من الصابئين في ناحية حران وديار ربيعة، لا ينتحلون

كتابًا لنبي، ويعبدون الكواكب، ويعبدون الأصنام، فهؤلاء أهل أوثان. لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم في قول أصحابنا جميعًا. والذي ذكر أبو جعفر من قول أبي حنيفة: صحيحٌ، وكذلك قولهما، ولكن أبا حنيفة أجاب عن الصابئين الذين ينتحلون دين المسيح عليه السلام، وأجاب أبو يوسف ومحمد عن الصابئين عبدة الأوثان، كذا سمعت أبا الحسن الكرخي رحمه الله يقول في تفصيل أقاويلهم. مسألة: [حل ذبيحة من تهود أو تنصر من المجوس] قال: (ومن تهود أو تنصر من المجوس: حلت ذبيحته). وذلك لأنه في هذه الحال من أهل الكتاب، لأنه يُقر على الدين الذي انتقل إليه، وليس هو بمنزلة المسلم إذا تهود أو تنصر: فلا تحل ذبيحته؛ لأنه مرتد، ولا يُقر على الملة التي انتقل إليها، فصار كافرًا غير كتابي، فلا تؤكل ذبيحته.

مسألة: [حرمة ذبيحة من تمجس من أهل الكتاب] قال: (ومن تمجس من اليهود والنصارى: حرمت ذبيحته). وذلك لأنه في هذه الحال مجوسي، ولا تؤكل ذبائح المجوس. مسألة: [إذا أكل كلب الصيد من الصيد] (وإذا أرسل كلبه على صيد، وسمى، فأكل الكلب منه: لم يؤكل صيده إلا أن يُدرك ذكاته). وذلك لقول الله تعالى:} فكلوا مما أمسكن عليكم {، فأباح صيده بهذه الشريطة، فلا يحل أو يوجد الشرط. فإن قيل: لم يحظر ما عداه. قيل له: قد قال في آية أخرى:} وما أكل السبع إلا ما ذكيتم {فحرم جميع ما يأكل منه السبع إلا بشرط الذكاة، والكلب سبع. ثم قال في آية أخرى:} فكلوا مما أمسكن عليكم {، فأباحه من هذه الجملة بالشريطة المذكورة فيه، فلا يحل أو توجد.

وأيضًا: ما حدثنا عن أبي داود حدثنا هناد بن السري حدثنا ابن فضيل عن بيان الشعبي عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: إنا نصيد بهذه الكلاب. فقال لي: إذا أرسلت كلابك المعلمة، وذكرت اسم الله عليها، فكل مما أمسكن عليك وإن قتل، إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل: فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه". وروى يزيد بن هارون أخبرنا زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أكل الكلب من صيد، فلا تأكل" فاتفق زكريا وبيان عن الشعبي عن عدي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنَّ الكلب إذا أكل منه: لم يؤكل، ووافقهما على ذلك عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي، وقد قدَّمنا إسناده في أول الباب. وروي عن أبي داود حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا مجالد عن الشعبي عن عدي أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: "كل إذا قتله ولم يأكل منه شيئًا"، فأباحه بشرط ترك الأكل. وحدثنا ابن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا

سفيان عن مجالد عن الشعبي عن عدي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له في صيد الكلب: "إن أكل منه: فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه" وقد ذكر أنَّ عبد الوهاب بن عطاء الخفاف روى عن سعيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أرسلت كلبك فوجدته قد قتل، فأكل منه: فلا تأكل، لأن الله تعالى يقول:} فكلوا مما أمسكن عليكم {". وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: "أنه إذا أكل الصقر: فكل، وإذا أكل الكلب: فلا تأكل" فإن قال قائل: روى بسر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك، وذكرت اسم الله تعالى: فكل وإن أكل منه". وكذلك روى مري بن قطري عن عدي بن حاتم. وروى حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنَّ أبا ثعلبة قال: يا رسول الله: إن لي كلابًا مكلَّبة، فأفتني في صيدها.

فقال رسول الله: إن كان لك كلاب مكلَّبة، فكل مما أمسكن عليك. قال: ذكيًا أو غير ذكي؟ قال: نعم. قال: وإن أكل منه؟ قال: وإن أكل منه". ففي هذا الخبر إباحة أكله مع أكل الكلب منه. قيل له: خبر التحريم أولى من وجوه: أحدها: أنَّ ظاهر الكتاب يشهد له، وهو قوله:} فكلوا مما أمسكن عليكم {، مع قوله:} وما أكل السبع {. وأخرى: وهي أنَّ خبر الحظر وخبر الإباحة إذا اجتمعا، كان خبر الحظر أولى. وأيضًا: نستعمل الخبرين جميعًا، فنقول في خبر الإباحة: إنه في حال إدراك ذكاته: أنَّ أكله بدءًا لا يمنع صحة ذكاته إذا أردكه حيًا، وخبرنا في حال أكله منه، وقتله إياه.

فصل: [إذا أكل الطير المرسل من الصيد] قال أبو جعفر: (ولو أرسل طائرًا على صيد، فصاده، وأكل منه: لم يضره ذلك، وأكله). وذلك أنَّ تعليمه يكون بالأكل، فلا يكون إمساكه على صاحبه: ترك الأكل، وإنما تعليمه أن يدعوه: فيجيبه، ألا ترى أنه لا يمكنه أن يضربه ليترك الأكل؛ لأنه لا يترك أكله بالضرب، وأما الكلب فإنه يضرب ليترك الأكل، فيتركه، فيكون ذلك تعليمًا له. مسألة: [إذا قتل الكلب الصيد ولم يجرحه، وكذا سائر ما يصاد به] قال: (ومن أرسل كلبه على صيد، فصاده وقتله، ولم يجرحه: لم يأكله، كذلك الطير وسائر ما يصاد به). والأصل فيه قول الله تعالى:} وما علمتم من الجوارح {. وقد قيل في الجوارح: إنه من الجراحة، وقيل: إنه من الكسب على ما بينَّا فيما سلف، فقد اقتضت الآية في إباحة الصيد من حصول الجراحة، فلا يحل أو يوجد ذلك.

ومن جهة السنة: ما حدثنا عن أبي داود حدثنا محمد بن عيسى حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن همام عن عدي بن حاتم قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم قلت: أرمي بالمعراض فأصيب، أفآكل؟ قال: إذا رميت بالمعراض، وذكرت اسم الله، فأصاب فخرق: فكل، وإن أصاب بعرضه: فلا تأكل" وكذلك هو في حديث عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن عدي زاد فيه: "فإنه وقيذ". فمنع صيد المعراض إذا لم يجرح، كذلك صيد الكلب وسائر الجوارح. مسألة: [إذا أصاب الإنسان الصيد في يده حيًا] قال: (وإذا أصاب الصيد في يده حيًا، فذكاته لا تكون إلا بالذبح، سواء أمكنه أن يذكيه، أو لم يمكنه حتى مات). وذلك لأنه لما حصل في يده حيًا، فقد خرج من أن يكون صيدًا، فلا تكون ذكاته إلا بالذبح، كالشاة لا تكون ذكاتها إلا بالذبح وإن صارت بحال لا يمكنه التذكية حتى تموت. ويدل عليه قول النبي عليه الصلاة والسلام لأبي ثعلبة الخشني: "وما

صدت بكلبك الذي ليس بمعلم، فأدركت ذكاته، فكله". فإنما أباحه بالذكاة إذا حصل في يده حيًا. وقال الله تعالى:} إلا ما ذكيتم {، وكل ما حصل حيًا في يده، فلا ذكاة له إلا بالذبح. مسألة: [إذا مات الصيد على أرض أو جبل قبل أن يدركه] قال: (ومن رمى صيدًا، فوقع على الأرض، فمات، أو وقع على جبل، فاستقر عليه، فمات قبل أن يدركه: فإنه يأكله). وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: "إذا رميت بالمعراض، فأصاب، فخرق، فكل". ومعلوم أنه لا بد من وقوعه على الأرض بعد الإصابة، وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم أكله. مسألة: [إذا تردى الصيد من الجبل فمات، أو وقع في الماء] قال أبو جعفر: (وإن تردَّى من الجبل إلى الأرض ثم مات، أو وقع في ماء: لم يؤكل).

لقول الله تعالى:} والمتردية { ومن جهة السنة: ما حدثنا عن أبي داود قال: حدثنا محمد بن يحي بن فارس قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا يحي بن زكريا بن أبي زائدة قال: أخبرني عاصم الأحول عن الشعبي عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقعت رميتك في ماء، فغرقت، فماتت: فلا تأكل". ورواه حماد عن عاصم بإسناده مثله، وزاد: "وإذا اختلط بكلابك كلبٌ من غيرها: فلا تأكل، لا تدري لعله قتله الذي ليس منها". فصار ذلك أصلاً في تحريم الصيد بمشاركة ما لا تقع به الذكاة. مسألة: [أرسل كلبه على صيد فصاد غيره] قال: (ولو أرسل كلبه على صيد، فصاد غيره: أكله). وذلك لما روي في حديث عدي بن حاتم وأبي ثعلبة: "إذا أرسلت

كلبك المعلَّم، فكل ما أمسك عليك". ولم يشترط عليه تعيين صيدٍ دون غيره، فهو على الجميع. ويدل عليه: أنه لو أرسله على جماعة صيد، ولم ينو واحدًا بعينه: جاز، ولو كان شرطه التعيين، لما جاز حتى يُعين. ويدل على أنه لا اعتبار بتعيين المأخوذ: أنَّ التسمية إنما تقع على الإرسال، لا على الأخذ، وإذا صحت التسمية، سقط حال الأخذ، فهو مأخوذ من الصيد، فهو داخل في التسمية. مسألة: [لو زجر المجوسي كلب الصيد] قال: (ومن أرسل كلبه على صيد، فزجره مجوسي، فانزجر لزجره: لم يضره ذلك). لأنه قد تقدمه إرسالٌ، فتعلق الحكم به، وسقط حكم الزجر الواقع بعد الإرسال. ألا ترى أنَّ رجلاً لو وضع حجرًا في طريق المسلمين، وحفر إنسان بئرًا إلى جنبه، فعثر رجل بالحجر، ووقع في البئر: أنَّ حكم البئر ساقط؛ لأن الحكم قد تعلق بسبب غيره، فسقط حكم ما بعده. كذلك الإرسال لما تعلق به الحكم من جواز الاصطياد به، وصحة التسمية عليه، سقط حكم الزجر.

* ولو كان أفلت كلبه، ثم زجره، وسمى عليه: جاز أكله، ونعلق الحكم بالزجر؛ لأنه لم يتقدمه إرسال، فتعلق الحكم به. ألا تري أنَّ رجلاً لو حفر بئرًا في الطريق، فعثر إنسان بنكبة في الطريق، أو حجر رمت به الريح في الطريق، فوقع في البئر، ومات أن الضمان على حافر البئر؛ لأن ما تقدمه من السبب لم يتعلق به حكم، فتعلق الحكم بالوقوع في البئر. وكذلك المجوسي إذا أرسل كلبه، ثم زجره مسلم: لم يكن لزجره حكم، ولم يؤكل، لما وصفنا. * ومن أفلت كلبه على صيد، فقتل: لم يؤكل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي: "إذا أرسلت كلبك المعلَّم، وسميت: فكل، وإن لم تسم: فلا تأكل". وقال: "إذا أكل منه: فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه". فدلَّ ذلك على أنَّ اصطياد الكلب من غير إرسال: لا يبيح أكله؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام جعل شرط الإباحة وجود الإرسال مع التسمية. وقال: "إذا أكل فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه" والكلب إذا صاد من غير إرسال، فهو مصطادٌ لنفسه.

وقال تعالى:} فكلوا مما أمسكن عليكم {. وأيضًا: قال النبي عليه والصلاة والسلام في حديث عاصم عن الشعبي عن عدي: "وإذا اختلط بكلابك كلب من غيرها: فلا تأكل، لا تدري لعله قتله الذي ليس منها". فأخبر أنَّ مشاركة الكلب الذي لم يتقدَّمه إرسالٌ، يُحرِّم صيد هذه الكلاب المرسلة. مسألة: [المتردية التي ذُبحت عند سقوطها] قال أبو جعفر: (ومن تردَّت له شاةٌ من جبل أو ما أشبهه، فصارت إلى الأرض في حال يُعلم أنها ميتة منه، فذبحها وهي كذلك: فإن أبا حنيفة كان يقول: لا بأس بأكلها). وذلك لقوله تعالى:} إلا ما ذكيتم {. قال: (وقال أبو يوسف: إن كانت قد صارت إلى حالٍ هي ميتة منها لا محالة: لم تؤكل، وإن كانت تعيش من مثلها: أكلت). وذلك لأنها إذا صارت إلى حال هي ميتة منها لا محالة، فقد صارت بمنزلة الميتة، كما أنَّ المذبوح قبل خروج روحه، لو قتله مجوسي: لم يحرم أكله، ولو ذبحه مجوسي، فلم تخرج روحه، حتى قطع رأسه مسلم: لم يؤكل.

(وقال محمد: إن كانت قد صارت في حال لم يبق من الحياة معها فيها إلا مقدار الاضطراب للموت، فذبحها وهي كذلك: لم يأكلها، وإن كانت مما يعيش المدة كاليوم، أو كبعضه: أكلها، ولم يضره علمه بموتها من ذلك لو تركها). وذلك لأنها اعتبر حال المذبوح، ومعلوم أنه لا يعيش اليوم ونحوه. فما عاش يومًا، فقد خرج أن يكون في معنى المقتول والمذبوح، وإن كان وقتًا يسيرًا مثله قد يبقى فيه المذبوح، فهذا قد صار ميتة، ولا ينفع بعد ذلك ذبحها. مسألة: [موت الصيد برمية بغير محدَّد] قال: (ومن رمى صيدًا بمعراض، فقتله به فإن أصابه بحدِّه: أكله، وإن أصابه بعرضه: لم يأكله، وكذلك البندقة) لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عدي بن حاتم:

"لأنه إذا أصاب بعرضه: فلا تأكله، وإن أصابه بحده، فخرق فكل"، وقد تقدم ذكر سنده. مسألة: [ذبيحة من كان أحد أبويه مجوسيًا] قال أبو جعفر: (ومن كان أحد أبويه مجوسيًا، والآخر كتابيًا: فحكمه حكم الكتابي في ذبائحه وصيده). وذلك لأن جواز أكل الذبيحة من أحكام الإسلام، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "كلُّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه". فأثبت له حكم الفطرة بنفسه، ونقله عنها بالأبوين، فلما كان جواز الذبيحة من أحكام الإسلام، وجب أن لا ينتقل عنه إلا باجتماع الأبوين على نقله عن هذا الحكم، وإلا فهو باق على ذلك، ولهذا المعنى بعينه قلنا إن أحد الأبوين إذا كان مسلمًا: فالولد مسلم. مسألة: [حكم الجنين الميت في بطن الشاة المذكاة] قال: (ومن ذبح بقرة، أو نحر ناقة، فأصاب في بطنها جنينًا ميتًا، فإن أبا حنيفة كان يقول: لا يؤكل، وقال أبو يوسف ومحمد: يؤكل، أشعر أو لم يشعر).

الحجة لأبي حنيفة: قول الله تعالى:} حرمت عليكم الميتة {، وهو عام في الجنين وغيره. فإن قيل: قال الله تعالى:} أحلت لكم بهيمة الأنعام {، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أراد الجنين، وعمومه يقتضي إباحته بغير ذكاة، لأنه لم يشرطها. قيل له: الاسم لا يختص بالجنين دون سائر بهائم الأنعام المنفصلة عن أمهاتها. ثم قد علمنا أنَّ إباحتها موقوفة على وجود الذكاة المذكورة في قوله {إلا ما ذكيتم}، فوجب أن يكون حكم الجنين محمولاً على الذكاة المذكورة فيه. وعلى أنَّ قوله:} أحلت لكم بهيمة الأنعام {، لا يصح الاحتجاج به بحال، لأنه قد استثني منه قوله:} إلا ما يتلى عليكم {، فحصل الباقي مجملاً موقوفًا على البيان، فلا يصح اعتبار عمومه. فإن قيل: الجنين مذكى بذكاة الأم؛ لأنه عضو من أعضائها، فحكمه

حكم سائر الأعضاء، في وقوع الذكاة فيه بذكاة الأصل. قيل له: ليس كذلك، لأنه جائز خروج الجنين حيًا بعد موت الأم، ويستحيل بقاء أعضائها على حكم الحياة بعد موت الأم، فعلمنا أنه مفارق لأعضائها. ألا ترى أنه لو خرج حيًا: احتيج في استباحة أكله إلى استئناف الذكاة فيه، ولا يجوز أن تكون الأعضاء بهذه المنزلة في تعلق حكم الذكاة بها دون ذكاة الأصل. ويدل على أنَّ الجنين منفردٌ عن حكم أعضائها: أنَّ المرأة تنقضي عدتها بخروج الجنين وإن كان ميتًا، ولو باينها بعض أعضائها: لم تنقض عدتها. وأيضًا: فلو ضُربت امرأة، فألقت جنينًا ميتًا، وماتت: كان فيه الدية، وفيه الغُرَّة، ولو ضربها، فأبان يدها، وماتت: كان عليه دية واحدة، ودخلت اليد في النفس. فإن قيل: فلو أعتق جارية حبلى، عتق ما في بطنها، كسائر أعضائها. قيل له: لأنه لا ينفرد عن الأم بحكم العتق إذا كان متصلاً بها في حال

العتق، وقد ينفرد الجنين عن الأم في حكم الذكاة على حسب ما قدمنا. فإن قيل: هلا كان الجنين بمنزلة البعير الناد، حين لم يقدر على منحره، كانت ذكاته على الوجه المقدور عليه من رميه أو طعنه. قيل له: لو جعلنا البعير النادَّ أصلاً لذلك، ساغ رده إليه؛ لأن البعير لو رُمي فلم يُجرح، ولم يُخزق: لم يجز أكله، والجنين بهذه المنزلة، لأنه لم تقع به جراحة، فتكون ذكاة له، فيصير بمنزلة صيد المعراض إذا لم يخزق. * ومن جهة النظر: إن الجنين جائز أن يكون موته حادثًا عن ذكاة الأم، وجائز أن يكون حادثًا من غير جهة ذكاة الأم، لكنه مات غمًّا، لأن الجنين قد يموت في بطن الأم من غير جهة ذكاة الأم، فلما احتمل ذلك: لم يجز أن يكون مذكى بذكاتها مع احتمال أن يكون موته حادثًا من غير ذلك. * وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكاة الجنين آثار بألفاظ مختلفة، احتج بها من أوجب ذكاته بذكاة الأم، فمنها: ما روي عن أبي الدرداء وأبي أمامة، وكعب بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد، وأبي أيوب، وأبي هريرة، أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"، كرهت ذكر أسانيدها خوف

الإطالة، ولأنها مشهورة عند أهل العلم، وإن كان قد تكلم في أسانيدها، وطعن في رواتها، فهذا أحد الألفاظ المروية في ذلك، فاحتج القاتلون بإباحته بذلك، وزعموا أنه موجبٌ لما قالوا، لأنه جعل ذكاة الأم ذكاة له. قال أحمد: وليس في هذا اللفظ دليلٌ على ما قالوا؛ لأنه محتمل أن يكون معناه: أنه يذكى كما تذكى الأم، وأنه في حكم الأم في باب تعلق إباحته بالذكاة، وأسقط بذلك وهم من يتوهم أن ذكاته تتعلق بذكاة الأم. وهو كقول الله تعالى:} وجنة عرضها السموات والأرض {، معناه: كعرض السموات والأرض. وكما قال الشاعر: النشر مسك، والوجوه دنا .... نير، وأطراف الأكف عنم ومعناه: أن النشر كالمسك، والوجوه كالدنانير. وإذا كان احتماله لما وصفنا، كاحتماله لما ادعاه مخالفنا، سقط الاحتجاج به، ولم يجز تخصيص آية محكمة، وهو قوله:} حرمت عليكم الميتة {إلا بمثله، فهذا وجه ما ذكرنا من الألفاظ المروية فيه. * وقد روي على وجه آخر، وهو ما رواه وهب بن بقية حدثنا محمد

بن الحسن عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذكاة الجنين ذكاة أمه إذا أشعر". وقد قيل: إن رفع هذا الحديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام خطأ، وأصله موقوف على ابن عمر؛ لأن أيوب ومالكًا روياه عن نافع عن ابن عمر موقوفًا عليه. ورواه أيضًا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الصمد بن النعمان حدثنا معاذ عن سليمان بن أبي عمران عن ابن البراء عن أبيه أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قضى في أجنة الأنعام أنَّ ذكاتها ذكاة أمهاتها إذا أشعرت. وهذا الإسناد أيضًا غير مرضيٍّ عند أهل النقل، إلا أنه خصه بحال الإشعار، فقال سعيد بن المسيب ومالك بن أنس: إنه إذا أشعر: كانت ذكاته ذكاة أمه، وإذا لم يشعر: لم يؤكل.

والكلام في هذا اللفظ كهو فيما تقدم. فإن قيل: فما فائدة ذكر الإشعار؟ قيل له: يحتمل أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن جنين قد أشعر، فقال: يذكى كما تذكى أمه، فنقل الراوي ما سمع، ولم ينقل سؤال السائل، فلا يدل على أنَّ حكمه إذا لم يشعر بخلافه، كما قال عليه الصلاة والسلام: "إنما الربا في النسيئة"، وهو كلام خارج على السبب، وسؤال سائل عند سائر الفقهاء، كأنه سئل عن الجنسين إذا بيع أحدهما بالآخر، فقال: "إنما الربا في النسيئة": يعني في مثل هذا، فنقل الراوي كلام النبي عليه الصلاة والسلام دون الحال التي خرج عليها الكلام، فكذلك ما وصفنا. وأيضًا: فليس في ذكره الإشعار دلالة على أنَّ ما عداه فحكمه بخلافه، بل حكم ما عداه موقوف على دليله. وقد روى الحجاج بن أرطاة عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه أنه قال: "ذكاة الجنين ذكاة أمه إذا أشعر". وهذا إسناده واهٍ؛ لأن الحجاج فيما لم يذكره سماعًا مطعون فيه، وأبو إسحاق عن الحارث: لا يعد سماعًا، إنما هو عن صحيفة دفعتها امرأة الحارث إلى أبي إسحاق بعد موت الحارث، فرواها.

كذلك ذكر عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي أنَّ شعبة قال له ذلك في جده أبي إسحاق. ولو ثبت ذلك عن علي رضي الله عنه، وصح سنده: كان تأويله ما وصفنا. * وعلى أنه إذا أشعر، وتمَّ خلقه: فهو أبعد شبهًا من أمه، وإذا لم يشعر: فهو أقرب شبهًا بها، فكيف يدخل في حكم الأم إذا أشعر، ولا يدخل في ذكاتها إذا لم يشعر، وهو أشبه بأعضائها. ولما وافقنا مالكٌ على أنه إذا لم يشعر: لم يدخل في ذكاة الأم، وجب أن يكون كذلك حكمه إذا أشعر. * ولفظ ثالث: قد رُوي عن النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك، وهو ما حدثنا ابن قانع حدثنا محمد بن عبدوس حدثنا داود بن عمرو قال: حدثنا عيسى بن يونس عن مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنين يكون في بطن الجزور أو البقرة أو الشاة؟ فقال: "إن شئتم فكلوه، فإن ذكاته ذكاة أمه".

وقد رواه عن مجالد جماعة، منهم: هشيم، وأبو أسامة، وأبو خالد الأحمر، فهو يدور على مجالد، لا نعلم رواه على هذا السياق إلا مجالد، وقد تكلم في مجالد. وقد روي من غير طريق مجالد، وأبي الوداك عن أبي سعيد فقال فيه: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"، ولم يذكر فيه قوله: "إن شئتم فكلوا". رواه عطية عن أبي سعيد. وكذلك الجماعة الذين ذكرناهم ممن رواه عن النبي عليه الصلاة والسلام لم يذكروا هذه الزيادة. ولو ثبتت الزيادة، لم يكن فيها دلالة على قول المخالف؛ لأنه ليس فيه أنه خرج ميتًا، وقال لهم: كلوا، وإنما فيه: "أنه سئل عن الجنين يكون في بطن الجزور أو البقرة، فقال: "إن شئتم فكلوا، فإن ذكاته ذكاة أمه"، ومعناه عندنا: أنه يذكى كما تذكى الأم. وفائدته: أنه قد كان يجوز أن تشتبه إباحة أكله وإن خرج حيًا وذبح؛ لأنه مما يعلم أنه كان لا يعيش لو ترك ولم يذبح وإن خرج حيًا، فأخبر النبي صلى الله وسلم أنَّ حكمه حكم أمه في الذكاة، وأن الذكاة تحله كما تحل الأم لا فرق بينهما وإن كان لو ترك لم يبق حيًا. فإن قيل: في حديث أبي خالد الأحمر عن مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلوه إن شئتم، فإن ذكاته

في ذكاة أمه". وهذا اللفظ لا يحتمل ما تأولتموه، لأن قوله: "ذكاته في ذكاة أمه"، يمنع أن يكون المراد كذكاة أمه. قيل له: لم يثبت هذا اللفظ في الحديث، لاتفاق الرواة على إسقاطه، سوى أبي خالد الأحمر، ويحتمل أن يكون أبو خالد حمله على المعنى عنده، لأنه لما كان المعنى عنده أنَّ معنى: "ذكاته ذكاة أمه": أن ذكاته في ذكاة أمه، نقل ذلك. مسألة: [كيفية تذكية الحيوان الناد] قال: (ومن ندَّ له بعيرٌ أو بقرةٌ: صار بمنزلة الصيد، فيذكيه كما يذكي الصيد الممتنع). قال أحمد: ويروى نحو قولنا هذا عن عبد الله بن مسعود، وابن عمر، ومسروق بن الأجدع.

وقال سعيد بن المسيب، ومالك بن أنس: لا يجزئ إلا في منحر إبراهيم عليه السلام. والحجة للقول الأول: ما حدثنا ابن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله حدثنا حجاج حدثنا حماد عن ليث عن عباية بن رفاعة بن رافع عن جده رافع بن خديج أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم مغنمًا بذي الحليفة، فندَّ بعير، فتبعه رجل من المسلمين، فضربه بسيف أو طعنه برمح، فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها، فاصنعوا به هكذا" قال ابن قانع: وحدثنا محمد بن عبدوس بن كامل حدثنا داود بن عمرو حدثنا المبارك بن سعيد حدثنا سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة عن أبيه عن جده رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه،

وقال: عن أبيه عن جده، وهذا حديث مشهور من حديث سعيد بن مسروق، وقد رواه عند أئمة، منهم: شعبة وأبو الأحوص وعمر بن سعيد وغيرهم. وفيه الدلالة من وجهين على صحة قولنا: أحدهما: أنه أخبر أنهم قتلوه بسيف أو رمح، ولم يذكر موضع المنحر، فأباح النبي عليه الصلاة والسلام أكله. والثاني: قوله: "إن لها أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها، فاصنعوا به هكذا"، فشبهه بالصيد، وألحقه بحكمة في ذكاته. ويدل على ذلك أيضًا: ما حدثنا عن أبي داود حدثنا أحمد بن يونس حدثنا حماد بن سلمة عن أبي العشراء الدارمي عن أبيه أنه قال: يا رسول الله! أما تكون الذكاة إلا من اللبة أو الحلق؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك".

فاقتضى عمومه جواز الذكاة على هذا الوصف، إلا أنهم قد اتفقوا أن هذا لا يكون ذكاة مع القدرة على الذبح، فخصصناه، وبقي حكم العموم في حال الشرود والامتناع. ومن جهة النظر: اتفاق الجميع على أنَّ مثل ذلك يكون ذكاة للصيد، ولا يخلو جواز ذلك من أن يكون متعلقًا بجنس الصيد وعينه، أو بالامتناع، وتعذر إصابة منحره، فلما اتفق الجميع على أنَّ الصيد متى قدر على ذبحه، لم تكن ذكاته إلا بالذبح، ولم يكن لكونه من جنس الصيد تأثير في ترك ذلك، دل هذا على أنَّ الحكم إنما تعلق في جواز ذكاته بالرمي والطعن، بكونه ممتنعًا غير مقدور على ذبحه، وهذا المعنى موجود في البعير الشارد، فوجب أن يكون حكمه حكمه. مسألة: [حكم أكل الجراد] قال أبو جعفر: (والجراد ذكي على أي حال وجد). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أحلت لي ميتتان ودمان: السمك والجراد".

وقد روى عبيدة عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أنها كانت تأكل الجراد، وتقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكله". وروى سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد فقال: أكثر جنود الله، لا آكله، ولا أحرِّمه" وروي فيه أخبار كثيرة كرهنا الإطالة بذكرها، كلها يقتضي إباحة أكل الجراد، ولم يفرق في شيء منها بين شيء من أحوالها. مسألة: [حكم أكل السمك الطافي] قال أبو جعفر: (والسمك ذكي على أي حال وجد، وبأي حال مات، غير ما طفا منه على الماء: فإنه لا يؤكل). قال أحمد: وروي نحو هذا القول عن علي رضي الله عنه، وجابر

بن عبد الله. وروي عن أبي بكر الصديق وأبي طلحة إباحة أكل الطافي. وقد روي عن جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة في آخرين، أن ما ألقاه البحر من السمك فهو حلال. وليس في ذلك دلالة على موافقتنا على مسألة الطافي ولا مخالفة؛ لأنا نقول: إن ما ألقاه البحر من السمك: فهو حلال إذا لم يكن قد مات في الماء قبل ذلك من غير سبب حادث عليه. * فأما الحجة في كراهة الطافي: فهو ما رواه يحيى بن أبي أنيسة وإسماعيل بن أمية وابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ألقى البحر، أو جزر عنه: فكله، فلا بأس به، وما وجدته طافيًا: فلا تأكله".

وروى أيضًا وهب بن كسبان ونعيم بن عبد الله المجمر عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. فإن قال قائل: قال الله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه}، وعمومه يقتضي جواز أكل الطافي. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "أحلت لي ميتتان ودمان"، ولم يفرق بين الطافي وغيره. قيل له: أما عموم الآية، فلا دلالة فيه على حكم الطافي؛ لأن الطافي ليس بصيد، وقوله: "وطعامه": يحتمل أن يكون راجعًا إلى الصيد، كأنه قال: "وأكله"، فأباح الاصطياد، والأكل لما يصطاد. وأما قوله: "أحلت لي ميتتان": فإنا نجمع بينه وبين خبر الطافي، لنستعملهما جميعًا، ولا نسقط أحدهما بالآخر، وهذا لمخالفنا ألزم، لأنه يرتب العام على الخاص. وقوله: "أحلت لي ميتتان": عام، وتحريم الطافي أخص منه، فينبغي أن يكون قاضيًا عليه. * فإن احتجوا بما حدثنا ابن قانع حدثنا عبيد بن شريك البزار حدثنا أبو الجماهر حدثنا سعيد بن بشير عن أبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل ما طفا على البحر" قيل له: هذا حديث لا يحتج به، قال لنا ابن قانع: هذا حديث منكر، وأبان ابن أبي عياش: عندهم ضعيف جدًا، كثير الخطأ، يحكى عن شعبة أنه قال: لأن أزني سبعين زنية أحب أليَّ من أن أروي عن أبان بن أبي عياش، لكثرة غلطه في الرواية. وأيضًا: لو صح: احتمل أن يكون الطافي الذي قد مات في الماء بسبب حادث عليه، ثم طفا بعد ذلك، فلا يُحرمه ذلك، لأن الطافي المحرِّم الأكل عندنا، هو الذي يموت حتف أنفه من غير سببٍ حادث عليه من خارج. * واحتج من أباح أكل الطافي بحديث جابر في قصة جيش الخبط: "وأن البحر ألقى لهم حوتًا، فأكلوا منه أيامًا، وذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كان بقي معكم منه شيء فابعثوا به إلينا". وهذا ليس فيه دلالة على موضع الخلاف في أكل الطافي، ولأنا نأكل ما قذفه البحر.

مسألة: [حكم أكل ذي الناب وذي المخلب] قال أبو جعفر: (ولا يؤكل ذو الناب من السباع، وذو المخلب من الطير). * ويحكى عن مالك بن أنس أنه كره ذا الناب من السباع، ولا يكره ذا المخلب من الطير. * ويروى عن ابن عباس وعائشة أنهما كانا يبيحان من سائر الحيوان ما لم يذكر في قوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إليَّ محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة} الآية. * وذلك لما روى علي رضي الله عنه وابن عباس وأبو الدرداء وأبو ثعلبة الخشني وأبو هريرة وجابر بن عبد الله "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير".

وقال أبو هريرة: قال النبي عليه الصلاة والسلام: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام". فهذه الأخبار ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم هذين الصنفين، وربما اقتصر بعض الرواة على ذكر ذي الناب من السباع، ويُمسك عن ذي المخلب من الطير، وبعضهم يسوقه على وجهه، فيذكر الأمرين جميعًا، كرهت ذكر أسانيدها وطرقها خوف الإطالة، لأنها مشهورة عند أهل العلم. فإن قيل: قال الله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحى إليَّ محرمًا على طاعم يطعمه} الآية، وهو عام في ذي المخلب من الطير وغيره، إلا أن تقوم الدلالة على تخصيص شيء منه. قيل له: ليس في هذه الآية دلالة على إباحة ما ذكرت، من قبل أنه جائز أن لا يكون قد حرم ما وصفنا في وقت نزول هذه الآية، ثم ورد التحريم من بعد، ولا تكون الآية نافية للتحريم المذكور في الأخبار الواردة في تحريمه. وأيضًا: قد قيل إن هذه الآية نزلت جوابًا لقوم من المشركين، كانوا يحرمون أشياء مما لم يحرمها الله تعالى من السائبة،

والوصيلة، والحامي، فأنزل الله: {قل لا أجد في ما أوحي إليَّ محرمًا}، يعني: مما يحرمون محرمًا إلا كيت وكيت. وأيضًا: فإنا نجمع بين الآية وبين هذه الآثار، فنجعل ما ذكر فيها مستثنى من الآية، كما وافقنا مالكٌ على أنَّ تحريم السباع مستثنى من الآية بالأخبار الواردة فيه، وما ورد من ذلك في تحريم ذي المخلب من الطير هو وزن ما ورد في تحريم السباع، ولا فصل بينهما من طريق النقل. وكما اتفق الفقهاء على أنَّ قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم}، مبني على ما ورد من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، ونحوهن من ذوات المحارم.

وكما أنَّ قوله: {وأحل الله البيع}، مرتب على ما ورد من النهي عن بيع ما لم يقبض، وبيع ما ليس عنده. ونظائره أكثر من أن تحصى. فإن قيل: فقد روى "جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم في الضبع أنه يؤكل"، وهو من ذي الناب من السباع، فهلا استثنيته من الأخبار الواردة في تحريم السباع عامًا، كما استثنيت مما ذكر في الآية تحريم السباع. قيل له: لأنه لا يحتمل أن يكون ذلك في حال إباحة الجميع، ثم لما ورد الحظر، ولم يخص شيئًا منه: عم الكل، من قبل أن الأصل كان الإباحة. وجهة أخرى: وهي أنَّ النهي عن ذي الناب من السباع قد ورد من

طريق التواتر، وتلقاه الفقهاء بالقبول، فجاز أن يجمع بينه وبين حكم الآية، وإباحة الضبع إنما ورد فيه خبر شاذ، ليس في وزن ورود التحريم في الاستفاضة والشيوع، وتلقي الناس إياه بالقبول، فصار خبر التحريم قاضيًا عليه وإن كان خبر الحظر أعم من خبر الإباحة؛ لأن من أصلنا أنه متى روي خبران متضادان، اتفق الفقهاء على استعمال أحدهما، واختلفوا في استعمال الآخر، فالذي استعمله الفقهاء عندنا قاضٍ على ما اختلفوا في استعماله وإن كان الخبر المختلف فيه أخص من الآخر. مسألة: [حكم أكل لحوم الحمر الأهلية والوحشية] قال: (ولا تؤكل لحوم الحمر الأهلية، ولا بأس بأكل الحمر الوحشية). قال أحمد: وهو قول عامة فقهاء الأمصار: أصحابنا ومالكٍ والثوري وغيرهم. وذكر ابن جريج عن عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن زيد: إنهم يزعمون أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحمر الأهلية؟ فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا عن النبي

عليه الصلاة والسلام، ولكن أبي ذلك البحر، يعني ابن عباس رضي الله عنه، وقرأ: {قل لا أجد في ما أوحى إلى محرمًا على طاعمٍ يطعمه}. الآية. قال أحمد: روى الزهري عن عبد الله والحسن ابني محمد عن أبيهما محمد بن علي ابن الحنفية "أنَّ عليًا رضي الله عنه قال لابن عباس: إنك امرؤ تائه، فانظر ماذا تفتي به! فأشهد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء عام خيبر، وعن أكل الحمر الإنسية". وقد روى النهي عن لحوم الحمر الأهلية عن النبي عليه الصلاة والسلام ابن عمر وجابر والبراء وأنس بن مالك وأبو سليط وأبو هريرة وسلمة بن الأكوع، كل هؤلاء رووا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر، ثم تنازع أهل العلم في معنى نهيه.

فقال قائلون: إنما نهى عنها لشدة الحاجة إليها في الحمولة، لأنه روي في الخبر: "أنه قيل له: يا رسول الله فنيت الحمر". وقال بعضهم: لأنها كانت نهبة، لما روي في بعض الأخبار. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عنها، لأنها كانت حُمرًا تأكل العذرة. وقال عامة أهل العلم: إنما حرَّمها تحريمًا مبهمًا. والدليل عليه: أنَّ في حديث أنس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ورسوله ينهيانكم عنها، فإنها رجس". وفي بعض ألفاظه: "فإنها نجس، فأكفئوا القدور". فقد نص في هذا الخبر أن تحريمها تناول عينها، لا لأجل خوف فنائها مع الحاجة إلى الظهر، ولا لأنها نهبة. وأيضًا: فإنه أمرهم بأن يكفئوا القدور، ولو كان من أجل ما ذكروا، لما أمرهم بإتلافها، لأنه كان سبيلها حينئذ أن يُتصدق بها على الفقراء، كما أمر بأن يتصدق بالشاة المصلية التي قُدمت إليه، فقال: إنها تخبرني أنها أُخذت بغير حقها، قالوا: لم نجد في السوق شاة، وكانت هذه عندنا وديعة، فذبحناها بغير أمر صاحبها، لنعوضه منها، فقال النبي عليه الصلاة

والسلام: "أطعموها الأسرى". فأمر بأن يُتصدق بها لما كانت مغصوبة، ولم يأمر بإتلافها. فلما أمرهم بإتلافها، ومنعهم أكلها مع ما روي في الخبر: "أنهم أكفؤوا القدور وهم جياعٌ": دلَّ ذلك على أنَّ التحريم أكلها ورد مبهمًا مطلقًا، لما ذكرنا. وأيضًا: في حديث سلمة بن الأكوع: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى يوم خيبر نيرانًا تُوقد، فقال: ما هذه النيران؟ قالوا: على لحوم الحمر الإنسية. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أهريقوا ما فيها، واكسروها، يعني القدور. فقال رجل من القوم: أو نغسلها يا رسول الله؟ فقال: أو ذاك". فأمرهم بكسر القدور تغليظًا لحكم تحريمها، كما أمرهم بشق الروايا التي فيها الخمر حين نزل تحريمها تغليظًا لأمرها، وأمرهم

بغسلها حين استعفوه من كسرها، ومعلوم أن غسل الأواني لا يجب في الأصول إلا من طريق النجاسات. فقد دل خبر سلمة بن الأكوع على إطلاق تحريم لحوم الحمر الأهلية من وجهين: أحدهما: أمره بكسر القدور، ودل بذلك أيضًا على تغليظ حكم التحريم. والثاني: أمره بغسلها. * وأما قول من قال: إن علة النهي عن أكلها أنها كانت تأكل العذرة: فإنه دعوى لا دلالة عليها، لأنه ليس في شيء من الأخبار ذكر ذلك، ولا أنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تأكل العذرة، ولا فيها أن النبي عليه الصلاة والسلام سأل عن هذا المعنى، بل أطلق نقل النهي حين قيل: إنها حُمر أهلية، ولم يقيده بمعنى، فهو على ما ورد من الإطلاق. وأيضًا: فإن كونها مما يأكل ذلك، لا يوجب غسل الأواني منها لو لم تكن نجسة في نفسها، فدل ذلك على سقوط هذا التأويل. وعلى أنه قد ورد تحريم الحمر الأهلية في حديث المقدام بن معدي كرب مطلقًا، بابتداء التحريم من النبي عليه الصلاة والسلام إياها، غير معلَّق بسبب. وروي عن ابي ثعلبة الخشني أنه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! حدثني ما يحلُّ لي، مما يحرم علي؟

قال: لا تأكل الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع". فأجابه بالتحريم جوابًا مطلقًا غير مقيَّد بمعنى، فدل ذلك على إطلاق تحريم أكلها، وسقوط تأويل من تأوله على غير ذلك. * وأما احتجاج من احتج في إباحتها بقوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحى إليَّ محرمًا على طاعمٍ يطعمه}: فإن الجواب فيه ما قدمناه في مسألة تحريم ذي الناب من السباع. وقد احتج مبيحوه بحديث غالب بن الأبجر أنه قال: يا رسول الله! إنه لم يبق من مالي شيء أستطيع أن أُطعم منه أهلي غير حُمراتٍ لي. قال: "فأطعم أهلك من سمين مالك، فإنما كرهت لكم جوال القرى". قالوا: فهذا الخبر يقتضي الإباحة، ويدل على أنَّ النهي عن تحريم الحمر الأهلية كان متقدمًا لذلك، وأن ذلك النهي تعلق بجوال القرى، وهي التي تأكل العذرة. فالجواب وبالله التوفيق: أنَّ هذا الخبر لو اكتفينا به في تحريم الحمر الأهلية، لكان فيه غناء عن الاحتجاج بغيره، وذلك لأنه قد أخبر أنه

كره لهم جوال القرى، والحمر الأهلية كلها جوال القرى، فوجب تحريمها بهذا الخبر، وتكون إباحته لما سئل عنه، مقصورة على الحمر الوحشية. وأما قوله: إن جوال القرى إنما أراد بها الحمر الجلالة، فليس في اللفظ دليل عليه، وليس يمتنع أن يكون منه جوال القرى، ولا تأكل العذرة، فلا يكون قوله: جوال القرى، عبارة عن ذلك. وجهة أخرى: وهي أنه لو ثبت أنه أباح له الحمر الأهلية في هذا الخبر، كان خبر النهي أولى، لأن الخبرين المتضادين في الحظر والإباحة، إذا وردا، فخبر الحظر عندنا أولى. وأيضًا: فإنه يحتمل أن يكون المراد حال الضرورة، ويدل عليه ما ذكر في بعض الأخبار أنه قال: "أصابتنا سنة، فلم يبق من مالي شيء أستطيع أن أطعمه أهلي"، وإذا كانت الإباحة مقصورة على حال الضرورة، لم يجز لنا استعمال حكمها في حال الرفاهية مع ما ورد من الآثار في الحظر. مسألة: [حكم لحوم الخيل] قال: (وكان أبو حنيفة يكره لحوم الخيل).

قال الشيخ: وهو قول مالك بن أنس. (وقال أبو يوسف ومحمد: تؤكل). والدليل على كراهتها: قول الله تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفءٌ} إلى قوله: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة}. فقد ذكر من منافع الأنعام: الأكل والزينة، وما ذكر معهما من منافع الخيل الركوب والزينة، فلو كانت مما يجوز أكله، لذكر ذلك؛ لأنه من معظم منافعه، كما ذكر في الأنعام، فلما اقتصر على ما ذكر دون الأكل، دل ذلك على أن عظم منافعها هو ما ذكر، وأنها غير مأكولة. وأيضًا: ما روي لنا عن أبي داود حدثنا حيوة بن شريح حدثنا بقية عن ثور بن يزيد عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد "أنَّ رسول الله صلى الله عليه

وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل، والبغال، والحمير، وكل ذي ناب من السباع". فإن قيل: فقد روى جابر بن عبد الله "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأذن لنا في لحوم الخيل". قيل له: أصل الحديث ما رواه حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر قال: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر والبغال، ولم ينهنا عن الخيل". وما رواه عطاء عن جابر قال: "كنا نأكل لحوم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية". فلم يذكر في هذا الحديث قولاً من النبي صلى الله عليه وسلم في الإباحة، وأكثر ما فيه أنهم أكلوه على عهد النبي صلى الله عليه

وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه، ومثل هذا لا تثبت به حجة حتى يأكلوه، ويعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك منهم، فلا ينكره. وعلى أنه لو ثبت على الوجه الذي ذكروه، لكان خبرنا أولى من وجهين: أحدهما: أنه يوجب الحظر، وخبرهم يوجب الإباحة، والحظر والإباحة إذا اجتمعا كان الحظر أولى. والثاني: أنَّ خبر جابر مذكورٌ فيه وقت الإباحة، وهو عام خيبر، وفصَّل فيه بين الحمر والخيل، وذلك أول ما حُرِّم؛ لأنهم أرادوا أكله بالإباحة المتقدمة، وخبر خالد بن الوليد ينبغي أن يكون بعده، إذا لم يكن قبل خيبر تحريم شيء من ذلك، ولا يجوز أن يكون في عام خيبر، لأن في خبر جابر الفصل بين الخيل والحمر، فينبغي أن يكون خبر خالد الذي جمع فيه بين الخيل والحمر: بعد ذلك، فيوجب ذلك نسخ ما في خبر جابر من الإباحة. ومن جهة النظر: أنه أهليٌّ من ذوات الحافر، كالحمير والبغال.

مسألة:] العقيقة تطوعٌ وليست واجبة [ قال: (والعقيقة تطوع، من شاء فعلها، ومن شاء تركها). قال أحمد: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل غلاء رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم السابع، ويحلق رأسه، ويدمى". رواه الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وليس في هذا الحديث دلالة على وجوبها؛ لأن قوله: "كل غلام رهينة بعقيقته": لا يجوز أن يكون مراده وجوبها؛ لأنه لا يخلو حينئذ من أن تكون واجبة على الغلام أو على غيره. ولا يجوز أن يكون ذلك على الغلام، ويكون مرتهنًا بها؛ لأن الطفل ليس من أهل التكليف، وإن كانت العقيقة عنه على غيره، وهو والده، فلا يجوز أن يكون الصبى مرتهنًا بها على غيره، فكيف تصرفت الحال فلا دلالة في هذا اللفظ على وجوبها. وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال "سئل النبي صلى الله

عليه وسلم عن العقيقة، فقال: لا يحب الله العقوق"، كأنه كره الاسم. وقال: "من ولد له فأحب أن ينسك عنه، فلينسك عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة". وظاهر هذا اللفظ يدل على أنها غير واجبة، لأنه قال: "من أحب أن ينسك عن ولده، فليفعل"، فعلق فعله بمحبته، فإذا لم يحبه، لم يكن عليه. مسألة:] حكم الانتفاع بالسمن الذي ماتت فيه فأرة [ قال: (ومن كان له سمنٌ، فماتت فيه فأرةٌ: فإنها تُلقى وما حولها، ويؤكل ما سواه إن كان جامدًا. وإن كان ذائبًا: فإنه يستصبح به، وهو نجس، ولا بأس ببيعه بعد أن يبين عيبه، ولا يحل أكله ولا شربه). وذلك لما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه "سئل عن سمن ماتت فيه فأرة، فقال: إن كان جامدًا: فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا: فأهريقوه". فهذا في السمن الجامد. * وأما جواز الانتفاع به: فوجهه: ما رواه أحمد بن منصور الرمادي

قال: حدثنا سعيد بن الحكم بن أبى مريم قال: حدثنا عبد الجبار بن عمر عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر أنه أخبره أنه كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث "سأله رجل عن فأرة وقعت في ودك جامد. فقال: اطرحوها وما حولها، وكلوا ودككم. قالوا: يا رسول الله! إنه مائع؟ قال: انتفعوا به، ولا تأكلوه". فأباح الانتفاع به، ومنع أكله. وروي نحو ذلك عن علي رضي الله عنه، وعن أبي سعيد، وابن عمر، وأبي موسي، وعن جماعة من التابعين، ولم يرو عن أحد

من الصحابة خلافه، فصار إجماعًا لا يسع خلافه. فإن قيل: قوله: "فأهريقوه" في الحديث الأول: أمرٌ بالاستهلاك، فيدل على حظر الانتفاع به، لأنه لو جاز ذلك: كان مالاً، وقد "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال". قيل له: ليس في قوله: "فأهريقوه": أمرٌ بالاستهلاك، وإنما فيه منع الأكل، لأنه يجوز أن يهريقه في السراج، فيستصبح به، أو يهريقه على جلد يدبغه به. فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله اليهود، حُرمت عليهم الشحوم، فباعوها، وأكلوا أثمانها". وهذا يدل على أنَّ ما كان محرَّم الأكل، لا يجوز بيعه. قيل له: هذا فاسد بإجماع، لأن العبد محرم الأكل، ويجوز بيعه والانتفاع به، وكذلك الكلب والحمار، وإنما هذا عندنا على وجهين: ما تناوله التحريم بالإطلاق، فسائر وجوه الانتفاع به محرم عندنا، مثل الخمر والخنزير، وهذه كانت سبيل الشحوم، حين حرمت على اليهود. وأما ما لم يتناوله التحريم على الإطلاق، فليس يمتنع إباحة بعض منافعه دون بعض، على نحو ما ذكرنا من العبد والكلب والحمار،

وليس عين السمن محرمًا، ولا البيع ولا الانتفاع واقع بالميتة، بل هذه المنافع إنما تناولت السمن الذي ليس هو محرمًا، وإنما منع أكله لمجاورته الميتة، وسائر وجوه الانتفاع به باق على ما كان عليه حاله في الأصل. فإن قيل: لما كان تحريم الخمر أو الميتة ونحوها من طريق الحكم، لأجل مخالطته لغيره، وكان ذلك حكم السمن إذا جاورته الميتة، لأنه لم يخالطه شيء من أجزاء النجاسة، وجب أن يكون ممنوعًا من سائر وجوه منافعه، كما منع سائر وجوه منافع الخمر. قيل له: ليست علة تحريم الخمر ما ذكرته، بل المعنى فيها أنَّ التحريم تناولها على الإطلاق، وأما السمن فلم يتناوله لفظ التحريم، فالواجب أن يحظر منه ما قامت عليه دلالته من الأكل، وأن تكون باقي منافعه على ما كانت عليه. وعلى أنه إذا ثبت أنَّ مخالطته النجاسة إياه لا تمنع بيعه، فمجاورتها أحرى أن لا تمنعه، فلا فرق إذًا بين ما نجس بالمجاورة، وبين ما نجس باختلاط أجزاء النجاسة. مسألة:] حكم البيضة الخارجة من الدجاجة بعد موتها [ قال: (ومن ماتت له دجاجة، فخرجت منها بيضة: فلا بأس بأكلها). والأصل في ذلك: أنَّ كل ما يستباح من الحيوان في حال حياته بغير ذكاة، فحاله بعد الموت كهي قبله، وذلك لأنه لا يلحقه حكم الموت،

لأنه لو كان يلحقه حكم الموت، لما حل له إلا بذكاة الأصل، كاللحم وسائر أعضاء الحيوان، لما لحقه حكم الموت بموت الحيوان، لم يحله إلا الذكاة. ويدل عليه: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما بان من البهيمة وهي حية: فهو ميتة". فلما كانت البيضة تبين منها في حال الحياة، وليست بميتة، علمنا أنها مما لا يلحقه حكم الموت. ولهذه العلة نفسها قلنا في الشعر والصوف والريش والقرن ونحوها، أنها لا تكون ميتة بعد موت الحيوان، لأنها تؤخذ منه في حال حياته، ولا يحتاج في استباحته إلى ذكاة الأصل، فلا يلحقه حكم الموت إذًا، ولا فرق بينه قبل الموت وبعده. وأيضًا: فما ليس بحي، لا يلحقه حكم الموت، والبيضة ليست بحية، لأن الحيوان لا يألم بمفارقتها إياه، كالشعر والصوف. مسألة:] حكم تناول لبن الشاة الميتة [ قال أبو جعفر: (ومن ماتت له شاة أو ما أشبهها، وفي ضرعها لبن: فإن أبا حنيفة قال: لا بأس عليه بأكله).

قال أحمد: قد بيَّنَّا أنَّ كل ما جاز أخذه من الحيوان في حال حياته، ولا يحتاج إلى استباحته إلى ذكاة الأصل، وهو مما لا يحله الموت، فلا فرق بين أخذه في حال حياته وبعد موته، واللبن من ذلك؛ لأنه لا يجوز أخذه من الحيوان في حال حياته، ولا يمنع ذلك شربه، والانتفاع به. وكون الحيوان نجسًا بالموت، لا يوجب تنجيس اللبن في قول أبي حنيفة، ولا يكون بمنزلة لبن جعل في وعاء نجس، فينجسه، وذلك لأن موضع الخلقة وإن كان نجسًا، فإنه لا ينجس بالمجاورة. والدليل على ذلك: قول الله تعالى:} وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين {. فأخبر أن اللبن خارج من بين شيئين نجسين، ولم يوجب ذلك تنجيسه. ويدل على ذلك: اتفاق المسلمين على جواز أكل اللحم مع ما فيه من العروق التي قد كان فيها الدم، ومعلوم أنَّ الدم مائع نجس، ثم لم ينجس داخل العروق، لأن ذلك موضع خلقته، كذلك اللبن في ضرع الميتة. * (وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان جامدًا كالبيضة: أكله، وإن كان مائعًا: لم يأكله، لأنه لبن في وعاء ميت).

مسألة:] حكم أكل صيد انقسم نصفين إثر رميه [ قال: (ومن رمى صيدًا بسيف وسمى، فقطعه نصفين: كان مسيئًا، وكان له أكل النصفين جميعًا). وذلك لأنه قطع العروق التي هي شرط الذكاة في قطعها، وذلك لأن الضربة حينئذ تقع فوق القلب، فتقطع تلك العروق التى يحتاج إلى قطعها في حال الذبح. وإن قطع الثلث منه مما يلي الرأس: فهو كذلك، للعلة التى وصفنا. وإن كانت مما يلى العجز: لم يأكل ذلك الثلث، وأكل ما سواه من الصيد، وذلك لأن الضربة لم تصادف قطع أعضاء الذكاة، فكانت القطعة البائنة غير مذكاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بان من البهيمة وهي حية، فهو ميتة". فإن قيل: فيما ذكرنا من النصفين أنَّ الضربة التى تقع فوق الفؤاد، فتصادف العروق التى يحتاج إلى قطعها في الذبح، أنَّ هذا إذا كان هكذا لا يكون نصفين. قيل له: إنما عنى أنه نصفان بالرأس أيضًا، فإذا ضممت الرأس إلى النصف الأعلى كان نصفين. وأيضًا: فإن في وجه المسألة: أنَّ الضربة إذا صادفت النصف، سواء لم يبق فيه من الحياة إلا بمقدار بقائه للمذبوح، وإذا كانت في دون

النصف مما يلى العجز، فقد يجوز أن يبقى فيه الحياة بأكثر من بقاء حياة المذبوح، فصار كقطع الرجل. مسألة:] حكم أكل الصيد إذا أصاب السهم قرنه ونحوه ومات بذلك [ قال: (ومن رمى ظبيًا بسهم، فأصاب قرنه أو ظلفه، فمات من ذلك، فإن أدماه: أكله، وإن لم يدمه: لم يأكله). قال أحمد: وذلك لما بينا فيما تقدم، واعتباره بالمعراض إذا خزق، أو لم يخزق، على حسب ما روي في الخبر. مسألة:] حكم أكل صيد غاب عنه الصياد ثم وجده [ (ومن أرسل كلبه على صيد، فاتبعه حتى غاب عنه، فلم يزل في طلبه حتى أدركه وقد صاد الصيد: فإنه يأكله، وإن كان قد تركه، أو كان في طلبه إلا أنه قد بات عنه، ثم أصابه من غده كذلك: لم يأكله". وذلك لما رواه شعبة عن أبي بشر وعبد الملك بن ميسرة عن سعيد بن جبير كلاهما عن عدي بن حاتم قال: "قلت: يا رسول الله! أرمي الصيد، فأصيبه من الغد، وفيه سهمي؟ قال: إن علمت أنَّ سهمك قتله، ولم تر فيه أثرًا غير سهمك: فكل". فأباح له الأكل بشريطة حصول اليقين أنَّ سهمه قتله، ولم يشاركه فيه

غيره، فدل ذلك على أنه إذا لم يوقن أنَّ سهمه قتله: لم يجز أكله، وحصول اليقين في ذلك: أن يعلم أنَّ سهمه قد أصاب المقتل، فصار بحيث لا يبقى إلا مثل بقاء المذبوح. فإن قيل: إنما أباح له الأكل بالشرط المذكور، ولم يقل إنه إن كان على غير ذلك لم يأكل. قيل له: ليس كما ظننت، لأن كلامه خرج جوابًا عن المباح من الصيد والمحظور، فانتظم الإباحة وجود الشرط المذكور، وما عداه في حيز المحظور. فإن قيل: قد روى هذا الحديث سماك بن حرب عن عدي بن حاتم، ولم يذكر فيه قوله: "إن علمت أنَّ سهمك قتله"، بل أطلق فيه إباحة الأكل من غير تقييد. ورواه أيضًا عبد الملك بن ميسرة من غير هذه الطريق عن سعيد بن جبير عن عدي مطلقًا من غير تقييد. وهذا يقتضى إباحة الأكل سواء علم أنَّ سهمه قتله، أو لم يعلم، بعد أن لا يعلم مشاركة غيره فيه. قيل له: هذه الزيادة قد ذكرها أبو بشر جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير، وذكرها أيضًا عبد الملك بن ميسرة في رواية شعبة من هذه الطريق فهي ثابتة، لا يجوز إسقاطها لإغفال من ترك ذكرها. وقد روى شعبة عن الحكم عن عبد الله بن أبى الهذيل "عن ابن عباس

رضى الله عنهما، وسأله رجل فقال: إنى رجل أنمي وأصمي؟ قال: ما أصميت فكل، وما أنميت فلا تأكل". قال الحكم: الإصماء: أن تقتله في الحال، والإنماء أن يتوارى عنك. * وأما إذا توارى عنه وكان في طلبه: فإنه يجوز أن يأكله، لما روى يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن عيسى بن طلحة عن عمير بن سلمة الضمري عن رجل من بهز "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالروحاء، فإذا هو بحمار وحش عقير فيه سهم، قد مات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه حتى يجيء صاحبه، فجاء البهزيُّ، فقال: يا رسول الله! هي رميتى فكلوا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضى الله عنه أن

يقسمه بين الرفاق، وهم محرمون". فهذا يدل على أن غيبته عنه لا تمنع أكله إذا كان في طلبه. ومن جهة النظر: أنه ما دام في طلبه، فقد علم أنه ممن لم يكن يلحق ذكاته، فكانت الرمية ذكاته، وأما إذا فرط، فجائز أن يكون قد كان يمكنه أن يدرك ذكاته، فلم يجز ترك ذكاته بالشك. فإن قيل: لما كان سبب الموت موجودًا في الرمية، فهلا جعلته حادثًا عنه إذا لم يُعلم سببٌ غيره حدث عنه الموت، كما نقول فيمن جرح رجلاً، فلم يزل صاحب فراش حتى مات، أنا نحكم بحدوث الموت عن الجراحة، وهي سبب حدوثه، فيتعلق الحكم به. قيل له: لم نحرِّمه من حيث لم نحكم بحدوث الموت عن الرمية، لكن من جهة أنَّ وجود الرمية لا يكون سببًا للذكاة إذا أمكن الوصول إلى ذبحه، فإنما منعنا الذكاة من هذه الجهة. مسألة:] حكم أكل صيد النساء [ قال: (وصيدُ النساء في جميع ما ذكرنا كصيد الرجال، وذبائحهم كذبائح الرجال).

وذلك لقول الله تعالى:} إلا ما ذكيتم {، وعمومه يتناول الرجال والنساء. وقد روى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أكل ذبيحة امرأة". مسألة:] حكم ذبيحة وصيد الصبيان [ قال: (وذبح وصيد الصبيان الذين يعقلون الذبيحة كذبائح الرجال، وكذلك صيدهم). وذلك لأنهم مسلمون، وتسميتهم تسميةٌ صحيحة، فلا فرق بينهم وبين الرجال. * ... * ... * ... *

كتاب الضحايا

كتاب الضحايا مسألة:] حكم الأضحية [ قال أبو جعفر رحمه الله: (والأضحية واجبة في قول أبي حنيفة على المقيمين الواجدين من أهل الأمصار وغيرهم، ولا تجب على المسافرين. ويجب على الرجل من الأضحية عن ولده الصغار مثل الذي يجب عليه من الأضحية عن نفسه. وخالف أبو يوسف ومحمد أبا حنيفة في ذلك، فقالا: ليست بواجبة، ولكنها سنة، غير مرخص لمن وجد السبيل إليها في تركها). قال أحمد: المشهور من قول أصحابنا جميعًا أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد أنَّ الأضحية واجبةٌ على أهل اليسار. وحدُّ اليسار الذي يتعلق به وجوب الأضحية، هو ما يتعلق به وجوب صدقة الفطر.

وروي وجوب الأضحية عن جماعة من السلف، منهم: سالم بن أبي الجعد ومكحول في آخرين منهم. وروي أنها غير واجبة عن أبي بكر وعمر وابن عباس وأبي مسعود الأنصارى. وروى عن أبي يوسف في الجوامع: أنها سنة، وليست واجبة. وما حكاه أبو جعفر عن أبي يوسف ومحمد من أنها ليست بواجبة، ولكنها سنة غير مرخص لمن وجد السبيل إليها في تركها، فإنه قول خلاف المشهور عنهما. وعلى أنَّ قوله: غير مرخص له في تركها: يقتضي أن تكون في حد الوجوب، لأن ما ليس بواجب، فهو مرخصٌ له في تركه. وقوله عنهما: غير مرخَّص لمن وجد السبيل إليها في تركها: إطلاقه ليس بسديد. وكذلك قوله: على الواجدين: لأنه ليس كل من وجد السبيل إلى الأضحية مأمورًا بها، إنما يؤمر بها من كان من أهل اليسار، وهو أن يكون في ملكه فضلٌ عما يحتاج إليه من مسكن وأثاث وخادم، ومائتي درهم، أو ما يساويها، فأما من يملك أقل من ذلك، فليس عليه أضحية، وهذا

مرويٌّ عنهم على هذا الوجه. ] الأدلة على وجوب الأضحية [ فأما الحجة في وجوبها: فمن جهة دلالة الكتاب والسنة والنظر. * فأما دلالة الكتاب: فقول الله تعالى:} فصل لربك وانحر {، وظاهره يقتضي وجوب النحر على النبي عليه الصلاة والسلام، وما لزم النبي عليه الصلاة والسلام، فهو لازم لنا حتى تقوم الدلالة على تخصيصه عليه الصلاة والسلام به دوننا. فإن قيل: روي أنَّ المراد وضع اليد عند النحر في الصلاة. قيل له: روي أنه أراد الأضحية، وهو حقيقة اللفظ، فحمله عليه أولى منه على المجاز. وعلى أن ما في الظاهر خلافه، لأن قول القائل: قد نحر فلان، لا يعقل منه وضع اليد في الصلاة عند النحر. ودلالة أخري: وهي ما روى يزيد بن أرقم قال: "يا رسول الله! ما هذه

الأضاحي؟ قال: سنة أبيكم إبراهيم عليه السلام". فإذا ثبت أنها من سنة إبراهيم، وقد قال الله تعالى:} أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده {، لزم اتباعه في سنته بظاهر الآية بعد ثبوتها من سنة إبراهيم. وكذا نقول في شرائع من كان قبلنا من الأنبياء، إنها لازمة لنا حتى تقوم الدلالة على نسخها بشريعة غيرها. * وأيضًا: قال الله تعالى:} لكل أمة جعلنا منسكًا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر {. وقال:} ولكل أمة جعلنا منسكًا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام {. فأخبر أنَّ المنسك المأمور به هو ما يفعل من الذبائح، وهي الأضاحى

المفعولة في أيام النحر، والأمر يقتضي الوجوب إلا أن تقوم الدلالة على غيره؛ لأن قوله:} فلا ينازعنك في الأمر {يقتضي أن يكون هناك أمر بالمنسك. فإن قيل: إنما المعنى في قوله:} فلا ينازعنك في الأمر {: في الشأن، وفي الحال التي وقعت المنازعة فيها، كقوله:} وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر {، وكقوله:} وما أمر فرعون برشيد {: يعني شأنه ودأبه، وقوله:} ألا إلى الله تصير الأمور {. قيل له: حقيقة اللفظ تتناول قول القائل: افعل هذا، هو المعقول من لفظ الأمر، ولا يصرف إلى غيره إلا بدلالة. * ويدل عليه أيضًا: قوله تعالى:} قل إن صلاتى ونسكي ومحياىَ ومماتي لله رب العالمين {، إلى قوله:} وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين {. فصحَّ أنَّ النبي صلي الله عليه وسلم كان مأمورًا بالنسك، والأمر يقتضي الوجوب، وإذا ثبت وجوبها على النبي عليه الصلاة والسلام،

لزمنا مثله بقوله تعالى:} فاتبعوه {، وقال:} فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة {. * ومن جهة السنة: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع حدثنا عباس بن الوليد بن المبارك حدثنا الهيثم بن خارجة حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن عياش عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قدر على سعةٍ فلم يضح، فلا يقربن مصلانَّا". وحدثنا أبو بكر بن الجعابي قال: حدثنا محمد بن سليمان الباغندي حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا زيد بن الحباب حدثنا عبد الله بن عياش المصري عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من كان عنده سعة فليضح، فمن لم يضح فلا يقربن مسجدنا". قال أبو بكر بن الجعابي: عبد الله بن عياش هذا: جليل القدر، وهذا الحديث سديد الطريقة.

قال أبو بكر الجعابي: وحدثني محمد بن عبد الله بن يوسف قال: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ابن أخى ابن وهب قال: حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال: حدثني عبد الله بن عياش عن عيسى بن عبد الرحمن عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قدر على أن يضحي، أو قال: من وجد سعة: فليضح، فمن لم يضح فلا يقربن مصلانَّا". وهذا الحديث يدل على وجوب الأضحية من وجهين: أحدهما: قوله: "فليضحِّ"، وهذا أمر يقتضي الإيجاب. والثاني: قوله: "فمن لم يضحِّ، فلا يقربن مصلانا"، والمعقول من ظاهر هذا اللفظ الوجوب، لأنه معلوم أنه لم يرد به نهيه عن الصلاة، وحضور المسجد، وإنما المراد والله أعلم: على غير سبيلنا، وبمنزلة من خالف سنتنا، أو ما جرى مجرى ذلك. * وأيضًا: روى الشعبي وسليمان التيمي وغيرهما عن أبي رملة الحنفي، واسمه عامر – بصري - عن مخنف بن سليم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "يا أيها الناس إن على كل رجل منكم في كل سنة أضحية وعتيرة".

فاقتضى هذا اللفظ وجوب الأضحية. والعتيرة: ذبيحة كانوا يذبحونها في رجب، وهي منسوخة بدلالة الاتفاق، ولم تقم الدلالة على نسخ الأضحية، فهي واجبة على ما اقتضاه الخبر. * ويدل على وجوبها أيضًا: ما حدثنا ابن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا يحيى بن سعد عن محمد بن أبي يحيى عن أمه عن أم بلال أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ضحوا بالجذع من الضأن". وهذا أمر بها يقتضي ظاهره الإيجاب. * ويدل عليه أيضًا: ما حدثنا ابن قانع حدثنا الحسن بن المثنى بن معاذ قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا سفيان عن الأسود بن قيس عن جندب قال: "خرجنا مع رسول الله يوم أضحى، فرأى قومًا قد ذبحوا ونحروا، ورأى قومًا لم يذبحوا ولم ينحروا، فقال عليه الصلاة والسلام: من ذبح قبل الصلاة: فليعد الذبح، ومن لم يذبح: فليذبح باسم الله". وهذا الحديث يدل من وجهين على صحة قولنا: أحدهما: أمره من ذبح قبل الصلاة بالإعادة، ومعلومٌ أنَّ المذبوح قبل

الصلاة كما لم يذبح، لأنه لم يقع موقع الإجزاء، ثم أمره بالإعادة، وذلك كأمر مبتدأ بالذبح. والثاني: قوله: "ومن لم يذبح فليذبح": وهذا أيضًا أمر يقتضي الإيجاب. * ويدل عليه أيضًا من جهة السنة: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله حدثنا حجاج بن منهال حدثنا يزيد بن زريع عن داود عن الشعبي عن البراء بن عازب قال: "قام رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم أضحى فقال: "لا يذبحن أحدٌ قبل أن يصلي، فقام خالي، فقال: يا رسول الله! إنى عجلت بنسكي لأن أطعمه أهلي وجيراني، قال: قد فعلت، فأعد ذبحًا آخر. قال: يا رسول الله! عندى عناق خير من شاتي لحم أذبحها؟ قال: نعم، وهي خير نسكيك، ولم تقض جذعة عن أحدٍ بعدك". وهذا الحديث يدل من وجهين على صحة قولنا: أحدهما: قوله: "أعد ذبحًا آخر"، والأمر على الوجوب. والثانى: قوله: "لا تقضي جذعة عن أحدٍ بعدك"، لأن القضاء عنه إنما يكون عن واجب في ذمته، كقولك: قضيت الدين، وقضيت صلاة الظهر، والنذر، وما جرى مجراه.

وقد روي في بعض ألفاظ هذا الحديث: "إنها تجزئ عنك، ولا تجزئ عن أحدٍ بعدك". ومعناهما واحد، لأنهم يقولون: جزى عني كذا وكذا أي: قضى عني فإن قيل: روى أبو جناب عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأضحى علي فريضة، وهو عليكم سنة". قيل له: هذا مما يدل على الوجوب، لقوله: "هو عليكم سنة". وقوله: "سنة": لا ينفي الوجوب؛ لأن السنة منها الواجب وغير الواجب. فإن قيل: لولا أنه أراد نفي الإيجاب، لم يكن لتفرقته بين نفسه وبين الأمة معنى، وفي وجوب حمل كلامه صلى الله عليه وسلم على الفائدة، ما يوجب أن يكون المراد الفرق بينه وبيننا في الوجوب. قيل له: ليس كذلك، لأنه يحتمل أنه يريد: هو علي فريضة بوحي من الله إليه فيه بعينه، وهو عليكم سنة، أي وجوبه من جهتي لا بوحي. وأيضًا: فليس كل واجب فرضًا، لأن الفرض ما كان على أعلى منازل الوجوب، وقد يكون الشيء عندنا واجبًا، لا يطلق عليه اسم الفرض، كصلاة العيد هي واجبة، ولا يطلق عليها اسم الفرض، وصلاة الظهر واجبة فرض، ونظائر ذلك كثيرة، فليس يمتنع أن يكون النبي صلى الله

عليه وسلم قد كان مخصوصًا بلزوم فرض الأضحية، وأنها ليست علينا في تأكيد الوجوب، كما كانت عليه. * فإن احتجوا بما رواه أبان بن أبي عياش وجابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث هن علي فريضة، وعليكم تطوع: الأضحى، والوتر، والضحى". قيل له: أبان بن عياش سيء الحفظ، ضعيف جدًا، وجابر الجعفى مطعون فيه، قد قيل فيه العظائم. وأيضًا: فإن أصل الحديث: ما رواه أبو جناب عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "الأضحى علي فريضة، وعليكم سنة". فيشبه أن يكون الراوي لما ظن أنَّ معنى قوله: "عليكم سنة": أنه تطوع، حمله على المعنى عنده، فنقله. وأيضًا: لو ثبت هذا الحديث من جهة يوثق بها، لم يجز أن تعارض به أخبارنا المقتضية لإيجابها، لأن الخبرين متى وردا، وفي أحدهما الإيجاب، وفي الآخر نفيه: كان خبر الإيجاب أولى، لأن الأصل كان فيه نفي الوجوب، فخبر النفي وارد على الأصل، وخبر الوجوب متأخر عنه لا محالة، ولم يتيقن ورود ما يرفع الوجوب بعد استقراره، فكان خبر الإيجاب أولى. * فإن قيل: روت أم سلمة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:

"إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي". وهذا يدل على أنها غير واجبة، لأنه علَّق فعلها بإرادته، فإذا لم يردها لم تجب عليه. قيل له: شرط الإرادة في فعلها، لا ينفي وجوبها، لأن شرط جميع الفرائض الإرادة، ولا تصح إلا بها، وليس فيه: أنه إذا لم يرده كيف يكون حكمه؟ وأيضًا: روى ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من أراد الحج فليتعجل". ولم يدل على نفي إيجاب الحج، لذكره الإرادة فيه. وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من أراد منكم الجمعة، فليغتسل"، ولم يدل ذلك على نفي وجوب الجمعة. * ويدل على وجوب الأضحية: ما روي عن أبي جعفر محمد عن علي رضي الله عنه قال: "نسخ الأضحى كل ذبح كان قبله – يعني من العقيقة وغيرها-، ونسخت الزكاة كلَّ زكاة كانت قبلها، ونسخ صوم شهر

رمضان كل صوم كان قبله، ونسخ غسل الجنابة كل غسل كان قبله". ومعلوم أنه أراد به نسخ الوجوب، لأن الجواز باق الآن، ولم ينسخ الواجب من ذلك بالأضحى، إلا والأضحى واجب، لأنه إن لم يكن واجبًا، لم يكن الأول منسوخًا به، ولقال: إن وجوب الذبائح كلها قد نسخ، ولم يقل: نسخ بالأضحى. وروى الحجاج أيضًا عن أبي جعفر، قال: "نسخت الأضحية كل ذبيحة". ويدل على أنَّ مراده: نسخ وجوب الذبائح بوجوب الأضحية: أنَّ جميع ما ذكره أنه ناسخ لما قبله، فهو فرض أو واجب. * فقد ثبت وجوب الأضحية بما قدمنا من دلائل الكتاب والسنة، إلا أنَّ الفقهاء متفقون على أنها غير واجبة على المسافرين، فخصصناهم من

جملة ظواهر الآي والسنن، وبقي حكم الوجوب فيمن عداهم. قال إبراهيم النخعي: "كانوا إذا شهدوا ضحوا، وإذا سافروا لم يضحوا". وليس في سقوطها عن المسافرين ما يدل على سقوطها عن المقيمين، لوجودنا كثيرًا من الفروض يتعلق وجوبه بالمقيم دون المسافر، منها الجمعة، والركعتان الأخريان من الظهر، وتعيين فرض شهر رمضان، وصلاة العيدين، هذه كلها أمور تلزم المقيمين دون المسافرين. فإن قيل: لما كان مضي أيام النحر يُسقطها، دلَّ على أنها ليست بواجبة. قيل له: سقوطها بمضي الوقت، لا ينفي وجوبها، ألا ترى أنَّ فرض الجمعة يسقط بمضي الوقت، ولم ينف ذلك وجوبها، وقد يتعلق سقوط الفرض بفعل الإنسان، وهو أن يرتد، ثم يسلم بعد مضي وقت الصلاة، أو الصوم، فلا يجب عليه قضاء ما كان لزمه في حال الإسلام قبل الردة، فإذًا ليس في سقوط الفرض بمضي وقت، أو إحداث فعل دلالة على نفي وجوبه في الأصل، وصلاة العيدين واجبة، ومضيُّ الوقت يسقطها. ولو أنَّ رجلاً نذر أضحية في أيام النحر بعينها، فلم يذبحها حتى مضت أيام النحر: سقط عنه ذبحها.

ولو أنَّ رجلاً أحرم بحج، تعين عليه وجوب فعل الحج في تلك السنة، فإن فاته الحج: سقط عنه حكم الوجوب في تلك السنة، وكان عليه أن يتحلل بعمرة، وصار الحج في ذمته. * وأما دليلنا من طريق النظر، فهو اتفاق الجميع على لزوم الأضحية بالنذر، ولو لم يكن لها أصل في الوجوب، لما صح إيجابها بالنذر، لأن كل ما ليس له أصل في الوجوب، لا يصح إيجابه بالنذر. ألا ترى أنه لو قال: "لله علي المشي إلى السوق، أو إلى المسجد"، لم يلزمه شيء، لأنه ليس له أصل في الوجوب. فإن قيل: للأضحية أصل في الوجوب، وهو هدي القران والتمتع. قيل له: ليس هدي القران هو الأضحية، والدليل عليه: أن مضي أيام النحر يمنع صحة الأضحية، ولا يمنع صحة ذبح هدي التمتع، ولو كانت هي الأضحية، لتعلقت بالوقت، لأن الأضحية مخصوصة بوقت لا يصح فعلها في غيره. ودليل آخر: وهو أنَّ يوم الفطر، لما تعلق به وجوب صلاة العيد، تعلق به حق في المال لله تعالى، وهو صدقة الفطر، فلما تعلق بيوم النحر وجوب صلاة العيد، وجب أن يتعلق به حق المال لله تعالى، واتفق الجميع على سقوط ما عدا الأضحية، فوجب أن يكون الحق الذي تعلق وجوبه في المال بهذا اليوم هو الأضحية. فإن قيل: فقد يجوز عندكم فعل صلاة العيد في اليوم الثاني من الفطر

إذا فاتت في اليوم الأول لعذر، ولا يتعلق باليوم الثاني وجوب صدقة الفطر. قيل له: لم تكن العلة جواز الفعل، وإنما كانت وجوب الفعل، وصلاة العيد لا تجب في اليوم الثاني من الفطر، وإنما تجب في اليوم الأول، وتفعل في اليوم الثاني على وجه القضاء إذا فاتت لعذر. ألا ترى أنا نقول إنه لو تركها الإمام عمدًا من غير عذر: لم يجب قضاؤها في اليوم الثاني، فعلمت أنَّ اليوم الثاني من الفطر ليس يتعلق به وجوب صلاة العيد وإن تعلق به جواز الفعل على جهة القضاء في بعض الوجوه. فإن قيل: فأنتم توجبون الأضحية على من بلغ أو أسلم في اليوم الثاني والثالث من أيام النحر، ولا يتعلق بهذين اليومين وجوب صلاة العيد. قيل له: هذا سؤال ساقط، لأنه إلزام على غير العلة، وإنما ألزمت على عكس العلة، وعلى أنه غلط في المذهب، لأن اليوم الثاني والثالث من أيام النحر عندنا وقت للزوم صلاة العيد، لأنا نقول: إن الإمام لو تركها في اليوم الأول لعذر أو لغير عذر، فعلها في اليوم الثاني والثالث، لا على وجه القضاء، بل على أنه وقت الوجوب، فمن أجل ذلك قلنا إن من بلغ من الأطفال، أو أسلم من الكفار في هذه الأيام، لزمته الأضحية. * وإنما قالوا إن الأضحية على الأغنياء الذين تجب عليهم صدقة الفطر لأجل غناهم، للعلة التي وصفنا، وهي أنَّ وجوبها تعلق بوقت وجوب صلاة، كما تعلق وجوب صدقة الفطر باليوم الذي تجب فيه صلاة العيد، ثم كانت صدقة الفطر على الأغنياء لدلائل أوجبت ذلك، وجب أن يكون كذلك حكم الأضحية فيمن تجب عليه.

ويدل عليه حديث أبي هريرة الذي قدَّمنا عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من وجد سعة"، فلا تجب على الفقير. ووجه آخر: وهو أنَّ الأضحية حق وجب لله تعالى مبتدأ، لا بسبب من جهة العبد، فوجب أن يتعلق وجوبها بوجود الغنى، كالزكاة لما كانت حقًا في المال، أوجبها الله على جهة الابتداء، لا بسبب من جهة العبد، نعلق وجوبها بوجود الغنى، ولهذه العلة أيضًا وجوب صدقة الفطر بوجود الغنى، وليست كالكفارات ونحوها، لأن وجوب الكفارة متعلق بسببٍ من جهته، فتعلقت بوجود الإمكان، لا بالغنى. فإن قيل: فالحج فرض مبتدأ، لم يتعلق بسبب من جهته، وليس هو متعلقًا بوجود الغنى، وإنما تعلق بوجود الاستطاعة. قيل له: ليس الحج حقًا متعلقًا في المال، وإنما هو على البدن، والمال به يتوصل إليه، لأن الحق واجب فيه، فلم يلزم على ما نصبنا من العلة في تعلق الحق في المال. فصل:] في الأضحية عن الصغار [ وأما وجه قولهم في وجوب الأضحية على الرجل عن ولده الصغار: فهو ما قدَّمنا في دلالة وجوب الأضحية من فعل إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأمر الله إيانا باتباعه، والذي وجب على إبراهيم من الأضحية، إنما وجب عليه عن ولده، قال الله تعالى:} وفديناه بذبح عظيم {،

يعني الذبيح من ولد إبراهيم صلى الله عليه وسلم، والفداء ما أقيم مقام الشيء، فثبت أنها وجبت عليه عن ولده، ثم لما كان هو الأصل في وجوب الأضحية، وجب أن يكون وجوبها علينا محتذى به وجوبها على إبراهيم عليه السلام. ووجه آخر: وهو ما روي في حديث مخنف بن سليم عن النبي عليه الصلاة والسلام: "إن على أهل كل بيت منكم في كل عام أضحية". وفي لفظ آخر: "على كل رجل"، فاستعملنا اللفظين، فقلنا: إنها تجب على كل رجل على حياله، وعلى من كان من أهل البيت أيضًا على حياله، والابن من أهل البيت، فوجب أن يكون ذلك عليه في ماله، وإذا لزمته في ماله وهو غير مكلف، وجب أن يكون على أبيه عنه، إذا لم يكن له مال، كصدقة الفطر. فإن قيل: فأوجبها عليه عن عبده، كما أوجبت عليه صدقة الفطر عن عبده. قيل له: لم نجعل وجوب صدقة الفطر عليه عن ولده أصلاً لوجوب الأضحية عنه، وإنما دلالة وجوبها ما قدمنا من سنة إبراهيم عليه السلام،

وما في لفظ حديث مخنف بن سليم، ثم إذ ثبت وجوبها عليه إذا كان له مال، أو على الأب إذا لم يكن للابن مال، جرت في هذه الوجوه مجرى صدقة الفطر في تعلقها تارة بالصغير، وتارة بالأب. فأما دلالة الوجوب على الصغير في الأصل: فهو ما ذكرنا، وليس تقتضي دلالة وجوبها في الأصل عن الابن وجوبها عن العبد، لأن الذي لزم إبراهيم عليه السلام من ذلك، إنما لزمه عن ابنه، لا عن عبده. وقول النبي عليه الصلاة والسلام: "على كل أهل بيت منكم في كل عام أضحية"، يقتضي دخول الابن فيه، ولا يقتضي دخول العبد فيه، لأن العبد ليس هو من أهل بيته. فإن قال قائل: فهلا قست العبد على الابن في وجوب الأضحية عنه. قيل له: قد اتفق فقهاء الأمصار على أن لا أضحية على المولى عن عبده، ولا حَظَّ للنظر مع الاتفاق. مسألة: [ما يجزئ في الأضحية من أسنان الأنعام] قال أبو جعفر: (ولا يجزئ في الهدي والضحايا إلا الجذع من الضأن، أو الثنيُّ من المعز والبقر والإبل، فصاعدًا).

فأما جواز الجذع من الضأن، فالأصل فيه: ما روي أنَّ عقبة بن عامر قال للنبي عليه الصلاة والسلام: "أضحي بالجذع من الضأن؟ فقال: نعم". وحديث أم بلال امرأة من أسلم، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ضحُّوا بالجذع من الضأن". وروى بقية بن الوليد عن أبي عبد الرحمن التيمي عن يونس بن يزيد الأيلي أنَّ رجلاً حدثه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضحُّوا بالجذع من الضأن"، إذا فرط له ستة أشهر. فإن قيل: يحتمل أن يكون جوازها مقصورًا على حال العدم والإعسار، لما روى أبو الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعة من الضأن". قيل له: لا يجوز ذلك، لأن في حديث عقبة بن عامر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً مطلقًا، فأجازه، ولم يفصل فيه بين حال الإعسار واليسار، فيحمل حينئذ خبر جابر على الاستحباب، دون الإيجاب.

وقد روي عن أبي هريرة أنه كان يقول: "يجزئ الجذع من الضأن، والثني من المعز". وقد روي عن ابن عمر أنه قال: "لا يجزئ شيء من الجذاع من البقر والإبل والضأن في الأضاحي". وعسى أن لا يكون بلغه خبر النبي عليه الصلاة والسلام في جوازه. * وأما الجذع من غير الضأن، فإن الأصل في امتناع جوازه في الأضاحي: ما روى البراء في قصة أبي بردة بن نيار حين قال: "يا رسول الله! إني عجَّلت نسكي لأهلي قبل الصلاة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعد أضحيتك. فقال: يا رسول الله! عندي جذعة من المعز، وهي خير من مسنة. فقال: إنها تجزئ عنك ولا تجزئ عن أحد بعدك". وإذا ثبت ذلك في الجذع من المعز، فالجذع من الإبل والبقر بمثابته، لأن أحدًا لم يفرق بينهما. فإن قيل: فقد روي عن زيد بن خالد الجهني "أنَّ رسول الله عليه الصلاة والسلام قسم أضاحي بين أصحابه، وأعطاني عتودًا جذعًا، قال: فرجعت به إليه، فقلت: إنه جذع؟ قال: ضحِّ به، فضحَّيت به".

قيل له: يحتمل أن يكون من الضأن، ويحتمل أيضًا أن يكون تطوعي غير واجب. وأيضًا: لو ساوى خبر النهي في الاحتمال، لكان خبر الحظر أولى، لما بيَّنَّا في مواضع. مسألة: [الجزور أفضل الأنعام في الأضحية] قال: (والجذور في الأضحية أفضل ما ضحي به، ثم البقرة، ثم الشاة). وذلك لقول الله تعالى: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}. روي في التفسير: استسمانها واستعظامها. وروي عن ابن عمر "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بالجزور، وبالكبش إذا لم يكن جزورًا". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة، ثم الذي يليه كالمهدي شاة".

فأفاد أنَّ البدنة أفضل من البقرة، والبقرة أفضل من الشاة. مسألة: قال أبو جعفر: (ولا تجزئ الأضحية بما سوى هذه الثلاثة الأصناف)، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم. مسألة: [حكم الاشتراك في الشاة في الأضحية] قال: (ولا تجزئ الشاة إلا عن واحد). وذلك لأن الصحابة اتفقت على أنَّ البدنة لا تجزئ عن أكثر من سبعة، وإذا لم تجز البدنة عن أكثر من سبعة، فالشاة أولى بأن لا تجزئ عن أكثر من ذلك، والناس في الشاة على أقاويل ثلاثة: فقال قائلون: تجزئ عن أهل بيت واحدٍ وإن كثروا، ولا تجزئ عن أهل بيتين. وقال آخرون: تجزئ عن أهل أبيات شتى وإن كثروا. وقال آخرون: وهو مذهب الجماعة، لا تجزئ عن أكثر من واحد. فلما ثبت أنَّ البدنة التي هي أفضل من الشاة، لا تجزئ عن أكثر من سبعة، وجب أن تكون الشاة مثلها، وإذا ثبت ذلك في الشاة، بطل

القولان الأولان، فلم يبق إلا قول من يقول إنها لا تجزئ إلا عن واحد فإن قيل: روت عائشة "أنَّ رسول الله عليه الصلاة والسلام أمر بكبش أقرن، فأخذه وأضجعه، ثم ذبحه، وقال: بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد، ثم ضحى به". وقال جابر بن عبد الله: "ضحى رسول الله عليه الصلاة والسلام بكبشين: أحدهما عن محمد، وأمته". وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "ضحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين ثم قال: هذا عني، وعمن لم يضحِّ من أمتي". قيل له: هذا منسوخ أو مخصوص بدلالة الاتفاق الذي قدمنا. وأيضًا: فإنه تطوع، وقد يجوز أن يتطوع الإنسان عن الغير بما شاء من ذلك. مسألة: [تجزئ البقرة والجزور في الأضحية عن سبعة] قال أبو جعفر: (والجزور والبقرة يجزئ كل واحد منهما عن سبعة،

ويستوي فيه أهل البيت الواحد، وأهل القبائل المتفرقين). وذلك لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن قيس عن عطاء عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البقرة عن سبعة، والجزور عن سبعة". وروى قتادة عن أنس "أنَّ أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام كانوا يشتركون في البدنة من الإبل عن سبعة، ويشتركون في البدنة من البقرة عن سبعة". فثبت بذلك جواز البدنة والبقرة عن سبعة. ودل على أنه لا فرق بين اشتراك أهل البيت الواحد فيها، وبين أهل الأبيات المتفرقين لعموم اللفظ، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يفرق بينهما. فإن قيل: روى عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نختار السليم من الضحايا، وأن نذبح الجذع من الغنم، والجذع من الضأن، ونجتمع العشرة منا في الجزور، والسبعة في البقرة". وروى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة

ومروان بن الحكم قالا: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحديبية يريد زيارة البيت، وساق معه الهدي، وكان الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، وكان كل بدنة عن عشرة". قيل له: أما حديث عبادة بن نسي فإنه ضعيف السند، لأنه يرويه ابن لهيعة عن ابن أنعم عن عبيد بن حميد عن عبادة بن نسي، وابن لهيعة يُضعف، وقد تكلم أيضًا في ابن أنعم. وحديث المسور ومروان، قد عارضه حديث جابر وأنس، وقد كان جابر شهد الحديبية، وأخبر أنَّ البدنة كانت عن سبعة، فهو أولى من حديث المسور ومروان. وأيضًا: فإن أنسًا قال: "كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يشتركون السبعة في البدنة". وقال علي وعبد الله: "البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة". فهؤلاء كانوا أعلم بقصة الحديبية، فكان قولهم أولى. وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عليَّ ناقة وقد عزَّت عليَّ؟ فقال: اشتر سبعًا من الغنم".

فعدلها بسبعة من الغنم، ولم يعدلها بعشرة، فدلَّ على صحة ما ذكرنا. وأيضًا: فلو كانت الأخبار متعارضة متساوية في النقل والعمل، كان خبر السبعة أولى، لأن القياس يمنع جواز الاشتراك في البدنة، لأن النفس لا تتبعض في الذبح، فمتى تعارضت الأخبار، كان اعتبار الأقل أولى إذا لم تثبت الزيادة، والقياس يمنع منها. وأيضًا: قد اتفق الجميع على أنَّ البقرة لا تجزئ عن أكثر من سبعة، فكذلك البدنة. مسألة: [تحديد أيا النحر] قال أبو جعفر: (وأيام النحر ثلاثة أيام، يوم النحر ويومان بعده، وأفضلها أولها). قال أحمد: وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة، وأنس رضي الله عنهم. وقد روي عن بعضهم أنَّ أيام التشريق كلها من أيام الذبح، وهو عندنا شاذٌّ، لاتفاق أئمة السلف على خلافه.

ويدل عليه أيضًا: ما روى ابن شهاب عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن أنه سمع عليًا رضي الله عنه يقول يوم الأضحى وعثمان محصور: "أيها الناس إن النبي عليه الصلاة والسلام نهاكم أن تأكلوا نسككم بعد ثلاث، فلا تأكلوها بعدها". ورواه الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "كلوا منها ثلاثًا، يعني لحوم الأضاحي". ورواه الليث عن نافع عن ابن عمر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأكل أحدكم من أضحيته فوق ثلاثة أيام". وروى علي وابن مسعود وبريدة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تدَّخروها فوق ثلاثة أيام، فادَّخروها ما بدا لكم". فدلت هذه الأخبار على أنَّ جواز الأضحية مقصور على هذه الأيام؛ لأنه إذا كان منهيًا عن تبقية اللحم أكثر من ثلاث، والذبح لا محالة قبل ذلك، علمنا أنَّ الذبح مقصور على الثلاث. وقد روي في بعض ألفاظ حديث علي رضي الله عنه: "أنَّ رسول الله

صلى الله عليه وسلم نهى أن يبقى عندكم من نسككم شيء بعد ثلاث". فهو على الحي والمذبوح جميعًا؛ لأن اللفظ يتناولهما. وأيضًا: فإن مقادير الأوقات التي تتعلق بها صحة الفروض، لا تعلم من طريق المقاييس، وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق، وقد حصل الاتفاق والسنة في الثلاث، فأثبتناها، ولم نثبت ما فوقها؛ لعدم الدلالة عليه. فإن قيل: روى سليمان بن موسى عن عبد الرحمن بن أبي حسين عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في كل أيام التشريق ذبح". قيل له: لم يقل: أضحية، ونحن نجيز ذبح هدي القران والتطوع والمتعة وغيرها في هذه الأيام كلها، وإنما قلنا: إن الأضحية مقصورة على أيام النحر. مسألة: [ذبح الأضحية ليالي أيام النحر] قال: (والذبح في لياليها كهو في أيامها). وذلك لأن اسم الأيام إذا أطلقت يتناولها بلياليها، وذلك معقول من اللفظ، وقد بيَّنَّا ذلك في مواضع. فإذا قيل: أيام النحر ثلاثة: فقد دخلت فيها الليالي.

مسألة: [ابتداء وقت الذبح في المصر] قال أبو جعفر: (ولا يجوز لأهل الأمصار أن يذبحوا قبل أن يصلي الإمام صلاة العيد، وإن ذبحوا: لم تجزهم). والأصل في ذلك: حديث البراء: "أنَّ أبا بردة بن نيار ذبح قبل أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العيد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: تلك شاة لحم، أعد أضحيتك". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ذبح قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه". وفي حديث البراء أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول نسكنا في يومنا هذا، أن نبتدئ بالصلاة، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد وافق سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك، فإنما هو لحمٌ عجَّله لأهله، ليس من النسك في شيء". ودلالة هذا الحديث على صحة قولنا ظاهرة من وجوهٍ كثيرة لا تخفى على متأملها. * وقد ذهب قوم إلى أنه لا تجزئ الأضحية قبل ذبح الإمام وإن كانت

بعد الصلاة. لما روى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا، فظنوا أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قد نحر، فأمر من كان نحر قبله أن يعيد بذبح آخر، ولا ينحر حتى ينحر النبي عليه الصلاة والسلام". واحتجوا لذلك أيضًا بقوله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله}. فأما هذا الحديث: فلا دلالة فيه على ما ذكروا؛ لأنه يحتمل أن يكونوا ذبحوا قبل صلاة النبي عليه الصلاة والسلام، إذ ليس فيه: أنهم ذبحوا بعدها، والأحاديث التي قدمناها تعارضه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح فيها الذبح بعد الصلاة، ولم يشترط فيه ذبح الإمام. وأيضًا من طريق النظر: اتفاق الجميع أنَّ الإمام لو لم يضح، لما سقطت الأضحية عن سائر الناس، فدل ذلك على أنها ليست متعلقة بنحر الإمام. فإن قيل: ولو كانت متعلقة بصلاة الإمام، كان ينبغي أن تسقط إذا لم يصل الإمام، فلما لم تسقط بترك الصلاة، ولم يدل ذلك على أنَّ جوازها

غير متعلق بالصلاة، كذلك لم يتعلق بذبح الإمام، ولا تسقط بترك الإمام الذبح. قيل له: فهذا يؤكد قولنا، ويدل على أنَّ جوازها متعلق بالصلاة، لا بنحر الإمام، إذ كان فوات وقت الصلاة أجاز له فعل الأضحية، فصار ذلك متعلقًا بالصلاة، لا بنحر الإمام. ويدل عليه: أنَّ الإمام لو نحر قبل أن يصلي: لم يجزه، فكذلك سائر الناس. مسألة: [وقت ذبح الأضحية في غير المصر] قال أبو جعفر: (ولأهل السواد أن يذبحوا بعد طلوع الفجر من يوم النحر). وذلك لأنهم لا صلاة عليهم، فكانوا بمنزلة أهل المصر بعد الصلاة، لسقوط الصلاة عنهم. مسألة: قال: (وإن أمر أهله وهم في السواد، وهو في المصر أن يضحوا عنه: فإنه يجوز لهم أن يضحوا عنه بعد طلوع الفجر من يوم النحر. ولو كانت الأضحية في المصر، وهو في السواد: لم يجز لهم أن يضحوا عنه إلا بعد الصلاة). وإنما اعتبر موضع الأضحية، لا موضع المضحي، كما اعتبر موضع

المال في أداء الزكاة، وصرفها إلى مساكين موضع المال، دون مساكين موضعه، وكما يعتبر في هدي القران والمتعة موضع الذبح وهو الحرم، دون موضع الرجل، والمعنى في جميع ذلك: أنَّ الحق متعلق بالعين، فاعتبر موضع العين، دون غيره. مسألة: [وقت الذبح لمن كان في مصره أكثر من مسجدٍ للعيد] قال أبو جعفر: (وكلُّ مصر فيه مسجدان يصلى في كل واحد منهما العيد: أجزأ أهل ذلك المصر أن يذبحوا بعد ما صلى أحد المسجدين). وذلك لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من ذبح قبل الصلاة، فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه". فأجاز الأضحية بعد الصلاة، وهو على أول الصلاتين. وأيضًا: فلو اقتصر على صلاة أحد المسجدين: جاز، وتعلق حكم جواز الأضحية بها، فلا يمنع من ذلك صلاة المسجد الآخر. مسألة: [توزيع لحم الأضحية] قال: (ولا بأس بأن يأكل الرجل ويدخر من أضحيته، وينبغي له أن يتصدق منها، ولا يقصر عن الثلث). قال أحمد: الصدقة عندهم بالثلث استحبابًا. والأصل في جواز الأكل والادخار منها: ما روي عن النبي عليه

الصلاة والسلام أنه قال: "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فكلوا وادخروا". وروى ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ليأكل كل رجل من أضحيته". وأما جهة الاستحباب في الصدقة بالثلث: فهو قول الله تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير}. فهذا عام في سائر البدن من الأضاحي وغيرها، ثم قال: {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر}. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "فكلوا وادخروا".

فجعل للصدقة الثلث، لأن الثلثين للأكل والادخار، وقد روي الصدقة بالثلث عن ابن مسعود. مسألة: [حكم بيع لحم الأضحية] قال: (ولا ينبغي له أن يبيع من لحمها شيئًا). وذلك لما روي في حديث قتادة بن النعمان عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "كنت أمرتكم أن لا تأكلوا من لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فكلوا ما شئتم، ولا تبيعوا لحم الهدي والأضاحي، وكلوا، وتصدقوا، واستمتعوا بجلودها". وروى عبد الله بن عياش القتباني عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من باع جلد أضحيته: فلا أضحية له". وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة موقوفًا عليه.

وقال النبي عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حين أمر بنحر البدن: "وتصدق بحلالها وخطامها، ولا تعط الجازر منها شيئًا، فإنا نعطيه من عندنا". فمنعه أن يعطي الجازر منها شيئًا على وجه الأجرة، فدلَّ على أنه ممنوع من بيعه. مسألة: [ما يلزم من باع شيئًا من أضحيته] قال أبو جعفر: (فإن باعه: جاز بيعه، وتصدَّق بثمن ما باعه). وإنما جاز بيعه؛ لأنه في ملكه، جائزُ التصرف فيه، ألا ترى أنه يجوز هبته وصدقته، ولأن النهي لم يتناول معنى في نفس العقد، فصار كالبيع عند أذان الجمعة، وكالنهي عن تلقي الجلب، وبيع حاضر لباد، والنهي عن بيع الطعام في دار الحرب، كل ذلك قد ورد فيه نهي، ولم يمنع جواز العقد، إذ لم يتناول النهي معنى في العقد. وإنما أمر بأن يتصدق بثمن ما باع؛ لأنه لما كان منهيًا عن بيعه، وأخذ

ثمنه، حصل ذلك له من وجه محظور، فأمر بالصدقة به، كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالصدقة بالشاة المشوية التي أخذت بغير إذن مالكها، فقال عليه الصلاة والسلام: "أطعموها الأسرى"، لأنها حصلت لهم من وجه محظور. وأيضًا: لما أخرجه من باب الأضحية، وما يجوز فيها، صار كالأضحية إذا أوجبها بعينها، ثم لم يذبحها حتى مضت أيام النحر، فيجب عليه أن يتصدق بها، لخروجها عن معنى الأضاحي بعد ثبوت ذلك الحق فيها، وكما لو حلب الأضحية، أو أخذ صوفها قبل الذبح، كان عليه أن يتصدق به. مسألة: [الإهداء من الأضحية للأغنياء] قال أبو جعفر: (ولا بأس أن يهدي منها إلى الأغنياء). وذلك لأن كل ما يجوز له أن يأكل منه: جاز أن يهديه لغني، وما لا يجوز أن يأكل منه: فشأنه الصدقة، ولا يهدي منه لغني. وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يهدي الثلث منها إلى أولاد أخيه، ويأكل الثلث، ويتصدق بالثلث، وكذا قال أصحابنا في ذلك، وفي هدي القران والمتعة والتطوع إذا بلغ محله، أنه يجوز له أن يهدي منه لغني، كما جاز أن يأكل. وأما ما لا يجوز أن يأكل منه، نحو جزاء الصيد، وهدي الإحصار، وما يجب عن الجنايات الواقعة في الإحرام: فإنه لا يهدي منه لغني؛ لأنه

لا يجوز أن يأكل منه، وسبيله أن يتصدق به. مسألة: [جعل جلد الأضحية ثمنًا لشيء من متاع البيت] قال أبو جعفر: (ولا بأس بأن يبتاع بجلدها شيئًا من متاع البيت، ولا ينبغي أن يبيعه بما سوى ذلك). وذلك لأنه مباح له الاستمتاع به، وهذا ضرب من الاستمتاع به، ألا ترى أنه يجوز له أن يدبغ الجلد، وينتفع به في البيت، كذلك إذا باعه بما ينتفع به في البيت، فلا بأس، لأن البدل قائمٌ مقام المبدل عنه. وليس كذلك بيعه بالدراهم ونحوها؛ لأن الاستمتاع بعين الدراهم غير ممكن، وهو منهي عن صرفه إلا في جهة الاستمتاع به. مسألة: [إذا لم يذبح أضحيته حتى فات وقتها] قال أبو جعفر: (ومن أوجب أضحية، فلم يضح بها حتى مضت أيام النحر: تصدَّق بها حية، ولم يذبحها). وذلك لأن القربة المتعلقة بعينها في إراقة الدم فاتته بمضي أيام النحر، فصارت كهدي التطوع إذا عطب دون بلوغ محله، فسبيله أن يتصدق به، لعدم بلوغ محله. والأصل فيه: ما روي "أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام بعث بالبدن مع

ناجية من جندب الأسلمي فقال: ما أصنع يا رسول الله بما أبدع علي منها؟ فقال: "انحرها، واصبغ نعلها في دمها، واضرب به صفحتها، وخل بينها وبين الناس، ولا تأكل أنت ولا أحدٌ من أهل رفقتك منها شيئًا". والمعنى عندنا في نهيه وأهل رفقته عن الأكل منها: أنه علم أنهم ليسوا من أهل الصدقة، وأمرهم بالصدقة حين تعذر استيفاء القربة التي تعلقت بذبحها، ولو كانت بلغت محلها لم تجب صدقتها، فصار ذلك أصلاً في نظائره، مما لم يبلغ محله من الهدي الذي يجوز أن يأكل منه مما تعلقت القربة فيه بعينه، وصار عند فوت ذبحه بمنزلة من قال: لله علي أن أتصدق بهذه الشاة: فعليه أن يتصدق بها. مسألة: [إذا ذبح الأضحية بعد فوات وقتها] قال أبو جعفر: (ولو ذبحها بعد مضي أيام النحر: تصدق بها وبنقصان الذبح). وذلك لأنه بمنزلة من قال: لله عليَّ أن أتصدق بهذه الشاة: فالقربة فيها هي الصدقة لا الذبح، فإن ذبحها وتصدق بها، كان عليه أن يتصدق أيضًا بما حدث فيها من النقصان بالذبح.

فإن قيل: فقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام ناجية بن جندب الأسلمي بنحر ما أبدع عليه من البدن. قيل له: إنما أمره بنحر ما عطب منها، لأنه لو لم ينحرها لتلفت، ولم ينتفع بها، وكذلك نقول في الأضحية، لو فاتت أيام النحر، ثم عطبت جاز له أن يذبحها، ثم يتصدق بها من غير غرامة النقصان؛ لأن الذبح حينئذ لا يوجب نقصًا، لأنه لا يصلح حينئذ إلا للذبح. مسألة: [الأضحية بما تولَّد من وحشي وأهلي] قال أبو جعفر: (ومن كانت عنده بقرة وحشية، فحملت من ثور أهلي: لم يجز أن يضحي بولدها، ولو كانت أمه أهلية، وحملته من ثور وحشي: جاز أن يضحي به). وإنما اعتبر الأم؛ لأن الولد بمنزلة جزء من أجزائها، فتبعها في حكمها، ألا ترى أنَّ بقرة أهلية لو حملت من ثور وحشي ليس في ملك أحد: أنَّ الولد ملكٌ لمالك الأم، ولو أنَّ بقرة وحشية حملت من ثور أهلي: لم يكن الولد لمالك الثور، بل كان صيدًا في غير ملك أحد، فدل ذلك على أنه تابعٌ للأم، داخلٌ في حكمها. وهذا أيضًا يشبه الرق؛ لأن الولد يتبع الأم في الرق والحرية، ولا يعتبر به الأب. فإن قيل: قد يلحق الولد بحكم أحد أبويه في الإسلام أيهما كان، ولا يلحق بالأم دون الأب، فكذلك فيما وصفت.

قيل له: ليس كذلك الولد، إنما يثبت له حكم الإسلام بنفسه، وإنما انتقل عنه باجتماع الأبوين على الكفر، فما لم يجتمعا على الكفر، فله حكم الإسلام بنفسه، لا بأحد أبويه؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه"، فأثبت له حكم الإسلام بنفسه، ونقله عنه بالأبوين جميعًا. فإن قيل: فهلا اعتبرت ذلك في البغل، أنه إن كانت أمه حمارة: كان في حكم الحمار في باب تحريم سؤره ولعابه، وإن كانت أمه رمكة لحق بحكمها. قيل له: لأن البغل سواء كانت أمه حمارة أو رمكة، فشبه الحمار قائم في خلقه، فثبت له حكمه من هذا الوجه، وأما البقرة إذا كانت أمها أهلية أو وحشية، فإنه لا يغير خلقتها وشبهها، فلذلك اعتبرت الأم، وألحق بحكمها. يدلك على لحاقه بحكم الحمار في سائر أحواله: أنه لا يسهم له بحال، كما يسهم للفرس. مسألة: [استحباب ذبح الرجل أضحيته بيده] قال أبو جعفر: (ويستحب للرجل أن يذبح أضحيته بيده). لما روى أنس بن مالك "أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام ضحى بكبشين أقرنين أملحين، ذبحهما بيده".

ولأنه يحصل له بذبحه مع النية فعل هو قربة، وكما أن حج التطوع إذ فعله بنفسه، هو أفضل من أن يحج عنه غيره. مسألة: قال: (وإن أمر غيره حتى ذبح عنه: أجزأه). لما روي "أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام ساق مائة بدنة، ونحر ببده منها نيفًا وستين، ثم أمر عليًا رضي الله عنه أن ينحر الباقي". مسألة: [ذكر اسم آخر مع اسم الله عند الذبح] قال أبو جعفر: (ويكره أن يذكر مع اسم الله تعالى غيره عند الذبح، يقول: اللهم تقبل من فلان). وذلك لأن عليه إخلاص الذكر لله، كما عليه إخلاص النية لله تعالى، قال الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}. وكما أنه إذا أراد الدخول في الصلاة أو الحج لم يخلط ذكره بذكر غيره. فإن قيل: قد روى أبو هريرة "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين مسمنين، ثم يذبح أحدهما فيقول: اللهم هذا عن محمد، وعن آل محمد، ويذبح الآخر، فيقول: بسم الله، هذا عمن شهد

لي بالبلاغ ولك بالتوحيد". وروى عروة عن عائشة "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن، فأخذه وأضجعه، ثم ذبحه وقال: بسم الله، اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد، ثم ضحى به". ففي هذين الحديثين ذكر المذبوح عنه والدعاء بالقبول في حال الذبح. قيل له: قد روى عن جابر "أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام ضحى بكبشين وجههما إلى القبلة حين ذبح، ثم قال: {وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين}، {قل إنَّ صلاتي ونسكى ومحياي} إلى قوله: {وأنا أول المسلمين}، اللهم منك ولك عن محمد وأمته، قال: بسم الله والله أكبر حين ذبح". فأخبر أن التسمية على الذبح كانت بعد الدعاء، ولم يكن الدعاء في حال الذبح، فينبغي أن يكون خبر أبي هريرة وعائشة محمولاً على ذلك،

وأن ما ذكر فيه من قوله: "بسم الله، اللهم تقبل من محمد": إنما كان عند إضجاع الذبيحة قبل حال الذبح، ثم أعاد التسمية على الذبيحة عند الذبح، لما في خبر جابر. وقد روي عن علي رضي الله عنه قوله مثل ما رواه أبو هريرة وعائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهو محمولٌ على ما بيَّنَّا. وروى الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس رحمه الله قال: يجعل أحدكم ذبيحته بينه وبين القبلة، ثم يقول: بسم الله، الله أكبر، اللهم منك ولك، اللهم تقبل من فلان. وهذا أيضًا عندنا محمول على أنه يقول ذلك في حال إضجاعها قبل حال الذبح. * قال أبو جعفر: (ولا بأس بأن يقول ذلك بعد الذبح). وذلك لأن التسمية على الذبيحة قد حصلت خالصة لله تعالى، ولا بأس عليه أن يدعو بما شاء بعد ذلك. مسألة: [حكم من أوجب أضحية، ثم مات قبل ذبحها] قال أبو جعفر: (ومن أوجب أضحية، ثم مات عنها قبل أن يذبحها، فإن أبا حنيفة قال: هي ميراثٌ عنه، وقال أبو يوسف: تذبح عنه بعد موته، وهي كالوقف لا تكون ميراثًا).

وذلك لأنها لم تخرج عن ملكه بالإيجاب، ولم يمنع ذلك تصرفه فيها، والدليل على ذلك: "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ساق بدنًا، وقلدها عام الحديبية، فأوجبها بذلك، ثم جعلها عن الإحصار، وأبدلها في العام القابل". فدل ذلك على أنَّ تعلق الإيجاب بها، لا يمنع جواز تصرفه فيها، ولم يخرجها عن ملكه؛ لأنها لو كانت ممنوعة التصرف، لما جاز أن ينحرها عن الإحصار بعد ما أوجبها تطوعًا. ويدل عليه أيضًا: ما في حديث البراء أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله". وقد تناول هذا اللفظ الذبيحة الموجبة بعينها، وما ابتدأ ذبحها من غير إيجاب، وإذا كانت لحمًا قدَّمه لأهله، فهي في ملكه يجوز له أكلها، وإذا كان كذلك، وجب أن ينتقل إلى ورثته؛ لأن الإيجاب تعلق بها على وجه العبادة، والعبادات يُسقطها الموت، كما نقول جميعًا فيمن وجبت عليه زكاة ماله، فلم يؤدها حتى مات، أنها تسقط بالموت؛ لأن إخراجها وجب على جهة العبادة، ولا يجوز بقاء الحكم عليه بعد الموت. فإن قيل: لما تعلَّق هذا الحق برقبتها، حتى صار يسري في الولد، كانت بمنزلة التدبير والاستيلاد في الجارية، فيمنع انتقال الملك فيها إلى

الوارث، ويمنع جواز التصرف فيها بضروب التمليكات. قيل له: ليس المعنى المانع من بيع المدبَّرة وأم الولد تعلق الحق برقابهما فحسب، حتى يقاس عليه الهدايا، لأنه لو كان كذلك، لوجب أن لا يجوز تصرف الإنسان فيما أوجب صدقته بعينه من ثوب أو غيره. ولم يختلفوا أن رجلاً لو قال: لله علي أن أتصدق بهذه الشاة، أو هذا الثوب: لم يمنع ما تعلق به من وجوب الصدقة، جواز تصرفه فيه، وإنما المعنى المانع من جواز بيع أم الولد والمدبر ما تعلق بهما من حق العتق المستحق بالموت على الإطلاق، وذلك غير موجود في الأضحية إذا أوجبها. ومن الدليل على أنها لم تخرج عن ملكه بتعيين جهة الإيجاب فيها: اتفاق المسلمين على أنَّ له أن يأكل بعد الذبح منها، ويهدي منها إلى غني، ولو كان ملكه عنه زائلاً: لما جاز له التصرف فيه بعد ذبحه بالهبة وغيرها. * وأما أبو يوسف: فمنع التصرف فيها بعد تعيين الإيجاب فيها، لما تعلق برقبتها من الحق الذي يسري في ولدها، كالمدبرة وأم الولد. مسألة: [إذا أراد أحد المشتركين في الأضحية اللحم لا الأضحية] قال أبو جعفر: (وإذا كان في السبعة المشتركين في البدنة من يريد نصيبه منها للحم: لم يجز واحدًا منهم).

وذلك لأن ما جعل للحم، غير جوازها عن الأضحية، ومتى اجتمع في الشيء جهة الحظر وجهة الإباحة، فجهة الحظر أولى بالإثبات. والدليل عليه: أنَّ الإنسان يجوز له وطء ملك يمينه، فإذا كانت الجارية بينه وبين غيره: لم يحل له وطؤها، لأجل ما يملكه منها، وكانت جهة الحظر أولى. وكذلك لو أنَّ مسلمًا ومجوسيًا ذبحا شاة: لم تكن مذكاة، لما شاركه فيها ما يوجب الحظر. ويدل عليه: ما روي في حديث عدي بن حاتم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال في الصيد: "إن شاركه كلب آخر: فلا تأكله، فإنك إنما سميت على كلبك". وأيضًا: فإن ما تعلق بها من إراقة الدم، لما لم يكن معنى يتبعض، جعل الكل كأنه واقع لكل واحد منهم على الوجه الذي ذبح عليه، فإذا أراد واحد منهم اللحم، صار الجميع كأنه أريد به اللحم، وإذا حصل الجميع للحم: لم يجز واحدًا منهم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما قال لأبي بردة بن نيار حين ذبح قبل الصلاة: "تلك شاة لحم": أفاد بذلك أنَّ كل مذبوح حصل للحم، لا يجزئ عن القربة. وأيضًا: فإن ما كان سبيله أن يخرج لله تعالى، فغير جائز إخراجه مشاعًا غير مميز عن حق آدمي، ألا ترى أنه لو جعل نصف داره مشاعًا مسجدًا لله تعالى: لم يصح، ولم تخرج بذلك عن ملكه.

وكذلك لو قال: قد أوجبت نصف بقرتي هذه أضحية، أو هديًا لم يصح، ألا ترى أنَّ سبعة لو اشتروا بقرة للهدي والأضحية: أجزأهم؛ لأنها خرجت كلها لله تعالى على وجه القربة. ولو أوجب هو سبع بقرة له كاملة هديًا أو أضحية، وأراد بالباقي اللحم له: لم يجزه ذلك أضحية ولا هديًا، لما حصل فيه من حق الآدمي على وجه الشياع. مسألة: [اشتراك جماعة في بدنة مع اختلافهم في وجوه ذبحها كهدي وقران وأضحية] قال أبو جعفر: (وإذا كانت كلها لله تعالى، وأرادوها من وجوه مختلفة من هدي وقران وأضحية وغيرها: أجزأهم جميعًا، وذلك لأنها قد خرجت مخرج القربة إلى الله، لا حقَّ فيها لآدمي). قال أحمد: وقال زفر: لا تُجزئ واحدًا منهم، إلا أن يريد كلهم جهة واحدة: أضحية أو قرانًا أو نحو ذلك. والقول الأول أصح؛ لأنها إذا خرجت في جهة قربة، لم يختلف حكمها باختلاف أسبابها ووجوهها؛ لأن الحق فيها لواحد. ولو كان اعتباره هذا صحيحًا، لوجب أن لا يجوز وإن أرادوا جهةً واحدة؛ لأن ما أجزأ عن واحد، لا يجوز أن يكون هو المجزئ عن آخر على أصله، فلما جاز عن الجميع إذا أرادوا جهةً واحدةً؛ لأن الجميع كأنه مذبوح عن كل واحد منهم على حياله، كذلك إذا كانت الجهات مختلفة بعد أن يريدوا كلهم به القربة، صار كأن الجميع

مذبوح عن كل واحد على حياله. مسألة: [إجزاء الأضحية العرجاء] قال أبو جعفر: (تجزئ العرجاء في الأضحية إذا مشت على قوائمها إلى المنسك). وذلك لما روى سلمة بن كهيل عن حجية بن عدى عن على رضي الله عنه أنه سئل عن المكسورة القرن، فقال: لا بأس، وسئل عن العرجاء، فقال: إذا بلغت المنسك، "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن". ولأن النقص اليسير لا يمنع جوازها، وإذا بلغت المنسك مع عرجها، فذلك نقصان يسير؛ لأنه لم يمنع منافع المشي. فإن قيل: رُوي في حديث عبيد بن فيروز عن البراء أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع لا تجزئ في الضحايا: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والكسيرة

التي لا تنقي". فمنع جواز العرجاء البين ظلعها في الأضحية، ولم يعتبر فيها بلوغها إلى المنسك. قيل له: العرجاء البين ظلعها معناه: غير ظاهر في لفظه في تحديد ما يجوز منها، وما لا يجوز. وقد روي في بعض ألفاظ حديث عبيد بن فيروز: "العرجاء التي لا تلحق"، وهو موافق لما روي عن علي رضي الله عنه اعتبار بلوغها المنسك، فهو أولى بالاستعمال. مسألة: [الأضحية بالثولاء أي المجنونة] قال أبو جعفر: (وتجزئ الثولاء في الأضحية، وهي المجنونة). وذلك لأن المبتغى من الأضحية صحة البدن وسلامته، وليس المبتغى منها المعرفة، فيعتبر وجودها فيها.

مسألة: [الأضحية بالهتماء أي ذاهبة الأسنان] قال: (وتجزئ الهتماء في الأضحية، إذا كانت تعتلف) لأنها إذا لم تمنع الاعتلاف فهو نقص يسير، فلا يمنع جوازها. * وقد روي عن أبي يوسف أنه اعتبر في ذلك بقاء أكثر الأسنان، ولم يعتبر أن تعتلف أو لا تعتلف. وجملة الأمر في ذلك: أنَّ النقص اليسير لا يمنع جوازها في الأضحية، والكثير يمنعه، والفصل بين القليل والكثير طريقه الاجتهاد. والهتماء هي: الذاهبة الأسنان. مسألة: [الأضحية بمقطوعة الأذن والذنب] قال أبو جعفر: (وإذا كانت مقطوعة الذنب أو الأذن أو الألية، فإن أبا حنيفة كان يقول: إن كان الذي ذهب من ذلك الثلث فصاعدًا: لم يجز أن يضحي بها، وإن كان أقل: يجزئ، ثم رجع فقال: إذا بقي الأكثر أجزأ، وهو قول أبي يوسف ومحمد). قال أحمد: هذا الذي ذكره أبو جعفر عن أبي حنيفة في أنَّ ذهاب الثلث من الأذن والذنب يمنع جوازها، هي رواية أبي يوسف، وقال في الجامع الصغير، وفي الأصل: إنَّ الثلث يجزئ في قوله الأول: ولا يجزئ إذا ذهب أكثر من الثلث. قال أحمد: الأصل في ذلك: ما روى حجية بن عدي عن علي

رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "استشرفوا العين والأذن". ولم يبين فيه المقدار الذي يجب اعتباره في ذلك، وقد بين ذلك فيما حدثنا عن أبي داود حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام الدستوائي عن قتادة عن جري بن كليب عن علي رضي الله عنه "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضحَّى بعضباء الأذن والقرن". قال أبو داود: وحدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا هشام عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: ما الأعضب؟ قال: النصف فما فوقه". فبين في هذا الخبر اعتبار النصف فما فوقه في الامتناع جوازه عن الأضحية. فإن قيل: روى أبو عوانة وشريك عن جابر عن محمد بن قرظة عن أبي سعيد الخدري قال: "اشتريت كبشًا لأضحي به، فعدا الذئب عليه، فقطع أليته، فسألت النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ضحِّ به". قيل له: هذا حديث فاسد السند والمتن جميعًا؛ لأن شعبة رواه عن

جابر عن محمد بن قرظة عن أبي سعيد قال ولم يسمعه منه: إنه اشترى كبشًا ليضحي به، فأكل الذئب ذنبه، أو بعض ذنبه، فسأل النبي عليه الصلاة والسلام. فقال: ضح به. فذكر أنَّ بين ابن قرظة وبين أبي سعيد رجل آخر، لم يسمه. قال: أو بعض ذنبه، وجائز أن يكون ذلك البعض أقل من النصف. وعلى أنَّ جابرًا هذا هو جابر الجعفي، وهو ساقط الحديث، لما يحكى عنه من فساد مذهبه، وقبح طريقته. * وأما وجه قول أبي حنيفة الأول في اعتبار الثلث: فهو أنَّ الثلث قد ثبت له حكم الكثرة في بعض الأصول، وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام في الوصية: "الثلث، والثلث كثير". * ووجه رواية الجامع الصغير، والأصل، في أنَّ ذهاب الثلث لا يمنع الجواز: أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام وإن جعل الثلث في حد الكثرة، بقوله: "الثلث كثير"، فقد جعله في الحكم بمنزلة ما دونه، وفرَّق بينه وبين ما هو أكثر منه. مسألة: [الأضحية بالعوراء] قال: (ولا تجزئ في الأضحية عوراء). وذلك لما في حديث عبيد بن فيروز عن البراء أن النبي صلى الله عليه

وسلم قال: "لا تجزئ في الأضاحي العوراء البين عورها". وليس القرن في ذلك كالأذن والذنب والألية؛ لأنها لو كانت جماء لأجزأت، ولو كانت سكاء لا أذن لها رأسًا: لم تجزه. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استشرفوا العين والأذن". وأيضًا روى شريك والحسن بن صالح عن سلمة بن كهيل عن حجية قال: أتى رجل عليًا، فسأله عن المكسورة القرن؟ قال: لا يضرك، وقال: عرجاء؟ قال: إذا بلغت المنسك، "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن". فدل ذلك على أن ذهاب القرن لا يمنع صحة الأضحية، وأن ما في حديث جري بن كليب عن علي رضي الله عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يضحى بعضباء الأذن والقرن، قد علم منه علي رضي الله عنه أنه لا يجب اعتبار القرن فيه؛ لأنه لا يخلو من أن يكون علم نسخ ما في حديث جري بن كليب، أو عرف من دلالة لفظ النبي عليه الصلاة

والسلام أو دلالة الحال، على أن ذكره للقرن لا يوجب اعتبار صحته. مسألة: [بيع الأضحية بعد إيجابها] قال أبو جعفر: (ومن باع أضحيته بعد ما أوجبها: جاز بيعه إياها، وكان عليه مثلها). وذلك لما بيَّنَّا فيما سلف من أن تعلق الإيجاب بها لا يوجب زوال ملكه، ولا يمنع تصرفه، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام ساق البدن، وأوجبها بالتقليد، والسوق عام الحديبية، ثم أبدلها في العام القابل. فدل ذلك على معانٍ ثلاثة: أحدها: أن سوق البدنة أو تقليدها يتعلق به الإيجاب إذا أريد به. والثاني: أن تعلق الإيجاب به لا يزيل ملكه، ولا يمنع تصرفه فيه. والثالث: أنه متى صرفه بعد الوجوب إلى غيره، وجب عليه البدل. مسألة: [صور إيجاب الأضحية] قال أبو جعفر: (وإيجاب الأضحية على وجهين: فإيجابها في حال ابتياعها بالنية وإن كان لا قول معها.

وإيجابيها بعد ابتياعها لا يكون إلا بالقول). قال أحمد: وقد يكون إيجاب البدنة في غير هذين الوجهين، وهو سوقها إذا أراد به الإيجاب، وكذلك إذا قلدها. والأصل فيه: ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام "أنه ساق البدن عام الحديبية، ثم أبدلها في العام القابل"، لما صرفها عن الوجه الذي أوجبها له، فدل ذلك على أنَّ الوجوب فيها كان متعلقًا بالسوق أو التقليد. وقد روي عن جماعة من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام أنهم كانوا يقولون فيمن ساق بدنة، وقلدها، ونوى الإحرام، أنه يكون محرمًا، فلولا أنَّ الإيجاب قد تعلق بها بنفس السوق والتقليد، لم يكن يحصل به الإحرام، كما لا يكون محرمًا قبل التقليد والسوق. فصار ما وصفنا أصلاً في تعلق حكم إيجاب الهدي والضحايا بحصول الفعل والنية، فوجب من أجل ذلك أن تكون أضحية بالشراء إذا انضافت إليه نية الإيجاب. مسألة: [حكم شرب لبن الأضحية] قال أبو جعفر: (ومن أوجب أضحية، فكان لها لبن، لم ينبغ له أن يشرب منه، ولكنه يتصدق به إن حلبه). وذلك لأن اللبن جزء من أجزاء ما تعلق به الوجوب، ولم تحصل في الأصل القربة التي تعلقت به من إراقة الدم، فصار كهدي التطوع إذا عطب

قبل بلوغ محله، فيكون سبيله الصدقة. مسألة: [إذا وضعت الأضحية قبل يوم النحر ولدًا] قال: (وإن وضعت قبل يوم النحر: ذبح ولدها معها يوم النحر). لأن الحق قد كان متعلقًا بالرقبة، فيسري في الولد، كسائر الحقوق المتعلقة في الرقاب، فيسري في الأولاد، كالرهن والكتابة والتدبير والاستيلاد، فيتعلق حكم الذبح الذي كان ثبت في الأم بالولد؛ لأن استيفاء ذلك ممكن فيه. فإن قيل: ينبغي أن لا يتعلق بالولد حكم الذبح؛ لأنه لا يجوز مثله في الأضحية، ولا يثبت فيه هذا الحق لو ابتدأه. قيل له: قد يجوز أن يثبت فيه هذا الحق من جهة السراية وإن لم يجز إثباته فيه ابتداء. ألا ترى أنَّ ابن أم الولد إذا لم يلحق نسبه بالمولى، كان بمنزلة أمه في استحقاق العتق بالموت من جميع المال، فثبت هذا الحق فيه من جهة السراية، ولا يجوز ثبوته فيه ابتداء بحال. مسألة [حكم من ضلت أضحيته] قال أبو جعفر: (ومن ضلت أضحيته: فإنه ينبغي له أن يبدل مكانها أخرى). وذلك لأن الأضحية في ذمته، وإيجابه إياها لم يسقط ما في ذمته

حتى يذبحها في أيام النحر، فإذا ضلَّت، بقي الحق الذي كان في ذمته. * قال: (فإن فعل، ثم وجد الأولى: فإنه ينبغي له أن يذبحهما). وذلك لأنه قد علق الإيجاب بالثاني على شرط فقد الأول، فكان بمنزلة رجل دخل في الظهر على أنها عليه، ثم تبيَّن أنه قد صلاها، فالأحسن أن يمضي في صلاته، وكذلك لو دخل في صوم على أنه عليه، ثم تبيَّن أنه ليس عليه، يُستحب له المضيُّ فيه، فإن لم يتمَّه وقطعه: لم يكن عليه شيء، كذلك هذا في أمر الأضحية. * قال: (فإن لم يفعل، ولكنه ذبح الثانية: أجزأته من الأولى إن كانت مثلها أو أفضل منها، وإلا تصدق بالفضل فيما بينهما). وإنما جازت الثانية إذا ذبحها مع وجود الأولى، من قبل أنَّ الحق الذي كان في ذمته من إراقة الدم، لم يتعين في الأولى؛ لأنه لو تعين فيها، كان هلاكها يُسقطه، فلذلك جاز ذبح الثانية، إلا أنَّ الأولى إن كانت أفضل، فقد حبس لنفسه الزيادة التي أوجبها في الأولى، فيتصدق بها؛ لأنها جزء من الأضحية تناوله قبل بلوغ محلِّها، كما لو حلبها، أو أخذ صوفها قبل الذبح: تصدق بما تناوله من أجزائها. مسألة: [التضحية بذاهبة القرون] قال: (لا تضر الأضحية أن تكون ذاهبة القرون). وذلك لأنا لا نعلم خلافًا أن الجَمَّاء التي لا قرن لها في الأصل جائزة

في الأضحية، فالذاهبة القرون بالكسر أحرى أن تجوز، ألا ترى أن العمياء لا يختلف حكمها أن يكون عمياء في الأصل، أو عميت بعد أن ضُحِّيت، والمراد بعد أن عُيِّنت أضحية. وليس القرن كالأذن، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "استشرفوا العين والأذن". فإن قيل: في حديث جري بن كليب عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "نهى أن يُضحَّى بعضباء الأذن والقرن"، فجمع بين القرن والأذن. قيل له: قد قامت الدلالة على أنَّ صحة القرن ليست شرطًا في جوازها، لأن نقصانه ليس بأكثر من عدمه رأسًا. * قال: (وما ذهب من عين الأضحية، فهو كما ذهب من أذنها في جميع ما وصفنا). لقوله عليه الصلاة والسلام "استشرفوا العين والأذن". مسألة: [حكم من أوجب أضحية سمينة ثم عَجِفَت عنده] قال: (ومن أوجب أضحية وهي سمينة، ثم عَجِفَت، حتى صارت في

حالٍ لو أوجبها وهي كذلك لم تُجزِ: يضحي بها، وأجزأته استحسانًا، وليس بقياس). قال أحمد: المشهور عنهم أنها لا تجزئه إذا صارت من العجف بحال لو ابتدأها لم تُجز إذا كان موسرًا، فإن كان معسرًا: أجزأته؛ لأنه لا أضحية عليه، كما لو هلكت قبل الذبح: لم يكن عليه شيء. فأما ما حكاه أبو جعفر من أنه تجزئه مع اليسار، وهو إن ابتدأها لم تُجزه: فإن هذا لا أعرفه من مذهبهم، وعسى أن يكون الذي ذكره أبو جعفر من رواية وقعت إليه لم تبلغنا. والعلة في امتناع جوازها إذا صارت بحال لو ابتدأها لم تُجْز: أنَّ الحق الذي يجب استيفاؤه منها هو الذبح، فإذا لم تكن مما يجزئ في حال الذبح لو ابتدأها، كذلك إذا صارت كذلك قبله؛ لأن ما في ذمته من الواجب لا يسقطه إلا الذبح، وكذلك قالوا: لو أنها عُوِرَت قبل الذبح: لم تُجْز، كما لو ابتدأها عوراء لم تُجْز. * قال أبو جعفر: (فإن ذهبت عينُها في علاجه لذبحها: أجزأه أن يضحِّي بها). وذلك لأن هذه الحال حال الإتلاف، فما تلف منها بمعالجة الذبح: لم يمنع جوازها كالذبح نفسه.

مسألة: [ما يسن له عند الذبح] قال: (وينبغي له أن يستقبل بذبيحته القبلة، فإن لم يفعل: لم يحرمها ذلك). أما وجه الاستحباب في توجيهها إلى القبلة: فهو ما رواه جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين، وقال حين وجههما: {وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا}. الآية. فقوله: "وجههما": يدل على أنه وجههما إلى القبلة، إذ ليست جهة أخرى تُقصد بالتوجيه إليها غيرها. وقد روي في بعض ألفاظ حديث جابر، أنه قال ذلك حين وجههما إلى القبلة. وقد رُوي استحباب ذلك عن علي رضي الله عنه، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم. قال الشعبي: "كانوا يستحبون أن يستقبلوا بالذبيحة القبلة". * وإن لم يستقبل بها القبلة: لم يُحرمها ذلك؛ لأن التوجيه إلى القبلة ليس من شرائط الذكاة، ألا ترى أنَّ في غير الضحية من الذبائح ليس من شرائطه، فكذلك في الأضحية.

مسألة: [إذا غلط المضحيان، فذبح كل منهما أضحية صاحبه] قال: (وإذا غلط الرجلان، فضحَّى كل واحد منهما بأضحية صاحبه أجزأهما، وأخذ كل واحد منهما أضحيته، ولا ضمان له على صاحبه استحسانًا). قال أبو بكر: القياس أن يكون لكل واحد منهما الخيار في تضمين صاحبه قيمة شاته، أو نقصانها الحادث فيها بالذبح، وأن لا يجزئ واحدًا منهما عن أضحيته. وجه القياس: أنَّ الأضحية قُربة لا تصح عن صاحبها إلا بالنية، ولم يوجد في هذا نية من صاحبها. وجهة الاستحسان: أنه متعارفٌ معتادٌ من أكثر الناس أنهم لا يكون ذبح أضاحيهم بأيديهم، وإنما يليها لهم غيرُهم، فصار إيجابه إياها بمنزلة الإذن في ذبحها، فأجزأت عنهما. * ... * ... * ... *

كتاب السبق

كتاب السَّبَق قال أبو جعفر: (قال محمد بن الحسن: مما لم يُحكَ فيه خلاف: لا سَبَقَ إلا في خف أو حافر أو نصل، وكان يجيز السبق على الأقدام). قال أحمد: روى أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا سَبَقَ إلا في خُفٍّ، أو حافرٍ، أو نَصْلٍ".

وروى ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضمر الخيل، يسابق بها". وقال الله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}. وفي المسابقة على هذه الوجوه ضرب من الرياضة، والدربة في القوة على القتال وإرهاب العدو. وروي "أن العضباء ناقة رسول الله عليه الصلاة والسلام كانت لا تُسبق، فجاء أعرابي على قعود له، فسابقه بها، فسبقها، فساء ذلك أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حقٌّ على الله أن لا يرفع من الدنيا شيئًا إلا وضعه". * وأما وجه جواز السبق على الأقدام: فما رُوي عن عائشة "أنها كانت مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في سفر، قالت: فسابقتُه، فسبقتُه على رِجليَّ، فلما حملت اللحم سابقتُه، فسبقني، فقال: هذه

بتلك السبقة". ورُوي "أنَّ سلمة بن الأكوع سابق رجلاً بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام على قدمه". قال محمد: إذا جعل السبق واحدًا، وقال: إن سبقتني فلك كذا، ولم يقل: إن سبقتُك فعليك كذا: فلا بأس. فالمكروه من ذلك أن يقول: إن سبقتُك فعليك كذا، وإن سبقتني فعلي كذا. * قال محمد: وإن كان الذي يجعل السبق رجل سوى المتسابقين، فيقول: أيكما يسبق فله كذا، كنحو ما يصنع الأمراء، فلا بأس به. * وإن كان بينهما محلِّلٌ يسبق، ويُسبق: فلا بأس. قال محمد: والمحلِّل أن يُدخلا معهما ثالثًا، إن سبق أخذ، وإن لم يسبق لم يغرم شيئًا. قال محمد: ومعنى قولنا: يَسبِق، ويُسبَق: أن تكون دابته مما يُسابق عليها، لا تكون دابة لا تتحرك، إنما جاء بها للتحليل، ولكن تكون دابة

تسبق، وتُسبق، فإذا كان كذلك، فلا بأس به. قال أحمد: الأصل في ذلك أنه متى كان شرط المتسابقين: أنه إن سبق أخذ، وإن سبق أعطى، وليس معهما غيرهما: فهذا قمارٌ لا يجوز. وإن كان فيما بينهما: من إن سبق أخذ، وإن سُبق لم يُعط: فهذا جائز، ليس بقمار. ووجه ثالث: وهو أن يكون المسبق غيرهما، ويكون الغرم عليه خاصة دون المتسابقين، فهذا جائز. والدليل على صحة هذا الأصل: ما روى سفيان بن حسين وسعيد بن بشير عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من أدخل فرسًا بين فرسين، وهو لا يؤمن أن يُسبق: فليس بقمار، ومن أدخل فرسًا بين فرسين، وقد أَمِنَ أن يُسبق: فهو قمار". فاستفدنا من هذا الحديث أنَّ المتسابقين متى شرطا الغُرْمَ على كل

واحد منهما، ولم يكن فيما بينهما من لا غرُم عليه: فهو قمار. وأنه متى كان بينهما من لا يَغرم شيئَا إذا سُبِق، ويأخذ إذا سَبَق: جاز السبق بينهم جميعًا على الشرط، ولم يكن بقمار؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام: "إن دخل بينهما من قد أمن أن يُسبق: فهو قمار". ولأن من لا يسبق بحال، فوجوده وعدمه سواء، فسقط حكمه، كأنه لم يدخل، فيحصل حينئذ السبق على الآخرين، وكل واحد منهما مشروط عليه الغرم، فهو قمار، كما قال عليه الصلاة والسلام. وأما إذا كان المسبق غيرهما فهو جائز؛ لأنه لا غرم على واحد من المتسابقين. * ... * ... * ... *

كتاب الأيمان والكفارات والنذور

كتاب الأيمان والكفارات والنذور قال أبو جعفر: (الأيمان ثلاثة: يمين تكفر، ويمين لا تكفر، ويمين نرجو أن لا يؤاخذ الله بها صاحبها). قال أحمد: كان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يُحصل هذه الجملة بأن يقول: الأيمان على ضربين: ماضٍ ومستقبل، والماضي على ضربين: لغو وغموس. والمستقبل: ضرب واحد، وهي اليمين المعقودة، والكفارة لا تجب إلا بالحنث في اليمين على المستقبل، ولا كفارة في اليمين على الماضي بحال. والغموس: هو أن يحلف على شيء أنه قد كان وهو يعلم أنه كاذب فيه، فهو آثم فيه، ولا كفارة عليه. واللغو: هو أن يحلف عليه، وهو يظن أنه كما قال، ولا كفارة فيه، ولا مأثم. وهذه الأيمان الثلاثة تنتظمها ظواهر آيٍ نذكرها.

فأما اليمين الغموس التي لا كفارة فيها، فالأصل فيها: قول الله تعالى {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}. والمؤاخذة التي تتعلق بكسب القلب هي: ما يلحق من المأثم باليمين الغموس؛ لأن اليمين المعقودة التي تقع على المستقبل، لا تتعلق المؤاخذة فيها بكسب القلب؛ لأن المؤاخذة المذكورة فيها هي الكفارة بقوله: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعامُ ...}، والكفارة لا يتعلق وجوبها بكسب القلب، لأنه سواء كان آثمًا فيها، أو مأجورًا في الحنث فيها، لزمته الكفارة بالحنث، لا بكسب القلب. فعلمنا أن المراد بقوله: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}: هي المؤاخذة التي تلحقه بالمأثم الذي استحقه بالقصد إلى الكذب، والحلف عليه. وأما اللغو: فالأصل فيه: قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم}، فروى إبراهيم بن الصائغ عن عطاء عن عائشة في لغو اليمين قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله".

وقد رواه جماعة عن عطاء عن عائشة موقوفًا، لأن فتواها بذلك لا تمنع صحة روايتها عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل تؤكدها، فثبت بذلك أنَّ لغو اليمين هو: حلفه على شيء ماضٍ يرى أنه كما قال، وليس كما قال. وقد روي في معنى اللغو على النحو الذي قال أصحابنا عن ابن عباس، وابن أبي أوفى، وأبي مالك الغفاري، والحسن، ومجاهد، وإبراهيم، وقتادة، وإحدى الروايات عن سعيد بن جبير. وقال آخرون: اللغو: الحلف على المعصية، فلا ينبغي أن يأتيه، ولا يفي به، ولا كفارة عليه. وقال آخرون: هو أن لا يأتي المعصية، ويكفر إذا حنث. وقال آخرون: اللغو هو اليمين المكفرة. وروي عن ابن عباس: أنَّ اللغو: الحلف في الغضب، وعنه مثل قولنا. وأصح هذه الأقاويل ما قاله أصحابنا، لما دل عليه ظاهر الكتاب من قوله: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم}، فنفى المؤاخذة بها رأسًا، والحلف على المعصية أن يفعلها، لا ينفك فيه من المؤاخذة بالإثم الذي اكتسبه به.

ولا يجوز أن يكون المراد به اليمين المعقودة التي تجب الكفارة فيها بالحنث من وجهين: أحدهما: أن الله تعالى فرق بين اللغو، وبين اليمين المعقودة بقوله: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان}، فلا جائز أن يكون الذي أخبر أنه لا يؤاخذ به، هو ما أخبر عنه في سياق الآية أنه يؤاخذ به. والوجه الآخر: أنَّ اليمين المعقودة هو مؤاخذ بكفارتها إذا حنث فيها، وقد نفى الله تعالى المؤاخذة بلغو اليمين نفيًا عامًا. فانتفى بما ذكرنا سائر الأقاويل التي حكينا في معنى اللغو، إلا قول أصحابنا مع ما عاضده من السنة، وقول السلف. [الأدلة على عدم وجوب الكفارة في اليمين الغموس] وإنما لم تجب الكفارة في اليمين الغموس؛ لأن الله تعالى قال: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته}، فإنما أوجب الكفارة في اليمين المعقودة، واليمين على الماضي ليست بعقد، لأنها واقعة على أحد وجهين: إما أن يكون صادقًا فيه أو كاذبًا، وليس هناك معنى منتظر يجوز فيه الحنث والبرُّ، وإنما عقد اليمين: ما تناول معنى يجوز وقوع الحنث فيه تارة، والبرِّ أخرى.

ألا ترى أنَّ من قال: امرأته طالق، أو قال: عبده حر: لم يكن حالفًا؛ لأنه أوقع طلاقًا، أو عتقًا باتًا، ولو قال: امرأته طالق إن دخل الدار، أو قال: عبدي حر إن كلَّمتُ زيدًا: كان حالفًا؛ لأنه عقد العتق والطلاق بمعنى قد يجوز أن يبرَّ فيه، ويجوز أن يحنث، فثبت بذلك أنَّ اليمين على الماضي ليست بمعقودة، فانتفى وجوب الكفارة فيها حينئذ من وجهين: أحدهما: أنَّ الله تعالى إنما أوجب الكفارة في اليمين المعقودة، فلا يجوز إيجابها في غيرها، إذ لا سبيل إلى إثبات الكفارات من طريق المقاييس. والثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدخل في أمرنا ما ليس فيه فهو رد"؛ فمن أوجب الكفارة في غير اليمين المعقودة، فقد أدخل في أمر النبي عليه الصلاة والسلام ما ليس منه، فقوله مردود. ويدل على أن الكفارة لا تجب في غير اليمين المعقودة: قوله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم}، وحفظ اليمين: مراعاتها لوقت وجوب الكفارة فيها عند الحنث، وليس يمكن حفظ اليمين الغموس، لأنها واقعة على ماض غير منتظر بها الحنث والبرُّ. ويدل عليه أيضًا: أنَّ اللغو لا كفارة فيها، لأنها على الماضي، والدليل على ذلك أنَّ سقوط الكفارة فيها لا يخلو من أن يكون لأجل أنها على الماضي، أو لأنه لم يستحق بها مأثمًا، فلما لم يختلف حكم اليمين المعقودة فيما يتعلق بها من وجوب الكفارة أن يكون آثما في الحنث فيها،

أو غير آثم، لأن النبي عليه الصلاة واسلام قد أمر بالحنث إذا كان خير من البر بقوله: "من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها، فليأت بالذي هو خير، وليكفر عن يمينه". فلم يسقط عنه الكفارة لأجل عدم المأثم، فسقط اعتبار جهة المأثم في إيجاب الكفارة، وصح أن اللغو من اليمين إنما لم تجب فيها الكفارة، لأنها يمين على الماضي، غير معقودة على أمر مستقبل، وقد شاركتها يمين الغموس في هذا المعنى، فوجب أن يكون حكمُها حكمها في سقوط الكفارة فيها. فإن قيل: وجوب كفارة اليمين متعلق بحرمة اللفظ، واللفظ موجود في اليمين الغموس، فتجب فيها الكفارة. قيل له: لو كان كذلك لوجبت في اللغو أيضًا، لوجود لفظ اليمين، ولوجبت أيضًا لو قال: والله: وسكت، ولم يعلِّقه بشيء، فلما لم يجب في ذلك شيء مع وجود اللفظ، لأجل عدم الحنث بيمين معقودة، كان كذلك الغموس. فإن قيل: قوله: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}: يقتضي إيجاب الكفارة في اليمين الغموس؛ لأن المؤاخذة التي تتعلق بكسب القلب، إنما تكون بالقصد إلى ما لا يجوز له الحلف عليه من الكذب. قيل له: لا يجوز أن يكون المراد بهذه المؤاخذة الكفارة من وجهين:

أحدهما: أن وجوب الكفارة يتعلق باللفظ، لا بكسب القلب. والثاني: أن الكفارة لا يختلف حكمها أن يكون الحالف آثمًا في حلفه، أو غير آثم، ولا أن يكون آثمًا في الحنث، أو غير آثم. فإن قيل: قوله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم}: يوجب الكفارة في كل يمين، سواء كانت معقودة أو غير معقودة. قيل له: لا يصح الاحتجاج بعمومه؛ لأن فيه ضميرًا باتفاق من أهل العلم، وهو الحنث، كأنه قال: إذا حلفتم وجنثتم؛ لأن المسلمين متفقون على أنَّ من حلف على يمين على فعل مستقبل: أنَّ الكفارة لا تجب عليه بنفس اليمين. وإذا كان الحنث مشروطًا فيها – ومعلوم أنَّ الحنث إنما يكون في اليمين المعقودة، لأنه حلٌّ لليمين، وإسقاط لها – ثبت أنَّ اليمين الغموس لم تدخل فيها قط، إذ لا يلحقها الحنث؛ لأن الحنث إنما يلحق فيما كان معقودًا لا يستحيل وقوع البرِّ فيها. وأيضًا: فإن المراد به اليمين المعقودة، لما في سياق الآية من الدلالة عليه، وهو قوله: {واحفظوا أيمانكم}، فإنما علَّق وجوب الكفارة باليمين التي أمر بحفظها ومراعاتها لأداء الكفارة بالحنث فيها. فإن قيل: قوله تعالى: {واحفظوا أيمانكم}: معناه: أقِلُّوا من

الأيمان، وليس المعنى ما ذهبتم إليه من مراعاتها لأداء كفاراتها، والدليل عليه قول الشاعر: قليل الألايا حافظٌ ليمينه .... إذا بدرت منه الألية برت أراد بقوله: حافظٌ ليمينه: الإقلال منها. قيل له: هذا خطأ لا يجوز أن يقال: فلان حافظٌ ليمينه: إذا لم يحلف، كما لا يقال: فلان حافظٌ لماله: إن لم يكتسب، وإنما يصح أن يقال: فلان حافظٌ ليمينه بعد الحلف بها، فيراعيها لأداء كفارتها، وهو معنى قول الشاعر: "حافظٌ ليمينه". ولا يجوز أن يكون المراد ما ذكرت؛ لأنه قال بدءًا: "قليل الألايا"، ولو أراد بقوله: حافظ ليمينه: ما ذكرت، كان تكرارًا لا معنى له. وأيضًا: فإن تقدير الآية: {ذلك كفارة أيمانكم}، التي تقدم ذكرها، وهي اليمين المعقودة، واكتفى بتقديم ذكرها عن تكرار لفظها، كقوله تعالى: {والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات}، المعنى: والذاكرات

الله تعالى، فحذف اسم الله تعالى؛ اكتفاء بتقديم ذكره، ودلالة الحال عليه، فكذلك ما وصفنا. فإن قيل: قوله تعالى: {بما عقدتم الأيمان}: قرئ على وجهين: بالتشديد والتخفيف، فمن قرأه بالتخفيف، فمعناه: عقد القلب، ومن قرأه بالتشديد: كان معناه: عقد القول، فإذا تناول عقد القلب، دخل فيه الغموس. قيل له: لا يجوز أن يكون المراد في شيء من القراءتين عقد القلب؛ لاتفاق المسلمين على أنَّ حكم الكفارة لا يتعلق بعقد القلب دون القول، ألا ترى أنَّ من نوى اليمين وقصدها: لم تلزمه كفارة، ولو حلف على فعل مستقبل، وهو قاصد فيه للحنث أو البر: لم يختلف حكمه فيما يتعلق به من وجوب الكفارة. [أدلة من السنة على أنه لا كفارة في اليمين الغموس] ومما يدل من جهة السنة على أنَّ اليمين الغموس لا كفارة فيها: ما روى عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس رضي الله عنهما "أنَّ رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل عليه الصلاة والسلام الطالب البينة، فلم يكن له بينة، فاستحلف المطلوب، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى قد فعلت، ولكن قد غفر الله لك إخلاص قول: لا إله إلا الله".

والدلالة من هذا الخبر على ما قلنا من وجهين: أحدهما: أنه أخبره أنه كاذبٌ في يمينه، ولم يأمره بالكفارة. والثاني قوله: "ولكن قد غفر الله لك": وظاهره يقتضي أن لا يؤاخذ بشيء منها. ورُوي عن عبد الله بن مسعود قال: "كنا نعدُّ من الذنب الذي لا كفارة له: اليمين الغموس، قيل له: وما اليمين الغموس؟ قال: أن يقتطع الرجل مال الرجل بيمينه". مسألة: [ألفاظ اليمين التي تجب فيها الكفارة] قال: (واليمين هي اليمين بالله تعالى). قال أحمد: يعني أنَّ اليمين التي تجب فيها الكفارة هي اليمين بالله تعالى؛ لأن اليمين بغير الله تعالى قد تُسمى يمينًا، ولكنه منهيٌّ عنها، ولا تجب فيها كفارة. قال: (وأيَّ اسمٍ من أسماء الله تعالى ذكر فيها: فهي حلف به تعالى). وذلك لقول الله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان}. وبأيِّ أسماء الله حلف، فإن عموم اللفظ يتناوله، فتجب فيه الكفارة.

مسألة: [قال: أقسم] قال أبو جعفر: (وإذا قال: أقسم بالله، أو أقسم وإن لم يقل: بالله: فهما يمينان). وذلك لأن القسم في لغة العرب يمين، وهما عبارتان عن معنى واحد، فالمقسم حالفٌ، فينتظمه عموم قوله: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان}، وقال تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم}. ولا فرق بين قوله: أقسم، أو: أقسم بالله، وذلك لأنه قد يحذف اسم الله من القسم اكتفاء بدلالة اللفظ عليه. وقال الله تعالى: {إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون}، وقال في آية أخرى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم}، فأثبت في أحدهما، وحذف في الآخر. وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه، منهم البراء بن مالك". ثم "لما التقى جيش المسلمين والمشركين في بعض مغازيهم، فسأل

الناس البراء أن يقسم على الله، فقال البراء: أقسمت عليك يا رب إلا منحتنا أكتافهم"، ولم يقل: أقسمت عليك يا الله. وفي حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس رضي الله عنه قال كان أبو هريرة يحدِّث "أنَّ رجلاً أتى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال: إني أرى الليلة رؤيا، فذكرها، فعبَّرها أبو بكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضًا، وأخطأت بعضًا. فقال: أقسمتُ يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، لتحدثني ما أخطأت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تُقسم". فجعل القسم نفسه يمينًا مع حذف اسم الله منه. مسألة: [قال: أشهد] قال: (وكذلك قوله: أشهد بالله، أو: أشهد). وذلك لقول الله تعالى: {قالوا نشهد إنك لرسول الله}، ثم قال: {اتخذوا أيمانهم جنةً}، فجعل الشهادة نفسها يمينًا، وقال تعالى:

{فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله}، وهي أيمان. مسألة: [قال: أحلف] وكذلك قوله: (أحلف بالله لأفعلن كذا، أو قال: أحلف). وذلك لما قدمنا من أنه لفظ اليمين، وقد يُطلق مع حذف اسم الله تعالى ويراد به اليمين، وقال الله تعالى: {يحلفون بالله ما قالوا}، وقال في موضع آخر: {ويحلفون على الكذب}، فاكتفى بذكر الحلف عن الاسم. مسألة: [قال: عليَّ عهد الله] قال: (وكذلك قوله: عليَّ عهد الله، أو: عليَّ ذمة الله). أما العهد: فلقول الله تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها}، فأثبت العهد يمينًا. وأما الذمة، فإن معناها معنى العهد، فلم يختلفا في الحكم. مسألة: [قال: عليَّ يمين] قال: (وكذلك لو قال: عليَّ يمين الله، أو: عليَّ يمين).

لأن قوله: عليَّ يمين الله: إلزام نفسه إياها، فصار حالفًا؛ لأن الحالف إنما تعلق عليه حكم اليمين من حيث ألزمها نفسه بقوله. ولا فرق بين قوله: يمين الله، وبين قوله: يمين، لما بيَّنا من استواء حكم ذكر اسم الله في هذه الأيمان، وحذفها. [مسألة: الحلف بصفات الله] قال: (وكذلك كل ما حلف به من صفات الله). وذلك لأن لفظ الآية يشتمل عليه وينتظمه، وهو قوله: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان}. وقد روى موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر قال: "كثيرًا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلف بهذه اليمين: لا ومقلب القلوب". وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا اجتهد في اليمين قال: "والذي نفس أبي القاسم بيده".

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله تعالى لما خلق النار أمر جبريل أن ينظر إليها، فنظر إليها، وقال: وعزتك لا يسمع بها أحد، فيدخلها، ولما خلق الجنة، قال لجبريل: انظر إليها، فنظر إليها، وقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات". فكانت يمين جبريل عليه السلام قوله: "وعزتك"، فهذا يدل على أنَّ قوله: وعزة الله: يمين، وأنه يجوز أن يُحلف بها. وقد رُوي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "لا تحلفوا بحلف الشيطان: أن يقول أحدكم: وعزة الله، ولكن قولوا كما قال الله: ورب العزة". ويحتمل أن تكون جهة كراهته لذلك: أنه خشي من إطلاق ذلك أن يعتقد معتقدٌ أنَّ الله عزيزٌ بعزة، كما يعتقد أهل التشبيه والحشوية.

مسألة: [قال: وعظمة الله] قال: (وكذلك قوله: وعظمة الله، وجلال الله، وما أشبه ذلك، وكل هذه أيمان، وعلى الحالف بها إذا حنث فيها الكفارة). قال أحمد: الأصل في ذلك: أنَّ كل ما كان من صفات الله تعالى التي استحقها لذاته، فإنه يكون حالفًا به إذا أقسم به، نحو قوله: وقدرة الله، وكبرياء الله، وجلال الله، وسائر الصفات الذاتية. والمعنى في ذلك أنَّ قوله: وقدرة الله، بمنزلة قوله: والله القادر، وقوله: وعظمة الله، معناه: والله العظيم، إذ ليس هناك قدرة بها كان قادرًا، ولا عظمة بها كان عظيمًا، فكان ذلك حلفًا بالله تعالى، إذ ليس هناك معنى يقع الحلف به غير الله تعالى. وهذا المعنى جارٍ في نظائر هذه الصفات، إلا في حرف واحد، وهو قوله: وعلمُ الله لأفعلن كذا، فلم يجعلوه يمينًا، وذلك لأن هذا في الاستعمال يُراد به: "معلوم الله" عند الإطلاق، كما تقول: اللهم اغفر لنا علمك فينا، وشهادتك علينا، ومعناه: معلومك فينا. وقد يطلق اسم المصدر، ويراد به المفعول، وهو ظاهر في اللغة وعادات الناس، قال الله تعالى: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}.

يعني الموقن به. وقول القائل: اللهم أنت أملنا ورجاؤنا، يعني: مرجوُّنا. وقال الشاعر: وأخبر من لاقيت أن قد وفيتم .... ولو شئت قال المنبتون أساؤوا وإني لراجيكم على بطء سعيكم .... كما في بطون الحاملات رجاء يعني مرجوٌّ، أنشدناهما شيخنا أبو الحسن الكرخي رحمه الله. وإذا كان قوله: وعلم الله، بمعنى: ومعلوم الله، وكان اسم المعلوم يدخل تحته غير الله تعالى، لم يصح الحلف به، ولم يلزم به شيء، كمن حلف بغير الله. فإن قال قائل: فقد يقول القائل: وقدرة الله، ويريد به المقدور، كما يقول: وعلم الله، ويريد به المعلوم. قيل له: لو حملنا قوله: وقدرة الله، على معنى: ومقدور الله، لم يكن له في العرف وجه، فلا يجوز صرف القول عن حقيقته وموضوعه إلى المجاز بلا دلالة، وذلك لأن مقدور الله تعالى لا يكون إلا معدومًا، لأن الموجود لا يكون مقدورًا، وليس في العادة الحلف بالمعدوم، فلم يصح إزالة الكلام عن وجهه إلى معنى لا مجاز له في العادة. وأما المعلوم فإنه يتناول الموجود والمعدوم، فلم يمتنع في العادة الحلف به، فلذلك جاز صرفه عن حقيقته إليه، وبهذا كان يفصل أبو الحسن رحمه الله بينهما، فهذا هو وجه القول فيما كان من صفات الذات

إذا حلف بها. وأما إذا حلف بشيء من صفات الفعل، فإنه لا يكون حالفًا، ولا يلزمه شيء، مثل قوله: ورحمة الله، وغضب الله، وعذاب الله، ونحو ذلك من أفعال الله تعالى، لأن الحلف الذي يتعلق به حكم، هو الحلف بالله، ولا يصح الحلف بغير الله، وهذه أفعال الله تعالى، مثل قوله: وسماء الله، وأرض الله، فلا يلزمه به شيء. مسألة: [حكم الحلف بكل ما عظم الله ألا يفعله] قال أبو جعفر: (وكذلك كل ما عَظَّم الله عزَّ وجل به أن لا يفعله، كقوله: هو كافر إن فعل كذا، وهو يهودي إن فعل كذا، أو نصراني أو مجوسي أو بريء من افسلام إن فعل كذا وكذا، فهذه كلها أيمان، ويجب بالحنث فيها الكفارة). وذلك لقول الله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان}، وهذا حالف. والدليل على ذلك: ما روى يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من حلف بملَّةٍ غير ملة الإسلام كاذبًا، فهو كما قال".

وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "من حلف فقال: إني بريءٌ من الإسلام، فإن كان كاذبًا: فهو كما قال، وإن كان صادقًا: فلن يرجع إلى الإسلام سالمًا". فجعله النبي عليه الصلاة والسلام حالفًا بقوله: هو كافر، وهو بريء من الإسلام إن فعل كذا، فانتظمه قوله تعالى: {بما عقدتم الأيمان}. وجه آخر: وهو أنَّ المعنى الذي من أجله كان الحلف بالله تعالى يمينًا يتعلق به وجوب الكفارة، موجود في قوله: هو بريء من الإسلام إن فعل كذا، وذلك لأن المعنى فيه: أنَّ القسم تعظيمٌ للمقسم به، وهذا الضرب من التعظيم لا يستحقه إلا من استحق العبادة وهو الله تعالى، ولذلك نهى عن الحلف بغير الله؛ لأن أحدًا غير الله تعالى لا يستحق هذا الضرب من التعظيم. وقوله: هو بريء من الإسلام إن فعل كذا: يمينٌ معقودة على تعظيم الله تعالى أن يكفِّر بالحنث فيها، كما أنَّ قوله: والله لا أفعل: هو تعظيم الله أن يحنث بالحلف باسمه، وهما جميعًا لا يجوز استباحتهما بحال، فلما كان ذلك في معنى الحلف بالله من الوجه الذي وصفنا، وجب أن يتعلق به وجوب الكفارة. وليس ذلك كقوله: هو يأكل الميتة إن فعل كذا: وذلك لأن هذا عقد

اليمين على أن يفعل بعد الحنث، ونفس الحنث لا يوجب وقوعه بمضمون اللفظ، وأما قوله: هو كافر إن فعل كذا: فإن مضمون اللفظ حصوله كافرًا إن فعل كذا، كقوله: عبدي حرٌّ إن فعلت كذا، وكذلك قوله: والله لا أفعل كذا، ومعناه ومضمونه: أنه إن فعل فهو غير معظم لاسم الله الذي حلف به حق تعظيمه، ويكون حصول هذا المعنى معلقًا بوجود الحنث على ما تضمنه لفظه. وأيضًا: فإن أكل الميتة مما لا يجوز استباحته بحال، وقد شرطنا فيما ذكرنا أنه ضرب من التعظيم لله، لا تجوز استباحة ضده بحال. فإن قيل: فينبغي أن يكون لو حلف بالنبي عليه الصلاة والسلام كان حالفًا، تلزمه الكفارة بالحنث فيها؛ لأنه لا يجوز استباحة ترك تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم. قيل له: لم تكن علتنا فيما وصفنا أنه لا يجوز استباحة ترك تعظيم الله تعالى، دون ما وصفنا من أنَّ الحلف ضرب من تعظيم الله، لا يستحقه غيره تعالى، فمن أجل ذلك تعلق به وجوب الكفارة، والحلف على الكفر هو كذلك، وليس هذا المعنى موجودًا في الحلف بالنبي عليه الصلاة والسلام. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان معظمًا مشرفًا، فليس يستحق هذا الضرب من التعظيم، كما لا يستحق العبادة. فإن قيل: من أصلكم أنه لا يجوز إثبات الكفارة بالقياس، وهذا الذي ذكرت استعمالُ قياس في إثبات الكفارة.

قيل له: ليس كذلك؛ لأن وجوب الكفارة تابعٌ لليمين، وهذه اليمين مما ينتظمه قوله: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان}، فإنما أثبتناها بالعموم، هذا على الوجه الأول الذي قدمناه للمسألة. وعلى الوجه الثاني أيضًا لا يلزم؛ لأن ما وصفنا إنما هو استدلالٌ على موضع الكفارة من الأيمان، ليس هو إثبات كفارة بقياس؛ لأن كفارة اليمين قد ثبتت بالآية، واتفاق الأمة، ثم حينئذ لا يمتنع الاستدلال بالقياس على موضع الكفارة، كما نقول في إيجاب كفارة الأكل في شهر رمضان، فيستعمل الاستدلال بالقياس على موضع الكفارة، لا أنا ابتدأنا إثبات كفارة بالقياس. والقياس الممتنع عندنا: أن نبتدئ إثبات كفارةٍ بقياس في غير الأصل الذي وردت فيه، نحو أن نوجب كفارة اليمين في غير اليمين، أو كفارة شهر رمضان في غير الإفطار في شهر رمضان، وكذلك هذا في الحدود، لا يجوز عندنا إثبات حدٍّ بقياس، بأن نوجب حد الزاني على غير الزاني. ويجوز استعمال القياس في الاستدلال على موضع الكفارة، وسائر المسائل المختلف فيها من الحدود والكفارات، فإنما يستعمل القياس فيها على هذا الوجه. مسألة: [حكم الكفارة على من قال: وحق الله] قال أبو جعفر: (وإذا قال: وحق الله لأفعلن كذا، فإن أبا يوسف قال:

هذه يمين، وعليه الكفارة إذا حنث فيها، وقال محمد: ليست بيمين، ولا كفارة فيها). قال أحمد: وقول أبي حنيفة في ذلك مثل قول محمد. وجه قول أبي يوسف: أنَّ قوله: وحق الله: لا يجوز استباحة الاستخفاف به، ولا تركه بحال، فهو كقوله: هو بريء من الإسلام، على ما قدَّمناه من معناه. فإن قيل: فإن حق الله عباداته وفرائضه، وقد يجوز استباحة ذلك بحال. قيل له: فلا يكون تركه إذًا في حال الاستباحة حقًا لله؛ لأنه هو المبيح له. وأما ما ثبت حقًا لله فلا تجوز استباحته، كما لا تجوز استباحة الكفر، وقد قالوا جميعًا إن قوله: وأمانة الله: يمينٌ؛ لأنه لا يجوز خفرها بحال، كذلك حقه. ولمحمدٍ: أنَّ حق الله تعالى هو ما افترضه الله على عباده من الشرائع والعبادات. ويدل عليه: ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام "أنه سئل، فقيل: ما حق الله على عباده؟ فقال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا".

ولم يختلفوا أنه لو حلف بشيء من العبادات مثل الصلاة والصيام والحدود ونحوها، أنه ليس بحالف، كذلك حق الله، إذ كانت حقوق الله شرائعه، والحلف بها حلفٌ بغير الله. مسألة: [من حلف: لعمر الله] قال أبو جعفر: (ومن قال: لعمر الله، أو: وايم الله لأفعلن كذا: كان بذلك حالفًا، ويجب عليه الكفارة إذا حنث). قال أحمد: قوله: لعمر الله، و: وايم الله، و: تالله، و: بالله، و: والله، كلها قسمٌ، قال الله تعالى: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون}، وقال: {وتالله لأكيدن أصنامكم}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين طعن بعض الناس في إمرة أسامة بن زيد: "وايم الله، إن كان لخليقًا للإمارة". مسألة: [حكم الحلف بغير الله، والكفارة فيه] قال أبو جعفر: (ولا ينبغي لأحدٍ أن يحلف إلا بالله، ولا يكون في الحلف بغير الله كفارة). وذلك لما روي عن عمر بن الخطاب عن النبي عليه الصلاة والسلام

أنه قال: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليسكت". وروى أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله". وسمع ابنُ عمر رجلاً يحلف: لا والكعبة، فقال له ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف بغير الله فقد أشرك". ففي هذه الأخبار كلها النهي عن الحلف بغير الله. فإن قيل: رُوي عن طلحة بن عبيد الله في قصة الأعرابي الذي سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الفرائض، فأجابه فقال: "لا أزيد عليها شيئًا، ولا أنقص منها"، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "أفلح وأبيه إن صدق، دخل الجنة وأبيه إن صدق". قيل له: ليس مخرج هذا الكلام مخرج الأيمان؛ لأنه معلومٌ منه أنه لم يُرد تعظيم أبي الأعرابي، وأبوه كان مشركًا، وإنما هذا على حسب ما يجري عليه الكلام في عادات الناس، لا يراد به اليمين. وعلى أنه لو صح أنه أراد القسم، كانت الأخبار التي ذكرناها في

النهي قاضية عليه؛ لأن الخطر وافباحة متى وردا في شيء، كان الخطر أولى. وعلى أنه لا خلاف بين أهل العلم في النهي عن الحلف بغير الله. مسألة: [الكفارة الواجبة باليمين، وما يجزئ فيها] قال أبو جعفر: (وكفارة اليمين ما قال الله تعالى في كتابه: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة}، فهو مخيَّرٌ في ذلك). وذلك لأن: "أو": بابها التخيير في لغة العرب، ويُطعم كلَّ مسكين نصف صاع بُرًّا، أو صاع تمر أو شعير على ما ذكرنا من كفارة الظهار. وذلك لأن الناس لما اختلفوا في مقدارها، فقال قائلون مُدًّا، وقال آخرون: نصف صاع، وكان إثبات المقادير طريقه التوقيف أو الاتفاق، إذ لا سبيل إلى إثباتها من طريق المقاييس، كان الواجب هو نصف صاع؛ لأنه متفق عليه، وما دونه مختلف فيه، وليس فيه توقيف، وما قدمناه في كفارة الظهار من الدلالة على إثبات المقدار هو دليل في ذلك، لأن أحدًا لم يفرق بينهما.

وهذا المقدار إذا أراد تمليك الطعام، فإن أراد أن يُطعمهم: أطعم كل مسكين غداء وعشاء، لأنه من أوسط ما نطعمه أهلينا؛ لأن الأكثر في العادة ثلاث أكلات في اليوم والليلة، والأقل أكلة واحدة، والأكلتان واسطة بينهما، فكان أشبه بظاهر الآية. وقد رُوي مثل قولنا في مقدار ما يعطي كل مسكين عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعائشة رضي الله عنهم. وفي الغداء والعشاء أيضًا عن علي رضي الله عنه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما. وقد روى ليث عن ابن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان خبزًا يابسًا فهو غداؤه وعشاؤه". ويروى عن الحسن وابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول أنه يطعمهم أكلة واحدة. ويُروى عن ابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر: مُدٌّ من بُرٍّ في كفارة اليمين.

مسألة: [حكم إطعام أهل الذمة من كفارة اليمين] قال أبو جعفر: (ويجزيه في ذلك إطعام أهل الذمة، وإطعام المسلمين أفضل). قال أحمد: وروي عن أبي يوسف: أن كل صدقة واجبة لا يجوز أن يُعطى منها أهل الذمة، إلا أنه أجاز أن يُعطى أهل الذمة إذا قال: لله علي صدقة: استحسانًا. فأما وجه قول أبي حنيفة: فظاهر قوله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين}، وهو عام في كل مسكين إلا ما قام دليله. وأيضًا: رُوي أنَّ الناس تجنَّبوا الصدقة إلا على أهل دينهم، فأنزل الله تعالى {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خيرٍ فلأنفسكم}، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا على أهل الأديان". فعموم هذه الآية يبيح جواز دفع جميع الصدقات إليهم، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "تصدقوا على أهل الأديان". ويدل عليه أيضًا: قول الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في

الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}. ورُوي أنها نزلت في شأن أسماء بنت أبي بكر، جاءت أمها وهي مشركة تستميحها، فسألت النبيَّ عليه الصلاة والسلام عن ذلك، فأنزل الله هذه الآية. وظاهرها أيضًا يقتضي جواز دفع جميع الصدقات إليهم؛ لأنها من البر والقسط. ويدل على ذلك أيضًا: قوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا}. والأسير في دار الإسلام لا يكون إلا كافرًا، واستحقوا المدح بإطعامه، فدل على أنَّ في الصدقة عليهم قربة. وقد روي "أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يجمعون صدقات الفطر، فيجيئهم الرهبان، فيعطونهم". وإذا ثبت أنَّ الصدقة عليهم قُربة، وجب أن يجزئ إعطاؤهم كفارة

اليمين، إذ ليس أخذها إلى الإمام قياسًا على التطوع، والمعنى الجامع بينهما: أنَّ كل واحد منهما ليس للإمام المطالبة بها، مع كون الصدقة قُربة، وعدم ما يمنع الدفع من القربة. وإن شئت قستها على جواز الصدقة على المسلم، والمعنى فيه ما وصفنا. فإن قيل: أفلا تجيز دفعها إلى الحربي، والمعنى فيه أنه كافر، كذلك الذمي. قيل له: إن الصدقة على الحربي لا قربة فيها؛ لأن علينا قتله، وهو مباح الدم وإن كان مستأمنًا، إلا أنَّ إباحته مؤجلة بالأمان، كالدين المؤجل لا يمنع تأجيله من ثبوته، وكان شرط اعتلالنا في أهل الذمة: أنَّ الصدقة عليهم قُربة، وليست الكفارة مما يطالب بها الإمام. فإن قيل: هذا الذي ذكرت إنما هو دفعٌ لإلزام من ألزمك الحربي على اعتلالك، فانفصلت منه بما ذكرت، فما الدليل على امتناع جواز قياسه على الحربي لعلة الكفر؟ وتكون هذه العلة معارضة لعلتك، مسقطة لها. قيل له: أول ما في هذا، أنَّ هذه العلة التي انتزعتها، لم تقم عليها دلالة، ونحن فلا نقبل على إلا بقيام الدلالة عليها، وليس هذا موضع ذكر وصف الدلائل الموجبة لتصحيح العلل. وأيضًا: فلو ساوت اعتلالنا، كان اعتلالنا أولى، لما عاضده من عموم الآية، وعلةٌ يعاضدها العموم أولى مما ينافيه العموم. وأيضًا: فإن أقل أحوالهما إن تساوتا، أن يتعارضا وتسقطا، ويبقى لنا عموم الآية.

فإن اعترضوا على اعتلالنا بأن زكوات الأموال ليس أخذها إلى الإمام، ولا يجوز مع ذلك إعطاؤها أهل الذمة. قيل له: ليس كذلك عندنا؛ لأنا نقول: إن زكوات الأموال أخذها إلى الإمام، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام، وأبو بكر، وعمر، وعثمان يأخذونها، ثم خطب عثمان الناس فقال: "هذا شهر زكواتكم، فمن كان عليه دين فليؤده، ثم ليزك بقية ماله". فجعل أرباب الأموال وكلاء في الأداء، فلم يسقط حقُّ الإمام عندنا في المطالبة بها. زإنما اختلف عندنا في حكم صدقات الأموال وحكم الكفارات، لقول الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "أُمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم، وأردها إلى فقرائكم". فأخبر أنَّ ما كانت المطالبة بأخذها إليه من الصدقات، فهو مصروف في فقراء المسلمين، وإطعام فقراء المسلمين أفضل، كما أنَّ صدقة التطوع على فقراء المسلمين أفضل منها على فقراء أهل الذمة، وكما أنَّ دفعها إلى أقاربه ممن يجوز أن يُعطى منها أفضل منها على الأجانب، والمسلم أقرب

إليه من الكافر، لأن الله تعالى جعل عصمة الدين نسبًا بينهم بقوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة}. مسألة: [ما يجزئ من الكسوة في كفارة اليمين] قال أبو جعفر: (وإن اختار الكسوة، كسا كل مسكين ثوبًا: إزارًا، أو رداءً، أو قميصًا، أو قباء، أيَّ ذلك فعل: أجزأه). قال أحمد: الكسوة ما يكتسي به، ويستر عامة بدنه، ومن كان عليه شيء مما ذكر من قباء أو كساء، أو إزار كبير، يقال إنه مكتسٍ على الإطلاق. * قال أبو جعفر: (وإن كسا نساءً لم يجزه لكل واحدة منهن إلا أقل ما يجزيها فيه الصلاة، وهو واحد مما ذكرنا وخمار). قال أحمد: لا أعرف من مذهب أصحابنا الفرق بين الرجال والنساء فيما يُعطون من الكسوة في الكفارة، وعسى أن يكون وجد ذلك في رواية وقعت إليه؛ لأنه ثقة مأمون فيما يحكيه، غير متهم فيه، أو أن يكون قاسه على مذهبهم، وقد يُصيب القياس ويخطئ. مسألة: [حكم لو كساه سراويل] قال أبو جعفر: (وقال محمد: إن كسا رجلاً سراويل في ذلك: أجزأه، ولم يحك خلافًا، وقال أبو يوسف فيما روى عنه غير محمد:

إنه لا يجزيه). قال أحمد: الصحيح من قولهم جميعًا: أنَّ السراويل لا تجزئ، قد رواه عن محمد جماعة من أصحابه. ووجه ذلك: أنَّ السراويل بمنزلة الخفين، والقلنسوة، والعمامة، ولم يختلف أصحابنا أنَّ شيئًا من ذلك لا يجزئ، فكذلك السراويل؛ لأن لابس السراويل وحده لا يسمى مكتسبًا، بل يسمى عريانًا، كلابس الخف والعمامة. ووجه قول من أجازه منهم في بعض الروايات: أنه مما يجزئ فيه الصلاة للابسه. فإن قيل: فالعمامة مما تجزئ فيها الصلاة إذا اتزر بها، وستر بها ما بين السرة إلى الركبة. قيل له: ليس اللبس المعتاد في العمامة هذا، بل إنما تُراد للرأس فحسب. مسألة: [المجزئ من عتق الرقبة في كفارة اليمين] قال: (ويجزئ من الرقبة في ذلك ما يجزئ في الظهار، وقد تقدم ذكرها فيما سلف من هذا الكتاب في الظهار).

فصل: [اشتراط التتابع في صيام كفارة اليمين] قال الله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام}، ولا يجزيه أن يصومها إلا متتابعات. قال أحمد: وذلك لأنهم قد صح عندهم من حرف عبد الله بن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، وقد كان حرف عبد الله مستفيضًا بالكوفة. قال إبراهيم: كنا نُعلم ونحن في الكتاتيب ونحن صبيان حرف عبد الله، كما نُعلم حرف زيد. وروي عن إبراهيم أيضًا أنه قال: هي في قراءتنا: فصيام ثلاثة أيام متتابعات. فدل على أن استفاضتها كانت عندهم. وكان سعيد بن جبير يصلي بهم بالكوفة في ليالي شهر رمضان، فيقرأ

ليلة بحرف زيد، وليلة بحرف عبد الله، وقد كان حرف عبد الله مشهورًا عندهم مستفيضًا، تجوز الزيادة بمثله في نص القرآن. وليس هو كما يُروى عن أبي في قوله: "فعدة من أيام أخر متتابعات"؛ لأن حكم ذلك لم يثبت عندهم من طريق الاستفاضة والتواتر، وإنما طريقه روايات الآحاد، فلم تجز الزيادة له في نص القرآن، وقد تقدم بيان ذلك فيما سلف. مسألة: [من صام لإعسار ثم أيسر] قال أبو جعفر: (ومن دخل في صوم عن كفارة يمينه لإعسار، ثم أيسر قبل خروجه من الصوم: انتفض صومه، وعاد إلى حكم اليسار). قال أحمد: إنما يعني انتقاض الفرض، لإفساد الصوم، لأن صومه صحيح عن التطوع، فهو يستحب له المضيُّ في صوم يومه ذلك تطوعًا. وإنما لم يجزه من الفرض؛ لقول الله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام}، فإنما نقله عما ذكر بدءًا إلى الصوم إذا لم يجد، وهذا واجدٌ، فلزمه حكم قوله: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} إلى آخرها.

ولأنه لا يجوز له البناء على صوم لم يجز ابتداؤه عليه، كما لا يجوز له المضيُّ على الصلاة بعد خروج وقت المسح، إذ لا يصح ابتداؤه عليه، كما لا يجوز له المضيُّ على الصلاة بعد خروج وقت المسح، إذ لا يصح ابتداؤها، كما لا يجوز للمستحاضة المضيُّ على الصلاة بعد زوال الاستحاضة، وكما لا يجوز للمعتدة إذا ابتدأت عِدَّتها بالشهور، ثم حاضت، أن تبني عليها بالشهور، كما لا يصح ابتداؤها بالشهور مع وجود الحيض. والمعنى في جميع ذلك: أنَّ الذي دخل فيه مفعول على وجه البدل عن غيره للعذر، فإذا زال العذر: عاد إلى الأصل، فلا يبقى للبدل حكم. ولا فرق في ذلك بين حال البناء وحال الابتداء، للدلائل التي ذكرناها في الأصول، وقد ثبت عندنا في المتيمم إذا رأى الماء أنه لا يجوز له البناء، بدلائل صحيحة، فوجب أن يكون هذا مثله، لأن أحدًا لم يفرق بينهما. مسألة: قال: (والنساء في الأيمان كالرجال). وذلك لأن عموم الخطاب ينتظم الصنفين، وهو قوله: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان}.

مسألة: [حكم التكفير قبل الحنث] قال أبو جعفر: (ومن كفر عن يمينه قبل حنثه فيها: لم يجزه ذلك، وكان عليه أن يكفر عنها إذا حنث فيها). والدليل على ذلك: قول الله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم}، وحفظها مراعاتها لأداء كفاراتها عند الحنث، لا معنى لحفظ اليمين غير ذلك، وفي جواز أداء الكفارة قبل الحنث إسقاط حفظ اليمين مع بقائها، لأن الحفظ إنما هو لأداء الكفارة وقت الحنث. فإن قيل: معنى قوله: {واحفظوا أيمانكم}: أقلُّوا من الأيمان. قيل له: ليس في اللغة، ولا في الشرع دليلٌ على ما ادعيت، فهو ساقط، وقد بينا ذلك فيما تقدم. وأيضًا: فإن الفرض لا يقع موقعه إلا بحضور وقته، أو وجود سببه. والدليل عليه: امتناع جواز أداء الظهر قبل الوقت، وأداء الكفارة قبل اليمين، وكفارة القتل قبل الجراحة، كل ذلك لعدم حضور وقت الفرض، أو وجود سببه، وذلك معدومٌ في الكفارة قبل الحنث، فلم يجز. فإن قيل: اليمين سبب لجواز أدائها، كالنصاب سبب لجواز أداء الزكاة قبل الحول، وجراحة الصيد سبب لجواز أداء جزائه، وجراحة الرجل خطأ سبب لجواز أداء كفارة قتله، والمعنى في جميع ذلك: أنه لا تلزم هذه الحقوق مع وجوب ما وجب عنده إلا بتقدم السبب الآخر.

قيل له: ليست اليمين سببًا للكفارة وإن لم تجب الكفارة عند وجود الفعل إلا بتقدم اليمين. ألا ترى أنَّ جزاء الصيد لا يجب مع القتل إلا بتقدم الإحرام، وليس الإحرام سببًا لجواز أدائه، وسجود السهو لا يجب إلا بمخالفة موجب التحريمة، وليست التحريمة سببًا لجواز فعله، ولا تجب كفارة الظهار مع وجود لفظه إلا بتقدم النكاح، وليس النكاح سببًا لجواز أدائها، فسقط اعتلالك بما وصفت. ثم نقول: إن اليمين ليست سببًا للكفارة، بدلالة أنَّ وجوب الكفارة يتعلق بالحنث باتفاق المسلمين، بدلالة أنه لو بَرَّ في يمينه: لم تكن عليه كفارة مع وجود اليمين، ووجدنا الحنث ينافي بقاء اليمين، فلا جائز أن يكون ما ينافي الشيء سببًا لوجوبه. وأيضًا: فإنه لا يصح بقاء اليمين مع الحنث، فلا يجوز أن يكون سبب الشيء ما لا يصح بقاؤه معه. وأيضًا: فإن اليمين يضادها الحنث؛ لأن الحنث يوجب حِلَّ اليمين، وهذا الشيء لا يكون سببًا له. فإن قيل: عند وقوع الحنث يتعلق وجوب الكفارة بحرمة اللفظ. قيل له: لو كان كذلك، لوجبت بوجود اللفظ دون الحنث. وأيضًا: لو قال: والله، وسكت: لم يجب عليه شيء واللفظ موجود. * وأما الفرق بينها وبين النصاب في كونه سببًا لأداء الزكاة، فهو أنَّ

النصاب لا ينافيه حلول الحول؛ لأنه موجود معه، وكذلك الجراحة لا ينافيها الموت، الذي يتعلق به وجوب الكفارة، فلذلك جاز أن يكون سببًا. وأما الحنث فإنه ينافي اليمين ويبطلها، فلم يجز أن تكون اليمين سببًا له. وأيضًا: فإن الرجل يحلف ليبر، لا ليحنث؛ لأنه يقصد إلى تأكيد البر فيما يحلف عليه باليمين، فكيف تكون اليمين سببًا للحنث؟ وأما النصاب، فليس حصوله مانعًا من وجود الحول، وكذلك الجراحة والقتل. * فإن احتجوا بقول الله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم}، فعلَّق الكفارة بنفس الحلف، دون الحنث. قيل له: لا خلاف أنَّ الكفارة غير واجبة بنفس اليمين، فإذًا في الآية ضمير، وهو الحنث، كأنه قال: "ذلك كفَّارة ايمانكم إذا حلفتم وحنثتم"، كقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذىً من راسه ففديةٌ من صيام أو صدقةٍ أو نسكٍ}: معناه: فحلق، {ففدية من صيام}. وكقوله: {ومن كان مريضًا أو على سفر فعدةٌ من أيام أخر}: ومعناه: فأفطر فعدةٌ من أيام أخر.

وأيضًا: لم يفرق بين الصوم وغيره، وقد اتفقنا على امتناع جواز تقديم الصوم على الحنث، كذلك غيره، وإذا كان وجود الحنث مشروطًا في جواز الصوم، كذلك فيما سواه؛ لأنا قد اتفقنا على أنَّ فيها ضمير الحنث. وأيضًا: فامتناعهم من تجويز الصوم، يسقط جميع اعتلالهم بذكر السبب، لأن ما كان سببًا لشيء، لا يختلف حكمه أن يكون مسببه صومًا أو غيره في جواز فعله لأجل وجود سببه. فإن قيل: الصوم مخالفٌ للحق في المال، في باب جواز تقديمه، لأنه عبادة على البدن، والآخر حق في المال، والدليل على ذلك: جواز تقديم الزكاة على الحول، وامتناع جواز صوم شهر رمضان قبل مجيء وقته. قيل له: لم يختلفا من جهة أنَّ أحدهما عبادة على البدن، والآخر حق في المال، وإنما اختلفا من جهة وجود سبب وجود الزكاة، وهو النصاب، وفقد سبب وجوب الصوم. ألا ترى أنه لو قدَّم الزكاة قبل وجود النصاب: لم يُجزه باتفاق، لأجل عدم السبب، فلم يختلف حكم ما هو حقٌّ في المال، أو على البدن، في باب أنَّ عدم السبب فيهما جميعًا مانع من جواز أدائهما، كذلك ينبغي أن لا يختلف حكم ما هو على البدن أو في المال في جواز أدائه لوجود سببه. فإن قيل: روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرًا منها: فليكفر يمينه، وليأت الذي هو

خير". وهذا يقتضي جواز تقديم الكفارة على الحنث، لأن الفاء للتعقيب، فوجب أن يكون ما دخلت عليه عقيب الأول بلا فصل، فاقتضى أن لا يكون بين اليمين والكفارة فاصلة حنث. قيل له: وقد روي: "فليأت الذي هو خير، وليكفر يمينه"، وهذا يوجب على قضيتك التي قدَّمت امتناع جوازها قبل الحنث، لأن الفاء للتعقيب، وإنما دخلت هاهنا على الحنث، فينبغي أن لا يكون بين اليمين والحنث واسطة كفارة، ويجب أن تكون بعد الحنث. وأيضًا: فإن الواو لا توجب الترتيب، وليس في تقديمه الكفارة في اللفظ دلالة على جواز تقديمها، فيسقط الاحتجاج بهذا الخير. فإن قيل: الفاء توجب الترتيب، فإذا قال: "فليكفر يمينه، وليأت الذي هو خير": فقد دل على أنَّ الكفارة بعد اليمين، ثم يكون الحنث بعدها. قيل له: إذا كانت الواو لا توجب الترتيب، فكأنهما جميعًا مذكوران معًا بعد الفاء، فلا تكون الكفارة حينئذ أولى بالتقديم من الحنث. وأيضًا: قد اتفق الجميع على جواز تقديم الحنث على الكفارة، وجواز تأخيرها عنه، فإذًا ليس المراد به الترتيب في تقديم الكفارة على الحنث، وخبرنا حينئذ أولى بأن يكون مستعملاً على ما اقتضاه من ترتيب الكفارة على الحنث، إذ لم نوافقكم على جواز سقوط الترتيب فيه. وقد روي هذا الخبر على وجهين آخرين:

أحدهما: "فليكفر يمينه، ثم ليأت الذي هو خير". والآخر: "فليأت الذي هو خير، ثم ليكفر يمينه"، وهذا اللفظ أبين في إيجاب الترتيب مما في الخبر المتقدم، لأن: "ثم": شأنها الترتيب، والجواب عنه من وجوه: أحدهما: أنَّ في أحد الخبرين ترتيب الكفارة على الحنث، وفي الآخر ترتيب الحنث على الكفارة، ولو حُملا جميعًا على الحقيقة، وعلى مقتضى اللفظ ومضمونه، تعارضا وسقطا، فيصيران كأنهما لم يَرِدا، وسقط الاحتجاج بهما. ووجه آخر: وهو اتفاق الجميع على أنَّ قوله: "فليكفر عن يمينه، ثم ليأت الذي هو خير": لم يُرِد به حقيقة اللفظ، لأن: "ثم": تقتضي الترتيب، ولا خلاف في جواز تأخير الكفارة عن الحنث. وإذا ثبت ذلك بالاتفاق، سقط حكمه، إذ كان مجازًا لم يُرد به حقيقة اللفظ الذي رُمْتَ به إثبات الترتيب، واستعملنا نحن خبرنا على الترتيب حسب ما اقتضته حقيقة اللفظ، فقلنا لا يجوز إلا أن يأتي الذي هو خير، ثم يكفر عن يمينه على ما جاء به لفظ الخبر. وجهة أخرى: وهي أنَّ: "ثم": قد تَرِدُ ولا يراد بها الترتيب، قال الله

تعالى: {ثم كان من الذين ءامنوا}، ومعناه: وكان من الذين آمنوا. وقال: {ثم ءاتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن}، ومعناه: وآتينا موسى الكتاب. وإذا كان كذلك، لم يمتنع أن يكون قوله: "فليكفر يمينه، ثم ليأت الذي هو خير"، بمعنى: وليأت الذي هو خير. ويدل عليه: ما قدَّمنا من جواز تأخيرها عن الحنث، ويكون خبرنا حينئذ مستعملاً على الحقيقة، لعدم قيام الدلالة على كونه مجازًا. فإن قال قائل: هلا استعملت الخبرين جميعًا، ولم تُسقط أحدهما بالآخر، فتجيزها قبل الحنث، بقوله: "فليكفر عن يمينه، ثم ليأت الذي هو خير"، وتجيزها بعد الحنث أيضًا بالخبر الآخر. قيل له: لا سبيل إلى استعمالهما على ما اقتضته حقيقة لفظهما؛ لأن أحدهما يوجب تقديم الكفارة، والآخر يوجب تأخيرها، وذلك يتنافى، فلا يصح إثباته، وقد صح أنَّ قوله: "فليكفر عن يمينه، ثم ليأت الذي هو خير": لم يُرد به الترتيب، واستعمال حقيقته، فصارت بمعنى: "الواو"، وقد بيَّنَّا أنَّ: "الواو": لا توجب الترتيب. فإن قيل: هلا استعملتهما في الجواز، لا في الإيجاب. قيل له: لأن ظاهر اللفظ يقتضي الإيجاب، فإن صُرِف عن الإيجاب، صار مجازًا، وإذا جعلت اللفظة مجازًا، احتاجت إلى دلالةٍ من غيرها في

إثبات حكمها، وخرجت من أن تكون مكتفية بنفسها في إيجاب دلالتها. وعلى أنك متى استعملته في الجواز على الوجه الذي قلت، أسقطت حقيقة لفظ خبرنا في إيجاب الترتيب، ولا يجوز لنا إسقاط الحقيقة مع إمكان استعمالها. مسألة: [ما لا يجوز صرف كفارة اليمين فيه] قال أبو جعفر: (ولا يجوز صرف كفارة اليمين في كفن ميت، ولا في بناء مسجد، ولا في عتق رقبة يشركه فيها غيره). قال أحمد: المأخوذ عليه في إخراج كفارة اليمين أحد شيئين: إما الإطعام على الحد الذي وصفنا من الغداء والعشاء، وذلك إباحةٌ، لا تمليك فيها. أو التمليك في المقدار الذي ذكرنا من نصف صاع بُر، أو صاع تمر أو شعير، فإذا عدل بها إلى جهة التمليك والصدقة، فقد صار مثل صدقة الفطر، وزكاة المال، لا يجوز صرفه في كفن ميت؛ لأن الميت لا يملك، ويصير حينئذ بمنزلة من كسا ثوبًا على وجه العارية، حتى أبلاه المستعير، فلا يجزئه من الكفارة. وكذلك لا يجوز في بناء مسجد؛ لأنك إن جعلت الكفارة ما أعطي في ثمن الحص والآجر وأجرة البناء، فهؤلاء إنما أخذوا عوض ما ملكوا، فلا يجزئ من الكفارة، وإن اعتبرت ما حصل في البناء من الجص والآجر

والخشب: فإن ذلك لم يملكه أحد، ومن شرط الصدقة: أن يملكها تمليكًا صحيحًا. وأما عتق رقبة يشركه فيها غيره، فهو أن يكون بينه وبين آخر عبد، فيعتقانه جميعًا، وينوي أحدهما عن كفارة يمينه: فلا يجزئه؛ لأن عتق بعض الرقبة لا يجزئ عن الكفارة، لقول الله تعالى: {أو تحرير رقبة}. مسألة: [من لا يجوز صرف الكفارة إليه] قال: (ولا يجوز أن يعطى من كفارة اليمين من لا يعطيه من زكاة المال). وذلك لما بينا من أنَّ عليه إخراجها عن ملكه إخراجًا صحيحًا فيما سبيله أن يملكه، فهو كالزكاة فيمن يجوز إعطاؤه. مسألة: [من حلف بعتق أو صدقة أو حج لزمه ذلك بالحنث] قال أبو جعفر: (ومن حلف بعتق، أو صدقة، أو بحج، أو بمشي إلى بيت الله الحرام، ثم حنث: فعليه أن يفعل ما حلف به، لا يجزئه غير ذلك من كفارة ولا غيرها). قال أحمد: كل ما كان قُربة في نفسه، فأوجبه بالنذر: لزمه الوفاء به بعينه، لا يجزئه فيه كفارة يمين.

والأصل في ذلك: قول الله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود}، فأفاد أن كل من عقد على نفسه قُربة، لزمه الوفاء بها. وأخرى، وهو قول الله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}. فذم تارك الوفاء بالقول بعينه، فدلَّ على أنَّ على موجب القُربة الوفاء بها بعينها. وقال الله تعالى: {ومنهم من عهد الله لئن ءاتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما ءاتاهم من فضله بخلوا به} إلى قوله: {ربما كانوا يكذبون}. فذمهم الله تعالى على ترك الوفاء بالمنذور بعينه، والذم لا يُستحق إلا بترك الواجبات، فصار ذلك أصلاً في أنَّ على كل ناذر قربة الوفاء بها بعينها. ومن جهة السنة: ما روى ابن عباس رضي الله عنه "أنَّ أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى بيت الله، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم

أن تركب، وتُهدي هديًا". وحدثنا عبد الباقي حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل حدثنا صلت بن مسعود حدثنا سهل بن أسلم عن يزيد بن أبي منصور عن دخين الحجري عن عقبة بن عامر "أنَّ أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله حافية حاسرة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "فلتختمر، ولتركب، ولتحج". و"قال عمر: يا رسول الله! نذرتُ أن أعتكف يومًا في الجاهلية؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أوفِ بنذرك". وفي بعض الألفاظ قال: "اعتكف، وصُم". فأمره عليه الصلاة والسلام بالوفاء بنفس المنذور، إذ كان قربة في نفسه. وقد حدثنا عبد الباقي بن نافع قال: حدثنا عبدان الأهوازي قال: حدثنا زيد بن حريش حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب عن كريب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نذر

نذرًا فلم يسمه: فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا في معصية: فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا لا يطيقه: فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرًا يطيقه: فليف به". ففرَّق عليه الصلاة والسلام بين نذر المعصية وبين نذر الطاعة، فأمر في المعصية وما لا يطيق بكفارة اليمين، وكذلك في النذر المطلق، وأوجب الوفاء بنفس المنذور إذا نذر طاعة. فإن قيل: روى عقبة بن عامر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "كفارة النذر: كفارة يمين". وهو عامٌّ في النذر المطلق، ونذر قربةٍ بعينها، فالواجب فيهما جميعًا كفارة يمين بحقِّ العموم. قيل له: قوله: "كفارة النذر: كفارة اليمين": محمولٌ على حقيقته، وحقيقته هي النذر المطلق أن يقول: لله علي نذر، فهذا فيه كفارة يمين. وأما قوله: لله علي صوم، أو: صلاة، أو: حج: فإنه لا يتناوله الخبر؛ لأنه ليس هو لفظ النذر. وأيضًا: نجمع بينه وبين حديث كريب عن ابن عباس، في فرقه بين النذر المطلق، وبين نذر قربةٍ بعينها، فقال: "من نذر نذرًا لم يسمه: فعليه كفارة يمين، ومن نذر نذرًا يطيقه: فليفِ به"، فبيَّن فيه أنَّ النذر الذي تجب

فيه كفارة يمين هو أن يقول: لله علي نذر. وأيضًا: فإن قوله: {ومنهم من عاهد الله لئن ءاتنا من فضله} إلى آخر الآية، قد اقتضى لزوم الوفاء بنذر قربةٍ بعينها، فلا يجوز أن يُعترض عليه بهذا الخبر؛ لأنه نافٍ لحكمها على حسب ما استعمله مخالفونا. ومن جهة النظر: اتفاق الجميع على أنَّ من قال: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بمائة درهم، أو: لله عليَّ أن أحج: أنه متى شفى الله مريضه: لزمه الوفاء به بنفس المنذور، ولم تلزمه كفارة يمين، فلزم قياسًا على هذا أن نقول: في كل نذر تناول قربة: أن يلزم الوفاء به بعينه، دون كفارة اليمين. مسألة: [ما يلزم من حلف أن يحج ماشيًا فحج راكبًا] قال أبو جعفر: (وإن ركب الذي حلف بالمشي إلى بيت الله في حجه لذلك، أو في عمرته: أجزأه، وكان عليه لذلك دم). قال أحمد: وذلك لما في حديث قتادة عن كرمة عن ابن عباس "أنَّ أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت، فقال النبي عليه الصلاة

والسلام: إن الله لغني عن تعذيبها نفسها، لتركب، ولتهد هديًا". فأوجب عليها الهدي للركوب. مسألة: [حكم من نذر أن يتصدق بماله إن فعل كذا] قال أبو جعفر: (ومن نذر أن يتصدق بماله إن فعل كذا وكذا، ففعله: كان عليه أن يتصدق من ماله بما تكون فيه الزكاة، لا بغير ذلك مما يملكه). قال أحمد: الأصل في ذلك: أنَّ النذور محمولة على أصولها في الفروض، والدليل على ذلك: أنَّ من نذر صلاة، لزمته علىى شرائط صلاة الفرض، وكذلك من نذر حجًا أو صومًا، فإذا كانت الصدقة التي أوجبها الله في الأموال ابتداء هي في أموال الزكوات، وجب أن يكون النذر مصروفًا إليها. وأيضًا: قال الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}، فكان مراده هذه الأموال التي فيها هذه الزكوات والصدقات، فوجب أن يُصرف لفظ النذر إليها. وقال أصحابنا: لو أوصى لرجل بثلث ماله، كان على جميع أمواله، إذ ليس هناك دلالة تصرف اللفظ عن عمومه إلى الخصوص.

مسألة: [الاستثناء في اليمين] قال أبو جعفر: (ومن استثنى في شيء من أيمانه هذه، وفيما سواها من طلاق، أو عتاق، فقال: إن شاء الله موصولاً بها: فهو استثناء، ولا حنث عليه إن فعل ما حلف عليه أن لا يفعله). قال أحمد: الأصل في ذلك: أنَّ هذه الكلمة تدخل في الكلام لرفع حكمه، حتى يُجعل وجوده وعدمه سواء. والدليل على صحة ذلك: قول الله تعالى حاكيًا عن نبيه موسى عليه الصلاة والسلام: {ستجدني إن شاء الله صابرًا ولا أعصى لك أمرًا}، ثم لم يصبر، ولم يكُ كاذبًا، وإنما أخرجه من ذلك دخول الاستثناء على خبره. ومن جهة السنة: ما رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: "من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله: فقد استثنى". وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، لم يحنث".

وروى كثير بن فرقد عن نافع عن ابن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام فقال: "من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله: فقد بر في يمينه". وأيضًا: فإن قوله: والله لأفعلن كذا إن شاء الله: يمينٌ معقودة بشرط مشيئة الله، ولا تُعلم مشيئة الله فيه، فلا يُوقع الحنث. * وإنما شرطنا أن يكون الاستثناء موصولاً بالكلام: من قبل أنه يجري مجرى الشرط، والجواب لا يتعلق بالشرط إلا أن يكون موصولاً به. ألا ترى أنه لو قال: عبدي حرٌّ، ثم قال بعد ساعة: إن دخل الدار: لم يعمل الشرط، وكان العتق ماضيًا. ولو وصله بالإيقاع، فقال: عبدي حرٌّ إن دخل الدار: لم يقع أو يوجد الدخول. ويدل على ذلك أيضًا: قول الله تعالى في قصة أيوب: {وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به ولا تحنث}، ولو جاز الاستثناء غير موصول بالكلام، لأمره بالاستثناء: فلا يحنث. ويدل عليه أيضًا: قول النبي عليه الصلاة والسلام: "من حلف على

يمين، فرأى غيرها خيرًا منها: فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه". ولو جاز الاستثناء غير موصول باللفظ، لأمره بالاستثناء، وإتيان الذي هو خير. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأحلف على يمين، فأرى غيرها خيرًا منها، إلا أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني". ولو جاز الاستثناء في تلك الحال لقال: ثم استثنيت، وأتيتُ الذي هو خير. وروي نحو قولنا عن عبد الله بن عمر. * وكان ابن عباس رضي الله عنهما يرى الاستثناء بعد سنة، ويقرأ {واذكر ربك إذا نسيت}، قال: إذا ذكرت. مسألة: [من علق يمينه بشرط، وفعل بعضه] قال أبو جعفر: (ومن حلف لا يفعل شيئًا، ففعل بعضه: لم يحنث حتى يفعله كله). قال أحمد: الأصل في ذلك: أنَّ اليمين إذا كانت معقودة بشرط، لم

يقع الحنث فيها إلا بوجود الشرط بكماله؛ لأنا إنما نلزمه حكم الإيقاع من حيث ألزم نفسه، وهو إنما ألزم نفسه الإيقاع بوجود الشرط بكماله، وذلك مثل أن يقول: عبدي حر إن كلَّمتُ زيدًا وعمرًا: فلا يحنث بكلام أحدهما؛ لأنه إنما أوقعه بكلامهما، ولو أوقعناه بكلام أحدهما: كنا قد ألزمناه شرطًا لم يعقده على نفسه. ألا ترى إلى قوله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمنٌ فلا يخاف ظلمًا ولا هضمًا}، فلو أنه عمل أعمال الصلاح وليس بمؤمن: لم يستحق حكم الآية. وأيضًا: معلوم في العادة أنَّ من قال: أعطه درهمًا إن دخل الدار وقعد فيها، أنه لا يستحقه إلا بوجود الأمرين. مسألة: [حلف ألا يسكن دارًا معينة فخرج منها وترك متاعه وأهله] قال أبو جعفر: (ومن حلف أن لا يسكن دارًا بعينها، فخرج منها ببدنه، وترك فيها متاعه وأهله: كان حانثًا، وإن أخذ في النَّقلة ساعة حلف، حتى نقل متاعه كله منها: برَّ في يمينه). قال أحمد: الأصل في ذلك: أنَّ الأيمان محمولةٌ على المتعارف، وذلك لأن المتعارف من الأمور كالمنطوق بها في الأيمان. والدليل على ذلك: أنَّ من حلف أن لا يجلس على بساط، فجلس على الأرض: لم يحنث، وقد سمى الله الأرض بساطًا.

ومن حلف أن لا يجلس في السراج، فجلس في الشمس: لم يحنث، وقد سمى الله الشمس سراجًا، ونظائر ذلك كثيرة، فلم يحنث في شيء منها عند جميع الفقهاء، من حيث كان المتعارف من لفظ اليمين غيرها. وإذا صح هذا الأصل، قلنا في السكنى: إن إطلاق اللفظ فيها في العادة إنما يتناول كون أهله ومتاعه في البيت المسكون، ألا ترى أن من كان قاعدًا في المسجد يصح له أن يقول: أنا ساكن في هذه الدار وإن لم يكن كائنًا فيها ببدنه في حال القول. وروي "أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام لما دخل المدينة، أخذ أبو أيوب الأنصاري رَحْلَه، ونَقَلَه إلى بيته، ثم سأله جماعة من الأنصار أن ينزل عليهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: المرء حيث رحله". وروي عن عمر أنه قال: "من قدَّم ثِقله قبل وقت النفر، فلا حج له". والمعنى فيه: أنه يصير في الحكم كأنه في الموضع الذي فيه رحله، فكأنه قد نفر قبل أن يحل النفر. وقوله: "فلا حج له": يعني به نفي الفضل، لا نفي الأصل. * قال أبو جعفر: (وإن أخذ في النقلة ساعة حلف، حتى نقل متاعه كله منها: برَّ في يمينه): لأن يمينه تناولت النقلة على هذا الوجه، إذ لا يمكنه غيرها.

* (وإن ترك شيئًا من متاعه وإن قلَّ، فلم ينقله، ونراخى عن ذلك، فإن أبا حنيفة قال: قد حنث بذلك، وهو وقول محمد وأبي يوسف فيما رواه محمد). وذلك لأن اليمين لما تناولت نقل المتاع، صار كمن حلف لينقلن هذا المتاع كله في هذا اليوم، فإذا لم ينقل جميعه: حنث. * قال: (وقال أبو يوسف في غير رواية محمد: إن كان الذي خلفه من متاعه شيئًا يسيرًا مما لا تصلح به السكنى: لم يحنث). ووجه ذلك: أنَّ اليمين إنما تناولت السكنى، ولا تحصل السكنى بترك مثله في الدار، فيبرُّ. ألا ترى أنه لو قال: والله لا أسكن هذه الدار، وليس بساكن فيها، ثم ترك فيها ثوبًا أو دراهم: أنه لا يحنث؛ لأنه لم يصر ساكنًا بذلك. وقد قالوا جميعًا، إنه لو حلف: ليأكلن هذه الرمانة، أو هذا الرغيف، فأكل الرمانة إلا حبة واحدة، وأكل الرغيف إلا ما ينتشر من يده: أنه قد برَّ في يمينه. مسألة: [اليمين على لبس الثوب] قال أبو جعفر: (من حلف لا يلبس ثوبًا بعينه، فاتَّزر به، أو اعتم به: حنث في يمينه، وإن كانت يمينه على ثوبٍ بغير عينه: لم يحنث حتى يلبسه كما تُلبس الثياب).

قال أحمد: الأصل في ذلك: أنَّ اليمين إذا تعلقت بالعين، تناولتها على أي صفة حصل الفعل، وإذا تعلقت بالصفة، كانت على الصفة المعتادة، فإذا قال: والله لا ألبس ثوبًا: فهذا على اللبس المعتاد، لأن الأيمان محمولة على المتعارف، وإذا قال: هذا الثوب: فعلى أي وجه حصل لبسه: حنث؛ لأن اليمين تعلقت بالعين، والعين قد حصل فيها اللبس على وجه. وعلى هذا قالوا: فيمن حلف: لا يدخل دارًا: أنها على الدار المبنية، ولو قال: لا أدخل هذه الدار: كانت اليمين متعلقة بها ما دامت تسمى دارًا بحال، فلو انهدمت وصارت صحراء، فدخلها: حنث. ألا ترى أنه لو قال: لا أكلم هذا الشاب، فكلَّمه بعد أن صار شيخًا: أنه يحنث، ولو قال: لا أكلم شابًا، فكلَّم شيخًا: لم يحنث وإن كنا قد علمنا أنه كان شابًا، فهذا يبين الفرق بين اليمين المعقودة على العين، وبينما إذا عقدت على غير عين. مسألة: [الحلف بعدم فعل شيء وهو متلبس به] قال أبو جعفر: (ومن حلف لا يلبس ثوبًا وهو لابسه، فإن أخذ في نزعه ساعة حلف، فنزعه: لم يحنث، وإن تراخى عن ذلك: حنث، وكذلك الركوب والسكنى). وذلك لأن الدوام على الركوب يسمى ركوبًا، وكذلك الدوام على اللبس والسكنى، ألا ترى أنك تقول: ركبتُها يومًا إلى الليل، وسكنتُها يومًا إلى الليل، وكذلك اللبس. ويدل عليه أنك تقول: دَعْني أسكنها يومًا آخر، وأركبها ساعة أخرى. قال أحمد: وقال زفر: قد حنث في يمينه عقيبها؛ لأنه قد حصل

لابسًا بعد العقد إلى أن حصل نزعه. وأبى سائر أصحابنا هذا الاعتبار؛ لأن الأيمان محمولة على المتعارف، وفي العادة أنَّ الإنسان إنما يحلف على ما يمكنه الامتناع منه، فلا ينصرف يمينه إلى ما لا يمكنه الامتناع منه، وبقاء الثوب عليه بعد اليمين إلى أن يتفق له النزع من غير تفريط، مما لا يدخل تحت اليمين، إذ لا يمكنه الامتناع منه. [مسألة:] قال: (ومن حلف لا يدخل دارًا هو فيها ساعة حلف، لم يحنث حتى يخرج منها، ثم يدخلها بعد). وذلك لأن الدخول اسمٌ للانفصال من خارج الدار إلى داخلها، كما أنَّ الخروج اسم للانفصال من داخلها إلى خارجها. ولو أنَّ رجلاً حلف لا يخرج من هذه الدار، وهو خارج منها: لم يحنث ببقائه خارج الدار، حتى يدخلها، ثم يخرج منها، ألا ترى أنه لا يصح أن يقول للخارج: أخرج من هذه الدار، ولا يصح أن يقال للداخل: أدخلها، وليس كالسكنى واللبس والركوب لما بيَّنَّا. مسألة: [حلف على عدم فعل شيء، ثم فعله غيره بأمره] قال أبو جعفر: (ولو حلف لا يطلق امرأته، ولا يعتق عبده، ولا يتزوج، وأمر غيره، ففعل: فإنه حانث). قال أحمد: الأصل في ذلك: أنَّ كل شيء من هذه الأقوال يتعلق

حكمه بالآمر دون المأمور، فإن الآمر هو الفاعل له في الحكم، فيحنث في يمينه إذا أمر به غيره، ففعل، فمن ذلك الطلاق، والعتاق، والتزويج؛ لأن الطلاق لا يصح إيقاعه إلا من جهة الزوج؛ لأن الأجنبي لا يملك ذلك بحال، وكذلك العتق، والتزويج لا يتعلق حكمهما إلا بالمالك دون الوكيل. ألا ترى أنَّ الوكيل إذا طلق كان نقصان العدد، ووقوع التحريم متعلقًا بالزوج، وإذا أعتق كان الولاء للآمر دون الوكيل، وإذا تزوج كان الذي يملك البضع ويلزمه المهر هو الزوج دون الوكيل. وكذلك قالوا فيمن حلف أن لا يهب هذا العبد لفلان، فأمر غيره، فوهبه له: أنه حانث؛ لأن حكم عقد الهبة متعلق بالآمر دون الوكيل، ألا ترى أن حق الرجوع يثبت له دون الوكيل. وليس كذلك البيع والشراء والإجارة إذا حلف أن لا يفعله، فأمر به غيره، ففعل: لم يحنث، من قِبَل أن حكم عقد البيع، يتعلق بالعاقد دون الآمر؛ لأنه هو الذي يلزمه الثمن إن كان مشتريًا، ويثبت له الثمن إن كان بائعًا دون الآمر، فلما كانت حقوقه متعلقه فيما بينهما دون الآمر، كان هو الفاعل له في حكم اليمين دون الآمر. * قال أبو جعفر: (فإن قال: عنيت أن أليَ أنا ذلك بنفسي: دين فيما بينه وبين الله تعالى، ولم يدين في القضاء). وإنما دين فيما بينه وبين الله تعالى، من قبل أنه يحتمل أن يريد بقوله: لا أطلق: أن لا ألفظ بالطلاق، ومتى ما كان للكلام وجه في الاحتمال،

صدق فيما بين وبين الله تعالى. وإنما لم يصدق في القضاء؛ لأن الظاهر غير ما ادعى من النية، إذ كان حكم الطلاق متعلقًا به، لا يصح وقوعه إلا من جهته، ومتى ما ادعى صرف الكلام عن ظاهره بنيةٍ لا نعلمها: لم يصدق عليه. * قال أبو جعفر: (وقد قال أبو يوسف ومحمد: إذا حلف لا يضرب عبده، أو لا يذبح شاته، فأمر إنسانًا ففعل ذلك، وقال: عنيت أن لا أليَ ذلك بنفسي: دين في القضاء). قال أحمد: هذا يحنث فيه إذا أمر غيره، ولم تكن له نية، وكذلك قالوا: في خياطة الثوب، وبناء الدار ونحوهما؛ لأن هذه الأشياء ليس يتعلق بها حقوق، فتعلق حكمها بالآمر في باب سقوط الضمان عن الفاعل. ومن جهة أخرى: إنه قد يقال: ضرب الأمير عبده، وضحَّى فلان شاته، وإنما أمر غيره ففعله. وإذا قال: عنيت أن لا أليَه بنفسي: صُدق في القضاء؛ لأنه لم يفعل المحلوف عليه في الحقيقة، بل الفاعل غيره، وقد يصح هذا الفعل من جهة غيره بغير أمره، وإنما أحنثناه إذا لم تكن له نية، لجريان العرف بإضافة ذلك إليه، فإذا نوى حقيقة اللفظ: صُدِّق في القضاء. وليس كذلك الطلاق، والعتق، والتزويج؛ لأنها لا تصح من جهة الفاعل دون الآمر، فلا يثبت له حكم بحال إلا بالآمر، فلذلك لم يُصدق فيه في القضاء.

مسألة: [حلف بالطلاق إن أكل، ثم قال عنيت طعامًا دون آخر] قال أبو جعفر: (ومن حلف بعتق عبده، أو بطلاق امرأته أن لا يأكل ولا يشرب، وقال: عنيتُ طعامًا دون طعام، أو شرابًا دون شراب، أو لباسًا دون لباس: لم يدين في القضاء، ولا فيما بين وبين الله تعالى). قال أحمد: هذا الضرب من الأيمان على ثلاثة أوجه: * أن يُطلق لفظًا عامًا في مسميات، ثم يدعي تخصيص ما ليس في لفظه، مثل قوله: لا آكل، فالذي في لفظه هو الفعل، فإذا قال: عنيت طعامًا دون طعام: فإنما ادعى تخصيص ما ليس في اللفظ؛ لأنه ليس في لفظه: طعام: فلا تعمل نيته في تخصيصه، فصارت نيته لغوًا، لأن التخصيص والعموم إنما يكون في الألفاظ، فأما ما لم يلفظ به، فلا يصح أن يقال فيه خصوص ولا عموم، فلذلك صارت نيته لغوًا في تخصيص بعض الطعام دون بعض، إذ ليس في لفظه: طعام، فيخصه بالنية، وإنما الذي في لفظه: الأكل، وهو وإن انتظم الطعام من جهة المعنى، فلم يقتضه من جهة اللفظ، وقد بيَّنَّا أنَّ اعتبار العموم والخصوص إنما يصح في الألفاظ. * وضرب ثان: وهو أن يدعي تخصيص لفظ يقتضي ظاهره العموم من غير دلالة من العرف، والحالُ يدل على خصوصه: فلا يصدق في القضاء. وذلك كقوله: إن أكلت طعامًا أو شربت شرابًا فعبدي حرٌّ، وقال:

عنيتُ طعامًا دون طعام، أو شرابًا دون شراب: فيصدق فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه ادعى تخصيص الملفوظ به وهو الطعام، ولا يصدق في القضاء. لأن علينا الحكم بما ظهر من لفظه، والذي ادعاه من نية التخصيص لا دلالة لنا عليه، فلا جائز أن نترك دلالة اللفظ بلا دلالة أخرى، فلذلك لم يصدق في القضاء، وصدق فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن المخاطب قد يجوز أن يُطلق لفظ العموم، ومراده الخصوص، كقول الله تعالى: {الذين قال لهم الناس}، والمراد بعضهم، وقال: {وأحل الله البيع}، والمراد البعض، ونظائر ذلك كثيرة. فإذا كان محتملاً: صدقناه فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن الله مطلع على نيته، عالمٌ بضميره، ولم نصدقه في القضاء؛ لعدم الدلالة على نيته. * والضرب الثالث: أن يُطلق لفظ عمومٍ، وتقارنه دلالة الحال والعرف في إيجاب تخصيصه، فلا تكون يمينه في هذا الموضع إلا خاصة إذا لم تكن له نية. ويكون تخصيصه بدلالة العرف على وجهين: أحدهما: أن يكون الاسم نفسه خاصًا في العرف، نحو اللحم إذا أُطلق: لم يتناول السمك، فالاسم نفسه مخصوص يتناول في العرف بعض ذلك دون بعض.

وقد يكون الاسم عامًا في العرف، والمعنى خاصًا، نحو قوله: لا أكل رأسًا، فاسم الرأس عام في رأس الشاة، ورأس الجرادة والعصفور، لا يختص في العرف ببعض ذلك دون بعض. ألا ترى أنَّ رأس الجرادة والعصفور لا يسميان بغير الرأس، ولكن المعنى خاص في العرف؛ لأن مقاصد الناس فيه رأس الشاة. وأما تخصيصه بدلالة الحال: فكقوله لعبده وقد أراد أن يخرج: إن خرجت فأنت حرٌّ، وكقوله للقائل: تغدَّ عندي اليوم، فيقول مجيبًا له: إن تغديتُ فعبدي حرٌّ: فهذا على ذلك الغداء بعينه دون غيره، وتكون دلالة الحال عليه كشرطه في اللفظ. مسألة: [حلف ألا يدخل بيتًا فدخل الكعبة أو مسجدًا] قال أبو جعفر رحمه الله: (ومن حلف لا يدخل بيتًا، فدخل الكعبة، أو مسجدًا، أو بيعة، أو ظلة، أو دهليز دار: لم يحنث). لأن هذه المواضع لا يتناولها اسم البيت على الإطلاق، وإنما يتناول البيوت المسكونة، كما لا يتناول اسم اللحم السمك، واسم السراج الشمس، والبساط الأرض وإن كان الله تعالى قد سمى الشمس سراجًا، والأرض بساطًا، كذلك الكعبة وإن سماها الله تعالى بيتًا، وسمى المساجد بيوتًا بقوله: {في بيوت أذن الله أن ترفع}، فإنه لا يسمى بيتًا في العرف،

فلم يدخل في الأيمان؛ لأن الأيمان محمولة على المتعارف. * قال أبو جعفر: (وإن دخل صفة: حنث). قال أحمد: وإنما قال أصحابنا ذلك على حسب عاداتهم التي كانت بالكوفة حينئذ، وهم يسمون بيتًا في جوفه بيت آخر: صفة، وأما اسم: "الصفة": ببغداد، فلا يتناول البيت، ولا اسم البيت يتناول "الصفة". مسألة: [من حلف لا يكلم فلانًا زمانًا] قال: (ومن حلف لا يكلم رجلاً زمانًا، أو حينًا، فنوى وقتًا بعينه: كان كما نوى، وإن لم تكن له نية: فهو على ستة أشهر). قال أحمد: الحين اسم للوقت، فقد يكون لأقصر الأوقات، كقوله: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون}. ويكون لأربعين سنة، نحو ما روي في قوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا} قيل في التفسير: أربعين سنة. ويقع على سنة، ويقع على ستة أشهر. وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: {تؤتي أكلها كل حين بإذن

ربها}: أنه ستة أشهر، وروي عنه: سنة. ومعلوم أنَّ الحالف لم يُرد بقوله: لا أكلمه حينًا: أقصر الأوقات، لعدم العرف بالحلف على مثله، ولا يراد به في العرف أيضًا: أربعون سنة، لأن من أراد الحلف على ذلك حلف على الأبد، فلا يخلو حينئذ أن يكون محمولاً على سنة، أو على ستة أشهر، والستة أشهر أولى بمعنى الآية؛ لأن من حين انقطاع الرطب إلى حدوثه يكون مثل هذه المدة، فكان حمله على ستة أشهر أولى. والزمان مثل الحين، لأنهم لا يفرقون بينهما في العادة، بقول القائل: ما رأيتك منذ حين، ومنذ زمان، والمعقول من اللفظين معنى واحد. * قال: (وكذلك: الزمان، والحين). لأن اللفظ لما صار عبارة عن ستة أشهر، لم يختلف حينئذ حكمه إذا أدخل عليه الألف واللام، أو أسقطهما. مسألة: [إذا حلف لا يكلمه دهرًا] قال أبو جعفر: (وإن حلف لا يكلمه دهرًا وهو ينوي وقتًا بعينه: فهو على ما نوى؛ لأنه يجوز أن يريد به الوقت، فإن لم تكن له نية، فإن أبا حنيفة قال: لا أدري ما الدهر). قال أحمد: معلومٌ الفرق بين الدهر والحين في العادة، قال الله تعالى حاكيًا عن المشركين: {وما يُهلكنا إلا الدهر}، ولا يقوم مقامه الحين لو

قالوا: وما يهلكنا إلا الحين، وقال الأفوه الأودي: حتم الدهر علينا إنه .... ظلفٌ ما نال منا وجبار ولو أقيم مقامه الحين، فقيل: حتم الحين علينا، لم يصح الكلام، وفسد المعنى، فعلمنا أنَّ الدهر مخالفٌ للحين. وقد قال أبو يوسف ومحمد أيضًا: إنه لو قال: لا أكلمك الدهر: أنَّ ذلك على الأبد، ولو قال: لا أكلمك حينًا: كان على ستة أشهر. فلما كان قوله: دهرًا: اسمًا لمعنى مجهول لم تقم الدلالة عنده على حقيقته، لم يُجب أبو حنيفة فيه بشيء، وليس عليه في هذا مسألة؛ لأنه يقول: لم يبن لي معنى الاسم. وأبو يوسف ومحمد أجرياه مجرى قوله: حينًا وزمانًا؛ لأن القائل قد يقول: ما رأيتك منذ دهر، كما يقول: ما رأيتك منذ زمان. مسألة: [إذا حلف لا يكلمه الدهر] قال أبو جعفر: (وإن حلف أن لا يكلمه الدهر، فإن محمدًا روى عن أبي يوسف: أنه كالحين والزمان، وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف: أنَّ ذلك على الأبد). قال أحمد: المشهور من قولهم: أنَّ الدهر بالألف واللام: على الأبد، قد ذكره محمد في "الجامع الكبير"، ولم يذكر فيه خلافًا. وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: إن قول أبي حنيفة في:

الدهر، و: دهرًا واحدًا: أنه لم يُجب فيهما بشيء، والغالب كلام الناس أنَّ الدهر على الأبد، يقال: فلان يصوم الدهر: يعنون الأبد. مسألة: [إذا حلف لا يكلمه بعيدًا أو قريبًا] قال أبو جعفر: (ولو حلف أن لا يكلم رجلاً إلى بعيد: كانت يمينه على أكثر من شهر). قال أحمد: المشهور من قولهم إذا قال: لا أكلمك مليًا أو طويلاً: أنه على شهر فصاعدًا. وروى مُعلَّى عن أبي يوسف: الوقت في ذلك شهر ويوم، فعلى المشهور من قولهم ينبغي أن يكون: إلى بعيد: إلى شهر. وهذا إذا لم تكن له نية، فإن كانت له نية: فهو على ما نوى. وإنما جعلوه شهرًا اجتهادًا؛ لأن الدنيا كلها قريب عاجل، إلا أنَّ في العرف أنَّ ما دون الشهر ليس ببعيد، وجعلوا الشهر في حيِّز البعيد في العادة في آجال الديون، وفرض نفقات الزوجات والإجارات الشهر فصاعدًا، وليس يكاد يوجد أقل من شهر إلا شاذًا نادرًا. مسألة: [إذا حلف أن لا يكلمه إلى قريب] (وإن حلف أن لا يكلمه إلى قريب: كانت يمينه أقل من شهر، إلا أن يعني غيره)؛ لما وصفناه. مسألة: [إذا حلف لا يكلمه عُمرًا] قال: (وإن حلف أن لا يكلم رجلاً عُمُرًا، فقد روي عن أبي يوسف

أنه مثل الحين). لأن العمر اسم لوقتٍ مبهم، فأقرب الأوقات به شبهًا هو الحين، إذ كان اسمًا لوقت مبهم، قد يتناول الوقت القضير في حال، والطويل في أخرى، ألا ترى أنك تقول: كان فلان قصير العمر، إذا مات وهو صغير، وفلان طويل العمر، إذا عاش طويلاً. قال: (وروي عن أبي يوسف أنه قال: هو على يوم واحد، إلا أن يعني غير ذلك، فيكون على ما عنى). قال أحمد: وهو اجتهاد، وغالب ظن. مسألة: [إذا حلف لا يكلمه حُقبًا] قال أبو جعفر: (ومن حلف لا يكلم رجلاً حُقبًا، فإن الحُقب: ثمانون سنة). قال أحمد: روي في التفسير في قوله تعالى: {لابثين فيها أحقابًا}، أن الحقب: ثمانون سنة. مسألة: [إذا حلف لا يكلمه أيامًا كثيرة] قال أبو جعفر: (ومن حلف أن لا يكلم رجلاً أيامًا كثيرة، فإن أبا حنيفة كان يقول: أكثر الأيام: عشرة أيام، وقال أبو يوسف ومحمد: أكثرها: سبعة). قال أحمد: أكثر ما يتناوله هذا الاسم إنما هو عشرة؛ لأنك تقول:

بعد العشرة: أحد عشر يومًا، فإذا قال: أيامًا كثيرة: كان على عشرة. وفي قول أبي يوسف ومحمد على أيام الجمعة؛ لأن انقضاء الجمعة يوجب تكرار الأيام. مسألة: قال: (ولو حلف لا يكلمه الأيام: فهو على هذا الاختلاف). قال أحمد: لم يختلفوا أنه لو قال: لا أكلمه أيامًا: أنَّ ذلك على ثلاثة أيام؛ لأن ذلك أقل ما يتناوله اسم الأيام، لأنك تقول: يومان وثلاثة أيام، فإذا دخلت عليها الألف واللام، كان عند أبي حنيفة: على عشرة أيام؛ لأنه يقول: ينبغي أن يكون لدخولهما فائدة، وهو تكثير العدد، واستيعاب ما يتناوله الاسم منه، وإن شئت قلت: للجنس، فيستوعبه أجمع، وأكثر ما يتناوله الاسم من هذا الجنس: عشرة. وفي قولهما: على أيام الجمعة. مسألة: [إذا حلف لا يكلمه الشهور] قال: (ولو حلف لا أكلمه الشهور، فهي على عشرة أشهر في قول أبي حنيفة)؛ للعلة التي وصفنا. (وفي قولهما: اثنا عشر شهرًا)؛ لأنها تتكرر بعد الاثنى عشر، كما قالا في الأيام، لأنها على أيام الجمعة. وقال الله تعالى: {إنَّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا}.

مسألة: [حلف لا يكلمه جُمعًا] (والجمع: على عشر جُمع في قول أبي حنيفة، وفي قولهما: على الأبد). قال أحمد: يعني بقوله: الأبد: أيام الجُمعات على الأبد، ولا يدخل ما بين الجُمع من الأيام، وقد بيَّنه محمد في الجامع الكبير. فأما أبو حنيفة: فإنه مرَّ على الأصل الذي قدَّمنا. وأما أبو يوسف ومحمد: فإنه لم يكن للجُمع حال معهودة يرجع الكلام إليها، فتناولت جُمع الأبد. مسألة: [حلف ألا يكلم الناس] قال أبو جعفر: (ومن حلفك أن لا يكلم الناس، فكلَّم واحدًا منهم: حنث). وذلك لأن الناس اسمٌ للجنس، وهو لا يمكنه استيعاب جميع الناس بالكلام، فتناول الواحد منهم؛ لأن اسم الجنس يتناول الجزء منه إذا تعذَّر استيعاب الكلَّ. قال الله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم}: عُقِل من اللفظ تحريم الجزء منه. والدليل على أنَّ الناس للجنس: دخول الألف واللام عليه؛ لأنهما

يدخلان إما للجنس، أو للمعهود، فإذا لم يكن هناك معهود، فهما للجنس، وقد بيَّنَّا هذا المعنى في "شرح الجامع الكبير". مسألة: [حلف لا يكلم ناسًا] قال أبو جعفر: (وإن حلف لا يكلم ناسًا: لم يحنث حتى يكلم ثلاثة منهم). قال أبو بكر: وذلك لأن: ناسًا: اسمٌ للجمع، وليس فيه دلالة الجنس، فهو على أدنى الجمع، وهم ثلاثة. مسألة: [حلف أنه لا يأتدَّم] قال أبو جعفر: (ومن حلف أن لا يأتدَّم: فإن الإدام في قول أبي حنيفة وأبي يوسف: كل ما اصطُبغ به، والملح إدام، والشواء ليس بإدام. وقال محمد: كل شيء الغالب عليه أنه يؤكل بالخبز، فهو إدام). قال أحمد: أصل الإدام في اللغة: هو الجمع، يقال: آدم الله بينكما: أي جمع الله بينكما. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد أحدكم أن يتزوج امرأة، فلينظر إليها قبل أن يتزوجها، فإنه أحرى أن يُؤدم بينهما".

يعني يؤلَّف بينهما. ومع ذلك؛ فقد اتفق الفقهاء على أنه ليس كل شيء جمع إلى شيء كان إدامًا له، ألا ترى أنه لو جمع لقمة إلى أخرى، فأكلهما لم يكن مؤندمًا، فصحَّ أنَّ اليمين تناولت جمعًا على وصف، وهو أن تُجمع إليه قبل الأكل، فيصير مستهلكًا فيه، حتى يصير مجموعًا إليه غير متميز منه، نحو الخل والملح ونحوهما. وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "نعم الإدام الخلُّ". فما كان بهذا الوصف فهو إدام، وما عداه فلم يثبت أنه مراد باليمين، فلا يدخل فيها بالشك. فإن قيل: روُي عن النبي عليه الصلاة والسلام "أنه وضع تمرة على كسرة، فقال: هذه إدام هذه". قيل له: سماه إدامًا بالتقييد، لا على الإطلاق. وأيضًا: لا نعلم أحدًا من الفقهاء جعل التمر إدامًا.

وقد قال الله تعالى: {لتأكلوا منه لحمًا طريًا}، يعني السمك، ومع ذلك لا يدخل في اليمين إذا حلف: أن لا يأكل لحمًا. وسمى الله الشمس سراجًا، ولا يدخل في حلفه: أن لا يقعد في السراج. فإن قيل: روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "سيد إدام الدنيا والآخرة: اللحم". قيل له: وقوع اسم الإدام عليه لا يُدخله في اليمين ما لم يكن متعارفًا. ولمحمد: أن من يبيع البيض والجبن ونحوهما يسمى إداميًا، فدل هذا على أنهما أُدُم.

مسألة: [حلف أن لا يضرب رجلاً] قال أبو جعفر: (ومن حلف أن لا يضرب رجلاً: كان ذلك على ضربه إياه في الحياة). قال أحمد: وذلك لأن المقصود من الضرب الإيلام، وذلك معدوم بعد الموت. مسألة: [حلف لا يغسل رجلاً] قال: (ومن حلف لا يغسل رجلاً: كان ذلك على الحياة والموت). لأن المقصد فيه التنظيف، وهو موجود بعد الموت. قال النبي عليه الصلاة والسلام: "من غسل ميتًا، فليغتسل". مسألة: [حلف لا يخرج إلى مكة] قال: (ومن حلف أن لا يخرج إلى مكة، فخرج من بلده يريدها: حنث). لأن الخروج اسمٌ للانفصال من البلد إلى خارجه، وقد وُجد، ألا ترى أنك تقول: خرج الحاج إلى مكة في أول ذي القعدة، ويكون إطلاقه صحيحًا. مسألة: [حلف لا يأتي مكة] قال: (ولو حلف لا يأتي مكة: كان ذلك على دخولها).

لأنك تقول: أتيتُ فلانًا، فيُعقل منه حضوره عنده. مسألة: [حلف لا يصوم، ثم أصبح صائمًا] قال: (ومن حلف أن لا يصوم، ثم أصبح صائمًا، فأفطر: حنث). لأن الصوم هو الإمساك، والبقاء عليه دوام على ذلك الجزء، وحكمه حكمه، فحنث بأول جزء منه. مسألة: [حلف: لا يصلي] قال: (ولو حلف أن لا يصلي: لم يحنث حتى يصلي ركعة وسجدة). وذلك لأن الصلاة أفعال متغايرة مختلفة، وأقل ما يتناوله الاسم منه: فعل ركعة وسجدة؛ لأنها تشتمل على أفعال الصلاة، وما بعدها تكرار لها، فلا اعتبار به في الحنث، كما لم يعتبر في الصوم بقاؤه على الإمساك إلى الليل، إذ كان ما بعد الجزء الأول كأنه تكرار له، ودوام عليه. مسألة: [حلف لرجل أن يأتيه إن استطاع] قال: (ومن حلف لرجل أن يأتيه إن استطاع: فذلك على الصحة إن لم يمرض، أو يمنعه سلطان، أو يجيء من لا يقدر أن يأتيه معه). وذلك لأن الصحيح مستطيعٌ. قال الله تعالى: {وسيحلفون بالله لو

استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون}. فكذبهم الله في قولهم إنهم غير مستطيعين مع وجود الصحة، وزوال العذر، وإذا كان كذلك، كان حكم اليمين محمولاً عليه؛ لأنه حقيقة اللفظ. * قال أبو جعفر: (فإن عنى استطاعة القضاء: دين في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى). قال أحمد: إنما يُصدق فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يصدق في القضاء، هذا الذي نعرفه من مذهبهم، وأما ما ذكره أبو جعفر من أنه يُدين في القضاء لا نعرفه من مذهبهم. وإنما صدق فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن معناه حينئذ: إن كان في معلوم الله وقوع ذلك، هذا معنى استطاعة القضاء، وقد يطلق نفي الاستطاعة على ما ليس في المعلوم وقوعه مجازًا، وذلك لأن ما لا يستطيعه لا يقع من فعله، كما أن ما ليس في المعلوم وقوعه لم يقع، فدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لاحتمال اللفظ له، ولم يُصدق في القضاء؛ لأن الحقيقة خلافه. مسألة: [حلف لا يتكلم فقرأ القرآن] قال أبو جعفر: (ومن حلف لا يتكلم، فقرأ القرآن، فإن قرأه في الصلاة: لم يحنث، وإن قرأه في غير الصلاة: حنث). وذلك لأن من قرأ القرآن فقد تكلم بالقرآن، كما أنه إذا قرأ حديث

رسول الله عليه الصلاة والسلام فقد تكلم به، وإذا قرأ الشعر، فقد تكلم به، فكان القياس أن يحنث في الوجهين جميعًا، قرأه في الصلاة أو في غيرها، لكنه ترك القياس إذا قرأه في الصلاة؛ لأنه معلوم أنه لم يرد بهذه اليمين منع نفسه من الصلاة، فصارت حال الصلاة مستثناة من يمينه، لما وصفناه. مسألة: [حلف لا يلبس حُليًا] قال أبو جعفر: (من حلف أن لا يلبس حُليًا، فلبس خاتم فضة: لم يحنث، وليس ذلك بحُلي). وذلك لأنه لا يقال للرجل إذا كان في إصبعه خاتم فضة: أنه قد لبس الحلي، وقد نُهي الرجل عن لبس الحلي، وابيح له لبس خاتم الفضة، فدل ذلك على أنه ليس بحلي. مسألة: [حَلَفَتْ لا تلبس حُليًا] قال: (ومن حلف من النساء: لا تلبس حليًا، فلبست لؤلؤًا: لم تحنث إلا أن يكون فيه ذهب، فتحنث، وهو قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: اللؤلؤ وحده حُلي، وقال محمد: الفضة وحدها حُلي). لأبي حنيفة: أنه قد ثبت أنَّ الذهب حلي بقوله تعالى: {ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حليةٍ}، ولا يجوز أن يكون المراد اللؤلؤ؛ لأنه لا يوقد عليه في النار.

وقال: {واتخذ قوم موسى من بعده من حُليهم عجلاً جسدًا لد خوار}. وكانوا اتخذوه من ذهب، فثبت أنَّ اسم الحلي يتناول الذهب. وأما اللؤلؤ فإنه لا يسمى حُليًا على حدة، ألا ترى أنَّ بائعه لا يسمى بائع حُلي، ولا يُتعارف حُليًا وحده. ولأبي يوسف ومحمد: أنَّ الله تعالى قد سماه حليًا بقوله: {وتستخرجون حلية تلبسونها}. ولأبي حنيفة: أنَّ شرط دخوله في اليمين مع وقوع الاسم عليه، مقارنةُ العرف له، ألا ترى أنَّ الله تعالى قد قال: {تأكلون لحمًا طريًا}، ولو قال: لا آكل لحمًا، لم يدخل فيه السمك وإن سماه الله لحمًا، لعدم العرف في وقوع الاسم. مسألة: [حلف لا يتغدى، فشرب سويقًا] قال أبو جعفر: (ومن حلف لا يتغدى، فشرب سويقًا، فإن كان من قوم غداؤهم ذلك: حنث، وإن كان ممن لا يَعُدُّ ذلك غداء: لم يحنث). وذلك لأن الأيمان محمولة على المتعارف، وغداء كل قوم على

حسب ما يتعارفونه، فيكون المتعارف كالمنطوق به في اليمين. مسألة: [بيان وقت الغداء] قال: (وقت الغداء: من طلوع الفجر إلى زوال الشمس). لأن الغدوة اسم لأول النهار، وتقول: غدوت إلى فلان، تعني مضيت إليه في أول النهار، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعرباض بن سارية وقد دخل عليه: "تعال إلى الغداء المبارك وهو يتسحر". فسمى السحور غداء، لقربه من وقت الغداة، وهو إلى وقت الزوال، لقول الله تعالى: {وظلالهم بالغدو والأصال}، فقيد الغدو إلى وقت الزوال، والآصال بعده. مسألة: [بيان وقت العشاء] قال: (ووقت العشاء: من زوال الشمس إلى أن يمضي أكثر الليل). وذلك لما روى أبو هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشيي: الظهر أو العصر، فسلم في ركعتين". فسمى صلاة الظهر صلاة العشي. وإنما كان إلى أن يمضي أكثر الليل؛ لأن بعد مضي الأكثر يكون السحر، ومعلوم في العادة الفرق بين العشاء وبين وقت السحر.

مسألة: [بيان وقت السحر] قال: (ووقت السحر: إذا مضى الأكثر من الليل إلى طلوع الفجر). لأنه كذلك في اللغة والعادة. مسألة: [حلف لا يخرج من المسجد] قال أبو جعفر: (ومن حلف أن لا يخرج من المسجد، فأمر إنسانًا فحمله حتى أخرجه منه: حنث، وإن أخرجه منه مكرهًا: لم يحنث). قال أحمد: إذا أمر إنسانًا فأخرجه: فهو الخارج، كما لو ركب دابة، فخرج كان هو الخارج، وإذا كان مكرهًا: فهو مخرجٌ، وليس بخارج. مسألة: [حلف لا يضرب امرأته] قال: (ومن حلف لا يضرب امرأته، فمدَّ شعرها، أو خنقها، أو عضها: حنث). وذلك لأن الضرب عبارة عن إيلام يوصله إليها بفعل منه يتصل بها، فإذا فعل ذلك: فقد حصل معنى الضرب. مسألة: [حلف لا يهب لرجل شيئًا] قال: (ومن حلف أن لا يهب لرجل شيئًا، أو لا يتصدق عليه، فوهب له، أو تصدق به عليه، فلم يقبل ذلك منه: حنث).

وذلك لأن عقد الهبة إنما هو إيجاب من جهة الواهب، ليس هو عقد على شيء من جهة الموهوب له، فإذا عقد، فقد فعل المحلوف عليه، فحنث، ولا يعتبر فيه قبول الموهوب له. ألا ترى أنَّ الإباحة لما كانت من جهة المبيح، من غير أن يتناول شيئًا من جهة المباح له، كان عقد اليمين فيها على قوله: قد أبحتُ لك، دون غيره، كذلك الهبة والصدقة. مسألة: [حلف لا يبيعه] قال: (ولو حلف أن لا يبيعه، أو أن لا يقرضه شيئًا، فباعه إياه، أو أقرضه؛ فلم يقبل: لم يحنث). قال أحمد: وذلك لأن عقد البيع يتناول البدلين جميعًا، فاحتيج فيه إلى قبول من جهة البدل الآخر، وكذلك القرض. مسألة: [حلف لا يأكل لحمًا] قال: (ومن حلف أن لا يأكل لحمًا، فأكل كبدًا أو كرشًا: حنث).

وذلك لأنه لحم على الحقيقة وإن اختص باسم العضو، وهو كقولك: العضلة، والضلع، واختصاصه بهذا الاسم غير مخرجه من أن يكون لحمًا، ألا ترى أنه يُتخذ منه ما يتخذ من اللحم، ويصلح لما يصلح له اللحم. وليس كذلك الشحم والإلية؛ لأن الشحم لا يسمى لحمًا، ولا يصلح لما يصلح له اللحم، الا ترى أنه يُصهر فُيذاب، واللحم لا يصلح لذلك، فثبت بذلك مفارقتهما لمعنى اللحم من الوجه الذي ذكرنا. مسألة: [حلف لا يشتري رأسًا] قال: (ومن حلف لا يشتري رأسًا، فإنه عند أبي حنيفة على رؤوس البقر والغنم خاصة، وقال أبو يوسف ومحمد: على الغنم خاصة). قال أحمد: حمل أبو حنيفة رحمه الله الأمر فيه على المعتاد والمتعارف الذي كان في زمانه من أكل الرؤوس، وقد كان عامة الناس يأكلون رؤوس البقر، كما يأكلون رؤوس الغنم، وهذه العادة جارية بعدُ في كثير من البلدان. ووجه قولهما: أنَّ العادة كانت غير جارية في وقتهما بأكل رؤوس البقر، فانصرفت اليمين إلى رؤوس الغنم خاصة. مسألة: [حلف لا يشتري شحمًا] قال: (ومن حلف أن لا يشتري شحمًا: فهذا على شحم البطن خاصة

في قول أبي حنيفة). لأن شحم الظهر لا يتعارفه الناس شحمًا على الإطلاق، ألا ترى أنه يباع وشترى مع اللحم، وإنما هو لحم سمين. فإن قيل: قال الله تعالى: {حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما}، وهذا يدل على أنه شحم. قيل له: هو كذلك، إلا أن الإطلاق لا يتناوله في العرف، وقد قال تعالى: {لتأكلوا منه لحمًا طريًا}، يعني السمك. ولو حلف لا يشتري لحمًا، فاشترى سمكًا: لم يحنث، لوجود العرف بخلافه. * (وقال أبو يوسف ومحمد: إن أكل من شحم الظهر: حنث أيضًا). لأنه شحمٌ في الحقيقة، لا فرق بينه وبين شحم البطن في المعنى. مسألة: [حلف لا يأكل هذا الدقيق] قال: (ومن حلف أن لا يأكل هذا الدقيق، فصُنع خبزًا، فأكله: حنث). وذلك لأنه ليس في العادة أكل الدقيق على هيئته، وفي العرف إطلاق اللفظ بأن نأكل دقيق كذا وكذا، ويراد به الخبز، فانصرفت اليمين إليه.

مسألة: [حلف لا يأكل هذه الحنطة] قال: (ولو حلف أن لا يأكل هذه الحنطة: لم يحنث في قول أبي حنيفة حتى يقضمها قضمًا، ويحنث في قول أبي يوسف ومحمد إن قضمها، أو أكلها خبزًا). قال أحمد: الأصل في هذه المسألة ونظائرها عند أبي حنيفة: أنَّ لفظ اليمين متى انتظم حقيقة متعارفة، ومجازًا متعارفًا، كانت اليمين منصرفة إلى الحقيقة دون المجاز؛ لأنها قد حصلت على الحقيقة، فانتفى دخول المجاز فيها، لاستحالة كون لفظة واحدة حقيقة ومجازًا. وإذ ثبت ذلك، وكانت الحنطة مأكولة في العرف على هيئتها، مقلوة ومطبوخة، انتظمت اليمين الحقيقة لا محالة، فانتفى دخول المجاز فيها وإن كان في العرف أنهم يقولون: أكلنا من حنطة موضع كذا، يريدون به الخبز. وعندهما: دخل في اليمين الأمران جميعًا؛ لوجود التعارف فيهما. مسألة: [حلف بالمشي إلى بيت الله] قال: (ومن حلف بالمشي إلى بيت الله: فإنه يمشي، وعليه حجة أو عمرة، وإن شاء ركب وأراق دمًا). قال أحمد: كان القياس عندهم: أن لا يلزمه بهذا القول شيء؛ لأن المشي إلى البيت في نفسه ليس له أصل في الوجوب، وكل ما لا أصل له في الوجوب: لا يلزم بالنذر.

ألا ترى أنه لو قال: لله عليَّ أن أمشي إلى مسجد الجامع: لم يلزمه بهذا القول شيء؛ لأن المشي إلى المسجد الجامع ليس بواجب في نفسه، إلا أنهم تركوا القياس فيه، وألزموه الإحرام؛ لما روي "عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة أخت عُقبة بن عامر، حين نذرت أن تمشي إلى البيت، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركب، وتُهدي، وتحج". ولأنه قد جرت عادة الناس في ذلك بإيجاب إحرام، فصار اللفظ عبارة عن إيجاب إحرام في العرف، فلزمه. فصل: [في ذكر الفرق بين بعض الصيغ] قال أحمد: ولا خلاف بين أصحابنا في قوله: عليَّ المشي إلى بيت الله، وإلى مكة، وإلى الكعبة: أنه يوجب إحرامًا. * ولا خلاف بينهم أيضًا: أنه لو قال: عليَّ المشي إلى الصفا والمروة، أو قال: عليَّ الذهاب إلى بيت الله، أو: الخروج إلى مكة: لم يلزمه شيء. وحملوا حكم هذه الألفاظ على القياس، إذ لم يرد في تعلق حكم الإحرام بها سنة، ولا جرت عن الناس بإطلاقها عادة في إيجاب الإحرام. * واختلفوا في قوله: عليَّ المشي إلى الحرم، أو: إلى المسجد الحرام، فقال أبو حنيفة: ليس عليه شيء، وقال أبو يوسف ومحمد: عليه إحرام.

لأبي حنيفة: أن الذي جرت به العادة، قولهم: عليَّ المشي إلى البيت، ومكة، والكعبة، وما عدا ذلك فلم تجر به عادة، فهو محمول على القياس. فإن قيل: لما لم يصل إلى المسجد الحرام، أو إلى الحرم إلا بإحرام؛ لأنه لا يجوز له دخول الحرم بغير إحرام، صار ذلك عبارة عن إيجاب إحرام. قيل له: فينبغي أن يلزمه لو قال: عليَّ المشي إلى دار الندوة، أو: إلى دار الخيزران؛ لأنه لا يصل إليها إلا بإحرام، فلما لم يلزمه بذلك شيء باتفاق المسلمين، دلَّ على سقوط هذا الاعتلال. * وإنما وجب عليه دم إذا ركب في نذره المشي إلى البيت؛ لما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أخت عقبة بن عامر أن تركب وتهدي هديًا". وقد روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بصوم ثلاثة أيام"، وهذا معناه عندنا أنها كانت أرادت اليمين بنذرها المشي، فلما لم تفِ به، لزمتها الكفارة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد. مسألة: [حلف لا يدخل دارًا بعينها] قال أبو جعفر: (ومن حلف أن لا يدخل دارًا بعينها، فهُدمت حتى صارت صحراء، فدخلها: حنث).

قال أحمد: قد بينا وجه هذه المسألة فيما تقدم، وقلنا إن اليمين منى تعلقت بالعين: كانت باقية ما دام الاسم باقيًا عليها على وجه، وقد بيناها أيضًا في "الجامع الكبير". * قال: (ولو بُينت حمامًا، أو جعلت بستانًا، ثم دخلها: لم يحنث). لأن الاسم قد زال عنها، حتى صار لا يسمى دارًا بحال، واليمين إنما تناولتها على أنها دار، ألا ترى أنه لو حلف لا يأكل هذا التمر، فجعل منه ناطف، فأكله: لم يحنث؛ لزوال اسم التمر عنه. مسألة: [حلف لا يدخل بيتًا بعينه] قال أبو جعفر: (ومن حلف أن لا يدخل بيتًا بعينه، فهُدم، فصار صحراء، ثم دخله: لم يحنث). قال أحمد: البيت اسمٌ للبناء، وفي زوال البناء: زوال اسم البيت، وفي زوال الاسم: سقوط اليمين، وليس البيت كالدار؛ لأن زوال بناء الدار لا يزيل عنه اسم الدار، ويزيل اسم البيت. مسألة: [حلف لا يأكل رطبة معينة] قال أبو جعفر: (ومن حلف لا يأكل هذه الرطبة، فأكلها بعد ما

صارت تمرًا: لم يحنث). لأن الاسم زائل، وتلك الرطوبة معنى مقصود باليمين، وفي زوالها: زوال اليمين. وكذلك لو حلف أن لا يأكل هذا اللبن، فصُنع شيرازًا، ثم أكله: لم يحنث، للعلة التي وصفنا، وقد بينا هذه المسائل في "شرح الجامع الكبير". مسألة: [حلف لا يكلم رجلاً يومًا بعينه أو ليلة بعينها] قال أبو جعفر: (ومن حلف أن لا يكلم رجلاً يومًا بعينه أو ليلة بعينها: فهو على بياض نهار ذلك اليوم، وسواد الليلة). لأن اليوم عبارة عن بياض النهار، والليل عن سواد الليل، فلا يدخل فيه غيره. مسألة: [حلف لا يكلمه يومًا] قال: (ولو كان حلف لا يكلمه يومًا، فإن قال ذلك مع طلوع الفجر: كان ذلك على ذلك اليوم إلى غروب الشمس منه). لما ذكرنا من أن اليوم عبارة عن بياض النهار، وقد أمكن استيفاؤه بكماله في هذا اليوم.

* قال: (وإن كان ذلك في بعض النهار: كان على بقية ذلك اليوم والليلة، التي تليه إلى مثل الوقت الذي حلف فيه من اليوم الثاني). وذلك لأن قوله: يومًا: يقتضي استيفاء يومٍ بكماله، وهو بياض النهار الكامل، وذلك لا يمكن في مسألتنا إلا بمجيء مثل الوقت الذي حلف فيه من اليوم الثاني، ودخل فيه الليل، لأنه توسط وقتين قد دخلا في اليمين، فدخل فيهما على وجه التبع، كما لو قال: لا أكلمك عشرة أيام، دخلت فيه الليالي المتوسطة للأيام. مسألة: [حلف لا أكلمك ليلة] قال: (وكذلك لو قال: لا أكلمك ليلة، فإن قاله عند غروب الشمس: فهو على سواد تلك الليلة، وإن قاله في بعض الليل: فإالى مثل الوقت الذي حلف فيه من الليلة الثانية). للعلة التي وصفنا في اليوم. مسألة: [حلف لا يكلمه يومين] قال: (وإذا حلف لا يكلمه يومين، ولم ينوِ يومين بأعيانهما: فهو على يومين بليلتيهما، وكذلك إذا ذكر ليلتين: فهو عليهما بيوميهما). وذلك لأن إطلاق لفظ جمعٍ من الأيام، يقتضي مثلها من الليالي، وإطلاق لفظ جمعٍ من الليالي، يقتضي مثلها من الأيام، كذلك حكمها في اللغة، وقد بينا ذلك في موضع قد تقدم ذكره في هذا الكتاب، فكرهنا الإطالة بإعادته.

مسألة: [حلف بما لا يقدر على فعله] قال أبو جعفر: (ومن حلف ليشربن الماء في هذا الكوز اليوم، فأُهراق قبل الليل: سقطت اليمين عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: يحنث). قال أبو بكر: الأصل في ذلك: أن اليمين المؤقتة، فإنما يتعلق انعقادها بآخر الوقت، لولا ذلك لسقط حكم التوقيت. ألا ترى أنه لو قال: والل لأصعدنَّ السماء اليوم: أن يمينه تنعقد في آخر جزء من أجزاء اليوم، فيحنث عقيب انعقادها عند تعذر الفعل، وهو مضيُّ اليوم، ولو كانت منعقدة وقت القول، لحنث فيها حينئذ، لحصول العلم بتعذُّر الفعل، وفوات شرط البِرِّ. وإذا صح ذلك رجعنا إلى مسألتنا، فقلنا هي مبنية على أصل لهم اختلفوا فيه، وهو قوله: إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز، فعبدي حرٌّ، وليس فيه ماء. فقال أبو حنيفة ومحمد: لم تنعقد يمينه، لاستحالة شرب ماء معدوم في حال انعقاد اليمين. ولو أحدث الله فيه ماء بعد ذلك، لم يكن هو الماء المحلوف عليه، فلما لم يكن هناك معنى تنعقد اليمين عليه: لم تنعقد، وبطلت. * وقال أبو يوسف: يحنث؛ لأنه حلف أن يشرب ماء، فلم يشرب، ولم يعتبر أن يكون المحلوف عليه مما يستحيل فيه عقد اليمين، أو لا

يستحيل، وقد بينا ذلك في "الجامع الكبير". وليست هذه عندهم مثل قوله: إن لم أقتل فلانًا، فعبدي حرٌّ، وفلان ميت، فقال أبو حنيفة ومحمد: إن لم يعلم بموته: لم يقع العتق، وإن علم بموته: حنث، وعتق عبده. وذلك لأن ما ليس في الكوز يستحيل شربه، فليس هناك معنى ينعقد اليمين عليه، وأما القتل، فإذا لم يعلم بموته فاليمين تناولت إتلاف الحياة التي كان عليها، ولم يعلم فوتها، وتلك الحياة قد فاتت يستحيل انعقاد اليمين عليها. وإذا علم بموته: انصرفت يمينه إلى حياة يُحدثها الله تعالى فيه في الثاني فيتلفها بالقتل، وذلك معنى معقول يصير به الرجل مقتولاً لو وجد ذلك، فانعقدت يمينه، فلما علم تعذره، وفات شرط البرِّ فيها: حنث في يمينه. وفي مسألة الكوز لو أحدث الله فيه ماء، لم يكن ذلك الماء المحلوف عليه، فلذلك اختلفا. مسألة: [حلف بالتصدق بماله أو عتق ماليكه] قال أبو جعفر: (ومن حلف بصدقة ماله أن لا يفعل شيئًا، أو بعتق مماليكه أن لا يفعل شيئًا: لم يدخل في ذلك من ماله إلا ما كان منه في ملكه يوم حلف، ولم يدخل فيه من مماليكه إلا من كان في ملكه يوم حلف).

قال أحمد: وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "لا نذر فيما لا يملكه ابن آدم، ولا عتق فيما لا يملك ابن آدم". [مسألة:] قال أبو جعفر: (ومن حلف بعتق مماليكه أن لا يفعل شيئًا، ففعله: عتق مماليكه، وأمهات أولاده، ومُدبروه، وما يملكه من الحصص مما كان من ذلك كله في ملكه يوم حلف، ولم يعتق مكاتبوه إلا أن يعنيهم). وإنما دخل فيه أم الولد والمدبر، من قبل أن اسم المملوك يتناولهما على الإطلاق، ألا ترى أنه يطؤهما بملك اليمين، وقال الله تعالى: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم}. وأيضًا: فإنهما في يد المولى وتصرفه، ولا يد لغيره عليهما، فصارتا بمنزلة غيرهما من مماليكه، وامتناع جواز بيعهما، لا يخرجهما من حكم المماليك، ألا ترى أن العبد المستأجر والمرهون لا يجوز بيعهما، ولم ينتف عنهما اسم المملوك على الإطلاق. وأما المكاتب، فلا يتناوله اسم المملوك على الإطلاق، وأكثر أحكام المماليك زائلة عنه، ألا ترى أنها لو كانت مكاتبة، لم يملك المولى وطأها

بملك اليمين، ولو وطئها لزمه عقرها، وأنها ليست في يد المولى وتصرفه، وأنها أولى بكسبها، وأرش يدها إذا قطعت من المولى، فدل ذلك على ما وصفنا. وهذا نظير ما قالوا في الرجل يطلق امرأته طلاقًا بائنًا، ثم قال: نسائي طوالق، فلا تدخل في البائنة وإن كانت معتدة، ولها بعض أحكام الزوجات، ولو قصدها بالطلاق: طلقت، وكذلك المكاتب لا يدخل في إطلاق لفظ المماليك، وإذا قصده بالعتق عتق. ولا يعترض على ما قلنا بما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: "المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم". لأنا نقول هو عبد، ولا يدخل في إطلاق لفظ اليمين، كما أن السمك وإن سماه الله لحمًا، لا يدخل في إطلاق لفظ اليمين في الحلف على الامتناع من أكل اللحم. مسألة: [حلف ألا يتسرَّى] قال: (وإذا حلف أن لا يتسرَّى جارية).

قال أحمد: شرط التسري عند أبي حنيفة ومحمد شيئان: التحصين، والوطء. وقال: أبو يوسف: شرطه ثلاثة أشياء: التحصين، والوطء، وطلب الولد. ولما اتفقوا جميعًا أنَّ الوطء والتحصين من شرطه، اختلفوا في طلب الولد، ولم نجد لطلب الولد حكمًا في الأصول فيما يتعلق حكمه بالوطء، فوجب أن يسقط اعتباره، ألا ترى أنَّ الإحصان، ووجوب الرجم، وسائر الأحكام المتعلقة بالوطء، لا اعتبار فيها بطلب الولد، فكذلك هذا في التسري. مسألة: [حلف بنحر ولده أو غيره من بني آدم] قال أبو جعفر: (ومن حلف بنحر ولده أو غيره من بني آدم، ثم حنث، فإن أبا حنيفة قال: عليه في حلفه لنحر ولده شاة، وليس عليه في حلفه بنحر غير ولده شيء. وقال محمد: عليه أيضًا في حلفه بنحر عبده شاة، وقال أبو يوسف: لا شيء عليه في ذلك كله). لأبي حنيفة: أنَّ نذره بنحر الولد قد صار عبارة عن ذبح شاة في شريعة إبراهيم عليه السلام، وذلك لأن الله تعالى أمره بذبح ابنه؛ لقول الله تعالى:

{إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر}، فأمر بذبح ابنه، فكان موجبه شاة، فصارت هذه اللفظة في شريعته عبارة عن إيجاب ذبح شاة، فلزمه الوفاء به، وقد روي نحوه عن ابن عباس. فإن قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية". قيل له: إذا صار اللفظ في الشريعة عبارة عن إيجاب ذبح شاة، لم يكن معصية، بل كان طاعة وقربة، ألا ترى أنَّ من قال: عليَّ هدي: كان عليه ذبح شاة؛ لأن هذا اللفظ قد صار في الشرع عبارة عن ذبح شاة بقوله تعالى: {فما استيسر من الهدى}، ومراده شاة، وإن كان اسم الهدي غير موضوع في اللغة لذبح شاة. * ولا يجب في نذر ذبح العبد شيءٌ؛ لأنا لم نقل ذلك في الولد قياسًا، وإنما قلناه اتباعًا لشريعة إبراهيم عليه السلام، ولو حُمل على القياس: لم يجب، ولم يرد في تلك الشريعة إيجاب ذبح شاة بنذر ذبح العبد. فإن قيل: العبد مثل الولد؛ لأنه يملك من الولاية عليه أكثر مما يملكه من ولده. قيل له: قد قلنا إن القياس ممنوع في ذلك، وعلى أنَّ هذا قياس

فاسد؛ لأنه يملك من الولاية على نفسه أكثر مما يملكه على ولده، ولو نذر نحر نفسه: لم يلزمه شيء. فإن قيل: إنما وجب ذلك في الولد؛ لأنه كسبه، وعبده أيضًا كسبه. قيل له: هذا لا معنى له؛ لأن العبد قد يكون كسبه، وقد لا يكون كسبه، والولد ليس بكبسه في الحقيقة بحال؛ لأنه لا يملكه، ولا فعل له فيه وما روي: "أن أولادكم من كسبكم": مجازٌ ليس بحقيقة. * وذهب أبو يوسف إلى أنَّ هذا نذرٌ في معصية، وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا نذر في معصية". مسألة: [حلف لا يكلم رجلاً، فسلَّم على جماعة هو فيهم] قال: (ومن حلف أن لا يكلم رجلاً، فسلَّم على جماعة هو فيهم: حنث، إلا أن يكون حاشاه، فإن فعل ذلك: لم يحنث). وذلك لأن تسليمه عليهم خطابٌ لهم جميعًا، فقد كلَّم المحلوف عليه. فإن نواهم دونه: لم يحنث؛ لأنه لم يكلمهم.

مسألة: [حلف لا يكلم رجلاً، فصلى بجماعة وهو فيهم] قال: (وإن صلى بقوم، وهو فيهم، وسلم كما يسلم الإمام، ونوى في سلامه كما ينوي الإمام: لم يحنث). وذلك لأنه غير مكلمٍ له وإن كان ظاهره الخطاب، والدليل عليه: أن المأمومين يقولونه أيضًا، والمنفرد يقوله، ولا يقتضي جوابًا من غيره، ولو كان خطابًا لهم: لاقتضى منهم جوابًا، كما أنَّ المار إذا سلَّم على غيره، لزمه الجواب له. فإن قيل: قولهم: السلام عليكم ورحمة الله: جوابٌ للإمام ولجميع الحاضرين الذين سلموا عليهم. قيل له: ليست هذه صورة الجواب، بل هو أيضًا ابتداءً، لأن الجواب أن يقول: وعليكم السلام، فلما لم يلزمهم ذلك، دل على أنه ليس حكمه حكم الخطاب. وأيضًا: فإن الناس لا يتعارفون ذلك كلامًا من بعضهم لبعض، ألا ترى أنه يكره له الخروج من الصلاة بالكلام، والمسنون أن يخرج منها بالسلام، فدل على أنه ليس بكلام. وأيضًا: فإن السلام الذي هو كلام، إنما العادة فيه أن يبتدئ الرجل به صاحبه في أول لقائه، فأما وهم قعودٌ، فليس يسلم بعضهم على بعض، فدل على أنَّ السلام المفعول في آخر الصلاة، ليس هو السلام المفعول في أول اللقاء.

مسألة: [حلف أن يضرب رجلاً مائة سوط] قال: (ومن حلف ليضربن رجلاً مائة سوط، فجمع له مائة سوط، ثم ضربه بها ضربة واحدة، فإنه إن كان يعلم وصول كل سوط منها إليه: بر، وإن لم يعلم ذلك: لم يبر). وذلك لأنه قد ضربه، فلا فرق بين أن يضربه بها دفعة، أو في دفعات، ويدل عليه قول الله تعالى: {وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به ولا تحنث}، روي في التفسير أنَّ أيوب عليه السلام حلف أن يضرب امرأته مائة سوط، فأمره الله أن يجمع ذلك ويضربها دفعة، ليبر في يمينه. وقد روي "أنَّ رجلاً مريضًا زنى، وخافوا عليه التلف، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمروخ، فيضربوه بها ضربة واحدة". رواه الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام. وإذا لم يصبه كل سوط على حدة: لم يبر؛ لأنه فعل بعض شرط البر، فلا يبر أو يوجد كمال شرطه.

مسألة: [نذر الطاعة] قال: (ومن نذر أن يطيع الله: فليطعه). لما روى مالك عن طلحة بن عبد الملك الأيلي عن القاسم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله، فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه". وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام من وجوه أُخر أنه قال: "لا نذر في معصية". مسألة: [نذر أن يقتل اليوم فلانًا] قال أبو جعفر: " ومن نذر فقال: لله علي أن أقتل فلانًا اليوم، كان عليه إذا مضى ذلك اليوم ولم يقتله كفارة يمين". قال أحمد: روى ابن سماعة عن أبي يوسف أنه لا يلزمه بذلك شيء إذا لم تكن له نية، فإن نوى بقوله: عليّ نذر، يمينًا، كان عليه كفارة يمين إذا لم يَفِ بما قال، وذلك لأن هذا معصية لا تلزم بنفس النذر، فلا يلزمه به شيء، إلا أن ينوي يمينًا لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا نذر في معصية"، فأسقط حكم نذر المعصية رأسًا. ورُوي في أخبار أُخر: "فكفارته كفارة يمين"، فقلنا إذا أراد به اليمين كان يمينًا بهذا الخبر.

مسألة: [حلف بنذر ولم يسمه] قال أبو جعفر: (ومن حلف بالنذر فقال: إن فعلت كذا فلله علي نذر، ولم يسم شيئًا، ثم حنث: فعليه كفارة يمين). وذلك لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من نذر نذرًا لم يسمه، فعليه كفارة يمين"، وقد تقدم ذكر سنده. مسألة: [حلف حال كفره ثم أسلم] قال: (ومن حلف من أهل الكفر أن لا يفعل شيئًا، ثم أسلم ففعله: فلا شيء عليه، إلا أن يكون حلف بعتق أو طلاق). وذلك لأن لزوم الكفارة عبادة كالصلاة والصوم والزكاة، فلما لم يتعلق لزوم ذلك عليه باللفظ، سقط حكم يمينه، ولم يلزمه بالحنث فيها ذلك. فإن قيل: فقد تلزمه الحدود، فهلا لزمته الكفارة. قيل له: لأن الحدود عقوبات، والكافر يستحق العقاب، وأما كفارة اليمين، فهي بمنزلة الزكاة وسائر الصدقات، وسبيلها أن تكون قربة، وعبادة، وذلك لا يلزم إلا بشرط تقدم الإيمان. وأيضًا: فإن الحدود وجوبها في الأصل للردع عن هذه القبائح، قال الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله}، والنكال هو: الردع والزجر، وإذا كان ذلك موضوعها، لما في

إظهار هذه الأفعال من الفساد في الأرض، ونحن فإنما أعطيناه الذمة لئلا يسعى في أرضنا بالفساد، وأقمنا عليه الحدود، إذ كان من أهل الدار كالمسلم، وليس في سقوط الكفارة عنه ظهور فساد في الأرض. فإن قيل: فإن كانت هذه علة وجوب الحد على الذمي، فأوجبه على الحربي المستأمن أيضًا لهذه العلة. قيل له: لولا أنا أعطيناه الأمان على أن نبقيه على حكم الحرب، لأقمنا عليه، ولكن الأمان يمنع منه؛ لأن فيه خفر الأمان، ولا يجوز ذلك. فإن قيل: روي "أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله! نذرت في الجاهلية أن أعتكف يومًا في المسجد الحرام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوفِ بنذرك". قيل له: معناه عندنا: أنه نذر قبل فتح مكة، والناس هناك في الجاهلية، وكان نذره بعد إسلامه، فكأنه اشتبه عليه، هل يلزمه الوفاء به بعد الإمكان، وقد كان وقت النذر غير ممكن؟ والدليل عليه: أنه لو كان نذره في حال كفره، لكان ذلك النذر كفرًا، لأنه نذر اعتكافًا للأصنام، ومحالٌ لزوم الوفاء بذلك، فدل على ما وصفنا. * وأما الطلاق والعتق، فالذمي والمسلم فيهما سواء، لما فيهما من حق الآدمي، والمسلم والكافر لا يختلفان في حقوق الآدميين.

مسألة: [حلف لا يشتري بدرهم معين خبزًا، ثم اشترى به] قال أبو جعفر: (ومن حلف أن لا يشتري بهذا الدرهم خبزًا، فاشترى به خبزًا: لم يحنث إلا أن يكون دفعه قبل الشراء إلى صاحب الخبز، ثم قال له: بعني بالدرهم الذي دفعته إليك خبزًا، فباعه: فيحنث بذلك). قال أحمد: قال محمد في "الجامع الكبير": في رجل قال: إن بعت عبدي هذا بهذه الألف درهم، وهذا الكرُّ الحنطة لألفٍ وكر أشار إليهما في يد المشتري، فهما هدي، ثم باعه بهما: فعليه أن يتصدق بالكر، وليس عليه أن يتصدق بالألف درهم. وهذا خلاف ما رواه أبو جعفر؛ لأن محمدًا قد أحنثه في اليمين حين ألزمه صدقة الكر، وإنما لم تلزمه صدقة الدراهم، لأنه حنث في اليمين، وهي في ملك المشتري لم يملكها البائع بالعقد وإن تعلق العقد عليها بعينها؛ لأنه قد كان للبائع الخيار في أن يعطيه غيرها، بمنزلة من قال: إن اشتريت هذا العبد فهو حرٌّ، فاشتراه على أنَّ البائع بالخيار ثلاثًا:

فيحنث في يمينه، ولا يعتق العبد؛ لأن الحنث صادف ملك الغير، كذلك ما وصفنا. وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يستدل بمسألة "الجامع الكبير" التي ذكرنا على أن من قولهم: أنَّ الدنانير والدراهم تتعين في العقد إذا أشير إليهما، إلا أنها لا تملك بالعقد. وأما الرواية التي رواها أبو جعفر، فإنها لم تقع إلينا إلا من جهته، وعسى أن يكون ذهب إلى أنه لما كان من قولهم: أنَّ الدراهم لا يستحق ملكها بالعقد إن عُيِّنت، صار تعيينها أو ترك تعيينها سواء فيما يتعلق بها من حكم اليمين إذا لم تكن مقبوضة: فلم يحنث، وإن كانت مقبوضة: تعيَّن ملكها بالعقد، فحنث. مسألة: [حلف بحرية عبده إن كان يملك قدرًا معينًا من الدراهم] قال: (ومن قال: عبده حرٌّ إن كان يملك إلا مائة درهم، فكان يملك دونها، لم يحنث). وذلك لأن المستثنى خارج من اليمين، فلا يحنث بوجوده، ولا بوجود بعضه. مسألة: [حلف ألا يضرب رجلاً في المسجد] قال: (ومن حلف أن لا يضرب رجلاً في المسجد، فضربه

والمضروب في المسجد، والضارب خارج منه: فإنه يحنث). وكذلك الرامي، وكل فعل يتعلق صحته بوجود المفعول به، ألا ترى أن من كان في المسجد، فأخرج يده من المسجد، وذبح شاة في الطريق، لا يقال إنه ذبحها في المسجد، ولو كان هو خارج المسجد، والشاة في المسجد، قيل: إنه ذبحها في المسجد، وقد بينا هذه المسألة ونظائرها في "شرح الجامع الكبير". [مسألة:] (وإن حلف: لا يشتمه في المسجد، روعي في ذلك موضع الشاتم، لا المشتوم). لأن صحة الشتم لا تتعلق بوجود المشتوم، ألا ترى أنا نلعن فرعون وهامان في المسجد، فيصح إطلاق القول: بأنا لعناهما في المسجد، وليسا موجودين فيه، ونصلي على النبي عليه الصلاة والسلام في المسجد، وليس هو موجودًا فيه؛ لأن صحة المدح والذم ليس يتعلق بوجود الممدوح والمذموم، لأن الله تعالى قد أثنى على قومٍ من الأنبياء وغيرهم وهم معدومون، وذمَّ قومًا من الكفار وهم معدومون. مسألة: [إذا علَّق الحالف فعله بإذن الغير ومات الغير قبل أن يأذن] قال أبو جعفر: (ومن حلف لا يكلم رجلاً حتى يأذن له زيد، فمات

زيد قبل أن يأذن له، فإن أبا حنيفة ومحمدًا قالا: قد سقطت يمينه، فإن كلمه بعد ذلك: لم يحنث، وقال أبو يوسف: قد صارت يمينه مطلقة بعد موت زيد، غير معلَّقة على شيء، فمتى كلَّمه: حنث). قال أحمد: هذه المسألة مبنية على ما قدَّمنا من الأصل في قوله: إن لم اشرب الماء الذي في هذه الكوز اليوم، فعبدي حر، فأهراق قبل الليل: فتسقط اليمين في قولهما، ولا تسقط في قول أبي يوسف، وذلك لأن هذه يمين مؤقتة، لأن قوله: حتى يأذن لي: توقيت؛ لأن: حتى: غاية، فتعلق انعقادها بآخر الوقت على ما بينا، فهذا وُجد آخر الوقت وليس هنا إذن متروك: لم يحنث. وفي قول أبي يوسف: يتأكد. وليس هذا بمنزلة قوله: إن لم أشرب الماء الذي في الكوز، فعبدي حر، فأهراق: فيحنث في يمينه في قولهم جميعًا؛ لأن هذه يمين مطلقة غير مؤقتة، فلم يتعلق انعقادها على مجيء وقت، بل هي منعقدة في الحال، فمتى فقد شرط البر فيها، حنث. * وقوله: حتى يأذن لي فلان: مؤقتة لأن الغاية توقيت، فأشبه قوله: إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز اليوم. مسألة: [حلف لا يفارق رجلاً فهرب الرجل] قال: (ومن حلف أن لا يفارق رجلاً، فهرب منه المحلوف عليه: لم يحنث الحالف في يمينه).

لأن يمينه إنما تناولت فعل نفسه في مفارقته، ولم يوجد منه ذلك، وإنما وجد من غيره. مسألة: [منع الزوج زوجته المعسرة من صوم كفارة اليمين] قال: (وللزوج أن يمنع المرأة من صوم كفارة اليمين إذا كانت معسرة، وكذلك للمولى منع عبده من ذلك). وذلك لأن له أن يمنعها صوم التطوع، لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم تطوعًا إلا بإذن زوجها". فمنعها صوم التطوع؛ لأن ابتداء إيجابه من جهتها بالدخول، فدل ذلك على أن كل صوم تعلق وجوبه بسبب من جهتها، فللزوج منعها منه. * (وكذلك سائر ما توجبه على نفسها. * وكذلك العبد في ذلك مثل المرأة إلا في صوم الظهار إذا ظاهر العبد من امرأته، فليس لمولاه منعه من الصوم، لما فيه من حق المرأة في الجماع، ولا تصل إليه إلا بالكفارة). مسألة: [قال: إن كلمتُ عبد فلان فامرأتي طالق] قال أبو جعفر: (ومن قال: إن كلَّمت عبد فلانٍ فامرأتي طالق ولا

ينوي عبدًا بعينه، ولفلانٍ عبدٌ فباعه، ثم كلمه: لم يحنث). وذلك لأن قوله: إن كلمت عبد فلان: لم يتعلق بعبد بعينه، وإنما تناولت اليمينُ عبدًا يكون ملكًا لفلان يوم الحنث، بمنزلة قوله: عبدًا لفلان: فاليمين متعلقة بالصفة، وهو أن يكون عبدًا مضافًا إلى فلان بالملك يوم الحنث. مسألة: (ولو قال: إن كلمت عبد فلان هذا فامرأتي طالق، فباع فلان عبده ذلك، وكلمه الحالف: لم يحنث أيضًا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ويحنث في قول محمد). وجه قولهما: أنَّ ظاهر لفظ اليمين يدل على أنه امتنع من كلامه لأجل المولى، لولا ذلك لقال: إن كلمت هذا العبد، ولم يحتج إلى إضافته إلى ملك المولى، وإضافته إياه إلى ملكه، تدل على أنَّ المقصد في اليمين وجود ملكه فيه وقت الكلام. وكذلك قالا إذا قال: إن دخلت دار فلان هذه وهو في الدار: أبين منه في العبد؛ لأن الدار ليست ممن تعادى أو توالى، فيمتنع من دخولها من أجلها، بل المقصد فيها الامتناع من دخولها من أجل صاحبها، إلا أن العبد في معنى الدار في باب الملك، فلذلك كان بمنزلتها في باب تعلق اليمين فيه بالملك. وقال محمد: هو بمنزلة قوله: إن دخلت هذه الدار فعبدي حرٌّ؛ لأن اليمين تعلقت بالعين في الحالتين. مسألة: قال: (ولو قال: إن كلمتُ امرأة فلان فعبدي حرٌّ ولم ينو واحدة

بعينها، ولفلان زوجة، فبانت منه، ثم كلمها: لم يحنث). لما ذكرنا في العبد، وأنه بمنزلة قوله: امرأة لفلان. * (ولو كان قال: امرأة فلان هذه، فالمسألة على حالها: حنث في قولهم جميعًا). وذلك لأن اليمين تعلقت بعينها، وهي ممن تُعادى وتُوالى، وليست ملكًا للزوج فيتعلق اليمين فيها بالملك. ومن هذا الوجه فارقت العبد؛ لأن اليمين في العبد تعلقت بالملك، فاعتبر فيها بقاء الملك. مسألة: (والصديق بمنزلة المرأة فيما يعين، وما لم يعين)؛ لأنه ليس ناك ملك يتعلق به اليمين. مسألة: (ولو قال: إن كلمت صاحب هذا الطيلسان فامرأتي طالق، فباع صاحب الطيلسان طيلسانه، ثم كلمه: حنث في قولهم جميعًا). لأن ذكره للطيلسان تعريف لصاحبه، كقوله: إن كلمت هذا القائم، أو هذا القاعد. مسألة: [قال: يوم أكلمك فعبدي حرٌّ] قال أبو جعفر: (ومن قال لرجل: يوم أكلمك فعبدي حرٌّ، فكلمه ليلاً أو نهارًا: عتق عبده).

وذلك لأن اليوم قد يكون عبارة عن وقت مطلق، ويكون عبارة عن بياض النهار، فإذا عُلق ب معنى لا يمتد في الوقت، فقد دل على أن مراده الوقت المطلق، وأنه لم يرد به بياض النهار، فلما لم تكن الحرية مما يمتد في الوقت، صار قوله: يوم أكلمك: بمنزلة قوله: حين أكلمك، و: وقت أكلمك. ويدل على ما قلنا: قول الله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره}، ومراده: الوقت؛ لأنه قد عُقِل منه الليل والنهار جميعًا. مسألة: [قال: ليلة أكلمك فعبدي حر] قال: (ولو قال: ليلة أكلمك فعبدي حر، فكلمه نهارًا: لم يحنث). وذلك لأن الليل عبارة عن سواد الليل، هذا هو الأغلب والأشهر من معناه، وإن كان قد يطلق ويراد به الوقت، كما قال الشاعر: وكنا حسبنا كل سوداء تمرة .... ليالي لاقينا جذام وحميرا وكما قال الآخر: ليالي تُصطاد الرجال بفاحم. وإنما أراد به الوقت، ولكن ذلك ليس يكاد يطلق إلا في الجمع؛ لأنه لا يقال: ليلة لاقينا جذام وحميرا: إلا والمراد به سواد الليل. وإنما جاز إطلاق ذلك في الليالي؛ لأن جمع الليالي يتناول الأيام أيضًا، فلما تناول الوقتين جميعًا، صار كالوقت المطلق.

مسألة: [قال لزوجته: يوم يقدم فلان فأمرك بيدك] قال أبو جعفر: (ولو قال لامرأته: يوم يقدم فلان فأمرك بيدك، فقدم فلان ليلاً: لم يجب لها بذلك أمر). قال أحمد: وذلك لأن تمليك الأمر معنى يمتد في الوقت، ألا ترى أنه يجوز أن يقول: أمرك بيدك يومًا، فيكون الأمر مؤقتًا باليوم، فدل ذلك من لفظه على أنَّ مراده بياض النهار، دون الوقت المطلق. وليس هذا كقوله: يوم أكلمك فعبدي حر؛ لأن الحرية لا تتوقت باليوم، ألا ترى أنه لو قال: أنت حر اليوم: كان حرًا أبدًا، ولو قال: أمرك بيدك اليوم، كان الأمر مؤقتًا باليوم، فإيقاع الحرية إنما له وقت واحد، لا يمتد ولا يتوقت، وتمليك الأمر يصح توقيته على ما وصفناه. مسألة: [حلف لا يشمُّ الريحان] قال: (ومن حلف أن لا يشمُّ الريحان، فشمَّ الورد والياسمين: لم يحنث). وذلك لأن الله تعالى فرق بين ما ينبت على ساق، وبين الريحان بقوله تعالى: {والحب ذو العصف والريحان}، فالريحان ما لا يكون على ساق، وما يكون في أول حال خروجه من الأرض ريحانًا، مثل الآس ونحوه.

مسألة: قال: (ومن حلف لا يشتري بنفسجًا ولا نية له: فهذا على دهن البنفسج. ولو حلف لا يشتري وردًا: فهذا على ورقه، لا على دهنه). وهذا محمولٌ على عرف الناس وعادتهم؛ لأن المتعارف من ذلك، كالمنطوق به في اليمين. مسألة: [حلف لا يأكل فاكهة] قال: (ومن حلف لا يأكل فاكهة، فأكل عنبًا أو رمانًا أو خيارًا أو قِثاء: لم يحنث، وإن أكل تفاحًا أو بطيخًا أو مشمشًا: حنث، وهذا كله قول أبي حنيفة. وقال أبي يوسف ومحمد: يحنث في العنب والرمان والرطب). لأبي حنيفة: أن الله تعالى عطف النخل والرمان على الفاكهة بقوله تعالى: {فيهما فاكهة ونخل ورمان}، وعطف الفاكهة على العنب، بقوله: {فأنبتنا فيها حبًا وعنبًا وقضبًا وزيتونًا ونخلاً وحدائقً غلبًا وفاكهةً وأبًا}، ومعلوم أنَّ الشيء لا يُعْطف على نفسه، وإنما يعطف على غيره، فاقتضى ظاهر العطف أن لا تكون هذه الأشياء المعطوفة على الفاكهة من الفاكهة، إلا أن تقوم الدلالة على أنها منها.

فإن قيل: قد قال: {من كان عدوًا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال}، ولم يدل على أنهما ليسا منهم. قيل له: قوله: {وملائكته}: لم يرد به جبريل وميكال وإن كانا منهم، إذ ليس يمتنع أن يُطلق لفظ الملائكة، ومراده بعضهم، فلم يدخلا قط في مراد اللفظ الأول، ولذلك أفردهما بالذكر، فليس في ذلك عطفٌ للشيء على نفسه. ونحن فإنما علمنا أنهما من الملائكة بدليلٍ غير الآية، ولو خلينا وظاهر الآية، لم يكن نحكم بأنهما منهم، فإن قامت دلالة على أن الرطب والرمان والعنب من الفواكه: ألحقناها بها، وإلا فظاهر اللفظ يدل على أنها ليست منها. مسألة: [حلف لا يأكل اللحم] قال: (ومن حلف لا يأكل لحمًا، فأكل سمكًا طريًا: لم يحنث في قولهم، إلا فيما روى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أنه يحنث). وذلك لما وصفناه من أن الأيمان محمولة على العرف، ولا يقال في العرف لآكل السمك: إنه أكل لحمًا.

مسألة: [حلف لا يشتري رطبًا] قال: (ومن حلف أن لا يشتري رطبًا، فاشترى كباسة بسرٍ فيها رطبٌ: لم يحنث). وذلك لأن عقد الشراء إنما تناول البُسر، ودخل الرطب فيه على وجه التبع، كمن اشترى حنطة وفيها حبات شعير، فلا يقال له: إنه اشترى الشعير، وكما لو كان فيها تِبن يسير، لا تخلو الحنطة منه، لا يقال: إنه اشترى تِبنًا. وليس ذلك بمنزلة قوله: لا آكل رطبًا، فأكل بُسرًا فيه رطب؛ لأنه لا يتبعه في الأكل، لأنه مأكول على حياله، وأما عقد البيع فإنما تناول لفظ الحنطة فحسب. مسألة: [حلف لا يركب دابةً لرجل، فركب دابة عبده] قال: (ومن حلف لا يركب دابةً لرجل، فركب دابة عبدٍ لذلك الرجل مأذون له في التجارة، وعليه دين أو لا دين عليه: لم يحنث في قوله أبي حنيفة وأبي يوسف، وحنث في قول محمد). وجه قولهما: أنَّ الدابة مضافة إلى العبد في الإطلاق دون المولى، كما

يضاف ثوبه الذي عليه إلى العبد في الإطلاق دون المولى، فيقال: هذا قميص العبد، وهذا منديل العبد، كذلك الدابة، ألا ترى أنك لا تقول لدابة عبد الأمير: إن هذا مركب الأمير. ويدل على أن اليمين في ذلك متعلقة بالإضافة دون الملك: أنه لو قال: لا أدخل دار فلان، فدخل دارًا هو ساكن فيها: حنث وإن لم يملكها. وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "من باع عبدًا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع"، فأضاف المال إليه، وجعل ملكه لمولاه.

مسألة: [أوجب على نفسه فعل عبادة في يوم معين، ففعلها قبله] قال: (ومن أوجب لله على نفسه أن يصوم الخميس، أو يصلي الخميس، فصام أو صلى الأربعاء: أجزأه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ولم يجزه في قول محمد. ولو قال: لله عليَّ أن أتصدق غدًا بدرهم، فتصدَّق به قبل غدٍ: أجزأه عندهم جميعًا). قال أحمد: هذا الذي ذكر أبو جعفر هو قول أبي يوسف، وأما أبو حنيفة فلا تُعرف عنه رواية في ذلك، وقد ذكر محمد المسألة في الجامع الكبير وقال: يجزيه في قول أبي يوسف، ولم يذكر قول أبي حنيفة، ولا يبعد أن يكون قوله مثل قول أبي يوسف. وجه قول أبي يوسف: أنَّ النذر سبب للإيجاب، وقد يجوز تقديم الواجب على وقت وجوبه، لأجل وجود سببه. والدليل على أن النذر سبب للإيجاب: اتفاقهم جميعًا على جواز تقديم الصدقة قبل مجيء الوقت المضاف إليه إيجابها، فلولا أن النذر قد صار سببًا للوجوب، لما جاز تقديمها، كما لا يجوز تقديم الزكاة قبل وجود النصاب، وإذا ثبت ذلك وجب جواز الصلاة والصوم قبل مجيء الوقت المضاف إليه الوجوب، وقد بيَّنَّا هذه المسألة في "شرح الجامع".

مسألة: [حلف لا يشرب من الفرات] قال: (ومن حلف أن لا يشرب من الفرات، فأخذ من مائه في إناء فشربه: لم يحنث في قوله أبي حنيفة). لأن من أصله: أنَّ اليمين متى انتظمت حقيقة متعارفة، ومجازًا متعارفًا: كانت محمولة على الحقيقة، وانتفى دخول المجاز فيها، ومعلوم أنَّ حقيقة اللفظ في قوله: إن شربت من الفرات، إنما تقتضي ابتداء شربه منه، ألا ترى أنه لو كرع فيه: حنث في قولهم، وكما لو قال: إن شربت من هذا الكوز: كان ذلك على أن يكون ابتداء شربه من الكوز، والكرع في النهر متعارف، فحصلت اليمين عليه، وانتفى المجاز، لاستحالة دخول المجاز والحقيقة في اليمين. ويدل على أنَّ حقيقة الشرب من النهر إنما هو بأن يكرع فيه: قول الله تعالى: {فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه منى إلا من اغترف غرفة بيده}. فلم يجعل الذي غرف بيده شاربًا؛ لأنه أخبر بدءًا في أول الآية أنَّ الشرب منه محظور. فإن قيل: استثنى منه الغرف، فلذلك لم يدخل في الحكم.

قيل له: استثناء الغرف من الطعم، لا من الشرب من النهر، لأنه يليه * (قال أبو يوسف ومحمد: يحنث)، فقد يقول الناس: شربنا من الفرات، وإنما يشربون منه بإناء. وهذا مثل ما تقدم في قوله: إن أكلتُ من هذه الحنطة شيئًا، فعبدي حرٌّ: أنه على القضم عند أبي حنيفة، وعندهما على القضم وعلى أكل خبزها أيضًا. مسألة: [حلف لا يشرب من ماء هذا النهر، فغرف منه] قال: (ولو قال: إن شربتُ من ماء هذا النهر فعبدي حر: حنث). وذلك لأن اليمين تناولت الماء على الإطلاق دون النهر، وفي المسألة الأولى تناولت شربًا على وصف، وهو أن يكون من النهر الذي هو الفرات. مسألة: (ولو قال: إن شربت من هذا الكوز فعبدي حرٌّ، فصب ماءه في كوز آخر، ثم شربه: لم يحنث في قولهم جميعًا). وذلك لأن المتعارف والحقيقة في هذه اليمين أن يكون ابتداءُ شربه من الكوز المحلوف عليه، فتناولت يمينه شربًا على وصف، فلا يدخل فيها غيره.

مسألة: قال: (ولو قال: إن شربت من الفرات فعبدي حر، فكرع في نهر يأخذ من الفرات، أو شرب منه بإناء: لم يحنث؛ لأن الفرات اسم للنهر، وهو لم يشرب من ذلك النهر). مسألة: قال: (ولو قال: امرأته طالق إن شربتُ من ماءٍ فراتٍ، فشرب من ماء النيل: حنث). لأن: "فراتًا": في هذا الموضع صفة للماء، لا للنهر، إذ هو اسم لكل ماء عذب، قال الله تعالى: {وأسقيناكم ماءً فراتًا}. مسألة: [حلف لا يجلس على الأرض] قال: (ومن حلف: لا يجلس على الأرض، فبسط عليها حصيرًا، ثم جلس عليه: لم يحنث). وذلك لأنه لم يجلس على الأرض، وإنما جلس على الحصير، ألا ترى أنَّ من دخل دار الأمير، فرآه جالسًا على فراشه، لم يصح له أن يقول: رأيتُه جالسًا على الأرض. مسألة: [حلف لا يجلس على السطح] (ولو حلف لا يجلس على سطح، ففرش عليه حصيرًا: ثم جلس

عليه: حنث). ألا ترى أنَّ الناس يقولون: قد صرنا ننام على السطح من الحر، وليس يمكننا أن ننام على السطح من البرد، ولا يريدون به مباشرة السطح بأبدانهم، ألا ترى أنك تقول: رأيتُ فلانًا جالسًا على السطح، وقائمًا على السطح، ولا يُعقل من ذلك مباشرة أرض السطح ببدنه. مسألة: [حلف لا ينام على هذا الفراش] قال: (ولو حلف أن لا ينام على هذا الفراش، فجعل عليه مَحبِسًا، ثم نام عليه: حنث). وذلك لأنه كذا يُنام على الفراش في الغالب، فيقال فلان نائم على فراش ديباج وخَزٍّ وإن كان فوقه محبس من غيره. قال أحمد: والمحبس هو الذي يسميه الناس اليوم مِقْرَمة. قال أبو جعفر: (وإن جعل عليه فراشًا آخر، ثم نام عليه، فإن محمدًا قال: لا يحنث، ولم يحك فيه خلافًا).

وذلك محمول على العرف والعادة، وفي العادة أن من طرح فراش ديباج فوق حصير، فنام عليه، لا يقال هو نائم على الحصير، بل يقال هو نائم على الديباج. * قال: (وروي عن أبي يوسف في الإملاء: أنه حانث). لأنه يقال: هو نائم على فراشين، كما يقال: هو لابس لقميصين. مسألة: [حلف لا ينام على هذا السرير] قال: (ولو حلف أن لا ينام على هذا السرير، فجعل عليه سريرًا آخر، ثم نام على الأعلى منهما: لم يحنث في القولين جميعًا). ألا ترى أنه لو وضع سرير أبنوس، فوق سرير ساج، فجلس عليه، أنه لا يقال: هو جالس على سرير ساج، بل يقال: هو جالس على سرير أبنوس. (وفرق أبو يوسف بينهما؛ لأنه قد يقال: هو نائم على فراشين، ولا يقال: هو جالس على سريرين). مسألة: قال أبو جعفر: (ومن قال لامرأته: إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني فأنت طالق، فأذن لها فخرجت، ثم رجعت إليها، ثم خرجت منها بغير

إذنه: حنث). قال أحمد: وذلك لأن (الباء) للصفة، ويمينه مطلقة إلا في خروج مستثنى بصفة، وهو أن يكون بإذنه، فمتى وجد خروج بهذه الصفة، فهو خارج من يمينه، وما لم يكن بهذه الصفة من الخروج، فهو داخل في اليمين. مسألة: قال أبو جعفر: (ولو قال: إن خرجت من هذه الدار إلا أن آذن لك: فأذن لها، فخرجت، ثم رجعت إليها، فخرجت منها بغير إذنه: لم يحنث). قال أحمد: "إلا أن": لها موضعين: أحدهما: أنها بمنزلة: "حتى": فيما يتوقت، كقول الله تعالى: {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم}. وكقوله: {لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}، معناه: حتى يأتين. ومسألتنا من هذا القبيل؛ لأن ما أدخل عليه: "إلا أن": يتوقت، وهو

ترك الخروج؛ ألا ترى أنه لو قال: إن خرجت من هذه الدار إلى شهر فعبدي حر: كانت يمينه مؤقتة بالشهر، وإذا كان كذلك، صار قوله: إن خرجت من هذه الدار إلا أن آذن لك: بمنزلة قوله: حتى آذن لك، فصارت اليمين مؤقتة بالإذن، وصار الإذن غايةً ليمينه، بمنزلة توقيته شهرًا، أو نحوه، فمتى وُجدت الغاية سقطت اليمين؛ لأنه ليس على ما بعدها عقد يمين. والموضع الآخر: أن يكون: "إلا أن": بمعنى الشرط في دفع الإيقاع، وهو أن يدخل على ما لا يتوقت، مثل قوله: أنت طالق إلا أن يقدم فلان، فالطلاق الذي دخلت عليه لا يتوقت، فصار بمنزلة قوله: أنت طالق إن لم يقدم فلان، فإن قدم فلان: بطلت اليمين، وإن مات فلان قبل أن يقدم: طلقت باليمين. مسألة: [إذا علق الزوج الطلاق بإذن، ثم نهاها بعد الإذن] قال أبو جعفر: (ولو قال لها: إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني، فأذن لها، فلم تخرج حتى نهاها، ثم خرجت منها بغير إذنه بعد ذلك: حنث). وذلك لما قدمناه من أن اليمين مُطْلَقةٌ في كل خروج، إلا خروج مستثنى بصفة، وهو أن يقارنه الإذن. مسألة: قال: (ولو قال: إن خرجت منها إلا أن آذن لك، فلم تخرج حتى نهاها، ثم خرجت بغير إذنه: لم يحنث).

وذلك لأن الإذن لما كان غاية ليمينه، ثم وُجد: سقطت اليمين، فلا يضرُّها بعد ذلك خروجها بغير إذنه؛ لأنها خرجت وليس عليها عقد يمين. مسألة: [حلف أن لا يكلم فلانًا فكتب إليه] قالك (ومن حلف أن لا يكلم فلانًا، فكتب إليه كتابًا، أو أرسل إليه رسولاً بشيءٍ كلَّمه به: لم يحنث). لأن الله تعالى قد أنزل الكتاب على رسوله، ولم يكلمه به؛ لأن موسى عليه السلام هو الذي كلمه الله تعالى، دون غيره من الأنبياء، وقد أرسل الله تعالى إلينا الرسل، ولم يكلمنا. مسألة: قال: (وإذا قال لعبده: إن بشَّرتني بقدوم فلان فأنت حرٌّ، فبشَّره بقدومه: عَتَق)؛ لوجود شرط اليمين. * (ولو كان الحالف قد علم بذلك قبل أن يقوله له عبده: لم يعتق). لأن البشارة هي خبرٌ على وصف، وهو أن يقع له به الاستبشار، وما

قد علمه، لا يحدث له الاستبشار بخبره. * (وكذلك قوله: إن أعلمتني بقدومه). هذا على أن يخبره وهو لا يعلم؛ لأنه لا يصح أن يُعلمه ما هو عالم به. * قال: (ولو قال: إن أخبرتني أنَّ زيدًا قد قدم فأنت حرٌّ، فأخبره بذلك: حنث، سواء كان قدم، أو لم يَقدم). لأنه حلف على خبر على الإطلاق، واسم الخبر يتناول الصدق والكذب، لأنه يقال: أخبره بخبر كذب، وأخبره بخبر صدق، ولا يختص بأحد الوجهين دون الآخر، وليس كالإعلام؛ لأنه لا يقال إعلام باطل. * قال: (وإن قال: إن أخبرتني بقدوم زيد، والمسألة على حالها: فهذا على الصدق). لأنه عقد يمينه على خبرٍ يقارنه قدوم زيد، لأن الباء للصفة، فإذا لم يكن بهذه الصفة: لم يحنث، والبشارة على الصدق في سائر الوجوه؛ لأنه خبرٌ على صفة، وهو أن يحصل به استبشار له حقيقة، والكذب لا يحصل به ذلك في الوجود، وهو فإنما عقد يمينه على خبرٍ يحصل له بذلك في الحقيقة، ولا يلحقه تنغيص ببطلانه. مسألة: قال: (ومن حلف أن لا يشتري بهذا الدرهم إلا دقيقًا، فدفعه إلى

رجل، ثم اشترى منه ببعضه دقيقًا، وببعضه خبزًا: لم يحنث حتى يشتري به كله غير الدقيق). قال أحمد: المستثنى خارج من اليمين، واليمين مطلقة فيما عدا المستثنى، وشراء الدقيق خارج من اليمين، لأنه داخل في الاستثناء، فإذا اشترى ببعضه دقيقًا: لم يحنث، وبقي البعض الآخر من الدرهم داخلاً في اليمين، إلا أنه وُجد به بعض شرط اليمين، بمنزلة من قال: لا أشتري بهذا الدرهم شيئًا، فاشترى ببعضه: فلا يحنث. مسألة: قال: (ومن حلف أن لا يشتري هذا العبد، فاشتراه شراءً فاسدًا: حنث). وذلك لأن الاسم يتناوله في العرف والعادة؛ لأن الناس يتبايعون البياعات الفاسدة، كما يتبايعون الصحيحة. وأيضًا: فإن البيع الفاسد عندنا يُملك به عند اتصال القبض به، فصار كالصحيح؛ لأن المقصد في هذا اليمين أن لا يشتريه شراء يتعلق به إيجاب الملك. مسألة: قال أبو جعفر: (ومن حلف أن لا يتزوج هذه المرأة، فتزوجها نكاحًا فاسدًا: لم يحنث).

وذلك لأن المقصد بعقد النكاح ما يحصل له من ملك البضع، واستباحة الوطء، وذلك لا يحصل أبدًا بالنكاح الفاسد. وليس كالشراء الفاسد؛ لأنه يحصل به ملك المشتري إذا اتصل به القبض. مسألة: قال: (ومن قال إن اشتريت هذا العبد فهو حرٌّ، فاشتراه شراء فاسدًا، وهو في يد بائعه: لم يعتق وإن قبضه بعد ذلك). وذلك لأنه قد حنث بنفس العقد، وصادف الحنث ملك غيره، فلم يعتق، والقبض وقع بعد انحلال اليمين، وعلى أن القبض ليس بشراء، فلم يعتق. قال: (ولو كان اشتراه وهو في يده: عتق). مسألة: قال أبو جعفر: (ولو قال: إن اشتريت هذا العبد فهو حرٌّ، فاشتراه على أنَّ بائعه بالخيار ثلاثة أيام، ثم انقطع الخيار الذي كان فيه لبائعه: عتق). قال أحمد: هذا ينبغي أن يكون قول أبي يوسف وحده؛ لأن من أصله: أنه لم يحنث بنفس العقد. وفي قول محمد: ينبغي أن لا يعتق؛ لأن الحنث قد وقع بنفس العقد قبل بطلان الخيار؛ لأن من أصله أنه لو قال: إن اشتريت هذا العبد فامرأتي طالق، فاشتراه على أنَّ بائعه بالخيار ثلاثًا: أنها تطلق بنفس العقد.

وفرَّق أبو يوسف بين العقد الواقع على شرط الخيار، وبين العقد الفاسد؛ لأن العقد الفاسد يوجب الملك إذا اتصل به قبضٌ، وشرط خيار البائع يمنع وقوع الملك للمشتري وإن قبض. مسألة: قال أبو جعفر: (ومّن قال لعبده: إن دخلتُ هذه الدار فأنت حرٌّ، فباعه، فدخلها، ثم اشتراه، ثم دخلها بعد ذلك: لم يعتق، وسقطت يمينه). وذلك لأن شرط اليمين وجد في غير ملكه، فانحلت اليمين، ولم يعتق؛ لأنه لم يصادف ملكًا. ولا فرق بين وجود شرط الحنث في الملك أو غير الملك في باب أن اليمين تنحل به، وذلك لأنه جعل شرط اليمين وجودًا مطلقًا غير مقيد بملكه، فإن قصرناه على وجوده في ملكه، كنا قد زدْنا في شرط اليمين ما ليس في اللفظ، ولا تجوز الزيادة في شرط اليمين بغير لفظ؛ لأن اليمين لا تثبت بنيةٍ لا لفظ معها. فإن قيل: في العرف إنه إنما أراد إيقاع العتق في ملكه، فينبغي أن يكون وجود الشرط في الملك معتبرًا في باب انحلال اليمين. قيل له: لا حظَّ للعرف في إيجاب الزيادة في شرط اليمين؛ لأن العرف إنما يعمل في تخصيص اللفظ، لا في الزيادة في الشرط، ألا ترى أنه لو قال لعبد غيره: إن دخلتُ الدار فأنت حر، أو قال له: أنت حر: أنَّا لا نجعل ذلك بمنزلة قوله: إن ملكتك فأنت حر، من أجل أن العتق لا

يصح إلا في ملك، ولا نزيد في شرط اليمين ما ليس فيها. * قال أبو جعفر: (وإن لم يدخل الدار بعد البيع حتى رجع إلى ملكه، ثم دخلها: حنث). وذلك لأن زوال ملكه لا يبطل اليمين؛ لأنه لم يخص شرط اليمين بحال الملك، فيكون مقصورًا عليه. وأيضًا: فإن اليمين عندنا قد يصح ابتداؤها في غير ملك، فلا يُسقطها زوال الملك. مسألة: [إذا حلف بالصلاة في مسجد معين ففعلها في غيره] قال: (ومن جعل لله عليه أن يصلي ركعتين في مسجدٍ بعينه، فصلاهما في غيره: فقد بَرَّت يمينه، ولا شيء عليه، وسواء أوجبها في المسجد الحرام أو غيره). قال: (وروي عن أبي يوسف: أنه إذا أوجبها في مكانٍ، فصلاها في أفضل منه، أو مثله من الأماكن: أجزأه، وإن صلاها في مكانٍ ليس مثله في الفضل: لم تجزه). وذلك لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن حبيب المعلم عن عطاء عن جابر "أن رجلاً قام يوم فتح مكة فقال: يا رسول الله! إني نذرتُ لله إن فتح الله عليك مكة، أن أصلي في بيت المقدس ركعتين. قال النبي صلى الله عليه وسلم: صلِّ هاهنا، فأعادها على النبي صلى

الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: شأنك إذن". فثبت بذلك أن تعيينه الصلاة بمكانٍ، لا يوجب تعلُّقها به. فإن قيل: إنما أجاز له ذلك؛ لأن الصلاة في المسجد الحرام أفضل منها في بيت المقدس، لما روى جماعة عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال: "صلاةٌ في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام". قيل له: فلم يقل له عليه الصلاة والسلام: صلِّ في المسجد الحرام، وإنما قال له: "صلِّ هاهنا"، وذلك يقتضي جوازها في جميع مكة، وليست الصلاة في مكة في غير المسجد الحرام بأفضل منها في مسجد بيت المقدس. وأيضًا: فإن معنى قوله: "صلاةٌ في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام": إنما هو في المكتوبة؛ لأن فضيلة الصلاة في المسجد إنما هي المكتوبة التي تُصلَّى جماعة في المسجد. يدل عليه ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".

وفي حديث ابن مسعود: "لأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد". وأيضًا: فإنا لم نجد في الأصول صلاة يتعلق وجوبها بمكان حتى لا يصح أداؤها في غيره، والنذور محمولة على أصولها في الفروض، فلما لم يكن في الأصول صلاة متعلقة بمكان، وجب أن لا يتعلق وجوبها بالمكان المذكور. وأيضًا: فإن قربة المكان لا يتعلق بها الإيجاب، كما أنَّ قربة الوقت لا يتعلق بها الإيجاب، ألا ترى أن من نذر صوم يوم عاشوراء، ثم أفطر فيه، جاز له أن يقضيه في غيره وإن كان صوم عاشوراء أفضل من غيره، والمعنى الجامع بينهما: أنَّ كل واحد منهما ليس من شرائط صحة النذر؛ لأنه يصح بغير ذكرِ وقتٍ ولا مكانٍ. مسألة: [حكم ما لو أوجب على نفسه إتيان المسجد النبوي] قال: (ومن أوجب على نفسه إتيان مسجد النبيِّ عليه الصلاة والسلام؛ أو إتيان بيت المقدس، أو المشي إلى واحد منهما: لم يلزمه بذلك شيء، ولا يشبهان المسجد الحرام في هذا). وذلك لأن القياس يمنع وجوب الإحرام بقوله: علي المشي إلى بيت الله تعالى، إلا أنا ألزمناه إياه بالأثر، وبأن اللفظ قد صار عبارة عن إيجاب إحرام، وذلك غير موجود في غيره من المساجد.

مسألة: [ما يلزم من أوجب على نفسه صوم يوم العيد ونحوه] قال: (ومن أوجب على نفسه صوم يوم الفطر، أو يوم النحر، أو أيام التشريق: أفطر، وقضى في وقتٍ يحلُّ فيه الصوم). وذلك لقوله الله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}، فاستفدنا من ذلك: لزوم الوفاء بما يقوله الإنسان ما لم تقم الدلالة على حظره، فلما كان الصوم في نفسه قربة، وإضافته إلى الوقت المنهي عنه ليس بقربة، أسقطنا عنه الوفاء بما ليس بقربة، وألزمناه الصوم لإمكان الوفاء به من وجهٍ على غير الوجه المحظور. ووجه آخر: وهو أنَّا لمَّا وجدنا قُربة الوقت لا يتعلق بها الإيجاب، وصار ذكره للوقت وتركه سواء فيما يلزم من حكم الإيجاب، وجب أن لا يمنع كون الوقت منهيًا عنه من صحة الإيجاب. والدليل على أن قُربة الوقت لا يتعلق بها الإيجاب: أنه لو قال: لله علي صوم يوم عاشوراء، أو: يوم عرفة، وصومهما أفضل من صوم غيرهما من الأيام: جاز له إذا أفطر فيهما أن يقضيهما في غير عاشوراء أو عرفة. فلو كانت قربة الوقت مما يتعلق به الإيجاب، لوجب أن يكون عليه قضاؤه في عاشوراء مستقبلاً، أو في يوم عرفة من القابل، فلما صح أنَّ قربة الوقت لا يتعلق بها الإيجاب، وصار فيما يتعلق به من حكم الوجوب

بمنزلة النذر المطلق، وجب أن لا يمنع كون الوقت منهيًا عنه من صحة الإيجاب، وأن يصير في هذا الوجه بمنزلة النذر المطلق. فإن قيل: لما كان صوم يوم النحر منهيًا عنه، وجب أن لا يلزم بالنذر، كالمرأة إذا أوجبت صوم يوم حيضها، وكمن قالت: لله عليَّ أن أصوم يومًا آكل فيه، وبمنزلة مَن قال: لله عليَّ أن أصوم بالليل. قيل له: الفصل بينهما: أنَّ النهار مما يصح فيه الصوم، وليس هناك مانع منه إلا كون الوقت منهيًا عن صومه، والنهي إذا تعلق بالوقت لم يمنع صحة النذر؛ لأنه لا خلاف أنَّ صوم أيام التشريق منهيٌّ عنه، ولا خلاف أيضًا أنه مما يصح صومه؛ لأن مخالفينا يجيزون صوم هذه الأيام للمتعة، ونحن أيضًا نجعل صومها صومًا صحيحًا وإن كان ناقصًا. فقد ثبت من اتفاق الجميع أنَّ النهي إذا تعلق بالوقت، لم يمنع صحة الصوم، وأنه مخالفٌ لصوم يوم الحيض، وصوم الليل، وصوم يومٍ قد أكل فيه؛ لأن هذه الأوقات لا يصح صومها بحال. [مسألة:] قال: (فإن أفطر في هذه الأيام: فعليه كفارة يمين إن كان أراد يمينًا، وروي عن أبي يوسف أنه قال: عليه القضاء، ولا كفارة عليه). وجه قول أبي حنيفة: ما حدثنا محمد بن بكر قالك حدثنا أبو داود حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد أخبرنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال أخبرني عبيد الله بن زحر أنَّ أبا سعيد الرعيني أخبره أنَّ عبد الله بن مالك أخبره أنَّ عقبة بن عامر أخبره "أنه سأل النبيَّ عليه الصلاة والسلام عن

أختٍ له نذرت أن تحج حافية، غير مختمرة، فقال: "مروها فلتختمر، ولتركب، ولتصم ثلاثة أيام". وحُدِّثنا عن أبي داود حدثنا حجاج بن أبي يعقوب حدثنا أبو النضر حدثنا شريك عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن كريب عن ابن عباس قال: "جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! إن أختي نذرت يعني أن تحج ماشية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، فلتحج راكبة، ولتكفر عن يمينها". فأمرها في هذا الحديث بالركوب، وكفارة اليمين للركوب، وأمرها – في حديث آخر عن ابن عباس، وقد قدَّمنا ذكر سنده – بالهدي. فدلَّ ذلك على أنَّ نذر القربة قد يجوز أن يشتمل على معنى الإيجاب، وبمعنى اليمين أيضًا. فإن قيل: فهذا الخبر يقتضي أن يكون يمينًا، سواء أراد اليمين أو لم يُرِدها. قيل له: هو كذلك، إلا أنَّ الدلالة قد قامت على أنه إذا لم يُرِدْ به اليمين، لم يكن يمينًا. وأيضًا: فإن هذا اللفظ يصلح أن يراد به اليمين، ألا ترى أنه لو قال: لله عليَّ أن أدخل هذه الدار اليوم، وأراد اليمين: كان يمينًا، فيكون

الموجب قربة لا تمنعه من أن يريد به اليمين. فإن قيل: لا يجوز أن تكون لفظة واحدة للإيجاب واليمين، لأنهما معنيان مختلفان، لا يجوز دخولهما تحت اللفظ، ولأنه إذا أراد به اليمين كان بمنزلة قوله: والله لأفعلنَّه، فلا يجوز أن يكون للإيجاب. قيل له: ما تعلَّق باللفظ من حكم اليمين إنما هو إيجاب الكفارة بالحنث، وكذلك لزوم الوفاء بالقربة الموجبة بالنذر، هو من طريق الإيجاب، فليس ما تحت اللفظ مختلفًا من جهة الوجوب، فلم يمنع أن يكونا موجبين بلفظ واحد. * وذهب أبو يوسف إلى ما ذكرنا، من أن لفظًا واحدًا لا يجوز أن يراد به المعنيان جميعًا. * * * * *

كتاب أدب القاضي

كتاب أدب القاضي مسألة: [تسوية القاضي بين الخصمين في كل شيء] قال أبو جعفر: (وينبغي للقاضي أن ينصف الخصمين في مجلسهما، والنظر إليهما، والمنطق، ولا يرفع صوته على أحدهما ما لم يرفعه على الآخر، ولا يطلق وجهه لأحدهما في شيء من المنطق لا يفعل بالآخر مثله). قال أحمد: الأصل في ذلك: أن عليه التسوية بين الخصمين، والدليل عليه: قول الله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلوا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا}. فأفاد بقوله تعالى: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله}: وجوب التسوية

بين الخصوم؛ لأن القسط هو العدل. قال الله تعالى: {وأقيموا الوزن بالقسط}، يعني العدل، وأكده بقوله: {فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلوه أو تعرضوا}. قال ابن عباس: هو الرجلان يجلسان عند القاضي، فيكون لي القاضي، وإعراضه لأحدهما دون الآخر. وقد وردت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما دلت عليه الآية، وهو ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبد الله بن مهران الدنيوري قال: حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا عباد بن كثير عن أبي عبد الله عن عطاء بن يسار عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتلى بالقضاء بين المسلمين، فليعدل بينهم في لحظه، وإشارته، ومقعده أو مجلسه، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لم يرفع على الآخر". وحدثنا عبد الباقي حدثنا محمد بن عبدوس حدثنا عبد الرحمن بن

صالح حدثنا ابن أبي زائدة عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن قال: "أتى رجل عيًا رضي الله عنه، فأضافه، فقرب إليه في خصومة فقال علي صلى الله عليه وسلم نهانا أن نضيف الخصم إلا ومعه خصمه". فأوجب بذلك التسوية بينهما. وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا إسماعيل بن الفضل حدثنا محمد بن مصفى حدثنا بقية حدثنا الأوزاعي حدثنا يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن أبي مريم عن أبي هريرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فينا يوم تبوك، فقال: إياكم والإقراد، قالوا: يا رسول الله! وما الإقراد؟ قال: يكون أحدكم أميرًا أو عاملًا، فتأتي الأرملة واليتيم والمسكين، فيقول: اقعد حتى أنظر في حاجتك، يتركون مقردين، لا تقضى لهم حاجة، ويأتي الرجل الغني أو الشريف، فيقعده إلى جنبه، فيقول: ما حاجتك؟ فيقول: حاجتي كذا وكذا، فيقول: اقضوا حاجته، وعجلوا بها". فقد دل هذا على وجوب التسوية بينهم في التقدم إليه.

مسألة: قال أبو جعفر: (ولا ينبغي له أن يشد على عضد أحدهم، ولا يلقنه حجته). وذلك لأن فيه ترك التسوية، وإيجابه لأحدهما على الآخر. مسألة: [تجنب القاضي البيع والشراء في مجلس القضاء]. قال أبو جعفر: (ولا ينبغي له أن يشتري ويبيع في مجلس القضاء لنفسه، ولا بأس بذلك منه في غير مجلس القضاء). والأصل في ذلك: أن كل ما شغل قلبه عن شيء من أمر القضاء، فالواجب عليه أن يتركه. والدليل عليه: ما حدثنا عن أبي داود حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي الحكم بين اثنين وهو غضبان". فأفادنا بذلك أن كل ما شغل قلبه عن شيء من أمر القضاء، فينبغي أن يتجنبه في حال القضاء. ويدل عليه أيضًا: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن يوسف التركي قال: حدثنا كثير بن يحيى صاحب البصري. قال عبد الباقي: وحدثنا أخو خطاب قال: حدثنا خالد بن خداش

قالا: حدثنا القاسم بن عبد الله بن عمر حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي طوالة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان". فهذا أيضًا يدل على ما ذكرنا؛ لأنه إنما أمره بذلك ليقبل بهمه وفكره على القضاء، ولا يكون له مانع من استيفاء حجج الخصوم، وفهم معانيهم. [مسألة:] قال: (ولا ينبغي أن يسار أحد الخصمين). وذلك لأن فهي ترك التسوية، وهو أيضًا يوجب التهمة. مسألة: [كيفية بداية الفصل بين الخصمين]. قال: (وإذا تقدم إليه الخصمان، فإن ابتدأهما، فقال: ما لكما؟ أو تركهما حتى يبتدئاه المنطق: فلا بأس بذلك). قال أحمد: يجوز له أن يبتدئهما؛ لأنه لا يمنع المساواة بينهما، ولأن

فيه ضربًا من التأنيس لهما، وتسكينًا لروعهما، وإزالة للحصر عن المدعي إن كان ممن يخشى منه الحصر. وإن تركهما: فلا بأس أيضًا حتى يبتدئا هما؛ لأن على القاضي أن يقضي بما يسمع، وليس عليه أن يحملهما على الخصومة. [مسألة:] قال أبو جعفر: (فإذا تكلم صاحب الدعوى: أسكت الآخر حتى يفهم حجته، ثم يأمره بالسكوت، ويستنطق الآخر). وذلك لأن ازدحامهما على الكلام، يمنع القاضي من فهم الدعوى. ويدل عليه أيضًا: ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال لعلي رضي الله عنه: "إذا قضيت بين اثنين، فلا نقض للأول حتى تسمع كلام الآخر". فهذا يدل على أنه إنما يسمع قول الآخر بعد قول الأول، وأنهما لا يتكلمان في حالة واحدة.

مسألة: [لزوم تفريغ القاضي ذهنه لسماع الحجج]. قال: (وليس ينبغي للقاضي أن يقضي إلا مقبلًا على الحجج، مفرغًا نفسه لها، فإن دخله هم أو غضب أو نعاس: كف عن ذلك حتى يذهب عنه ذلك). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان". وفي حديث أبي سعيد: "لا يقضي إلا وهو شبعان ريان". والمعنى في جميع ذلك: أنه لا يأمن مع هذه الأحوال الإخلال باستيفاء حجج الخصوم، وأن يكون ذلك مانعًا له من إدراك حقيقة الحكم فيما يجب عليه إنقاذه. مسألة: [إمهال الخصوم لأداء حججهم]. قال: (ولا ينبغي له تعجيل الخصوم عن حججهم، ولا التخويف لهم). وذلك لأن فهي بخس حقهم في المبالغة في استيفاء الحجج، والإدلاء بها، ولا ينبغي له أن يمنعهم حقهم في ذلك؛ لأنه منصوب لإيصال ذوي الحقوق إلى حقوقهم، فكيف يجوز له أن يبخسهم حقًا هو لهم؟

مسألة: [استحباب إحضار القاضي أهل العلم في مجلسه ليصوبوه]. قال: (وإن كان خيرًا له أن يقعد عنده العلماء من أهل الفقه والصلاح: قعدوا معه، وإن كان يدخله حضر من جلوسهم معه، أو شغل عن أمور الناس: جلس وحده). قال أحمد: يجوز له أن يقعدهم عنده، ليشاور فيما ينويه مما يشكل عليه، وليستعين برأيهم واجتهادهم في إمضاء أحكامه. وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أسلم بن سهل حدثنا محمد بن خالد بن عبد لله حدثنا أبي عن حفص بن سليمان عن كثير بن شنظير عن أبي العالية "عن عقبة بن عامر قال: جاء الخصمان إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: اقض بينهما يا عقبة، قلت: يا رسول الله! أقضي بينهما وأنت حاضر؟ قال: اقض بينهما، فإن أصبت: فلك عشر حسنات، وإن أخطأت: فلك حسنة واحدة". وقد روي نحو هذه القصة لعمرو بن العاص، وقد "أمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يقضي بحضرته"، لينبهه على خطئه إن أخطأ.

وحدثنا عبد الباقي حدثنا بشر بن موسى حدثنا سعيد بن منصور حدثنا هشيم أخبرنا داود بن عمرو عن حسان بن عطية قال: "لما ولي فضالة بن عبيد القضاء قال لأصحابه: أحضروني كما كنتم تحضرون، وكان بين رجلين تلاح، فأخذ أحدهما بلحية صاحبه فنتفها، فاختصما إلى فضالة، فقال: خذ من لحيته، فإن لم تف، فخذ مما ولي ذلك من وجهه وشاربه وحاجبه، وأشفاره، ورأسه. فقال له رجل من أصحابه: لو أن رجلًا جنى على رجل، أكنت آخذ به أخاه؟ قال: فعرف الذي قال، قال: فلذلك أمرتكم أن تحضروني". فله في إحضار أهل العلم أكبر الفوائد؛ لما ذكرنا، ولأنه لا يأمن أن يزل، فيقضي بغير الحق، فينبهوه عليه. * قال: (وإن كان يدخله حصر من جلوسهم معه، أو شغل عن أمور الناس: جلس وحده). وذلك لأن الحصر يشغل خاطره، ويقطعه عن فهم حجج الخصوم وكلامهم. وقد نهاه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي وهو غضبان، والحصر أولى أن يمنعه. مسألة: [تجنب القاضي ما يتعبه]. قال: (ولا ينبغي له إتعاب نفسه بطول الجلوس).

لأن ذلك يقطعه عن فهم ما يحتاج إليه واستقصائه. مسألة: [تنظيم القاضي لدخول الرجال والنساء عليه]. قال: (وينبغي له أن يقدم الرجال على حدة، والنساء على حدة). لأن ذلك أصون للفريقين، وكما جعل الرجال على حدة، والنساء على حدة في الصلاة. * قال: (وإن رأى أن يجعل لكل فريق يومًا على ما يرى من كثرة الخصوم: فلا بأس بذلك). وذلك لأنه أبعد من اجتماع الرجال والنساء في مجلس واحد، واختلاط بعضهم ببعض. مسألة: قال: (ويقدم الناس على منازلهم في مجيئهم إلى مجلسه). لما في حديث أبي هريرة الذي قدمنا، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "إياكم والإقراد، يكون أحدكم عاملًا أو أميرًا، فتأتي الأرملة والمسكين واليتيم، فيقول: اقعد حتى أنظر في حاجتك، ويأتي الغني أو الشريف فيقعده إلى جنبه، ويقول: ما حاجتك؟ اقضوا حاجته، وعجلوا بها". فقد دل هذا الخبر على أن من جاء أولًا استحق النظر في أمره، لأنه

نهاه عن تأخير قضاء حاجة المسكين الذي جاءه أولًا، وتقديم حاجة الغني عليه؛ لأن السابق قد استحق ذلك قبل مجيء الآخر، فلا يسقط مجيء الآخر حقه في التقديم. مسألة: قال: (وله أن يقدم الغرباء إذا رأى ذلك ما لم يضر بأهل البلد). وإن رأى أن يسوي بينهم: فعل، وذلك لأنه إذا خاف أن يلحق الغريب بمقامه ضرر: جاز له أن يقدمه، إذ ليس فيه ضرر على غيره، فإن كان فيه ضرر على غيره: سوى بينهم، إذ ليس أحدهما بأولى به من الآخر. مسألة: [شهود القاضي الجنازة وعيادته المريض]. قال: (ولا بأس بأن يشهد القاضي الجنازة، ويعود المريض، ويجيب دعوة الجماعة). وذلك لأن هذه سنن مندوب إليها، فلا يوجب القضاء عليه تركها، ولأن هذه الأشياء لا تعلق لها بشيء من أمور الخصوم؛ لأن الناس كلهم متساوون فيه. وقد "كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد الجنائز، ويعود المرضى، ويجيب الدعوة"، وهو أفضل الحكام، وقد قال الله تعالى: {لقد كان

لكم في رسول الله أسوة حسنة}. [مسألة: إجابة القاضي الدعوة]. قال: (ولا يجيب الدعوة الخاصة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لا بأس بأن يجيب الدعوة الخاصة للقرابة). وذلك لأن يطمع الناس فيه، ويوجب التهمة. وكما لا يجب غير القرابة في الدعوة الخاصة، كذلك القرابة. ولمحمد: أن في ذلك صلة الرحم، وهو مأمور بها، فلا يمنعه منها القضاء، وكما جاز أن يقبل الهدية من ذي الرحم المحرم، ولا يقبلها من غيره، كذلك إجابة الدعوة. وأيضًا: في الفرق بين الدعوة الخاصة والعامة، أنه ليس له أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر، ويجوز له أن يضيفهما جميعًا، وأن يتخذ دعوة عامة للناس. مسألة: [قبول القاضي للهدية] قال: (ولا ينبغي له أن يقبل الهدية إلا من ذي رحم محرم منه). وذلك لما روى أبو حميد الساعدي "أن رسول الله عليه الصلاة

والسلام بعث ابن اللتبية على الصدقة، فلما رجع، قال: هذا لكم، وهذا أهدي لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلا جلس في بيت أبيه وأمه، حتى تأتيه هديته". وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "هدايا الأمراء غلول". * ويقبل من ذي المحرم؛ لأن هناك سببًا يوجب له قبول الهدية غير القضاء، وهو الرحم، وأما الأجنبي، فظاهر أمره أنه أهدى إليه للقضاء، ولأن قبوله للهدية يطمع الناس فيه. مسألة: [لا يخلو القضاء بأحد الخصمين] قال: (ولا ينبغي له أن يخلو في منزله بأحد الخصمين دون الآخر). وذلك لما في حديث علي رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه

وسلم نهى أن يضيف أحد الخصمين". ولأنه يوجب تهمته. مسألة: [جواز القضاء في المنزل] قال: (لا بأس بأن يقضي في منزله، وحيث أحب، إلا أن الأحسن أن يقضي حيث الجماعة). إنما جاز له أن يقضي في منزله، لما روي "أن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب اختصما إلى زيد بن ثابت في منزله، قال زيد بن ثابت: هلا بعثت إلي يا أمير المؤمنين، فأتيتك، فقال عمر: في بيته يؤتى الحكم". وقعوده حيث الجماعة أفضل؛ لأنه أجدر أن لا يحجب عنه أحد. وقد روى أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقضي بين الناس على باب مسجد الكعبة". مسألة: [القضاء بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة] قال: (وينبغي له أن يقضي بما في كتاب الله تعالى، فإن أتاه شيء ليس في كتاب الله تعالى: قضى فيه بما أتى فيه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن لم يجده فيه: نظر فيما أتاه عن أصحاب رسول الله عليه

الصلاة والسلام، فقضى به). وذلك لقوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله}. وقال الله تعالى: {وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. وقال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}. وقال تعالى: {فاتبعوه ولا تتبعوا السبل}. مسألة: [لا يخالف القاضي الإجماع، والأدلة على حجية الإجماع]. وإذا اجتمعت الصحابة على شيء اتبعه وأخذ به، لا يجوز له خلافهم، لقيام الدلائل الموجبة لصحة الإجماع. فمنها: قول الله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم}. فأمر بإتباع سبيلهم.

وقال: {وكذلك جعلنكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس}. ومعنى قوله: وسطًا: أي عدولًا، كما قال الشاعر: هم وسط يرضى الأنام بحكمهم .... إذا طرقت إحدى الليالي بمعضل فقد دلت هذه الآية على صحة الإجماع من وجهين: أحدهما: قوله: وسطًا، والوسط: العدل، ومن كان عدلًا: لزم قبول قوله؛ لأنا نعلم أنه لا يقول إلا حقًا. والثاني قوله: {لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا}. ولا يكونون شهداء عليهم إلا وهو محكوم بصحة قولهم وشهادتهم، كالرسول لما جعل شهيدًا عليهم، لزمهم قبول قوله. ويدل عليه قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}. ومن كان بهذه الصفحة لا يجوز عليهم الاجتماع على ضلال.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجتمع أمتي على ضلال". وهذا الخبر وإن كان من أخبار الآحاد، فإنه قد استفاض في الأمة، وتلقاه السلف وأهل العلم بالقبول، وترك النكير على راويه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه". وقال: "عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة". وقال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، وعضوا عليها بالنواجذ". وقال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب".

في أخبار كثيرة من نظائر ذلك تدل على صحة الإجماع، وتوجب لزومه، وترك مخالفته، والكلام في صحة الإجماع يطول ويكثر، وإنما ذكرنا منه جملة. مسألة: [اختيار القاضي من أقاويل الصحابة حال اختلافهم]. قال أبو جعفر: (فإن كانوا قد اختلفوا فيه: تخير من أقاويلهم أحسنها في نفسه، ولم يكن له أن يخالفهم جميعًا، ويبتدع شيئًا من رأيه). وذلك أنه لما صح أنهم لا يجتمعون على ضلال، فقد ثبت أن الحق لا يخرج من أقاويلهم، وأن ما خرج من أقاويلهم، وأن ما خرج عن أقاويلهم فهو خطأ، لأنه لو جاز أن يخرج الحق عن أقاويلهم، لكانوا قد أجمعوا على خطأ، وقد أمنا ذلك منهم بالدلائل الموجبة لصحة الإجماع. وله أن يختار من أقاويلهم ما غلب على ظنه أنه الحق، وذلك لأنهم لما اختلفوا فيه على وجوه مختلفة، ولم يعنف بعضهم بعضًا فيما ذهب إليه، ولم يظهر النكير عليه، فقد سوغوا فيه الاجتهاد، وأجازوا اعتقاد أحد الأقاويل على حسب ما غلب في ظن المجتهد. ويدل عليه قول النبي عليه الصلاة والسلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم". مسألة: [اجتهاد القاضي فيما لم يجد فيه نصًا] قال أبو جعفر: (فإن لم يجد في كتاب الله، ولا فيما جاء عن رسول

الله عليه الصلاة والسلام، ولا عن أحد من الصحابة: اجتهد رأيه في ذلك، وقاسه بما جاء عنهم، ثم يقضي بما يغلب على ظنه أنه الحق). وذلك لما روي "عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال: كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله تعالى، قال: فإن لم يكن في كتاب الله تعالى؟ قال: ففي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي، لا آلو، فضرب صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله". وقد روي هذا من طرق تركت ذكر أسانيدها خوف الإطالة. وروى أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإن اجتهد فأخطأ كان له أجر". وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قضى القاضي فاجتهد، فأصاب، كان له عشر أجور، فإذا اجتهد، فأخطأ، فله أجر واحد". وروي عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.

والكلام في الاجتهاد يطول ويكثر، وليس يحتمله هذا الكتاب، ولكني لم أحب أن أخليه من جملة تدل عليه، وقد روي عن أبي بكر وعمر وعبد الله بن مسعود وابن عباس وسائر الصحابة القول في الاجتهاد، وعلى الترتيب الذي ذكرناه، وعلى أنه لا خلاف بين الصدر الأول، ومن بعدهم من التابعين، وفقهاء الأمصار فيه. مسألة: [مشورة القاضي للفقهاء عند الإشكال]. قال أبو جعفر: (فإن أشكل عليه: شاور رهطًا من أهل الفقه، ثم نظر إلى أحسن أقاويلهم، وأشبهها بالحق، فقضى به). وذلك لقول الله تعالى: {وشاورهم في الأمر}. وقال: {وأمرهم شورى بينهم}. وقال: {فبشر عباد (17) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}. مسألة: قال أبو جعفر: (وإن رأى خلاف في رأيهم أحسن وأشبه بالحق: قضى به). قال أحمد: هذا على شريطة أن يكون القاضي من أهل الاجتهاد، وعالمًا بطريق القياس ووجوهه، فيكون كواحد منهم، يجوز له أن يخالف

عليهم إذا رأى ذلك. فأما إن كان غير عالم بالفقه، وطرق الاجتهاد والقياس: فغير جائز له مخالفتهم جميعًا، بل عليه أن يجتهد حينئذ في تقليد أوثقهم في نفسه، وأعلمهم عنده، مثل العامي إذا نزلت به نازلة. مسألة: [نقضه لما قضى إذا تبين مخالفته للكتاب والسنة والإجماع]. قال أبو جعفر: (وإن قضى بقضاء، ثم تبين له أن غير ما قضى به أولى مما قضى به؛ لأن الذي قضى به خلاف الكتاب والسنة والإجماع: أبطله). وذلك لأن قضاءه كان من طريق الظن، وهذا يقين، فيلغي الظن، ويرجع إلى اليقين. وأيضًا: فقد بان أنه اجتهد في غير موضع الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد لا يسوغ مع النص والإجماع. مسألة: [تغير اجتهاد القاضي في مسألة بعينها وقد قضى في الأولى] قال: (وإن كان على غير ذلك: لم يبطله، وقضى في المستأنف بالذي يراه، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف). وذلك لأن القضاء الأول كان من طريق الاجتهاد، فلا يدفعه باجتهاد مثله، وهذا نظير قولهم فيمن كان معه ثوبان، في أحدهما نجاسة، لا يعلم أيهما هو، أنه يتحرى، فإن تحرى وصلى في أحدهما، ثم أداه اجتهاده إلى أن الآخر هو الطاهر: لم يلفت إلى ذلك؛ لأن الأول قد جعل محكومًا بطهارته من طريق الاجتهاد، فلا ينقض هذا الحكم باجتهاد مثله.

ولو تيقن النجاسة في الثوب الذي صلى فيه: بطل حكم اجتهاده، وأعاد الصلاة؛ لأنه تعقب اجتهاده باليقين. وكن اجتهد في القبلة، فصلى إلى جهة، ثم أداه اجتهاده إلى جهة أخرى: فلا تبطل صلاته الأولى؛ للعلة التي وصفنا. وأيضًا: في حديث أبي بكر رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا يقضين في أمر واحد بقضاءين". فهذا ينفي فسخ القضاء الأول من سائر الوجوه، إلا أن تقوم الدلالة عليه. وأيضًا: فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اختلفوا في أحكام الحوادث، ولم يعنف بعضهم بعضًا في مقالته، فقد دل ذلك من أمرهم على أنه غير جائز فسخ قضاء من قضى بمذهبه من طريق الاجتهاد؛ لأنه إذا لم يجز له النكير عليه، ففسخ قضائه أولى أن يكون ممنوعًا. وأيضًا: "قال عمر في مسألة المشركة: لا شيء للأخوة من الأب

والأم، ثم شرك بينهم وبين الأخوة من الأم في العام المقبل، فقيل له في ذلك، فقال: ذاك على ما قضينا، وهذا على ما قضينا". قال عمر: "قضيت في الجد قضايا مختلفة، لم آل فيه عن الحق". * قال أبو جعفر: (وقال محمد: إن كان قضى به باجتهاد، وهو مما يسوغ فيه الاجتهاد: فالقول فيه كما قالا. وإن كان إنما قضى به تقليدًا لفقيه بعينه، ثم تبين له أن غيره من أقوال الفقهاء أولى مما قضى به: نقضه، وقضى بما يراه فيه). قال أحمد: من مذهب محمد، وهو قول أبي يوسف فيما كان يحكيه أبو الحسن الكرخي رحمه الله: أن من كان من أهل لاجتهاد، لا يسوغ له تقليد غيره في حكم الحادثة، فيشبه أن يكون القول الذي حكاه أبو جعفر في هذه المسألة عن محمد من هذا الأصل؛ لأنه لما لم يجز له تقليده، أجاز له فسخه إذا رأى الصواب في غيره.

مسألة: [حكم نقض القاضي قضاء من سبقه] قال أبو جعفر: (ولا يجوز له أن ينقض قضاء من تقدمه من القضاة إذا كان مما يختلف فيه الفقهاء). قال أحمد: هذا الإطلاق صحيح فيما يسوغ فيه الاجتهاد، فأما ما لا يسوغ فيه الاجتهاد من الأقاويل: فإن حكم الحاكم به لا ينفذه، ولا يصححه وإن اختلف الفقهاء فيه. وذلك نحو القضاء بالشاهد واليمين، فهذا مما لا يسوغ الاجتهاد فيه، لمخالفته الكتاب، والسنن الثابتة، فإن حكم به حاكم، ثم رفع إلى آخر: أبطله. وقال محمد بن الحسن: من حكم ببيع أمهات الأولاد: أبطلت حكمه. وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يحكي عن أبي حنيفة: أنه لا يبطل بيع أمهات الأولاد إذا حكم به حاكم. ومن المذاهب الشنيعة الفاحشة: ما يحكى عن الشافعي رضي الله عنه: أنه جائز للرجل بأن يتزوج بابنته من الزنى، فهذا العقد لا يصححه حكم

الحاكم؛ لأنه ليس من دين أهل الإسلام، ولا يليق بشريعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو بمذهب المجوس أشبه. ومما لا يسوغ الاجتهاد فيه: قول من يقول: إن سهم ذوي القربى يستحقه الفقراء والأغنياء منهم، مع اتفاق الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على أنه للفقراء منهم. والمسائل التي لا يسوغ الاجتهاد فيها كثيرة، مع اختلاف الفقهاء فيها، وذكرها يؤدي إلى الإطالة، وإنما أردنا بما ذكرنا التنبيه على أصل المقالة. * وإنما قلنا إنه لا يتعقب بالنقض مما يسوغ فيه الاجتهاد؛ لما بينا في قضاء نفسه إذا رأى بعد ذلك خلافه. وقد روى الشعبي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان تنزل به القضية، فيقضي فيها برأيه، ثم ينزل القرآن على غير ما قضى به، فيستأنف، فيحكم بحكم القرآن, ولا يرد قضاءه".

وقال الشعبي: "أيما قاض قضى، فجاء قاض بعده، فلا ينظرن فيما قضى، وليوله من ذلك ما تولى". مسألة: [النظر في أمر تعديل الشهود وتزكيتهم] قال أبو جعفر: (وإذا شهد عنده من لا يعرفه على رجل بشهادة، فلم يطعن فيه الخصم: قضى بشهادته، ولم يسأل عنه إذا كملت عدة الشهود. وإذا طعن الخصم في الشهود: لم يقض بشهادتهم حتى يعدلوا عنده في السر، ويزكوا عنده في العلانية، وهذا قول أبي حنيفة). قال أحمد: هذا القول من مذهب أبي حنيفة محمول على ما كان عليه حال الناس في زمانه، وذلك لأن ظاهر أمرهم كان العدالة، لأنه كان في القرن الثالث، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشوا الكذب". فلما كان كذلك حال الناس في ذلك الوقت، وكان الإسلام يوجب العدالة حتى يحدث ما يوجب زوالها، وجب أن يكون أمره على ظاهر حاله، وما أوجب له الإسلام من عدالته. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: "المسلمون عدول بعضهم على بعض، ما خلا مجلودًا حدًا، أو مجربًا عليه شهادة زور، أو ظنينا في

ولاء أو قرابة". وقد روى ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان عن الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودًا في فرية". ويدل على أن ظاهر الإسلام يوجب العدالة: قبول النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الأعرابي في رؤية الهلال، حين شهد أن لا إله إلا الله، وأنه رسول الله، ولم يسأل عن حاله. * فإن طعن فيه الخصم: سأل عنه، من قبل أن ذلك من حق المشهود عليه، لأنه يزعم أنه قد حدث ما يمنع قبول شهادته، فينبغي أن يستظهر له. * فأما قوله: إنه يسأل عنهم في السر، ويزكيهم في العلانية: فإن معناه: أن يسأل عنهم في السر؛ لأنه أبلغ في الوصول إلى حقيقة حاله،

لأن المسؤول في العلانية ربما لم يخبر بحقيقة ما يعلمه من حاله إلا لمحاباة للمسؤول عنه، أو خوفًا منه، أو ما جرى مجرى ذلك، فلذلك قال: يسأل عنهم في السر. ومعنى قوله: ويزكيهم في العلانية: أن القاضي يظهر تزيته، وما بلغه من صلاح أمره. لكن إن كان عند إنسان ممن لم يسأل عنه: ما يوجب الجرح: أخبر القاضي به، لئلا يقدم على قبول شهادته. * (وأما في قول أبي يوسف ومحمد: فإن القاضي لا يقضي بشهادتهم حتى يسأل عنهم). وذلك لأن الشهادات تسقطها الشبه، كالحدود، فينبغي له أن يستظهر فيها، كما يستظهر في الحدود في المسألة عن حال المقر بالزنى، والتثبت في أمره، كذلك الشهادة. وأيضًا: فإن قبول شهادة العدول حق لله تعالى، ألا ترى أن المشهود عليه، لو رضي بأن تقبل عليه شهادة غير العدول: لم يلتفت إليه، فثبت أن اعتبار العدالة في شهادة الشهود من حق الله تعالى، فوجب أن يسأل عنهم، كما اتفقوا على أن عليه المسألة عن حال الشهود في الحدود؛ لأنها من حقوق الله تعالى. والذي عندي: أن أبا حنيفة لو شاهد حال الناس، وما اشتملت عليه الكافة من فساد الأديان، وقبح الأفعال، لأوجب المسألة عن الشهود، ولم يحمل أمرهم على ظاهر العدالة. * وإنما فرق أبو حنيفة بين الشهادة على الحدود وغيرها في المسألة عن الشهود؛ لأن الحدود قد أمر بالاحتياط فيها، وأمر بدرثها بالشبهة،

وأمر في شهود الزنا بأربعة من الشهداء، ولا يثبت إلا بإقرار أربع مرات، ولا يقبل في سائرها شهادة النساء، فاحتاط أيضًا فيها بالمسألة عن الشهود. مسألة: قال أبو جعفر: (لا ينبغي له أن يلقن شاهدًا، ولكن يدعه حتى يشهد بما عنده). وذلك لأن عليه أن يقضي بما سمع، لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أم سلمة أنه قال: إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بما أسمع". وقال الله تعالى: {ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها}. فلا ينبغي للقاضي أن يغيرها عن وجهها بتلقينه إياها، وذلك لأنه لا يأمن أن يتلقن بعض ما يقول على جهة الظن، بأنه موافق لما عنده، وهو في الحقيقة مخالف له. * قال: (وقال أبو يوسف: لا أرى بأسًا أن يقول له: أتشهد بكذا؟). وذلك لأنه ربما حصر عن إقامتها على جهتها، وقد عرف القاضي المعنى الذي يريده، فيتثبته.

مسالة: (ولا ينبغي له أن يتعنت الشهود). لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أقضي بما أسمع"، فينبغي له أن يمسك عنه حتى يشهد، ولأن التعنت ربما خلط عليه الشهادة وإن كانت صحيحة. وكما لا يجوز له أن يتعنت أحد الخصمين؛ لأن فيه معونة لأحدهما على صاحبه، كذلك في الشهادة. مسألة: قال: (ولا بأس بأن يفرق بين الشهود إذا اتهمهم). وذلك لأن ذلك مما يزيل التهمة، وفيه ضرب من الاحتياط للشهادة. وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه فرق بين جماعة ادعى عليهم قتل رجل، فسألهم واحدًا واحدًا عن حاله، وحال المقتول، فاختلفت أقوالهم، فأقروا بقتله. مسألة: قال أبو جعفر: (ويقبل تعديل الواحد، وجرح الواحد). وذلك أن هذا شيء من أمر الدين، فيقبل فيه خبر الواحد، وليس

ذلك بشهادة؛ لأنه لو كان شهادة، لوجب أن يستوفي فيها شرائط الشهادة في اعتبار اللفظ، وحضور خصم، وما جرى مجراه. ويدل عليه: أنه غير محكوم به، ألا ترى أنه لا يستحل بالجرح ولا التعديل، فدل عليه أن طريقه الخبر، فيقبل فيه خبر الواحد؛ إذا كان من أمر الدين. ويدل عليه: حديث زيد بن ثابت "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتابة اليهود، فكنت أكتب له إذا كتب إليهم، وأقرأ له إذا كتبوا إليه". والمعنى: أن ذلك كان من طريق الخبر، فكذلك ما وصفناه. * وأما محمد: فإنه قال: لما كانت صحة الشهادة موقوفة على التزكية، وجب أن لا يقبل فيها إلا ما يقبل في الشهادة. مسألة: [اجتماع الجرح والتعديل في الشاهد] قال أبو جعفر: (وإن عدله رجلان، وجرحه واحد: أخذ بقولهما، وأبطل قوله الآخر الواحد). وذلك لأن قول الاثنين مما يوجب الحكم، ويقبل في الحقوق، فهو

آكد من قول الواحد الذي لا يقبل إلا من طريق الخبر، ولا يثبت به حكم. فإن قيل: فهلًا مثله في الخبرين المتضادين، إذا رويا عن النبي عليه الصلاة والسلام، أن أحد الخبرين إذ رواه اثنان، والخبر الآخر رواه واحد، أن خبر الاثنين أولى بالقبول، كما قلت في خبر الجرح والتعديل. قيل له: الفصل بينهما: أن الخبرين المتضادين إذا وردا، وجب عرضهما على الأصول، فما شهدت له الأصول منهما، فهو أولى بالاستعمال، لأنا متى خلونا من أخبار الآحاد، كان لنا أصول نرد إليها حكم الحادثة من طريق الاجتهاد، فإذا ورد خبر عار مما يرده: كان عندنا مقدمًا على النظر. فإذا ورد خبران متضادان، وروى أحدهما اثنان، والآخر واحد: فلا يخلو النظر حينئذ من أن يكون شاهدًا بخبر الاثنين، أو مع الواحد، فيكون الذي معه النظر أولى بالقبول؛ لأن شهادة الأصول آكد من انضمام مخبر آخر بخبر مثل خبره، إذ كان انضمامه إليه لا يوجب وقوع العلم بصحة مخبره، وهذا المعنى معدوم في الجرح والتعديل، إذ ليس هناك أصل يفزع إليه غير الخبر، فإذا صار لأحدهما ضرب من الرجحان: كان أولى.

مسألة: [ما يشترط في قبول ترجمة المترجم] قال أبو جعفر: (ويقبل في الترجمة بمن لا يفهم كلامه قول واحد في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يقبل فيها إلا ما يقبل في الشهادة). وجه قولهما: ما قدمنا في جواز قبول تزكية واحد. ويدل عليه: حديث زيد بن ثابت في قراءته كتب اليهود، وقبول النبي عليه الصلاة والسلام ترجمته. فإن قيل: إن هذا من جهة الإخبار، لا من جهة ما يوجب الحكم. وما ذكرنا من الترجمة تتعلق بها الأحكام، فينبغي أن لا يقبل فيها إلا ما يقبل في الشهادات. قيل له: الترجمة لا توجب حكمًا، وطريقها الخبر أيضًا، فلا فرق بينه وبين ما ذكرت، ولو كانت الترجمة والتزكية محمولتين على الشهادة لوجب أن لا يقبل فيهما إلا ما يقبل في الشهادات في سائر الوجوه، فلا تقبل شهادة في الزنى إلا بتزكية أربعة، وترجمة أربعة؛ لأن شهادة الزنى كذلك حكمها. مسألة: [اتخاذ القاضي كاتبًا، وبيان ما يكتب] قال أبو جعفر: (وينبغي للقاضي أن يتخذ كاتبًا من أهل العفاف والصلاح، ثم يقعده حيث يرى ما يكتب وما يصنع، ثم يكتب خصومة كل

خصمين، وما كان بينهما من الشهادة في صحيفة، ثم يطويها ويخزمها، ثم يختمها بخاتمه، ثم يكتب عليها: خصومة فلان وفلان، ويؤرخه، ويجعل خصومة كل شهر في قمطر على حدة). وذلك لأن كاتب القاضي مؤتمن على ما جعل إليه، فينبغي أن يكون عدلًا، كالقاضي نفسه. ويكتب ما يجري، ليكون أثبت وآكد، ولأنه لا يؤمن عليه النسيان، فتبطل حقوق الناس وحججهم، ويختم الصحيفة، ليأمن عليها التغيير والزيادة والنقصان. مسألة: [السؤال عن الشهود] قال: (وإن قدر على مباشرة السؤال عن الشهود: فعل). لأنه أحوط، وأحرى بثلج الصدر فيما يورد عليه فيهم. * قال: (وإن لم يقدر على ذلك: ولاه رجلين عدلين). لأنه آكد وأحوط. * (وإن ولاه واحدًا: كذلك جاز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف).

كما قلنا في المزكين والمترجم. (ولم يجز في قول محمد)، حتى يولي عليه اثنين، كما قال في المزكين. مسألة: [إذا وجد القاضي في ديوانه صحيفة فيها شهادة شهود] قال أبو جعفر: (وإذا وجد القاضي في ديوانه صحيفة فيها شهادة شهود، لا يحفظ أنهم شهدوا بها عنده: فإنه يقضي بذلك في قول أبي يوسف ومحمد). وذلك لأنه كان في يده، وتحت ختمه، فظاهر حاله الصحة، ألا ترى أن الإنسان قد يروي الحديث الذي يجده في كتابه بخطه وإن لم يذكر أنه سمعه بعينه. فإن قيل: لا يجوز أن يكون هذا أصلًا لما ذكرنا من الحكم، بدلالة أنه قد يجوز له أن يروي حديثًا يجده في كتاب غيره، وفيه سماعه، ولا يجوز مثله فما يجده في ديوان قاض قبله، حتى يشهد به الشهود. قيل له: هما وإن افترقا من هذه الجهة، فإنما كانت جهة الاستشهاد به: أن الغالب في مثله أنه حق. قال: (وقال أبو حنيفة: لا يقضي بذلك حتى يذكر). لقول الله تعالى: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون}.

وقال: {فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}. فدل على أن الذر من شرط صحة الشهادة، فإذا وجب اعتبار الذكر في الشهادة، فالقضاء أولى بذلك. مسألة: [ما يجده القاضي في ديوان من قبله] قال أبو جعفر: (وما وجده في ديوان القاضي الذي كان قبله من ذلك: لم يلتفت إليه، ولم يقض به إلا أن تقوم البينة على قضائه به وهو قاض قبل أن يعزل). وذلك لأن وجوده إياه في ديوانه، لا دلالة فيه على أنه قد قضى به، إذ لا يمتنع أن يوضع في ديوانه ما لم يقض به، وأن يزور عليه. وكما لا يقضي بخط شاهدين وجده في كتاب دون أن يشهدا به. وكما لا يقضي على رجل يجد في صك خطًا يشبه خطه، ويغلب في ظنه، حتى تقوم البينة عليه. مسألة: [لا يكون الكاتب ذميًا ولا عبدًا ولا ...] قال: (ولا ينبغي للقاضي أن يتخذ كاتبًا ذميًا، ولا عبدًا ولا مكاتبًا، ولا محدودًا في قذف، ولا أحدًا ممن لا تجوز شهادته). قال أحمد: أما الذمي: فلقول الله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لا

تتخذوا بطانة من دونكم}. روي "أن عمر بلغه أن أبا موسى اتخذ كاتبًا ذميًا، فكتب إليه ينهه عن ذلك، وقال: قال الله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم}، وقال الله تعالى: {ولا تتخذوا منهم وليًا ولا نصيرًا} ". وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إنا لا نستعين بمشرك". وأما سائر من ذكر: فلأن شهادتهم لا تجوز، وسبيل كاتب القاضي أن يكون عدلًا، جائز الشهادة، كالقاضي نفسه؛ لأنه مؤتمن على الأحكام والحقوق. مسألة: [كتاب القاضي إلى القاضي، وحكم العمل به] قال أبو جعفر: (ومن أتاه بكتاب قاضي بلد سوى بلده: فإنه ينبغي له أن يسأل الذي جاءه بالكتاب البينة على كتاب القاضي، أنه كتابه، وخاتمه، ثم يقرأه على الشهود بمحضر المكتوب إليه، والمكتوب فيه، بعد أن يشهد الشهود أن القاضي الذي كتبه إليه قد كان قرأ عليهم).

قال أحمد: الأصل في جواز قبول كتاب القاضي إلى القاضي: اتفاق الفقهاء. ولأن الكتاب يقوم مقام خطاب الكاتب في الأداء عنه، ألا ترى "أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى ملوك الآفاق يدعوهم إلى الإسلام"، فكان ذلك كخطابه لهم. و"كتب لعمرو بن حزم كتابًا يشتمل على كثير من الأحكام". و"كتب إلى أقيال اليمن كتبًا". فدل على أن الكتاب يقوم مقام خطاب الكاتب. وأيضًا: فكما جازت الشهادة على الشهادة، جاز كتاب القاضي إلى القاضي، وذلك لأن الشهود الناقلين للشهادة، ينقلون قول شهود الأصل، فكذلك كتاب القاضي يقوم مقامه فيما أنبأ عنه، إلا أن ذلك لا يثبت عند المكتوب إليه إلا بشهادة شهود، يشهدون على أنه كتابه وخاتمه، كما لا تثبت شهادة شهود الأصل عند الحاكم إلا بأن ينقلها إليه الذين شهدوا عنده، ويحتاجون أن يشهدوا بما في الكتاب، فإذا شهدوا بما فيه، حينئذ فك القاضي الكتاب، وقرأه. * وقال أبو يوسف: إذا شهدوا أن هذا كتابه وخاتمه: قبله وإن لم يعلموا ما فيه. لأبي حنيفة: أن الشهادة على المجهول لا تصح، بدلالة أنهم لو قالوا: نشهد أن لفلان على هذا حقًا، لم يقبله، وكذلك إذا لم يعلموا

ما في الكتاب. وأيضًا: لم يختلف أصحابنا أنهم لو شهدوا على رجل بمال في صك، وهم لا يدرون ما في الصك: أن شهادتهم لا تجوز، كذلك كتاب القاضي. وفرق أبو يوسف بينهما، بأن الكتاب بمنزلة الخطاب، يثبت حكمه بنفسه، والصك لا يثبت حكمه إلا بالإشهاد عليه، أو الإقرار به بالقول، وإنما احتيج إلى حضور المشهود له والمشهود عليه، من قبل أن ذلك شهادة عليه، فلا يقبل إلا بمحضر منه، ومن خصمه المدعي وإن لم يتوجه عليه بنفس هذه الشهادة الحق المدعي، كما أن الشهادة على الوكالة بالخصومة لا تقبل إلا بمحضر منه وإن لم يتوجه عليه حق بنفس الوكالة. * ولا يحتاج القاضي الذي كتب إلى حضور المشهود عليه بالحق في حال شهادة الشهود عنده بالحق المدعى؛ لأنه لا يحكم بهذه الشهادة، ولا يتوجه بها حق على المشهود علي، وهو بمنزلة شاهدي الأصل، إذا شهدا على أنفسهما. فلا تفتقر صحة الإشهاد على الشهادة إلى حضور المشهود عليه. * حتى إذا وصل الكتاب إلى القاضي المكتوب إليه: احتاج حينئذ في صحة سماع شهادة شهود الكتاب إلى حضور الخصم، كما يحتاج إلى حضوره إذا حضر الشهود الذين يشهدون على شهادة شهود الأصل. مسألة: [حكم كتاب القاضي إلى القاضي حال موت الأول أو عزله] قال أبو جعفر: (وإن مات القاضي الكاتب أو عزل: لم ينبغ للقاضي

المكتوب إليه إنفاذ كتابه). قال أحمد: وذلك لأن كتابه يقوم مقام خطابه، وخطابه بعد العزل: لا يثبت بعد حكم، وبعد الموت: يخرج كتابه من أن يكون بمنزلة الخطاب، لأن خطابه قد بطل. فإن قيل: فينبغي على هذه القضية أن لا يجوز كتاب القاضي إلى القاضي رأسًا؛ لأن كتابه إذا قام مقام خطابه، وهو لو خاطب به غير بلده الذي هو حاكم فيه: لم يكن لخطابه حكم، كذلك كتابه. قيل له: كتابه ينبئ عن خطابه الذي كان منه في موضع حكمه، وذلك القول صحيح، والكتاب ينبئ عنه، فصار كأنه يخاطبه في موضع قضائه وحكمه. فإن قال قائل: هلا جعلته بمنزلة الشاهدين على شهادة شاهدين، أن موت الأولين لا يمنع قبول شهادتهما. قيل له: الفصل بينهما: أن موت شاهدي الأصل: لا يبطل شهادتهما، ولا يخرجهما من أن يكونا من أهل الشهادة، ألا ترى أن شاهدين لو شهدا عند قاض بحق، ثم مات قبل إمضاء الحكم بشهادتهما: أنه يمضي الحكم بشهادتهما، ولا يبطلها موتهما، فكذلك الشاهدان على شهادتهما، يجوز لهما نقلها بعد موتهما. وأما موت القاضي، فإنه يبطل قوله الذي لم يمضه، ألا ترى أن شاهدين لو شهدا عند حاكم بحق الرجل، فلم يمض الحكم بشهادتهما حتى مات: أن الحاكم الثاني الذي ولي لا يلتف إلى السماع الذي تقدم

من الحاكم الميت بشهادة الشهود، فلذلك كان ذلك على ما وصفنا. مسألة: [حكم كتاب القاضي إلى القاضي حال موت الثاني أو عزله] قال أبو جعفر: (وإن مات القاضي المكتوب إليه، أو عزل: لم يتبع لقاض غيره أن يجيز ذلك الكتاب). وذلك لأنه هو المخاطب به، ولم يخاطب به الثاني، فلا يجوز له إنفاذه، ألا ترى أن شهودًا لو شهدوا عند حاكم، فلم يحكم بشهادتهم حتى عزل، وولى حاكم غيره: أن الثاني لا يمضي تلك الشهادة، ولا يعتد بذلك السماع. مسألة: [مجالات العمل بكتاب القاضي إلى قاض آخر]. قال أبو جعفر: (وكتب القضاة إلى القضاة جائزة في سائر الحقوق، إلا في الحدود والقصاص). وذلك: لأن الكتاب قائم مقام الكاتب، ولا يجوز إثبات الحدود والقصاص بما يقوم مقام غيره، كالشهادة على الشهادة، وشهادة النساء. وكل ما جازت فيه شهادة النساء، والشهادة على الشهادة، قبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي، وما لم يجز فيه ذلك: لم يجز فيه كتاب القاضي.

وقد روي عن الزهري قال: "مضت السنة من رسول الله عليه الصلاة والسلام، والخليفتين من بعده، أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود ولا في القصاص". مسألة: [شروط قبول كتاب القاضي إلى غيره من القضاة] قال: (ولا ينبغي لقاض أن يقبل كتاب قاض إليه في حق الرجل على رجل حتى ينسبه إلى أبيه وإلى جده، أو إلى تجارة يعرف بها، وحتى لا يكون في قبيلته أحد يقع الإشكال في أمره). وذلك: لأنه لا يحصل معلومًا إلا بأحد وجهين: إما النسبة إلى أبيه وجده، أو إلى أبيه وفخذه، وذلك لكثرة من يتفق على اسمه واسم أبيه، ويبعد أن يتفق على اسمه، واسم أبيه، وجده، أو فخذه، إلا شاذًا نادرًا. * قال: (ولا يقبل الكتاب بالنسبة إلى أبيه، وإلى بكر بن وائل، وإلى همدان، وتميم). وذلك لأن هذه قبائل عظام، كثيرًا ما يشترك فيها الرجلان على

اسم، ونسب واحد. وقولهم: تميم، وهمدان: بمنزلة قولهم: عربي، فلا يحصل معلومًا متميزًا من غيره، وكقوله: من بني آدم. مسألة: [ذكر حدود الدار في كتاب القاضي] قال: (ولا يقبل كتابه في دار حتى يحدها في كتابه بأربعة حدودها، أو بثلاثة). وذلك لأنها لا تحصل معلومة متميزة من غيرها إلا بحصر حدودها. ويكتفى بذكر ثلاثة حدود؛ لأنه ليس يكاد يشاركها في ذلك دار غيرها. قال: (ولو نسبها إلى شيء معروف، مما هي مشهورة به: لم يقبل ذلك في قول أبي حنيفة). لأنها مجرد الحدود، وكتاب القاضي إلى القاضي لا يجوز بحق مجهول، كما لا تجوز الشهادة بحق مجهول. مسألة: [كتاب القاضي في العبد] (ولا يقبل كتاب القاضي في عبد ولا أمة). وذلك لأن الشهادة لا تصح عليهما بالحلية، فيحصل الكتاب في

مجهول، ألا ترى أنهم لو تنازعوا في عبد: لم يقبل الحاكم شهادة أحد عليه إلا بعد إحضاره، حتى تقع الشهادة على عينة، وليس كالدور والعقار؛ لأنها تصير معلومة بالتحديد، ولا هي كالشهادة على الأموات والغائبين؛ لأنها تحصل معلومة بالنسب، والخصم الذي يحضر عنه، تقع الشهادة عليه، فيقوم مقامه. * (وأجازه أبو يوسف في العبد، وقال: يؤخذ به كفيل، ويسلم إليه العبد، ويختم في عنقه، ثم يبعث به القاضي الذي كتب إليه، حتى يشهد الشهود عليه عنده بعينه، ثم يكتب له كتابًا آخر على ذلك إلى القاضي الذي كان كتب إليه، فإذا ثبت ذلك عنده: قبله، وقضى به، وسلم العبد إلى الذي جاءه بالكتاب، وأبرأ كفيله). وهذا استحسان من قوله، ووجهه أنه قد يمكنه أن يتوصل إلى إيصاله إلى حقه في هذا الوجه من غير ضرر على أحد، فيوصل إليه بذلك. * ولم يفعل ذلك في الأمة؛ لأنها فرج لا يجوز تسليمها إلى من لم يثبت له ملكها، وهو يزعم أنه يستبيح فرجها، ألا ترى أن شاهدين لو شهدا لرجل بأمه في يدي رجل: أن القاضي يضعها على يدي عدل؛ احتياطًا للفرج، ولا يفعل مثله في العبد. مسألة: [اتخاذ القاضي قاسمًا ليقسم حصص الشركاء] قال أبو جعفر: (وينبغي للقاضي أن يتخذ قاسمًا إن رأى ذلك، من غير أن يكره الناس على أن لا يقسم لهم غيره). وذلك لأن القاضي منصوب لإيصال ذوي الحقوق إلى حقوقهم، وفي

القسمة تمييز الحقوق، وإيصالها إلى مستحقها، فإن رأى القاضي أن ينصب لذلك من يثق بأمانته ودينه، ورأى فيه صلاحًا: فعل. ولا يكره الناس على قسمته خاصة دون غيره، كما لا يجوز له إجبارهم على أن يكون هو القاسم بينهم إذا تراضوا أن يقتسموا فيما بينهم حقوقهم من غير قاض. وأيضًا: فإن القاسم أجير، ولا يجوز للقاضي إكراه الناس على أن لا يستأجروا إلا رجلًا بعينه، كما لا يجوز له إكراههم على أن لا يبايعوا، ويشاوروا إلا رجلًا بعينه. مسألة: [أجرة القاسم على الشركاء جميعًا] قال أبو جعفر: (وأجر القاسم على الشركاء جميعًا على رؤوسهم في قول أبي حنيفة). وذلك لأن الأجرة تستحق للعمل، لا للملك، والعمل لهم جميعًا سواء غير مختلف، وذلك لأن النصيب القليل لا يتميز إلا بمساحة من النصيب الكثير، فهو عامل لهم جميعًا على السواء. وأيضًا: فجائز أن يكون تمييز النصيب القليل أشق وأكثر عملًا من تمييز النصيب الكثير، أو جائز أن يكون تمييز الكثير أشق وأكثر عملًا، فقد تساويا من هذا الوجه، فينبغي أن يكونا سواء فيما يلزمهما من الأجر. * (وقال أبو يوسف ومحمد: هو على مقادير أنصبائهم). لأنه عامل في النصيبين بحسب القلة والكثرة، ألا ترى أن غنمًا بين رجلين استأجرا رجلًا لرعيها: أن الأجر عليهما على مقادير أنصبائهما.

مسألة: [جعل الحاكم أجرة لقاسم من بيت المال] قال: (وإن قدر الحاكم أن يجعل رزق القاسم من بيت المال: فعل، لأن تصرفه من جهة الحاكم). ألا ترى أن أحدهما إذا أبى القسمة: أجبر عليها، فيرزقه كما يرزق كاتبه، وكما يرتزق هو. * قال أبو جعفر: (ولا ينبغي أن يشرك بين قسامه). وذلك لأنه أجدر أن لا يتحكموا على الناس فيما يطلبون من الأجر. مسألة: [اعتبار شهادة القاسم] قال أبو جعفر رحمه الله: (ومن شهد عنده من قسامه على قسمة قسمها بين قوم بأمره: أجاز شهادته). قال أحمد: إنما يعني أنه شهد مع غيره. (وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف). وذلك لأن قسمته بأمر الحاكم: حكم من الحاكم، فكأنهما شهدا على حكم الحاكم، فتجوز شهادتهما. والدليل على أن قسمتهما حكم: أن الحاكم يجبر عليها إذا أباها أحد الشركاء. (وقال محمد: لا تجوز شهادته). لأنه يشهد على فعل نفسه، وشهادة الرجل غير جائزة على نفسه.

مسألة: [دعوى الغلط في القسمة] قال: (ومن ادعى غلطًا في قسمة: لم تعد له القسمة، وسئل البينة على ذلك). وذلك لأن القسمة بمنزلة سائر العقود إذا عقدها الإنسان على نفسه، فهي محمولة على الصحة، ولا يجوز دعوى الخيار فيها، كما لو ادعى خيار شرط، أو خيار رؤية، أو خيار عيب. ولأن كل متعاقدين دخلا في عقد، فدخولهما فيه اعتراف منهما بصحته، فلا يصدق بعد ذلك على ما يوجب فسخه وفساده. * قال: (فإن أقام عليه بينة: قبلت بينته). لأنه يثبت بها لنفسه حقًا، وهو الخيار في فسخها وإعادتها، كما لو أقام البينة على قعد قد عقده، وأنه وقع على فساد من أجل مجهول، أو شرط فاسد: قبلت بينته، ولا تقبل دعواه دوران البينة. مسألة: [اقضاء القاضي بعلمه] قال أبو جعفر: (وما رآه القاضي من حقوق الناس في مصره الذي هو قاض عليه، بعد ما استقضى: قضى فيه بعلمه، ولم يحتج في ذلك إلى غيره). ووجه ذلك: أنه لما اتفقت الأمة على جواز الاقتصار على قاض واحد في إنفاذ الأحكام، ولم يحتج إلى انضمام غيره إليه: دل على أن قوله مقبول فيه، وأنه جائز له الحكم بعلمه، ألا ترى أن الشاهد الواحد لما لم

يقبل قوله وحده، احتيج في صحة شهادته انضمام غيره إليه. وأيضًا: لو قضى بشيء مختلف فيه على أحد وجوه الاختلاف، وقال: ذلك رأي: كان قوله مقبولًا، وإسجاله به صحيحًا، وحكمه به نافذًا. ومعلوم أنه لو كان قضى بخلاف الحق عنده: لم ينفذ حكمه إن كان مختلفًا فيه، فدل ذلك على لزوم قوله فيما كان من طريق الحكم، مما ليس هو بخصم فيه. ولا تلزم عليه الحدود؛ لأن الإمام خصم فيها كالشهود، إذ هي حق لله تعالى خالصًا، لا حق لآدمي فيها. ولا خلاف بين أصحابنا أن القاضي لا يقضي بعلمه في الحدود، إلا في حد القذف خاصة؛ لأن المطالبة بإقامته من حقوق الآدميين، والمعنى في سائر الحدود ما قدمنا من أن القاضي وسائر المسلمين خصم فيها، إذ كانت حقًا لله تعالى خالصًا، كالشهود أنفسهم، وكان القاضي فيها بمنزلة الشاهد. فإن قيل: فحد السرقة لا يثبت إلا بمطالبة المسروق منه، وليس الناس كلهم خصومًا في إثباته، فواجب أن يكون بمنزلة حد القذف. قيل له: هذا لا يخرجه من أن يكون حقًا لله تعالى خالصًا، كحد الزنى والشرب، وإنما لم يثبت بمطالبة غير المسروق منه، من قبل أن القطع متعلق بثبوت الملك، ولا يكون أحد غير المسروق منه خصمًا في إثبات

المال، فإنما تعلق ثبوت الحكم بخصومته من حيث تعلق الملك، وهذا الخصم في المال دون غيره. وأما حد القذف فإن المطالبة بنفس الحد إلى المقذوف دون غيره، ولا أن هناك معنى غيره من أجله تعلقت الخصومة به. ألا ترى أن المسروق منه، لو أثبت السرقة على السارق، ثم قال: لست أطالب بالقطع: لم يلتفت إلى قوله، وقطع، ولو قال المقذوف بعد إثبات القذف: لست أطالب بالحد: لم يحد القاذف حتى يطالب به. * فإذا رأى القاضي رجلًا على زنى، أو سرقة، أو شرب خمر، لم يقم عليه الحد حتى يشهد عنده في الزنى أربعة شهداء سواه، وفي غير الزنى شاهدان غيره؛ لأنه لا يجوز أن يكون شاهدًا حاكمًا، إلا أن يرفعه إلى من هو فوقه، فيشهد هو مع ثلاثة على الزنى، ومع آخر على السرقة، وشرب الخمر. فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "واغد يا أنس على امرأة هذا، فإن اعترفت، فارجمها". فأجار له رجمها وحده. قيل له: ليس هذا إقامة حد بعلمه، إنما هو بإقرار المقر، وإنما معنى قولنا: إنه لا يقضي بعلمه فيه: أنه إذا شاهده على الزنى، أو الشرب: لم يقم عليه الحد. وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: "لو وجدت

رجلًا على حد من حدود الله، لم أحده أنا، ولم أدع له حدًا، حتى يكون معي شاهدًا غيري". وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: "أرأيت لو رأيت رجلًا قتل، أو سرق، أو زنى؟ قال: أرى شهادتك بشهادة رجل من المسلمين، قال: أصبت". وروي "عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن معاوية سأله عن ذلك، فأجاب فيه بمثل ذلك". ومثل هذا القول إذا استفاض عن السلف: كان إجماعًا لا يسع خلافه. مسألة: [القضاء بعمله فيما رآه في غير مصره، أو قبل توليه القضاء] قال أبو جعفر: (وما رآه في غير مصره، أو قبل أن يلي القضاء، ثم ولي القضاء، فخوصم إليه: لم يحكم فيه بعلمه في سائر الحقوق، في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: يحكم فيه بعلمه، كما يحكم إذا علمه بعد القضاء). قال أحمد: روي نحو قول أبي حنيفة عن عمر بن الخطاب، وعن شريح.

وأيضًا: فإن علمه قبل القضاء، كان شهادة، فلا يجوز أن يجعله حكمًا، وذلك أنه قبل ولايته القضاء، لم يكن لعلمه حكم، إلا مع شاهد آخر يشهد به عند حاكم، فيمضيه، فلا يجوز له أن يجعل قوله ذلك حكمًا، فينفذه بعد أن لم يكن ينفذ به وحده، وكان لا ينفذ حتى ينفذه غيره؛ لأنه يصير حينئذ بمنزلة من قضى لنفسه. ألا ترى أن أصحابنا جميعًا يقولون: إن محدودًا في قذف، لو ولي القضاء، فقضى بقضية، ثم ولي غيره ممن لا يرى قبول شهادة المحدود في قذف، أنه لا يجوز قضاؤه فيما لم يكن من رأيه، لأنه بفعل نفسه أجاز قضيته، وهو ليس من أهل القضاء، ولو رفع قضاؤه إلى من يرى جواز شهادة المحدود في القذف، فأجازه: لم يكن لأحد من القضاة بعد ذلك فسخه. * وقال أبو يوسف ومحمد: علمه قبل القضاء، وبعد القضاء: سواء، يجوز له أن يقضي به. قال أحمد: وقول محمد مرجوع عنه، على ما حكاه ابن سماعة من أن قوله الآخر: إن القاضي لا يقضي بعلمه في شيء، سواء علمه قبل القضاء، أو بعده. مسألة: [من لا يحكم بشهادته للتهمة] قال أبو جعفر: (ولا يحكم بشهادة خصم، ولا جار إلى نفسه، ولا

دافع عنها، ولا بشهادة أعمى). والأصل فيه: ما حدثنا ابن قانع قال: حدثنا حامد بن محمد حدثنا شريح حدثنا مروان عن يزيد أبي خالد عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجوز في الإسلام شهادة مجرب عليه شهادة زور، ولا خائن، ولا خائنة، ولا ذي غمر لأخيه، ولا القانع لأهل البيت، ولا ظنين، ولا قرابة". فدل هذا الخبر على أن من شأن الشهادة ردها بالتهمة، والشبهة؛ لأن الوجوه المذكورة في الخبر مما رد به الشهادة، إنما هي جهات التهمة. وأيضًا: فالخصم إنما يريد تصحيح دعواه بشهادته لنفسه، فهذه شهادة لنفسه، وكذلك الجار إلى نفسه، والدافع عنها. * وأما الأعمى فإنما لم تجز شهادته لأن سبيل الشهادة أن تكون على اليقين والمعاينة، ولا تصح على الاستدلال، والأعمى إنما يشهد

باستدلال؛ لأن الصوت قد يشبه الصوت، وهو فإنما يفرق بينهما من جهة غلبة الرأي. والدليل على أن من شأن الشهادة وقوعها على المعاينة: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع حدثنا عبد الله بن محمد بن ميمون البلخي الحافظ حدثنا يحيى بن موسى- يعرف: بخت- حدثنا محمد بن سليمان بن مسلول حدثنا عبيد الله بن سلمة بن وهرام عن أبيه عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة، فقال: ترى هذه الشمس فاشهد، وإلا فدع". قال عبد الباقي: وحدثنا محمد بن يونس بن المبارك قال: حدثنا سليمان الشاذلوني حدثنا محمد بن سليمان المخزومي حدثنا عن عبيد الله بن سلمة بن وهرام عن أبيه عن طاوس عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تشهد على شهادة حتى تكون أضوأ من الشمس". فثبت بذلك أن حكم الشهادة أن تكون على المعاينة واليقين، وأنها لا تثبت بالاستدلال وغلبة الرأي. وأيضًا: قال الله تعالى: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون}. وهذا يقتضي علم الحقيقة، لا غلبة الظن، وغالب الظن وإن كان قد يسمى علمًا في حال، فإنه ليس بحقيقة، وإنما يقال ذلك فيه مجازًا؛ لأن العلم على الحقيقة هو اعتقاد الشيء على ما هو به، وغالب الظن قد يكون

على خلاف ذلك. فإن قيل: فقد يجوز له الإقدام على وطء جاريته، وزوجته بسماع صوتها، إذا غلب في ظنه أنها هي. قيل له: لأن ذلك قد يسوغ الإقدام عليه باجتهاد الرأي، وغالب الظن، ألا ترى أنه يجوز الإقدام عليه بخبر الواحد، ولا يجوز للشهود إقامة الشهادة بخبر مخبر أخبرهم به وإن كان عدلًا، وكذلك لا يجوز بغلبة الظن واجتهاد الرأي. [مسألة:] قال: (فإن استشهد عن ذلك وهو بصير، ثم عمي: لم تقبل شهادته أيضًا في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: تقبل). وجه قولهما: ما دللنا عليه من بطلان شهادة الأعمى، وأنه يشهد عن اجتهاد وغلبة رأي، لا عن حقيقة علم، فكذلك إذا شهد بعد ما عمى، فالعلة المانعة من جواز شهادته موجودة، وهي أن يؤديها باستدلال. وكما لو شهد عليه وبينهما حائل من حائط أو ستر: لم تقبل شهادته، كذلك العمى من حيث كان حائلًا بينه وبين المشهود عليه، وجب أن يمنع قبول شهادته. وأيضًا: فمعلوم أن حال الأداء، حكمه أن يكون آكد وأولى بالاستظهار فيها من حال التحمل، والدليل على ذلك: اتفاقنا جميعًا أنه قد يصح تحمل الشهادة على حال لا يصح أداؤها، مثل أن يستشهد وهو صبي، أو عبد، أو كافر، فيصح تحمله لها، ويقبل منه أداؤها وهو بالغ حر مسلم، ولو شهد في حال الرق والكفر والصغر: لم تقبل. فصار حكم الشهادة أن تكون في حال الأداء آكد منها في حال

التحمل، فلما اتفق الجميع على أن العمى مانع من صحة التحمل، وجب أن يكون مانعًا من الأداء. فإن قال: ليس شرط صحة الأداء معاينة المشهود عليه، لأنها قد تصح مع موت المشهود عليه، ومع غيبته، وليس العمى الحائل بينهما بأكثر من غيبته وموته. قيل له: هذا غلط لا تصح الشهادة عندنا، إلا بحضور المشهود عليه، أو من يقوم مقامه، ويكون خصمًا عنه، ولا يجوز عندنا شهادة على غائب، ولا ميت، إلا أن يكون عنه خصم حاضر تقع الشهادة عليه. وأيضًا: فإنما يحتاج أن يعتبر حال الشاهد في نفسه، فإن كان على صفة يصح أن يكون شاهدًا: صحت الشهادة، وإن كان على صفة لا يصح أن يكون شاهدًا: لم تصح، والعمى صفة في الشاهد تمنع صحة شهادته، وموت المشهود عليه وغيبته لا تخرج الشاهد من صفة الشهادة، فلذلك قبلت الشهادة عليهما. وقد تقدم الكلام في شهادة المحدود في قذف، في كتاب الحدود. مسألة: [من لا يجوز للقاضي أن يقضي له] قال: (ولا يقضي القاضي لنفسه، ولا لأحد من آبائه وإن بعدوا، ولا لأحد من أولاده وإن سفلوا، ولا لزوجته، ولا لأحد ممن لا تجوز له شهادته). وذلك لأن كل هؤلاء لا تجوز لهم شهادته، فقضاؤه أحرى أن لا

يجوز لهم؛ لأن القضاء في هذا الباب أولى بنفي التهمة من الشهادة، إذ كان الحكم يمضي فيه بقوله دون غيره. [مسألة: تفسير القاضي للخصم ما ثبت عنده عليه] قال: (وينبغي له أن يفسر للخصم إذا أراد أن يقضي عليه ما قد ثبت عنده عليه). لكي يأتي بحجة إن كانت له في دفعه. مسألة: [الصفات التي تشترط لاختيار القاضي] قال: (ولا ينبغي له أن يولي القضاء إلا الموثوق به في عفافه، وعقله، وصلاحه، وفهمه، وعلمه بالسنة والآثار، ووجوه الفقه). وذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن، سأله عن وجوه القضاء، واستبرأ حاله فيها. وروي نحوه عن عمر، وابن عباس، وابن مسعود. ولأن من شرط القضاء العدالة، كما كان من شرط الشهادة، بل أولى بذلك إذ كان قول القاضي أنفذ من قول الشاهد.

ويحتاج أيضًا أن يكون عالمًا بوجوه القضاء، لئلا يقضي بخلاف الحق. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القضاة ثلاثة: فواحد في الجنة، واثنان في النار، فالذي في الجنة: قاض قضى بحق. وقاض قضى بغير الحق وهو يعلم، فهو في النار. وقاض قضى وهو لا يعلم، فأهلك حقوق الناس، فهو في النار". رواه الأعمش عن سعد بن عبيد ابن بريدة عن أبيه عن النبي عليه الصلاة والسلام. مسألة: [اشتراط معرفة القاضي بالسنة والفقه] قال: (ولا يولي صاحب رأي ليس له علم بالسنة والأحاديث، ولا صاحب حديث ليس له علم بالفقه). وذلك لأن القول بالرأي والاجتهاد لا يصح إلا في الفروع التي ليس فيها نصوص، ومن لم يعرف السنن وأصول الأحكام المنصوص عليها، لا يدري لعله يستعمل الرأي والاجتهاد في موضع لا يسوغ ذلك فيه. وكذلك من عرف الحديث لم يعرف الفقه: لا يجوز له القضاء، ولا الفتيا، لأن في الحديث ناسخًا ومنسوخًا، وعامًا وخاصًا، ولا يتحصل له

تمييز ذلك، ووضعه مواضعه إلا بالتفقه. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءًا سمع مقالتي، فوعاها، ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه". فأخبر عليه الصلاة والسلام أنه قد يحمل الفقه، ويحفظه من لا يعرفه، ولا يفقه معناه. مسألة: [يشترط في المفتي كما يشترط في القاضي] قال: (ولا ينبغي أن يفتي إلا من كان هكذا). لقول الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم}. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا، اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا، وأضلوا". * قال أبو جعفر: (إلا أن يفتي رجل بشيء قد سمعه). قال أحمد: وذلك لأنه في هذه الحال مقلد، وقد يجوز للجاهل أن يقلد العالم.

مسألة: [لا يكون الأعمى قاضيًا] قال أبو جعفر: (ولا يصلح أن يلي القضاء أعمى). وذلك لأنه لا تجوز شهادته، فقضاؤه أحرى أن لا يجوز. مسألة: [لا يولي غيره إلا أن يجعل له ذلك] قال أبو جعفر: (ولا ينبغي للقاضي أن يولي القضاء إلا أن يكون ذلك قد جعل إليه). وذلك لأنه إنما ولي الحكم والفصل بين الخصوم، وتوليته لغيره القضاء لا تنتظمها ولايته؛ لأنها ليست من الحكم، وهو كمن وكل رجلًا لبيع عبده، فلا يجوز له توكيل غيره، لأنه إنما وكل بالبيع، وتوكيله غيره ليس من البيع. مسألة: [تأخيره إنفاذ القضاء إن طمع باصطلاح الخصمين] قال أبو جعفر: (وإذا طمع القاضي أن يصطلح الخصمان: فلا بأس عليه بتردادهما المرة والمرتين، وإن لم يطمع في ذلك: أنفذ القضاء). وذلك لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب حدثنا يونس عن ابن شهاب أخبرني عبد الله بن كعب بن مالك: "أن كعب بن مالك أخبره أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان له عليه في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في

بيته، فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف حجرته، ونادى كعب بن مالك فقال: يا كعب. فقال: لبيك يا رسول الله، فأشار له بيده أن ضع الشطر من دينك، قال كعب: قد فعلت يا رسول الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: قم فاقضه". وروي في بعض ألفاظ هذا الحديث: "أنه لازمه في المسجد". قال أحمد: وهذا الخبر ينتظم عدة أحكام: منها: جواز اللزوم للدين. ومنها: جواز لزوم الغريم في المسجد. ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر ارتفاع أصواتهما في المسجد، إذ كان كعب مطالبًا بحقه، وهو نظير ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: "إن لصاحب الحق اليد واللسان". ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالصلح. ومنها: أنه أشار إليه بيده، وقامت إشارته مقام كلامه. ومنها: أنه أمره بحط النصف، فقال: "قد فعلت"، فدل ذلك على معنيين:

أحدهما: أن قوله: "قد فعلت": لما خرج مخرج الجواب: كان كقوله: قد أبرأته من النصف. والثاني: أنه أجاز براءته بقوله، من غير قبول المبرأ. * ومما يدل على أن للقاضي أن يردهما للصلح: قول الله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خير}. ويدل عليه أيضًا قوله: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما}. وقال عمر بن الخطاب: "ردوا الخصوم كي يصطلحوا، فإن فصل القضاء يحدث بينهم الضغائن". * وأما إذا لم يطمع في الصلح: فإنه ينفذ القضاء؛ لأن الحق قد توجه لصاحبه، فلا يجوز له تأخيره إذا لم ير الصلح. * قال: (وإن أنفذ القضاء من غير ترداد للخصوم: كان في سعة من ذلك).

لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في قضايا كثيرة، أنه أمضاها حين اختصموا إليه. فمنها: ما روته أم سلمة في قصة الرجلين اللذين اختصما في مواريث قد درست، فقضى لأحدهما على صاحبه. وحديث "الأشعث بن قيس حين خاصم رجلًا من حضر موت، ففصل النبي صلى الله عليه وسلم القضية بينهما بعد أن قال: شاهداك أو يمينه، ليس لك إلا ذلك". مسألة: [الترافع إلى القضاء بعد تحكيم الخصمين رجلًا قضى بينهما] قال أبو جعفر: (وإن حكم الخصمان رجلًا، فقضى لأحدهما على الآخر، ثم رفع ذلك إلى القاضي: نظر فيه، فإن كان موافقًا لرأيه: أمضاه، وإن كان مخالفًا: لم يمضه). قال أحمد: الأصل في جواز التحكيم: قول الله تعالى: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها}. ولما "سأل الأوس رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمن على بني قريظة، قال لهم: أما ترضون أن يحكم فيها رجل منكم، قالوا:

نعم. فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة سعد بن معاذ. ولما جاء سعد بن معاذ، قال لهم: عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم فيكم بما حكمت، قالوا: نعم، قال: وعلى من هاهنا، للناحية التي فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو معرض عنه إجلالًا له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قال فإني أحكم فيها بأن يقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء. فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة". فحكمه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقبل حكومته، وأخبر بأنها حكم الله تعالى. وحكم عمر وأبي بن كعب زيد بن ثابت، وحكم عمر ورجل- كان ساومه في فرس، فنفق تحته- شريحًا، فحكم بينهما. * فإذا قضى لأحدهما على الآخر، ثم رفع إلى قاض: فإن وافق رأيه: أمضاه، وإلا: لم يمضه: من قبل أن هذا بمنزلة الاصطلاح منهما عليه؛ لن برضاهما نفذت حكومته عليهما، فكأنهما اصطلحا عليه، فإذا رفع

إلى القاضي: أمضاه إن رأى ذلك، وإلا: أبطله. ومما يدل على جواز التحكيم: أن على المسلمين كلهم إقامة الإمام الذي ينصب الحكام، فإذا ولى رجلًا القضاء، فكأن المسلمين كلهم ولوه ذلك، فإن اصطلح رجلان على حكم: جاز لهما ذلك، وكان حاكمًا في حقهما، غير حاكم في حق غيرهما. مسألة: [حكم الشهادة على الشهادة] قال: (ولا تجوز الشهادة على الشهادة في حد، ولا قصاص، وتجوز في الأموال، وفيما حكمه حكم الأموال). وإنما جازت الشهادة على الشهادة في الأموال، وفي كل حق لا تسقطه الشبهة: باتفاق السلف وفقهاء الأمصار، ولا تجوز فيما تسقطه الشبهة، كما لا تجوز شهادة النساء فيه، والمعنى الجامع بينها: أن المرأتين أقيمتا مقام رجل واحد بقوله: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان}، ثم لم تقبل شهادتهما فيما يسقط بالشبهة، ووردت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم. كذلك الشهادة على الشهادة، لما قامت مقام شهادة الأصل، وجب أن لا تقبل في كل حق يسقط بالشبهة.

مسألة: [القضاء بشاهد ويمين] قال أبو جعفر: (ولا يقضي بشاهد ويمين في شيء). قال أحمد: وذلك لأنه خلاف كتاب الله، قال الله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} إلى قوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان}. فعقلنا من الآية امتناع جواز شهادة رجل واحد، كما عقلنا منها امتناع جواز شهادة امرأتين، لا رجل معهما. فمن حكم بشاهد ويمين، فهو كمن حكم بشهادة شاهد واحد بلا يمين، وكمن حكم بشهادة امرأتين، إذ كان من مفهوم لفظ الآية بطلان جميع ذلك. ولا ينجيهم من مخالفة الآية، دعواهم أنه قد كان يجوز أن يصل بلفظ الآية: أو شاهد ويمين؛ لأن قد كان يجوز أيضًا أن يقول: أو امرأتين، أو شاهد واحد. ثم لم ينفك القائل بجواز شهادة شاهد من مخالفة الآية، وكذلك القائل بجواز شهادة امرأتين دون الرجال. * وقد قبل جماعة من التابعين شهادة رجل واحد من غير يمين

الطالب منم: إياس بن معاوية، أجاز شهادة عاصم الجحدري وحده. وقال الشعبي: "إذا رضي الخصمان بشهادة رجل واحد: جازت عليهما". وقابل الشاهد واليمين بهذه المنزلة في مخالفة الكتاب. فإن قائل: إن الذي في الآية: جواز شهادة الرجلين، والرجل والمرأتين، وليس فيها نفي للحكم على غيرهم، فهو موقوف عل الدليل، فليس إذا في قبول الشاهد واليمين مخالفة للآية. قيل له: هذا غلط من وجوه: أحدها: قوله تعالى {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان}: فأوجب قبول الرجل، والمرأتين عند عدم الرجلين، والرجلان معدومان في حال قبول الشاهد واليمين، ففي قبوله: نفي ما اقتضت الآية وجوبه، فلم تنفك من مخالفة الآية، إذا كنت مسقطًا لوجوب اعتبار الرجل والمرأتين، في حال عدم الرجلين بإجازتك شهادة الواحد. وأيضًا: إن أحدًا لا يمنع أن يقول: من قبل في الديوان شهادة امرأتين،

أو شهادة رجل واحد من غير يمين الطالب: فهو مخالف لمفهوم؟؟؟ الآية، فكذلك من قبل الشاهد واليمين. وأيضًا: فإن حكم إثبات الديون بالبينات مأخوذ من الآية، فقد؟؟؟ بما ذكر حكم جميع ما يجوز أن يستحق به الدين من البينة، فلم تبق بينة يستحق بها على الغير إلا ما ذكر فيها، فمن قبل ما دونها، فهو مخالف لحكمها. وأخرى: وهو أنه معلوم أن ذلك خطاب للحكام في قبو البينة التي تستحق بها الديون، وهو على الوجوب، فمن اقتصر على ما هو دونه من العدد: فقد خالف ما اقتضته الآية من حكم الوجوب. كما أن من اقتصر في جلد القاذف على أقل من ثمانين، وفي جلد الزاني على أقل من مائة: فهو مخالف للآية. ويدل عليه: أنه أمرنا عند عدم الرجلين بالاستظهار في أمر النساء بامرأتين، وقال: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}، فكيف لا يكون مخالفًا للآية من قبل شهادة رجل واحد مع يمين الطالب، وهو لو قبل شهادته مع امرأة واحدة، كان مخالفًا لها بتركه الاستظهار، باعتبار العدد المذكور فيها. ألا ترى أن من اقتصر في الزنى على أقل من أربعة شهداء: فهو مخالف للآية، كذلك من اقتصر في الديون على أقل من شاهدين، أو رجل وامرأتين.

فإن قيل: لو قرن إلى لفظ الآية شاهدًا، ويمين الطالب لم يمتنع، فكذلك لا يمتنع إثباته بخبر يروى فيه، كما قال تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم}. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها". وكما قال: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه}. "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع". وكقوله تعالى: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم" إلى قوله: {وأرجلكم}، ووردت السنة بالمسح على الخفين. وكما قلت في الوضوء بنبيذ التمر، مع قوله تعالى: {فلم تجدوا

ماء فتيمموا}. فكذلك لا يمتنع أن يعترض بما روي في الخبر في الشاهد واليمين على الآية؛ لأنه لو قرنه إلى الآية صح. قيل له: أما الخبر الذي يروى في الشاهد واليمين، فلم يرد من جهة صحيحة، لما سنبينه فيما بعد. ولو ورد من وجه يسكن إليه، لم يصح الاحتجاج به رأسًا لو لم يعترض على الآية، فكيف إذا خالف ظاهر الآية؟ ولو ورد من وجه لو انفرد عن الآية كان مقضيًا لإيجاب ما تضمنته من الحكم: لما جاز قبوله إذا ورد معارضًا للآية، إذ كان طريقه أخبار الآحاد، وسنفصل هذه الوجوه إن شاء الله إذا انتهينا إلى ذكره، والكلام فيه. فنقول مع تسليم الخير، وجواز استعماله لو انفرد عن الآية: إنه لما ورد معارضًا لمفهوم لفظ الآية على الوجه الذي ذكرنا: لم يجز الاعتراض به عليها، وذلك لأن قوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}، يقتضي أن يكون ما يقطع به الحكم العدد المذكور فيه، والشاهد واليمين، لا ينتظمهما هذا اللفظ. ولا يصح عطفهما عليه؛ لأن الطالب لا يجوز أن يكون مستشهدًا على ما يحلف عليه، إذ كان المدعي لا يصلح أن يكون شاهدًا، إذ معقول في

الشرع وفي مفهوم خطاب أهل اللغة الفرق بين الشاهد والمدعي، فإن المدعي للشيء: لا يكون شاهدًا فيه. وإذا كان هذا هكذا، فغير جائز أن يقول تقدير الآية: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان}، أو شاهد ويمين؛ لأن الحالف المدعي ليس بشاهد، ولا ينتظمه اللفظ، ولا يصح عطفه عليه. * وجهة أخرى: وهي أن فيه نسخ حكم الآية، لأنك تقبل الشاهد واليمين في كل موضع يقبل فيه الرجل والمرأتان، فليس فيه تخصيص الآية، وإنما فيه نسخها، وذلك لأن التخصيص على وجهين: تخصيص الحال، وتخصيص الاسم. فتخصيص الحال: كقوله: {وأرجلكم}، فورد الخبر بالمسح في حال لبس الخفين، دون حال ظهور الرجلين. وتخصيص الاسم: كقوله تعالى: {وأحل الله البيع}، فورد الخبر بالنهي عن بيع ما ليس عند الإنسان، وعن بيع ما لم يقبض، فخص بعض البياعات، وبقي البعض على حكم الآية.

وخبر الشاهد واليمين خارج من هذين الوجهين، فهو على وجه النسخ، لا على وجه التخصيص؛ لأنه لا موضع تقبل فيه شهادة الرجل والمرأتين، إلا قبلت فيه الشاهد واليمين، فأسقطت به مقتضى الآية من وجوب استشهاد الرجلين، أو الرجل والمرأتين. فإن قيل: ما جاز ضمه إلى الآية في خطاب واحد، لا يكون نسخًا. قيل له: هذا غلط؛ لأنه لا يستحيل أن يقال: صلوا إلى الكعبة، وإن شئتم إلى بيت المقدس، ثم قالت الأمة: إن الصلاة إلى بيت المقدس منسوخة بالتوجه إلى الكعبة، وكذلك سائر ما نسخه الله من الأحكام، لا يستحيل ورود الخطاب به على وج التخيير بينه وبين الناسخ، ثم لم يمنع جواز ذلك فيه في الابتداء، من أن يكون الأمر الثاني ناسخًا للأول. * وأما قوله: {وأحل لكم ما وراء ذلكم}، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها"، ففيه جوابان: أحدهما: أن هذا لم يكن قط لفظ عموم يمكن استعمال ظاهرة لو لم يرد خبر في تخصيصه، وذلك لأنه علق الحكم فيه بوصف مجمل مفتقر إلى البيان، وهو قوله في نسق الخطاب: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين}، والإحصان لفظ مجمل، لا يصح استعماله على ظاهره، ولأن الإحصان لا

يقع إلا بنكاح صحيح، فيحتاج أن تثبت صحة النكاح. والثاني: أن قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تنكح المرأة على عمتها"، قد روي من طريق التواتر، وتلقاه الناس بالقبول، فاستعملناه في تخصيص الآية، لا في نسخها، وأخرجنا به بعضها، وبقينا البعض على ما اقتضاه ظاهرها، كما قلنا في قوله: {وأحل الله البيع}، و"نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن بيع ما ليس عنده". * وأما قوله: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرمًا}، و"نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، والحمر الأهلية"، ففيه جوابان أيضًا: أحدهما: تخصيص العموم على الوجه الذي ذكرنا. والآخر: أنه لم يكن وقت نزول الآية محرم غيرها، والآية إنما تضمنت الإخبار عما كان محرمًا في الحال، فليس في نزول تحريم أشياء غيرها، ما يوجب نسخ الآية. * وأما جواز الوضوء بنبيذ التمر مع قوله: {فلم تجدوا ماء فتيمموا}: فليس مما ذكرنا في شيء؛ لأن قوله: {فلم تجدوا ماء

فتيمموا}: مقتضاه وظاهره: امتناع جواز التيمم مع وجود جزء من الماء، لأن قوله: ماء: لفظ منكر، ويتناول أجزاء منه، قليلًا كان أو كثيرًا، مخالطًا كان لغيره أو منفردًا، فلما كان نبيذ التمر ماء إذ لا يمتنع أحد أن يقول: فيه ماء: امتنع جواز التيمم بالطاهر، مع وجود نبيذ التمر. وأيضًا: فإن استعمال الخبر مع الآية جار على الأصل الذي ذكرنا، من امتناع جواز الاعتراض بأخبار الآحاد على ظاهر الآية إلا بأحد وجهي التخصيص، وهو تخصيص الاسم، أو تخصيص الحال، وخبرنا من القبيل الثاني؛ لأنه خص ذلك بحال دون حال، وهو حال عدم الماء والنبيذ جميعًا، فليس في استعمال خبر نبيذ التمر ما يوجب نسخ حكم الآية. فإن قيل: فقد قبلتم شهادة القابلة وحدها في الولادة، وشهادة المرأة الواحدة فيما لا يطلع عليه الرجال، وحكمتم بالنكول، وإقرار المدعى عليه، ولم تكونوا به مخالفين للآية، فلم تنكروا مثله في الشاهدة واليمين؟ قيل له: هذا كلام من لم يفهم ما قدمنا، وذلك لأن الآية إنما وردت في شأن المداينة، فكلف المدعي تصحيح دعواه بما ذكر من عدد الشهود، فقلنا لا يجوز أن يستحق المدعي بينة يقيمها إلا على الشرط المذكور في الآية. فأما الولادة، فحكمها موقوف على الدلالة، إذ لم نجد لها في الآية ذكرًا. وأما الاستحقاق بإقرار المدعى عليه، والنكول: فليس مما نحن فيه من شيء، من قبل أن الآية إنما أفادت أن الاستحقاق من جهة المدعي ببينة يقيمها: هو ما كان بالوصف المذكور فيها، فأما ثبوت الحق من جهة

المدعي عليه، فلم يجر له ذكر في الآية. * ويدل على أن الشاهد واليمين مخالف للآية، قوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء}، فأوجب ذلك بطلان اليمين والشاهد من وجهين. أحدهما: أنه قال: {ممن ترضون من ...}، وليس المدعي ممن ترضى لاستحقاق ما يدعيه بقوله، ومن أوجب استحقاق المال بقوله من لا يرضى، فقد خالف حكم الآية. ومن فحش مذهب القائل بالشاهد واليمين، أنه يستحلف المدعي إن كان ذميًا مع شهادة المسلم، ويوجب له الحق، وزعموا أن يمين الطالب قائمة مقام المرأتين، فينبغي أن تقبل المرأتان إذا كانتا من أهل الذمة، كما قبل يمين الذمي، بل شهادة المرأتين الذميتين أبعد من التهمة من يمين الطالب الذمي، وينبغي أن يكون الذمي ممن نرضى من الشهداء، حتى إذا شهد على مسلم كان مقبول الشهادة. فإن قال: فإنما قبلت يمينه، لا شهادته. قيل له: فاقبل يمين الذمي إذا كان شاهدًا، واحكم به؛ لأن ذميًا يحلف لغيره، ويشهد بما يحلف عليه، آكد من أمر ذمي يحلف لنفسه. فإن قيل: لأن الذمي إذا كان شاهدًا، فيمينه لغو. قيل له: وكذلك الذمي، إذا كان مدعيًا، فيمينه لغو؛ لأنه لا يمين عليه إذا كان هو المدعي، ألا ترى أنه لو حلف خمسين يمينًا من غير شاهد ولم

يستحق شيئًا. والوجه الثاني الذي ذكرنا من دلالة الآية أيضًا: قوله: {من الشهداء}. والشاهد الواحدة لا يتناوله اسم الشهداء، وقال أيضًا في نسق الآية: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا}. [أدلة بطلان الحكم بالشاهد واليمين من جهة السنة] ويدل على بطلان الحكم بالشاهد واليمين من جهة السنة: حديث الأشعث بن قيس: "أنه كان بينه وبين رجل خصومة، قال: فاختصما إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال لي: شاهداك، أو يمينه، ليس لك إلا ذلك". وفي بعض ألفاظ هذا الحديث: "شهودك، أو يمينه". وفي بعضها: "بينتك، أو يمينه". فكل صحيح يجوز أن يكون قد قال هذه الألفاظ كلها، حين كرر الأشعث القول بأنه لا يبالي أن يحلف، فنفى عليه الصلاة والسلام أن يستحق ما ادعى إلا بشاهدين، أو يمينه في حال الجحود. فإن قيل: فلم يذكر الرجل والمرأتين، وهو يستحق بذلك مع ترك ذكرهم في الخبر، فكذلك الشاهد واليمين.

قيل له: قوله: "شاهداك": ينتظم الرجل والمرأتين، وذلك لأن الشاهدين في الشرع قد صار اسمًا للرجل والمرأتين، بقوله: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان}، ومعناه: فإن لم يكن الشهيدان رجلين، فالشهيدان رجل وامرأتان. وأيضًا: قد قال لفظًا آخر: "شهودك"، فدخل فيه الرجل والمرأتان. وأما الإقرار والنكول: فلم يدخلا فيه؛ لأن الرجل كان منكرًا للحق غير مقر، ولا ناكل. وعلى أن ظاهر الخبر ينفي ذلك كله، فلا تثبت شيئًا غير ما في الخبر إلا بدلالة. * ويدل عليه أيضًا: حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام: "لو أعطي الناس بدعاويهم، لادعى ناس دماء ناس وأموالهم، ولكن البينة على المدعى، واليمين على المدعى عليه". فهذا الخبر يدل على وجوه على بطلان الحكم بالشاهد واليمين: أحدهما: حكمه عليه الصلاة والسلام بأن لا يعطى أحد شيئًا بدعواه، ويمين الطالب: دعواه؛ لأن مخبره في الحالين واحد: حلف، أو ادعى ولم يحلف، واليمين تأكيد لدعواه، فامتنع الأخذ بيمينه. والثاني: أن دعواه: قوله، فلما منع أن يستحق بها، استدللنا بذلك على أنه غير جائز لأحد أن يستحق بقوله على غيره شيئًا.

والثالث: قوله: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه": فأفاد أن البينة غير اليمين، وجعلها على المدعي، وجعل اليمين على المدعى عليه، فلا جائز نقل اليمين عن موضعها، كما لم يجز نقل البينة عن موضعها. فإن قيل: يمين الطالب مع شاهده بينة. قيل له: وكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اليمين على المدعي، واليمين على المدعى عليه: على قولك، وهذا خلف من القول. وأيضًا: قد فرق بين البينة واليمين، فكيف تكون اليمين بينة؟ وأيضًا: عطفها على البينة، والشيء لا يعطف على نفسه، إنما يعطف على غيره، فالظاهر يقتضي أن يكون غيرها، إلا أن تقوم الدلالة على دخولها في معناها. وأيضًا: قد بين النبي عليه الصلاة والسلام معنى البينة في خبر الأشعث حين قال: "شاهداك، أو يمينه"، فالبينة ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضًا: قد اتفقوا على أن المدعي لو لم يكن له شاهد واحد: لم يستحلف، واستحلف المدعى عليه، فدل على أن البينة ليست هي اليمين، وأن اليمين غير البينة، فلا جائز أن يستحلف المدعي بحال إذا كان قوله: "واليمين على المدعى عليه": عامًا لجميع الأيمان، وفي سائر الأحوال؛ لأنه اسم للجنس بإدخال الألف واللام عليها، فلم يبق هناك يمين تكون على المدعي.

وأيضًا: قد وردت السنة برد شهادة الظنين، والجار إلى نفسه، واتفق عليه أهل العلم، فكيف يجوز أن يستحق بيمينه، وتقوم يمينه مقام شاهد؟ وشاهده لو كان ظنينا في شهادته، كانت شهادته مردودة، فالذي يدعيه لنفسه، أحرى أن يكون قوله ويمينه مردودين، وكيف لا يكون متهمًا في يمينه، وهو متهم في دعواه؟ وأن من استجار أن يدعي ما ليس له بحق: لم يمنع تجويز حلفه عليه، فإن كان مهتمًا في نفس دعواه، فواجب أن يكون كذلك في يمينه. وأيضًا: فإن البينة موضوعة للاستحقاق، واليمين لنفي الدعوى للاستحقاق، فلو جاز أن يستحق باليمين، جاز أن تقبل البينة على نفي الحق، وذلك باطل عن الجميع. * وأما الأخبار المروية في الشاهد واليمين: فإنها واهية ضعيفة، لفساد طرقها على مذهب أهل النقل، وسمعت بعض أهل المعرفة بالحديث، يقول: جهدت أن أجد حديثًا في الشاهد واليمين، فلم أجده.

ولو استقام سندها، واتصل نقلها: لم يجز الاعتراض بها على القرآن على أصلنا. فأحدها: ما روي في ذلك حديث سيف بن سليمان المكي عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد". وهذا عندهم حديث منكر؛ لأن قيس بن سعد لا تعرف له رواية عن عمرو بن دينار، ولأن سيف بن سليمان ضعيف، لا يحتج بروايته في إثبات السنن. وذكر عن علي ابن المديني أنه قال: غلط سيف في هذا الحديث، إنما هذا حديث: "أن جارتين كانتا تخرزان". والحديث المعروف الذي رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه".

الثاني: وروي عن ربعية عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام مثله. قال عبد العزيز الدراوردي: فلقيت سهيلًا، فسألته عن هذا الحديث، فلم يعرفه. قال سليمان بن بلال: فقلت له: إن ربيعة يرويه عنك، فقال: إن كان هذا يرويه عني، فهو كما قال، فكان يقول بعد ذلك: حدثني ربيعة عني. ومثل هذا لا يحتج به عاقل في إثبات شرعية، يعترض بها على مخالفة القرآن. الثالث: وقد روى عثمان بن الحكم عن زهير بن محمد عن سهيل عن أبيه عن زيد بن ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام مثله، وهذا يفسد الحديث الأول. وهو أيضًا في نفسه فاسد، من قبل أن ربيعة رواه عن سهيل بن أبيه عن أبي هريرة. ورواه عثمان بن الحكم عن زهير عن سهيل عن أبيه عن زيد بن ثابت. ولو كان هذا صحيحًا عنه، لقال لعبد العزيز حين سأله: ليس عندي عن أبي هريرة، وإنما عندي عن زيد بن ثابت.

وعثمان بن الحكم: عندهم واه، لا يحتج بروايته. وهو أيضًا منكر، من جهة أن أبا صالح لا تعرف له رواية عن زيد بن ثابت. فإن قيل: نسيانه بعد روايته لا يبطل حديثه، وقد ذكر أن سهيلًا أصابته علة، فنسي أكثر حديثه. قيل له: إن اعتبرت جواز النسيان، فجائز أن يكون نسي في ابتداء روايته، فروى ما ظن أنه قد سمعه، وإنما أصله عن غير النبي عليه الصلاة والسلام. * ويدل على فساد حديث سهيل: ما حدثنا ابن قانع قال: حدثنا حماد بن محمد قال: حدثنا شريح قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا سوار القاضي قال: قلت لربيعة: قولكم في شهادة شاهد، ويمين صاحب الحق، قال: وجدت ذلك في كتاب سعد. * وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك قال: حدثنا أبو الجماهير محمد بن عثمان التنوخي قال: حدثنا سليمان بن بلال قال: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن إسماعيل بن عمرو بن سعد بن عبادة عن أبيه، أنهم وجدوا في كتاب سعد بن عبادة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد الواحد".

ولو كان حديث سهيل صحيحًا عند ربيعة، لما لجأ في سؤال سوار إياه إلى ما وجد في كتاب سعد. ورواه عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام. ووافقه على وصله إبراهيم بن اليسع عن جعفر بن محمد، وقد خالفهما في ذلك الحفاظ، فلم يذكروا فيه جابرًا، مثل مالك وسفيان الثوري، روياه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي عليه الصلاة والسلام، فحصل هذا الخبر مرسلًا على أصلهم. وقد روي عن عبد المنعم بن بشير عن عبد الله بن عمرو عن نافع عن ابن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام، وعبد المنعم لا يحتج به عندهم. * ومما يدل على فساد هذا الحديث: أن ذلك لم يزل مستنكرًا في الأمة، السلف والخلف، لا نعلم أحدًا من أهل العلم قضى به فيما بلغنا. وقد قال الزهري: "إن معاوية أول من قضى باليمين مع الشاهد"، وأنه بدعة، وكان الأمر على غير ذلك.

فلو كان ثابتًا عن النبي عليه الصلاة والسلام، كيف كان يخفى على الزهري؟ وهو من أجل علماء أهل المدينة في عصره، ولم يرد القضاء باليمين مع الشاهد إلا من طريق أهل المدينة. فهذه الأخبار كلها مختلطة ظاهرة الاختلال والفساد على مذهب أهل النقل، وعلى أصلنا: لو استقام سنده من طريق الآحاد: لم يصح قبوله في مخالفة القرآن له. * وعلى أنا لو سلمنا لهم صحة نقلها، لما صح الاحتجاج بها، وذلك لأن قوله: "قضى رسول الله عليه الصلاة والسلام باليمين مع الشاهد": لا يمكن استعمال حكمه بحال؛ لأنه إنما ذكر فعلًا كان من النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يذكر المحكوم به، ولا المحكوم عليه أوله، وهذا مثل رواية راو لو روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى بالخيار، أو قضى بفسخ بيع، أو قضى بالشفعة، ولم يذكر فيه جوارًا، ولا شركة، فهذا حكم مجهول لا يصح اعتبار غيره به، حتى تعلم حقيقته، إذ ليس هو عموم لفظ من النبي عليه الصلاة والسلام، فيعتبر فيه لفظه، وإنما كانت قضية خاصة، لا يدري ما هي؟. وأيضًا: فلما كان ذلك قضية من النبي عليه الصلاة والسلام في شيء بعينه، يجوز أن يكون على معنى تقول به وتحبذه، فسقط الاحتجاج به، لإمكان أن يكون واردًا على الوجه الذي يصح عندنا، وهو أن يكون قبل

شهادة الطبيب أو المرأة في عيب لا يطلع عليه غيرهما، واستحلف المشتري بعد ذلك بالله ما رضي بالعيب، فيكون قاضيًا في رد المبيع بشاهد واحد، مع يمين المشتري. وإذا احتمل أن يكون القضاء بالشاهد واليمين على هذا الوجه، سقط الاحتجاج به؛ لأن مخالفنا ليس بأسعد في صرفه إلى ما يدعيه منا إلى ما يوافق قولنا، إذ ليس هو عموم لفظ من النبي عليه الصلاة والسلام، فينتظم جميع ما يتناوله الاسم. فإن قيل: كل قضية وقعت من النبي عليه الصلاة والسلام في شيء لحكم من الأحكام، فذلك الحكم لازم في سائر الأشياء مما هو من نظائره، إلا أن يقوم الدليل على أنه مقصور على بعض الأشياء دون بعض. قيل له: هذا إذا لم يختلف حكم ما يقع القضاء فيه، فأما إذا كان مختلفًا، فيقبل في بعضها شهادة شاهد، ولا يقبل في بعض، فغير جائز الحكم بورود قضية مبهمة، حتى يعلم من أي القبيلتين هي، ثم يعتبر في نظائرها من المسائل. وأيضًا: فإنه ليس يمتنع أن يكون معنى قولهم: قضى باليمين مع الشاهد: أنه قضى باليمين والبينة، وقضى باليمين والشاهدين، وأطلق اسم الشاهد، وأراد به الجنس لا العدد؛ لأن اسم الشاهد قد يطلق على الجماعة، كما يقال للجماعة: رسول، وعدل وخصم، ونحو ذلك. قال الله تعالى: {فقولا إنا رسول رب العالمين}، وقال تعالى: {وهل

أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب}، فكذلك الشاهد قد قال أهل اللغة إنه يصح إطلاقه، ويراد به الجنس، فيتناول الجماعة، وتكون فائدته حينئذ: أنه قضى باليمين في موضعها، وبالبينة في موضعها، كما روي عن شريح في قوله تعالى: {وفصل الخطاب}: قال: الشهود والأيمان، ومعلوم أنه لم يرد به جمعها جميعًا في حال واحدة. وأيضًا: يحتمل أن يكون معناه: قضى باليمين على المدعى عليه، مع شاهد المدعي، وأبان أن وجود شاهده وعدمه سواء في باب وجوب اليمين على المدعى عليه. ويحتمل أن يريد: أنه قبل بينة المدعي، وادعى المدعى عليه قضاء المال، فحلف المدعي ما اقتضى. ويحتمل أن يكون قضى بشهادة خزيمة بن ثابت، الذي جعل شهادته بشهادة رجلين وحده بالمال، وحلف المدعي بالله ما اقتضى، لدعوى المدعى عليه ذلك.

مسألة: [القضاء في الزنى] قال أبو جعفر: (ولا يقضى في الزنى بأقل من أربعة رجال). وذلك لقول الله تعالى: {والتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهم أربعة منكم}. وقال: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة}. وقال النبي عليه الصلاة والسلام لهلال بن أمية حين قذف امرأته: "ائتني بأربعة يشهدون، وإلا فحد في ظهرك". مسألة: [حكم الأخذ بشهادة من رد القاضي شهادته سابقًا] قال أبو جعفر: (ومن رد القاضي شهادته لتهمة اتهمه بها، أو لأنه زوج لامرأة شهر بها: لم يقبله بعد ذلك أبدًا). قال أحمد: وذلك لأن الذي جاء بالشهادة هو من أهل الشهادة، فلما

حكم الحاكم ببطلانها: لم يجز بعد ذلك قبولها؛ لأن الحاكم لا يجوز له فسخ حكمه إلا بحكم مثله. وأيضًا: فإنه لما ردها لتهمة، فلم ترتفع التهمة من جهة الحكم، فلا يجوز قبولها أبدًا. * قال: (فإن كان ردها لكفر أو رق، أو صبا، ثم أسلم الكافر، وأعتق العبد، وبلغ الصبي: قبل شهادتهم تلك إن أعادوها). قال أحمد: وذلك لوجهين: أحدهما: أن المعنى الذي من أجله رددنا شهادته: محكوم يزاوله؛ لأن الحاكم يجوز حكه بالعتق، والبلوغ، والإسلام، فلما كانت هذه الأشياء مما يجوز ثبوته من طريق الحكم، ثم حكم به الحاكم، فقد حكم بزوال ما من أجله ردت شهادتهم: فجازت. وليس كذلك الشهادة المردودة للتهمة؛ لأن زوال التهمة لا يكون من طريق الحكم. والوجه الآخر: أن هؤلاء ليسوا بشهود أصلًا؛ لأن بطلان شهادتهم واقعة من جهة الحكم، إذ الرق والصغر والكفر، مما يصح به الحكم، فلما لم يكونوا شهودًا: لم يقع من الحاكم حكم أصلًا ببطلان شهادة أقاموها، فإذا شهدوا بعد زوال تلك الحال، فإنما ابتدؤوا الشهادة في الحال، فيقبلها، إذ ليس هناك مانع من قبولها. ويدلك على أنهم ليسوا من أهل الشهادة: أن أربعة عبيد أو كفار، لو شهدوا على رجل بالزنى: حدوا، ولو كانوا فساقًا: لم يحدوا؛ لأنهم من

أهل الشهادة. مسألة: [حكم طلب المدعي استحلاف الخصم] قال أبو جعفر: (وإذا طلب المدعي من القاضي استحلاف خصمه فيما خاصمه إليه فيه: استحلفه له: وقف قبل ذل على أن بينهما مخالطة أو ملابسة، أو لم يقف). وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه". ولم يفرق بين من قد خالطه قبل ذلك، أو لم يخالطه. وقال النبي عليه الصلاة والسلام في قصة الأشعث بن قيس: "ألك بينة؟ قال: لا. قال: فيمينه". وكذلك في حديث وائل بن حجر، ولم يسأله هل كان بينهما مخالطة أم لا. مسألة: قال أبو جعفر: (ولا يستحلف في الحدود). قال أحمد: لا خلاف بين فقهاء الأمصار في نفي الاستحلاف في

الحدود التي هي حقوق الله تعالى، والمعنى فيها عند أبي حنيفة: أنها لا يصح بذلها من جهة الحكم. وعند أبي يوسف ومحمد: أن ما لا تقبل فيه الشهادة على الشهادة، وشهادة النساء: لم يحكم فيه بالنكول؛ لأن النكول قائم مقام الإقرار ليس بصريحه، فلا يصح أخذه بما يقوم مقامه غيره. فقال أبو حنيفة على هذا الأصل: لا يستخلف في دعوى النكاح، والفيء في الإيلاء، والرجعة بعد الطلاق، وفي دعوة الرق، والولاء، والاستيلاء، والنسب، والمعنى في جميع ذلك: أنه لا يصح بذله من جهة الحكم، والنكول بذل، فلا يصح أخذه بالنكول، وإذا لم يؤخذ بالنكول: لم يصح الاستحلاف عليه؛ لأنه يمكنه أن ينكل، ولا يلزم به شيء، فلا تكون اليمين حينئذ حقًا للمدعي، لأنها لو كانت حقًا له، لم يصح له إسقاطها عن نفسه بغير حق يلزمه، فثبت أن ما لا يصح أخذه بالنكول: لا يستحلف عليه. وأيضًا: لما لم يصح بذلها: أشبهت الحدود، فلم يستحلف فيها، كما لا يستحلف في الحدود. والدليل على أن النكول بذل: أن المدعى عليه مخير مع براءته من الحق بين أن ينكل أو يحلف، وهذه صورة البذل، أن يكون مخيرًا بين فعله وتركه مع عدم لزوم الحق، كالهبة لما كان الإنسان مخيرًا بين فعلها وتركها، من غير حق يلزمه، صار ذلك بذلًا. وأيضًا: فلما لم يثبت للنكول حكم بنفسه، دون انضمام معنى آخر إليه، وهو قضاء القاضي به: كان بذلًا، كالهبة لما لم يثبت حكمها إلا بانضمام معنى آخر إليه، وهو القبض: كانت بذلًا، كذلك النكول.

وينفصل الإقرار من النكول بالوجهين اللذين ذكرنا: أحدهما: أنه غير مخير في الإقرار؛ لأنه لا يخلو من أن يكون الحق عليه، أو ليس عليه، فإن كان عليه: لم يسعه غير الإقرار، وإن لم يكن عليه: لم يسعه الإقرار، لأنه كذب. وأيضًا: فإن الإقرار حكمه ثابت بنفسه، لا يحتاج في صحته إلى انضمام معنى آخر إليه، فلم يكن بذلًا؛ لأن حكم البذل في الأصول لا يصح بنفسه إلا بانضمام معنى آخر إليه، كالهبة في حاجتها إلى القبض، والنكول في افتقاره إلى حكم الحاكم. ومعنى قولنا: إنه لا يصح بذله من طريق الحكم: أن رجلًا لو سرق، فقال للمسروق منه: اقطع يدي، فقطعها: لم يكن هذا حدًا. وكذلك لو قذفه، فقال: اجلدني، فجلده: لم يكن ذلك حدًا، وكان له أن يطالب عند الحاكم بحده. ولو وجب له قبله قصاص في اليد، فقال: اقطع يدي، فقطعها: كان مستوفيًا لحقه من القصاص. فهذا معنى قولنا: إنه لا يصح بذله من جهة الحكم، أو يصح. وكذلك لو أن امرأة بذلت بضعها لرجل، فوطئها: لم يكن لبذلها تأثير، وكان الحد واجبًا عليه، وكذلك لو أرق نفسه لرجل، أو بذل له ولاء العتق، أو الاستيلاد: لم يكن لبذله حكم، فلم يصح أخذها بالنكول على قوله. فإن قيل: والنفس لا يصح بذلها للإتلاف من جهة الحكم، ويستحلفه أبو حنيفة فيها. قيل له: النفس يصح بذلها من جهة الحكم؛ لأن رجلًا لو قال لرجل:

اقتلني، فقتله: لم يكن عليه شيء، فقد صح لبذله حكم. وقد روي عنه: أن عليه الدية استحسانًا. ولسنا نعني بصحة البذل الإباحة، وإنما المعنى فيه ما قلنا، من ثبوت حكم بذله لما بذل. * وأما أبو يوسف ومحمد: فإنهما يستحلفان في ذلك كله، إلا في الحدود خاصة، والنكول عندهما قائم مقام الإقرار، وليس بصريح الإقرار، ومنزلتهما من الإقرار كمنزلة الشهادة على الشهادة من شهادة الأصل، فما لا يحكم فيه بالشهادة على الشهادة: لم يصح أخذه بالنكول، وما يجوز أن يؤخذ فيه بالشهادة على الشهادة: جاز أخذه بالنكول. ومع ذلك يستحلفان في النفس وما دونها، فإذا نكل: حكمًا عليه بالدية. ولو أن شاهدين على شهادة شاهدين شهدا بقتل عمد: لم يحكما فيه بقود ولا دية. مسألة: [حكم الناكل بعد تكرار اليمين عليه] قال أبو جعفر: (من جبت عليه يمين في شيء، فنكل ولم يحلف: كرر عليه القاضي ذلك ثلاث مرات، يعلمه فيها أنه إن لم يحلف قضى عليه، فإذا لم يحلف بعد ثلاث: قضى به عليه، إلا في دعوى القصاص في النفس، فإن أبا حنيفة يحبسه حتى يقر، أو يحلف).

قال أحمد: يروى الحكم بالنكول عن عثمان، وابن عباس، وأبي موسى رضي الله عنهم. والدليل على وجوب الحكم بالنكول فيما وصفنا: أن قطع الخصومة من حق المدعي، والدليل عليه: أن القاضي يحول بين المدعى عليه وبين تصرفه وأشغاله؛ لإحضاره للخصومة، وإذا كان كذلك، ولم يجز عندنا رد اليمين على المدعي للدلائل الموجبة، كذلك لم يجز حبسه ووقوف الخصومة؛ لأن فصل الخصومة من حق المدعي، فينبغي أن يلزمه الحق المدعى بالنكول إذا لم ير هناك وجهًا ثالثًا. وجهة أخرى: وهي اتفاق الجميع على أن النكول قد أوجب للمدعي حقًا: فقال قائلون: هو رد اليمين على المدعي. وقال آخرون: الحبس. وقلنا: لزوم الحق للمدعي، فلا جائز أن يكون ذلك الحق هو رد اليمين؛ لأن المدعي لا حق له في رد اليمين عليه. ولا يجوز أيضًا أن يكون الحبس؛ لأنه لا فائدة له فيه، فلا يبقى هناك حق يلزمه غير الحق المدعى، فوجب أن يكون الحق الذي لزمه بالنكول، هو الحق المدعى. وأيضًا: فإن الحبس لا يجب إلا على وجه العقوبة، ولم يفعل ما

يستحق به العقوبة، فلا يجوز حبسه. والدليل على بطلان قول من قال برد اليمين: قول النبي عليه الصلاة والسلام: "لو أعطي الناس بدعاويهم، لادعى ناس دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه". ودلالة هذا الخبر على ما ذكر من وجوه: أحدهما: أنه منع أن يعطى أحد بدعواه شيئًا، ويمينه: دعواه، لا فرق بينهما، إلا أنها في أحد الوجهين: دعوى لا يمين معها، وفي الآخر: دعوى معها حلف بالله تعالى، ولا يخرجه حلفه عليه من أن يكون خائفًا على الدعوى، وقد منع أن يعطى أحد شيئًا بدعواه. فإن قيل: فالمدعى عليه منكر، ولا يبرأ من حق المدعي إلا باليمين، فقد افترق حكم الإنكار باليمين، وحكمه إذا حلف عليه، فكذلك المدعي. قيل له: لا يستحق المدعى عليه بيمينه شيئًا، وإنما يقطع الخصومة في الحال، ولا يبرأ بها أيضًا من الحق؛ لأن المدعي لو أقام البينة بعد ذلك: قبلت بينته، وإنما منعنا أن يستحق أحد بدعواه شيئًا، وليس المدعى عليه مدعيًا، ولا يستحق بيمينه شيئًا، فهذا سؤال ساقط. والوجه الثاني من دلالة الخبر: أن دعواه لم كانت قوله، ولم يجز أن يستحق بها شيئًا، وجب أن لا يستحق بيمينه أيضًا، إذ كانت قوله. وأيضًا: كل قول يتهم فيه قائله: لا يجوز أن يكون حجة في

الاستحقاق، ألا ترى أن الشهادة إذا جر بها الشاهد مغنمًا: لم تجز، فكذلك الحالف، لا يجوز أن تكون يمينه حجة في الاستحقاق لنفسه. وأيضًا: قال الله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء}، وهو فليس يرضى في الشهادة لنفسه في استحقاق ما يدعيه، كذلك لا يجوز أن يكون رضا في الاستحقاق بيمينه. فإن قيل: إذا رضي الخصم برد اليمين عليه، هلا حلفته؟ قيل له: ليس لرضا الخصم تأثير في تغيير الحكم؛ لأنه لو رضي بأن يشهد عليه فاسق أو ذمي: لم يعمل برضاه في ذلك. ووجه آخر: وهو قوله: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه": ومعلوم أن المدعى عليه هو الذي يدعى عليه في ذمته، أو في يده، بدلالة أنهما إذا تقدما إلى الحاكم: طالب الخارج والمدعي للدين بإقامة البينة، فإن لم تكن له بينة: طالب المدعى عليه باليمين، فصح أنه هو المراد بالخبر. وقوله: "اليمين على المدعى عليه": قد يشمل سائر الأيمان؛ لأنه يتناول الجنس، فلا يبقى يمين إلا وقد انطوت تحت اللفظ، وهي على المدعى عليه، ولم يبق هناك يمين يكون على المدعي. وأيضًا: قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث الأشعث بن قيس،

وحديث وائل بن حجر: "شاهداك، أو يمينه"، وفي بعض الألفاظ: "بينتك، أو يمينه، ليس لك إلا ذلك"، فنفى بذلك أن يكون اليمين على المدعي بحال. فإن قيل: لم يمنع ذلك ثبوت الحق له بالنكول وبالإقرار. قيل له: عموم الخبر ينفي جميع ذلك، وإنما أثبتنا حكم النكول والإقرار بدلالة أخرى. وأيضًا: تبين أنك إذا لم يثبت لك الحق من جهته بإقرار، أو بما يقوم مقامه، فلا حق لك إلا ببينة تقيمها، أو يمينه، فنفى بذلك أن يستحق بيمينه شيئًا. وأيضًا: اليمين جعلت في الأصل لنفي الدعوى، لا للاستحقاق؛ لأن المدعى عليه إنما هو ناف لدعوى المدعي، ليس يروم بجحوده استحقاق شيء، والبينة موضوعة للاستحقاق، فلو جاز أن تجعل اليمين للاستحقاق، لجاز أن تكون البينة للنفي. وأيضًا: فيمين المدعى عليه الخصومة، وهي حق عليه لقوله: "اليمين على المدعى عليه"، فإذا لزمه قطع الخصومة باليمين، فامتنع منها: وجب أن يقطعها بلزوم الحق، ولا يحبس، إذ ليس تنقطع بالحبس. فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: "أتلحقون وتستحقون دم صاحبكم؟ ".

قيل له: قد أنكر جماعة من السلف هذا اللفظ، منهم عمرو بن شعيب، وعبد الرحمن بن بجيد، وقالوا: لقد وهم سهل بن أبي حثمة في هذه اللفظة. ولو ثبتت كانت على جهة النكير، كقوله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون}، وقد يبنا ذلك فيما سلف من القسامة. وعلى أنه كيف يحتج خصم بهذا الحديث وهو لا يحكم به في الحقوق على الوجه الذي ورد في القسامة، وذلك لأنه روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى اليهود أن يحلف منكم خمسون رجلًا، فقالوا: نحلف، فقالت الأنصار: لا نرضى بأيمان اليهود، فقال لهم: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ ". فقد بذلك المدعي عليهم اليمين. ولا خلاف أن اليمين لا ترد على المدعي في سائر الحقوق، مع بذلك المدعى عليه اليمين، وأن عدم رضا المدعي بيمين المدعى عليه، لا يوجب رد اليمين عليه. فإن قيل: روي: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، إلا في القسامة".

قيل له: ليس ذلك عن النبي عليه الصلاة والسلام، والذي عن النبي عليه الصلاة والسلام مطلق، ليس فيه ذكر القسامة، إنما روي ذلك عن بعض السلف. وعلى أنه لو ثبت، كان معناه: إلا في القسامة، فإن اليمين على من لم يدع عليه القتل. وأيضًا: إلا في القسامة، فإنه لا يبرأ من الدية مع اليمين. فصل: [في بيان وجه تكرار اليمين على الناكل] وأما وجه تكرار القول عليه ثلاثًا: فلأن النكول لا يتعلق به لزوم الحق إلا بقضاء القاضي به، فيحتاط له بتكرار اليمين عليه، فعسى أن يحلف، ولأن اليمين حق قد لزمه، فيأمره بالخروج منه، كما أنه لو أقر بالمال، أو قامت علي البينة، أمره بالخروج منه، وكرر ذلك عليه، فإن أبى: حبسه حينئذ إن طلب المدعي حبسه، كذلك لزوم المال بالنكول. مسألة: [نكول المدعى عليه عن اليمين في دعوى القصاص] قال أبو جعفر: (إن ادعى عليه قصاصًا في نفس، فإن أبا حنيفة كان يقول: يحبسه حتى يحلف، أو يقر). قال أحمد: كان القياس عنده: أن يحكم عليه بالقصاص بالنكول؛

لأنه مما يصح بذله من جهة الحكم على ما بينا، إلا أنه ترك القياس فيه، فلم يأخذه بالنكول؛ استعظامًا لأمر الدم، ولأنه قد خولف به سبيل سائر الحقوق في استعظام أمرها. ألا ترى أنه تجب القسامة إذا وجد قتيل في محلة، ولا يجب مثله في سائر الأشياء، وأن العشرة يقتلون بالواحد، ولا قطع يدان بيد، ولا يلزم متلف المال أكثر مما أتلف، فاستحسن ألا يأخذ النفس بالنكول. وأيضًا: فإن اليمين في النفس قد يجوز أن تكون حقًا بنفسها، ألا ترى أن أهل المحلة إذا أبوا أن يحلفوا: حبسوا، هذا مع لزوم الدية، فلما جاز أن تكون اليمين حقًا للمدعي منفردًا عن الدية حتى يجبروا عليها، جعل اليمين في هذا الموضع كالحق المدعى في باب حبس المدعى عليه بها. وأيضًا: فإن الحبس قد يجب في الأصول للتهمة، وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده "أن النبي عليه الصلاة والسلام حبس رجلًا في تهمة"، ونكوله عن اليمين يوجب تهمة، فيحبسه بها. ألا ترى أن أبا حنيفة يقول في البينة إذا قامت بقود أو حد: إنه يحبس المدعى عليه، حتى يسأل عن الشهود، ولا يكلفه الحبس في هذا الموضع: سديد على أصله، وليس كذلك سائر الحقوق، لما وصفنا، لأن

التهمة بكون المال عليه، لا توجب حبسه ولا عقوبته، وليس هو أيضًا في معنى النفس، لاختصاصها بما وصفنا. * قال أبو جعفر: (فإن كانت دعوى في قصاص فيما دون النفس، فإن يقضي عليه في ذلك بالدية، ولا يقضي عليه فيه بقصاص في قول أبي حنيفة). قال أحمد: وليس هذا قول أبي حنيفة المشهور عنه في الأصول، بل جوابه في الأصول في هذه المسألة: أنه يقضي عليه بالقصاص فيما دون النفس بالنكول، وفرق بين النفس وما دونها، فلم يحكم في النفس بشيء، وحبسه وحكم فيما دونها بالقصاص، والقياس فيهما جميعًا عنده أن يحكم بالقصاص؛ لأنها مما يصح بذله من جهة الحكم، إلا أنه ترك القياس في النفس لما وصفنا، وأخذ فيما دونها بالقياس. وأيضًا: فإن ما دون النفس قد يجب فيه المال من غير شبهة، وهذا كرجل يقطع يد الرجلين اليمنى منهما، فتقطع يده لهما، ويقضى عليه بدية بينهما، ولا يجب مثله في النفس. فإن قيل: فهلا حكم في النفس إذا نكل عنها بالدية، إذ لم يحكم بالقصاص. قيل له: لأن النكول عنها يوجب القصاص، وليس شبهة في سقوطه، وإنما توقف عن قتله؛ استعظامًا لأمر الدم على ما وصفنا، فلم يجز الحكم بالمال مع وجود ما يوجب القصاص.

قال أبو جعفر: (قال أبو يوسف ومحمد: الحكم في النفس وما دونها إذا نكل عنها بالدية). لأن القصاص لا يؤخذ بالنكول، كما لا يؤخذ بالشهادة على الشهادة، وشهادة النساء، والمال، يجوز أخذه بالنكول، والقصاص يجوز أن يتحول مالًا بعد ثبوته. مسألة: [صيغة الاستحلاف] قال أبو جعفر: (ويستحلف المدعى عليه للمدعي: بالله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية. وإن اكتفى بالأول: أجزأه). قال أحمد: وذلك لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا أبو الأحوص قال: حدثنا عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال- يعني لرجل حلفه-: "احلف بالله الذي لا إله إلا هو، ما له عندك شيء". يعني للمدعي، فزاد النبي عليه الصلاة والسلام في اليمين من صفة الله

تعالى ما ذكر، فدل على جواز الزيادة في لفظها على وجه التأكيد والتغليظ. فإن اقتصر على الأول: أجزأه، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "من كان حالفًا فيحلف بالله، أو ليسكت". * قال أبو جعفر: (ولا يستقبل به القبلة، ولا يدخله المسجد، وحيثما حلفه: فهو مستقيم). وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "اليمين على المدعى عليه"، ولم يخصها بمكان. مسألة: [صيغة استحلاف غير المسلمين] قال أبو جعفر: (وقال محمد: ويستحلف النصراني: بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، واليهودي: بالله الذي أنزل التوراة على موسى، والمجوسي: بالله الذي خلق النار). وذلك لما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لليهود في شأن الرجم: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى؟ ". فوجب على هذا أن يستحلف النصراني على ما قال؛ لأنه يعتقد من تعظيم المسيح، أكثر مما يعتقده اليهودي في موسى، ويستحلف

المجوسي بالله الذي خلق النار؛ لأنه لا يؤمن بنبي، ولا بكتاب، ويعتقد تعظيم النار. مسألة: [قيام البينة بعد استخلاف المدعى عليه] قال أبو جعفر: (من استخلفه القاضي على شيء، فحلف عليه، ثم قامت عنده البينة على ما ادعى: قبل بينته، وقضى له به). وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعي". ولم يخص به حالًا دون حال، فوجب أن تكون مقبولة قبل يمينه وبعدها. وقال الله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}. ولم يفرق بين حال وقوع اليمين، أو قبله. وأيضًا: فإن قيام البينة في الابتداء: يسقط معه حكم اليمين، كذلك إذا حلف، ثم قامت البينة، فينبغي أن يسقط حكم يمينه. فإن قيل: قل النبي عليه الصلاة والسلام للأشعث بن قيس: "شاهدك أو يمينه"، فأوجب أحدهما. وقال في حديث وائل بن حجر: "بينتك أو يمينه، ليس لك إلا ذلك". قيل له: "شاهداك، أو يمينه": لا يدل على بطلان حكم البينة بعد اليمين، وليس إيجابه لذلك على وجه التخيير، بل معلوم أن المراد: تقديم البينة على اليمين، وانتفاء حكم اليمين معها، فمتى وجدت:

فحكم اليمين ساقط معها. وقوله: "ليس لك إلا ذلك": يعني إن لم تكن لك بينة: فليس لك إلا اليمين؛ لأنه لم قال: إنه رجل فاجر، لا يبالي أن يحلف: قال: "ليس لك غيره"، يعني إذا عدمت البينة، وقد وجدت البينة، فبطل حكم اليمين. وقد روي عن عمر بن الخطاب، وشريح، وإبراهيم، وطاوس مثل قولنا، قالوا: اليمين الفاجرة أحق أن ترد من البينة العادلة. مسألة: [حكم رد اليمين على المدعي إذا نكل عنها المدعى عليه] قال: (ومن وجبت عليه يمين، فردها على المدعي: لم يرد ذلك عليه، وقيل له: احلف، أو أقر إن شئت). قال أحمد: قد بينا أن نكول المدعى عليه، لا يوجب رد اليمين على المدعي، وأنه لا جائز لأحد استحقاق شيء يدعيه بقوله، ويمينه: قوله، فإذا كان ذلك ممتنعًا من جهة الحكم، لم يكن لرضا المدعى عليه تأثير في إجازة ما منعته الشريعة، ألا ترى أن المدعى عليه لو رضي بأن تقبل عليه شهادة الفاسق، أو أهل الذمة، أو شهادة واحد: لم يكن لرضاه تأثير، ولم تقبل عليه الشهادة، إلا على الوصف المشروط.

مسألة: [من لا تقبل شهادتهم] قال أبو جعفر: (ولا تقبل شهادة الصبيان، والعبيد في شيء). قال أحمد: أما الصبيان: فإنما لم تجز شهادتهم؛ لقول الله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}، وقال: {ممن ترضون من الشهداء}، والصبيان بخلاف هاتين الصفتين. وأيضًا: لم يختلفوا أن شهادة الصبيان غير جائزة على الرجال في الحقوق، وإنما يجيزها من يجيزها من بعضهم على بعض في الجراح، ونحو ذلك، فلما ثبت بالاتفاق بطلان شهادتهم على الرجال، كذلك من بعضهم على بعض. وأيضًا: قال تعالى: {واشهدوا ذوي عدل منكم}، وليس الصبيان من ذوي عدل. وقال عروة بن الزبير: تقبل شهادة الصبيان بعضهم على بعض. وقال ابن عباس: حتى يكبروا.

* وأما العبيد: فإن وجه بطلان شهادتهم: أن الله تعالى لما قال: {يأيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} إلى آخر القصة، كان المفهوم من ظاهر هذا الخطاب: الأحرار الذين يملكون عقود المداينات، وأن العبيد غير داخلين فيهم، إذ هم غير مالكين لذلك، فلما كان ذلك في مضمون اللفظ، صار كالملفوظ به فيه، فكأنه قال: يا أيها الأحرار، ثم لما عطف على ذلك قوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}، انصرف ذلك إلى الأحرار؛ لأن الخطاب لهم، كأنه قال: من رجال أحرار، لما في مضمون الخطاب من شرط الحرية. فإذا كان الواجب بالآية استشهاد الأحرار، لم يجز إسقاط شرطها. كما أنه لما قال: {ممن ترضون من الشهداء}، وقال في آية أخرى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}: لم يجز إسقاط شرط العدالة. وأيضًا: قال: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا}، ولا يجوز أن يكون العبد مرادًا به؛ لأن عليه خدمة سيده، ويجوز له إباء أن يحضر الشهادة. وأيضًا: فإن صحة الشهادة يتعلق بها ضمان عند الرجوع، فلما لم يكن

العبد ممن يلزمه ضمان بالرجوع لو قبلت شهادته: علمنا أنه ليس من أهلها، كالصبي أيضًا، فصحة قبول الشهادة متعلقة بالولاية. والدليل عليه: اتفاق الجميع في بطلان شهادة المجنون، ورد شهادة الصبي على الرجال في الحقوق؛ لعدم الولاية. فلما لم يكن العبد من أهل الولاية، وجب أن لا تقبل شهادته. وأيضًا: لما كانت شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، إذ كان ميراثها على النصف من ميراث الرجل، ثم لم يكن العبد من أهل الميراث، وجب أن لا يكون من أهل الشهادة. مسألة: [ما تقبل فيه شهادة أهل الكفر] قال أبو جعفر: (وتقبل شهادة أهل الكفر بعضهم على بعض؛ لأن الكفر كله ملة واحدة). قال أحمد: وذلك لقول الله تعالى: {يأيها الذين ءامنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو ءاخران من غيركم}. ومعناه: من غير أهل ملتكم؛ لأن الخطاب توجه إليهم بلفظ الإيمان

حين قال: {يأيها الذين ءامنوا}، فقد تضمنت الآية جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية وفي غيرها؛ لأنه لم يخص الوصية بجواز الشهادة فيها دون غيرها، وإنما قال: {حين الوصية}، ومعناه: وقت الوصية، وقد يكون وقت الوصية إقرار بدين، وعقد بيع وغيره. فتضمنت الآية جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في هذه الأمور، وتضمنت الآية أيضًا الدلالة على جوازها على أهل الذمة، إذ لا شهادة جائزة على مسلم إلا وهي جائزة على ذمي، ثم قامت الدلالة على نسخها على المسلمين، فوجب أن تبقى دلالتها على جوازها على أهل الذمة؛ لعدم الدلالة الموجبة لنسخها. وجهة نسخ جوازها على المسلم: قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}. وقوله: {ممن ترضون من الشهداء}. وقوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}.

وذلك كله في المسلمين، فصارت تلك الشهادة منسوخًا جوازها على المسلمين، وبقي حكمها في الكفار على ما تضمنته دلالة الآية. وأيضًا: روى مجالد عن الشعبي عن جابر "أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة منهم زنيًا، فقال لهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: "ائتوني بأربعة منكم يشهدون". رواه الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران قال: حدثنا أبو خيثمة قال: حدثنا حفص بن غياث عن مجالد. وحدثنا عبد الباقي عن قانع قال: حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل وإبراهيم بن السكن ابن أسباط وجماعة قالوا: حدثنا الحسن بن حماد قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن مجالد عن عامر عن جابر "أن النبي عليه الصلاة والسلام أجاز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض". * ومن جهة النظر: أن فسقهم لما كان من جهة التدين، وجب أن لا يمنع جواز شهادتهم، كما أن أهل الأهواء لما كان فسقهم من جهة التدين، لم يمنع قبول شهادتهم.

وأيضًا: فإن وصية الذمي إلى الذمي جائزة، وهي أمانة لا يفر عليها الفاسق، فلما جازت وصية بعضهم إلى بعض وإن كانت أمانة، ومن شرط الوصي كونه عدلًا، وجب أن تجوز شهادتهم أيضًا بعضهم على بعض. وقد قال الله تعالى: {ومن أهل الكتب من إن تأمنه بقنطار يؤده}. فأخبر أن منهم من يصلح أن يؤتمن على مال، فجاز ائتمانهم على الشهادات فيما بينهم. فإن قيل: قال الله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا}، والكفار فاسق. قيل له: المراد به الفسق من جهة الفعل، لا من جهة التدين والاعتقاد، بدلالة جواز شهادة أهل الأهواء مع فسقهم. مسألة: قال أبو جعفر: (والكفر كله ملة واحدة). وذلك لقول الله تعالى: {قل يأيها الكفرون}، ثم قال: {لكم

دينكم ولي دين}. فجعل جميع الكفر دينًا واحدًا، والإسلام دينًا واحدًا. ويدل عليه: قول النبي عليه الصلاة والسلام: "لا يتوارث أهل ملتين"، و"لا يرث المسلم الكافر". فجعل الإسلام ملة، والكفر كله ملة. ويدل عليه قول النبي عليه الصلاة والسلام يوم الفتح: "الناس حيز، ونحن حيز". فإن قيل: فالكتابي حكمه مخالف عندكم لغير الكتابي في جواز مناكحته، وأكل ذبيحته. قيل له: هذا حكم فيما بيننا وبينهم، فأما فيما بينهم، فلا يختلفون عندنا. مسألة: قال: (ولا تقبل شهادة أحد من أهل الذمة على مسلم).

قال أحمد: وذلك لقول الله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء}. وقال: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}. وقد أراد: من المسلمين؛ لأن الخطاب توجه إليهم بلفظ الإيمان. وقال: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}. ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي قال: حدثنا يحيى بن عبد الباقي الثغري قال: حدثنا عمرو بن عثمان قال: حدثنا بقية عن الأسود بن عامر بن عمر بن راشد قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز شهادة ملة على ملة، إلا ملة المسلمين، فإنها تجوز على الملل كلها". فإن قيل: فهذا الخبر ينفي جواز شهادة أهل الكفر بعضهم على بعض قيل له: ليس كذلك؛ لأن الكفر كله ملة واحدة. فإن قيل: فقوله: "إلا شهادة المسلمين، فإنها تجوز على الملل كلها": يدل على أن الكفر ملل مختلفة.

قيل له: ليس كذلك؛ لأنه جائز أن يكون المراد: على ملة الإسلام، وملة الكفر، وأطلق عليهما اسم الملل، لأن الاثنين قد يطلق عليهما لفظ الجمع، كقوله تعالى: {هذان خصمان اختصموا في ربهم}. فإن قيل: قد أجاز الله تعالى شهادة أهل الكفر على المسلمين في الوصية في السفر، بقوله: {أو ءاخران من غيركم}، فهلا أجزتها، وقد روي جوازها عن أبي موسى الأشعري، وجماعة من التابعين. قيل له: هي منسوخة بقوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}، وبقوله: {ممن ترضون من الشهداء}.

وذلك لأن قوله: {أو ءاخران من غيركم}: لا دلالة فيه على تخصيص الوصية بجواز شهادة الكفار فيها؛ لأنه إما قال: {حين الوصية}، وقد يكون حين الوصية سائر ضروب المداينات، فقد تضمنت الآية جوازها في سائر الحقوق. فلما قضى قوله: {شهيدين من رجالكم}، وقوله: {ممن ترضون من الشهداء}، على قوله: {أو ءاخران من غيركم} في المداينات: كان كذلك حكمها في الوصية. وقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن هذه الآية نزلت في شأن رجل من بني سهم، توفي بأرض ليس فيها مسلم، فأوصى إلى تميم الداري، وعدي بن بداء، وهما نصرانيان، فدفعا تركته إلى أهله، وحبسا جاما من فضة مخوصًا بالذهب. فاستحلفا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما كتمتما، ولا اطلعتما، ثم عرف بمكة، فقالوا: اشتريناه من عدي بن بداء وتميم، فقام

رجلان من أولياء السهمي، فحلفا بالله: إن هذا الجام للسهمي، {وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين}، وأخذا الجام". فعلى هذا التأويل: الشهادة المذكورة في الآية، إنما هي الأيمان على الوجه المذكور، وكانت الآية حينئذ إنما قصت الحال التي نزل فيها الحكم، وذكر حكم المسلمين فيها أيضًا إن جرت الحال فيهم على هذا الوصف، فإن كان هو المعنى، فلا دلالة فيها على جواز شهادة أهل الذمة في وصية ولا غيرها. وقد روي ذلك عن جماعة من السلف. مسألة: [حبس المدين إذا طلب الخصم] قال أبو جعفر: (ومن وجب عليه دين: حبسه القاضي إن سأله ذلك خصمه). وذلك لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته".

قال أهل العلم: عقوبته: حبسه، ولا يحتمل غيره، لأنه معلوم أنه لا يضرب باتفاق، فلم يبق هناك عقوبة غير الحبس. وروى الهرماس بن حبيب عن أبيه عن جده قال: "أتيت النبي عليه الصلاة والسلام بغريم لي، فقال لي: الزمه، ثم قال: يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك؟ ". فهذا يدل من وجهين على الحبس. أحدهما: قوله: "الزمه". والآخر قوله: "ما تريد أن تفعل بأسيرك؟ ". وروي "أن رجلًا أعتق عبدًا بينه وبين آخر، وهو موسر، حبسه النبي عليه الصلاة والسلام، حتى باع غنيمة له". وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إن لصاحب الحق اليد واللسان". فقيل: في اليد: اللزوم، وفي اللسان: الاقتضاء. وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس رجلًا في تهمة".

وروي الحبس في الدين عن علي رضي الله عنه، وجماعة من السلف. ومن جهة: أنه مقيم في محظور في امتناعه من القضاء مع الإمكان، فيجبر عليه بالحبس، كما يمنع من سائر المحظورات إذا واقعها، وأقام عليها. مسألة: قال أبو جعفر: (ثم يسأل عنه، فإن كان موسرًا: لم يطلقه حتى يقضيه، وإن كان معسرًا: خلى سبيله). وذلك لأن الحبس وجب على وجه العقوبة، والجبر على قضائه الدين، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته". فإنما أباح عقوبة الواجد، والمعسر غير ملوم على ترك القضاء، فلا يستحق العقوبة. ويدل عليه قول الله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}.

قال أحمد: ولا يمنعه أصحابنا من لزومه، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "لصاحب الحق اليد واللسان"، ولم يفرق بين الواجد وغيره. فإن قيل: قال الله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}. قيل له: معناه: أنظروهم، ولا دلالة فيه على أنه يصير منظرًا بنفس الإعسار. ويدل عليه: ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من أنظر معسرًا، أو وضع عنه: أظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله". ولو كان منظرًا بنفس الإعسار، ما استحق الثواب على إنظاره؛ لأن من كان منظرًا: لا ينظر. * قال أبو جعفر: (وسواء كان ذلك الدين من قرض، أو بيع، أو صداق امرأة، أو مما سوى ذلك). قال أحمد: أما الديون التي ملك أبدالها كالقرض، وثمن المبيع ونحوهما، فإنما لم يصدق فيها على دعوى الإعسار في بدء ما رفع إلى الحاكم من وجهين: أحدهما: أنه قد حصل له ملك البدل، وصار به مليًا واجدًا لقضاء الدين.

والوجه الآخر: أن دخوله في عقد المداينة اعتراف منه بلزومه، ووجوب قضائه عليه. وأما ما لم يملك بدله، مثل صداق المرأة، والكفالة: فإنما لزمه من وجه واحد، وهو أن دخوله في التزام الدين: اعتراف منه بوجوب أدائه، ولزوم مطالبته به، فلا يصدق على الإعسار، كما أن دخوله في سائر العقود اعتراف منه بصحتها، ولزوم حكمها. مسألة: [حكم شهادة أحد الزوجين للآخر] قال أبو جعفر: (ولا يقبل شهادة الزوج لامرأته، ولا المرأة لزوجها). قال أحمد: وذلك أن لكل واحد منهما تبسطًا في مال صاحبه بعقد النكاح، ألا ترى أن مال الزوج تنتفع به المرأة في العادة، ومال المرأة ينتفع به الزوج بسبب العقد الذي بينهما، فصارت شهادة أحدهما لصاحبه كشهادته لنفسه، لأنه جار بها إلى نفسه. وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا تجوز في الإسلام شهادة ظنين، ولا شهادة القانع لأهل البيت". فمنع شهادة القانع بغلبة الظن في مثله، أن يجر بها إلى نفسه، فالزوج والمرأة أحرى بذلك. وجهة أخرى: وهي أنه متى كثر مال الزوج، لزمه من النفقة بمقدار يساره، وتستحق به عليه منها أكثر مما تستحقه في حال العسر، وذلك

سبب متعلق بعقد النكاح، فصار لها نفع في شهادتها، وإذا كثر ما لها، زاد ذلك في مهر مثلها، وقيمة بضعها، والبضع هو ملك الزوج، فكنه شهد بزيادة قيمة ما يملكه. وأيضًا: فلما كان في العادة أن مال الزوج في يد المرأة؛ لأنها وماله في داره: صارت شهادتها له شهادة بما تستحق به اليد عليه، فلا يجوز، ألا ترى أنهم قالوا: إن المودع إذا دفع الوديعة إلى امرأته: لم يضمنها؛ لأنه لا يتوصل إلى حفظها في العادة إلا بها، وما في يد المرأة، فكأنه في يد الزوج؛ لأن المرأة أيضًا في يده، فصارت شهادته لها، موجبة لاستحقاق يد نفسه على المشهود به، ولا تجوز شهادة الإنسان بما يوجب له استحقاق اليد عليه. مسألة: [عدم قبول شهادة الأصول للفروع والعكس] قال أبو جعفر: (ولا تجوز شهادة أحد لولده وإن سفلوا، ولا لوالديه وإن علوا). قال أحمد: أما شهادة الأب للابن، فإن وجه بطلانها: أن مال الابن منسوب إلى الأب بقوله عليه الصلاة والسلام: "أنت ومالك لأبيك".

وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إنما أولادكم من كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم". وروي في التفسير في قوله تعالى: {ما أغنى عنه ماله وما كسب}: أنه يعني وما ولد. * وإنما لم تجز شهادة الابن للأب، لأنه منسوب إليه بالولادة، فصارت كشهادة الأب للابن، من حيث كانت النسبة بينهما من طريق الولادة. ولهذه العلة بعينها لم تجز شهادته لآبائه وإن علوا، ولا لأولاده وإن سفلوا، إذ كان بعضهم منسوبًا إلى بعض بالولادة. مسألة: [المعاصي التي ترد بها الشهادة] قال أبو جعفر: (ومن وقف على أن فيه كبيرة من الكبائر التي أوعد الله عليها بالنار: لم تقبل شهادته). وذلك لأنه مستحق في هذه الحال تسمية الفسق، وقال الله تعالى:

{وإن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا}. * قال أبو جعفر: (وإن لم يقف على ذلك، ووقف على مساوئ ومحاسن فيه: حمل أمره على الأغلب). وذلك لأن أحدًا من دون الأنبياء لا يخلو من زلة، ومن خطيئة، كما قال القائل: إن تغفر اللهم تغفر جمًا .... وأي عبد لك لا ألمًا. ولو لم تقبل إلا شهادة من لا ذنب له رأسًا، لبعد وجود واحد في الدنيا محكوم له بذلك، وذلك يؤدي إلى بطلان ما ندب الله إليه من استشهاد العدول ومن نرضى من الشهداء. مسألة: [ما تتحقق به الشهادة على الشهادة] قال أبو جعفر: (ولا يقبل في الشهادة على الشهادة إلا مثل ما يقبل على الشهادة على الحقوق). وذلك لأن الشاهد على شهادة غيره، ناقل لشهادة شهود الأصل إلى القاضي، كما ينقل إليه إقرار المقر، تلك الشهادة إلى القاضي إلا بشاهدين، كما لا ينتقل إقرار المقر بالحق إليه إلا بشاهدين.

مسألة: [متى تقبل الشهادة على الشهادة] قال أبو جعفر: (ولا تقبل الشهادة على الشهادة إلا على شهادة ميت، أو غائب بينه وبين القاضي المسافة التي تقصر في مثلها الصلاة، أو مريض لا يستطيع إتيان القاضي). وذلك لأن الشهادة على الشهادة قائمة مقام شهادة الأصل، وبدل منها، وشهود الأصل إذا كانوا حضورًا، يمكنهم إتيان القاضي، فعليهم إقامتها، فلا يصح لبدلها حكم مع وجود المبدل عنه، كما لا يصح للتيمم حكم مع وجود الماء المفروض به الطهارة، ولا يصح صوم الكفارة مع وجود الرقبة، في نظائرها من المسائل. وأيضًا: فالقياس يمنع جواز الشهادة على الشهادة، وذلك لأن الشاهد إنما تصح شهادته إذا نقل حقًا على المشهود عليه يطالب به عند القاضي، فأما نقله ما ليس بحق على إنسان: فليس يصح، ولا يثبت له الحكم. وليست الشهادة التي عند شهود الأصل حقًا عليهم للمشهود عليه، بدلالة أنه لا تصح الخصومة فيها، ولا المطالبة بها، والجبر عليها، فكان القياس أن لا تصح الشهادة على الشهادة بحال، إلا أن الفقهاء قد اتفقوا على جوازها إذا كان وصفها على ما ذكرنا، فسلمناه للاتفاق، وما عداه فمحمول على القياس. * ولهذه العلة بعينها قالوا: لا تصح الشهادة على الشهادة، إلا أن يحملهم إياها شهود الأصل بلفظ تحميل الشهادة، والأمر بها على وجه التوكيل. ولا يصح نقلهم لها إذا كان بخلاف ذلك. ولا تجوز إذا شهد رجلان على شهادتهما لغيرهما أن يشهدا؛ لأنهما

لا يحملاهما إياها. ويحتاج في صحة تحميل الشهادة أن يقول له: اشهد على شهادتي أني أشهد: أن لفلان على فلان كذا. ولامتناع جواز الشهادة على الشهادة إذا سمعاهما يشهدان غيرهما، ولم يشهداهما. ووجه آخر: وهو أن الشهادة ليس لها حكم بنفسها حتى يقضي بها القاضي، فلا يجوز لغيرهما أن يشهد على شهادتهما، حتى يشهداهما. وليست الشهادة على الشهادة في هذا، كالشهادة على العقود والإقرارات؛ لأن هذه الأشياء حكمها ثابت بنفسها، ولا تحتاج في ثبوتها إلى قضاء القاضي بها، فأشبه في هذا الوجه: القتل، والغصب، يسع من شاهد ذلك وعاينه: أن يشهد به وإن لم يأمره الغاصب بالشهادة عليه. ويشبه ذلك قضاء القاضي إذا قال: حكمت لفلان على فلان بألف درهم، فيسع من شهد من الشهود أن يشهد على قضائه وإن لم يشهده؛ لأن حكمه ثابت لازم كإقرار المقر، والقتل والغصب. مسألة: [حكم الشهادة على شهادة غير العدل] قال أبو جعفر: (ولا ينبغي للرجل أن يشهد على شهادة من ليس عنده بعدل). قال أحمد: وذلك لأن من الفقهاء من يحمل أمر الشهود على

العدالة، حتى يتبين غيره، ولا يسأل عنهم حتى يظهر له غيره، فلا يأمن الشاهد عنده على شهادة من ليس بعد أن يمضي القاضي الحكم بشهادته، فيكون قد قضى بشهادة غير العدول. مسألة: [سؤال القاضي عن المشهود على شهادته] قال أبو جعفر: (وإن شهد عند القاضي على شهادة رجل ولم يعدله عنده، سأل القاضي عن المشهود على شهادته، كما يسأل عنه لو كان شهد عنده بنفسه). قال أحمد: وهذا على قول من يرى المسألة عن الشهود، فأما من يجعلهم عدولًا في الظاهر، حتى يتبين غيره، فإنه لا يسأل عنهم على ما تقدم بيانه فيما سلف. * قال أبو جعفر: (فإن عدل عنده الشاهد على شهادته: قبل تعديله إن كان ممن يصلح للتعديل ويحسنه). وذلك لأن نقله لشهادته، لا يمنع صحة تعديله، إذ لا فرق بين تعديله وتعديل غيره. فإن قيل: يريد أن يصحح بتعديله شهادة نفسه، فينبغي أن لا يقبل تعديله. قيل له: وما عليه في تصحيح شهادة نفسه؟ أليس إنما تصح شهادته بعدالته؟ فواجب على قضيتك أن لا تصح لأحد شهادة؛ لأنه لولا صلاحه

وعدالته في نفسه، لم تقبل شهادته. ويدل على سقوط هذا الاعتبار: أن شاهدين لو شهدا عند القاضي على رجل بحق، وعدل أحدهما صاحبه: قبل تعديله إن كان أهلًا لذلك وإن كان تعديله يصحح شهادته، إذ لا تجوز شهادته إلا بصحة شهادة صاحبه. مسألة: [العدد المشترط في الشهادة على الشهادة] قال أبو جعفر: (ويقبل القاضي شهادة شاهدين على شهادة شاهدين، إذا كان كل واحد منهما يشهد على شهادة كل واحد من ذينك الشاهدين). قال أحمد: وذلك لأنهما ناقلان لكلاهما؛ كما ينقلان إقرار المقر، ولو شهدا على شهادة أحدهما: جازت شهادتهما فلا تمنع شهادتهما على شهادة الآخر من نقل شهادة صاحبه. فإن قيل: تريد أن تصحح شهادة أنفسهما بنقل شهادة الآخر. قيل له: ويجوز لهما تصحيح شهادة أنفسهما، ألا ترى أن الفاسق غير مقبول الشهادة، وإذا تاب وأصلح: قبلت شهادته، وإنما صحح شهادة نفسه بفعله، وكل شاهدين يشهدان عند قاض، فهما قاصدان إلى تصحيح شهادتهما. أرأيت لو شهد رجل وابنه بشهادة، أما كانت تجوز شهادتهما من أجل أن كل واحد منهما يقصد تصحيح شهادة ابنه، أو أبيه بإقامته الشهادة معه؟ فلما جاز ذلك بالاتفاق، مع وجود ما ذكرت من الاعتدال، دل ذلك

على سقط هذا السؤال. مسألة: [عدم أخذ القاضي كفيلًا من وارث دفع إليه الميراث] قال أبو جعفر: (ولا يأخذ القاضي من وارث لميت دفع إليه ميراثه، ولا من غريمه، ومن موصى له، كفيلًا بشيء مما دفع إليهم، وقال أبو حنيفة: هذا شيء احتاطت به القضاة، وهو ظلم). قال أحمد: وذلك لأن الوارث، والغريم، والموصى له قد استحقوا أخذ المال، لا نعلم هناك مستحقًا غيرهم، فلا معنى لمطالبتهم بإقامة كفيل لغيرة مستحق. قال أحمد: وأبو يوسف ومحمد: يأخذان منه كفيلًا؛ احتياطًا للميت. مسألة: [الاستحلاف على العلم] قال أبو جعفر: (ومن ورث دارًا أو عبدًا، فادعاه رجل، وطلب يمينه عليه: استحلف له على علمه). وذلك لأنه يدعي استحقاق ملك الميت، وهو خصم عنه، فكأنه مستحلف على فعل غيره، فتكون يمينه على العلم. والأصل فيه: "استحلاف النبي عليه الصلاة والسلام في القسامة: بالله

ما قتلناه، ولا علمنا قاتلًا". فما كان على فعل الحالف: كان على البتات، وعلى فعل غيره: على العلم. ويدل عليه: ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمود بن خالد قال: حدثنا الفريابي قال: حدثنا الحارث بن سليمان قال: حدثني كردوس عن الأشعث بن قيس "أن رجلًا من كندة، ورجلًا من حضرموت، اختصما إلى النبي عليه الصلاة والسلام في أرض من اليمن، قال الحضرمي: يا رسول الله! أرضي اغتصبنيها أبوه، فتهيأ الكندي لليمين"، وساق الحديث. فقد سأله الحضرمي استحلافه على العلم، ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، فصار ذلك أصلًا في نظائره مما يستحلف فيه على العلم، إذا كانت اليمين فيه على فعل الغير. مسألة: [نسيان القاضي لما قضى به، وللمدعي بينة على ذلك] قال أبو جعفر: (ومن ادعى عند القاضي قضاءه به، وهو لا يذكر

ذلك، وسأله المدعي إحضار بينة تشهد له على ذلك، فإن أبا يوسف قال لا يسمع من بينته إن شهدت عنده على ذلك، وقال محمد: يسمع من بينته عليه، ويقضي به). وجه قول أبي يوسف: أن الشهادة تسقطها الشبهة والتهمة، ولا شبهة أكثر من شهادتهم على فعله، وهو لا يذكره، فصار ذلك شبهة في سقوطها. ويدل عليه: أنه لو شهد عنده شاهدان بحق، فلم يقض بشهادتهما حتى تطاول الزمان، وشهد عنده شاهدان أن الأولين قد كانا أقاما الشهادة عنده بذلك، وهو لا يذكره: لم يلتفت إليه. وكذلك لو أن شاهدين عدلين قالا لرجل: قد كنت أشهدتنا على شهادتك: أن لفلان على فلان ألف ردهم، وهو لا يذكر ذلك: لم يسعه أن يشهد عند القاضي بما قالا. وكذلك لو رأى خطة ولم يذكر الشهادة: لم يسعه إقامتها. ويدل عليه "حديث عمار حين قال لعمر في شأن التيمم: أما تذكر يا أمير المؤمنين أنا كنا في الإبل، فأجنبت، فتمعكت في التراب كما يتمعك الحمار، ثم سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك على الأرض، وتسمح بهما وجهك وذراعيك". فلم يقنع عمر قول عمار، إذ لم يكن ذاكرًا لما ادعى مشاهدته، ولم

ينزل على قوله، في أن الجنب يتيمم، وقد كان من مذهب عمر قبول أخبار الآحاد، إلا أنه لما ذكر حالًا شاهدها عمر، ولم يذكرها، لم يقبله. * وفرق أبو يوسف بين ذلك، وبين ما يجد في ديوانه مما لم يذكره، قال: لأن ذلك كان تحت خاتمه، وفي يده، وها هنا إنما يريد الحكم بقول غيره فيما لا يذكره من قضيته. * وجه قول محمد: أنه يسمع من بينته على قضاء غيره، فكذلك على قضاء نفسه، إذ لا يمتنع جواز النسيان عليه، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم قول أبي بكر وعمر حين صدقا ذا اليدين في قوله: "قصرت الصلاة، أم نسيت؟ ". وقبل عمر قول أنس وغيره في أمانة الهرمزان حين قال له: أتكلم بكلام حي، أو كلام ميت؟ فقال: تكلم بكلام حي. * ولأبي يوسف: أنه لم يكن جرى هناك من النبي عليه الصلاة والسلام قضية، فأنسيها، ثم قضى بها بقول غيره، وإنما نسي عليه الصلاة والسلام ركعتين من الصلاة، وليس يمتنع أن يكون حين أخبروه: ذكر،

فعمل على علمه بعد الذكر، وكذلك خبر عمر. مسألة: [حكم قبول خبر القاضي لتنفيذ ما أمر به] قال أبو جعفر: (وإذا قال القاضي لرجل: اقطع يد هذا، فإنه قد سرق ما يجب فيه القطع، وقد حكمت به عليه، أو قال: فارجمه؛ لأنه زنى، أو قال: قد قضيت عليه لهذا بألف ردهم: فإن قول القاضي مقبول في ذلك كله، في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد بأخرة: لا يسعه حتى يشهد مع القاضي عدل آخر، ويكون القاضي عدلًا، وفي الزنى: يشهد معه ثلاثة). وجه قول أبي حنيفة: أن القاضي مسلط على ذلك، أمين فيه، يملك القضاء به، فقبل قوله فيه، كما يقبل قول الوكيل بالبيع والطلاق، وسائر العقود التي تتعلق صحتها بفعله وحده إذا قال: قد أمضيته وعقدته. والمعنى في جميع ذلك: أنه يملك إيقاعه في الحال، كذلك القاضي لما كان يملك القضاء بهذه الحقوق عليه في الحال، وجب أن يكون مصدقًا فيها. ولذلك قالوا: إنه لو عزل، ثم أخبر بذلك: لم يلتفت إلى قوله؛ لأنه لا يملك القضاء بها في الحال، كما أن الوكيل إذا عزل، ثم قال: قد كنت عقدت: لم يلتفت إلى قوله. وكما أن المطلق لامرأته طلاقًا رجعيًا، إذا قال قبل مضي ثلاث حيض: قد كنت راجعتها أمس: كان مصدقًا؛ لأنه يملك الرجعة في

الحال، ولو مضت ثلاث حيض، ثم قال: قد كنت راجعتها قبل انقضاء العدة: لم يصدق، إذ كان غير مالك لها في الحال. ويدل عليه أيضًا: قول النبي عليه الصلاة والسلام: "واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها". ومعلوم أن الرجم لا يكون به وحده، بل به وبجماعة غيره، لقول الله تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}، فقد تضمن الخبر جواز قبول قوله عليها في صحة إقرارها بما يوجب رجمها، إذ قد أجاز لهم أن يرجموها بقوله، لأنه لم يقل له: ارجمها إلا وقد أجاز له أن يجيز غيره بما يوجب عليها من الرجم، ليرجمها معه. ويدل عليه أيضًا: قول علي رضي الله عنه: "الرجم رجمان: رجم سر، ورجم علانية". فرجم السر هو الذي يبدأ الإمام، ثم الناس، فقد أجاز لهم رجمها بقوله. * وقال محمد: لم يكن هذا لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أن يصدق على غيره بغير بينة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان مأمون الغيب، وقد اتفقنا على أنه لا يقول إلا حقًا، ومن سواه جائز عليه السهو والغلط والكذب في إخباره.

ويدلك على ذلك: حديث أبي برزة الأسلمي "أن أبا بكر غضب على رجل من المسلمين، واشتد غضبه. قلت: يا خليفة رسول الله! اضرب عنقه، فقال: أو كنت فاعلًا؟ قال: قلت: نعم، ولئن أمرتني لفعلت. قال: ويحك! إن ذلك- والله- ما بقي لأحد بعد محمد عليه الصلاة والسلام". * * * * * *

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات مسألة: [الشهادة على الخبر المستفيض] قال أبو جعفر: (وجائز للرجل أن يشهد على موت رجل ممن قد اشتهر موته، أو أخبره بذلك من يثق به، ممن ذكر له أنه قد عاينه، من رجل أو امرأة). قال أحمد: الموت، والنكاح، والدخول، والنسب، لا خلاف بين أصحابنا في جواز إقامة الشهادة عليها بالخبر المستفيض، ذلك لأن طريق إثباتها الخبر والاشتهار، ألا ترى أنك تشهد على نسب أبي بكر وعمر وعامة السلف وموتهم، وتعلم أن عائشة كانت زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان دخل بها، فهذه أمور يصير الخبر المستفيض فيها كالمعاينة. فإن لم تكن معاينة، وأخبره بذلك من يثق به، أنه عاينه ميتًا: جاز للشاهد أن يشهد بموته أيضًا؛ لأنه لما كان طريقه الخبر: سقط فيه اعتبار العدد، كسائر أخبار الآحاد. [مسألة:] قال: (ولا يجوز للرجل أن يشهد على الولاء المشهور في قول أبي

حنيفة، وجائز له ذلك في قول أبي يوسف ومحمد). لأبي حنيفة: في إثبات الولاء: إثبات العتق؛ لأنه من أحكامه، وبه تتعلق صحته، والعتق لا يثبت بالخبر المستفيض، فكذلك ما يتعلق به الولاء. وليس كالنسب؛ لأن النسب يتعلق بالفراش، والفراش يصح ثبوته من جهة الاستفاضة. وأيضًا: فالولادة قد تثبت بقول امرأة واحدة، فهي أولى بأن تثبت بالاستفاضة. قال أحمد: وأما أبو يوسف: فإنه قد حكي عنه أنه كان لا يثبت الولاء في رجل أو امرأة بعينها بالخبر المشهور؛ لما فيه من إثبات عتقهما. وإنما يقبل فيه خبر الاستفاضة إذا كان له أبوان أو ثلاثة في الإسلام في الولاء، ويكون مشهورًا، فيصير حينئذ بمنزلة النسب؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "مولى القوم من أنفسهم". وقوله: "الولاء لحمة كلحمة النسب".

فإذا لم يحتج فيه إلى إثبات عتق شخص بعينه: صار كالنسب. مسألة: [الشهادة على دار بأنها لفلان الميت] قال أبو جعفر: (فإذا شهد شاهدان أن فلانًا مات، وهذه الدار في ملكه، وتركها ميراثًا لابنه هذا، لا يعلمان له وارثًا غيره: فهو جائز، ولا يكلفان أكثر من هذا). قال أحمد: وذلك لأنهما قد أثبتا ملك الميت إلى وقت الموت، وأثبتا نقلها إلى الابن بالموت، وهو المستحق للميراث، ما لم يثبت من يزاحمه فيه. وقولهما: إنهما لا يعلمان له وارثًا غيره: ليس بشهادة في الحقيقة لأنه نفي، والشهادة لا تصح على النفي. وأيضًا: فإنما شهدا على نفي العلم، والشهادة إنما تصح على العلم، قال الله تعالى: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون}. ولو لم يقولا: لا نعلم له وارثًا غيره: تلوم القاضي في ذلك، ثم دفع إليه المال، فإنما أسقط التلوم عن القاضي بقولهما: لا نعلم له وارثًا غيره؛ لأن القاضي إنما يرجع إلى مثلهما في المسألة عن عدد الورثة، فإذا قالا له: لا نعلم له وارثًا غيره دفع إليه. وإنما دفع إليه الميراث بعد التلوم وإن لم يشهدا أنهما لا يعلمان له

وارثًا غيره؛ لأن الابن يستحق جميع الميراث ما لم يكن له من يزاحمه فيه، فلما وجد سبب الاستحقاق، وهو النسب، وجب أن يستحق تسليمه إليه، إلا أن القاضي ينبغي له أن يحتاط للميت في المسألة عن عدد ورثته، لئلا يأخذ ماله غير مستحقه. مسألة: قال أبو جعفر: (ويأخذ منه كفيلًا ثقة). قال أحمد: وذلك لأن البينة لم تقم على عدد الورثة، ولا يأمن أن يكون هناك وارث غيره، فيحتاط فيه. مسألة: [شهدا ألا وراث له غير من ذكرا] قال أبو جعفر: (لو شهدا أنه لا وارث له غيره، فإن القياس في ذلك أن لا يقبل القاضي شهادتهما على ذلك؛ لأنهما شهدا على غيب، وعلى ما لا يجوز لهما الشهادة عليه، إلا أنه استحسن، فقبل الشهادة، وحمل ذلك على معنى العلم). قال أبو جعفر: (وكذلك لو شهدوا أنه أبوه: كان هذا والأول سواء، وسواء في هذا شهدوا أنه وارث الميت، أو لم يشهدوا بذلك، وكذلك إذا قالوا: هي زوج فلان، أو هذا زوج فلانة). وذلك لأن هؤلاء يستحقون الميراث بأنفسهم، ولايحجبون بغيرهم

إذا كانوا من أهل الميراث، فوجب أن يستحقوه بثبوت النسب، الذي به يتعلق استحقاق الميراث. فإن قيل: فقد يحرمون الميراث بالرق، والكفر، والقتل ونحوه، فلا ينبغي أن يستحقوه حتى يشهد الشهود مع النسب والزوجية بأنه وارث. قيل له: ليس هذا بحجب، وإنما قلنا إنهم لا يحجبون بغيرهم، ويستحقونه بأنفسهم، ما لم يعرض ما يسقطه. كما أن من استحق ملكًا في وقت، فهو ثابت له حتى يثبت ما يوجب زواله. وأيضًا: فإنهم يستحقون الميراث بالنسب والسبب اللذين ذكرنا، حتى يوجد فيهم السبب الموجب لحرمانة، وهو الكفر والرق والقتل. وليس هو كالأخ والأخت والعم ونحوهم؛ لأن هؤلاء لا يستحقون الميراث بأنفسهم، إذ قد يلحقون الحرمان مع كونهم من أهل الميراث، بحجب غيرهم إياهم، ولم يحرموا الميراث بمعنى فيهم، بل لأن غيرهم استحقه دونهم، فلم يثبت أنهم مستحقوه حتى يشهد الشهود به. * قال: (والأم في جميع ما وصفنا كالأب). لأنها لا تحجب عن الميراث بحال. مسألة: [ثبوت الزوجية لشخص، وعدم ثبوت قصر الميراث عليه] قال أبو جعفر: (ولو ثبت عند القاضي لرجل أنه زوج فلانة المتوفاة،

ولم يثبت عنده أنه لا وارث لها سواه، فإن أبا حنيفة قال: يقضي له القاضي بأقل ما يكون له من الميراث من نصيب الزوج، ولم يفسر أكثر من هذا). قال أحمد: وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: أبو حنيفة يجعل للزوج الربع، وللمرأة الثمن، وهو أقل ما تستحقه من غير عول، ولا مزاحمة نساء غيرها في الثمن. ووجه ذلك: أن الزوج والزوجة لا يستحقان الميراث بأنفسهما، وإنما يستحقانه بسبب منقطع غير ثابت في الحال، فكل واحد منهما يستحق في حال فرضًا، وفي حال فرضًا آخر، لأجل الحجب، فصار كل واحد منهما فيما فضل عن الأقل بمنزلة الأخر والأخت ونحوهما. ومن يجوز أن يحجب، فلا يستحقه، كما لا يستحق من يحجب بحال شيئًا حتى تقوم البينة أنه مستحقه. وليس كذلك الأم والبنت؛ لأنهما تستحقان الميراث بأنفسهما، لقيام النسب الموجب لهما استحقاقه، تارة بالفرض، وتارة بالرد، فلما كان السبب الموجب لهما ذلك قائمًا، وجب أن يستحقا الجميع حتى يثبت أن هناك من يستحق عليه بعضه. ويدلك على الفصل بينهما: اتفاق الجميع أن الزوجين لا يرد عليهما، لانقطاع سببهما، وأن سائر الورثة من ذوي السهام يرد عليهم. ولم يعتبر أبو حنيفة العول، ولا جواز أن تكون معها من تزاحمها من

الزوجات؛ لأن استحقاق ذلك عليها ليس من جهة الحجب، وإنما هو من جهة المزاحمة، فأشبها في هذا الوجه الأم والبنت، في أن ما يحطهما عن استحقاق الجميع: من جهة المزاحمة والشركة، فسقط اعتباره، إذ كانا يستحقان الجميع لقيام السبب الموجب، وينقصان عن ذلك بالشركة، ونحن لا نعلمها. قال: (وقال محمد: يقضى له بالنصف من الميراث، وللمرأة بالربع). وجه ذلك: أنه جعلهما بمنزلة الأم والبنت في أنهما تستحقان الجميع، إذ كانتا من أهل الميراث، ولم تحجبا عنه بمن لا نعلمه حجبهما. كذلك الزوج يستحق النصف، والزوجة الربع، فلا نحطهما عن ذلك، حتى نعلم من يوجب حجبهما عن ذلك. قال: (وقال أبو يوسف فيما رواه عنه أصحاب الإملاء: يقضى له بخمس الميراث؛ لأن أحسن أحواله في الميراث أن يكون معه للميتة ابنتان وأبوان، فيكون له الخمس). لأن الفريضة من اثني عشر، للابنتين الثلثان: ثمانية، وللأبوين السدسان: أربعة، وللزوج الربع: ثلاثة، فهي عائلة بثلاثة، فتصير خمسة عشر، له ثلاثة من ذلك، وهو الخمس، وللمرأة جزء من ستة وثلاثين جزءًا؛ لأن أحسن أحوالها أن يكون معها بنتان، وأبوان، وثلاث زوجات، فيكون لها ربع التسع، وأقل مال له: تسع، ولتسعه: ربع ستة وثلاثون؛

لأنا إذا ضربنا تسعة في أربعة، يكون ستة وثلاثين، للنسوة التسع، أربعة بينهن، لكل واحدة سهم، فلذلك كان لها جزء من ستة وثلاثين. قال أحمد: وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أن لها ربع خمس ميراث الميت. وقال أبو يوسف: أدفع إليها ربع الثمن. فوجه قول أبي حنيفة في هذه الرواية: أنه لم يثبت أن هناك من يحجبها، فجعل لها الربع مع ثلاث نسوة، وجعل الفريضة عائلة، كأن الميت ترك أختين لأب، وأم، وأختين لأم، وأربع نسوة، فللأختين من الأب والأم الثلثان: ثمانية، وللأختين من الأم أربعة: الثلث، وللنسوة الربع: ثلاثة، فالفريضة من اثني عشر، عالت بثلاثة، فكان لهن الخمس، ولها الربع منه. ووجه قول أبي يوسف في هذه الرواية: أنه لم يجعل الفريضة عائلة، ولم ينقصها بالحجب شيئًا، ونقصها بالمزاحمة. مسألة: [شهدا أن الدار كانت في يد فلان] قال أبو جعفر: (وإذا شهد شاهدان عند القاضي أن هذه الدار كانت في يدي فلان، مات وهي في يده: أجاز ذلك، وقضى به). قال أحمد: وذلك لأنهم قد شهدوا باليد، وجهة الملك؛ لأن الموت جهة ينتقل بها الأملاك، ومتى حصلت الشهادة على هذا الوجه: جاز إثبات الملك بها.

والدليل على ذلك: أنهم لو شهدوا بالبيع والتسليم، كان ذلك شهادة بالملك وإن لم يصرحوا به في لفظ الشهادة؛ لأنهم شهدوا باليد، وجهة ملك، إذ لا سبيل إلى إثبات الأملاك من جهة الحقيقة، وإنما يرجع فيها إلى ظاهر اليد والتصرف. [مسألة:] قال: (ولو شهدوا أنها كانت في يده منذ شهر: لم يقبل ذلك، ولم يقض به). وذلك لأن الشهادة باليد على الإطلاق، ليست شهادة بالملك، إذ كان ظاهر اليد لا يوجب الملك، ما لم ينضف إليها التصرف. وقد كان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: فيما قال أبو حنيفة في الجامع الصغير: "إذا رأيت في يد إنسان شيئًا سوى العبد والأمة: وسعك أن تشهد أنه له": أن معناه: إذا رأيته في يده يتصرف فيه تصرف الملاك، فإن اليد من غير تصرف، لا توجب له جواز الشهادة بالملك. قال: وقد بين ذلك أبو يوسف في غير هذا الموضع. وإذا كان تحصيل المذهب في هذه المسألة على ما وصفنا، لم يكن في شهادة الشهود بيد كانت: شهادة بالملك، وإنما حصلت هناك شهادة بيد، لا ملك معها، ولا جائز لنا إبطال يد مشاهدة لمن هو في يده، بيد تريد إثباتها بالبينة؛ لأن اليد المشاهدة آكد وأثبت مما يريد إثباته بالبينة. وليس ذلك مثل شهادتهم بأنها كانت منذ شهر؛ لأن الملك إذا ثبت في وقت، فهو ثابت في سائر الأوقات حتى يستحق. واليد المشاهدة للذي هي في يده، لا تعارض شهادة الملك، ولا تنافيه، إذ ليس يمتنع صحة يده، مع ثبوت الملك فيها لغيره.

وليست شهادتهم بأنها كانت في يده، كشهادتهم بأنه مات وهي في يده، لما ذكرنا من أن الموت لما كان جهة ينتقل بها الأملاك، صارت شهادتهم باليد من جهة الملك، شهادة بالملك. وأما إذا أفردوا اليد عن جهة ملك، فلا سبيل إلى إثبات الملك بها، فكانت اليد المشاهدة أولى مما يريد إثباته بالبينة. وليست الشهادة بيد كانت للمدعي ليست موجودة في الحال، كإقرار الذي في يده أنها كانت في يد المدعي أمس، فيؤمر بردها إليه؛ لأن إقراره جائز على نفسه في بطلان يده. وليس كالبينة؛ لأن البينة لا يثبت حكمها إلا بقضاء القاضي بها، واليد المشاهدة مانع من القضاء بها، لأن اليد المشاهدة يقين، واستحقاقها بالبينة ليس بيقين، فلا يجوز الحكم بها، وأما الإقرار، فحكمه ثابت بنفسه، لا يحتاج في صحته إلى قضاء القاضي به، فجاز عليه، وفسخ بها يد المشاهدة. وفصل آخر بين البينة والإقرار: وهو أن البينة لا تقبل على المجاهيل، والشهادة بيد كانت شهادة على مجهول؛ لأن الأيدي مختلفة، منها مضمونة، ومنها أمانة، وعلى وجوه كثيرة، فلم يجز قبول الشهادة عليه، والإقرار يصح بمجهول، ألا ترى أنه لو أقر له بشيء: جاز إقراره، وأجبر على البيان، ولو شهد له بشيء مجهول: لم تجز الشهادة. وقد كان أبو الحسن يحتج بذلك لبطلان الشهادة على يد كانت، فألزمناه عليه إذا ادعى رجلان دارًا، وأقام كل واحد منهما البينة على اليد،

وليست في يد غيرهما: أن البينة مقبولة وإن شهدا بيد مجهولة. فكان يعتمد بعد ذلك على الوجه الأول، الذي قدمنا، وهو أن يدًا مشاهدة لا تبطلها يد يريد إثباتها بالبينة. مسألة: [أقام المدعي البينة على الدار أنها لأبيه، مات عنه وعن أخيه] قال أبو جعفر: (ومن أقام البينة على دار في يد رجل أنها كانت لأبيه، مات وتركها ميراثًا بينه وبين أخيه فلان الغائب، لا وارث له غيرهما: قضى القاضي له بنصفها، وترك النصف الباقي في يدي الذي هي في يديه وإن كان منكرًا لدعواه، في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يخرج نصيب الغائب من يده، ويضعه على يد عدل. ولو كان الذي هي في يده مقرًا بأنها للميت: ترك نصيب الغائب في يده في قولهم جميعًا). وجه قول أبي حنيفة: إذا كان الذي هي في يده منكرًا: أن القاضي لا يجوز تصرفه على الغائب، ولا أخذ أمواله التي لا يخشى عليه التوى، والدار محفوظة بنفسها، لا يخاف عليها التوى والهلاك، فلا ينزعها من يد من هي في يده، إذ ليس هناك وكيل للغائب يقبضه، ألا ترى أنه لو كان مقرًا، لم يخرج نصيب الغائب من يده، كذلك إذا كان منكرًا. وقال أبو يوسف ومحمد: للقاضي أن يتصرف على الأموات، ويحفظ عليهم أموالهم، لكي إن حدث دين أو وصية صرفها فيها، ولا يؤمن إذا

كان الذي في يده جاحدًا، أن يحضر الغائب وقد مات شهوده، فلا يصل إلى أخذ الدار منه، فيتوى حقه. مسألة: [الأشياء التي يسع الشاهد أن يشهد عليها] قال أبو جعفر: (ويسع الشاهد أن يشهد إذا رأى في يد رجل شيئًا مما يدعيه لنفسه، ومما يقع في قلبه تصديقه أنه له، إلا العبد والأمة، فإنه لا يسعه أن يشهد عليهما بالرق، حتى يقرا بذلك). قال أحمد: تحصيل المذهب فيه على ما حكيناه عن شيخنا أبي الحسن الكرخي رحمه الله قبل ذلك مما حكاه عن أصحابنا. وأما العبد والأمة فلا يسع ذلك فيهما؛ لأنهما في أيدي أنفسهما، لأن ظاهر أحوال الناس الحرية، والرق طارئ، فلا يحكم به حتى يعلم حدوثه. فإن قيل: ظاهر اليد، والتصرف أيضًا يوجب الملك، فقد اجتمع فيه ظاهران: أحدهما لإيجاب الملك، والآخر لنفسه، فلم غلبت جهة نفي الملك على جهة إثباته؟ قيل له: لأن الأصل هو الحرية، وهو في يد نفسه، وقد يستعمله غيره في حوائجه على جهة الاستئجار وغيره، وهذا ظاهر معلوم من حاله بدءًا قبل العلم بحدوث الرق. وما ذكرت من التصرف: فظهور اليد للغير عليه، لا ينفي كون يده على نفسه؛ لأن ذلك يوجد في الحر، فقولك: إن هناك ظاهرًا يقتضي

إيجاب الملك لمن هو في يده: خطأ. * قال: (وسواء كانا صغيرين أو كبيرين بعد أن يكونا ممن يعبر عن نفسه). وذلك لوجود العلة التي ذكرناها فيهما. مسألة: [حكم من ادعى الرق على طفل صغير في يده] قال أبو جعفر: (ومن كان في يده صبي، فقال: هو عبدي، ولا يعبر عن نفسه: فالقول قوله، فإن كبر، وأنكر الرق: لم يلتفت إلى جحوده). وذلك لأن الصغير الذي لا يعبر عن نفسه بمنزلة الثوب، والدابة، وهو ممن تثبت عليه يد، فصدق الذي هو في يده على دعوى الرق، كما صدق في الدابة، والمعنى الجامع بينهما: أن كل واحد منهما لا قول له، وهو ممن تثبت عليه يد. فإن قيل: لما كان ظاهر حال الصبي الحرية، وجب أن لا يصدق الذي في يده على دعوى الرق فيه، ويفارق من هذا الوجه الدابة، والعروض؛ لأنها أشياء مملوكة في الأصل، فكان أولى الملاك بها من هي في يده. قيل له: وكثير من الأشياء مباحة في الأصل، مثل الصيد والكلأ والماء، غير ملك لأحد، ولم يمنع ذلك جواز تصديق من هي في يده إذا ادعاه لأجل ظهور يده، وأنه لا قول له في نفسه، فكذلك الصغير، فإذا حكمنا له بملك الصغير، لم يصدق بعد بلوغه على نفي ما وقع الحكم به من صحة ملكه.

* وأما إذا كان الصبي يعبر عن نفسه، أو كان كبيرًا: فالقول قوله إنه حر، ولا يصدق الذي في يده على دعوى الرق؛ لأنه لما صار له قول، أشبه سائر الكبار في وجوب تصديقه على أنه حر في يد نفسه. فإن قيل: الصغير لا قول له، فينبغي أن يكون بمنزلة الدابة على ما قدمت من الأصل. قيل له: ليس كما ظننت، لأن الصغير الذي يعبر عن نفسه له قول صحيح في كثير من الأحكام: لو أسلم: صح إسلامه، ولو كان مسلمًا، فارتد: صحت ردته، وأجبر على الإسلام، ولم يرث مسلمًا، مادام مرتدًا. فقد ثبت لقوله حكم من وجه، وفارق البهيمة والصغير الذي لا يعبر عن نفسه. مسألة: [من ادعى عبودية فلان، وفلان ينكر ويزعم أنه عبد لغيره] قال أبو جعفر: (ومن ادعى أن فلانًا عبده، فقال: لست بعبد لك، ولكني عبد لزيد، وزيد يدعيه، وهو في يد الذي يدعيه: قضى به له). قال أحمد: وذلك لأنه لما اعترف بالرق، فقد اعترف بثبوت اليد عليه للذي هو في يده، وأنه لا قول له في نفسه؛ لأن العبد لا قول له، فتضمن هذا القول معنيين: أحدهما: ما اعترف به على نفسه من الرق. والآخر: أنه إذا كان رقيقًا فلا قول له، فيصدق على نفسه أنه لا قول

له، ولم يصدق في إزالة يد الذي هو في يده عنه. فإن قيل: إذا كان الإقرار بالملك إنما صح من جهته، فينبغي أن يثبت الملك لمن أقر له به، كرجل في يده عبد، أقر أنه لغيره، وادعاه آخر، فيكون للمقر له. قيل له: لأنه حين اعترف بالرق، فقد أقر بأنه لا يد له ولا قول، فلا يصدق على إزالة يد الذي في يده، وأما الحر إذا كان في يده شيء، فإن إقراره به لغيره لم ينف صحة يده، فكان القول قوله فيمن أقر له به. فإن قيل: لما صح الإقرار بالرق من جهته، كان كالبائع إذا قال: بعته من زيد دون عمرو، فيكون القول قوله؛ لأن التمليك من جهته، وكذلك العبد لما كان الإقرار بالرق إنما صح من جهته، وجب أن يكون القول قوله. قيل له: إنما كان القول قول البائع؛ لأن المشتريين جميعًا معترفان بصحة التمليك من جهة البائع، فكان القول قوله فيمن ملكه منهما، وليس إقرار العبد بالرق تمليكًا من جهته للمقر له، لأنه لا يملك ذلك، وإنما هو إقرار على الذي في يديه في إزالة ملكه، ولا يصدق عليه على ما بينا. [مسألة:] قال أبو جعفر: (وإن قال: كنت عبدًا لزيد، فأعتقني، وادعاه الذي هو في يده لنفسه، فإن أبا حنيفة قال: أقضي به للذي هو في يده، وقال أبو يوسف: أستحسن أن أجعل القول قوله، ولا أقضي به للذي هو في يديه).

قال أحمد: لم يقع إلينا قول أبي يوسف إلا من هذه الرواية. وجه قول أبي حنيفة: أنه قد اعترف بالرق، واعترافه بذلك يوجب كونه عبدًا للذي هو في يده، ودعواه للعتق من جهة الغائب غير مقبولة، ألا ترى أنه لو كان حاضرًا فقال: كنت عبدًا لهذا، فأعتقني: كان عبدًا للذي هو في يده، ولم يصدق على أنه كان عبدًا، وأنه أعتقه. ووجه قول أبي يوسف: أنه لم يعترف بالرق في الحال، ولا بثبوت يد غيره عليه، فهو بمنزلة قوله: أنا حر الأصل، فيكون القول قوله. مسألة: [اعتراف الشاهدين ببطلان شهادتهما بعد قضاء القاضي بها] قال أبو جعفر: (وإذا قال الشاهدان للقاضي بعد أن حكم بشهادتهما: إن الذي شهدنا به عندك باطل: لم يضربهما في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: يعزرهما). لأبي حنيفة: أن ظهور هذا القول منهما بين يدي القاضي، دليل التوبة والندم على ما سلف منهما في ذلك، وذلك فعل حسن ممدوح، لا يستحق عليه تعزير، وفي التعزير عليه ردع عن مثله، وهذا فعل لا ينبغي أن يردع عنه، بل حكمه أن يحث عليه، ويؤمر به. فإن قيل: روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجماعة من السلف تعزيره.

قيل له: وقد روي عن عمر أنه لم يعزره. وجائز أن يكون في حال ما عزره رأى منه إصرارًا عليها، ولم يكن اعترافه على جهة الإقلاع والندم عليها، ومن كان كذلك فحكمه أن يعزر. * وقال أبو يوسف ومحمد: قد اعترف بأنه قد أتى منكرًا يستحق عليه العقوبة، فيعزر، ويشهر، ليتعظ به غيره. مسألة: [اختلاف الشاهدين في مقدار الدين] قال أبو جعفر: (ومن ادعى على رجل ألفي درهم، فشهد له شاهدان: أحدهما بألف، والآخر بألفين: لم يحكم له بشيء عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يحكم له بألف درهم). وجه قول أبي حنيفة: أن اللفظ معتبر في الشهادة، والدليل عليه أنهما ما لم يأتيا بلفظ الشهادة: لم يكن لقولهما حكم، فلو قالا: نعلم، أو نتيقن، أو نحوه، لم يلتفت إلى ذلك. فلما كان كذلك، كان من شرائط قبول شهادتهما: أن يتفقا على لفظ لا يوجب اختلاف المعنى، فلما كانا مختلفين في اللفظ الذي يوجب اختلاف المعنى: لم تجز شهادتهما؛ لأن الألف لا تكون عبارة عن ألفين، والألفين لا يكونان عبارة عن ألف، ألا ترى أن أحدهما لو شهد عليه بالغصب، وشهد الآخر عليه بالإقرار بالغصب: لم تجز شهادتهما؛ لاختلافهما في اللفظ الموجب لاختلاف المعنى.

فإن قيل: من شهد بالألفين، فقد شهد بالألف؛ لأن الألف تدخل في الألفين. قيل له: لو كان كذلك، لكان من قال: {إن الله ثالث ثلاثة} - تعالى الله عن ذلك- قد قال بالتوحيد، فلما لم يجز أن يقال: إن النصراني موحد وإن قال بالثلاثة التي يدخل الواحد فيها، كذلك لا يجوز أن يقال: إن من شهد بألفين فقد شهد بألف. وعلى هذا المعنى قال أبو حنيفة فيمن قال لامرأته: طلقي نفسك واحدة، فقالت: قد طلقت نفسي ثلاثًا: أنها به غير مجيبة له عما جعله إليها، وقد خرج الأمر عن يدها، لاشتغالها بغير ما جعل إليها، إذ لا جائز أن يعبر بالواحد عن الثلاثة. * وقال أبو يوسف ومحمد: قد اتفقنا في المعنى على ألف، فيحكم بها. مسألة: وقال أبو جعفر: (وإن ادعى عليه ألفًا وخمسمائة درهم، فشهد له شاهد بألف، وشاهد بألف وخمسمائة: قضى القاضي له بألف درهم في قولهم جميعًا). قال أحمد: وذلك لأنهما قد اتفقا على الشهادة بألف، ولفظا بها، واستأنف أحدهما بعد ذلك ذكر خمسمائة أخرى، فلا يقدح ذلك في

الألف، كما لو شهد بألف درهم ومائة دينار وهو يدعيها: لم تبطل شهادته بالألف. وهذا مخالف لشهادته بالألفين؛ لأن للألفين صيغة لا تصلح أن تكون عبارة عن الألف. مسألة: [شهادة الشاهدين بأكثر من الحق المدعى] قال أبو جعفر: (ومن ادعى على رجل ألف درهم، فشهد له عليه شاهدان بألف وخمسمائة، فإن قال للقاضي: إنهما قد صدقا، كان لي عليه ذلك، فأبرأته من خمسمائة، أو قضانيها: فشهادتهما على الألف جائزة). وذلك لأنه ممكن أن يكون كما قال، والشهادة محمولة على الصحة، حتى يظهر فيها ما يبطلها. قال: (وإن قال: لم يكن لي عليه قط غير ألف: لم يقض له بشيء). وذلك لأنه قد أكذب شهوده فيما شهدوا له، ولا تصح الشهادة له مع الإكذاب. مسألة: [شهدا بقرض، ثم ادعى أحدهما قضاءه إياه] قال: (ومن شهد له شاهدان على رجل بقرض ألف درهم، وشهد له أحدهما: أنه قد قضاه إياها: قبل شهادتهما على القرض، وقضى له

بالمال على المدعى عليه). قال أحمد: وذلك لأن شهادتهما على قرض الألف، شهادة صحيحة له، وشهادة أحدهما بالقضاء: شهادة عليه، ولا تثبت وحدها، وإكذاب المشهود له بالقرض له بالقضاء، لا يبطل شهادته بالقرض له بالقضاء؛ لأنه إنما أكذبه فيما شهد به عليه، ولم يكذبه فيما له. وليس هذا كشهادتهما بألف وخمسمائة، وهو يقول: لم يكن لي عليه قط إلا ألف، فتبطل شهادتهما؛ لأن هذا إكذاب لهما فيما شهدا به له، ومسألتنا إكذاب فيما عليه، وإكذابه فيما عليه لا يبطل شهادته فيما له. ألا ترى أن شاهدين لو شهدا لرجل على رجل بألف درهم، وشهدا على المدعي للألف بمائة دينار لآخر: كان مكذبًا لهما في المائة الدنانير، ولا يبطل ذل شهادتهما في الألف التي ادعى. فإن قيل: ينبغي أن تبطل شهادتهما بإكذابه على أي وجه حصل الإكذاب، كما لو أقر المشهود له أن الشاهدين فاسقان: لم تقبل شهادتهما له. قيل له: ليس كل إكذاب تفسقًا؛ لأنه يجوز أن يقول: لم تصح شهادتهما؛ لأنهما وهمًا، أو غلطًا، أو لأني قد قضيت المال، أو ما جرى مجرى ذلك. قال أبو جعفر: (وقد روي عن أبي يوسف أنه قال: لا تقبل شهادة

الشاهد الذي شهد على القضاء). لأنه شهد أن لا شيء للمدعي على المدعى عليه مما يطالبه به. مسألة: [اختلاف الشاهدين في قيمة شراء شخص لعبد] قال أبو جعفر: (ومن ادعى على رجل أنه باعه هذا العبد بألف وخمسمائة درهم، وأنكر ذلك المدعى عليه، فأقام عليه شاهدين: أحدهما بالبيع بألف درهم وخمسمائة درهم، والآخر بألف درهم: كان ذلك باطلًا، ولم يقض له بشيء. وكذلك المكاتبة في هذا، إن ادعى العبد، وأنكر المولى. وكذلك العتق على مال، إذ أنكره المولى، وادعاه العبد. وكذلك الخلع، إذا ادعته المرأة، وأنكر الزوج). قال أحمد: والأصل في ذلك: أنا نحتاج إلى إثبات هذه العقود بالتسمية المذكورة فيها؛ لأنه إن لم تثبت التسمية، لم يثبت العقد، وكل واحد من الشاهدين شهد بعقد، غير ما شهد به صاحبه، وكل واحد من العقدين، لا يثبت إلا بشاهدين. والدليل على أنهما عقدان: أنه لو قال له: قد بعتك هذا العبد بألف درهم وخمسمائة، فقال: قد قبلته بألف: لم يكن بينهما بيع. وليس هذا مثل الدين إذا شهد له أحدهما بألف، والآخر بألف وخمسمائة: فتجوز شهادتهما على الألف؛ لأنا لا نحتاج هاهنا إلى إثبات عقد، ولم يظهر منهما اختلاف في الشهادة بالألف، فلذلك تثبت الألف،

وفي مسألتنا وجوب الدين تابع لثبوت العقد، فإذا لم يثبت العقد لاختلافهما فيه، لم يثبت الدين. وهذا هو القياس في النكاح أيضًا، إذا شهد أحدهما بألف وخمسمائة، والآخر بألف؛ لأنها لو قالت له: قد تزوجتك على ألف وخمسمائة، فقبل العقد بألف: لم يكن بينهما نكاح، إلا أن أبا حنيفة استحسن فيه فقال: ثبت للمرأة ألف درهم، وجعله كالشهادة على الدين؛ لأن عقد النكاح لا يفتقر في صحته إلى تسمية مال. * وجعل أبو يوسف ومحمد النكاح بمنزلة سائر العقود، ومنعًا قبول الشهادة فيه على هذا الوجه. مسألة: [اختلاف الشاهدين في قدر المبلغ الذي أعتق عليه العبد] قال أبو جعفر: (ولو كان المولى في مسألة العتق هو المدعي على عبد، أنه أعتقه على ألف وخمسمائة درهم، أو كان الزوج هو المدعي في مسألة الخلع، والعبد والمرأة ينكران، فأقام كل واحد من المولى والزوج البينة، فشهد أحدهما على ألف وخمسمائة، وشهد له الآخر بألف: قضى له بألف، وكان على دعواه في الخمسمائة الباقية في قولهم جميعًا). قال أحمد: وذلك لأنا نحتاج إلى إثبات العقد في هذه المسألة؛ لأن الزوج مقر بالطلاق، والمولى مقر بالعتق، والطلاق والعتق لا يحتاج في صحة وقوعهما إلى قبول العبد والمرأة؛ لأنهما يصحان بغير قبولهما، فلما صح وقوع الطلاق والعتق بقولهما، لم يبق هناك إلا دعوى المال، فصارا كمن ادعى على رجل ألف درهم وخمسمائة، فشهد له شاهدان أحدهما بألف، والآخر بألف وخمسمائة: فتقبل شهادتهما بالألف.

فإن قيل: إذا لم يثبت المال الذي ادعاه المولى، ينبغي أن لا يثبت العتق؛ لأنه لا يعتبر به إلا من جهة الذي أقر به، فإذا لم تثبت الجهة، لم يثبت العتق، كما لو ادعى أنه باعه عبده بألف درهم، وأنكر المشتري: لم يثبت له ملك العبد، لعدم ثبوت الثمن. قيل له: لا تجب دعواه لمعنيين: أحدهما: العتق، والآخر: المال. والعتق يصح من جهته، وهو معترف بأنه حر، وأن بطلان المال لا يرفع العتق؛ لأنه لا يلحقه الفسخ، قصدناه فيما اعترف به من ذلك على نفسه وإن لم يثبت المال. وليس ذلك كدعواه البيع؛ لأن الثمن متى لم يثبت: انفسخ البيع؛ لأنه يلحقه الفسخ، ولأن البيع لا يصح من جهته وحده بحال دون قبول غيره له. * * * * * *

كتاب الرجوع عن الشهادات

كتاب الرجوع عن الشهادات مسألة: [رجوع شاهدي الطلاق عن شهادتهما بعد القضاء] قال أبو جعفر: (إذا شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته ثلاثًا، فقضى القاضي بشهادتهما، ثم رجع عن شهادتهما: فإنهما لا يصدقان على إبطال الطلاق). قال أحمد: وذلك لوجوه: أحدهما: أن الرجوع عن الشهادة ليس بشهادة، والدليل عليه: أنه لا يحتاج إلى اعتبار لفظ الشهادة في صحة الرجوع، ألا ترى أنه إذا قال: كذبت في شهادتي، أو رجعت عنها: صح الرجوع وإن لم يقل: أشهد بذلك، فإذا لم يكن الرجوع شهادة، لم يجز أن يفسخ به حكم الحاكم. وأيضًا: فإنه مكذب نفسه في الرجوع عن الشهادة الأولى، فلا يثبت حكم الرجوع في إبطال الطلاق، مع حصول إكذاب نفسه به بدءًا. وأيضًا: فقد اعترف على نفسه بشهادة زور، وذلك يمنعه قبول شهادة أخرى منه لو شهد بها، كذلك يمنع تصديقه على إبطال حق الغير برجوعه. مسألة: [رجوع شاهدي الطلاق عن شهادتهما بعد دخول الزوج] قال أبو جعفر: (وإن كان الزوج قد دخل بها: فلا ضمان له على الشاهدين).

قال أحمد: وذلك لأن الزوج قد استوفى بدل ما غرم من المهر بالوطء، فلا يجوز أن يرجع ببدل ما قد استوفاه لنفسه على غيره، ولهذه العلة قالوا: إن المغرور لا يرجع بالعقر الذي غرمه للمستحق على البائع، لأنه قد استوفى بدله، وهو الوطء لنفسه، فلا يرجع به على غيره. مسألة: [رجوع شاهدي الطلاق قبل الدخول لمن سمي لها الصداق] قال أبو جعفر: (وإن كان لم يدخل بها، وكان قد سمى لها صداقًا في عقد نكاحها: كان له أن يرجع على الشاهدين بنصف الصداق). قال أحمد: وذلك لوجهين: أحدهما: أن الطلاق قبل الدخول يسقط المهر كله، كهلاك المبيع قبل القبض، يسقط جميع الثمن، والنصف من الصداق الواجب بعد الطلاق، يجب عندنا على جهة الابتداء، كما تجب المتعة، والشاهدان هما اللذان أثبتاه، فيجب غرمه عليهما، كشاهدين شهدا على رجل بمال، ثم رجعا، فيغرمان ما لزمه بشهادتهما، وذلك لأنهما صارا سببًا في لزومه على وجه التعدي، ومن كان متعديًا في السبب، ضمن ما تولد عنه، كمن حفر بئرًا في طريق المسلمين، فوقعت فيه دابة، فماتت، فيضمنها الحافر، لأنه متعد في السبب، فيضمن ما تولد منه.

والوجه الآخر: أن استحقاق البضع على الزوج قبل الدخول بغير فعله يسقط عنه جميع المهر، والدليل عليه: أنها إذا ارتدت قبل الدخول: سقط المهر كله عن الزوج؛ لأن البضع استحق عليه قبل الدخول، فلما اعترف الشاهدان أنهما استحقا البضع على الزوج قبل الدخول، فقد تضمن اعترافهما بذلك أن الزوج سبيله أن لا يضمن شيئًا من المهر، وإنما هما اللذان ألزماه النصف بشهادتهما أن البضع استحق عليه قبل الدخول بفعله، وهو الطلاق، فوجب أن يرجع الزوج عليهما بذلك، إذ كانا هما اللذان ألزماه ذلك فيما تضمنه قولهما. مسألة: [رجوع شاهدي الطلاق عن شهادتهما قبل الدخول لمن لم يسم لها صداقًا] قال أبو جعفر: (وإن كان لم يسم لها صداقًا: رجع عليهما بالمتعة التي غرمها الزوج للمرأة). قال أبو بكر: وذلك للوجهين اللذين ذكرناهما في ضمان نصف المهر. مسألة: [رجوع أحد شاهدي الطلاق] قال أبو جعفر: (ولو لم يرجع الشاهدان، ولكن رجع أحدهما عن شهادته: كان عليه نصف ما كان يجب عليها لو رجعا). وذلك لأن الثابت على شهادته باق بنصف المال، فلا يجب ضمانة على أحد، والدليل على أن من بقي على شهادته لا يضمن: أن أربعة لو شهدوا على رجل بمال، فقضى به، ثم رجع اثنان: لم يكن عليهما ضمان؛ لأن الآخرين باقيان بجميع المال، فصار ذلك أصلًا فيما وصفنا.

وأما النصف الذي لم يبق عليه شاهد، وقد رع عن الآخر، فضمناه على الراجع. مسألة: [رجوع شاهدي المرأة في قدر صداقها على الزوج] قال أبو جعفر: (إذا ادعت المرأة على رجل أنه تزوجها على ألف درهم، وهو ينكر، فشهد لها بذلك شاهدان، وقضى به القاضي، ثم رجعا، فإن كان مهر مثلها ألفًا: فلا ضمان عليهما، وإن كان مهر مثلها أقل من ألف ردهم: ضمنا ما فضل عن مهر المثل إلى تمام الألف). قال أحمد: الأصل في ذلك: أن الشاهدين متى أدخلا في ملك المشهود عليه مثل ما استحقاه عليه بشهادتهما: فلا ضمان عليهما، نحو أن يشهدا أنه باعه هذا العبد بألف ردهم، وذلك قيمته: فلا يضمنان بالروع شيئًا؛ لأنهما قد أدخلا في ملكه مثل ما استحقاه عليه، ألا ترى أن العبد لم يستحق عليه إلا وهو مستحق للألف بإزائه. وأصل آخر في هذه المسألة: وهو أن دخول البضع في ملك الزوج له قيمته، والدليل عليه: أن للأب تزويج ابنه الصغير، وإلزامه المهر لامرأته، كما له أن يشتري له عبدًا بثمن يخرجه من ملكه، فلولا أن للبضع قيمة في دخوله في ملك الزوج، لما جاز للأب تزويج ابنه الصغير؛ لأنه حينئذ يكون مخرجًا للمال من ملكه بغير بدل، فيصير بمنزلة الهبة، وليس يملك الأب ذلك على ابنه بولايته عليه. فمن أجل ذلك قالوا في المريض: يتزوج امرأة على مهر مثلها: أن

ذلك جائز من جميع المال، ويكون بمنزلة ما لو اشترى عبدًا بمثل قيمته. وإذا ثبت ذلك، فقد ملك الشاهدان الزوج بضعًا قيمته مثل الألف التي استحقها عليه، فلا ضمان عليهما عند الرجوع. وإن كان مهر المثل أقل من ألف: ضمنا الفضل؛ لأنهما لم يملكها بإزاء هذه الزيادة شيئًا، كما أنهما لو شهدا أنه اشترى هذا العبد بألف، وقيمته خمسمائة: ضمنا عند الرجوع خمسمائة. [مسألة:] قال: (ولو كان الزوج هو المدعي للنكاح، والمسألة على حالها: لم يكن على الشاهدين ضمان شيء من صداق مثل المرأة لها، كان الذي شهدا به لها من الصداق مثله، أو دونه). قال أحمد: وذلك لأن البضع وإن كان له قيمته في دخوله في ملك الزوج، فلا قيمة له في خروجه من ملك المرأة، والدليل على ذلك: أن امرأة مريضة لو زوجت نفسها في مرضها بأقل من مهر مثلها: لم يجب لها كمال مهر المثل، ولم يكن بمنزلتها لو باعت في مرضها شيئًا بأقل من قيمته. مسألة: [رجوع شاهدي المؤجر في قدر الأجرة] قال أبو جعفر: (وإذا شهد شاهدان على رجل أنه استأجر هذه الدار من هذا الرجل سنة بألف درهم، فقضى القاضي بذلك، وسكن الدار السنة، ثم رجع الشاهدان، فإن كانت أجرة مثلها ألف درهم: لم يكن

عليهما شيء، وإن كانت أقل من ألف: ضمنا الفضل). قال أحمد: وهذا مثل النكاح إذا ادعته المرأة؛ لأن المنافع لها قيمة في دخولها في ملك المستأجر، بدلالة أن من استأجر دارًا في مرضه بأجرة مثلها: جاز، وكان بمنزلة من أخذ بدل ما ملك عليه. مسألة: قال أبو جعفر: (ولو كان صاحب الدار هو المدعي، والمسألة على حالها: فلا ضمان على الشاهدين). قال أحمد: ينبغي أن يكون السؤال: ولو كان المستأجر هو المدعي؟ لأن المسألة الأولى على أن صاحب الدار هو المدعي، ودعوى المستأجر هاهنا للأجرة مثل دعوى الزوج للنكاح في المسألة المتقدمة، فلا يعتبر فيه قلة الأجرة ولا كثرتها؛ لأن المنافع لا قيمة لها في خروجها من ملك صاحب الرقبة، بدلالة أن مريضًا لو أجر دارًا بأقل من أجرة المثل: لم يكن على المستأجر ضمان الفضل، ولم يكن بمنزلة الوصية والمحاباة، ألا ترى أنه لو أباح له المنافع وسكناها بغير أجر: جاز، ولم يكن عليه أجرة.

مسألة: [رجوع شاهدي العفو عن القصاص] قال أبو جعفر: (وإن كان لرجل قبل رجل قصاص في نفس، فشهد شاهدان على الولي بالعفو عن القاتل، وقضى القاضي به، ثم رجعا: لم يضمنا شيئًا). وذلك لأن الدم لا قيمة له في خروجه من ملك الولي، ألا ترى أنه لو عفا عنه في مرضه: كان عفوه جائزًا من جميع المال، فصار بمنزلة شهادتهما على رجل أنه أباح لرجل سكنى داره، ثم رجعا: فلا ضمان عليهما. * قال أبو جعفر: (وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أنه قال: عليهما ضمان الدية لولي المقتول). قال أحمد: هذا القول لا يستمر على أصولهم. مسألة: [رجوع شاهدي الصلح عن القصاص إلى مال] قال أبو جعفر: (ولو شهدا على القاتل أنه صالح ولي المقتول من الدم على مال، فقضى القاضي بذلك، ثم رجعا عن شهادتهما، فإن كان ما شهدا به مقدار الدية أو دونها: فلا ضمان عليهما، وإن كان أكثر من الدية: كان عليهما ضمان الفضل من الدية). قال أحمد: وذلك لأن الدم لا قيمة في دخوله في ملك القاتل، وقيمته هي الدية، والدليل على ذلك: أن القاتل إذا كان مريضًا، فصالح ولي لمقتول على عشرة آلاف: جاز ذلك، وكان بمنزلة من اشترى عبدًا بمثل قيمته، ويضمنان الفضل على الدية؛ لأن قيمة النفس هي الدية،

والفضل إنما ألزمناه بشهادتهما، ليس بإزائه شيء. مسألة: [شهد رجل وعشرة نسوة بمال على رجل ثم رجعوا عنها] قال أبو جعفر: (وإذا شهد رجل وعشرة نسوة على رجل بمال، فقضى القاضي بشهادتهم، ثم رجعوا جميعًا عنها، فإن أبا حنيفة قال: على الرجل سدس المال، وعلى النسوة خمسة أسداسه، وقال أبو يوسف ومحمد: على الرجل نصف المال، وعلى النسوة نصفه). وجه قول أبي حنيفة: أن عدد النساء وإن كثر فلا حظ له في الشهادة دون الرجل، فإن انضاف إليهن رجل، صارت كل امرأتين بمنزلة رجل. والدليل عليه: أن خمسين امرأة لو شهدن بحق، لم يكن لشهادتهن حكم، حتى إذا انضاف إليهن رجل: قبلت شهادتهن، فثبت أن عدد النساء لا حكم له في الشهادة إذا انفردن. والدليل على أنه إذا انضاف إليهن رجل صارت كل امرأتين منهن بمنزلة رجل: قول الله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} إلى قوله: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}. ودلالة هذه الآية على صحة ما ذكرنا من وجهين: أحدهما: قوله: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان}: ومعناه والله

أعلم: فإن لم يكن الشهيدان رجلين، فالشهيدين رجلين، فالشهيدين رجل وامرأتان؛ لأنه معلوم أنه ليس المراد: فإن لم يوجد رجلان: فرجل وامرأتان؛ لأنه لا خلاف أن وجود الرجلين لا يمنع قبول شهادتهن معهما، فدل على أن المعنى فيه ما وصفنا. فتضمن هذا اللفظ الدلالة على إطلاق اسم الشهيد على المرأتين، فثبت أن حكم كل اثنتين منهن حكم رجل، فوجب أن يكون الضمان عليهن على قدر ذلك. والوجه الآخر من دلالة الآية على صحة ما ذكرنا: قوله: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}، فقرئ على وجهين: بالتخفيف والتشديد. حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو عبيد مؤمل الصيرفي قال: حدثنا أبو يعلى البصري قال: حدثنا الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: من قرأت: {فتذكر إحداهما الأخرى}: مخففة: أراد أنه تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر، ومن قرأ: {تذكر}: أراد من جهة الذكر. فدلت قراءة التخفيف على أن كل امرأتين بمنزلة رجل، لما تضمنه معنى الآية على ما ذكرنا عن أبي عمرو. ومن جهة السنة: ما روى ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه

قال: "ما رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن، قيل: وما نقصان عقولهن؟ قال: شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل". وروى أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "نقص عقولهن: أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل". فأثبت لكل امرأتين حكم رجل. ومن جهة النظر: أنه لو شهد رجل وامرأتان، ثم رجعوا: كان على المرأتين ضمان النصف، وعلى الرجل النصف، فدل أن المرأتين بمنزلة الرجل إذا وجد معهما رجل، فحيثما وجدنا نسوة مع رجل، وجب أن يحكم لكل اثنتين بحكم رجل. وقال أبو يوسف ومحمد: هن وإن كثرن، فإنما يقمن مقام رجل، بدلالة أنهن إذا انفردن كن بمنزلة رجل، ولا تقبل شهادتهن. مسألة: [رجوع الشهود بمال، وهم رجلان وامرأة] قال أبو جعفر: (وإذا شهد رجلان وامرأة على رجل بمال، فقضى القاضي عليه بالمال، ثم رجعوا جميعًا: فالضمان في ذلك على الرجلين، دون المرأة). قال أحمد: وذلك لأن المرأة الواحدة لا حظ لها في الشهادة؛ لأن المرأتين باجتماعهما تقومان مقام رجل مع الرجل، فأما المرأة الواحدة،

فلا حظ لها في ذلك، فلم يحكم بشهادتهما، فلذلك لم يجب عليها ضمان. مسألة: [رجوع الشاهدين بعتق المولى عبده] قال أبو جعفر: (وإن شهد شاهدان على رجل بعتق عبده، فقضى القاضي به، ثم رجعا: ضمنا قيمة العبد لمولاه، وولاؤه لمولاه، دونهما). وذلك لأنهما قد أتلفا عليه رقبة العبد بشهادتهما، وأزالا يد المولى عنها، فصارا كالغاصبين، يضمنان بإزالة اليد. ولا يصير الولاء لهما بضمان القيمة؛ لأن العتق لا ينتقل إليهما بضمان القيمة، لأنه لا يلحقه الفسخ. * ولو شهدا لجارية له بالاستيلاء منه: ضمنا عند الرجوع ما نقصها الاستيلاد؛ لأنهما أتلفا عليه ذلك القدر من ملكه، إذ كان ملكه قائمًا في الرقبة، وإنما حدث فيه نقص بالاستيلاد. * قال: (فإن توفي المولى بعد ذلك، فعتقت: ضمنا بقية قيمة الأمة). لأنها تلفت بشهادتهما المتقدمة.

مسألة: [حكم الرجوع عن الشهادة في الإقرار بالاستيلاد] قال أبو جعفر: (ولو كانا شهدا أن مولاهما أقر أنها ولدت منه ابنا لها في يده، والمسألة بحالها: كان عليهما لمولاها في الأم كما ذكرنا، وكان عليهما أيضًا ضمان قيمة ولدها). قال أحمد: وذلك لأن الشهود إنما يضمنون ما حصل متلفًا بشهادتهما، والذي أتلفوه في هذه الحال من الجارية، ما حدث فيها من النقص بالاستيلاد، وأتلفوا عليه رقبة الولد كلها، لأنهم أخرجوه إلى الحرية. مسألة: قال: (فإن قبض ذلك الولي، ثم مات، فورثه هذا الابن: كان عليه أن يرد على الشاهدين مما ورث ما كان الميت أخذ من الشاهدين في حياته من قيمته، ومن قيمة أمه). وذلك لأنه معترف أن الأب أخذ منهما ما لم يكن له أخذه؛ لإقراره بصحة نسبه، واستيلاد أمه، وأن ما قبضه الأب كان مضمونًا عليه دينًا في ذمته. مسألة: قال: (يضمن الشاهدان بالتدبير النقصان الحادث في الجارية، فإذا مات المولى، وعتق من الثلث: ضمنا للورثة بقية قيمته).

لأنها تلفت بالشهادة المتقدمة. مسألة: [رجوع الشاهدين في المكاتبة] قال أبو جعفر: (وإذا شهد شاهدان على رجل أنه كاتب عبده على ألفي درهم إلى سنة، وقيمته ألف درهم، فقضى القاضي بذلك، ثم رجعا عن شهادتهما: فإن المولى بالخيار: إن شاء ضمن الشاهدين ألفًا حالة، ورجعا بالمكاتبة على المكاتب إلى أجلها، ويتصدقا بالفضل عما غرما. وإن شاء المولى أتبع المكاتب بالمكاتبة، وترك الشاهدين. وأيهما فعل، ثم أدى المكاتب المكاتبة: عتق، وكان ولاؤه لمولاه). قال أحمد: الشهود يضمنون بإزالة يد المشهود عليه عما شهدوا به عليه وإن لم يزل ملكه، كما يضمن الغاصب بإزالة اليد وإن لم يزل الملك، فإذا شهدا بالكتابة ثم رجعا، فقد اعترفا بأنهما أزالا يد المولى عن عبده بشهادتهما؛ لأن المكاتب في يد نفسه، ولم يحصل في يده يدل ما أزالاه عنها، فله تضمينهما قيمة المكاتب ألف درهم. وليس له أن يضمنهما الألفين؛ لأنهما أثبتا له الألفين، ولم يستحقاها عليه، فإذا ضمنا القيمة قاما مقام المولى في ملك مال المكاتبة الذي في ذمة المكاتب، كما يملك الغاصب الأول ما في ذمة الغاصب الثاني بتضمين المغصوب منه إياه القيمة، فرجعا على المكاتب به، ويتصدقان بالفضل عما غرما، كما يتصدق الغاصب الأول بفضل ما رع على الغاصب الثاني. والمعنى فيه: أن ذلك حصل له من وجه محظور، وكل من حصل له ربح من وجه محظور: يتصدق به. * وإن شاء المولى أتبع المكاتب بالكتابة؛ لأن الكتابة قد صحت عليه

من جهة الحكم، بحيث لا يمكنه فسخها، فله أن يتبعه بها. * وأيهما فعل، ثم أدى المكاتب الكتابة، فعتق: كان الولاء للمولى، وذلك لأن الشاهدين لم يملكا المكاتب بالضمان، لأن المكاتب مما لا يصح نقل الملك فيه، ألا ترى أن المولى لو مات، لم ينتقل ملك رقبة المكاتب إلى ورثته، ألا ترى أن رجلًا لو غصب مدبرًا، فأبق من يده، فضمن قيمته لمولاه، أن ملك رقبة المدبر لا ينتقل إليه، لأنه مما لا يصح نقل الملك فيه، كذلك المكاتب لم ينتقل ملكه إلى الشاهدين بالضمان، فكان عتقه واقعًا في ملك المولى. مسألة: [رجوع شاهدي المكاتبة وقد عجز العبد عنها] قال أبو جعفر: (ولو لم يعتق المكاتب، ولكنه عجز، فعاد رقيقًا: برئ الشاهدان من الضمان، ووجب على المولى رد ما قبضه منهما من قيمة العبد عليهما). وذلك لأن ضمانهما كان متعلقًا بزوال يد المولى عن عبده بشهادتهما، لما بينا، فلما عاد إلى يده بالعجز، زال الضمان، كرجل غصب مدبرًا، فأبق فضمن القيمة، ثم رع المدبر من إباقة، فيرد المولى ما أخذ من الغاصب، لأنه ضمن بإزالة يده عن المدبر، فإذا عاد إلى يده، برئ من الضمان. مسألة: [ادعاء المشهود عليه رجوع الشاهدين] قال أبو جعفر: (وإذا ادعى المشهود عليه رجوع الشاهدين عن الشهادة: لم تقبل خصومته، ولا بينته في ذلك).

قال أحمد: وذلك لأن نفس إثبات الشهادة لا يصح فيه خصومة، ألا ترى أنه لو قال لرجلين: لي عندكما شهادة فأقيماها، وأراد خصومتهما: لم يكن له ذلك، وكذلك لو أقام عليهما بينة، فكذلك الرجوع عنها. وأيضًا: فلما لم يكن للشهادة حكم إلا عند القاضي، كذلك الرجوع عنها، لا يثبت له حكم إلا عند القاضي، وذلك لأنه لا فرق بين إثبات الشهادة، وبين ما يتعلق بالرجوع من فسخها وبطلانها في حكم الراجع، وما يلحقه من الضمان برجوعه. وأيضًا: فإن تلك الشهادة بعينها هي الموجبة للضمان عليها عند الرجوع، كما توجب على المشهود عليه الضمان في ابتدائها، فلا يثبت للرجوع حكم الضمان بتلك الشهادة إلا عند القاضي. مسألة: [رجوع الشاهدين الذين شهدا على شهادة غيرهما] قال أبو جعفر: (إذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين على رجل بمال، وقضى بها، ثم رجعا عنها: فالضمان عليهما). لأنهما صارا سببًا لإزالة يده عن المال، على الوصف الذي قدمناه. * قال: (ولو لم يرجعا هما، ولكن رجع الشاهدان المشهود على شهادتهما، وحضرا القاضي، فأقرا بإشهادهما، ورجعا عن ذلك، فإن أبا حنيفة وأبا يوسف قالا: لا ضمان عليهما، وقال محمد: يضمنان). وجه قولهما: إن قول الأولين لم يتعلق به حكم في استحقاق المال، وإنما شهادة الآخرين عند القاضي هي التي جعلت ذلك القول شهادة،

فتعلق حكم الاستحقاق بشهادة الآخرين دون الأولين، فإذا لم يتعلق لزوم الحكم بقول الأولين: لم يلزمهما الضمان بالرجوع. ألا ترى أن الشهود إذا وجدوا عبيدًا أو كفارًا، لم يجب عليهم الضمان؛ لأن قولهم لم يكن شهادة موجبة للحكم إلا بتزكية المزكين، ولهذه العلة أوجب أبو حنيفة الضمان على المزكين. * وقال محمد: يضمنان؛ لأن الحكم بشهادتهما وقع عند شهادة الآخرين، ألا ترى أنهما شهدا على أصل الحق. مسألة: [رجوع شاهدي الطلاق وشاهدي الدخول] قال أبو جعفر: (وإذا شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته ثلاثًا، ولم يعلم أنه قد كان دخل بها، وقد كان تزوجها على ألف درهم، وشهد عليه شاهدان آخران أنه قد كان دخل بها، فقضى القاضي بشهادتهم جميعًا، ثم رجعوا عن شهادتهم: فإن الضمان عليهم أرباعًا، الربع على شاهدي الطلاق، والثلاثة الأرباع على شهود الدخول). وذلك لأن شهود الدخول يضمنون بشهادتهم لزوم جميع المهر، مع استحقاق البضع على الزوج بغير فعله، ألا ترى أنه على أي وجه حصلت الفرقة بعد الدخول: لم يسقط عنه شيء من المهر، فصاروا موجبين لجميع المهر، وشهود الطلاق إنما أوجبوا نصف المهر على ما تقدم بيانًا له. فانفرد شهود الدخول بإيجاب نصف المهر، فهو عليهم خاصة، واشتركوا هم وشهود الطلاق في إيجاب النصف الباقي، فهو على الفريقين

نصفين، فحصل على شهود الدخول ضمان ثلاثة أرباع مهر، ولزم شهود الطلاق ضمان ربع المهر. مسألة: [قضاء القاضي بشهادة الشهود هل ينفذ ظاهرًا وباطنًا؟] قال أبو جعفر: (وكل عقد مما ذكرنا من طلاق، أو نكاح، أو بيع، فقضى القاضي بظاهر من شهد عنده على ذلك: كان ذلك القضاء في الباطن مثله في التحليل والتحريم). قال أحمد: وهذا قول أبي حنيفة. وأما في قول أبي يوسف ومحمد: فحكم الحاكم في الظاهر كهو في الباطن، ولا يقع العقد بحكم الحاكم به إذا لم يكن هناك عقد في الحقيقة قبل حكم الحاكم. ولا تقع أيضًا الفرقة بحكم الحاكم إن لم يصادف حكمه حقيقة فرقة واقعة قلبه، إلا أن أبا يوسف قال مع ذلك: لا يحل لزوجها أن يطأها إذا حكم الحاكم بالفرقة؛ لأنه يكون زانيًا في الحكم، ولا يسع المرأة أن تتزوج؛ لأن النكاح قائم بينها وبين زوجها. وقد روي نحو قول أبي حنيفة في وقوع العقد بحكم الحاكم عن علي رضي الله عنه. وروى أبو يوسف عن عمرو بن المقدام عن أبيه أن رجلًا من الحي خطب امرأة، وهو دونها في الحسب، فأبت أن تزوجه، وادعى أنه تزوجها، وأقام شاهدين عند علي رضي الله عنه، فقالت: إني لم أتزوجه،

فقال: قد زوجك الشاهدان، فأمضى عليها النكاح. وقد روي عن الشعبي في رجلين شهدا على رجل أنه طلق امرأته بزور، ففرق القاضي بينهما، ثم تزوجها أحد الشاهدين. قال الشعبي: ذلك جائز. قال أحمد: قضاء القاضي في هذا الباب على وجهين: أحدهما: بمال مطلق من غير جهة العقد، فهذا ما لا يحله حكم الحاكم، ولا خلاف فيه بين المسلمين، وبه نطق الكتاب، قال الله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون}. وقال تعالى: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلًا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة}. وبه وردت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأنا أقضي بما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء، فإنما أقطع

له قطعة من النار". فهذا هو الأصل في أن قضاء القاضي لا يوجب له ملك المقضي به إذا لم يقع على وجه العقد. والوجه الثاني: أن يحكم بعقد، أو فسخ عقد، فيكون حكم الحاكم في الباطن، كهو في الظاهر في قول أبي حنيفة، ويصيران كأنهما تعاقدا فيما بينهما العقد الذي حكم به الحاكم، أو فسخاه. وقد روي عن أبي حنيفة في حكمه بعقد الهبة روايتان: إحداهما: أن العقد واقع كسائر ما يحكم به من العقود. والثاني: أنه لا يملك الموهوب له ذلك بحكم الحاكم، ولا يقع العقد. فأما الأصل في أن حكمه بالعقد أو فسخ العقد في الباطن كهو في الظاهر: فهو ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام، "حين فرق بين هلال بن أمية وامرأته قال: إن جاءت بالولد على صفة كيت وكيت، هو لشريك بن سحماء، وهو المقذوف بها. فلما جاءت به على الصفة المكروهة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا ما سبق من الأيمان، لكان لي ولها شأن". وفي بعض الألفاظ: "لولا ما سبق من الحد"، و: "لولا ما سبق من

كتاب الله". فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بصدق هلال بن أمية، وكذلها، ولم يرفع الفرقة التي أوقعها لأجل عدم علمه بدءًا بصدق الصادق منهما، ومعلوم أنه لو لم يكن قد أمضى الفرقة، لم يفرق بينهما، فصار ذلك أصلًا في فسخ العقد إذا وقع بحكم الحاكم، وأنه نافذ وإن كان في الباطن خلافه. وإذا صح ذلك في فسخ العقد، كان كذلك حكم العقد؛ لأن أحدًا لم يفرق بينهما. * وفي إيقاع الفرقة باللعان وجه آخر من الدلالة على ما وصفنا، وهو أنه معلوم أن أحدهما كاذب، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: "الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ ". ولو علمنا الكاذب منهما بعينه، لما فرقنا بينهما، ثم لما اشتبه علينا أمرهما، وفرقنا بينهما، كانت الفرقة نافذة، مع العلم بكون كذب أحدهما، والذي أمضى ذلك وأنفذه: جهلنا بكذبه، وسقوط حكمه، كذلك جهلنا بكذب الشهود: يوجب إمضاء الفرقة التي شهدوا بها، وحكمنا بها. ومن الدليل على أن لحكم الحاكم تأثيرًا في إمضاء العقد أو فسخه: أن حاكمًا لو رفع إليه عقد مما اختلف فيه، نحو الشفعة بالجوار ونظائرها،

فأجازه: لم يكن لمن بعده من الحكام فسخ قضائه، وكان واسعًا للشفيع التصرف في الدار المأخوذة بالشفعة، لأجل حكم الحاكم به. ولو لم يكن حكم الحاكم به، ثم رفع إلى حاكم لا يرى الشفعة بالجوار: لم يكن عليه الحكم بالشفعة، بل كان عليه إبطالها إذا كان ذلك من رأيه، فقد صار لحكم الحاكم تأثير في إيقاع العقد، أو فسخه، فصار ذلك أصلًا في نظائره من العقود. * ودليل آخر: وهو أن الذي على الحاكم باتفاق المسلمين إذا شهد عنده شهود- ظاهرهم العدالة- بعقد، أو فسخ عقد: إمضاؤه والحكم به، فيصير ذلك عقدًا محكومًا بجوازه ونفاذه، من حيث أمر بإنفاذه، ولو تخلف الحاكم عن الحكم به، ليقف على حقيقة ما شهدوا به، لكان تاركًا لحكم الله عز وجل، عاصيًا في تخلفه عن أمر الله. وإذا وقع الحكم بالعقد من حيث أمر الله تعالى بالحكم به، وجب أن يصح ويقع، إذ كان سائر العقود التي يتعاقد عليها المتعاقدان، إنما وجب إمضاؤهما عليها، ولزومهما أحكامها من حيث أمر الله تعالى بإمضائها، ولزوم أحكامها. فلا فرق حينئذ بين أن يعقدا هما عقد نكاح بشهود حضروهما، وبين أن يأمر الله بالحكم بصحته إذا لزم الحاكم الحكم به بشهادة شهود شهدوا عنده به، فلا يجوز فسخ عقد هذا وصفه، إلا بما يصح به فسخ الحكومات، ويجوز ثبوته عند الحكام. فإن قال قائل: فلو حكم بذلك بشهادة شهود، ثم تبين أنهم عبيد أو كفار: لم ينفذ حكمه، ولم يقع العقد بقضيته وإن كان مأمور بإمضائه والحكم به.

قيل له: لا فرق بينهما في وقوع العقد بما وصفت، وإنما اختلفا من أجل أن هناك سببًا يوجب فسخ العقد الواقع بحكم الحاكم، وهو كون الشهود عبيدًا، أو كفارًا، أو محدودين في قذف، وهذه معان يصح ثبوتها عند الحكام، وتقوم عليها البينات، فجاز أن يفسخ به العقد الواقع، إذ لا يمتنع فسخ عقد صحيح بمعان توجبه وتقتضيه. وليس كذلك حكم الشهود إذا كانوا شهود زور؛ لأن ذلك معنى لا يصح ثبوته عند الحكام من طريق الحكم، ولا تقوم عليه البينات، ولا يجوز فسخ حكم الحاكم إلا بحكم مثله، والرق، والكفر، والحد في القذف معان يصح ثبوتها من طريق الحكم، فلذلك جاز فسخ الحكم به. * وعلى هذا المعنى قال أبو حنيفة: إذا حكم الحاكم بنكاح امرأة بشهادة شهود شهدوا عنده، وقد كان المشهود عليه طلقها ثلاثًا قبل أن تتزوج زوجًا غيره: أنها لا تحل له، وكذلك لو حكم بنكاحها، وهي معتدة من غيره، وذلك لأن هذه معان يصح ثبوتها عند الحاكم من جهة الحكم، وتقوم عليها البينات، فإذا قارنت حكم الحاكم بالعقد منعت جوازه. * ومن جهة أخرى في بطلان الحكم بعقد المعتدة والمطلقة ثلاثًا: وهي أن حكم الحاكم بالعقد، ليس بأكثر من ابتداء عقد منهما، فلا يصح حكمه بالعقد إلا في حال لو ابتدأ العقد فيه صح. فإن قال قائل: يلزمك على هذه العلة إيجاب ملك المال للمحكوم له بقضاء القاضي به له، إذ هو مأمور بالحكم به، ولم يقارنه ما يوجب فسخه من طريق الحكم. قيل له: لو كان حكم الحاكم له بالمال حكمًا له بملكه، للزم ما قلت، ولكنا نقول: إن الحاكم إنما يحكم عليه بتسليم المال إليه، ولا يحكم له

بملك المال، وذلك لأنه لو وجب الحكم له بالملك، لما صح ذلك إلا مع بيان جهة الملك، فلما صح حكمه له به مع عدم بيان جهة الملك، ثبت أن حكم الحاكم، إنما تناول التسليم فحسب، لا ملك المال. ألا ترى أن المحكوم له، لو كان اعترف بملك المال للمحكوم عليه، وادعى انتقاله إليه بجهة من جهات الملك، لما صح له الحكم بالمال بالبينة، إلا مع بيان جهة الملك، حين احتجا إلى أن نحكم له بالملك. فلو قالوا: انتقل إليه ملك العبد، أو ملكه عليه: لم يحكم الحاكم بذلك حتى يشهدوا له بالجهة التي انتقل بها إليه، من بيع أو هبة أو نحو ذلك، فلو كان إطلاق الشهادة بالملك، يوجب له الحكم بالملك، لم صح الحكم به أو يشهدوا بجهة الملك، فصح بذلك أن الحاكم إنما يحكم له بالتسليم إليه، إذا لم يشهدوا بجهة الملك، واستحقاق التسليم إليه لا يوجب له الملك، وذلك لأنه قد يستحق تسليم ما لا يملكه، مثل عقد الرهن والإجارة. وإنما ذكرنا حقيقة ما يقتضيه حكم الحاكم من التسليم أو الملك، لا من جهة أن سؤال السائل يقتضيه بحق الطر، لكن لأنا أردنا بيان وجه المسألة. * فأما الذي يوجبه علينا النظر من الجواب، فهو أن نقول: إن حكم الحاكم بشهادة الشهود بمال مطلق، من غير جهة العقد، ليس يقتضي حكمًا منه بالملك، فإذا قلنا ذلك: سقط عنا سؤال السائل، ثم الكلام في تصحيح ما ذكرنا من المذهب خروج عن مسألتنا. * وأما وجه ما روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه في الهبة من

الروايتين، فإن وجه الجواز: أن حكم الحاكم تناول العقد، والانتقال به إليه، فكان كالبيع والنكاح ونحوه. ووجه الرواية الأخرى: أن الحاكم لا ولاية له بحال في تمليك أموال الناس بعقد الهبة، وقد ثبت له ولاية في عقد النكاح والبيع والطلاق ونحوها. مسألة: [رجوع الشاهدين على آخر بالهبة] قال أبو جعفر: (وإذا شهد شاهدان على رجل بالهبة والقبض، ثم رجعا: ضمنا قيمة ما شهدا به للواهب، ولم يكن للواهب أن يرجع في الهبة). قال أحمد: إنما ضمنا القيمة؛ لاعترافهما باستهلاكه عليه بالشهادة، ولا يكون للواهب الرجوع في الهبة، لأنه قد أخذ بدلها من الشاهدين، ومتى حصل للواهب عوض الهبة: لم يصح له الرجوع فيها. مسألة: [إذا تبين للقاضي عدم أهلية من حكم بشهادتهما] قال أبو جعفر: (إذا قضى القاضي بشهادة شاهدين على رجل لرجل بمال، ثم وجد الشهود عبيدًا، أو محدودين في قذف: فإن على المحكوم له رد المال إن كان قبضه، ولا ضمان على الشاهدين). وذلك لأنا قد بينا أنهما لم يكونا من أهل الشهادة، وكان ذلك خطأ من الحاكم حين حكم بشهادة من ليس من أهلها، ويرجع على القابض بما

قبض، لحصول العلم ببطلان قضاءه من جهة الحكم. مسألة: [إذا تبين عدم أهلية البيع شهود، الذين شهودا في قود] قال أبو جعفر: (وإن كان الذي قضى به القاضي في ذلك بشهادتهما قودًا، والمسألة على حالها: فإن ضمان الدية في ذلك على المشهود له إن كان أخذ القود، وقد اختلف عن أبي حنيفة رحمه الله، فروي عنه أنها على عاقلته). قال أحمد: وإنما وجب ضمانها على المشهود له؛ لأنه تناول القود على أنه حق له، وقد بينا أنه لم يكن حقه فيضمنه، ولا يكون عليه القود، لأنه أخذه بحكم القاضي، وجائز أن يكون المشهود له إنما عمل على قول الشاهدين في أخذ القود، ولم يكن له علم بحقيقة ذلك. ووجه الرواية التي جعلها في ماله: أن المشهود له قد قتل المشهود عليه، وكان حكمه أن يكون عليه القود لولا شهادة الشاهدين، وحكم القاضي به، فصار ذلك شبهة في سقوطه، ووجبت الدية في ماله، لأنه عمد سقط فيه القود بشبهة، بمنزلة من قتل ابنه، فيكون عليه الدية في ماله. ووجه الرواية الأخرى: أنه جعل بمنزلة قتل الخطأ، فتكون الدية فيه على العاقلة. * * * * * * * *

كتاب الدعاوى والبينات

كتاب الدعاوى والبينات مسألة: [بيان من تلزمه البينة ومن يلزمه اليمين] قال أبو جعفر: (البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه). وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه". مسألة: [تنازع المدعيين في دار في يد أحدهما وإقامتهما البينة عليها] قال أبو جعفر: (ومن ادعى دارًا في يدي رجل أنها له، وادعاها الذي هي في يده، وأقام كل واحد منهما البينة أنها له: فإنه يقضى بها للخارج). قال أحمد: الأصل فيه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي". فاحتجنا أن نعرف المدعي من المدعى عليه، فلما اتفق الجميع على أن الذي يطالب بإقامة البينة بدءًا هو الخارج، وأن الذي يبدأ باليمين هو الذي الشيء في يده، ثبت أن المراد بالمدعي: هو الخارج، وأن المراد بالمدعى عليه: هو الذي الشيء في يده. فقد انتظم هذا اللفظ إيجاب جميع البينات على الخارج، إذا كان هو المدعي.

وقوله: "البينة": اسم يتناول الجنس، فلا يبقى شيء من الجنس إلا وقد انتظمه اللفظ، فلا يبقى هناك بينة تكون على المدعى عليه الذي الشيء في يده. وكذلك لما قال: "اليمين على المدعى عليه": نفى به إيجاب يمين على المدعي؛ لاشتماله على جنس اليمين. وليس يمتنع أن يقال: إن قوله: "البينة على المدعي": لا يتناول غير الخارج، وأنه لا يدخل تحته قط الذي الشيء في يده؛ لأن المدعي يقتضي مدعى عليه، والخارج معلوم أنه ليس بمدعى عليه، بدلالة أن الذي الشيء في يده لو رفعه إلى القاضي، وقال: أنا أدعي الدار التي في يدي لنفسي، وهو ينكر، فاقبل بينتي عليه: لم يلتفت له. فصح أن الذي في يده ليس بمذاع، إذ كان إطلاقه لفظ المدعي يقتضي مدعى عليه، فلما لم يكن الخارج مدعى عليه، لم يكن الذي الشيء في يده مدعيًا. فإذا قوله: "البينة على المدعي": إنما يتناول الخارج دون الذي في يديه، واستغرق سائر البينات بإيجابها عليه، فلم يبق هناك بينة تكون على المدعى عليه. وأيضًا: من الدليل على أن الذي في يديه الشيء لا حكم لبينته على الملك المطلق: أنه لو جاء فأقام البينة على الخارج، ورام من القاضي الحكم ببينته، لأنه يجحده: لم يلتفت إلى بينته، وأن المدعي لو جاء بالبينة، قبلت بينته؛ فدل على أن المخصوص بقبول البينة هو الخارج،

دون الذي في يديه. وأيضًا: فإن ظاهر اليد والتصرف، يوجب الملك الذي هو في يديه، والبينة التي تشهد له إنما ترجع إلى ظاهر اليد، إذ لا سبيل لها إلى معرفة حقيقة الملك، وإذا كان هذا سبيل البينة فيما شهدت به، ولم يمنع ظهور اليد للذي في يديه من استحقاقها ببينة الخارج: كذلك ببينته. وأيضًا: يدل على ما ذكرنا: قول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث الأشعث بن قيس، وحديث وائل بن حجر: "شاهداك، أو يمينه، ليس لك إلا ذلك"، فانتفى بذلك قبول بينة الذي في يديه. فإن قيل: إنما أراد: ليس لك حق غيره، ولم ينف به قبول بينة الذي في يديه. قيل له: إنه ليس كذلك، بل المراد أنه ليس لك إلا ذلك في قطع الخصومة بينك وبينه، ألا ترى أنه ذكر يمين المدعى عليه لقطع الخصومة، لا لاستحقاق ما يدعيه، فبان بذلك أن مراده قطع الخصومة، فاقتضى اللفظ نفي قبول المدعى عليه؛ لأن فيه قطع الخصومة بغير ما أوجبه النبي صلى الله عليه وسلم. قال أحمد: ولا يعترض على ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في النتاج، أنه قضى به للذي هو في يديه.

وذلك لأن النتاج الذي قامت عليه البينة لهما، ليس أحدهما أولى بأن يكون مدعيًا فيه من الآخر؛ لأنه معنى مغيب عنا، ليس بظاهر في الحال، إذ لم يكن ظهور اليد علمًا للنتاج، وظهور اليد علم للملك، فلما لم يكن معنى النتاج ظاهرًا في الحال، لم يمتنع قبول بينة الذي في يديه عليه لدلالة أوجبته، إذ لم يتناوله لفظ النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه". وأيضًا: لما كان النتاج معنى لا يستحلف عليه الذي هو في يديه، لم يمتنع قبول بينته عليه، إذ لم يكن فيه مدعى عليه في باب الاستحقاق عليه، وليس كذلك إذا أقام البينة على دعوى الملك المطلق من غير نتاج؛ لأن الملك المطلق يستحلف الذي في يديه على نفيه. ألا ترى أنه لو لم تكن لهما بينة، استحلف في دعوى الملك على نفي الملك: بالله ما هو ملك للخارج، ولا يستحلف في النتاج: بالله ما ولد في ملك الخارج، فلذلك اختلف حكم النتاج، والملك المطلق في باب قبول بينة الذي في يديه. وأيضًا: ما ذكرنا من خبر الأشعث بن قيس، وخبر وائل بن حجر لا يعترض عليه بخبر النتاج؛ لأن الخصومة كانت في أرض أو بيت، وليس في ذلك معنى النتاج، فقبلنا خبر النتاج على حياله، وخبر الأشعث ووائل على ما ورد فيه، ولم يعترض بأحدهما على الآخر. وأيضًا: للنتاج معنى يفارق به دعوى الملك المطلق، ويوجب أن

تكون بينة الذي في يده أولى، وهو أنه لما كان كل واحد منهما يدعي الملك من الجهة التي ادعاه صاحبه، كان الذي في يده أولى، كرجلين أقام كل واحد منهما البينة أنه اشترى هذا العبد من زيد، وهو في يدي أحدهما: أن الذي في يده أولى؛ لأنه ادعى الملك من الجهة التي ادعاها صاحبه، ومعه يد، وكذلك النتاج، وليس ذلك موجودًا في دعوى الملك المطلق. مسألة: [إقامة المدعيين البينة على الدار المتنازع فيها] قال أبو جعفر: (وإذا ادعى مدعيان دارًا في يدي رجل، فأقاما بينة: فإنه يقضى بها بينهما نصفين). والأصل فيه: ما روى قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى: "أن رجلين ادعيا بعيرًا، فبعث كل واحد منهما شاهدين، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما". وقد روي في بعض ألفاظ هذا الحديث: "أنه كان في يد غيرهما، ولم يكن في يد واحد منهما". وروى سماك بن حرب عن تميم بن طرفة عن النبي عليه الصلاة

والسلام مثله. وأيضًا: فلما تساويا في السبب الموجب للاستحقاق، وجب أن يتساويا في استحقاقه، فيكون بينهما نصفين، كما أن الغرماء لما تساووا في السبب الموجب لهم استحقاق مال الميت، تساووا في استحقاقه، وكما أن كل من الابنين مستحق جميع مال الأب إذا انفرد، ثم لما اجتمعا وتساويا في سبب الاستحقاق، وهو النسب الموجب لهما ذلك: تساويا في الاستحقاق. فإن قيل: قد علمنا كذب إحدى البنتين، فلا يحكم بواحدة منهما، إذ كان في إيجاب الحكم بهما جميعًا، حكم بينة قد علمنا كذبها. قيل له: هذا الاعتبار ساقط، من قبل أنه يؤدي إلى إسقاط جميع البينات؛ لأن رجلًا لو أقام البينة على عبد في يدي رجل أنه له: قبلت بينته، وقضي له به، فإن أقام آخر بينة على أنه له: قضي له به أيضًا على المستحق الأول، فقد حكمنا بصحة البينتين جميعًا، مع استحالة كون جميع العبد ملكًا لكل واحد منهما على الانفراد، فسقط بذلك قول من أوجب تعارض البينتين إذا قامتا على الملك. وأيضًا: فإن كل واحدة من البينتين لا سبيل لها إلى الوصول إلى حقيقة

الملك، وإنما تشهد بما يظهر من اليد والتصرف، وليس يمنع أن تكون كل واحدة منهما قد شهدت بظاهر اليد والتصرف ممن شهدت له به، فكانت صادقة في شهادتها، إذ لم تتناول شهادتها حقيقة الملك. وإقامتهما البينة على النتاج والملك المطلق في هذا سواء على المعنى الذي قدمنا؛ لأن أحدهما لو استحقه بالنتاج على رجل، لم يمتنع أن يستحقه على المحكوم له بالنتاج إنسان آخر لو أقام البينة على النتاج، فيكون فيه حكم ببينتي النتاج، فانتفى بذلك قول من أوجب تعارض بينتي النتاج، من أجل استحالة كون النتاج من بينتين. فصل: قال أبو جعفر: (ولا يسمع القاضي بعد ذلك من الذي في يديه بينة على الخارجين، ولا بينة واحد منهما على صاحبه). قال أحمد: وذلك لأن الذي في يديه، قد صار مستحقًا عليه ببينة الخارجين، ومن استحق عليه شيء ببينة، لا يجوز أن يستحقه هو على المستحق. والأصل فيه: ما روى أبو بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقضى في الشيء الواحد بقضاءين". وأيضًا: فلو اجتمعت بينة الخارج، والذي في يده: كانت بينة الخارج

أولى، كذلك إذا افترقت البينتان؛ لأن كل بينتين لو اجتمعا: كانت إحداهما أولى، كذلك إذا افترقا؛ لأن هذه البينة قد صارت أولى بالاستحقاق بها مع حضور الأخرى، فتأخرها عنها لا يمنع ما قد ثبت من حكمها في كونها أولى. وإنما لم تقبل بينة أحدهما بعد ذلك على الآخر؛ لأن كل واحد منهما قد صار مستحقًا عليه لصاحبه، والدليل على ذلك: أن بينة كل واحد منهما، قد كانت توجب له استحقاق الجميع لولا بينة الآخر، فصار الآخر مستحقًا عليه النصف الذي كان يستحق لولاه، فكان في هذا النصف بمنزلة الذي في يده إذا استحق عليه، فلا يلتفت بعد ذلك إلى بينته. مسألة: [إقامة المدعيين البينة على الدار وإحداهما أسبق زمنًا تملكًا] قال أبو جعفر: (ولو كان المدعيان أقام أحدهما البينة أنها له منذ سنة، وأقام الآخر البنية أنها له منذ سنتين: قضى بها لصاحب السنتين). قال أحمد: وذلك لأن صاحب السنتين قد أقام البينة أنه لا يستحق في السنتين إلا من جهته، فأشبه صاحب النتاج إذا أقام البينة أنه لا يستحق ملكه بعد الولادة إلا من جهته، فيحتاج حينئذ مدعي الملك منذ سنة أنه استحق في السنتين من جهته. * قال أحمد: ولو أقام كل واحد منهما البينة أنه له منذ سنة: قضى به بينهما نصفين؛ لأنهما قد تساويا في الوقت، فسقط حكمه، وصارا كأنهما أقاما البينة على ملك غير مؤقت، ولذلك قالوا: إن الخارج والذي في يده لو أقاما البينة على وقت واحد: كان الخارج أولى؛ لأنهما لما تساويا في

الوقت، سقط حكمه، وصار كأنهما لم يوقتا وقتًا. ولم يجعلوا ذلك بمنزلة الذي في يديه والخارج إذا أقاما البينة على النتاج، فيكون الذي في يديه أولى، لما ذكرنا من خبر النتاج، وأن الولادة ليست معنى ظاهرًا في الحال، فكان صاحب اليد أولى بها. وأما التوقيت، فإنهما متى تساويا فيه: سقط حكمه، وصارا كأن لم يوقتا؛ لأن توقيت الملك، لا يوجب كونه أول مالك، والولادة توجب كونه أول مالك له، فلذلك اختلفا. مسألة: [إقامة المدعيين البينة على الدار وإحداهما غير مؤقتة] قال أبو جعفر: (ولو أقام أحدهما البينة أنها له منذ سنة، وأقام الآخر البينة أنها له ولم يوقت شهوده. فإن أبا يوسف قال: أقضي بها لصاحب الوقت، وقال محمد: أقضي بها للذي لم يوقت شهوده). قال أحمد: قول أبي حنيفة في ذلك بأنه يقضي بها بينهما نصفين، رواه عنه محمد. ووجه ذلك: أنه ليس في توقيته دلالة على تقدم ملكه على ملك الذي لم يوقت. وليس هذا مثل أن يكون وقت أحدهما متقدمًا لوقت الآخر؛ لأن صاحب الوقت الآخر يدعي الملك في وقت قد استحقه قبل ذلك صاحب الوقت الأول، فأشبه النتاج، واحتاج الآخر في صحة الاستحقاق إلى أن يبين أنه استحقه من جهة صاحب الوقت الأول.

وأما قول أبو يوسف: فإن الذي حكاه أبو جعفر هو قول أبي يوسف الأول، وقوله الآخر مثل قول أبي حنيفة. وأما قول محمد الذي حكاه: فهو قوله الأخير الذي رجع إليه بعد رجوعه من الرقة. وذهب محمد في ذلك إلى أن الذي لم يوقت شهوده يستحق ملك الأصل، بدلالة أنه متى استحقه على هذا الوجه من يدي مشتري غيره: يرجع الباعة بعضهم على بعض بالأثمان وإن كانوا قد تبايعوها منذ خمسين سنة، فدل ذلك على أن الاستحقاق: بإطلاق لفظ الملك، من غير توقيت استحقاق للأصل، والذي وقت شهوده إنما استحقه بالوقت المذكور، فصار ملك الذي لم يوقت شهوده متقدمًا في الحكم لملكه، فكان أولى. قال أحمد: وهذا الاعتبار لا تستمر عليه المسائل، لا على أصله ولا على أصلهم، لاتفاقهم جميعًا على أن الذي في يديه لو أقام البينة على ملك مطلق، وأقام الخارج البينة على ملك مؤقت: أن الخارج أولى. ولو كان صاحب الملك المطلق مستحقًا للأصل، لوجب أن يكون بمنزلة النتاج، فيكون صاحب اليد أولى، وكان يجب أن لو أقام أحدهما البينة أنه له منذ سنة، وأنه أعتقه، وأقام الذي في يده السنة أنه له: أن الذي في يديه أولى، وأن يبطل العتق، كما لو أقام البينة على أنه له منذ سنتين.

ويلزم على ذلك أيضًا إن لم يوقت شهود الخارج، وشهود الذي في يديه: أن يكون الذي في يديه أولى، كالنتاج لأنه استحق ملك الأصل، فلما اتفق الجميع على صحة هذه المسائل مع وجود العلة التي اعتل بها في كون صاحب الملك المطلق أولى، ووجوب الحكم بخلافها، دل ذلك على فساد هذا الاعتبار. ولكن تحصيل المعنى في الملك المطلق، هو ما كان يقوله أبو الحسن رحمه الله، إنه متى وقع الحكم به يكون حكمًا باستحقاق الأصل، فأما قبل وقوع الحكم به، فغير حائز أن يوجب ذلك بنفس الشهادة، إذ ليس في نفس الشهادة استحقاق الأصل، ولا معنى النتاج، فإذا وقع الحكم بالشهادة على الملك المطلق، تعلق به استحقاق الأصل من طريق الحكم، فلذلك رجعت الباعة بعضهم على بعض بالأثمان وأن تقادم وقت البياعات. مسألة: [إقامة المدعيين البينة بشراء الدار ممن هي في يده] قال أبو جعفر: (ولو ادعى كل واحد من المدعيين أنه اشتراها من الذي في يده بثمن مسمى، وأقام عليه البينة: قضى بالبينتين جميعًا، وكان كل واحد منهما بالخيار: إن شاء أخذ نصف الدار بنصف الثمن، وإن شاء ترك). قال أحمد: لما قامت البينة لكل واحد منهما، لم يكن أحدهما أولى

به من الآخر، فتساويا في استحقاقه نصفين بالعقدين اللذين أقاما البينة عليه، ووجب لكل واحد منهما الخيار؛ لأن من حجته أن يقول: قد قامت بينتي على إقراره ببيع جميعها مني، وقد استحق علي نصف المشترى، فلي الخيار في فسخ الباقي، لأن الصفقة لم تسلم لي، ولأن الشركة عيب. مسألة: [تميز إحدى البينتين بالقبض أو التوقيت] قال أبو جعفر: (ولو شهدت بينة أحدهما بالقبض: كان صاحب القبض أولى). وذلك لأن الذي معه القبض محكوم بعقده متقدمًا لعقد الآخر، من قبل أن العقدين حكمهما أن يقضي بهما في حال واحدة، لتساويهما، وعدم الدلالة على تقدم أحدهما، فإذا كان مع أحدهما قبض، فالقبض محكوم به لا محالة عن العقد، فهو متقدم له، وعقد الآخر محكوم به في الحال، فصار عقد صاحب القبض سابقًا لعقده في الحكم، فكان أولى به. * قال أبو جعفر: (وكذلك لو وقتت إحدى البينتين، ولم توقت البينة الأخرى: كان صاحب الوقت أولى). وذلك لما قلنا من أن قيام البينة على العقدين، يقتضي الحكم بهما معًا في حال القضاء، فإذا كان مع أحدهما وقت، وجب الحكم له بالعقد لوقته الذي شهدت به شهوده، فصار في التقدير عقده سابقًا لعقد الآخر؛

لأن عقد الآخر لما لم يكن له تاريخ، وجب الحكم به في الحال، لا لوقت متقدم، إذ ليس شيء من الأوقات المتقدمة بأولى أن يحكم به فيه من وقت غيره، فصارا في هذا الوجه كأنهما وقتًا وقتين، أحدهما قبل الآخر، فيكون صاحب الوقت الأول أولى. مسألة: [إذا تنازع شخصان على ثوب منسوج وأقاما بينة بذلك] قال أبو جعفر: (من ادعى ثوبًا في يدي رجل أنه له، وأنه نسجه، وأقام عليه البينة، وأقام الذي هو في يديه البينة على مثل ذلك، فإن كان مما لا ينسج إلا مرة واحدة: فالذي في يديه أولى به، وإن كان مما ينسج مرتين كالخز والشعر: فالخارج أولى). قال أحمد: قد ثبت عندنا أصلان. أحدهما: أن يقيم الذي هو في يديه، والخارج جميعًا البينة على ملك مطلق: فيكون الخارج أولى؛ لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحكمه بأن "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه". فكان ما يجوز حدوثه في العين مرة بعد أخرى، مثل نسج الثوب الخز والشعر، فهو بمنزلة الملك المطلق؛ لأن الملك مما يجوز حدوثه مرة بعد أخرى، فكان الخارج أولى. والأصل الآخر: ما لا يكون حدوثه في العين إلا مرة واحدة، وهو النتاج، وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم به للذي هو في يديه، فقلنا: كل ما كان في معنى النتاج، متى قامت عليه البينة: فصاحب اليد أولى به؛

قياسًا على النتاج. فعلى هذين الحرفين تدور مسائل النتاج وما في معناه، والملك المطلق ونظائره. مسألة: [إقامة المدعيين البينة على دار كل منهما بأنها لأبيه] قال: (ومن ادعى دارًا في يدي رجل أنها كانت لأبيه، مات منذ سنة، وتركها ميراثًا له، لا وارث له غيره، وادعى آخر أنها كانت لأبيه، مات منذ شهر، وتركها ميراثًا له، لا وارث له غيره، وأقاما البينة، فإن أبا يوسف قال: أقضي بها لصاحب الوقت الأول، وقال محمد: أقضي بها بينهما نصفين). قال أحمد: وقول أبي حنيفة في هذا القول كقول أبي يوسف. ووجه ذلك: أن كل واحد من المدعيين قد أرخا ملكيهما، فصاحب التاريخ الأول أولى، كما لو أقاما البينة على الملك المطلق من غير جهة الميراث، ووقت أحدهما متقدم لوقت الآخر: كان صاحب الوقت الأول أولى، فكذلك ما وصفنا. وقال محمد: إذا أقاما البينة على الميراث، فإنما أثبتا ملك الميتين، وملك الميتين غير مؤرخ، فصار كأن الميتين أقاما البينة على ملك من غير تاريخ، والدليل على أنهما يثبتان ملك الميتين: أنه إذا قضى به للوارث قضى منه ديون الميت، وأنفذت منه وصاياه، فدل ذلك على أن القضاء بالملك يقع للميت، فسقط اعتبار تاريخ ملك الوارث.

والانفصال لأبي حنيفة في ذلك: أن الميت لا يثبت له ملك، وإنما يثبت الملك للحي، فوجب اعتبار تاريخ ملك الوارثين. مسألة: [تنازع شخصان على دار يدعي كل منهما شراءها من الآخر، ولهما بينة] قال أبو جعفر رحمه الله تعالى: (وإذا ادعى دارًا في يدي رجل أنه ابتاعها من الذي في يديه بألف درهم- وادعى قبضها، أو لم يدع-، وادعى الذي هو في يديه على المدعي مثل ذلك، وأقام كل واحد منهما البينة على دعواه، فإن أبا حنيفة وأبا يوسف قالا: يبطل القاضي البينتين جميعًا، ويجعل الدار للذي هي في يديه. وقال محمد: إن لم تشهد بينة الخارج على قبض الدار: قضى بها للخارج على الذي هي في يديه، وإن شهدت على قبض منه لها: قضى بالبينتين جميعًا، وقضى بالدار للذي هي في يديه). قال أحمد: لم يختلفوا أن الخارج لو أقام البينة على إقرار الذي في يديه بها له، وأقام الذي في يديه البينة على إقرار الخارج بها: أن البينتين تسقطان، ويترك الدار في يدي الذي هي في يديه. فرد أبو حنيفة مسألة إقامتهما البينة على الشراء إلى هذه، وذلك لأن دخوله معه في عقد الشراء، إقرار منه بأن الدار له، فلا فرق بين إقامتهما البينة على صريح الإقرار من كل واحد منهما لصاحبه بها، وبين إقامتهما

البينة على شراء يتضمن الإقرار بها له. وفرق محمد بينهما، بأن الإقرار إذا لم يكن من عقد تمليك، فإنه يوجب الملك له، لا على وجه ابتداء تمليك، بدليل جواز إقرار المريض بجميع ماله لآخر، وامتناع جواز تمليكه إلا من الثلث. فلما لم يكن الإقرار تمليكًا من جهته، لم يقتض كونه مالكًا قبل الإقرار، لا على جهة الحدوث: استحال الحكم بصحة الإقرارين بصحة الملك، بأن كل واحد منهما مستحق للملك بالإقرار في الحال الذي يستحق فيها صاحبه فبطل الإقراران جميعًا، وبقيت الدار في يدي الذي هو في يديه. وأما الشراء، فإنه عقد تمليك ينتقل به الشيء إلى المشتري، وقد يمكننا تصحيحهما جميعًا، بأن يحكم بأحدهما قبل الآخر، فمتى أمكننا تصحيح العقدين جميعًا صححناهما، لأن حكم البينات أنها محمولة على الصحة، ولا يجوز حملها على التنافي والتضاد ما وجدنا لها وجهًا في الصحة، فلذلك وجب ما ذكرنا. والانفصال لأبي حنيفة من ذلك: أنه لا فرق بين الأمرين من الوجه الذي ذكره محمد؛ لأن كل واحد منهما مستحق للملك بالشراء في الحال التي يستحق صاحبه فيها الملك، كما يستحق الملك بالإقرار. وما فصل به محمد بين الإقرار والشراء، فإنما يمكن إذا أثبتا تاريخًا للعقدين، ولا جائز إثبات تاريخ ليس في لفظ الشهود، كما لا يجوز إثبات قبض لم يشهد به الشهود، وليس بمشاهد معلوم. ألا ترى أن خارجين لو ادعيا الشراء من جهة الذي هي في يديه: لم يجز لنا أن نثبت لأحدهما تاريخًا لعقده، ليس للآخر مثله، إذ ليس في

لفظ الشهادة تاريخ، بل حكمنا بالعقدين لهما معا، فكذلك الخارج والذي في يديه، إذا أقاما البينة على الشراء، كل واحد منهما من صاحبه، ولا تاريخ مع واحد منهما. ولمحمد: أنا لا نحتاج في الخارجين إذا ادعيا الشراء من جهة الذي في يديه، إلى إثبات تاريخ في تصحيح عقدهما، وقبول بينتهما؛ لأنه لا يمتنع الحكم بوقوع عقدهما معا، ويمتنع ذلك في الخارج، والذي في يديه، فاحتجنا إلى إثبات التاريخ في تصحيح البينتين، فصححناهما من الوجه الذي يمكن تصحيحهما. *قال: (وليس التاريخ في ذلك كالقبض). لأن العقد لابد من أن يكون له وقت يقع فيه، وقد علمنا استحالة وقوعهما معا، فحكمنا بتقدم أحدهما على الآخر، على حسب ما يقتضيه الحكم، وأما القبض فإن صحة العقد لا تفتقر إلى وجوده، فلذلك لم يلزم الحكم بالقبض، من حيث حكمنا بالتاريخ. *وأما ما ذكره أبو جعفر من قول محمد: "إنها إذا لم تكن مقبوضة: قضى بها للخارج على الذي في يديه، وإن شهدت على القبض: قضى بالبيعين، وقضى بها للذي في يديه": فإنه لا فرق عند محمد في قيام البينة على القبض أو عدمه، في أنه متى أمكنه تصحيح البيعين: صححهما، سواء كانت قد قبضت أو لم

تقبض، إلا أنه يقول: إن لم تقم البينة على القبض: فإنه يقضي بشراء الذي في يديه أولا من الخارج، ويحكم له بالقبض؛ لأنها في يديه، فيحكم بأن هذا القبض هو قبض البيع، إذ قد قامت البينة على الشراء. فلا جائز أن يحكم بأنها مقبوضة على غير الوجه المستحق، مع إمكان تصحيح القبض من الوجه الذي يجوز القبض فيه، فكأنه اشترى وقبض، ثم باعها من الخارج، ولم يسلم، فيؤمر بتسليمها إليه، ويصير الثمنان قصاصا بعضهما ببعض. وإن قامت البينة عل القبض: جعل الخارج كأنه اشترى وقبض، ثم باعها من الذي هي في يديه، وسلمها؛ لأنه يجعل القبض المشاهد هو القبض الثاني، لأنه يحمله على الصحة، ولا يجعله قبض غصب. مسألة: [تنازعا على دار، وأقام أحدهما بينة بالنصف والآخر بالكل] قال أبو جعفر: (وإذا ادعى رجلان دارا في يدي رجل، فأقام أحدهما البينة على نصفها أنه له، والآخر عل جميعها، فإن أبا حنيفة قال: أقضي بها للمدعيين أرباعا: لصاحب النصف ربعها، وللآخر ثلاثة أرباعها، وقال أبو يوسف ومحمد: يقضي بها بينهما أثلاثا). قال أحمد: لهذه المسألة نظائر على مذهب أبي حنيفة، ربما خالف بين أجوبتها مع اشتباهها في الظاهر، وأنا ذاكرها ومبين اختلاف معاني ما اشتبه منها في الظاهر، واختلف في الجواب، ليقف الناظر على طريق الاعتبار منها.

فمن نظائر مسائل الدعوى: ما قال أبو حنيفة في رجل أوصى لرجل بجميع ماله، ولآخر بنصف ماله، وأجازت الورثة: فالنصف لصاحب الجميع، والنصف الباقي بينهما نصفان، فيحصل لصاحب الجميع ثلاثة أرباعه، ولصاحب النصف الربع، وقال أبو يوسف ومحمد: هو بينهما أثلاثا. وقال أبو حنيفة: إذا أوصى بعبده لرجل، وبنصفه لآخر، وهو يخرج من الثلث: فالنصف يسلم لصاحب الجميع، والنصف الآخر بينهما نصفان، وقال أبو يوسف ومحمد: هو بينهما أثلاثا. وقال أبو حنيفة في عبد قتل رجلا خطأ، وآخر عمدا، ولصاحب العمد وليان، فعفا أحدهما: أه إن دفعه، دفعه أثلاثا في قول أبي حنيفة، وفي قولهما أرباعا. وكذلك قال أبو حنيفة: في أم ولد قتلت مولاها، وأجنبيا عمدا، ثم عفا أحد وليي المولى، وأحد وليي الأجنبي، أحدهما قبل صاحبه: أن الولي الذي لم يعف منهما أولا، قد ثبت له نصف القيمة في رقبتها، ثم عفا ولي الآخر، فثبت له أيضا نصف القيمة، نصفه في النصف الفارغ، وهو الربع، فيأخذه، ونصفه في النصف المشغول، وللأول فيه نصف القيمة، فيقتسمان ذلك من القيمة أثلاثا، وعند أبي يوسف ومحمد: والنصف المشغول بينهما أرباعا. وقال أبو حنيفة في رجلين بينهما عبد أذنا له في التجارة، ثم أدانه أحدهما مائة درهم، وأدانه أجنبي مائة درهم، ثم بيع العبد بمائة: أن الثمن

يقسم بينهما أثلاثا في قول أبي حنيفة، وفي قولهما أرباعا. وقالوا جميعا: في رجل أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بسدس ماله، فلم يجز الورثة: أنهما يقسمان الثلث بينهما على ثلاثة. وكذلك الوصية المرسلة، والعتق: يضرب كل واحد منهما بما سمي له بلا خلاف. وقالوا جميعا: في عبد قتل رجلا خطأ، وفقأ عين الآخر، فاختار المولى دفعه إليهما: فإنه يدفعه أثلاثا. قال أحمد: فهذه المسائل نظائر، قد خولف بينها في الجواب، واتفق الجميع على بعضها، واختلفوا في البعض، والمعنى الذي بنى عليه أبو حنيفة رحمه الله هذه المسائل، ويستمر الجواب عليه: أن كل من أدلى بسبب صحيح ثابت في الحال: ضرب به في الجميع. والأصل فيه: المواريث والعول فيها، والديون التي ستضارب بها الغرماء بعد الموت، والابن يستحق جميع المال، والبنت النصف، فإذا اجتمعا ضرب كل واحد منهما في المال بنصيبه، فكان بينهما أثلاثا، لصحة السبب الذي به أدلى كل واحد منهما، فاعتبر ذلك في نظائره من المسائل التي ذكرناها. فقلنا على هذا: إذا أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بسدس ماله: أن الميت يملك الوصية بالثلث، والوصية بالسدس، كل واحدة على حيالها،

فذلك سبب يجوز أن يضرب به كل واحد من الموصى لهما، كما يضرب أصحاب الديون بديونهم، وكما يضرب أصحاب المواريث بأنصبائهم، إذا كان ذلك سببا صحيحا غير موقوف على معنى يصححه ويثبته. وكذلك الوصية بالعتق، وبالدراهم المرسلة، إذ لم تكن وصية واقعة في غير ملك الوارث. *وأما الوصية بالعتق، فليست بثابتة؛ لأنها موقوفة على خروج العبد من الثلث، وهي عين يستحقها الوارث، ما لم تخرج من الثلث، فلم يضرب بالجميع، لكنه يسلم له النصف الذي لا منازعة فيه، ومن الباقي نصفه. وكذلك الوصية إذا زادت على الثلث، إذ كانت موقوفة على إجازة الورثة. وكذلك مسألة الدعوى التي نحن فيها، حكم البينة فيها موقوف على صحة القضاء بها، فما لم يقض بها: لم يصح حكمها، فاستحال أن يضرب في الجميع، وهو لم يستحق الجميع ببينته، فلم يضرب به في الجميع بل في النصف. *وأما مسألة أم الولد والعبد اللتان قدمنا: فإن لكل واحد من الوليين سببا صحيحا، فأشبهت ديون الغرماء والعول في المواريث. وكذلك العبد إذا قتل رجلا، وفقأ عين آخر: فلولي القتيل الدية في رقبته، وللمفقوء عينه نصف الدية، فاقتسما الرقبة أثلاثا.

*وأما مسألة العبد بين رجلين، إذا أدانه أحدهما مائة درهم، وأدانه أجنبي مائة درهم، ثم بيع بمائة، فإن أبا حنيفة قال: إن للمولى خمسين درهما في الثمن، وللأجنبي مائة درهم، فاقتسما أثلاثا. *وقال أبو يوسف ومحمد: الثمن بدل من جميع العبد، فنصف الثمن بدل من النصف الذي للمولى الغريم، فلا شيء للمولى فيه، فيسلم للأجنبي، والنصف الآخر بدل من نصيب المولى الذي لم يدنه، وللمولى الغريم فيه خمسون درهما، وللأجنبي فيه مثل ذلك، فهو بينهما نصفان. وكرهت الإطالة ببيان وجه قول أبي يوسف ومحمد في جميع هذه المسائل، إذ كان شأننا الاختصار في هذا الكتاب، والتنبيه على المعنى، فاقتصرت على ما نبهنا عليه من قول أبي حنيفة. مسألة: [تنازع المدعيين دارا في أيديهما] قال أبو جعفر: (وإذا كانت الدار في يدي رجلين، فادعى أحدهما نصفها، والآخر جميعها، وأقاما البينة: فإنه يقضي لمدعي الجميع بالنصف الذي في يدي صاحبه منها، ولا يقضي لصاحبه بشيء مما في يديه). قال أحمد: وذلك لأن في يد كل واحد منهما نصفها، فأقام صاحب الجميع البينة على النصف الذي في يديه، ولا يحتاج فيه إلى بينة؛ لأنه في يديه، وبينته غير مقبولة على ما في يده، فيترك ما في يده ما لم يرد عليه ما يوجب الاستحقاق. وأما النصف الذي في يد صاحب النصف، فقد أقام الذي في يده

البينة عليه، فلا تقبل بينته فيه، وقد أقام عليه صاحب الجميع البينة، فاستحقه عليه، فحصلت الدار لصاحب الجميع، نصفها باستحقاق منه على صاحب النصف، والنصف الآخر كان في يده، فلم يستحقه غيره، فيترك في يده على ما كان عليه. مسألة: [إذا تنازع صاحبي دارين حائطا بينهما] قال أبو جعفر: (وإذا كان الحائط بين دارين، فادعاه كل واحد من صاحبي الدارين، فإن كان داخلا في ترابيع بناء إحدى الدارين: كان لصاحبها). وذلك لأن جميعه حائط واحد، فإذا ثبت له بعضه، ثبت له جميعه، وكالأزج الواحد، أنه متى استحق شيئا منه استحق جميعه، وجملة الأمر في هذه المسائل: أن اليد إنما هي التصرف، فمن كان أظهر تصرفا في الحائط: فهو أولى باليد، وقد ظهر لصاحب الاتصال ضرب من التصرف، فكان أولى.

مسألة: قال: (وإن لم يكن داخلا في ترابيع بناء واحدة منهما، وكان متصلا ببناء أحدهما، دون بناء الآخر: قضى به لصاحبها). قال أحمد: اتصال الترابيع: أن يكون آجر الحائط مداخلا لآجر حائط صاحب الدار من وجهين، ثم يكون حائط الدار أيضا متصلا بحائط بيته، أو داره بالمداخلة من وجهين آخرين، وكذا كان يفسر أبو الحسن رحمه الله معنى قولهم: تربيع دار أو بيت، فإذا كان كذلك، كان الحائط الواحد، وكالأزج الواحد. وأما ما ذكر أبو جعفر من الاتصال بغير تربيع، وأن صاحب الاتصال أيضا أولى: فهو أن يكون آجره مداخلا لآجر حائط صاحب الدار من طرفيه، أو من أحدهما، فيكون صاحب الاتصال أولى؛ لأنه قد ثبت له في الحائط ضرب من التصرف، وليس للآخر فيه تصرف. ألا ترى أنهما لو تنازعا عرصة، وقد حفر أحدهما فيها حفيرا أو بنى فيها بناء، كان صاحب البناء والحفر أولى باليد، لظهور تصرفه فيها دون الآخر. مسألة: قال: (فإن لم يكن كذلك، وكان عليه خشب لأحدهما: قضى به لصاحب الخشب). لأنه متصرف فيه بحمله الخشب عليه، فهو أولى باليد، ألا ترى أنهما

لو تنازعا دابة، وأحدهما راكبها، أ, أخذ بلجامها: أن الراكب والآخذ باللجام أولى باليد فيها من الآخر. مسألة: قال: (فإن لم يكن لأحدهما عليه خشب، وكان لأحدهما عليه هرادي: فإن صاحب الهرادي لا يستحق بها من الحائط شيئا). وذلك أنه غير متصرف في الحائط بالهرادي؛ لأنها غير محمولة على الحائط، ألا ترى أن الحائط لو وقع: كانت الهرداي بحالها. والهرداي هي أطنان القصب التي تطرح فوق البواري والخشب، فيماس رؤوسها الحائط من غير أن يحملها. مسألة: قال: (فإن كان لكل واحد منهما عليه خشب، وهو غير متصل ببناء أحدهما: فهو بينهما نصفين). لأنهما جميعا متصرفان فيه، كراكبي بعير أو دابة، إذا تنازعاه: يكون بينهما نصفين. *قال: (ولا ينظر في ذلك إلى كثرة الخشب، ولا إلى قلته، إلا أن يكون لأحدهما عليه خشبة واحدة، والآخر عدد من الخشب: فيكون

لصاحب الخشبة الواحدة موضع خشبته، وبقيته للآخر). قال أحمد: الخشبة الواحدة والخشبتان سواء، لا يستحق بذلك شيئا من الحائط، والحائط لصاحب الخشب الكثير، إلا أنه يترك للآخر خشبة إن كانت واحدة أو ثنتين. وإن كان لأحدهما ثلاث خشبات، وللآخر أكثر منها: فهو بينهما نصفان، وذلك مروي عنهم على ما بينا في اعتبار عدد الخشب. وإنما كان كذلك، لما بينا من أن التصرف هو علم اليد ودلالتها، فمن كان أظهر تصرفا: فهو أولى باليد والملك. فإذا كان لأحدهما عليه جذع أو جذعان، وللآخر عليه أجذاع كثيرة: فصاحب الأجذاع أظهر تصرفا، فهو أولى بملك الحائط. كما أن بعيرا لو كان لرجل عليه حمل، ولآخر عليه هراوة، أو سطيحة، أو حبل: كان البعير في يدي صاحب الحمل دون الآخر، إلا أن صاحب الجذع لا يؤمر بنزع جذعه؛ وذلك لأنه مثله، قد يجوز أن يثبت حقا في الحائط، بأن تقع القسمة في الابتداء على أن يترك جذعه، فيكون ذلك حقا له في الحائط. وإذا كان كذلك، وكانت يده مشاهدة في موضع الجذع: لم يجز لنا أن نأمره بنزعه، إذ كنا إنما حكمنا للآخر باليد في الحائط من جهة ظهور

تصرفه وظاهر يده، والظاهر لا يبطل به حق الغير. وليس ذلك مثل أن يقيم أحدهما البينة على ملك الحائط، فيؤمر الآخر الذي لم يقم البينة بنزع جذوعه؛ لأن هذا قد استحق الحائط ببينته، والبينة يجوز أن يستحق بها على الغير، واليد لا يستحق بها على الغير، وإنما تدفع دعوى المدعي. وليس الجذع المشاهد في الحائط بمنزلة الهراوة التي على البعير، الذي للآخر عليه حمل، فيؤمر برفعها، إذا حكمنا بالبعير لصاحب الحمل؛ لأن حمل الهراوة لا يجوز أن يثبت بها حق في البعير، ووضع الجذع يجوز أن يكون حقا في نفس الحائط. والذي قلنا من أن صاحب الجذع لا ملك له في الحائط، وإنما ملكه للآخر، ولصاحب الجذع حق الموضع، قد كان أبو السحن رحمه الله يقوله. وقد قال محمد في الأصل: (إذا كان لأحدهما عليه عشر خشبات، وللآخر عليه خشبة واحدة: فلكل واحد منهما ما تحت خشبه، ولا يكون بينهما: قد كان أبو الحسن يتأوله أيضا على ما ذكرنا، ويقول: إن معناه: أن لصاحب الجذع الواحد حقا في وضعه، ولا يؤمر بنزعه، فأما ملك الحائط، فلصاحب العشرة. مسألة: [التنازع على بناء، أ, خص له قمط] قال أبو جعفر: (ولا يقضي بوجه البناء ولا بظهره، ولا يقضي

بالخص لصاحب القمط في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: يقضي بالخص لصاحب القمط). قال أحمد: ويعتبران أيضا وجه البناء، فيقضيان بالحائط لمن إليه وجبه البناء، وأنصاف اللبن. وجه قول أبي حنيفة: أنه لا يجوز إثبات الأيدي بالدلالة إذا لم يكن هناك تصرف مشاهد من أحدهما، ألا ترى أن عطارا ودباغا لو تنازعا مسكا: لم يقض باليد للعطار دون الدباغ فيما ليس له فيه يد ظاهرة، ولا تصرف؛ لأجل الدلالة، كذلك وجه البناء والقمط أكثر ما فيهما: أن يجعلا دلالة على أنه هو الباني، واليد لا تثبت بالدلالة. وأيضا: فإن وجه البناء قد يجعل إلى غير مالك، وكذلك القمط، ألا ترى أن الحائط الذي يلي الطريق يجعل وجه بنائه إلى الطريق، وكذلك القمط، فإذا ليس فيهما دلالة على يده فيه، دون يد الآخر. *وذهب أبو يوسف ومحمد فيه إلى حديث يرويه أبو بكر بن عياش عن دهثم بن قران عن نمران بن جارية عن أبيه، "أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في خص، فبعث بحذيفة، فقضى به لمن إليه

القمط، فأجازه النبي عليه الصلاة والسلام". وهذا الحديث لو ثبت لم يدل على ما قالا؛ لأنه ليس فيه أنه قضى به، لأجل القمط، وعسى أن يكون قد شاهد من ظهور يده فيه من غير هذه الجهة ما أوجب الحكم له به. على أن: دهثما: مجهول، وكذلك: نمران بن جارية. مسألة: [تصرفات صاحب السفل في الحائط بينه وبين صاحب العلو] قال أبو جعفر: (ومن كان له سفل، ولآخر علوه من حائط: فإنه ليس لصاحب السفل أن يوتد فيه وتدا، ولا ينقب فيه كوة إلا بإذن الآخر، في قول أبي حنيفة). وذلك لأن لصاحب العلو حق الحمل على الحائط، فقد ثبت له الحق في جميع الحائط، فليس للآخر أن يتلف منه شيئا له فيه حق. وأيضا: فلما كان له في الحائط حق، لم يجز له أن ينقب فيه وإن كان مالكه، كما أن المرتهن لما كان له حق في الجارية الرهن، لم يكن للراهن وطؤها ولا استخدامها وإن كان مالكا، لتعلق حق المرتهن بها، كذلك ما وصفنا. * (وقال أبو يوسف ومحمد: له أن يفعل ما لا يضر بالعلو). لأن حق صاحب العلو بقاء حمله بما لا يضر بحمله، فله فعله؛

لأنه ملكه. مسألة: [باع عبدا ولد في ملكه، ثم ادعاه، فكذبه المشتري] قال أبو جعفر: (ومن باع عبدا قد ولد في يده من حمل كان في ملكه، ثم ادعاه، وكذبه المشتري: قبلت دعواه فيه، وفسخ البيع. وكذلك إذا باعها حاملا، فولدت لأقل من ستة أشهر منذ يوم باع). قال أحمد: الأصل في ذلك: أن الدعوة على وجهين: دعوة استيلاد، ودعوة ملك. ودعوة الاستيلاد: كأنها حق فيما يبطل بها من حق الغير، ودعوة الملك بمنزلة عتاق موقع. فأما دعوة الاستيلاد، فهي أن يكون ابتداء العلوق في ملكه، ودعوة الملك أن يكون ابتداء العلوق في ملك غيره. والدليل على أن دعوة الاستيلاد كأنها حق فيما يبطل بها من حق الغير: أن جارية بين رجلين، لو حملت في ملكهما، وولدت، فادعى أحدهما ولدها: ضمن نصف قيمتها، ونصف عقرها، ولم يضمن من قيمة ولدها شيئا؛ لأنه ضمن قيمة الأم بالعلوق، ولم يكن للولد حينئذ قيمة، فصدق في حرية الولد بغير ضمان، إذ كانت دعوته دعوة استيلاد. ولو كانا اشترياها وهي حامل، ثم ادعى أحدهما ولدها: ضمن نصف

قيمتها، ونصف قيمة الولد لشريكه إن كان موسرا؛ لأن دعوته دعوة ملك، إذ لم يكن أصل العلوق في ملكه، فصار الولد كعبد بين رجلين، أعتقه أحدهما. وكذلك لو أن رجلا مريضا استولد جارية له في مرضه: كان ولدها حر الأصل، وكانت أم ولد له من جميع المال، ولو اشترى عبدا، فادعاه: كان عتقه وصية. فبان بما وصفنا أن دعوة الاستيلاد، كأنها حق فيما يبطل بها من حق الغير، فقلنا على هذا الأصل في مسألتنا: إن أصل العلوق لما كان في ملكه، كانت دعوته دعوة استيلاد، فصدق على فسخ البيع بالدعوة. وكذلك الأمة المبيعة إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر، لهذه العلة بعينها. فإن قيل: هلا كان بيعه إياها نفيا منه لنسبه، فلا يصدق بعد ذلك على الدعوة. قيل له: ليس لنفي النسب تأييد في منع الدعوة بعده؛ لأنه لو نفى نسب صبي في يده منه، ثم ادعاه: صدق على الدعوة، ألا ترى أن ولد الملاعنة منتفي النسب من الزوج، وإن ادعاه بعد ذلك: صدق عل الدعوة. ووجه آخر للمسألة: وهو أن المشتري لما كان مأمورا بالاستبراء، دل لزوم ذلك له على أنه استبرأ من البائع، لئلا تكون حاملا منه، على أنه يصدق على الدعوة إذا ادعاه. قال أحمد: وهذا ليس بمرضي، ولكنه قد قيل، والمعنى الأول

صحيح، وعليه كان يعتمد شيخنا أبو الحسن الكرخي رحمه الله. مسألة: [ادعاء البائع الولد بعد إعتاق المشتري الأم] قال أبو جعفر: (فإن أعتق المشتري الأم، ثم ادعى البائع الولد: صدق على الدعوة، ورد إليه الولد حرا بحصته من الثمن، ولا ترد إليه الأم، وهي حرة). قال أحمد: وذلك لأن ثبوت نسب الولد، ليس بشاهد على ثبوت الاستيلاد في الأم، لجواز انفراده عنه، ألا ترى أن ولد المغرور ثابت النسب من أبيه، وهو حر الأصل، ولا يثبت الاستيلاد في الأم، فكل شيئين جاز انفراد أحدهما على صاحبه: لم يكن ثبوت أحدهما شاهدا على ثبوت الآخر. مسألة: قال: (ولو كان المشتري قد أعتق الولد، ولم يعتق الأم، والمسألة على حالها: كانت دعوته باطلة، والبيع على حاله). وذلك لأن العتق لا يلحقه الفسخ بعد وقوعه، وليس هناك شاهد يشهد على بطلانه، وإنما يريد فسخه بقوله، فلا يجوز. وليس بمنزلة أحد التوأمين إذا أعتقه المشتري، ثم ادعى البائع الباقي، فيثبت نسبهما، ويفسخ عتق المشتري؛ لأن أحد التوءمين شاهد

على صاحبه، لاستحالة ثبوت نسب أحدهما دون الآخر، مع كونهما حملا واحدا، فلما صار شاهدا عليه، أشبه من هذا الوجه البينة لو قامت بصحة نسبه من البائع، فيوجب ذلك فسخ عتق المشتري. مسألة: [ادعاء كل من الزوجين صبيا في أيديهما، أنه ابنه من غير زوجه] قال أبو جعفر: (ومن ادعى صبيا في يده وفي يد امرأته، أنه ابنه من غيرها، وادعت المرأة أنه ابنها من غيره: فإنه يكون ابن هذين اللذين هو في أيديهما). قال أحمد: المسألة مبنية على أن المرأة امرأة رجل، وليست أجنبية؛ لأنها لو كانت أجنبية لم تصدق على الولادة إلا بشهادة امرأة تشهد لها عليها. ووجه المسألة: أن الصبي لما كان في أيديهما، وكان الرجل مصدقا على النسب، إذ لا يتوصل إلى ثبوته منه إلا من جهته، فصار قوله فيه كالبينة، ثم كان للمرأة فيه يد، وهي فراشه: لم يصدق على إزالة يدها، وثبت النسب منها، إذ ليس هناك فراش آخر يجوز إثبات النسب منه غيرها. ولا تصدق هي أيضا على أنه من غيره؛ لأن له فيه يدا، ولأنها فراشه، فيلحق النسب به.

مسألة: [تغيير دعوى شخص لعبد صغير في يده] قال أبو جعفر: (ومن قال لعبد صغير في يده: هذا ابن عبدي الغائب، ثم قال: هو ابني: لم يصدق أبدا على دعوته، سواء ادعى الغائب النسب أو جحد، في قوله أبي حنيفة). وذلك لأن تحت إقراره معنيين: أحدهما: صحة ثبوت النسب من العبد، والآخر: أن العبد لإقراره لا يوجب فسخه ولا بطلانه؛ لأن النسب لا يلحقه الفسخ بعد ثبوته، فأشبه الإقرار بعبد في يديه أنه لزيد أعتقه، فلا يبطل العتق الذي أقر به برد المقر له إقراره. كذلك إقراره بصحة نسب الصبي من العبد، قد تضمن اعترافا منه، فإنه لا يلحقه الفسخ برده له، فلم يصدق هو على الدعوة؛ لأن إقراره بصحة نسبه من غيره لم يبطل. وأيضا: فإن نفي العبد نسبه، لا يمنع صحة دعوته بعد ذلك، ألا ترى أن من نفى نسب صبي في يديه، لم يمنعه نفيه إياه من صحة دعوته، كذلك العبد المقر له بالنسب. وإذا كان كذلك، فحكم إقرار المولى قائم فيما أقر به له، فلم يصدق على الدعوة، ألا ترى أنهم متفقون على أن العبد لو لم يعلم منه جحود ولا اعتراف بما أقر له به، أن المولى لا يصدق على الدعوة، كذلك ما وصفنا. *وقال أبو يوسف ومحمد: إذا جحد العبد النسب: بطل إقرار المولى، فصدق على الدعوة.

مسألة: [تنازع المسلم والذمي ابن جارية لهما] قال أبو جعفر: (وإذا كانت الأمة بين مسلم وذمي، فأتت بولد، فادعياه جميعا معا: فإنه ابن المسلم منهما، ويضمن نصف قيمة الأمة لشريكه، ويكون نصف العقر بنصف العقر قصاصا). قال أحمد: أقل أحوالهما أن يصدقا على الدعوة، فيكون مسلما بإسلام أبيه المسلم، وكان يكون حينئذ أولى به من الذمي؛ لأن الذمي لا ولاية له على ابنه الصغير المسلم، وإذا كان أولى به وبثبوت يده عليه، كان أولى بالدعوة، وبطلت دعوة الذمي. مسألة: [تنازع مسلمين ابن جارية لهما، وإثبات بطلان قول القافة] قال أبو جعفر: (وإن كانت بين مسلمين، فادعياه جميعا معا: جعل ابنهما، وجعلت الأمة أم ولد لهما). قال أحمد: روي هذا القول عن علي وعمر رضي الله عنهما من غير مخالف لهما من الصحابة نعلمه في ذلك. والدليل على صحته: قول النبي عليه الصلاة والسلام: "الولد للفراش"، فلا يخلو كل واحد منهما من أن يكون فراشا يلحق به

النسب، أو ليس بفراش، فلما اتفق المسلمون على قبول دعوة كل واحد منهما لو انفرد بها، دل على أن الفراش لكل واحد منهما، فوجب أن يلحق النسب بهما لعموم اللفظ. وأيضا: لما تساويا في السبب الموجب لثبوت النسب، وجب أن يتساويا في استحقاقه، والدليل عليه: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم،:في رجلين تنازعا بعيرا، وأقاما البينة عليه، فقضى النبي عليه الصلاة والسلام به بينهما نصفين"؛ لتساويهما في السبب الموجب لاستحقاقه، وهو البينة. وكما أن أحد الابنين يستحق المال بالنسب الذي أدلى به، ثم لما اجتمعا وتساويا في النسب الموجب للاستحقاق، تساويا في استحقاق الميراث. وأيضا: فليس يمتنع كون الولد من مائهما جميعا، ويدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري: "أنه رأى جارية مجحا، يعني مقربا، فقال: لمن هذه؟ قالوا: لفلان، فقال: أيطؤها؟ قالوا: نعم، قال: لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له؟ أم كيف يسترقه وقد غداه في

سمعه وبصره؟ ". فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بجواز كون الولد من مائه، ومن ماء غيره، ولذلك قال: "كيف يورثه وهو لا يحل له؟ ": يعني: أن لغيره فيه شركة، فلا يحل له أن يدعيه، فينفرج بالدعوة. "أم كيف يسترقه؟ ": يعني: لا يدعيه وله فيه شركة، فإن وطئها وهي حبلى، فقد غداه في سمعه وبصره، فدل على أن الولد قد يكون من رجلين. وأيضا: فليس يخلو القول في هذه المسألة من أحد معنيين: إما إثبات النسب منهما، أو قبول قول القافة في إلحاقه بأيهما ألحقوه به، فلما بطل اعتبار قول القائف بدلالة الكتاب والسنة واتفاق الأمة والنظر، ثبت قولنا الذي وصفنا. [أدلة موسعة على بطلان قول القافة] والدليل على بطلان قول القافة: أن القائف إنما يخبر عن ظن وحسبان، ولا يرجع من خبره إلى الحقيقة، وبذلك عرفت العرب القافة، يقو العرب: تقوف الرجل: إذا قال الباطل والظن الذي لا يفضي إلى حقيقة.

قال جرير: وقال حذاري خيفة البين في النوى وأحدوثة من كاشح يتقوف قال أبو علي النحوي: قال أهل اللغة في قوله يتقوف: إنه يقول الباطل والظن الذي لا يفضي إلى حقيقة. وإذا ثبت أن القائف إنما يرجع في خبره إلى ما وصفنا من الظن والحسبان، لم يجز قبول خبره؛ لقول الله تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم}. وقال: {وإن الظن لا يغني من الحق شيئا}. وقال: {ولا تقف ما ليس لك به علم}. فلم يجز قبول خبر القائف إذ كانت حقيقته ما وصفنا.

*ويدل على بطلانه: قول الله تعالى: {فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم}. فأخبر الله تعالى أنا إذا لم نعلم له أبا، لم يجز أن ننسبه إليه، وقول القائف لا يفضي إلى علم، فلا يجوز الحكم به في إثبات النسب منه. *ويدل عليه: ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن نكاح الجاهلية كان على أربعة أنحاء: أحدها: أن يجتمع الرهط على امرأة في طهر واحد، ثم إذا ولدت: لحق الولد بمن ألحقه القائف منهم، فلما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم، هدم نكاح الجاهلية، وأقر نكاح الإسلام اليوم". فأخبرت أن قبول خبر القائف في إثبات الأنساب كان من أحكام الجاهلية، وأنه منسوخ. *وأيضا: فإن القائف لا يخلو من أن يرجع في حقيقة ما يخبر منه من حكم النسب إلى الشبه، أو إلى الظن من غير شبه، فإن كان يرجع إلى الشبه، فقد أبطل النبي عليه الصلاة والسلام حكم الشبه في ذلك، بما روي عنه عليه الصلاة والسلام: "أن رجلا قال له: إن امرأتي ولدت غلاما أسود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟. قال: حمر. قال: فهل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فمن أين جاءه ذلك؟ قال:

لعل عرقا نزعه. قال: فلعل هذا نزعه عرق". فأبطل عليه الصلاة والسلام حكم الشبه في هذا الخبر. وقال عليه الصلاة والسلام في قصة عبد بن زمعة: "احتجبي منه يا سودة، لما رأى من شبهه بآل أبي وقاص". فأبطل حكم الشبه، ولم يعتبره في إثبات النسب. فالكتاب والسنة دالان معا على بطلان قول القائف. *وأيضا: فقد أوجب الله تعالى اللعان بين الزوجين إذا قذفها، ولو قذفها بنفي ولدها: لاعنها، وأحلق الولد بأمه، لسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولو كان لقول القائف تأثيره في ذلك، لوجب أن يرى القائف، ليعلم صدق الصادق منهما من الكاذب، فلما حكم الله تعالى باللعان لأجل القذف، سواء كان هناك ولد أو لم يكن، فقد حكم ببطلان قول القائف؛ لأن اعتبار قول القافة يؤدي إلى بطلان اللعان، لأنه إن كان يوجب حكما، فينبغي أن يكون حكمه ثابتا في سائر الأحوال. *وأيضا: قال النبي عليه الصلاة والسلام في قصة هلال بن أمية وامرأته: "إن جاءت به على صفة كيت وكيت: فهو لشريك بن سحماء، فلما جاءت به على الصفة المكروهة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا الأيمان لكان لي ولها شأن.

فدل ذلك على بطلان اعتبار حكم الشبه من وجهين: أحدهما: إخباره بدءا بأن إحدى الصفتين توجب أن يكون للزوج، والصفة الأخرى توجبه للمقذوف به، فلو كان لاعتبار الشبه حكم، لما لاعن بينهما حتى تلد، فيعرف الصادق منهما. والوجه الآخر: أنها لما جاءت به على الصفة المكروهة، لم يلحقه بالمقذوف به مع وجود الشبه. *وأيضا: قول النبي عليه الصلاة والسلام: "الولد للفراش": قد انتظم ذلك جميع الوجوه التي يثبت من جهتها النسب؛ لأن قوله: "الولد": اسم للجنس، فلا شيء مما يدخل في الجنس منه إلا وقد اشتمل عليه اللفظ. وكذلك قوله: "للفراش": فليس يخلو حينئذ مما اختلفنا فيه من دعوة الرجلين ولد جارية بينهما، من أن يكون دعوة على فراش، أو لغير فراش، فإن كان لفراش: فهو لهما، وإن كان لغير فراش: فقد نفاه النبي صلى الله عليه وسلم بقصوره حكم جميع الأنساب على الفراش، فلا مدخل لقول القائف إذا في شيء من النسب. *ويدل على بطلانه من طريق النظر: اتفاق الجميع على بطلان قول القائف في النكاح، وأنه لو قال في مسألتنا: هو من غير الموليين: لم يلتفت إلى قوله، فدل على أنه لا اعتبار بقوله في شيء من ذلك. فإن قيل: فقد روي "عن عمر في رجلين وقعا على جارية في طهر

واحد، فجاءت بولد، فادعياه: أنه دعا لهما القائف". فلولا أن قول القائف كان مقبولا فيه، لما سأله. قيل له: فإن كان قول القائف مقبولا، فينبغي أن يصح ثبوت النسب منهما؛ لأن القافة قالوا: إنه قد أخذ الشبه منهما، فألحقه بهما، وأنتم لا تقولون به. وإنما وجه سؤاله القافة: أنه قد كان علم أن ذلك كان من أحكام الجاهلية، فأوجب أن يمتحن القافة في إقامتهم على الحكم بذلك، أو تركهم له، والدليل على ذلك: ما روي أنه قام إلى القائف، فضربه حتى أضجعه، ولو كان قوله حكما وعيارا في ذلك لما ضربه، وإنما ضربه لإقامته على الحكم بالقيافة على ما كان عليه أهل الجاهلية. فإن احتجوا: بحديث الزهري عن عروة عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورا، تبرق أسارير وجهه، فقال: أما علمت أن مجززا المدلجي دخل آنفا، فرأى أسامة وزيدا في قطيفة قد بدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها ببعض". فقالوا: سرور النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، يدل على أن قول القائف يوجب ضربا من العلم، لولا ذلك لما كان لسروره بذلك وجه. قيل لهم: إن المحتج بهذا لعار من الحجاج والشبهة، وما في قولها:

"إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسرورا، وأخبر عن مجزز بما أخبرها به": ما يدل على أن سروره كان لأجل قول مجزز. وليس يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سر لحال أخرى غير هذه، وأخبر مع ذلك عن مجزز بما أخبر به، إذ ليس في لفظ الخبر دليل على أن سروره كان لأجل قول مجزز على ما ادعاه خصمنا. وعلى أنا لو سلمنا لهم أن سروره كان لأجل قول مجزز، لم يكن فيه دلالة على ما ادعاه، لأنه معلوم أن مجززا أخبر عن نسب ثابت لفراش النكاح، وكان صادقا فيه، ولا خلاف بين الأمة أنه لا مدخل لقول القائف في فراش النكاح، فكيف يحتج به في غيره، وهو غير مقبول فيما ورد فيه بعينه؟ وأيضا: فمن أين لهم أن مجززا لم يكن علم قبل ذلك ثبوت نسب أسامة بن زيد بالفراش المتقدم، حتى يستدلوا به على أنه قال ذلك من طريق الشبه والظن والحسبان، ومدعي ذلك لا تقبل دعواه إلا بدلالة، ولا سبيل له إلى إقامة دليل عليها، فإن من لجأ إلى مثل هذا الحجاج في إثبات الأحكام، لضعيف النظر، قريب العقر. فإن قيل: فما وجه سرور النبي عليه الصلاة والسلام بذلك؟

قيل له: لا سبيل إلى ذلك، إلى أن يثبت أن سرور النبي صلى الله عليه وسلم كان من أجل قول مجزز، فيلزمنا الجواب لك عنه. وعلى أنه لو ثبت أن سروره كان من أجل ذلك، لما دل على اعتبار قول القافة، وإثبات النسب بخبره، إذ ليس يمتنع أن يتضمن القول معاني يقع السرور ببعضها، دون جميعها. وإنما يلزمنا الجواب لك لو ثبت أولا أن سروره كان من أجل قول مجزز، ثم ثبت مع ذلك أنه لا وجه لسروره إلا إخباره بنسب أسامة من زيد، وهو ميئوس من وجوده. على أنا نتبرع بالجواب، فنقول: لو ثبت أن سروره كان من أجل قول مجزز، فإن وجهه: أن المنافقين كانوا يطعنون في نسب أسامة من زيد، وذلك لأن أسامة كان أسود، وزيد أبيض، ولم يكن يردهم عن الخوض فيه إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بصحة نسبه، وقد كان أهل الجاهلية يعتقدون الحكم بقول القافة، فلما أخبر مجزز بذلك، سر النبي عليه الصلاة والسلام، لما فيه من تكذيب المنافقين، من حيث يعتقدون به بطلان قولهم، وظهور كذبهم، لا وجه لسرور النبي صلى الله عليه وسلم غير ذلك. ولا جائز أن يكون سرور النبي عليه الصلاة والسلام بقول مجزز من جهة أنه أفاده به علما لم يكن علمه قبله، ومن قال ذلك: فقد نسب رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم إلى ما لا يليق به، ولا يجوز عليه، وذلك لأنه معلوم أن أسامة كان مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وابن مولاه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عالما قبل قول مجزز بصحة نسبه وولائه، ولو لم يكن كذلك، لما استجاز النبي عليه الصلاة والسلام أن

ينسبه إلى أبيه بالنسب، وإليه بالولاء. ويلزم خصمنا أن يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن عالما بأن أسامة ولد زيد إلا بعد قول مجزز، وهذا افتراء على رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان أتقى لله، وأشد اعتصاما بحدوده من أن ينسب أسامة إلى أنه ولد زيد، ومولاه وهو شاك فيه. فقد بطل أن يكون قول مجزز قد أفاد النبي عليه الصلاة والسلام علما لم يكن علمه قبله. *وأيضا: فإن كان مجززا إنما أفاد النبي عليه الصلاة والسلام ذلك من جهة ما رأى من الشبه، فاعتبار النبي وتشبيهه، ورده الشيء إلى شكله ونظيره، أولى من اعتبار مجزز؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد قال في امرأة هلال بن أمية: "إن جاءت به على صفة كيت وكيت، فهو لهلال، وإن جاءت على صفة أخرى، فهو للمقذوف بها"، فأخبر النبي صليه الصلاة والسلام عن حال الشبه قبل الولادة، فكيف بمن رآه بعد الولادة ورباه، ونسبه إلى أبيه بالولادة، وإلى نفسه بالولاء. وقول هذا القائل يوجب أن لا يكون النبي عليه الصلاة والسلام عالما بكون أسامة مولودا من زيد إلا بعد قول مجزز، وإن قولا يؤدي إلى هذا، لظاهر الفساد، بين الاستحالة. فإذا لا وجه لسرور النبي صلى الله عليه وسلم بقول مجزز إن ثبت على ما ادعوه إلا ما وصفنا، من سقوط قول المنافقين على أصلهم بما يعتقدون صحته. فإن قيل: على ما قدمنا من سقوط اعتبار قول القائف مع الفراش، ومع زواله، أنا إنما نعتبر قول القائف في تأكيد دعوة أحد المدعيين

للولد، لا في إثبات الحكم به منفردا عما وصفنا، كما نقول جميعا في الذي في يديه الشيء والخارج، إذا أقاما البينة على النتاج: أن الذي هو في يديه أولى، فصار لليد مزية في تأكيد بينته، وإبطال بينة الخارج، ولو انفردت اليد عن البينة لم توجب بطلان بينة الخارج. قيل له: سؤالك هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن تجعل مزية اليد فيما اتفقنا عليه أصلا، وترد عليه مسألة القافة قياسا، فإن كان هذا مرادك، فإن القياس لا يصح إلا بعلة مستخرجة من الأصل، يرد بها إليه الفرع، بعد إقامة الدلالة عليها، وهذا ما لا سبيل لك إلى إيجاده، فسؤالك فيه ساقط. والوجه الآخر: أن نقول: لما لم يمتنع تأكيد البينة باليد، لم يمتنع تأكيد الدعوة بقول القائف، فيكون هذا أشد إعلالا من الأول؛ لأنا نقول لك: وإذا لم يمتنع ذلك في اليد، لم يمتنع في القافة، وأي معنى أوجب تعلق أحدهما بالآخر؟ وعلى أنا لو سلمنا لك ما ادعيت، لم يحصل في يدك منه شيء؛ لأن كلا منا، إنما هو في الوجوب، لا في الجواز، وأنت فإنما أريتنا جواز ما قلت، وإذا جاز، فلم قلت: إنه واجب القضاء به؟. فلم يقتض هذا السؤال منا جوابا ولا انفصالا مما ذكر، غير أنا نتبرع ببيان فساد ما قال على جهة قبول السؤال، فنقول: إن اليد إنما جاز أن يكون لها مزية في تأكيد بينة النتاج؛ لأنها مما يتعلق به الحكم بانفرادها من غير بينة، لأن كل من وجدنا في يده شيئا،

تركناه في يده، وجعلناه له بالظاهر، حتى يستحقه غيره، وقول القائف لو انفرد عن دعوة المدعيين للولد، مع وجود الفراش أو عدمه: لم يكن له حكم بتة، فلذلك جاز تأكيد البينة باليد، ولم يجز تأكيد الدعوة بقول القائف، إذ كان سبيله أن يتعلق به في نفسه حكم، حتى إذا انضاف إلى غيره أكده، فأما ما لا حكم له في حال انفراده، فكيف يجوز أن يؤكد به غيره؟ *قال أبو جعفر: (وقال أبو يوسف: لا يكون ابن ثلاثة لو ادعوه). وذهب في ذلك الأثر الذي ورد عن الصحابة: عمر وعلي، وإنما ورد في الاثنين، ولم يرد في أكثر منهما. * (وقال محمد: يكون ابن ثلاثة، كما يكون ابن اثنين، ولا يكون ابن أكثر منهم). وذلك لأنا لو صدقنا في أكثر من ثلاثة، لوجب أن يصدقوا ولو كانوا مائة، وهذا تفحش، فجعل الثلاثة في حد القلة، والأكثر منها في حد الكثرة اجتهادا. قال أحمد: ومذهب أبي حنيفة في هذا: أنهم مصدقون وإن كانوا أكثر من ثلاثة بالغا ما بلغ العدد، وذلك محفوظ عنه، وهو القياس على ما قدمنا من حجاج.

مسألة: [تنازع امرأتين ورجل في ولد يدعيه كل منهم] قال أبو جعفر: (وإذا كان الصبي في يدي رجل وامرأتين، فادعي الرجل أنه ابنه، وادعته كل واحدة من المرأتين أنه ابنها من ذلك الرجل، أو من غيره، فإن أبا حنيفة قال: أجعله ابن الرجل والمرأتين جميعا). قال أحمد: ينبغي أن تكون المسألة على أنهما امرأتاه؛ لأنهما إن كانتا أجنبيتين لم تصدقا على النسب إلا بشهادة امرأة، وقد بينا ذلك فيما تقدم، ولكن لو أقاموا البينة: كان ابن المرأتين والرجل في قول أبي حنيفة. * (وفي قولهما: يكون ابن الرجل، ولا يكون ابن المرأتين). قال أحمد: أبو حنيفة لا ثبت الولادة من المرأتين؛ لأن ذلك مستحيل، ولكنه يثبت لهما الحقوق المتعلقة بالولادة، من نحو الحضانة والرضاع والنفقة، وهذه حقوق قد يجوز أن تستحق مع عدم الولادة؛ لأن الجدة تستحق ذلك وليس لها ولادة الصبي، وإذا كان كذلك، لم يمتنع الحكم لهما بهذه الحقوق، لأجل قيام البينة عليها وإن لم تثبت الولادة. فإن قيل: قد علمنا أن إحدى البينتين كاذبة لا محالة، ونحن فمتى قبلناهما، فقد حكمنا بقبول بينة هي كاذبة في الحقيقة. قيل له: لا يجوز أن نقول: إن إحدى البينتين كاذبة، وذلك لأن البينة تحتاج في الشهادة بالنسب إلى معاينة الولادة، وإنما يرجع فيها إلى الخبر، وليس يمتنع أن يقع الخبر إلى كل واحدة منهما بولادة المرأة التي شهدت له، على حسب ما يتفق من اليد، وظهور النسبة إليها. فأشبهت في هذا الوجه، الشهادة على الملك لرجلين، لكل واحد بكماله، أن الشهادة على الملك، لما كانت من جهة ظاهر اليد والتصرف، لا من جهة الحقيقة، لم يمتنع أن يظهر لكل واحد من الفريقين في حال ما

يسعه معه إقامة الشهادة بالملك، فلم تبطل الشهادة. وأيضا: فإن أصحابنا جميعا قد أجازوا مثله في ولادة الشاة، إذا قالت إحدى البينتين أنها شاته، ولدت في ملكه من شاته هذه، وقالت الأخرى: إنها شاة هذا الآخر، ولدت في ملكه من شاته هذه لشاة أخرى، وليست الشاة المدعاة في يد واحد منهما: أنه يقضى بها بينهما نصفين، فلم تبطل الشهادة من أجل ما ذكر من بطلان قول إحدى البينتين. وعلى أن شهادة كل واحد من الفريقين، إذا وقعت لصاحبها بالملك، فإنها تستحيل أن تكونا صحيحتين في الحقيقة، لاستحالة كون شيء ملكا لرجلين، لكل واحد جميعه في حال واحد، ثم لم يمتنع قبولهما، كذلك ما وصفنا. وليس هذا عند أبي حنيفة رحمه الله مثل البينتين إذا شهدت إحداهما أنه قتل عمرا بالكوفة يوم النحر، والأخرى أنه قتل زيدا بمكة يوم النحر: فلا تقبل واحدة منهما؛ لأن سبيل هذه الشهادة أن تقع على معاينة القتل، ومحال وقوع ذلك في وقت واحد في المكانين، فقد تيقنا أن إحدى البينتين قد قصدت الكذب فيما شهدت به، وليست إحداهما بأولى أن تكون كذلك من الأخرى، فبطلتا معا. *وقال أبو يوسف ومحمد: لما استحال وجود الولادة من المرأتين لولد واحد، امتنع قبول البينة عليها، والحكم بها، كما قلنا جميعا في البينتين إذا قامت إحداهما على أنه قتله يوم النحر بالكوفة، والأخرى على أنه قتل آخر يوم النحر بمكة: أنهما باطلتان، لا تقبل واحدة منهما، كذلك

الولادة من المرأتين. مسألة: [تنازع الوالد وولده ابنا لجارية بينهما] قال أبو جعفر: (وإذا كانت الجارية بين رجل وابنه، فجاءت بولد، فادعياه جميعا: كانت دعوة الأب أولى من دعوة الابن). قال أحمد: وذلك لأن دعوة الأب تنفذ في ملك الابن، ودعوة الابن لا تنفذ في ملك الأب، فلما كانت للأب هذه المزية، كان أولاهما بصحة الدعوة. مسألة: [إقامة شخص البينة بشراء عبد سبق إقراره به لغيره] قال أبو جعفر: (ومن أقر بعبد في يديه أنه لرجل، فقضي له به عليه، ثم أقام البينة أنه كان اشتراه منه قبل ذلك: لم يلتفت إلى بينته). قال أحمد: وذلك لأنه قد أكذبها بإقراره له في الوقت الذي شهدت له به الشهود، ألا ترى أن رجلا لو أقام البينة على عبد في يدي رجل أنه له، ثم أقر المدعي أنه للذي في يديه: أن ذلك يبطل بينته، ولم يجز أن

يحكم له ببينته، وكذلك لو حكم له به، ثم أقر له به: رده إليه، وبطلت بينته، فكذلك مسألتنا. مسألة: [إقامة البينة على ملكية عبد بعد نكوله عن اليمين به] قال أبو جعفر: (ولو لم يكن قضي به للمدعي بما ذكرنا، ولكن قضي به للمدعي له بنكول من المدعى عليه عن اليمين له، ثم أقام البينة على ابتياعه إياه قبل ذلك من المدعي، فإن أبا حنيفة ومحمد قالا: هذا والأول سواء، وكذلك رواه محمد عن أبي يوسف. وروى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف: أن القاضي يسمع من بينته في هذا، ويقضي له بها). وجه قول أبي حنيفة: أن النكول لا يخلو من أن يكون إقرارا، أو بذلا، فإن كان إقرارا أو بمنزلة الإقرار، فقد بينا وجهه، وإن كان بذلا، فقد لزمه حكمه من طريق الحكم، فلا سبيل له إلى فسخه، ولا تقبل بينته عليه؛ لأن كل من ألزم نفسه حقا، فلا سبيل له إلى فسخه، ولا يكون خصما في إبطاله، ألا ترى أن رجلا لو باع عبدا، ثم أقام البينة أنه لغيره، باعه بغير إذنه، لم يلتفت إلى ذلك منه؛ لأنه يريد فسخ ما ألزمه نفسه من العقد، فكذلك لو أراد استحلافه، لم يكن خصما له، لما وصفنا، فكذلك ما قلنا. *وذهب أو يوسف في ذلك إلى أن النكول ليس بصريح الإقرار، فلا يكون فيه إكذاب للبينة، إذ جائز أن يكون إنما نكل تصونا عن اليمين، وإن كان صادقا فيها. مسألة: [إذا قدر الدائن على مثل حقه المجحود في مال المدين] قال أبو جعفر: (ومن كان له على رجل مال، فجحده إياه، ثم قدر له

على مثله من جنسه: أخذه قصاصا به). وذلك لأنه قد استحق أخذه، ولا يسع المدين منعه، والدليل عليه: أنهما لو ارتفعا إلى القاضي: أجبره القاضي على دفعه إليه، ولو امتنع من دفعه: أخذه القاضي منه، ودفعه إليه. *قال: (ولا يأخذ أجود مما له). كما لا يقضي القاضي بأجود من حقه، ويدل على صحة هذا الأصل: قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند: "خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف"، فدل ذلك على معنيين: أحدهما: أن من كان له قبل إنسان حق: جاز له أخذه بغير أمره. والثاني: أن الذي يجوز له أخذه منه: مقدار حقه، لا أكثر منه؛ لقوله:"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". مسألة: [إذا مات من أقر بنسب أحد عبدين قبل البيان] قال أبو جعفر: (ومن قال لعبدين له: أحد هذين ابني، ثم مات، ولم يبين: عتقت منهما رقبة، وسعى كل واحد منهما في نصف قيمته لورثته، ولم يثبت نسب واحد منهما). قال أحمد: قوله:"أحد هذين ابني": تحته معنيان: أحدهما: الحرية، والآخر: النسب، ويصح إثبات الحرية في مجهول؛ لأنه لو قال: أحدهما حر: وقعت الحرية، ولزمه البيان، وكما جاز ثبوت

رقبة مجهولة في ذمته للظهار والقتل وغيره، ولزمه تعيين ما في الذمة، وفي واحد بعينه، جاز إيقاعه في مجهول، ثم يكون إليه بيانه. وأما النسب، فليس بمعنى يوقع، فيثبت في الذمة، وإنما هو جزئية تثبت بينهما، ولا يصح ثبوت ذلك إلا في عين، إذ لم يكن ثابتا في الذمة، فإقراره بالنسب إخبار عن حق لغيره، فلذلك فلم يصح إثباته في مجهول، فسقط حكم النسب فيما وصفنا. وتثبت الحرية منقسمة عليهما، فاستحق كل واحد منهما نصف رقبته، وسعى في النصف، كرجل قال لعبدين له: أحدكما حر، ثم مات قبل أن يبين: فيعتق من كل واحد نصفه، ويسعى في نصف قيمته؛ لأن كل واحد منهما في حال رقيق، وفي حال حر، فانقسمت الحرية نصفين، لتساويهما في استحقاقهما. والأصل في وجوب استعمال الأحوال فيما ذكرنا حديث: جرير بن عبد الله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فأمر لهم بنصف العقل". ووجه دلالته على ما ذكرنا: أنه لما احتمل أن كون سجود إظهارا للإسلام، وقبولا لما دعوا إليه، واحتمل أن يكون خوفا منهم على وجه التعظيم، كما يفعل أهل الشرك بعظمائهم، حكم النبي صلى الله عليه وسلم بنصف العقل، وأسقط النصف؛ لأن دماءهم صارت محظورة في

حال، ومباحة في أخرى. وروي عن عمر أنه "قضى في رجل أوطأ دابته إصبع رجل، فمات نصف الدية". ولا وجه له غيره اعتبار الأحوال فيه، كأنه لما احتمل عنده أن يكون موته حادثا من وطء الأصبع، واحتمل غيره: قضى فيه بنصف الدية، لوجوبها في حال، وسقوطها في أخرى. ويدل عليه أيضا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قضى ببعير لرجلين بينهما نصفين، لما أقاما عليه البينة جميعا". والمعنى فيه: أن كل واحد لو انفرد ببينته استحقه، فلما تساويا في جهة الاستحقاق، جعلهما النبي عليه الصلاة والسلام متساويان في الاستحقاق، وكذلك العبدان لما تساويا في استحقاق الحرية، وجب أن يتساويا فيما يحصل لهما. فإن قيل: فهلا اعتبرت الأحوال في إثبات النسب، كما اعتبرتها في الحرية. قيل له: هذا سؤال مستحيل، من قبل أنك لا تخلو من أن تسومنا به إثبات نسبهما جميعا، أو إثبات النسب في نصف كل واحد، كما أعتقنا من كل واحد النصف، ولا جائز إثبات نسبهما جميعا، وإنما هو أقر بنسب أحدهما، ولا يجوز إثبات نسبه من نصف كل واحد منهما؛ لأن النسب لا يتبعض بحال، وثبوت بعضه يوجب ثبوت جميعه، وقد دللنا

على فساد ذلك. *قال أحمد: وقال ابن أبي ليلى في هذه المسألة: يثبت من كل واحد منهما نصف نسبه، وهو قول شنيع، لا نعلم أحدا سبقه إليه، ولو جاز ذلك لجاز أن يقول لعبده أو للقيط: نصفه ابني، فيعترف بثبوت نسب نصفه، فيثبت، وهذا لا خلاف في أنه لا يثبت، فكيف يجوز لنا إثبات نسب نصف كل واحد منهما، وهو لو ادعاه على هذا الوجه، ونص عليه، لم يثبت؟ فإن قيل: فيحب أن يكون العتق على قول من لا يبعض العتق كالنسب. قيل له: لا خلاف في جواز تبعيض العتق، ألا ترى أن رجلين لو أعتقا عبدا بينهما: كان المعتق من جهة كل واحد منهما نصفه، وأن ولاءه بينهما. ولو أن رجلين ادعيا ولد جارية بينهما: كان جميعه ولدا لهذا، وجميعه ولدا للآخر. وكذا قال علي رضي الله عنه: "هو ابنكما يرثكما وترثانه، وهو للباقي منكما". مسألة: [إذا استولد رجل جارية، ومات قبل بيان أمر أولادها] قال أبو جعفر: (ومن كانت في يده جارية، وثلاثة أولاد لها قد

ولدتهم في بطون مختلفة، فقال: أحد هؤلاء ابني، ثم مات، ولم يبين: فإن الجارية تعتق، ويعتق من كل واحد من الأولاد ثلثه، ويسعى في ثلثي قيمته). قال أحمد: لما لم يثبت نسب واحد منهم، استعمل أبو حنيفة رحمه الله فيهم حكم الإيقاع، كأنه قال لثلاثتهم: أحدكم حر، وأقر مع ذلك للأم بالاستيلاد، فتعتق بعد الموت على ما تضمنه إقراره. ولم يستعمل الأحوال في إيجاب عتقهم بعتق أمهم، وذلك لأن من ثبت له حال حرية بنفسه، لم يجز استعمال حاله بعتق أمه، لاستحالة أن يستحق العتق بنفسه، وبأمه جميعا، فلما صح لكل واحد منهم اعتبار حال نفسه في عتقه، انتفى اعتبار حال أمه في عتقه. *قال أبو جعفر: (وقال أبو يوسف: يعتق الأصغر كله، ومن كل واحد من الباقيين ثلثه، ويسعى في ثلثي قيمته). قال أحمد: الذي ذكره أبو جعفر عن أبي يوسف في حكم الأوسط، هو إحدى الروايتين عنه. وقد روي عنه أن الأوسط يعتق نصفه؛ لأن له حالتي حرية، إما أن يعتق بنفسه أو بأمه، ويرق في حال واحدة، وهي حال ثبوت نسب الأصغر، وحالتا الحرية حالة واحدة، فكأنه استحق الحرية في حال، ولم يستحقها في أخرى، فيعتق نصفه. وأما الأول: فإنه إن أراده عتق، وإن أراد الثاني لم يعتق، وإن أراد

الثالث لم يعتق، فله حالتا رق، وحال حرية، فيعتق ثلثه، ويسعى في ثلثي قيمته. وأما الأصغر فهو حر كله؛ لأنه لا يخلو من أن يكون حرا بنفسه، أو بأمه، فهو حر في الحالين، وليس له حال رق. قال أحمد: وهذا الذي ذكرنا من حكم الأوسط، هو قول أبي يوسف ومحمد جميعا، على ما في الجامع الكبير والأصول، في أن أحوال الحرية حال واحدة. وجعل محمد في الزيادات أحوال الحرية أحوالا يعتد بها، فيجئ على قوله هذا: أن يعتق من الأوسط ثلثه، ويسعى في ثلث قيمته؛ لأنه يعتق في حالين ويرق في حال. *وأما وجه قول من جعل أحوال الحرية حال واحدة، فهو أن العتق إذا وقع مرة، استحال وروده عليه في دار الإسلام مرة أخرى، وليس يمتنع ورود الملك عليه وعلى بعضه مرة أخرى، فلما كان كذلك، امتنع اعتبار أحوال العتق، إذ ليس له إلا حالة واحدة، ولم يمتنع اعتبار أحوال الرق. وأيضا: فإن العتق نفي الملك، ومتى انتفى من وجه، فهو منتف من سائر الوجوه، فلا معنى لاعتباره ثانيا، وأما الرق فهو إثبات ملك، وليس يمتنع حصول الملك من جهات كثيرة. *وأما وجه قول من اعتبر أحوال العتق: فهو اتفاقهم على اعتبار أحوال الرق وإن لم يكن رقا مبتدأ، كذلك العتق.

*قال: (ولا يثبت نسب واحد من الثلاثة)؛ لما بيناه آنفا. مسألة: [جارية بين اثنين ولدت بولدين فاختلفا في دعوتهما] قال أبو جعفر: (وإذا كانت الجارية بين رجلين، فجاءت بولدين في بطنين، فادعى أحدهما الأكبر، والآخر الأصغر، وكانت الدعوة منهما معا: جعل كل واحد منهما ابن الذي ادعاه، والأم أم ولد لمدعي الأكبر، وعليه نصف قيمتها، ونصف عقرها يوم علقت به لشريكه، وعلى مدعي الأصغر قيمته لشريكه، وجميع العقر، فيكون نصفه قصاصا بما على الشريك من العقر، ويؤدي الباقي). قال أحمد: القياس عندهم أن لا يصدق مدعي الأصغر، وذلك لأنا قد جعلناها أم ولد لصاحب الأكبر بالعلوق المتقدم، فكان مدعي الأصغر في الحكم كمن ادعى ولد أم ولد غيره، فلا يصدق، إلا أنهم تركوا القياس، وصدقوه على الدعوة؛ لأنها صادفتها وهي ملك لهما في الظاهر، ووقع الوطء وهي كذلك، فلا تكون أقل حالا من المغرور في تصديقه على الدعوة، إذ كان وطؤه ودعوته صادفا ملكه في الظاهر، فصدق على الدعوة، وكون الولد حر الأصل وإن لم يثبت الاستيلاد في الأم. وعليه عقر الجارية كما يجب على المغرور؛ لأنا قد حكمنا أنها أم ولد لمدعي الأكبر يوم العلوق، ومن أجل ذلك لم يغرم من قيمة الولد شيئا.

وعلى مدعي الأكبر نصف عقرها لأن وطأه صادفها وهي ملك لهما جميعا، وعليه نصف قيمتها؛ لأنا قد نقلنا نصيب شريكه إليه بالاستيلاد. *وقد روي عنهم أن على مدعي الأصغر نصف العقر: وليس ذلك بمخالف للرواية التي توجب فيها جميع العقر؛ لأن من روى نصف العقر، فإنما ذكر ما يحصل عليه منه، ومن روى جميع العقر، أخبر عما وجب بالوطء، ثم سقط نصفه بالقصاص. مسألة: [من اشترى جارية مستحقة، فأولدها] قال أبو جعفر: (ومن اشترى جارية، فأولدها، ثم استحقت: كان للمستحق أن يأخذ منه عقرها، وقيمة ولدها يوم يختصمان، ويرجع المشتري على البائع بالثمن وبقيمة الولد، ولا يرجع عليه بالعقر). قال أحمد: لا خلاف بين السلف والخلف في ثبوت نسب ولد المغرور من المشتري، ولا خلاف أيضا أنه حر الأصل، وأنه يغرم العقر للمستحق، وهذه المعاني لا خلاف فيها بين الفقهاء. واتفق السلف أيضا على ضمان الولد، وأن له الرجوع بما حصل عليه من ضمان قيمة الولد على البائع. واختلفوا فيما يضمن به الولد، فاقل عمر رضي الله عنه: "يفك الجارية بجارية، والغلام بغلام". يعني أن الولد إن كان غلاما: يغرم المشتري للمستحق غلاما مثله،

وإن كانت جارية: غرم جارية مثلها. وقال علي رضي الله عنه: "عليه قيمة الولد". فحصل من اختلافهم أن الولد مضمون، بمنزلة من استهلك لرجل عبدا، والعبد يضمن بقيمته، لا بمثله، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه قضى على الشريك المعتق إذا كان موسرا بنصف القيمة"، فلم يلزمه ضمان نصف عبد مثله، فكان مذهب علي رضي الله عنه أولى. ثم رجع على البائع بما غرمه، وقد بينا أنه لا خلاف في الرجوع بما غرمه، وإنما غرم المشتري قيمته يوم يختصمان؛ لأنه بمنزلة ولد المغصوبة، وهو غير مضمون عندهم إلا بالمنع، والمنع حصل في ولد المغرور عند المطالبة؛ لأنه لا يجوز أن يتعلق حكمه بحصول الحرية، لأنه حر بالأصل، لا يصح تقويمه قبل الولادة، ولا بعدها، لأجل الحرية، فوجب اعتبار حال الخصومة، كذلك ولد المغصوبة، لا يصير مضمونا إلا بحصول المنع عند المطالبة بالرد. من أجل ذلك قالوا: إن من مات من الأولاد قبل الخصومة: فلا ضمان على المشتري فيه؛ لأنه بمنزلة ولد المغصوبة إذا مات قبل مجيء المغصوب، فلا يضمنه عندهم. ولا يرجع المشتري بما غرم من العقر على البائع؛ لأنه تناول بدله، وهو الوطء لنفسه، فلا يجوز أن يرجع ببدل ما حصل له على غيره. وأيضا: فإن الوطء بمنزلة إتلاف جزء منها، ألا ترى أن من اشترى

جارية فوطئها، لم يردها بعيب يجده بها إلا برضا البائع، كما لو أتلف جزءا منها، وعلى هذا المعنى أجراه السلف في الحكم: عمر وعلي رضي الله عنهما. وإذا كان كذلك، لم يرجع به على البائع، كما لو أتلف جزءا منها، فغرمه، لم يرجع به على البائع. وليس ما غرمه عن الولد كالعقر؛ لأنه لم يحصل له بحرية الولد شيء استوفاه لنفسه، وقد لحقه ضمانه بالغرور، فيرجع به عليه، وصار البائع كضامن الدرك فيما لحق المشتري من ضمان الولد. *قال أبو جعفر: (ويرجع البائع أيضا على بائعه بالثمن الذي كان ابتاعها به منه، ولا يرجع عليه بقيمة الولد التي غرمها في قول أبي حنيفة، ويرجع عليه بها في قول أبي يوسف ومحمد). وجه قول أبي حنيفة: أن البائع الأول لم يوجب الملك للمشتري الثاني، وإنما أوجبه للأول، فلا يلزمه ضمان ما وقع من الغرور في ملك لم يوجبه هو، وإنما وجب بعقد المشتري الأول للثاني، فلذلك لم يرجع به. وقال أبو يوسف ومحمد: لما لحق البائع الثاني ضمان الولد بالغرور، رجع به على بائعه، لأن ذلك ضمان لحقه بغرور الأول إياه، لأنه هو الذي أوجب له البيع، فما لحقه به من ضمان، رجع به عليه.

مسألة: [اشترى دارا مستحقة فبناها] قال: (ولو كان المشترى دارا، فبناها المشتري، ثم استحقت، وأمر برفع البناء: فإنه يرجع بقيمة البناء على البائع). وذلك لأن البائع قد أوجب له البناء بغير ضمان يلحقه فيه، كما أوجب له الولد بغير ضمان إذا كان المشترى جارية، فلما كان له الرجوع بقيمة الولد، وجب أن يكون له الرجوع بقيمة البناء، لما لحقه من الضرر بالغرور، وذلك لأن هذا المعنى من مقتضى الملك، وموجبه بأن يتصرف في ملكه من غير ضرر يلحقه، والبائع غار له به حين أخذ البدل منه على أن لا يلحقه ضرر في تصرفه. مسألة: قال: (ولو وهب له جارية والمسألة بحالها: لم يرجع الموهوب له بما غرم من قيمة الولد على الواهب). وذلك لأن عقد الهبة لا يوجب ضمانا على الواهب، كما لا يوجبه على الموهوب له، فلما لم يتعلق به ضمان الأصل، لم يضمن ما تولد منه بتصرف، وليس كالبيع، لأنه يقتضي ضمانا من الجنبين، فما يلحق به من الضرر من موجب الملك، رجع به على البائع. مسألة: قال: (ولو أن وارث المشتري استولد الجارية المشتراة، ثم استحقت: رجع بما غرم من قيمة الولد على بائع الميت).

لأن الوارث يخلف الميت في ملكه، ويقوم فيه مقامه، لا على جهة استئناف ملك، ألا ترى أنه يردها على بائع الميت بالعيب، فصار البائع موجبا له هذا الملك، فرجع عليه بقيمة الولد التي غرم. *قال أبو جعفر: (وحكى الحسن بن زياد عن أصحابه: أن الوارث لا يرجع على بائع الميت بما غرم من قيمة الولد). قال أحمد: والصحيح هو القول الأول. قال: (ومن أخذ من رجل دارا بشفعة بقضاء قاض، أو بغير قضاء قاض، ثم استحقت: لم يرجع على الذي أخذها منه بقيمة البناء). وذلك لأنه هو الذي أدخل نفسه فيها، من غير أن أوجبها له الذي وجبت له الشفعة قبله. وقد بينا أن إيجاب العقد بمنزلة ضمان الدرك فيما يلحق به من الغرور، والبائع والمشتري فلم يقصدا إلى إيجاب ذلك للشفيع، فلا يكونان غارين.

مسألة: [نفى المدعى عليه دعوى الدراهم لسبق قضائه لها] قال أبو جعفر: (ومن ادعى على رجل ألف درهم، فقال المدعى عليه للقاضي: ما كان له علي شيء قط، فأقام المدعي البينة على ما ادعى، فقضى له به القاضي، فأقام المدعى عليه البينة: أنه قد كان قضى هذا المدعي هذه الألف: قبلت بينته، وبرئ مما كان قضي به عليه). وذلك لأن قوله: "ما كان له علي شيء قط": لا يمنع صحة قضائه إياه على جهة قطع الخصومة، وافتداء اليمين، ونحو ذلك، والبينة أمرها محمول على الصحة حتى يظهر منه إكذاب. *قال: (فلو كان قال: ما كان له علي شيء قط، ولا أعرفه، والمسألة بحالها: لم تقبل بينته على القضاء). لأنه مستحيل أن يقضيه وهو لا يعرفه؛ لأنه إذا قضاه فقد عرفه، وليس يريد بالمعرفة هاهنا معرفة الاسم والنسب، وإنما يريد معرفة اللقاء. مسألة: [ما يلزم المدعى عليه إن صدق المدعي بأنه وكيل بقبض ما عليه] قال: (ومن قال لرجل: قد وكلني فلان بقبض ماله عليك، فصدقه: لم يكن له أن يمتنع من دفع المال إليه). وذلك لأن إقراره جائز على نفسه، وقد اعترف أن عليه تسليم ما أقر به إليه، والذي يسلمه هو ماله، ولا ضرر فيه على الغائب،

فلذلك صدق فيه. وليس هذا كعبد أو غيره من الأعيان، إذا كان للغائب في يده، فيجيء رجل يدعي وكالة من الغائب بالقبض، فيصدقه الذي هو في يديه: فلا يؤمر بتسليمه إليه؛ لأن العين ملك الغائب، ولا يصدق الذي في يديه على الغائب بالوكالة. [مسألة:] قال: (وإن دفعه إليه، فضاع عنده، ثم خاصمه صاحب المال، فأنكر الوكالة: كان له أن يأخذ المال من الذي كان له عليه، ولا يرجع الذي عليه على القابض بشيء). قال أحمد: هذه المسألة على أربعة أوجه: إما أن يصدقه بالوكالة، ويدفعه إليه على ذلك: فلا يرجع به إذا ضمن. أو يكذبه، ويدفع إليه: فيرجع به إذا ضمن. أو لا يصدقه، ولا يكذبه: فيرجه به أيضا. أو يصدقه ويضمنه: فيرجع به عليه في ثلاثة أوجه، ولا يرجع في وجه واحد، وهو أن يصدقه ولا يضمنه. فأما إذا صدقه ولم يضمنه، فقد اعترف بأنه قبض ما كان له قبضه،

وأنه غير مضمون عليه، وأن الغائب ظالم في أخذه ثانيا، فيصدق على نفسه، ولا يرجع. وأما إذا كذبه، فلم يعترف بأنه غير مضمون، بل قال: هو ظالم في قبضه، آخذ ما ليس له: فهو مضمون عليه، فمتى استحق الغائب ماله قبلي، ولم يجز قبضه، فلي أن أرجع عليه. وإذا لم يصدقه ولم يكذبه: فله أن يقول: أنا أكذبه الآن، وأرجع به. وإذا صدقه وضمنه، فإنه وإن كان قد صدقه، فإنه ضمنه الدرك في المقبوض: فيرجع به إذا لحقه به ضمان، كما يرجع المشتري على البائع بالثمن عند الاستحقاق وإن صدقه بصحة ملكه. مسألة: [من دفع مال شخص إلى آخر من غير وكالة] قال أبو جعفر: (ومن قال لرجل: ادفع إلي ما عندك لفلان، وعلي ضمانه لك، ليس لأنه وكلني، ولكنه يستجيز قبضي، فدفعه إليه، فضاع عنده، ثم جاء فلان: كان له أن يضمن الذي كان عنده ماله، ولم يرجع الذي كان عنده المال على الذي كان دفعه إليه). وذلك لأنه لم يدفعه إليه على ضمان، بل على جهة الرسالة والأمانة، فلا يضمنه له. * * * * *

باب كيفية الاستحلاف على الدعوى

باب كيفية الاستحلاف على الدعوى مسألة: [كيفية الاستحلاف على الدعوى] قال أبو جعفر: (روي عن أبي حنيفة أنه قال: لا أستحلف المدعى عليه إذا ذكر المدعي أن له بينة حاضرة). قال: (ولم نجد هذه الرواية عند محمد بن الحسن، وقال أبو يوسف: أستحلفه، فإن نكل: لزمه الحق، وإن حلف: برئ). وجه قول أبي حنيفة: أن اليمين لا حكم لها مع البينة، والدليل عليه أنه لو أحضر بينته، وأراد اليمين معها: لم يجب إلى ذلك، كذلك إذا قال: لي بينة حاضرة. ويدل عليه: ما روي في حديث الأشعث بن قيس، ووائل بن حجر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "شاهداك أو يمينه، ليس لك إلا ذلك". ووجه قول أبي يوسف: أن اليمين حق للمدعي إذا لم يحضر بينته، كما أن البينة حقه، فله أن يطالب بأيهما شاء. والدليل على أن اليمين حقه، قوله عليه الصلاة والسلام: "واليمين

على المدعى عليه"، فجعل اليمين حقا عليه، فله أن يطالبه به. وأيضا: فإن القاضي يحضره، ويعدي عليه اليمين، فدل على أن اليمين حق عليه للمدعي. مسألة: قال أبو جعفر: (ولا يستحلف بالله: ما أقرضك، ولا أودعك، وإنما يستحلفه في الديون بالله: ما لع عليك هذا المال الذي ادعاه، وهو كذا وكذا دينارا، ولا شيء منه). وذلك لأنه يجوز أن يكون قد أقرضه وقضاه، أو أبرأه، ويجوز أن يكون أودعه، ورده إليه، ويكون فيه حيف على المدعى عليه؛ لأنك تستحلفه على ما لا يجب عليه فيه اليمين. ويقول: "ولا شيء منه": لأنه جائز أن يكون قد برئ من بعضه، وبقي البعض، فيكون بارا في قوله: ما له علي هذا المال، يعني جميعه، فيكون قد بخسنا حق المدعي فيما استحقه من اليمين. مسألة: قال: (يستحلف في الوديعة: ما له قبلك هذا الكذا كذا الذي ادعاه، ولا شيء منه، ولا له قبلك حق منه؛ لأنه يجوز أن يكون قد استهلكه، فضمنه). وجملة الأمر في ها الباب: أن يراعى ما كان فيه إبقاء حق الفريقين من غير بخس لحق واحد منهما.

مسألة: [الاستحلاف لمن ادعى شراء أرض بعينها] قال: (وإن ادعى شراء أرض بعينها، فإن أبا يوسف قال: إن قال المدعى عليه: ما بعته: استحلفه القاضي بالله: ما بعته هذه الأرض بهذا الثمن، لتكون يمين المدعى عليه مواطئة لدعوى المدعي، فإن عرض البائع، وقال: قد يبيع، ثم ينفسخ، استحلفه بالله: ما بينك وبينه هذا البيع قائما الساعة في هذه الأرض، ليوفي حق البائع أيضا فيما عرض به. وقال محمد: يستحلفه: ما بينك وبينه هذا البيع قائما بالساعة، ولا يستحلفه على أصل البيع). وهذا كما قالوا: جميعا في القرض والوديعة: أنه يستحلفه، ما له عليك هذا المال. مسألة: [الاستحلاف في دعوى الطلاق] (ويستحلف في دعوى الطلاق الثلاث بالله: ما طلقها ثلاثا في هذا النكاح الذي تدعي أنه مقيم معها عليه، وكذلك في عتق الأمة إذا ادعته).

مسألة: قال: (وإن كان المدعي لذلك غلاما مسلما: والمسألة على حالها استحلفه بالله: ما أعتقه هذا العتاق الذي ادعاه، وإن كان الغلام ذميا استحلفه بالله: ما أعتقه هذا الإعتاق في هذا الملك الذي يدعي أنه مقيم عليه). وذلك أن الأمة والعبد والذمي: قد يجوز ورود الرق عليهما بعد العتق، فلذلك احتاج أن يشترط في اليمين هذا الملك، ولم يحتج إلى شرط ذلك في الغلام المسلم؛ لأنه لا يجوز ورود الرق عليه بعد العتق. مسألة: [كيفية الاستحلاف في دعوى المرأة النكاح وإنكار الزوج] قال أو جعفر: (وإذا ادعت عليه امرأة نكاحا، فأنكر ذلك، وطلبت استحلافه عليه. في قول أبي يوسف ومحمد: فإنه يستحلف بالله: ما هي زوجتك بهذا النكاح الذي تدعيه عليك. وكذلك إذا كانت هي الجاحدة، والزوج مدع: استحلفها بالله: ما هذا زوجك كما يدعي). وذلك لأن فيه إيفاء حق المدعي من يمينه.

مسألة: [الاستحلاف في دعوى القتل الخطأ] قال أبو جعفر: (ومن ادعى على رجل أنه قتل وليه خطأ، وأنكر ذلك المدعى عليه، وطلب يمينه على ذلك، فإنه قد روي عن أبي يوسف أنه يستحلف في ذلك على أصل الجناية بالله: ما قتلت فلانا هذا. قال: لأني لا آمن أن يتأول أن الحق الواجب في قتله إياه، إنما هو على عاقلته، دونه). فيكون بارا في يمينه، وإذا احتمل ذلك، لم يكن فيه إيفاء حق المدعي من اليمين. قال: (أما في قياس قول محمد: فيستحلف بالله: ما له قبلك، ولا قبل عاقلتك الواجب بما يدعيه عليك من قتلك فلانا، فإن حلف: برئ، وإن نكل عن اليمين: لزمته الدية في ماله). ووجهه أن القاتل مدعى عليه، إلا أن الذي يلزم به، هو على العاقلة إذا كانت ببينة، وإن كان بإقرار، فهو عليه في ماله، فيذكر ذلك في يمينه، لكن إن نكل عن اليمين: لزمه في ماله. ولا يحلف على أصل القتل؛ لأن من أصله: أنه يستحلف على نفي الحق في الحال، لا على نفي السبب، على ما تقدم من قوله في دعوى البيع، ويكون بذلك مستوفيا لحق المجعي بلا تأويل.

ولا يلزمه لما قال أبو يوسف في احتمال أن يكون نافيا للحق؛ لأنه على العاقلة؛ لأن محمدا يجمع عليه في يمينه الأمرين جميعا، فيسقط معه الاحتمال. * * * * *

كتاب العتق

كتاب العتق مسألة: [تبعيض العتق] قال أبو جعفر: (ومن أعتق من عبده جزءا، فإن أبا حنيفة كان يقول: يعتق منه ذلك الجزء، ويسعى له في بقية قيمته، وقال أبو يوسف ومحمد: هو حر كله، ولا سعاية عليه). قال أحمد: الدليل على جواز تبعيض العتق: حديث ابن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام "فيمن أعتق نصيبا له من عبد، كلف عتق ما بقي". وفي لفظ آخر: "كلف أن يتم عتقه، وفي لفظ آخر: "فقد وجب

عليه أن يعتق ما بقي". وذكر علي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان العبد بين اثنين، فأعتق أحدهما نصيبه، فإن كان موسرا: قوم قيمة عدل، لا وكس، ولا شطط، ثم يعطي صاحبه، ثم يعتق". وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وعن عروة عن عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام نحوه، وقال فيه: "ثم يعتق العبد". فهذه الألفاظ كلها توجب تبعيض العتق، ووقوعه في بعض الرقبة دون بعض؛ لأن قوله: كلف عتق ما بقي: فيه بيان أن العتق لم يقع في الجميع بالقول المتقدم، وكذلك قوله: كلف أن يتم عتقه، وكذلك قوله: فقد وجب عليه أن يعتق ما بقي، وقوله: ثم يعتق العبد؛ لأن: ثم: تقتضي الترتيب لا محالة، وذلك خلاف قول من يقول يعتق العبد كله بعتق البعض. وأيضا: فلما قال النبي صلى لله عليه وسلم: "لا عتق فيما لا يملك ابن آدم".

استفدنا بذلك أن عتق أحد الشريكين لنصيبه من العبد، لا يوجب عتق نصيب الآخر بحال، لنفيه عتق من لا يملك، وهو غير مالك لنصيب الشريك. ويدل عليه: أنه لو قصده العتق، لم يعتق بالاتفاق، فعلمنا أنه غير مالك له، وعتقه لا ينفذ فيه لعموم نفيه العتق عما لا يملك، وأن نصيب شريكه غير تابع لنصيبه، فيعتق بعتقه، وإذا ثبت ذلك في أحد الشريكين، صح أن العتق مما يتبعض. ويدل على ذلك أيضا: اتفاق الفقهاء على أن الشريكين إذا أعتقا جميعا نصيبهما من العبد معا: عتق منهما، وكان لكل واحد منهما نصف ولائه، فدل على أن عتق كل واحد منهما واقع في نصيبه، دون نصيب الشريك، فثبت بذلك جواز تجزئ العتق. وإذا صح ذلك في الشريكين، ثبت مثله في المالك الواحد إذا اعتق بعض عبده، في أن عتقه يجب أن يكون مقصورا على الجزء الذي أوقعه؛ لأنه إذا ثبت أنه مما يتبعض، صار كإزالة الملك بسائر وجوه التمليكات، مثل البيع والهبة ونحوهما. فإن قيل: على ما قلنا من نفي النبي عليه الصلاة والسلام العتق إلا في ملك، وأنه لو قصد إلى نصيب شريكه بالعتق لم يعتق: هذا ينتقض عليك في قولك: إن رجلا لو أوصى لرجل بما في بطن جاريته، فأعتقها الوارث بعد موته، جاز عتقه فيها، وفي ولدها، وهو غير مالك للولد، وأنه لو قصده بالعتق دون الأم، لم يعتق، فقد أوجب ما وصفنا معنيين: أحدهما: بطلان احتجاجك. والثاني: أنه ليس يمتنع جواز عتق الرجل فيما لا يملكه إذا كان متعلقا

بملكه، فيعتق بعتقه. قيل له: هذا لا يلزم، من قبل أن عموم لفظ النبي عليه الصلاة والسلام في نفي العتق عما لا يملكه المعتق، ينفي ذلك كله، فإذا قامت الدلالة على جوازه في موضع، لم تبطل دلالة اللفظ في نفيه عما لم تقم الدلالة عليه. وعلى أنا إن قصدنا جهة الحجاج إلى ما ذكرنا على وجه الاعتلال، لم يلزم عليه ما ذكرت؛ لأنا نقول: إن المعنى في امتناع نفاذ عتقه في نصيب شريكه، أنه غير مالك له، ولا نصيب شريكه تبع لنصيبه، إذ غير جائز أن يكن أحد النصفين تبعا لصاحبه. وأما الولد فهو تبع للأم مادام متصلا بها، كعضو بعينه منها، نحو اليد، والرجل، فيستحيل وقوع العتق في جميعها دون عضو منها بعينه، فلذلك وجب عتق الولد بعتق الأم من طريق السراية. ودليل آخر للمسألة: وهو أن بقاء ملكه لما لم يكن موقوفا على بقاء ملك صاحبه، وجب أن لا يكون إسقاطه ملكه بالعتق موقوفا على إسقاط ملك صاحبه، ولما جاز أن يملك المولى بعضه، ويزول ملكه عن بعضه العتق. وأيضا: كما جاز تمليك بعضه بالبيع والهبة والوصية، وجب أن يجوز إزالته بالعتق؛ لأن في الجميع إزالة الرق عن ملكه، فلا فرق بين إزالته بالعتق أو البيع. فإن قيل: روى همام عن قتادة عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه "أن

رجلا أعتق شقصا له في مملوك، فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ليس لله شريك". وفي بعض الألفاظ قال: "هو حر كله، ليس لله شريك". وهذا يقتضي نفاذ العتق في جميعه. قيل له: ليس في هذا الخبر بيان حال عتق النبي عليه الصلاة والسلام إياه، وقد يجوز أن يكون أعتقه حين ضمن المعتق. وأما لفظ من روى أنه قال: هو حر كله: فإنه يحتمل الإخبار عما يؤول إليه حاله من الحرية، وأنه قد وجب إخراجه إليها، فأطلق عليه لفظ الحرية في الحال، ومراده أنه قد استحقها وإن لم تكن واقعة في الحال، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن إبراهيم أعتق أمه مارية".

وإنما استحقت به حرية تحصل لها بعد الموت؛ لأنها إنما صارت له أم ولد. وفي الخبر: "أن أم الولد أعتقها ولدها". وإذا احتمل ذلك ما وصفنا، وجب حمل معناه على موافقة الأخبار الموجبة لتبعيض العتق. فإن قيل: وما رويتموه من أخبار ابن عمر على اختلاف ألفاظه، يحتمل وقوع العتق في جميعه في الحال، كما قال عليه الصلاة والسلام: "لا يجزئ ولد والده، إلا أن يجده مملوكا فيشتريه، فيعتقه". ولم يرد به معنى استئناف عتق، بل يقع العتق بنفس الشراء. وكذلك قوله: "ثم يعتق العبد"، "وكلف عتق ما بقي": على معنى أن العتق قد نفذ فيه. قيل له: لا يصح أن يقال: كلف عتقه، وعليه عتقه وهو قد عتق قبل ذلك. وقوله: "فيشتريه فيعتقه": معناه: بالشراء، وذلك صحيح جائز. فإن قيل: قوله في حديث أبي المليح: ليس لله شريك"، ينفي بقاء الرق فيه؛ لأن بقاءه فيه، يوجب الشركة مع وقوع العتق في البعض.

قيل له: إنما نفى بقوله: ليس لله شريك: أن يبقى نصفه عبدا يتصرف فيه تصرف الملاك، ونصفه حرا، بل أفاد إخراج جميعه إلى الحرية. على أنه ليس فيه إثبات الشركة بوجه؛ لأن النصف الذي قد خرج إلى الحرية هو لله، لا حق لأحد فيه، والنصف الباقي هو ملك لا شركة فيه لأحد، وإنما كان يكون فيه معنى الشركة أن لو كان العتق موقعا لله ولغيره، فأما إذا كان نصفه حرا خالصا لله، والنصف الباقي للذي لم يعتق، فأي شركة هاهنا؟ وأيضا: فإنما كان يثبت فيه معنى الشركة، لو كان الذي للآدمي منه على الوجه الذي هو لله، فأما إذا كان الذي لله: الحرية، والذي للآدمي: ملك، فكيف يكون بينهما شركة؟ والمعنى الذي لله، مضاد للمعنى الذي للآدمي. فإن قيل: أليس لو جعل نصف داره مشاعا مسجدا: لم يصح، ولم يكن خروج نصفه لله خالصا، وبقاء نصفه على ملكه موجبا لجواز ذلك؟ قيل له: لا يشبه هذا العتق؛ لأن المسجد لم تصح فيه قربة بعد، فيعتبر فيه خروجه خالصا لله، ولم يصح الموضع مسجدا على هذا الوجه، فلذلك لم يصح، والعتق قد صح في نصيب المعتق لا محالة، فلذلك افترقا. فإن قيل: روى حماد عن أيوب عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق نصيبا له في عبد، وكان له من المال ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل، فهو عتيق".

فهذا اللفظ يقتضي كون جميعه حرا إن كان المعتق موسرا. قيل له: معناه: فقد استحق أن يعتق، ليوافق معاني الألفاظ الأخر، ولا ينافيها. فإن قيل: لما لم يجز أن يتبعض الاستيلاد في الأمة، واستحال ثبوته في أحد النصفين دون الآخر، وكان ذلك لأجل ما استحقته من الحرية، فالحرية نفسها أحرى بأن لا تتبعض. قيل له: قد يتبعض الاستيلاد عندهم في بعض الأحوال، وهو أن مدبرة بين رجلين، لو استولدها أحدهما: كان نصيبه منها خاصة أم ولد له، دون نصيب شريكه، وقد لا يتبعض في حال، وهي الحال التي لا يمكن فيها نقل نصيب الشريك إليه. وليس المعنى فيه: ثبوت حق الحرية لها، وإنما المعنى فيه: أن الاستيلاد ليس بمعنى موقع، وإنما هو حرية تحصل لها، متعلقة بالنسب، فإذا انتقل إليه نصيب الشريك، سرى فيه الاستيلاد، لاستحالة وقوع الاستيلاد في نصفها ابتداء، دون النصف الآخر إذا كان الجميع في ملك واحد. وليس يمتنع إيقاع الحرية في بعضها دون بعض؛ لأنه يصح أن يقول له: نصفك حر، فيعتق ذلك النصف خاصة، ثم قال مخالفنا: يعتق النصف الباقي بعت هذا النصف، وقلنا نحن: لا يعتق، فليس يمتنع حصول العتق في النصف بالإيقاع. فإن قيل: لما لم تتبعض حرية الأصل، وجب أن لا يتبعض العتق الموقع.

قيل له: إنما لم تتبعض حرية الأصل؛ لأنها ليست موقعة، فهي كالاستيلاد والنسب، والعتق الموقع إنما يثبت من جهة الإيقاع، فيصح ثبوته في بعضه دون بعض. وأيضا: فما يطرأ من الرق على حرية الأصل، إنما جهته القهر والغلبة، وذلك يمتنع وجوده في بعض الرقبة دون بعض، والعتق الموقع من جهة القول، قد يجوز أن يخص به البعض دون الكل. فإن قيل: لما كان العتق موجبا للتحريم، كان مثل الطلاق في امتناع تبعيضه. قيل له: ليست علة امتناع تبعيض الطلاق ما ذكرت؛ لأنها لو كانت كذلك، لما جاز بيع النصف، ولا هبته، لوجود العلة التي ذكرت، وإنما المعنى فيه: أن النكاح في الأصل لا يجوز وقوعه في بعض الشخص دون بعض، فكان كذلك حكمه في زواله، ولما جاز ثبوت الرق في بعض دون بعض، لم يمتنع مثله في الزوال. وقد استقصينا القول في هذه المسألة في "شرح الجامع الكبير"، فاكتفينا به عن إعادته، واقتصرنا في هذا الموضع على الجملة التي ذكرنا، كراهة الإطالة. *وأما الحجة في إيجاب السعاية في النصف الذي لم يعتق: فهي ما روى يحيى بن سعيد القطان ويزيد بن زريع قالا: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من أعتق نصيبا في مملوك، فعليه خلاصه

كله في ماله، فإن لم يكن له مال: استسعى العبد غير مشقوق عليه". وقد رواه عن قتادة جماعة بهذا اللفظ. فأفاد عليه الصلاة والسلام امتناع بقائه على الرق بعد عتق بعضه، وأوجب إخراجه إلى الحرية بالسعاية، إذ لم يجب الضمان على الشريك، فدل ذلك على امتناع جواز بيع النصف الذي لم يعتق؛ لأنه قد أوجب إخراجه بالسعاية إلى الحرية، وذلك ينافي البيع. وأيضا: لما أوجب السعاية، جعله بمنزلة المكاتب، فمنع ذلك من بيعه، كما امتنع بيع المكاتب. مسألة: [عتق العبد على مال، وقبوله له في المجلس] قال أبو جعفر: (ومن أعتق عبده على مال، فإن قبل ذلك منه في مجلسه الذي تكلم فيه قبل أن يقوم منه، أو يأخذ في عمل آخر: عتق، ولزمه المال، وإن لم يقبله في مجلسه: بطل ذلك القول). قال أحمد: وذلك لأن قوله: أنت حر على ألف درهم: عقد معاوضة بمنزلة البيع، واقتضى ذلك من العبد قبولا في لمجلس، كما يقتضيه عقد البيع بقوله عليه الصلاة والسلام: "البيعان بالخيار، ما لم يتفرقا". فعلق خيار القبول على المجلس، فصار ذلك أصلا في نظائره من

العقود المقتضية للقبول في المجلس، في تعلقها بالمجلس دونما بعده. مسألة: [أثر تعليق العتق بأداء مبلغ من المال] قال أبو جعفر: (ومن قال لعبده: إذا أديت إلي ألف درهم، فأنت حر: كان العبد بهذا القول مأذونا له في التجارة، وإن أدى إلى مولاه ألف درهم كما قال: عتق، وإن أحضر الألف إلى مولاه، فأبى مولاه قبول ذلك منه: أجبر على ذلك). قال أحمد: قوله: إذا أديت إلي ألف درهم فأنت حر: فيه معنيان: أحدهما: معنى اليمين، والآخر: معنى الكتابة وإن لم يكن كتابة محضة، فهو من حيث كان يمينا، لم يتعلق على المجلس؛ لأن شرط الأيمان لا تختص بالمجلس إذا لم يكن في اللفظ دليل على اختصاصها بالمجلس، وذلك لأن: "إذا": للوقت، كأنه قال: أي وقت شئت. ألا ترى أنه لو قال لامرأته: إذا شئت فأنت طالق: كان على المجلس، وعلى ما بعده؛ لأنه قد ملكها المشيئة في سائر الأوقات. وتفارق من هذا الوجه البيع ونظائره من العقود التي لا تتعلق على الأخطار؛ لأن العتق معلق على الأخطار، لو قال: إذا دخلت الدار فأنت حر: صح، ولو قال: إذا دخلتها فقد بعتك: لم يصح. ولما كان ذلك كذلك، لم يتعلق الأداء بالمجلس، فمتى جاء بالألف: أجبر على قبوله، ما لم يبعه أو يملكه غيره، وذلك لأن فيه معنى الكتابة؛ لأنه يستحق العتق بأداء المال، كما يستحقه المكاتب، فأشبه المكاتب

من هذا الوجه، وفارقه أخرى، وهى أنه لا يصير به في يد نفسه، ولا يزول تصرف المولى عنه. وقال أصحابنا: لو باعه: جاز بيعه. فإن ملكه بعد ذلك، ثم أحضر المال: لم يجبر المولى على قبوله. فإن قبله: عتق، وذلك لأنه لما صح بيعه: بطل ما كان ثبت له من حق الكتابة؛ لأن صحة البيع تنافي بقاء معنى الكتابة، إذ كان المكاتب لا يجوز بيعه، فحصل ذلك القول يمينا محضة، ليس فيها معنى الكتابة، كقوله: إن دخلت الدار فأنت حر، ونحوه من الأيمان. *وإنما صار العبد مأذونا له في التجارة؛ لأنه لا يصل إلى أداء المال إلا بالتصرف في وجوه التكسب، وقد أوجب له حق الأداء، بدلالة ما ذكرنا من إجباره على القبول إذا جاء المال، فإذا أوجب له حقا لا يصل إليه إلا بالتصرف، صار ذلك إذنا منه له في التصرف في التجارة. مسألة: [إعتاق العبد وقد كان له مال قبل ذلك] قال أبو جعفر: (ومن أعتق عبده: فالمال الذي اكتسبه قبل العتق للمولى). وذلك لأنه مال المولى؛ لأن العبد لا يملك. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "من باع عبدا وله مال: فماله

لمولاه، إلا أن يشترط المبتاع". ولا فرق بين زوال ملكه بالبيع أو العتق في ذلك. وأيضا: حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال: حدثنا الأنصاري قال: حدثنا عبد الأعلى بن أبي المساور عن عمران بن عمير عن أبيه، وكان مملوكا لعبد الله بن مسعود، فقال له عبد الله: يا عمير! بين لي مالك، فإني أريد أن أعتقك، إني سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: "من أعتق عبدا: فماله للذي أعتقه". مسألة: [تقديم لفظ العتق على المال] قال أبو جعفر: (ومن قال لعبده: أنت حر، وعليك ألف درهم: كان حرا بغير شيء، في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمد: إن قبل ذلك العبد: كان حرا، وكان عليه المال). وجه قول أبي حنيفة: أن قوله: أنت حر: يقتضي إيقاعا في الحال، ما لم يعلقه بشرط، أو يضفه إلى وقت. وقوله: وعليك ألف درهم: كلام مستأنف غير متعلق بما قبله؛ لأن الواو في هذا الموضع للاستئناف، كقوله: أنت حر، وأنت قائم. ولم يختلفوا أنه لو قال: أنت حر، وأنت تصلي، أو: وأنت مريض: أن فعل الصلاة، وحدوث المرض لا يصيران شرطا في الحرية، كذلك

قوله: وعليك ألف درهم: ابتداء خبر، وهو كلام مستأنف غير مضمن بما قبله. *وجعله أبو يوسف ومحمد بمنزلة قول الرجل لآخر: احمل هذا المتاع إلى بيتي، ولك درهم: أن ذلك أجرة مشروطة بحمل المتاع، كذلك ما وصفنا. وفصل أبو حنيفة بينهما: بأن العادة جارية بمثله في الإجارة، ولم يجز مثله في العتق ونحوه. مسألة: [تعليق العتق بالمشيئة] قال: (ومن قال لعبده: أنت حر إن شاء الله تعالى: لم يعتق). وذلك لأن الاستثناء يدخل في الكلام لرفع حكمه، وقد بينا فيما سلف. مسألة: [تعليق العتق بمشيئة فلان] قال: (ومن قال لعبده: أنت حر إن شاء فلان: فله المشيئة في المجلس خاصة). وذلك لأن هذا كلام خرج مخرج التمليك، وألفاظ التمليك تتعلق على المجلس، والأصل فيه: قول النبي عليه الصلاة والسلام: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا". فجعل خيار القبول مقصورا على المجلس؛ لأن قوله: بعتك هذا العبد

بألف درهم: يقتضي تمليكا منه، كقبول العقد، وكان على المجلس، فعطفنا عليه نظائره من ألفاظ التمليك. وأيضا: اتفق السلف من الصدر الأول على أن المخيرة خيارها مقصور على المجلس، والتخيير من ألفاظ التمليك، فاعتبرناه في نظائره من المشيئة ونحوها. وكذلك قوله: أمرك بيدك، أو: أمر عبدي في العتق بيدك، وما جرى مجراه. وكذلك قوله: إن هويت، أو: أحببت، أو: أردت؛ لأن معانيها تفويض العتق إلى رأيه واختياره. مسألة: [تعليق العتق بالشرط] قال: (ولو قال: أنت حر إن دخلت الدار: عتق بالدخول، ولا يعتق قبل ذلك). وذلك لأن الإيقاع إذا كان متعلقا باللفظ، واللفظ أوجب عتقه بالدخول، لم يجز إيقاعه قبل ذلك. فإن قيل: ما أنكرت أن لا يعتق رأسا، وقد روي نحوه عن عطاء. قيل له: الدليل عليه: ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: "لا عتق إلا فيما يملك ابن آدم". وهذا عتق في الملك؛ لأنه مالك للعبد، فعموم لفظه يتضمن العتق الموقع في الحال، والمضمن بالشرط.

وأيضا: قال النبي عليه الصلاة والسلام: "المسلمون عند شروطهم". فإذا علقه بشرط، وجب أن يتعلق به. وأيضا: قال الله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن}، فاقتضى جواز طلاق السنة قبل وجود وقت السنة، بأن يقول لزوجته: أنت طالق للسنة، فيقع بعد مجيء وقت السنة، فيكون طلاقا معلقا بشرط. *قال: (وللمولى أن يبيع العبد قبل وجود الشرط). كما أن له أن يطأ المرأة إذا قال لها: أنت طالق للسنة قبل مجيء وقت الطلاق. مسألة: [التدبير، وحكم بيع المدبر] قال أبو جعفر: (وإذا قال لعبده: أنت حر بعد موتي: لم يكن له بيعه بعد ذلك، ولا تمليكه). قال أحمد: التدبير على وجهين: أحدهما: يمنع البيع، والآخر: لا يمنعه.

فالذي يمنع البيع: هو الذي يستحق فيه العتق بالموت على الإطلاق، من غير شرط آخر. والذي لا يمنع البيع: هو الذي لا يستحقه بالموت دون وجود معنى غيره، مثل قوله: أنت حر إن مت من مرضي هذا، أو: من سفري هذا، وما جرى مجراه. فأما الحجة في حظر بيع المدبر الذي ذكرنا وصفه فهي: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا موسى بن زكريا قال: حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا عمرو بن عبد الجبار- ثقة- عن عمه عبيدة بن حسان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "المدبر لا يباع ولا يشترى، وهو حر من الثلث". فعمومه ينفي جواز بيع جميع المدبر، إلا أن الفقهاء متفقون على جواز بيعه إذا لم يستحق العتق بالموت على الإطلاق، فخصصناه من اللفظ بدلالة الاتفاق، وبقي حكم اللفظ فيما عداه. ومن جهة النظر: أنه يستحق العتق بموت مولاه على الإطلاق، فأشبه أم الولد لما كانت مستحقة للعتق بموت مولاها على الإطلاق: لم يجز

بيعها، كذلك حكم المدبر قياسا عليها. وليس هو بمنزلة قوله: إن مت من مرضي هذا فأنت حر؛ لأنه لا يستحق العتق بموته على الإطلاق، ألا ترى أنه لو برأ من مرضه، ثم مات: لم يعتق، فلذلك فارق ما وصفنا. ودليل آخر: وهو اتفاق الجميع على وقوع العتق بالموت، فلا يخلو من أن يكون عتقه على معنى العتق المعلق بالشرط، مثل دخول الدار ونحوه، أو عتقا مستحقا قبل الموت، يوجب له حقا في رقبته، يمنع من بيعه. فلما وجدنا ذلك نافذا بعد الموت، ووجدناه لو قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، ثم مات، فدخل: لم يعتق: علمنا أن عتق المدبر مستحق قبل الموت، كعتق أم الولد، فمنع بيعه، وفارق العتق المعلق بشرط الدخول ونحوه، ألا ترى أنه قد نفذ مع زوال ملكه. فإن قيل: إنما نفذ بعد الموت كما تنفذ الوصايا، وكما لو أوصى بعتق عبده بعد موته: نفذ. قيل له: أما الوصايا، فإن صحة زوال الملك فيها لم يتعلق بالوصية؛ لأن الموت يوجب زوال الملك، كان هناك وصية أو لم يكن، ثم حينئذ يصرف ذلك الملك إلى الموصى له، فيكون أولى به من الوارث إذا خرج من الثلث، والموت لا يوجب عتقا غير مستحق قبله. وأما الوصية بالعتق، فغنها تحتاج إلى استئناف عتق من الموصى له،

وفي مسألتنا لا تحتاج إلى ذلك ولو كان نفاذه من طريق الوصية فحسب، لما وقع بالموت، قبل إنفاذ الوصي إياه. فإن قيل: لما كان عتقه من الثلث، أشبه العبد الموصى به لرجل، فلا يمنع بيعه. قيل له: لو كان كذلك، لوجب أن يجوز بيعه لو أعتقه في المرض؛ لأنه من الثلث. وأيضا: روي عن عثمان وابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله أن ولد المدبرة بمنزلة أمه، من غير خلاف نعلم عن أحد من الصحابة عليهم، وذلك عندنا يجري مجرى الإجماع. وإذا ثبت أن ولدها بمنزلتها في التدبير، ثبت أن حق الحرية ثابت في رقبتها، لولا ذلك ما سرى في ولدها، كما لا يسري فيه قوله: إذا جاء رأس الشهر فأنت حر، فأشبه المكاتبة وأم الولد، في أن حق الحرية لما سرى في أولادهن، منع ذلك بيع الأمهات. فإن قيل: روى جابر بن زيد "أن ولد المدبرة لا يكون بمنزلتها"،

وهو أحد قولي الشافعي رحمة الله عليه. قيل له: أما جابر بن زيد فهو تابعي، وليس بخلاف على الصحابة، وأما من دونه، فهو أبعد من أن يكون خلافا في ذلك. فإن قيل: روى جابر بن عبد الله "أن النبي صلى الله عليه وسلم باع مدبرا". قيل له: ليس في هذا بيان موضع الخلاف؛ لأنه معلوم أن بيعه تناول عينا، فيحتاج أن نعلم العين على أي صف كانت؟ وقد اتفقنا على جواز بيع بعض المدبر، وهو الذي لا يستحق العتق بالموت على الإطلاق، بل به، ومعنى سواه، فجائز أن يكون الذي باعه النبي عليه الصلاة والسلام هو ما كان بهذا الوصف، فيسقط الاحتجاج به؛ لأن ليس خصم يرده إلى ما اختلفنا فيه، أولى منا برده إلى ما وصفنا. وأيضا: قد روى محمد بن المكندر عن عطاء عن جابر: "أن النبي عليه الصلاة والسلام إنما باع خدمة المدبر". وأيضا: لو ثبت أنه عليه الصلاة والسلام باع المدبر الذي اختلفنا فيه،

وسلمنا لهو ما ادعوه: احتمل أن يكون باعه في حال ما كان يجوز بيع الحر، كما روى سرق "أن النبي عليه الصلاة والسلام باعه ف دين كان عليه وكان حرا". وكما قال جابر: "كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام". وإنما كان ذلك عندنا في حال ما كان يجوز بيع الحر. وروي نحو قولنا في ذلك عن زيد بن ثابت. وقد اتفق عامة فقهاء الأمصار على أن عتق المدبر من الثلث. وقال عبد الله بن مسعود، ومسروق، وإبراهيم: هو من جميع المال.

وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا ابن الأصبهاني قال: حدثنا علي بن ظبيان الكوفي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المدبر من الثلث". فإن قيل: إنما رفعه على بن ظبيان وحده، ووقفه غيره. قيل له: لا يمنعه ذلك من صحة الرفع، إذ ليس يمتنع أن يرويه عن النبي عليه الصلاة والسلام تارة، ويفتي به تارة، فيصحان. ومذهب عبد الله في ذلك إنما يرويه جابر الجعفي عن القاسم عن مسروق عن عبد الله، فقبلتموه، مع إكثار الناس في الطعن على جابر، فعلي بن ظبيان أولى بقبول خبره. وحديث عبيدة بن حسان الذي قدمناه في صدر المسألة، يوجب ذلك أيضا. *ومن جهة النظر: أن عتقه موقع بالقول بعد الموت من جهة الوصية، فوجب أن يكون معتبرا من الثلث كسائر الوصايا والفرق بينه وبين أم الولد: أن أم الولد لم تستحق العتق من جهة القول، وإنما استحقته من جهة الحكم، فخرجت به من أن تكون مالا، فلذلك اختلفا.

مسألة: [تقديم العتق على الشرط] قال أبو جعفر: (ومن قال لعبده: أنت حر على أن تخدمني أربع سنين، فقبل: عتق، وكان عليه أن يخدم مولاه أربع سنين). وذلك لأنه عتق معقود بشرط العوض، وهو الخدمة، فتعلق قبوله على المجلس، كالعتق على المال ونحوه. *قال: (وإن مات العبد بعد ذلك، وقد كسب مالا، أو مات المولى قبل الخدمة: فعلى العبد قيمة نفسه إن كان حيا، وإن كان ميتا: ففي ماله في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: عليه قيمة خدمته أربع سنين). وجه قول أبي حنيفة: أن العبد في نفسه مال ذو قيمة، وقد حصلت رقبته له بالبدل المشروط، فلما امتنع تسليم البدل، وجب رد المبدل عنه، وهو الرقبة إن أمكن، فلما تعذر ردها: رد قيمتها. ألا ترى أنه لو باعه من رجل بجارية، وقبضه المشتري، فأعتقه، ثم ماتت الجارية قبل القبض: أن عليه قيمة العبد، لا قيمة الجارية؛ لأن بطلان البدل، وتعذر تسليمه، أوجب نقض العقد، ورد العبد بعينه، فلما تعذر رده، وجب رد قيمته. وليس ذلك كالخلع، والصلح من دم العمد، والنكاح إذا وقع على عبد، ثم هلك قبل القبض: فيكون عليه قيمة العبد دون قيمة البدل؛ لأن هذه الأشياء لا قيمة لها في أنفسها، فيرجع إلى قيمتها، وإنما قيمتها ما سمي في العقد، والعبد في نفسه ذو قيمة، فإذا بطل البدل المشروط، كان

الرجوع إلى قيمته أولى. *وشبهه محمد بما ذكرنا من هذه المسائل، وجعل المعنى فيها: بقاء العقد مع تعذر تسليم البدل، ألا ترى أن العتق لم ينفسخ بموته، كما لا ينفسخ النكاح بموت العبد المهر قبل القبض، وكذلك الخلع، والصلح من دم العمد، فلما كان العقد الموجب لتسليم البدل قائما، ثم تعذر تسليم البدل: سلم قيمته. مسألة: [تعليق العتق بالموت مشروطا بالمال] قال أبو جعفر: (ومن قال لعبده: أنت حر بعد موتي على ألف درهم: فالقبول بعد الموت. وكذلك إذا قال: إذا مت فأنت حر على ألف درهم. وروي عن أبي يوسف في هذه المسألة الأخيرة: أن القبول في حال علمه بذلك في ذلك المجلس). قال أحمد: قوله: أنت حر بعد موتي، وقوله: إذا مت فأنت حر: تدبير صحيح معلق بالموت، فلما شرط فيه المال: صار تدبيرا موصوفا معقودا بشرط المال، فوجب أن يكون القبول في حال وقوع الحرية، وهي بعد الموت. فإن قيل: فهلا كان القبول على الحال في إيقاع العتق المعقود على المال المضاف إلى حال الموت.

قيل له: لأن المال لما كان شروطا في الحرية، والحرية موقعة بالموت، وجب أن يكون شرط المال بعد الموت، فيكون القبول مشروطا في تلك الحال، ولو كان القبول مشروطا في حال القول، لما استحق به المال، فيوجب ذلك بطلان القبول؛ لأنه مشروط للمال، والمال غير مستحق عليه في حال الحياة؛ لأنه عبده، والمولى لا يثبت له على عبده مال، ألا ترى أنه لو قال لعبده: أنت حر مدبر على ألف درهم: لم يصح ثبوت المال عليه بالقبول. مسألة: [عتق أحد الشريكين نصيبه دون الآخر وهو معسر] قال أبو جعفر: (ومن أعتق عبدا بينه وبين آخر وهو معسر: فشريكه بالخيار: إن شاء أعتق، وكان الولاء بينهما، وإن شاء استسعى العبد في نصف قيمته، فإذا أدى، وعتق: كان الولاء بينهما نصفين. وإن شاء ضمن المعتق نصف قيمته، فإن ضمنه: رجع به المضمن على العبد، فاستسعاه فيه، فإذا أدى: عتق، وكان الولاء كله للمعتق الأول، وهذا قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا أعتقه أحدهما: كان حرا كله، والولاء كله للمعتق، فإن كان موسرا: ضمن لشريكه نصف قيمته، وإن كان معسرا: سعى العبد للذي لم يعتق في نصف قيمته، ولا يرجع العبد على المعتق، ولا المعتق على العبد بشيء). قال أحمد: قد بينا فيما سلف أن من مذهب أبي حنيفة جواز تبعيض

العتق، فإذا أعتق أحدهما نصيبه: جاز العتق في نصيبه، ونصيب الآخر باق على ملكه، وله ثلاثة ضروب من الخيار في قوله: إن كان المعتق موسرا على ما ذكرنا: فله أن يضمنه إن شاء بالسنة. وإن شاء أبرأه من الضمان؛ لأن من وجب له حق قبل غيره، فله أن يبرئه منه، ألا ترى أن المغصوب منه، له أن يضمن الغاصب الأول، وله أن يبرئه من الضمان، ويعدل إلى تضمين الثاني، فإذا أبرأ الشريك: بقي نصيبه على ملكه، وفد امتنع عن جواز بيعه، وتصرفه فيه. والدليل على ذلك: اتفاق الفقهاء على أن له تضمين شريكه، فلولا أنه قد أفسده عليه، ومنعه التصرف فيه، لما كان له تضمينه، وبه وردت السنة. ويدل عليه ما حكم به النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة من وجوب السعاية على العبد في حال الإعسار، فدل ذلك من وجهين على امتناع جواز بيع المولى وتصرفه فيه: أحدهما: أن أمر النبي عليه الصلاة والسلام على الوجوب، ولزوم السعاة ينفي جواز البيع. والثاني: أنه جعله بمنزلة المكاتب في باب وجوب السعاية، والمكاتب لا يجوز بيعه، وإذا كان كذلك، فله أن يعتق نصيبه؛ لأنه يملكه، وامتناع جواز البيع، لا ينفي العتق، كأم الولد والمكاتب.

وله أن يستسعيه؛ لأنه قد أوجب إخراجه إلى الحرية، وله أن لا يخرجه إليها إلا ببدل، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام أوجب إخراجه إلى الحرية في حال الإعسار بالسعاية. فإن ضمن المعتق: انتقل نصيبه إليه بالضمان؛ لأن الضمان من موجب العتق، فتعلق به نقل ملك المضمون إليه، وليس يمتنع أن يملك بالضمان ما لا يصح تمليكه بالعقد، ألا ترى أن الغاصب الأول يملك ما في ذمة الغاصب الثاني بالضمان، ولا يصح أن يملكه بالعقد، ولا يجوز للذي لم يعتق أن يملكه غيره، لما بينا من أن حصول العتق في بعض الرقبة، يمنع جواز البيع في الباقي، ودللنا أيضا على أنه جائز أن يملك بالضمان ما لا يملك بالعقد. فهما أصلان لا يعترض بأحدهما على الآخر، فإذا انتقل نصيبه إلى المعتق: كان له أن يستسعيه في نصف قيمته، والدلالة على ذلك من وجهين: أحدهما: أنه في ملكه، وقد لزمه إخراجه إلى الحرية، فلا جائز أن يستحق عليه بغير بدل. والثاني: أن الذي لم يعتق، كان له أن يستسعيه، وكان ذلك من حق ملكه، فلما انتقل ذلك الملك إلى المعتق، انتقل إليه بحقوقه. كما أن المغصوب منه، لما كان له تضمين الغاصب الثاني، وكان ذلك من حق ملكه، ثم نقل الملك إلى الغاصب الأول بالضمان، انتقل

إليه بحقوقه، فكان له من أجل ذلك تضمين الغاصب الثاني، وقام فيه مقام المغصوب منه، كذلك المعتق يقوم مقام الشريك فيما تعلق له من حق السعاية. وهذا نظير قولهم في شاهدين شهدا على رجل أنه كاتب عبده على ألف درهم إلى سنة، ثم رجعا عن الشهادة: أن للمولى تضمينها ألفا حالة، فإن ضمنهما إياها: رجعا على المكاتب بالألف إلى أجلها. وذلك لأن المولى لما كان مالكا للألف المحكوم بها على المكاتب، وكان له أخذها منه، ثم ضمنها الشاهدين: انتقل ملك الألف إليهما على الوجه الذي كان يملكه المولى من التأجيل، وقاما فيها مقام المولى، كذلك ما وصفنا. *فإذا استسعاه المعتق في ذلك النصف: عتق، وكان جميع الولاء له؛ لأنه عتق جميعه من جهته. فإن أعتق الشريك، أو استسعى: كان الولاء نصفين؛ لأن نصيب كل واحد منهما عتق على ملكه. *وأما أبو يوسف ومحمد: فمن أصلهما أن العتق لا يتبعض، فإذا عتق بعضه: عتق جميعه، كالطلاق، والعفو من دم العمد، ونظائر ذلك. فإذا عتق جميعه على المعتق: كان الولاء له، وضمن لشريكه إن كان موسرا بالسنة. ولأنه أتلف عليه ملكه. وكان القياس أن يضمنه أيضا في حال الإعسار، وأن لا يستسعى

العبد، إلا أنهما تركا القياس للأثر، فأوجبوا السعاية، وأبرؤوا المعتق. ويحكى عن عثمان البتي أنه كان يوجب الضمان على المعتق في حال الإعسار واليسار، وهذا قول قد حكمت السنة ببطلانه، واتفق فقهاء الأمصار على خلافه. مسألة: [ما يترتب على عتق أحد الشريكين أم ولد بينهما] قال أبو جعفر: (ولو أن أم ولد بين رجلين، أعتقها أحدهما، وهو موسر أو معسر: لم يضمن شيئا، ولم تسع في شيء لشريكه، في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان موسرا: ضمن، وإن كان معسرا: سعت في نصيب الشريك). وجه قول أبي حنيفة: أن أم الولد لا تضمن باليد، والدليل على ذلك: أنها إذا حصلت بموت المولى في يد نفسها، لم نضمنها للغرماء، ولا للورثة، ولو كانت تضمن باليد، لكان ضمانها لغرماء المولى أولى.

ولهذا المعنى قال أبو حنيفة: إنها لا تضمن بالغصب؛ لأن ضمان الغصب يتعلق باليد، وكذلك في الشراء، إذا قبضها المشتري فهلكت في يده. وليس يشبه ذلك القتل؛ لأنه قد يضمن بالقتل ما لا يضمن باليد، وهو الحر يضمن بالقتل، ولا يضمن باليد. ومن أجله قال في أم ولد بين رجلين مات أحدهما: أنها لا تسعى في شيء؛ لأنها حصلت في يد نفسها بعتق نصفها، فلا تكون مضمونة على نفسها، لأنها لا تضمن باليد. ووجه آجر: وهو أن أم الولد لم يبق لمولاها في رقبتها مال، وإنما له المنافع، والدليل عليه: أن مولاها لو مات وعليه دين، لم تسع للغرماء في شيء، وعتقت من جميع المال، ولو كانت مالا، أو كان للمولى في رقبتها مال، لثبت في رقبتها حق الغرماء، وحق الورثة، كالمدبر لما كان مالا، وكان للمولى في رقبته مال، لم يستحق رقبته بعد الموت مع الدين، ومع حق الورثة. وإذا ثبت أن الذي للمولى في رقبتها هو المنافع، لم تضمن تلك المنافع بالإتلاف، فمن غصب منافع دار أو عبد: فلا يضمنها. وكذلك المرأة لا تضمن للزوج قيمة بضعها وإن أتلفته عليه. وليس هذا كالقتل؛ لأن القتل فيه إتلاف النفس، وفي العتق إتلاف المنافع، ألا ترى أن رجلا لو قتل امرأة حرة: ضمنها، ولم يضمن ما أتلف من حق الزوج عن بضعها، وليست كالمدبر على العلتين جميعا: أما على العلة الأولى: فإن المدبر يضمن باليد، بدلالة أنه يصير

مضمونا على نفسه بموت المولى للغرماء وللورثة، إذا لم يكن للمولى مال غيره. وعلى العلة الثانية: أن المدبر مال بهذه الدلالة؛ لأن الغرماء لا يثبت حقهم إلا في مال للمولى، فلما ثبت حقهم ف المدبر بعد الموت، دل على أنه مال، فضمنه الشريك بالعتق كالعبد. وإذا ثبت ما وصفنا، ثم أعتقها أحد الشريكين: عتق نصيبه منها، وحصلت بذلك في يد نفسها، كالعبد المعتق بعضه، يحصل بذلك في يد نفسه، وتكون بمنزلة المكاتب، ولما حصلت في يد نفسها، ولم يجب علها سعاية: عتق جميعها، كالمكاتب إذا أبرئ من الكتابة. ولعل بعض من لا يفقه معنى المسألة، يظن أن أبا حنيفة لم يبعض العتق في هذه المسألة، فيلزمه المناقضة على أصله في تبعيض العتق، وليس الأمر كذلك؛ لأن نصيب الشريك الذي لم يعتق، لم يحصل عتقه بعتق نصيب المعتق، وإنما عتق بعد حصولها في يد نفسها، وسقوط السعاية عنها، فصارت كعبد بين رجلين أعتقه أحدهما، واختار الآخر أن يبرئه من السعاية في نصيبه: فيعتق. فإن قال قائل: لو أسلمت أم ولد النصراني، قضى عليها بالسعاية في قيمتها، وهذا يدل على أنها مال. قيل له: ليس كذلك؛ لأنا إذا أردنا أن نملكها نفسها، لم يجز لنا أن نملكها إياها بغير بدل وإن لم يكن مالا. وليس ذلك كإتلافها بالعتق، ألا ترى أن رجلا لو غصب دارا ليتيم؛ وسكنها: لم يكن عليه أجرة منافعها، ولو أردنا نحن أن نملكه منافعها: لم

نملكها إياه إلا بدل. *وفي قولهما: قد عتق جميعهما من المولى المعتق، كمدبر بين رجلين، أعتقه أحدهما. مسألة: [تدبير أحد الشريكين نصيب] قال أبو جعفر: (ومن دبر عبدا بينه وبين آخر). قال أحمد: أبو حنيفة يجعل له خمسة ضروب من الخيار: 1 - (إن شاء دبر كما دبر شريكه)؛ ليتساويا فيه، ولأن نصيبه على ملكه، فملك تدبيره، ولا ضرر فيه على شريكه، ثم يكون مدبرا لهما. 2 - (وإن شاء أعتق)؛ لأن نصيبه باق على ملكه، فإن أعتق: كان لشريكه أن يضمنه؛ لأنه أفسد عليه نصيبه بالعتق، لأنه أخرجه عن يده، وجعله في يد نفسه، فيضمنه، كما لو غصبه، ضمنه. 3 - (وإن شاء استسعى العبد في نصف قيمته، فإذا أدى: عتق، وكان لشريكه أن يستسعي العبد في قيمة نصيبه منه، وليس له في هذا الوجه أن يضمن شريكه قيمة نصيبه من العبد). وإنما كان له أن يستسعي، من قبل أن الذي دبر، قد أفسد عليه نصيبه، فله أن يستوفي بدل نصيبه من السعاية، كما لو أعتق شريكه: كان

له السعاية، لأجل إفساد شريكه لنصيبه بتدبيره، ومنعه من البيع، والتصرف فيه، فإذا أدى، وعتق: لم يكن للذي دبر تضمينه؛ لأن السعاية موجبة بتدبيره، فلم يجب له ضمان، إذ لا يجوز أن يرجع بضمان ما أوجبه هو له. والدليل عليه: أن عبدا بين رجلين، لو أذن أحدهما لشريكه أن يكاتبه، فكاتبه فأدى المكاتب، فأعتق: أنه لا يكون له تضمين الذي كاتب؛ لأنه كان أذن له فيه، فكذلك ما أوجبه من السعاية بالتدبير، لا يجوز أن يجب له به ضمان. فإن قيل: فقل في العتق مثله، أن التدبير هو الموجب له، فلا يوجب عليه ضمانه إذا أعتق. قيل له: إن العتق معنى لم يختص جوازه بالتدبير الواقع من الآخر؛ لأنه قد كان له أن يعتق قبل التدبير، والسعاية مختصة بالتدبير، موجبة به، ألا ترى أنه لم يكن يملك السعاية قبل التدبير. وأيضا: فإن العتق إتلاف للرقبة، واستهلاك لها، وفيه إبطال حق التدبير، وأما السعاية فليس في وجوبها إتلاف للرقبة، ألا ترى أنه لا يخرج نصيب المدبر عن يده بالسعاية قبل العتق، ويخرج بالعتق عن يده، ويصير في يد نفسه، فلذلك اختلفا. 4 - (وإن شاء ترك العبد على ما هو عليه، فكان نصيب شريكه منه مدبرا، ونصيبه منه غير مدبر).

وذلك لأن له أن يبرئ الشريك من الضمان الذي تعلق عليه التدبير، ويترك نصيبه على حاله؛ لأن التدبير لا يوجب للمدبر إخراجه إلى الحرية، فإذا لم يستحق نفسه بذلك، جاز أن يترك نصيبه عبدا غير مدبر، ونصيب الذي دبر مدبرا. فإن قيل: فهلا أجزت بيعه، إذ لم يجب إخراج نصيب الذي دبر إلى الحرية. قيل له: لا يجوز ذلك؛ لأن المعنى لمانع من بيعه إذا أعتق: موجود فيه، وهو أن العتق يمنع البيع في النصف المعتق، ولم يجز من أجله بيع النصف الآخر، وهذا المعنى بعينه موجود في تدبير النصف، إذ هو مانع من بيعه، لأجل ما استحق من حق الغير، فوجب أن يستوي حكم النصفين جميعا. فإن قيل: فلو شهد أحدهما بالعتق على صاحبه، وجبت السعاية على العبد في جميع قيمته، ولم يجز تبقية نصيب الشريك الذي لم يشهد على ملكه وإن لم يقر فيه بعتق، ولم يقر المقر أيضا في نصيب نفسه بالعتق، فهلا أوجبت لنصيب الذي لم يدبر السعاية، وإخراجه بها إلى الحرية. قيل له: لو دبراه جميعا لم تجب السعاية، فكيف يجوز إيجابها بتدبير أحدهما، مع بقاء نصيب الآخر عبدا غير مدبر؟ وأما الفصل بينه، وبين ما سألت عنه: فهو أن الشاهد على صاحبه معترف بوجوب إخراج نصيبه إلى الحرية، فلزم ذلك في نصيبه، فلما لزم ذلك في نصيبه، لزم في نصيب صاحبه، والمدبر لم يوجب إخراج نصيبه

إلى الحرية بالتدبير، فلذلك اختلفا. 5 - قال أحمد: ولم يذكر أبو جعفر الوجه الخامس: وهو: تضمين المدبر. وإنما كان له تضمينه؛ لأنه قد أفسد عليه نصيبه، ومنعه التصرف والبيع، كما كان له التضمين إذا أعتق. * (وقال أبو يوسف ومحمد: قد صار العبد كله مدبرا بتدبير أحدهما، وعلى الذي دبر لشريكه ضمان قيمة نصيبه، بالغا ما بلغ، موسرا كان أو معسرا). وذلك لأن من أصلهما: أن التدبير لا يتبعض كالعتق، فصار جميعه مدبرا له، وانتقل إليه نصيب شريكه، فلحقه الضمان في حال الإعسار واليسار؛ لأنه في ملكه، لم يحصل في يد نفسه. وليس هذا كالعتق؛ لأن العبد يحصل به في يد نفسه، فلذلك اختلف فيه حكم الإعسار واليسار. مسألة: [تعليق الشركاء الحرية بموتهم] قال أبو جعفر: (وإذا كان العبد بين رجلين، فقالا له: إذا متنا فأنت حر: لم يكن بذلك مدبرا، وكان لهما أن يبيعاه). وذلك لأن التدبير الذي يمنع البيع هو الذي يستحق به العتق بموت المولى على الإطلاق، على ما بيناه، وهذه المسألة لم يستحق فيها نصيب كل واحد منهما العتق بموت مولاه على الإطلاق؛ لأنه جعل موتهما

جميعا شرطا في عتق نصيبه، فلا يمنع بيعه، كما لو قال: إن قدم زيد، ومت، فأنت حر: لم يكن مدبرا؛ لأن هناك شرطا آخر غير الموت في استحقاق العتق. *قال: (فإن مات أحدهما: صار مدبرا من قبل الباقي، كعبد بين رجلين، دبره أحدهما). وذلك لأنه لم يبق في استحقاق الحرية إلا موته، فلما صار عتق نصيبه مستحقا بموته: صار مدبرا، ألا ترى أنه لو قال: إن قدم فلان، ومت، فأنت حر: أنه غير مدبر؛ فإن قدم فلان صار مدبرا؛ لأنه لم يبق في شرط استحقاق العتق غير موته. *قال أبو جعفر: (ولو كان كل واحد من الموليين قال له: إذا مت، فأنت حر، وقالا ذلك معا: فقد صار مدبرا لهما، لا يجوز بيعه). لأن كل واحد منهما علق عتق نصيبه بموته خاصة. مسألة: [ادعاء أحد الشريكين في مدبرة ولدها] قال أبو جعفر: (وإذا كانت المدبرة بين رجلين، فجاءت بولد، فادعاه أحدهما: كان ابنه، وكان عليه لشريكه نصف قيمته منه مدبرا، ونصيب المدعي أم ولد، ونصيب الآخر مدبرة، والقياس عندهم أن لا يصدق على الدعوة، وهو قول زفر).

وإنما صدق على الدعوة؛ لأنه مالك لنصفها، والدعوة متى صادفت الملك: نفذت، كالجارية بين رجلين إذا ادعى أحدهما ولدها. والقياس أن لا يصدق؛ لأن الشريك قد تعلق له حق الولاء في الولد، والولاء معنى لا يلحقه الفسخ، فلو صدقناه، كان الولاء ثابتا منهما مع التدبير، فلم يكن الولد حر الأصل، وحكم الولد المولود على ملكه، أن يكون حر الأصل، فلما لم يكن هاهنا حر الأصل، صار في معنى المعتق من قبلهما في باب ثبوت ولائه منهما، وذلك يمنع صحة الدعوة. وأيضا: فإن إثبات النسب لا يوجب نقل نصيب شريكه إليه، لثبوت نصف ولائه منه، فكان القياس أن لا يثبت النسب، إلا أنه استحسن في إثبات نسبه من المدعي، وجعله ابنه بالقيمة، وهو مولى لهما جميعا. ووجه ما قدمنا من أن دعوته لما صادفت ملكا، وجب أن يثبت في نصيبه، ولما ثبت في نصيبه، استحال أن لا يثبت في نصيب شريكه، وليس في ثبوت ولائه من غيره، ما يمنع ثبوت نسبه، إذ قد يجتمع مع ثبوت الولاء من غيره، ثبوت النسب منه. *ويضمن نصف قيمته؛ لأنه صار مستهلكا له بالدعوة، وليس هو في هذا الوجه بمنزلته لو ادعى ولدها، وهي غير مدبرة: فلا يضمن من قيمة الولد شيئا؛ لأنه في هذه المسألة يضمن نصف قيمتها بالعلوق، وينتقل ملكها إليه يوم العلوق، فيدخل ضمان الولد في ضمان الأم، لأن الولد يومئذ كان جزءا من أجزائها، لا قيمة له في نفسه. وأما في مسألة المدبرة، فإن نصيب شريكه من الأم لا ينتقل إليه، وقد

صار مستهلكا للولد بالدعوة، ونصفه له ثابت الولاء منه، فيضمنه. *ويكون ولاء الولد بينهما؛ لأن ذلك قد ثبت منهما بالتدبير الذي لا يلحقه الفسخ، فلا ينفسخ بالدعوة. مسألة: [العتق في المجهول] قال أبو جعفر: (ومن قال لعبديه: أحدكما حر، لا ينوي واحدا منهما بعينه: عتق أحدهما، والخيار إليه في تعيين العتق في أحدهما). قال أحمد: الدليل على جواز العتق في المجهول: قول النبي عليه الصلاة والسلام: "لا عتق إلا فيما يملك ابن آدم". رواه بهذا اللفظ عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي عليه الصلاة والسلام. فأثبت العتق فيما يملكه، ولم يفرق بين المجهول والمعلوم، فهو عليهما. وأيضا: لو أعتق الرجل عبيدا له، لا يعرفهم بأعيانهم، ولا مبلغ عددهم: نفذ عتقه ولم يمنعه كونهم مجهولين عنده من نفاذ عتقه، فدل على صحة وقوعه في مجهول. وأيضا: قد يصح ثبوت رقبة مجهولة في ذمته بالظهار، وكفارة اليمين، والقتل، ثم يلزمه التعيين، كذلك يصح إيجابه في مجهول من جماعة عبيد، ثم يلزمه البيان.

وأيضا: يصح البيع في قفيز من صبرة غير معلومة، ويكون الخيار إلى البائع في تعيينه، كذلك العتق، إذ كانت الجهالة في العتق أجوز منها في البيع، فما جاز في البيع من الجهالة، فهو في العتق أجوز، فيعتق أحدهما يغير عينه، ويلزمه البيان والتعيين، كما يلزمه تعيين القفيز إذا باعه من جملة الصبرة. وأيضا: فلما كان العتق يتعلق على الأخطار والشروط، وجب أن يصح في مجهول؛ لأن جهالته ليست بأكثر من تعليقه على الخطر، وقد بينا هذه المسألة بأكثر من هذا في "شرح الجامع". *قال: (فإذا أوقع المولى ذلك العتق على أحدهما بعينه: كان حرا، وبقي الآخر عبدا له على حاله). وذلك كما قلنا في بيع القفيز من الصبرة، إذا عينه في قفيز: سلمه إليه، وكان كأنه هو المبيع بعينه. *قال: (فإن باع أحدهما، أو وهبه، أو دبره، أو كاتبه: عتق الآخر). وذلك لأن إليه البيان، وبيعه لأحدهما بيان للعتق في الباقي؛ لأنه قد فعل ما لا يصح معه تعيين الحرية الموقعة فيه، ألا ترى أن من اشترى عبدا على أنه بالخيار ثلاثا، ثم باعه: كان بيعه إبطالا للخيار؛ لأنه قد فعل ما لا يصح بقاء الخيار معه. وأيضا: فهو بمنزلة بائع القفيز من الصبرة، إذا باع الصبرة إلا مقدار قفيز منها: فيتعين البيع في الباقي، والكتابة بهذه المنزلة، لأنه لا يصح كتابته مع استحقاق للحرية، وفي صحة الكتابة نفي للحرية الموقعة،

وكذلك التدبير؛ لأن الحر لا يصح تدبيره. *قال: (وكذلك لو مات أحدهما: عتق الآخر). كما أن الصبرة لو هلكت إلا مقدار قفيز: تعين البيع في الباقي. وأيضا: لم يبق من يستحق الحرية غيره؛ لأن الميت لا يصح عتقه، فتعين العتق في الباقي، إذ ليس هناك مستحق له غيره. مسألة: [موت المولى قبل أن يعين واحدا ممن أبهم عتقهم] قال: (فلو مات المولى، ولم يمت واحد من العبدين: عتق من كل واحد منهما نصفه، وسعى في تصف قيمته). وذلك لأن كل واحد منهما مستحق للحرية في حال، غير مستحق لها في أخرى، فانقسمت الحرية عليهما، على ما بينا في اعتبار الأحوال، وقد تقدم ذكر الحجاج له. *قال: (ويسعى كل واحد منهما في نصف قيمته)؛ لأنه إنما استحق حرية نصفه، ويكون كالمكاتب ما دام يسعى (في قول أبي حنيفة). لأن من أصله: جواز اجتماع الرق والحرية في شخص واحد، وما دام عليه سعاية، فهو كالمكاتب؛ لأن سعايته إنما هي للخلاص من الرق. وفي قولهما: هو بمنزلة حر عليه دين؛ لأن من أصلهما: امتناع جواز اجتماع الرق والحرية في شخص واحد، وكل من وجبت عليه سعاية للخلاص من الرق، فحكمه ما وصفنا في قول أبي حنيفة قياسا على المكاتب. وقال أبو حنيفة في العبد الرهن إذا أعتقه الراهن وهو معسر: أنه يسعى في قيمته إذا كان مثل الدين، ويكون بمنزلة الحر في سائر أحكامه.

وكذلك إذا أعتقت امرأة عبدا على أن يتزوجها، أو أعتق رجل أمته على أن تتزوجه، فأبيا التزويج بعد العتق: أن كل واحد منهما يسعى في قيمته. وهو بمنزلة الحر في حال السعاية؛ لأن سعاية هؤلاء ليست للخلاص من الرق، أما الرهن فإنما يقضي دينا على غيره بمنزلة الكفيل، وقد صح له العتق، وأما المعتق على شرط التزويج، فقد صح له العتق، وإنما سعى لترك الوفاء بما شرط عليه من المنفعة، وهي التزويج. وليس كذلك المعتق في المرض، والمعتق بعضه، والمدبر إذا لم يخرج من الثلث؛ لأن كل هؤلاء يسعون، لأن العتق لم يحصل لهم بما استحقوه من بعضه، فبقي بعض الرقبة على حكم الرق، فلذلك كان سعيه بمنزلة الكتابة. مسألة: [عتق المدبر يكون من الثلث] قال أبو جعفر: (وعتق المدبر من الثلث). قال أحمد: وقد بينا ذلك فيما سلف، وأنه وصية فإن مات ولا مال له غيره: سعى في ثلثي قيمته؛ لأن ثلثه قد حصل له بالوصية، ولابد من إخراج الثلثين إلى الحرية، لما بينا. *قال أبو جعفر: (إلا أن يجيز ذلك الورثة بعد موت المولى). وذلك لأن الوصية بجميع المال موقوفة على إجازة الورثة؛ لأن الميت

لا يملك أكثر من الثلث بعد الموت. *قال: (فإن أجاز الورثة: برئ من السعاية، وكان الولاء كله لمولاه). وذلك لأنهم لم يملكوا رقبته بعد الموت؛ لأنه لا يجوز انتقال الملك في عبد قد عتق بعضه، وإنما ملكوا السعاية كما يملكون مال الكتابة بموت المولى دون رقبة المكاتب، فإذا أبرؤوه من السعاية: عتق، وكان الولاء للمولى. مسألة: [موت السيد عن دين أكثر من قيمة عبده المدبر] قال: (وإن مات مولاه، وعليه دين أكثر من قيمته: سعى في قيمته، ويقضي بها دين مولاه، فيعتق). وذلك لأن الدين مقدم على الوصية، فلا يجوز أن يسلم له شيء من رقبته بالوصية مع وجود الدين، فيغرم قيمة نفسه، لأن الرقبة مال للمولى، سبيلها أن يستحقها الغرماء، فلما حصلت له بالعتق: غرمها، كما لو وهب عبده في مرضه، وعليه دين، فاستهلكه الموهوب له: غرم قيمته للغرماء. مسألة: [ما يلزم قاتل عبدين أبهم المولى العتق في أحدهما] قال أبو جعفر: (ومن قال لعبديه: أحدكما حر، ثم قتلهما رجل واحد بضربة واحدة: كان عليه دية، ونصف قيمة كل واحد منهما، فيكون ما

يغرمه من دية كل واحد منهما لورثته، وما يغرمه من قيمة كل واحد منهما لمولاه). وذلك لأن القتل يوجب تحصيل العتق في أحدهما لا محالة، ألا ترى أنه لو قتل أحدهما: حصل العتق في الباقي، وإذا كان كذلك، فقد قتل عبدا وحرا، فيلزمه قيمة ودية، ثم لم نعلم الواجب عنه الدية بعينه، فقسمناها بين ورثتهما؛ لأن المولى لا يجوز أن يستحق الدية إذا كان لهما وارث غيره. وأما القيمة، فإنما تجب عن العبد، فيستحقه المولى، وقسمة الدية بين ورثتهما، على ما ذكرنا من الأصل في اعتبار الأحوال. مسألة: قال: (ولو لم يقتلهما رجل واحد، ولكن قتل كل واحد منهما رجل على حدة، إلا أن ذلك كان من القاتلين معا: كان على كل واحد منهما قيمة الذي قتله، لا شيء عليه غير ذلك). وذلك لأن أحدهما قد حصلت فيه الحرية لا محالة، ولا نعلم قاتل الحر من قاتل العبد، فقد تيقنا لزوم كل واحد منهما القيمة، وشككنا في الفضل، فلم نلزمه إياه. ألا ترى أنا لو علمنا أن أحد رجلين عليه ألف درهم لزيد، ولم نعرفه بعينه: لم نلزمه إياه. ولو قالا: لك على أحدنا ألف درهم: لم نلزم واحدا منهما بهذا القول شيئا. وكذلك لو علمنا أن أحد رجلين أعتق عبده، أو طلق امرأته، ولم نعرفه بعينه: لم نلزم واحدا منهما ذلك؛ لأنا لا ندري من الخصم منهما،

ولا يجوز أن نلزم الحق من ليس بخصم، ألا ترى أنه لو جاء القاضي فقال له: لي على أحد هذين ألف درهم: لم يسمع القاضي دعواه، ولا خصومته. وليس ذلك مثل أن يموت المولى، وقد أعتق أحد عبديه، فيعتق من كل واحد نصفه، على اعتبار الأحوال؛ لأن الذي لزمه ذلك معلوم، وهو المولى، ألا ترى أنهما لو رفعاه إلى الحاكم، وادعيا ذلك العتق: قبل القاضي خصومتهما فيه، وأجبره على البيان، فلذلك صح اعتبار الأحوال فيه. مسألة: قال أبو جعفر: (ولو قطع قاطع أيديهما: كان عليه نصف قيمة كل واحد منهما لمولاهما، أوقع المولى بعد ذلك العتق على أحدهما، أو لم يوقعه حتى مات). وذلك لأن قطع اليد لا يوجب تحصيل العتق في أحدهما، ألا ترى أن رجلا لو قطع يد أحدهما: لم يتعين العتق في الباقي، ويكون الأرش كله للمولى؛ لأن يدا بائنة لا يجوز أن يلحقها عتاق بحال، فلذلك كان الأرش للمولى، ولم يستحقه أحد العبدين. مسألة: قال: (ولو كان مكان العبدين أمتان، فجاءت كل واحدة منهما بولد، ثم أوقع المولى العتق على إحداهما: عتقت، وعتق ولدها معها). وذلك لأنه لما عين العتق فيها: صارت حرة بالقول المتقدم، والولد مما يجوز أن يلحقه عتق بذلك القول، فيعتق، وليس الولد كاليد، لأن اليد البائنة لا يلحقها حكم الحرية بحال، ونحن فإنما نحكم الآن لها بالحرية بالقول المتقدم، ولا نقول: إنها عتقت الساعة مطلقا، ولا أنها

عتقت وقت القول، إلا على الوصف الذي قلنا. ويدل على الفصل بينهما: أن حق العتاق يسري في الولد، بدلالة أن أم الولد يسري حق الاستيلاد في ولدها، ولا يسري في الأرش لو قطعت يدها، فكذلك ما وصفناه. مسألة: [لو جامع المولى إحدى الجاريتين اللتين أبهم العتق فيهما] قال أبو جعفر: (ومن قال لأمتيه: إحداكما حرة، ثم جامع إحداهما: لم يكن بذلك مختارا لها في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمد: هو مختار لهما). وجه قول أبي حنيفة: أن حق العتق لا يمنع الجماع، بدلالة أن الاستيلاد والتدبير يثبت بهما حق العتق، ولا يمنعان الوطء. وأيضا: فليس ملك اليمين مختصا بإباحة الوطء، فيستدل بالوطء على تبقيته، ألا ترى أنه قد يصح ملك اليمين على من لا يحل وطؤها. وليس ذلك كقوله لامرأتين له: إحداكما طالق ثلاثا، ثم يجامع إحداهما، فيحصل الطلاق في الأخرى، من قبل أن الزوجية مختصة بإباحة الوطء، فيدل استباحته لوطئها على تبقية الزوجية. وأيضا: فإن الزوجية لا توجب له شيئا غير استباحة الوطء، فالوطء يدل عل تبقيتها على النكاح، وأما ملك اليمين، ففيه معنى غير الوطء، وهو ملك الرق، فلا يدل الوطء على تبقية الملك، لأن الرق باق في كل

واحد منهما في الحكم، ألا ترى أن رجلا لو قطع أيديهما جميعا، كان الأرش للمولى دونهما. وليس كذلك الطلاق؛ لأنه لو طلق إحداهما، ولم يدخل بهما: كان له أن يتزوج ثلاثا سواهما، فملك الزوجية زائل عن إحداهما لا محالة، فلذلك كان وطؤه دلالة على أنها هي المبقاة على الزوجية. وأيضا: فلو وطئت إحداهما بشبهة، فأخذ المولى العقر: لم يكن في حصول العقر- الذي هو بدل الوطء- له دلالة على تعيين الحرية في الأخرى، فكذلك ينبغي أن يكون حكمه في الوطء. وهذا يدل على صحة ما ذكرنا من وجهين: أحدهما: أن حكم الوطء ينبغي أن يكون حكم بدله؛ لأن حكم البدل حكم المبدل عنه. والوجه الثاني: أنه يدل عل أن الوطء في ملكه، لولا ذلك لم يستحق بدله، وإذا كان في ملكه لم يكن مختارا بتناول ما يملكه، وأما في الطلاق، فليس وطء إحداهما في ملكه، بدلالة ما ذكرنا: أن له أن يتزوج ثلاثا سواهما إن لم يكن دخل بهما، ومعلوم أنه لا يصح له حصول الملك في وطء خمس نسوة. وليس الوطء في هذا الموضع، بمنزلة وطء الأمة المشتراة على أنه بالخيار ثلاثا: في كونه مختارا للشراء، مبطلا للخيار، من قبل أن عقد الشراء لم يوجب له ملك الوطء؛ لأنها موقوفة لم تدخل في ملكه على مذهب أبي حنيفة، ففي استباحة وطئها: دليل على أنه مختار لأن يصير الوطء في ملكه بملك الأصل، فلذلك صار مختارا، وهو سديد على أصله.

وأما إذا كان الخيار للبائع، فوطئها: وطأه إياها صار فسخا للبيع؛ لأن ثبوت حق الغير في رقبتها، يمنع وطأها، مثل الرهن، والإجازة، وثبوت حق العتق يحظر الوطء، كالمدبرة، وأم الولد، فكان في استباحة الوطء إبطال لما تعلق بها للمشتري من الحق. وأما البيع والكتابة والتدبير، فإنها معان تتعلق بها حقوق، ولابد من إثباتها، وفي إثباتها نفي للعتق الموقع عنها. وأما الوطء، فلا يتعلق به لها حق، كما لا يثبت لها حق في العقد إذا وطئها غيره بشبهة، مع ثبوت حق الحرية الواقعة في غير عين. *وجعل أبو يوسف ومحمد وطأه لإحداهما: اختيارا لتعيين العتق في الأخرى، كالبيع والكتابة ونحوهما، وكوطء إحدى المرأتين بعد طلاق إحداهما؛ لأنه قد فعل ما لا يصح به بقاء الحرية معه. مسألة: [وطء المولى إحدى الجاريتين المبهم فيهما التدبير] قال أبو جعفر: (ومن قال لأمتيه: إحداكما مدبرة، ثم جامع إحداهما: كان خياره باقيا في التدبير في قولهم جميعا). قال أحمد: وذلك لأن التدبير لو حصل في عين: لم يمنع وطأها، فلا يكون في وطئه إحداهما دلالة على صرفه التدبير عنها إلى غيرها.

مسألة: [تعليق عتق الجارية بنوع المولود] قال أبو جعفر: (وإذا قال لأمته: إن كان أول ولد تلدينه غلاما، فأنت حرة، فولدت غلاما وجارية، وتصادقوا على أنهم لا يدرون أيهما أول فإنه يعتق نصف الأم، ونصف البنت، وتسعى كل واحدة منهما في نصف قيمتها، والغلام عبد على كل حال). وذلك لأن شرط حريتها: ولادة الغلام أولا، ثم لا يخلو من ّأن يكون أولا أو آخرا، فإن كان أولا: فقد عتقت الأم وما في بطنها، وهي البنت، فهما حرتان في هذه، والغلام عبد. وإن كانت البنت أولا: لم يعتق واحد منهما؛ لعدم شرط الحرية. فالغلام عبد في الأحوال كلها، والأم والبنت تعتقان جميعا في حال، ولا تعتقان في أخرى، فيعتق كل واحدة نصفها، وتسعى في نصف قيمتها. *قال أبو جعفر: (وإن قال مولى لجارية: ولدت الجارية أولا: فالقول قوله مع يمينه). لأنه زعم أن شرط اليمين لم يوجد: فالقول قوله؛ لأن الأصل أن ملكه باق في الجميع، حتى تثبت الحرية، ويحلف المولى في ذلك على علمه، لأنها يمين على غير فعله، فإن نكل عن اليمين: عتقت الأم والبنت، كأنه أقر بذلك. *قال أبو جعفر: (وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقول محمد الأول، ثم قال محمد بعد ذلك: إذا تصادقوا على أنهم لا يعلمون أي الولدين أول: لم يعتق من الجارية، ولا من ولدها شيء؛ لأنا لم نتيقن

حصول العتق، فتستعمل فيه الأحوال)، ولا يجوز إيقاع العتق بالشك. مسألة: [شهادة الشاهدين بالعتق وإنكار العبد والمولى ذلك] قال أبو جعفر: (ومن شهد عليه شاهدان أنه أعتق عبده، والعبد منكر، والمولى منكر، لم تقبل شهادتهما في ذلك في قول أبي حنيفة، وقبلت في قول أبي يوسف ومحمد، وفي الأمة تقبل في قولهم جميعا). وجه قول أبي حنيفة في العبد: أن الذي يستحقه المولى من عبده في الحال هو الاستخدام، والتصرف في منافعه، وليس الشهود خصماء في المنع من ذلك، فلا يكونون خصماء في العتق، وصاروا فيه بمنزلة شهود الهبة والبيع ونحوه، والمشتري والواهب جاحدان، فلا يلتفت إلى شهادتهم. فإن قيل: المنع من استخدامه والتصرف فيه على وجه الاسترقاق حق لله تعالى، فواجب أن يكون الشهود خصماء فيه. قيل له: ليس كل ما كان حقا لله، فالشهود خصماء في إثباته، ألا ترى أن المنع من استلحقاق نسب لا حقيقة له حق لله تعالى، وكذلك المنع من دعوى ولائه لا حقيقة له، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "من ادعى إلى غير أبيه، وانتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".

فجعل ذلك حقا لله، لا يجوز بذله، والتراضي عليه، ومع ذلك لا يكون الشهود خصماء في نفيه أو إثباته، إذا لم يكن هناك خصم آدمي يدعيه، فكذلك استرقاق العبد. وأما الأمة، فإنما كان الشهود خصماء في إثبات عتقها، من قبل أنهم خصماء في المنع من وطئها بعد العتق؛ لأنه يكون واقعا على وجه الزنى، والشهود خصم في المنع منه، ألا ترى أنهم خصم في إثبات الحد، وفي الحد ردع عن الزنى، ومنع منه. فلما كان هناك معنى يكون الشهود خصماء فيه في الحال، قبلت شهادتهم. *وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أن المنع من استرقاق الحر حق لله تعالى، فيكون الشهود خصماء فيه. مسألة: [عتق أمهات الأولاد يكون من جميع المال] قال أبو جعفر: (وأمهات الأولاد يعتقن من جميع المال، ولا يبعن). قال أحمد: الدليل على ذلك: ما روى الثوري عن الإفريقي عن مسلم بن يسار عن سعيد بن المسيب قال عمر: "أمهات الأولاد لا يبعن في الدين، ولا يجعلن من الثلث، قضى بذلك النبي عليه الصلاة

والسلام". فإن قيل: روي عن عبيدة السلماني عن علي رضي الله عنه أنه قال: "أجمع رأيي ورأي عمر في جماعة من المسلمين على عتق أمهات الأولاد، ثم رأيت أن أرقهن". فأخبر أن عمر أعتقهن بالرأي، ولو كان عنده نص عن النبي عليه الصلاة والسلام، لأخبره به، ولما أفتقر معه إلى الرأي. قيل له: ليس يمتنع أن يكون استشار فيهن الصحابة، فأجمعوا عليه، ثم وقف على نص النبي عليه الصلاة والسلام فيهن، فأخبر به ليصح الخبران جميعا. ويدل عليه: ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو الحصين محمد بن الحسين بن حبيب قال: حدثنا يونس بن عبد الرحيم قال: حدثنا رشدين بن سعد قال: حدثنا طلحة بن أبي سعيد وابن لهيعة عن عبيد الله بن ّأبي جعفر عن يعقوب بن الأشج عن بسر بن سعيد عن خوات بن جبير "أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أن لا تباع أم الولد، وأعتقها".

وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني قال: حدثنا شريك عن حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما أمة ولدت من سيدها، فهي حرة بعد موته". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا محمد بن الحصيب عن ابن لهيعة عن ابن عجلان عن حسين عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما ولدت أم إبراهيم قال النبي عليه الصلاة والسلام: "أعتقها ولدها". وأيضا: قول علي رضي الله عنه: "أجمع رأيي ورأي عمر في جماعة من المسلمين على عتق أمهات الأولاد"، فأخبر بإجماع الصحابة عليه، ومثلهم لا يجوز عندنا إجماعهم على خطأ في حال. فإن قيل: فقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "ثم رأيت أن أرقهن". قيل له: ليس في قوله: "رأيت أن أرقهن": دلالة على أنه رأى بيعهم؛ لأنه ليس كل رقيق يجوز بيعه، ألا ترى أن العبد الرهن، والإجارة، لا

يجوز بيعه وهو رقيق. فإن قيل: فما وجه قوله:"رأيت أن أرقهن"؟ قيل له: لئلا يشتبه على السامع، فيظن إنما رأى عتقهن بعد الموت، أزال بذلك عنهن أحكام الرقيق في حال الحياة، من الوطء والاستخدام ونحوهما. فإن قيل: روي عن عبيدة أنه قال: فقلت لعلي: رأيك مع عمر في الجماعة، أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة. قيل له: هذا اللفظ لا يصح؛ لأن عليا رضي الله عنه كان أعظم في صدورهم، وأجل مرتبة عندهم من أن يقابله بمثل هذا الكلام، ثم ينسبه إلى الفرقة، وعسى أن يكون عبيدة إن قاله، فإنما قاله في نفسه حين ظن أن عليا رأى بيعهن، وقد بينا أنه لا دلالة في اللفظ على أنه رأى بيعهن. فإن قيل: فقد روي عنه أنه قال: ثم رأيت أن أبيعهن. قيل له: الصحيح هو الأول، وهذا تأويل الراوي لما كان عنده، أنه أراد بقوله: رأيت أن أرقهن: بيعهن. فإن قيل: كيف تدعي فيه إجماع الصدر الأول، مع قول عمر في أم الولد: "إذا أسلمت، وأحصنت: عتقت وإن كفرت وفجرت وغدرت رقت".

وقول ابن مسعود:"إن أم الولد تعتق من نصيب ولدها". وما روي عن ابن الزبير: أنه كان يبيع أمهات الأولاد. وقال جابر: "كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". قيل له: أما قول عمر، فمعناه، إذا ارتدت، ولحقت بدار الحرب بعد الحرية: استرقت. وأما قول ابن مسعود فمعناه: أنها تعتق لأجل ولدها. وأما ابن الزبير فجائز أن يكون مراده: فيمن يكون استيلادها في ملك الغير، ثم ملكت. وأما قول جابر: كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا حجة فيه للمخالف، من قبل أن قول الصحابي: كنا نفعل كذا وكذا على عهد رسول الله: لا تثبت به حجة؛ لأنهم قد يفعلون في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ما لا يعلم عليه الصلاة والسلام، وإنما تثبت حجته لو قال: فعلناه بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام، فلم ينكره.

ألا ترى "أن أبي بن كعب لما قال لعمر: قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نغتسل حتى ننزل، يعني: في الماء من الماء. فقال عمر: فأخبرتم بذلك رسول الله، فرضيه من الحكم؟ قال: لا". فأخبره أن ما يفعل في عهد النبي عليه الصلاة والسلام لا حجة فيه حتى يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم، فيقر فاعله عليه. *ويدل على حظر بيع أم الولد: حديث أبي سعيد الخدري "أن رجلا من الأنصار قال: يا رسول الله! إنا نصيب سبايا، فنحب الأثمان، فكيف ترى في العزل؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا عليكم أن لا تفعلوا ذاكم، فإنها ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا هي خارجة". فلو جاز بيعهن بعد الاستيلاد، لقال: وما يمنعك استيلادها من ثمنها، فإن شئت فاعزل أو لا، فإن ثمنها قائم في الحالين، فدل ذلك على حظر

بيعهن مع الاستيلاد، وقد دللنا هذه المسألة بأكثر من هذا في "شرح الجامع". مسألة: [ما تكون به الأمة أم الولد] قال أبو جعفر: (ولا تكون الجارية بما ولدت من مولاها أم ولد حتى تلد ما يستبين خلقه، أو بعض خلقه). وذلك أنه إذا لم يستبن خلقه، فجائز أن يكون دما مجتمعا، أو داء، فلا نجعلها أم ولد به، فإذا استبان شيء من خلقه، علمنا أنه كان ولدا. مسألة: قال أبو جعفر: (ومن تزوج مملوكة، فأولدها، ثم ملكها: صارت أم ولد، لا يجوز بيعها). وذلك لأن ما يستحق بالاستيلاد من العتق ليس بموقع، وإنما هو حرية متعلقة بثبوت النسب، تثبت بثبوته، فهي كحرمة النسب، لتعلقها به، وحصولها من غير إيقاع، فوجب أن لا يختلف حكمه في وجوده في ملكه، أو في غير ملكه، ثم حصل له ملكه، كما لم يختلف حكم النسب فيما يتعلق به من العتق، بأن تكون الولادة في ملكه، أو قبله، ثم ملكه.

مسألة: [ثبوت نسب ولد أم الولد من مولاها] قال أبو جعفر: (وإذا جاءت أم الولد بولد: كان ابنا لمولاها، ما لم ينفه). قال أحمد: الفراش عندنا على ثلاثة أوجه: 1. فراش النكاح: ولا ينتفي ولده إلا باللعان. 2. وفراش أم الولد: ونسبه ثابت ما لم يحرم الوطء، إلا أن ينفيه، فإن نفاه المولى انتفى بقوله. 3. وفراش الأمة: ولا يلحق نسب ولدها إلا بالدعوة، سواء وطئها أو لم يطأها، وهو قول ابن عباس، وزيد بن ثابت في فراش الأمة. والدليل على أن ولد الأمة لا يلزمه إلا بالدعوة وإن وطئها: اتفاق الجميع على أن لا عدة عليها بزوال الفراش بالعتق والبيع، وموت المولى، ولا نجد في الأصول فراش ملك يلزم به النسب إلا وهو يوجب العدة، كفراش أم الولد لما كان يلزمه به النسب من غير دعوة، وجبت العدة عند زواله بالعتق، وموت المولى. وأيضا: فالفراش الصحيح الذي يستباح به الوطء، إنما يتعلق حكم ثبوت النسب فيه بوجود الفراش دون الوطء، مثل فراش النكاح، لما كان فراشا صحيحا، تعلق ثبوت النسب به، دون وجود الوطء. فلما كان وجود الملك مع استباحة الوطء، لم يلزمه نسب ولدها إلا

بالدعوة، وجب أن لا يكون للوطء تأثير في لزومه، قياسا على حاله قبل الوطء، والمعنى الجامع بينهما: أنها ملك يمين، لم يثبت لها حرمة الاستيلاد. وأيضا: لو صارت فراشا يلزم النسب بالوطء، لما جاز بيعها، كما لم يجز بيع أم الولد، فلما جاز بيعها مع وجود الوطء، دل على أنها ليست بفراش يوجب ثبوت النسب بغير دعوة. فإن قيل: قول النبي عليه الصلاة والسلام: "الولد للفراش": يوجب ثبوت النسب منها، سواء واطئ أو لم يطأ؛ لأنها فراش يصدق فيه على الدعوة. إلا أنهم لما اتفقوا على أنه لا يثبت قبل الوطء إلا بالدعوة، خصصناه بالاتفاق، وحكم العموم قائم فيما اختلفنا فيه. قيل له: ما لا يثبت النسب فيه إلا بالدعوة، ولا يسمى فراشا على الإطلاق عندنا، لا يثبت النسب في ذلك إلا بالدعوة، فعليك أن تدل أولا على أنها فراش، حتى يصح لك الاحتجاج بالعموم. وأيضا: فلو ثبت لك العموم في موضع الخلاف، لكان ما ذكرناه من الدلائل يخصه. فإن قيل: روى الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني، فاقبضه إليك. قالت: فلما كان عام الفتح، أخذه سعد، وقال: ابن أخي، قد كان

عهد إلي فيه، فقام إليه عبد بن زمعة فقال: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه. فتشاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال سعد: يا رسول الله! ابن أخي، عهد إلي فيه، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو لك يا عبد بن زمعة". وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر". ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام لسودة بنت زمعة: "احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة". وقد روي في بعض ألفاظ هذا الحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد بن زمعة: هو أخوك". قيل له: قد اختلف في لفظ هذا الحديث فقال: بعضهم قال: "هو لك"، وقال بعضهم: "هو أخوك"، وليس يمتنع أن يكون الذي قال: "هو أخوك": حمله على المعنى عنده، وأصل الحديث: "هو لك"، فظن الراوي أنه يريد: "هو أخوك"، فنقله على هذا الوجه، فلم تثبت هذه اللفظة من قول النبي عليه الصلاة والسلام. *ومعنى قوله: "هو لك": يعني: أنك أحق باليد والإمساك.

ويدل عليه قوله لسودة: "احتجبي منه"، ولو كان أخاها، ما أمرها بالاحتجاب منه؛ لأن فيه قطع الرحم، والنبي عليه الصلاة والسلام لا يأمر بذلك. *وقوله: "الولد للفراش": لا يدل على إلحاقه بزمعة، إنما فيه بيان لسعد، أن أخاه لما لم يكن له فراش، لم يلحق النسب به. *وعلى أنه لو ثبت الخبر على الوجه الذي رووه، وسلمنا لهم جميع ما ادعوه فيه، لم يكن فيه بيان موضع الخلاف من وجوده: أحدهما: أنه قضية في شيء بعينه، وليس خصمنا بأولى برده إلى ما يدعيه، منا بحمله على ما نقوله، وذلك لأنه ليس فيه: أنه كان يطؤها. ثانيها: ولا خلاف بيننا أن نسب ولد الأمة قبل الوطء، لا يلحق به إلا بالدعوة، فقد علمنا أنه قد كان هناك معنى غير ظاهر الحال، كان الحكم محمولا عليه. فإن ادعى خصمنا أنه ألحقه به؛ لأنه كان علم الوطء. قلنا: وإنما ألحقه لأن زمعة قد كان ادعاه قبل الموت، أو لأن ورثته بعد موته اتفقوا على الدعوة، وما كان هذا سبيله: فإنا نلحق به النسب، كان وطئ الميت أو لم يطأ، فقد سقط الاحتجاج به في موضع الخلاف. ثالثها: وعلى أنه قد روي في قصة زمعة خلاف هذا: روى الثوري وجرير عن منصور عن مجاهد عن يوسف بن الزبير عن عبد الله بن الزبير قال: "كانت لزمعة جارية يطؤها، وكان يظن برجل آخر أنه يقع عليها، فمات زمعة وهي حبلى، فولدت غلاما، كان يشبه الرجل الذي كان يظن بها، فذكرته سودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما الميراث

فله، وأما أنت فاحتجبي منه، فإنه ليس لك بأخ". فأخبر في هذا الحديث أنه كان يطؤها، وأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يلحقه به. وأما وجه إعطائه الميراث: فجائز أن تكون سودة أقرت أنه أخوها، فأعطاه الميراث بإقرارها. فهذا الذي ذكرنا حكم فراش ملك اليمين، ما لم يثبت لها استيلاد، فإذا ثبت الاستيلاد، فلا خلاف أن نسب ولدها يلحقه وإن لم يدعه. فإن نفاه: انتفى بقوله، وذلك لأنه يملك نفي نسبه عنه بقوله، بنقل فراشها عنه إلى غيره بالتزويج، فثبت أن له أن ينفي بقوله. وأما فراش النكاح، فلا خلاف أن النسب لا ينتفي منه إلا باللعان، فإن نفى ولد أم الولد: انتفى نسبه منه، وكان بمنزلة أمة تعتق بموت المولى من جميع المال، لأن حق الاستيلاد ثابت لها في رقبتها، فيسري في ولدها، كان يسري حق الكتابة الثابتة للأم في الولد. *قال أبو جعفر: (وإن لم ينفه عند الولادة، ونفاه بعد ذلك: فهو مثل ما تقدم في باب اللعان من نفي ولد الزوجة).

مسألة: [تزويج أم الولد] قال أبو جعفر: (وللرجل تزويج أم ولده). وذلك لأنه يملك بعضها، فلما كان مالكها لبعضها، فهي كالأمة غير أم الولد، ويدلك على أنه مالك لبعضها: أنها إذا وطئت بشبهة: كان المهر لمولاها، وليست كالزوجة؛ لأن الزوج لا يملك بضعها بعقد النكاح، وإنما يملك الاستباحة، ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة: كان المهر لها دون الزوج. مسألة: [بيان لمن يكون مال أم الولد إذا عتقت] قال أبو جعفر: (وإذا عتقت أم الولد بموت مولاها، أو بتعجيله عتقها في حياته: كان مالها لمولاها، لا شيء لها منه). لأنها أمة لا تملك، ألا ترى أن المولى كان يطؤها بملك اليمين. مسألة: [الوصية لأم الولد] قال: (وجائز للرجل الوصية لأم ولده). وذلك لقول الله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين}، وعمومه يقتضي جواز الوصية لكل أحد، إلا ما قام دليله. وأيضا: ليست بوارث، ولا قاتل، فصارت كسائر الناس.

مسألة: [العتق المعلق بقيد] قال أبو جعفر: (ومن قال لعبده: أنت حر قبل موتي بشهر: كان كما قال، فإن مات المولى بعد هذا القول بأقل من شهر: بطل هذا القول، فلم يعمل شيئا). قال أحمد: هذا عتق موقع بصفة، وهو أن يقع عند الموت قبل ذلك بشهر بعد اليمين، وذلك لأن وجود شهر بعد اليمين شرط في العتق، لأن الأيمان إنما تنعقد على شروط مستقبلة، ولا تنعقد على شروط ماضية، ألا ترى أنه لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار: كان ذلك على دخول مستقبل. فإذا وجد شهر بعد اليمين يليه الموت، فقد وجد شرط العتق، فيعتق عند أبي حنيفة قبل ذلك بشهر، كقوله: أنت طالق قبل رمضان بشهر، فيقع في أول شعبان، ويفترقان من جهة أن الشهر الذي يليه الموت لا يحصل معلوما إلا بوجود الموت، فإن وجد حصل الشهر معلوما، فحكم بوقوع العتق قبله، وقد بينا ذلك في مسائل من هذا الكتاب، واستقصينا شرحه في "الجامع الكبير". *وأبو يوسف ومحمد يجعلانه حرا بعد الموت؛ ويكون عتقه من الثلث. وإنما لم يكن مدبرا؛ لأن عتقه لم يكن مستحقا بالموت على الإطلاق قبل مضي الشهر، فإذا مضى الشهر صار مدبرا، لأن عتقه قد صار مستحقا

بالموت على الإطلاق. *قال أبو جعفر: (وأما أبو حنيفة فإنه يقول: يعتق قبل موته بشهر، كما قال إذا مضى شهر ثم مات، فإن كان المولى صحيحا يوم القول: كان العبد حرا من جميع المال، وإن كان مريضا مرضا مات منه: كان حرا من الثلث). قال أحمد: وذلك لأن وجود الموت بعد الشهر الذي هو شرط يمينه، يوجب عتقه أبي حنيفة قبل ذلك بشهر، كأنه أعتقه في وقت القول. مسألة: [تعليق العتق قبل قدوم فلان بزمن] قال أبو جعفر: (ومن قال لعبده: أنت حر قبل قدوم فلان بشهر، فقدم فلان قبل شهر: كان عبدا، وبطل هذا القول، وإن مضى شهر، ثم قدم: فإنه يكون حرا بعد القدوم في قولهم جميعا). قال أحمد: وجود شهر بعد اليمين، يليه القدوم: شرط في يمينه، فإذا وجد: وقع حينئذ، ولا يقع قبله؛ لأن القدوم مما يجوز أن يكون، ويجوز أن لا يكون، فلا يجب الحكم بعتقه قبل الوجود. مسألة: [حكم قول العبد لغيره: اشتر لي نفسي] قال أبو جعفر: (ومن قال له عبد رجل: اشتر لي نفسي من مولاي

بألف درهم، فاشتراه منه بذلك، فإن كان قال له: إني أشتريه لنفسه، فباعه إياه مولاه على ذلك: فالعبد حر، وولاؤه للمولى). وذلك لأنه لما باعه على هذا الوجه، فقد أجاز توكيل العبد إياه بالشراء لنفسه، فصار ذلك كخطاب العبد له ببيع نفسه منه، فيعتق، لأن بيع المولى عبده من نفسه: عتق على مال، وذلك لأن البيع يتضمن إزالة ملك البائع بالبدل المشروط، وإزالة ملكه إلى العبد يوجب عتقه، لأنه لا يصح أن يملك نفسه، إذ لا يجوز أن ينتقل إليه الرق الذي يملكه المولى، لأنه لو انتقل إليه، لقام فيه مقامه، فثبت أن تمليكه نفسه، إنما هو عتق موقع من جهة المولى. *قال: (وإن لم يتبين لمولاه أنه يشتريه لنفسه: كان عبدا للمشتري، ولم يعتق). وذلك لأنه لا يصح توكيل العبد؛ لأن توكيله بذلك لا يجوز إلا بإذن مولاه. وأيضا: فظاهر بيعه منه، يقتضي نقل ملكه إليه دون عتقه، فلا يجوز أن نجعله عتقا على مال، وهو إنما قصد إلى عقد البيع، دون العتق. مسألة: [إبهام المولى العتق بين عبده وعبد غيره] قال أبو جعفر: (ومن قال لعبده وعبد غيره: أحدكما حر، ولم يعن بذلك عبده: لم يعتق عبده، وكذلك لو قال لعبد وحر: أحدكما حر). وذلك لأن قوله: أحدكما حر: يوجب حرية أحدهما بغير عينه.

ويقتضي تخييرا للمولى في مصرفه إلى أيهما شاء، فلا يخلو إذا كان هذا هكذا، من أن يوقع العتق على عبده، فيكون ذلك خلاف موجب القول؛ لأن قوله لم يقتض عتق واحد بعينه، فلا يجوز إيقاع ما لم يوقعه، فقد بطل هذا لقسم. أو يوقع عتقا، ويكون له الخيار في صرفه إلى عبده أو عبد غيره، فإن أوجبنا ذلك له، كان له إلى عبد غيره، وإلى الحر، فلا يلزمه به عتق عبده، فإذا لم يقتض هذا القول منه إيقاع عتق عبده: لم يلزمه به شيء. مسألة: [إضافة عتق أحد عبديه إلى مال، وإبهام المعتق منهما] قال أبو جعفر: (ومن قال لعبديه: أحدكما حر على ألف درهم، فقبلا: فله أن يوقع العتق على أحدهما، ويلزمه المال). وذلك لأن المال تبع للحرية في هذا الموضع، وله الخيار في صرف الحرية إلى أيهما شاء، فمن صرف إليه الحرية: لزمه المال. وإنما كان المال تابعا للحرية؛ لأن الحرية لم تقع إلا بقبولها على المال المشروط. مسألة: [إضافة العتق إلى قدر من المال، قم إضافته إلى قدر آخر] قال: (ولو قال: أحدكما حر على ألف درهم، فقبلا، ثم قال: أحدكما حر بمائة دينار، فقبلا: كان قوله الثاني باطلا). وذلك لأن أحدكما قد عتق بقوله الأول، فلم يعمل القول الثاني؛ لأنه صادف حرا وعبدا، كمن قال لعبد وحر: أحدكما حر: فهو لغو.

مسألة: قال: (ولو قال لهما القولين جميعا قبل القبول، ثم قبلا: كان للمولى أن يلزم المالين جميعا أحدهما، فيجعله حرا بذلك، وكان له أن يجعل أحدهما حرا على أحد المالين، والآخر حرا على المال الآخر). وذلك لأن قوله: أحدكما: يتناول واحدا بغير عينه، وكذلك قوله ثانيا: يتناول واحدا بغير عينه، يجوز أن يكون الأول؛ لأنه لم يعتق بعد، ويجوز أن يكون غيره، فلما قبلا ذلك بالمالين، فقد رضي كل واحد منهما بلزوم أحد المالين، وبلزوم المالين جميعا، إذ كان مقتضى قول المولى يوجب له الخيار في صرف الحريتين إلى أحدهما، أو إليهما جميعا. فكان للمولى أن يجعل الحريتين بالمالين لأحدهما، وله أن يجعل إحداهما بأحد المالين لأحدهما، والأخرى بالمال الآخر للآخر، لأن المال تابع للحرية، والخيار للمولى في الحرية. ألا ترى أنه لو قال لأحدهما: أنت حر بألف درهم، فلم يقبله، حتى قال: أنت حر بمائة دينار، ثم قبل: عتق، ولزمه المالان، كذلك ما وصفنا. *قال أبو جعفر: (وإن مات المولى، ولم يوقع من ذلك شيئا: فإنه يعتق من العبدين رقبة ونصف على المالين جميعا، ويسعيان جميعا في نصف رقبة، يسعى كل واحد في ربع قيمته لورثة مولاه). وذلك لأن أحدهما حر لا محالة، والآخر يعتق في حال، ولا يعتق في أخرى، فيعتق منهما رقبة ونصف بالمالين جميعا؛ لأن المال لازم في جميع الأحوال، إما لهما، أو لأحدهما، فهو عليهما جميعا لتساويهما في لزومه.

ويسعى كل واحد في ربع قيمته، لأنه قد عتق منه ثلاثة أرباعه بنصف المالين. مسألة: [إضافة عتق العبدين إلى مال يختلف قدره بينهما] قال: (ولو قال: أحدكما حر بألف درهم، والآخر بخمسمائة درهم، فقبلا، عتقا، وكان على كل واحد منهما خمسمائة درهم، لا شيء عليه غيرهما). وذلك لأن قوله: أحدكما: يتناول واحدا منهما بغير عينه، وقوله والآخر حر: يتناول واحدا غير الأول، فلما قبلا: عتقا جميعا، وقد لزم أحدهما خمسمائة، والآخر ألف، ولا يجوز أن يلزمهما جميعا ألف؛ لأن المعتق بالألف، غير المعتق بالخمسمائة، فلزوم الخمسمائة لكل واحد منهما متيقن، والخمسمائة الفاضلة مشكوك فيها لمن لزمت، فلم يجز أن نلزمها أحدهما بالشك. كرجلين علمنا أن لرجل على أحدهما خمسمائة، وعلى الآخر ألف، ولا يعرف صاحب الخمسمئة من صاحب الألف: فلم يلزم كل واحد منهما إلا خمسمائة. ألا ترى أن رجلين لو قالا لرجل: لك على أحدنا ألف درهم: لم يلزم واحدا منهما بذلك شيء، كما لو قال ذلك لعشرة رجال، أو مائة رجل. وكما لو علمنا أن لرجل على رجل ببغداد ألف درهم: لم نلزمه أحدا إلا بعد أن يعرفه بعينه. وليس هذه كالمسألة الأولى، لأن في تلك المسألة يجوز للمولى أن يصرف الحرية إلى أحدهما بالمالين جميعا، وإلى كل واحد منهما بأحد المالين، فلما كان له الخيار في الحرية، وكان المال تابعا لها، فمن

حصلت له الحرية استحق عليه المال، وفي مسألتنا لا خيار للمولى؛ لأنهما قد عتقا جميعا، وبقى حكم المال فيمن يلزمه. مسألة: [إضافة المولى العتق إلى مال لأكثر من عبد وقبولهم قبل التعيين] قال: (ولو قال: أحدكما حر بألف درهم، والآخر حر بمائة دينار، فقبلا: عتقا، ولم يكن له على واحد منهما شيء). وذلك لأن الحرية قد حصلت لهما بالقبول، بحيث لا خيار للمولى فيهما، وبقى أحد المالين على أحدهما، والآخر على الآخر، ولا يعرفه بعينه، فلا يلزمه شيء، ألا ترى أنا لو علمنا أن لرجل على أحد رجلين ألف درهم، وعلى الآخر مائة دينار، ولا نعرف صاحب المالين بعينه: لم نلزمهما شيئا حتى نتيقن. مسألة: [اختلط عبده حر فلم يعرفا] قال: (ومن اختلط عبده بحر، فلم يعرفا: قضى القاضي بالاحتياط في ذلك، وجعل على كل منهما أن يسعى في نصف قيمته لمولى العبد، وأعتق أنصافهما). وذلك لأن المولى ممنوع من التصرف فيهما، ما لم يتبين الحر من العبد، وهما أيضا ممنوعان من التصرف لأنفسهما، ما لم يعرف الحر بعينه، ولا خيار للمولى في ذلك؛ لأن الحرية ليست موقعة من جهته، فيكون تعيينها موقوفا على بيانه.

فالاحتياط للفريقين أن يسعى كل واحد في نصف قيمته، ويحكم بحرية نصفه، كما أن المولى لو قال لعبديه: أحدكما حر، ثم مات قبل البيان: عتق من كل واحد منهما نصفه عند بطلان الخيار؛ لأن كل واحد منهما حر في حال، وعبد في أخرى. مسألة: [العتق في حال مرض الموت] قال أبو جعفر: (ومن أعتق عبديه وهو مريض مرض موت، ولا مال له غيرهما: عتق من كل واحد منهما ثلثه، وسعى لورثة مولاه في ثلثي قيمته). قال أحمد: الدليل على نفاذ عتقه في ثلث كل واحد منهما: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا عتق إلا فيما يملك ابن آدم"، وهو مالك لا محالة لثلث كل واحد منهما، بحيث لا حق لغيره فيه. والدليل عليه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل لكم ثلث أموالكم في آخر أعماكم، زيادة في أعمالكم". وفي حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول تعالى: ابن آدم! اثنتان ليست لك واحدة منهما، جعلت لك نصيبا في

مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك، وأزكيك، وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك". فأخبر عليه الصلاة والسلام أن له نصيبا في ماله، فثبت أنه مالك لعتق الثلث من جميع العبيد، فوجب أن ينفذ في ثلث الجميع، إذ كان مالكا، لعموم لفظ النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضا: لا خلاف بين المسلمين أنه لو وهبهم، أو أوصى بهم: أن ذلك جائز في ثلث جميعهم، لا يختص به بعضهم دون بعض، إذ كان مالكا لذلك منهم، من حيث لا حق للغير فيه، فكذلك العتق. وأيضا: لما تساويا في السبب الموجب لاستحقاقه، وجب أن يتساويا في استحقاقه، اعتبارا بما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام "في رجلين أقاما بينة عل بعير، فقضى به بينهما نصفين". فلما تساويا في السبب الموجب للاستحقاق، ساوى لنبي عليه الصلاة والسلام بينهما فيه. وكما أن أصحاب الديون إذا تساووا في دينهم: تساووا فيما يستحقونه من مال الميت، كذلك العبيد، لما تساووا في استحقاق العتق؛

لتساويهم في اللفظ الموجب ذلك لهم من المولى، وجب أن يتساووا في استحقاقه. ومما يدل على نفاذ العتق في جميعهم: اتفاق الجميع على أنه لو برئ من مرضه: عتق جميعهم، كما لو وهب، ثم برئ: صحت هبته في جميعهم، فمعلوم أن البرء لا يوجب عتقا لم يقع، فصح أن ذلك العتق قد كان واقعا في حال المرض في جميعهم، فانتفى رفع شيء منه بالقرعة، لاتفاق المسلمين على أن عتقا واقعا لا يجوز ارتفاعه بالقرعة. فإن احتج مخالفنا في ذلك بخبر عمران بن حصين: "أن رجلا أعتق ستة أعبد له عند موته، لا مال له غيرهم، فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة". قيل له: ليس في هذا الخبر بيان موضع الخلاف بيننا، وذلك لأن تلك كانت قضية من النبي عليه الصلاة والسلام في شيء بعينه، وليس بعموم اسم يتناول ما تحته. وقول الراوي: "فأعتق اثنين": يحتمل أن يريد به شائعين في الجميع، لا بأعيانهما، كما قال: "في أربعين شاة: شاة"، وهي شاة شائعة في الجميع. ويدل عليه ما حدثنا محمد بن يعقوب الأصم في كتاب محمد بن

عبد الله بن عبد الحكم قال: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني جرير بن حازم والحارث بن نبهان عن أيوب بن أبي تميمة عن محمد بن سيرين وأبي قلابة عن عمران بن حصين "أن رجلا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق أعبدا له ستة عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فأثبتهم النبي عليه الصلاة والسلام، فأعتق ثلث ذلك الرقيق". وقوله: "ثلث ذلك الرقيق"، يقتضي حقيقته ثلثا شائعا في الجميع، كما لو أقر فقال: له ثلث هذا الرقيق: كان شائعا في الكل، ولم يصدق على أنه أراد واحدا بعينه. وحدثنا ابن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا محمد بن منهال عن يزيد بن زريع عن يونس عن الحسن عن عمران بن حصين: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في رجل أعتق عند موته ستة أعبد، جزأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعتق الثلث". وهو مثل الخبر الأول في دلالته على ما دل عليه. وقد روى الحسن عن عمران بن حصين: "أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: لو أدركته، ما صليت عليه". وكذلك روى أبو زيد الأنصاري عن النبي عليه الصلاة والسلام. فدل على أنه إنما تغيظ عليه؛ لأنه أضر بالورثة في عتقه لجميعهم، لأنه جعل حقهم في السعي، وتعجل لنفسه عتق الثلث.

ويدل على أن الثلث الذي اعتقه النبي عليه الصلاة والسلام منهم كان شائعا في الجميع: أنه لو أراد اثنين بأعيانهما، لما كاد أن يتفق أن يكونا ثلث مال الميت، سواء لا يزيد ولا ينقص؛ لأن ذلك غير موجود في العادة، فعلمنا أن المراد ثلث شائع في الجميع، وهو الذي تجوز وصيته فيه. وأيضا: فلو ورد لفظ الخبر غير محتمل لما قلنا، لما جاز الاعتراض به على الأصول التي قدمنا؛ لأن أخبار الآحاد لا يعترض بها على الأصول. وجهه اعتراضه على الأصول: أنه لا خلاف بين الأمة أن نقل الحرية عمن وقعت عليه غير جائز بالقرعة، وإذا حمل الخبر على ما ادعوه، كان فيه نقل الحرية ممن وقعت عليه، لأنه لا خلاف أيضا أنه مالك لثلث كل واحد منهم، جائز التصرف فيه، فأوجب ذلك نفاذ عتقه في ثلث كل واحد منهم، والقرعة تنقله عمن استحقه، وتجعله لمن لا يستحقه. ومن جهة أخرى: أن هذا من جنس القمار والميسر اللذين حرمهما الله تعالى، وحقيقته: أن يستحق بالقرعة ما لم يستحقه لولاها من الحرية، التي استحقها غيره. ومن جهة أخرى: اعتراضه على إيجاب النبي عليه الصلاة والسلام العتق فيما يملكه المعتق، وما روي من قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله جعل لكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم"، وما كان هذا وصفه من أخبار الآحاد، فهو محمول عندنا على ما لا يخالف الأصول.

فإن قيل: فما وجه القرعة إن كان عتق ثلث الرقيق شائعا في الجميع؟ قيل له: القرعة إنما هي الضرب، ومعناه أنه ضرب لكل واحد منهم بقيمته في الثلث، وقسم الثلث بينهم على ذلك. وأيضا: يحتمل أن يكون خبر القرعة إن صح على الوجه الذي ادعوه، في حال ما كان يجوز استرقاق الحر، كما روي عن سرق "أن النبي عليه الصلاة والسلام باعه في الدين وكان حرا". ويجوز أن يكون قبل تحريم القمار والميسر، فصار منسوخا بالتحريم. فإن قيل: فقد جازت القرعة في قسمة الغنائم وغيرها، وقال النبي عليه الصلاة والسلام لرجلين: "استهما، وتوخيا العتق". "وكان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه". قيل له: ليست هذه القرعة مما اختلفنا فيه في شيء، من قبل أن القرعة في هذه المواضع على جهة تطييب النفوس، ولو اقتسموا بغير قرعة: جاز، وكذلك إخراج النساء في السفر؛ لأنه لم يكن لهم حق في السفر، إذ كان له أن لا يخرج واحدة منهن، وإنما كان يقرع عليه الصلاة والسلام بينهن، لئلا يسبق إلى ظن بعضهن أنه قصد إيثارها على غيرها، فيورثها ذلك وحشة. وليس في إيجاب القرعة في شيء من ذلك إسقاط حق واحد، ونقله إلى غيره، وفي إيجاب القرعة بين العبيد إسقاط حق واحد، وإخراجه منه

رأسا، ونقله إلى من لا يستحق. ونظيرها في القسمة، أن يقترعا على أن من خرجت قرعته، فله جميع المال، لا حق للآخر فيه، وهذا لا يجوز بالاتفاق، وهو ضرب من الميسر والقمار، فكذلك القرعة في العبيد، هي بهذه المنزلة سواء، لا فرق بينهما. وقد تكلمنا في هذه المسألة بأكثر من هذا في "شرح الجامع"، واكتفينا به عن الإعادة في هذا الموضع. مسألة: [موت أحد العبدين الموصى بعتقهما قبل سعايتهما] قال أبو جعفر: (فإن مات أحدهما بعد ذلك، قبل أن يسعى في شيء، ولم يترك شيئا: سعى الباقي للورثة في أربعة أخماس قيمته). وذلك لأن الورثة أربعة أسهم، وللعبيد سهمان ثلث مال الميت، فكان المال مقسوما بينهم على ستة، فلما مات أحدهما من غير سعي، مات مستوفيا لوصيته، ولم يخرج من سعايته بشيء، فصار ذلك شيئا تالفا من جملة مال الميت، فيدخل ضرورة على الورثة، وعلى الموصى له الباقي، فيكون باقي المال بينهما على ما كان استحقاه في الأصل: للورثة أربعة، وله سهم، فلذلك سعى في أربعة أخماس قيمته. مسألة: [تعليق العتق بأحد الوقتين أو الفعلين] قال أبو جعفر: (ومن قال لعبده: أنت حر اليوم، أو غدا: لم يعتق

حتى يجيء غد). قال أحمد: إذا علق العتق بأحد وقتين: وقع بآخرهما، وإذا علقه بأحد فعلين: وقع بأولهما، وإذا علقه بفعل، أو وقت: وقع بالفعل. وحكى أبو جعفر عن أبي يوسف في هذا: أنه يقع بالوقت قبل وجود الفعل. أما إذا أدخل حرف التخيير بين الوقتين، فإنما يقع بآخرهما، من قبل أنا لو أوقعناه بالوقت الأول، كنا قد جعلنا حرا في الوقتين جميعا، وهو فإنما جعله حرا بأحدهما، لأنا إذا أعتقناه اليوم، فهو عتيق غدا أيضا، وذلك خلاف موجب اللفظ. وأيضا: فإن تعليقه العتق بالوقت، يوجب أن يكون عتقا موقعا بصفة، فلا يوقعه أو يتيقن وجود الصفة، ألا ترى أنه لو قال: أنت طالق بائنا، أو رجعيا: أنا نوقعه رجعيا؛ لعدم اليقين بحصول البينونة. وأما إذا أدخل حرف التخيير بين الفعلين، فإن إيقاعه بأحد فعلين: لا يقتضي كونه حرا مع الفعل الآخر؛ لأنه إذا قال: إن دخلت الدار، أو كلمت فلانا، فأنت حر، فأوقعناه بالدخول، لا نكون موقعين له بالكلام، إذ جائز أن لا يوجد الكلام أبدا، ووقوعه اليوم يقتضي كونه حرا غدا؛ لأن غدا لا محالة موجود بعد اليوم. وأما إذا دخلت الدار، فإنه يقع بالفعل، إن تقدم أو تأخر؛ لأنه إن تقدم صار كالفعلين إذا دخل عليها حرف التخيير، فيقع بأولهما، وإن

تأخر صار الوقت معه كهو مع وقت غيره، فلا يقع إلا بآخرهما. مسألة: [موت المولى دون بيان مراده في عبده من العتق أو التدبير] قال أبو جعفر: (ومن قال لعبده: أنت حر، أو مدبر، ثم مات المولى، وقد قال ذلك في صحته: عتق نصفه من جميع المال، ونصفه من الثلثّ). وذلك لأنه حر في حال، ومدبر في حال، فله نصف كل واحد منهما، فيعتق نصفه بالحرية البتات، والنصف الباقي بالتدبير. مسألة: [إبهام الحرية ممن له ثلاثة أعبد والتعليق بأو] قال: (ومن كان له ثلاثة أعبد، فقال لأحدهم بعينه: أنت حر، أو هذا لأحد الآخرين منهما، وهذا للباقي منهما: عتق الأخير، وقيل له: أوقع العتق على أي الباقين شئت). قال أحمد: وذلك لأن حرف التخيير، وهو: "أو": دخل بين الأوليين، والثالث معطوف على الحر منهما. وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يحكي عن الفراء: أنه يجب أن يكون له الخيار بين الأول، وبين الآخرين جميعا، فيقال له: إن اخترت

اللفظ الأول: عتق الأول، وإن اخترت اللفظ الآخر: عتق الآخران جميعا. قال: وذلك لأن الواو للجمع، فكأنه قال: هذا حر أو هذان، كما أنه لو قال: والله لا أكلم هذا، أو هذا وهذا، أنه إن كلم الأول: حنث، وإن لم يكلم الأول، وكلم أحد الآخرين: لم يحنث حتى يكلمهما جميعا، كأنه قال: والله لا أكلم هذا أو هذين. وكان أبو الحسن رحمه الله يجيب عن ذلك بأن قوله في مسألة الإيقاع: "أو هذا"، وهذا لا يجوز أن يكون للجمع؛ لأن الخبر الأول لا يصح أن يكون لهما جميعا مجموعين، إذ لا يجوز أن يقال: "أو هذان حر"، ويحتاج إلى استئناف حرية أخرى في حال الجمع؛ لأنه يحتاج أن يقول: أو هذان حران، فلما لم يصح أن يكون الخبر الأول خبرا عنهما مجموعين: لم يجز لنا حمله على ذلك، وجعلنا قوله: "وهذا": عطفا على الحر منهما، كأنه قال: وهذا حر. وأما قوله: والله لا أكلم فلانا، أو: فلانا وفلانا: فإنه ليس يمتنع أن يكون الخبر الأول خبرا عنهما جميعا، فينفي به كلامهما مجموعين في اللفظ، ألا ترى أنه يصح أن يقول: والله لا أكلم هذين: فلذلك حملنا الواو على الجمع في هذا الموضع.

كتاب المكاتبة

كتاب المكاتبة مسألة: [استحباب مكاتبة العبد] قال أبو جعفر: (وإذا أراد الرجل أن يكاتب عبده، وقد علم منه الخير الذي أمر الله بمكاتبة أهله من العبيد: فإنه جائز له أن يكاتب على ما يتراضيان عليه من قليل الأموال وكثيرها، وعاجلها وآجلها). قال أحمد: قوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا}، وهو على الندب عند عامة الفقهاء. وقد روي فيه عن عمر رضي الله عنه: "أنه رفع الدرة على أنس بن مالك، وقد طلب منه سيرين عبده الكتابة، وقال له: كاتبه". وليس في هذا دلالة على أنه كان يراها واجبة على المولى؛ لأنه قد

يأمر على جهة الإرشاد والحض، دون الإيجاب والحتم. والدليل على أنه على الندب دون الإيجاب: اتفاق الجميع على جواز بيعه وعتقه. وقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}، يقتضي جواز بيعه، وصحة البيع تنفي الكتابة. ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: "من باع عبدا وله مال": وظاهره يقتضي جواز بيعه مع طلبه الكتابة. ومن الدليل على ذلك أيضا: أنا لم نر في الأصول من استحق عليه العقد على ملكه، كالبيع والهبة وسائر العقود، فلما كان في سائر الأصول أن الإنسان غير مستحق عليه العقد على ملكه، وأنه مخير بين فعله وتركه، رددنا حكم الكتابة إلى ما اتفقنا عليه، واستدللنا به على أن عقد الكتابة على الندب. فإن قيل: قد يجبر الإنسان على بيع ملكه، لأجل دين يلحقه. قيل له: ليس الإجبار واقعا على البيع، وإنما يقع على قضاء الدين، إذ كان يمكنه، ثم إن شاء باع، وإن شاء لم يبع. [أدلة جواز المكاتبة الحالة]: وإنما جازت الكتابة الحالة، لقوله تعالى: {فكاتبوهم}، واسم

الكتابة يتناول الحال والمؤجل، كالبيع والنكاح وسائر العقود، إذ ليس في اللفظ ما يقتضي التأجيل، إلا أن يقول قائل: إن لفظ الكتابة يختص بالأجل، وأن هذا العقد لا يسمى كتابة إلا أن يكون مؤجلا، فيكون متحكما قائلا بما لا يمكنه إقامة الدليل عليه من جهة لغة، ولا شرع، ولا يقدر خصمه أن يقابله بمثله، فيقول: والبيع يختص بالأجل، وكذلك النكاح، وسائر عقود المداينات، أو يقول له: بل لفظ الكتابة يختص بالحال، دون المؤجل، وأنه متى كان مؤجلا لم يسم كتابة، فيقوم مقامه في الدعوى، ولا يمكنه الانفصال منه بمعنى يوجب أن يكون أولى به منه. ويدل عليه أيضا: ما حدثنا ابن قانع قال: حدثنا علي بن محمد بن أبي الشوارب قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا همام عن العبد الحوري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإيما عبد كوتب على مائة دينار، فأداها إلا عشرة دنانير: فهو عبد، وأيما عبد كوتب على مائة أوقية، فأداها إلا عشرة أوراق: فهو عبد". فهذا الحديث يدل على معنيين: على الكتابة الحالة، وعلى أن الإيتاء غير واجب على المولى. وأيضا: فلما كان عقد الكتابة يتناول رقبة العبد بمال يثبت في ذمته

على وجه الثمن عن رقبته، وجب أن يجوز عاجلا ومؤجلا، فالبيع نفسه لما كان هذا معناه: جاز عاجلا وآجلا. فإن قيل: يلزمك في السلم أن تجيزه حالا، كما أجزته مؤجلا. قيل له: بأية علة يلزمنا عليه السلم ونحن فإنما عللنا في الكتابة بأن العقد تناول بدلين: أحدهما رقبة العبد، والآخر ثمن يثبت في ذمته بدلا له من رقبته. وبهذا المعنى جازت عقود البياعات عاجلة وآجلة، وهذه العلة غير موجودة في السلم، لأن السلم مبيع في الذمة، فلا يجوز إلا مؤجلا؛ لأن لفظ السلم يقتضي التأجيل، وهو مخصوص من جملة بيع ما ليس عند الإنسان، فمتى أسقطنا منه الأجل، حصل بيع ما ليس عنده في غير السلم، فلا يجوز لعموم نهي النبي عليه الصلاة والسلام. وليست الدراهم التي في ذمة العبد مبيعة، بل هي ثمن كأثمان البياعات، فوجب أن تكون حالة كسائر أثمان البياعات. فإن قيل: لما قال تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وءاتوهم}: اقتضى اللفظ حالين: إحداهما: حال العقد، والثانية: حال الإيتاء، فوجب أن يكون مؤجلا. قيل له: ومن أين وجب التأجيل إذا كان هناك حالان؟ هذا على تسليم أن على المولى إيتاءه، وما أنكرت أن يكون الإيتاء

سقوط بعضها عقيب العقد بلا فضل، فلا مدخل للتأجيل فيه. وعلى أنه لو كان الإيتاء على معنى: أن يعطيه المولى شيئا يستعين به على أداء الكتابة، مع أنه لا يقول به أحد: لم يقتض التأجيل؛ لأنه يؤتيه ذلك عقيب العقد في المجلس، فالتأجيل ساقط، كما قال تعالى: {فانكحوهن بإذن أهلهن وءاتوهن أجورهن}، ولم يقتض تأجيلا لأجل ذكره العقد والإيتاء، كذلك الكتابة. فإن قيل: لما كان العبد ممن لا يملك، وجب أن يكون هناك حال يتوصل بها إلى الكسب، حتى يصح له الأداء، وإلا رده في الرق في الحال للعجز، فلا يكون للكتابة معنى. قيل له: مال الكتابة يثبت في ذمته بالعقد، ويصير به المكاتب في يد نفسه بعقد الكتابة، وتصير له ذمة كالحر، فيصل إلى الكسب، ويؤديه، ويوهب له، ويستقرض، ويكون بمنزلة رجل معسر اشترى عبدا، فيثبت المال في ذمته بالعقد من غير تأجيل، فكونه فقيرا لا يقتضي التأجيل في ثمن ما يشتريه. وعلى أن من قول المخالف: أنه إذا كان مفلسا، كان البائع أحق بمتاعه، فينبغي أن لا يصح البيع من المعسر إلا مؤجلا، للعلة التي ذكرناها في الكتابة. فإن قيل: لأنه يبيع ما يحصل لهم من المتاع، ويقضي به دينه،

والمكاتب لا يمكنه بيع رقبته. قيل له: والمكاتب يستقرض، ويوهب له، ويتصدق عليه، وهذه كلها وجوه قد يصل بها إلى أداء الكتابة، كما يصل المشتري إلى أداء الثمن من وجوه. وعلى أنه على قولك: ينبغي أن لا تجوز كفالة المعسر بالمال، إلا مؤجلة؛ لأنه لا يحصل له بها بدل يستعين به في أداء ضمان الكفالة، كما قلت في الكتابة، ويجب أيضا أن لا يجوز نكاح المعسر، إلا بمهر مؤجل لهذه العلة. مسألة: بحط بعض بدل الكتابة ليس على الوجوب] قال: (وليس عليه أن يضع من مكاتبته شيئا). وذلك لأن الله تعالى لما أمر بعقد الكتابة، وهي تقتضي بدلا يثبت على العبد، فقد اقتضت الآية لزوم البدل؛ لأن عقد الكتابة يتضمنه، كما يتضمن عقد البيع ثمنا يثبت على المشتري، وما أوجبت الآية ثبوته على المكاتب بالعقد، فلا جائز لأحد إسقاطه، إلا بدلالة تدل عليه. فإن قيل: قوله تعالى: {وءاتوهم من مال الله الذي ءاتاكم}: يتضمن وجوب الإيتاء. قيل له: وما في هذا من الدلالة على أن المخاطب به المولى في إيتاء بعض مال الكتابة، وحطه عن العبد؟ فإن قيل: لأن الخطاب به توجه إلى المولى المخاطبين بالكتابة.

قيل له: وما الدليل على ذلك؟ وما أنكرت أن يكون ذلك خطابا لجميع الناس، بأن يتصدقوا على المكاتب، ويعينوه على أداء كتابته، كما قال تعالى في شأن الصدقات: {وفي الرقاب}، وقال: {وما أدراك ما العقبة*فك رقبة}. ولم اقتصرت بالخطاب على المولى، دون سائر الناس بغير دلالة؟ وأيضا: ما أنكرت أن يكون في مضمون الآية ما ينفي ما قلت من خطاب المولى دون غيره من الناس؛ لأنه قال: {وءاتوهم من مال الله الذي ءاتاكم}، وما أطلق عليه اسم: مال الله: فهو الذي سبيله أن يكون صدقة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في شأن اللقطة: "فإن جاء صاحبها، وإلا فهو مال يؤتيه من يشاء": يعني أن سبيله الصدقة. وكما روي في الخبر: "إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين رجلا، اتخذوا مال الله دولا": يعني ما سبيله الصدقة، وصرفه في جهات القربة إلى الله تعالى.

فلما أمر بالإيتاء من مال الله، والأشياء كلها –وإن كانت لله وملكا له- فإن إطلاق لفظ مال الله، إنما هو فيما سبيله أن يصرف في جهة القربة: علمنا أنه أراد إعلامنا جواز دفع صدقاتنا إليه وإن كان عبدا لغني، وماله موقوف على مولاه، ومعلوم أن المولى لا يجوز له أن يعطي مكاتبه من صدقاته الواجبة عليه، فاقتضى مضمون اللفظ: نفي تأويل المخالف لنا في معنى الإيتاء. ويدل لفظ الآية على نفي قول المخالف من وجوه أخر: أحدهما: قوله تعالى: {وءاتوهم من مال الله الذي ءاتاكم}: فأمرنا بإيتائهم مما آتانا، وحط الكتابة لا يسمى إيتاء؛ لأن الإيتاء في الحقيقة هو الإعطاء، ومن أبرأ إنسانا من مال عليه: لا يقال إنه أعطاه شيئا. والثاني: أن أمرنا بأن نؤتيهم مما آتانا الله، وما في ذمة المكاتب من مال الكتابة: لم يؤته بعد؛ لأن الإيتاء هو الإعطاء، وهو ويقتضي القبض، وذلك غير مقبوض، فلا يقع عليه الاسم. ومن جهة أخرى: أنه ليس بدين صحيح؛ لأنه على عبده، ويمكن العبد إسقاطه عن نفسه بالعجز، فلم يملكه بعد ملكا صحيحا، فلا يصح إطلاق اللفظ فيه بأنه مما آتانا الله. وّأيضا: فلو كان الإيتاء واجبا، لوجب أن يستحق المكاتب إسقاطه عن ذمته بالعقد الموجب له، ومحال أن يكون العقد هو الموجب له، وهو المسقط له بعينه؛ لأن شيئا واحدا لا يصح أن يكون سببا لإيجاب شيء،

وإسقاطه في حال واحد. وعلى أنه لو سقط عقيب العقد، لما كان ذلك القدر مما آتانا الله؛ لأنا لم نستحقه قط على المكاتب. فكيف ما تصرفت الحال فتأويل المخالف لنا ساقط لا يحتمله لفظ الآية. وقد يصح هذا التأويل لمن قال: هو على الندب؛ لأنه لا يسقط بنفس العقد، ولأنا نقبضه، ثم نعطيه بعضه، فيكون هذا التأويل مطابقا للفظ الآية. *ويدل عليه من جهة السنة: حديث عمرو بن شعيب الذي قدمنا عن النبي عليه الصلاة والسلام، أنه قال: " أيما رجل كاتب غلاما له على مائة أوقية، فأداها إلا عشر أوراق: فهو عبد". فجعله عبدا مع أداء تسعة أعشار الكتابة، وليس أحد من القائلين بوجوب حط بعض الكتابة، إلا وهو يوجب حط العشر وأكثر، وهذا الحديث يوجب بطلان قولهم. ويدل عليه حديث الزهري وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: "جاءت بريرة، فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقالت: إن أحب أهلك أن أعدها عدة واحدة، ويكون ولاؤك لي، فعلت، فذهبت إلى أهلها، فأبوا، وقالوا: على أن يكون ولاؤك لنا، فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام".

فأخبرته أنهم كاتبوها على تسع أواق، وذكرت عائشة ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فلم يقل: إن الذي عليها أقل من ذلك؛ لأن عليهم أن يحطوا عنها بعضها، فدل ذلك على أن حط بعض الكتابة ليس على الوجوب. ويدل عليه أيضا حديث عائشة: "أن جويرية جاءت النبي عليه الصلاة والسلام تستعين به في كتابتها، فقال لها عليه الصلاة والسلام: فهل لك في خير من ذلك؟ أقضي عنك كتابتك، وأتزوجك، قالت: نعم. قال: قد فعلت". فبذل النبي عليه الصلاة والسلام لجويرية أداء جميع كتابتها عنها إلى مولاها، ولو كان الحط واجبا، لكان الذي يقصد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأداء عنها باقي كتابتها. وأيضا: قد روي عن عمر وعثمان والزبير أنهم لم يكونوا يرون الحط واجبا، ولا يروي عن أحد من نظرائهم خلافه، فصار إجماعا. فإن قيل: قد روي عن علي رضي الله عنه في قوله: {وءاتوهم من مال الله}: أنه الربع.

قيل له: ليس فيه دلالة على أنه كان يراه واجبا، ويجوز أن يكون قدر المندوب إليه. وعن بريدة: {وءاتوهم من مال الله}: حث الناس على ذلك. وعن إبراهيم مثله. والمولى وغيره سواء، وهذا موافق للتأويل الذي قدمناه في صدر المسألة. *ومن طريق النظر: أن سائر عقود المعارضات لا تقتضي وجوب حط بعض البدل، كذلك الكتابة قياسا عليها. مسألة: [مكاتبة المميز غير البالغ] قال أبو جعفر: (وجائز للرجل أن يكاتب عبده وإن كان لم يبلغ، إذا كان يعقل الشراء والبيع). وذلك لقول الله تعالى: {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا}. وهذا يدل من وجهين على ما ذكرنا:

أحدهما: قوله: {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم}: يتضمن الكبير والصغير ممن يصح منه ابتغاء الكتابة إذا كان يعقلها، فانتظمه لفظ العموم. والثاني: قوله: {إن علمتم فيهم خيرا}، ويروى عن إبراهيم والحسن في قوله: {وإن علمتم فيهم خيرا}: صدقا ووفاء. وعن مجاهد وعطاء: مالا. وقد توجد هذه الأوصاف في بعض الصغار، فصح دخولهم في حكم اللفظ. وأيضا: فكلما جاز أن يأذن له في الشراء والبيع، ويستحق المولى كسبه، جاز أن يملكه كسبه، ويشرط له العتاق بأدائه؛ لأن فيه نفعا له، ولا ضرر عليه فيه، كما أن الصبي إذا وهب له هبة: جاز له قبولها، وقبضها، لما له فيه من النفع، من غير ضرر يلحقه. مسألة: [لا يشترط في عقد الكتابة النص على أنه يكون حرا] قال أبو جعفر: (ولا يضر المكاتب بأن لا يقول له مولاه في مكاتبته: إذا أديت إلي جميع ما كاتبتك عليه، فأنت حر، ويعتق إذا أدى ذلك إليه).

وذلك لأن لفظ الكتابة يتضمن ذلك ويقتضيه، كما يتضمن لفظ البيع تمليك البدلين من كل واحد من المتبايعين، وكما يقتضي لفظ النكاح تمليك البضع ببدل يستحقه، ويكتفي في جميع ذلك بإطلاق لفظ العقد، دون تفسير ما يتضمنه. مسألة: [حكم المكاتب إذا عجز عن الأداء] قال أبو جعفر: (ولا يعتق المكاتب حتى يبرأ من جميع الكتابة، من غير عجز يلحقه قبل ذلك). قال أحمد: روي نحو ذلك عن زيد بن ثابت، وابن عمر، وعائشة وأم سلمة، وهو إحدى الروايتين عن عمر. وروي عن عمر أنه قال: إذا أدى النصف: فهو غريم، ولا رق عليه. وقال ابن مسعود في إحدى الروايتين: إذا أدى ثلثا، أو ربعا: فهو غريم. وهو قول شريح.

وروى إبراهيم عن عبد الله قال: إذا أدى قيمة رقبته: فهو غريم. وقد روي عن ابن عباس: أن المكاتب يعتق بعقد الكتابة، ويكون مال الكتابة دينا عليه. وليس يوجد لهذه الرواية مخرج صحيح، ولا يعرف له سند، وهو مع ذلك قول شاذ، ولا نعلم أحدا قال به. *والحجة لقولنا: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما عبد كوتب على مائة دينار، فأداها إلا عشرة دنانير: فهو عبد". ومن رواية عمرو بن شعيب أيضا عن أبيه عن جده عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا موسى بن زكريا قال: حدثنا عباس قال: حدثنا محمد قال: حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا هشيم عن أبي بشر جعفر بن إياس عند نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم".

*ومن جهة النظر: إن المشتري لا يستحق قبض شيء من المبيع إلا بأداء جميع الثمن، فوجب أن تكون الكتابة مثله؛ لأنهما جميعا عقد معاوضة. فإن قيل: ينبغي أن يعتق بنفس العقد، كما يملك المشتري المبيع بنفس العقد. قيل له: لو كان كذلك، لم يكن عقد الكتابة، وكان يكون عتقا على قبول مال في الحال، فقد عقلنا الفصل بين الكتابة وبين العتق الموقع في الحال. وأيضا: فإن المكاتب قد صار في يد نفسه بعقد الكتابة، فهو نظير ملك رقبة المبيع للمشتري، والعتق بمنزلة قبض المبيع، فلا يجوز أن يستحقه إلا بالأداء. مسألة: [زواج المكاتب والمكاتبة دون إذن المولى] قال أبو جعفر: (وليس للمكاتب ولا المكاتبة أن يتزوجا في مكاتبتهما بغير إذن مولاهما). وذلك لأن رق المولى باق عليهما بما قدمنا، ولا يجوز لهما أن يتصرفا في ملك الغير بغير إذنه. ويدل عليه قول النبي عليه الصلاة والسلام: "المكاتب عبد ما بقى

عليه درهم". وقال: "أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه: فهو عاهر". وليس التزويج مما تقتضيه الكتابة؛ لأنه إن كان رجلا فعقد النكاح يلزمه دينا لا يثبت حق المولى في بدله، وهو البضع، فلا يجوز له ذلك؛ لأن الذمة التي يثبت ذلك فيها، هي حق للمولى، وليس ذلك كالإجارة؛ لأن تلك المنافع مما يصح ثبوت حق المولى فيه. وأيضا: فإنه تلزمه النفقة للمرأة في كسبه، والنفقة ليست بدلا عن شيء، وإنما هي على وجه الصلة، وليس للمكاتب أن يتصرف في ماله بالصلة والهبة ونحوها. وأما إذا كانت مكاتبة، فإن المولى مالك لبضعها، وإنما منع من وطئها بعقد الكتابة، وكذلك إذا وطئت بشبهة، فإنما تستحق مهرها دون المولى؛ لأن المولى قد ملكها كسبها بعقد الكتابة، فأما البضع فلم يخرج عن ملكه، فلم يجز لها أن تتصرف فيه بغير إذنه. ولها أن تزوج أمتها، وليس تزويجها الأمة كتزويجها نفسها؛ لأن المولى لا يملك أمتها، ويملك رقبتها، وبضعها، فكان لها أن تتصرف في مالها، بما يوصلها إلى أداء الكتابة.

مسألة: [زواج المكاتب والمكاتبة بإذن المولى] قال أبو جعفر: (ولهما أن يتزوجا بإذنه). وذلك لأن المنع كان من أجله، ولحقه، فإذا رضي به: جاز. فإن قيل: فهلا كان ذلك كهبته وكفالته في أنهما لا يجوزان وإن أذن لهما المولى. قيل له: لأن المولى لا يملك كسبه، ولا معتبر فيه بإذنه، ويملك رقبته، فجاز تصرفه فيها بالتزويج بإذنه. مسألة: قال: (وللمكاتبة الخيار إذا عتقت في رد ذلك النكاح). وذلك لأن بدل البضع لم تستحقه بعقد النكاح، وإنما استحقته بالكتابة، كأنه حصل للمولى، فجعله لها، وكل من لم يستحق بدل البضع بعقد النكاح، فلها الخيار إذا ملكت بضعها كالأمة، غير المكاتبة. قال أحمد: وقال زفر: لا خيار لها؛ لأن بدل البضع حصل لها. مسألة: [حق المكاتب في الخروج للتجارة والكسب] قال: (وللمكاتب وللمكاتبة أن يخرجا إلى حيث أحبا، وليس لمولاهما منعهما). وذلك لأنهما في أيدي أنفسهما كالحر، ويد المولى زائلة عنهما.

*قال: (وإن كان اشترط ذلك عليهما: كان شرطه باطلا). قال أحمد: الأصل في ذلك: أن الشروط التي لا يوجبها عقد الكتابة على وجهين: الأول: شرط راجع إلى نفس البدل، أو المبدل عنه، وشرط خارج عنهما، فالأول يفسدها، مصل أن يكاتبها وهي حامل، واستثنى ما في بطنها، فهذا الشرط يفسد الكتابة؛ لن عقد الكتابة عليها يقتضي دخول الولد فيه، وهو لم يرض بأن يكون المال المسمى فيه بدلا عنهما جميعا، ففسدت الكتابة به، لأنها مما يلحقها الفسخ، ولا يصح إلا بتسمية صحيحة في العقد. وأما الشرط الأخر: فإنه لا يفسدها؛ لأنه لم يتعلق بالبدل، ولا بالمبدل عنه، فصار لغوا، ولا يفسد الكتابة، لأنها قد تصح على ضروب من المجاهيل، ألا ترى أنه يصح على عبد وسط. وهي تفارق البيع من هذا الوجه، فكل ما جاز على المجهول: لم تفسده الشروط التي قدمنا وصفها. فإن قيل: هلا كان كالنكاح في امتناع فساده بالشروط، سواء كانت في البدل أو في غيره. قيل له: هي تفارقه من جهة أن عقد النكاح لا يفتقر في صحته إلى تسمية البدل، وعقد الكتابة لا يصح إلا ببدل مسمى في العقد.

مسألة: [صحة مكاتبة العبد نفسه وماله] قال أبو جعفر: (وجائز للرجل مكاتبة عبده على نفسه، وعلى ماله وإن كان ماله أكثر مما كاتبه عليه). وذلك لأنه كسبه، ويدخل كتابته سائر أكسابه التي كان حكمها أن تكون للمولى لولا الكتابة، فلما جازت الكتابة على أكسابه التي يستفيدها في المستأنف، جازت أيضا على أكسابه الموجودة في حال العقد، ولا تعتبر زيادته على مال الكتابة، كما لا يعتبر ذلك فيما يستفيده بعد العقد. مسألة: [مكاتبة الرجل عبده على الخدمة] قال: (وجائز للرجل أن يكاتب عبده على أن يخدمه شهرا، أو على أن يبني له دارا؛ استحسانا، وليس بقياس). قال أحمد: وجه القياس: أن الخدمة مستوفاة من ملك المولى؛ لأن الرقبة في ملكه، فلا يصح شرطها بدلا من الرقبة، إذ كانت الرقبة التي الخدمة من منافعها في ملكه، ألا ترى أنه لو كاتبه على ثوب في يده للمولى: لم يصح؛ لأنه في ملك المولى، فلا يصح أن يجعله بدلا عن ملكه، إذ يمتنع أن يكون البدلان جميعا من ملك واحد في عقود المعاوضات. ألا ترى أن المؤاجر لا يجوز له أن يستأجر العبد الذي أجره من المستأجر؛ لأن المنافع حادثة على ملكه، وليس كذلك المال المطلق؛ من قبل أنه يثبت في ذمة العبد بعقد الكتابة، ثم يستوفى من كسبه الذي لا ملك للمولى فيه بعد الكتابة. وجهة الاستحسان: أن المنافع الحادثة التي ليست موجودة في حال

العقد: ليست ملكا لأحد، فجاز أن يشترطها بدلا من الرقبة، كما يشترط مالا مطلقا، فتصح الكتابة به؛ لأنها حادثة على ملك المكاتب، وملك المكاتب لا يملكه المولى. وأيضا: فإن المنافع لما كان لها قيمة بالعقد، صارت بمنزلة سائر الأموال؛ ألا ترى أنه لو كاتبه على مال، ثم استأجر المكاتب للخدمة شهرا: صحت الإجارة؛ لأن المنافع الحادثة في هذه الحال ليست ملكا للمولى وإن كانت الرقبة في ملكه، فكذلك يجوز أن تجعل هذه المنافع بدلا من الرقبة في عقد الكتابة. مسألة: [حكم مصالحة المكاتب على تعجيل بعض مال الكتابة والبراءة من بقيته] قال أبو جعفر: (وإذا كاتب عبدا له على مال مؤجل، ثم صالحه قبل حلول الأجل على أن يعجل له بعض ذلك المال، ويبرأ من بقيته: لم يجز ذلك فيما روى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف من قوله، وأما محمد فروى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه جائز، ولم يحك خلافا). قال أحمد: كان القياس عندهم أنه لا يجوز كسائر الديون المؤجلة، إذا وقع الصلح فيها على تعجيل بعضها، والبراءة من بقيتها، وذلك لأن الأصل الذي تعتبر به هذه المسائل ونظائرها: أن يراعى ما وقع عليه الصلح، فإن كان مما أوجبه له عقد المداينة: لم يكن له حكم العقد، وكان آخذا لبعض حقه، أو لحقه. وإن كان مما لم يوجبه له عقد المداينة: فهو إنما يريد استحقاقه بعقد

مستقبل، وهو عقد الصلح، فأحمله على ما تجوز عليه عقود البياعات، فما جاز فيها: جاز في ذلك، وما لم يجز فيها: لم يجز فيه. ومعلوم أن من كان له على آخر ألف مؤجلة، فهو غير مستحق لخمسمائة حالة إلا بعقد، فكأنه باع الألف بالخمسمائة: فلا يجوز. وهذا هو القياس في مسألة صلح المكاتب، إلا أنهم تركوا القياس، وجعلوه كأنه حط البعض، وعجل له العبد البقية، لا على وجه العقد؛ لأن ما على المكاتب ليس بدين صحيح؛ لأنه على عبده، والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح، ولأنه يمكنه إسقاطه عن نفسه بالعجز، فلما وجدوا له وجها في الصحة، حمل عليه. وقالوا: لو كاتبه على حنطة موصوفة، فصالحه منها على شعير موصوف إلى أجل: لم يجز، وكان ودين الحر في هذا الوجه سواء؛ لأنه ليس له وجه في الصحة يحمل عليه. مسألة: [دفع الزكاة للمكاتب] قال: (وجائز للمكاتب قبول الزكوات وغيرها). وذلك لقول الله تعالى: {وفي الرقاب}، وقال تعالى: {وما أدراك ما العقبة*فك رقبة}.

*قال: (وجائز للمولى أخذ ذلك منه قضاء من الكتابة). وذلك لأنه لا يأخذها صدقة، وإنما يأخذها من مال الكتابة. وقد روي أن بريرة كان يتصدق عليها، فتهديه للنبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو لها صدقة، وله هدية". مسألة: قال أبو جعفر: (ولا تجوز المكاتبة على القيمة). وذلك لأنها مجهولة كثيرة الجهالة، ألا ترى أن مثلها لا يكون تسمية في النكاح، لو تزوج امرأة على مهر مثلها: كان ذلك كلا تسمية، وكان لها إن طلقها قبل الدخول المتعة. ويفارق هذا الكتابة على وصيف؛ لأن القيمة لا يتحصل لنا مقدارها إلا بالحرز والظن، فلا تحصل معلومة بيقين، والوصيف معلوم على الحقيقة، متيقن أنه وصيف، واختلاف المقومين في قيمته لا يسلبه اسم الوصيف، ويكون ذلك كالاختلاف في الصفة، لا في عين المسمى، وأما القيمة نفسها فمختلفة المقدار، وليس يوقف منها على حد معلوم. وأيضا: فإن الذي يجب عند أداء الكتابة الفاسدة هو القيمة، وما لا يثبت إلا مع الفساد: لا يصح أن يكون بدلا في العقد، ألا ترى أن القيمة

لما لم تجب في البياعات إلا عند الفساد: لم يصح أن تكون بدلا في العقد. مسألة: [حرمة المكاتبة على مولاها] قال: (والمكاتبة حرام على مولاها ما دامت مكاتبة). وذلك لأنها قد صارت في يد نفسها، خارجة عن مولاها، فكان أقل أحوالها أن تكون بمنزلة الجارية المرهونة، لا يجوز للراهن وطؤها. وأيضا: فإن المولى في هذه الحال لا يملك منافعها، والوطء من منافعها، ولا يجوز له تناوله منها. وأيضا: فإن الوطء بمنزلة إتلاف جزء منها في الحكم، للدلائل التي قد ذكرت في غير هذا الموضع، ولا سبيل له إلى تناول شيء من أجزائها. فإن قيل: لما لم يجز تزويجها إلا إذن المولى، دل على أنه يملك وطأها. قيل له: هذا فاسد؛ لأن الصغيرة لا تتزوج إلا بإذن وليها، ولا يدل ذلك على أن وليها يملك وطأها. وأيضا: فإن الوطء قد صار في ملكها، بدلالة أنها إذا وطئت بشبهة، كان المهر لها دون المولى. مسألة: [حكم المكاتبة الفاسدة] قال أبو جعفر: (ومن كاتب عبده مكاتبة فاسدة، فأدى إليه ما كاتبه

عليه: عتق، وكان عليه أن يسعى في بقية الكتابة إن كانت في قيمته لمولاه). قال أحمد: من الكتابة ما إذا أدى ما سمى فيها: لم يعتق، نحو أن يكاتبه على ثوب، أو على ميتة، أو على حلة، أو نحو ذلك من الأشياء التي لا يصح أن تكون بدلا بحال، أو لا يوقف له على مقدار. وقالوا: إذا كاتبه على قيمته: فالكتابة فاسدة، فإن أدى القيمة: عتق، والفرق بينهما: أن لأعلى القيمة مقدارا معلوما، وهي جنس واحد، فإذا أدى ذلك: عتق من جهة الشرط، وكذلك لو كاتبه على خمر أو خنزير، فأدى: عتق، وكان عليه القيمة؛ لأن العقد على الخمر قد يصح بحال فيما بين الذميين، فهو عقد فيما بين المسلمين وإن كان فاسدا، ويعتق بالأداء لوجود الشرط. ألا ترى أن مثله يملك به في البيع إذا اتصل به القبض، وأما ذكر الثوب في العقد، فليس بتسمية، ولا يوقف على الثوب المعقود عليه، فيتعلق العتق بأدائه، لأجل وجود الشرط، فلذلك لم يعتق بأداء الثوب، وصار بمنزلة الكتابة على حلة. وأما الميتة، فليست ببدل بحال، ألا ترى أن مثله إذا وجد في البيع: لم نجعله عقدا، ولم يتعلق به الملك بحال، فصار كقوله: قد كاتبتك: ولم يسم شيئا. فإن قيل: فهلا أعتقته بقوله: قد كاتبتك: إذا أدى، كما لو قال: بعتك، فقبل ملكه إذا قبض. قيل له: الفصل بينهما: أن الكتابة يتعلق العتق فيها بأداء المسمى في العقد، مما يصح أن يكون بدلا بحال، إذ غير جائز وقوع العتق فيها بنفس

العقد، فيجب حينئذ أن يحصل الأداء على الوجه المشروط. وقوله: كاتبتك: لم يتعلق العتق فيه بأداء مسمى مشروط، فبطل. وقوله على حلة: فإنه لا يصح أن يكون تسمية في شيء من العقود بحال، فصار وجوده وعدمه سواء، وكذلك تسميته ثوبا، أو دابة، لاختلاف أجناسها وتعذر الوقوف على حدها. مسألة: [اختلاف المولى ومكاتبه فيما كاتبه عليه] قال أبو جعفر: (ومن اختلف هو ومكاتبه فيما كاتبه عليه، فإن أبا حنيفة كان يقول: يتحالفان ويتردان المكاتبة، ثم رجع عن هذا القول فقال: القول قول المكاتب، ولا يتحالفان، وقال أبو يوسف ومحمد: يتحالفان، ويترادان). وجه قول أبي حنيفة: أن حصول الكتابة وصحتها باتفاقهم، يمنع فسخها بالاختلاف، والدليل عليه: أن المشتري لو كاتب العبد، ثم اختلف، لم يتحالفا، وكان القول قول المشتري مع كونه في ملكه، لأجل حصول الكتابة، كذلك حكم اختلافهما في عقد الكتابة بعد وقوعه. فإن قيل: لو باعه المشتري، ثم اختلفا في الثمن: لم يكن بينهما تحالف، ولا يمنع ذلك وجوب التحالف عند اختلافهما في البيع إذا لم يبعه، وهذا نظير اختلافهما في عقد الكتابة. قيل له: ليس الأمر كذلك؛ لأن المانع من التحالف بعد بيع المشترى إياه تعذر الفسخ فيه، لأجل كونه في ملك غيره، وإذا كاتبه، فهو

ملكه، وكان وقوع الكتابة مانعا من التحالف مع بقاء الملك، كذلك إن اختلفا في نفس الكتابة، وجب أن يكون بهذه المنزلة. مسألة: [مكاتبة المولى عبده على عبد غيره] قال أبو جعفر: (ومن كاتب عبده على عبد لغيره: كانت المكاتبة فاسدة، وإن أجازها رب العبد أيضا: لم تجز). قال أحمد: ذكر محمد هذه المسألة في كتاب: المكاتب، فقال: إذ كاتبه على عبد بعينه لرجل: لم تجز الكتابة، ولم يذكر حكمه إذا أجازه صاحب العبد. وقال في كتاب: الشرب: إذا كاتبه على أرض في يده: فالكتابة جائزة، وهذا يدل على أن الإجازة تلحقه من مالك الأرض. وقد روى ابن سماعة عن محمد: أن الكتابة موقوفة، فإن أجازها صاحب العبد: جازت، وإن لم يجز: فسدت، يعني إذا كاتبه على عبد غيره. وقد روى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف: أن الكتابة فاسدة، فإن أدى: عتق، وهو قول أبي حنيفة. وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أنه إذا أدى: لا يعتق.

والصحيح من ذلك: أن الكتابة موقوفة، فإن أجازها مالك العبد: جاز، وكان على المكاتب قيمة العبد للمجيز، كمن اشترى جارية بعبد غيره، فيوقف الشراء على إجازته، فإن أجازها: جاز، ولزم المشتري قيمة العبد للمجيز. مسألة: [عجز المكاتب عن سداد نجم الكاتبة] قال أبو جعفر: (وإذا حل على المكاتب نجم من نجوم مكاتبته، فعجز عنه، فرده مولاه في الرق برضاه دون السلطان: جاز ذلك). لأن الكتابة مما يلحقه الفسخ، فيجوز لهما التراضي على فسخها، كما يجوز تراضيهما على فسخ البيع والهبة، وغيرهما من العقود التي يلحقها الفسخ بغير سلطان. وأيضا: كما جاز إيقاع العقد بغير سلطان، جاز فسخه أيضا. *قال: (فإن رفعه إلى السلطان، وقد أخل بنجم، فإن وجد له مالا حاضرا، أو مالا غائبا يرجى قدومه: أخره يوما أو يومين، فإن جاء: قضى منه كتابته). ووجه التأخير: أن هناك مالا يمكن قضاء الكتابة منه، فليس إذا بعاجز، فتأخيره هذا المقدار لا يوجب الحكم بعجزه، كما أن الغريم إذا أقر بالدين عند القاضي، وقال له: لا تحبسني حتى أحضر الدراهم، وأقضيه، أمهله هذا القدر، وكذلك لو قال: أبيع عبدي هذا الآن، وأقضي الدين من ثمنه: لم يأمر بحبسه.

*قال: (فإن لم يكن شيء مما ذكرنا: رده في الرق، في قول أبي حنيفة ومحمد). لأنه قد تبين عجزه عن القيام بشرط الكتابة، وأداء المال حسبما لزمه بالعقد، ولو جاز أن لا يرد في الرق مع عجزه عن نجم من نجوم الكتابة، جاز أن لا يحكم به وإن عجز عن جميع نجومها، وهذا لا يقوله أحد، فدل أن العجز واقع بأول نجم. *قال: (وقال أبو يوسف: لا يرده إلى الرق حتى يتوالى عليه نجمان). مسألة: [موت المولى لا يبطل عقد الكتابة] قال أبو جعفر: (ومن مات وله مكاتب: كانت الكتابة على حالها موروثة عن المولى، كما يورث سائر ماله، وكان ولاء المكاتب إذا أدى لمولاه، لا لورثته). وذلك لأنهم ورثوا مالا، ولم يرثوا رقبة المكاتب؛ لأنها لا يصح تمليكها، ومن أجل ذلك قالوا: إنه لو كان ذا رحم محرم لبعض الورثة: لم يعتق عليه، ولو كان زوجا لابنة الميت: لم يفسد نكاحها؛ لأنها لم تملكه. ومما يدل على أن الورثة لا يملكونه: أنهم لو ملكوه، لبطلت الكتابة؛ لأن العقد تضمن عتقا موقعا من جهة الميت، فلا جائز انتقال ذلك العتق

إلى غيره؛ لأن كل عتق وقف على مالك، ثم انتقل ملكه إلى غيره: بطل العتق الموقوف عليه، ولا خلاف أن موت المولى لا يبطل الكتابة، فدل على أن الورثة لم يملكوا رقبته، وإنما ورثوا ما عليه من مال الكتابة، فإذا أدى: كان العتق واقعا على حكم ملك المولى، فكان ولاؤه له. مسألة: [موت المكاتب دون أن يترك وفاء لكتابته] قال أبو جعفر: (وإذا مات المكاتب في حياة المولى، أو بعد وفاته، ولم يترك وفاء: فهو عاجز ميت من حال مولاه). وذلك لفوات شرط العتق، وهو الأداء. مسألة: [لو مات المكاتب وترك مالا للوفاء] قال: (ولو ترك مالا فيه وفاء بمكاتبته: أديت عنه كتابته، وجعل كأنه قد مات حرا). قال أحمد: وروي نحوه عن علي رضي الله عنه، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وابن الزبير. *وروي عن ابن عمر أنه يموت عبدا. الدليل على صحة قولنا: أن أداء الكتابة وصحة ما يتعلق به من العتق، ليس مقصورا على أدائها بنفسه، ولا على مباشرة قبض من المولى لها. والدليل على ذلك: أن غيره لو أدى عنه في حياته، أو وكل المولى

غيره بقبضها: عتق به، فلما لم تكن صحة الأداء موقوفة على مباشرته إياه، لم يكن تعذر الأداء من جهته بالموت، مانعا من جواز الأداء من ماله، وحصول عتقه في الحكم قبل موته بلا فصل. فإن قيل: إنما عتق بأداء غيره عنه في حياته؛ لأنه ممن يلحقه العتق، ولا يلحقه العتق بعد الموت، فلا معنى للأداء؛ لأنه لا يعتق به، لاستحالة عتق الميت. قيل له: لا نعتقه بعد الموت، وإنما نقول: إذا صح الأداء، حكم بأنه كان حرا قبل الموت بلا فصل، وليس يمتنع حصول العتق قبل الموت بلا فصل بأداء يحصل بعد الموت. كما لو حفر رجل بئرا في طريق المسلمين، ثم مات، وترك عبدا: فأعتقه الوارث، ثم وقعت فيها دابة، فماتت: أن الوارث يضمن القيمة، ويحكم عند الوقوع بأنه كان جانيا يوم الحفر، في باب ما يضمنه الوارث من قيمة العبد. وكما لو أن رجلا جرح رجلا، ثم مات الجارح، ثم مات المجروح: أنا نحكم عند موت المجروح بأن الجارح كان جانيا قبل الموت؛ لاستحالة كونه جانيا بعد الموت. فإن قيل: موته يوجب فسخ الكتابة؛ لأنه لا يصح ابتداؤها بعد الموت. قيل له: ليس سبيل الابتداء في ذلك سبيل البقاء، ألا ترى أن العبد الآبق لا يجوز بيعه، ولو اشتراه، ثم أبق من يد البائع: لم يبطل البيع. ولو ابتدأ عقد نكاح امرأة وهي معتدة من غيره: لم يصح، ولو طرأت عليها عدة من وطء شبهة وهي تحت زوج: لم ينفسخ نطاحه.

وأيضا: فإن هذا اعتلال منتقض؛ لاتفاق الجميع على أن المولى لا يصح منه ابتداء كتابة، ولو عقدها في الحياة، ثم مات: لم يبطل. فإن قيل: لما كان شرط الكتابة حصول العتق عند الأداء، ويستحيل أن يصير حرا في هذه الحال: لم يصح أداؤها، إذ لم يحصل به العتق المستحق بعقد الكتابة. قيل له: من قولك: إن حكم الأداء أن يقع العتق معه في جميع الأحوال، هو موضع المنازعة بيننا وبينكم، لأنا نقول: إن الأداء يوجب العتق، ولا نقول: إنه يوجبه في وقت وجوده لا محالة، بل يوجبه تارة عقيب الأداء، وتارة قبله، بالدلائل التي ذكرناها. وكما جاز أن يكون المولى معتقا تارة في حال الأداء، وتارة قبل الموت بلا فصل، كذلك حكم العبد. ودليل آخر: وهو قول الله تعالى: {من بعد وصية يوصي بها أو دين}. فحكم ببقاء دين الميت بعد موته، وأوجب قضاءه من ماله، والمكاتبة دين على الميت، فوجب أداؤه من ماله، وأن يجعل الباقي لورثته، ومن ادعى سقوطه بالموت، فهو تارك لحكم الآية بلا دلالة، فإذا وجب الأداء بعد الموت، تعلق به حكم المعتق، لأن الناس فيه على قولين: منهم من يجعله عاجزا، ويسقط الأداء، ومنهم من يثبت الأداء، ويجعله حرا قبل الموت، فلما بطل بظاهر الآية قول من أسقط الأداء: ثبت قولنا.

فإن قيل: هذا في الأحرار. قيل له: بل هو في الأحرار والمكاتبين إذا تركوا وفاء؛ لعموم اللفظ إلا ما قام بدليله. وأيضا: فلم نجد دينا يبطله الموت، فوجب أن لا تبطل الكتابة بالموت. فإن قيل: فأنت تبطله إذا مات عاجزا. قيل له: ليس الموت يبطله، وإنما يبطله العجز. وأيضا: لما كان عتق المكاتب مضمنا بأداء الدين، أشبه استحقاق الميراث الذي صحته مضمنة بأداء الدين الذي على الميت، فلو مات رجل، وترك دينا عليه يحيط بماله، لمنع ذلك الورثة من ملك ماله. ولو أبرأ الغريم من الدين، فسقط حقه: ملك الورثة المال بالموت. ولو كان بعضهم قد مات قبل إبراء الغريم: ورث عنه نصيبه ورثته، فكذلك المكاتب، لما مات وعتقه مضمن بأداء المال، وجب أن يكون حكمه موقوفا على الأداء على ما وصفنا. وأيضا: لما اتفق الجميع على أن موت المولى لا يبطل الكتابة، لأجل إمكان الأداء بوجود المال، وجب أن يكون ذلك حكمه بعد موت المكاتب، لوجود المال الذي يصح به الأداء، ولم يمتنع أن يحصل في الحكم معتقا بعد الموت، كما جاز أن يصير المولى معتقا بعد الموت. فإن قيل: إنما جاز أن يكون المولى معتقا بعد الموت بأداء المكاتب؛ لأن الميت يجوز أن يلحقه حكم عتق يبتدأ بعد موته، بأن يوصي بعتق عبده، فيبتدأ عتقه، ويلحق الميت ولاؤه، ولما لم يصح إيقاع عتق على ميت بعد موته، لم يجز أن يلحقه حكم العتاق بوجه بعد موته.

قيل له: كل ما استشهدت به من تأكيد جواز وقوع العتق منه بعد الموت، لتقدم السبب الموجب له من جهته في حال حياته، فهو مؤكد لجواز حول عتق المكاتب بعد موته بالأداء، ألا ترى أن موت المولى: لم يجعل المكاتب في معنى من قال له المولى: إن دخلت الدار فأنت حر، ثم مات، فدخل: فلا يعتق، بل فل بين الكتابة واليمين بعد موت المولى، فدل على أن الموت لا تأثير له في بطلان الكتابة أيهما مات. وقولك: إنه يصح من المولى عتق بعد موته بالوصية، فإنما تعلق ذلك بتقدم سببه في حال الحياة، ولولا تقدم الوصية، لما صح أن يلحقه حكم العتق، فإنما تعلق جوازه بسبب موجود قبل الموت، فكذلك المكاتب يجوز أن يلحقه العتق بالسبب المتقدم وإن لم يجز ابتداء عتقه بعد موته. فإن قالوا: الكتابة فيها معنى اليمين، واليمين يبطلها الموت. قيل لهم: فينبغي أن يبطلها موت المولى، كما تبطل اليمين بموته. مسألة: [ثبوت الخيار للمكاتبة إذا حبلت من مولاها] قال: (وإذا علقت المكاتبة من مولاها: كانت بالخيار، إن شاءت عجزت، فصارت أم ولد لمولاها، وإن شاءت مضت على مكاتبتها، وأخذت عقرها من مولاها، فاستعانت به على المكاتبة). وذلك لأنها قد استحقت العتق من غير جهة الكتابة، فكان لها أن تعجز لتحصيل ما استحقته من عتق الاستيلاد، وإن شاءت مضت على

كتابتها؛ لأنها مستحقة للعتق بها، فلا يجوز فسخ شرطها إلا برضاها. مسألة: [حكم المكاتبة على نصف العبد] قال: (ومن كاتب نصف عبده على مال، فإن أبا حنيفة كان يقول: نصفه مكاتب على ذلك المال، فإذا أدى إليه: عتق، ويسعى له في بقية قيمته، وقال أبو يوسف ومحمد: يكون العبد كله مكاتبا على ذلك المال). قال أحمد: من أصل أبي حنيفة: أن العتق يتبعض، وقد بيناه فيما سلف، فكذلك الكتابة. ومن أصلهما: أن العتق لا يتبعض، فكذلك الكتابة؛ لأنها عقد على العتق، فعقده على بعضه: عقد على جميعه، كما أن عتق بعضه: عتق لجميعه. *وقول أبي جعفر: إنه إذا أدى: عتق، وسعى في بقية القيمة، في قول أبي حنيفة: معناه: عتق ذلك النصف المكاتب، وأما النصف الباقي، فهو رقيق في قوله، ولا يعتق إلا بالسعي. مسألة: [مكاتبة أحد الشركاء في حصته دون إذن لشريك] قال: (ومن كاتب عبدا بينه وبين أخر، أو كاتب نصفه بغير أذن شريكه: فلشريكه إبطال ذلك، ما لم يود العبد الكتابة). وإنما كان للشريك فسخه من وجهين:

أحدهما: أن كتابة البعض تمنع تصرف المولى في بيعه، وسائر وجوه التمليك في نصيبه، فكان له أن يبطله، ليصل به إلى حقه في التصرف. والوجه الآخر: أنه يؤدي إلى العتق، وفي العتق استهلاك نصيبه، وإخراجه من يده. *قال أبو جعفر: (فإن لم يبطل المولى الذي لم يكاتبه المكاتبة، حتى أداها العبد إلى الذي كاتبه عليها: فإنه قد عتق نصيبه بذلك). *قال: (وكان أبو حنيفة يقول: إن وقعت المكاتبة على العبد كله: كان للذي لم يكاتبه أن يرجع على الذي كاتبه بنصف ما قبض من العبد، ثم يكون العبد كعبد بين رجلين أعتقه أحدهما). وذلك لأن نصيب الذي كاتب: مكاتب، كسبه له دون المولى، ونصيب الآخر: عبد غير مكاتب، وكسب لمولاه، فإذا أخذ الكتابة من مال: نصفه لشريكه: كان له أن يأخذه منه، وكان بمنزلة المكاتب إذا أدى كتابته، ثم استحق نصف المؤدى، فلا يبطل العتق، ولا يرجع الذي كاتب على العبد بشيء؛ لأنه جعل المال بدلا ن النصفين، فاستحق نصف المال، ولم يسلم أيضا للعبد إلا نصف الرقبة. *قال أبو جعفر: (فإن كانت المكاتبة وقعت على نصيبه من العبد: كان الجواب كذلك، غير أنه يكون للمكاتب أن يرجع على العبد بما أخذ منه شريكه، فيستسعيه فيه). وذلك لأنه شرط جميع المسمى بدلا نمن نصف الرقبة، وقد يسلم للعبد ما شرط له، ولم يسلم للمولى من المال إلا نصفه، ويرجع به عليه. *قال أبو جعفر: (وقال أبو يوسف ومحمد: سواء وقعت المكاتبة

على كل العبد، أو على نصيبه منه، وهو كما قال أبو حنيفة: إذا كاتب جميعه. وإن كانت المكاتبة من المولى وقعت على نصيبه من العبد بإذن شريكه: كانت جائزة، وللذي لم يكاتب أن يرجع على الذي كاتب بنصف ما قبض، ويرجع الذي كاتب به على العبد). قال أحمد: وذلك لأن إذنه له في الكتابة، ليس بإذن له في قبض نصيبه من الكسب، فله أن يرجع عليه بنصف المقبوض. مسألة: [إذن الشريك بقبض بدل المكاتبة] قال: (وإن كان الشريك أذن له في قبض المكاتبة: كان كذلك أيضا، إلا أنه ليس للشريك أن يرجع عليه بشيء مما قبض، ويعتق نصيبه، ويكون كعبد بين رجلين أعتقه أحدهما). وذلك لأنه إذا أذن له في قبض المكاتبة، كان بمنزلة رجل أذن لرجل في قضاء دينه من ماله، فلا يكون له بعد القضاء أن يرجع فيه. *قال: (وإن نهى الشريك شريكه عن قبض المكاتبة، أو مات قبل قبض شريكه: انقطع إذنه). وذلك لأنه بمنزلة من أذن لرجل في قضاء دينه من ماله، ثم نهاه قبل أن يقبضه، فيبطل إذنه بالنهي، وكذلك ينقطع بالموت، وذلك لأن ملكه انتقل إلى الوارث، ولم يكن من الوارث إذن فيه. * (وقال أبو يوسف ومحمد: هذه مكاتبة لجميع العبد، وهو مكاتب للموليين، فإن أذن أحدهما لصاحبه في قبض الكتابة، فقبضها: عتق العبد منهما، وإن كان لم يأذن له في قبضها: لم يعتق بقبض الذي كاتبه إياها، حتى يقبض المولى الآخر حصته منها).

وذلك لأن الذي كاتب عاقد على نصيب نفسه، ووكيل للشريك في العقد على نصيبه، والوكيل في الكتابة لا يستحق القبض بعقد الكتابة، وشرط الكتابة حصول العتق بأدائها إلى مستحقها، ولم يحصل ذلك، فلم يعتق حتى يقبض الآخر نصيبه منها. مسألة: [حكم ما يعتقه المكاتب من عبيده وسائر تبرعاته] قال أبو جعفر: (ولا يجوز عتق المكاتب لعبده، ولا هبته شيئا من ماله، عتق أو لم يعتق). وذلك لأن مال المكاتب موقوف، ولا ينعقد العتق إلا في ملك صحيح، فلا يجوز عتقه ولا هبته، لأن الهبة تبرع، ولا يجوز تبرع الإنسان في غير ملكه. وأيضا: فإن عقد الكتابة إنما تضمن جواز تصرف المكاتب فيما يعينه على أداء الكتابة، والعتق والهبة ليس فيهما ذلك، بل فيهما ضرر عليه، ومنع من الأداء. وأيضا: فإن حق المولى هو المانع من وقوع ملك المكاتب في ماله، فصار من هذا الوجه كالوارث إذا كان على الميت دين يحيط بماله، فيمنع حق الغرماء من وقوع ملكه في مال الميت، فكما لم يجز عتق الوارث وهبته، لأجل حق الغرماء المانع من وقوع ملكه، وجب أن لا يجوز عتق المكاتب وهبته، لوجود هذه العلة. قال أحمد: وكذلك قالوا في كفالته بمال ليس عليه، إنها غير جائزة،

لأنها تبرع بمنزلة القرض، وقرضه لا يجوز لهذه العلة. وقالوا: إن أجاز المولى تصرفه على هذه الوجوه، لم يجز أيضا، لأنه لا ملك له فيه، كما أن الغرماء لو أجازوا عتق الوارث وهبته لمال الميت، لم يجز بإجازته. مسألة: [حصول العتق للمكاتبين مكاتبة واحدة بأداء واحد منهما] قال أبو جعفر: (ومن كاتب عبدين له على ألف درهم مكاتبة واحدة، إن أديا عتقا، وإن عجزا ردا في الرق: كانا بذلك مكاتبين جميعا، وللمولى أن يأخذ كل واحد منهما بالمكاتبة كلها، فأيهما أداها: عتق، وعتق صاحبه، وكان له أن يرجع على صاحبه بحصته منها). وذلك لأن هذه لما كانت كتابة واحدة، تعلق عتقهما بأداء جميعها، فصار جميع المال على كل واحد منهما؛ لأنه لا يستحق العتق إلا بأداء جميعه، فصار كل واحد منهما ضامنا عن صاحبه. وإنما جاز الضمان في ذلك على هذا الوجه؛ لأن عتقه مستحق بأداء جميع الكتابة، فكان جميع الكتابة عليه، وشرط معه عتق الآخر. ولو كاتبه وحده على جميع المال: جاز، فلا يبطله شرط عتق الآخر معه، وإنما صار في معنى من كوتب على جميع المال، لأن عتقه معلق بأدائه. وليس هذا بمنزلة ضمان المكاتب مالا ليس عليه عن غيره: فلا يجوز؛ لأن الكفالة تبرع، والمكاتب لا يملك ذلك، ولا يتعلق بكفالته عن غيره

على غير الوجه الذي ذكرنا عتاقه، فلذلك اختلفا. قال: (فإن أداها أحدهما: عتقا جميعا، ورجع على صاحبه بالنصف). وإنما عتقا؛ لأنه قد جعل أداءه شرطا في عتقهما، وإنما رجع على صاحبه بنصفه؛ لأن المال عليهما، وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه بما عليه بأمره، فرجع عليه بما يؤديه عنه. *قال أبو جعفر: (وكذلك ما أداه أحدهما من شيء: كان له أن يرجع على صاحبه بنصفه). قال أحمد: وذلك لأنهما يتساويان في ضمان المال، كأن جميعه على كل واحد منهما، وكل واحد مع ذلك كفيل عن الآخر، فأشبها من هذا الوجه رجلين كفلا عن رجل بألف درهم، على أن كل واحد منهما كفيل ضامن صاحبه، فما أدى أحدهما من شيء: رجع به على الآخر. ولا يشبه هذا رجلين اشتريا عبدا بألف درهم، على أن كل واحد منهما كفيل ضامن عن صاحبه، فلا يرجع أحدهما على الآخر بشيء، حتى يؤدي أكثر من النصف، ثم يرجع عليه بالفضل، وذلك لأن كل واحد من هذين عليه نصف المال من أصل ما عليه خاصة، والنصف لآخر عليه من جهة الكفالة، فلو جاز له أن يجعل ما يؤديه عن صاحبه قبل أن يؤدي ما عليه، لجاز لصاحبه إذا حصل عليه ضمان ذلك، أن يجعله عن الآخر، مما عليه من كفالته، فيؤدي ذلك إلى بطلان الرجوع رأسا، حتى يؤدي ما عليه خاصة. وأما مسألة الكتابة، فليست كذلك؛ لأن لو جعلنا على كل واحد منهما نصف المال من أصل ما عليه: لم يصح أن يضمن النصف الآخر من جهة الكفالة، فوجب أن يكون جميع المال على كل واحد منهما من جهة

واحدة، وهي جهة الكتابة، كالكفيلين عن الغير، إذا كان كفلا على أن كل واحد منهما كفيل ضامن عن صاحبه، لأن جميع المال على كل واحد من جهة واحدة، وكل واحد كفيل عن صاحبه، فوجب أن يتساويا فيما ضمنا، كذلك المكاتبان كتابة واحدة. مسألة: [ما يلزم المكاتبين عند الاقتصار على ذكر ثمن المكاتبة] قال أبو جعفر: (ولو كانت المكاتبة وقعت على ألف درهم، ولم يذكر شيئا غير ذلك: كان على كل واحد منهما حصته منها لمولاه، لا شيء عليه غير ذلك) قال أحمد: كل واحد في هذه الحال مكاتب على حدة بحصته من الألف، كرجل قال لرجلين: قد بعتكما هذين العبدين، هذا منك، وهذا من الآخر، جميعا بألف درهم: فيجوز إذا قبلا، ويكون ثمن كل واحد منهما حصته من الألف. ولا يشبه هذا ما تقدم، وذلك لأنهما لا يصيران مكاتبين كتابة واحدة إلا أن يقول لهما: قد كاتبتكما على ألف درهم، على أن تؤدياها إلى في كذا وكذا نجما، أو على أن كل واحد منكما ضامن عن صاحبه، فإذا أوقعها على أحد هذين الوجهين، بأن يجعل نجومهما واحدة، وما عليهما مالا واحدا، أو شرط على أن كل واحد منهما ضامن ما على صاحبه وإن كانت حالة، فهذه كتابة واحدة. وأما إذا كانت الكتابة حالة، ولم يشرط الضمان: فكل واحد منهما مكاتب على حدته بحصته من المال؛ لأن النجوم إذا كانت واحدة، والمال واحد، فقد جعل أداء المال على النجوم شرطا في عتقهما؛ لأنه قال: على أن تؤدياها إلي في كذا وكذا نجما، وإن كانت حالة وشرط

الضمان، فقد صرح بأن أحدهما لا يعتق إلا بأداء الجميع. وأما إذا كانت حالة، ولم يشرط الضمان: فليس في اللفظ دلالة على أن أداء جميع المال شرط في عتقهما، فلذلك لم نجعله شرطا. مسألة: [موت أحد المكاتبين مكاتبة واحدة] قال أبو جعفر: (وإذا كاتبهما مكاتبة واحدة، إن أديا عتقا، وإن عجزا ردا، فمات أحدهما: كان للمولى أن يأخذ الباقي بجميع الكتابة). لأن المال لم يسقط عن الميت، ألا ترى أنه لو ترك وفاء: أخذ من ماله. *قال: (ولو لم يمت، ولكن المولى أعتق أحدهما: سقطت حصته من الكتابة). وذلك لأنه قد استوفى رقبته بالعتق، فلا يجوز أن يستوفي بدلها، ألا ترى أنه لو أعتقهما: سقط جميع المال. وليس العتق كالموت؛ لأنهما جميعا لو ماتا لم يسقط مال الكتابة، وأخذ مما تركاه. *قال: (فإذا أعتق أحدهما: كان له أن يأخذ كل واحد منهما بحصة الذي لم يعتق). وذلك لأن الضمان قد صح في حال الكتابة، فلا يسقط بالعتق وإن لم يصح ابتداؤه في هذه لحال، كما لو ملك المكاتب امرأته: لم يفسد نكاحها، ولو ابتدأ عقد النكاح بعد الملك: لم يصح، وكما لو وجب

على امرأة تحت زوج عدة من غيره بوطء بشبهة: لم يفسد نكاحها، ولو أراد أن يبتدئ العقد وهي معتدة من غيره: لم يصح، ولهذا نظائر كثيرة. *قال: (فإن أداها الذي عتق: رجع بها على المكاتب). وذلك لأنه ضمن عنه بأمره، وكما كان يرجع عليه بحصته لو أداها قبل العتق. مسألة: [كفالة المكاتب للمولى على دين الكتابة] قال أبو جعفر: (ولا تجوز الكفالة للمولى بما على عبده من الكتابة في غير ما ذكرنا). وذلك لأن مال المكاتبة لا يثبت إلا في رق يستحق به العتق، فمن ضمنه على غير هذا الوجه: لم يصح ضمانه، ألا ترى أن رجلا لو قال للمولى: كاتب عبدك على ألف درهم، على أني ضامن له دونه: لم يصح، لأنه لم يتعلق برق يستحق به العتق. وأيضا: فإن ضمان الحر للمال ضمان صحيح، ومال الكتابة ليس بدين صحيح؛ لأن له إسقاطه عن ننفسه بالعجز، فلا يخلو حينئذ من أحد أمرين: إما أن تلزمه الحر ضمانا صحيحا، فيكون قد لزمه على غير الوجه الذي على صاحب الأصل، وهذا لا يجوز، لأنه مال واحد، لا يجوز أن يلزم أحدهما على غير الوجه الذي لزم صاحب الأصل.

أو لا نجعله دينا صحيحا على الضمين، وذلك لا يجوز، لأن ما يلزم الحر من الدين، فهو صحيح، بخلاف ما يلزم العبد لمولاه، فلما بطل هذان الوجهان، لم تصح الكفالة بمال الكتابة. مسألة: قال أبو جعفر: (وللمكاتب أن يكاتب عبده). وذلك لأنه جائز التصرف فيما يستعين به على أداء الكتابة، ما لم يكن في تصرفه إتلاف لماله، وليس في الكتابة إتلاف لماله، من قبل أنه لا يعتق إلا بعد حصول بدل الرقبة للمكاتب. والكتابة تشبه البيع أيضا، من جهة أن له الرجوع فيها قبل قبول الآخر، وتفارق العتق على مال؛ لأنه لا يصح رجوعه قبل قبول الآخر، فأشبه اليمين، إذ لا يصح الرجوع فيها وإن لم يوجد شرطها، ويفارقه على العلة الأولى، من جهة أن العتق فيه إتلاف الرقبة في الحال قبل حصول البدل للمكاتب. قال أحمد: وللأب، ووصي الأب، والجد، ووصي الجد إذا لم يكن أب، ولا وصي الأب أن يكاتب عبد الصغير، وكذلك للمفاوض أن يكاتب. وليس لأحد من هؤلاء أن يعتق على مال، للعلة التي ذكرنا في المكاتب.

وليس للمضارب، ولا لشريك العنان، ولا للمأذون له في التجارة أن يكاتبوا، ولا يعتقوا على مال، من قبل أن تصرف هؤلاء مقصور على التجارة خاصة، وليست الكتابة من التجارة وإن كن فيها توصل إلى التكسب، وتحصيل المال. وكل من له أن يكاتب من هؤلاء فله أن يزوج الأمة التي يتصرف فيها، وليس له تزويج العبد. ومن لا تجوز كتابته منهم: فليس له تزويج الأمة في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: للمضارب، وشريك العنان، والمأذون تزويج أمة التجارة. مسألة: [ولاء المكاتب الثاني إذا أدى قبل عتق الأول] قال أبو جعفر: (فإذا أدى المكاتب الثاني قبل عتق الأول: فولاؤه لمولى الأول). لأن الأول عبد لا يصح العتق من جهته، فصار كوكيل المولى في العتق. *وإن أدى الثاني كتابته بعد عتق الأول: كان ولاؤه له؛ لأنه قد صح ملكه، فنفذ العتق فيه من جهته. مسألة: [كسب ولد المكاتب لأبيه] قال أبو جعفر: (وإذا ولد للمكاتب ولد من أمة ابتاعها: كان كسبه

لأبيه، وعتق أبيه). وذلك لأن حكم الولد أن يكون تابعا للأب، ما لم ينتقل بالأم، إذ كانت الأم في ملكه، كذلك ولد المكاتب من أمته، ينبغي أن يكون داخلا في كتابته، ويكون كسبه لأبيه، لدخوله في عقده على وجه التبع. وأيضا: فلو لم يدعه، لكان هو وكسبه له، فلا يبطل ملكه عن كسبه بدعوته؛ لأنه لا يملك إخراج ملكه إلى غيره بغير بدل، فوجب أن يستحق كسبه بعد الدعوة. وأيضا: لو ملك كسب نفسه، لصار بمنزلة من تناوله عقد الكتابة بنفسه، لا على وجه التبع، وهو لم يدخل فيها إلا تابعا، ألا ترى أنه لا حصة له من المكاتبة، ولو أعتقه المولى لم يسقط بعتقه من مال الكتابة شيء. مسألة: [يخلف ولد المكاتب أباه الميت في الكتابة] قال: (وإن مات المكاتب، ولم يترك مالا: خلفه ابنه هذا في المكاتبة، فيسعى على نجومها). وذلك لأنه داخل في كتابة الأب، فقام فيها مقامه، كأن الأب حي؛ لأن ذلك الحق بعينه قد سرى فيه، ألا ترى أن ولد أم الولد بمنزلتها بسريان حق الاستيلاد فيها، وكذلك ولد المدبرة بمنزلة أمه. فإن قيل: هلا كان كولد الجارية المشتراة، إذا ولدته بل القبض، ثم ماتت الأم: فيبقى الولد بالحصة.

قيل له: لأن الميتة لا يبقى لها حكم في العقد بعد موتها، وينتقض البيع فيها، فلا يجوز أن تبقى حصتها بعد انتقاض البيع فيها، وموت المكاتب لا يوجب فسخ الكتابة إذا كان الأداء ممكنا. ألا ترى أنه لو ترك مالا: لم تنفسخ الكتابة، وأديت منه كتابته، وبقي الولد الذي سرى فيه حق الكتابة بمنزلته لو مات وترك وفاء. وأيضا: فإن كسب الولد كسب للأب على ما بينا، ولم يحل المال الذي على المكاتب بموته؛ لأن الابن قائم مقامه في السعي فيها على النجوم، فصار كمن ترك وفاء. ومن أجل بقاء الكسب على حكم ملك الميت فقالوا: إنه لو كان على المكاتب دين: سعى فيه الابن؛ لأن كسبه لأبيه، فيقضي منه دينه. وليس موت المكاتب في هذا، كموت الحر إذا كان عليه دين مؤجل، فيحل عليه بموته؛ لأن حق الكتابة لما سرى في الولد، ثبت له حق التأجيل في مال الكتابة حسبما كان لأبيه، ولو لم يترك المكاتب ولدا مولودا في الكتابة، لحل المال عليه، وبطل التأجيل، كالحر إذا مات، وعليه دين مؤجل. فإن قال قائل: ما الفرق بين الولد المولود في الكتابة، وبين الولد المشترى عند أبي حنيفة، حين لم يجعل للولد المشترى أن يسعى فيها على النجوم، وقال: إن أداها حالة، وإلا: رد في الرق، وأوجب للولد المولود في الكتابة السعي فيها على النجوم؟ قيل له: الفرق بينهما: أن الولد المولود في الكتابة، ثبت حق الكتابة

له من طريق السراية، فصار بمنزلة الأب. والدليل على ذلك: أن الحر إذا استولد جارية له، ثبت للولد حق الحرية من جهة السراية، فكان حر الأصل بمنزلة الأب، كذلك ولد المكاتب من أمته، وأما الولد المشترى، فلم يثبت له هذا الحق من طريق السراية، ولا يصير فيه بمنزلة الأب. ألا ترى أن الحر إذا اشترى ابنه: لم تسر فيه الحرية التي هي له، ولا يصير حر الأصل كأبيه، بل تثبت له حرية موقعة يثبت بها للأب ولاؤه، فكذلك الولد المشترى في الكتابة. وأيضا: فإن الثمن الذي نقده بدلا عن الولد المشترى، لو كان باقيا بعد موته: استوفي منه كتابته حالة، ولا يسقط حق المولى بدخوله في كتابة الأب. فإن قيل قائل: فأنت لا تفرق بين أن يشتريه، أو يوهب له، وليس في الهبة بدل. قيل له: كذلك هو، وليس هو نقضا للعلة، وإنما هو إيجاب ذلك الحكم بعلة أخرى، وذلك غير ممتنع. مسألة: [ملك المكاتب لأصله أو فرعه أو ذا رحم محرم] قال أبو جعفر: (وإذا ملك المكاتب والده وإن علا، أو ولده وإن سفل: لم يكن له أن يبيعه، وكان له كسبه، ويعتق بعتقه من ملكه منهم). قال أحمد: وهذا استحسان من قول أبي حنيفة، وكان القياس عنده

أن له أن يبيعهم، وذلك لأن المكاتب عبد لا ملك له على الحقيقة. وجهة الاستحسان: أن كل واحد من أب أو ولد، قد يستحق العتق بعتق صاحبه، ألا ترى أن الولد قد يستحق الحرية بحرية الأم، وأن من استولد جارية: كان ولده حر الأصل، وبعتق الأم والأب أيضا يعتق الولد، ألا ترى أن رجلا وامرأته لو كانا مكاتبين كتابة واحدة، فولد لهما ولد في كتابتهما، ثم ماتا: سعى الولد فيما عليهما، وعتق بعتق أبواه. فلما كان كل واحد من هؤلاء، قد يعتق بعتق صاحبه، ثم اشتراهم، تعلق لهم الحق الذي قد ثبت للمكاتب، فلم يكن له بيعهم. * (وأما سائر ذوي الرحم المحرم: فإنه يبيعهم عند أبي حنيفة). لأن واحدا منهم لا يعتق بعتق صاحبه من جهة الكتابة، ولا يدخل فيها، وإنما يستحق بعضهم العتق على بعض بالملك، وليس للمكاتب ملك، فيعتقوا به، أو يتعلق لهم به حق. مسألة: [حكم بيع المكاتب أم ولده] وقال أبو حنيفة: له أن يبيع أم ولده إذا لم يكن معها ولد، فإذا كان معها ولد، لم يكن له أن يبيعها هذا إذا اشتراها. فإن كان استولدها في ملكه، ثم مات الولد: لم يكن له أن يبيعها، وذلك لأنها لما ولدت عنده، تعلق لها حق الاستيلاد، فلا يبطله موت الولد. وأما إذا اشتراها، فما دام الولد باقيا: فليس له أن يبيعها؛ لأنها يتعلق

لها حق في أن تعتق بعتق ولدها، ألا ترى أن المكاتب لو مات، فأدى الولد الكتابة: عتقت الأم أيضا، فما دام هذا الحق متعلقا لها، فليس له أن يبيعها، فإذا مات الولد، فقد عدمت العلة التي من أجلها منع البيع، ولم يكن ثبت لها حق الاستيلاد بالولادة، فيمنع من بيعها مع عدم الولد. * (وأما في قول أبي يوسف ومحمد: فليس للمكاتب أن يبيع أحدا من ذوي الرحم المحرم منه إذا ملكه). لأنهم يعتقون بعتقه، وكل هؤلاء يسعى في كتابته على النجوم إذا مات؛ لأنهم قد دخلوا في كتابته في حياته. *وإذا ملك أم ولده: لم يبعها عندهما، سواء كان معها ولد أو لم يكن. مسألة: [إذا مات المكاتب وفي ملكه أصل أو فرع أو ذو رحم محرم] قال أبو جعفر: (فإن مات المكاتب، ولم يترك وفاء، فإن أبا حنيفة قال: يباع هؤلاء كلهم، وسواء بين الوالدين وغيرهما، إلا في ولده، فإنه يقال له: إن أديت الكتابة حالة، وإلا رددت في الرق). وذلك لأن الولد قد ثبت له حق السعي في الكتابة إذا ولد له في كتابته، وليست هذه المزية لأحد غير الولد، فاستحسن أن يجعل لولد الميت أن يؤدي الكتابة بعد الموت، فيعتق الميت بعتقه.

مسألة: [شراء المكاتب لزوجته] قال أبو جعفر: (وإذا اشترى المكاتب زوجته: لم ينفسخ بذلك نكاحه). وذلك لأن المكاتب ليست له حقيقة الملك، وإنما له حق الملك، وحق الملك لا يمنع بقاء النكاح، ويمنع الابتداء، وقد بينا ذلك في مواضع. مسألة: قال أو جعفر: (وإذا اشترى المكاتب أمة، فوطئها، ثم استحقت: فعليه عقرها في الكتابة). لأن الوطء في الملك بمنزلة إتلاف جزء منها، ألا ترى أنه يمنع الرد بالعيب. ولو وطئها على وجه النكاح: كان عليه العقر إذا عتق؛ لأنه غير مأذون له في النكاح، والبضع لا قيمة له إلا من جهة العقد، وهو محجور عليه فيه، فصار كالعبد المحجور عليه إذا وطئ على وجه النكاح، فلا يلزمه العقر في الرق. ولأنه لو لزمه بقوله وهو غير مأذون له في هذا القول، والموطوءة على وجه الشراء: لزم العقر فيه بالشراء عند الوطء وهو مأذون له فيه.

* (والعبد المأذون في ذلك: كالمكاتب؛ للعلة التي وصفنا). مسألة: [مكاتبة الأمة على نفسها وعلى ولدها] قال أبو جعفر: (ومن كاتب أمته على نفسها، وعلى ابنين لها صغيرين: جاز، فإن كبرا، فأديا، أو أدت الأم: لم يرجع من أداها منهم على بقيتهم منها بشيء). وذلك بمنزلة من كاتب على نفسه، وعلى عبد غائب، فيلزم الحاضر، ولا يرجع بها على الغائب. وكذلك لو أدى الغائب: لم يرجع بها على الحاضر. كذلك الأولاد مع الأم. فإن قيل: قد قالوا: إنها لو ماتت: سعى الولد على النجوم، وقالوا: في الغائب: إذا مات الحاضر: إن أديته حالا، وإلا: رددت في الرق. قيل له: افتراقهما من هذا الوجه، لا يمنع اتفاقهما من الوجه الذي ذكرنا، وإنما افترق من هذا الوجه، من جهة أن الصغير قد دخل في كتابتها على وجه التبع، كالولد المولود في الكتابة، والغائب لا يدخل فيها على وجه التبع. فإن قيل: إنما جاز أن ينعقد على الغائب بقبول الحاضر؛ لأنه له مجيز، وفي الصغير لا مجيز له. قيل له: ليس يحتاج إلى مجيز، ألا ترى أنها قد صحت بغير إجازة

الغائب، فهذا فصل ساقط. وأيضا: فلما جاز دخولهما في كتابتها لو ولدتهما فيها، كذلك، شرطت إلحاقهما بكتابتها: جاز؛ لأنهما صغيران لا قول لهما. مسألة: [مكاتبة النصراني على الخمر، ثم إسلام أحدهما] قال أبو جعفر: (ومكاتبة النصراني على أرطال من خمر مسماة جائزة، فإن أسلم أحدهما قبل أداء المكاتبة: بطلت الخمر، ولم تبطل المكاتبة، وعليه قيمة الخمر لمولاه، يؤديها على النجوم). وإنما جازت مكاتبتهم على الخمر، كما يجوز تصرفهم في الخمر بالبيع ونحوه، وإنما لم تبطل بإسلام أحدهما، كما لا تبطل تسمية الخمر بإسلام أحد الزوجين. وتجب القيمة في قول أبي حنيفة، ألا ترى أنها تصح على أبدال مجهولة، نحو عبد بغير عينه، فيكون له عبد وسط، وليست الكتابة في هذا كالبيع؛ لأنه لا يصح على المجاهيل والأخطار. وأيضا: نفس الكتابة معقودة على خطر؛ لأن فيها: إن أديت عتقت، وإن عجزت رددت في الرق، فجاز بقاؤها على قيمة الخمر، ولم تبطل بالإسلام. فإن قيل: شرط العتق أداء الخمر، فلا يجوز أن يعتق بأداء القيمة.

قيل له: ليست مثل شروط الأيمان، بدلالة أن المولى لو مات، فأدى: عتق، وفي اليمين لا يعتق بوجود شرطها بد الموت. فإن قيل: لا يصح ابتداء الكتابة على الخمر، فينبغي أن لا تبقى على الخمر. قيل له: ولا يصح الكتابة على ميت، فينبغي أن لا تبقي على ميت. وأيضا: قد يجوز أن يبقى عقد السلم على قيمة الرطب بانقطاعه بعد حلول الأجل، لتعذر تسليمه، فكذلك تعذر تسليم الخمر، ينقله إلى القيمة. مسألة: [مكاتبة المريض عبده على ثمن يخالف قيمته] قال أبو جعفر: (وإذا كاتب المريض عبده على ثلاثة آلاف إلى سنة، وقيمة العبد ألف درهم، ثم مات المولى، فإنه يقال له: إن أديت ثلثي الكتابة حالا، وإلا: رددت في الرق، وقال محمد: يقال له: أد ثلثي القيمة حالا، وإلا: رددت في الرق). لأبي حنيفة: أن جميع مال الكتابة قد صار بدلا من العبد، والتأجيل فيه وصية، فلا يجوز إلا من الثلث، ولم يعتبر القيمة؛ لأن ما فضل عنها

أيضا، فهو بدل من رقبة المكاتب، فلا فرق بينه وبين مقدار القيمة. وقال محمد: ما زاد على القيمة، فإنما صار مالا له بالعقد، فصار كالجعل في الخلع، والمهر، والصلح من دم العمد، فيجوز التأجيل في جميعه. وفرق أبو حنيفة بينهما من جهة أن البضع، ودم العمد ليس بمال، فحصل الجعل والمهر بدلا عما ليس بمال، فجاز التأجيل فيه. وأما مال الكتابة فجميعه بدل عن رقبة العبد، وهي مال، ولا جائز أن يقال: إن بعضه بدل عنها، وبعضه ليس ببدل عنها، واعتبر جميعه من مال المريض. مسألة: [حكم وصية المكاتب قبل عتقه] قال أبو جعفر: (ولا تجوز وصية المكاتب في ماله وإن خلف وفاء). قال أحمد: قال محمد في كتاب المكاتب: إذا قال المكاتب: ثلث مالي لفلان وصية، ثم مات عن وفاء: أن الوصية باطلة، ولم يذكر خلافا. وإذا أدى، فعتق: لم تجز وصيته في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: تجوز. وقال في الزيادات في المسألتين جميعا: الوصية باطلة في قياس قول أبي حنيفة، وجائزة في قول أبي يوسف ومحمد في المسألتين جميعا. *وهذا على اختلافهم في العبد أو المكاتب يقول: كل عبد أملكه

فيما أستقبل: فهو حر، فهذا عند أبي حنيفة على ملكه في حال الرق، ولا يدخل فيه ما يستفيده بعد العتق. وقال أبو يوسف ومحمد: يدخل فيه. *ولا خلاف بينهم أنه لو قال: إذا أعتقت، فقد أوصيت لفلان بثلث مالي، فأدى، فعتق: أن وصيته تصح. ولو مات عن وفاء: لم تصح وصيته؛ لأنه عتق حال لا يصح منه ابتداء الوصية، كمكاتب قال: إذا أعتقت، فعبدي هذا حر، ثم مات عن وفاء، فأديت كتابته بعد موته: أنه لا يعتق؛ لأن تلك حال لا يصح فيها عتق. *ولو أوصى بشيء بعينه من ماله، ثم أدى، فعتق: لم تجز وصيته في قولهم؛ لأنه بمنزلة من أوصى بمال غيره، ثم ملكه: فلا تنفذ وصيته. مسألة: [حكم وصية المكاتب على ابنه الصغير] قال أبو جعفر: (ولا تجوز وصيته على ابنه الصغير، إلا أن يعتق قبل وفاته، فإن لم يعتق قبل وفاته: لم تكن وصية، بمنزلة وصية الحر). قال أحمد: إذا عتق قبل وفاته، فقد ملك التصرف على ابنه، والوصية تستند إلى حال الموت، فقام الوصي فيها مقامه، وأما إذا أديت كتابته بعد موته، فهو لم يستفد بهذا العتق تصرفا على ولده؛ لأنه عتق قبل الموت، فلا فصل، وتلك الحال لا يصح فيها تصرف، فوصيته على ابنه الصغير، بمنزلة وصي الأب على الكبير الغائب، وبمنزلة وصي الأم،

ووصي الأخ، يكون في الحفظ خاصة، لا في التصرف. مسألة: [مكاتبة العبد بشرط الخيار، وحقه في الشفعة] قال: (ويجوز الخيار في الكتابة، كما يجوز في البياعات). لأنها مما يلحقها الفسخ، والخيار مشروط للفسخ. *قال: (والمكاتب في الشفعة بمنزلة الحر). لأنه يملك الشراء والبيع. مسألة: [ما يلزم المكاتب الذي أعتقه مولاه في مرض موته] قال: (ومن أعتق مكاتبه وهو مريض، ثم مات ولا مال له غير ما كان بقي عليه من مكاتبته: فعليه أن يسعى لورثة مولاه في الأقل من ثلثي ما بقي عليه من المكاتبة، ومن ثلثي قيمته). وذلك لأن عتقه براءة من السعاية، ولا يجوز براءته منها إلا من الثلث، ولو عجز عن الكتابة: كان عليه ثلثا قيمته، فلذلك لزمه الأقل. مسألة: [من أعتق مكاتبا بينه وبين آخر] قال أبو جعفر: (من أعتق مكاتبا بينه وبين آخر: فلا ضمان عليه في قول أبي حنيفة، موسرا كان أو معسرا). لأن نصيب الآخر باق في ملكه مكاتبا على ما كان عليه، إلا أن يعجز، فيكون كعبد بين رجلين أعتقه أحدهما؛ لأنه لولا عتقه، أمكنه

التصرف بعد العجز في نصيبه، فمنعه منه بعتقه. * (وقال أبو يوسف: قد بطلت الكتابة بالعتق، وصار كعبد بين رجلين غير مكاتب، أعتقه أحدهما). لأن من أصله: أن العتق لا يتبعض، فيعتق جميعه على المعتق، وبطلت الكتابة، فصار كعبد بين رجلين أعتقه أحدهما. * (وقال محمد: إن كان المعتق موسرا: ضمن لشريكه الأقل من قيمة نصيبه من العبد، ومما بقي له عليه من الكتابة، وإن كان معسرا: سعى المكاتب في ذلك. والولاء للمعتق في الوجهين جميعا). قال أحمد: وذلك لأن من أصله: أن العبد كله قد عتق عليه، وانتقل نصيب شريكه إليها، إلا أن الشريك لم يكن له في رقبة العبد إلا ما بقي من كتابته، فلا يجوز أن يضمنه نصف القيمة إذا كان أكثر من بقية نصيبه من الكتابة، وإن كان نصف القيمة أقل: لم يضمن أكثر منه، كما لو قتله: لم يضمن أكثر من نصف قيمته. * * * * *

كتاب الولاء

كتاب الولاء مسألة: [الأحق بالولاء] قال أبو جعفر: (الولاء لمن أعتق، وسواء في ذلك الرجال والنساء، وسواء فيه من عتق من مولاه، أو بعتاق عنه بأمره في حياته أو بعد وفاته، أو بأداء مكاتبه إليه، أو بتدبير في حياته). قال أحمد: الأصل في ذلك: ما روي أن عائشة رضي الله عنها أرادت أن تشتري بريرة، وتعتقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اشتريها،

وأعتقيها، فإن الولاء لمن أعتق"، فأفاد ذلك معاني ثلاثة: أحدهما: ثبات الولاء للمعتق. والثاني: إثبات الولاء للنساء، وأنهن بمنزلة الرجال في ذك؛ لأن الكلام خرج على تلك الحال، فلا محالة هي داخلة فيها، وإن كان قد يكتفى بعمومه في إثباته للفريقين، إذا وجد منهم العتق. والثالث: أن شرط الولاء لغير المعتق: لا يمنع كونه للمعتق؛ لأن عائشة شرطت لهم الولاء، ثم أعتقتها، فأبطل النبي عليه الصلاة والسلام الشرط، وجعل الولاء لها. وألفاظ هذا الحديث مضطربة، والذي يشبه أن يكون هو الصحيح: أن عائشة اشتريتها، واشترطت لهم الولاء، وأعتقتها، ثم سألت النبي عليه الصلاة والسلام فقال: الولاء لمن أعتق. وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مواليها قد أبوا أن يبيعوها إلا أن يكون الولاء لهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اشتريها، وأعتقيها، واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق، ثم خطب فقال: ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، شرط الله أحق وأوثق". وهذا غلط فاحش من راويه؛ لأنه لا يجوز أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام لها: اشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق.

وهذا عنده شرط فاسد لا يجب الوفاء به؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا يأمر بما لا يجوز، ولا يصح. ومن جهة أخرى: أنه تغرير للقوم في شرط الولاء لهم، حتى يدخلوا على ذلك معها في العقد، ثم لا يثبت ذلك لهم. ووجه آخر: وهو أن شرط الولاء لهم إذا لم يكن له حقيقة على ما شرطت: فهو كذب، فكأنه قال: قولي لهم: إن الولاء لكم، وليس الولاء لهم في الحقيقة، وحاشا النبي عليه الصلاة والسلام أن يجوز عليه شيء من هذه الوجوه التي ذكرنا. ويدل على فساد الحديث الذي ذكر فيه هذا اللفظ: أن فيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام بعد هذا القول صعد المنبر، فقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط". فأنكره أشد النكير، وأخبر ببطلانه، فكيف يجوز أن يأمر به غيره؟ وهذا اللفظ إنما تفرد به هشام بن عروة، ولم يتابعه عليه فيما نعلمه غيره، وقد رواه جماعة غيره، ولم يذكروا فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام

والسلام قال: "اشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق". وكان هشام بن عروة خولط في عقله في آخر عمره، فيشبه أن يكون الغلط دخل عليه من هذا الوجه. *وقوله: "الولاء لمن أعتق": ينفي كون الولاء لغير المعتق، لا من جهة أن المخصوص بالذكر يدل على ما عداه، فحكمه بخلافه، لكن من جهة أن الولاء إذا أدخل عليه الألف واللام: صار اسما للجنس، فيتناول جميع ما يقع عليه، فلا شيء من الولاء إلا واللفظ مشتمل عليه، وقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام جميعه للمعتق، فلم يبق لغير المعتق، ولا يستحقه من غير هذه الجهة. *ولا فرق بين أن يأمر غيره بعتقه، أو يعتقه هو؛ لأن المأمور بالعتق سفير قائم مقام الآمر فيه، ألا ترى أنه لا يتعلق به شيء من أحكام العتق، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "لا عتق فيما لا يملك ابن آدم".

فثبت أن المعتق الذي صادف العتق ملكه، والمأمور لم يكن له ملك، فيعتق من جهته. *ولا فرق بين العتق بالكتابة أو التدبير أو الوصية؛ لأن كل ذلك إنما صح من جهة المالك، أو بإيقاعه. مسألة: [ولاء السائبة لمن أعتق] قال أبو جعفر: (ومن أعتق مملوكا سائبة: كان ولاؤه له أيضا، كأنه أعتقه غير سائبة). وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "إنما الولاء لمن أعتق". وقد ذكر أن عائشة كانت شرطت ولاء لمواليها، فأبطل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، وجعله للمعتق، فكذلك إذا شرط سائبة. والسائبة: أن يعتقه على أن لا ولاء له، وأن ولاؤه لجماعة المسلمين. مسألة: [ولاء العبد المعتق بأمر آمر] قال أبو جعفر: (ومن قال لرجل: أعتق عبدك عني على ألف درهم، فأعتقه: كان ولاؤه للآمر).

وذلك لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الحسن بن المثنى بن معاذ قال: حدثنا عفان قال: حدثنا همام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الولاء لمن أعطى الثمن". ورواه محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام مثله. وعموم هذا الخبر يقتضي كون الولاء للآمر؛ لأنه أعطى الثمن. وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا الحسن بن العباس الرازي قال: حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا أبي عن سفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولاء لمن أعطي الورق، وولي النعمة". وأيضا فإن قوله: أعتقه عني ألف درهم: يتضمن معنى التمليك؛ لأن العتق لا يقع عنه إلا وهو مالك، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "لا عتق إلا فيما يملك ابن آدم". فصار كأنه قال: بعنيه بألف درهم، وأعتقه عني، فكان تحت اللفظ

معنيان: الشراء، والأمر بالعتق، ولو صرح بذلك: جاز البيع والعتق جميعا، كذلك إذا أطلق لفظا يتضمنهما. فإن قيل: فكيف يجوز أن يقع الملك والعتق جميعا معا بلفظة واحدة، ومعلوم أن العتق لا ينفذ إلا في ملك قد ثبت قبله، فأما ورود العتق والملك معا في شخص واحد فمحال؟ قيل له: إن الملك إنما يقع من جهة الحكم، لا حقيقة، وقد قالوا في رجل قال لرجل: قد بعتك عبدي هذا بألف درهم، قال: فهو حر: أن البيع يتم، ويقع العتق. والأصل في نظائر ذلك من المسائل: أن رجلا لو أمر رجلا بقضاء دين عليه، فقضاه: كان قبض الطالب متضمنا لمعنيين: أحدهما: حصول ملك المقبوض قرضا على الآمر، ويحصل له بذلك حكم الملك، لاستحالة أن يثبت عليه حكم القرض، دون حصول الملك له. والمعنى الثاني: اقتضاء القابض له عما له في ذمة الغريم، ويستحيل مع ذلك ورود الملكين عليه في حال واحدة. وعلى هذا قالوا فيمن تزوج امرأة على عبد زيد، فأجازه: أن العبد يخرج من ملك المجيز إلى ملك المرأة، من غير أن يحصل فيما بينهما ملك للزوج في الحقيقة، إلا أنه مع ذلك لابد من أن يحصل للزوج فيه حكم الملك؛ لأنه يلزمه به ضمان القيمة، وإذا ضمن البدل، حصل له حكم ملك الأصل.

ومن نظائره: رجل أوصى لرجل بعبد، ومات، والموصى له غائب، فمات قبل أن يقبل أن يقبل الوصية: أن العبد يصير لورثته، ويحصل بموته للموصى له حكم الملك، ويملكه الورثة أيضا من جهته. ونظائر هذه المسألة كثيرة، وفيما ذكرنا تنبيه عليها. وقالوا: لو قال لرجل: أعتق عبدك عني: ولم يذكر مالا، فأعتقه: كان العتق عن المعتق دون الآمر، وهذا صحيح على ما قدمنا؛ لأنه بمنزلة من قال رجل: هب لي عبدك، وأعتقه عني: فلا يصح العتق عنه؛ لأن عقد الهبة لا يوجب الملك إلا بالقبض، ولا يصح أن يكون الواهب هو القابض، فوقع العتق في ملكه، دون ملك الآمر. *وقد يشكل على هذا، قولهم فيمن قال لرجل: أعتق عبدك عني على مائة رطل خمرا: فأعتقه: أن الولاء للآمر، وعليه القيمة. وهذا في معنى عقد فاسد، والعقد الفاسد لا يقع الملك فيه إلا بالقبض، كالهبة لا توجب الملك إلا بالقبض، فكان يجب على ما قدمنا من الأصل: أن لا يقع العتق عن الآمر، كما قالوا في الهبة، وهذا هكذا إذا كان البيع فاسدا، لا عتق فيه. فأما إذا كان العقد مشروطا فيه العتق، فإن فساد الشرط لا يبطله، ولا يكون بمنزلة من اشترى عبدا شراء فاسدا، وأمر البائع بعتقه، فأعتقه: أن العتق واقع عن البائع، دون المشتري. وذلك لأن مسألتنا عقد على عتق مشروط فيه حكم الملك، وليس بمحض الشراء في الحقيقة، وإنما استشهدنا بمسألة الشراء عليها على جهة التقريب، وليس هو شراء في الحقيقة. ألا ترى أنه لو قال في جوابه: قد بعتك بألف درهم: لم يقع بينهما

بيع، ولو قال له: قد اشتريت عبدك: بألف درهم، فأعتقه عني، فقال: قد بعتك: وقع الشراء وإن لم يعتقه. فثبت أن قوله: أعتق عبدك عني على ألف درهم: ليس بعقد شراء في الحقيقة، وإنما هو على عقد عتق مشروط فيه المال، فلا يبطله فساد البدل، كما لا يبطل عقد الخلع، والعتق على مال، ونحوهما من العقود بفساد أبدالها. مسألة: [ولاء العتق عن كفارة ظهار] قال أبو جعفر: (وإذا أعتق عبده عن ظهار، أو كفارة: فولاؤه لا). بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "الولاء لمن أعتق". مسألة: قال: (ومن أعتق عبده عن غيره: كان حرا عن نفسه، وله ولاؤه، أجاز ذلك الذي اعتقه عنه، أو لم يجزه). وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "الولاء لمن أعتق". وقوله: عن فلان: لغو: لأنه لا سبيل له إلى نقل الولاء عن نفسه إذا وقع العتق في ملكه، ولا يعتبر فيه إجازة المعتق عنه؛ لأن الإجازة إنما تعمل في الأمور الموقوفة، فأما ما قد صح وثبت، فلا اعتبار فيه بالإجازة.

مسألة: [الولاء لمن أعتق إلا أنه لا توارث إذا اختلف دينا] قال: (والكافر والمسلم في العتق سواء). وذلك لما قدمنا في المسلم من قوله عليه الصلاة والسلام: "الولاء لمن أعتق"، إلا أن المسلم لا يرث الكافر بالولاء، ولا الكافر المسلم، كما لا يتوارثان بالنسب. وقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام الولاء بمنزلة النسب، بقوله: "الولاء لحمة كلحمة النسب". مسألة: [للمرأة ولاء من أعتقته، أو أعتق من أعتقته] قال: (وليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن). وإنما كان لهن ولاء من اعتقن، لقوله عليه الصلاة والسلام: "الولاء لمن أعتق". ولما روي "أن بنت حمزة أعتقت عبدا لها، فمات، وترك ابنته، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام نصف ميراثه لبنته والنصف الباقي لبنت حمزة". وإنما كان لها ولاء من أعتقها معتقها، من قبل أن عتق الثاني تعلقت صحته بعتقها للأول، فكان لها ولاء الثاني إذا مات الأول.

وليس لها ولاء من غير هذين الوجهين؛ لأن الولاء تعصيب، وليست المرأة من أهل التعصيب, مسألة: قال أبو جعفر: (ومن تزوج من العبيد- بإذن مولا- مولاة لقوم، فولدت منه ولدا: كان ولاؤه لموالي أمه). وذلك لأنه ولد مولاتهم. وروي نحوه عن عمر، وعبد الله، وجماعة من الصحابة. وأيضا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة النسب"، أفاد بذلك لحاق ولائه بموالي أمه، كما أن له نسبا من ذوي أنساب أمه. *قال أبو جعفر: (فإن أعتق أبوه بعد ذلك: جر ولاؤه). وذلك لأن الولاء ضرب من التعصيب، والتعصيب من قبل الأب أولى منه من قبل الأم، فإذا أجتمع ولاء من قبل الأم، ومن قبل الأب: كان الذي من قبل الأب أولى. فإن قيل: لما كان الولاء لحمة كالنسب، وقد ثبت كونه من موالى الأم، وجب أن لا ينفسخ بعتق الأب.

قيل له: لم نقل: إنه انفسخ، وإنما حدث ولاء هو أولى منه، كما أن الأخ من أهل الميراث بالنسب الذي بينه وبين الميت، فإن حدث له أبن، كان أولى من الأخ، ولم ينفسخ نسب الأخ. وقد روي ذلك عن جماعة من السلف، منهم عمر، وعلى، وعبد الله، وزيد أبن ثابت، والزبير في آخرين منهم. مسألة: [اقتصار جر الولاء على الأب] قال أبو جعفر: (ولا يجر الولاء الجد). قال أحمد: معناه أن عبدا لو تزوج مولاة لقوم، فولدت منه، وله أب عبد، فأعتق أبوه، وهو جد الصبي: أن موالي الجد لا يلحق بهم ولاء هذا الولد، وذلك لان الولاء كالنسب. لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "الولاء لحمة كلحمة النسب". ومعلوم أن نسبا لم يثبت للابن، لا يجوز ثبوته للأب، فكذلك الولاء لما لم يثبت من جهة أبي الولد، لم يجز ثبوته لجده. وأيضا: لما كان الولاء تابعا للعتق، ومعلوم أن الولاء لا يستحق الحرية بحرية الجد، ويستحقها بحرية الأب، ما لم ينتقل بالأم إلى الرق،

وجب أن لا يلحق بالجد في حكم الولاء، كما لا يلحق به في حكم الحرية. مسألة: [أعتق أمة وتزوجها مسلم ليس بعربي ولا مولى عتاقة لعربي] قال أبو جعفر: (وإذا أعتق الرجل أمة، فتزوجها رجل مسلم ليس بعربي، ولا مولى عتاقة لعربي، فولدت منه ولدا، فإن أبى حنيفة كان يقول: ولاؤه لموالي أمه؛ لأن أبا لا نسب له، ولا ولاء عليه. وقال أبو يوسف ومحمد: حكمه في هذا حكم أبيه، ولا ولاء عليه في هذا لموالي أمه). قال أحمد: محمد مع أبي حنيفة في كتب الأصول، وأبو يوسف وحده في هذه المسألة، وعسى أن يكون ما ذكره أبو جعفر رواية وقعت إليه عن محمد خلاف ما عندنا. وإنما شرط أن لا يكون الأب عربيا، ولا مولى عربي عتاقة؛ لأن الأب إذا كان من العرب، فلا خلاف بينهم أن عقله على قوم أبيه؛ لأنهم عاقلته، وكذلك إذا كان مولى عربي؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "مولى القوم من أنفسهم". فهذا موضع لا خلاف بينهم فيه. وإنما الخلاف إذا كان الأب لا عاقلة له: فقال أبو حنيفة: هو ولى لموالي أمه، كما أن أباه لو كان عبدا: كان ولاؤه لموالي أمه؛ لأن العبد لا

عاقلة له، كذلك الأب إذا لم تكن له عاقلة: فولاء الولد لموالي أمه. وقال أبو يوسف: إذا كان الأب حرا: لم يكن مولى لموالى أمه، كما لا يكون مولاهم إذا كان الأب عربيا، أو مولى عربي. مسألة: [ولاء ولد أمة تزوجت بعبد ثم أعتقها مولاها وهي حامل] قال أبو جعفر: (ولو أن عبدا تزوج أمة لقوم، فحملت منه، ثم أعتقها مولاها وهي حامل: كان له ولاؤها وولاء ولدها، ولم يتحول ذلك الولد إلى موالي أبيه وأن عتق أبوه). قال أحمد: وذلك لأن العتق صادفه بنفسه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "الولاء لمن أعتق". وليس هذا بمنزلة الحمل الحادث بعد عتقها، فيكون ولاء الولد لموالي أمه. ثم إذا أعتق الأب جر الولاء، من قبل أن هذا الولد ها هنا لم صادفه العتق؛ لأنها حملت به وهي حرة، فأستحق موالي الأم ولاؤه بالتعصيب، فإذا حدث له ولاء من جهة الأب كان أولى؛ لأن التعصيب من جهة الأب أولى. *قال أبو جعفر: (المدة التي يعلم بها أنها كانت حاملا بالولد يوم العتق: أن تأتي به بعد عتقها لأقل من ستة أشهر).

وذلك لأن مدة الحمل لا تكون أقل من سنة أشهر، وقد تكون ستة أشهر، قال الله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا}، ثم قال: {وفصاله في عامين}، فجعل الحمل ستة أشهر. *قال أبو جعفر: (إلا أن تكون في عدة من طلاق بائن، أو من موت زوجها، فيكون ما جاءت به لأقل من سنتين محكوما بوقوع العتق عليها، وهي حامل). قال أحمد: الأصل في ذلك: أن الولاء متى كان مباحا، فكل ولد تأتي به، فهو لأدنى وطء إلى الحمل، وإذا حرم الوطء، ووجبت العدة، فكل ولد تأتي به لأقل من سنتين، فهو محكوم بوجوده قبل تحريم الوطء. ألا ترى أنا نلحقه به، ولا نحكم بأنه وطئها بعد تحريم الوطء؛ لأن أمور المسلمين محمولة على الصحة والجواز، ولا يجوز حملها على الفساد والبطلان ما وجد لها مساغ في الصحة. ولهذا المعني قاله فيمن أوصى بثلث ماله لما في بطن فلانة، وهي تحت زوج: أنها إن جاءت به لأقل من ستة أشتهر: صحت له الوصية، وإن كان لأكثر: لم تصح. ولو كانت مطلقة معتدة، فكل ولد تأتي به لأقل من سنتين فله الوصية.

مسألة: [ولاء المعاقدة] قال أبو جعفر: (وجائز لمن لا ولاء عليه لأحد أن يوالي من شاء من الأحرار). وذلك لعموم قول الله تعالى: {والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم}. فكان هذا حكما ثابتا في استحقاق الميراث بولاء المعاقدة، وهو عندنا ثابت، إلا أن يجيء من النسب، أو من الولاء ما هو أولى بالميراث والعقل منه. وقد روي "أن تميما الداري سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الرجل يسلم علي يدي الرجل، فقال: هو أولى الناس بمحياه ومماته". وقد رأيت في بعض المواضع: "أنه سأله عن رجل أسلم على يدي رجل ووالاه"، إلا أني أنهيت حكايته؛ لأني لم أجده فيما سمعته.

وعلى أنه لا خلاف بين الفقهاء أن إسلامه على يده: لا يوجب إثبات الولاء؛ لأنه لو كان كذلك، لوجب أن يكون كل من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى الإسلام، فأسلم: مولى للنبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك من دعاه أبو بكر، وعمر، وما فتحاه من البلاد فأسلم أهلها، فدل ذلك على أن عقد الموالاة مشروط في حديث تميم الداري، فمن أجله كان أولى الناس بمحياه ومماته. وأيضا: فإن من أصلنا: أن من لا وارث له، جازت وصيته بجميع ماله، وقال الموصى له فيه مقام الوارث، ومعاقدة الولاء تتضمن ذلك، فينبغي أن يصح له ذلك بالعقد، كما يصح بعقد الوصية، ومن أجل ذلك أحتاج أن يشرط في عقد الولاء: أنه يرثه، وإذا ثبت حكم الميراث من هذا الوجه، ثبت حكم العقل. فإن قيل: كيف يجوز له معاقدة على عاقلته في إلزامه إياهم جنايته بقوله؟ قيل له: كما أجاز أن يلزمهم جنايته بعتقه لو أعتقه وهو عبد. مسألة: [التحول بولاء المعاقدة] قال أبو جعفر: (وله أن يتحول بولائه إلى غيره ما لم يعقل عنه). قال أحمد: وذلك لأنه حق أوجبه له بقوله، متبرعا لم يعتض عنه عوضا، فهو بمنزلة الوصية، له أن يرجع فيه قبل موته، وبمنزلة الهبة له الرجوع فيها ما لم يقبض عنها. وإنما لم يكن له أن يتحول بولائه بعد العقل؛ لأنه قد اعتاض عنه، وهو العقل الذي غرموه عنه، فليس له أن يرجع فيما أوجبه له من الولاء، كما أن الهبة إذا اعتاض عنها الواهب: لم يصح له الرجوع فيها.

وأيضا: فقد تعلق بذلك الولاء حكم لا يمكنه فسخه، وهو ما أدوه من العقل، فإذا حكم الولاء ثابت بحيث لا يلحقه الفسخ. مسألة: [دخول الأولاد الصغار ضمن ولاء أبيهم] قال أبو جعفر: (ومن والى رجلا وله أولاد صغار، فإنهم يكونون بذلك موالي للذي والاه أبوهم). قال أحمد: ولا يكون ولده الكبر موالي للذي والاه الأب، وذلك لأن قوله جائز على الصغار، ولا يجوز على الكبار، ألا ترى أنه يستحق التصرف عليهم بنفسه، ولا يستحقه على الكبار. مسألة: [تقديم عصبة النسب في الميراث على عصبة العتاقة] قال أبو جعفر: (وعصبة الميت من زوي أنسابه أولى بالميراث من مولى العتاقة)، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم. [مسألة:] قال: (ومولى العتاقة عصبة إذا لم يكن له عصبة من النسب، يستحق فضل الميراث، كما يستحقه سائر العصبات من ذوي الأنساب). وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام "أعطى بنت حمزة نصف ميراث مولاها الذي أعتقته".

وإعطاء البنت النصف، يدل على أنه أقامها مقام العصبات من ذوي الأنساب. [مسألة:] قال: (ومولى العتاقة أحق بالميراث من ذوي الأرحام). وذلك لأنه عصبة، والعصبة أولى بالميراث من ذوي الأرحام. [مسألة:] قال: (وذووا الأرحام أحق بالميراث من مولى الموالاة). وذلك لقوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض}. ولأن ما يأخذه مولى المولاة يشبه الوصية من الوجه الذي بينا، وهو أنه لا يستحقه إلا بالمعاقدة على ذكر التوريث، وفارق مولى العتاقة؛ لأنه لا يحتاج في ذكر استحقاقه إلى ذكر التوريث. مسألة: [الأحق بميراث من مات وترك أبن مولاه وأبا مولاه] قال: (ومن ترك ابن مولاه، وأبا مولا، فإن أبا حنيفة ومحمدا قالا: ميراثه لابن مولاه دون الأب، وقال أبو يوسف: هو بينهما: لأبي المولى

السدس، وما بقي فللابن). وجه قولهما: أن الميراث إنما يستحق بالتعصيب في هذا الوجه، وأقرب العصبة الابن، ولا تعصيب للأب مع الابن؛ لأن معه ذو سهم، ألا ترى أنه يستحق السدس بالتسمية، وما بقي فللابن بالتعصيب. ولأبي يوسف: أن التسمية لا تخرجه من حكم التعصيب، إذ قد يجوز أن يجمع له الأمران، ألا ترى أن رجلا لو مات، وترك بنتا وأبوين: أن للبنت النصف، وللأبوين السدسين، وما بقي فللأب؛ لقوله تعالى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد}. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر". فاستحق الأب في هذه المسألة بالتسمية والتعصيب معا، وإذا كان كذلك لم تخرجه التسمية مع الابن من حكم التعصيب، فوجب أن يستحقا الميراث على ذلك. مسألة: قال أبو جعفر: (ومن ترك جد مولاه أبا أبيه، وأخا مولاه لأبيه وأمه، أو لأبيه، فإن أبا حنيفة كان يقول: ميراثه لجد مولاه، دون أخي مولاه).

وذلك لأن من أصله: أن الأخ لا حظ له في الميراث مع الجد، وهو عنده بمنزلة الأب. * (وقال أبو يوسف ومحمد: ميراثه بينهما نصفان). لأن من أصلهما: أنهما يستحقان ميراثه بالتعصيب نصفين، والجد في هذا الموضع بمنزلة أخ أخر معه. مسألة: [الولاء الكبير] قال أبو جعفر: (والولاء الكبير، وتفسيره: أن يترك المتوفى ابن مولاه، وابن ابن مولاه: فيكون ميراثه لابن مولاه، دون ابن ابنه). قال أحمد: وأبين من هذا: أن يموت المعتق، ويترك ابن: فيكون ولاء العبد المعتق بينهما نصفين. فإذا مات أحد الابنين، وترك أبنا: لم يستحق ابنه ما كان لأبيه من الولاء، وصار الولاء كله لابن المعتق الباقي. وروي أن الولاء للكبر عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبي مسعود الأنصاري، وأسامة بن زيد رضي الله عنهم.

وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبد الله بن عبد ربه أبو محمد البغلاني قال: حدثنا محمد بن آدم قال: حدثنا الفضل بن موسى قال: حدثنا أبو عصمة نوح بن أبي مريم عن أبي بكر أسمه جبريل عند عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الولاء للكبر". وأيضا: فإن الولاء لا يستحق باستحقاق الميراث، بدلالة أن البنت من أهل ميراث المعتق، ولا تستحق الولاء، ويستحقه الابن، فلما سقط اعتبار الميراث فيه، وجب أن يستحق بقرب التعصيب من المولى المعتق، وابنه أقرب إليه من ابن ابنه، فكان أولى بالولاء. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حسين بن إسحاق قال: حدثنا ابن مصفى قال: حدثنا ابن أبي فديك عن عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولاء نسب لا يصلح بيعه ولا هبته". وفي سائر الأخبار: "الولاء لحمة كلحمة النسب، لا تباع ولا توهب". فلما جعله النبي عليه الصلاة والسلام كالنسب، دل على انه لا

يورث، كما لا يورث النسب. مسألة: [ميراث من أعتقته امرأة ثم ماتت، ولها ولد من غير قوها] قال أبو جعفر: (وما أعتقته المرأة من مملوك، ثم ماتت ولها ودل من غير قومها: كان ميراث مولاها إن مات لودها إن كان ذكرا، وكان عقل جنايات مولاها على قومها، لا على ولدها). وإنما كان العقل على قومها، لأنه منسوب إليهم بالولاء، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "مولى القوم من أنفسهم". ألا ترى أنها لو كانت تميمة: كان مولاها تميميا، ولم تنسب إلى قبيلة ابنها. وروي أن عليا والزبير اختصما إلى عمر بن الخطاب في ميراث مولى صفية، فحكم بالميراث للزبير، وجعل العقل على علي رضي الله عنه. وأيضا: فإن العقد إنما يتعلق لزومه بالنصرة، والنصرة على من تقع النسبة إليهم؛ لأنه معلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يرد بقوله: "مولى القوم من أنفسهم": إثبات النسب، فإذا معناه: أنه في حكمهم في باب ما يلزم من العقل، ولذلك قال أصحابنا فيمن كان له نسب، وعليه ولاء: بأن

عقل جنايته على ذوي ولائه، دون ذوي نسبه؛ لأنه منسوب إليهم. داخل في نصرتهم. مسألة: [إقرار المشتري للعبد بأن بائعه قد كان أعتقه] قال: (ومن ابتاع عبدا، ثم أقر بأن بائعه قد كان أعتقه، وأنكر ذلك بائعه: كان حرا، وكان ولاؤه موقوفا). وذلك لأن تحت قوله معنيين: أحدهما: دعواه لفسخ البيع، وذلك دعوى على غيره، فلا يصدق عليه. والآخر: إقراره بحرية العبد، وهو يملكها؛ لأن العبد في ملكه، فيصدق على نفسه، ولم يصدق في إثبات ولائه من البائع، ولم يعترف بولائه، من قبل نفسه، فجعلناه موقوفا. مسألة: قال أبو جعفر: (ومن أعتق من أهل الكفر عبدا له كافرا في دار الحرب، ثم أسلم: لم يكن بذلك مولاه). وذلك لأن العبد إذا كان حربيا، فالمعنى الموجب لرفه هو ثبوت اليد عليه، وقهره وغلبته، وقول المولى له: أنت حر يزيل ذلك، ولا يصح فيه معنى العتق، ألا ترى أنه لو قال له في الحل: أنت عبدي، وقد استرققتك: كان رقيقا.

هذا إذا علمنا العتق، فلا يصح معنى العتق مع وجود ما ينافيه، وكذلك التدبير، لأن من لا يصح عتقه: لا يصح تدبيره، إذ كان العتق آكد من التدبير في باب الإثبات. مسألة: قال: (ولو استولد الحربي أمة، ثم أخرجها إلى دار الإسلام، وهما مسلمان، أو دخلا بأمان: كانت أم ولد له). وذلك لأن الاستيلاد قد ثبت حكمه في ملك الغير، حتى إذا ملك، استحق به العتق، كمن تزوج جارية غيره، فاستولدها، ثم ملكها: ثبت لها حق الاستيلاد، وهو في هذا الباب يجري مجرى النسب. مسألة: [بطلان عتق المسلم لعبده الحربي في دار الحرب] قال أبو جعفر: (ومن أعتق من المسلمين في دار الحرب عبدا له هناك حربيا: كان عتقه باطلا، ولم يستحق به ولاءه؛ للمعنى الذي ذكرنا، وهو بقاء اليد المنافي للعتق، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد). ولا فرق في ذلك بين أن يكون المولى مسلما أو كافرا بعد أن يكون العبد حربيا؛ لوجود العلة التي ذكرنا في الجميع. * (وقال أبو يوسف: يكون مولاه في هذا إذا خرجنا إلينا مسلمين؛ استحسانا، وليس بقياس).

واحتج أبو يوسف بما روي أن أبا بكر الصديق أعتق تسعة ممن كان يعذب في الله بمكة: صهيبا وبلالا وغيرهم، فكان ولاؤهم أبي بكر، وكانت مكة يومئذ دار حرب. قال أحمد: هذا لا يدل على موضع الخلاف بينهم، من قبل أن أبا بكر أعتقهم وهم مسلمون، وكذا يقول أبو حنيفة فيمن أعتق عبدا مسلما في دار الحرب: أن له ولاءه، وإنما الخلاف بينهم في العبد الحربي إذا أعتقه المسلم. وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام أعتق زيد بن حارثة، وزيد مسلم حينئذ، فلذلك ثبت ولاؤه منه. وأيضا: فإن ذلك كان قبل فرض القتال، وإباحة الغنائم، فأما بعد إباحة الغنائم، وفرض القتال، فإن رقاب أهل الحرب قد صارت مباحة، معرضة للسبي والاسترقاق، فإذا ثبت الرق في شيء منها، لم يصح إسقاطه مع وجود ما ينافيه من القهر والغلبة. مسألة: قال أبو جعفر: (ولو سبي العبد المعتق بعد عتق مولاه إياه: كان مملوكا للذي سباه، في قولهم جميعا). وذلك لأنه باق على حكم الحرب، وجواز عتقه عند أبي يوسف لم يخرجه عن حكم الحرب، فهو كسائر أحرار أهل الحرب إذا سبوا: جرى عليهم الرق.

مسألة: [ميراث العبد المعتق الذي ترك بني بني مولاه] قال: (ومن أعتق عبده ثم مات المعتق، ثم مات العبد المعتق بعد ذلك، وترك بني بني مولاه ذكورا كلهم: ورثوا بالسوية، ولا ينظر فيه إلى مواريثهم بآبائهم، وذلك أنهم إنما يرثونه بجدهم الذي كان أعتقه، وهم متساوون في القرب من الجد). مسألة: [من ملك ذا رحم محرم فهو حر] قال: (ومن ملك ذا رحم محرم منه: فهو حر عليه، وله ولاؤه). قال أحمد: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ملك ذا رحم محرم، فهو حر"، رواه ابن عمر وعائشة وسمرة. فأما حديث ابن عمر: فحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حسين بن إسحاق قال: حدثنا أبو عمير عيسى بن محمد النحاس قال: حدثنا ضمرة عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ملك ذا رحم محرم عتق". فإن قيل: هذا حديث تفرد به ضمرة، لم يروه غيره عن سفيان.

قيل له: ضمرة ثقة، وروايته مقبولة وإن تفرد بها؛ لأن من أصلنا جميعا قبول أخبار الآحاد. وأما حديث عائشة: فحدثناه عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن محمد بن الجعد قال: حدثنا محمد بن بكار قال: حدثنا إسماعيل بن عياش عن عطاء بن عجلان عن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ملك ذا رحم محرم: فهو حر". قال لنا عبد الباقي: هذا حديث صحيح من حديث عطاء. وأما حديث سمرة: فحدثنا أبو داود قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل قالا: حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من ملك ذا رحم محرم: فهو حر". قال أبو داود: "روى محمد بن بكر البرساني عن حماد بن سلمة عن قتادة وعاصم يعني الأحول عن الحسن عن سمرة عن النبي عليه الصلاة والسلام مثل ذلك". قال أحمد: وهو قول عمر وعبد الله بن مسعود وعطاء والشعبي.

*ووجهه من طريق النظر: اتفاق الجميع على أن من ملك ولده، أو والده: عتق عليه، والمعنى فيه ما تعلق بالنسب من تحريم النكاح، وهو موجود في كل ذي رحم محرم. وعلة أخرى: وهي أن من أصلنا: أنه تلزمه نفقته عند الحاجة بغير بدل، فوجب أن يعتق عليه بالملك قياسا على الأب. ******

كتاب المفقود

كتاب المفقود مسألة: [التوقف في التصرف في مال المفقود، وفي زواج امرأته] قال أبو جعفر: (وإذا فقد الرجل: لم يقسم ماله، ولم تتزوج امرأته حتى يعلم بموته). قال أحمد: وهو قول علي رضي الله عنه، وقال "أيما امرأة ابتليت: فلتصبر حتى يستبين موت أو طلاق". وروي عن عمر: "أنها تتربص أربع سنين، ثم تعتد، فإذا انقضت عدتها، تزوجت". والأصل فيه: أن الرجل قد كان معلوما حياته يقينا، فلا يجوز الحكم بزوالها إلا بيقين، كما أنا متى علمنا ملكا لإنسان: لم يجز لنا الحكم بزواله إلا بيقين.

مسألة: [من يصح الإنفاق عليهم من مال مفقود] قال أبو جعفر: (وإن احتاج من يرثه لو صحت وفاته إلى نفقة من ماله،: فإنه لا ينفق على أحمد منهم من ماله إلا على زوجته أو صغار ولده، ومن يستحق عليه النفقة لو كان حاضرا بالمعروف). وذلك لأنهم غير مستحقين لماله بالميراث، ما لم يعلم موته، فلا يفرض لأحد منهم نفقة في ماله، إلا لمن يستحقها لو كان المفقود حيا حاضرا، أو غائبا معلوما حياته. [يستحسن الاستيثاق بكفيل ممن أنفق عليه من مال مفقود] قال: (وإن استوثق القاضي ممن أعطاه النفقة بكفيل ثقة، كان حسنا، وإن ضمنهم ذلك من غير كفيل أخذه منه، كان حسنا). وذلك لأن في تضمينه احتياطا للغائب، لئلا يتوى ماله إذا حضر، وقد أنفق عليه من ماله على من عسى أن يكون أخذ ذلك مرة. مسألة: [التصرف في مال المفقود بأمر القاضي] قال: (ولا يباع من عقاره، ولا من دوره، ولا من أرضه شيء دون القاضي). لأنه لا ولاية لأحد من هؤلاء عليه، والمال باق على حكم ملكه حتى يتيقن موته.

مسألة: [محافظة القاضي على مال المفقود] قال أبو جعفر: (وإذا رفع ذلك إلى القاضي، جعل فيه قيما يحفظه، ويبيع ما يخاف عليه الفساد منه، ولا يبيع ما لا يخاف عليه الفساد منه في نفقة، ولا في غيرها لزوجة، ولا لولد صغير، ولا لغيرهما). قال أحمد: القاضي منصوب لحفظ أموال الناس وإيصال ذوي الحقوق إلى حقوقهم، فمتى خاف التوى والهلاك على مال الغائب: جاز له أن يبيعه. ولا يبيع العقار، ولا ما لا يخاف عليه الفساد، لأنه لا حظ فيه للغائب، وهو محفوظ بنفسه، لا يحتاج إلى بيعه للتوصل إلى حفظه. مسألة: [ما يرخص فيه للأب المحتاج من مال ابنه المفقود] قال: (وكان أبو حنيفة يقول: إذا غاب الرجل وأبواه محتاجان: فلأبيه أن يبيع من ماله فيما يكتسي به، ويأكل من متاع ابنه، ما خلا عقاره، فإنه لا يبيع منه شيئا، وكذلك قياس قوله في المفقود). قال أحمد: وهذا استحسان من قول أبي حنيفة، ووجهه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"، وقوله: "إنما أولادكم من كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم". وروي في تأويل قوله تعالى: {ما أغنى عنه ماله وما

كسب}: أنه يعني: مع ما كان استحق عليه من الولاية في البيع والتصرف في حال الصغر، فأجاز مثل ذلك فيما استحقه لنفقته، مما يجوز أن يستحق به الولاية عليه لأجل غيبته، وهو ما سوى العقار. ألا ترى أن القاضي يستحق عليه من الولاية في البيع والتصرف في حال الصغر، فأجاز مثل ذلك فيما استحقه لنفقته، مما يجوز أن يستحق عليه الولاية في حال غيبته، في بيع ما سوى العقار، مما يخاف عليه التوى. وأن وصي الأب على الكبير الغائب ما سوى العقار، ولا يبيع العقار. وكذلك وصي الأم والأخ، وإن لم يستحق عليه هذه الولاية لو كان حاضرا، فلذلك خص أبو حنيفة الأب بجواز بيعه لمال ابنه الغائب، ما عدا العقار لنفقته، ولم يجزه في العقار. *قال: (وأما أبو يوسف ومحمد: فكانا لا يجيزان ذلك له، إلا أن يقضي به القاضي). وذلك لأن الأب لا ولية له على الكبير في بيع متاعه في حال الغيبة والحضور جميعا لو لم يستحق النفقة، واستحقاقه النفقة عليه لا يوجب له ولاية في بيع ماله، كسائر ذوي الرحم المحرم، الذين يستحقون النفقة على الغائب ولا يبيعون.

[ما يرخص للقاضي من التصرفات في مال المفقود، والقضاء على الغائب] قال أبو جعفر: (وينفق القاضي على من تجب له النفقة من مال المفقود، من ودائعه وديونه اللاتي يقر بها من هي عنده، ومن هي عليه، فأما ما كان من ذلك لا يقر به من هو عنده أو عليه، فإن القاضي لا يسمع من بينته، ولا خصومة بينه وبين من عنده ذلك). قال أحمد: لا يفرض عليه في الوديعة والدين، إلا أن يعترف الذي عنده ذلك بالمال للمفقود، وبالسبب الذي به يستحق المفروض له ذلك، من نكاح، أو نسب، فإن جحد أحدهما: لم يكن بينهما خصومة، وذلك لأنه إن جحد المال، فالمدعي للنفقة يريد إثبات الملك للغائب، وليس هو بوكيل له، ولا خصم عنه، فلا يلتفت إلى دعواه. وإن أقر بالمال، أو جحد السبب الذي به يستحق ذلك، من نكاح، أو نسب، فليس هذا المدعى عليه خصما في إثبات نسب الغائب، ولا في إثبات النكاح بينها وبينه، والبينات لا تسمع إلا على خصم حاضر؛ لأن القضاء على الغائب لا يجوز عندنا، لما روى حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن حنش بن المعتمر عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن: "لا تقض لأحد الخصمين حتى نسمع من الآخر".

فإن قيل: روي في بعض الأخبار أنه قال: "إذا ارتفع إليك الخصمان، فلا تقض لأجدهما حتى تسمع من الآخر". قيل له: اللفظان صحيحان، وهما مستعملان جميعا، لا يسقط أحدهما بالآخر، ويحمل الأمر على أنه قال الأمرين جميعا، فإذا ارتفعا جميعا، لم يقض لأحدهما حتى يسمع من الآخر، وإذا جاء أحدهما: لم يقض له أيضا حتى يسمع من الآخر بالخبر المطلق، الذي لم يذكر فيه حال ارتفاعهما إليه. وأيضا: فإذا ثبت بالاتفاق أنه لا يقضي لأحدهما إذا كانا حاضرين، حتى يسمع من الآخر، قسنا على ذلك حال الغيبة، ويكون المعنى فيه: أنه جائز أن تكون للخصم حجة يدلي بها في إسقاط بينته. فإن قيل: هذا المعنى موجود عند حضور وكيله، وفي سائر ما تقضون به على حاضر، ويبيع به على الغائب. قيل له: الوكيل ومن يتوجه عليه القضاء من الحاضرين، فيلزم الغائب قائم مقام الغائب في الخصومة، فكأن الغائب حضر، فخوصم، فإذا توجه القضاء عليه، لا ينتظر كون حجة يدلى بها في الثاني، كذلك إذا حضر وكيله، أو من يتوجه بحضوره القضاء عليه. وعلى أنه لو كان جواز القضاء على الغائب بحضور الوكيل والخصم الذي يتوجه بحضوره القضاء على الغائب أصلا فيما اختلفنا فيه، لكان جواز القضاء للغائب بحضور خصم تسمع منه البينة عليه أصلا في جواز القضاء للغائب وإن لم يحضر عنه خصم.

فلما اتفق الجميع على أن القضاء للغائب قد يصح بحضور خصم عنه، مثل أن يحضر أحد الورثة، ويدعي حقا للميت، فيكون خصما في إثباته، ويثبت ذلك لسائرهم بخصومته، ثم لم يجز مع ذلك القضاء للغائب من غير خصم، كذلك جاز أن يقضى على الغائب بحضور خصم، ولا يجوز قياسا عليه القضاء على الغائب من غير خصم حاضر. فإن قيل: قال النبي عليه الصلاة والسلام لهند امرأة أبي سفيان حين قالت له: إن أبى سفيان رجل شحيح، لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال: "خذي من مال أبي سفيان ما يكفيني وولدك بالمعروف"، وذلك قضاء على الغائب. قيل له: ومن أين لك أن أبا سفيان كان غائبا حين قال لها النبي عليه الصلاة والسلام هذا القول، حتى تجعله أصلا لجواز الفضاء على الغائب؟ وقد روي لنا في حديث لا يحضرني سنده،"أن أبا سفيان كان حاضرا". وعلى أنه لو سلمنا لك أنه كان غائبا، لم يدل على شيء مما ذكرت، من قبل أن ذلك لم يكن على وجه القضاء، وإنما كان على وجه الفتيا، والإخبار بما يسعها فعله فيما بينهما وبين الله تعالى. والدليل على ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يسألها البينة على ما ادعت على أبي سفيان، مع منع حقها من النفقة، ومعلوم أن النبي عليه

الصلاة والسلام لم يكن ليصدقها على دعواها بغير بينة، فعلم أن ذلك لم يكن على جهة القضاء. ويدل على ما ذكرنا: أنه قال لها:"خذي مما له ما يكفيني وولدك بالمعروف"، فجعل التقدير إليها فيما تأخذه، ومعلوم أن ما كان من فرض النفقة على وجه القضاء، لا يكون تقديره إلى مستحقه؛ لأن قضاء الإنسان لا يجوز لنفسه، فدل أنه لم يكن على وجه القضاء. وأيضا: فإن لم نختلف أن من له على إنسان ما له، فوجد له من جنسه مثله، أنه يأخذه قضاء مما له عليه، فما في ذلك من القضاء على الغائب، والنبي عليه الصلاة والسلام إنما أخبرها بشيء لها أن تفعله من غير قاض. أرأيت رجلا له على رجل ألف درهم، فوقع له في يده ألف درهم مثلها، أليس له أن يقبضها مما له عليه؟ فأي قضاء في ذلك، وإنما يكون القضاء على الغائب، بأن يثبت عليه القاضي مالا، أو عقدا ببينه تشهد عنده عليه مع غيبته، وبعد حضور خصم عنه. مسألة: [المدة التي يحكم فيها بموت المفقود] قال أبو جعفر: (ولو أن هذا المفقود أتى عليه من المدة وهو مفقود ما لا يعيش مثله إلى مثلها: قضي بموته، ثم قسم ماله يوم قضي بموته بين ورثته الموجودين يومئذ)، ولا يرثه من مات قبل ذلك، ولا يرث

المفقود منه أيضا. * (ولم يوقت محمد في ذلك وقتا)، وأكثر ما قال: إن من فقد بصفين، أو الجمل، فإن هذا قد مات. * (وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه إذا مضت مائة وعشرون سنة من يوم ولد: قضي بموته، ولا يقضي بموته فيما دون ذلك). قال أحمد: ويشبه أن تكون رواية محمد موافقة لهذه الرواية؛ لأن الوقت الذي ذكره في أمر الجمل، وصفين، قد يكون بينه وبين الوقت الذي ذكره محمد لموت المفقود فيهما مائة وعشرون سنة. وإنما أعتبر ذلك، لأنه معلوم أن أمر الجمل والصفين كان من الأمور العظام المشهورة التي لا تخفى على أحد في دار الإسلام وهو يعقل، وأنه لو كان بقى أحد ممن أدرك ذلك، لشهر أمره، ولم يخف حاله، فإذا لم يجدوا واحدا يذكر عنه أنه شهد ذلك، علمنا أنه ليس في العادة بقاء الإنسان في هذا العصر في هذه المدة، فيحكم حينئذ بموته في الوقت الذي

يتيقن أن مثله لا يعيش إلى مثله في العادة. *ثم يكون ميتا في هذه الحال، فيما يستحق عليه من ميراثه. *ولا يكون محكوما بحياته أيضا فيما يستحقه هو من ميراث من مات من ورثته قبل هذه المدة، بل يرث كل واحد منهم ورثته، لأنا لم نتيقن تقدم موت أحدهما على الآخر، فصار كالقوم يغرقون جميعا، أو يقع عليهم البيت، فيورث الأحياء من الأموات، ولا يرث الأموات بعضهم من بعض، وصاروا في هذا الوجه كأنهم ماتوا جميعا معا. مسألة: [كيفية توزيع ميراث من ترك أولادا بينهم مفقود] قال أبو جعفر: (ومن مات وله ابنتان، وابن ابن أبوه مفقود لا يدرى ما حاله: فإن القاضي يجعل تركته في يد رجل يحفظها، فإن طلبت الابنتان ميراثهما منه: فإن القاضي يعطيهما النصف؛ لأنه لا يدري لعل المفقود حي، ويجوز أن يكون مات قبله، فيعطيهما أقل النصيبين؛ لأنه يقين، ويوقف ما سوى ذلك؛ لأنا لا نعرف المستحق له، حتى يتبين الأمر في المفقود). *****

كتاب الإكراه

كتاب الإكراه [أنواع الإكراه] قال أحمد: نقدم مقدمة في الإكراه، تشتمل على عامة مسائله، ويقرب بها فهم معانيه على قارئها، فنقول: إن الإكراه من المسلط النافذ الأمر يكون بثلاثة أشياء: 1 - إما بوعيد بتلف نفس المكره، أو تلف بعض أعضائه. 2 - أو بحبس وقيد يلحق به الاغتمام الشديد، والمشقة العظيمة، من غير خوف منه على النفس، ولا على بعض الأعضاء، أو بحبس يوم، أو تقييد يوم، أو نحوه. 3 - أو لطمة، أو سوط أو سوطين، مما لا يلحق الإنسان فيه كبير ضرر، أو مشقة شديدة. فأما الوجه الأول: وهو الإكراه بالقتل، أو بإتلاف بعض الأعضاء: فإنه ينتقل حكم فعل المكره إلى المكره، فيما يتعلق به من الضمان، أو يجب من القصاص. ويلزم الفاعل حكم فعله فيما يستوي فيه جده وهزله بالقول، ويجب ضمان ما أتلف من المال على المكره. وليس يلزم على ما أصلنا: الإكراه بالقتل على الكفر، من حيث كان جده وهزله سواء؛ لأنا شرطنا ما كان جده وهزله سواء من جهة

القول، وجد الكفر وهزله لم يتعلق حكمه بالقول، وإنما تعلق بالقصد قبل أن يقول؛ لأن من قصد أن يجد بالكفر، أو يهزل به: فقد كفر قبل أن يقوله. وإن قلت بدل قولك: جده وهزله: سهوه وعمده: سقط هذا السؤال أصلا. وأما الوجه الثاني: وهو الإكراه بالحبس: فلا تأثير له في حكم الأفعال رأسا، وحكمه ثابت في سقوط حكم الأقوال، التي شرطها الطوع والرضا، كالبيع، والهبة، والإقرار، ونحوها، ولا يتعلق فيه حكم الضمان، لا في إيجابه، ولا في إسقاطه على واحد منهما على المكره، ولا على المكره. فأما ما لا يختلف حكم جده وهزله من جهة القول: فهو واقع مع الإكراه بالحبس، كوقوعه مع الإكراه بالقتل، إلا أن حكمه لا ينتقل إلى المكره في الحبس، وينتقل إليه حكمه في الإكراه بالقتل، في باب وجوب الضمان عليه بالإتلاف. وأما الوجه الثالث: وهو الإكراه بضرب سوط، أو لطمة، أو حبس يوم أو نحوه: فإنه لا تأثير له في شيء من الأقوال والأفعال، ووجوده وعدمه سواء فيما يتعلق بالفعل من الحكم، فهذه العقود عليها تدور مسائل الإكراه لمن راعاها وتبينها. *والدلالة على صحة ما ذكرنا من الوجه الأول: قول الله تعالى:

{إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}. روي أنها نزلت في شأن عمار بن ياسر، وذلك أن المشركين أخذوه وعذبوه، حتى أظهر لهم الكفر، فذكره للنبي عليه الصلاة والسلام، فقال له: "كيف وجدت قلبك؟ قال: مطمئنا بالإيمان، قال: فإن عادوا فعد". فأسقط الله تعالى عنه حكم اللفظ الموجب لتكفيره، إذا ظهر منه على غير وجه الإكراه بالإكراه الذي كان من القوم، فدل ذلك على صحة ما ذكرنا، من أن الإكراه بالقتل: ينقل حكم فعل المكره إلى المكره، فيما يختلف فيه جده وهزله، وخطؤه وعمده من القول. وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ما استكرهوا عليه".

وروي أن حذيفة بن اليمان وأباه أخذهما المشركون، وحلفوهما أن لا يعينا النبي عليه الصلاة والسلام عليهم، فلما دخلا المدينة، ذكرا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام أراد الخروج إلى بدر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم". فهذا هو الأصل في حكم الإكراه بالقتل ونحوه. *وأما الإكراه بالقيد والحبس: فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "ليس الرجل بأمين على نفسه إذا ضرب، أو أوثق، أو جوع". وقال شريح: "الحبس كره، والقيد كره". ويدل على أن الحبس إكراه: اتفاق الفقهاء على حبس من امتنع من قضاء دينه، فوقع الإجبار على الخروج عن الحق بالحبس، فدل على أنه إكراه. فقلنا على هذا: إن ما كان شرطه الطوع والرضا من الأقوال: فحكمه ساقط عن القائل مع وجود الإكراه بالحبس والقيد؛ لأنه إذا كان شرطه الرضا، والحبس يدل على الكره، وينافي الرضا والطوع: لم يثبت عليه حكم قوله في هذه الحال. *وإنما قلنا: إن الحبس لا يكون إكراها في الأفعال، من قبل أن

الحبس ليس بالضرورة، وأكثر ما فيه عدم الرضا، ووجود الكره، وذلك لا يسقط به ما يتعلق بالفعل من الضمان. ألا ترى أنه لو أخطأ، فلبس ثوب غيره وهو لا يعلم: لم يختلف حكم خطئه وعمده في باب ما يتعلق به من الضمان. *وأما حبس يوم، وتقييد يوم، وضرب سوط أو سوطين: فإنما لم يكن له تأثير ي شيء مما ذكرنا؛ من قبل أنه لو أوعده بلطمة، أو شتيمة، أو ما جرى مجرى ذلك: لم يكن ذلك إكراها يتعلق به حكم، فكذلك ما كان مثله وفي معناه. مسألة: [الإكراه بالقتل أو بإتلاف بعض أعضائه] قال أبو جعفر: (ومن توعده لصوص، أو من سواهم، بحيث لا مغيث له، فقالوا له: لنقتلنك، أو لتشرين هذا الخمر، أو لتأكلن هذه الميتة، ففعل: كان في سعة، وكذلك لو أوعدوه بقطع بعض أعضائه، أو ضرب مائة سوط). قال أحمد: وذلك لأن هذا نتيجة الضرورة، لقول الله تعالى: {إلا ما اضطررتم إليه}، والضرورة هي ما تخاف معها تلف النفس، أو تلف بعض الأعضاء، ألا ترى أنه لو خاف إن لم يأكل الميتة أن يتلف بعض أعضائه من الجوع الذي لحقه: كان له الإقدام على أكلها، وهو على الأصل الذي قدمناه في أن الوعيد بالتلف، يزيل حكم الفعل عن الفاعل،

وينقله إلى المكره. مسألة: قال: (ولو أوعده بضرب سوط أو نحوه: لم يسعه الإقدام عليه). وذلك لأن هذا ليس بضرورة، ولا تأثير له في الحكم على ما بينا. مسألة: [التهديد بالحبس إن لم يتناول الخمر أو الميتة] قال أبو جعفر: (ولو قالوا له: لتفعلن ذلك أو لنحبسنك: لم ينبغ له أن يفعل ذلك). وذلك لما بينا من أن الحبس لا تأثير في حكم الأفعال، وإنما يؤثر في حكم الأقوال. ولأن الميتة ونحوها لا يبيحها إلا الضرورة، وليس الحبس بإكراه ضرورة؛ لأن الضرورة ما يخشى فيها تلف النفس، أو تلف بعض الأعضاء. مسألة: [الوعيد بالحبس إذا لم يقر بمال في يده لغيره] قال: (ولو كان الوعيد بالتلف، أو بالحبس على أن يقر بشيء من مال في يده لرجل، فأقر به: كان إقراره باطلا). وذلك لما وصفنا من أن الحبس يرفع حكم القول الذي شرطه الرضا والطوع، وهذا شرط صحة الإقرار، كالبيع والهبة ونحوهما؛ لقول الله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}، فشرط في صحة البيع

وجود الرضا. مسألة: [الإكراه على الطلاق والعتق] قال أبو جعفر: (ومن أكره على عتق عبده، أو طلاق زوجته، ففعل: جاز عليه ما فعله، وكان له على المكره ضمان قيمة العبد، ونصف المهر إن كان طلق قبل الدخول وقد سمى لها صداقا، وإن لم يسم: فالمتعة). قال أحمد: قد تقدم ذكر الحجاج لطلاق المكره فيما تقدم من هذا الكتاب، فكرهت الإطالة بإعادته. وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "كل طلاق جائز، إلا طلاق المعتوه". *وأما ما ذكره من ضمان قيمة العبد، ونصف المهر على المكره: فإن ذلك إنما يجب في الإكراه بالتلف، فأما الحبس، فلا يرجع به على المكره، وذلك لأن الحبس لا ينقل حكم فعل المكره إلى المكره، فيعلق عليه ضمان ما أتلف، والقتل ينقله. وإنما وجب له الرجوع بنصف المهر على المكره، من قبل أن نصف المهر الواجب بالطلاق قبل الدخول، وجوبه عندنا على جهة الابتداء، على ما بيناه في الشهادات.

ولما ذكرنا من أن استحقاق البضع على الزوج قبل الدخول من غير جهته: يسقط عنه ضمان جميع المهر، كالردة، وتقبيلها ابن الزوج لشهوة، فلما أكرهوه على الطلاق، ولزمه به في حقها نصف المهر، وكان المكره هو المستحق للبضع عليه قبل الدخول، لأن حكم فعله انتقل إليه: وجب أن يكون ضمان ذلك عليه. مسألة: [ما يترتب على إكراه تزويج الرجل بمهر كمهر المثل أو أكثر] قال: (ومن أكره على تزويج امرأة على عشرة آلاف درهم، ومهر مثلها كذلك، فتزوجها، ولم يرجع على المكره بشيء). وذلك لأن البضع له قيمة في دخوله في ملك الزوج، ومن أخرج شيئا من ملك غيره، وعوضه بإزائه مثله: لم يكن عليه فيه ضمان، ألا ترى أن من أتلف لرجل مالا: لم يكن عليه أكثر من ضمان مثله. *قال: (وإن كان صداق مثلها دون عشرة آلاف: رجع على من أكرهه بالفضل الذي في الصداق الذي تزوجها عليه على صداق مثلها). قال أحمد: هذا الذي ذكره أبو جعفر من الرجوع بالفضل على المكره: ليس بسديد، والجواب عن أصحابنا فيه بخلافه؛ لأن الزوج في هذه الحال لم يلزمه إلا مقدار مهر المثل، وذلك لأن الإكراه في هذا العقد تناول معنيين: أحدهما: ملك البضع، ويستوي فيه جده وهزله. والآخر: التسمية، وشرطها الطوع والرضا، فلم يلزم الزوج بها إلا

مهر بالمثل، ولم يلزمه الفضل بتة، فكيف يرجع على المكره بما لا يلزمه؟. وعسي أن يكون أبو جعفر قاسه على شاهدين شهدا على رجل أنه تزوج هذه المرأة على عشرة آلاف درهم، ومثلها مثلها ألف درهم، فحكم الحاكم بذلك، وهو جاحد، ثم رجعا عن الشهادة: فيغرمان الفضل عن مهر المثل. وليست هذه من تلك في شيء؛ لأن الحاكم قد ألزمه العشرة الآلاف كلها بشهادتهما، فلذلك غرم الفضل، وهي مسألة الإكراه لم يلزمه إلا مقدار مهر المثل. مسألة: [ما يترتب على إكراه المرأة على الزواج بمهر معين] قال أبو جعفر: (وإن كانت المرأة هي المكرهة على ذلك دون الرجل، ومهر مثلها أكثر مما تزوجها عليه: جاز النكاح، ولم يكن لها من أكرها على ذلك شيء، وكان الزوج بالخيار إن كان كفؤا لها: إن شاء تمم لها صداق مثلها، وثبتا على نكاحهما، وإن أبي ذلك: فرق بينهما، ولا شيء عليه لها). وذلك لأن عقد النكاح يوجب لها مهر المثل، ما لم يكن هناك تسمية، والتسمية في مسألتنا كانت إكراه، فلا يجوز عليها ما حطته من قيمة البضع، وهو مره المثل، لأن شرط ذلك الطوع والرضا.

ولا نلزمها أيضا الزوج إلا أن تختار المقام عليها؛ لأن الزوج أيضا لم يوجد منه الرضا بالزيادة على المسمى، فنقول له: إن اخترت المقام معها فأتمم لها مهر المثل؛ لأن ذلك موجب العقد، ما لم يكن المسمى دونه برضاها، والتسمية منها كذلك كانت عن إكراه، فلا يجوز عليها هذا إذا لم يكن دخل بها. *ولا يلزم الزوج شيء من المهر إن أبى أن يزيد، ففُرق بينهما، من قِبل أن الفُرقة جاءت من قبلها، كما لو زوجت نفسها غير كفء، أو قصرت في المهر، ففرق الأولياء بينهما قبل الدخول: لم يكن عليه شيء من المهر. *فإن كان دخل بها مكرهة: فلها كمال مهر المثل؛ لأن ذلك قيمة البضع، وهو المستحق بالعقد، ما لم يحط عنه، والحطيطة كانت عن إكراه، فلا يثبت حكمها، ولا سبيل للزوج إلى إسقاط شيء منه؛ لأنه قد استوفى البدل، بحيث لا سبيل له إلى رفعه. مسألة: [الإكراه على الرجعة] قال أبو جعفر: (ومن أكره على الرجعة: صحت رجعته، ولا شيء له على من أكرهه، وهو بمنزلة الطلاق، والعتق، والنكاح). قال أحمد: ومما يستوي حكمه في وقوعه بالإكراه وغيره: الأيمان والنذور. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "أربع مقفلات مبهمات، ليس

فيهن رديد: الطلاق، والعتاق، والنكاح، والنذر". وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق، والعتاق، والنكاح". ومعناه: أن جدهن وهزلهن في الحكم سواء. وأما الأيمان: فالأصل فيها: حديث حذيفة وأبيه حين أخذهما المشركون، وحلفوهما أن لا يعينا النبي عليه الصلاة والسلام عليهم، فلما ذكرا ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام؛ وهو يريد الخروج إلى بدر، وأرادا الخروج معه، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم". فأخبر عليه الصلاة والسلام بصحة لزوم حكم اليمين على وجه الإكراه، فصار ذلك أصلا في الأيمان والنذور؛ لأن النذر في حكم اليمين، لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا نذر ي معصية، وكفارته كفارة يمين". ولأنه حق لله تعالى، تعلق لزومه بقوله، كاليمين.

مسألة: [الإكراه على بيع العبد] قال أبو جعفر: (ومن أكره على بيع عبده، فباعه: لم يجز بيعه). قال أحمد: ذلك لان شرط جوازه الرضا والطوع، لقول الله تعالى {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}. ولأن ما أوقع من ذلك بإكراه، فهو كالموقع على شرط الخيار؛ لان شرط الخيار معناه: أن لا يجوز علي هذه المدة إلا برضاي واختياري، فكذلك الواقع على الإكراه، وكذلك كل عقد يلحقه الفسخ بشرط الخيار، مثل الكتابة، والإجارة، والقسمة ونحوها. والعتق لا يصح بشرط الخيار فيه، بل يقع، ويبطل الخيار، وكذلك النكاح، والطلاق، والرجعة، والأيمان، فلذلك نفذت هذه الأشياء مع الإكراه. *قال أبو جعفر: (ولو أعتقه المشتري بعد ما قبضه، والبائع مكره: جاز عتقه، وكان مولاه بالخيار: إن شاء ضمن المكره قيمته، وإن شاء ضمنها المشتري، فإن ضمنها المكره: رجع بها على المشتري، وإن ضمنها المشتري: لم يرجع بها على المكره). *قال: (ولو كان أعتقه قبل أن يقبضه: كان عتقه باطلا). قال أحمد: لما وقع العقد على إكراه: لم يصح لما وصفنا من أن شرطه الرضا والطوع، وذلك معدوم مع الكره، فهو من وجه يشبه البيع المشروط فيه خيار البيع، في باب امتناع جواز بيع المشتري، وهبته،

ونحو ذلك من التصرف الذي يجوز أن يلحقه الفسخ. ومن وجه يشبه العقد الفاسد، في باب جواز عتق المشتري فيه بعد القبض، وامتناع جوازه قبل القبض. ومن وجه يفارقها جميعا، وهو أن المشتري في مسألة الإكراه لو باعه بعد القبض: لم يجز بيعه، فإن أجاز البائع المكره البيع: جاز بيع المشتري، وفي شرط خيار البائع لا يجوز بيع المشتري وإن أبطل البائع خياره، بل هو من هذا الوجه يشبه المشتري شراء صحيحا بتاتا إذا قبضه بغير أمر البائع قبل نفد الثمن، وباعه: فللبائع نقض بيعه، فإن نفده المشتري الثمن: جاز بيعه. *وإنما كان حكم البيع الواقع على الإكراه ما وصفنا، من قبل أن العقد وقع بغير رضاه، وله الخيار في إجازته وفسخه من جهة الحكم، لا لأن هناك فسادا في نفس العقد، لكن من جهة عدم رضاه، ولا من جهة شرط الخيار؛ لأنه لم يكن هناك خيار مشروط. *وإنما كان له الخيار: من طريق الحكم، مع وقوع تسليط البائع للمشتري على التصرف على وجه الإكراه، كما أن البيع الصحيح يوجب من البائع تسليك المشتري على التصرف. *وإنما امتنع جواز تصرفه فيه قبل القبض: من طريق الحكم، فمتى قبض وتصرف، ثم أجاز المكره البيع: صح تصرفه، وإن لم يجزه: لم يجز تصرف المشتري فيه إلا فيه العتق؛ لأن تسليطه إياه وقع عن إكراه، فلا حكم له في جواز تصرفه. *وإنما نقذ عتقه بعد القبض: من قبل وجود التسليم من جهة البائع عليه مع وجود القبض، والإكراه لا يمنع صحة التسليط على العتق، كما

لو أكره حتى أمر رجلا بعتق عبده، فأعتقه: نفذ عتقه، فالتسليط على العتق وإن وقع عن إكراه، فهو كالعتق الموقع على الإكراه، فينفذ، ويصح، والبيع سائر وجوه التصرف، لا يصح مع الإكراه، فكذلك التسليط عليه. *وأما إذا أعتقه المشتري قبل القبض: فإنما لم يجز عتقه من قبل أن العقد فاسد، لعدم رضا البائع، وشبهه محمد برجل اشترى عبدا بألف درهم إلى الحصاد أو الدياس، فإن أعتقه المشتري قبل القبض: لم ينفذ عتقه، وإن أعتقه بعد القبض: جاز عتقه. وإن أبطل المشتري الأجل قبل حلوله: تم البيع، كذلك البائع إذا كان مكرها: لم يجز البيع، وله الخيار في إجازته، ولا يجوز عتق المشتري قبل القبض، ويجوز بعده على ما بينا. *وحكى أبو جعفر (عن محمد أنه قال في غير كتاب الإكراه: إن عتق المشتري جائز قبل القبض وبعده). ووجهه: أن التسليم على العتق قد وجد من جهة البائع؛ لأن البيع البتات يوجب جواز عتق المشتري. *وأما وجه قوله: إن البائع بالخيار: إن شاء ضمن المكره قيمة عبده، وإن شاء ضمنها المشتري إذا أعتقه المشتري بعد القبض: فهو أن فعل المكره ينتقل حكمه إلى المكره فيما يتعلق به من حكم الإتلاف، فلما أكرهه على التسليم على العتق، وقد نفذ عتق المشتري، كان له أن يضمنه القيمة، كما لو أكرهه على العتق، فأعتقه: ضمن قيمته. فإن ضمنها المكره: رجع بها المشتري، كما بينا أن الشهود إذا شهدوا أنه باعه عبده بألف درهم إلى سنة، ثم رجعوا: فيضمنهم البائع القيمة حالة أنهم يرجعون المشتري الثمن إلى أجله، ويقومون فيه

مقام البائع، وكالغاصب الأول إذا ضمن: رجع بالقيمة على الغاصب الثاني، وذلك لأن ملك المشتري قد صح بالعتق، فيرجع عليه المكره على ما بينا. وإن شاء البائع ضمن المشتري؛ لأنه هو المتلف له بالعتق، والمضمون عليه بالقبض. مسألة: [من اكره على قتل شخص ففعل] قال أبو جعفر: (ومن اكره على قتل رجل، فقتله بالسيف، فإن أبا حنيفة رحمه الله كان يقول: يقتل المكره، ولا يتقل المأمور المكره، وقال أبو يوسف: على الآمر المكره ضمان دية المقتول في ماله، ولا شيء على المأمور، وقال زفر: يقتل المأمور). قال أحمد: محمد مع أبي حنيفة في هذه المسألة، وأبو يوسف وحده في جواب المسألة. وجه قول أبي حنيفة ومحمد: أن حكم فعل المكره منتقل إلى المكره، بدلالة ما اتفقوا عليه من وجوه ضمان ما أتلفه المأمور من المال على وجه الإكراه على المكره، وكذلك العتق، والطلاق، وما جرى مجراه، لا

خلاف بينهم في هذه المعاني، فدل على أن حكم فعل المكره المأمور متعلق بالمكره. ألا ترى أنه إذا أظهر الكفر على وجه الإكراه: لم يتعلق حكمه بالمكره، لوقوعه على وجه الإكراه، كذلك سائر الأفعال التي يختلف فيها حكم العمد والسهو. ومن الدليل على ذلك: اتفاق الجميع على أن للمكره والمأمور بقتله أن يجتمعا على قتل المكره، كما لو قصده بالسيف ليقتله: كان لكل واحد أن يقتله، فدل على أن حكم فعله متعلق به، وراجع إليه، ومن أجله أباح دمه بإكراهه، كما يبيحه بحمله عليه بالسيف، فصار المكره في هذا الوجه كالآلة له في قتله، كأنه قد شد السيف على يده؛ ثم أخذ يده، فضرب المقتول به، فيكون القصاص عليه، دون المكره. فإن قيل: يلزمكم على هذا الاعتلال إبطال عتق المكره، وطلاقه؛ لأن حكم فعله منتقل إلى المكره، فكان المكره هو المعتق والمطلق. قيل له: لا يجب ذلك؛ لأنا قد قيدنا العلة بدءا يما يسقط هذا السؤال، وهو أن ذلك مما يختلف فيه حكم السهو والعمد، والعتق ونظائره مما يستوي فيه حكم السهو والعمد، ففارق ما وصفنا بالدلائل الموجبة لذلك. فإن قيل: فهلا جعلت المكره كالفاعل لسبب القتل من غير مباشرة، مثل حافر البئر في الطريق، والشهود إذا شهدوا بما يوجب القصاص، ثم رجعوا. قيل له: لو كان كذلك، كان لا يجوز استباحة دمه بإكراهه، فلما جاز استباحة دمه بالإكراه، دل على أنه في معنى فاعل القتل مباشرة، ألا ترى

أن حافر البئر، والشهود لا يستحقون بفعلهم السبب استباحة دمائهم. فإن قيل: هلا أوجبت على المكره القصاص، كما قال زفر، إذ لم يبح له الإكراه قتله، فكان حاله بعد الإكراه كهي قبله في باب حظر دمه، ومن هذا الوجه فارق إتلاف الأموال؛ لأن الإكراه بالضرورة يبيح له إتلافها لإحياء نفسه، ولا يجوز له إتلاف نفس غيره لإحياء نفسه؛ لأن الله تعالى قد سوى بينهما في حرمة الدم. قيل له: ما قدمناه من الدلائل كاف في إسقاط هذا السؤال؛ لأن ما ذكرت من بقاء دمه على الحظر في حق المأمور، لم يمنع إباحة دم المكره له على ذلك، لأجل إكراهه، فدل على أن حكم هذا الفعل متعلق به دون المأمور. وأما الحظر: فلا يوجب كون دمه مضمونا عليه بالقصاص والمال، ألا ترى أن رجلا لو دخل دار الحرب بأمان: لم يجز له قتل أحد منهم، لما أعطاهم من الأمان؛ فإن قتلهم: لم تكن دماؤهم مضمونة. وكذلك من أسلم من أهل الحرب، قد حظر دمه، وحقنه بإسلامه، ولو قتله مسلم قبل أن يخرج إلى دار الإسلام: لم يكن دمه مضمونا عليه، فغير جائز أن نجعل الحظر علة في ضمان الدم. ولو أن رجلا وجب له قتل رجل في قصاص: كان الذي يجب له من ذلك: قتله بالسيف، فلو أحرقه بالنار: كان مسيئا، ولم يجب عليه شيء. فإن قال قائل: هلا أوجبت عليهما جميعا القصاص. قيل له: لما وافقتنا على وجوب القصاص على المكره، فقد ثبت انتقال حكم فعله إليه، فإذا حكمه ساقط عن المأمور، إذ غير جائز انتقال حكم فعله إلى الآمر، وبقاء حكمه على الفاعل، لاستحالة كون فعله

منتقلا من الفاعل إليه، وباقيا على الفاعل من الوجه الذي ثبت حكمه على الآمر. ولأن نظير ذلك معدوم في الأصول، ومتى خرج جواب مسألة الفرع من أن يكون له نظير في الأصول: سقط. فإن قيل: فأنت تجيز انتقال حكمه إلى المكره، مع بقائه على المأمور، لأنه لو أكرهه على العتق، تعلق حكمه بالآمر فيما يلزمه من الضمان، وحكمه ثابت أيضا على المأمور، في باب نفاذ عتقه، وثبوت ولائه منه. قيل له: لم ننكر ما أنكرناه من هذا الوجه؛ لأن حكم الفعل تعلق بالآمر في هذا الموضع، من غير الوجه الذي تعلق بالمأمور، وفيما وصفنا يتعلق بالآمر، من حيث تعلق بالمأمور، من حيث أوجبت عليهما جميعا القصاص. وقد يمكن أن يحتج في سقوط القصاص عن المكره بعموم ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"؛ حين لم يفرق بين القتل وبين غيره. مسألة: [الإكراه على الزنى] قال أبو جعفر: (ومن أكره على أن يزني بامرأة، فزنى بها، فإن أبا حنيفة كان يقول: يحد في ذلك، كما يحد لو أتاه على غير إكراه، ثم رجع عن ذلك فقال: إن كان الذي أكرهه سلطانا: لم يحد، وإن كان غير سلطان: حد، وهو قول أبي يوسف.

وقال محمد: إذا أكرهه غير سلطان ممكن إكراهه كإكراه السلطان: لم يحد، وقياس قول زفر في ذلك أنه يحد). قال أحمد: المشهور من قول أبي يوسف أنه مع محمد في هذه المسألة. وجه قول أبي حنيفة في وجوب الحد إذا أكرهه غير السلطان: أن الزنى لا يكون إلا بالشهوة والانتشار، وظهور ذلك منه ينافي الكراهة، ويدل على الطوع والرضا، فصار الفعل واقعا على جهة الطوع، فوجب الحد. فإن قيل: الشهوة والانتشار قد يقارنهما ترك الفعل، فإذا ليس في وجودهما ما يزيل الإكراه على الفعل. قيل له: معلوم من حال الكاره والخائف انتفاء الانتشار منه، والانبعاث للجماع، فإذا وجدناهما على حال ينافي حال المكره، علمنا أنه أتاه طوعا غير مكره، وليس يمتنع أن يظهر من المكره إكراه له على الفعل، وهو مع ذلك يفعله طائعا غير مكره، كما لو أكره على الكفر، فقصد إلى إظهاره طائعا غير مكره: لزمه حكم الكفر، ولم يزل عنه ظهور الإكراه من غيره عليه. وأما إذا أكرهه سلطان: فإنه لا حد عليه استحسانا. وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: يحتمل أن يكون المراد: الخليفة، فإن كان هذا مراده: فإن وجه زوال الحد عنه: أن السلطان زالت إمامته بإكراهه له على الزنى؛ لأنه صار فاسقا، فحصل الزنى وليس هناك

إمام يقيم الحد فيه، فيسقط. كمن زنى، وليس إمام، ثم ولي إمام: فلا يحد، وكمن زنى في دار الحرب، ثم خرج إلينا، فلا يحد؛ لأن إقامة الحد إلى الإمام، فإذا لم يكن في حال الفعل من يقيمه: لم يجب في تلك الحال، وإذا لم يجب في حال الفعل: لم يجب بعد ذلك. ألا ترى أنهم قالوا: إن الأمام نفسه لو أتى ما يجب عليه فيه الحد: لم يحد؛ لأنه زال بفعله هذا عن الإمامة، فلم يكن هناك من يقين الحد، فيسقط، كالزنى في دار الحرب. قال أبو الحسن: فإن كان أراد به سلطانا، وفوقه غيره، نحو الأمراء والعمال: فإن وجه سقوط الحد فيه: أن هذا قائم مقام الإمام، ومن شأنه أن يتوصل إليه إلى إسقاط الحدود، فلما أراد أن يتوصل إلى إثبات الحد وإيجابه: لم يجب، ولم يثبت، وهذا استحسان من قوله. *****

كتاب القسمة

كتاب القسمة [أنواع القسمة]: قال أحمد: القسمة على وجهين: أحدهما تمييز الحقوق، وهو ما تقع القسمة فيه على الأجزاء، نحو المكيل والموزون إذا كان بين رجلين، ألا ترى أن كل واحد منهما يحصل له بالقسمة القدر الذي كان يملكه قبل القسمة. فما كان منها على هذا الوجه: فليس معنى البيع؛ لأن كل واحد منهما آخذ لحقه، ومن أجله قالوا: إن رجلين لو اشتريا كر حنطة، ثم اقتسماه: كان لكل واحد منهما أن يبيع ما حصل له مرابحة على نصف الثمن. والوجه الثاني: هو بمنزلة البيع، وهو ما تقع القسمة فيه على القيمة، فما حصل لكل واحد منهما بالقسمة: فنصفه ما كان له قبل القسمة، والنصف الآخر كأنه اشتراه بما سلمه إلى شريكه. ألا ترى أن كل واحد منهما قد يجوز أن يحصل له بالقسمة أكثر مما

كان له في الأصل من الآخر، نحو أربعين شاة بين رجلين، اقتسماها على القيمة: قد يجوز أن يحصل لأحدهما خمسة وعشرون شاة، وللأخر خمسة عشرة شاة، ومن أجل ذلك قالوا: إن ما حصل لكل واحد منهما بالقسمة: لا يجوز له بيعه مرابحة على الثمن الذي اشتراه به قبل القسمة. مسألة: [قسمة الدار التي يملكها شخصين إذا طلب ذلك أحدهما] قال أبو جعفر: (وإذا كانت الدار بين رجلين، فطلب أحدهما قسمتها، وأبى الآخر، فارتفعا إلى القاضي: نظر القاضي في ذلك، فإن كانت مما يقع لكل واحد منهما بالقسمة ما ينتفع به: قسمها بينهما). وذلك لأن القسمة مستحقة لكل واحد منهما بالملك إذا كان له في القسمة منفعة، أو لم يكن عليه فيها ضرر؛ لأن كل جزء من الدار إذا كان بينهما، فكل واحد منهما منتفع بنصيبه، ونصيب غيره، وله أن يمنع غيره من الانتفاع بملكه، فصارت القسمة من حقوق الملك في هذه الحال، فلكل واحد منهما المطالبة بحق ملكه. *قال: (وإن لم ينتفع واحد منهما بما يقع له بالقسمة: لم يقسمها بينهما، حتى يرضيا بذلك). وذلك لان كل واحد منهما إذا لم ينتفع بنصيبه بعد القسمة، وينتفعان به قبل القسمة: فهذه قسمة على ضرر، ولا يجوز للقاضي إيقاع القسمة على ذلك؛ لأن المطالب بالقسمة في هذا الوجه، إنما يقصد الإضرار بنفسه وبشريكه، وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا

ضرر ولا إضرار في الإسلام". وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا تعضية على أهل الميراث، إلا فيما احتمل القسمة". ولأن ما لا نفع فيه، فليس بحق له، وإذا لم يكن له حقا له، لم يجبر القاضي الآخر عليه؛ لأن القاضي إنما يجبر الناس على أداء الحقوق التي تلزمهم لغيرهم، فأما ما ليس بحق للطالب، فإن القاضي لا يجبر عليه. مسألة: [قسمة الدار إذا كان فيها نفع كبير لأحدهما دون الآخر] قال: (وإن كان الذي يصيب الطالب بالقسمة ينتفع به لكثرته، ولا ينتفع الآخر بنصيبه لقلته: قسمها بينهما). وذلك لأن للطالب حقا في هذه القسمة، وهو الانتفاع بملكه متميزا عن ملك غيره، ومنع غيره من الانتفاع بملكه، والذي أباها إنما يريد

الانتفاع بملك غيره، فيجبر على القسمة. مسألة: [مطالبة الورثة الكبار بقسمة دار أقروا أنها ميراث أبيهم] قال أبو جعفر: (وإذا كانت الدار بين ورثة كبار أصحاء، فأقروا عند القاضي أنها ميراث بينهم عن أبيهم، وأرادوا منه قسمتها بينهم: فإنه لا يجيبهم إلى ذلك، حتى يقيموا البينة على ميراثهم إياها في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يلزمهم إقرارهم، ويقضي به عليهم، ويقسمها بينهم على ذلك، ويشهد أنه لم يقض في ذلك بشيء على أحد سواهم). قال أحمد: وجه قول أبي حنيفة: أنهم إذا اعترفوا بالميراث، فقد أقروا ببقائها على حكم ملك الميت؛ لأن الورثة يخلفون المبيت في ملكه. ألا ترى أنهم يردون بالعيب على بائع الميت، والقاضي جائز التصرف على الأموات، فلو قسمها بينهم بغير بينة، وكانت القسمة فيها على معنى

البيع لما قدمنا، والدار محفوظة بنفسها، لا يخاف عليها الهلاك، لكان فيه تصرف على الميت بقولهم، ولا يجوز له أن يتصرف على الميت بقولهم، فيزيل حكم ملكه بالقسمة. وليس هذا بمنزلة الدار، إذا كانت في أيديهم على جهة الشراء، أو الهبة، فيقسمها وإن لم يقيموا البينة؛ لأن ملك المشتري ملك مستأنف، ليس هو في الحكم ملكا للبائع، فلا يقع فيه تصرف على غير من قاسم، فلذلك صدقهم على أنفسهم، وقسمها بينهم. ولا يشبه أيضا العقار ما سواه من العروض عند أبي حنيفة، فيقسمها وإن اعترفوا بها ميراثا، ولم يقيموا بينة، من قبل أن العروض يخشى عليها التوى والهلاك، وفي قسمتها حفظ للميت إن كان الأمر على ما قالوا، أعني الورثة؛ لأن كل واحد منهم يصير ما حصل له بالقسمة في ضمانه، حتى إذا هلك، ضمنه، وقبل القسمة هو باق على حكم ملك الميت، ليس في ضمان أحد، والدار ليست كذلك؛ لأنها لا تضمن بالغصب عنده. وأيضا: قد ثبت للقاضي التصرف على الأحياء في بيع العروض، لأجل الغيبة إذا خاف عليها الفساد أو الهلاك، ولا يثبت له التصرف عليه في العقار بمال. *قال: (فكذلك العروض في الميراث، فإن لم يقم عليه بينة: جاز له أن يقسمها). قال أحمد: ولا خلاف بينهم أنه متى قامت البينة على الميراث، وقد

حضر من الورثة اثنان: أن العقار يقسم ولو كان ذلك بينهم من غير جهة الميراث. ولا خلاف بينهم أيضا، أنه لا يقسم إذا كان بعضهم غائبا، وذلك لأن تصرف القاضي جائز على الميت، فلا يبطل حق الحضور إذا أرادوا القسمة لغيبة الغائب منهم، مع جواز تصرفه على الميت في إيصال ذوي الحقوق من مستحقي ميراثه إلى حقوقهم، كما يعطي الموصى له وصيته، ويقضي دينه مع غيبة بعض الورثة. وأما إذا كان بينهم من غير جهة الميراث، وبعضهم غائب، فإن غيبته لا توجب للقاضي ولاية عليه في القسمة، فلذلك لم يقسمه بينهم وإن قامت البينة على الشراء. *وذهب أبو يوسف ومحمد في إيجابهما على القاضي قسمة العقار وإن لم تقم بينة على الميراث: أنها في ملكهم في الحال، فيقسمها عليهم، ولا يجعله قضاء على غيرهم، كما لو كانت بينهم من جهة الشراء. مسألة: [تحري العدل في قسمة الدار] قال أبو جعفر: (وإذا قسمت الدار بين أهلها، فأصاب بعضهم موضعا منها بغير طريق اشترط له فيها في القسمة، فإن كان له مفتح مما

أصابه إلى الطريق: أمضيت القسمة، وإلا: أبطلها). قال أحمد: إذا كان له مفتح إلى الطريق مما أصابه، فقد حصلت له المنافع، وساوى صاحبه فيما أصابه؛ لأن كل واحد ينتفع بنصيبه، ولا ضرر عليه فيما أصابه. وأما إذا لم يكن له مفتح، فهذه قسمة فيها ضرر على أحدهما، وذلك غير مستحق عليه بالملك؛ لأن الذي استحقه كل واحد منهما بحق ملكه: تعديل الأنصباء، وفي إلحاق الضرر بأحدهما دون الآخر: نفي التعديل؛ لأن التعديل هو المساواة فيما استحقاه بالملك، فلا تجوز القسمة على هذا. مسألة: [كيفية القسمة والذرع في العلو الذي لا سفل له، والعكس] قال أبو جعفر: (وكان أبو حنيفة يقول في العلو الذي لا سفل له، وفي السفل الذي لا علو له: يحسب في القسمة ذراع من السفل بذراعين من العلو. وكان أبو يوسف يقول: يحسب كل ذراع من العلو بذراع من السفل. وكان محمد: يقوم كل ذراع من العلو على أن لا سفل له، وكل ذراع من السفل على أن لا علو له). قال أحمد: الأصل في ذلك عند أبي حنيفة: أن القسمة إنما هي تعديل الأنصباء، وتعديل إنما يكون بحسب منافعها. والدليل على أن القسمة تتضمن اعتبار المنافع: اتفاق الجميع على أن

كل واحد منهما إذا لم ينتفع بنصيبه: لم يستحق القسمة على صاحبه، ولم يقسمه القاضي بينهما إذا أبى ذلك أحدهما. فإذا ثبت هذا الأصل، اعتبر أبو حنيفة اعتبار منافع السفل والعلو بأصل له آخر بينه وبين أبي يوسف ومحمد فيه خلاف، وهو أنه يقول: إن العلو إذا كان لرجل، وسفله لآخر: فليس لصاحب العلو أن يزيد في بنائه، ولا يعلي فوقه علوا آخر. وإذا كان ذلك من أصله، فالذي لصاحب العلو بغير سفل منفعة واحدة، وهي الانتفاع بالعلو الذي هو فيه فحسب، ولا يمكنه الانتفاع بسفله، ولا أن يبني فوقه علوا آخر فينتفع به. وأما صاحب السفل بلا علو: فله أن ينتفع بوجه البيت، وله أن يسفل، فيحفر تحته بيتا آخر، فيحصل له منفعتان، وليس له الانتفاع بالعلو؛ لأنه لغيره، وإنما عدم جهة واحدة من المنفعة. وأما صاحب البيت الكامل الذي له سفل وعلو، فله ثلاث جهات من المنافع: وجه البيت، وسفله، وعلوه، فصار للبيت الكامل ثلاث منافع. فقال أبو حنيفة على هذا الأصل: إن مائة ذراع من العلو الذي لا سفل له، بإزاء ثلاث وثلاثين ذراعا وثلث ذراع من البيت الكامل الذي له سفل وعلو؛ لأن للبيت الكامل ثلاث منافع، وللعلو الذي لا سفل له منفعة واحدة، ومائة ذراع من السفل لا علو له، بإزاء ستة وستين ذراعا وثلثي ذراع من البيت الكامل؛ لأن للسفل الذي لا علو له منفعتين، وللبيت الكامل ثلاث منافع.

ومائة ذراع من العلو الذي لا سفل له، بإزاء خمسين ذرعا من السفل الذي لا علو له؛ لأن للعلو الذي لا سفل له جهة واحدة من المنفعة، وللسفل الذي لا علو له جهتان، فصار ذراعان في العلو، بذراع من السفل. فمن أخذ من السفل الذي لا علو له ذراعا: أعطى ذراعين من العلو الذي لا سفل له، ومن أخذ ذراعا من البيت الكامل: أعطى ثلاثة أذرع من العلو الذي لا سفل له، وإذا أخذ ذراعا من البيت الكامل: أعطى من السفل الذي لا علو له ذراعا ونصفا على ما بينا. *وأما أبو يوسف: فلما كان من أصله: أن لصاحب العلو أن يبني في علوه ما لا يضر بالسفل، صار للعلو عنده جهتا منفعة، كصاحب السفل سواء، فلذلك حسب ذراعا من العلو، بذراع من السفل. *وقد أجاب محمد في كتاب القسمة عن هذه المسألة، بجواب تشكل به المسألة على قارئها إذا لم يفهم مراده، وذلك أنه قال: وقال أبو يوسف: يحسب العلو بنصف، والسفل بالنصف، وينظر كم جملة ذرع كل واحد منهما، فيطرح من ذلك النصف. وليس هذا جواب المسألة التي ابتدأ بذكرها في العلو الذي لا سفل له، والسفل الذي لا علو له، والسفل الذي لا علو له، وإنما هو جواب البيت الكامل مع العلو بغير سفل، والسفل بغير علو؛ لأن البيت الكامل يعدل ذراع منه عنده ذراعين من العلو الذي لا سفل له، والسفل الذي لا علو له. فإذا كان العلو عشرة أذرع، ردها إلى خمس أذرع؛ لأنها بإزاء خمسة أذرع من البيت الكامل، وكذلك السفل إذا كان عشرة أذرع، عدها خمسة أذرع من البيت الكامل.

فحصل الخلاف بينه وبين أبي حنيفة من وجهين: أحدهما: أنه يجعل السفل الذي لا علو له، والعلو الذي لا سفل له في التقدير واحدا، يجعل ذراعا من هذا، بذراع من هذا. والثاني: أنه يحسب ذراعين من العلو، أو السفل بإزاء من البيت الكامل. وأبو حنيفة يجعل ذراعين من العلو، بذراع من السفل، ويجعل ذراعا من السفل، بثلثي ذراع من البيت الكامل. *ثم نرجع إلى مسألة كتاب القسمة فنقول: إن محمدا أراد أن يبين أن العلو والسفل عند أبي يوسف واحد، وأن كل واحد منهم يحسب بالنصف مع البيت الكامل وإن لم يذكر البيت الكامل في السؤال، فهذا معناه وأبو يوسف له اعتبار آخر بعد ذلك وهو: أنه إذا حسن ذراعين من العلو، أو من السفل بذراع من البيت الكامل، فإنما يحسب ذلك مساحة بغير بناء، ثم يقوم البناء في العلو والسفل على ما يساوي، كذا حكى عنه بشر من الوليد. قال أحمد: وينبغي أن يكون هذا الاعتبار مذهب أبي حنيفة أيضا، إذ غير جائز إسقاط حكم البناء مع تفاضل القيم، وأن اعتبار أبي حنيفة الذي ذكرنا في تعديل العلو بالسفل، والسفل بالبيت الكامل، إنما هو في الساحة. وأما محمد: فإنه اعتبر القيمة في الساحة والبناء جميعا؛ لأنها تختلف

قيمتها في البلدان والمواضع، على حسب رغبة الناس فيها. مسألة: [كيفية قسمة الدور المختلفة بين المشتركين] قال أبو جعفر: (وقال أبو حنيفة في الدور المختلفة: إن كل واحدة منها تقسم على حدة. وقال أبو يوسف ومحمد: على ما يراه القاضي أصلح لهم في جمع الأنصباء لكل واحد منهم في دار، أو تفريقها في الدور، فإن رأى قسمة كل واحدة على حدة أصلح: قسمها، وإن رأى أن يقسم بعضها في بعض: فعل). لأبي حنيفة رحمه الله: أنه لا خلاف بينهم أن الأجناس المختلفة لا يقسم بعضها في بعض إلا بتراضيهم، وأنها متى قسمت كذلك، كانت بيعا محضا، ولم تكن القسمة المستحقة بالملك والدور بمنزلة الأجناس المختلفة، لتفاوتها واختلافها. ألا ترى أنه لو تزوج امرأة على دار: لم يكن ذلك تسمية صحيحة، كما لو تزوجها على ثوب، أو دابة: لم يكن تسمية، وكان لها مهر المثل. وإذا كان كذلك، لم يجز قسمة بعضها في بعض، كأجناس الثياب والدواب، ولو قسمها القاضي وهي بيع: كان قد أجبر من أبى القسمة على البيع، وهو لا يستحق عليه البيع بحق الملك.

مسألة: [اختلاف المشتركين في قدر الطريق التي ترفع من الدار] قال أبو جعفر: (ولو اختلفوا في مقدار الطريق التي ترفع من الدار بينهم: رفعت الطريق بينهم على سعة باب الدار). وذلك لأنه قد استحق الدخول من أي نواحي الباب شاء، فيستحق الاستطراق من داخلها على حسب ما استحقه بالدخول، وليس لواحد منهم أن يمنع صاحب الطرق من الاستطراق في حقه. مسألة: (ولا يقسم حائط ولا ثوب بين مالكيه إلا بتراضيهما). وذلك لأنها قسمة على ضرر، وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا ضرر ولا إضرار في الإسلام". وروى أبو عاصم عن ابن جريج عن صديق بن موسى عن محمد بن أبي بكر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تعضية على أهل الميراث، إلا ما احتمل القسمة". وأيضا: فإن القسمة إنما هي تمييز الحقوق وتعديلها، وهي القسمة المستحقة بالملك، فأما إتلاف جزء من مال كل واحد منهما، فإن ذلك غير مستحق بالملك، فلا يجبر واحد منهما عليه، ألا ترى أنه لو كان بينهما لؤلؤة، أو ياقوته: لم يجز أن يكسرها ويقسمها بينهما.

مسألة: [تحري القاسم العدل] قال: (ولا ينبغي للقاسم أن يقسم في شيء مما ذكرنا برد شيء يشترطه لبعض أهل القسمة على بقيتهم ما قدر على ذلك). قال أحمد: يعني أنه لا يدخل في القسمة دراهم، ولا غير ما اقتسما عليه، لأجل زيادة قيمة ما يأخذها أحدهما، وذلك لأن لزوم الدراهم إنما يكون من طريق البيع، وهما لم يأمراه بالبيع والشراء، وإنما أمراه بالقسمة. وأيضا: فإن القسمة إنما هي تعديل الحقوق، وتمييز ملك كل واحد منهما، وإفراده عن ملك غيره، وهذا معنى مستحق بالملك، ولا يستحق بالملك أخذ دراهم، ولا إعطاؤها بالقسمة. مسألة: [عدم جمع القاسم أنصبة الشركاء إلا باتفاقهم] قال أبو جعفر: (ولا ينبغي له أن يجمع نصيب بعضهم مع نصيب بعض، إلا باتفاقهما جميعا على ذلك). وذلك لأنه إذا جمع نصيب اثنين في موضع، لم يتميز بذلك نصيب كل واحد من نصيب صاحبه، والقسمة إنما هي تمييز الحقوق، وإفرازها من حق الغير. وأيضا: فإنه يحتاج مع ذلك إلى قسمة ثانية، فلا ينبغي أن يفعله إلا أن يرضيا بذلك.

مسألة: [ما ينبغي مراعاته عند قسم الدور] قال أبو جعفر: (ولا ينبغي أن يقسمها بينهم حتى يقومها ذراعا ذراعا على ما يتناهى إليه كل ذراع منها من شارع، ومن غامض، ثم يصورها صورة؛ ثم يقرع بينهم عليها). وذلك لأنه لا يصل إلى تعديلها، والتسوية بين أنصبائها إلا من هذا الوجه. وأما القرعة: فإنما هي لتطييب النفوس، وقد روي "عن النبي عليه الصلاة والسلام في قسمة خيبر: أنه جعلها سهاما، وأقرع فيها". وأنه قال للرجلين اللذين اختصما إليه في مواريث قديمة قد درست: "استهما، وتوخيا الحق، ويحلل كل واحد منكما صاحبه". "وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه". ولا خلاف بين أهل العلم في جواز القرعة في القسمة، والمعنى فيها تطييب النفوس، لئلا يسبق إلى ظن بعضهم أن غيره أوثر عليه، وليس فيها إبطال حق واحد منهم. ولو اقتسموها بغير قرعة: جاز بالاتفاق أيضا.

وذكر محمد في كتاب القسمة: أن القياس أن لا تجوز القسمة على القرعة، وأنه أجازها استحسانا. وجه القياس: أن القسمة في معنى البيع، والبيع لا يصح وقوعه بالقرعة؛ لأنه في معنى بيع الملامسة والمنابذة التي نهى النبي عليه الصلاة والسلام عنها، إذ كان موقوفا على فعل يوقعه غير العقد، إلا أنه ترك القياس، وأجازها، لما ورد فيها من الآثار. ولأن القسمة مستحقة بالملك، يجبر الحاكم عليها، وقد كان للحاكم أن يعين ملك كل واحد منهم بغير قرعة، فأجازها بالقرعة أيضا لنفي التهمة عنه. مسألة: [مراعاة جعل المقسوم سهاما على نصيب الأقل] قال أبو جعفر: (وينبغي له أن يجزئ ما يحاول قسمته بين أهله من الدور والعقار، على أقل أنصباء أهلها فيه، ثم يقرع بين أهل القسمة بعد أن يبين لهم أن من خرج سهمه أولا أعطاه جزءه من الدار من الجانب الكذا منها، ثم مما يليه، حتى يستوفي حقه، ثم يفعل ذلك بهم واحدا واحدا، حتى يستوفوا أجزاءهم كذلك). وذلك لأنه لابد لصاحب الأقل من أن يحصل له نصيبه متميزا من غيره، ولا يمكنه أن يجزئه على قدر أنصبائهم؛ لأنه لا يأمن أن يخرج النصيب الأقل لصاحب الأكثر، والنصيب الأكثر لصاحب الأقل، ولكنه

يجزئه على الأقل، كأنه إن كان أقل الأنصباء فيها الثمن، جزأه أثمانا، فإن كان لواحد فيها النصف: أعطاه أربعة أثمان من جانب واحد، ولا يفرق نصيبه؛ لأن فيه ضررا عليه. مسألة: [التصرفات التي يحق للمقسوم له فعلها في حقه أو حق الغير] قال أبو جعفر: (ومن أصابه في قسمته حجرة سفل، وعلو من دار، فأراد أن يفتح في حائطها بابا من حجرة له سواها في دار أخرى، ليتطرق من تلك الحجرة في هذه الدار: لم يمنع مما يفعله في حائطه. ثم ينظر فإن كان ساكن الحجرتين واحدا: لم يمنع من التطرق في هذه الدار. وإن كان ساكن هذه الحجرة التي من وراء هذه الدار، غير ساكن الحجرة التي وقعت له من هذه الدار: لم يكن له أن يتطرق فيه). قال أحمد: المسألة أنه وقعت له حجرة، ولها طريق في دار قوم، وله دار أخرى خلف الحجرة، فتح منها بابا إليها، ليستطرق الحجرة، وطريقها في الدار التي لغيره، فيكون اعتباره على ما ذكر، وذلك لأن ساكن الموضعين إذا كان واحدا: فله أن يصير من إحداهما إلى الأخرى يحق السكنى، فله أن يستطرق حينئذ من الحجرة التي هو ساكنها في طريقها إلى دار القوم. وأما إذا كان ساكن الدار التي خلف الحجرة غير ساكن الحجرة: فليس لساكن الدار أن يستطرق الدار التي فيها طريق الحجرة؛ لأنه لما لم يكن له

حق السكنى في الحجرة، فهو إنما يصبر إليها على جهة الاستطراق إلى الدار، فصار بمنزلة من استطرق طريقا شارعا إلى دار ليس له فيها حق الاستطراق، فليس له أن يفعل ذلك إلا بإذن صاحبها. مسألة: [ادعاء أحد الشركاء الغلط في القسمة] قال أبو جعفر: (ومن ادعى غلطا من أهل القسمة، أو حيفا بعد وقوع القسمة، وأنكر ذلك أصحابه، سئل البينة على ذلك، فإن أقام بينة عليه: فسخت القسمة ثم استؤنفت إن طلب ذلك أهلها). قال أحمد: لا يصدق مدعي الغلط إلا ببينة؛ لأن القسمة محمولة على الصحة، كسائر العقود إذا وقعت، هي محمولة على الصحة، ولا يصدق مدعي الفساد على ما يدعيه إلا ببينة، فإن أقام بينة: قبلت منه، لأنه استدرك بها حقا لنفسه. مسألة: [قسمة غير العقار عند طلب أحد الشركاء] قال أبو جعفر: (وإذا كانت الغنم بين جماعة، فطلب بعضهم قسمتها: قسمت، وكذلك الإبل، والبقر، والثياب، والدواب، والحنطة، والشعير). قال أحمد: معناه: أن كل صنف من ذلك يقسم على حدة، ولم يرد به أن بعضها يقسم في بعض؛ لأن الأصناف المختلفة لا يقسم بعضها في بعض إلا بتراضي الجميع.

مسألة: [قسمة الرقيق] قال أبو جعفر: (وأما الرقيق، فإن أبا حنيفة كان لا يقسمهم، وقال أبو يوسف ومحمد: يقسم الرقيق كما يقسم ما سواهم). وجه قول أبي حنيفة: أن القسمة تعديل الحقوق على المساواة، وذلك غير ممكن في الرقيق، لتفاوت ما بين بني آدم. قال النبي عليه الصلاة والسلام: "الناس كإبل مائة، لا تجد فيها راحلة". وفي خبر آخر: "أنه ليس شيء يفي الواحد منه بألف من جنسه، إلا بنو آدم". وقال الشاعر: ولم أر أمثال الرجال تفاوتا ... إلى الفضل حتى عد ألف بواحد وإذا كان كذلك، وكانت هذه المعاني التي ينبغي فيها التعديل والمساواة، غير مضبوطة في الرقيق، لم تصح قسمتهم. فإن قيل: قد يمكن قسمتهم على اعتبار القيم. قيل له: لا اعتبار بالقيمة في ذلك، دون تعدي المنافع، وهذا سديد على ما ذكرنا من قوله في اعتبار السفل، والعلو بالمنافع، ودللنا على وجوب اعتبار المنافع، وأن من لم تحصل له منفعة بالقسمة، لم يستحق القسمة على شريكه.

والقيمة فإنما بصار فيها إلى ظاهر حاله، دون المعاني التي يتفاوت فيها الناس، وظاهر الحال لا يدل على ما وصفنا؛ لأن تلك المعاني من العقل، والفطنة، والفهم، والصبر، والحلم، والوفاء، والصدق، والشجاعة، وحسن الخلق، والدين، وما جرى مجرى ذلك، وهذه معاني مبتغاة من الرقيق، لا سبيل إلى الإحاطة بها، والوقوف على كنهها. وأما سائر الحيوان فليس يبتغي منه شيء من ذلك، والمبتغي منه ما يمكن مشاهدته في الحال، وهو الشدة، والعبولة، والسمن في الغنم، والمأكول من الحيوان، والجري في الفرس، وذلك كله يمكن الوصول إلى معرفته في الحال، من غير تفاوت يقع فيها. *وأما أبو يوسف ومحمد، فإنهما جعلا الرقيق كسائر الحيوان، في إيجاب قسمته على القيم. مسألة: [قسم الرقيق ومعهم ثياب غيرها] قال أبو جعفر: (وإن كان مع الرقيق سواهم من الثياب أو غيرها: قسم ذلك بينهم، وأدخل فيه الرقيق في قولهم جميعا). قال أحمد: قد ذكر محمد هذه المسألة في كتاب القسمة على ما ذكره أبو جعفر، وهي محمولة على أن الملاك تراضوا بالقسمة؛ لأنه لا خلاف بينهم أن القاضي لا يقسم الأجناس المختلفة بعضها في بعض، إلا أن يتراضوا بالقسمة عليها، فيكون ذلك بيعا يقع بينهم بالتراضي.

فأما القسمة المستحقة بحق الملك، وما يجبر القاضي عليها منها، فإنما يكون في الجنس الواحد، لا في الأجناس المختلفة بعضها في بعض، فما ذكر من قسمة الرقيق مع الثياب محمولة على التراضي. مسألة: [اشترط الخيار في القسمة] قال أبو جعفر: (ولا بأس بشرط الخيار في القسمة). قال أحمد: ما يجوز في البيع من هذه الشروط: فهو جائز في القسمة، وما لا يجوز مثله في البيع: لا يجوز في القسمة؛ لما وصفنا من أن القسمة الواقعة على القيم هي في معنى البيع. مسألة: [حكم الشفعة وخيار الرؤية في القسمة] قال أبو جعفر: (ولا شفعة في قسمة، ولا خيار رؤية). قال أحمد: يعني أن القوم إذا اقتسموا دارا بينهم: لم تجب فيها شفعة للجار؛ لأن الشريك أولى منه، ولا تحسب لبعضهم على بعض، لما فيه من فسخ ما دخلوا فيه من القسمة. ويدل عليه أيضا: ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: "فإذا وقعت الحدود فلا شفعة". وإيقاع الحدود هو القسمة، فنفى الشفعة بالقسمة، كما لو قال: إذا وهب: فلا شفعة، وإذا تزوج على دار: فلا شفعة: يعقل به نفي

الشفعة بهذا العقد. وأيضا: فإن كل واحد منهم شريك فيما وقع له بالقسمة من جهة أصحابه، وليس لأصحابه شركة قائمة بعد القسمة فيما وقع له، فالشريك أولى ممن لا شركة له في حال الأخذ، ألا ترى أن من وجبت له شفعة بالشركة، ثم قاسم: بطلت شفعته، لبطلان ما به استحق. وأما قوله: ولا خيار رؤية: فمعناه: ولا شفعة في خيار رؤية، وهو أن يشتري دارا لها شفيع، فسلم الشفعة والمشتري لم يكن رأى الدار، فردها على بائعها بخيار الرؤية: فلا شفعة له في الدار؛ لأنه ليس حكمه حكم البيع المستقبل، وإنما هو بمنزلة فسخ البيع بخيار الشرط، وبموت العبد قبل القبض، وذلك لأنه عاد إليه بغير قبوله، والبيع لا يكون إلا بالتراضي. وليس يعني أن لا خيار رؤية في القسمة؛ لان خيار الرؤية قد يجب في القسمة عندهم. مسألة: [حق الولي في القسمة عن مال الصغير] قال أبو جعفر: (ولأبي الصغير، ووصيه أن يقاسما على الصغير). قال أحمد: كل من له ولاية في التصرف في الشراء والبيع: فله القسمة؛ لأنها في معنى البيع. مسألة: [إذا ورد الاستحقاق على المقسوم] قال أبو جعفر: وإذا كانت الدار بين رجلين نصفين، فاقتسماها،

فأخذ أحدهما الثلث من مقدمها، وقيمته ستمائة درهم، وأخذ الآخر الثلثين من مؤخرها، وقيمتها ستمائة درهم، ثم استحق نصف ما في يد صاحب المقدم، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال في ذلك: يرجع صاحب المقدم على صاحب المؤخر بربع ما في يده، وإن شاء أبطل القسمة. وقال أبو يوسف ومحمد: يرد ما بقي في يده، ويبطل القسمة، ويكون ما بقي من الدار بينهم نصفين). وجه قول أبي حنيفة في إيجابه التخيير بين الرجوع بما يخصه فيما في يد الآخر، وبين فسخ القسمة: أن القسمة في ذلك لما كانت في معنى البيع بما قدمنا، صار كمن اشترى دارا بدار، فاستحق نصفها، فالمستحق ذلك من يده بالخيار: إن شاء فسخ البيع، ورجع بالدار التي سلمها إلى البائع، وإن شاء رجع بحصة ما استحق فيما في يده، وهذا اتفاق بينهم في البيع، فكانت القسمة عنده بمثابته. وإنما قال: يرجع بربع ما في يد الآخر: من قبل أن ملكهما قد تبين أنه قد كان الباقي من الدار، وقيمته تسعمائة؛ لان المستحق ثلثمائة، فينبغي أن تكون هذه التسعمائة بينهما نصفين، فيجب أن يحصل لكل واحد منهما ما قيمته أربعمائة وخمسون، وفي يد صاحب المقدم ثلثمائة بعد الاستحقاق، فيرجع مما في يد صاحبه بما قيمته مائة وخمسون، وذلك ربع ما في يده. *وأما أبو يوسف ومحمد: فإنهما ذهبا في ذلك إلى أنه قد تبين أنه

كان لهما شريك ثالث، فتبطل القسمة؛ لأنه لا تجوز قسمة الشريكين دون الثالث. مسألة: [البيع قبل القسمة دون إذن الشريك] قال أبو جعفر: (وإذا كانت الدار بين رجلين، فباع أحدهما نصيبه من بيت منها: فلشريكه أن يبطل بيعه). وذلك لأنه لو جاز بيعه، لحصل لهما شريك ثالث في بعض الدار، دون بعض، وفيه ضرر على الشريك؛ لأنه يقاسم المشتري البيت وحده، دون سائر الدار، ويقاسم البائع بقية الدار، فيفترق نصيبه فيها، وهو قد استحق بدءا بحق ملكه في الدار جمع نصيبه في موضع منها، فليس للشريك إبطال حقه من ذلك. مسألة: [الأشياء التي يصح بيعها من الشريك قبل القسمة] قال أبو جعفر: (ولو كانت ثياب بين رجلين، أو غنم، أو ما أشبه ذلك مما يقسم، فباع أحدهما حصته من شاة، أو من ثوب، أو مما سوى ذلك منها: لم يكن لشريكه أن يبطل ذلك عليه في رواية محمد، وكان له أن يبطل ذلك في رواية الحسن بن زياد). وجه رواية محمد: أنه لا ضرر على شريكه في مشاركة المشتري إياه في الشاة، وليست مثل مسألة الدار؛ لان في تفريق نصيبه في الدار ضررا عليه، وليس في تفريق نصيبه في الغنم ضرر؛ لأنه لا يمكن أن يكون

نصيبه من الجميع مجتمعا في حيز، كما استحق جميع نصيبه من الدار في حيز. وأما وجه رواية الحسن: فهو أنه قد استحق بالملك إفراد نصيبه من نصيب شريكه، ورفع الشركة والشيوع في ملكه، وجواز بيعه يبطل عليه حقه في هذا الوجه؛ لأن الشركة تبقى أبدا بينه وبينه فيها. مسألة: [حكم إقرار الشريك في دار ببيت منها لثالث أو وصيته] قال أبو جعفر: (ومن كان بينه وبين رجل دار، فأقر ببيت منها لرجل، وأنكر ذلك صاحبه: قسمت الدار بين الشريكين، فإن وقع البيت في نصيب المقر: دفعه إلى المقر له، وإن وقع في نصيب المنكر: قسم ما أصاب المقر بالقسمة بين المقر وبين المقر له، يضرب المقر له بذرع البيت، ويضرب فيه المقر بذرع نصف الدار بعد البيت، فيكون لكل واحد منهما ما أصابه منه). قال أحمد: أما مادامت الشركة قائمة، فالمقر غير مصدق في إقراره، لما فيه من الضرر على شريكه، حسب ما قلنا في بيعه لنصيبه من بيت بعينه. وأما إذا اقتسما، فإن وقع البيت في نصيب المقر: سلمه إليه، لاعترافه بأنه أولى به منه، كمن اشترى عبدا، ثم أقر به لغيره. وأما إذا وقع في نصيب الآخر: فإن المقر له يضرب فيما في يد المقر بمثل ذرع البيت، ويضرب المقر بذرع نصف الدار بعد البيت، فيكون نصيبه بينهما على ذلك؛ لأن إقراره قد تضمن أن الدار إن كانت مائة

ذراع، والبيت عشرون ذراعا، فقد زعم في إقراره أن البيت للمقر له، وأن الذي تبقي من الدار بعد البيت ثمانون ذراعا، له منها النصف: أربعون. فإذا حصل في يده بالقسمة خمسون ذراعا، اقتسمها هو والمقر له، يضرب فيه المقر له بعشرين ذراعا، والمقر بأربعين ذراعا، فيكون بينهما على ذلك. فإن قيل: فهو إنما أقر له ببيت بعينه، فكيف يجوز أن يأخذ من غير ما أقر له به؟ قيل له: من قبل أنا قد أعطينا المقر بدل ما سلم من البيت لشريكه، وإذا حصل له البدل، ثبت فيه حق المقر له. قال أحمد: وقال أبو حنيفة وأبو يوسف في دار بين رجلين، أوصى أحدهما ببيت منها بعينه لرجل، ثم مات، فقسمت الدار، فإن وقع البيت في نصيب الميت: كان البيت للموصى له، وإن وقع في نصيب الآخر: كان للموصى له مثل ذرع البيت كله فيما أصاب الموصي الميت. وهذا يستمر على ما ذكرنا في الإقرار؛ لأن الموصى له قد تعلق له الحق في استحقاق البيت كله إذا حصل في نصيب الميت؛ لأنه يصير بمنزلة من لم يزل كان مالكا له، وكان مستحقا بالقسمة، والقسمة من حقوق الملك، فإذا ثبت له الحق من هذا الوجه، في استحقاق البيت كله لو وقع في نصيبه، كان كذلك حكمه إذا وقع في نصيب صاحبه، كما قد قلنا في الإقرار؛ لأنا قد سلمناه إلى الشريك بالبدل الذي حصل للميت بحق ملكه.

*وأما محمد فإنه وافقهما في الإقرار، وخالفهما في الوصية، فقال فيها: إن صار البيت للميت، أخذ الموصى له نصفه؛ لأن النصف الآخر ملكه من جهة الشريك، فكان فيه بمنزلة أوصى بدار غيره لرجل، ثم ملكها، فتبطل وصيته فيها. وإن حصل البيت في نصيب الشريك: كان له مثل نصف ذرع البيت، كرجل أوصى بعبده لرجل، ثم قتله رجل بعد موت الموصي: فيستحق الموصى له قيمته. وفصل بينه وبين الإقرار، بأن الإقرار حكمه ثابت في حق المقر له على المقر، سواء كان في ملكه أو في ملكه غيره؛ لأن من أقر بعبد غيره لرجل، ثم ملكه بعد إقراره: جاز إقراره فيه، فلذلك صار له بجميع ذرع البيت، إذا صار البيت بالقسمة لشريكه. وأما الوصية فلا تنفذ إلا في ملكه؛ لأنه لو أوصى بعبد غيره، ثم ملكه: لم تنفذ وصيته فيه، فلما كان مالكا لنصف البيت يوم الوصية، لم تصح وصيته في النصف الذي لا يملكه، فلذلك اختلفا عنده. *****

كتاب المأذون له

كتاب المأذون له في التجارة مسألة: [حكم الإذن للعبد والأمة بالتجارة] قال أبو جعفر: (وجائز للرجل أن يأذن لعبده ولأمته في التجارة، بالغين كانا أو غير بالغين، بعد أن يكون الصغير منهما يعقل التجارة). قال أحمد: قال الله تعالى: {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا}. فاقتضى عمومه جاوز كتابة الصغير، كما اقتضى جواز كتابة الكبير؛ لأن الصغير الذي يعقل يصح منه الابتغاء كالكبير. ودل على جواز الإذن لهما في التجارة؛ لأن الكتابة لا محالة توجب له التصرف في التجارات، إذ لا يتوصل إلى أدائها إلا بها. فاستفدنا من الآية معنيين: أحدهما: جواز الكتابة، والآخر: جواز الإذن في التجارة.

وعموم اللفظ مع دلالته على ما دل عليه لم يفرق بين الصغير والكبير، فهو عليهما جميعا. وأيضا: فلما كان المولى مالكا لذمة العبد ولرقبته، بدلالة أنه لو أق عليه بدين: جاز إقراره، وبيع فيه، كما لو أقر برقبته: صح إقراره ووجب أن يجوز إذنه له في التجارة؛ لأنه تصرف فيما يملكه منه. وأيضا: فإن المولى يملك استكساب العبد، وأخذه غلته، وفي الإذن له في التجارة: توصل إلى أخذ كسبه، فوجب أن يعمل إذنه في جواز تصرفه. وأيضا: فإن العبد جائز التصرف على نفسه؛ لأنه بالغ من أهل التكليف، وإنما استحق الحجر لحق المولى، ولئلا يلزمه بتصرفه وأقواله ما يستحق به عليه ملكه، فإذا زال عنه الحجر: جاز تصرفه؛ لزوال المعنى الذي من أجله منع التصرف. ومما يدل على جواز الإذن وإن كان صغيرا: قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منها رشدا}. ومعلوم أن الابتلاء لا يمكن ولا يصح إلا بالإذن له في التجارة والشراء والبيع، وإذا جاز الإذن للصغير الحر في التجارة: كان العبد الصغير أولى بجوازه لوجهين: أحدهما: أنا لا نعلم أحدا فرق بينهما. والثاني: أنه أملك لعبده منه لولده.

ولأنه لما ملك رفع الحجر عن ولده وليس الحجر حقا له، فرفع حجر عبده لحقه، ولأجل ملكه هو أولى بأن يملكه. وقد روي جواز إذن العبد في التجارة عن جماعة من السلف، من غير فرق يحكى عنهم بين الصغير والكبير. مسألة: [الإذن للعبد في بعض التجارات فقط] قال أبو جعفر: (ومن أذن لعبده في خاص من التجارات: كان بذلك مأذونا له في جميع التجارات). قال أحمد: وذلك لأن الإذن في التجارة إطلاق من حجر، ألا ترى أن العبد يتصرف به على نفسه بارتفاع حجره، فوجب أن لا يتبعّض، كما لا يختص زوال حجر الصغير بالبلوغ بنوع من التجارات دون غيره، وكالعتق لما استحق به ارتفاع الحجر، استحق به جواز التصرف في سائر التجارات. وأيضا: فإنه إذا أذن له في نوع من التجارات: فقد رضي بإغلاق رقبته في الدين فيما سمى من التجارات، فلا فرق حينئذ بينها وبين غيرها من التجارات؛ لأنه لا حق للمولى في أن يكون ثبوت الدين من جهة شراء الحنطة، أو البُر، دون غيرهما، وما ليس بحق له: لم يعمل نهيه فيه.

مسألة: [إذن المولى لعبده في العمل بالخياطة] قال أبو جعفر: (وكذلك لو أذن له أن يعمل في الخياطين: كان بذلك مأذونا له في التجارات كلها). وذلك لأنه إذنه له في العمل في الخياطين، إذن منه في تقبل العمل وضمانه، واستئجار حانوت يقعد فيه، وشراء آلات الخياطين، واستئجار الأجراء لها، وذلك ضرب من التجارات، فوجب أن يصير إذنا في سائرها. مسألة: [تفويض العبد بشراء ثوب أو لحم ونحوه]. قال أبو جعفر: (ولو قال له: اذهب فاشتر ثوبا من فلان، فاقطعه قميصا، أو اشتر من فلان طعاما، فكله، أو اشتر لحما بدرهم: لم يكن بهذا مأذونا له في التجارة). قال أحمد: كان القياس عندهم على ما قدمنا من الأصل أن يكون مأذونا له، إلا أنهم تركوا القياس، فلم يجعلوه مأذونا، وذلك لأنه لم يفوض إليه أمر التصرف في التجارة، وإنما أمره بضرب من الخدمة. ولو جعلناه بذلك مأذونا، لكنا قد جعلنا المولى ممنوعا من استخدام عبده؛ لأنه متى علم أن هذا الضرب من الاستخدام، يؤديه إلى إغلاق رقبته في ديون الغرماء: امتنع من استخدامه، ولا خلاف أن المولى مالك لاستخدامه، فوجب أن لا يكون ذلك إذنا. مسألة: [دفع أدوات استسقاء الماء للعبد والإذن له ببيعه]. قال أبو جعفر: (ولو دفع إليه حماراً، ورواية، فقال له: استق الماء

في هذه الرواية على هذا الحمار، ثم بِعه، أو قال له: انقل عليه كذا وكذا بالأجر، فهو مأذون له في التجارة). لأنه قد فوض إليه التصرف في البيع والإجارة على الإطلاق، فصار ذلك إذنا من نوع من التجارات، فحصل مأذونا له في التجارات كلها. مسألة: [بعض الصور التي يُعد السكوت فيها إذنا]. قال أبو جعفر: (ومن رأى عبده يشتري ويبيع، كما يشتري المأذون له في التجارة، فسكت عنه، فلم ينهه: كان إذنا منه له في التجارة). وذلك لأنه متصرف على نفسه، وللمولى حق في تصرفه، فصار سكوته رضا، كما أن المشتري لما كان متصرفا على نفسه، وللشفيع حق في تصرفه: كان سكوته عن الطلب مسقطا لحقه، كذلك المولى في تصر عبده. وليس كمن رأى رجلا يبيع عبده، فلا يكون سكوته إجازة لبيعه؛ لأن بائع عبد غيره متصرف على مالك العبد، لا على نفسه، والوكالة لا تثبت بالسكوت، والعبد متصرف على نفسه. ألا ترى أن المولى لا يلزمه شيء مما تصرف فيه من التجارة بإذنه، كما أن المشتري متصرف على نفسه دون الشفيع، فكان به أشبه منه بالوكيل. قال أبو جعفر: (ولا يكون للسكوت حكم في شيء من الأشياء إلا

في هذا، وفي سكوت البكر إذا زوجها الولي، وقد بيناه في النكاح، وسكوت الشفيع). قال أحمد: سكوت الشفيع يفارق سكوت المولى، وسكوت البكر من جهة، ويشبه من جهة. فأما الجهة التي يفارقهما فيها: فهي أن سكوته عن الطلب وقت علمه بالبيع، لا يبطل شفعته حتى يقوم عن المجلس، أو يشتغل بشيء غيره يدل على إعراضه عن الطلب، مثل ما قالوا في خيار القبول، وفي تخيير المرأة، ونحوهما من الخيار المتعلق بالمجلس. وأما البكر فإن سكوتها رضا، وليس لها في المجلس فسخه بعد سكوتها بدءا. وكذلك المولى إذا سكت عن عبده وهو يراه يشتري ويبيع. وقد كان الشيخ أبو الحسن رحمه الله يقول: إن الشفعة لا تصير حقا إلا بالطلب، ليس أنها كانت حقا بنفس العقد، ثم بطل بالسكوت. مسألة: [بيع الشخص لعبد غيره بين حضرة مالكه دون إنكاره]. قال أبو جعفر: (ومنه الغلام يباع بمحضره، وبعلمه بذلك، ثم يقال له: قم مع مولاك، فيقوم، فذلك إقرار منه بالرق) قال أحمد: هذا الضرب محمول على دلالة الحال، فيصير كالنطق به، ولهذا نظائر من الأصول:

منها: الرجل يقدم إلى قوم عنده مائدة عليها طعام، فيجوز لهم أن يأكلوا، وتصير دلالة الحال كالنطق به. ومنها: الخانات التي في الأسواق، يجوز للإنسان دخولها بغير استئذان؛ لأن حصولها على هذه الحال، كالإذن منه له في دخولها. وقد روي في تأويل قول الله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم}: أن المراد به الخانات. وقيل: قوله تعالى: {فيها متاع لكم}: أن المعنى: فيها حاجة لكم. ومن ذلك: ما يجده الإنسان في الطرق والمزابل من النوى، والخرق أنه جائز له أخذها، والانتفاع بها وإن لم يكن من المالك لها إذن في أخذها؛ لأن حصولها على هذه الحال، كالإذن في أخذها. مسألة: [سكوت البائع عن المشتري في القبض دون دفع الثمن]. قال أبو جعفر: (ومنه: الرجل يبيع الشيء بالثمن الحال، فيكون له حبسه حتى يبرأ المشتري من الثمن، فإن قبضه مشتريه، وهو يراه فلا ينهاه: فذلك إذنٌ له في قبضه). قال أحمد: الذي أحفظه عن أصحابنا من ذلك الهبة والبيع الفاسد، إذا قبضه الموهوب له، والمشتري بحضرة الواهب والبائع بعد العقد: فيكون قبضا عن العقد، وتصح به الهبة، ويجوز به تصرف

المشتري في المبيع، وجعلوا ذلك في الهبة بمنزلة القبول في المجلس، ما لم ينهه؛ لأنها لا تصح إلا بالقبض، فجرى القبض مجرى القبول، فلما كان العقد معلقا بالمجلس، وكان الواهب قد أوجب له القبول بإيجابه الهبة له، فقد أوجب له القبض الذي هو في حكم القبول، وتعلق هذا القبض بالمجلس، كما تعلق القبول بالمجلس. وقالوا: لو قبضه بعد افتراقهما عن المجلس: لم يصح، كما لو قبل العقد بعد المجلس: لم يصح العقد. فهذا هو المعنى في قبض الهبة في المجلس مع السكوت، ثم أجروا قبض البيع الفاسد على حكم قبض الهبة من الوجه الذي ذكرنا، لاتفاقهما جميعا في تعلق وقوع الملك فيهما بالقبض، والأصل هو الهبة على ما بينا. *فأما ما ذكره أبو جعفر في البيع الصحيح: فإن كان حفظه عنهم رواية، فيشبه أن يكونوا حملوه على ما ذكرنا في البيع الفاسد، وأن مثله إذا كان إذنا في قبض غير مستحق، فلأن يكون إذنا في العقد الصحيح والقبض المستحق أولى. مسألة: [بعض التصرفات التي يمنع منها المأذون] قال أبو جعفر: (وليس للمأذون له في التجارة، ولا للمكاتب أن يقرضا). وذلك لأن القرض تبرع ومعروف، وهما لا يملكان ذلك، كما لا يملكان الهبة والصدقة.

ولأن فيه استهلاك العين، وجعلها دينا من غير نفع يعود به عليهما في إكسابهما، فصار كالكفالة. مسألة: [إعلان شخص بأن سيده قد أذن له في التجارة] قال أبو جعفر: (ومن قدم من العبيد مصرا من الأمصار، فذكر أن مولاه قد أذن له في التجارة،: وسع الناس أن يبايعوه، وحكمه حكم المأذون له، غير أنه لا يباع حتى يحضر مولاه، فيقر بالإذن). قال أحمد: الأصل في ذلك: أن أخبار المعاملات مقبولة، ما لم يغلب في الظن خلافها، ألا ترى أنا لو علمنا عبدا لإنسان، فرأيناه في يد غيره، وقال: وكلني ببيعه: وسعنا شراءه منه. وكذلك لو جاء رجل إلى رجل آخر بجارية، أو ثياب، أو دراهم، فقال: أهداها إليك فلان: وسعه قبول خبره، وقبض ما ذكر أنه هدية، وتصرف فيه. وكذلك من جاء إلى آخر وقال: قد وكلك فلان ببيع جاريته هذه: جاز له قبول خبره وبيعها. ومنها: الإذن في دخول منازل الناس: يجزئ فيه قبول خبر سائر المخبرين، وقد نهى الله تعالى عن الدخول إلا بإذن بقوله تعالى: {لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها}.

وخبر العبد في مسألتنا من أخبار المعاملات، فيسع الناس قبوله، إلا أن ذلك لا يجوز على مولاه إذا حضر، فأنكر الإذن، كما لا يجوز على المالك إذا قال: لم أهب، ولم أهد، ولم أوكل. ولا يباع حتى يحضر المولى؛ لأن فيه إزالة ملكه، وحكما عليه، ولا يجوز ذلك عليه في حال غيبته لو كان الإذن معلوما، فكذلك إذا لم يعلم. مسألة: [توقيت الإذن] قال أبو جعفر رحمه الله: (ومن أذن لعبده في التجارة شهرا: كان مأذونا له أبدا بغير وقت). وذلك لما قدمنا من أن الإذن في التجارة إطلاق من حجر، فلا يصح توقيته، كالبلوغ والعتق اللذين يستفاد بهما جواز التصرف، فلا يكون تصرفهما موقوتا، كذلك الإذن في التجارة. فإن قيل: فينبغي أن لا يصح الحجر بعده؛ لأنه يقتضي توقيت الإذن بعده. قيل له: ليس كذلك، ألا ترى أن البلوغ مع إيناس الرشد يوجبان زوال الحجر، ثم لا يمتنع أن يستحق الحجر بعد ذلك، لزوال عقل أو سفه، ولا يوجب ذلك جواز توقيت زوال الحجر في الابتداء بالبلوغ.

مسألة: [الحجر على مأذون له بالتجارة] قال أبو جعفر: (وللمولى أن يحجر على عبده المأذون له، غير أنه لا يكون حجره عليه حجرا إلا في جمع من أهل سوقه). وإنما كان له أن يحجر عليه؛ لأن الإذن لم يزل ملكه، وجواز تصرفه، فله أن يحجر عليه، كما كان له أن يأذن له. وإنما اعتبر صحة الحجر بمحضر جماعة من أهل سوقه؛ لأنهم قد صاروا مغرورين بالإذن له في التصرف والمداينة، فلا يرتفع ذلك إلا بالعلم، كما أن الوكيل لا ينعزل بالنهي دون العلم به. مسألة: [الفرق بين توقيت الإذن وتوقيت الحجر] قال أبو جعفر: (وإن قال له: إذا جاء غد فقد حجرت عليك: لم يكن حجرا في يومه، ولا في غده). قال أحمد: قوله: إذا جاء غد فقد حجرت عليك: توقيت منه للإذن، وقد بينا آنفا أن الإذن لا يتوقت لو شرط التوقيت فيه بدءا في حال الإذن، فكذلك بعد وقوعه وصحته. وليس كذلك قوله: إذا جاء غد فقد أذنت لك؛ لأن ذلك إذن مطلق غير موقت، وإنما هو معلق بمجيء وقت، ألا ترى أنه لو قال له: إذا جاء غد فأنت حر: لم يوجب ذلك أن تكون الحرية مؤقتة، وإنما اقتضى ذلك كونها معلقة بوقت، ويصح تعلق الإذن بمجيء الوقت، كما يصح تعلق العتق والطلاق، وجوز تصرف الصغير بمجيء وقت؛ لأن جميع ذلك كله

إسقاط حق. وقد شبه شيوخنا قوله: إذا جاء غد فقد حجرت عليك: بقول الزوج للمطلقة: إذا جاء غد فقد راجعتك؛ لأنه مثبت لنفسه حقوقا كان أسقطها، فلا يتعلق على الأخطار، كما لا يتعلق إثبات الأملاك على الأخطار، كذلك الرجعة والحجر. وقوله: إذا جاء غد فقد أذنت لك: كقوله: إذا جاء غد فأنت طالق. مسألة: [بيع المأذون إذا وجبت عليه الديون وطالب الغرماء] قال أبو جعفر: (وإذا وجب على العبد المأذون له في التجارة ديون فطلب غرماؤه بيعه فيها: باعه القاضي لهم فيها، فقضاهم ثمنه من ديونهم، فإن فضلت لهم منها فضلة: كانت على العبد إذا أعتق). قال أحمد: الدين ثابت في ذمة العبد، ويستوفى من رقبته، لإمكان استيفائه منها، فلهم المطالبة ببيعه، لاستيفاء الدين من رقبته، والثمن بدل الرقبة فيقوم مقامها. ثم لا يتبعون العبد بشيء حتى يعتق؛ لأنهم قد استوفوا بدل رقبته مرة؛ فكأنهم قد أخذوا الرقبة نفسها، فسقط حقهم من الرق، والدين باق في ذمة العبد، بمنزلة عبد محجور عليه أقر بدين، فيلزمه في ذمته، ولا يباع فيه، حتى إذا عتق اتبعوه؛ لأن الذمة التي فيها الدين لم تبطل، بل صحت، وثبتت بالعتق، فلذلك اتبعوه.

مسألة: [تعلق دين المأذون لها بولدها وأرشها] قال أبو جعفر: (ومن أذن لأمته في التجارة، فولدت ولدا من غير مولاها، أو فقئت عينها، فوجب أرشها، وعليها دين: كان ذلك مصروفا في دينها، وإن لم يكن عليها دين: كان ذلك لمولاها خارجا من تجارتها). قال أحمد: إنما ثبت حق الغرماء في استيفاء ديونهم من الولد: من قبل أن الدين حق ثابت مستقر في ذمتها، يستوفى من رقبتها، فيسري ذلك الحق في الولد، كسائر الحقوق الثابتة في الرقاب، فيسري في الأولاد، نحو الاستيلاد والكتابة والرهن ونظائرها. وليس كالجناية؛ لأن الجناية ليست عندنا حقا ثابتا في الرقبة؛ لأنها توجب الخيار للمولى في الدفع أو الفداء، فلا تستوفى الرقبة بنفس الفعل حتى يختار المولى إثباتها فيها. يدل على هذا: أن المولى لو أعتقه: بطلت الجناية، ولم يبطل الدين، ولو باعه المولى: كان للغرماء فسخ بيعه، ولم يكن لولي الجناية ذلك، فلذلك افترقا. وأرش عينها بمنزلة قيمة لو قتلت؛ لأنه بدل جزء من أجزائها. *وإنما كان الولد للمولى، ولم يكن من تجارته: من قبل أنه جزء من أجزائها، لم تستفده من تجارتها، وليس من كسبها، ولم يملكه المولى أيضا من جهتها، فلم يجز تصرفها فيه، كما لا يجوز تصرفها في بيع نفسها.

[مسألة:] قال أبو جعفر: (وإن لحقها دين بعد الولادة: لم يكن لغرمائها على ولدها، ولا على أرشها سبيل، وهما لمولاها). وذلك لأن الدين لحقها، والولد والأرش بائنان منها، فلا يسري حق الدين فيهما، ألا ترى أنه لو كاتبها: لم يدخل الولد في كتابتها، ولم يستحق أرش يدها. *قال: (وإن وهبت لها هبة، وعليها دين: صرفت في دينها). لأنها من كسبها. وإن لم يكن عليها دين: كان لمولاها أخذها؛ لأنه لا حق لأحد فيها. *قال أبو جعفر: (فإن لم يأخذها حتى لحقها دين: صرفت في قضاء دينها). وذلك لأنها من كسبها، ألا ترى أن لها أن تتصرف فيها، فلا يختلف حكمها أن تكون استفادتها قبل الدين أو بعده. وليست بمنزلة الولد؛ لأن الولد ثبت فيه حق الغرماء من جهة السراية، وحق السراية لا يثبت إلا في حال اتصاله بالأم. *وإذا أخذ المولى الهبة من يد العبد قبل أن يلحقه دين، ثم لحقه دين: لم يكن للغرماء على الهبة سبيل؛ لأنها قد خرجت من تجارة العبد قبل لحاق الدين، ألا ترى أنه لا يجوز تصرف العبد فيها بعدما أخذها المولى، فلم يثبت فيها حق الغرماء، وليست هي من مال العبد

في هذه الحال. مسألة: [ما يثبت للغرماء إذا أعتق المولى العبد المديون] قال: (ومن أعتق عبده وعليه دين: فللغرماء أن يضمنوا المولى الأقل من قيمته ومن الدين، وإن شاؤوا رجعوا على العبد بجميع دينهم. واختيارهم لتضمين المولى: لا يبرئ العبد، وكذلك اتباعهم العبد: لا يبرئ المولى). وذلك لأن المولى في هذه الحال بمنزلة الضمين عن العبد في مقدار ما لزمه للغرماء، وذلك لأن الدين باق على العبد بعد العتق، ولزم المولى القيمة بإتلافه الرق الذي قد كان ثبت فيه حق الغرماء، فصار في هذا الوجه في حكم الكفيل، فلذلك لم يكن اتباع الغرماء العبد مبرئا للمولى مما لزمه بالعتق. مسألة: [ثبوت الخيار للغرماء إذا دبر المولى المأذون له المديون] قال: (ولو لم يعتقه المولى، ولكنه دبره: كان لغرمائه أن يضمنوا المولى القيمة إن كان دينهم مثل القيمة، ولا يتبعون العبد بشيء حتى يعتق). وذلك لأن القيمة تقوم مقام العين، والرق باق مع التدبير، فصار كالبيع إذا استوفوا الثمن: لم يتبعوا العبد في يد المشتري حتى يعتق؛ لأنهم قد استوفوا البدل مرة مع بقاء الرق، وليس كذلك العتق؛ لأن الرق قد زال، فإنما يتبعون ذمة العبد، والمولى بمنزلة الكفيل عنه في مقدار ما لزمه.

وأيضا: فإن المولى لا يجوز أن يغرم البدل مرتين، ولو جعلنا لهم بعد تضمين المولى القيمة أن يتبعوا المدبر، لكانوا يستوفون ما يأخذونه منهم من مال المولى؛ لأن كسبه لمولاه، فيكونون قد استوفوا البدل مرتين من ملك المولى، وليس كذلك العتق؛ لأن ما يأخذونه من العبد بعد العتق، ليس بمال للمولى؛ لأنه قد ملك أكسابه بالعتق. مسألة: [حكم رجوع الغريم عما اختاره] قال: (وإن اختار بعضهم اتباع المولى، وبعضهم اتباع المدبر: لم يكن لمن اختار منهم المولى، أن يرجع إلى المدبر حتى يعتق، وكذلك من اختار اتباع المدبر: لا يرجع إلى المولى، ومن اتبع المولى، فإنما يبتعه بحصته من دينه لو اتبعه هو وسائر الغرماء). وذلك لما بينا من انتفاء جواز اتباع المولى والمدبر جميعا في حال واحدة، فأشبه الغريم من هذا الوجه المغصوب في اختياره لاتباع الغاصب الأول أو الثاني، وأيهما اختار اتباعه: لم يكن له بعد ذلك اتباع الآخر؛ لأنه أبرأه، إذ ليس له اتباعهما جميعا في حال واحدة، وإنما اتبع المولى بحصته التي كانت تصيبه لو اتبعه مع سائر الغرماء. *ولم يتبعه بجميع القيمة: من قبل أن القيمة وجبت علي المولى لهم جميعا لو اتبعوه، فإذا أبرأه أحدهم، لم يكن للباقي إلا ما كان نصيبه لو اتبعوه معه. وأيضا: فلو جعلنا له اتباع المولى بالقيمة كلها إذا اختار الباقون اتباع المدبر، لحصل على المولى بالعتق ضمان البدل مرتين على ما بينا.

مسألة: قال أبو جعفر: (ولا يكون العبد المأذون له محجورا عليه بتدبيره إياه، وتصير الأمة محجورا عليها بالاستيلاد استحسانا). وذلك لأن التدبير لا ينافي ابتداء الإذن، وكذلك الاستيلاد، فوجب أن لا يكون حجرا، إلا أنه ترك القياس في الاستيلاد، فجعله حجرا لجريان العادة بصونها وحجبها عن التصرف بعد الاستيلاد. مسألة: [تصرف المولى في كسب المأذون بالعتق] قال: (وإذا أعتق المولى عبدا لعبده المأذون له في التجارة، ولا دين عليه: فعتقه جائز؛ لأنه لا حق لغيره فيه، وإن كان عليه دين: فإن أبا حنيفة كان يقول: عتقه باطل، ثم رجع فقال: إن كان الدين الذي عليه يحيط بقيمته وما في يده: فعتقه باطل، وإن كان الدين أقل من ذلك: كان عتقه جائزا، وضمن قيمة العبد الذي أعتقه. وقال أبو يوسف ومحمد: عتق المولى في هذا كله جائز، وعليه ضمان قيمة العبد المعتق). قال أحمد: الأصل فيه: أن العبد متصرف على نفسه، وما يشتريه ينتقل إليه، ويستحقه المولى من جهة العبد، ألا ترى أن المولى لا يلزمه ضمان ما يحصل على العبد من الثمن، فأشبه المولى الوارث إذا كان على الميت دين، فيمنع الميراث إذا كان محيطا بالتركة، ولا يمنعه إذا كان أقل. كذلك المولى، لما كان إنما يملك كسب العبد من جهة العبد، وجب

أن يكون ما على العبد من الدين مانعا من وقوع الملك للمولى إذا أحاط بقيمته، وبما في يده. ألا ترى أن الغرماء أحق بكسب العبد من المولى، كما أنهم أحق بميراث الميت من الوارث. *وفصل أبو يوسف ومحمد بينهم، من جهة أن الميت قد كان مالكا للمال في حياته، فمنع ما عليه من الدين من انتقال الملك إلى الوارث. وأما العبد فليس يصح له ملك، فالمولى هو المالك لماله في الحالين، كان عليه دين أو لم يكن، إذ لم يتوسط ملك من خرج من ملكه إليه، وملك المولى ملك غيره. مسألة: [بعض ما يجوز للمأذون من التصرفات] قال أبو جعفر: (ويجوز للعبد المأذون أن يحط من ثمن ما يبيعه لعيب، كما يحط التجار). قال أحمد: كل من ملك الإقالة، ملك الحط للعيب بمقداره. ويجوز تأخيره للثمن، وهو العبد المأذون له، والصبي المأذون له، والمضارب، وشريك العنان، لكل هؤلاء الحط بمقدار العيب، ويجوز تأخيرهم للثمن أيضا، كما ملكوا إسقاط الثمن بالإقالة. وأما الوكيل بالبيع، فلا يجوز له شيء من ذلك على الآمر، من قبل أنه لا يملك التصرف في الثمن، وذلك ضرب من التصرف فيه.

مسألة: [حكم بيع المولى للمأذون له المديون] قال أبو جعفر: (ومن باع عبده وعليه دين: فلغرمائه إبطال بيعه). وذلك لأن حقهم في سعايته وأكسابه، كحقهم في ثمنه، فلهم أن يختاروا منه ما شاؤوا، فيمنعوا المولى من البيع، ويستوفوا ديونهم من سعايته، ألا ترى أنه يجوز أن لا يفي الثمن بالدين، أو يتوى على المشتري، فلهم أن يقولوا: قد يمكننا استيفاء جميع ديوننا من كسبه، فنحن نستوفيها منه. مسألة: [بيع المولى للمأذون المديون، ثم غياب المولى] قال: (وإن باعه، وسلمه إلى المشتري، ثم غاب: فلا خصومة بين الغرماء وبين المشتري في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: هم خصم له، ويقضي لهم في بيع العبد بما كان يقضي له لهم لو كان مولاه حاضرا). وجه قول أبي حنيفة ومحمد: أن الغرماء إنما يريدون فسخ ملك المشتري، وإثبات ملك البائع؛ لأن حقهم استيفاء الدين من ملك البائع، وليسوا خصماء في إثبات ملكه، فلم يكن لهم أن يخاصموا المشتري فيه. وعلى هذا الأصل قالا في المشتري إذا باع الدار، ثم جاء الشفيع، فوجدها في يدي المشتري الثاني، والمشتري الأول غائب: أنه لا خصومة بينه وبين الذي هي في يده؛ للعلة التي وصفنا، وهي أن حق الشفيع

بالعقد الأول إنما ثبت في ملك المشتري الأول، وقد حصل هناك ملك ثان ليس الشفيع بخصم في فسخه لإثبات ملك المشتري الأول. *وخالفهما أبو يوسف في هذه المسألة كمخالفته إياهما في مسألة بيع المأذون، فشبهها بمسألة الاستحقاق، أن المستحق لما كان خصما للمشتري في استحقاق ملكه، لأنه مالك في الظاهر، كذلك الغرماء والشفيع فيما وصفنا. وفصل أبو حنيفة بينهما، من جهة أن المستحق تبين أنه كان مالكا للأصل، وأن البائع والمشتري واحد منهما ليس بمالك، فلذلك كان خصما للمشتري في استحقاق ملكه مع غيبة البائع، وأما مسألة المأذون والشفعة، فإن المولى والشفيه إنما يريدان فسخ الملك المشتري، ورده إلى ملك البائع، وليسا بخصم في إثبات ملك البائع، فلذلك اختلفا. ولأبي حنيفة أيضا: اتفاق الجميع على أن الغرماء لا يستحقون بيعه إلا بمحضر من المولى، فكيف يكون خصما في فسخ بيع لا يستحقون معه استيفاء الثمن منه في الحال إلا بعد حضور البائع؟ مسألة: [غياب المولى عن أصحاب الديون المؤجلة] قال أبو جعفر: (فإن كانت ديونهم مؤجلة، فإن محمدا قال في

المأذون الكبير: إنه لا سبيل للغرماء إلى إبطال بيع المولى بدينهم الأجل). وذلك لأنهم ليس لهم حق الاستيفاء في الحال، فكيف يفسخون بيعا إذا فسخوه لم يستحقوا به شيئا؟ ولكن إذا حلت ديونهم: كان لهم أن يضمنوا المولى قيمة العبد إذا كان دينهم يبلغها، وذلك لأنهم في هذه الحال كانوا يستحقون بيع العبد، وأخذ ثمنه ولو كان قائما، والمولى هو المستهلك له عليهم، فيغرم القيمة كما يغرمها لو أعتقه. قال أبو جعفر: (وقال محمد بعد ذلك في نوادره: إن للغرماء إبطال بيعه بدينهم الآجل، كما يكون لهم إبطاله بدينهم العاجل). ووجه ذلك: أن حق الغرماء ثابت وإن كان مؤجلا، إذ كان التأجيل غير مانع صحة ثبوت الدين في ذمته، وفى جواز بيعه إبطال حقهم من السعي، وليس له ذلك. مسألة: [حكم إقرار المأذون بالدين والغصب] قال أبو جعفر: (وإقرار المأذون له بالدين، والغصوب، واستهلاك الأموال جائز). وذلك لأن ذلك كله ضمانه ضمان الأموال، وليس يجري مجرى التبرع والمعروف، ألا ترى أنه لو أقر بأخذ شيء على وجه السوم، أو البيع الفاسد: جاز إقراره، وضمان الغصب كضمان ما وصفنا، فوجب أن يكون مصدقا فيه.

وجهة أخرى: وهي أنه لما كان مطلق الحجر في التجارات، وجب أن يصدق في ضمان المستهلكات كالحر. مسألة: [جناية المأذون المديون بالقتل الخطأ] قال أبو جعفر: (وإن قتل المأذون له في التجارة رجلا خطأ: قيل لمولاه: ادفعه إلى ولي الجناية، أو افده بالدية، فأي هذين فعل: اتبعه غرماؤه بدينهم، فباعوه فيه). قال أحمد: لا يقع بين أصحاب الدين وأصحاب الجناية مزاحمة في استحقاق العبد، وذلك لأن تعلق كل واحد منهما بالعبد على غير وجه تعلق الآخر، وذلك لأن الدين في الذمة، ويتسوفى من الرق والمكسب، والجناية متعلقة بالرقبة على شرط اختيار المولى تسليمها، وغير متعلقة بالذمة. يدل على هذا: أن المولى لو أعتقه: بطلت الجناية من الرقبة، ولم يبطل الدين. وأيضا: فإن الجنايات يستحق بها الرقاب في الأصول، ولا تستحق الرقاب بالديون، ألا ترى أن قتل العمد تستحق به رقبه الحر، ولا تستحق رقبته بالدين، فتثبت الجناية في رقبة العبد، حسب ثبوتها في رقبة الحر، ويثبت الخطأ في الموضع الذي يثبت فيه العمد فيما يصح استحقاق تسليمه بالخطأ. فلما كانت رقبة العبد مما يصح أن تستحق، وتملك بالجناية الخطأ، خوطب فيه المولى بالدفع، أو الفداء حسب ما استحق رقبته في العمد,

إلا أن له الخيار في الخطأ؛ لأن حق الولي في هذا الوجه في المال، فإذا استوفى بدل جنايته من المال، لم يكن له حق في الرقبة، وفي العمد حقه في القود، فليس للمولى نقله إلى المال إلا برضا الولى، وهما وإن اختلفا من هذا الوجه، لم يختلفا من حيث ثبوت كل واحد منهما في الموضع الذي يثبت فيه الآخر. وأما الديون فإنها تثبت في الذمم، ولا تستحق بها الرقاب في الأصول، فلذلك لم يخاطب المولى فيها بالدفع أو الفداء، وبيع العبد فيه، واستوفي دينه من ثمنه، إلا أن يؤدي المولى عنه دينه. فثبت بما وصفنا امتناع وقوع المزاحمة بين أصحاب الدين، وأصحاب الجناية، ولكنا نقول للمولى: إن لم تختر أن تفديه من الجناية حتى يفرغ رقبته منها، فادفعه إلى أصحاب الجناية؛ لأنهم لا حق لهم إلا في الرقبة في هذا الحال. فإذا أخذوها، قيل لهم: إن هذه الرقبة لم تجب لكم إلا معيبة بالدين، فليس لكم أن تستحقوها صحيحة غير معيبة، فبيعوها الآن لأصحاب الديون؛ لأنا لم ندفعها إليكم إلا على شريطة بقاء الدين فيها. مسألة: [بيع المأذون الجاني للغرماء حال غياب ولي الجناية] قال أبو جعفر: (فإن حضر غرماؤه، وغاب ولي الجناية: بيع للغرماء في دينهم، وبطل بذلك حق صاحب الجناية إذا كان القاضي هو الذي باعه). قال أحمد: لو كان أصحاب الجناية حضورا، كان أصحاب الدين أولى ببيع رقبته بعد دفعها إليهم، فلا تمنع غيبتهم بقاء حق الغرماء في بيعه، فإذا بيع لهم، ثم حضر أصحاب الجناية: بطل حقهم، من قبل أنا لو

رددناه إليهم، لكان بيعه مستحقا للغرماء، فلا معنى لفسخ بيع يحتاج إلى إعادته. مسألة: [حكم الكفالة والمكاتبة من المأذون] قال أبو جعفر: (وليس للمأذون له أن يكفل بنفس ولا بمال). لأنه تبرع ومعروف. مسألة: قال: (وله أن يأذن لعبده في التجارة). لأن ذلك من التجارة، كما له أن يوكل بالبيع والشراء. مسألة: قال: (وليس له أن يكاتب). لأن الكتابة ليست من التجارة، وتصرفه مقصور على التجارة. وليس كالمكاتب في هذا؛ لأن تصرف المكاتب ليس بمقصور على التجارة، بل هو جائز في كل ما يستعين به على أداء المكاتبة، ما لم يكن فيه إتلاف. مسألة: قال: (وليس له أن يزوج عبده ولا أمته، في قول أبي حنيفة ومحمد). أما العبد: فلأنه يلزمه المهر والنفقة، فلا منفعة تحصل له، وأما الأمة، فلأن تصرفه مقصور على التجارة، وليس التزويج من التجارة، ألا

ترى أن الأمة المأذون لها في التجارة لا تزوج نفسها، ويجوز أن تؤاجر نفسها، فجعلوا منفعة البضع غير داخلة في التجارة، وسائر المنافع داخلة فيها. وقال أبو يوسف: له أن يزوج أمته؛ لأنه يجعل ما ليس بمال، وهو البضع مالا بعقد النكاح، كالأجرة. مسألة: [إقرار المأذون بالدين بعد الحجر عليه] قال أبو جعفر: (ومن حجر على عبده المأذون له في التجارة، ثم أقر العبد بعد ذلك بدين، وفي يده شيء من كسبه في حال التجارة، فإن أبا حنيفة قال: إقراره جائز فيما في يده، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز إقراره على حال). لأبي حنيفة: أن بقاء يده عليه على ما كان، يوجب جواز إقراره؛ لأن الحجر لا يصح فيه مع بقاء اليد الموجبة؛ لجواز الإقرار به بدءا. والدليل على ذلك: أن المولى لو أخذ من يده شيئا في حال الإذن، صار محجورا عليه فيما تناوله المولى بزوال يده وإن كان في نفسه باقيا على حال الإذن. ولهما: أنه لو تصرف فيه بعد الحجر بالبيع والشراء: لم يصح بالاتفاق، فدل على ثبوت الحجر فيه. ولأبي حنيفة: أنا إنما قلنا إن حكم الإذن باق فيما في يده، لا في أن

يثبت في رقبته ضمانا أو دينا من غيره، وفي جواز شرائه وبيعه إثبات ضمان في غير ما في يده، فلذلك لم يجز. مسألة: [ثبوت حق الشفعة للمأذون له المديون] قال: (والعبد المأذون له في التجارة: في الشفعة بينه وبين مولاه، وبينه وبين غيره كالحر). قال أحمد: يعني فيما بينه وبين مولاه إذا كان عليه دين؛ لأنه إذا لم يكن عليه دين: فماله لمولاه، لا حق لأحد فيه، فلا يصح فيما بينهما حكم العقد. مسألة: [مصالحة المأذون له عن عبده من القتل العمد] قال أبو جعفر: (وللمأذون له أن يصالح عن عبده من القتل العمد، وليس له أن يصالح من ذلك عن نفسه). وذلك لجواز تصرفه في عبده، وامتناعه في نفسه. مسألة: [من حجر على عبده وقد كان عبده اشترى عبدا وأذن له] قال أبو جعفر: (ومن حجر على عبده وقد كان عبده قبل ذلك اشترى عبدا، فأذن له في التجارة، فإن أبا حنيفة كان يقول: إن كان على الأول دين: فالحجر عليه حجر على عبده، وإن كان لا دين عليه: كان عبده مأذونا له في التجارة على حاله.

وقال أبو يوسف ومحمد: العبد الثاني محجور عليه: كان على العبد الأول دين أو لم يكن) قال أحمد: الذي ذكره من قول أبي يوسف ومحمد لا أعرفه. ووجه المسألة: أن الأول إذا كان عليه دين، فليس للمولى سبيل إلى ما في يده، فهو في هذه الحال إنما استفاد الإذن من جهة العبد الأول، لا من جهة المولى، فلما حجر المولى على الأول، صار الثاني محجورا عليه، إذ كانت صحة إذنه متعلقة بإذن الأول، والأول قد بطل إذنه بالحجر، كما لو مات، صار محجورا عليه. وأما إذا لم يكن على الأول دين، فإذن الثاني غير متعلق بالأول؛ لأن تصرف المولى جائز فيه، فصار كرجل وكل رجلا بشيء، وأمره أن يوكل به غيره إن شاء، ففعل، ثم عزل الأول، فلا يكون عزلا للثاني؛ لأن الثاني استفاد التصرف من جهة الموكل، لا من جهة الوكيل الأول، فلا يبطله عزل الأول. مسألة: [إباق المأذون له يعد حجرا عليا] قال أبو جعفر: (وإذا أبق العبد المأذون له في التجارة: صار محجورا عليه بالإباق). وذلك لأنه لو كان باقيا على الإذن، لما كان آبقا؛ لأن للمأذون له أن يتصرف في البلدان، فلما حصل آبقا بمسيره إلى ذلك الموضع، علمت أنه غير مأذون.

ألا ترى أن المكاتب لا يكون آبقا بخروجه إلى موضع؛ لأن له الخروج إليه، وليس للمولى منعه منه، وذلك مستحق له بعقد الكتابة، فلا يحصل له به حكم الإباق، فلما حصل العبد آبقا، علمنا أنه خارج عن الإذن، فصار محجورا عليه. وأيضا: فإن الإذن ضرب من التصرف في العبد، والإباق يمنع التصرف فيه بالبيع والهبة ونحوهما، فيبطل الإذن أيضا. مسألة: [الإذن بالتجارة للمدبر وأم الولد] قال: (وجاز للرجل أن يأذن لمدبره وأم ولده في التجارة). لأنه يملك رقبتهما وأكسابهما، ألا ترى أنه لو أقر عليهما بدين: جاز إقراره، ويستوفى من كسبهما. مسألة: قال أبو جعفر: (ومن قال للناس: هذا عبدي، وقد أذنت له في التجارة، فبايعوه، ففعلوا، ثم استحق، أو كان حرا: فلأصحاب الديون أن يضمنوا المولى الأقل من قيمته، ومن ديونهم). قال أحمد: لا يكون غارا إلا أن يقول: هو عبدى فبايعوه، فإن قال: هو عبدي، قد أذنت له في التجارة، ولم يقل: بايعوه: لم يكن غارا، ولم يكن عليه شيء إذا استحق، أو وجد حرا.

ولو قال: بايعوه، ولم يقل: هو عبدي: لم يلزمه أيضا شيء، حتى يقول: هو عبدي، وذلك لأنه إذا قال: هو عبدي فبايعوه: فقد غرهم من رقبته، وألزم نفسه بيعه فيما يلزمه لهم؛ لأنه قد أمرهم بدفع أموالهم إليه بقوله: بايعوه، فصار ذلك كضمان رقبته لهم متى لم يصلوا إلى حقوقهم. *ولا يغرم من الكسب شيئا؛ لأنه جائز أن يكون، وجائز أن لا يكون. وإذا لم يقل: بايعوه: فلم يوجد منه أمر بدفع أموالهم إليه، وإذا لم يقل: هو عبدي، لم يضمن لهم تسليم رقبته بدينهم. *وقد روى ابن سماعة عن محمد بن الحسن: أنه يكون غارا بقوله: هو عبدي، قد أذنت له في التجارة: لأن الإذن له في التجارة، يتضمن أمرهم بمبايعته. مسألة: [هدية المأذون له وإطعامه الطعام] قال: (ولا بأس بقبول هدية المأذون له في التجارة، وأكل طعامه، وركوب دابته للعارية). قال أحمد: كان القياس عندهم أن لا يجوز شيء من ذلك؛ لأنه ليس من التجارة، وهو تبرع ومعروف، إلا أنهم تركوا القياس فيه، لما روي عن الني عليه الصلاة والسلام: "أنه كان يجيب دعوة المملوك". "وأن سلمان أهدى له رطبا، وهو مملوك، فقبله وأكل منه، وأمر

أصحابه فأكلوا". وأيضا: فإن الناس لا يتمانعون في العادة من مثله، فصار مأذونا فيه من طريق العادة، كما تتصدق المرأة من بيت زوجها بالكسر من الخبر ونحوها، فيجوز بغير إذن الزوج، إذ ليس في العادة منع مثله. مسألة: [حكم الهبة وكسوة المأذون غيره] قال: (ولا يجوز قبول هبتة ولا كسوته)؛ لما ذكرنا من القياس. مسألة: [ثبوت نسب ولد المأذون له إذا ادعاه المولى] قال: (وما ولدت أمة المأذون له في التجارة من ولد، فادعاه المولى: ثبت نسبه منه)، وذلك لأنها ملك يمينه. مسألة: قال أبو جعفر: (وأذا أذن للعبد أحد مولييه في التجارة، ولم يأذن له الآخر فيها، فادان دينا: قيل لمولاه الذي أذن له في التجارة: أد دينه، وإلا بعنا نصيبك فيه). وذلك لأن إذن الآذن منهما يجوز في نصيبه خاصة، دون نصيب شريكه، كما يجوز بيعه وهبته وإقراره في نصيبه خاصة، دون نصيب

صاحبه، فيستحق بالدين نصيبه خاصة، دون نصيب الآخر. مسألة: [الرهن والارتهان من المأذون] قال أبو جعفر: (وللعبد المأذون له في التجارة أن يرهن ويرتهن). وذلك لأنه يملك الاستيفاء والإيفاء، والرهن للإيفاء، والارتهان للاستيفاء، وهو يملك ذلك بنفسه في مبايعته وعقوده. مسالة: [إقرار المأذون له بدين في مرض موته] قال أبو جعفر: (وما أقر به المأذون له من دين في مرض موته: جاز عليه، غير أنه يبدأ بدين الصحة، كالحر إذا أقر في مرضه وعليه دين في الصحة). وذلك لأن حق غرماء الصحة قد تعلق بالعين في مرضه، فلا يصدق على أن يجعلها بإقراره لغيرهم. مسألة: قال أبو جعفر: (وشهادة النصارى على العبد النصراني المأذون له جائزة في الدين وإن كان مولاه مسلما). وذلك لأن الخصم في هذه الحال هو العبد، والشهادة واقعة عليه، دون المولى، فاعتبر هو في نفسه في حكم الشهادة، دون مولاه. فإن قيل: لما كان في هذه الشهادة ضرر على المولى، وجب أن لا

تقبل؛ لأنه مسلم، ولا تجوز شهادة النصراني فيما يضر بالمسلم. قيل له: إذا كان هو الخصم دون المولى، لما يعتبر ما يلحق المولى من الضرر، الا ترى أن نصرانيين لو شهدا على امرأة نصرانية بقتل العمد: جازت شهادتهما وإن كان زوجها مسلما يلحقه بقتلها ضرر؛ لأنها هي الخصم فيه دونه، فكذلك ما وصفنا. مسألة: [ما يبطل الإذن، وما لا يبطله] قال أبو جعفر: (ومن أذن لعبده في التجارة، ثم أغمي عليه: لما يخرج العبد من الإذن). وذلك لأن الإغماء لا يستحق به الولاية، وهو بمنزلة النوم في هذا الوجه. *قال: (ولو جن جنونا مطبقا، أو صار معتوها: خرج بذلك العبد من الإذن). وذلك لأنه قد استحق الولاية عليه بجنونه، وصار بحيث لا يصح منه تصرف، فبطل إذنه لعبده، وكيف يتصرف العبد في هذه الحال من جهته، وهولا يملك الولاية على نفسه وفي ماله. [مسألة: إذن الرجل لولده الصغير في التجارة] *قال أبو جعفر: (وللرجل أن يأذن لابنه الصغير في التجارة). وذلك لقول الله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح} ,

والابتلاء لا يكون إلا بالإذن في التجارة. ويدل عليه أيضا: قوله تعالى: {ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم}. وهو عموم سائر وجوه المخالطة، ويدخل فيها التجارات. مسألة: [التغرير بأهل السوق بالإذن لصبي بأنه ابن الآذن] قال أبو جعفر: (وإذا قال الرجل لقوم: هذا ابني، وقد أذنت له في التجارة، فبايعوه، قم ثبت أنه ابن لغيره: كان عليه ضمان ما صار عليه من الدين لغرمائه، بالغا ما بلغ). وذلك لما بينا في العبد؛ لأنه قد غرهم في إثبات ديونهم في ذمته، ووجوب استيفائها من ماله؛ لأنه يملك ذلك من ابنه، كما يملكه من عبده على الوجه الذي بينا، إلا أنه يلزمه ضمان جميع الدين في هذه الحال، إذ ليست رقبته مما تستحق بالدين، فيكون غارا لهم من رقبته، وصار بمنزلة من قال لرجل: بايع فلانا، فما بايعته به من شيء فهو علي: فيلزمه ضمان ما بايعه به. مسألة: [عدم ثبوت دين على المأذون لمولاه] قال أبو جعفر: (ولا يكون للمولى على عبده دين بمال).

وذلك أنه ملكه، كما لا يثبت له على نفسه؛ لأن مايثبت على نفسه، إنما بطل لأنه يستوفي من ملكه، فلم يصح. مسألة: [مبايعة المأذون لمولاه] قال أبو جعفر: (وجائز لمولاه بيعه، والابتياع منه). قال أحمد: وهذا إذا كان عليه دين؛ لأن العبد يثبت له في هذه الحال دين على المولى، والمولى لا سبيل له على ما في يده، فيجوز أن يأخده منه ببدل. وإن كان المولى هو البائع منه: لم يثبت له في ذمة عبده دين، ولكن له أن يحبس السلعة حتى يستوفي ثمنها، فإن سلمها قبل قبض الثمن: بطل حقه؛ لأن حقه قد سقط من العين، ولا يثبت له على عبده دين. ولو لم يكن على العبد دين: لم يصح البيع بينهما؛ لأنه مال مولاه، لا حق لغيره فيه. وليس كالمضارب في جواز بيعه من رب المال، وشرائه منه؛ لأن المضارب له حق في المال، فهو في ذلك كالأجنبي. *****

كتاب الكراهية

كتاب الكراهية مسألة: [كراهية صلاة الإمام في المحراب الذي لا يرى منه] قال أبو جعفر: (ويكره للإمام أن يكون مقامه في الصلاة في الطاق، ولا نرى بأسا أن يكون مقامه في المسجد، وسجوده في الطاق). قال أحمد: يعنى بالطاق: المحراب إذا كان طاعنا في الحائط يمكن أن يغيب فيه الإمام ببدنه، حتى لا يبصره من على جنبتيه، وكذا كانت محاريب الكوفة قديما. وقد روى كراهة ذلك عن بعض السلف. ووجه ذلك: أنه إذا كان مقمامه في الطاق: لم يبصره من عن جانبيه فيقتدوا به. وقد روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إنما جعل

الإمام ليؤتم به". وقال: "ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى". وقال: "ائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله". فكل هذا يوجب الاقتداء بالإمام، والقرب منه، وفي مقامه في الطاق، ما يمنع أكتر أهل الصف من ذلك. فإن قيل: فأهل الصف الثاني ومن بعده لا يرونه، وليس يكره للمأموم القيام في الصف الثاني. قيل له: لأنه يرى بين يديه من يقتدي بالإمام فيتبعه، والذين عن جانبي الطاق بينهم الحائط، فلا يصلون إلى الاقتداء به. *وأما إذا كان مقامه في المسجد، وسجوده في الطاق: فلا بأس؛ لأنه قد حصل لهم ما بنبغي من معنى الاقتداء. مسألة: [كراهة إعادة الجماعة في مسجد جامع صلى فيه إمامه] قال أبو جعفر: (ويكره أن تعاد الجماعة في مسجد قد صلى فيه إمامه، إذا كان ذلك المسجد من المساجد التي يؤذن فيها، ويقام، وتجمع

فيها الصلوات، ولا بأس به في المساجد التي لا يؤذن فيها، ولا يقام، ولا تجمع فيها الصلوات). وجه الكراهة فيما ذكر: اتفاق الفقهاء على ترك إعادة الأذان والإقامة، فوجب أن تكون الجماعة مثله؛ لأن الجماعات لا تصلى بغير أذان، ولا إقامة. وأيضا: قد روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان غاب عن المسجد، فصلى أصحابه في المسجد، فلما رجع عدل إلى أهله، فجمع بهم". ولو كانت إعادة الجماعة سائغة في المسجد، لما تركها؛ لأن فعلها في المسجد أفضل منه في غيره. وأيضا: لو جازت إعادة الجماعة، لما احتيج إلى إمام راتب لإقامة الصلوات، ولكان لكل طائفة أن تجيء، فتؤذن وتقيم، وفي هذا دليل على أنها لا تعاد. فإن قيل: روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلا يصلي وحده في المسجد، فقال: من يتصدق على هذا، فيصلي معه".

وذلك بعدما صلى النبي عليه الصلاة والسلام فيه جماعة. قيل له: لما كان ما ذكرنا من تركه الجماعة في المسجد، وفعلها في أهله دلالة على النهي عن الإعادة: كان استعماله أولى؛ لأن الحظر والإباحة متى وردا: كان خبر الحظر أولى عندنا. *وأما المساجد التي ليس لها إمام راتب يقيم فيها الصلوات، فجائز فيها إعادة الجماعة، وذلك لأنها بمنزلة البقعة من الأرض إذا صلى فيها جماعة، لا يمتنع إعادتها لغيرها. مسألة: [كراهة الأذان جنبا] قال أبو جعفر: (ويكره للرجل أن يؤذن جنبا، ولا يكره أن يؤذن على غير وضوء). وذلك لأن الأذان مسنون لصلاة الجماعة، كحضور المسجد مسنون لصلاة الجماعة، فلما نهي عن دخول المسجد جنبا: كان الأذان كذلك؛ لمشاركته دخول المسجد فيما وصفنا. وكما لم يكره دخول المسجد على غير وضوء: لم يكره الأذان. مسألة: [استقبال القبلة عند قضاء الحاجة في البنيان والعمران] قال أبو جعفر: (ويكره استقبال القبلة بالفرج في الخلاء في المنازل

والصحاري جميعا. قال: ولا يروى عن أبي حنيفة في استقبالها للبول شيئ علمناه، وقال محمد: يكره استقبالها للبول أيضا). والأصل في ذلك: حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتيتم الغائط، فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا. قال أبو أيوب: قدمنا الشام، فرأينا مراحيض قد عملت نحو القبلة، فنحن ننحرف عنها، ونستغفر الله تعالى". وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "إنما أنا لكم مثل الوالد لولده، أعلمكم: إذا أتيتم الغائط، فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها". فعموم هذين الخبرين يوجب حظر استقبالها في سائر الأماكن؛ لأنه لم يفرق فيه بين البيوت والصحاري. ويدل على أنه قد أريد به البيوت: قول أبي أيوب: "فقدمنا الشام، فرأينا مراحيض قد عملت نحو القبلة، فنحن ننحرف عنها، ونستغفر الله تعالى". فعقل من قول النبي صلى الله عليه وسلم: البيوت، لولا ذلك لما قال: ونستغفر الله.

فإن قيل: روي عن جابر أنه قال: "نهي نبي الله تعالى أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعمام يستقبلها". وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "إنما نهى عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك: فلا بأس به". قيل له: أما حديث جابر، فلا وجه للاحتجاج به؛ لأنه لم يفرق فيه بين البيوت والصحاري، ولو كان حديثه مستعملا على ما اقتضاه ظاهره، لكان النهي منسوخا في البيوت والصحاري جميعا. وأيضا: لو ثبت أن المراد في حديث جابر استقبالها في البيوت، لكان خبر أبي أيوب الأنصاري، وأبي هريرة قاضيا عليه، لاتفاق الجميع على استعماله، واختلافهم في استعمال حديث جابر رضي الله عنه. وأيضا: فإن في خبرنا حظره، وفي خبركم إباحته، ومتى اجتمع خبران في أحدهما حظر، وفي الآخر إباحة: كان خبر الحظر أولى، عاما كان أو خاصا. وأيضا: فإن في خبرنا أمرا، وفي خبرهم فعلا، والفعل والأمر إذا اجتمعا: فالأمر أولى. وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فإنه قوله، ولا يقضي به في دفع قول النبي عليه الصلاة والسلام، بل قول النبي عليه الصلاة والسلام

قاض على كل قائل. مسألة: [كراهية ترك سجود التلاوة] قال: (ويكره ترك السجود عند التلاوة في الصلاة وغيرها). لقول الله تعالى: {وإذا قرئ عليهم القرءان لا يسجدون}، فعنفهم على ترك السجود عند التلاوة، وعمومه يقتضي وجوبه عند تلاوة سائر القرآن، إلا أن الجميع متفقون على سقوطه فيما عدا مواضع السجود، فخصصناها من اللفظ، وبقينا حكمه في موضع الخلاف، كما اقتضاه ظاهره. ويدل عليه قوله تعالى: {إنما يؤمن بئاياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا}، فجعله من شرائط استحقاق إطلاق اسم الإيمان. وأيضا من جهة النظر: اتفاق الجميع على جواز فعله لتاليها في الصلاة، ولو كانت نفلا لما جاز أن يزيدها فيها؛ لاتفاق الجميع على أنه لا يتنفل في الصلاة بزيادة سجودة. مسألة: [كراهية دخول الجنب المسجد] قال أبو جعفر: (ويكره للجنب دخول المسجد من غير ضرورة، فإن كان به ضرورة: تيمم، ودخل، كما في بئر في مسجد لا يجد غيره).

والأصل فيه: حديث أفلت بن خليفة عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أبواب بيوت أصحابه شارعة إلى المسجد: "سدوا هذه الأبواب، فإني لا أحل المسحد لحائض ولا جنب". وفيه الدلالة من وجهين على صحة قولنا: أحدهما: عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا أحل المسجد لحائض ولا لجنب"، وهو على الاجتياز والقعود. والثاني: أنه معلوم أنه أمرهم بسد الأبواب؛ لئلا يجتازوا وهم جنب في المسجد؛ لأن الكلام عليه خرج، فدل أنه هو المراد. وأيضا: لما وافقنا الخصم على النهي عن الجلوس في المسجد، كان الاجتياز كذلك، كما أنه لما كان منهيا عن الجلوس في ملك الغير، كان الاجتياز مثله في الحظر. وأما قوله تعالى: {ولا جنبا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا}: فإن المراد به حقيقة الصلاة لا المسجد، لقوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة

وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابرى سبيل}، والمعنى: إلا أن تكونوا مسافرين، فتيمموا عند عدم الماء، وصلوا. كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لابن عمر: "كن في الدنيا كأنك غريب، وكأنك عابر سبيل". يعنى المسافر في ترك الركون إلى الدنيا، والرغبة في المقام فيها، ولا جائز لنا صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدلالة. ويدل على ذلك: قوله تعالى: {وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون}. والقراءة لا تتعلق بالمسجد، وإنما تتعلق بالصلاة، فدل أن المراد حقيقة الصلاة. مسألة: [تخصيص شيء من القرآن لشيء من الصلوات] قال أبو جعفر: (ويكره أن يتخذ شيء من القرآن لشيء من الصلوات). وذلك لأنه لو أبيح ذلك، لم يؤمن على مرور الأوقات أن يظنه الناس مسنونا، أو واجبا، كما قد سبق الآن إلى ظن كثير من الجهال في مثله، حتى إذا ترك قراءة سورة الجمعة في ليلة الجمعة، وقراءة {الم*

تنزيل}، السجدة في يوم الجمعة: استنكروه، فقصد أهل العلم حياطة الدين وصيانته أن يلحق به ما ليس منه. وكما روي عن بعض السلف كراهية صوم سته أيام من شوال، مع ما روي فيه من الحديث؛ خوفا أن تكون المداومة عليها سببا لإلحاقها بالفرض. كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "النهي عن أن يصام يوم الجمعة، إلا أن يكون قبله يوم، وإلا أن يوافق يوما كان يصومه أحدنا". مسألة: [كراهية جعل مقدم الجنازة على أصل العنق] قال أبو جعفر: (ويكره أن يضع الرجل مقدم السرير- يعنى الجنازة- على أصل العنق من الجانب الأيمن). وذلك لأن هذا يشبه حمل الأمتعة، وقد خولف بحملها حمل

الأمتعة، ألا ترى أنها لا تحمل على دابة. مسألة: [كراهية السدل في الصلاة] (ويكره السدل في الصلاة). قال أبو بكر: وذلك لما حدثنا دعلج بن أحمد قال: حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا الحسن بن عيسى قال: حدثنا عبد الله بن المبارك قال: حدثنا الحسن بن ذكوان عن سليمان الأحول عن عطاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام "نهى عن السدل في الصلاة، وأن يغطي فاه في الصلاة". مسألة: [كراهية وضع اليد على الخاصرة في الصلاة] قال أبو جعفر: (ويكره الاختصار في الصلاة). قال أحمد: يعني أن يضع يده على خاصرته، وذلك لما روى هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاختصار في الصلاة".

قال حماد بن زيد: ذكر أيوب هذا الحديث، فقال أيوب: إنما قال: التخصر. مسألة: [الصلاة على بساط فيه تصاوير] قال أبو جعفر: (ولا بأس أن يصلى الرجل على بساط فيه تصاوير، ولا يسجد على التصاوير). قال أحمد: الأصل في ذلك: أن قوما من المشركين قد عظموا الصور حتى عبدوها، فكل فعل ظاهره يضاهي فعل من عظمها: فهو مكروه، والتصاوير على البساط غير مكروهة؛ لأنه يوطأ ويبتذل، فلا يشبه حال التعظيم. ويكره السجود عليها؛ لأنه يشبه فعل المعظمين لها بالتقبيل، ووضع الخد. والأصل فيه: ماروي "أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى في بيته سترا عليه تصاوير، فأمر أن يقطع وسائد". فنهى عن تعليقه؛ لمضاهاته فعل الكفار في تعظيمها، وأباح قطعه وسائد؛ لأنها تبتذل وتوطأ. وروى سليمان بن أرقم عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة "أن النبي عليه الصلاة والسلام رخص في التماثيل ما كان يوطأ، وكره ما كان منصوبا".

مسألة: [حكم الصلاة إذا كانت التصاوير فوقه أو بين يديه] قال أبو جعفر: (ويكره أن يصلى وفوق رأسه في السقف تصاوير، أو بحذائه، أو بين يديه صورة معلقة، أو في البيت تصاوير، ولا يفسد ذلك صلاته). وذلك كله لما وصفنا من مضارعته لفعل المشركين في تعظيم الصور. مسألة: [حكم الصورة في الثوب، وعلى البساط] قال: (وتكره التصاوير في الثوب، ولا تكره في البسط، وما كان من التماثيل مقطوع الرأس: فليس بتماثيل). وذلك لما حدثنا ابن قانع قال: حدثنا الفضل بن العباس القرطمي قال: حدثنا محمد بن زنبور قال: حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن مجاهد عن أبي هريرة: "أن جبريل عليه السلام استأذن على النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ادخل. قال: وكيف أدخل وفي البيت ستر فيه تماثيل خيل ورجال؟! فإما أن تقطع رؤوسها، وإما أن تجعلها بساطا يوطأ. مسألة: [لبس الحرير] قال أبو جعفر: (ويكره لباس الحرير للرجال والصبيان من الذكور، وكذلك الذهب والفضة). وذلك لما روي عن علي رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه

وسلم أخذ حريرا، فجعله في يمينه، وأخذ ذهبا فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي". وذلك عموم في الرجال والصبيان. فإن قيل: الصبيان لا يجوز أن يتناولهم حكم التحريم. قيل له: يجوز أن يتناولنا فيهم، بأن لا تلبسهم إياه. وروى مسعر عن عبد الملك بن ميسرة عن عمرو بن دينار عن جابر قال: "كنا ننزعه عن الغلمان، ونتركه على الجواري، يعني الحرير". وروى أبو عثمان النهدي عن عمر رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام "نهى عن الحرير، إلا ما كان هكذا أو هكذا إصبعين، او ثلاثا، أو اربعا". وروى عمر رضي الله عنه أيضا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة".

يعنى في حله سيراء، والسيراء هي المضلعة بالقز، على ما روي في الخبر. وأيضا: فلما كان لبس الحرير والذهب محظورا على الرجال، وجب أن يجنبهما الصبيان الذكور؛ لئلا يعتادوه، كما نجنبهم شرب الخمر، وسائر المعاصي، لئلا يعتادوها، ويجترئوا عليها. وقد "أمر النبي عليه الصلاة والسلام بتعليمهم الصلاة، والضرب عليها قبل البلوغ". وكما يجب علينا تلقينهم الإسلام، وإعلامهم جمل شرائعه، وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين ءامنو قوا أنفسكم وأهليكم نارا}، يعني أدبوهم وعلموهم، كذا روي في التفسير. مسألة: [نقط المصحف وتشعيره] (ويكره النقط، والتشعير في المصحف).

قال أحمد: روي عن عبد الله بن مسعود كراهة ذلك، وقال: "جردوا القرآن". وينبغي أن لا يكتب في مصحف القرآن غير القرآن. ويدل عليه: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أشكل عليهم أمر سورة الأنفال وبراءة، أنهما سورة واحدة، أو سورتان: لم يكتبوا بينهما: بسم الله الرحمن الرحيم، إذ لم يعلموا موضعها. قال احمد: وكان أبو الحسن رحمه الله يقول: لا يكره ما يكتب من تراجم السور في أوائلها، حسبما جرت العادة به في كتبها؛ لأن فيها الإباتة عن معنى السور، وهي كما كتب: بسم الله الرحمن الرحيم: في أوائلها للفصل بينهما.

مسألة: [نقش المسجد وتذهيبه] قال أبو جعفر: (ولا بأس بنقش المسجد بالجص وماء الذهب). وذلك لأن عثمان رضي الله عنه فعل ذلك بمسجد النبي عليه الصلاة والسلام، والصحابة متوافرون، فلم ينكره منهم أحد. فإن قيل: روي: "أن في هذه الأمة مسخا، وقذفا، وخسفا، وذلك إذا زخرفت المساجد، وزوقت المصاحف". قيل له: يحتمل أن يكون مراده إذا أريد به الرياء، وزينة الدنيا، لا على جهة تعظيم أمر المسجد. وفعله عندنا على هذا الوجه مكروه. مسألة: [شد الأسنان المتحركة بالذهب أو الفضة] قال أبو جعفر: (ومن تحركت سنه، ولم تبن منه: فلا بأس بأن يشدها

بالفضة، وكره أبو حنيفة أن يشدها بالذهب، ولم ير به محمد بأسا). قال أبو بكر: كان أبو الحسن الكرخي يحكي عن أبي حنيفة رجوعا عن هذا القول، وأنه لم ير بأسا أن يشدها بالذهب، ذهب فيه إلى ما روي "أن رجلا جدع أنفه، فجعل عليه أنفا من فضة، فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفا من ذهب". ولأن هذا لا يراد به اللبس والزينة، فكذلك شد السن بالذهب. وفي الجامع الصغير مثل ما ذكره أبو جعفر عنه. ووجهه: ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قال في الذهب: هذا حرام على ذكور أمتي". ولأنه ليس في شده بالذهب منفعة، ألا ترى أن سائر منافع الأسنان زائلة مع الشد من المضغ ونحوه، ولا معنى فيه غير التزين به، وذلك مكروه.

مسألة: [كراهية لحم الأتان ولبنها] قال أبو جعفر: (ويكره لحوم الأتن وألبانها). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن أكلها، وقد بينا ذلك فيما سلف. وإذا ثبت تحريم أكلها، فكذلك لبنها؛ لأن أحدا لم يفرق بينهما. فإن قيل: لا يكون تحريم لحمها أصلا في تحريم لبنها؛ لأن بنات آدم عليه الصلاة والسلام محرمات اللبن. قيل له: هذا سؤال ساقط؛ لأنا لم نرد اللحم إلى اللبن قياسا، وإنما لم نفرق بينهما باتفاق الجميع أنه لا فرق بين لبن الأتان، وبين لحمها في الحظر والإباحة، فلما ثبت تحريم لحمها: كان كذلك حكم لبنها. وعلى أنا لو قسناه على اللحم لم يبعد، ولم يلزم عليه لبن الإنسان، وذلك لأن العلة الموجبة لتحريم لحم الحمار: نجاسته، وكل ما حرم لحمه لنجاسته، فكذلك حكم لبنه، بدلالة الكلب والخنزير، لما كانت لحومهما محرمة للنجاسة، كان كذلك حكم ألبانها. ويدل على أن تحريم لحم الحمار لنجاسته: ما روي في قصة خيبر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بإكفاء القدور، وقال إنها رجس".

وأما الإنسان فلم يحرم لحمه لنجاسته، بل تعظيما لحرمته، فلذلك اختلفا. وأيضا: روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا، يقال له يعفور، وأردف رجلا خلفه، فأصابه من عرقه، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بغسله". فاللبن مثل العرق؛ لأنهما جميعا رطوبة مجتلبة من بدنه. مسألة: [ما يباح النظر إليه من النساء المحارم] قال أبو جعفر: (ويكره أن ينظر الرجل من ذات محرمه إلى بطنها، وظهرها، ولا بأس أن ينظر إلى رأسها، وصدرها، وذراعها، ونحوها من الأعضاء). وإنما جاز له النظر إلى رأسها، وصدرها، وذراعها، ونحوها من الأعضاء؛ لقوله عز وجل: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ءابائهن}. فذكر ذوي المحارم في إباحة النظر إلى رأسها، ومعلوم أن المراد

موضع الزينة من نحو النحر، وهو موضع القلادة، والذراع موضع السوار، والساق موضع الخلخال. وفرق بينهم وبين الأجانب بقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}. قيل في التفسير: الكحل والخاتم، فدل على صحة ما ذكرنا. ويدل عليه: ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة في شأن أفلح: ليلج عليك، فإنه عمك". فخصه دون الناس بإباحة الدخول إليها، فلولا أنه يستبيح النظر منها إلى ما لا يجوز لغيره النظر، لما خص به. وأيضا: لما خص النبي صلى الله عليه وسلم ذا المحرم بجواز السفر بالمرأة، ومنع الأجنبي: دل على أن ذلك إنما هو لأنه يجوز له النظر منها إلى أعضاء لا يجوز مثله للأجنبي. ألا ترى أنه سوى بينه وبين الزوج في إباحة السفر بها، بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم أو زوج".

وأيضا: أهل العلم متفقون على أن للأمة أن تسافر بغير محرم، وكان جائزا لجميع الناس النظر إلى رأسها، وذراعها، وما أشبههما من أعضائها، وكان جميع الناس في جواز السفر بها كذي المحرم للمرأة، فدل على أنه جائز لذي المحرم أن ينظر منها إلى ما يجوز للأجنبي من النظر إلى الأمة. *وأما النظر إلى الظهر، والبطن، فلا يجوز لأحد من ذوي المحارم، وذلك لقول الله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم}. فحكم بتحريمها بتشبيهه إياها بظهر أمه، فلولا أن النظر إلى الظهر محرم، لما وقع التحريم بتشبيهه إياها بظهرها، كما لا يقع بقوله: أنت علي كرأس أمي، أو كوجهها، وإذا ثبت ذلك في الظهر، كان النظر مثله، لاتفاق الجميع على أن لا فرق بينهما. وأيضا: قال الله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم}. فغض البصر واجب عن كل عضو من أعضائها، إلا ما قام الدليل عليه، وهو ما بينه بقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ءابائهن}.

مسألة: [حكم أبوال الإبل، ولحم الفرس] قال: (وكره أبو حنيفة أبوال الإبل). وذلك لقيام الدلالة على نجاستها، وموضعه في أول الكتاب. * (وكره لحم الفرس)، وقد بيناه فيما سلف. ولم ير أبو يوسف ومحمد رحمهما الله بذلك بأسا. مسألة: [حكم أكل الزنبور] قال: (وكره أبو حنيفة رضي الله عنه أكل الزنبور). وذلك لعموم قوله سبحانه: {حرمت عليكم الميتة}، وخص النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الجملة: السمك، والجراد بقوله عليه الصلاة والسلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان". فإن قيل: هلا قست عليهما الزنبور، وسائر ما لا دم له. قيل له: لأن المخصوص لا يقاس عليه إلا أن تكون علته مذكورة مع ورود التخصيص. وأيضا: فهو قياس منتقض؛ لأنه يقتضي إباحة أكل الذبان، والعقارب، وهي من جملة الخبائث.

فإن قيل: قد ألحقت بالدمين المذكورين في الخبر غيرهما، مع فقد علة القياس المذكور في خبر التخصيص، وهو دم السمك. قيل له: لم نلحقه بهما قياسا؛ لأن إباحة السمك منا قبل سفح دمه: حكم بطهارة دمه، فصار منصوصا على إباحته في فحوى الخبر. مسألة: [اتخاذ الخرقة لمسح العرق] قال: (ويكره حمل الخرقة التي يمسح بها العرق). قال أحمد: كان أبو الحسن رحمه الله يقول: وجدت عنهم أن وجه كراهته: لما فيه من التشبيه بالمجوس. فإن قيل: فهم يلبسون الطيالسة والقمص، وليس بمكروه لنا. قيل له: يجوز أن يكونوا فرقوا بينهما، من جهة أنه كان عندهم أن المجوس يتدين به، وليس لبس الثياب على هذا الوجه. وكان أبو الحسن يقول: وجهه عندي: أن فيه ضربا من التصنع، وتصقيل الوجه، فهو كنتف اللحية، وكا أشبهه.

مسألة: [حكم التختم بغير الذهب والفضة] قال: (ويكره التختم بالحديد، وبما سوى الفضة، إلا الذهب للنساء خاصة). وذلك لما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام اتخذ خاتما من حديد، ثم ألقاه، وكرهه، واتخذ خاتما من فضة". وأما الذهب فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذهب والحرير حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها". مسألة: [كراهية الصلاة على الجنازة في المسجد] قال: (ويكره أن يصلى على الجنائز في المسجد). وذلك لما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود السجستاني قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن ابن أبي ذئب قال: حدثني صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى على جنازة في المسجد: فلا شيء له".

وحدثنا عبد الله بن جعفر بن فارس الأصبهاني قال: حدثنا يونس بن حبيب قال: حدثنا أبو داود الطيالسي قال: حدثنا ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "من صلى على جنازة في المسجد: فلا شيء له". قال صالح: "وأدركت رجالا ممكن أدرك النبي عليه الصلاة والسلام، وأبا بكر رضي الله عنه إذا جاؤوا إلا أن يصلوا في المسجد، رجعوا، ولم يصلوا". وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من تبع جنازة، فصلى عليها: فله قيراط، ومن تبعها حتى يفرغ منها: فله قيراطان، أصغرهما مثل أحد". ومعلوم أنه لا يستحق إحباط ما وعد من الثواب إلا بمواقعة المحظور، فلما لم يجعل النبي عليه الصلاة والسلام لمن صلى على جنازة في المسجد شيئا: دل على أنه محظور. فإن قيل: روت عائشة رضي الله عنها: "أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد".

قيل له: إذا كان خبرنا يقتضي الحظر، وهذا الخبر الإباحة: فخبر النهي أولى. وأيضا: في خبرنا ما ليس في خبرهم، ففي خبرنا: أمر، وفي خبرهم: فعل، والفعل والأمر إذا اجتمعا: كان الأمر أولاهما بالاستعمال. وأيضا: يحتمل أن يكون صلى عليه في مسجد الجنائز، وذلك جائز عندنا. وقد روي: "أن النبي عليه الصلاة والسلام أفرد للجنائز مسجدا". كذا كان يحكي شيخنا أبو الحسن الكرخي. وهذا يدل على كراهتها في مسجد الجماعة، ولولا ذلك لما أفردت بمسجد. فإن قيل: روي أنه صلى على عمر رضي الله عنه في المسجد، وذلك بحضرة الصحابة. قيل له: يجوز أن يكونوا خشوا الفتنة في إخراجه إلى الجبانة، كما نقل علي رضي الله عنه أم كلثوم من دار عمر رضي الله عنهم،

خوفا من الفتنة. مسألة: [كراهية اللعب بالشطرنج، والنرد] قال: (ويكره اللعب بالشطرنج، والنرد، وكل اللهو). وذلك لقول الله تعالى: {ومن الناس من يشترى لهو الحديث}. فذم عليه، وأوعد عليه بالعقاب, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لست من دد، ولا الدد مني". وقد روي في النهي عن اللعب بالشطرنج عن النبي عليه الصلاة

والسلام أحاديث. وروي "أن عليا رضي الله عنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج، فقال: {هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون}؟! ". وهذا يدل على كراهة شديدة لذلك.

مسألة: [حكم الاحتكار، وتلقي الركبان] قال: (ويكره الاحتكار، والتلقي في الموضع الذي يضر ذلك بأهله، ولا نرى به بأسا في موضع لا يضر ذلك بأهله). وذلك لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في "النهي عن الحكرة، وعن تلقي الركبان". وهذا محمول على حال يضر فيها ذلك بأهله. وإذا لم يضر بأهله: فلا حق لأحد فيه، ولا يكره، لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". فأباح الربح في ذلك، والبيع بما يريد من الثمن إذا لم يضر بأهل البلد.

مسألة: [حكم لبس الحرير والديباج، وتوسدهما] قال: (وكان أبو حنيفة يكره ليس الحرير والديباج، ولا يرى بأسا بتوسدهما، والنوم عليهما). فأما اللبس: فلما "روي عن النبي عليه الصلاة والسلام فيه نهيه عن لبس الحرير". فإن قيل: روي أنه أخذ ذهبا وحريرا وقال: "هذان حرام على ذكور أمتي". وهذا الإطلاق يتناول سائر وجوه المنافع، من اللبس وغيره. قيل له: ليس الحرير محرما بعينه باتفاق الجميع؛ لأنه يجوز الانتفاع به بالشراء والبيع، فدل على أن النهي مقصور على جهة اللبس. وأيضا: لو كان النوم عليه محظورا كحظر اللبس، لورد به النقل، كوروده في اللبس، لعموم الحاجة إليه. وكان محمد يكره ذلك كله، ويذهب فيه إلى ظاهر الخبر. مسألة: [حكم استعمال آنية الذهب والفضة، ولبس الحرير] قال: (ويكره الأكل، والشرب، والادهان في آنية الفضة والذهب، ولا نرى بأسا بالإناء المفضض).

أما وجه الكراهية: فما روى حذيفة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام "نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة، وقال: هي لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة". وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من شرب في آنية الذهب والفضة، فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم". فإذا ثبت ذلك في الشرب: كان الأكل مثله؛ لحصول الاتفاق على تساويهما في الحكم. وأما الادهان: فهو قياس عليه؛ لأن استعماله على هذا الوجه لإصلاح الجسم، كالأكل والشرب. *ولا بأس بالإناء المفضض، كما لا يكره علم الحرير في الثوب وكره لبس الحرير، وكما يشرب بيده وعليه خاتمه. مسألة: [إعادة السن البائنة وتثبيتها] قال: (ويكره لمن بانت سنه أن يعيدها). وذلك لأنه ممنوع أن ينتفع بشيء من الأسنان بعد ما بات، والأصل فيه: قول الله تعالى {إلم نجعل الأرض كفاتا* أحياء وأمواتا}.

فأفادنا ذلك دفن الإنسان بعد موته، ودفن ما يبين منه من شعره، وظفره، وعظمه. "ولعن النبي عليه الصلاة والسلام الواصلة". وهي التي تصل شعر الإنسان بشعرها، فدل على أنه لا يجوز الانتفاع به، فكذلك السن بعد السقوط. قال: (وروي عن أبي حنيفة أنه أباح ذلك؛ لأن العظم لا يلحقه حكم الموت). قال: (وأبو يوسف لا يرى به بأسا).

مسألة: [ما يرخص للرجال من الحرير] قال: (ولا نرى بأسا بلبس ما كان سداه حريرا، ولحمته غير حرير، ويكره لبس ما كان لحمته حريرا، وسداه غير حرير في غير الحرب، ولا نرى بأسا به في الحرب، وما كان حريرا كله فإن أبا حنيفة كان يكرهه في الحرب وفي غيرها). قال أحمد: علق الحكم بالظاهر من الثوب، فإن كان حريرا: كرهه، وإن كان غير حرير: لم يكرهه، وذلك لأن السدى مستهلك غير ظاهر، فلا حكم له. وقد روي نحو ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما. وروي عن جماعة من الصدر الأول رضي الله عنهم لبس الخز، وسداه يكون حريرا. ولا خلاف نعلمه في إباحة ما كان لحمته حريرا، وسداه غير حرير في الحرب، ولأنه يكون جنة وسلاحا في الحرب، وفيه إرهاب للعدو. فإن قيل: فهلا أبحت الحرير المصمت في غير الحرب. كما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في لبس الحرير".

قيل له: إنما رخص له لضرورة كانت أباحت ذلك له، وهو القمل الذي لم يمكنه الامتناع منه إلا به. وقد اتفق الفقهاء على أن هذا المعنى غير مبيح للبس الحرير في هذا الوقت. *وكره أبو حنيفة المصمت في الحرب؛ لاتفاق الناس على تحريم استعماله في غير الحرب. ثم اختلفوا فيه في الحرب، فاعتبر أبو حنيفة عموم النهي فيه. وقد يمكن أن يستغنى بما سداه غير حرير، ولحمته حرير، في كونه سلاحا: عن لبس الحرير المصمت، فلما لم يكن فيه ضرورة، إذ قد قام ما وصفنا مقامه: لم يبحه. فإن قيل: لما لم يكن للسدى حكم؛ لأنه مستهلك، سقط اعتباره. قيل له: إن الشيء إذا لاقى جنسه: لم يصر مستهلكا فيه، وإذا لاقى غير جنسه: كان الحكم للغالب، ألا ترى أن قطرة من لبن لو وقعت في كوز من ماء: لم يكن لها حكم، وكان مستهلكا، ولو وقعت في لبن مثله، لم يكن مستهلكا.

*وقال أبو يوسف ومحمد: لا بأس بلبس الحرير المصمت في الحرب. مسألة: [حكم تقبيل اليد، والفم، والمعانقة] قال: (ويكره للرجل أن يقبل فم الرجل، أو يده، أو شيئا منه). وذلك لما حدثنا ابن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال: حدثنا حجاج بن منهال قال: حدثنا حماد بن سلمة ويزيد بن زريع وغيرهما عن حنظلة السدوسي عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أنهم قالوا يا رسول الله: أينحني بعضنا لبعض إذا التقينا؟ قال: لا. قالوا: فيعانق بعضنا بعضا؟ قال: لا. قالوا: فيقبل بعضنا بعضا؟ قال: لا. قالوا: فيصافح بعضنا بعضا؟ قال: تصافحوا". وروى عبيدة بن حسان عن قتادة عن أنس قيل: "يا رسول الله، إن المشركين إذا التقوا: قبل بعضهم بعضا، وعانق بعضهم بعضا، فقال عليه الصلاة والسلام: قبلة المسلم أخاه: المصافحة".

فإن قيل: قد روي "عن كعب بن مالك أنه قبل يد النبي عليه الصلاة والسلام". و"أن أعرابيا استأذن النبي عليه الصلاة والسلام في أن يقبل رأسه، ويده، فأذن له"، في أخبار أخر غيرها. و"أن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قبل يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين قدم الشام". قيل له: ومن أصلنا: أن الحظر والإباحة إذا وردا، وفقدنا علم التاريخ: أن الحظر يقضي على الإباحة. ومن جهة أخرى: أن الأمر والفعل إذا اجتمعا: فالأمر أولى. *قال: (وكره أبو حنيفة المعانقة، ولم ير بأسا بالمصافحة). وذلك لحديث أنس رضي الله عنه الذي قدمنا. فإن قيل: روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم عانق عليا رضي الله

عنه، وعانق أبا الهيثم بن التيهان، وأن اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أحدهم إذا قدم من سفر، عانق صاحبه. قيل له: قد بينا أن خبر الحظر أولى من خبر الإباحة، وأن الأمر أولى بالاستعمال من الفعل. *قال: (وروي عن أبي يوسف: أنه لم ير بأسا بالمعانقة للأثر).

مسألة: [بيع أراضي مكة] قال: (وكره أبو حنيفة بيع أراضي مكة، وروي عن أبي يوسف أنه لا بأس به). لأبي حنيفة: قول الله تعالى: {والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد}. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الحرم كله مسجد. ويدل على أن المراد الحرم كله: قوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم}. وذلك حكم جار في جميع الحرم. وهو نحو قوله تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق}، وقوله تعالى: {هديا بالغ الكعبة}، والمراد: الحرم كله. وروى عبد الرحيم بن سليمان الرازي عن إسماعيل بن إبراهيم بن

المهاجر عن أبيه عن مجاهد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل بيع بيوت مكة، ولا إجارتها". وروى عثمان بن أبي سليمان عن نافع بن جبير بن مطعم عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، ورباع مكة تدعى: السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن. "وكان عمر رضي الله عنه يمنع أهل مكة أن يغلقوا الأبواب على بيوتهم، فقالو له: إنك تضمننا ما يسرق منا الحاج، فأذن لهم في تغليق الأبواب". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "منى مناخ

لمن سبق إليه". فوجب أن يكون ذلك حكم جميع الحرم؛ لأن منى من الحرم. فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ "، حين باع دار النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أنه كان ملكها بالغلبة، ولذلك جاز بيعها. قيل له: يجوز أن يكون ذلك كان قبل نزوله قوله تعالى: {سواء العاكف فيه والباد}. مسألة: [حكم جعل الراية في عنق العبد وتقييده] قال: (ويكره للرجل أن يجعل الراية في عنق عبد، ولا يكره له تقييده). وذلك لأن الراية مثلة وشهرة، والقيد عقوبة، والمثلة منهي عنها، والعقوبة مأمور بها لمستحقها، كما يضربه للتأديب.

مسألة: [كراهية أكل السلحفاة] قال: (ويكره أكل السلحفاة). لأنه قد ثبت تحريم أكلها إذا ماتت، بقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة}، وإذا صح ذلك في الميتة منها، كانت المذبوحة بمثابتها؛ لأن أحدا لم يفرق في حيوان الماء بين موته وذبحه. مسألة: [الانتفاع بشيء من أجزاء الخمر] قال: (ويكره دردي الخمر أن يمتشط به النساء). وذلك لأنه نجس؛ لما خالطه من أجزاء الخمر. مسألة: [كراهية ابتداء الكافر بالسلام، وحكم إجابتهم] قال: (ويكره ابتداء الكافر بالسلام). لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا تبدؤوهم بالسلام".

*قال: (ولا نرى برد السلام عليه بأسا إذا لم يزد على قوله: وعليكم). وذلك لما روي عن أنس رضي الله عنه: "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم قالوا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يسلمون علينا، فكيف نرد عليهم؟ قال: قولوا: وعليكم". وقال ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلموا عليكم، إنما يقولون: السام عليكم. فقولوا: وعليكم". قال أحمد: وقد "ذكر إبراهيم عن علقمة قال: صحبنا عبد الله بن مسعود في سفر، ومعنا ناس من الدهاقين، قال: فأخذوا طريقا غير طريقنا، فسلم عليهم، فقلت لعبد الله: أليس هذا يكره؟ قال: إنه حق الصحبة". "وقال الأعمش: قلت لإبراهيم: أختلف إلى طبيب نصراني. أأسلم عليه؟ قال: نعم، إذا كانت لك إليه حاجة: فسلم عليه".

مسألة: [كراهية أكل الضب] قال: (وكره أبو حنيفة أكل الضب). وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن أكل الضب". فإن قيل: روي أنه قال: "لا آكله، ولا أحرمه". قيل له: إذا اجتمع خبر الحظر، وخبر الإباحة: فخبر الحظر عندنا أولى. مسألة: [بيع السلاح لأهل الفتنة] قال: (وكره بيع السلاح من أهل الفتنة، وفي عساكر الفتنة، ولا بأس ببيعه في الأمصار، وممن لا نعرفه من أهل الفتنة). وكل ذلك لأن في بيعه من أهل الفتنة معونة لهم عليها، كما يكره بيع السلاح من أهل الحرب.

وأما بيعه في الأمصار: فلا بأس به؛ لأن أمرهم محمول على الجواز والصحة، كما أن من رأيناه من أهل المصر لا يجوز أن نظن به أنه من أهل الفتنة ما لم نتيقن. مسألة: [سفر المرأة من غير محرم] قال: (ويكره للمرأة الحرة أن تسافر سفرا ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم، أو زوج). لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام إلا مع ذي رحم محرم، أو زوج". *ولا بأس أن تسافر الأمة بغير محرم؛ لأنها بمنزلة ذوات المحارم في جواز النظر منها للأجنبي إلى ما يجوز النظر إلى الحرائر ذوات المحارم. مسألة: [حكم إخصاء الإنسان، وكسبه، واستخدامه] قال: (وكره أبو حنيفة رحمه الله كسب الخصيان، وملكهم، واستخدامهم). لأنهم لولا رغبة الناس فيهم لما أخصوا، فكان في اقتنائهم معونة على إخصائهم، وذلك مثلة ومحرم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا

إخصاء في الإسلام". *قال: (ولا بأس بإخصاء البهائم)؛ لما فيه من المنفعة للبهيمة وللناس. مسألة: [إنزاء الحمير على الخيل] قال: (ولا بأس بإنزاء الحمير على الخيل). وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خص بني هاشم بكراهة ذلك لهم". وقال عبد الله بن الحسن: كانت الخيل قليلة في بني هاشم، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكثر فيهم. ويدل على إباحته: ماروي عن النبي صلى الله عليه وسلم من ركوبه البغلة، واتخاذها، ولو كان مكروها ما اتخذها، ولا ركبها.

فإن قيل: روي "أن عليا رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين أهديت إليه بغلة: لو حملنا الفلان- يعنى حمارا- على الفلانة- يعنى فرسا-: جاء منها هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون". قيل له: لا دلالة فيه على النهي؛ لاحتمال أن يكون المراد الذين لا يعلمون فضيلة ارتباط الخيل، وما فيه من الثواب على البغال؛ لأن ارتباط البغال لا ثواب فيه. فأخبر عليه الصلاة والسلام أن هذا من فعل من لا يحيط علما بشرف الأفعال التي يبتغى بها الثواب، والله أعلم بالصواب. ***** تم كتاب شرح مختصر الطحاوي لأبس بكر الرازي الجصاص ولله الحمد

جاء في آخر نسخة قونية ما يلى: "تم شرح مختصر الفقه لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عيد الملك الطحاوي الأزدي، من أصل أربعة أجزاء، صنعة أبي بكر أحمد بن علي الرازي. وكان فراغ نسخه في يوم عاشوراء، سنه ثلاث عشرة وسبعمائة، على يد أفقر عباد الله إلى رحمته، وأحوجهم إلى عفوه وغفرانه: محمد بن محمد بن عبد الكريم التبريزي عفا الله عنهم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما، وحسبنا الله، ونعم الوكيل. بلغ مقابلة وتصحيحا بأصله المنقول منه بحسب الطاقة والإمكان.

وبخط مغاير لما سبق، كتب في آخر نسخة قونية ما يلى: (رأيت بخط الشيخ قوام الدين الإتقاني الفارابي مكتوبا على النسخة التي قابلت هذه النسخة عليها ما مثاله: "قال العبد الضعيف أبو حنيفة أمير كاتب، المدعو بقوام الفارابي الإتقاني: هذا الكتاب الذي عمله الشيخ الإمام الذي لا يشق غباره في علوم

الإسلام، وهو الإمام أبو بكر الرازي رحمه الله، كتاب لم يصنف مثله قط إلى يومنا هذا، فليس الخبر كالمعاينة، ولن يصنف مثله إلى يوم القيامة. فمن فاته قد فاته جل مطلب ... ومن ناله قد نال جل المآرب ألا إن من أنشأه نحرير عالم ... فقد حاز في التبيان أقصى المراتب أبو بكر الرازي لهو إمامنا ... إمام الهدى شيخ التقى ذو المناقب ولكنه هجر، وفقد عن أيدي الناس في سائر البلاد، ولا يكاد يوجد إلا شاذا نادرا، وذلك كان بسبب تواني الطلبة وتكاسلهم، وقلة رغبتهم في التحقيق، واكتفائهم بالمختصرات التي لا تشبع ولا تقنع، والذي يوجد من نسخه أيضا لا يوجد إلا سقيما. وإني قد أصلحت من نسختي مواضع تحتاج إلى الإصلاح بقدر وسعي، فما شذ منها فسأصلحه بعونه تعالى إذا فسحت لي المدة، أو يجيء من يصلحه فيصلحه إن شاء الله تعالى. ثم أصلحت ما فات أولا سنة إحدى وخمسين وسبعمائة بمصر، فصح إن شاء الله تعالى، كتبه أمير كاتب. وكان أبو بكر الرازي أخذ العلم عن الشيخ أبي الحسن الكرخي، وهو

عن أبي سعيد البردعي، وهو عن أبي خازم القاضي، وهو عن عيسى بن أبان، وهو عن محمد بن الحسن الشيباني، وهو عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو عن حماد، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت وفاة أبو بكر الرازي سنة سبعين وثلثمائة، وولد سنه خمس وثلثمائة". 1 هـ كلام الإتقاني. *وكان الفراغ من مقابلة هذه النسخة في يوم الخميس، تاسع شهر

ربيع الآخرة، سنة اثنين وسبعين وسبعمائة، على يد العبد الفقير، المعترف بالتقصير، الراجي عفو ربه، ولطفه الخفي: عمر بن البابا الحنفي. قال الإتقاني في أول فصل في كيفية القسمة من كتاب السير: "قاله أبو بكر الرازي في شرحه لمختصر الكرخي، وله أحكام القرآن، وشرح الجامع لمحمد بن الحسن، وشرح الأسماء الحسنى، وله السلطان المتين، وله شرح المناسك للإمام محمد". 1 هـ ***** قال العبد الضعيف سائد بن محمد يحيى بكداش المعتني- بفضل الله وتوفيقه- بإخراج الكتاب، ومراجعته، وتصحيحه، وتنسيقه، وإعداده للطباعة: قد تم الفراغ من ذلك- ولله الحمد والمنة- في المدينة المنورة، في يوم الجمعة بعد العصر، في الثالث عشر من شهر محرم الحرام، من سنة ألف وأربعمائة وثلاثين، من هجرة سيد الأولين والآخرين، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، سائلا المولى ذي الجلال والإكرام جميل العاقبة وحسن الختام. *****

§1/1