شرح مختصر الصارم المسلول - محمد حسن عبد الغفار

محمد حسن عبد الغفار

ترجمة عن شيخ الإسلام ابن تيمية

شرح مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول - ترجمة عن شيخ الإسلام ابن تيمية لقد كان شيخ الإسلام نادرة من النوادر، فقد شابه الصحابة رضوان الله عليهم في جمعه بين العلم والعمل، وجهاده باللسان وبالسنان، وقد فاق أقرانه في شتى المجالات، فما من فن من الفنون إلا وله فيه الحظ الأوفر، فهو فارس الميدان في مجال الجهاد في سبيل الله، وفي مجال مناظرة أهل البدع، وفي مجال الفقه والحديث والتفسير واللغة وغير ذلك، فرحمه الله رحمة واسعة.

ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية

ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقبل أن نبدأ الكلام على هذا الكتاب الجليل العظيم: (الصارم المسلول)، وهذا الكتاب من أنفع ما كتب في هذه المسألة، كتاب: (الصارم المسلول) لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأيضاً هذا الاختصار الجيد للإمام البعلي فلا بد أن نمر على الشيخين ونتكلم عنهما بترجمة وجيزة. فشيخ الإسلام ابن تيمية هو علم الأعلام، والإمام الهمام، وفارس الميدان، وإن صح التعبير فهو كما يقولون: فريد عصره، ووحيد دهره، وهو البحر الذي لا ساحل له، كما سئل عنه ابن القيم فقال: هذا البحر الذي لا ساحل له. ولا بد أن نتكلم عن ابن تيمية في كل شيء، نتكلم عنه خلقاً وديناً ونسكاً وعبادةً وعلماً وشجاعةً وكرماً وسخاءً وجهاداً في سبيل الله.

مولد شيخ الإسلام ونشأته

مولد شيخ الإسلام ونشأته ولد شيخ الإسلام ابن تيمية سنة (661هـ) ونشأ في أسرة عريقة امتلأت بالفقه والحكمة والعلم، وامتلأت بالكرم والسخاء والشجاعة، فلذلك نبتت لنا هذه النبتة، هي نبتة شيخ الإسلام ابن تيمية، قد ولد في حران وجلس فيها حتى سن السابعة من عمره، ثم بعد ذلك لما هجم التتار عليهم فرقوهم أوزاعاً فرحلوا إلى الشام، وكان أبوه عبد الحليم من علماء الحنابلة، وكان من علماء الحديث، وكان مدرساً لعلم الحديث في الشام، وهو الذي أجلسه مجلسه بعدما أصبح شاباً يافعاً حافظاً لعلم الحديث، فانتقل والده بسبب التتار إلى الشام. وهذا الطفل الصغير كان كريماً شجاعاً ناسكاً عابداً لله جل في علاه. فقد ظهرت نجابته أولاً في المناظرة بينه وبين أبيه عندما عاتبه على الرحيل من حران، فقال لوالده: لم تترك حران؟ فقال: التتار لا يتركون أخضر ولا يابساً إلا أتوا عليه وأكلوه وأنهوا أمره وقتلوا من في البلدة، فناظره بكلمات واستدل بآيات يستدل بها كثيراً في هذا الكتاب، فقال لأبيه: ألم يقل الله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14]، فلا بد من الجهاد، والله ينصر المجاهدين في سبيله. لكن قدر الله الرحلة إلى دمشق، فلما رحل إلى دمشق كانت فاتحة الخير عليه.

أخلاق شيخ الإسلام

أخلاق شيخ الإسلام قبل أن نتكلم على أهم ما في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية وهي حياته العلمية، نتكلم عن صفات اعتلى بها، وهي صفاته الخُلقية، هو شيخ الإسلام الخلوق الذي حباه الله، فقد كان ذا أخلاق سامقة يرتفع بها، فكان كريماً سخياً على ضيق يد، فلم يكن يعرف الفرق بين الدرهم والدينار كما وصفه كثير من المؤرخين، أي: لم يكن ينشغل بالدرهم والدينار، كما قال الذهبي: كان زاهداً ورعاً كريماً مع زهده ومع فقره وضيق حاله، ولقد أتى بكرم الأخلاق أولاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة) فلا يمكن أن تحتووا الناس بأموالكم، لكن لا بد أن تحتووا الناس بأخلاقكم الكريمة، فكان كريماً بأخلاقه مع الناس. ولما طلع نجمه، وبزغت شمسه في الأوطان جميعاً، كانت الجوائز تنهال عليه، فإن جاءته جائزة من السلطان بمال فرقها عن بكرة أبيها على إخوته وأصدقائه وعلى إخوانه وطلبة العلم ومشايخه، فكان كريماً سخياً.

عبادة شيخ الإسلام وورعه وتقواه وصبره على الأذى

عبادة شيخ الإسلام وورعه وتقواه وصبره على الأذى وقد كان عابداً ناسكاً، وعبادة شيخ الإسلام ابن تيمية إذا محضت النظر فيها قلت: هذا الرجل قبر من قبور الصحابة انشق وخرج منه هذا الصحابي. فقد كان عابداً لله جل في علاه بالعبادة الظاهرة، والعبادة الباطنة، عبادة الجوارح: بالجهاد في سبيل الله باللسان وبالسنان، وكان عابداً بالجوارح قواماً لليل صواماً للنهار، وعبادته في الباطن هي أجل العبادات التي قدمها ابن تيمية لنا نبراساً نأتسي به. ويدل على ذلك كلام ابن القيم حين قال: كان إذا ادلهم بنا الخطب واشتد بنا الكرب ذهبنا إلى ابن تيمية فنظرنا إلى وجهه فذهب عنا كل شيء. سبحان الله! جعل الله رؤيته ذكراً لله، وجعل الله في رؤيته الأمان لعباد الله جل في علاه، قال: إذا ادلهم بنا الخطب واشتد بنا الكرب، واشتد الخوف في قلوبنا ذهبنا إلى ابن تيمية، فنظرنا إلى وجهه فازددنا طمأنينة. سبحان الله! وهذا من شدة ورع هذا الشيخ الكريم، ومن شدة عبادته وقربه من الله جل في علاه، ولك فيما قاله بيان جليٌ لشدة ورع وتقوى هذا الرجل وعبادته لله جل في علاه، فمن المعلوم أنه عندما يبزغ نجم عالم، أو طالب علم، أو رجل جعله الله نبراساً لأناس يأتسون به، لا بد من الحسد والحقد أن يغلي في الأوساط، ولا بد من بتره وقتله وطمس هويته، فكان ذلك الحظ الأوفر والنصيب الأعظم لشيخ الإسلام لـ ابن تيمية؛ لأن الحساد كثر ل شيخ الإسلام؛ لأنه كان وحيد عصره بحق كما قال ابن دقيق العيد كما سنبين. فكانت الوشاية كثيرة على شيخ الإسلام ابن تيمية، فكانوا يسجنونه ويجلدونه ويعزرونه ويعذبونه، حتى مات مظلوماً في سجن القلعة، فشيخ الإسلام ابن تيمية لما سجنوه قال كلمات تحفر في الصدور بماء الذهب، وهي تدل على عبادة هذا الرجل وقربه من الله جل في علاه ويقينه في أن ربه جل في علاه هو الرب القادر الكريم المليك لهذا الكون كله، الذي يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فقال: ماذا يريد أعدائي بي لو سجنوني فسجني خلوة بربي، أي: المراقبة والإحسان والتفكر والتدبر وذكر القلب؛ لأن ذكر القلب هو الذي يرتقي بالعبد، قال عز وجل: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله). فـ شيخ الإسلام اعتنى بذكر قلبه، فكان يقول: لو سجنوني فسجني خلوة بربي، ونعم الأنيس جل في علاه. ثم قال: ولو قتلوني فقتلي شهادة. فهو يعلم أنه في وظيفة عظيمة في هذه الدنيا، وهي العبادة لله جل في علاه، ونشر دين الله جل في علاه، وتعبيد العباد لرب العباد. ثم يقول: ولو نفوني فنفيي سياحة. أي: أنظر في هذا الكون الشاسع، وأنظر إلى ربوبية الله جل في علاه، وعظمة خلق الله جل في علاه. وكان ابن تيمية يتقرب من الله جل في علاه بالذكر الخفي حتى في أبواب العلم، قال: كنت إذا استغلقت علي مسألة ذهبت إلى مسجد مهجور أخلو فيه بربي، كما قال ابن القيم: إنه كان مسجداً مهجوراً وكان يمرغ نفسه بالتراب، فهو بذلك يبين أن بوابة الدخول إلى الله هو الذل لله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتذلل لربه ويخضع، فهو لما كان في غزوة بدر واشتد الأمر عليهم، وكاد المسلمون أن يفتنوا رفع يديه متذللاً خاضعاً متمسكناً لربه جل في علاه حتى سقط الرداء وهو يقول: (اللهم أنجز لي ما وعدت). فـ ابن تيمية كان يفقه ذلك ويعلم أن بداية الطريق الصحيح هو الذل التام والخضوع التام لله جل في علاه، وكيف لا؟ وهو الذي بين لنا أن ركني العبادة هما: غاية الحب، مع غاية الذل، فكان يمرغ نفسه في التراب ذلاً وخضوعاً لله جل في علاه، ثم يدعو مبيناً أن النعمة بأسرها بيد الله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] فقال: اللهم يا معلم إبراهيم، ولذلك كان دائماً ما يقول: ليس مني شيء ليس بي شيء، الكل من الله جل في علاه، وكان يقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني. وهذه الدعوة تدل على دقة نظر ابن تيمية وشدة تقربه من الله جل في علاه، فهو يخضع ثم ينسب النعمة لباريها، حتى ينال ما يريد من ربه جل في علاه.

جهاد شيخ الإسلام باللسان وبالسنان في سبيل الله

جهاد شيخ الإسلام باللسان وبالسنان في سبيل الله كان شجاعاً يجاهد في سبيل الله باللسان وبالسنان، ولك أن تعلم أن في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية انتشر مذهب الأشاعرة على أنه مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا النووي وغير النووي وقبل النووي وبعد النووي فكلهم كانوا في دمشق يعلمون أن المذهب الحق هو مذهب الأشاعرة، ويحسبون أنه مذهب أهل السنة والجماعة، ناهيك عن انتشار النصارى واليهود، وناهيك أيضاً عن وجود الرافضة والشيعة والصوفية، وغير هؤلاء. فناضل شيخ الإسلام ابن تيمية وناظر كل مبتدع ضال في بدعته، فكان يناظرهم جميعاً، ومن شدة تحريه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ونشر الدين الصحيح، والتأصيل العقدي السديد الصحيح كما كان عليه السلف الصالح، فإن رسائله كلها التي سجن من أجلها تبين لك كيف انبرى لهؤلاء الفرق المتعددة المبتدعة؛ ليبين لهم العقيدة السديدة عقيدة السلف. ومن هذه الرسائل: الرسالة الحموية، والرسالة الواسطية، فكل هذه الرسائل التي صنفها ابن تيمية كانت رداً على هؤلاء المبتدعة، وكان يبين فيها العقيدة الناصعة البيضاء عقيدة السلف الصالح. فكان يناظر باللسان، وكان يجاهد في ساحة الوغى، فلم يكن عالماً متقاعساً بل كان يجاهد باللسان وبالسنان. أما جهاده بالسنان: فهو لما وقف قازان على أبواب دمشق وكاد يدمر كل دمشق، قام شيخ الإسلام ووقف في وجهه معلناً أنه عبد لله جل في علاه لا يخاف إلا من الله، فقال لصاحب القلعة أو لأمير البلدة الذي كان يتحصن في القلعة: لا تسلم القلعة، وإن لم تجد من السيوف والرماح، وحتى لو قاتلت بالأظافر وبالأحجار فلا تسلم القلعة، ثم ذهب إلى قازان وكان قد أسر من المسلمين وأسر أيضاً من الذميين، فكلمه كلاماً شديداً بلهجة شديدة، لا سيما وأن قازان كان قد أعلن وأشهر إسلامه بين الناس، فاشتدت عليه الوطأة من شيخ الإسلام ابن تيمية حتى ارتجف ورعب قلب قازان، فسلم له الذميين قبل المسلمين ثم سلم له المسلمين ورحل عن الشام، فلما عاودته وساوسه مرة ثانية أن يأتي ويقتحم الشام واجتمعت التتار لهلاك المسلمين، ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية يستنفر الناس، ومنهم: قلاوون؛ لأنه كان أميراً للمؤمنين في تلك العصور، وكان في مصر فذهب إليه وقال له: والله إن لم تكن حاكماً للشام ومصر، واستنفروك في الدين فعليك النصر لزوماً ووجوباً، من قول الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] فاستنفر السلطان قلاوون الناس وحثهم على القتال وكانت المعركة في رمضان، وكان شيخ الإسلام يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالفطر في ساحة الوغى؛ ليتقوى المسلمون على أعدائهم، وكان يقول لكل أمير يستنهضه أو يستحثه على القتال: قاتلوا والنصر لكم، فقال له رجل: لمَ لم تقل: إن شاء الله، فقال له شيخ الإسلام ابن تيمية بقلب ثابت راسخ مستيقن بربه جل في علاه: أقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. هذا يقين بالله جل في علاه، ولا تبعد إذا قلت: إنه قسم على الله، وكم من امرئ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره، وقد كان النصر للمسلمين بسبب هذا الشيخ الذي كان شجاعاً في ساحة الوغى.

علم شيخ الإسلام وفقهه وسعة حفظه

علم شيخ الإسلام وفقهه وسعة حفظه ندخل في أهم ساحات شيخ الإسلام ابن تيمية ألا وهي ساحة العلم، حق لنا أن نقول: إن ابن تيمية عالم فريد وحيد لم يأت مثله بعده؛ لأنه كان بحراً في العلوم وكان حبراً لهذه الأمة، ما من علم نجم في الساحة إلا وتعلمه ابن تيمية، وما جلس أصحاب كل علم مع ابن تيمية إلا قالوا: ما أتقن ابن تيمية إلا هذا العلم، في الفلسفة في المنطق في اللغة حتى إنه عودي؛ لأنه أخذ مآخذ على سيبويه، وسيبويه فحل اللغة فـ ابن تيمية استدرك عليه، ولذلك كانوا يأتونه من كل حدب وصوب، يتعلمون منه اللغة، وكان يعلم العقائد المختلفة عقائد اليهودية والنصرانية، وألف في ذلك التصانيف النافعة التي ترد على هذه العقائد، فألف كتاباً رد فيه على النصارى واسمه: (الجواب الصحيح في الرد على من بدل دين المسيح)، وألف كتاباً في الرد على الإثني عشرية وعلى القدرية واسمه: (منهاج السنة). وأيضاً ألف الرسائل الكثيرة التي ترد على الأشاعرة، والفتاوى كلها موجودة تبين لنا كيف رد شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه العقائد، فـ ابن تيمية كان بحراً للعلوم ظهرت نجابته من صغره، فما قرأ شيئاً إلا حفظه، كما قيل عن الشافعي: إنه كان إذا فتح المصحف يضع يده على الصفحة التي لا يقرؤها حتى لا يحفظها فتختلط عليه بالصفحة التي يحفظها. كذلك كان ابن تيمية إذا أخذ الورقة فقرأها يضعها، ويأت بها عن بكرة أبيها حفظاً، فسمع بنجابة ابن تيمية الطفل الصغير شيخ محدث حلبي، فذهب إلى دمشق وقال لبعض المعلمين: أين هذا الطفل الذي تسمونه ابن تيمية؟ فقال: عندما يمر مع الصبيان سأعرفك به، فجلس الرجل ساعة حتى مر ابن تيمية، فقال المعلم: أرأيت هذا الطفل الذي معه اللوح الكبير؟ هذا ابن تيمية، فذهب الحلبي إليه فقال: يا بني! تعال، فجاءه، فقال الحلبي: ما هذا؟ قال: هذا اللوح أكتب فيه قال: امسح ما فيه، فمسح ما فيه، فقال الحلبي: سأملي عليك بعض الأحاديث فهل تكتبها؟ قال: أكتبها، فأملى عليه متون أكثر من عشرة أحاديث وهو يكتب، فبعدما كتبها ابن تيمية قال: تردد علي هذه الأحاديث؟ فرددها عليه كأحسن ما يكون، فلما سمع هذه الأحاديث من هذا الطفل البارع النجيب وهو يسردها حفظاً بعدما كتبها في اللوح ونظر إليها مرة واحدة اندهش اندهاشاً عجيباً، ثم قال: امسح يا بني ما كتبت، فمسح الأحاديث، فقال: أملي عليك الأسانيد وهذه أعظم من الأولى؛ لأن متون الأحاديث لها نور، ومن السهل جداً أن تحفظ المتون، ولذلك أسهل كتاب على وجه الأرض يحفظ هو كتاب الله؛ لأن الله تعالى يسره لكل مدكر متذكر، فالقرآن سهل جداً أن تحفظه، وكذلك الأحاديث؛ لأن لها نوراً يدخل في القلوب. فهذا الحلبي انتقى بعض الأسانيد المشكلة وأملى عليه هذه الأسانيد وهو يكتب الأسانيد، فبعدما كتب الأسانيد شيخ الإسلام ابن تيمية، قال الحلبي: تقرؤها علي؟ فوضع اللوح وسرد عليه هذه الأسانيد حفظاً، فقال: اعتنوا بهذا الطفل. وانظروا إلى الإنصاف، فهو رجل عالم محدث يمكن أن يغار ويقول في نفسه: هذا الرجل قد يأخذ مني الأضواء فلا بد أن يطمس وأن يشوه وتدفن نجابته، ولكن كان من الذين يعملون للدين، فالعمل للدين له رونق آخر، فقال الشيخ المحدث: اعتنوا بهذا الطفل فلم أر مثله، فسيكون له شأن عظيم. وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية علم الأعلام والفارس الهمام، فشيخ الإسلام ابن تيمية حافظته القوية وسرعة الحفظ جعلت ابن كثير يقول: الدنيا ما فيها إلا ثلاثة لا رابع لهم، فقال: أولهم وأبرعهم شيخ الإسلام ابن تيمية، والثاني: ابن دقيق العيد، مع أن ابن دقيق العيد يعتبر من طبقات شيوخه، ثم ثلث بـ السبكي. والسبكي كان بارعاً حافظاً فقيهاً أصولياً. وقال ابن كثير أيضاً: ثلاثة من الناس ما رأيت مثلهم: ابن تيمية والمزي وابن دقيق العيد، وأحفظهم للمتون هو ابن تيمية، ولذلك قال ابن عبد الهادي: -الإحاطة لله فقط- حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث، وهذا الذي قاله الذهبي في ذيل طبقات الحنابلة، فقد قال: حديث قال فيه ابن تيمية: لا أعرفه فليس بحديث؛ لسعة اطلاع الرجل، فـ ابن دقيق العيد يبين لنا أن ابن تيمية كأن الكتب الستة والمسند أمام عينيه، يأخذ ما شاء وينتزع ما شاء من الأدلة. وكان ينتزع الآيات ويستدل بها على المسائل كأبرع ما يكون، فهو يستحضر الدليل في وقته، بينما الواحد منا لو سئل يظل يفكر ويذكر ويقول: ذكروني بالآية، والثاني يقول: ما هو متن الحديث؟! أما شيخ الإسلام فقد كانت الأسئلة تنهال عليه ويستحضر الدليل وينتزعه من كتاب الله جل في علاه ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، مع استحضار أصل الدليل. والمزي قليل من يعرفه، قال ابن كثير: وأفقههم في المتون ابن دقيق العيد يعني: كان أفقه ما يكون، فله كتاب إحكام الأحكام، أملاه ابن دقيق العيد إملاء، وإذا نظرت في كتاب ابن دقيق العيد رأيت الدرر. إذاً: فـ ابن تيمية برع في ساحة العلم في كل شيء، ففي الحديث كان أوسع الناس حفظاً، كما قال الذهبي وغيره: الحديث الذي لا يعرفه ابن تيمية ليس بحديث، وكان ينتزع الحديث من المسند أو من الكتب الستة ويستحضره في أوانه. وكان عالماً بالرجال وبالأسانيد، فترى في الفتاوى كثيراً ما يضعف ويصحح، لكن ما تخصص في علم الحديث استقلالاً، فهذا الرجل جمع الله له العلوم كلها، علم الحديث وعلم الفقه، أما إذا دخلت على علم الأصول فهو فارس الميدان يقعد ويؤصل، وقواعد ابن رجب ترى فيها درراً من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية واختيارات ابن تيمية. أما في الفقه فساحته، فلا يستطيع أحد أن ينازع ابن تيمية في الفقه، فقد كان العلماء يقولون: صعب علينا الفقه وسهل على ابن تيمية، نعم والله فقد كان يأتي بالفقه من القلب، كان يأتي بالمسائل الفقهية ويقربها للناس بعدما يبين المذاهب، وكان كثير من أهل المذاهب يناظرونه فيعيد كل صاحب مذهب لمذهبه، ويقول: أنت ما أتقنت هذه المسألة في المذهب، بل وهو طفل صغير يذكر بعض أهل السير: أنه جلس في مجلس كان فيه قاض من الشافعية وكان يتكلم في مسألة الاستعانة بالمشركين، فقال: إن الشافعي يرى جواز الاستعانة بالمشركين، وبعد ما سكت قام له شيخ الإسلام وقال: تجاوزت كلام الشافعي دون أن تأتي بشروطه وقيوده، فانزعج، كيف تتكلم معي في مذهب أنا مؤصله وأنا أتعلم على مذهب الشافعي؟ فقال: إن الشافعي ما أطلق الاستعانة بالمشركين، لكن قيد قيوداً واشترط شروطاً منها: أن يكون في المسلمين حاجة لأمثال هؤلاء الكفار، واشترط أن تنطوي راية الكفر تحت راية المسلمين وتحت لواء المسلمين، فلما ذكر له القيود رجع إلى كلام ابن تيمية، فالفقه ساحته وهو الذي برع فيه، وانظر في الفتاوى.

المسائل التي انفرد بها شيخ الإسلام خلافا للجمهور

المسائل التي انفرد بها شيخ الإسلام خلافاً للجمهور وسنبين بفضل الله ختاماً لهذا المجلس المسائل التي انفرد بها شيخ الإسلام خلافاً للجمهور، وأكثر وأعظم هذه المسائل كان الحق مع ابن تيمية ولم يكن مع الجمهور. ومن هذه المسائل: الطلاق ثلاثاً: فقد خالف شيخ الإسلام الجمهور فقال: الطلاق ثلاثاً لا يقع إلا واحدة. ومن المسائل الطلاق في الحيض: أيضاً خالف شيخ الإسلام فيها، فقال: لا يقع ولا يحسب. أيضاً من المسائل: في التورق، فـ شيخ الإسلام خالف جماهير أهل العلم وقال: بتحريم التورق. وأيضاً: في المعاملات قال: الذهب بالذهب ربا إن كان فيه زيادة إلا إذا كانت أجرة الصنعة، يعني: لو أعطيت الذهب القديم وأخذت بدله الذهب الجديد فلك أن تعطي الفرق أجرة الصنعة، هذا كلام ابن تيمية، وانتصر له ابن القيم، وهذه المسألة الوحيدة التي لا نوافقه عليها بحال من الأحوال. أيضاً وهذه مسألة من مسائل العقيدة: ألا وهي مسألة الزيارة وشد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، وهذه المسألة من أصعب المسائل التي سجن من أجلها ابن تيمية ومات مظلوماً محبوساً، ففي مسألة شد الرحال من أجل زيارة القبور دلس المتصوفة على ابن تيمية وقالوا: هو ينتقص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: يحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فألبوا عليه السلاطين حتى سجن ومات في السجن، بسبب هذه المسألة. أيضاً: هناك مسألة أخرى أنكرت على ابن تيمية وهي: مسألة الأسماء والصفات فهو يقول: يجب أن تثبت في الصفة كما هي بدون تأويل ولا تشبيه. وأيضاً: بعض أهل السنة أخذوا على ابن تيمية أنه صحح حديث جلوس النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنب العرش. فهذه المسائل التي انفرد بها ابن تيمية عن الجمهور، وهذا يدلك على سعة علم الرجل في هذه المسائل. ووفاءً لـ شيخ الإسلام نتفرغ لهذه المسائل لنبين الحق من الباطل فيها:

مسألة التورق

مسألة التورق أولاً: مسألة التورق، هذه المسألة الحق فيها مع ابن تيمية خلافاً لجماهير أهل العلم من الشافعية والأحناف والمالكية وكثير من الحنابلة، فهم قالوا: يصح التورق، ومعنى التورق: أن يشتري المرء سلعة لا ينوي استعمالها وإنما أخذها لسيولة المال، فأخذها بألف نسيئة فباعها بخمسمائة نقداً أو بمائة نقداً أو بثلاثمائة نقداً لغيره، أما إن باعها من نفس البائع فهذه العينة، لكن المسألة التي خالف فيها شيخ الإسلام هي: التورق، والتي فيها أنه باع السلعة لغير البائع، فجمهور الفقهاء أن هذه المسألة تصح، واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، منها: قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، وهذا يسمى بيعاً. وأيضاً: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما البيع عن تراض) وهنا حدث التراضي في البيع والشراء. واستدلوا أيضاً بحديث فقالوا: عندنا حديث فصل في النزاع وهو: قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه رجل بالتمر الجنيب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله! إنا نشتري الصاع بصاعين. فتأوه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أوه! عين الربا لا تفعل) ثم فتح له الباب وقال: (بع الجمع بالدراهم واشتر بالدراهم جنيباً). فهم يقولون: هذا الحديث فصل في النزاع. أقول: نحن مع ابن تيمية فنذكر كلامه: إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وفقه متنه. ونقول لهم: ما وجه الدلالة من الحديث؟ قالوا: خرج من الربا، وهو ما كان المقصود منه الانتفاع بالتمر هذا ولا بالدراهم بحال من الأحوال، وهو إنما يريد التمر بالتمر فأدخل بينهما دراهم، وهذا ما يريد إلا الدراهم فأدخل بينهما ثلاجة أو سيارة، فهذا نص في محل النزاع كما قالوا. وقالوا: عندنا أيضاً دليل من النظر وهو: أن الذي اشترى السلعة ما اشتراها إلا لينتفع بها، ووسائل الانتفاع كثيرة منها: الاستعمال. ومنها: البيع والشراء. ومنها: أخذ ثمنها، فقالوا: هذا اشتراها لينتفع بالثمن لا لينتفع بالاستعمال. هذا من النظر. إذاً: فعندهم أثر ونظر. فجاء شيخ الإسلام فخالفهم وقال بعدم جواز التورق، ويقول ابن القيم: وروجع شيخنا في هذه المسألة كثيراً حتى يرجع عن قوله وما رجع، يعني: ابن تيمية، فقد أقاموا عليه الدنيا وما أقعدوها من أجل هذه الفتوى وما رجع؛ لأنه كان يدين لله جل في علاه. العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ثم ننظر إلى أدلة شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه المسألة؛ لنعرف دقة فهم ابن تيمية، قال: إن العبادات والمعاملات والعقود كلها تدور على النيات، واستدل على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا الرجل يتورق، وينتوي الورق والمال والدراهم، وما ينتوي السلعة، فصورته صورة رجل جلس في مجلس فأعطى عشرة دراهم بخمسة دراهم. انظر هنا الآن ابن تيمية يبين لنا (إنما الأعمال بالنيات)، قلنا: ما وجه الدلالة من هذا الحديث؟ قال: وجه الدلالة أن الرجل لا ينتوي السلعة ولا الانتفاع بالسلعة، بل ينتوي المال، فصورة التعامل وصورة الصرف: ذهب بذهب دون المساواة، فاختل شرط، كأنه باع عشرة دراهم بخمسة دراهم، أو أعطى الألف مقابل الخمسمائة، فاعتبرت الصورة أنه أعطى دراهم بدراهم دون المساواة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب ربا إلا مثلاً بمثل سواءً بسواء يداً بيد) فقال: (يداً بيد) فلا بد من التقابض في المجلس، وهنا حدث التقابض في المجلس لكن صورته أنه لم تتوافر المثلية، فهو أعطى الألف بالخمسمائة قال: والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات) ثم إنه أوضح هذا الفهم وضوحاً جلياً بنقله عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، لما صوروا له الصورة فقالوا: يشتري الرجل السلع بنقد بكذا، ويبيعها على غيره بنسيئة بكذا أقل، فهل يصح أن يشتري نسيئة ويبيع بنقد أقل؟ فقال له ابن عباس: والله ما هي إلا دراهم بدراهم بينهما حريرة. يعني: التقابض في المجلس موجود لكن جعل بينها تحايلاً حريرة. ثم قال ابن تيمية: وقد أبطل الله الحيل تأصيلاً عاماً في القواعد الشرعية، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود؛ حرم الله عليهم شحوم الميتة فأذابوه فجملوه فباعوه فأكلوا ثمنه) يقول: ابن تيمية: وهذا الحديث سيهدم لنا كل ما بناه الجمهور من قواعد. يعني: هذا الحديث نص في النزاع بين ابن تيمية وبين الجمهور، فمسألة التورق خالف ابن تيمية جماهير أهل العلم فيها، وأتى بحديث فاصل في النزاع: وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود حرم الله عليهم الشحوم فأذابوه فجملوه فباعوه فأكلوا ثمنه) ووجه الدلالة أن الله حرم عليهم أكل الشحوم، والأكل بالفم، فلو أكلوا الشحوم لوقعوا في الحرام، فهم أذابوه فباعوه، فيعتبر هذا أكلاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم سماه أكلاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي زمان على أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها) وهذا نفس الأمر، فهو حرم عليهم أكل الشحوم فقالوا: ما أكلنا ولا استطعمناه ولا اشتممنا رائحته، لكن النبي صلى الله عليه وسلم سماه أكلاً؛ لأنهم أكلوا ثمنه، فأبطل هذه الحيلة. نعود إلى قول الجمهور لنطبق هذا الحديث عليهم، ونقول لهم: أنتم تقولون بحل التورق، وهذه هي الحيلة هنا وهي الصرف بزيادة وذلك حرام؛ لأن هذا ربا الفضل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب ربا إلا يداً بيد مثلاً بمثل) فقال الجمهور: لو أخذنا الألف من زيد ورددناه عليه بألف وخمسمائة مثلاً فهذا يعتبر رباً وسيقوم الناس علينا، لكن لو أدخلنا حريراً وسمي بيعاً بدلاً من أن يسمى رباً، نقول: ولو سموه بيعاً فهو رباً، فهم احتالوا وقالوا: نشتري السلعة ما نريدها وإنما نريد الدراهم، فهو اشتراها بألف نسيئة فيعتبر كأنه دخل في الصرف دراهم بدراهم وليس ثمت مساواة. وهذا الذي قاله ابن عباس، ووافقه عمر بن العزيز وقال: التورق أصل الربا؛ لأن فيه الحيلة على الله جل في علاه، وهذا الذي جعل إبراهيم بن أدهم يقول: ويحكم كيف تتعاملون مع الله؟ تتعاملون مع الله كأنه طفل صغير تتحايلون عليه، والعملة الزائفة لا تروج على الله جل في علاه. إذاً: فالصحيح الراجح هو كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن هذه كما قالها البحر الحبر ابن عباس: هذه دراهم بدراهم بينهما حريراً، فالراجح هو: حرمة التورق.

مسألة الطلاق في الحيض

مسألة الطلاق في الحيض نأتي إلى مسألة: الطلاق في الحيض، فشيخ الإسلام ابن تيمية خالف فيها الجمهور، وقال: الطلاق في الحيض لا يقع ولا يعتد به، فمن طلق امرأته حائضاً فإن هذه التطليقة لا تحسب وامرأته كما هي في ذمته، واستدل على ذلك بأدلة منها: أولاً: رواية ابن عمر وهذه في السنن: (لما طلق ابن عمر امرأته وهي حائض ذهب عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنع ابنه عبد الله، فقال صلى الله عليه وسلم: مره فليراجعها، فقال ابن عمر: لم يرها شيئاً) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير هذه التطليقة شيئاً، يعني: لا تحسب، قالوا: فهذا دليل أثري، ومن الدليل الأثري أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) يعني: باطل، قالوا: القاعدة عند العلماء: مطلق النهي يقتضي الفساد أو البطلان، وقالوا: قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الطلاق في الحيض والنهي واضح، فمن ارتكب هذا النهي وطلق طلاقاً منهياً عنه، فلا يقع ولا يصح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) يعني: فهو باطل مردود. أما الجمهور فلهم الأدلة الأثرية والنظرية: أما الأدلة الأثرية: فالحديث الذي في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه (لما طلق امرأته في الحيض وأخبر عمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: مره فليراجعها)، قالوا: المراجعة لا تكون إلا بعد الطلاق. قالوا: والدليل الثاني أيضاً: قول نافع عن ابن عمر في نفس الحديث المتفق عليه أنه قال: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يأمر ابن عمر أن يراجع امرأته وقال: فحسبها عليّ تطليقة)، قال ابن عمر: (فحسبها) وهذا نص في النزاع. فحسبها يعني: رسول الله علي تطليقة. الدليل الثالث: قاعدة الراوي أعلم بما روى: فـ ابن عمر جاءه رجل فقال: (أرأيت يا ابن عمر! إن كانت امرأتي حائضاً فطلقتها؟ قال: أرأيت إن ركبت الحموقة؟ هي طالق) فأفتى ابن عمر بطلاق المرأة في الحيض. إذاً: فهذه الأدلة واضحة على: أن الطلاق في الحيض يقع. لكن شيخ الإسلام ابن تيمية انبرى وخالف الجمهور وقال: الطلاق في الحيض لا يقع، وأصل هذه المسألة نابعة من المجد الذي هو جد ابن تيمية فقد كان يفتي بهذه الفتوى سراً؛ لأنه يخشى أن تطير رقبته؛ لأن المذاهب الأربعة كانت على خلافه، فكان يخشى على نفسه إذا أفتى أن يقتلوه، فكان يفتي بها سراً، فشيخ الإسلام ابن تيمية أعلنها جراءة وراجعوه فيها كثيراً. فقال: والله إن هذا الذي أدين الله به. وأقول: الحق هنا ليس مع ابن تيمية وإنما الحق مع الجمهور؛ لأن الحديث متفق عليه عند البخاري ومسلم قال: (فحسبها علي تطليقة). وأما الرد على ما استدل به شيخ الإسلام ابن تيمية فهو من وجوه كثيرة منها: أولاً: قوله في الحديث (فلم يرها شيئاً) الصحيح أن هذه الرواية شاذة عند المحدثين، وإن صححها الشيخ أحمد شاكر لأنها خالفت ما في الصحيحين، فهذه اللفظة شاذة، والشاذ ضعيف، فلا حجة لهم فيها. والوجه الثاني: أن قوله: (لم يرها شيئاً) تحتمل أموراً كثيرة منها: أولاً: لم يرها من العدة شيئاً، يعني: العدة إما الأطهار وإما الحيض، والراجح الصحيح: أن العدة: الحيض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك وقال: (تترك الصلاة أيام أقرائها) يعني: أيام حيضها، فهي تترك الصلاة أيام الحيض، فهنا نرجح أن العدة هي أيام الحيض. فمعنى قوله: لم ير شيئاً من العدة يعني: هذا الدم الذي نزل لا يحسب من أيام العدة ولا يحسب من الحيضات الثلاث المطلوبة حتى تمر عدتها. الثاني: لم يرها من السنة شيئاً، وهذا صحيح فهي مخالفة للسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على ابن عمر أنه طلق امرأته في الحيض فلم يرها من السنة شيئاً، وهذا راجح صحيح. فإذاً: الرد على هذه اللفظة إن لم تكن شاذة أنه لم يرها من السنة ولم يرها من العدة شيئاً. والقاعدة عند العلماء: ما تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدال -الاحتمال المعتبر لا الاحتمال المتوهم-. أما الدليل الذي استدل به شيخ الإسلام على عدم وقوع الطلاق في زمن الحيض فهو: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا) نقول: قد طلق طلاقاً عليه أمرنا في زمن ليس عليه أمرنا، فطلاقه صحيح؛ لأنه طابق الشرع، وفي زمن لم يطابق فيه الشرع فأثم بذلك، فهذا الرد الأول. الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل الزمن ركناً ولا شرطاً لا في طلاق ولا في نكاح، ولذلك نحن نقول: المرأة الحائض يصح أن يعقد عليها، ويصح أن يدخل بها زوجها، لكن لا يجامعها في فرجها. فنقول: هذا الجماع أو الحيض ليس شرطاً ولا ركناً لا في العقد ولا في الطلاق فإذاً: لا تأثير له في الحكم على العقد. فهذا الرد على الدليل الثاني وبهذا تسلم أدلة الجمهور ويصح أن نقول: إن الحق مع الجمهور في هذه المسألة، وأن الطلاق في الحيض يقع ويأثم المطلق في الحيض.

مسألة شد الرحال لزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام

مسألة شد الرحال لزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام مسألة الزيارة: هذه المسألة خالف فيها ابن تيمية جمهور أهل العلم وقال: وإن كان في الحج فشد الرحل من مكة قاصداً المدينة لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فهذه بدعة ضلالة. ولذلك وشوا به، وهم حرفوها وقالوا عنه: إنه يقول: تحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يصح، وإنما كان يقول: يحرم إنشاء سفر لقبر النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلاله في هذه المسألة بالأحاديث المتفق عليها في البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). وهناك حديث آخر نص في النزاع، وهو حجة لـ ابن تيمية، وهو: (أن بصرة الغفاري لقي أبا هريرة وهو عائد من الطور فقال: من أين أقبلت؟ قال: من الطور صليت فيه، قال: أما لو أدركتك قبل أن ترحل إليه ما رحلت)، -والراوي أعلم بما روى- سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) وجمهور الشافعية وهذه هي الطامة الكبرى وجمهور الحنابلة وجمهور الأحناف وجمهور المالكية يقولون: إنه يجوز للمرء أن ينشئ سفراً ليزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويستدلون بعمومات قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا فزوروها فإنها تذكر بالآخرة) فقالوا: هذه عمومات لا مخصص لها. فنقول: الصحيح الراجح هو: قول شيخ الإسلام ابن تيمية من أنه لا يجوز إنشاء سفر جديد من أجل زيارة القبر، وهذا الحديث الذي تقدم بين أيدينا حديث النبي صلى الله عليه وسلم في باب شد الرحال، وفعل أبي هريرة مخصصان لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فزوروها) فنحن نقول: يزور المرء القبر إذا كان في نفس المكان، لكن كونك تشد الرحل لزيارة القبر فهذا هو الذي يحرم. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

المقدمة

شرح مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول - المقدمة إن الناظر في اختلاف الصحابة والأئمة في بعض المسائل يجد أن مصدر هذا الخلاف هو اختلاف الناظر نفسه في آية من كتاب الله أو حديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان السلف يردون كل الأقول التي تعارض حديث النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان يشنع بعضهم على بعض في أخذه لأقوال الصحابة دون قول رسول الله، حتى وصل الحال في هذا إلى السب والهجر ونحو ذلك، فمن حق رسول الله علينا: الدفاع عنه، والذود عن سنته، والحفاظ عليها بكل استطاعتنا وجهدنا.

مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى

مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: نستهل اليوم بإذن الله شرح هذا الكتاب العظيم الجليل: الصارم المسلول على شاتم الرسول لشيخ الإسلام ابن تيمية، ونشرح مختصر الكتاب لا أصله للعلامة الشيخ محمد بن مهدي بن محمد البعلي الحنبلي. وقبل أن نبدأ فهناك مقدمتان لابد لنا أن نقدمها بين يدي هذا الكتاب، أولاً: هناك أمر عظيم يخص أعظم البشرية وأكرم رسول، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الناس، وأعظمهم مكانة عند الله جل في علاه، وكفى فخراً لهذه الأمة أن رسولها هو أعظم الرسل على الإطلاق. ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، والنبي صلى الله عليه وسلم أقسم الله بعمره، ولم يقسم بعمر ولا بحياة أحد على الإطلاق إلا بحياة النبي صلى الله عليه وسلم لعظم حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولعظم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ((لَعَمْرُكَ)) يا محمد! {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]؛ إظهاراً لمكانة وعظم حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولمكانة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا فقد أمره الله على الأنبياء بأسرهم، فإنه حينما أسري به صلى إماماً بالرسل، وحين عرج به فرض عليه أفضل الفرائض ألا وهي: الصلاة، وقد أوحى إليه وحياً فيه أعظم ما يكون وهو كتاب الله، ويوم القيامة يبين الله جل وعلا ويظهر كرامته ومكانته فيجعل الناس تستشفع به يوم القيامة. إذاً: الناس سيذهبون إليه إظهاراً من الله جل في علاه لكرامة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يبلغها أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عندما يقول: أنا لها، أنا لها، ثم يأتي يسجد تحت العرش، فالله جل وعلا يوحي إليه بمحامد لم يكن يعلمها قبل ذلك، فيحمد الله بها ثم يقول له: (يا محمد! -بأبي هو وأمي- ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع)، إظهاراً لكرامة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا غرو ولا عجب، فما من نبي أرسله الله لقومه فمنحه فضلاً أو شرفاً أو فضيلة يتفضل بها على قومه إلا ومنحها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا موسى عليه السلام أفضل ما فضل الله به موسى على البشر أجمعين أنه اصطفاه بكلامه وبرسالاته، كما قال آدم عليه السلام: (أنت موسى الذي خط الله لك التوراة بيده، واصطفاك بكلامه)، وقال الله تعالى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144]، فهذه من أفضل الفضائل لموسى عليه السلام، وللنبي صلى الله عليه وسلم حظ منها لمكانته عند الله جل في علاه، فإن الله كلم موسى بحجاب دون واسطة، وكلم محمداً صلى الله عليه وسلم بحجاب دون واسطة أيضاً؛ لأنه لما عرج به تكلم مع الله دون واسطة ودون وحي، وفرض الله عليه خمسين صلاة، ثم تكلم مع موسى فقال موسى: أمتك لا تستطيع أن تصبر على ذلك، فرجع يعاود الكلام مع الله ويكلمه الله جل في علاه. ويوسف عليه السلام: من أفضل ما منح الجسد فكان من أجمل الناس، حتى إن النساء قطعن أيديهن عندما رأينه، والنبي صلى الله عليه وسلم أوتي من الجمال مثل ما أوتي يوسف عليه السلام، فعندما رأى البراء النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نظرت إلى رسول الله -بأبي هو وأمي- ونظرت إلى القمر ليلة البدر، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجمل من القمر ليلة البدر). ولما منح الله جل في علاه إبراهيم أبو الأنبياء الخلة، وهو أعظم الرسل على الإطلاق دون النبي صلى الله عليه وسلم -هذا عند أهل التحقيق- أيضاً منح الله جل في علاه نبينا صلى الله عليه وسلم الخلة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذاً من البشر خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن صاحبكم خليل الرحمن)، وأما الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: (الخلة لإبراهيم والرؤيا لمحمد)، فلا يصح عن ابن عباس، بل الخلة لإبراهيم ولمحمد صلى الله عليه وسلم. أيضاً: منح عيسى عليه السلام أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله، وهذه حدثت لنبينا صلى الله عليه وسلم كما حدثت مع عيسى عليه السلام. وإظهاراً لشرف النبي وعظم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله جل في علاه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ خشبة وهزها -هذه لموسى وعيسى- فتحولت سيفاً معجزة من الله جل في علاه لنبينا صلى الله عليه وسلم فأخذها، أما موسى فلم يأخذ العصا حين تحولت إلى حية، فتحولت الخشبة سيفاً في يد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام الزبير فقال: أنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكته النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعطه إياه، ثم هز السيف مرة ثانية، وقال: من يأخذ هذا السيف بحقه، حتى قام أبو دجانة رضي الله عنه وأرضاه، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم السيف)، وكان نظر النبي صلى الله عليه وسلم دقيق جداً، فهو يعلم أنه سيأخذه بحقه. وأيضاً عيسى عليه السلام كان يبرئ الأكمه والأبرص والأعمى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة سقطت عين صاحب من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على خده، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فوضعها مكانها، فكان يرى بها أفضل من العين الأخرى، وأيضاً في قصة قتل سلام بن أبي الحقيق اليهودي لما كسرت ركبة عبد الله بن أنيس، أخذها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح عليها فبرئت، وهذه أيضاً لعيسى عليه السلام وحباها الله لنبينا صلى الله عليه وسلم، فكل خصال الخير كانت لرسول الله لعظم مكانته عند ربه جل في علاه. فالأمة لها أن تفخر -ولا غرو لها- بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيد هذه البشرية، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رسول هذه الأمة، فله حق عظيم على هذه الأمة.

حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته

حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته حق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة عظيم، لكن بدون إفراط فيه أو تفريط، ومن هذه الحقوق: أولاً: الاعتقاد الجازم والإيمان الراسخ بأنه مرسل من ربه جل في علاه، قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285]، فـ: (رسله) عموم يدخل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} [النساء:136]، وقال: {وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد:28]، فهذا أمر من الله جل في علاه، أن تعتقد اعتقاداً جازماً أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول من الرسل الذين أوحى الله إليهم وحياً عظيماً جاء به إلى البشرية. ثانياً: من حق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة بعد الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه أوحي إليه من قبل ربه: أن رسالته عامة للثقلين، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وأيضاً قال الله تعالى: {كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28]، وقال الله تعالى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فضلت على الأنبياء بست -وذكر من هذه الست- وكان كل نبي يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة)، بل لم يكتف بذلك، فلم يرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس فقط، بل أرسله إلى الجن أيضاً، فهو مرسل إلى الثقلين، قال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29]. وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (اختفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة عنهم، فبين له مكان نيران الجن وأخبره بأنه ذهب إلى الجن يتلو عليهم آيات الله جل في علاه)، فرسالته عامة، فهذا حق للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الرد القوي على اليهود والنصارى الذين يقولون: هو نبي، لكن للأميين، فأنت لابد أن تعتقد اعتقاداً جازماً بأن الرسول أرسل إلى الجن وإلى الإنس. ثالثاً: من حق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة: تصديقه فيما أخبر صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- ولِم لا وهو الصادق المصدوق؟ فقد أخبر من قبل ربه جل في علاه، وجبريل لم يكذبه وهو لم يكذب، قال ابن مسعود: أوصاني الصادق المصدوق، فهو صادق في قوله، وهو مصدوق فيما يأتيه، قال الله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4]، يعني: لا يتكلم من هوى نفسه، ولا من تلقاء نفسه، بل هو وحي من قبل الله جل في علاه. فوجب عليك تصديق كل خبر أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم إسناداً صحيحاً، ومن تبعات ذلك أن تعمل به. إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة وفي مجلسه عبد الله بن عمرو بن العاص كتب كل شيء يتكلم به النبي صلى الله عليه وسلم فلامه أهل قريش وأكابر المهاجرين فقالوا: كيف تكتب كل كلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو بشر يصيب ويخطئ ويغضب ويضحك ويفرح ويحزن؟ فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بهذا الخبر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب، والله ما يخرج من هنا إلا الحق، أو قال: إلا الصدق)، ما يخرج منه إلا الوحي من الله جل في علاه، حتى ولو قلنا: بأن له الاجتهاد فإن الله لا يقر رسوله صلى الله عليه وسلم على خطأ أخطأه، وليس ببعيد عنا قول الله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2]، ولما اجتهد في دعوة أكابر قريش وترك ابن أم مكتوم، فأنزل الله كلاماً يعاتبه على ذلك، {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:1 - 3]، فله أن يجتهد لكنه لا يقرر على خطأ، فلذلك قال له: (اكتب، والله ما يخرج من هنا إلا الصدق، أو ما يخرج إلا الحق). ولذلك لما جاء هذا القميء البئيس وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اعدل، فهذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟!)، كيف لا تأمنوني وقد استأمنني الله جل في علاه على الوحي وأنا أبلغ عن ربي جل في علاه. ولنعم ما فعل خزيمة بن ثابت عندما جاء أعرابي فباع للنبي صلى الله عليه وسلم فرساً، ثم أعطوه فيه ثمناً أغلى من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد بعت لي؟ قال: لا ما بعت لك، عليّ بشاهدين -يعني: ائت بشهود يشهدون أنني قد بعت لك هذا الفرس- فقام خزيمة بن ثابت فقال: أنا أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشترى منك)، فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، فما كان هناك ثمة أحد يجلس بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الأعرابي في البيع والشراء؟ فقال له: (يا خزيمة! كيف تشهد على شيء لم تره أو تشهده، فقال له: يا رسول الله! أصدقك في خبر السماء ألا أصدقك في خبر البيع والشراء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: شهادة خزيمة بشهادة رجلين)، وكانت منقبة عظيمة لـ خزيمة؛ لأنه أدرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى بحال من الأحوال. رابعاً: من حق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم في وقتنا هذا، وتعظيم سنته وحملتها، إذا رأيت رجلاً يحمل سنة النبي صلى الله عليه وسلم رأيت نوراً في وجهه لقوله: (نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها)، فيحترم ويعظم ويوقر يحترمه ويعظمه ويوقره توقيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن حق رسول الله على هذه الأمة: تعظيم النبي وتوقيره والأدب الجم معه صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح:9]، (تسبحوه) خاصة بالله جل في علاه، (تعزروه وتوقروه)، هذه تدل على نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه ومحبته، وأن تجعل محبة النبي صلى الله عليه وسلم فوق محبتك لنفسك ولغيرك.

صور من حب النبي صلى الله عليه وسلم

صور من حب النبي صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما). وفي الصحيح أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده ونفسه والناس أجمعين، فقام عمر فقال: يا رسول الله! أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي! قال: لا يا عمر -يعني: لم تستكمل الإيمان الواجب في قلبك حتى الآن- قال: الآن يا رسول الله! قال: الآن يا عمر -أي: استكملت الإيمان الواجب-). فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن)، وهذا نفي قاطع: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده ونفسه والناس أجمعين) وصور المحبة وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم على النفس صور عظيمة جداً، وقد ضرب أروع الأمثلة لذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم بهذا يبينون لنا التطبيق العملي لقول الله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:120].

أبو بكر الصديق

أبو بكر الصديق فهذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه -إن صحت القصة، وفي السير يتسامح في الأسانيد- عندما دخل الغار أخر رسول الله؛ لأنه يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الشمس التي تنير الدنيا؛ فدخل الغار أولاً فسد كل فوهة أو فتحة في الغار فلم يجد شيئاً غير ثيابه فسد بها، ثم وجد فتحة واحدة لا تسدها ثيابه فسدها برجله، فجاءت حية فقرصته قرصة كاد يموت منها، ودموعه تنزل على خد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل هذا حفاظاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقدم نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه. وأروع من ذلك عندما رحل معه براحلته وهو يتقدم أمام رسول الله ثم يكون خلفه، ثم عن يمنيه ثم عن يساره صلى الله عليه وسلم، فمن رآه قال: هذا رجل مجنون! كيف يتقدم ثم يتأخر، ثم يأتي يساراً ثم يميناً؟ لِم يفعل ذلك؟!! وكأنه لن يجد جواباً لفعل أبي بكر إلا قولاً واحداً هو: نفس رسول الله تقدم على نفسي، فبه الإسلام وأنا ليس بي شيء، فيقدم نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه.

طلحة بن عبيد الله

طلحة بن عبيد الله وهذا طلحة رضي الله عنه وأرضاه طلحة الخير، ففي غزوة أحد عندما تخلف الرماة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاد المشركون أن يظفروا برسول الله، وأن يقتلوه قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (من يصد القوم عنا وهو رفيقي في الجنة)، فقام طلحة الخير، فقال: لا، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله! فقاتل حتى قتل، وهو ينافح عن رسول الله، ويقدم نفس رسول الله على نفسه. فهذه هي المحبة الصادقة، وهذا هو التعظيم والتوقير الصادق. ثم بعد ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يصد القوم ويكون رفيقي في الجنة)، فيقوم طلحة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (اجلس، ليس الآن) حتى مات الأنصار عن بكرة أبيهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنصفنا إخواننا)، وفي رواية أخرى: (ثم قام طلحة ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحميه صلى الله عليه وسلم ويحتضنه، ويقول: لا ترفع رأسك يا رسول الله لئلا يأتيك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله! ثم قاتل حتى كسر سيفه فألقاه، وأخذ ينافح عن رسول الله، ويدفع عن رسول الله السيوف التي تنهال عليه حتى شلت يده، فقال لـ أبي بكر وعمر عندما أتيا: (دونكم صاحبكم فقد أوجب) أي: أوجب الجنة بما فعل، لما قدم نفس رسول الله على نفسه.

سعد بن أبي وقاص

سعد بن أبي وقاص ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يحمي رسول الله؟! قام سعد مدججاً بسلاحه، وقال: أنا يا رسول الله! حتى أنزل الله جل في علاه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67])، فهو حق عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة، فإن لم نجد جسد النبي صلى الله عليه وسلم بينناً فسنة النبي صلى الله عليه وسلم تعظم وتوقر وتفدى بالأنفس، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان حياً بين أظهرنا لوجب علينا أن نفديه بأنفسنا فكذلك سنته لها نفس المكانة، وحملة سنة النبي صلى الله عليه وسلم لهم مكانة، فهم ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الأدب مع رسول الله

الأدب مع رسول الله ومن أروع الأمثلة في الأدب تلك التي ضربها الصحابة أدباً مع رسول الله، حتى تتأدب أنت مع رسول الله، وإذا قيل لك: قال رسول الله! فما عليك إلا أن تطأطئ رأسك متأدباً مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تعارض بعقلك بحال من الأحوال، بل تقول: سمعت وأطعت، وتتبنى قول الشافعي: آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ضرب لنا الصحابة أروع الأمثلة في الأدب مع رسول الله، فقبل غزوة الحديبية عندما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم، قبل أن يأتي عروة بن مسعود الثقفي، لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم عثمان ليحاور القوم أشيع بينهم أنه قد قتل، فقام النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة فبايع على الموت، فأخذ يبايع على الموت والتف الصحابة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام معقل بن يسار -انظروا إلى الأدب- وأخذ غصن الشجرة فجعلها فوق النبي صلى الله عليه وسلم ليستظل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكل ولا يمل أدباً مع رسول الله. وهذا الذي فعله أبو بكر حتى يعلم الناس أن هذا هو رسول الله، وأن هذا هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يتأدبون مع رسول الله أعظم الأدب، فعندما كان في صلح الحديبية قام عروة ينظر في الناس، وينظر في رسول الله، فيجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأخذ عروة بلحية النبي صلى الله عليه وسلم فيلعب بها، وهو يريد أن يترفق ويتلطف مع رسول الله، لعله يستجيب لقوله، ويقول: يا محمد! أرأيت أحداً قبلك عصف بقومه، أرأيت أحداً قتل أباه، أو قتل أخاه، أو قتل ابنه مثلما تفعل أنت، أرأيت إن كانت الأخرى، والله إني ما أرى حولك إلا أوباشاً من الناس يفرون عنك عند اللقاء، فقام المغيرة -وكان ابن أخته- فأخذ غمد السيف، وضرب بها على يديه أدباً مع رسول الله، وهو يقول له: انزع يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر لما سمع عروة وهو يقول: (أوباشاً من الناس) يعني: أخلاطاً سيفرون عنك، قال الكلمة الفظيعة التي لم ترد على لسان أبي بكر بحال من الأحوال إلا في هذا المحل أدباً وتعظيماً لمكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة، قال: نحن نفر عن رسول الله! امصص بظر اللات! وأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، قال تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، وهذه مظلمة عظيمة جداً لأصحاب رسول الله، قال: نحن نفر عن رسول الله! امصص بظر اللات! فـ عروة يقول من القائل بهذا القول؟! قالوا: أبو بكر، فقال: لولا يد لك عندي -يعني: نعمة وكرامة لك عندي- لأجبتك. فالشاهد: قال عروة بعدما رجع إلى قريش، قال: أذعنوا لهذا الرجل، والله إني قد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي وما رأيت أحداً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله -هنا الشاهد- ما تنخم نخامة فوقعت في يد أحدهم إلا دلك بها جسده ووجهه، ووالله ما توضأ إلا ورأيتهم يتقاتلون على وضوئه؛ تعظيما وأدباً وتوقيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجنابه، ووالله ما رأيته يأمر بالأمر إلا وهم يبتدرون لا يتقاعسون. يبتدرون لامتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم توقيراً وتعظيماً وأدباً لمكانة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا عظم حق رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة. فكل واحد منا يسأل نفسه، من عظم رسول الله حق تعظيمه؟ هل تأدب مع رسول الله حق الأدب؟ هل وقر رسول الله حق توقيره؟ والتوقير كما قلت في زماننا يكون مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فما نرى الآن إلا أوباشاً من الناس يقدمون قول الفقيه وقول الشيخ على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، يربطون الناس بالأشياخ الأحياء ولا يربطونهم بالشريعة الغراء التي تحيا إلى أبد الدهر، حتى يأذن الله جل وعلا بخراب الدنيا. هل وقرنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل قدمنا قول النبي صلى الله عليه وسلم على قول أي أحد؟ هل عملنا بما قاله ابن القيم وما أروع ما قاله: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه فإذا قلت لأي إنسان منهم: قال رسول الله! يقول لك قال الشيخ الفلاني كذا! وكأنه يعظم الشيخ ولا يعظم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويوقر الشيخ ولا يوقر شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فما هذا التيه والتخبط الذي عشناه؟ ما هذا إلا سوء أدب مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وجوب التحاكم إلى رسول الله في حياته وإلى سنته بعد وفاته

وجوب التحاكم إلى رسول الله في حياته وإلى سنته بعد وفاته ومن حق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة: اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم السنة والتمسك بها، والعمل بها، والتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعلم أنك كلما تنازعت في شيء فلا يحل لك هذا الشيء إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، ولم يجعل طاعة أولي الأمر مستقلة بل تابعة لطاعة رسول الله وطاعة رب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:132]، وانظر ودقق النظر وتدبر في كتاب الله جل في علاه، قال: (لعلكم ترحمون) قال ابن عباس: (لعل) في القرآن قاطعة، يعني: لا بد أن تتحقق، فهي ليست للرجاء، بل هي متحققة، والله جل وعلا يبين لكم أن تحقق الرحمات يكون باتباع رسول الله، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) [آل عمران:132] يعني: إذا أطعتم الرسول صلى الله عليه وسلم سترحمون. وأيضاً قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، يعني: ستبطلون أعمالكم إن لم تتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأناط التسديد والتوفيق والرحمات بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] يعني: بعدم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وبمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الله تعالى مبيناً أن طاعة الرسول هي طاعة الله {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]. وأيضاً يقول الله جل في علاه مبيناً عظم مكانة اتباع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الدين، وقد زعم قوم أنهم أحبوا الله فاختبرهم الله بآية المحنة، كما قال الحسن: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31]. فعلامة محبة الله جل في علاه: اتباع السنة، فإذا رأيت الرجل يذكرك بربك، ويزعم أنه يعمل لله، ولم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، فاعلم أنه كاذب -ليس مطلقاً- في بعض أقواله، كيف والله جل في علاه قد أناط علامة المحبة باتباع رسول الله؟ (قل إن كنتم) شرطية قاطعة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، وهذه بالمفهوم: إن لم تتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلست محباً لله جل في علاه، وهذه الآية قاطعة للظهور، قاصمة لكل رجل يدعي محبة الله أو يدعي التدين وهو لا يتبع رسول الله، بل يعانده صلى الله صلى الله عليه وسلم ويحادده صلى الله عليه وسلم، وكثير من أهل التصوف الآن يزعمون محبة آل البيت، ويتغنون بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يخالفون النبي صلى الله عليه وسلم في أصل الأصول وهو أهم ما يكون في هذه الدنيا وفي هذه الشريعة ألا وهو صحة العقيدة في الله جل في علاه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]. بل أناط الله جل في علاه الإيمان بالتحاكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} [الأحزاب:36]، فنفى الإيمان، فلا يمكن أن يكون مؤمناً من لم يعمل بهذه الآية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، فإذا قيل لك: قال رسول الله في المسألة فاضرب قول أي أحد عرض الحائط، وخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]. قال تعالى: ((فَلا وَرَبِّكَ))، وهذه الآية من أقوى ما يكون، وهي زاجر ورادع شديد لكل من لا يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يتحاكم إلى كتاب الله جل في علاه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، هذه الآية من أقوى الآيات في الحث على الاتباع والتحاكم لله ولرسوله، وفيها أمور ثلاثة: قال الله تعالى: ((فَلا وَرَبِّكَ))، وهو قسم فيه مؤكدات ثلاثة ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ)) حتى: جعلها للغاية، فالتحكيم ليس فقط هو الذي يدل على الإيمان، بل لابد من أمور أخرى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. Q لقد أقسم الله بربوبيته على نفي الإيمان عمن لم يتحاكم إلى شرعه فهل لا يؤمن حتى يحكم الشرع لله أم لا يؤمن حتى تتوفر أمور أخرى؟ A هناك قاعدة قعدها شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الحكم إذا أنيط بعلل أو بشروط لا يكون متحققاً إلا بتوفر الشروط، ولو غاب شرط واحد لا يتحقق الحكم، إذاً: قول الله تعالى: (لا يؤمنون) نفى الإيمان، ((حَتَّى يُحَكِّمُوكَ)) هذا أول شرط حتى يكون الإيمان متواجداً في القلب: (يحكموك) فلا بد أن تتحاكم لله ولرسوله، قال الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] يعني: إلى كتابه وإذا قال (إلى الله) يتضمن ذلك إلى الرسول لأنه مبلغ عن الله، وإذا قلنا: (إلى الله) يعني: إلى كتاب الله، وكتاب الله قد أمرنا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. قال: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، صغير أو كبير، دقيق أو جليل، وحتى في البيوت نحن نقول للمرأة مع زوجها: إن أردت الخير فاجعلي الشرع حاكماً بينك وبين زوجك، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]. فلنعم البيت الذي يقام على الشرع! ولنعم البيت الذي يتحاكم فيه الزوج مع الزوجة بشرع الله جل في علاه، ولنعم التربية إن كانت على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان الخلل موجوداً، لكن رأس الأمر عند الرجل والمرأة والأولاد والأصدقاء والإخوان هو: أن مردنا إلى الله ورسوله فهو أهم شيء، أما الآن فالمرد إلى الأهواء أو الخبراء، والصحيح: أن المرد لابد أن يكون لله وللرسول. قال تعالى: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]. هذا الشرط الثاني. قال: (ثم لا يجدوا في أنفسهم) فلو وجد امرؤ وهو يتحاكم لله ولرسوله الحرج، نقول له: الإيمان قد انتفى من صدرك. فالشرط الثالث هو: التسليم العام، فلابد بعد أن تحركم بشرع الله ألا لا تجد في صدرك حرجاً، وأن تسلم تسليماً كاملاً. وما أروع هذا المثل وإن كان الحديث ضعيف لكن نستأنس به: فقد اختصم رجل يهودي مع منافق، فقال له اليهودي: تعال معي يفصل بيننا رسول الله، فذهبا إلى رسول الله، فحكم لليهودي؛ لأن الحق كان مع اليهودي، فلم يرضَ المنافق بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: لا أرضى! قال اليهودي: ما ترتضي بحكم رسول الله؟ قال المنافق: لا، إلا أن أذهب إلى أبي بكر، فذهبا إلى أبي بكر فحكم فوافق حكمه حكم النبي صلى الله عليه وسلم، فحكم لليهودي فقال: والله لا أرضى، قال: ولا ترضى بـ أبي بكر؟ قال: ولا أرضى إلا أن نذهب إلى عمر بن الخطاب، فذهبا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه فقصا عليه القصة، فقال: عمر أو ترضى بحكمي؟ قال: أرضى بحكمك؟ فدخل فاستل سيفه ففصل عنقه من جسده قال: هذا حكم الله! قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، ولو صح هذا الحديث لقلت: قد اجتهد عمر، وعلم أن من لم يرضَ بحكم رسول الله فهو كافر، لكن لابد أن تقام الحجة وترفع الشبهة، ويبدو أن عمر كان يرى أن هذا الأمر معلوم من الدين بالضرورة، قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65].

صور من تحاكم الصحابة لرسول الله

صور من تحاكم الصحابة لرسول الله وما أروع تمسك صحابة رسول الله بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتقديم قول رسول الله على كل شيء، وتقديم فعل رسول الله وإقراره على كل رأي وهوى! إن الله أوحى إلى نبيه أن يبلغ الأمة بأسرها أن تعض على سنته بالنواجذ، فقال كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟! -أي اندهشوا من هذا الذي يأبى أن يدخل الجنة- قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). وقال صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله)، بل ارتقى إلى قول أكثر من ذلك، قال: (من أطاع أميري فقد أطاعني)، ومن أطاع رسول الله فقد أطاع الله جل في علاه، (ومن عصى أميري فقد عصاني)، ومن عصى رسول الله فقد عصى الله جل في علاه. فهو يؤسس أصلاً لا بد من العمل به. وأيضاً صح عنه صلى الله عليه وسلم في مسند أحمد ورواية في سنن أبي داود: قوله (لا ألفين أحدكم على أريكته شبعان، يأتيه الأمر من أمري فيقول: ننظر في كتاب الله!)، فلا يحق له أن يفعل ذلك، فما علمنا كيفية الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر إلا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية الحاكم قال: (لا ألفين أحدكم شبعان على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: ننظر في كتاب الله، فما وجدناه حلالاً أحللناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله، وما أحل رسول الله كما أحل الله). وفي المسند من حديث العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، وفي رواية للنسائي قال: (وكل بدعة في النار). لذلك وعى الصحابة الدرس عن رسول الله، وتمسكوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فقادوا وسادوا، وكانت لهم الريادة المطلقة؛ لأنهم حكَّموا رسول الله، وقول رسول الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل دقيق وجليل، في كل صغير وكبير.

أبو بكر الصديق

أبو بكر الصديق هذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه عندما أراد أن يقاتل مانعي الزكاة عقد مجلس الشورى، فقام عمر بن الخطاب، والذي لا بد أن يناصره قام مخالفاً له، وأعلن المخالفة الصريحة لـ أبي بكر، فقال: كيف تقاتل قوماً قالوا: لا إله إلا الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله -وقد قالوها-)؟ وهنا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يعلن السنة النبوية، قال: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فقد سوى الله بينهما، ولذلك أيد قول أبي بكر أبو هريرة رضي الله عنه برواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإن فعلوا ذلك -من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة- عصموا مني دماءهم وأموالهم)، ومفهوم المخالفة: أنهم إن لم يفعلوا كل ما ذكر فإنهم لن يكونوا معصومي الدم ولا المال؛ ولذلك قاتلهم أبو بكر، وقال عمر بن الخطاب: (والله لقد وجدت أن الله جل في علاه شرح صدر أبي بكر للقتال فوافقت على ذلك). أيضاً: فرسول الله صلى الله عليه وسلم جيَّش الجيوش وجعل عليها أسامة ليرد على الروم، بل وجعل أسامة -انتصاراً لأبيه زيد رضي الله عنه وأرضاه- أميراً على هذا الجيش وهو لم يبلغ العشرين من عمره، فقام عمر بن الخطاب وقام المهاجرون والأنصار يقولون لـ عمر: كيف يؤمر هذا الصبي على هذا الجيش العرمرم، فقال عمر نكلم أبا بكر ألا ينفذ جيش أسامة، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رفع لواء الجيش، فوالله! لو جرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين لأنفذت جيش أسامة؛ وهذا لأنه يرى الخير كل الخير فيما رفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرى الخير كل الخير في العض بالنواجذ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وجاءت الجدة تسأل أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه عن ميراثها، فقال: (لا أعرف لك في كتاب الله شيئاً، ولا أعرف في سنة النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، لكن أسأل أصحاب رسول الله، فإن كان قد أعطاك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً أعطيناك إياه). وهذا قمه الاتباع والتحري لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جهل هذه السنة، لكنه أراد أن يتعلمها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعقد مجلس الشورى، فشهد المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن رسول الله أعطى الجدة السدس، فأعطاها أبو بكر السدس، تحرياً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

عمر بن الخطاب

عمر بن الخطاب وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يتحرى دائماً سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحكم إلا بها، أرأيت في مرض موته عندما قالوا له: (استخلف! قال: إن استخلفت فقد استخلف من هو أفضل مني يريد أبا بكر، وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكانت سنة النبي أوفق له من سنة أبي بكر، مع أن سنة أبي بكر سنة متبعة، لكن سنة النبي صلى الله عليه وسلم كانت أريح لقلب عمر بن الخطاب فقال: هو في هؤلاء الستة ولم يستخلف صراحة. وأيضاً عمر بن الخطاب لما سئل عن الجنين في بطن أمه يقتل خطأ فما فيه من دية؟ فما كان عمر يعلم، فعقد مجلس الشورى حتى قالوا له: إن رسول الله حكم في الجنين بغرة، فأخذ به وحكم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. فهؤلاء قوم تحروا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يسيرون يميناً ولا يساراً، ولا يتقدمون ولا يتأخرون إلا بسنة، عملاً بقول الثوري، ولنعم ما قال الثوري ولنكتب في صدورنا هذا القول بماء الذهب: لا تحك رأسك إلا بأثر.

عثمان رضي الله عنه

عثمان رضي الله عنه وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، عندما عز عليه معرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة التي مات عنها زوجها أين تعتد؟ قال: أتحرى، ولا أتحرى إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أتكلم برأيي في هذه المسألة، فكانت السنة في المسألة حديث فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري: أنه مات عنها زوجها، فأمرها -هنا وجه الشاهد- رسول الله أن تعتد في بيتها، فأبلغ محمد بن مسلمة عثمان بن عفان، فقال: أحكم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. فلا غرو ولا عجب، فإن هؤلاء القوم يعلمون أن النجاة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال السيوطي: علمنا أن النجاة في التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: فالهلاك كل الهلاك في التمسك بأقوال الفقهاء والضرب بسنة النبي صلى الله عليه وسلم عرض الحائط.

علي بن أبي طالب يتبع السنة ويخالف عثمان

علي بن أبي طالب يتبع السنة ويخالف عثمان وهذا علي بن أبي طالب يخالف عثمان من أجل سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان عثمان يتم الصلاة في منى، وكان عثمان في المدينة، فعليه إذا سافر إلى الحج أن يقصر الصلاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقصر في منى، فيصلي الظهر في وقته والعصر في وقته قصراً دون الجمع، فتأول عثمان بأن له بيتاً في مكة فكأنه من المقيمين، فقال: أتم، فقام ابن مسعود يصلي خلفه، وقال: الخلاف شر كله، ثم قال: وسنة النبي أن يقصر، وأعلنها أمام الناس. أما موقف علي بن أبي طالب فهو عندما قال عثمان: لا متعة في الحج، يعني: لا تعتمر ثم تحل ثم تحرم بعد ذلك بالحج، فقال علي بن أبي طالب أمام البشر أجمعين، وهذه الحالة لها تأويل؛ لأن المفروض أن تنصح ولاة الأمور إذا أردت أن تنصحهم سراً أو بالكتابة لا علناً، لكن علياً بن أبي طالب له الوجاهة أمام الناس، وهو يعظم سنة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يعظمونها كما يعظمون عثمان بن عفان، فقام في منى أمام الناس جميعاً، وقال: لا والله لا أترك سنة رسول الله لقول أحد كائناً من كان، ولو كان أمير المؤمنين، ولو كان عثمان ذا النورين. فقال: لبيك اللهم بعمرة متمتعاً بها إلى الحج، عملاً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سب علي بن أبي طالب ابن عباس، وأغلظ له في القول، فإن ابن عباس كان يقول بالمتعة للمضطر، ويفتي بها للمضطرين، فقام علي بن أبي طالب فقال لـ ابن عباس: إنك رجل تائه، أمام البشر، يقول ذلك في ابن عباس حبر الأمة، وبحر العلوم والتفسير، لكن علياً بن أبي طالب جعل الفاصل بينه وبين ابن عباس ليست الخلافة، ولا لأنه أمير المؤمنين، لكنه يلقمه الحجر بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. قال علي بن أبي طالب: يا ابن عباس! إنك رجل تائه، إن رسول الله قد حرم زواج المتعة. وهذا الذي فعله عبد الله بن الزبير أمام الملأ لما كان أميراً على مكة في خلافته لما بويع، فقد قال: وانظروا إلى الشدة من أجل الحفاظ على السنة، لتعلموا عظم حق سنة النبي صلى الله عليه وسلم عليكم، قام خطيباً في الناس، فقال: ما لي أرى أقواماً قد أعمى الله بصيرتهم كما أعمى أبصارهم، وكان ابن عباس قد عمي في آخر حياته، فقال له ابن عباس: ما لي أراك جلفاً أعرابياً غليظاً، فقال له ابن الزبير: افعلها إن شئت وسترى كيف أرجمك أمام الناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرم المتعة، فكيف تفتي أنت فتوى خلاف سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ انظروا كيف تكون الشدة والغلظة من أجل الحفاظ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الذي اعتبر به الذهبي وكثير من المحققين في شدة مسلم على البخاري في مسألة المعاصرة؛ لأن مسألة المعاصرة ومسألة اللقيا حصل بينهما تفريق عند بعض العلماء، فاشتد مسلم جداً في مقدمة صحيحه على البخاري وعلى علي بن المديني لِم يقولون باللقيا ويتركون المعاصرة؟ فالعلماء قالوا: اشتد مسلم على البخاري مع أن البخاري شيخه بل هو أجل شيوخه. قال الذهبي: وكان في مسلم حدة، فاحتد على البخاري، حتى إنه لم يروِ له رواية واحدة في صحيحه. قالوا: ويعتذر لـ مسلم أنه أراد الحفاظ على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان البخاري جبل الحفظ، وأمير المؤمنين في الحديث، وله المنة عليه بأن علمه علل الحديث، مع ذلك حفاظاً على السنة يقول صراحة كما قال ابن القيم: شيخ الإسلام حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه.

ابن عمر يسب ولده لمخالفته الحديث

ابن عمر يسب ولده لمخالفته الحديث وانظروا إلى ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه، وما أروع ما قاله وفعله ابن عمر عندما سرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، فقام ابنه فقال له: والله لمنعهن، إذاً يتخذنه دغلاً، فقال له حفاظاً على السنة: لعنة الله عليك. هذه كلمة ليست بالهينة، هذه الكلمة معناها: أنه يدعو عليه أن يطرد من رحمة الله جل في علاه، وانظروا إلى الحفاظ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم ماذا فعل بأصحاب رسول الله؟ هذه الشدة لفلذة كبده، يقول لابنه: لعنة الله عليك. وفي بعض الروايات: أن ابن عمر لم يكلم ابنه هذا إلى أن مات، حفاظاً على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر: لعنة الله عليك، أقول لك: قال رسول الله، وتقول: نمنعهن.

عبد الله بن مغفل يهجر ابن عمه لمخالفته الحديث

عبد الله بن مغفل يهجر ابن عمه لمخالفته الحديث وهذا أيضاً عبد الله بن المغفل المزني رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يروي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخذف، فقال: إنه لا يصيد صيداً ولا ينكأ عدواً، وإنما يكسر السن، ويفقأ العين)، فلما قال ذلك لابن عمه وجده في اليوم التالي يفعل ما كان يفعله، قال: أقول لك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحذف وتحذف، والله الذي لا إله إلا هو لا ساكنتك مرة أخرى، أو قال: لا كلمتك حياتي، حفاظاً على سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان يروي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يتوضأ مما مست منه النار)، فقام ابن عباس فزعاً فقال: أنتوضأ من الحميم. الآن: لو جاء الماء الساخن على جسدي أو شربت ماءاً ساخناً أتوضأ منه؟ أنتوضأ من الحميم؟ قال أبو هريرة: وهو أروى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن النجاة في سنة النبي، قال: يا ابن أخي! إذا رويت لك حديثاً عن النبي فلا تضرب له الأمثال. ولا تدخل عقلك بحال من الأحوال، بل قل: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.

ابن عباس يغلظ على من يأخذ بقول أبي بكر وعمر في متعة الحج ويدع قول الرسول

ابن عباس يغلظ على من يأخذ بقول أبي بكر وعمر في متعة الحج ويدع قول الرسول وهذا ابن عباس نفسه رضي الله عنه وأرضاه كان يقول بوجوب متعة الحج، والصحيح الراجح: أنها سنة وليست بواجب، لكنه كان يقول بوجوب المتعة ويقول: هي سنة نبيكم، فقام رجل فقال: أبو بكر لا يقول بذلك، وعمر لا يقول بذلك، فاشتد غضب ابن عباس وقال: أوشكت السماء أن تمطر عليكم حجارة، أقول لكم: قال رسول الله، وتقولون قال أبو بكر وعمر! إن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم على قول أي أحد، وابن عمر حدث له نفس الأمر في مسألة المتعة، فقد راجعوه بعدما قال بها، وقالوا: إن عمر يخالفك ويقول بعدم المتعة، فقال: أمرنا باتباع النبي وما أمرنا باتباع عمر، يعني: عند المخالفة.

سالم يخالف أباه ويتبع السنة

سالم يخالف أباه ويتبع السنة وهذا سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين قال: بأن من السنة أن يتطيب المرء قبل أن يحرم، وأن يتطيب بعد الإحلال، فقالوا له: إن ابن عمر ينهى عن التطيب عند الإحرام، ويقول: ليتني تطيبت بالزفت والقار خير لي من أن أتطيب وأصبح محرماً ينضح مني ريح الطيب، فقال سالم بن عبد الله معلنها صراحة: أمرنا باتباع رسول الله، وما أمرنا باتباع ابن عمر رضي الله عنه وأضاه، يعني: عند المخالفة، وكل ذلك حفاظاً على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

ابن مسعود يشتد على أبي موسى لمخالفته السنة

ابن مسعود يشتد على أبي موسى لمخالفته السنة وابن مسعود كان يشتد على أبي موسى الأشعري عندما خالف حكمه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سألوه في المرأة التي ماتت عن بنت وبنت ابن وأخت، فقالوا: ورث يا أبا موسى؟! فقال: البنت لها النصف والأخت لها الباقي تعصيباً. فقالوا لـ ابن مسعود: يا أبا عبد الرحمن قد أفتى أبو موسى بكذا، قال أقول بقوله؟ قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين. انظروا إلى شدة الإنكار على أبي موسى، قال ابن مسعود: بل أحكم فيها بما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي للأخت تعصيباً. ولذلك لما تعامل الصحابة مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التعامل العظيم، وحافظوا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم اقتدى بهم من جاء وراءهم، فاقتدى بهم التابعون وفعلوا ذلك.

أربعة مواقف لبعض العلماء في المحافظة على السنة

أربعة مواقف لبعض العلماء في المحافظة على السنة وأسرد لكم أربعة مواقف لعلمائنا تبين كيف حافظوا على السنة، وكيف أسسوا هذا الأساس، وهذا الأصل الأصيل لهذه الأمة؛ لأن فلاحها ونجاحها وقيادتها وريادتها وسيادتها لن تكون إلا بالعض بالنواجذ على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

موقف مالك رحمه الله

موقف مالك رحمه الله فهذا الإمام مالك جاءه رجل وقال يا إمام! كم حج النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: حجة واحدة هي حجة الوداع وأحرم من ذي الحليفة. فقال رجل: أأحرم من بيتي أم من قبل ذي الحليفة؟ قال: لا تفعل. قال: لم لا أفعل؟ قال: ترى نفسك فعلت أمراً قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أخشى عليك الفتنة. قال: وما الفتنة؟ قال: قول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، فلذلك نهاه أن يفعل فعلة يرى فيها أنه قد تقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

موقف أحمد بن حنبل رحمه الله

موقف أحمد بن حنبل رحمه الله وهذا أحمد بن حنبل قال: لا تأخذ عني ولا عن مالك ولا عن الشافعي، وخذ من حيث أخذوا، يعني: خذ الإسناد، خذ حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

موقف أبي حنيفة رحمه الله

موقف أبي حنيفة رحمه الله وهذا أبو حنيفة يقول: لو خالف قولي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخذوا قول رسول الله، واضربوا بقولي عرض الحائط. ولذلك قال ابن عبد البر في مسألة الصرف التي خالف فيها ابن عباس وقال بجواز ربا الفضل، قال ابن عبد البر: لا حجة لـ ابن عباس، بل لا حجة لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقول رسول الله يقدم على قول كل أحد.

موقف الشافعي رحمه الله

موقف الشافعي رحمه الله ولذلك الشافعي رضي الله عنه وأرضاه ناصر السنة دخل عليه إسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل، وكان إسحاق بن راهويه قد قال لـ أحمد: نترك ابن عيينة يقول: حدثني فلان عن فلان، ونجلس إلى هذا الحدث، فقال أحمد بن حنبل: لو فاتك العلم من عند هذا الرجل لن تجده عند غيره، فلما جلسا في مجلس الشافعي تكلم الشافعي في مسألة ديار مكة، هل تسكن؟ هل تباع؟ هل تشترى؟ هل تمتلك؟ -وهذا خلاف فقهي عريض- قال الشافعي: تمتلك ديار مكة، واستدل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة فاتحاً، فقيل له: (أتدخل في ديار عبد المطلب أو قيل: في ديار أبي طالب؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من دار). قول النبي صلى الله عليه وسلم (وهل ترك لنا عقيل من دار)؛ لأن عقيلاً كان كافراً آنذاك وورث أباه أبا طالب، وأخذ وامتلك هذه الدور ثم باعها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم مقراً لبيع عقيل: وهل ترك عقيل من دار، أو من ديار؟ فقال له إسحاق بن راهويه: حدثني فلان عن فلان عن فلان عن عائشة: أنها ما كانت ترى ذلك، يعني: لا ترى سكن مكة، ولا ترى أن مكة تمتلك. ولو قلنا بهذا القول الآن، لقلنا: إن كل هذه القصور التي تدور حول مكة لا يجوز أن يأخذوا عليها فلساً، وعليه فإنك إذا ذهبت أكبر وأعظم قصر وجلست فيه فستقول: الأجرة حرام هنا؛ فقد حرمت دور مكة أن تمتلك، وهذا قول الحنابلة، وعلماء الحجاز حنابلة خالفوا جميعاً عن بكرة أبيهم؛ لأنهم قالوا: ديار مكة لا تمتلك. فقال إسحاق: رأيت عائشة تذهب إلى هذا، وحدثني فلان عن فلان عن فلان عن أبي الزبير أو قال عن ابن الزبير: أنه ما كان يرى ذلك، وحدثني فلان عن فلان عن فلان عن ابن عباس: أنه كان لا يرى ذلك، فقال له الشافعي مؤدباً: من أنت؟ فقال: إسحاق بن راهويه، قال: أنت فقيه خراسان؟ قال: يزعمون ذلك -الكلام هذا في كتب التراجم- فقال له مؤدباً: ليتني بك طفلاً صغيراً أعرك أذنه، أقول لك: قال رسول الله! وتقول: قالت عائشة، وقال ابن الزبير، لا قول لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق لهم أن يلقبوا الشافعي بناصر السنة، ولذلك لما كان جالساً في مجلسه ودخل السائل يسأله، ويقول: يا إمام! هذه المسألة ما تقول فيها؟ فقال مجيباً أحد طلبة الشافعي قال: قال فيها رسول الله كذا، فقال له: يا إمام! وانظروا فالجهلة في كل العصور متوافرون بفضل الله! تقول له: قال رسول الله! فيقول: لكن الشيخ قال كذا، فلا يمكن أن يترك قول الشيخ بحال من الأحوال؛ فقال: يا شافعي! تقول بهذا القول؟ فقال الشافعي: ولنعم ما قال، قال: أرأيتني خرجت من كنيسة، أرأيت في وجهي زناراً، ما لي لا أقول بقول رسول الله! يقول لك قال رسول الله! فكيف لا أقول بما قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولنعم ما قال الشافعي، ولنعم ما نصر به سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فحق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة حق عظيم. ولقد أردت أن أقدم هذه المقدمة بين يدي الصارم المسلول على شاتم الرسول لتعرفوا عظم حق النبي صلى الله عليه وسلم وكيف أن حق النبي صلى الله عليه وسلم هضم من بعد قرون الخيرية الثلاثة إلى يومنا هذا، فإن الناس الآن لا يعظمون رسول الله ولا يوقرونه؛ لأنهم لا يعظمون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يحاربون من يتقدم بين يدي شيوخهم فلا تكاد تجد أحداً يقول: لا آخذ إلا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم. أردت أن أقدم هذه المقدمة لأبين عظم حق شريعة الله جل في علاه، وعظم حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظم حق سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الكتاب -كما قلت- له مختصران: فقد اختصره الدكتور صلاح الصاوي، واختصره أيضاً البعلي الحنبلي، لكن اختصار البعلي أوفر حظاً وأدق من اختصار الدكتور صلاح، وقد حظيت والحمد لله بهذه النسخة، وأصل الكتاب أكبر من ذلك، وشيخ الإسلام ابن تيمية سنقدم له مقدمة نبين فيها حقه علينا. فقد كان في المسألة الواحدة يأتي بحوالي خمسة عشر آية، أو بسبع آيات، وبكل الأحاديث التي تخص هذه المسألة، فجاء البعلي فهذب هذه المسائل، ويأتينا مثلاً في المسألة الواحدة بحجج ثلاث من الكتاب ومن السنة؛ حتى يختصر على طلبة العلم.

بيان ما يتضمنه الكتاب مع بيان حكم من سب النبي

شرح مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول - بيان ما يتضمنه الكتاب مع بيان حكم من سب النبي إن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم واحترامه وتوفيره يعتبر من أصول الإيمان، وبالعكس فإن الاستهزاء والسب له صلى الله عليه وسلم أو لأزواجه يعتبر كفراً مخرجاً من الملة؛ لأن سبه صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به يدل على عدم احترامه وإكرامه، وهذا يعني أن عمل القلب غير موجود، فمن زعم الإيمان بسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو منافق معلوم النفاق؛ لأن أركان الإيمان عند أهل السنة والجماعة هي: قول القلب وقول اللسان، وعمل القلب وعمل الجوارح، فمن فقد أحد هذه الأركان فإن إيمانه غير صحيح.

نبذة عن كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول

نبذة عن كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فهذه نبذة قصيرة عن كتاب: (الصارم المسلول على شاتم الرسول) لشيخ الإسلام ابن تيمية، صاحب المصنفات الماتعة الذي ذب عن دين الله جل وعلا باللسان وبالسنان، لاسيما هذا المصنف الذي لم نجد له مثيلاً بحال من الأحوال، ولم نجد أحداً تعرض لهذا الكتاب تفصيلاً بالشرح أو تعرض لمسائله بالتفصيل والرد على الذين خالفوا شيخ الإسلام ابن تيمية فيما تبناه في هذا الكتاب. ومضمون الكتاب هو الكلام على سب الرسول صلى الله عليه وسلم، وحكم من يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء كان محارباً أو ذمياً، وسواء كان مسلماً أو ارتد ثم أسلم، فالكلام كله يدور على حكم سب الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا هو القسم الأول منه. القسم الثاني: يتكلم في حد الذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد تكلمنا عن عظم حق الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة، وذكرت أن من أعظم حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم: حفظ جنابه، وحفظ عرضه صلى الله عليه وسلم.

حكم من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم

حكم من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نُقل الإجماع عن أهل العلم: أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو استخف به، أو استهزأ به، فهو كافر ظاهراً وباطناً. فمن تعدى على النبي صلى الله عليه وسلم، أو تعدى على أمهات المؤمنين، كأن يتكلم في عائشة رضي الله عنها وأرضاها ويغمزها كما يحدث من بعض الفسقة الفجرة الكفرة الذين يرمون عائشة رضي الله عنها وأرضاها بالزنا، فهذا المقصود منه حقيقةً هو: الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كمن يسب النبي صلى الله عليه وسلم صراحةً، أو يشير إلى ذلك ويلمح، فكل ذلك كفر يخرج من الملة، ولا يحتاج فيه إلى إقامة الحجة في هذا؛ لأنه أمر معلوم من الدين بالضرورة، وهذا الأمر ليس فيه ثمت تفريق بين النوع والعين، وإن كان الأصل الأصيل عند أهل السنة والجماعة هو التفريق بين النوع والعين، لكن السب والاستهزاء والاستخفاف بعرض النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إقامة حجة ولا إزالة شبهة، بل الحكم أنه كافر كفراً يخرجه من الملة، ولو مات على ذلك فهو خالد مخلد في نار جهنم. والدليل على ذلك: قول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65]، فهؤلاء ما استهزئوا بالنبي صلى الله عليه وسلم صراحةً، وإنما قالوا: ما نرى أصحابنا إلا أرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء. فقالوا هذه الكلمات اليسيرة في نظرهم، ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذرون ويقولون: إنهم ما قصدوا ذلك، فهذه الآية تبين أن من سب الدين أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو سب عرض النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر قطعاً بدون إقامة حجة أو إزالة شبهة؛ لأن الله جل وعلا بين لنا هذا الحكم بقوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] فبعدما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم (إنما هو حديث الركب، رد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ عليهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] ((لا تَعْتَذِرُوا)) [التوبة:66]). فهذه المسألة ليس فيها إقامة حجة ولا إزالة شبهة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل منهم ولم يقل لهم: هل فعلتم ذلك وأنتم غير متدبرين هذا القول؟ هل ذهبت منكم عقولكم؟ هل تكلمتم هذا الكلام عبثاً؟ لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من هذا، بل تلا عليهم قوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] أي: كفرهم بعدما أثبت لهم الإيمان. وهذا نص قاطع من قول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، وهذه آية واضحة جلية على: أنه لا يشترط في مثل هذا إقامة حجة ولا إزالة شبهة ولا تفريق بين نوع ولا عين في هذه المسألة. وسب الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر قبل نقل الإجماع عين المحادة لله؛ لأن من سب الرسول فقد سب المرسل وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة:20]، ولا يكون أحد في الأذلين، أو في الدرك الأسفل من النار إلا الكفرة الفجرة، الذين لا سبيل لهم إلا الخلود في نار جهنم نعوذ بالله من الخذلان. وأيضاً إن الله جل في علاه يحارب من شاقه أو شاق رسوله صلى الله عليه وسلم. والحكم بكفر من سب الرسول صلى الله عليه وسلم أمر قطعي لا شك فيه، فإن قال قائل: إن بعض الناس قد تعودوا على ذلك بسبب سوء التربية فلا يعمهم الحكم، قلنا: إن هذا هو الإرجاء المحض، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، فمن قال: بأن هذا يحتاج لاستحلال القلب فقد زل زلة منكرة، وهفا هفوة عظيمة جسيمة، فسب الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقال فيه: إنه سوء أدب، بل يقال فيه إنه كفر، لأنه كما قلنا يعتبر سباً للذي بعث الرسول، وهو الله سبحانه جل في علاه. إذاً: فهذه زلة منكرة لمن يقول: بأن سب الرسول سوء أدب، أو سب الدين هذا سوء أدب، أو سب الله جل في علاه سوء أدب، لا والله بل هو كفر بنص كلام الله جل في علاه، وأيضاً هو كفر بالإجماع، والإجماع حجة، والدليل على أن الإجماع حجة: قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، فقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء:115]، هذا وجه الدلالة على قوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115]، وهذا وجه الشاهد، يعني: أن مشاققة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين تعتبر من المشاققة للرسول صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية احتج بها الشافعي عندما جاءه رجل وقال له: أتحتج بالإجماع؟ قال: نعم، قال: ائتني بآية من كتاب الله، فدخل داره ثلاثة أيام يقرأ كتاب الله، وعاود القراءة أكثر من مرة حتى أتى بهذه الآية. إذاً: أجمعت الأمة على كفر من يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد نقل الإجماع: إسحاق بن راهويه والخطابي والقاضي عياض وغيرهم كثير، فقد نقلوا الإجماع على أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر وخرج من الملة ويستحق القتل. بل اختلف الفقهاء فيما بينهم؛ هل إذا تاب يسقط عنه حد القتل أم لا؟

عقيدة الجهمية والمرجئة فيمن سب الرسول وفي الإيمان

عقيدة الجهمية والمرجئة فيمن سب الرسول وفي الإيمان نقول: من سب الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كفر، ومن قال: إنه لا يكفر بل ينتظر ليعلم هل استحل ذلك بقلبه أم لا، أو كان من سوء الأدب أو كان قالها عبثاً مع اعتقاده بالحرمة؟ فقد قال بكلام المرجئة، بل هذا كلام غلاة الجهمية؛ لأن الشبهة التي عند الجهمية والمرجئة هي: أنهم يرون أن الإيمان هو مجرد التصديق، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] يعني: بمصدق لنا، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء:90] يعني: لن نصدقك حتى تأتينا بهذه المعجزات. قالوا: فالإيمان هو التصديق، والتصديق محله القلب، وقالوا: يصح لمن اعتقد إكرام شخص أن يهينه؛ لأنه يعتقد أنه يجب عليه أن يكرمه، فإن اعتقد هذا الاعتقاد فاعتقاده صحيح وفعله معصية، فإن كان اعتقاده قد استقر في القلب على تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، ووجوب إكرام النبي صلى الله عليه وسلم، وتقديم نفس النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه، واعتقد هذا الاعتقاد الجازم ووقعت منه المخالفة فهو عاص؛ لأن اعتقاده في القلب ما زال سديداً سليماً فلا يكفر بذلك. وهذا الكلام خبط عشوائي، بل هو كلام باطل من كل الوجوه، ومن قال به فهو مبتدع ضال مرجئ، ولابد أن ندعوه إلى دين الله جل في علاه، وإلى القول السديد وهو قول أهل السنة والجماعة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وهذه الزلة المنكرة جاءت لبعض العلماء الذين نظروا في قول الفقهاء لاغترارهم بكلمات خرجت من بعض المتكلمين، فظنوا أن المسألة خلافية، وأنها يقع فيها الاجتهاد، فالمصيب له أجران والمخطئ له أجر، فإذا قلنا بأن المسألة خلافية فلا إجماع، ولو قلنا: إن المسألة خلافية فلا إنكار، وهذا من البطلان بمكان، فالصحيح الراجح: أن الكتاب والسنة مع الإجماع يجزمان بكفر الذي يسب الله جل في علاه، أو يسب رسوله صلى الله عليه وسلم.

الرد على الجهمية والمرجئة في مسألة الإيمان وحكم سب الرسول

الرد على الجهمية والمرجئة في مسألة الإيمان وحكم سب الرسول والرد على الجهمية والمرجئة هين سهل بفضل الله تعالى وهو: أن نأتي بالمقدمة التي قدموها ثم نهدمها، هذه المقدمة هي قولهم: الإيمان هو التصديق، واستدلوا بالآيات السابقة، فنقول: هذه المقدمة خاطئة لا نوافقكم عليها؛ لأن الإيمان قد يتعدى بنفسه، وقد يتعدى بالباء، وقد يتعدى باللام، وفي كل موضع من هذه المواضع التي يقع فيها الإيمان له معنى من المعاني، فقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17]، نوافقكم على أن الإيمان هنا بمعنى: التصديق، ولكنه قد يتعدى بنفسه أو باللام: فإذا تعدى بنفسه فمعناه: التأمين الذي هو ضد التخويف؛ لقول الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4]. فقوله: ((وَآمَنَهُمْ)) هنا: ضد خوفهم، فهنا المقصود بالتأمين: ضد التخويف، ومن أسماء الله جل وعلا (المؤمن) أي: الذي أمّن عباده من الضلال وأمّن عباده من العذاب، أو أمّن عباده من أن يزيغ قلوبهم بعد أن ثبت الإيمان فيها، وبين لهم طريق الرشاد. وقد جاء في الحديث: (إن الله لا يجمع لعبد أمنين ولا خوفين)، أي: لا يجمع الله لعبد في الدنيا والآخرة أمنين، فمن أمِنَه في الدنيا خوَّفه في الآخرة، ومن خافه في الدنيا أَمّنَه في الآخرة. أما إذا تعدى الإيمان بالباء فيكون معناه: التصديق، وهذا هو الذي حصروا الإيمان كله فيه، قال الله تعالى: ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:136] فقوله: ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} أي: صدقنا بالله؛ لأنه الخالق الرازق المحيي المميت؛ ولأن الله جل في علاه له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وكأن تقول: آمنت بالله، يعني: صدقت بالله؛ وأن تقول: آمنت برسول الله يعني: صدقت برسالة النبي صلى الله عليه وسلم. كما قال الشافعي رحمه الله: آمنت بالله يعني: صدقت بوجود الله، وصدقت بربوبية الله، وصدقت بإلهية الله، وأنه المستحق للإفراد بالعبادة له سبحانه جل في علاه، قال: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله يعني: صدقت برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقت أنه أرسل من قبل الله جل في علاه، أرسله بالحق، وأنه الصادق المصدوق. وإذا تعدّى الإيمان باللام فيكون معناه: الانقياد والاستسلام التام والخضوع، قال الله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، فهذا لا يعني: أن لوطاً لم يكن مؤمناً بإبراهيم وأنه مرسل من ربه ثم آمن بعد ذلك، لأن لوطاً كان مؤمناً ومصدقاً أصالةً بأن إبراهيم نبي مثله، وإنما معنى الآية: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}، أي: اتبعه على ما يريد، واستسلم لذلك، وسياق الآيات يدل على ذلك؛ لأن إبراهيم كان يدعوا الناس بأن يتبعوه فرفضوا ذلك، وما اتبعه إلا لوط. وحتى يظهر المعنى جلياً ننظر في قول فرعون للسحرة عندما خروا سجداً لله جل في علاه وقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70] فقال لهم فرعون: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه:71] يعني: اتبعتموه وخضعتم وانقدتم له، فالآية الأولى: بينت أنهم قد صدقوا، والدلالة على ذلك: أنهم خروا سجداً فقال لهم: صدقتم به، وفوق هذا تتبعونه على شريعته. فإذاً: إذا تعدى الإيمان باللام فهو: الانقياد والاستسلام التام لله جل في علاه، وكذلك نقول لهم عن معنى الإيمان في اللغة: نحن لا نوافقكم على أنه محصور في معنى التصديق، بل هو يتعدى بنفسه فيكون معناه: التأمين الذي هو ضد التخويف، ويتعدى بالباء فيكون معناه: التصديق كما قلتم، ويتعدى باللام فيكون معناه: الانقياد والاستسلام والخضوع التام لله جل في علاه. كذلك فإن الله لما مدح إبراهيم لم يمدحه على مجرد التصديق فقط، بل مدحه أشد المدح على الاستسلام، فقال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131] أي: استسلمت وخضعت وانقدت كل الانقياد لك يا رب! فكان المدح والمنة الأكثر عليه أنه استسلم استسلاماً تاماً لله جل في علاه. فهؤلاء قد حصروا الإيمان في التصديق لغةً وشرعاً، ولذلك تراهم يأتون بالنقيض، يقولون: الإيمان هو التصديق، والكفر هو التكذيب فقط، وهم أيضاً حصروا الكفر كذلك في التكذيب فقط، ولهذا أخطأ من قال: إن الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء الأحناف هو خلاف لفظي فقط، كما قال ذلك الطحاوي، فالخلاف هنا ليس خلافاً لفظياً، بل هو خلاف حقيقي؛ لأنهم حصروا الكفر في التكذيب، وحصر الكفر في التكذيب من البطلان بمكان. بل إن أهل السنة والجماعة أجمعوا أن الكفر متعدد، وأنه ليس في التكذيب فقط، فإن من تجرأ على سب الله سبحانه وتعالى أو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا دليل على أن قلبه قد استحل إهانة ربه سبحانه وتعالى، أو إهانة رسوله صلى الله عليه وسلم.

معنى الإيمان عند أهل السنة والجماعة

معنى الإيمان عند أهل السنة والجماعة ولقد نقل الإجماع ابن عبد البر والشافعي والكرابيسي وأبو ثور وغيرهم على أن السلف يقولون: الإيمان قول وعمل ونية. قال الشافعي: أدركت من أدركت من التابعين يقولون: أدركنا من أدركنا من التابعين والصحابة يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، ولا يجزئ واحد من غير هؤلاء الثلاثة. وقال ابن عبد البر: أجمع أهل السنة والجماعة على أن الإيمان هو القول باللسان والتصديق بالجنان والعمل بالأركان، هذه أركان ثلاثة للإيمان. فنحن شرعاً نخالف من قال: إن الإيمان هو التصديق فقط، بل الإيمان قول وعمل وتصديق بالجنان، ونحن معكم في أن الإيمان أيضاً هو: قول باللسان، فمن لم يتكلم بلسانه وهو قادر فهو كافر كما سنبين، وهو عمل بالجوارح وبالقلب كما سنبين.

قول القلب وقول اللسان

قول القلب وقول اللسان والإيمان قول وعمل ونية، والقول قولان: قول اللسان وقول القلب، والعمل عملان: عمل القلب وعمل الجوارح، أما قول اللسان فإنه لا يدخل أحد الإسلام وهو يستطيع أن يتكلم بكلمة الإيمان إلا أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولو اعتقد اعتقاداً جازماً بأن الخالق الرازق المدبر هو الله، وأن المستحق للإفراد بالعبادة هو الله، ولو اعتقد اعتقاداً جازماً بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الرسول الحق وأنه الصادق المصدوق، ولم ينطق بلسانه، فإنه لا يدخل الإسلام، ولا يمكن أن يحكم له بإسلام قط، فقد قال الله تعالى: (((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة:136]، والقول يكون باللسان، والنبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا)، وفي الرواية الأخرى: (حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأني رسول الله). وفي الصحيح أيضاً: (لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عمه أبي طالب وعنده أبو جهل وعبد الله بن ربيعة قال له: يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله). ووجه الدلالة على أن القول ركن من أركان الإيمان: أن أبا طالب كان مصدقاً أن ابن أخيه كان على الحق، وأن دينه هو الدين الحق، ولكن سبب عدم إيمانه به هو مخافة المهانة بين الناس، وأن يقولوا: ترك دين عبد المطلب وأخذ بدين ابن أخيه. فهذا التصديق الذي كان عند أبي طالب لا ينفعه يوم القيامة بين يدي الله سبحانه وتعالى؛ لأنه امتنع عن التلفظ بالشهادة مع قدرته على ذلك، فليس له حجة عند الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل لا إله إلا الله قال كلمة أحاج لك بها عند الله)، يعني: ليس لك حجة عند الله إذا لم تتلفظ بهذه الكلمة. أما قول القلب فهو: التصديق، وغلاة الجهمية والمرجئة حصروا الإيمان في التصديق بالقلب، ونحن نقول: قول القلب هو التصديق، قال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] أي: لم يشكوا. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من قال لا إله إلا الله صادقاً بها قلبه دخل الجنة)، فقول القلب هو التصديق، وهذا هو أصل الإيمان.

عمل القلب والجوارح

عمل القلب والجوارح أما عمل القلب فبالإجماع عند أهل السنة والجماعة أنه إذا تخلف عمل القلب -وإن وجد التصديق- فهو كافر لا يدخل الإسلام، فلو تكلم بلسانه كان منافقاً، وهذا النفاق نفاق اعتقادي يخرج به من الملة، ويكون مصيره الدرك الأسفل من النار، فمن لم ينقد لله جل في علاه ولا لأوامر الله جل في علاه فهو كافر؛ لأنه خالف تصديقه بفعله، إذا لم ينقد ولم يستسلم لله سبحانه وتعالى. والاستسلام شرط وركن ركين من أركان الإيمان، وهذا بإجماع أهل السنة والجماعة، ولم يقل أحد بأن أعمال القلوب غير مرادة أو غير مأمور بها إلا المرجئة، فمن قال بذلك فقد وقع في زلات عجيبة جداً: فسيقول بأن إبليس مؤمن؛ لأنه قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر39]، فهو أقر بالربوبية وصدق بأن الله جل وعلا هو الخالق الرازق المدبر، لكن كفر إبليس كان كفر إباء واستكبار، وعدم انقياد واستسلام لله جل في علاه. إذاً: عمل القلب هو الركن الركين والأصل الأصيل في الدين، فلا يصح إيمان عبد بحال من الأحوال إلا بأعمال القلوب، من الإخلاص والإنابة والتوبة إلى الله جل في علاه، كما قال الله جل في علاه: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [الإسراء:25]، يعني: في قلوبكم، {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فمحل الإيمان هو القلب. أما عمل الجوارح فهو يرتبط بعمل القلب، ولا يمكن أن ينفك عمل الجوارح عن عمل القلب، فإن ارتباط الظاهر بالباطن ارتباط وثيق. ولذلك فإن الله جل في علاه بين لنا هذا الارتباط، بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25]، فلا تجد آية ختمت بدخول الجنة إلا بعد أن اقترن الإيمان بالعمل الصالح. وتجد النبي صلى الله عليه وسلم يبين ذلك جلياً؛ إما نصاً وإما تلميحاً، قال صلى الله عليه وسلم في الصلاة: (استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم). يعني: لا تختلفوا في الظاهر فتختلف قلوبكم، وهذه دلالة على أن الظاهر يؤثر في الباطن والعكس صحيح. هذا هو الرد على المرجئة حتى يتبين للإخوة بطلان قول من قال بأن الذي يسب الله جل في علاه أو يسب الرسول سيئ الأدب أو ليس بكافر أو ننتظر حتى نقيم عليه الحجة ونزيل عنه الشبهة. فهذا الكلام هو كلام المرجئة، ومن قال به فهو مرجئي، ولابد أن يُناصح ويناظر. فالصحيح الراجح كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من قال: إن سب الرسول يحتاج إلى استحلال القلب، فهذه زلة منكرة وهفوة جسيمة عظيمة، فهذا إرجاء محض لابد أن يرد على صاحبه. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

بيان حكم المسلم الذي يسب رسول الله

شرح مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول - بيان حكم المسلم الذي يسب رسول الله لقد رفع الله من مكانة النبي صلى الله عليه وسلم، وجعله سيد الأولين والآخرين، وجعل له حمى لا يجوز لأحد أن يقتربه أو يمس رسول الله بأذىً قولي أو فعلي تصريحاً أو تعريضاً، ولذا أجمع العلماء على: أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو انتقص منه أو طعن في عرضه فإنه يكون مرتداً بذلك، كافراً كفراً مخرجاً من الدين، وحكمه القتل ولا كرامة، والأدلة على ذلك كثيرة من القرآن والسنة المطهرة.

الأدلة الواردة من القرآن في ثبوت ردة من سب رسول الله

الأدلة الواردة من القرآن في ثبوت ردة من سب رسول الله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: أيها الإخوة الكرام! ما زلنا مع الكلام على هذا الكتاب الماتع الجليل كتاب: مختصر الصارم المسلول، وأصل الكتاب لشيخ الإسلام ابن تيمية، والمختصر للفقيه البعلي. وقد تحدثنا في الأسبوع الماضي عن حكم من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحد من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكلمنا عن الحكم وعن الحد وقلنا: إن الذي يسب رسول الله له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون مستأمناً أو ذمياً أو معاهداً، وقد شرحناه في الأسبوع الماضي وبينا الأدلة على حده؛ لأنه أصلاً كافر في الأصل، وهل ينتقض عهده أو تنتقض الذمة أو ينتقض الأمان الذي أخذه بعد دخوله البلاد الإسلامية بسب الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا؟ بينا الأسبوع الماضي هذا الكلام، وبينا أن هناك خلافاً بين العلماء، وأتينا بالأدلة على الراجح منها. الحالة الثانية: أن يكون الساب مسلماً، فإذا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- فحكمه الكفر، وأنه ارتد عن دين الله بذلك، وهذا بإجماع من يعتد بإجماعه، وقلنا: خالف في ذلك المرجئة فقط، حيث قالوا: لا بد أن ننظر في استحلال قلبه، فإن استحل بقلبه يكفر، وإن لم يستحل لا يكفر، ويكون فعله كبيرة من الكبائر، وهذا قول المرجئة نعوذ بالله من الخذلان! أما إجماع الصحابة وإجماع أهل السنة والجماعة فمفاده: أن الذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الملة ويكفر بذلك، وحده القتل، والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة، ومن إجماع الصحابة، بل ومن النظر، واليوم إن شاء الله سنتناول الكلام على الأدلة من الكتاب والسنة على أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج بذلك من الملة ويصير مرتداً.

قوله تعالى: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)

قوله تعالى: (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) أولاً: الأدلة الواردة من كلام الله جل في علاه، وسنقسم الأدلة إلى صريح ومستنبط: فمن الأدلة الصريحة: قول الله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة:64] ثم قال بعد ذلك: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]، وهذا صريح؛ لأن الله جل وعلا أخبر أنهم كفروا بعدما آمنوا، وأقر أنهم على إيمان، فكفروا وخرجوا من الملة بذلك، ولذلك قالوا: (يا رسول الله! والله ما كنا إلا نلهو)، يعني: أنهم ما قصدوا الاستهزاء، ولا قصدوا السب والأذى، ومع ذلك قال شيخ الإسلام: فهذه الآية تدل دلالة واضحة على أن الذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء هازلاً أو جاداً أو قاصداً فإنه يكفر بذلك، ولذلك هم قالوا: ما قصدنا الاستهزاء؛ فقال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} * {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] وهذا الكفر الذي وقعوا فيه هو حكمهم، وذلك أنهم ارتدوا عن دين الله جل في علاه، والحد في ذلك هو القتل، وأغلظ ما وقعوا فيه من الردة هو سب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (من بدل دينه فاقتلوه) ومن سب رسول الله فقد بدل دينه لقول الله تعالى: ((قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)) فمن بدل دينه حكمه القتل. وكذلك ورد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، وذكر من الثلاث: التارك لدينه المفارق للجماعة) والذي يسب الرسول صلى الله عليه وسلم قد ترك دينه بنص كلام الله جل وعلا، قال تعالى: ((قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ))، وأيضاً هو مفارق للجماعة لأنه ليس من أهل الإسلام، فمن سب النبي صلى الله عليه وسلم، أو استهزأ بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكمه الكفر بنص الآية، وحده القتل بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

مفهوم قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي)

مفهوم قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) الصنف الثاني من الأدلة: صنف مستنبط ليس فيه دلالة صريحة، لكن الدلالة فيه بالمفهوم ومنه: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات:2]، ثم قال معللاً لم لا يرفعوا أصواتهم على صوت النبي صلى الله عليه وسلم: ((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ)) [الحجرات:2]، وحبوط العمل وجه الدلالة من الآية، فحبوط العمل يدل على الكفر؛ لأنه لا يحبط عمله إلا من كفر بالله جل في علاه، والدلالة على ذلك من كتاب الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2]، فجعل حبوط العمل لأنهم رفعوا أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فحبوط العمل يدل على الكفر، والدلالة على ذلك آيات من كتاب الله وليست آية واحدة. قال الله تعالى مبيناً حبوط العمل: ((أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ)) يعني: لئلا تحبط أعمالكم، كأن الآية تفسر بأن الذي يرفع صوته على النبي يحبط عمله، ولذلك جاء في الآثار: (كاد الخيران أن يهلكا) وهما: أبو بكر وعمر، قال أحدهما: لـ الأقرع بن حابس والثاني يقول: ول فلاناً وعلت الأصوات عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل الله هذه الآية: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات:2] فلا يمكن أن يحبط عمل الإنسان بحال من الأحوال إلا بالكفر، ولذلك قلنا: إذا راءى المرء في عمل معين فإنه يحبط هذا العمل فقط، لكن الأعمال كلها لا يمكن أن تحبط إلا بالكفر، والدليل على ذلك من كتاب الله قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] إذاً: فالشرك ينبئ بحبوط العمل، وهناك آية أخرى تثبت أن حبوط العمل لا يكون إلا بالكفر، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217] فدل ذلك أن الردة تحبط العمل. وفي آية أخرى يقول تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهْ} [المائدة:5] ففيها الدلالة على أن حبوط العمل يستلزم الكفر؛ لأن العمل لا يمكن أن ينهار ويلغى جميعه إلا بالكفر، فقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5]، وهذا في الذي يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، أو يرفع صوته في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يعتبر من سوء الأدب فإن الله جل في علاه حذر الصحابة أن تحبط أعمالهم بهذا العمل، فإذا كان رفع الصوت يحبط العمل فمن باب أولى أن سب الرسول صلى الله عليه وسلم يكون سبباً للردة وحبوط العمل، ويسمى هذا قياساً جلياً. فمن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات في لحظتها فهذا الذي كتب الله عليه الخلود في نار جهنم وقد حبطت أعماله كلها.

قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة)

قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة) كذلك من هذه الآيات: قول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، وما من أحد إلا وهو يخالف أمر الله وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمعصية، لكن لما كانت مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم تؤدي -بالإصرار عليها- إلى الفتنة صارت بمعنى الكفر، والفتنة فسرها فحل السنة وإمامهم الإمام أحمد حيث قال: أتدرون ما الفتنة؟ الفتنة: الكفر، أو قال: بالإصرار على المخالفة: ((أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ))، والفتنة كما قال أحمد: الشرك. فإذا كان هذا بمخالفة الأمر والإصرار عليه فكيف بالسب والإيذاء؟ وهذا أيضاً نوع من أنواع القياس الجلي، فإن كانت الفتنة ستصيب من خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصر على المخالفة لأمر رسول الله بعد العلم بأن هذا هو أمر الرسول -فإن الله جل وعلا حذر من الفتنة يعني: أن يقع في الشرك من خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -فمن باب أولى من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقع في عرضه أن يقع في هذه الفتنة، وهي الشرك، ويصير مشركاً بذلك.

قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)

قوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) كذلك من أصناف الآيات: قول الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، ونحن نتكلم عن المسلم، كل هذه الآيات في المسلم، والآيات التي سبقت كانت في المعاهد أو الذمي؛ لأن هذا قد أسلم ودخل الإسلام وفي دائرة الإسلام له ما لنا وعليه ما علينا، يقول الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فاشترط الله جل في علاه للإيمان في القلب وعدم انتفائه أولاً: أن يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المنافق كما بين الله جل في علاه في سورة النور إذا دعي إلى الله ورسوله أعرض ولم يسلم لله ولرسوله، فيبين الله جل في علاه أن من أسباب ثبوت الإيمان في القلب أن يتحاكم في المتنازع فيه إلى الله والرسول أو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بعد أن يتحاكم لا يجد في صدره حرجاً بحال من الأحوال، ثم يسلم تسليماً، فإذا انتفى واحد من هذه الثلاثة فلا إيمان في القلب، فإن تحاكم ولم يرض ولم يسلم أو وجد في صدره حرجاً فلا إيمان في القلب، فإن لم يسلم ويرض فلا إيمان في القلب، ولذلك قال بعضهم في هذه الآيات الكريمات: إن سبب نزول هذه الآية أن رجلاً ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من المنافقين، وكان بينه وبين يهودي مخاصمة فقال اليهودي: نذهب إلى محمد يحكم بيننا، فذهبا إلى رسول الله فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بينهما؛ فلم يرض المنافق ورضي اليهودي، فقال المنافق: والله لا أرضى حتى نذهب إلى أبي بكر فذهبا إلى أبي بكر فحكم بما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يرض المنافق حتى ذهب إلى عمر فقص عليه القصة: أنه تحاكم إلى رسول الله وتحاكم إلى أبي بكر ولم يرض هذا المنافق؛ فقال: ترضى بحكمي؟! فقال: نعم. فدخل عمر بن الخطاب - وهذا الحديث فيه ابن لهيعة وفيه ضعف في إسناده لكن يستأنس به وهو شاهد للآية- دخل رضي الله عنه وأرضاه فأخذ السيف فاستله فضرب عنق المنافق، ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن من لم يرض بحكم رسول الله يكفر، فإن صح الدليل فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه، فهذه الآية مبينة لنا تبييناً واضحاً على أن من سب رسول الله أو آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يكفر بذلك وحده القتل، ما وجه الدلالة من هذه الآية؟ وجه الدلالة من الآية: أن من سب رسول الله فقد كفر، قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] فالقياس الجلي فيها أن الله نفى الإيمان عمن لم يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفى عنه الإيمان إذا تحاكم ولم يرض، ونفى عنه الإيمان إن لم يسلم، فما بالكم بمن سبه وهو ليس بمتحاكم ولاراض ولا بمسلم، بل هو متسخط متكبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن)

قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) كذلك من الآيات التي تدل على كفر من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قول الله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61] وفي آخر الآيات قال: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة:63]، فهذه الآيات تدل على أن الإيذاء محادة لله ولرسوله، والمحادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بين، والدليل على ذلك قول الله تعالى: ((وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ)) وسنبين الإيذاء في آيات أخرى، فقد أخبر الله تعالى مبيناً أن إيذاء النبي محادة لله ولرسوله، ونحن بصدد الكلام عن عرض الرسول صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، فالمحادة لرسول الله من الإيذاء وقد رتب الله عليها الوعيد الشديد بنار جهنم، وأن العذاب الأليم فيه الخلود، وهذا الخلود لا يكون إلا بالكفر. وهناك آية أيضاً صريحة جداً في هذه المسألة وهي: قول الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22] ووجه الدلالة من الآية نفي الإيمان: ((لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) يعني: فليس في قلوبهم إيمان الذين يوادون من حاد الله ورسوله، ففيها الدلالة على أن من حاد رسول الله كفر؛ لأنه نفى الله عنه الإيمان. وهناك آية أكثر وضوحاً من هذه في نفس السورة، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة:20]، ولا يكون في الأذلين ولا في الدرك الأسفل إلا من كفر، فوجه الدلالة على أن المحادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يستحق صاحبها، أن يكون في الأذلين لكفره بذلك، ولذلك قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} [التوبة:58]، هذه أيضاً من الآيات التي تدل على كفر من حاد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: (ومنهم من يلمزك في الصدقات)

قوله: (ومنهم من يلمزك في الصدقات) كذلك من الآيات أيضاً: أن الله بين أن من يؤذي رسول الله فهو من المنافقين، والنفاق دلالة على الكفر في القلب أو الكفر في الباطن، فالذي يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر ظاهراً وباطناً، فمن هذه الآيات قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58]، فكان الكلام والحديث في السياق سباقاً ولحاقاً عن المنافقين وكأن الله يقول: سأجري لك من صفات المنافقين: أنهم يلمزونك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منهاإذا هم يسخطون، فيسخطون ويتكلمون عليك في غيبتك؛ لأنك لم تعطهم؛ ولأنهم من المنافقين، فالسياق في هذه الآيات في قول الله تعالى: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ)) هو في المنافقين، واللمز معناه: الطعن، كأنهم يقولون: إنه يقبض يده، ويبخل علينا، فهم يطعنون في رسول الله، فيلمزك بالصدقات أي: يطعن فيك، فالطعن هذا من صفات المنافقين، والمنافق نفاقاً اعتقادياً كافر كفراً يخرج من الملة. كذلك التحاكم إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من النفاق، ومن الممكن أن نستدل على هذا بالآية التي صدرنا بما الباب وهي: قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]، فهؤلاء الذين يتحاكمون إلى الطاغوت إذا قلت لهم: تعالوا إلى رسول الله أعرضوا، كما بين الله في السورة الأخرى، ففيها دلالة على: أن النفاق الذي في القلب يكون كفراً مخرجاً من الملة. يقول الله تعالى في المنافقين: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:61] فهذه آية صريحة جداً في أن المنافق الذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يلمز أو يغمز رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كافر؛ لأن الله بين أنهم في نار جهنم خالدين فيها، وحده القتل لقول الله تعالى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} فحدهم القتل. فهذه أقسام ثلاثة من الآيات -بإيجاز- التي تثبت أن المسلم الذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر بذلك، وتعتبر ردة، وحده القتل.

الأدلة الواردة من السنة في ثبوت ردة من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم

الأدلة الواردة من السنة في ثبوت ردة من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم

حديث: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء)

حديث: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء) أما من السنة فأحاديث كثيرة منها: أولاً: الأحاديث التي جاء فيها التصريح: الحديث الصحيح: (لما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم جاء رجل غائر العينين، فقال: يا محمد! اعدل. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق) فهذا حديث فيه دلالة على أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يكفر بذلك وحده القتل. ووجه الدلالة: أن هذا كفر، فهو لمز لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقوله: (اعدل يا محمد) معناه: لست عادلاً، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويحك). وفي رواية قال: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟!). وفي رواية قال: (ويحك ومن يعدل إن لم أعدل أنا؟). وأيضاً في رواية ثالثة ستأتي أنه قال: (إذاً: لم يعدل أحد) أي: فإن لم يعدل رسول الله فمن يعدل بعده؟ لن يعدل أحد، فهذا غمز لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الغمز يدل على كفره ونفاقه بدليل قول عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فأين وجه الدلالة؟ وجه الدلالة: أنه لما قال عمر: (يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه). وفي الرواية الأخرى: لما قام خالد وقال: (دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: لعله يصلي، قال: إنه يفعل ذلك رياءً؛ فقال: ما أمرنا أن نشق عن قلوب الناس) لكن الدلالة الواضحة عندنا في هذا الحديث: أن عمر لما قال: دعني أضرب عنق هذا المنافق أقره النبي ولم ينكر عليه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرض بقتله لعلة أخرى، وهذه العلة ستكون بإذن الله في شرح الكلام على أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته هل يمكن أن يعفى عنه بعد التوبة أم لا؟ وهل يقتل أم لا يقتل؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم عفا عنه وله أن يعفو عنه؛ لأن هذا حق للرسول فعفا عنه وأسقط حقه، وهذه لا تكون أبداً إلا في حياة النبي، ائتونا بشخص يخلف النبي ويقول لنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عمن سبه صلى الله عليه وسلم؟! لن تجده بحال من الأحوال، فالعفو في حال حياة النبي صلى الله عليه وسلم يكون من النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: لا. لمصلحة أعظم من قتله، وهي عدم تنفير الناس من الدخول في الإسلام أفواجاً، ولذلك قال: (لا، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه).

قصة ابن أبي السرح وإهدار رسول الله لدمه

قصة ابن أبي السرح وإهدار رسول الله لدمه كذلك من السنة التي تدل على أن الذي يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنقص من قدره ومقامه يكفر: ما حدث في غزوة حنين -وهذا الحديث أيضاً فيه ضعف- ففي غزوة حنين أيضاً: (قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم عندما أعطاه فقال له: لا أحسنت ولا أجملت)، وفي رواية قال: (ولا عدلت) يعني: لا عدلت في قسمة الغنائم. (فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه)؛ لأنه وقع في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه واضحة الدلالة وأنا لم أذكرها أولاً لضعفها، فجئنا بها استئناساً. كذلك فمن الأدلة من السنة: قصة ابن أبي السرح، وهذا قصته عجيبة فـ ابن أبي السرح قريب لـ عثمان بن عفان كان قد أسلم، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه القرآن على سبعة أحرف، فكان يقول له: اكتب: تبينوا، فيكتب في الآية: تثبتوا، وهي تقرأ تبينوا، وتقرأ تثبتوا، ويقول اكتب: سميعاً عليماً، فيكتب: سميعاً بصيراً، فكان يكتب ذلك ويكتم هذه الكتابة، ثم بعد ذلك ارتد عن دين الله جل في علاه -نعوذ بالله من الخذلان- وبعدما ارتد قال: والله لا يدري محمد ما أكتب، فأنا الذي أكتب له هذا، فأدخل على الآيات ما لا يعرفه محمد، فكان يأمره أن يكتب مثلاً: سميعاً عليماً فيكتبها: سميعاً بصيراً، ولذا زعم لقريش أن محمداً لا يدري ما يقول، يقول: وكنت أدخل عليه بعض الكلام كأنه يلقن النبي صلى الله عليه وسلم فيتلقن - حاشا لله! - وهذا انتقاص من قدر رسول الله، لكن كيف يكون هذا انتقاصاً من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! هذا فيه انتقاص للنبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: فيه تكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عندما يقول: أنا الذي أكتب والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اكتب والله! ما يخرج منه -أي: فيه- إلا الحق والصدق). وقال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظر الوحي في كل سكناته وحركاته وكلماته، فمعنى قوله: أنا أدخل عليه أو أكتب له فيتلو على الناس ما أدخلته عليه، دليل على أنه ليس بوحي، فكأنه يعرض بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كذاب، حاشا لله وحاشا لرسوله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي. الوجه الثاني: التشكيك في حفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه إذا جاءه الوحي لم يضبطه وضبطه الثاني فأكمل. الثالث: يستلزم من ذلك نفي نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه ثلاثة وجوه فيها تنقيص لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك أهدر النبي دمه وأمر بقتله، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي مكة وعلى رأسه المغفر أمر بقتل ابن أبي السرح، لكن ابن أبي السرح كان ذكياً فذهب إلى عثمان رضي الله عنه وأرضاه وكان قريباً له، فجاء عثمان يستشفع، انظروا إلى هذه القصة الرائعة التي تبين لكم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أهدر دم أحد لا يرجع فيه، ومع ذلك وفاؤه يمنعه من أن يقتل، فقد دخل عثمان ليشفع لـ ابن أبي السرح ويقول: يا رسول الله بايع ابن أبي السرح والنبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه، فهو لا يريد المبايعة، فيقف عثمان ملحاً على رسول الله والرسول صلى الله عليه وسلم يعرض عن ابن أبي السرح ولا يريد أن يبايعه؛ لأنه فعل أمراً فيه منقصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهدم لشرع الله جل في علاه، وهدم لدين الإسلام كلية، ولذا نحن نقول: طلبة العلم الذين يرفعون شعار الدين وينشرونه بين الناس الغيبة فيهم أشد بكثير من الغيبة في عوام الناس؛ لأن الغيبة في العلماء معناه أن تسقط قدر العلماء بين العامة فيسقط الشرع بذلك؛ لأنهم حملة الشرع، فما بالكم بالذي أتى بالشرع نفسه؟ فإن الانتقاص من قدره انتقاص من كلية الشرع، فلذلك ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبايع ابن أبي السرح حتى ألح عليه عثمان وجاءه ابن أبي السرح فبايعه النبي صلى الله عليه وسلم، لكن بعدما بايعه عاتب صحابته الكرام فقال: (أما كان فيكم رجل رشيد؟ أما قام أحدكم ليقتله؟!) فانظروا النبي صلى الله عليه وسلم الذي وصفه الله جل في علاه أنه بالمؤمنين رءوف رحيم ما أراد أن يرحم ابن أبي السرح، وأراد قتله، لأن هذا قد كتب في اللوح المحفوظ، لكن لم يفقه الصحابة ذلك، وقد قدر الله كوناً أن يعفى عن ابن أبي السرح، ولعل في قلبه من الإيمان شيء، فقبله الله جل في علاه وما استفاق أحد من الصحابة ليقتله؛ ولذلك عاتبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بلهجة شديدة قال: (أما كان فيكم من رجل رشيد يقوم فيقتله عندما رآني لا أبايعه؟ قالوا: يا رسول الله! لو أومأت لنا). يعني: غمزت بعينيك. فقال: (ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين) وهذه أمانة ليس بعدها أمانة لهؤلاء المغفلين الذين يقدحون في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما كان لرسول أن تكون له خائنة أعين). فكتب الله وقدر كوناً أن يحيا هذا الرجل على الإسلام، ويموت على الإسلام، فالحمد الله الذي أنجاه الله من نار جهنم.

قصة ابن خطل وإهدار النبي صلى الله عليه وسلم لدمه

قصة ابن خطل وإهدار النبي صلى الله عليه وسلم لدمه - كذلك من هذه الأحاديث: قصة ابن خطل، وهي قصة رائعة جداً تثبت لك أنه لا هوادة بحال من الأحوال مع من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن خطل هذا كان مسلماً، فمر ذات مرة في الصحراء مع صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندهم إبل الصدقة، فقد بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم ليجمعوها، فأمر ابن خطل الصحابي -وكان من وجهاء مكة- أن يصنع له طعاماً فأبى، فليس عبداً عنده ولا أسيراً، فأبى أن يصنع له طعاماً فماذا كانت النتيجة؟ قام فقتل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ إبل الصدقة؛ فخشي على نفسه، وقال: محمد لن يتركني - بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم -فرجع إلى مكة وارتد، ثم بعد ذلك أخذ يهجو رسول الله وينتقص من قدره، واتخذ جاريتين تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتغنيان بالسب في رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وأمر بقتله. أولاً: حديث ابن أبي السرح هل فيه دلالة على الكلام على المسلم؛ لأننا الآن بصدد الكلام على المسلم؟ ثانياً: هل يصح هذا الحديث أن يستدل به على مسألة المسلم؟ وهل القتل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم للردة أم لا؟ يعني: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ابن أبي السرح هل هو لردته؟ فإن كان لردته فهل يكون دليلاً على أن الذي يسب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل أم شيء فوق ذلك؟. ابن أبي السرح كان مسلماً، فارتد وتكلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقلته جزاء للردة أم لشيء فوق الردة؟ ابن خطل ارتد وكان أحرى بنا أن نأتي بالكلام على هذا الحديث في الكلام على المرتد، لكن هنا ابن خطل لما سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب، ولما علم أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة تعلق بأستار الكعبة، وهذا إشارة إلى الإسلام، فقالوا لرسول الله: إنه تعلق بأستار الكعبة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن وجدتموه قد تعلق بأستار الكعبة فاقتلوه) فقاموا فقتلوه، وجه الدلالة من هذا الحديث: أنه إذا كان مسلماً وارتد فيمكن من مقاصد الشريعة أن النبي صلى الله عليه وسلم يتسامح معه ويعرض عليه التوبة؛ لأن من مقاصد الشريعة تشوف الإسلام لإسلام الكافر، فإن كان الإسلام متشوفاً لإسلام الكافر فـ ابن خطل إن رجع عن دينه فالإسلام متشوف أيضاً لإسلامه، ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يعطه هذه الفرصة، وقتله تغليظاً عليه؛ لأنه انتقص من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالسبب الرئيسي الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بقتل ابن خطل مع عدم التجرؤ من الصحابة على القتل في الحرم؛ لأن القتل في الحرم ممنوع، بل بين النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة أنها ما أحلت له إلا ساعة واحدة من نهار، ومع ذلك قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تعلق بأستار الكعبة فاقتلوه). وهذا لعظم الجرم حيث أنه قد أساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتقص من رسول الله صلى الله عليه وسلم. نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

حكم المعاهد والذمي والمستأمن الذي يسب رسول الله

شرح مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول - حكم المعاهد والذمي والمستأمن الذي يسب رسول الله اختلف العلماء في المعاهد أو الذمي إذا سب رسول الله هل يقتل أم لا؟ وقد وردت أدلة كثيرة تبين أن المعاهد أو الذمي إذا سب الرسول صلى الله عليه وسلم انتقض عهده وأمانه، وأن حكمه القتل إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم وحماية لجنابه.

حكم المسلم الساب للنبي صلى الله عليه وسلم

حكم المسلم الساب للنبي صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: الإخوة الكرام! نستهل بداية الكلام على هذا الكتاب العظيم الذي لم يصنف مثله في بابه، وهو كتاب: الصارم المسلول على شاتم الرسول، لشيخ الإسلام ابن تيمية. وقد بينا في الأسبوع قبل الماضي مكانة النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة، وأن حق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة التعظيم والتوقير، والنصرة والتبجيل بأبي هو وأمي، وبينا أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علموا عظم مكانة النبي صلى الله عليه وسلم لم يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، فقدموه على كل شيء، وعظموه ووقروه ونصروه، ونصروا سنته صلى الله عليه وسلم، فهذا طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه لما كان في غزوة أحد كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! لا ترفع رأسك، نحري دون نحرك يا رسول الله! لا يأتيك سهم من سهام القوم، وكان يدفع ويصد السهام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وما من صاحب إلا ويقول: فداك أبي وأمي يا رسول الله! كذلك بينا أن حق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة عظيم، ولا بد أن تؤدي الأمة حق رسول الله صلى الله عليه وسلم. اليوم إن شاء الله حتى نبين أهمية هذا الكتاب، ونبين أهمية مكانة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف لهذه الأمة أن تحفظ حق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال عن نفسه: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) فسنتكلم عن حكم الذي ينتقص من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكم الذي يتجرأ على جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بينا سابقاً أن حكم من سب الرسول أو انتقص من قدر الرسول أو تعدى وتجرأ على جناب الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يكون كافراً، وأنه يصير بما فعل مرتداً، وأظهرنا الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وإجماع أهل السنة. وأقول: إن الذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون مسلماً، فإن كان مسلماً وتعدى بالسب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يصير بالإجماع مرتداً، وهذا خلافاً للمتأخرين في عصرنا أو الذين يستغرب المرء لكلامهم عندما يقولون: هذا من سوء الأدب، أو من التعدي، أو يعذر بجهله، فهذا إرجاء محض. فالصحيح بإجماع الصحابة وإجماع التابعين: أن المسلم إذا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يكفر بذلك ويصير مرتداً، فبالاتفاق وبالإجماع يكفر، وبالاتفاق وبالإجماع أن حده القتل، لا بد أن يقتله ولي الأمر بسبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم اختلفوا فيما بينهم هل يستتاب أو لا يستتاب؟ لأن خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه لما سمع رجلاً يسب النبي صلى الله عليه وسلم قتله وقطع عنقه وما استتابه، كذلك -كما سنبين- قول عمر بن الخطاب وخالد للنبي صلى الله عليه وسلم: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فلم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل: لا بد أن نستتيبه وغير ذلك. ثم اختلفوا بعد هذا الاختلاف أيضاً: هل إذا استتابوه ثلاثة أيام فعرض عليه أن يرجع إلى الإسلام مرة ثانية، وأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن يتوب من هذا السب لرسول الله فتاب، فهل يقتل أيضاً أم يسقط عنه الحد؟! فهذا أيضاً خلاف نجم عند العلماء بعد الاستتابة أو قبل القدرة عليه، فهذا خلاف آخر أيضاً، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله، ونحن اليوم بصدد الحالة الثانية.

حكم المعاهد والمستأمن إذا سبوا النبي صلى الله عليه وسلم

حكم المعاهد والمستأمن إذا سبوا النبي صلى الله عليه وسلم الحالة الثانية: أن يكون معاهداً أو ذمياً أو مستأمناً ولم أذكر المحارب؛ لأن المحارب سواء سب أم لم يسب فقد أهدر الله دمه، المحارب مهدور الدم وليس له حرمة بحال من الأحوال، والحرمة تأتي: إما بطلب الأمان، وإما بالعهد: كمعاهدة دولة إسلامية مع دولة أخرى كافرة كصلح مثلاً، فهذا معنى المعاهدة، أو يكون بالجزية فينزل تحت إمرة المسلمين وتحت حكم أهل الإسلام. فنقول: هذه الحال الثانية -أن يكون مستأمناً أو معاهداً أو ذمياً- فلو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حكمه؟ هذه هي المسألة المعضلة بحق، فنريد أن نعرف حكمه إن كان ذمياً أو إن كان معاهداً، أو إن كان مستأمناً: كأن دخل بلدنا بتأشيرة الأمان بإذن ولي الأمر، ثم تعدى على رسول الله بالسب فهل حكمه أن ينتقض أمانه؟ أنا لا أقول: إن حكمه الكفر؛ لأنه كافر أصلاً، ولكن حرمة دمه كانت بأمور أخرى بينها الشرع، فالأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد باتفاقهم: أنه يقتل، وأن أمانه ينتقض، وأن عهده ينخرم، وأن عقد الذمة يبطل بذلك أو ينتقض بذلك، فهذا كلام الأئمة الثلاثة الفحول أساطين أهل العلم مالك والشافعي وأحمد على تفصيل في مذاهبهم، لكن اتفقت كلمتهم على أن من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجرأ على جنابه -بأبي هو وأمي- فإنه يقتل بذلك وينتقض أمانه وعهده، وخالف في ذلك أبو حنيفة رحمة الله عليه الإمام العظيم المبجل وقال: سب الرسول كفر، وهو كافر، فهذه لا تزيد على كفره كفراً أو نقول: حتى لو زادت فإنها تزيد في عذابه في الآخرة، فقال: لا ينتقض عهده بسبه للرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يقتل بذلك فهذا قول الأحناف، والراجح الصحيح هو قول الأئمة الثلاثة العظام: مالك وأحمد والشافعي، بأنه يقتل ويصير أمانه منتقضاً؛ لسبه للرسول صلى الله عليه وسلم وتعديه، وهذا واقع من ناحية الأثر والنظر.

الأدلة الواردة من القرآن على نقض عهد الذمي والمستأمن إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم

الأدلة الواردة من القرآن على نقض عهد الذمي والمستأمن إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم أما الدليل من الكتاب: فكل آيات سورة براءة تدل على أن من سب الرسول سواء كان مستأمناً أو معاهداً أو كان ذمياً فإنه ينتقض عهد الذمة.

قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر)

قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) أولاً: من الكتاب: قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] أولاً: نأخذ مقدمة حتى أبين وجه الدلالة من هذه الآية: إن الله جل في علاه بعدما مكن لرسوله صلى الله عليه وسلم بتأسيس الدولة الإسلامية في المدينة، وأمره بنشر دعوة الإسلام، وبعدما أمره أن يكف ويضع الجناح ويصدع بالحق باللسان فقط بعد ذلك أمره بالسيف وبالسلاح، كما قال الله جل وعلا: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193]. وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله). والكفار أصناف: فمنهم العتاة، ومنهم المتكبرون الذين يناهضون دين الله جل في علاه ويناصرون الكفر والباطل، ولا يرضون بدين الله جل في علاه، بل يرفعون السيف في وجه الإسلام وأهله، فهؤلاء لا كرامة لهم، وهؤلاء الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد دعوتهم للإسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم) إذاً: فلا عصمة للدم ولا للمال بعدم الدخول في الإسلام. كذلك: كان النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- يبعث السرايا ويقول: (اغزوا باسم الله، قاتلوا من كفر بالله)، فكان يأمرهم بالقتال بعد تأسيس الدولة الإسلامية، وبعدما ظهرت كلمة الله جل في علاه، وظهرت القوة في الأمة الإسلامية، فيقاتلون كل الكفار للدخول في الإسلام، فإن أبى أهل الكفر إلا المذلة والمهانة، وأن يتذللوا ويخضعوا للشيطان لا للرحمن فإن الله جل في علاه جعل لهم حرية المعتقد، لكن بذلة وصغار، وبشروط وقيود، قال: ((حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ))، فإن دعوتهم للإسلام فأبوا فعليك أن تدعوهم إلى أن يعطوا الجزية وهم صاغرون؛ لأنهم أبوا أن يكونوا أذلاء للرحمن، فأذلهم الله جل في علاه للشيطان، وأذلهم لعباد الرحمن، فهنا الله جل وعلا عصم دماءهم بشرطين وقيدين: أن يعطوا الجزية، ومع ذلك يكونوا في صغار وذلة، وبعض العلماء يرى أن إعطاء الجزية نفسه صغار، وهذا ليس بصحيح، وعند الجماهير: أنه لا بد من إعطاء الجزية مع القيود والشروط بالذلة والصغار، وهنا وجه الدلالة من هذه الآية العظيمة: ((حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ))، فالصغار والذلة يناقضهما سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو تجرأ الذمي على سب الرسول فهذا دليل على أنه ليس ذليلاً، بل دليل تكبره وعتوه وتجبره، سبوا رسولنا، وسبوا قدوتنا، وسبوا من نتأسى به، بل سبوا أكرم الخلق على الله جل في علاه، فهذا يعتبر منافياً لهذه الآية العظيمة، ولهذا الشرط والقيد الذي قيده الله جل في علاه في عصمة الدم، وكأن الله في هذه الآية يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت تقاتلهم حتى يدخلوا في دين الله أفواجاً، فإن أبوا عليك فاعصم دماءهم بأن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أي: في ذلة وصغار، فالصغار ينافيه ويناهضه ويناقضه سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فتكون هذه الآية فاصلة في النزاع، وظاهرة جداً في أن من سب الرسول ليس بصاغر، ومن ليس بصاغر لا تقبل منه الجزية. إذاً: فلا بد ألا نرفع عن رقبته السيف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم).

قوله تعالى: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم)

قوله تعالى: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم) الدليل الثاني من الكتاب: قل الله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12]، وهذه الآية عظيمة جداً، والاستدلال من الآية بوجوه عدة: الوجه الأول: أن تعريف إمام الكفر: هو الداعي لهذا الكفر، المناهض لدين الإسلام، ومن المناهضة: القتال، والسب والاستهزاء، ومنها الحط من قدر وجناب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإمام الكفر ألحق به السيف؛ لأن الله جل وعلا قال: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12]، ولم يتكلم على الأتباع، وإنما تكلم على الرءوس والأئمة بقطع الرءوس، قال: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12] فاستحق القتل واستحق باللزوم أن يكون إماماً للكفر من وجهين: الوجه الأول: نكث العهد. والوجه الثاني: الطعن في الدين، وأوفر حظاً أن يكون طعناً في الدين من يسب الذي أتى بهذا الدين، فسب الرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر طعناً في الدين. والوجه الثاني في الاستدلال بهذه الآية: قول الله تعالى: ((وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ))، نكثوا الأيمان، وطعنوا في دينكم، فكأن الله جل في علاه عطف الطعن في الدين على النكوث في الأيمان، فهذا العطف كما يسميه علماؤنا من باب عطف الخاص على العام، وأهل البيان واللغة يسمونه: تأكيداً، كما قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] فكل هذه المعدودات متاع الحياة الدنيا، ولذا قال في آخر الآية: ((ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) أيش المتاع الذي فصله؟ النساء، والبنين، والقناطير المقنطرة، والنساء، وكلها تعتبر فتنة من فتن الدنيا، وانظروا إلى كلام النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعلمون، فاتقوا الدنيا) يعني: فتن الدنيا، فقال: (اتقوا الدنيا) عموماً، ثم عطف الخاص على العام للتأكيد فقال: (واتقوا النساء) فكأنه قال: اتقوا النساء أولاً في عموم (اتقوا الدنيا)، ثم خصص، ولهذا قال العلماء: إن عطف الخاص على العام -لأن الخاص فرد من أفراد العموم- يدل على تأكيده، قال: (فاتقوا الدنيا) وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: وأخص من فتن الدنيا النساء؛ لأنها آكد ما يكون من الفتن، ونفس هذا الأمر في الآية، فقد قال الله تعالى: ((نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ))، ومن صور النكث: الزنا بالمسلمة، والتجسس على المسلمين، وإظهار عورات المسلمين للكفار، وإدخال الكفار في بلد المسلمين حتى يعبثوا بها، فكل ذلك نقض للعهد والأيمان، وأيضاً سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فكأن الله قال: ((نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ)) فهم يستحقون لقب أئمة الكفر، ويستحقون بهذا اللقب عقاباً وهو قطع الرءوس، فكأن الله يقول: ((نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ)) عموماً ثم عطف الخاص المؤكد فقال: ((وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ))، وأهم طعن في الدين وأوكد طعن في الدين هو: سب الرسول. فهذا الوجه الثاني. الوجه الثالث: قد يعترض معترض ويقول: لكن الحكم إذا تعلق بعلتين ذكرتا في الكتاب عطف أحدهما على الأخرى: ((وإن نكثوا إيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم))، فإن العطف يقتضي المغايرة، فنرد عليهم ونقول: وإن قلنا بقولكم إن حكم القتل مترتب على الاثنين فنحن نقول: إن نكث الأيمان والطعن في الدين بمجمله يكون مستوجباً القتل؛ فإن كل واحدة منهما علة مؤثرة، فنكث الأيمان علة مؤثرة؛ لأنها خيانة لله جل وعلا، قال: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58]، فالخيانة علة مؤثرة، وأيضاً الطعن في الدين علة مؤثرة، ولو قلنا: إنه بالعلتين يستوجب القتل فإن الطعن في الدين أكبر محرض على القتل، ونبين هذا بالآية التالية أو الدليل الثالث الذي سنبينه بأنه دليل على قتل من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قول الله تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ} [التوبة:13]، فهذه الآية العظيمة تبين أن الطعن في الدين أقوى تأثيراً من نكث الأيمان، قال الله تعالى: ((وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ))، فجعل الله المحرض على قتالهم: أنهم هموا بإخراج الرسول، وما أخرجوه، بل هموا بإخراج الرسول، فمن باب أولى ومن القياس الجلي: أن سب الرسول يكون محرضاً على قتل مرتكبه. فنحن نقول: إن كانت الآية تظهر لنا أن الهم بإخراج الرسول سبب في قتالهم وقتلهم فالطعن من باب أولى، ويكون هذا من باب القياس الجلي.

قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن)

قوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) الدليل الرابع: قول الله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61]، ففي سياق الآيات قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة:63]، فجعل إيذاء الرسول من المحادة لله ولرسوله، والمحادة عقابها القتل، فإذا قالوا لنا: أين دليلكم من الآية؟ قلنا: الدليل هنا منفصل، قالوا: ائتونا بالدليل المنقطع؟ قلنا: عندنا دليل أسطع من ضوء النهار، وذلك لما خاض المنافقون في عرض عائشة رضي الله عنها وأرضاها قام النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً على المنبر فخطب الناس وقال: (من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهلي أو بالغ في إيذاء أهلي؟) فقام سعد بن معاذ ولنعم الرجل سعد بن معاذ، فهذا الرجل له الحظ والمكانة عند رسول الله، وعند صحابة رسول الله بل له الحظ والمكانة عند الله جل في علاه، لقد اهتز عرش الرحمن فرحاً بقدوم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال سعد بن معاذ: (أنا أعذرك منه يا رسول الله! والله لو كان من إخواني الأوس أو الخزرج لنضربن عنقه، فقام سعد بن عبادة وقال: والله لن تستطيع. فقام أسيد بن حضير) فقال له سعد بن عبادة كلمة شديدة -وسعد بن عبادة سيد من السادات، وبار كريم وصاحب جليل- قال أسيد: والله لا أراك إلا منافقاً تجادل عن المنافقين. الغرض المقصود من هذه القصة بأسرها أنه قام سعد بن معاذ فقال: (يا رسول الله! أنا أعذرك منه أضرب عنقه) للعلة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وهي: أنه بلغ أذاه في أهل النبي، وهذا يعتبر إيذاءً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان إيذاء للنبي قام سعد بن معاذ فقال: أضرب عنقه، فأقره النبي، فكان الدليل هنا: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنق من آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان الدليل نص في مسألة المسلم لا المعاهد، لكنه يدخل في الآية بعمومها؛ لأن الله جل وعلا عمم وقال: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة:61] فبين أن إيذاء النبي فيه محادة لله ولرسوله، فالعقاب يكون بالقتل وضرب العنق لمن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي.

الأدلة الواردة من السنة على نقض عهد الذمي والمستأمن إذا سب رسول الله

الأدلة الواردة من السنة على نقض عهد الذمي والمستأمن إذا سب رسول الله أما الأدلة الواردة من السنة فهي كثيرة جداً، سنقتصر على بعضها: الحديث الأول -هو فاصل في النزع وحجة على الأحناف- حديث كعب بن الأشرف، وكان يهودياً عاتياً جباراً متكبراً وكان معاهداً للنبي صلى الله عليه وسلم في وقت ما كانت المدينة من القوة بمكان حتى يأخذ عليهم الجزية، ولكن كان بينهما مهادنة وموادعة، فكان كعب بن الأشرف يهجو رسول الله ويسبه؛ فقال النبي -وهذا وهو وجه الشاهد الذي سيأتي- صلى الله عليه وسلم: (من لـ كعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله؟) مع أنه ما سب الله وهذا الحديث يحتاج إلى تفسير، قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (من لـ كعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله؟) وكيف يؤذي الله وهو لم يسب الله جل في علاه؟ إنه آذى رسول الله، وإيذاء الرسول إيذاء لله جل في علاه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لـ كعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله؟ فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله! أنا له، لكن ائذن لي أن أتكلم فيك) يعني: أنه سيكلمني عليك وسأتكلم فيك فائذن لي، فقتله بعد أن جعل النبي صلى الله عليه وسلم دمه هدراً، فلما جاء اليهود قالوا: قتل غيلة، من الذي قتله غيلة؟ محمد بن مسلمة. جاء اليهود إلى رسول الله وقالوا: إن كعب بن الأشرف قتل غيلة، فطلبوا العهد منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه قد آذى الله ورسوله، ومن فعل ذلك منكم فليس له إلا السيف) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا وجه شاهد آخر. إذاً: فالنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله، أقره على ذلك وجعل دمه هدراً، وما أعطاهم الدية، ولما جاءوا يشتكون لرسول الله لم يسمع لهم صلى الله عليه وسلم أبداً، بل قال لهم: (من فعل ذلك منكم فليس له إلا السيف) فهذه دلالة واضحة جداً أن المعاهد ينتقض عهده، وأن المستأمن من باب أولى ينتقض أمانه، وأن الذمي ينتقض عهد ذمته إن سب رسول الله؛ والمسلمون في هذه الآونة كانوا في ضعف ومع ذلك نقضوا العهد، وقتل كعب بن الأشرف من أجل رسول الله بأبي هو وأمي.

حديث الأعمى الذي قتل الجارية لسبها النبي صلى الله عليه وسلم

حديث الأعمى الذي قتل الجارية لسبها النبي صلى الله عليه وسلم الدليل الثاني: رجل عجوز أعمى، وكان له أمة يحبها جداً، وكان يطؤها، فكانت تكفيه شهوة وعملاً وخدمة، وكان له منها ولد وكانت تغنيه في كل شيء، لكن كانت تسب رسول الله -بأبي هو وأمي- وكان ينهاها عن ذلك، فاستطالت مرة في عرض رسول الله وكررت ما تقول وزادت في إيذائها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عنده معول فبقر به بطنها فقتلها، ولما قام النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن قتل هذه المرأة قام الأعمى فقال: أنا يا رسول الله! لأنها كانت تفعل كذا وكذا، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمها هدر. وجه الدلالة في الحديث: أنه أهدر دمها وأقر قتلها، فمن باب أولى نقض الأمان والعهد، فليس هناك أو أمان أو ذمة طالما سب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد يورد الأحناف إشكالاً فيقولون: يظهر من هذا الحديث أنها كانت مسلمة، فيرد عليهم: أنه كان ينهاها وكانت تزيد، ووجه الدلالة: أنها لو كانت مسلمة ما كان للنهي فائدة وقت السب، وإنما تقتل مباشرة لأنها أصبحت مرتدة. المقصود: أنها لو كانت مسلمة لحظة السب لارتدت في وقتها، ولما جاز له أن يصبر عليها كل هذا الصبر، وينهاها مرة تلو المرة؛ لأنها لو كانت مسلمة لارتدت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من بدل دينه فاقتلوه) وإن كانت من النساء، خلافاً للأحناف، فلو كانت الأمة مسلمة لارتدت في الوقت ذاته، فدل ذلك على أنها كانت كافرة، فكان ينهاها مرة بعد مرة فلم تنته، فنقض عهد الأمان وقتلها.

قول ابن عمر: (ما على هذا أعطيناهم العهد)

قول ابن عمر: (ما على هذا أعطيناهم العهد) الدليل الثالث: وفيه انقطاع: عن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه مر براهب فأخبره أحدهم: إني سمعت هذا الراهب يسب رسول الله، فقال ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: لو سمعته لقتلته ما على هذا أعطيناهم العهد وهذا ظاهر جداً. وجه الدلالة: أولاً: أنه كان راهباً -هذا أول شيء- وليس مسلماً. ثانياً: أنه كان معاهداً فانتقض عهده بسب رسول الله؛ لذلك ابن عمر يقول: لو سمعته لقتلته، يعني: ولا أرجع إلى الولي، وفي هذا الزمان أصبحت هذه مسألة فقهية: فلابد أن يرجع لولي الأمر، وليس لأحد أن يتجرأ على هذه المسألة حتى لا يأتي بالمفاسد العظام التي لا يعلمها إلا الله جل في علاه؛ لأن مقاصد الشريعة تأبى هذا، وعليك دائماً أن تنظر إلى المصالح والمفاسد، فنقول: يقول ابن عمر بقوة: لو سمعته لقتلته ما على هذا أعطيناهم العهد. يعني: أنهم نقضوا عهدهم بسب الرسول صلى الله عليه وسلم. وأختم هذه الأدلة الأثرية بحديث أخير: وهو حديث أبي برزة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم استخلف أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فجاء رجل فسبه، فقام أبو برزة وأشهر سيفه فقال: دعني أضرب عنقه، كيف يسب الخليفة؟! فقال أبو بكر: مه! والله ما كانت إلا لرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا في وجود كثير من الصحابة، فأقروه على ذلك. وهذا كفر أيضاً، ولكن على التفصيل المعلوم، ومع هذا بين أبو بكر بأن سب الرسول ليس كسب أحد من الناس، فسب الرسول يستوجب القتل، أما سب غير الرسول فلن يستوجب القتل؛ لبيان التفرقة، ولذلك قال أبو بكر: مه! ما كانت إلا لرسول الله. وهذه يبين لك الإجماع في قوله: (ما كانت إلا لرسول الله) والصحابة يسمعون ذلك؛ فأجمعوا على كلام أبي بكر أن من سب الرسول يقتل، لكن الخلاف فيمن سب غيره. أما من النظر: فإن الكافر المعاهد لم يعطه ولي أمر المسلمين العهد والأمان والذمة إلا بشرط عدم إيذاء المسلمين؛ لأنهم سيطلبون منا الأمان لأنفسهم بشرط عدم إيذاء المسلمين، ولذا نبين لكم أنه لا يجوز أي مسلم دخل بلاد الكفر بعقد أمان أن يفجر أو يقتل؛ لأنه لو دخل بعقد الأمان فقد أعطاهم الأمان على أنفسهم، كما أعطوه الأمان على نفسه، فلا يجوز له ذلك. أما إذا دخل متخفياً في بطاطس، في بصل، في سيارة، أو أي شيء فهذه مسألة ثانية يتكلم فيها الكبار من العلماء، وإنما نبين لكم أن من لوازم إعطاء عقد الأمان: أن تؤمنه على نفسه بشرط أن يؤمنك على نفسك، ويؤمنك على عرضك فلا يصل منه الإيذاء لك، وأعظم الإيذاء هو: أن يؤذيك فيمن تتأسى به، أن يؤذيك في دينك، وأن يؤذيك في رسول الله المعظم المكرم المبجل بأمر الله لديك، فإن آذاك في رسول الله فلا أمان ولا عهد له، فلا بد أن يبلغه ولي الأمر مأمنه، ثم بعد ذلك يبين له أنه أصبح من المحاربين وليس من المستأمنين. هذه آخر الأدلة بإيجاز على الحالة الأولى وهي: حالة الكافر الذمي الذي له عقد الأمان أو المعاهد أو المستأمن إذا سب الرسول صلى الله عليه وسلم، فالراجح: أن حده القتل، ويبقى لنا الحالة الثانية وهي: المسلم إذا سب الرسول وفيها أمور ثلاثة، أولاً: حكمه. الثاني: حده، وإذا اتفقوا على أن حده القتل فهل يستتاب أم لا؟ الثالث: إذا تاب هل يسقط عنه حد القتل أم لا؟ هذا معترك واسع جداً، ولعله يأخذ منا أسابيع إذا قدر الله. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً.

حكم من سب الله عز وجل

شرح مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول - حكم من سب الله عز وجل إن عظمة الله في القلوب تجعل المسلم يخاف من التجرؤ على سبِّ الله تعالى، فإنَّ سبَّ الله سبحانه وتعالى، أو الانتقاص من قدره، أو الاستهزاء به، أو الشرك به شركاً أكبر هو كفرٌ صريح يخرج صاحبه من الملَّة؛ لأنَّ كل هذه الأمور سبٌ لله سبحانه وتعالى.

تنزيه الله عز وجل لنفسه ورسوله وعباده المؤمنين عن كل نقص وعيب

تنزيه الله عز وجل لنفسه ورسوله وعباده المؤمنين عن كل نقص وعيب إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: لقد ذهب أهل العلم بشرف الدنيا والآخرة، وإن لم يكن العلماء هم أولياء الله فمن يكون ولياً لربه جل في علاه؟!. مر الحافظ ابن حجر على يهودي كان يعمل بقالاً وكان الحافظ قاضي القضاة في ذلك العهد، وكان يسير في كوكبة عظيمة في قيمة وعظمة ومكانة شريفة، فنظر اليهودي متعجباً لمكانة الحافظ ابن حجر؛ فاستوقفه؛ فوقف، فقال له: بالله عليك أما يقول نبيكم: (إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، فما بالي أراك في جنة وأرى نفسي في سجن؟ انظروا إلى نباهة المحدث الفقيه الدقيق، وانظروا إلى دقة نظر الحافظ ابن حجر حيث قال له: نعم. والله إن الدنيا هي سجن المؤمن وجنة الكافر؛ لأن ما أنا فيه بالنسبة للنعيم الذي ينتظرني عند ربي جل في علاه سجن، وما أنت فيه بالنسبة للعذاب الذي ينتظرك عند ربك جل في علاه جنة. فالله جل جلاله له الكمال المطلق، والعظمة المطلقة، والجلال المطلق، والجمال المطلق، تقدست أسماؤه، فهو سبحانه جل في علاه له الأسماء الحسنى والصفات العلى. عظيم كملت عظمته، قدير كملت قدرته، عزيز كملت عزته، رحيم كملت رحمته، هو السيد كمل سؤدده سبحانه جل في علاه، والله جل في علاه نزه نفسه سبحانه قبل أن ينزهه عباده عن كل نقص وعيب، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، أي: نفى الله عن نفسه التعب والإعياء، وكذلك نزه نفسه عن النعاس والنوم، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)، وقال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم:88 - 91]، فهو سبحانه جل في علاه الواحد الأحد الفرد الصمد. وأيضاً في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)، فقد نزه الله نفسه عن الظلم، ونزهه رسوله صلى الله عليه وسلم عندما كان مع أصحابه وعلت أصواتهم فقال: (أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، ولكنكم تدعون سميعاً بصيراً)، سبحانه جل في علاه، وكثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسبح الله، ويعلم أصحابه إذا علو جبلاً أن يكبروا، وإذا نزلوا أن يسبحوا، حتى لا ينسب جل في علاه إلى نقص أو عيب. فدأب الصالحين والمؤمنين والمتقين أنهم يعملون بأوامر الله جل في علاه وينزهون ربهم جل في علاه عن النقائص، أما السفلة الرعاع الذين لا يعرفون حرمة لربهم سبحانه، ولا يقدرون الله حق قدره، فقد أنكر الله عليهم في كتابه أيما إنكار، فقال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، وقال الله جل في علاه: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] أي: لا تعظمون الله حق عظمته. ونحن بصدد تبيين حكم الذين يتجرءون على حرمة الله، وعلى تقديسه وكماله إن كان مسلماً، أو حكم من فعل ذلك إن كان ذمياً، وسنتكلم عن حكم من كان مسلماً وتجرأ على الله عز وجل، فمن سب الله أو انتقص من قدره، أو استهزأ به سبحانه فحكمه أنه كافر، وهذا الحكم دلت عليه الأدلة الكثيرة المتوافرة المتظافرة من الكتاب والسنة، وإجماع الملل والنحل وإجماع الأمة بأسرها من أهل البدع وأهل السنة والجماعة، وهو معلوم من الدين بالضرورة. أما الأدلة فمنها ما هو صريح، ومنها ما هو أولوي، ومنها ما هو بالإشارة والتلميح.

الأدلة الصريحة على كفر من سب الله

الأدلة الصريحة على كفر من سب الله من الأدلة الصريحة على كفر من سب الله: قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ} [التوبة:65 - 66]، فالشاهد قوله: ((قَدْ كَفَرْتُمْ)) فالله جل وعلا وصفهم بالكفر؛ لأنهم يستهزءون برسوله كما مر في الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الأدلة الصريحة: قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57]، الشاهد: ((لَعَنَهُمُ اللَّهُ)) واللعن: هو الطرد من رحمة الله جل في علاه، فمن طرده الله من رحمته فلا راحم له غيره سبحانه. فهذه آية صريحة على أن من يؤذي الله جل في علاه بأن ينتقص من قدره، ويستهزئ بالذات المقدسة، فهو ملعون مطرود من رحمة الله جل في علاه، لكن هل الإيذاء كالضر أم لا؟ قال الله جل في علاه في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري)، فالضر لا يصل إليه سبحانه، لكن الأذى يصل إليه سبحانه، والدليل على ذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت أحداً أصبر على أذى من الله، يسبونه، يدعون له الولد وهو يرزقهم ويعافيهم). الآية الثالثة المصرحة بكفر من آذى الله أو استهزأ به أو انتقص من قدره: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة:20]، هذا هو الحكم، ولا يكون في الأذلين إلا من اشتد كفره وتعاظم، فهذه آية صريحة في الدلالة على كفر من يحاد الله جل في علاه بالاستهزاء أو بالانتقاص من قدره سبحانه. أيضاً من باب أولى قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154]، تفسرها الآية الأخرى وهي أعظم منها دلالة: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح:6]، فهذه آية صريحة جداً في أن الذي يظن في الله ظناً سيئاً كالذي يقول: لماذا يا رب تظلمني؟! يعني: فهو يظن أن الله يظلمه. أيضاً من الأدلة التي تثبت كفر من يتجرأ على الله جل في علاه: قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، في هذه الآية تصريح على أنَّ من جعل الله ثالث ثلاثة فقد كفر؛ لأنَّ في ذلك شتماً لله عزَّ وجل؛ لأنهم يجعلون له نداً، ويجعلون له ولداً، ففي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، ثم قال: ويشتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، ثم قال: فأما شتمه إياي فإنه قال: لي ولد، وأنا الواحد الأحد). وهذه دلالة صريحة أنَّ من جعل الواحد ثلاثة فقد كفر؛ لأن في ذلك شتماً لله وانتقاصاً لعظمته، واستهزاء بمكانته العليا سبحانه جل في علاه، وتعالى عن قول الظالمين علواً كبيراً. فهذه آيات صريحات في كفر من يسب الله جل في علاه.

الأدلة على أن التلميح بسب الله كفر

الأدلة على أن التلميح بسب الله كفر إن الله عز وجل لعن قوماً وسخط عليهم، وأنزل عليهم العذاب الأليم في الدنيا قبل الآخرة؛ لانتقاصهم من عظمة الله جل في علاه تلميحاً لا تصريحاً، وذلك عندما نسبوا الفقر لله جل في علاه، فهؤلاء كفرهم الله، فما بالكم بمن يسب الله سباً صريحاً؟! قال الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران:181 - 182]، وعذاب الحريق والخلود لا يكون إلا لمن كفر بالله جل في علاه، فهذه كلها أدلة متوافرة متظافرة على كفر من سب الله جل في علاه.

الأدلة من السنة على كفر من سب الله جل وعلا

الأدلة من السنة على كفر من سب الله جل وعلا هناك أحاديث كثيرة تثبت أن سب الله كفر، فكل حديث فيه أن الشرك بالله كفر لك أن تستدل به على أن سب الله كفر، ومن ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد)، فأيُّ حديث صرَّح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ الشرك كفر؛ فهو دليل على أنَّ سبَّ الله كفر، وبيان ذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الله جل في علاه وصف كثيراً من الناس بالكفر؛ لأنهم لم ينسبوا النعمة لبارئها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال ربكم: أصبح من عبادي مؤمن بي كافر بالكوكب، وكافر بي مؤمن بالكوكب، أما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فهذا كافر بي مؤمن بالكوكب)، وهذه دلالة صريحة على أن من نسب النعمة لغير بارئها سبحانه جل في علاه كفر، وهو كفر أكبر بالاعتقاد، وكفر أصغر إذا جعل النوء هو السبب. إذاً: فالذي ينسب النعمة لغير بارئها يكفر بذلك. كل هذه الأدلة دلالة على أن من سب الله فقد كفر، وكل حديث صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالكفر سواء كان في العمل شرك أصغر أو شرك أكبر فهو دليل على أن السب كفر، والسب أغلظ وأعظم من الشرك، فإذا سمى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم الشرك شركاً فالسب أغلظ، ويكون من باب أولى أن يسمى شركاً، والدليل على ذلك: أن الله نهى المؤمنين أن يسبوا آلهة المشركين؛ لأن المشركين سيقعون فيما هو أفحش وأغلظ وأقبح من الشرك الذي هم عليه، ألا وهو التجرؤ على الذات العالية. قال الله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108]، أي: أنهم سيقعون في أفحش ما يكون وأظلم ما يكون وأقبح ما يكون، ألا وهو سب الذات العالية.

الإجماع على كفر من سب الله تعالى

الإجماع على كفر من سب الله تعالى أجمعت الأمة بأسرها أن من سب الله جل في علاه يكفر بذلك ويخرج من الملة، ويعتبر ردة صريحة، وقد اختلف العلماء في مسألة الردة هذه، وهذه المسألة الثالثة التي سنتكلم عنها.

من صور سب الله سبحانه وتعالى

من صور سب الله سبحانه وتعالى إنَّ صور سب الله جل في علاه كثيرة جداً، ومن باب الأدب مع الله فلن نفصل فيها، بل نمر عليها إجمالاً. وسب الله قد يكون سباً صريحاً، وهذا يحدث في كثير من البلاد العربية وخاصة في بلاد الشام، نسأل الله أن يردهم إليه رداً جميلاً، وأن يحفظنا جميعاً من الفتن ما ظهر منها وما بطن. فكثير من الناس يتجرءون على الله جل في علاه بالسب الصراح، وهذا كفر محض ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فتراه يسب الله ثم يذهب ليفجر نفسه في عملية والله المستعان! ومن صور انتقاص قدر الله تعالى تلميحاً أو تصريحاً تلك الرسومات المتحركة، حيث إنَّ بعض الرعاع السفلة يرسمون ناراً والناس فيها يصرخون ويتألمون، وهناك رجل تحتهم في الدرك الأسفل، وفيهم رجلٌ يمسك حمية يشربه واضعاً رجلاً على رجل، والذي ينظر الرسم يتعجب من أناس يصرخون من الألم، وهذا الرجل الذي يمسك حمية لا يشعر بألم، ويشرب حمية أيضاً، وينسبون ذلك إلى الله عز وجل! فهؤلاء يحسبون أنهم ليسوا على خطر، مع أنهم ولجوا في الكفر من أوسع أبوابه، فنسأل الله جل وعلا أن يحفظنا ويحفظ ألسنتنا ويحفظ أقلامنا من هذه التراهات.

أقوال العلماء في حد من سب الله تعالى وأدلتهم

أقوال العلماء في حد من سب الله تعالى وأدلتهم إن حكم من سب الله أنه يكفر وحده القتل بالاتفاق، وهناك أدلة كثيرة جداً قد مرت في (الصارم) في الكلام على سب الرسول صلى الله عليه وسلم، منها: قول الله تعالى: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]. وهناك دليل آخر في الكتاب، وهو: قول الله تعالى عن المنافقين: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:61]. وأيضاً رأس الأدلة: ما رواه البخاري من حديث عكرمة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، فاتفق كل العلماء على أن حد من سب الله هو القتل، واختلفوا بعد ذلك، هل يطابق حكمه حكم الردة مطابقة كلية، أم هي حالة خاصة من الردة؟ اختلف العلماء في ذلك على أقوال ثلاثة: القول الأول: يقتل بكل حال ولا يستتاب، فإن تاب لم تقبل توبته. وهذا مذهب الحنابلة والمالكية. القول الثاني: يستتاب ويعامل معاملة المرتد، فإن تاب قبلت توبته وسقط القتل سواء في سب الله أو سب رسوله، وهذا مذهب الشافعية والأحناف ورواية عن أحمد، وهو قول الجمهور. القول الثالث: هو التفريق والتفصيل، فقالوا: نفرق بين الله وبين رسوله، فمن سب الله جل في علاه فتاب قبلت توبته وسقط القتل، ومن سب الرسول صلى الله عليه وسلم فتاب لم تقبل توبته، ولم يسقط القتل، أو نستتيبه فيتوب حتى لا يقتل ردة فيقتل حداً. فأقول: قال الشافعي ورواية عن أحمد والأحناف: إذا تاب قبلت توبته وسقط القتل، أما التفريق عند بعض الشافعية وبعض الحنابلة فقد رجَّحوه بالإسلام، قالوا: إذا تاب من سب الله جل في علاه قبلت توبته وسقط القتل، وإن تاب من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلت توبته لكنه لا يسقط عنه القتل بحال، بل لا بد أن يقتل ردعاً وزجراً حتى لا يتجرأ أحد على أن يسبَّ عرض النبي صلى الله عليه وسلم.

أقوال العلماء في حكم من سب الله ورسوله

أقوال العلماء في حكم من سب الله ورسوله أدلة الأقوال الثلاثة: دليل القول الأول الذين قالوا بأن من سب الله وسب رسوله هو كافر ويجب قتله دون الاستتابة، وهؤلاء لهم حظ من الأثر والنظر. أما من الأثر: فقد قالوا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه)، والفاء للتعقيب، وليس ثمة مهلة ولا تراخ، وهذا في الردة فما بالكم بأغلظها وهو التجرؤ على الذات الإلهية المقدسة فوجب القتل دون الاستتابة. دليل القول الثاني وهم الشافعية والأحناف ورواية عن أحمد الذين قالوا: تقبل التوبة ويعامل معاملة المرتد، قالوا: (من بدل دينه فاقتلوه)، الفاء للتعقيب، لكن الصحابة الذين هم أعلم الناس برواية النبي صلى الله عليه وسلم وبمراده قد طبقوا الاستتابة في المرتدين، فإن عمر بن الخطاب عندما أرسلوا له في رجل قد ارتد فقتلوه دون استتابة قال: (اللهم إني لم أشهد ولم أرض). دليل القول الأول من النظر: قالوا: غِلَظُ هذه الردة في سب الذات الإلهية، أو سب عرض النبي صلى الله عليه وسلم يجرئ السفلة الرعاع على الله وانتهاك حرمته وانتهاك حرمة النبي صلى الله عليه وسلم، والواجب أن نمنع الألسنة من التجرؤ على الله أو على الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا القول له قوة وحظ من النظر. ودليل القول الثاني من النظر أنهم نظروا إلى مقاصد الشريعة وقالوا: الشرع ينظر إلى العتق وينظر إلى الحرية، ويأمر بعتق الرقبة، فهل هناك أعظم رقّاً من الكفر؟! والله جل في علاه أرحم بالعبد من أمه ومن نفسه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟ قالوا: لا، قال: لَلَّهُ أرحم بالعبد من هذه الأم بولدها)، فالله أرحم بالعباد من أنفسهم وأمهاتهم فهو القائل سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]، (والله جل في علاه أفرح بتوبة العبد من فرح العبد عندما رجعت إليه دابته وعليها طعامه وشرابه)، كما في الحديث المشهور. إذاً: من مقاصد الشريعة، أن الشرع يفتح الأبواب لكل كافر أن يدخل في الإسلام، بل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للعالمين، لدعوة الناس أجمعين؛ وليدخلوا في دين الله أفواجاً، فلا بد أن نفتح لهم الباب حتى يتوبوا ويسقط عنهم القتل، وهذا كلام قوي. دليل القول الثالث: التفصيل عند بعض الشافعية وبعض الحنابلة الذين قالوا: التفريق والتفصيل بين الله وبين رسوله، وهؤلاء لهم أدلة كلها من النظر قالوا: الأصل في حق الله المسامحة، كما جاء في الحديث: (من تاب تاب الله عليه)، وقوله: (وإن تقرب إلي عبدي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة). فهذا دليل على أن الأصل في حق الله: المسامحة. وأيضاً التجرؤ على الله لا يقلل من هيبة الله وعظمته في القلوب؛ لأن من يتجرأ على الله جل في علاه يعلم أن الله قد يصيبه بالعمى، أو بالموت، أو بتحقير الناس له. فإبليس لما أعلن سوء الأدب مع الله تعالى أوجب الله عليه اللعنة، والجميع يعلم أن الله قادر على كل شيء، إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون. أما إبليس فقد قص الله علينا سوء أدبه معه كما قال الله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الإسراء:61 - 62]، إلى آخر الآيات. فإبليس يقدح في حكمة الله جل في علاه، فلسان حاله: ليس من الحكمة ولا من العدل أن يسوي الله بين النار والطين، قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]. ولم يتجرأ كثير من الكافرين على أن ينتقصوا من قدر الله، فهم يشركون بالله اعتقاداً منهم أنها ديانة وليست مسبَّةً ولا انتقاصاً، فالذين يعبدون الأصنام يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، فهم يعظمون الله ولا يتجرءون على التنقيص من قدر الله ولا الاستهزاء بالذات المقدسة، فقالوا: حرمة الله في القلوب معظمة. أما بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم فالأصل في حقه أنه حق آدمي، وهذا الحق لا يسقط إلا إذا أسقطه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم نجد النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فإنه لا يسقط، والدلالة على ذلك ما جاء في الصحيح: (أن رجلاً غائر العينين دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! اعدل فإن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فقام خالد بن الوليد وقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق)، فهذا الرجل قدح في عدالة النبي صلى الله عليه وسلم، وارتدَّ بذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط حقه؛ لأن له أن يسقط حقه وهو موجود، لكن لما كان النبي صلى الله عليه وسلم غير موجود بين أظهرنا لم يسقط حقه، فاستحق منتقصه القتل. إذاً: الأصل في حق الله جل في علاه المسامحة، وأن من تاب تاب الله عليه، وأن من أتى بقراب الأرض خطايا ثم استغفره سبحانه غفر الله له. فهذا التفريق تفريق بديع، وأنا أميل إلى القول الثاني، لولا أن القول الثالث وقوته في حفظ جناب النبي صلى الله عليه وسلم قد ألجأني إلى أن أقول: إن الراجح في هذه الأقوال هو القول الثالث الذي فيه التفريق بين من سب الله وسب رسول الله، فمن سب الله فتاب تاب الله عليه ويسقط عنه القتل، وأما من سب رسول الله فإننا نستتيبه وندعوه إلى التوبة، فإن تاب قتلناه حداً لا ردة، حفظاً لجناب النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه ليس بين أظهرنا حتى يسقط حقه، وأن الأصل في حق الله جل في علاه المسامحة، ولن تصيب الله معرة من سب أحد من الرعاع السفلة، والتجرؤ على ذاته المقدسة.

الأحكام المترتبة على من سب الله وكفر بذلك

الأحكام المترتبة على من سب الله وكفر بذلك إذا حكمنا بكفر من سب الله جل في علاه ترتب على ذلك عدة أحكام: أولاً: تبين منه زوجته ويفسخ العقد؛ لأن النكاح يصبح باطلاً، واختلف العلماء فيما إذا أسلم هل يردها بعقد أم بغير عقد؟ وهل لها عدة أم لا؟ على قولين: القول الأول: لا عدة، الثاني: وهو الصحيح الراجح ما رجحه الشافعية ومن نحا نحوهم بأن العدة قائمة، وأن بينه وبينها عدة، فلو أسلم وقد انقضت العدة، فعليه أن يتقدم للزواج منها بمهرٍ جديد وعقدٍ جديد، أما إذا أسلم في وقت العدة فله أن يردها بغير عقد. ثانياً: أنه لو مات لا يدفن في مقابر المسلمين ولا يصلى عليه. ثالثاً: لا يرث من المسلم ولا يورث، ويكون ماله فيئاً لبيت مال المسلمين.

حكم سب الأسباب كالدهر والريح

حكم سبِّ الأسباب كالدهر والريح من سب الدهر أو سب الريح فإنه لا يكفر بذلك؛ لأنه لم يسب الله صراحة؛ ولأنه لم يقصد السب لله جل في علاه، والنبي صلى الله عليه وسلم لما نهى عن سبِّ الريح لم يقل: إنه كفر، ففي الحديث الصحيح: (لا تسبوا الريح)، وأما الحديث الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (قال الله تعالى: لا تسبوا الدهر، فمن سب الدهر فقد كفر) فهو حديث موضوعٌ ومكذوبٌ على النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث الصحيح هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: لا تسبوا الدهر، فأنا الدهر أقلب الليل والنهار)، وقال: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار). ولم يذكر الكفر فيه. فمن سب الدهر أو سب الريح أو سب الأسباب فإنه لا يكفر بذلك، لكنه على خطر عظيم وعلى شفا هلكة؛ لأنه يتخذ ذلك ذريعة ووسيلة إلى أن يتجرأ على الذات العليا، فالله هو الذي سبب الأسباب؛ وهو الذي خلق الريح؛ وهو الذي يقلب الليل والنهار، وهذه مسألة مهمة للتفريق بين من يسب الله، وبين الذي سب الأيام أو الليالي أو الريح. فالذي يسب الأيام والدهر والريح لا يكفر وهو على خطر عظيم، لكن إذا قلنا باللازم فإنه يصبح من الممكن أن الإنسان يكفر، وهذه قاعدة عند علمائنا يعملون بها بفضل الله سبحانه وتعالى دائماً، فيقولون: لازم القول ليس بقول إلا أن يحدث الإقرار من صاحب القول بذلك، فنقول له: لازم قولك أنك تسب الله، فإن التزم هذا القول نقول له: قد كفرت بذلك وإلا فلا.

حكم الذمي الذي سب الله عز وجل

شرح مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول - حكم الذمي الذي سب الله عز وجل مما لا يختلف فيه اثنان، ولا ينتطح فيه عنزان، أن من سب الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة، وقد اختلف في استتابته، أما الذمي الذي ينضوي تحت راية الإسلام فإنه يقتل صراحة إذا استهزأ بالله أو برسوله، أما إذا كان كلامه نابعاً مما يعتقده فهذا مختلف فيه، والراجح أنه لا يقتل.

حكم الذمي الذي سب الله جل في علاه

حكم الذمي الذي سب الله جل في علاه إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: اعلموا أيها الإخوة الكرام! أن الرزق رزقان: رزق أبدان، وزرق قلوب، ورزق القلوب هو أرقى الأرزاق، والله جل في علاه يصطفي من عباده من يشاء لرزق القلوب، وأرقى ما يكون من رزق القلوب: هو معرفة الله، ولا تكون معرفة الله جل في علاه إلا بطلب العلم، والنبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن هذا الرزق العظيم (رزق القلوب) هو الذي يستجلب رزق الأبدان. فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أخي يأتي مجالسك، وأنا أكد وأعمل وأنفق عليه، فلم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الموضوع الذي تتناوله الألسن عند العوام: اليد العاملة أفضل من اليد البطالة- بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه فلعلك ترزق به) يعني: فلعل الله جل وعلا يفتح لك أبواب الرزق بطلبه للعلم مع طلبة العلم. ومع مشارف الانتهاء من هذا الكتاب العظيم وهو من أنفع ما كتب شيخ الإسلام رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء: كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول. فأقول: سب الله كفر إن كان من المسلم، فما هي الأدلة على أن من سب الله جل في علاه كفر كفراً أكبر مخرجاً من الملة؟ A قال الله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66] ووجه الشاهد: هو تصريح الله عز وجل بكفر هؤلاء، والذي جعلهم يوصفون بهذا الوصف هو الاستهزاء كما قال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65] والاستهزاء من السب. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [الأحزاب:57]. إذاً! فمن سب الله تعالى فحكمه كافر مرتد عن الإسلام وهذا ملخص الإجابة. وقد اختلف العلماء في استتابته وقتله، وهذه المسائل فارقة في باب الولاء والبراء، وفارقة بين أهل الإيمان وأهل الكفران، والراجح: أنه يستتاب، فإن تاب قبلت توبته وسقط عنه القتل بخلاف من سب النبي صلى الله عليه وسلم فإن توبته تقبل لكن القتل لا يسقط عنه.

ضابط أهل الذمة وحكم سب الذمي لله عز وجل

ضابط أهل الذمة وحكم سب الذمي لله عز وجل وإكمالاً لهذه المسألة، فما حكم سب الذمي لله جل في علاه؟ ومفهوم الذمية: أنه عقد على مال مقابل مال بين الذمي وبين ولي أمر المسلمين، فنسأل الله أن يسدد ولاة أمور المسلمين للعمل بدينه ولنصرة كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهو عقد بين ولي أمر المسلمين مع أهل الكفران الذين يحسنون القول في المسلمين ولا يحاربونهم، وأرادوا أن ينضووا وينزلوا تحت راية الإسلام وتحت أحكامه على جزية سنوية، وهو خاص عند الحنابلة والشافعية بأهل الكتاب فقط، وقد يلحقون المجوس بأهل الكتاب. فنعلم إذاً أن الشافعية والحنابلة يرون أن ولي الأمر هو الذي يعقد مع أهل الكتاب، وأهل الكتاب: هم اليهود والنصارى على جزية سنوية، وذلك لقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فوصفهم الله جل وعلا في هذه الآية وصفاً مقيداً حيث قال جل في علاه: ((مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ))، فأهل الكتاب هم الذين نعقد معهم عقد الجزية فقط. فإن قيل: فكيف ألحقنا المجوس بأهل الكتاب، مع أن المجوس يعبدون النار، وأهل الكتاب يعبدون الله جل في علاه على دخن فيهم؟ ف Aبأن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق المجوس بهم، فعندما سألوه عن المجوس قال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)، ففيه دلالة واضحة على أن الذمة تكون خاصة في أهل الكتاب، أما المجوس فهي في حقهم عقد على مال سنوي بشرط أن يحفظ لهم الدم والعرض والمال.

الفرق بين الذمة والعهد عند الشافعية والحنابلة

الفرق بين الذمة والعهد عند الشافعية والحنابلة والشافعية والحنابلة يفرقون بين العهد والذمة، فالعهد عام عندهم في كل أحد من أهل الكتاب أو غير أهل الكتاب، ويرجع لولي الأمر إن رأى المصلحة مثلاً في الصلح بينه وبين أهل الكفر للانتفاع بهم، فهذه المصالح ترجع إلى تقرير ولي الأمر. أيضاً: ففيها عقد على مقابل هو يقدره، كما كان يفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه مع التجار، وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب أيضاً عندما ضرب عليهم الجزية، وبين هذه الشروط المشهورة: بالشروط العمرية. إذاً: فالذمي: هو من نزل وانضوى تحت راية الإسلام وتحت حكمه بشروط الإسلام وشروط ولي الأمر مقابل الجزية السنوية. ومن هذه الشروط: أنه يتعبد في مكانه بحيث لا يظهر هذا التعبد، ولا يؤذي المسلمين في دينهم، في شروط كثيرة جداً. وأهم هذه الشروط: ألا يظهر كفراً بين المسلمين، فإذا دخل وانضوى تحت راية المسلمين فتجرأ وسب الله جل في علاه فما هو حكمه؟ أقول: إننا لا نبحث في مسألة الذمي عن الكفر والإيمان، بل البحث فيها يقتصر على عصمة الدم والمال، فإذا تجرأ الذمي فسب الله جل في علاه فإنه يصبح بذلك حلال الدم والمال، أي: أن ماله يصبح فيئاً للمسلمين وهذا بالإجماع، ولا ترجع حلية الدم والمال لآحاد المسلمين، بل المسألة ترجع لولي الأمر فهو الذي يطبق الحكم حتى لا تنتشر المفسدة بين الناس.

أحوال الذمي في سب الله جل في علاه وحكم كل حالة

أحوال الذمي في سب الله جل في علاه وحكم كل حالة ثم لا بد أن نبين أن هذه المسألة المهمة تتعلق بها حالتان: الحالة الأولى: أن يسب الله جل في علاه تديناً لا قصد الاستهزاء أو التنقيص من عظمة الله جل في علاه، بل هو يتعبد بذلك كما يفعل اليهود والنصارى، وهم يقولون: بسم س، بسم ص، بسم ع، في ثلاثة أسماء يسمونها، وأيضاً: ينسبون عيسى لله، أو ينسبون عزيراً لله، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]. وقال أيضاً: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] وهذه آيات باهرات تبين ذلك، لكنهم يتدينون بذلك، فهذه الحالة الأولى. أما الثانية: فهي التنقيص من قدر الله جل في علاه استهزاءً لا تديناً والعياذ بالله، قصداً وتجرؤاً كما فعلت اليهود عليهم سحائب اللعائن عندما قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64] وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] وزعموا: بأن الله عندما خلق الأرض وخلق آدم وخلق الخلق ونظر لفعلهم بكى، نعوذ بالله من غضبه وعقابه، وكأنه يجهل ما الذي سيحدثه خلقه فشبهوه بالمخلوق، فقالوا: إنه بكى حتى أرمد والعياذ بالله، وهذا يعتبر مسبة كبيرة وتنقيصاً من قدر الله جل في علاه وهذه الحالة الثانية. وقد اختلف العلماء في حكم الحالة الأولى على قولين: القول الأول: قول الشافعية والأحناف وجمهور الحنابلة، فقالوا: إن عقد الذمة باق على ما هو عليه، وأن قوله هذا لا يعد سباً؛ لأنه لا ينتقص من قدر الله ولا يقصد ذلك، بل هو يعتقد تعظيم الله بما يفعل وإن كان هو في الحقيقة تنقيص من قدر الله جل في علاه، ولذلك فإن عقابه هو الخلود في النار أبداً، لكن الذمة باقية على ما هي عليه، ولا ينتقض العهد بذلك ولا يعتبر ذلك سباً، بل لا يزال معصوم الدم والمال في حالة التدين بذلك، وهذا هو الراجح الصحيح. أما الحالة الثانية: وهي تعمد الاستهزاء والتجرؤ والتنقيص من قدر الله جل في علاه، فقد اتفق العلماء على أن العهد أو الذمة تنتقض بذلك، وأنه يكون حلال الدم والمال، واختلفوا في استتابته على ثلاثة أقوال: القول الأول: إنه يعامل كمعاملة المسلم في ذلك فيستتاب فإن دخل في الإسلام أو رجع إلى مسألة الذمة. والقول الثاني: إنه لا يستتاب، بل يقتل عند التمكن منه فقط، فإن أسلم قبل التمكن منه سقط القتل عنه، وهي تشبه مسألة سب المسلم لله جل في علاه، وهذا قول الشافعي وجمع من أهل العلم. والقول الثالث: وهو قول المالكية، وظاهر قول أحمد: بأنه لا يستتاب، وحكمه القتل فوراً ولو أسلم بعد ذلك؛ لأن الله جل في علاه قد بين أن حكم المحارب له ولأوليائه القتل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ} [التوبة:123] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]. وقال الله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] فلا بد أن يقتل عملاً بعموم هذه الآيات القارعات التي تأمر المسلمين بقتل أهل الكفر. قلنا: إذا كان هذا حكمه فقتله لولي الأمر وليس لآحاد المسلمين، وهذه المسألة لها تفصيل آخر، والله أعلم.

حكم من سب نبيا من الأنبياء

حكم من سب نبياً من الأنبياء وتبقى في هذا الباب مسألة واحدة: وهي أنه إذا قلنا بأن سب الله أو النبي صلى الله عليه وسلم كفر، فهل سب الأنبياء مثل سب النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ يعني: هل إذا تجرأ أحدهم على النيل من عرض النبي صلى الله عليه وسلم كان كمن يتجرأ على عرض عيسى ونوح وموسى عليهم السلام في الحكم أم لا؟ فقد يتجرأ بعض هؤلاء الأوباش على النبي صلى الله عليه وسلم فيقوم بعض الجهلاء بسب عيسى عليه السلام انتقاماً للنبي صلى الله عليه وسلم بزعمهم، وهذا جهل عميق؛ فإن الله جل في علاه يأبى أن تنتهك أعراض أنبيائه بحال من الأحوال، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء:150 - 151]، فأحاط بهم الكفر من جميع الجهات، وقال جل في علاه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، مع أنهم كذبوا لوطاً فقط، ومع ذلك عمم الله جل في علاه وقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]؛ لأن القدح في رسول واحد قدح في جميع الأنبياء والمرسلين، وأعراض الأنبياء كعرض نبينا صلى الله عليه وسلم، فمن سب عيسى أو موسى أو غيرهما من الأنبياء فقد كفر وخرج من الملة.

حكم الخوض في عرضه صلى الله عليه وسلم

حكم الخوض في عرضه صلى الله عليه وسلم يبقى لنا أن نتكلم على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قلنا بحرمة عرض النبي صلى الله عليه وسلم فسنقول بحرمة الكلام على النبي صلى الله عليه وسلم على نفس الخلاف. فنقول: عرض النبي صلى الله عليه وسلم لا بد أن يكون محفوظاً، وهذا يتمثل في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فأزواج النبي صلى الله عليه وسلم هن الفضليات الكريمات الصالحات العابدات القانتات أمهات المؤمنين والمؤمنات رضي الله عنهن أجمعين. وقد جعل الله جل في علاه مكانتهن بمكانة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32]؛ لأنكن تتفوقن على جميع النساء. وقال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب:6] حتى إن فاطمة تقول لـ عائشة أم المؤمنين: يا أمي! مع أنها تكبر عائشة بثمان سنوات؛ وما هذا إلا لأنها أم المؤمنين رضي الله عنها وعن فاطمة. والغرض المقصود: هو أن الله جل في علاه جعل لهن المكانة العالية، فمن تجرأ على عرض واحدة منهن وبالذات على عائشة فقد كفر؛ لأنها مبرأة من فوق سبع سموات، وقد خاض المنافقون في عرضها، فأنزل الله براءتها من فوق سبع سموات فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:23] إلى أن قال: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26] والمقصودة بهذه الآية وبالإجماع: عائشة رضي الله عنها وأرضاها؛ (لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي تبكي فتصبب عرقاً ونزل عليه الوحي فقرأ الآيات وقال لـ عائشة: أبشري فإن الله قد برأك من فوق سبع سموات، فقالت أم رومان: قومي فاحمدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله لا أحمد إلا رب محمد صلى الله عليه وسلم فذهبت وسجدت لله شكراً). فمن تجرأ على عرض عائشة رضي الله عنها وأرضاها فقذفها بالزنا، أو كما يفعل الرعاع مثلاً فيسمون البقرة بهذا الاسم فهو كافر كفراً أكبر يخرج من الملة وكفره ظاهر جلي، وأقول زيادة على ذلك: إن من لم يكفره فهو كافر، فمن سمع أحداً يقذف عائشة في عرضها رضي الله عنها وأرضاها وسكت دون خوف أو إكراه واستطاع الرد فلم يرد فهو كافر خارج من الملة فضلاً عن الذي قذف عائشة رضي الله عنها وأرضاها. والدلالة على ذلك من وجهين: الوجه الأول: هو تكذيب الله جل في علاه، فمن قذف عائشة بفعل الفاحشة فقد كذب الله، والله جل في علاه يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]. ويقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، فإن الله جل في علاه هو الذي برأها بقوله: {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26]. فالوجه الأول في تكفير من وقع في عرض عائشة: هو أنه كذب الله جل في علاه. والوجه الثاني: أنه تجرأ على عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فآذى رسول الله، وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً في الناس -عند ما سمع الكلام على عائشة من عبد الله بن أبي بن سلول - فتكلم عن رجل يسبه في عرضه وفي زوجه وما علم عن زوجه إلا الخير، فقام أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله! إن كان منا ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا أشرت إلينا ماذا نفعل فيه، فقام سعد بن عبادة فقال: لا والله لا تستطيع قتله، فقام أسيد فقال له: والله إنك لمنافق تجادل عن المنافقين، فكاد الحيان أن يقتتلا من أجل هذه المسألة. والشاهد فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بلغني الإيذاء في أهلي) فالإيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم كفر كما بينا من صريح قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [الأحزاب:57] واللعن: هو الطرد من رحمة الله جل في علاه. أما سائر أمهات المؤمنين والباقيات الفضليات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقد اختلف العلماء في حكم من تجرأ عليهن، وهذا الخلاف ضعيف، والحق أن يقال: إن الحكم هذا يجري على الباقي من نسائه صلى الله عليه وسلم، وإنما خصصت عائشة بالذكر لأن المنافقين خاضوا فيها، فمن تكلم في أي امرأة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر؛ لأنه أوصل الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم، فالفارق إذاً: بين سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبين عائشة: أن من وقع في عائشة فإنه يكفر من وجهين: الوجه الأول: تكذيب القرآن. والوجه الثاني: إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم. أما سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكفر من وجه واحد: وهو إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم. والغرض المقصود: أنه لا بد أن تعرف لنساء النبي صلى الله عليه وسلم قدرهن، وتعلم أنهن من مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الوقوع في عرض واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يستوجب الكفر لمن تجرأ على ذلك. بقي علينا أن نختم الباب والكتاب بالكلام على فضل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، ثم الكلام على من وقع فيهم، ثم الكلام بعد ذلك على حكم من طعن في أبي بكر وعمر بالذات.

فضل الصحابة وأثرهم في حماية الملة

فضل الصحابة وأثرهم في حماية الملة إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الأخيار الأماجد الأكارم الأفاضل، أبر الناس قلوباً، وأحسن الناس خلقاً، وأصدقهم لهجة، وأكثرهم علماً، وأزهدهم في الدنيا، وأخلص الناس طلباً للآخرة، وهم خير صحبة بعثها الله جل في علاه لنبي بعثه للناس أجمعين، وهم الذين حملوا هذا الدين فجاءنا غضاً طرياً على أكتافهم، وهم الذين باعوا الدنيا بأسرها من أجل رفعة هذا الدين ورفع راية لا إله إلا الله، فكل منهم باع نفسه وأهله وماله وكل ما يملك من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أجل التمكين لهذا الدين، فاستحقوا التعديل من الله جل في علاه من فوق سبع سموات، وعلى لسان النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى ويا لها من آية في تعديل الصحابة: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26]، وكلمة (أحق) هي شهادة من الله جل في علاه على أنهم أحق صحبة برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح:26]. وقال الله تعالى مادحاً إياهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29]. وقال الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]. وقال الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة:117] والآيات كثيرة في مدح الصحابة عموماً، ومن ذلك مدح الأمة، فإن أول من يدخل في هذا المدح هم الصحابة الكرام كقول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110]، وأولى الناس بهذه الآية هم الصحابة. وفي الصحيح كما في البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خير الناس قرني) أم لفظ: (خير القرون قرني) فلا يصح بحال. ولكن الصحيح في البخاري هو قوله: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). وقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم قوله: (تغزون أو يغزوا فئام من الناس فيقال: أفيكم من صاحب رسول الله؟ فيقولون: اللهم نعم! فيفتح لهم) وقد فتح لهم بسبب وجود صحابة رسول الله كرامةً لهم. فالغرض المقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم عدلهم وزكاهم، وقد حرج أشد الحرج على من طعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كما في الصحيح: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) حتى إنه قاله للمتأخرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم كما في البخاري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حب الأنصار من الإيمان، وبغض الأنصار من النفاق) فجعل علامة الإيمان: حب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل علامة النفاق: بغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

حكم من سب الصحابة رضي الله عنهم

شرح مختصر الصارم المسلول على شاتم الرسول - حكم من سب الصحابة رضي الله عنهم صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم هم خير القرون، فقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وواجبنا تجاههم حبهم، والكف عن مساوئهم، وترك الخوض فيما جرى بينهم من فتن، وعدم سبهم أو لعنهم، فإن من سبهم أو لعنهم أو انتقص من قدرهم فقد وقع في خطر عظيم.

مكانة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين

مكانة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم خير الناس، وهم خير من صحب نبياً في هذه الدنيا، بل هم الذين فضلهم الله جل في علاه على الخلق أجمعين سوى الأنبياء والمرسلين، أنزل الله عدالتهم في القرآن، وزكاهم من فوق سبع سماوات، وزكاهم النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يقول الله جل في علاه: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]. وزكاهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم شرف أصحابه عندما (جاءه جبريل يسأله فقال: يا رسول الله! كيف تعدون من شهد بدراً فيكم؟ فقالوا: هم خيارنا، فقال جبريل: وكذلك هم عندنا خيار الملائكة) فخيار الملائكة هم: الذين شهدوا بدراً، وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن حاطباً بن أبي بلتعة رضي الله عنه وأرضاه، عندما أرسل بالمكتوب ليخبر أهل مكة بأن النبي صلى الله عليه وسلم يجهز الجيش للسير والزحف إلى مكة، أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك، فأرسل علياً والزبير فأتياه بهذا المكتوب فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عمر فلما رأى عمر رضي الله عنه وأرضاه هذا المكتوب قال وكأنه الأسد الزائر: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يا عمر! لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا -أو قال: اعملوا- ما شئتم، فقد غفرت لكم) إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أظهر للناس أجمعين حظ ومقدار وعظمة هؤلاء الأخيار الأماجد الأكارم، الذين وصل الدين إلينا طرياً على أكتافهم، وباعوا أنفسهم وأموالهم ونساءهم وأولادهم من أجل حماية الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا أشد الناس تعظيماً وتبجيلاً وتوقيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال عروة رضي الله عنه وأرضاه قبل أن يسلم: والله! لقد وفدت على النجاشي وكسرى وقيصر وما رأيت أحداً يعظم أحداً، أو ما رأيت أصحاباً يعظمون صاحبهم؛ كما رأيت أصحاب محمد يعظمون محمداً صلى الله عليه وسلم، والله! ما تفل فوقعت في يد أحدهم إلا دلك بها جسده، والله! ما تكلم إلا وكأن على رءوسهم الطير، ولا أشار إلا ائتمروا بأمره -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وكان متهكماً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأخذ بلحية النبي صلى الله عليه وسلم، والمغيرة بن شعبة يضرب يده بالسيف، ويقول: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن أخته، فقال عروة له: أيْ غدر! ما زلت في غدرتك حتى الآن أسعى فيها للتأليف بين القبائل. وأيضاً: قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أرى حولك إلا أوباشاً، أي: أخلاطاً من الناس لا يجتمعون على شيء، ويفرون إذا حمي الوطيس، فقال: أبو بكر كالأسد الغاضب رضي الله عنه: نحن نفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، امصص بظر اللات، وهذه كلمة مشينة وشديدة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أقره بذلك؛ لأنه اتهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الجواب على عروة كالصاعقة. وهذا طلحة رضي الله عنه وأرضاه يضرب لنا أروع الأمثلة في فدائه للنبي صلى الله عليه وسلم بروحه وهو يرشق بنباله، وأخذ السيف ينافح به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما قال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد لما تفرق الناس عنه (من يرد عنا القوم وله الجنة؟ فقام طلحة، فقال: اجلس، فقام بعض الأنصار فقاتلوا حتى قتلوا جميعاً عن بكرة أبيهم وكانوا تسعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنصفنا إخواننا). وفي رواية قال: (ما أنصفْنا إخواننا) وهذا له معنيان، والشاهد هو: قيام طلحة ينافح عن رسول الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أظهر رأسه، قال طلحة: لا يا رسول الله! يأتيك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله! وظل ينافح بسيفه حتى كُسِرَ في يده، وشلّت يده دفاعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دونكم صاحبكم فقد أوجب) أي: وجبت له الجنة بما فعل.

الواجب على المسلمين تجاه الصحابة

الواجب على المسلمين تجاه الصحابة هؤلاء هم الأخيار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين نذروا أرواحهم للنبي صلى الله عليه وسلم رخيصة وفداءً لهذا الدين، فإذا كانت هذه المكانة العظمى لهؤلاء الأخيار التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم وبينها الله جل في علاه، فإن واجبنا نحو هذه الطائفة المنصورة، التي نصرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلي: أولاً: حبهم، فإن حبهم دين ندين الله به، قال الله تعالى حاكياً عن الذين جاءوا من التابعين بعد الصحابة: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس الصحيح: (حب الأنصار إيمان وبغض الأنصار نفاق) وإذا كان هذا في حق الأنصار فمن باب أولى أن يكون في حق المهاجرين، فالمهاجرون أفضل من الأنصار، والأنصار حافظوا على رسول الله، ودافعوا عنه بأموالهم وأنفسهم ونسائهم وأولادهم، وهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما جاءهم وحيداً فريداً. والمهاجرون جمعوا بين الهجرة والنصرة، فقد نصروا الله ورسوله بنص الكتاب، وما هاجروا وتركوا الأموال والأنفس إلا نصرة لله، قال تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [المائدة:2]، فهذا فضل المهاجرين على الأنصار. وإذا كان حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق فمن باب أولى أن يكون حب المهاجرين إيمان وبغضهم نفاق، وقد قال علي بن أبي طالب: (قد عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق) فحب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم دين ندين الله به. ولذلك كان الرعيل الأول من السلف في القرون الخيرية كـ ابن المبارك ومالك وغيرهما يقولون: علموا أولادكم حب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال الإمام مالك وغيره: من الدين أن تعلم أولادك حب أبي بكر وحب عمر رضي الله عنهما وأرضاهما. فالواجب على هذه الأمة أن تحب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل قلبها لأمور كثيرة. أولاً: لو لم يكن إلا لحفظ عرض النبي صلى الله عليه وسلم لكفانا حبهم لأجل ذلك. ثانياً: لو لم يكن إلا أنهم قد بلغوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل حركة وكل سكون، وكل قول وفعل، ووصل إلينا الدين عفناً طرياً على أكتافهم، لكفى ذلك في حبهم، فالمؤمن الحق هو الذي يرى في قلبه امتلاء بحب هؤلاء الأخيار. ومن واجب الأمة أيضاً نحو هؤلاء الأخيار: الترحم عليهم، والترضي عنهم، ولا يقال: علي بن أبي طالب صلى الله عليه وسلم، أو اللهم صل على أبي بكر. والصحيح: الترضي على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] فلابد من الترضي على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهنالك أمر عظيم بين الإخوة وهو أنه عندما يذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يسمع منهم الصلاة والسلام عليه، وهذا بخل ليس بعده بخل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من البخيل؟ البخيل: من ذكرت عنده ولم يصل علي). وهذا العدم وجود الاحترام العالي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولصحابته الكرام فعندما يذكر أبو بكر أو عثمان لم تسمع عبارة رضي الله عنه وأرضاه، فهذا من الأدب مع هؤلاء، وهو حق هؤلاء علينا، الترضي والترحم والاستغفار كثيراً لهم. الثالثة -وهي المهمة جداً-: الكف عن الكلام في الفتن والمساوئ التي وقعت بينهم، فهذا أدب جم لا بد أن يتحلى به كل مؤمن، فلا نتكلم في هذه الفتن كثيراً؛ فإن المسلم يُعرف بأدبه الجم مع صحابة رسول الله، وبالكف عن الكلام على مساوئ هؤلاء الأخيار، كما قال ابن كثير: هذا القتال الذي حدث بينهم قتال عصم الله سيوفنا منه، فلنعصم أو نحفظ ألسنتنا من الكلام فيه. فلا بد أن نكف عن الكلام عن مساوئ هؤلاء الأخيار، وأن نمر عليها مرور الكرام، حتى نحق الحق ونبين أن الذي وقع بينهم وقع عن اجتهاد؛ وليس عن هوى، أو طلب دنيا، أو خلافة، أو رئاسة. فهذا الكلام نضعه في عين من يتكلم بهذا وفي قلبه عله يرجع إلى حب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يقع بلسان بذيء في أعراض هؤلاء الأخيار. إن الفتنة حدثت ونجمت وظهرت بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال أنس: ما وارى جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب فنفضنا التراب عن أيدينا إلا وتغيرت قلوبنا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشر منه). وقال أبو هريرة كما في الصحيح: مات رسول الله يوم مات وارتد من ارتد من العرب، وما بقي على الإيمان إلا بقايا من أهل الحجاز والمدينة ومكة، ونجمت فتنة الردة وادعاء النبوة، فأخمدها الله جل في علاه بـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ونصر الله به الدين، ثم استقرت أركان الدولة، واستقر عرش الدولة على الدنيا بأسرها في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه. وقد قال عمر لأصحابه -وهو الملهم المحدث-: أيكم سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الفتن. فقال حذيفة: أنا يا أمير المؤمنين! فتنة الرجل في أهله وماله وولده تكفرها الصدقة والصوم والصلاة. قال: ليس عن هذا أسأل، قال: تسأل عن الفتن التي تموج كموج البحر؟ قال: نعم، قال: مالك ولها يا أمير المؤمنين! بينك وبينها باب، قال: أيفتح أم يكسر؟ قال: يكسر، قال: إذاً لا يقوم مرة ثانية، وكسر الباب هو: قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فادلهمت الخطوب، ونزلت البلايا والفتن على الأمة، فلم تنقطع إلى يومنا هذا. فـ عثمان رضي الله عنه وأرضاه تكالب عليه بعض العلوج من أهل مصر، والأوغاد والأعراب من أهل العراق والكوفة، وهجموا عليه فقتلوه مظلوماً أبياً خليفةً، وكان قد بين له النبي صلى الله عليه وسلم نبوءة، كما في مسند أحمد: أنهم سيطلبون منه أن ينزل عن شيء ألبسه الله إياه، فلا ينزل عن هذا الأمر، وهو الخلافة، فطلبوا منه أن ينزع يده من الخلافة فأبى عليهم فقتلوه مظلوماً رضي الله عنه وأرضاه. وبعد ذلك لم تقف الفتن في هذه الأمة، فجاء علي بن أبي طالب وهو يستحق الخلافة بالإجماع، وما من أحد يداني مكانة علي بن أبي طالب فكل الصحابة في عصره كـ عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام و > عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان كل هؤلاء يقولون: أفضل الموجودين هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فلما اتفقت كلمتهم على أفضلية علي على كل الموجودين، لم تستقر الخلافة لـ علي؛ لأن الفتنة نجمت بالاجتهاد، فكل قد اجتهد فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر. أما طلحة والزبير فبايعا علياً بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ثم استأذنا علياً بالذهاب إلى مكة فلما ذهبا إلى مكة، وسمعت عائشة رضي الله عنها وأرضاها بمقتل عثمان أرادت الثأر لدم عثمان، فلم تنظر للخلافة ولا للاستقرار ولا لمقاصد الشريعة في أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. فإعدام وقتل الذين قتلوا عثمان فيه مصلحة، والشر المستطير الذي سيحدث للأمة بعد قتل قتلة الخليفة مفسدة، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح، لكن عائشة رضي الله عنها وأرضاها اجتهدت اجتهاداً وقد أخطأت فيه وهي زوجة نبينا في الدنيا وفي الآخرة، ورأت طلحة بن عبيد الله والزبير فقالت لهما: إن الثأر لـ عثمان لا بد أن يقدم. فخرجوا إلى البصرة وكان علي بن أبي طالب في المدينة، وبعث إلى عثمان بن حنيف في هذه المسألة، وبعث إليهما وسألهما: ما الذي أتى بكما؟ فقالوا: للثأر لـ عثمان فعلم علي بن أبي طالب بذلك، فجاء بجيشه إلى البصرة، وحدث الكلام بين جيش علي بن أبي طالب وبين جيش طلحة وعائشة والزبير، فقد بعث كل منهما أفراداً من القوم، وتكلموا في هذه المسألة ثم اصطلحوا وباتوا على خير ليلة، وعلموا أن المصالح تقدم على المفاسد واتفقوا جميعاً، لكن الذين قتلوا عثمان كانوا في جيش علي وهو يعرف أنهم على خفاء في جيشه ولهم قبائل وقوة ومنعة وشوكة فقالوا: قد اتفق القوم علينا، وما من أحد قاتل إلا نحن، فقاموا بالليل فناوشوا جيش الزبير رضي الله عنه وأرضاه فقتلوا منهم، فقام جيش الزبير وطلحة فحسبوا أن جيش علي قد غدر بالاتفاق، ثم هجم جيش الزبير على جيش علي، وحدثت المناوشة بينهما، فحسب جيش علي أن جيش الزبير قد غدر بهم، فحمي الوطيس واشتدت بساط الحرب، وقد قضى الله أمراً كان مفعولاً، ولله في ذلك حكم. لكن بعد أن وقعت المقتلة العظيمة، وكان أشدها وأوجها حول ج

حكم سب صحابة رسول الله وذكر أقسامه

حكم سب صحابة رسول الله وذكر أقسامه وختام هذا الكتاب النافع كتاب (الصارم المسلول)، ومع حكم من سب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله جل في علاه كرم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل لهم عنده مكانة وعظمة، فلذلك حرَّج أيما تحريج، وأغلظ أيما إغلاظ في النهي عن انتهاك حرمة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) وقد قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فما بالكم بمن يأتي بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقال بعض العلماء: يوم من أيام معاوية كتب فيه الوحي أو رأى فيه وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير من عمر بن عبد العزيز وأهل بيته أجمعين. وقال أبو زرعة كلاماً في حق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب بماء الذهب بل بماء العين، وفيه نبراس للفرق بين الصف المؤمن والصف المنافق. قال رحمه الله: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب النبي -وأحداً نكرة في سياق الشرط تفيد العموم، أي أحد صغيراً أو كبيراً- فاعلم أنه زنديق؛ لأن علامة الزندقة الولوغ في أعراض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، والقرآن حق وما جاء به حق، وإنما نقل إلينا ذلك كله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد نقلوا إلينا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن وأفعاله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء يريدون أن يطعنوا في شهودنا ليبطلوا كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يجرحوا شهودنا، والجرح بهم أولى وهم زنادقة. إذاً: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وأشهره بين الناس أنه على زندقة؛ لأنه تجرأ على عرض من أعراض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا يجوز سب صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم لما بيَّن الله ورسوله من عدالتهم، والسب ينقسم إلى أقسام:

حكم من سب الصحابة برميهم بالكفر

حكم من سب الصحابة برميهم بالكفر القسم الأول: السب في الدين كمن كفر الصحابة جميعاً إلا بضعة عشر، أي: ثلاثة عشر أو أربعة عشر نفراً هم الذين بقوا على الإسلام، وارتد الباقي، فمن قال بذلك أو لعنهم أو كفّر أبا بكر أو عمر أو لعنهما، فهذا كافر كفراً أكبر يخرج من الملة، ومن لم يكفره فهو كافر؛ لأنه رضي بالكفر ومن رضي بالكفر كمرتكبه ومن شك في كفره فهو كافر، وهذه هي المراحل الثلاث، والدلالة على ذلك من الكتاب والسنة فيما يلي: أولاً: من سب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دينهم ولعنهم، أو كفرهم عن بكرة أبيهم آحاداً وأفراداً فهذا كفره من وجهين: الوجه الأول: تكذيب لله ورسوله، ومن كذب الله ورسوله فقد كفر، فقد عدَّل الله الصحابة من فوق سبع سموات، قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]. وقال أيضاً: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) وقال أيضاً: (لا يا عمر! لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). فهذه كلها أدلة على عدالة صحابة رسول الله من كلام الله وكلام النبي صلى الله عليه وسلم. أما الوجه الثاني: أنه يدخل تحت عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما) وهذا له تأويل عند الجماهير أي: فقد باء بوزره، أو باء بهذه الكبيرة، لكن في سب الصحابة ينطبق هذا الحديث على ظاهره، فمن قال لـ أبي بكر: يا كافر، فقد كفر، ومن قال لـ عمر: يا كافر، فقد كفر، ومن قال لـ عائشة: يا كافرة، فقد كفر، ومن قال لـ عثمان أو لـ علي: يا كافر، فقد كفر (ومن قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما)، وفي الرواية الأخرى قال: (إن كان كذلك وإلا حارت) أي: رجعت عليه. أما الأقوى من ذلك: فمن لم يكفر من كفر الصحابة فهو كافر؛ لأن الراضي بالمنكر كمرتكبه، وهذا الرضا الذي يظهر لنا عنده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لا بد من الإنكار بالقلب، والإنكار بالقلب: ألا تبقى بالمكان الذي يسب فيه صحابة رسول الله، أما أن تضحك، وتقر بذلك، ولا ترد عليهم، وتجالسهم فأنت ممن قال الله تعالى فيهم: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140]، والمثلية هنا على حالاتها التي فندها العلماء. وأيضاً: من شك في كفره فقد كفر؛ لأنه يشك في كفر من كذب الله، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، فمن شك في كفر من يكذب الله جل في علاه فقد كفر؛ لأن هذا من باب المعلوم من الدين بالضرورة.

حكم من سب الصحابة باللعن والتقبيح

حكم من سب الصحابة باللعن والتقبيح أما القسم الثاني: وهو أن يسبهم ويلعنهم بالتقبيح لكن لا يتهمهم بالكفر، كأن يقول: لعنة الله على ذلك الصعلوك وهو يقصد بذلك -والعياذ بالله- قول النبي صلى الله عليه وسلم (أما معاوية فصعلوك)، فمن لعن الصحابة أو سبهم فهل يكفر أم لا؟ قولان عند أهل العلم: القول الأول: أنه يكفر، فيخرج من الملة لعظم مكانة صحابة رسول الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم. والقول الثاني وهو قول جماهير أهل العلم: إنه يستحق التفسيق والتأديب والتعزير والتبديع بذلك، لكنه لا يكفر، والتعزير يكون من قبل ولي الأمر. وتفصيل القولين فيما يلي: القول الأول: يكفر، فما هي وجهة الكفر هنا؟ فهم ما كفروهم بل سبوهم فقالوا: أبوه كذا وأمه كذا، وهو كذا، أو لعنة الله على فلان وفلان وأبيه وأمه، وهذا فيه تكذيب لله، الذي أنزل عدالتهم وهم لا يعدلونهم، فهؤلاء ما طعنوا فيهم، بل دعوا عليهم بالشر، ونحو: اللهم أهلكهم، اللهم اطردهم من رحمتك، وهذا هو الكفر باللازم، فالقاعدة عند أهل السنة والجماعة أن لازم القول ليس بقول، فلا يحكم على صاحبه بالكفر حتى يقر هو به. ووجهة نظر الذين كفروهم هي: أن من سب صحابة رسول الله فقد آذى رسول الله، ومن آذى رسول الله فقد كفر، قال: (فبحبي أحبوهم وببغضي أبغضوهم). فالنبي صلى الله عليه وسلم بين كثيراً النهي عن عدم إيذاءه في أصحابه فقال: (لا تسبوا أصحابي) وعند ما قال لـ عمر: (هلا تركتم لي صاحبي، لا تؤذوني في أصحابي) فهذا إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم بطريق لازم القول، وقد قيل: لا تسأل عن المرء، وسل عن خليله، فكيف يصاحب النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً ملعوناً؟ فلعن الصحابة أو سبهم إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم بل انتقاص من قدره صلى الله عليه وسلم من باب اللزوم. ولازم القول ليس بقول حتى يقر به، فمن لعن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد آذى رسول الله وانتقص من قدره صلى الله عليه وسلم، ولازم هذا القول يعتبر قولاً إن أقروا به، فإن لم يقصدوا إيذاء رسول الله، ولا الانتقاص من قدره، فيعتبر هذا فسقاً، وصاحبه على شفير هلكة. وهذا هو الراجح الصحيح.

حكم من سب الصحابة بالتنقص لهم

حكم من سب الصحابة بالتنقص لهم القسم الثالث: هو أن يسبهم بالتقبيح فقط، كأن يقول: يأكلون كثيراً ويشربون كثيراً، أو يقول مثلاً: إنهم ينامون كثيراً ويحبون النساء بمثل هذه الكلمات التي تحدث نقصاً في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بالإجماع لا يكفر، لكنه على شفير هلكه، بل هو فاسق؛ لأنه لم يعرف لأهل الفضل فضلهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! لا يعرف لأهل الفضل فضلهم إلا أهل الفضل). وبهذا نكون قد ختمنا شرح الكتاب بفضل الله سبحانه وتعالى، ونكون بذلك قد انتهينا بفضل الله من هذا الكتاب العظيم الجليل وهو من أنفع ما كتب شيخ الإسلام، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، وجزاه عن نبينا خير الجزاء، وجزاه خير الجزاء عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

§1/1